المقدمات
مقدمة المؤلف
...
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد وإياك نستعين
أحمدك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأشكرك شكرا يليق بنعمك التي لا تحصى بلسان ولا تحصر بقلم تجرى به البنان ويبلغ إليه البيان والصلاة والسلام على رسولك الذي بين الناس ما نزل إليهم وعلى آله الكرام الذين أمرنا بالصلاة عليه وعليهم وعلى أصحابه الهداة الأعلام صلاة وسلأما يتكرران بتكرار لحظات الأيام وبعد.
فإن مختصر الأزهار لما كان مدرس طلبة هذه الديار في هذه الأعصار ومعتمدهم الذي عليه في عباداتهم ومعاملاتهم المدار وكان قد وقع في كثير من مسائله الاختلاف بين المختلفين من علماء الدين والمحققين من المجتهدين أحببت أن أكون حكما بينه وبينهم ثم بينهم أنفسهم عند اختلافهم في ذات بينهم فمن كان أهلا للترجيح ومتأهلا للتسقيم والتصحيح فهو إن شاء الله سيعرف لهذا التعليق قدره ويجعله لنفسه مرجعا ولما ينوبه ذخرا وأما من لم يكن بهذا المكان ولا بلغ مبالغ أهل هذا الشأن ولا جرى مع فرسان هذا الميدان فهو حقيق بأن يقال له مإذا بعشك يا حمامة فادرجي.
لا تعذر المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا هويت فعند ذلك عنف
فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
وسنقف يا طالب الحق بمعونة الله سبحانه في هذا المصنف على مباحث تشد إليها الرحال وتحقيقات تنشرح لها صدور فحول الرجال لما اشتمل عليه من إعطاء المسائل حقها من التحقيق والسلوك فيما لها وعليها في أوضح طريق مع كل فريق.
وقد طولت الكلام في مسائل المعاملات وأبرزت مع الحجج والنكات ما لم يسبق إليه(1/7)
سابق لخفاء بعض دلائلها على كثير من المصنفين كما ستقف عليه إن شاء الله تعالي واختصرت الكلام في مسائل العبادات لأنها صارت أدلة مباحثها نصب الأعين ولم أترك ما يتميز به الحق في كل مقام.
وأرجو من الملك العلام الإعانة على التمام وأن ينفع به المصنفين من الأعلام وينفعني به في هذه الدار وفي دار السلام.
وسميته "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار".(1/8)
[مقدمة لا يسع المقلد جهلها
فصل: التقليد في المسائل الفرعية العملية الظنية والقطعية جائز لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم منه ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة] .
قوله: "مقدمة لا يسع المقلد جهلها".
أقول: المقدمة بفتح الدال وكسرها كما صرح به جماعة من المحققين وليس الفتح بخلف كما قيل وهي تصدق على ما ذكره أهل الاصطلاح من جعل المقدمة منقسمة إلي قسمين مقدمة علم ومقدمة كتاب.
فمقدمة العلم ما يتوقف الشروع على بصيرة عليها لأنها تكون مشتملة على الحد والموضوع والغاية والفائدة.
ومقدمة الكتاب ما يوجب الشروع بها زيادة في البصيرة ولا ريب أن شروع طالب علم الفقه بهذه المقدمة يوجب له زيادة في البصيرة لأنه يعرف بمعرفتها حقيقة التقليد وما يجوز التقليد فيه وما لا يجوز ومن يجوز تقليده ومن لا يجوز ونحو ذلك.
ومعلوم أن من عرف هذه الأمور يكون له زيادة في البصيرة لا يكون لمن لا يعرفها فلا يرد الاعتراض على المصنف بما قيل إن هذه المقدمة لم تشتمل على الحد والموضوع والغاية والفائدة فلا تكون مقدمة اصطلاحا لأنا نقول المقدمة تصدق على مقدمة الكتاب كما تصدق على مقدمة العلم وهذه مقدمة كتاب لما ذكرنا.
وقد ذكر أئمة اللغة أن المقدمة ما يتقدم أمام المقصود ومنه مقدمة الجيش فمقدمة الكتاب مقدمة لغة واصطلاحا أما اللغة فلما ذكرنا وأما الاصطلاح فلأن أهل العلم قد ذكروا انقسام المقدمة إلي القسمين كما تقدم وكما لم يرد الاعتراض على المصنف بما تقدم لا يرد عليه الاعتراض بما قيل إن هذه المقدمة ليست مقدمة علم ولا مقدمة كتاب لما عرفناك به.
إذا تقرر لك اندفاع ما اعترض به على المصنف في تسميته لما ذكره ها هنا أمام المقصود(1/9)
مقدمة فاعلم أن محل الإشكال وموضع المناقشة هو قوله: "لا يسع المقلد جهلها".
ووجهه أنه قد ذكر المصنف رحمه الله فيما سيأتي بعد هذا ان التقليد يختص بالمسائل الفرعية وهي التي لم تكن من أصول الدين ولا من أصول الفقه وأكثر هذه المسائل المذكورة في هذه المقدمة ليست بفرعية لا في اصطلاح المصنف ولا في اصطلاح غيره فهي مما لا يجوز التقليد فيه عنده وعندهم فكيف يصنع المقلد الطالب لمعرفة ما اشتمل عليه هذا الكتاب؟
إن قال المصنف يأخذها تقليدا فقد خالف ما رسم له من كون التقليد إنما هو في المسائل الفرعية فإنه قد ناقض نفسه قبل أن يجف قلمه ولم يتخلل بين قوله لا يسع المقلد جهلها وبين قوله التقليد في المسائل الفرعية إلا لفظة واحدة وهي قوله: " فصل ".
وإن قال يأخذها اجتهادا فالمفروض أنه مقلد ليس من الاجتهاد في ورد ولا صدر ولو كلف بالاجتهاد قبل التقليد لكان بلوغه إلي مرتبة الاجتهاد موجبا لتحريم التقليد عليه لا سيما على القول الراجح من كون الاجتهاد لا يتبعض لمعرفته لما اشتملت عليه هذه المقدمة لأنه لا يعرفها اجتهادا إلا وقد صار الواجب عليه العمل بما يؤدي إليه اجتهاده فهو مستغن عن معرفة هذا الكتاب الذي جعلت هذه المقدمة مقدمة له لأنه موضوع للمقلدين لا للمجتهدين ولا واسطة بين التقليد والاجتهاد ولا بين المجتهد والمقلد اصطلاحا والمصنف وكثير من أهل الأصول قائلون بنفي الواسطة.
وأما من قال إن الاجتهاد متعين وإنه لا يجوز التقليد على كل حال فهو يوجب الاجتهاد في مثل هذه المسائل المذكورة في هذه المقدمة وفي جميع مسائل هذا الكتاب ولم يكن المصنف من القائلين بتعيين الاجتهاد حتى يصح حمل كلامه هنا على ذلك على أن ثم مانعا من حمله على ذلك وهو أنه لو كان قائلا بذلك لكان تصنيفه لهذا الكتاب ضائعا ليس تحته فائدة لأنه لا ينتفع به إلا المقلدون وليس للمجتهد إليه حاجة بل يكون تصنيفه لهذا الكتاب مع قوله بتعيين الاجتهاد إيهأما للمقلدة بجواز ما لا يجوز عنده وتحليلا لما هو غير حلال في اعتقاده وحاشاه من ذلك.
وما قيل من أن المراد بوضعها تعريف المقلد كراهية جهل ما ذكر فيها وبيان حسن معرفته لها بالدليل لا وجوب تعين الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا لا يدفع الاعتراض على المصنف لأنه لم يثبت الواسطة بين الاجتهاد والتقليد حتى يحمل كلامه على هذا.
على أنه لو كان من القائلين بذلك لكان للمقصرين مندوحة عن الاحتياج إلي كتابه هذا وأمثاله لأنهم إذا قدروا على معرفة الحق في مسائل هذه المقدمة بالدليل من دون اجتهاد كانوا على معرفة الحق في المسائل المذكورة بعد هذه المقدمة أقدر لصعوبة هذه وسهولة تلك.
قوله: "فصل. التقليد في المسائل الفرعية القطعية والظنية جائز لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم منه".(1/10)
أقول: الكلام على هذا من وجوه:
الأول: حقيقة التقليد اعلم أنه مأخوذ عند أهل اللغة من القلادة التي يقلد الإنسان غيره بها ومنه تقليد الهدى فكأن المقلد يجعل ذلك الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق المجتهد.
وأما في الاصطلاح فهو العمل بقول الغير من غير حجة فيخرج العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بالإجماع والعمل من العامي بقول المفتي والعمل من القاضي بشهادة الشهود العدول فإنها قد قامت الحجة في جميع ذلك.
أما العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالإجماع عند القائلين بحجبته فظاهر وأما عمل العامي بقول المفتي فلوقوع الإجماع على ذلك وأما عمل القاضي بشهادة الشهود العدول فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة وقد وقع الاجماع على ذلك ويخرج عن ذلك أيضا قبول رواية الرواة فإنه قد دل الدليل على قبولها ووجوب العمل بها وأيضا ليست قول الرأوي بل قول المروي عنه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن الهمام في التحرير التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة وهذا الحد أحسن من الأول.
وقال القفال: "هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من اين قاله".
وقال الشيخ أبو حامد والأستاذ أبو منصور: "هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة".
الوجه الثاني: أورد الجلال في شرحه هنا بحثا فقال وربما يتوهم أن أحكام الشرع متعلقة بالعامي وأكثرها استدلال مظنون وليس من أهل الاستدلال فيجب عليه التقليد بدلا عن الاجتهاد كالتراب بدل الماء إذ هو الممكن وما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه.
والجواب منع تعلق الظنيات بالعامي للاتفاق على أن الفهم شرط التكليف فهو شرط للوجوب وتحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب فإذن لا يتعلق بها إلا ما فهمه وليس ذلك إلا ضروريات الشرع والعمل بالضروري ليس بتقليد لأن الضرورة أعظم الأدلة ولهذا وقع الاتفاق على أن العامي يقر ما فعله ولا ينكر عليه ما لم يخرق الإجماع انتهى.
ولا يخفى عليك أن هذا الكلام ساقط فاسد فإن قوله للاتفاق على أن الفهم شرط التكليف إن أراد فهم التركيب الذي وقع الخطاب به من الشارع فهذا يفهمه كل عاقل ولا يتعذر فهمه إلا على المجنون أو صبي صغير وهذا المعنى هو الذي أراده أهل العلم بقولهم الفهم شرط التكليف.
وإن أراد بالفهم فهم النفع المرتب على التكليف فهذا لم يقل به أحد قط ولو فرضنا أنه قال به قائل لكان ذلك مستلزما لعدم تكليف كل كافر وجاحد وزنديق واللازم باطل بإجماع المسلمين أجمعين فالملزوم مثله.(1/11)
وإن أراد غير هذين المعنيين فلا ندري ما هو ولم يقل به أحد بالجملة فهذه فاقرة عظمى ومقالة عمياء صماء بكماء فليكن هذا منك على ذكر فإنه قد كرره في مواضع من كتابه.
وما ذكره الجلال رحمه الله في آخر بحثه هذا جعله كالنتيجة له من كون العامي إنما كلف بالضروريات فهو من أغرب ما يقرع الأسماع لأنه خرق للإجماع وباطل لا يقع في مثله بين أهل العلم نزاع وكل من له نصيب من علم وحظ من فهم يعلم أن هذه التكاليف الثابتة في الكتاب والسنة لازمة لكل بالغ عاقل لا يخرج عن ذلك منهم أحد كائنا من كان إلا من خصه الدليل والضروريات منها هي بالنسبة إلي جميعها أقل قليل وأندر نادر والواقعون في معاصي الله المتعدون لحدوده الهاتكون لمحارمه من العامة لو علموا بهذا البحث من هذا المحقق لقرت به أعينهم واطمأنت إليه أنفسهم وأقاموا به الحجة على من أراد إقامة حدود الله عليهم وطلب منهم القيام بشرائعه فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فإن غالب الواجبات الشرعية والمحرمات الدينية ثابتة بالعمومات وهي ظنية الدلالة وما كان ثابتا بما هو ظني التمن أو ظن الدلالة فهو ظني لا قطعي فضلا عن أن يكون ضروريا.
وإذا كانت العامة في راحة من هذه التكاليف وهم السواد الأعظم فإن الخاصة بالنسبة إليهم أقل قليل قد يوجد واحد منهم في الألف والألفين والثلاثة وقد لا يوجد فهذا هو تعطيل الشريعة.
الوجه الثالث: أن قوله الفرعية يخرج الأصلية أي مسائل أصول الدين وأصول الفقه وإلي هذا ذهب الجمهور لا سيما في أصول الدين فقد حكي الأستاذ أبو إسحق في شرح الترتيب: "إن المنع من التقليد فيها هو إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف".
قال أبو الحسين بن القطان "لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد".
وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء.
وقال إمام الحرمين في الشامل: "لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة".
وقال الإسفراييني: "لم يخالف فيه إلا أهل الظاهر".
ولم يحك ابن الحاجب الخلاف في ذلك إلا عن العنبرى وحكاه في المحصول عن كثير من الفقهاء واستدل الجمهور على منع التقليد في ذلك بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله سبحانه وأنها لا تحصل بالتقليد لأن المقلد ليس معه إلا والأخذ بقول من يقلده ولا يدرى أهو صواب أم خطأ؟.
واعلم أن ذكر الفرعية يغنى عن ذكر العملية وما قيل من أن قيد العملية لإخراج الفرعية العلمية كمسألة الشفاعة وفسق من خالف الإجماع فذلك غير جيد لأن هاتين المسألتين ليستا بفرعيتين فقد خرجتا من قيد الفرعية.
ودعوى أنهما فرعيتان علميتان باطلة وإن زعم ذلك بعض شراح الأزهار والأثمار وارتضاه(1/12)
الأمير في حاشيته على ضوء النهار بل هما أصليتان من مسائل أصول الدين ولا خلاف في ذلك بين علماء هذين العلمين.
وهذه القيود مبنية على الاصطلاح والاعتبار بما وقع عليه التواضع بين أهله.
والمراد بالفرعية ما كان موضعها الفعل أو الوصف فلا يرد ما أورده الجلال على قيد العملية وكان الأولى له أن يذكر ما ذكرناه من كونه مستدركا.
وهكذا قوله الظنية والقطعية فإنه قد أغنى عن ذلك قوله الفرعية لأن إطلاق الفرعية بتنأول قطعيها وظنيها.
وهكذا قوله لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم له فإن عدم تجويز التقليد للمجتهد يفيد أنه لا يجوز له بحال لا لمن هو مثله ولا لمن هو فوقه لكونه قد حصل له باجتهاده ما هو المانع من التقليد على كل حال ولكل أحد.
وهكذا قوله ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة فإن هذا العملي هو من مسائل الأصول لا من مسائل الفروع فقد خرج بقيد الفرعية فلو قال المصنف هكذا:
"فصل: التقليد في الفروع جائز لغير المجتهد" لكان أخصر وأظهر وأوضح معنى فإن ما زاد على هذا من القيود التي ذكرها ليس فيه إلا مجرد التكرار مع إيهام التناقض في البعض من ذلك.
الوجه الرابع: في الكلام على جواز التقليد.
اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلي أنه غير جائز قال القرافي مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد ورواه مالك وأبو حنيفة والشافعي وروى المروزي عن الشافعي في أول مختصرة أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره.
وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد لهم في الرسالة التي سميتها "القول المفيد في حكم التقليد".
والحاصل أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور ومن اقتصر في حكاية المنع من التقليد على المعتزلة فهو لم يبحث عن اقوال أهل العلم في هذه المسألة كما ينبغي.
وقد حكي عن بعض الحشوية أنهم يوجبون التقليد مطلقا ويحرمون النظر وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على غيرهم فإن التقليد جهل وليس بعلم.
وذهب جماعة إلي التفصيل فقالوا يجب على العامي ويحرم على المجتهد وبهذا قال كثير من أتباع الأربعة ولكن هؤلاء الذين قالوا بهذا القول من أتباع الأئمة يقرون على أنفسهم بأنهم مقلدون والمعتبر في الخلاف إنما هو قول المجتهدين لا قول المقلدين.
والعجب من بعض المصنفين في الأصول فإنه نسب هذا القول المشتمل على التفصيل إلي(1/13)
الأكثر وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين.
فإن أراد إجماع الصحابة فهم لم يسمعوا بالتقليد فضلا عن أن يقولوا بجوازه وكذلك التابعون لم يسمعوا بالتقليد ولا ظهر فيهم بل كان المقصر في زمان الصحابة والتابعين يسأل العالم منهم عن المسألة التي تعرض له فيروى له النص فيها من الكتاب أو السنة وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية.
وقد عرفت مما قدمنا أن المقلد إنما يعمل بالرأي لا بالرواية من غير مطالبة بحجة وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم مصرحون بالمنع من التقليد لهم ولغيرهم ولم يزل من كان في عصرهم منكرا لذلك أشد إنكار وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة فقد عرفت أنه لا يعتبر خلاف المقلد فكيف ينعقد بقولهم الإجماع وإن أراد غيرهم فمن هم فإنه لم يزل أهل العلم في كل عصر منكرين للتقليد وهذا معلوم لكل من يعرف أقوال أهل العلم.
والحاصل أنه لم يأت من جوز التقليد فصلا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط وقد أوضحنا هذا في رسالتنا المسماة بالقول المفيد في حكم التقليد وفي كتابنا الموسوم "بأدب الطلب ونهاية الأرب".
وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد فليس الأمر كما ظنوه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهي سؤال الجأهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض وعلى هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
ومن لم يسعه ما وسع هؤلاء الذين هم أهل القرون الثلاثة الفاضلة على ما بعدها فلا وسع الله عليه.
وما أحسن ما قاله الزركشي في البحر عن المزني فإنه قال يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فإن قال نعم أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد.
وإن قال بغير علم قيل له فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة!!
فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء قيل له تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك.
فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلي تقليد معلم معلمه وكذلك حتى ينتهي إلي العالم من الصحابة.
فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر واقل علما ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما؟.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حذر من زلة العالم وعن ابن مسعود أنه قال: "لا(1/14)
يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن أمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر" انتهى
وأقول: متمما لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلي العالم من الصحابة يقال له هذا الصحأبي أخذ علمه عن أعلم البشر المرسل من الله إلي عباده المعصوم عن الخطأ في أقواله وأفعاله فتقليده أولى من تقليد الصحأبي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس.
واعلم أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له بلا خلاف في هذا ولا يجوز لغيره العمل به بحال من الأحوال فمن ادعى جواز ذلك فليأتنا بالدليل وهو لا محالة يعجز عنه وعند عجزه عن البرهان يبطل التقليد لأنه كما عرفت العمل برأي الغير من غير حجة.
الوجه الخامس: قال الجلال في شرحه "إن تجويز التقليد لغير المجتهد لا له تحكم لأن العامي كالمجتهد".
ولا أدري ما أصل هذه الدعوى ولا ما هو الموجب للوقوع فيها فإن هذه التسوية بين من بلغ في العلم إلي أعلى مكان وبين من هو بجهله في أسفل سافلين كالتسوية بين النور والظلمة وبين الجماد والحيوان ولعله أراد إلزام من يجرى على لسانه ذلك من مقصري المقلدة.
وأورد الجلال أيضا على قوله في الأزهار ولا في عملي يترتب على علمي بحثين.
الأول قد أجاب عنه والثاني أن الفقه كله عملي يترتب على علمي وهو أصول الفقه.
وأجاب عنه الأمير في حاشيته بأن المراد بالعلمي المذكور هو العلم بالمعنى الأخص وليس كل مسائل أصول الفقه كذلك بل المترتب منها على العلم بالمعنى الأعم أكثر وأنه شامل للظن هكذا قال.
وأقول: إن الفقه مترتب على علمي بالمعنى الأخص وهو إثبات النبوة بالدليل العقلي والنقلي وكل واحد منهما علمى بلا خلاف فالمقلد في جميع ما قلد فيه قد قلد إمامة في عملي مترتب على علمي وهذا يبطل التقليد من أصله ويجتثه من عرقه.
ثم أن الأمير رحمه الله في حاشيته ها هنا رجح التفصيل في جواز التقليد لمن كان بليد الفهم جامد الفكرة بعيد النظر دون من كان فيه أهلية للنظر وإدراك للمباحث ولا يخفاك أن هذا التفصيل عليل ودليله كليل فإن ذلك البليد إن بقي له من الفهم ما يفهم ما به من كلام من أراد تقليده فهذه البقية الثابتة له يقوى بها على فهم كلام من يروى له الدليل ويوضح له معناه فليس به إلي التقليد حاجة وليس فهم رأي عالم من العلماء بأظهر من فهم معنى ما جاد به الشرع فما الملجىء له إلي رأي الغير البحث وهو يجد من يروى له ما هو الشرع الذي شرعه الله لعباده؟.
وإن قدرنا أنه قد بلغ من البلادة إلي حد لا يفهم معه رأى من يقلده فقد انسد عليه الباب من الجهتين وهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء وليس عليه إلا العمل بما بلغ إليه فهمه ولا يكلفه الله فوق طاقته.(1/15)
[فصل وإنما يقلد مجتهد عدل تصريحا وتأويلا ويكفى المغرب انتصابه للفتيا في بلد شوكته لإمام حق لا يرى جواز تقليد فاسق التأويل]
قوله: "فصل: وإنما يقلد مجتهد"
أقول: الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه.
قال الرازي في المحصول هو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ ووسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ فيه.
وهذا سبيل مسائل الفروع وكذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هكذا حال الأصول انتهى.
وقد ذكرت في كتأبي الموسوم بإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول ما ذكره أهل الأصول وغيرهم في تحقيق الاجتهاد وشروط المجتهد وعقبت ذلك بما هو الراجح عندي وقد أطلت الكلام على ذلك في كتأبي الموسوم بأدب الطلب ومنتهى الأرب وذكرت فيه مراتب للمجتهدين ولما يحتاج كل واحد منهم إليه وهو تحقيق لم أسبق إليه.
وقد اختلف في رسم العدالة وأحسن ما قيل في ذلك أنها ملكة للنفس تمنعها عن اقتراف الكباشر والرذائل فمن كان كذلك فهو عدل ومن لم يكن كذلك فليس بعدل لأن الإقدام على كبائر الذنوب يجعل صاحبه مظنة للتهمة فهو غير مأمون على علم الشرع وأيضا مرتكب ذلك مسلوب الأهلية فليس من المتأهلين للاقتداء به في مسائل الدين.
وهكذا الإقدام على الرذائل فإنه يدل على سقوط النفس وانحطاط رتبة فاعله عن رتبة حملة العلم الذين جعلهم الله أمناء على دينه وأمر عباده بسؤالهم عند الحاجة.
وقد أورد الجلال هاهنا بحثا فقال إن العدالة والاجتهاد ملكة نفسية ولا سبيل إلي الاطلاع عليها إلا بقرائن نظرية إلي أن قال فلا بد من التقليد فيهما وهما عمليان وما يترتب عليهما عملي يترتب على علمي.
ويجاب عنه بأن هذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب قبول الرواية ممن له قدرة على معرفة هذه الملكة الاجتهادية.
وأما ملكة العدالة فهي معروفة للمقصر والكامل والاعتبار إنما هو بما يدل عليها من الأفعال والأقوال ومن ترك ما ينافيها وذلك قبول رواية لا قبول رأي ثم إن مسائل الدين بأسرها مترتبة على علمي فتخصيص بعضها بإيراد الإلزام بها ليس كما ينبغي.
قوله: "تصريحا وتأويلا".(1/16)
أقول: هذا تفصيل لمفهوم قوله عدل وهو مستعنى عنه لأن إطلاق قوله عدل يخرج من لم يكن عدلا سواء كان ملتبسا بما ينافي العدالة على جهة التصريح أو على جهة التأويل.
والحق أنه لا كفر تأويل ولا فسق تأويل ولا يدل على ذلك دليل.
والكلام على المقام مبسوط في غير هذا الموضع وبهذا تعرف أنه لا حاجة إلي قوله ويكفي المغرب إلي آخر الفصل عند من لا يثبت التأويل وذلك ظاهر وأيضا لا حاجة له عند من يثبته لأنه قد أغنى عنه إطلاق العدالة فإنها لا تكون عنده إلا لمن ليس من كفار التأويل ولا من فساق التأويل فلا بد من تحقيق عدم هذا المانع من ثبوت العدالة وكون الولاية لمن لا يرى جواز تقليد فاسق التأويل هو مجرد قرينة ضعيفة ولا تثبت ملكة العدالة بمثل ذلك فلو اقتصر على قوله في هذا الفصل إنما يقلد مجتهد عدل لكان أخصر وأظهر لأن التفصيل إنما أخرج فاسق التصريح وفاسق التأويل والعدالة تنتفي بمجرد ارتكاب محرم وإن لم يبلغ بصاحبه إلي الفسق بالمعنيين.
وفي هذا الفصل ابحاث في ضوء النهار إذا تأملت ما ذكرناه هنا عرفت الجواب عنها.
[فصل وكل مجتهد مصيب في الأصح والحي أولى من الميت والأعلم من الأورع والأئمة المشهورون من أهل البيت أولى من غيرهم لتواتر صحة اعتقادهم وتنزههم عما رواه البويطي وغيره عن غيرهم من إيجاب القدرة وتجويز الرؤية وغيرهما ولخبري السفينة وإني تارك فيكم] [مسلم "2408"] .
قوله: "فصل: وكل مجتهد مصيب".
أقول: اعلم أن الخلاف في هذه المسألة تختص بالمسائل الشرعية لا العقلية فلا مدخل لها في هذا وقد ذهب الجمهور ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني ومن المعتزلة أبو الهذيل وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم إلي أن المسائل الشرعية تنقسم إلي قسمين الأول منها قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنا والخمر فليس كل مجتهد فيها مصيبا بل الحق فيها واحد فالموافق له مصيب والمخطىء غير معذور بل آثم.
وإن كان فيها دليل قاطع وليست من الضروريات الشرعية فقيل مخطىء آثم وقيل مخطىء غير آثم.
القسم الثاني المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها فذهب كثيرون إلي أن كل مجتهد مصيب وحكاه المأوردي والروياني عن الأكثرين وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأكثر(1/17)
الفقهاء إلي أن الحق في أحد الأقوال ولم يتعين لنا وهو عند الله متعين لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد للشخص الواحد حلالا وحراما.
والكلام في هذه المسألة طويل وقد ذكرنا في مؤلفنا المرسوم بإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول أقوال المختلفين في هذه المسألة وذكرنا أن كل طائفة استدلت لقولها بما لا تقوم به الحجة.
وهاهنا دليل يرفع النزاع ويوضح الحق أيضاحا لا يبقى بعده تردد وهو ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". [البخاري "7352"، ومسلم "1716"، وأحمد "4/198، 204"] .
فهذا الحديث قد دل دلالة بينة أن للمجتهد المصيب أجرين وللمجتهد المخطىء أجرا فسماه مخطئا وجعل له أجرا فالمخالف للحق بعد أن اجتهد مخطىء مأجور وهو يرد على من قال إنه مصيب ويرد على من قال إنه آثم ردا بينا ويدفعه دفعا ظاهرا.
وقد أخرج هذا الحديث الدارقطني والحاكم من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وبلفظ: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور"
قال الحاكم صحيح الاسناد فيه فرج بن فضالة وهو ضعيف وتابعه ابن لهيعة بغير لفظه وأخرجه أحمد من حديث عمرو بن العاص بلفظ: "إن أصبت فلك عشرة أجور وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة"، وإسناده ضعيف.
وما ذكره المصنف رحمه الله من أولوية تقليد الحي إلي آخر الفصل هو مبني على جواز التقليد وقد قدمنا أنه غير جائز.
[فصل والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب ولا يجمع مستفت بين قولين في حكم واحد على صورة لا يقول بها إمام منفرد كنكاح خلا عن ولي وشهود لخروجه عن تقليد كل من الإمامين] .
قوله: فصل: "والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب".
أقول: الأولوية مغنية عن قوله ولا يجب لأن كون الشيء أولى من غيره ما يفيد أن ذلك الغير جائز مرجوح كما أن الأولى جائز راجح فلو يأت قوله ولا يجب بفائدة بل هو مستدرك.
وقد أوجب جماعة تقليد إمام معين ورجح هذا القول الكيا الهراسي وقال جماعة ليس بواجب ورجح هذا القول ابن برهان والنووي.(1/18)
ويالله العجب من عالم ينسب إلي العلم يحكم بأولوية التقليد لمعين جزافا فلا برهان من عقل ولا شرع.
وأعجب من هذا من يوجب ذلك فإنه من التقول على الله بما لم يقل ومن إيجاب البدع التي لم تكن في عصر الصحابة ولا عصر التابعين ولا تابعيهم.
وأعجب من هذا كله قول ابن المنير إن الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم فليت شعري ما هو هذا الدليل وقد صان الله أدلة الشرع أن تدل على هذا بل وصان علماء الدين من المجتهدين أن يقولوا بمثل هذا التفصيل العليل.
ولعله قول لبعض المقلدة فظنه هذا القائل دليلا.
[فصل ويصير ملتزما بالنية في الأصح وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلي ترجيح نفسه بعد استيفاء طرق الحكم فالاجتهاد يتبعض في الأصح أو لإنكشاف نقصان الأول فأما إلي أعلم أو أفضل ففيه تردد وإن فسق رفضه فيما تعقب الفسق فقط وإن رجع فلا حكم له فيما قد نفد ولا ثمرة له كالحج وأما ما لم يفعله ووقته باق أو فعل ولما يفعل المقصود به فبالثاني.
فأما ما لم يفعله وعليه قضاؤه أو فعله وله ثمرة مستدامة كالطلاق فخلاف] .
قوله: فصل: "ويصير ملتزما بالنية في الأصح".
أقول: لو كان هذا التقليد المشئوم قربة من القرب الشرعية وطاعة من طاعات الله لم يكن مجرد النية قبل العمل موجبا للزومه للنأوي ومقتضيا لتحريم انتقاله عنه.
والحاصل أن هذه المسائل هي بأسرها من التخبط فب البدع والتجرؤ على الشريعة المطهرة بنسبة ما لم يكن منها إليها بل بنسبة ما هو معاند لها ومضاد لما فيها إليها.
وقد ذهب جماعة إلي التفصيل فقالوا إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختار هذا إمام الحرمين الجويني.
وقيل إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له وإلا لم يجز وبه قال القدوري الحنفي.
وقيل إن كان الذي انتقل إليه ما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختاره ابن عبد السلام.(1/19)
وقيل يجوز بشرط أن ينشرح له صدره وألا يكون قاصدا للتلاعب وألا يكون ناقضا لما قد حكم به عليه واختاره ابن دقيق العيد.
وقد ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق.
وكل هذه الأقوال على فرض جواز التقليد لا دليل عليها لكنها أقل مفسدة ومخالفة للحق من إيجاب التقليد وتحريم الانتقال بمجرد النية.
وفي الشر خيار.
قوله: "ولاجتهاد يتبعض في الأصح"
أقول: اختلف أهل العلم في ذلك فذهب جماعة إلي أنه يتجزأ وعزاه الصفي الهندي إلي الأكثرين قال ابن دقيق العيد وهو المختار لأنها قد يمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد.
وذهب آخرون إلي المنع واحتج الأولون بأنه لو لم يجز تجزؤ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل واللازم منتف فإن كثيرا من المجتهدين قد سئل فلم يجب وكثيرا منهم سئل عن مسائل فأجاب في البعض وهم مجتهدون بلا خلاف.
واحتج آخرون بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظن عدم المانع.
وأجيب بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة ويرد هذا الجواب بمنع حصول ما يحتاج إليه المجتهد في مسألة دون غيرها فإن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر وأكر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ويأخذ بعضها بحجزة بعض ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلي ثبوت الملكة فإنها إذا تمت حصلت القدرة على الاجتهاد في جميع المسائل وإن نقصت لم يقتدر على الاجتهاد في شيء ولا يثق في نفسه لتقصيره ولا يثق به الغير لذلك.
فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة دون مسألة فتلك الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادا مطلقا فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ ما لا يتعقله.
قوله: "أو لانكشاف نقصان الأول".
أقول: المقلد لا يعرف الكامل من المجتهدين ولا الناقص منهم وإنما يستروى ذلك ممن له إدراك يعرف به الكمال والنقص فهذا المقلد إن انكشف له نقص من قلده بإخبار من أخبره باجتهاده وكماله فقد أقر على نفسه أن خبره الأول المتضمن لكماله غير صحيح وإن كان انكشاف النقص بخبر غير من أخبره بالكمال فقد وقع هذا المقلد المسكين في حيرة لأنه غير متأهل للترجيح في الأخبار المتعارضة عن مثل هذا الأمر الذي لا يعرفه إلا المتأهلون.
والمنهج الواضح والمهيع الآمن أن يقطع عن عنقه علائق التقليد وقد جعل الله له في الأمر(1/20)
سعة بسؤال أهل العلم عن حكم الله سبحانه فيما يفرض له وتدعو حاجته إليه من عبادة أو معاملة.
قوله: "فأما إلي أعلم أو أفضل ففيه تردد".
أقول: لا تردد بل ينبغي أن يعمل بمزية الأعلمية والأفضلية ولا شك أنه يوجد في معاصري إمامه وفيمن قبله من هو أعلم منه وأفضل منه ثم كذلك حتى ينتهي الأمر إلي الإمام الأول الذي بعثه الله سبحانه برسالته وأنزل عليه كتابه وأمره بأن يبين للناس ما نزل إليهم فإنه منتهى الكمالات ومنشأ الفضائل ومعدن الفواضل فيأخذ دينه عنه من الكتاب الذي أنزل عليه أو السنة المطهرة التي جاء بها.
قوله: "فإن فسق رفضه" إلي آخر الفصل.
أقول: إن كان قد عمل عملا وهو عند نفسه مقلد لعالم من العلماء فليس انتسابه إلي ذلك العالم مسوغا به ما لم يسوغه له الشرع فإن كان موافقا للدليل فقد أجزأه وتقبله الله منه وإن كان مخالفا للدليل فلا اعتبار به ولا حكم له سواء فسق المجتهد أم لم يفسق رجع أم لم يرجع وسواء كان للفعل ثمرة مستدامة أم لا.
فإن قيل قد يلحق المقلد في ذلك مشقة قلنا هو أدخل نفسه فيما لا يجوز له الدخول فيه فعلى نفسها براقش تجني.
[فصل ويقبل الرواية عن الميت والغائب إن كملت شروط صحتها ولا يلزمه بعد وجود النص الصريح والعموم الشامل طلب الناسخ والمخصص من نصوصه وإن لزم المجتهد ويعمل بآخر القولين وأقوى الاحتمالين فإن التبس فالمختار رفضهما والرجوع إلي غيره كما لو لم يجد له نصا ولا احتمالا ظاهرا.
ولا يقبل تخريجا إلا من عارف دلالة الخطاب والساقط منها والمأخوذ به ولا قياسا لمسألة على أخرى إلا من عارف بكيفية رد الفرع إلي الأصل وطرف العلة وكيفية العمل عند تعارضها ووجوه ترجيحها لا خواصها وشروطها كون إمامه ممن يرى تخصيصها أو يمنعه.
وفي جواز تقليد إمامين فيصير حيث يختلفان مخيرا بين قوليهما فقط خلاف.
وبتمام هذه الجملة تمت المقدمة] .(1/21)
قوله: فصل: "وتقبل الرواية عن الميت والغائب إن كملت شروط صحتها".
أقول: قبول الرواية ثابت في كل شيء مع كمال ما يعتبر فيها وهي أمور قد استوفيناها في إرشاد الفحول.
وسواء كانت عن حي أو ميت وعن مجتهد أو مقلد في رواية أو رأي ولم يقل أحد من أهل العلم إن المقلد لا يقبل الرواية عن الميت والغائب حتى يحتاج إلي ذكر ذلك.
قوله: "ولا يلزمه بعد وجود النص الصريح والعموم الشامل" الخ.
أقول: إذا كان هذا غير لازم له فليعدل إلي النص الصريح والعموم الشامل من كتاب الله وسنة رسوله ويعمل بهما ولا يلزم معه طلب الناسخ والمخصص كما لم يلزمه ذلك في رأي من قلده من المجتهدين وليس في محض الرأي الذي يأخذ به المقلد زيادة سهولة أو ظهور على ما في نصوص الرواية حتى يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
قوله: "ويعمل بآخر القولين وأقوى الاحتمالين".
أقول: أما آخر القولين فيمكن المقلد أن يعرفه بأن يكون في كتاب لإمامه متأخرا عن الكتاب المشتمل على القول الأول أو بالتصريح من إمامه بأن أحد القولين متأخر والآخر متقدم.
وأما أقوى الاحتمالين فلا سبيل للمقلد إلي معرفة الأقوى منهما لأن القوة للقول أو الاحتمال يحتاج إلي علم لا يكون عند المقلد.
نعم إذا صرح إمامه بأن أحد الاحتمالين اقوى وأرجح من الآخر أو أخبر المقلد من له قدرة على معرفة الأقوى استقام ما ذكره هنا.
ولا وجه لما ذكره الأمير رحمه الله في حاشيته من أن المقلد قد يتمكن من ذلك بأسباب يعرفها لمعرفته لقوة بعض المفاهيم على بعض لأنا نقول لو عرف ذلك كما ينبغي لم يكن مقلدا في هذا الحكم الذي توصل إلي تقويته بذلك السبب.
قوله: "ولا يقبل تخريجا" الخ.
أقول: إن كان التخريج هو ما ذكره من كون المقلد يعرف أنه لا فرق بين مسألتين نص المجتهد على إحداهما دون الأخرى فيجعل المقلد حكم تلك المسألة الأخرى حكم هذه التي نص عليها المجتهد فيقال أولا من أين لهذا المقلد المسكين معرفة عدم الفرق بين هاتين المسألتين فإن ذلك يرجع إلي علم ليس هو من علمه.
وعلى تقدير أنه عارف بدلالة الخطاب والساقط منها والمأخوذ به وأنه بهذه المعرفة ألحق مسألة أخرى فهذا القياس بعينه وإن زعم زاعم أنه غير القياس فما هو والحاصل أن جعل التخريج نوعا مستقلا مغايرا للقياس هو مجرد دعوى لا برهان عليها أصلا ثم قد عرفت عدم جواز التقليد فيما هو مسائل صريحة واضحة فعدم جوازه في مثل هذه المسائل التي هي كما قيل ليست من قول المخرج ولا من قول المخرج له أولى.(1/22)
وعلى تقدير احتمال أن يكون من قول أحدهما لا على التعيين فقد علمت أن أحدهما مقلد وتقليد المقلد لا يجوز بالإجماع.
وبالجملة فهذه ظلمات بعضها فوق بعض وتوسيع لدائرة التقليد المنهي عنه بالكتاب والسنة.
قوله: "ولا قياسا لمسألة" الخ.
أقول: إنما يعرف الأصل والفرع والعلة والحكم كما ينبغي المجتهد المطلق وأما من كان مقلدا فمعرفته لذلك مجرد دعوى لأن أصالة الأصل وفرعية الفرع وعلية العلة تستمرى من علوم لا يدري المقلد ما هي فضلا عن أن يفهمها بوجه من الوجوه.
من أين له الوقوف على محل التعارض حتى يصير إلي الجمع عند إمكانه أو الترجيح عند عدمه فإنه إنما يقتدر على هذا على وجه الصحة من يقتدر على الجمع أو الترجيح عند تعارض الأدلة.
وعلى تقدير أنه قد بلغ إلي هذه الرتبة ووصل إلي هذه المنزلة فهو مجتهد لا مقلد فما له وللاشتغال بكلام مجتهد مثله؟!
قوله: "وفي جواز تقليد إمامين" الخ.
أقول: هذا قد أغنى عنه قوله فيما تقدم والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب فإن هذا يفيد جواز تقليد إمامين وأكثر ومن لازم الجواز أن يكون مخيرا بين أقوالهم مع الاختلاف فتصريحه هنا بأن في الجواز خلاف مخالف لقوله فيما تقدم ولا يجب لأن نفي الوجوب يوجب الجواز وهذا ظاهر لا يخفى.(1/23)
كتاب الطهارة
باب النجاسات
...
[باب النجاسات
هي عشر: ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل أو جلال قبل الاستحالة والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما والكلب والخنزير والكافر وبائن حي ذي دم حلته حياة غالبا والميتة إلا السمك وما لا دم له وما لا تحله الحياة من غير نجس الذات وهذه مغلظة.
وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح وهذه مخففة إلا من نجس الذات وسبيلي ما لا يؤكل.
وفي ماء المكوة والجرح الطري خلاف وما كره أكله كره بوله كالأرنب] .(1/23)
قوله: "ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل"
أقول: حق استصحاب البراءة الأصلية وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك وإن عجز عنه أو جاء بما لا تقوم به الحجة فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة.
وبهذا تعرف أن الاستدلال بمفهوم حديث جابر والبراء بلفظ: "لا بأس ببول ما أكل لحمه" على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه لا تقوم به الحجة فإن في إسناد حديث جابر عمرو بن الحصين العقبلي قال أبو حاتم ذاهب الحديث ليس بشيء وقال أبو زرعة واهي الحديث وقال الأزدي ضعيف جدا يتكلمون فيه وقال الدارقطني متروك.
وفي إسناده أيضا يحيى بن العلاء أبو عمرو البجلي الرازي قال أحمد كذاب يضع الحديث وقال يحيى ليس بثقة وقال ابن عدي أحاديثه موضوعات.
وأما حديث البراء ففي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك الحديث عند جميع أهل النقل وقال ابن حزم في المحلي خبر باطل موضوع.
على أنه قد اختلف على سوار فيه فرواه الدارقطني عنه عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء مرفوعا بلفظ: "ما أكل لحمه فلا بأس بسؤره".
فهو بهذا اللفظ لا يدل على محل النزاع وتعرف أيضا انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة الأبوال والأزبال على العموم لأن غاية ما عولوا عليه حديث: "إنه كان لا يستنزه من بوله" [البخاري "216‘ 218، 1361، 1378، 6052"، مسلم "111/292"، أبو دأود "20"، النسائي "31"، الترمذي "70"، ابن ماجة "347"، أحمد "1/225"] ، وحديث "اسنتزهوا من البول".
والأول في الصحيح والثاني صححه ابن خزيمة.
وما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا بلفظ: "اتقوا البول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون.
قالوا والبول في هذه الأحاديث عام ويجاب عنه بأنه مخصص على تقدير العموم ومقيد على تقدير الإطلاق بما ثبت في الصحيح بلفظ "من بوله".
ثم هذا الدليل هو أخص من الدعوى فإنه في البول لا في الزبل.
وبالجملة فكل ما استدل به القائلون بطهارة ما خرج من سبيلي ما يؤكل لحمه يدل على الأصل الذي ذكرناه ولا ينفي طهارة ما خرج من سبيلي غير المأكول.
وتعرف أيضا عدم انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة مني الآدمي فإن حديث "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني" لا تقوم به الحجة أصلا لبلوغه في الضعف إلي حد لا يصلح معه للاحتجاج به وكذا حديث أنه صلى الله عليه وسلم "كان يغسل ثوبه من المني" [البخاري "229"، مسلم "108/286"] . ليس فيه أن ذلك لأجل كونه نجسا فإن مجرد الاستقذار بل مجرد درن الثوب مما يكون سببا لغسله وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم وغيره أنها كانت تفرك(1/24)
المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله ولم وهو يصلي ولو كان نجسا لنزل عليه الوحي بذلك كما نزل عليه الوحي بنجاسة النعال الذي صلى فيه.
وأما المذى والودى فقد قام الدليل الصحيح على غسلهما فأفاد ذلك بنجاستهما ولكنه أخرج أبو دأوود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وقال الترمذي حسن صحيح عن سهل ابن حنيف قال كنت ألقي من المذى شدة وكنت أكثر الاغتسال منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "إنما يجزيك من ذلك الوضوء" قلت يا رسول الله فكيف بما يصيب ثوبي منه قال: "يكفيك بأن تأخذ كفا من ماء فتنضخ بها ثوبك حيث ترى أنه أصابه".
فدل هذا الحديث على أن مجرد النضخ يكفي في رفع نجاسة المذى ولا يصح أن يقال هنا ما قيل في المني إن سبب غسله كونه مستقذرا لأن مجرد النضخ لا يزيل عين المذى كما يزيله الغسل فظهر بهذا أن نضخه واجب وأنه نجس خفف تطهيره.
قوله: "أو جلال قبل الاستحالة".
أقول: لم يرد دليل يدل على نجاسة بول الجلالة ورجيعها بل الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم هو النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها حتى تحبس كما أخرجه أصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عباس وهو حديث صحيح.
والنهي عن أكل لحمها وشرب لبنها لا يستلزم نجاسة رجيعها وبولها ولا يصح إلحاق ذلك بالقياس على الأكل والشرب لأن الحكم في الأصل تحريم الأكل والشرب وفي الفرع النجاسة وهما مختلفان وليس القياس إلا إثبات مثل حكم الأصل في الفرع.
نعم إن خرج ما جلته بعينه فله حكمه الأصلي لبقاء العين وإن خرج بعد استحالة تلك العين إلي صفة أخرى حتى لم يبق لون ولا ريح ولا طعم فلا وجه للحكم بالنجاسة لا من نص ولا من قياس ولا من رأي صحيح.
قوله: "والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما".
أقول: ليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسك به أما الآية وهو قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90" فليس المراد بالرجس هنا النجس بل الحرام كما يفيده السياق وهكذا في قوله تعالي: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، أي حرام.
وقد أنكر بعض أهل العلم ورود لفظ الرجس بمعنى النجس وجعل ما ورد منه مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" [البخاري"156"] . والركس الرجس مجازا على أن في الآية الأولى ما يمنع من حملها على أن المراد بالرجس النجس وذلك اقتران الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام فإنها طاهرة بالإجماع.
وأما الاستدلال على نجاسة الخمر بحديث أبي ثعلبة الخشنى عند أبي دأود والترمذي(1/25)
والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برحض آنية أهل الكتاب لما قال له إنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها لحم الخنزير فإن المراد بأمره صلى الله عليه وسلم بالغسل أن يزيلوا منها أثر ما يحرم أكله وشربه ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة كما عرفت.
ولفظ الحديث "إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا"
وفي لفظ الترمذي "أنقوها غسلا وأطبخوا فيها" [الترمذي "1857"] .
فهذا يدلك على أن الكلام في الأكل والشرب فيها والطبخ لما يطبخونه فيها تحذير من اختلاط مأكولهم ومشروبهم بمأكول أهل الكتاب ومشروبهم للقطع بتحريم الخمر والخنزير ومما يؤيد ما ذكرناه ما أخرجه أحمد وأبو دأود عن جابر قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم.
وأخرج أحمد عن أنس أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلي خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه. [أحمد "3/210 – 211"] .
قوله: "والكلب"
أقول: استدلوا على ذلك بحديث "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" [مسلم "280"، أحمد "4/86"، أبو دأود "74"، النسائي "1/177"، ابن ماجة "365"] الحديث. وهذا حكم مختص بولوغه فقط وليس فيه ما يدل على نجاسة ذاته كلها لحما وعظما ودما وشعرا وعرقا وإلحاق هذه بالقياس على الولوغ بعيد جدا ولا سيما مع حديث ابن عمر عند أبي دأود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي بلفظ كانت الكلاب تبول في المسجد وتقبل وتدبر زمان رسول الله فلم يكونوا يرشون شيئا وأخرجه البخاري بدون لفظ تبول ولكن ذكره الأصيلي في رواية إبراهيم بن معقل عن البخاري بزيادة لفظ تبول وهذا مما يقوي الاقتصار على إفادة حديث الولوغ وذلك لحكمة للشارع لا نعقلها والواجب علينا العمل بما دلت عليه النصوص وإن لم نعقل الحكمة التي وردت لها.
ومما يدل على ما ذكرناه إيجاب التسبيع والتتريب فإنه مخالف لما ورد في غسل سائر النجاسات ومما يؤيد ما ذكرناه من الاختصاص لحكمة لا نعقلها.
قوله: "والخنزير".
أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: {أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ويجاب عنه بما قدمنا من أن المراد بالرجس هنا الحرام كما يفيده سياق الآية والمقصود منها فإنها وردت فيما يحرم أكله لا فيما هو نجس فإن الله سبحانه قال: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] . أي حرام. ولا تلازم بين التحريم والنجاسة فقد يكون الشيء حرأما وهو طاهر كما في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النسائ: 23] ، ونحو ذلك واستدلوا أيضا بحديث أبي ثعلبة الخشني(1/26)
المتقدم وفيه الآمر بغسل آنية أهل الكتاب معللا ذلك بأنهم يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر وقد قدمنا أن إيجاب الغسل لإزالة ما يحرم أكله وشربه لا لكونه نجسا فإن ذلك حكم آخر غير مقصود للشارع وعلى تقدير الاحتمال تنزلا فلا ينتهض المحتمل للاحتجاج به على محل النزاع.
قوله: "والكافر"
أقول: استدلوا بقوله تعالي: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وهذا الدليل فيه التصريح بأنهم نجس ولكنه ورد ما يدل على أن هذه النجاسة ليست النجاسة الحسية بل النجاسة الحكمية ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أنزل ثقيف المسجد قيل يا رسول الله أتنزلهم المسجد وهم أنجاس فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاس القوم على أنفسهم". ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يشربوا وتوضؤا من مزادة المشركة.
ومن ذلك أكله صلى الله عليه وسلم لطعام المشركين وتسويغه لوطء المشركات المسبيات قبل إسلامهن وغير ذلك.
وورد في أهل الكتاب خاصة {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ونزل القرآن بحل نكاح نسائهم.
وأما الاستدلال بحديث أبي ثعلبة من أمره صلى الله عليه وسلم بغسل آنيتهم فقد تقدم أن ذلك لأجل أنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها الخنازير وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم وقد أخرج أحمد وابو دأود من حديث جابر قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك عليهم.
قوله: "وبائن من حي ذي دم حلته حياة غالبا".
أقول: استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة". أخرجه أحمد وأبوا دأود والترمذي [أحمد "5/218"، أبودأود "2858"، الترمذي "1480"] ، والدارمي والحاكم من حديث أبي واقد مرفوعا وأخرجه ابن ماجه والبزار والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر وأخرجه الطبراني من طرق أخرى عن ابن عمر وفيها عاصم بن عمر وهو ضعيف وأخرجه ابن ماجه والطبراني وابن عدي من حديث تميم الداري وإسناده ضعيف وأخرجه الحاكم عن أبي سعيد قال في البدر المنير هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الأحكام وهو مروي من طرق أربع انتهى.
أقول: وبمجموعها ينتهض الحديث للاحتجاج ولكن غاية ما فيه أن ذلك البائن من الحي هو ميتة أي محرم أكله وأما أنه نجس فليس في الحديث ما يدل على ذلك وسيأتي الحديث على نجاسة الميتة.
واحترز بقوله: "غالبا" عما أبين من السمك والجراد لحديث "أحل لكم ميتتان السمك والجراد" [أحمد "2/97"، ابن ماجة "3314"] ، وإذا حلت ميتتهما بجميع أجزائها حل ميتة بعضهما.(1/27)
قوله: "والميتة"
أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] ويجاب عنه بأن التحريم لا يستلزم النجاسة كما تقدم واستدلوا أيضا بقوله: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 45] وقد قدمنا أن سياق الآية والمقصود منها هو تحريم الأكل وأن الرجس هنا ليس المراد به النجس بل الخبيث الذي لا يحل أكله واستدلوا أيضا بحديث عبد الله بن عكيم عند أحمد وأهل السنن والبخاري في التاريخ والدارقطني والبيهقي وابن حبان مرفوعا: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" [أحمد "4/310، 311"، أبو دأود "4127‘ 4128"، الترمذي "1729"، النسائي "7/174"، ابن ماجة "3623"] ، وهو حديث حسن ولم يعل بما يوجب سقوط الاحتجاج به وله شاهد من حديث جابر قال الشيخ الموفق إسناده حسن وشاهد آخر من حديث ابن عمر وفي إسناده عدي بن الفضل وهو ضعيف.
والمنع من الانتفاع بشيء من إهاب الميتة وعصبها يدل على نجاستها ولا ينافي ذلك تخصيص أحاديث طهارة الإهاب بالدبغ فإنه يبني العام على الخاص وهي أحاديث صحيحة وهي تقوي نجاسة مطلق الميتة لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" أبو دأود "2143"، الترمذي "1728"، النسائي "7/173"، ابن ماجة "3609"] ، يفيد أنه كان نجسا.
وأما المناقشة من الجلال وغيره بأن نجس العين لا يطهر بالغسل ولا بالدباغ وإنما يطهر بذلك المتنجس والمدعي أن الميتة نجس عين لا متنجسة فهي مناقشة فروعية لم تستند إلا إلي ما قد تقرر في أذهاب بعض المتفقهة من ذلك.
وأي مانع من ذهاب النجاسة العينية بالغسل والدبغ وقد قال صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة: "هلا انتفعتم بإهابها" فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة فقال: "أليس في القرظ ما يطهرها" أو قال: "يطهرها الماء والقرظ" [أبو دأود "4126"، النسائي "7/174 – 175"، أحمد "6/334"] ، الحديث.
ومما يؤيد نجاسة الميتة قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا" [البخاري "3/125"] ، هو حديث صحيح فإنه يفيد أن ميتة غير المسلم تنجس.
قوله: "إلا السمك وما لا دم له".
أقول: أما السمك فلحديث "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" [أبو دأود "83"، أحمد "2/237، 361"، الترمذي "69"، النسائي "1/50"، ابن ماجة 386، 3246"] ، وهو حديث صالح للاحتجاج به وله طرق كثيرة قد صحح الحفاظ بعضها وقد استوفينا الكلام عليه في شرحنا للمنتقي.
ولو كانت ميتة السمك نجسة لكانت حرأما لا حلالا.
ومثل هذا الحديث حديث: "أحل لكم ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وله طرق في أسانيدها مقال وقد روى موقوفا على ابن عمر بإسناد صحيح.
وبالجملة فلا خلاف في أن ميتة السمك حلال طاهرة.(1/28)
وأما ما لا دم له فقد استدلوا على ذلك بحديث "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء" [البخاري "3142، 5335"، أبو دأود "3844"، ابن ماجة "3505"، أحمد "2/229 – 230"] ، وهو في اصحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي من حديث أبي سعيد وأخرجه الدرامي من حديث أنس وأخرجه أيضا البزاز والطبراني في الأوسط من حديثه.
ولكن لا يخفاك أنه لا ملازمة بين جواز شرب ما وقع فيه الذباب وبين طهارته فقد يكون ذلك لعدم الاستقذار وقد يكون لتعذر الاحتراز من وقوعه في الأشربة لكثرة وجوده فالظاهر أن له حكم سائر الحيوانات في ميتته ولا ينافي ذلك تخصيصه بالتخفيف في شرب ما وقع فيه فإن ذلك تخصيص لما ورد في عموم الميتة على تقدير ورود أنه لا يحل شرب ما وقعت فيه الميتة على العموم ولكنه لم يرد ذلك إلا خصوصا لا عموما.
قوله: "وما لا تحله الحياة"
أقول: إذا تقرر بالدليل نجاسة مجموع الميتة فتخصيص بعض ما هو منها والحكم عليه بالطهارة محتاج إلي دليل ومجرد كونها لا تحله الحياة لا يصلح لذلك لأن الحكم بنجاسة الميتة يشمله وقد استدل في ضوء النهار على طهارته بالاتفاق فإن صح ذلك كان دليلا مخصصا عند من يرى حجية الإجماع ولكن الخلاف في المسألة معروف.
وممن قال بنجاسة ما لا تحله الحياة المرتضى وأبو العباس.
قوله: "وهذه مغلظة"
أقول: الوصف لبعض النجاسات بالتغليظ ولبعضها بالتخفيف هو مجرد اصطلاح لا يرجع إلي دليل والواجب اتباع الدليل في إزالة عين النجاسة فما ورد فيه الغسل حتى لا يبقى منه لون ولا ريح ولا طعم كان ذلك هو تطهيره وما ورد فيه الصب أو الرش أو الحت أو المسح على الأرض أو مجرد المشي في أرض طاهرة كان ذلك هو تطهيره.
وقد ثبت في السنة أن النعل الذي يصيبه القذر يطهر بالمسح وهو من المغلظة اصطلاحا وكذلك ورد في الثوب إذا أصابه القذر عند المشي على أرض قذرة أنه يطهره المرور على أرض طاهرة.
والحاصل أن الشارع الذي عرفنا كيفية تطهير النجاسات هو الذي عرفنا كون هذه العين نجسة أو متنجسة والواجب علينا اتباع قوله: وامتثال أمره وطرح الشكوك الشيطانية والتوهمات الفاسدة فإن ذلك مع كونه مخالفة للشريعة السمحة السهلة هو أيضا غلو في الدين وقد ورد النهي عنه وهو أيضا إفراط ودين الله إنما يؤخذ عن الله وعن رسوله.
فليكن هذا منك على ذكر فإنه يخلصك من أمور شديدة وقعت في كتب الفروع.
قوله: "وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة".
أقول: قد عرفناك في أول كتاب الطهارة أن الأصل في جميع الأشياء هو الطهارة وأنه لا(1/29)
ينقل عن ذلك إلا ناقل صحيح صالح للاحتجاج به 1 غير معارض بما يرجح عليه أو يسأويه فإن وجدنا ذلك فبها ونعمت وإن لم نجد ذلك كذلك وجب علينا الوقوف في موقف المنع ونقول لمدعي النجاسة هذه الدعوى تتضمن أن الله سبحانه أوجب على عباده واجبا هو غسل هذه العين التي تزعم أنها نجسة وأنه يمنع وجودها صحة الصلاة بها فهات الدليل على ذلك.
فإن قال حديث عمار: "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني".
قلنا هذا لم يثبت من وجه صحيح ولا حسن ولا بلغ إلي أدنى درجة من الدرجات الموجبة للاحتجاج به والعمل عليه فكيف يثبت به هذا الحكم الذي تعم به البلوى وهو لا يصلح لإثبات أخف حكم على فرد من أفراد العباد؟.
فإن قال: قد ورد أنه ينقض الوضوء كما سيأتي.
قلنا: فهل ورد أنه لا ينقض الوضوء إلا ما هو نجس؟.
فإن قلت: نعم فأنت لا تجد إليه سبيلا وإن قلت قد قال بعض أهل الفروع إن النقض فرع التنجيس.
قلنا فهل هذا القول من هذا البعض حجة على أحد من عباد الله؟.
فإن قلت نعم فقد جئت بما لم يقل به أحد من أهل الإسلام وإن قلت لا قلنا فما لك والاحتجاج بما لم يحتج به أحد على أحد؟.
قوله: "ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية"
أقول: الكلام على هذا كالكلام على الذي قبله وليس في الحكم بنجاسة اللبن على العموم ولا على الخصوص أثارة من علم ولا هو مما تستقذره الطباع لا من المأكول ولا من غيره ولا قام إجماع على نجاسته.
وبالجملة فالتسرع إلي تشريع الأحكام وإلزام عباد الله بها هو من التقول على الله بما لم يقل وقد ورد أنه من أشد الناس عذابا.
وقد قدمنا الكلام على تلك الأشياء التي زعموا أنها نجس ذات فارجع إليه.
قوله: "والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح" إلي آخر الفصل:
أقول: لم يصح في كون كل الدم نجسا شيء من السنة وأما الاستدلال بما في الكتاب العزيز من قوله سبحانه: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، فقد قدمنا أن الآية مسوقة للتحريم كما هو مصرح به فيها والحكم بالرجسية هو باعتبار التحريم والحرام رجس ولا يكون بمعنى النجس إلا بدليل كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" فإن الركس والرجس معناهما واحد.
ومن زعم بأن الرجس بمعنى النجس لغة متمسكا بما في الصحاح وغيرها من كتب اللغة(1/30)
أن الرجس القذر فقد استدل بما هو أعم من المتنازع فيه فإن القذر يشمل كل ما يستقذر والحرام مستقذر شرعا والأعيان الطاهرة إذا كانت منتنة أو متغيرة مستقذرة طبعا.
وعلى كل حال فالآية لم تسق لبيان الطهارة والنجاسة بل لبيان ما يحل ويحرم {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] .
وإذا تقرر لك هذا وعلمت به أن الأصل طهارة الدم لعدم وجود دليل ناهض يدل على نجاسته فاعلم أنه قد انتهض الدليل على نجاسة دم الحيض لا لقوله سبحانه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] ، فإن ذلك ليس بلازم للنجاسة فليس كل أذى نجس بل بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر بغسله وبقرصه وبحته وبحكه وتشديده في ذلك بما يفيد أن يكون إزالته على وجه لا يبقى له اثر فأفاد ذلك أنه نجس فيكون هذا النوع من أنواع الدم نجسا ولا يصح قياس غيره عليه لأنه من قياس المخفف على المغلظ.
وبهذا تعرف أنه لا حاجة إلي الكلام عن استثناء ما استثناه المصنف رحمه الله من تلك الدماء.
[فصل: والمتنجس أما متعذر الغسل فرجس وأما ممكنه فتطهير الخفية بالماء ثلاثا ولو صقيلا والمرئية حتى تزول واثنتين بعدها أو بعد استعمال الحاد المعتاد.
وأما شاقة فالبهائم ونحوها والأطفال بالجفاف ما لم تبق عين.
والأفواه بالريق ليلة والأجواف بالإستحالة والآبار بالنضوب وبنزح الكثير حتى يزول تغيره إن كان وإلا فطاهر في الأصح والقليل إلي القرار والملتبس إليه أو إلي أن يغلب الماء النازح مع زوال التغير فيهما فتطهر الجوانب المداخلة وما صاده الماء من الأرشية والأرض الرخوة كالبئر] .
قوله: "فصل والمتنجس أما متعذر الغسل فرجس".
أقول: كان الأولى أن يقال فنجس لأن الرجس يطلق على معاني الحرام والقذر والعذاب والنجس وليس مقصود المصنف هنا إلا النجس والمراد من الكلام أن ما تعذر تطهيره فحكمه حكم نجس العين في تحريمه وعدم جواز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الفأرة: "وإن كان مائعا فلا تقربوه" [البخاري "5538"، أحمد "6/329"، أبو دأود "3841"، الترمذي 1798"، النسائي "7/178"] ، فإن النهي عن قربانه يدل على عدم جواز الانتفاع به بوجه من وجوه الانتفاع.
وغير الفأرة مما هو في حكمها من الحيوانات مثلها وغير السمن من المائعات مما لا(1/31)
يمكن تطهيره مثله ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر مرفوعا اطرحوها وما حولها وكلوه إن كان جامدا قالوا يا رسول الله فإن كان مائعا قال انتفعوا به.
وفي إسناده عبد الجبار بن عمر قال ابن سعد ثقة وضعفه جماعة وهو لا يصلح لمعارضة حديث وإن كان مائعا فلا تقربوه فإنه أرجح من هذا الحديث وجانب الحظر مقدم على جانب الإباحة.
قوله: "وأما ممكنة فتطهير الخفية بالماء ثلاثا".
أقول: أعلم أن التعبد ورد بإزالة النجاسة ورفع أثرها ومحو عينها أما على جهة الاستقصاء وعدم بقاء شيء من العين أو اللون كما ورد في دم الحيض من حديث ام قيس بنت محصن الثابت عند أحمد وأبي دأود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: "حكيه واغسليه بماء وسدر" وهو حديث صحيح وكما في حديث التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب فإنه قد يولغ في محو أثر اللعاب هذه المبالغة ودع عنك الاختلاف في العلة التي وقع ذلك لأجلها فإنه أمر وراء ما تعبدنا به وقد تعبدنا بأن نصنع هذا الصنع في دم الحيض ولعاب الكلب سواء عقلنا العلة وفهمناها أم لا فإن هذا هو الواجب علينا بل يجب علينا اتباع ما أمر به الشارع وإن كان مبنيا على الشك والاحتياط كما في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". [مسلم "87/278"، الترمذي "24"، النسائي "1، 161" أحمد "2/241، 382، 265، 284، 455"، ابن ماجة "393"] .
فإذا قال المتفقه الذي لم يتعقل الحجة كما ينبغي إن الأصل الطهارة وعدم وقوع النجاسة في اليد بمجرد النوم قلنا هذا حكم شرعه لنا من شرع لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج فدع عنك الرجوع إلي الأصل فإن ذلك مع ورود الدليل لا يغني من الحق شيئا. نعم لو لم يرد الدليل لكان الرجوع إلي الأصل هو الحكم الذي توجبه البراءة الأصلية حتى ينقل عنها ناقل صحيح.
وأما لا على جهة الاستقصاء وذلك كحديث صب الذنوب من الماء على بول من بال في المسجد وحديث الرش من بول الغلام وهو في الصحيحين وغيرهما وكما في حديث النعل إذا رأى به قذرا ثم الأمر بالصلاة فيه وهو حديث صحيح وأحاديث إن الأرض التي فيها القذر يطهرها المروربأرض لا قذر فيها وحديث رش المذي بكف من ماء وحديث ابن عمر عند أبي دأود مرفوعا في غسل الثوب من البول مرة واحدة وفي إسناده عبد الله ابن عصيم والرأوي عنه ايوب ابن جابر أبو سليمان اليماني وقد تكلم في كل واحد منهما.
ونحو ذلك مما ورد في الحت أو الحك أو المسح أو القرص أو الإماطة وكل ذلك شريعة واردة عن الصادق المصدوق لا تحل المخالفة لشيء مما ورد عنه بل الواجب علينا الاقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم في كون هذا الشيء طاهرا وهذا الشيء نجسا والاقتداء بما ورد عنه في كيفية رفع(1/32)
يمكن تطهيره مثله ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر مرفوعا اطرحوها وما حولها وكلوه إن كان جامدا قالوا يا رسول الله فإن كان مائعا قال انتفعوا به.
وفي إسناده عبد الجبار بن عمر قال ابن سعد ثقة وضعفه جماعة وهو لا يصلح لمعارضة حديث وإن كان مائعا فلا تقربوه فإنه أرجح من هذا الحديث وجانب الحظر مقدم على جانب الإباحة.
قوله: "وأما ممكنة فتطهير الخفية بالماء ثلاثا".
أقول: أعلم أن التعبد ورد بإزالة النجاسة ورفع أثرها ومحو عينها أما على جهة الاستقصاء وعدم بقاء شيء من العين أو اللون كما ورد في دم الحيض من حديث ام قيس بنت محصن الثابت عند أحمد وأبي دأود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: "حكيه واغسليه بماء وسدر" وهو حديث صحيح وكما في حديث التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب فإنه قد يولغ في محو أثر اللعاب هذه المبالغة ودع عنك الاختلاف في العلة التي وقع ذلك لأجلها فإنه أمر وراء ما تعبدنا به وقد تعبدنا بأن نصنع هذا الصنع في دم الحيض ولعاب الكلب سواء عقلنا العلة وفهمناها أم لا فإن هذا هو الواجب علينا بل يجب علينا اتباع ما أمر به الشارع وإن كان مبنيا على الشك والاحتياط كما في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". [مسلم "87/278"، الترمذي "24"، النسائي "1، 161" أحمد "2/241، 382، 265، 284، 455"، ابن ماجة "393"] .
فإذا قال المتفقه الذي لم يتعقل الحجة كما ينبغي إن الأصل الطهارة وعدم وقوع النجاسة في اليد بمجرد النوم قلنا هذا حكم شرعه لنا من شرع لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج فدع عنك الرجوع إلي الأصل فإن ذلك مع ورود الدليل لا يغني من الحق شيئا. نعم لو لم يرد الدليل لكان الرجوع إلي الأصل هو الحكم الذي توجبه البراءة الأصلية حتى ينقل عنها ناقل صحيح.
وأما لا على جهة الاستقصاء وذلك كحديث صب الذنوب من الماء على بول من بال في المسجد وحديث الرش من بول الغلام وهو في الصحيحين وغيرهما وكما في حديث النعل إذا رأى به قذرا ثم الأمر بالصلاة فيه وهو حديث صحيح وأحاديث إن الأرض التي فيها القذر يطهرها المروربأرض لا قذر فيها وحديث رش المذي بكف من ماء وحديث ابن عمر عند أبي دأود مرفوعا في غسل الثوب من البول مرة واحدة وفي إسناده عبد الله ابن عصيم والرأوي عنه ايوب ابن جابر أبو سليمان اليماني وقد تكلم في كل واحد منهما.
ونحو ذلك مما ورد في الحت أو الحك أو المسح أو القرص أو الإماطة وكل ذلك شريعة واردة عن الصادق المصدوق لا تحل المخالفة لشيء مما ورد عنه بل الواجب علينا الاقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم في كون هذا الشيء طاهرا وهذا الشيء نجسا والاقتداء بما ورد عنه في كيفية رفع(1/33)
الصحابة في عصر النبوة وبعده أنهم تعرضوا لتطهير ذلك مما يقع فيه من النجاسة أو تحرزوا من المباشرة لذلك.
وقد كان الصبيان يتصلون بهم وهم في صلاتهم كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل الصبية على ظهره وهو يصلي فإذا سجد وضعها وكذلك كان يحمل الحسن والحسين حال الصلاة وهما في سن الصغر.
وبالجملة فالشريعة سمحة سهلة وليس لنا أن نفتح على أنفسنا ابوابا قد سكت عنها الشارع فإن ذلك عفو كما ثبت ذلك بالشرع.
ومن هذا التعرض لطهارة الأفواه والأجواف فإن ذلك من التنطع والغلو في دين الله والتقول على الشرع بما ليس فيه.
نعم إن أراد بطهارة الأجواف طهارة الجلالة فقد ثبت ذلك في الشريعة أخرج أحمد وأهل السنن والحاكم وابن حيان من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب لبنها حتى تحبس.
قوله: "والآبار بالنضوب وبنزع الكثير" الخ.
أقول: أرض الابار لها حكم سائر الأرض في طهارتها ونجاستها فلا وجه للتنصيص عليها فمن قال إنها تطهر بالنضوب قال به في أرض البئر ومن قال لا بد من صب الماء عليها قال به في أرض البئر ومن فرق بين الأرض الرخوة والصلبة كما سيأتي قال به في أرض البئر.
وإن كان التنصيص على أرض البئر لكونه يتعذر تطهيرها ويشق فإن كان ذلك لأجل ما فيها من الماء فطهارة الماء بكونه مستبحرا أو غير متغير اللون والريح والطعم يوجب طهارة أرض البئر وإن كان التعذر لغير ذلك فقد تقدم حكم متعذر الغسل.
وأما قوله: "وبنزح الكثير حتى يزول تغيره" فإن كان كلأما مستأنفا في طهارة ما ينجس من ماء الآبار فكان الأولى أن يأتي بعباة مشعرة بذلك فإنه لا يفهم من عبارته إلا العطف على النضوب.
ثم اعلم أنه لا وجه لقوله بنزح الكثير وكان حذف لفظ الكثير أولى لأن الماء لا ينجس إلا إذا وقع فيه ما يغير ريحه أو لونه أو طعمه كما في الحديث الوارد من طرق بلفظ: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء" أخرجه أحمد وأهل السنن وغيرهم من حديث أبي سعيد وأخرجه غيرهم من حديث غيره وقد صححه جماعة من الأئمة ومجموع ما ورد في ذلك صالح للاحتجاج به ولا شك ولا شبهة ولا يقدح في مجموع الطرق ما قيل في بعضها من الكلام الذي لا يوجب سقوط الاحتجاج.
وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وتكلمنا على كل طريق على انفرادها وذكرنا ما قاله الحفاظ في ذلك.(1/34)
وقد زيد في بعض الطرق زيادة بلفظ: "إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه" وهذه الزيادة وإن كان قد ضعفها كثير من الحفاظ لكنه قد وقع الاجماع على العمل بما دلت عليه فصارت من المتلقي بالقبول.
وإذا تقرر لك هذا فالماء الذي في البئر ونحوها إن لم يتغير بوقوع النجاسة فيه فهو طاهر لا يحتاج إلي نزح أصلا وإن كان قد تغير لبعض أوصافه أو كلها فالواجب النزح حتى يزول تغيره سواء كان حصول زوال التغير بنزح القليل أو الكثير بل لو زال التغير بغير نزح لكان ذلك موجبا لطهارته لأنه عند ذلك يصير طهورا ويعود عليه الحكم الذي كان له قبل تغيره وسواء كان الماء الذي في البئر قليلا أو كثيرا فإنه إذا زال تغيره صار طاهرا.
وأما الحكم بأنه ينزح القليل والملتبس إلي القرار أو إلي أن يغلب الماء النازح فليس ذلك إلا مجرد رأي ليس عليه اثارة من علم.
[فصل ويطهر النجس والمتنجس به بالاستحالة إلا ما يحكم بطهارته كالخمر خلا والمياه القليلة المتنجسة باجتماعها حتى كثرت وزال تغيرها إن كان قبل وبالمكاثرة وهي ورود أربعة أضعافها عليها أو ورودها عليها فيصير مجأورا ثالثا إن زال التغير وإلا فأول وبجريها حال المجأورة وفي الراكد الفائض وجهان] .
قوله: فصل "ويطهر النجس والمتنجس به بالاستحالة إلي ما يحكم بطهارته كالخمر خلا".
أقول: إذا استحال ما هو محكوم بنجاسته إلي شيء غير الشيء الذي كان محكوما عليه بالنجاسة كالعذرة تستحيل ترابا أو الخمر يستحيل خلا فقد ذهب ما كان محكوما بنجاسته ولم يبق الاسم الذي كان محكوما عليه بالنجاسة ولا الصفة التي وقع الحكم لأجلها وصار كأنه شيء آخر وله حكم آخر.
وبهذا تعرف أن الحق قول من قال بان الاستحالة مطهرة ولا حكم لما وقع من المناقشة في ذلك كما في ضوء النهار وغيره.
أما حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب لبنها فذلك يقيد التحريم للأكل والشرب ولا يعترض به على كون الاستحالة مطهرة بأن يقال إن النجاسة التي أكلتها الجلالة إذا صارت لبنا فقد استحالت فكيف وقع النهي عن شرب اللبن لأنا نقول هذا حكم وارد في تحريم الشرب للبن الجلالة لا في نجاسة لبنها ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة فليست النجاسة فرع التحريم كما يقوله بعض أهل الفروع.
قوله: "والمياه القليلة المتنجسة باجتماعها" الخ.(1/35)
أقول: قد قدمنا لك أن الماء طاهر مطهر لا ينجسه إلا ما غير بعض أوصافه من غير فرق بين قليل وكثير.
فهذه المياه القليلة لا تنجس بمجرد وقوع النجاسة فيها إلا أن يتغير بعض أوصافها على ما هو المذهب الحق والقول الراجح فإن تغيرت حال قلتها صارت متنجسة فإن زال ذلك التغير عند اجتماعها صارت طاهرة بزوال التغير وسواء كانت حال اجتماعها مستبحرة أم لا فليس المقصود الذي هو مناط الطهارة إلا زوال التغير فاحفظ هذا فإن أردت مزيد التحقيق فارجع إلي ما حررناه في سائر مصنفاتنا فإنك تقف فيها على ما لا تحتاج إلي غيره.
وأما تحديد المكاثرة لورود أربعة اضعافها عليها أو ورودها عليها فليس ذلك إلا مجرد رأي بحت ليس عليه إثارة من علم.
قوله: "ويجريها حال المجأورة"
أقول: لم يثبت ما يدل على أن جري الماء يوجب طهارته بل إن كان مع جريه قد تغير بعض أوصافه فهو متنجس لبقاء ما هو سبب النجاسة كما تقدم.
وأما النهي عن البول في الماء الدائم فليس تخصيص الدائم إلا لكون تأثير ما وقع فيه من النجاسات أكثر من تأثيرها فيما ليس بدائم.
وهذا الكلام في الراكد أسفله الفائض أعلاه الاعتبار بزوال التغير ولا اعتبار بفيض أعلاه كما أنه لا اعتبار بمجرد الجري مع بقاء التغير.(1/36)
[باب المياه
فصل إنما ينجس منها مجأور النجاسة وما غيرته مطلقا أو وقعت فيه قليلا وهو ما ظن استعمالها باستعماله أو التبس أو متغيرا بطاهر وإن كثر حتى يصلح وما عدا هذه فطاهر] .
قوله: باب المياه فصل "إنما ينجس منها مجأور النجاسة"
أقول: هذا رأي بحت ليس عليه أثارة من علم وما ورد في حديث الفأرة إذا وقعت في السمن فإنها تلقى وما حولها إذا كان جامدا فليس ذلك لأجل النجاسة بل لأجل الاستخباث وعدم جواز الأكل.
ثم هذا الحكم فيما كان جامد إلا فيما كان مائعا وقد عرفناك غير مرة أنه لا ينجس من المياه إلا ما غيرته النجاسة بنص "خلق الماء طهورا إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه".(1/36)
وهذه الزيادة قد اتفق الحفاظ على ضعفها وإن وردت من طريق ولكنهم اتفقوا على العمل بها كما نقل ذلك غير واحد من الأئمة والفقهاء وكان العمل بها متعينا من الإجماع على العمل بها لأنها تصير بذلك من المتلقى بالقبول وما كان كذلك فهو مما يجب العمل به كما تقرر في الأصول.
فالحاصل أنه لا اعتبار بالمجأورة ولا هي مما يوجب الحكم بالنجاسة إلا إذا غيرت فما تغيرت أحد أوصافه كان نجسا سواء كان قريبا من النجاسة أو بعيدا.
قوله: "أووقعت فيه قليلا"
أقول: ليس مجرد وقوع النجاسة في القليل مقتضيا لصيرورته نجسا ولا ثبت ما يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام بل المعتبر أن تؤثر فيه النجاسة تغيرا فإن حصل ذلك فقد ضعف عن حمل النجاسة وصار متنجسا وإن لم يحصل ذلك فلا تؤثر النجاسة الواقعة فيه شيئا ويكون حكمه الحكم الذي كان له قبل وقوعها فيه وهو الطهارة فاعرف هذا.
قوله: "وهو ما ظن استعمالها باستعماله"
أقول: إن كان الظن هو ظن العقلاء المتشرعين فهو لا يكون إلا عند تأثير النجاسة في الماء بجرمها أو لونها أو طعمها أو ريحها وهذا لا يخالف ما قررناه بأنه لا ينجس إلا ما غيرته النجاسة.
وإن كان هذا الظن هو ظن أهل الشكوك والوسوسة في الطهارة فلم يقل بذلك أحد من المسلمين أجمعين فلا مخالفة بين هذا القول والقول بأنه لا ينجس من الماء إلا ما غيرته النجاسة.
وأما حديث القلتين فغاية ما فيه أن ما بلغ مقدار القلتين لا يحمل الخبث فكان هذا المقدار لا يؤثر فيه الخبث في غالب الحالات فإن تغير بعض أوصافه كان نجسا بالإجماع الثابت من طرق متعددة.
وبتلك الزيادة التي وقع الإجماع على العمل بها في حديث: "خلق الماء طهورا" فيكون إطلاق حديث القلتين مقيدا بذلك حملا للمطلق على المقيد.
وأما ما كان دون القلتين فلم يقل الشارع إنه يحمل الخبث قطعا وبتا بل مفهوم حديث القلتين يدل على أن ما دونهما قد يحمل الخبث وقد لا يحمله فإذا حمله فلا يكون ذلك إلا بتغير بعض أوصافه فيقيد مفهوم حديث القلتين بحديث التغير المجمع على قبوله والعمل به كما قيد منطوقه بذلك:
وبهذا تعرف أنه لا مخالفة بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة وأن الجمع بينها بما ذكرناه.
وأما الاستدلال بمثل حديث "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك" [النسائي "8/327"] ، "واستفت قلبك" [أحمد "4/227 – 228"] ، فليس فيهما إلا الإرشاد إلي الورع والتوقف عند الاشتباه وتوقي(1/37)
المشتبهات وليس ما نحن بصدده من ذلك القبيل لورود الشريعة الواضحة الطاهرة في شأنه وليس في مخالفتها بمجرد الشكوك والوسوسة إلا الإثم على فاعل ذلك.
قوله: "أو متغيرا بطاهر".
أقول: تغير الماء بالطاهر لا تأثير له في أن وقوع النجاسة فيه وهو كذلك يصيره متنجسا ولا ورد ما يدل على هذا لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح فلا يخرج عن كونه طاهرا إلا بتغير بعض أوصافه كما قررنا ذلك في كثير من هذه المسائل المتقدمة نعم إذا تغير بذلك الطاهر حتى خرج عن اسم الماء المطلق بأن يطلق عليه اسم خاص كماء الورد ونحوه فهو طاهر في نفسه غير مطهر كما سيأتي.
[فصل وإنما يرفع الحدث مباح طاهر لم يشبه مستعمل لقربة مثله فصاعدا فإن التبس الأغلب غلب الأصل ثم الحظر ولا غير بعض أوصافه مما زج إلا مطهر أو سمك متوالد فيه لا دم له أو أصله أو مقره أو ممره.
ويرفع النجس ولو مغصوبا والأصل فيما التبس مغيره الطهارة ويترك ما التبس بغصب أو متنجس إلا أن تزيد آنية الطاهر فيتحرى ويعتبر المخالف الانتهاء قيل ولو عامدا] .
قوله: "فصل: وإنما يرفع الحدث مباح طاهر لم يشبه مستعمل"
أقول: أما اشتراط كونه مباحا فلأن ملك الغير الذي لم يأذن الشرع باستعماله يكون مغصوبا وذلك ينافي التقرب به لأن بتلك القربة وهي الوضوء وما يترتب عليه يؤجر عليها الفاعل وغصب مال الغير يعاقب عليه الغاصب له والطاعة والمعصية لا يجتمعان.
وقد يقال إنه يؤجر عليه من وجه ويعاقب عليه من وجه آخر.
ويجاب عن ذلك بان الوجه الذي استحق به الأجر هو استعمال ذلك الماء وبهذا الاستعمال كان استهلاك ما هو ملك للغير.
وعلى كل حال فقد ثبت النهي عن أكل مال الغير واستهلأكله والانتفاع به والنهي يقتضي الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق إذا كان النهي لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه الملازم له لا الخارج عنه.
وأما المنع من التطهر بالماء الذي شيب بمستعمل فلا وجه له إذا لم يخرج بالاستعمال عن الماء المطلق.(1/38)
والحاصل أن الماء طاهر مطهر فمن ادعى خروجه عن كونه طاهرا أو مطهرا لم يقبل منه ذلك إلا بدليل وهذا الأصل هو مجمع عليه فالرجوع إليه متحتم حتى ينقل عنه ناقل صحيح صالح للاحتجاج به ولا يصلح للاحتجاج ما ورد في أمور خاصة لم يصرح فيها بأن السبب هو الاستعمال كحديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم فإنه لم يرد البيان من الشارع بأن سبب النهي أن يصير مستعملا والمستعمل غير مطهر.
وغاية ما يمكن أن يستخرج منه أن علة النهي هي أنه يفسد الماء بذلك لكونه دائما غير جار ويؤيد ذلك أنه ورد النهي عن البول في الماء الدائم كما ورد النهي عن الاغتسال فيه بل ورد النهي عن الجمع بينهما في حديث واحد فلا يصلح ذلك دليلا بمحل النزاع.
وهكذا حديث "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده"، فإنه لا دلالة فيه على محل النزاع لأن النهي عن إدخال اليد في الإناء والأمر بغسلها قبل ذلك إنما هو لخشية أن تكون قد تلوثت بنجاسة حال النوم.
والكلام هنا إنما هو في المستعمل لقربة لا في تطهير النجاسات.
ولو قدرنا ورود دليل فيه رائحة دلالة لكان غاية ما فيه هو تخصيص ذلك الأصل المصحوب بالبراءة فيجب الاقتصار على محل النص ولكنه لم يرد ما هو بهذه المنزلة قط.
وأما ما ذكره من قوله: "ولا غير بعض أوصافه مما زج" فالتحقيق أن ذلك الممازج إن خرج به اسم الماء المطلق كما يقال ماء ورد ونحوه فليس هذا الماء هو الماء الذي خلقه الله طهورا وإن لم يخرج عن اسم الماء المطلق فهو طهور وإن تغير بعض أوصافه فإن ذلك لا يضره ولا يخرجه عن كونه طهورا ولا فرق بين أن يكون ما تغير به مطهرا أو غير مطهر أو بما هو من حيواناته أو بمفرده أو بممره أو بغير ذلك.
هذا يغنيك عن هذه المسائل التي ذكرها المصنف يرحمه الله وذكرها غيره من المفرعين فإنها مبنية على غير أساس.
قوله: "ويترك ما التبس بغصب أو متنجس".
أقول: هذا صواب فإنه بعد أن يعلم أن أحد المائين متنجس ثم يلتبس بالطاهر أو يعلم أن أحدهما مغصوب ثم يلتبس بالمباح لا يجوز له أن يتطهر بأحدهما قبل أن يرتفع اللبس لأنه متعبد برفع حدثه بما هو صالح للرفع مجزىء للرافع ومع اللبس لم يفعل ما هو مأمور به لجواز أن يتطهر بما يجزىء التطهر به والتحري إذا أمكن به أن يتعين ما يجزىء مما لا يجزىء فهو مقدم على الترك وليس من شرطه زيادة آنية الطاهر بل يجب عليه أن يقدم التحري مطلقا وإلا وجب عليه ترك الجميع وعدل إلي التيمم إذا لم يجد ماء آخر محكوما بطهارته غير ملتبس بنجس أو غصب.
ووما يرشد إلي ما ذكرناه قول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". [البخاري "6858"، مسلم "1337"] .(1/39)
قوله: "ويعتبر المخالف الانتهاء قيل ولو عامدا".
أقول: لا يسقط ما أوجبه الله على العبد أو جعله شرطا لما أوجبه عليه إلا باليقين فإذا انكشف أنه فعل ما لا يجزىء أو ما لا يصلح لتأدية ما هو شرط فالاعتبار بذلك ولا اعتبار بما ظنه مجزئا في الابتداء فانكشف أنه غير مجزئ.
ثم إذا تعمد مثلا الإقدام على ما لا يجزئ فانكشف أنه مجزئ فالاعتبار بذلك الانكشاف ولا ينافي ذلك كونه قد صار عاصيا بالإقدام على ما لا يجزئ فإنه عصى بنفس الاعتقاد وأطاع باستعمال ما هو صالح لتأدية تلك الطاعة.
وبهذا يظهر لك أن الحق ما قاله صاحب هذا القيل ولا فرق بين هذه المسألة وبين سائر المسائل الشرعية فالاعتبار فيها جميعا بالانتهاء ولا اعتبار بالابتداء.
[فصل ولا يرتفع يقين الطهارة والنجاسة بيقين أو خبر عدل أو ظن مقارب. قيل والأحكام ضروب ضرب لا يعمل فيه إلا بالعلم وضرب به أو المقارب له وضرب بأيها أو الغالب وضرب بأيها والمطلق وضرب يستصحب فيه الحال وضرب عكسه وستأتي [.
قوله: فصل: "ولا يرتفع يقين الطهارة والنجاسة إلا بيقين".
أقول: لا شك أن تيقن طهارة شيء أو نجاسته كان الواجب البقاء على ما قد تيقنه وعدم الانتقال عنه إلا بناقل صحيح واليقين هو أعظم موجبات الانتقال من اليقين الأول لأنه قد ارتفع بمثله ثم إذا ورد في الشرع ما يدل على أنه يجوز الانتقال عن ذلك اليقين بما لا يفيد إلا الظن كخبر العدل والعدلين كان ذلك ناقلا بدليله وإن كان دون اليقين الحاصل لذلك الشخص وقد دلت الأدلة على وجوب قبول خبر العدل فيما هو أعظم من هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذين انحرفوا في صلاتهم إلي جهة القبلة لما سمعوا قائلا يقول وهم في صلاتهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى إلي جهة القبلة وترك استقبال بيت المقدس وقد كان استقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس معلوما عندهم بيقين وهذا الحديث صحيح.
وينبغي أن يقال هنا ولا يرتفع أصالة الطهارة إلا بناقل شرعي قد دل الدليل على صلاحيته للنقل وكون الأصل الطهارة مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف ثم ليس من الورع أن يسأل من عرف أن الأصل الطهارة عن وجود ما ينقل عنها بل يقف على ذلك الأصل حتى يبلغ إليه الناقل.
ومما يقوي لك هذا الذي ذكرناه ويؤيده ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه(1/40)
سأل صاحب المقراة قائلا يا صاحب المقراة هل ترد السباع هذه المقراة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب المقراة لا تخبره فإنه متكلف".
قوله: "قيل والأحكام ضروب"
أقول: أراد المصنف رحمه الله أن يتعرض ها هنا لاختلاف الأحكام باعتبار المسوغات للعمل بها وجعلها ضروبا أربعة كما تراه قاصدا لتعريف طالب هذا العلم بهذه الجملة التي ستأتي مفصلة في أبوابها من هذا الكتاب.
وسنتكلم إن شاء الله على كل فرد من أفرادها في بابه الخاص فإن الكلام عليها هنا يحتاج إلي بسط طويل يخرجنا عن المقصود ولكنا نعرفك ها هنا بقضية كلية تفيدك في كل باب وهي أن الشيء إذا كان حكمه معلوما بالرجوع إلي ما هو الأصل فيه فلا يجوز الانتقال عن ذلك الأصل إلا بسموغ جعله الشارع صالحا للانتقال فإن اعتبر الشارع في ذلك المسوغ العلم فلا يصلح للنقل إلا العلم وإن اعتبر الظن كان الظن صالحا لذلك والاعتبار بما يصدق عليه مسمى الظن وأما تقسيم الظن إلي هذه الأقسام فهو مما لا يدل عليه دليل ولا ثبت في شأنه ما يصلح للتعويل عليه والرجوع إليه.
ولا شك أن الظن في نفسه يكون قويا في بعض الأحوال وضعيفا في بعض آخر بحسب قوة ما أفاده وضعفه ولكن المصير في كونه ظنا أن يكون تجويزا راجحا على مقابله وبذلك يمتاز عن الشك.
فما ورد فيه تجويز العمل بالظن أو إيجابه كفى فيه ما يصدق عليه أنه ظن.
وأما كونه لا يجوز العمل به في بعض المواضع إلا بشرط أن يكون مقاربا للعلم ويجوز العمل به في بعض آخر وإن لم يكن كذلك فهذا لم يرد ما يدل عليه.
ثم وصفه للظن بالغالب إن أراد أنه غالب بما قابله فهو لا يكون ظنا إلا بذلك لأنه إذا سأواه ولم يغلبه فهو الشك وإن أراد بالغالب مرتبة من مراتب الظن فلم يكن ذلك إلا مجرد اصطلاح لم تدل عليه لغة العرب ولا وافق اصطلاح أهل الأصول وإن كان معلوما بالدليل كان الدليل الوارد على خلاف ما دل عليه ذلك الدليل أما ناسخا إن تأخر عنه تاريخا أو مقيدا لاطلاقه أو مخصصا لعمومه إن كان أحدهما مطلقا والآخر مقيدا أو أحدهما عأما والآخر خاصا ولا يصار إلي التعارض مع إمكان الجمع بوجه مقبول معتبر.
فهكذا ينبغي ان يكون الكلام في هذا المقام وأما قوله: "وضرب يستصحب فيه الحال وضرب عكسه" فاستصحاب الحال متعين عند من قال بدليل الاستصحاب والكلام في ذلك معروف في الأصول.
ولا ريب أنا إذا علمنا وجود الشيء مثلا أو وجود صفة من صفاته قائمة به فليس لنا أن ننتقل عن ذلك إلا بما يفيد أنه قد صار ذلك الشيء غير موجود أو صارت تلك الصفة التي كانت قائمة به غير قائمة به.
لكنه إذا ورد الدليل الدال على عدم العمل بالاستصحاب كما في حديث: "لا حتى يختلف(1/41)
الصاعان" [ابن ماجة "2228"، أي صاع البائع وصاع المشتري فإن هذا الحديث قد دل على أنه لا يجوز لنا أن نبيع شيئا علمنا مقدار كيله أو وزنه حتى نعيد كيله أو وزنه ولا يعمل باستصحاب الحال وأنه باق على ذلك الكيل أو الوزن الذي وقع عند أن اشتراه من أراد أن يبيعه الآن.(1/42)
[باب ندب لقاضي الحاجة التواري
والبعد عن الناس مطلقا وعن المسجد إلا في الملك والمتخذ لذلك والتعوذ وتنحية ما فيه ذكر الله تعالي وتقديم اليسرى دخولا واعتمادها واليمنى خروجا والاستتار حتى يهوي مطلقا واتقاء الملاعن والحجر والصلب والتهوية والكلام ونظر الفرج والأذى وبصقة والأكل والشرب واستقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما وإطالة القعود.
ويجوز في خراب لا مالك له أو عرف ورضاه ويعمل في المجهول بالعري.
وبعده الحمد والاستجمار ويلزم التيمم إن لم يستنج ويجزيه جماد طاهر منق لا حرمة له ويحرم ضدها غالبا مباح لا يضر ولا بعد استعماله ويجزي ضدها] .
قوله: "باب ندب لقاضي الحاجة التواري".
أقول: إطلاق ندبية بعض هذه الأمور مع ورود بعضها بلفظ الأمر بفعله وبعضها بلفظ النهي عن تركه ليس كما ينبغي إلا أن يوجد ما يصرف عن لمعنى الحقيقي للأمر والنهي وهو وجوب الفعل للمأمور به وتحريم الفعل للمنهي عنه.
فالتواري عن الناس حال قضاء الحاجة ورد فيه الأمر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى الغائط فليستتر" [أبو دأود "35"، أحمد "2/371"] ، أخرجه أبو دأود وغيره وقال في البدر المنير بعد أن ساق اختلاف الحفاظ فيه والحق أنه حديث صحيح وقد صححه جماعة منهم ابن حبان والحاكم والنووي في شرح مسلم انتهى وحسنه الحافظ في الفتح ولفظه في سنن أبي دأود "من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أكل فما تخلل فليلفظ ومن لاك بلسانه فليبتلع من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم". [أبو دأود "35"] ، انتهى.
واقتران الثلاثة الأمور بقوله "من فعل فقد أحسن" إلخ دليل واضح على الندب فقط وعدم اقتران الرابع منها يدل على أن الأمر بذلك فيه على حقيقته وأنه لم يرد ما يصرفه عن الوجوب.
قوله: "والبعد عن الناس".(1/42)
أقول: لم يصح في هذا إلا مجرد الفعل منه صلى الله عليه وسلم فكان للقول بندبيته فقط وجه وأما ما ورد في حديث جابر عن أبي دأود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. [أبو دأود "2"، ابن ماجة "335"] .
وفي لفظ ابن ماجه لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يرى
وهذا ليس إلا حكاية لفعله صلى الله عليه وسلم وليس فيه ما يفيد أنه من قوله صلى الله عليه وسلم كما وهم صاحب ضوء النهار.
وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عبد الملك الكوفي نزيل مكة وهو صدوق كثير الوهم وقال البخاري يكتب حديثه وقال أبو حاتم ليس بالقوي.
قوله: "واعتمادها".
أقول: لم يرد في هذا شيء يثبت به حكم الندب وما ورد في ذلك فليس بصحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف وإثبات الأحكام الشرعية بما لا تقوم به الحجة لا يجوز.
وأما تقديم اليسرى دخولا واليمنى خروجا فله وجه لكون التيامن فيما هو شريف والتياسر فيما هو غير شريف وقد ورد ما يدل عليه في الجملة.
قوله: "والاستتار حتى يهوي مطلقا".
أقول: أصل ستر العورة الوجوب فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة كما يكون عند خروج الحاجة فالاستتار قبل حالة الخروج واجب فيكشف عورته حال الانحطاط لخروج الخارج لا حال كونه قائما ولا حال كونه ماشيا إلي قضاء الحاجة.
قوله: "واتقاء الملاعن".
أقول: الحق أن اتقاء الملاعن واجب وقضاء الحاجة فيها حرام لحديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم وغيره بلفظ: "اتقوا اللاعنين" قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طرق الناس أو في ظلهم". [مسلم "269"، أحمد "2/372"، أبو دأود "25"] .
ولحديث معاذ مرفوعا عند أبي دأود وابن ماجه "اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل". [أبو دأود "26"، ابن ماجة "328"] . وقد حسن إسناده ابن حجر وزارد ابن حبان في حديث أبي هريرة "وأفنيتهم" وزاد ابن الجارود "ومجالسهم"
وأخرج الحاكم والطبراني في الأوسط: "من سل سخيمته على طريق عامرة من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وفي إسناده محمد بن عمر الأنصاري ضعفه ابن معين ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات كما قال في مجمع الزوائد وهو من مشايخ عبد الرحمن بن مهدي.
وأخرج ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا: "إياكم والتعريس على جواد الطريق والصلاة عليها فإنها مأوى الحيات والسباع وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن" [ابن ماجة "329"] ، وإسناده حسن.(1/43)
وأخرج الطبراني في الكبير من حديث حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" وإسناده حسن.
وهذه الأحاديث تفيد وجوب الترك وتحريم الفعل لا شك في ذلك فلا وجه للقول بأنه متدوب.
قوله: "والجحر"
أقول: قد ثبت النهي عن البول فيها كما في حديث عبد الله بن سرجس عند أبي دأود والنسائي والحاكم والبيهقي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في جحر" [أبو دأود "29"، النسائي "1/33"] ، وإسناده صحيح وكل رجاله ثقات.
وأما قول الصحأبي لما سئل عن سبب ذلك فقال كان يقال إنها مساكن الجن فهذا لم يرفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم ولو قدرنا رفعه لم يصلح ذلك لصرف النهي عن حقيقته لأن كونها مساكن الجن مما يؤكد التحريم.
قوله: "والصلب والتهوية به".
أقول: إن كان البول في الصلب أو التهوية به مما يتأثر عنه عود شيء منه إلي البائل فتجنب ذلك واجب لأن التلوث به حرام وما يتسبب عنه الحرام حرام.
قوله: "وقائما"
أقول: المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبول قاعدا كما في حديث عائشة عند أحمد ومسلم والترمذي والنسائي قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول إلا قاعدا" [الترمذي "12"، النسائي "29"] ، وفي رواية عنها عند أبي عوانة في صحيحه والحاكم قالت: "ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما منذ أنزل عليه القرآن".
وأخرج ابن ماجه والحاكم وعبد الرزاق وصححه السيوطي عن عمر قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما فقال: "يا عمر لا تبل قائما" فما بلت قائما بعد. [ابن ماجة "305"] .
وأخرج ابن ماجه والبيهقي من حديث جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما. [ابن ماجة 309"] وفي إسناده عدي بن الفضل وفيه ضعف.
وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم مال إلي سباطة قومه فبال عليها قائما وعلل ذلك أنه كان لجرح مأبضه.
ولم يثبت ذلك من وجه يصلح للعمل به وقد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لما نهى عنه نهيا عأما يكون مخصصا له وإن كان النهي خاصا بالأمة فلا يعارضه فعله صلى الله عليه وسلم بل يكون خاصا به والحاصل أن البول من قيام إذا لم يكن محرما فهو مكروه كراهة شديدة وأما إذا كان يتأثر منه ترشرش البائل بشيء من بوله فهو حرام لأنه يتسبب عنه الحرام كما تقدم.
قوله: "والكلام".(1/44)
أقول: حديث أبي سعيد عند أبي دأود مرفوعا "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان" [أبو دأود "15"، أحمد "3/36"، ابن ماجة "342"] ، فهذا النهي يدل على تحريم كشف العورة والتحدث حال قضاء الحاجة ولا سيما مع زيادة الحديث وهي قوله: "فإن الله يمقت على ذلك".
فإن المقت من الله عز وجل من أعظم الأدلة على التحريم وكون في إسناده هلال بن عياض أو عياض بن هلال وقد ضعفه بعضهم لا يقدح في الاستدلال به على التحريم فإنه قد ذكره ابن حبان في الثقات.
قوله: "ونظر الفرج والأذى وبصقه".
أقول: نظر الفرج داخل تحت الأحاديث المانعة من نظر العورة كحديث عوراتنا يا رسول الله ما نأتي منها وما نذر؟ فقال: "إن استطعت ألا يراها أحد فافعل" فقال: الرجل يكون خاليا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أن يستحيا منه" [البخاري "1/385"، أحمد "3/87"، أبو دأود "4017"، ابن ماجة "1920"، الترمذي "2769"] ، وهو حديث صحيح.
وقوله: ألا يراها أحد يشمل نظر الرجل إلي عورة نفسه ولا يخص من ذلك ما دعت إليه الحاجة.
وأما كراهة نظر الأذى وبصقه فهذا من أعجب ما يسمعه السامع من تسأهل أهل الفروع في إثبات الأحكام الشرعية بما لا دليل عليه فإن كان سبب ذكر ذلك هنا لكون النفس تستكرهه وتنفر عنه فليس موضوع الكتاب المكروهات النفسية بل المكروهات الشرعية ومثل ذلك الحكم بكراهة الأكل والشرب.
قوله: "والانتفاع باليمنى".
أقول: الأحاديث مصرحة بالنهي عن ذلك والنهي حقيقة في التحريم كما عرفت ولم يرد ما يقتضي صرف ذلك عن معناه الحقيقي.
قوله: "واستقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما"
أقول: أما استقبال القبلة واستدبارها فالنهي عن ذلك ثابت عن جماعة من الصحابة رووا النهي عن استقبالها واستدبارها مرفوعا إلي النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هذه الأحاديث في الصحيحين وبعضها في غيرهما.
وحقيقة النهي التحريم ولا يصرف ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فقد عرفناك أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة إلا أن يدل دليل على أنه أراد الاقتداء به في ذلك وإلا كان فعله خاصا به وهذه المسألة مقررة في الأصول محررة أبلغ تحرير وذلك هو الحق كما لا يخفى على منصف ولو قدرنا أن مثل هذا الفعل قد قام ما يدل على التأسي به فيه لكان ذلك خاصا بالعمران فإنه رآه وهو في بيت حفصة كذلك بين لبنتين.
وأما بيت المقدس فلم يكن فيه إلا حديث معقل بن أبي معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تستقبل القبلتين ببول أو غائط أخرجه أبو دأود وفي إسناده أبو زيد الرأوي له عن معقل وهو(1/45)
مجهول فلا تقوم به حجة ولم يرد في بيت المقدس غيره وقد نقل الخطأبي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس وقيل إنه خاص بأهل المدينة ومن هو على سمتهم لأن استقبال بيت المقدس يستلزم استدبارهم للكعبة.
وأما ما قيل من أن بيت المقدس يكون له حكم الكعبة بالقياس فهذا القياس من أبطل الباطلات لأنه إن كان الجامع الشرف لزم ذلك في كل محل شريف وإن تفأوت الشرف ويدخل في ذلك دخولا أوليا مسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء ونحوهما وإن كان ذلك بجامع أن بيت المقدس قد كان قبلة قبل استقبال الكعبة فقد نسخ ذلك وإن كان ذلك لكونه تستقبله اليهود فقد تقرر في الشريعة الأمر بمخالفتهم وأن ذلك شريعة ثابتة وسنة قائمة.
وأما استقبال القمرين فهذا من غرائب أهل الفروع فإنه لم يدل على ذلك دليل لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف وما روي في ذلك فهو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رواية الكذأبين وإن كان ذلك بالقياس على القبلة فقد اتسع الخرق على الراقع ويقال لهذا القائس ما هكذا تورد يا سعد الإبل وأعجب من هذا إلحاق النجوم النيرات بالقمرين فإن الأصل باطل فكيف بالفرع وكان ينبغي لهذا القائس أن يلحق السماء فإن لها شرفا عظيما لكونها مستقر الملائكة ثم يلحق الأرض لأنها مكان العبادات والطاعات ومستقر عباد الله الصالحين فحينئذ يضيق على قاضي الحاجة الأرض بما رحبت ويحتاج أن يخرج عن هذا العالم عند قضاء الحاجة.
وسبحان الله ما يفعل التسأهل في إثبات أحكام الله من الأمور التي يبكي لها تارة ويضحك منها أخرى.
قوله: "وإطالة القعود".
أقول: هذا إن كان مرجعه الشرع كما هو شأن من يتكلم في الأحكام الشرعية فلا شرع وإن كان مرجعه الطب فليس هذا الكتاب مدونا لذلك ومما يضحك منه التمسك بما روي عن لقمان الحكيم أنه يورث الباسور.
فيا لله العجب ممن لا يتحاشى عن تدوين مثل هذا الكلام في كتب الهداية.
ولقد أبعد النجعة من اعتمد في مثل هذه المسألة الشرعية على لقمان الحكيم.
قوله: "ويجوز في خراب لا مالك له".
أقول: إذا لم يكن له مالك فلا حاجة إلي بيان الجواز فإنه جائز بلا شك ولا شبهة. ولو أردنا أن نعدد الأمكنة التي يجوز قضاء الحاجة فيها لطال ذلك وإنما ينبغي الاقتصار على ذكر ما لا يجوز فيه فيعرف بذلك
أنه جائز فيما عداه كما يفعله المصنفون في مثل هذه الفنون.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه ومن بعدهم يقضون الحاجة في المواطن المملوكة للغير من غير استئذان إذا كانت خالية ولم يكن وقت سقوط ثمارها وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وقضى حاجته فيه.
قوله: "وندب بعده الحمد".(1/46)
أقول: هذا مندوب كما قال ووجهه ما أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بإسناد صالح قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى" [ابن ماجة "301"، وأخرج نحوه النسائي وابن السني من حديث أبي ذر وإسناده صحيح.
وينبغي أن يضم إلي الحمد الاستغفار لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" [أحمد "6/155"، أبو دأود "30"، الترمذي "7"، ابن ماجة "300"] ، وصححه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم.
قوله: "والاستجمار".
أقول: ظاهر الأحاديث أنه واجب لاجتماع الأمر به والنهي عن تركه وظاهرها أنه يكفي ولا يحتاج بعد ذلك إلي أن يستنجي بالماء بل مجرد فعل الاستجمار بالأحجار مطهر وإن لم يذهب الأثر إذ قد فعل ما أمر به من استعمال ثلاثة أحجار.
فإن عدل عن الاستجمار إلي الاستنجاء بالماء فهو أطيب وأطهر وإن جمع بينهما فقد فعل الأتم الأكمل
وأما الأيتار بأحجار الاستجمار فليس ذلك إلا سنة لما في حديث "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج".
قوله: "ويلزم المتيم إن لم يستنج"
أقول: وكذلك يلزم غير المتيم لأن رفع أثر النجاسة واجب وهي نجاسة معلومة بالضرورة الدينية وقد جعل الشارع الاستجمار بالأحجار كافيا في رفعها فإذا لم ترتفع بالأحجار وجب رفعها بالماء وإذا لم ترتفع بالماء وجب رفعها بالأحجار.
قوله: "ويجزئه جماد جامد" إلي آخر الباب.
أقول: المعنى الذي وقع لأجله الأمر بالاستجمار هو قطع أثر النجاسة ورفع عينها باستعمال ما أمر به الشارع فما نهى الشارع عن الاستجمار به كان غير مجزىء وما لم ينه عنه إن كان لا حرمة له ولا يضر استعماله فهو مجزئ.
وأما الحكم على بعض أضداد هذه الأمور بالإجزاء وعلى بعضها بعدمه والحكم علي بعض أضدادها بالتحريم وعلي بعضها بعدمه، فليس كما ينبغي.(1/47)
[باب الوضوء
شروطه التكليف والإسلام وطهارة البدن عن موجب الغسل ونجاسة توجبه]
قوله: "شروطه التكليف والإسلام".(1/47)
أقول: الشرط ما يؤثر عدمه في عدم المشروط كما صرح به أهل أصول الفقه وقد يكون شرطا للطلب وهو المعبر عنه في الفروع شرط الأداء.
وقد يكون شرطا للمطلوب وهو المعبر عنه في الفروع بشرط الصحة وشرط الوجوب والشرط الأول هو الذي يقولون فيه تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب والثاني هو الذي يقولون فيه ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه وهو الذي يعبر عنه أهل الأصول بمقدمة الواجب.
إذا عرفت هذا فالتكليف شرط الطلب أي لا يطلب فعل الوضوء إلا من مكلف وتحصيل هذا الشرط لا يجب لأنه ليس في وسع العبد ذلك والإسلام شرط للصحة أي لا يصلح الوضوء إلا من مسلم ويجب على من لم يكن مسلما تحصيل هذا الشرط بالإسلام ولا يصح منه قبل ذلك وإن كان مكلفا به بمعنى انه يعاقب على تركه لتفريطه في تحصيل شرط ما هو واجب عليه فاعرف هذا فهو واضح ظاهر ومجرد التشكيك في مثله على المقصرين والقعقعة عليهم وصوغ عبارات تبعد عن أذهانهم ليس من دأب من قصد نشر العلم ونفع عباد الله بما يؤلفه لهم ويدونه لقصد إرشادهم.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن رفع قلم التكليف عن غيرالمكلفين لا ينافي ثبوت الأجر لهم بما عملوه من خير لأن معنى رفع التكليف أنهم غير مكلفين بالأمور الشرعية وليس معناه أنهم لا يؤجرون في شيء مما يفعلونه من القربات وهكذا لا ينافي أمرهم بالصلاة وضربهم على تركها رفع التكليف عنهم فإن ذلك من باب التأديب لهم والتعويد لطبائعهم والتمرين لما يشق عليهم إذا تركوا فعله قبل وجوبه عليهم.
فإن قلت قد زعمت أن الكفار مخاطبون بتحصيل شرط صحة ما شرعه الله لعباده مكلفون بذلك معاقبون على تركه فهل من دليل يدل على ذلك؟.
قلت الكثير الطيب من الكتاب والسنة ولو لم يكن من ذلك إلا قوله سبحانه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 42 – 45] ، وقوله سبحانه: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] . وقوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33، 34] .
قوله: "وطهارة البدن عن موجب الغسل".
أقول: لم يدل على هذا الاشتراط دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح بل الثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقدم الوضوء حتى لا يبقى منه إلا غسل الرجلين ثم يفيض الماء على بدنه ثم يغسل رجليه بعد الفراغ من غسل بدنه ثم يصلي ولا يحدث بعد ذلك وضوءا.
هذا معلوم من فعله صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته ولم يثبت ما روي أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم تقديم الغسل على الوضوء لا من وجه صحيح ولا من وجه حسن.
قوله: "ونجاسة توجبه"
أقول: لا وجه لهذا الاشتراط لأن خروج النجاسة التي توجب الوضوء لا يلزم منه وجوب(1/48)
غسلها أو شرطيته قبل الوضوء فإن الناقض للوضوء إنما هو مجرد خروجها وقد خرجت قبل أن يشرع في هذا الوضوء الذي جعل غسلها شرطا لصحته نعم إذا كانت النجاسة في الفرجين أو أحدهما فتقديم غسلها متعين لأن لمس الفرج من نواقض الوضوء إذا كان باليد أما إذا كان غسلها بشيء غير اليد فلا بأس بأن يتوضأ ثم يزيل النجاسة من فرجيه أو أحدهما.
ولا شك أن رفع هذه النجاسة واجب ولكن النزاع في وجوب تقديم رفعها على الوضوء في كون رفعها شرطا للوضوء لا يصح إلا به وهذا وإن لم تقبله أذهان أهل التقليد فليس علينا إلا أيضاح الحق وإبطال ما لم يقم عليه دليل.
[فصل:
"وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير ومقارنة أوله بنيته للصلاة أما عموما فيصلي ما يشاء أو خصوصا فلا يتعداه ولو رفع الحدث إلا النفل فيتبع الفرض والنفل ويدخلها الشرط والتفريق وتشريك النجس أو غيره والصرف لا الرفض والتخيير والمضمضة والاستنشاق بالدلك والمج مع إزالة الخلالة والاستنثار وغسل الوجه مستكملا مع تخليل اصول الشعر ثم غسل اليدين مع المرفقين وما حإذاهما من يد زائدة وما بقي من المقطوع إلي العضد ثم مسح كل الرأس والأذنين فلا يجزىء الغسل ثم غسل القدمين مع الكعبين والترتيب وتخليل الأصابع والأظفار والشجج] ".
قوله: "فصل وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة".
أقول: جعل الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء لم يثبت عن عالم من علماء الإسلام قط لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من تابعيهم ولا من أهل المذاهب الأربعة ولا من الأئمة من أهل البيت.
وذكر المصنف له في كتابه هذا قد تبع فيه من تقدمه من المصنفين في الفروع من أهل هذه الديار وكلهم يجعل ذلك مذهبا للهادي وهو أجل قدرا من أن يقول به وليس في كتبه حرف من ذلك قط.
ولا أظن هذه المقالة إلا صادرة من بعض الموسوسين في الطهارة وأهل العلم بأسرهم بريئون عنها كما أن الشريعة المطهرة بريئة عنها وليس في الكتاب ولا في السنة حرف يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ومن استدل لهما بما ورد في الاستنجاء بالماء فهو لا يدري كيف الاستدلال فإن النزاع ليس هو في رفع النجاسة من الفرجين بل في غسلهما للوضوء بعد زالة النجاسة كما ذكره المصنف هنا وذكره غيره.(1/49)
وقد قدمنا لك أن الاستجمار بالأحجار يكفي كما دلت عليه الأدلة ودين الله غير محتاج إلي أن يبلغ شكوك أهل الشكوك في الطهارة إلي إثبات عضو زائد للوضوء الذي شرعه الله.
وقد كان شكهم مرتفعا بما جزموا به من إيجاب رفع نجاستيهما بالماء وعدم الاكتفاء بالأحجار فما بالهم لم يقنعوا بذلك بل أوجبوا غسلا آخر بعد رفع النجاسة وجعلوا هذا الغسل فرضا على عباد الله وجزموا بأن الفرجين عضوين من أعضاء الوضوء وأن من ترك غسلهما للوضوء بعد غسل النجاسة فهو كمن ترك غسل أحد أعضاء الوضوء المذكورة في القرآن فيا لله العجب.
قوله: "والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير"
أقول: حديث "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" [أحمد "2/418"، أبو دأود "101"، ابن ماجة "399"] ، وقد روي من طرق عن جماعة من الصحابة أبي هريرة وأبي سعيد وسعيد بن زيد وعائشة وسهل بن سعد وأبي عبيدة وأم سبرة وكذلك روي من طريق علي وأنس وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها.
قال أبو بكر بن أبي شيبة ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وقال ابن كثير في الأرشاد طرقه يشد بعضها بعضا فهو حديث حسن أو صحيح.
وقال ابن حجر الظاهر أن مجموع الأحاديث تحدث منها قوة فتدل على أن له أصلا وهذه الصيغة أعني قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" - إن كان النفي فيها متوجها إلي الذات كما هو الحقيقة دل ذلك على انتفاء الوضوء بانتفاء التسمية والمراد انتفاء الذات الشرعية.
وإن كان متوجها إلي الصحة كما هو المجاز الأقرب إلي الحقيقة لأن نفي الصحة يستلزم نفي الذات دل على عدم صحة وضوء من لم يسم.
وإن كان متوجها إلي الكمال الذي هو أبعد المجازين من الحقيقة لأنه لا يدل على نفي الذات ولا على نفي صحتها دل ذلك على صحة الوضوء لكن لا على جهة الكمال.
فالواجب الحمل على المعنى الحقيقي فإن قامت قرينة تصرف عنه وجب الحمل على المجاز القريب من الذات وهو الصحة فإن وجدت قرينة تدل على الصحة كان النفي متوجها إلي الكمال.
فاعرف هذا واستعمله فيما يرد عليك تنتفع به.
وقد جعل صاحب ضوء النهار هذا النفي متوجها إلي الكمال قال قالوا حديث: "من ذكر الله أول وضوئه طهر جسده كله ومن لم يذكره لم يطهر منه إلا مواضع الوضوء" أخرجه رزين من حديث أبي هريرة انتهى.
ولا يخفاك أن هذه النسبة في التخريج إلي رزين ليست كما ينبغي فرزين رجل أراد أن يجمع بين الأمهات الست في مصنف مستقل ثم وجدت في مصنفه أحاديث لم يكن لها في الأمهات أصل ولا وجدت في شيء منها ثم تصدى للجمع بين الأمهات ابن الأثير في كتابه الذي(1/50)
سماه جامع الأصول وذكر تلك الأحاديث التي زادها رزين معزوة إليه فأجاد وأفاد.
فما هو معزو إليه فالمراد أنه ليس في الأمهات التي تعرض رزين للجمع بينها.
وقد قدح فيه بعض أهل العلم ولعمري إن ذلك قادح فادح وهو وإن كان من علماء الإسلام ولكنه فعل ما لا يفعله الثقات.
إذا عرفت هذا فاعلم أن عزو الجلال للحديث إليه لا طائل تحته فليس رزين ممن يخرج الأحاديث وفي الأحاديث التي زادها تهمة ظاهرة فليس فيما ينقل عنه وينسب إليه حجة أصلا.
فإن قلت فهل أخرج هذا الحديث الذي عزاه إلي رزين أحد من المخرجين للأحاديث قلت أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعيفان مرداس بن محمد ومحمد بن ابان وأخرجه الدارقطني والبيهقي أيضا من حديث ابن مسعود وفي إسناده يحيى بن هاشم السمسار وهو متروك وأخرجاه أيضا من حديث ابن عمر وفيه أبو بكر الداهري وهو متروك.
قال البيهقي بعد إخراجه وهذا أيضا ضعيف أبو بكر الداهري غير ثقة عند أهل العلم بالحديث ولا يخفاك أن هذه الطرق لا تقوم بها حجة اصلا ولا يصح أن يكون من الحسن لغيره لأنها من طريق المتروكين والضعفاء بمرة فلا يقوى بعضها بعضا.
وقد استدل البيهقي على عدم وجوب التسمية بحديث رفاعة بن رافع بلفظ: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه" الحديث.
واستدل النسائي في المجتبي وابن خزيمة والبيهقي عن استحباب التسمية بحديث أنس قال طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءا فلم يجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحد منكم ماء؟ " فوضع يده في الإناء وقال: "توضؤوا باسم الله".
وأصله في الصحيحين بدون هذه الزيادة وأنت خبير بأنه لا دلالة في هذين الحديثين على ما استدلوا بهما عليه لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام.
ومما يؤيد دلالة أحاديث التسمية على الوجوب بل على عدم صحة الوضوء بدونها حديث "كل أمر ذي بال لا يذكر على أوله اسم الله فهو أجذم" لا كما زعم بعضهم أن هذا الحديث يدل على عدم وجوب التسمية في الوضوء.
قوله: "ومقارنة أوله بنيته للصلاة".
أقول: ظاهر حديث "إنما الأعمال بالنيات" [البخاري "6689"، مسلم "155/1907"، أبو دأود "2201"، الترمذي "1647"، النسائي "75" و "3437"] ، وحديث "لا عمل إلا بنية" ونحوهما أن النية إذا عدمت عدم الوضوء وما كان هكذا فهو شرط فقول من قال إن النية شرط هو الظاهر.
وأما قولهم: إن الشرط يجب استصحابه في جميع المشروط فالمراد أنه يستمر عليه ولا(1/51)
يجيء بما يبطله كالوضوء فإنه شرط في الصلاة وليس معنى استصحابه فيها إلا أنه لا يقع منه حدث قبل فراغها فيبطل وضوءه.
وهكذا النية في الوضوء والصلاة وغيرهما ليس المراد باستصحابها في المشروط وهو المنوي إلا مجرد البقاء عليها وعدم صرفها إلي غيره.
فهذا معنى استصحاب الشرط في جميع المشروط.
فإن قلت ما الدليل على أن النية إذا عدمت عدم الوضوء ونحوه من المنويات؟.
قلت لأن هذا التركيب هو الذي يسميه أهل الأصول المقتضي وهو ما لا يتم معناه إلا بتقدير محذوف يتم به الكلام والمقدم تقدير المعنى الحقيقي أي إنما وجود الأعمال أو ثبوتها بالنية أو لا صلاة موجودة أو ثابتة إلا بالنية.
وهذا التقدير يدل على انتفاء ذات الصلاة بانتفاء النية.
لا يقال إن الذات قد وجدت فلا يصح توجه النفي إليها لأنا نقول إن المراد الذات الشرعية وتلك الذات التي وجدت غير شرعية.
وعلى تقدير أن ثم مانعا يمنع من تقدير ما يدل على انتفاء الذات فالواجب تقدير أقرب المجازين إلي الذات كما قدمنا في البحث الذي قبل هذا.
فيقال إنما صحة الأعمال بالنيات أو لا صحة لعمل إلا بنية.
هذا يدل على أن العمل لا يصح بدون نية فقد أثر عدمها في عدم المنوي وذلك هو معنى الشرط ولا يصح ها هنا تقدير الكمال لعدم وجود دليل يدل عليه لكونه مجازا بعيدا.
وأما قوله: "بنيته للصلاة" فاعلم أن الحدث مانع من فعل الصلاة فإذا نوى رفعه فقد ارتفع المانع فيصلي ما شاء من فرض ونفل فلا وجه لقوله بنيته للصلاة ولا لما بعده فإنه إذا قد ارتفع المانع لم يزل المتوضىء متوضئا حتى يعود عليه حكم الحدث فيعود المانع.
وقبل عوده يصلي ما شاء عموما وخصوصا فرضا ونفلا.
ولا وجه أيضا لما ذكره من قوله يدخلها الشرط فإنه إذا ارتفع المانع لم يزل مرتفعا حتى يعود ولا يصح أن يقيده بشرط لأن الوضوء إذا وقع على الصفة المشروعة مع أرادة ذلك الفعل وقصده فقد وقع مطابقا لما وقع به الأمر وذلك هو الوضوء الشرعي الرافع للحدث المانع من الصلاة.
وأما ما ذكره من أنه يدخل النية التفريق أي إيقاعها عند كل عضو فإن كل ذلك بمعنى استحضار العزم الذي وقع منه عند الشروع وهو رفع المانع من الصلاة فلا بأس بذلك وإن كان المراد تكرير العزم عند كل عضو فلا يبعد أن ذلك بدعة.
وأما تشريك النجس فالنجاسة إذا كانت في أعضاء الوضوء وجب تقديم غسلها حتى تزول عينها ولونها وطعمها وعرفها فإذا فرغ من ذلك غسل العضو غسل الوضوء ولا يصح أن يكون الغسل لرفع الحدث والنجس جميعا وبعد زوال النجاسة لا معنى لتشريكها.
وما ذكره من الصرف والرفض والتخيير فهو مبني على ما ذكره من أنه لا بد أن ينوي(1/52)
الوضوء للصلاة وقد عرفت أنه يكفي مجرد رفع المانع وهو الحدث ولا يصح صرف نفس رفع المانع ولا رفضه ولا التخيير بينه وبين شيء آخر.
قوله: "والمضمضة والاستنشاق"
أقول: القول بالوجوب هو الحق لأن الله سبحانه قد أمر في كتابه العزيز بغسل الوجه ومحل المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه.
وقد ثبت مدأومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في كل وضوء ورواه جميع من روى وضوءه صلى الله عليه وسلم وبين صفته فأفاد ذلك أن غسل الوجه المأمور به في القرآن هو مع المضمضة والاستنشاق.
وأيضا قد ورد الأمر بالاستنشاق والاستنثار في أحاديث صحيحة وأخرج أبو دأود والترمذي من حديث لقيط بن صبرة بلفظ "إذا توضأت فمضمض" [أبو دأود "2366"، النسائي "87"، ابن ماجة "407"، الترمذي "788"] ، وإسناده صحيح وقد صححه الترمذي والنووي وغيرهما ولم يأت من أعله بما يقدح فيه.
قوله: "مع تخليل أصول الشعر".
أقول: الأحاديث في تخليل اللحية وقد وردت من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة وفيها الصحيح والحسن والضعيف وقد صحح بعضها الترمذي في جامعه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والدارقطني والحاكم وابن دقيق العبد وابن الصلاح وحسن بعضها البخاري وما دون ذلك ينتهض للاحتجاج به وفي بعضها الحكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع زيادة وهي قوله: "بهذا أمرني ربي" ومجرد الفعل المستمر يدل على أنه بيان لما في القرآن من قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية لأن اللحية والحاجبين والشارب كلها نابتة في الوجه ولم يأت من ضعف أحاديث تخليل اللحية بما يقدح في الاحتجاج وليس ذلك إلا باعتبار بعض الطرق وأما باعتبار الكل فلا وقد قامت الحجة بتصحيح من صححها وتحسين من حسنها كما ذكرنا ومن علم حجة على من لا يعلم وبهذا تعرف أن ما روي عن أحمد بن حنبل من أنه لم يثبت في تخليل اللحية حديث صحيح وأن أحسن شيء فيه حديث شقيق عن عثمان وروي مثله عن ابن أبي حاتم عن أبيه لا يعارض ما ذكرنا عن أولئك الأئمة.
قوله: "ثم غسل اليدين مع المرفقين".
أقول: كلام أهل اللغة والنحو في كون إلي للغاية أو بمعنى مع معروف وقد ذهب إلي كل قول طائفة وذهب قوم إلي التفصيل فقالوا إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها كما في هذه المسألة كانت بمعنى مع وإن لم يكن من جنسه كما في قوله تعالي: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلي اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، كانت للغاية فلا يدخل ما بعدها فيما هو قبلها.
والحق احتمالها للأمرين فإذا ورد ما يدل على أحدهما تعين وإن لم يرد ما يدل على أحدهما كان الكلام في ذلك كالكلام في اللفظ المشترك بين معنيين وقد ورد ها هنا ما يدل على أحد المعنيين وهو أنها بمعنى "مع".(1/53)
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ حتى أشرع في العضد وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به".
وفي إسناده القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل وفيه كلام معروف.
وفي رواية للدارقطني من حديث عثمان أنه غسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضوين وأخرج البزار من حديث وائل بن حجر قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثم يديه فغسل حتى جأوز المرفق.
قوله: "وما حإذاهما من يد زائدة"
أقول: لا وجه لاعتبار المحإذاة وليس مجرد المحإذاة للمرفقين مما يوجب أن يكون للمحإذاة من ذلك العضو الزائد حكم الأصل ولا يجب غير غسل اليد الأصلية إلا إذا كان العضو الزائد نابتا في المحل الذي يجب غسله فإنه داخل في مسمى اليد وأما النابت في غير ذلك المحل فليس بداخل في مسمى اليد التي ورد الشرع بغسلها.
وأما ما ذكره من وجوب غسل ما بقي من العضو الذي يجب غسله بعد قطع بعضه فلا شك في ذلك لأن الوجوب الذي كان قبل القطع لا يرتفع بالقطع وإن كان الباقي يسيرا مهما كان مما يجب غسله.
قوله: "ثم مسح كل الرأس"
أقول: وجه إيجاب مسح الكل أن مسمى الرأس حقيقة هو جميعه ولكن محل الحجة ها هنا هو ما يفيده إيقاع المسح على الرأس وهو يوجب المعنى الحقيقي جزءا من أجزائه كما تقول ضربت رأسه وضربت برأسه فإنه يوجد المعنى بهذا التركيب بلإيقاع الضرب على جزء من أجزاء الرأس.
ومن قال إنه لا يكون ضاربا لرأسه حقيقة إلا إذا وقع الضرب على كل جزء من أجزائه فقد جاء بما لا يفهمه أهل اللغة ولا يعرفونه ومثل هذا إذا قال القائل مسحت الحائط ومسحت بالحائط فإن المعنى للمسح يوجد بمسح جزء من أجزاء الحائط ولا ينكر هذا إلا مكابر وبهذا تعرف معنى قوله تعالي: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، ودع عنك ما أطال الناس القول فيه من الكلام في معاني الباء وفي معنى الرأس حقيقة ومجازا فإن ذلك تطويل بلا طائل.
وإذا عرفت الآية الكريمة فاعلم أن السنة المطهرة تعضد ذلك وتقويه فإنه صلى الله عليه وسلم
مسح جميع رأسه واقتصر في بعض الأحوال على مسح بعضه مكملا على العمامة تارة وغير مكمل عليها أخرى فكان ذلك مطابقا لما افاده القرآن ولا شك أن الأحسن والأحوط مسح كل الرأس على الهيئة التي كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما ذكر ذلك أئمة الحديث في كتبهم التي هي دوأوين الإسلام ولكن لم يقم دليل على أن ذلك واجب متعين.
وكيف يقال ذلك وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالفه ودلت الآية على ما هو أوسع منه.(1/54)
قوله: "والأذنين".
أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسحهما مع مسح رأسه وثبت أنه مسح ظاهرهما وباطنهما كما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن منده.
وأخرج أبو دأود والبزار من حديث تعليم علي بن أبي طالب وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح ظهور أذنيه وإسناده حسن.
ومن ذلك حديث: "الأذنان من الرأس" [أبو دأود "134"، الترمذي "37"، ابن ماجة "444"، أحمد "5/268"] ، وهو مروي من طريق ثمانية من الصحابة وفي بعض أسانيدها مقال وهي يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها.
والحاصل أن مسح ظاهرهما وباطنهما هو الهيئة الكاملة كما ذكرنا في مسح كل الرأس.
وأما أن ذلك واجب متعين فلا بل يجزىء ما يصدق عليه مسمى المسح كما قلنا في الرأس.
قوله: "ثم غسل القدمين مع الكعبين"
أقول: قد أطال أهل العلم الكلام على القراءتين في قوله سبحانه: {وَأَرْجُلَكُمْ} ولا شك أن ظاهرهما أنه يجزئ الغسل وحده والمسح وحده وهما قراءتان صحيحتان لكنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح للرجلين قط بل الثابت عنه في جميع الروايات أنه كان يغسل رجليه وثبت عنه ما يدل على أن الغسل لهما متعين كما في حديث أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال بعد فراغه من الوضوء: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" [ابن ماجة "419"، وكان ذلك الوضوء مع غسل الرجلين وقال للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" [ابن ماجة 665] ، ثم ذكر له صفة الوضوء وفيه غسل الرجلين وثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال: "ويل للأعقاب من النار" [أحمد "6/81 و 84"، ابن ماجة "451"، مسلم "240] ، قال ذلك لما رأى جماعة وأعقابهم تلوح.
ولهذا وقع الإجماع على الغسل قال النووي ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به.
وقال ابن حجر في الفتح إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا علي وابن عباس وأنس وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك.
وبالجملة فاستمراره صلى الله عليه وسلم على الغسل وعدم فعله للمسح أصلا إلا في المسح على الخفين وصدور الوعيد منه على من لم يغسل وتعليمه لمن علمه أنه يغسل رجليه وقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" يدل على أن قراءة الجر منسوخة أو محمولة على وجه من وجوه الإعراب كالجر على الجواز أو محمولة على المسح على الخفين الثابت ثبوتا أوضح من شمس النهار حتى قيل إنه روي من طريق أربعين من الصحابة وقيل من طريق سبعين منهم وقيل من طريق ثمانين منهم.
والكلام في غسل الكعبين هنا كالكلام في غسل المرفقين وقد تقدم فلا نعيده.(1/55)
قوله: "والترتيب"
أقول: هذه هيئة واجبة ولا يحسن جعلها من جملة فرائض الوضوء وكذلك قوله فيما بعد "وتخليل الأصابع والأظفار والشجج"، فإن جعل ذلك من جملة الفرائض فيه نوع تسأهل وقد ثبت عن الشارع فعلا وتعليما أنه غسل أعضاء الوضوء مقدما لما قدمه القرآن ومؤخرا لما أخره كذلك ثبت عن الحاكين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم والمعلمين لهم فهذا هو الوضوء الذي شرعه الله لعباده في كتاب.
ومن زعم أنه يجزئ وضوء غير مرتب على ذلك الترتيب فقد خالف الجادة البيضاء والطريقة الواضحة التي لا يزيغ عنها إلا زائغ.
وأما كون الوأو لا تفيد الترتيب فهذا لو لم يرد البيان النبوي وأما بعد وروده دائما مستمرا فلا.
ثم قوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وضوءا مرتبا: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وقوله للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" ثم علمه الوضوء مرتبا على ما في القرآن يدلان دلالة بينة واضحة أن ذلك واجب متعين لا يجوز المخالفة له بحال ولم يصب من قال إن الإشارة بقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" إلي نفس الفعل لا إلى هيئته فإن ذلك دعوى بلا دليل بل الإشارة أي إشارة كانت إلي فعل أي فعل كان إلي الفعل الذي له تلك الهيئة لا إلي الفعل مجردا عنها فإن ذلك مما لا يدل عليه عقل ولا نقل.
[فصل
"وسننه غسل اليدين أولا والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة وتقديمهما على الوجه والتثليث ومسح الرقبة وندب السواك قبله عرضا والترتيب بين الفرجين والولاء والدعاء وتوليه بنفسه وتجديده بعد كل مباح وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضاء] ".
قوله: فصل: "وسننه غسل اليدين أولا".
أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم وحكاه من حكاه من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمهم لوضوئه ومن ذلك ما هو في الصحيحين ومنه ما هو في غيرهما ولا شك في مشروعيته وأما قول من قال بالوجوب فلا وجه له لأن غسل اليدين قبل الوضوء لم يكن مما في القرآن الكريم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرأبي "توضأ كما أمرك الله" يعني في القرآن.
أما حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده" فهو خاص بمن قام من النوم فعلى تقدير دلالته على الوجوب لا يدل(1/56)
على وجوب غسلها عند كل وضوء بل في هذه الحالة الخاصة بمن قام من النوم.
واعلم أن المشروع غسلهما ثلاثا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عثمان في حكايته لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفرغ الماء على كفيه ثلاث مرات يغسلها وأخرج أحمد والنسائي من حديث أوس بن أوس الثقفي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا أي غسل كفيه ثلاثا.
قوله: "والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة".
أقول: كان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يزيد لفظ ثلاثا فيقول والجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما كان ينبغي له أن يقول وسننه غسل اليدين ثلاثا أولا لما تقدم في غسل اليدين وكذلك هنا لأن الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم هو الجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما في اصحيح البخاري من حديث عبد الله بن زيد في تعليمه لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض واستنشق ثلاث مرات من غرفة واحدة.
والروايات المطلقة عن لفظ ثلاثا ينبغي أن تحمل على هذه الرواية المقيدة بالثلاث فإن قلت قد لا يتسع الكف للجميع بين المضمضة والاستنشاق منه ثلاث مرات.
قلت إذا لم يتمكن المتوضىء من ذلك أما لضيق كفه أو لعدم حفظها لما فيها فذلك مما يسوغ له أن يكرر الغرفات جامعا بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة.
وقد ورد الفصل بين المضمضة والاستنشاق كما في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق وقد أعلوا هذا الحديث بجهالة مصرف والد طلحة ولكنه قد حسن إسناده ابن الصلاح في كلامه على المهذب وقد وثق ابنه طلحة ابن معين وأبو حاتم وكانوا يسمونه سيد القراء.
قوله: "وتقديمها على الوجه".
أقول: هذا هو الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم ومن حكاية الحاكين لوضوئه في الصحيحين وغيرهما ولكنه قد أخرج أحمد وأبو دأود والضياء في المختارة عن المقدام بن معد يكرب أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثلاثا ثم مسح برأسه وأذنيه. [أحمد "4/132"، أبو دأود "121"] ، الحديث.
وأخرج الدارقطني عن الربيع وفيه: "ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثا ثم يمضمض ويستنشق ثلاثا" الخ الحديث وهو من طريق شيخ الدارقطني إبراهيم بن حمادة عن العباس ابن يزيد عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ والكلام في عبد الله بن محمد بن عقيل معروف وللحديث طرق وألفاظ مدارها عليه وقد أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجة.
وطريقة الجمع بين هذه الأحاديث أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم أخر المضمضة في هذين الحديثين لبيان الجواز فيكون هذا في حكم المخصص لما تقدم في الترتيب بين أعضاء الوضوء.(1/57)
قوله: "والتثليث".
أقول: قد ورد في مشروعية التثليث أحاديث كثيرة وورد في إجزاء الوضوء مرة مرة ما أفاد أن الزيادة على المرة مسنونة غير واجبة ولكن الأحاديث الصحيحة الكثيرة أن المسح بالرأس مرة واحدة ولم يثبت في تثليثه ما يصلح للإحتجاج به فالتثليث سنة إلا في مسح الرأس وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقى وذكرت جميع ما ورد في أفراد مسحه وفي تثليثه وتعقبت كل رواية من روايات التثليث فمن أراد الاستيفاء فليرجع إليه.
قوله: "ومسح الرقبة".
أقول: لم يثبت في ذلك شيء يوصف بالصحة أو الحسن وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أحاديث وهي وإن لم تبلغ درجة الاحتجاج بها فقد أفادت أن لذلك أصلا لا كما قال النووي إن مسح الرقبة بدعة وإن حديثه موضوع وقال ابن القيم في الهدى لم يصح عنه في مسح العنق حديث ألبتة انتهى.
وهذا مسلم ولكن لا تشترط الصحة في كل ما يصلح للحجية فإن الحسن مما يصلح للحجية وكذلك الأحاديث التي كل حديث فيها ضعيف وكثرة طرقها يوجب لها القوة فتكون من قسم الحسن لغيره.
قوله: "وندب السواك".
أقول: جعل السواك مندوبا مع جعل ما قبله سننا من غرائب التصنيف وعجائب التأليف فإن الأحاديث الثابتة في السواك قولا وفعلا أوضح من شمس النهار مع كونها في غاية الكثرة والصحة فكيف كان السواك مندوبا وتلك الأمور المتقدمة من أول الفصل إلي هنا مسنونة وما المقتضى لحط رتبة السواك عن رتبتها وهي دونه بمراحل وأكثرها لم يرد فيه إلا مجرد الفعل فقط وسيأتي للمصنف في كتاب الصلاة أن المسنون ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به وإلا فمستحب والمستحب في اصطلاحه يرادف المندوب فكان عليه أن يحكم للسواك بأنه مسنون فقد لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به ولولا قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" [البخاري "2/887"، مسلم "252"، أبو دأود "46"، الترمذي "22"، النسائي "7"، ابن ماجة "287"] لكانت الأوامر الواردة فيه باقية على حقيقتها وأن يحكم لمثل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة بأنه مندوب فقط.
قوله: "والترتيب بين الفرجين".
أقول: قد قدمنا أن عد الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء من غرائب هذه الديار وأهلها ولم يكتف المصنف رحمه الله بذلك حتى أبان لهما هذه الهيئة الترتيبية وحكم لها بالندب.
ويالله العجب من هذه الأباطيل الموضوعة من المصنفات التي يقصد بها مصنوفها إرشاد العباد إلي ما شرعه الله لهم وتسهيل حفظها عليهم فإن هذا من التقول على هذه الشريعة المطهرة بما لم يكن فيها ومن تكليف الأمة المرحومة بما لم يكلفها الله به ولا يحمل القائل بذلك(1/58)
على تعمد الإتيان بالباطل بل أحسن المحامل له ولأمثاله من المشتغلين بالفروع المصنفين فيها أن يقال إنه لا إلمام لهم بالأدلة الشرعية ولا شغلوا أنفسهم بشيء منها ولهذا نفقت عندهم هذه الأباطيل وراجت على عقولهم هذه الأضاليل ولكن ما لمن كان بهذه المنزلة والتعرض للتصنيف في الأمور الدينية التي لا تؤخذ إلا عن الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة.
قوله: "والولاء".
أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في وضوئه ولا عمن حكى وضوءه من الصحابة أنهم فرقوا بين أعضاء الوضوء وترك الموالاة بينها بل كانوا يغسلون الأول فالأول غير مشتغلين بعمل آخر فيما بين أعضاء الوضوء ولا واقفين بين غسل الأعضاء فالتفريق بدعة مخالفة لما كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهي رد على فاعليها ولا يخلص فاعلها عن كونه مبتدعا ما يتمسك به من فعل صحأبي قد روي عنه ذلك كما أخرجه البيهقي عن ابن عمر أنه توضأ في السوق فغسل يديه ووجهه وذراعيه ثلاثا ثلاثا ثم دخل المسجد فمسح خفيه بعد أن جف وضوؤه وصلى.
قال البيهقي وهذا صحيح عن ابن عمر وقد علقه البخاري في الغسل ولا يخفاك أن فعل الصحأبي لا يقوم به الحجة في أقل حكم من أحكام الشرع فكيف بمثل هذا؟.
وأخرج البيهقي أيضا أن رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فأحسن وضوءك" قال البيهقي رواه مسلم [مسلم "31/243"] .
وهذا ليس فيه ما يدل على جواز التفريق بل ظاهر قوله ارجع فأحسن وضوءك أنه يعيد الوضوء من أوله.
وعلى تسليم أنه أراد بقوله فأحسن وضوءك غسل موضع ذلك المتروك من ظهر القدم فليس تكميل غسل العضو كترك غسله كله بعد غسل ما قبله حتى يمضي وقت فإن التفريق إنما يكون هكذا.
ومثل هذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث ابن مسعود أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يغتسل من الجنابة فيخطيء بعض جسده الماء قال: "ليغسل ذلك المكان ثم ليصل" وفي اسناده عاصم بن عبد العزيز وليس بالقوي كما قال النسائي والدارقطني وقال البخاري فيه نظر.
وقد استدل صاحب فتح الباري على جواز التفريق بأن الله أوجب غسل أعضاء الوضوء فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه ويجاب عنه بأن هذا الغسل الذي أوجبه الله قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم ولم يثبت عنه التفريق من فعله الدائم المستمر طول عمره ولا جاء في قوله ما يدل على ذلك بوجه من وجوه الدلالة.
قوله: "والدعاء"
أقول: لم يثبت في ذلك شيء وما روى فهو أما موضوع أو في إسناده كذاب أو متروك(1/59)
والذي ثبت في الوضوء من الأذكار هو التسمية في أوله وفي آخره "أشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" [مسلم "17/234"، الترمذي 55"، أحمد "4/145" – 146 – 153"، أبو دأود "169"، النسائي "148"، ابن ماجة "470"] ، ولم يثبت غير هذا لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف.
قوله: "وتوليه بنفسه"
أقول: الأمر القرآني لكل قائم إلي الصلاة أن يغسل أعضاء وضوئه يدل على أنه يجب على المتوضىء أن يغسل أعضاء وضوئه بنفسه والبيان الواقع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وضوئه وفي تعليمه لغيره يؤيد ذلك ويقويه فمن زعم أنه يجزىء العبد وضوء وضاه غيره فعليه الدليل ولا دليل يدل على ذلك أصلا.
وإذا ألجأت الضرورة فلها حكمها وذلك كالمريض الذي يعجز عن غسل أعضائه أو بعضها والأشل والأقطع ونحو ذلك.
وأما الصب من الغير على يد المتوضىء فذلك ثابت في السنة في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعة من الصحابة.
قوله: "وتجديده بعد كل مباح"
أقول: الأولى مشروعية فعله لكل صلاة من غير نظر إلي فعل المباح أو عدمه فإنه لم يدل دليل على ربط المشروعيه بأن يفعل بعد وضوئه الأول مباحا وقد كان صلى الله عليه وسلم في غالب حالاته يتوضأ لكل صلاة.
ويدل على هذا ما أخرجه الترمذي من حديث بريدة وقال صحيح حسن قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات كلها بوضوء ومسح على خفيه فقال عمر إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال: "عمدا فعلته" وأخرجه أيضا مسلم وأبو دأود والنسائي بنحوه وقال فيه خمس صلوات بوضوء [الترمذي "61"، مسلم "277"، أبو دأود "172"، النسائي "133"] .
وأخرج البخاري والترمذي والنسائي من حديث عمر وأنس أنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة وأخرج الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر: "من توضأ على طهر كتبت له عشر حسنات" [الترمذي "59"، ابن ماجة "512"] ، وفي إسناده عبد الرحمن الإفريقي وهو ضعيف الحفظ عن أبي غطيف وهو مجهول.
وتأديته صلى الله عليه وسلم للصلوات بوضوء واحد وترغيبه في الوضوء على طهر يدلان على أن الأمر بالوضوء عند القيام إلي الصلاة محمول على الندب أو هو أمر للمحدثين.
وهكذا حديث أبي هريرة عند الدرامي والترمذي وابن ماجة مرفوعا: "لا وضوء إلا من حدث" [الترمذي "74"، ابنماجة 515"] ، وفي بعض ألفاظه "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" قال الترمذي حسن صحيح يحمل على أن معناه لا وضوء واجب جمعا بين الأدلة.(1/60)
ومثله ما أخرجه أحمد وابن ماجة والطبراني وابن نافع عن السائب بن خباب مرفوعا: "لا وضوء إلا من ريح أو سماع" بأحمد "3/426"، ابن ماجة "56"] .
قوله: "وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضائه".
أقول: لا مستند لهذا التشريع العجيب إلا مجرد خيالات مختلة وآراء معتلة فالحكم بالندب لا يجوز إلا بدليل وإلا كان من التقول عن الشارع بما لم يقله.
[فصل:
ونواقضه ما خرج من السبيلين وإن قل أو ندر أو رجع وزوال العقل بأي وجه إلا خفقتى نوم ولو توالتا أو خفقات متفرقات وفيء نجس ودم أو نحوه سال تحقيقا أو تقديرا من موضع واحد في وقت واحد إلي ما يمكن تطهيره ولو مع الريق وقدر بقطرة والتقاء الختانين ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها وكل معصية كبيرة غير الأصرار أو ورد الأثر بنقضها كالكذب والنميمة وغيبة المسلم وإذاه] .
قوله: "فصل: ونواقضه ما خرج من السبيلين".
أقول: أما انتفاضه بالبول والغائط فبالضرورة الدينية وأما ما عداهما فما وقع النص عليه كما في حديث "حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" [البخاري "137"، مسلم "361"، النسائي "160"، ابن ماجة "513"] ، وهو في الصحيح من رواية جماعة من الصحابة فهو ناقض بالنص وما لم يقع النص عليه فهو لاحق بالريح أما بفحوى الخطاب أو بلحن الخطاب ولا يحتاج مع هذا إلي الاستدلال على تعميم نقض الخارج بما لم يثبت ففي هذا كفاية وهو يشمل ما قل أو ندر أو رجع.
قوله: "وزوال العقل بأي وجه".
أقول: وجه النقض أن من زوال عقله بنوم أو جنون أو إغماء لم يكن على يقين من بقاء طهارته التي تعتبر في صحة الصلاة ولا سيما وتلك الحالة مظنة لاسترخاء الأعضاء وعدم القدرة على دفع ما ينتقض به الوضوء وقد ثبت في النوم حديث "العين وكاء السه" [أبو دأود "203"، ابن ماجة "477"، أحمد "1/111"] ، من رواية علي ومعأوية مرفوعا وقد حسنه جماعة من الحفاظ.
فجعل النوم مظنة للنقض لأنه إذا نامت العين استطلق الوكاء كما في بعض الروايات ثم رتب صلى الله عليه وسلم على هذه المظنة الجزم على من نام بأن يتوضأ فقال: "فمن نام فليتوضأ" كما في بعض الروايات الخارجة من مخرج معمول به.
ولكنها وردت أحاديث قاضية بأنه لا ينتقض الوضوء بالنوم إلا إذا نام مضطجعا وهي تقوى(1/61)
بعضها بعضا كما أوضحت ذلك في شرحي المنتقى فتكون مفيدة لما ورد في نقض مطلق النوم فلا ينقض إلا نوم المضطجع.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجنون والإغماء أولى بوجود هذه المظنة فيهما فأقل أحوالهما أن يكونا مثل النوم فلا يحتاج إلي إيراد دليل عليهما بخصوصهما.
ومعلوم أنه إذا استطلق الوكاء بالنوم أستطلق بما هو مثله في زوال العقل وذهاب الإحساس فكيف بما هو فوقه.
وبهذا تعرف أنه لا ينقض نوم القاعدة ونحوه ممن لم يكن مضطجعا لا بخفقتين ولا بخفقات متواليات أو متفرقات.
وعلى هذا يحمل ما ورد أن جماعة من الصحابة كانوا ينامون فيوقظون للصلاة فيصلون ولا يتوضئون.
وأما ما ورد في بعض الروايات أنهم كانوا يضعون جنوبهم فهو لا يصلح للتمسك به في معارضة إيجاب الوضوء على نوم من نام مضطجعا ثم الاضطجاع لا يستلزم النوم فقد يضطجع منتظرا للصلاة للاستراحة فيظن من رآه كذلك أنه نائم.
على ان هذا اللفظ أعنى قوله كانوا يضعون جنوبهم لم يثبت من وجه يصلح للاحتجاج به.
قوله: "وقيء نجس"
أقول: قد صح أنه صلى الله عليه وسلم "قاء فتوضأ" [أحمد "6/443"، أبو دأود "2381"، الترمذي "87"] ، كما أخرج ذلك أحمد وأهل السنن وهو حديث حسن ويؤيده حديث: "من أصابه قيء أو رعاف أو قلس فلينصرف فليتوضأ" وإعلاله بإسماعيل بن عياش لا يوجب ترك العمل به فإسماعيل إمام قد وثقه جماعة وضعفه آخرون بما لا يوجب سقوط حديثه وترك العمل به ولحديثه هذا شواهد تقوية.
قوله: "ودم أو نحوه" الخ.
أقول: قد عرفناك فيما سلف أن الأصل في الأشياء الطهارة فمن ادعى نجاسة شيء من الأشياء فعليه الدليل فإن جاء بما يصلح للنقل عن هذا الأصل المصحوب بالبراءة الأصلية فذاك وإلا فلا قبول لقوله.
وهكذا من ادعى أنه ينقض الطهارة الصحيحة ناقض فعليه الدليل فإن نهض به فذاك وإلا فقوله رد عليه.
وعرفناك أن الحدث مانع من الصلاة فإذا ارتفع بالوضوء كان مرتفعا حتى يعود ذلك المانع بما يوجب بطلان تلك الطهارة التي ارتفع بها ذلك المانع ولم يأت من قال بأن خروج الدم ناقض بشيء يصلح للتمسك به فإن حديث سلمان أنه رعف فقال له صلى الله عليه وسلم: "أحدث لك وضوءا" وإن أخرجه الطبراني في الكبير ففي إسناده كذاب وضاع وحديث تميم الداري بلفظ:(1/62)
"الوضوء من كل دم سائل" وإن عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلي الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وحديث أبي هريرة: "ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا" وإن أخرجه الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وأما حديث إسماعيل بن عياش فقد قدمنا في البحث الذي قيل هذا الكلام فيه وذكرنا أنه يؤيد ما ذكرناه من أنه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلا يصلح للاحتجاج به منفردا فكيف إذا عورض بمثل أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل محاجمه أخرجه الدارقطني وفي إسناده صالح بن مقاتل ووالده وسليمان بن دأود وصالح ووالده ضعيفان وسليمان بن دأود مجهول ولكنه رواه المنذري في تخريج المهذب من هذه الطريق وقال إسناده حسن وقال ابن العربي في خلافياته إن الدارقطني رواه بإسناد صحيح هكذا حكى ذلك في البدر المنير وبما أخرجه البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرمى رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته وأخرجه أحمد وأبو دأود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
وقد ثبت في روايات صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب فقال: "من يحرسنا الليلة؟ " فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فباتا بفم الشعب فاقتسما الليلة للحراسة وقام الأنصاري يصلي فجاء رجل من العدو فرمى الأنصاري بسهم فأصابه فنزعه واستمر في صلاته ثم رماه بثان فصنع كذلك ثم رماه بثالث فنزعه وركع وسجد وقضى صلاته ثم أيقظ رفيقه فلما رأى ما به من الدماء قال له لم لا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك ولم ينكر عليه الاستمرار في الصلاة بعد خروج الدم ولو كان الدم ناقضا لبين له ولمن معه في تلك الغزوة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وقد كان الصحابة رضى الله عنهم يخوضون المعارك حتى تتلوث أبدانهم وثيابهم بالدم ولم ينقل أنهم كانوا يتوضئون لذلك ولا سمع عنهم أنه ينقض الوضوء.
قوله: "والتقاء الختانين"
أقول: قد ثبت أن هذا من موجبات الغسل بالأدلة الصحيحة كما سيأتي ومعلوم أن موجبات الطهارة الكبرى موجبات للطهارة الصغرى فذكر هذا هنا غفلة شديدة.
قوله: "ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها".
أقول: ليس على هذا أثارة من علم ولا عقل فلا حاجة إلي التطويل في رده وبيان بطلانه.
قوله: "وكل معصية كبيرة غير الإصرار".
أقول: لم يتمسك القائلون بهذا سوى حديث أبي هريرة عند أبي دأود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مسبلا إزاره في الصلاة فأمره بإعادة الوضوء والصلاة وفي إسناده مجهول قيل هو يحيى بن أبي كثير المدني وقيل هو كثير بن جهمان السلمي وقيل غيرهما فلا تقوم به حجة ولا يصح الاستدلال به على نقض وضوء المسبل إزاره فكيف يستدل به على هذه القضية الكلية التي تعم بها البلوى.(1/63)
فيالله العجب من التسرع إلي إثبات أحكام الله سبحانه بمجرد الخيالات المختلة والشبه المعتلة.
وأما الاستدلال بأن الكبائر محبطة فلا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه ولو سلم لكانت محبطة لكل عمل فعل قبلها من أعمال الخير كائنا ما كان فلا ينعقد لفاعل الكبيرة عمل ولا تثبت له طاعة وهذا باطل بالإجماع وليس مراد القائلين بالإحباط إلا إحباط ثواب الطاعات المترتب على فعلها لا شك في هذا.
قوله: "أو ورد الأثر بنقضها كتعمد الكذب والنميمة".
أقول: لم يرد شيء قط في ذلك لا من وجه صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف فإثبات مثل هذا الحكم الذي تعم به البلوى بلا شيء من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا وجه من وجوه الاستدلال ليس من دأب المتورعين فضلا عن العلماء العاملين.
ومع هذا فإقرار هاتين المعصيتين بالذكر بعد ذكر كل معصية كبيرة ليس على ما ينبغي فإنهما من الكبائر كما دلت على ذلك الأدلة وانطباق حد الكبائر عليهما على اختلاف الاصطلاحات ومثلهما غيبة المسلم.
وأما القهقهة في الصلاة فأشف ما استدلوا به قصة الأعمى التي أخرجها الطبراني في الكبير عن أبي موسى قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذا دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيدوا الوضوء والصلاة وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أبو جعفر الواسطي الدقيقي قد اختلف فيه حتى قال أبو دأود إنه لم يكن بمحكم العقل ورواه البيهقي عن أبي العالية مرسلا وقال أما هذا فحديث مرسل ومراسيل أبي العالية ليست بشيء كان لا يبالي عمن أخذ حديثه ورواه البيهقي أيضا من طرق ثم قال وهذه الروايات كلها راجعة إلي أبي العالية الرياحي قال الشافعي حديث أبي العالية الرياحي رياح وقال ابن عدي وأكثر ما نقم على أبي العالية هذا الحديث وكل ما رواه غيره فإن مدارهم ورجوعهم إلي أبي العالية والحديث له وبه يعرف ومن أجل هذا الحديث تكلموا في أبي العالية وسائر أحاديثه مستقيمة صالحة انتهى.
وقد جزم جماعة من الحفاظ أنه لم يصح في كون الضحك ينقض الوضوء شيء فليس ها هنا ما يصلح لإثبات أقل حكم من أحكام الشرع.
وقد أخرج البيهقي في سننه من طريق الدارقطني عن أبي موسى أنه كان يصلي بالناس فرأوا شيئا فضحك بعض من كان معه فقال أبو موسى من كان ضحك منكم فليعد الصلاة.
قال البيهقي وكذلك رواه أبو نعيم عن سليمان بن المغيرة وليس في شيء منه أنه أمر بالوضوء.
ثم أخرج عن أبي الزناد قال كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إليهم منهم(1/64)
سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة جلة سواهم يقولون فيمن رعف غسل عنه الدم ولم يتوضأ وفيمن ضحك في الصلاة أعاد صلاته ولم يعد منه وضوءه انتهى.
وهؤلاء الذين ذكرهم هم الفقهاء السبعة المشهورون.
ثم قال وروينا نحو قولهم في الضحك عن الشعبي وعطاء والزهري.
قوله: "قيل ولبس الذكر الحرير".
أقول: هذا قول لم يدل عليه دليل ولا مستند له إلا مجرد القال والقيل والعجب من قائله كيف استحل الجزم به وهكذا مطل الغنى والوديع ثم جعل النصاب لذلك أن يكون فيما يفسق غاصبه فإن كان هذا التقدير لأجل يكون فاعله فاعلا لكبيره فلا وجه لذكره مستقلا فإنه قد دخل في قوله: "وكل معصية كبيرة" فإن كان لأجل كون الفسق من نواقض الوضوء فهو لا يكون إلا بسبب التفسيق وهو فعل الكبيرة عند البعض أو المخالفة لما هو معلوم من ضرورة الدين عند آخرين مع أنه قد وقع الإجماع على أن صلاة الفاسق ووضوءه وسائر عباداته ومعاملاته صحيحة والحكم بانتقاض وضوئه بفسقه مخالف للإجماع ومن قواعد المصنف وأمثاله أنه يفسق من خالف الإجماع.
وإن كان المراد تكثير المسائل على أي صفة رقع وكيفما اتفق فهذا لا يعجز عنه أحد وليس هذا بعلم بل محض إثم.
والحاصل أن هذه المسائل ظلمات بعضها فوق بعض ومسكين مسكين المقلد مإذا جرى عليه من هذه الآراء التي تشعبت طرائقها وخفيت دقائقها وحقائقها اللهم غفرا.
[فصل:
"ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين فمن لم يتيقن غسل قطعي أعاد في الوقت مطلقا وبعده إن ظن تركه وكذا إن ظن فعله أو شك إلا للأيام الماضية.
فأما الظني ففي الوقت إن ظن تركه ولمستقبله ليس فيها إن شك"] .
قوله: "فصل: ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين".
أقول: إذا كان أحد الأمرين متيقنا فكونه لا ينتقل عنه إلا بيقين لا يتم على ما هو الحق من التعبد بأخبار الآحاد المفيدة للظن فإذا كان الرجل مثلا متيقنا أنه قد توضأ فاستصحاب هذا اليقين والعمل عليه هو مجرد دليل ظني لا يقيني فإذا أخبره عدل بأنه شاهده يبول بعد ذلك الوقت الذي تيقن إيقاع الوضوء فيه فهذا الخبر من العدل صالح للانتقال عن ذلك الاستصحاب والعمل(1/65)
به واجب وهو في الحقيقة انتقال من ظني وهو الاستصحاب بما تيقن وقوعه إلي ظني وهو خبر العدل.
ولم يقع خبر هذا العدل معارضا لنفس ذلك اليقين لإيقاع الوضوء فإنه لم يقل العدل للمتوضىء المتيقن لإيقاع الوضوء أنت لم تتوضأ بل قال قد فعلت بعد الوضوء الذي تيقنته ما يبطله.
وبهذا يظهر لك أن اشتراط اليقين في رفع ما تيقنه أولا ليس على ما ينبغي والاتفاق كائن بالتعبد بالظن في العبادات والمعاملات إلا ما خصه دليل وقد استدلوا على إثبات هذه القاعدة بمثل حديث: "إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره فأشكل عليه أحدث أم لم يحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" [البخاري "137"، مسلم "361"] ، وليس في هذا ما يدل على هذه الكلية وغايته أن المصلي عند الشك لا يعمل بما لا يفيد ظنا ولا علما كالحركة التي يحسها في دبره.
فالحاصل أن من يتقن الحدث وجب عليه استصحاب ذلك حتى يحصل ما يوجب الانتقال عنه وهو العلم بأنه قد رفعه أو الظن بأنه قد رفعه وذلك بخبر من يجب قبول خبره ونحوه ومن حصل له تيقن إيقاع الوضوء وجب عليه استصحاب ذلك حتى يتيقن أنه قد احدث أو يظن ذلك بخبر عدل أو نحوه.
وإن شكل عليك هذا الذي قررناه فافرض المسألة في رجل يكثر شكه ويضطرب حاله ويتسارع إليه النسيان فيما يفعله فإنك عند ذلك تستوضح ما استشكلته وتستقرب ما استبعدته.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن هذه التفريعات الواقعة في هذا الفصل لم تستند إلا إلي مجرد الرأي المحض الذي لا يحل العمل به في شيء من أمور الدين وإنما رخص فيه للمجتهد عند عدم الدليل من الكتاب والسنة وذلك رخصة خاصة به لا يجوز لغيره أن يعمل بذلك الرأي الذي حصل له فلا نطول برد ما أورده من هذه التفاصيل المبنية على شفا جرف هار.(1/66)
[باب الغسل
فصل:
يوجبه الحيض والنفاس والإمناء لشهوة تيقنهما أو المنى وظن الشهوة لا العكس وتوارى الحشفة في أي فرج] .
قوله: "فصل يوجبه الحيض".(1/66)
أقول: هذا صواب وقد أخطأ من قال يوجبه الطهر فإن السبب الذي لأجله وجب الغسل هو الحيض لا الطهر ومعلوم أن الطهر لا يكون سببا للتطهر ولا يكون للاغتسال من السبب إلا بعد الفراغ منه وكذلك الوضوء سببه الحدث الموجب له ولا يكون إلا بعد وقوعه وهذا ظاهر لا يخفى.
فما وقع في ضوء النهار من التصويب والاستدلال له ليس على الصواب وهكذا تقرير الأمير في حاشيته على ضوء النهار للتصويب والجزم بأنه الحق ليس كما ينبغي فالسبب الذي أوجب الغسل هو الحيض ولكنه لا يمكن التطهر منه إلا بعد انقضائه كسائر الأسباب.
والحاصل أن الحيض إذا حدث فقد وجد المانع ولا يرتفع إلا بالغسل وهكذا النفاس والوطء فالمانع قد وجد بوجود هذه الاسباب كما أن البول والغائط ونحوهما قد وجد بوجودها المانع من الصلاة ولا يرتفع هذا المانع إلا بالضوء.
وسيأتي الكلام على الحيض والنفاس في باب الحيض إن شاء الله تعالي.
قوله: "والإمناء لشهوة إن تيقنهما أو المنى وظن الشهوة لا العكس".
أقول: لا خلاف في وجوب الغسل بالاحتلام وما يروى عن النخعي من المخالفة في ذلك فما أظنها تصح عنه الرواية ولو صحت لكان قوله مخالفا لإجماع من قبله من المسلمين ومن بعده ولكن الاعتبار هو بوجود الماء أعنى المنى فإذا استيقظ المحتلم ووجد منيا في بدنه أو ثوبه فقد وجب عليه الغسل سواء ذكر أنه حصل ذلك لشهوة أم لا وأما إذا ذكر أنه احتلم لشهوة ولم يجد أثرا للمنى فلا اعتبار بذلك ووجهه ما أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجة من حديث عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما فقال: "يغتسل" وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل فقال: "لا غسل عليه" [أحد "6/256"، أبو دأود "236"، الترمذي "113"، ابن ماجة 612] ، وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال خفيف وحديثه يصلح للاحتجاج به.
ويؤيده ما أخرج أحمد والنسائي من حديث خولة بنت حكيم بنحوه وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم سلمة أن أم سليم قالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت قال: "نعم إذا رأت الماء" [البخاري "282"، مسلم "313"] ، فأدار صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل على رؤية الماء.
قوله: "وتواري الحسفة في أي فرج".
أقول: للحديث الصحيح "إذا قعد بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" [البخاري "291"، النسائي "191"، ابن ماجة "610"] ، وهو ثابت من طريق جماعة من الصحابة في الصحيحين وغرهما وإليه ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم ولا يعارضه ما ورد من الأحاديث المصرحة بأن "الماء من الماء" [مسلم "81/343"، أبو دأود "217"] ، فإن هذا أعني أنه لا يوجب الغسل إلا الإنزال للماء كان رخصه في أول الإسلام ثم نسخ بما ورد في إيجاب الغسل(1/67)
بالتقاء الختانين كما صرح بذلك أبي بن كعب أخرجه أبو دأود ورجاله ثقات وكما في صحيح مسلم عن عائشة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل". [مسلم "88/349"، أحمد "6/47"، الترمذي "108 – 109"] .
وأيضا لو قدرنا عدم النسخ لكان الجمع بين هذه الأحاديث ممكن بأن نقال حديث: "الماء من الماء" دل بمفهومه على عدم إيجاب الغسل على من جامع ولم ينزل وحديث التقاء الختانين دل بمنطوقه على وجوبه ودلالة المنطوق أرجح من دلالة المفهوم.
[فصل:
ويحرم بذلك القراءة باللسان والكتابة ولو بعض آية ولمس ما فيه ذلك غير مستهلك إلا بغير متصل به ودخول المسجد فإن كان فيه فعل الأقل من الخروج أو التيمم ثم يخرج ويمنع الصغيران ذلك حتى يغتسلا ومتى بلغا أعاد ككافر أسلم".
قوله: فصل: "ويحرم بذلك القراءة باللسان".
أقول: حديث علي عند أحمد وأهل السنن وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم "لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة" [أحمد "1/83، 84، 107، 124، 134"، أبو دأود "229" الترمذي "146"، النسائي "265 – 266"، ابن ماجة "594"] ، قد صححه جماعة من الحفاظ ولم يأت من تكلم عليه بشيء يصلح لأدنى قدح ومن جملة من صححه الترمذي وابن حبان والحاكم وابن السكن والبغوي وعبد الحق.
وفي لفظ منه للنسائي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه من القرآن شيء ليس الجنابة. [النسائي "265"] .
وفي بعض ألفاظ الحديث "كان يقرأ القرآن في كل حال إلا الجنابة".
ولهذا الحديث شواهد تقوية وتشد من عضده وإن كان صالحا للاحتجاج به بدونها ولكن غاية ما يفيده الحديث كراهة القراءة للقرآن من الجنب ولا يفيد التحريم.
نعم أخرج الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر مرفوعا: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن" [الترمذي "131"، ابن ماجة "595"] ، يدل على التحريم وتضعيفه بإسماعيل بن عياش مندفع لو روده من طريق غيره وهو أيضا لم يقدح فيه بما يوجب عدم صلاحية حديثه للاحتجاج به قال المنذري في تخريجه لأحاديث المهذب هذا الحديث حسن وإسماعيل تكلم فيه وأثنى عليه جماعة من الأئمة انتهى.
ويؤيده ما أخرجه أبو يعلى من حديث علي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا(1/68)
من القرآن ثم قال: "هكذا من ليس بجنب فأما الجنب فلا ولا آية" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون انتهى.
وأما ما روى بلفظ: "لا ولا حرفا" فلم يصح رفع ذلك.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لم يرد ما يدل على المنع من الكتابة ولا ما يدل على المنع من مس المصحف إلا ما أخرجه الطبراني في الكبير والصغير من حديث عبد الله بن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون وذكر له شاهدين من حديث حكيم بن حزام وحديث عثمان بن أبي العاص.
قلت حديث حكيم بن حزام أخرجه الدارقطني والطبراني والحاكم والبيهقي مرفوعا بلفظ: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر" وفي إسناده سويد بن إبراهيم العطار وأبو حاتم وهو ضعيف كما قاله بعض الحفاظ وقال ابن معين لا بأس به وقد صحح الحاكم إسناد هذا الحديث وحسنه الحازمي ووثق رواته الدارقطني.
وأخرج مالك في الموطأ والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن حزم بلفظ: "لا يمس القرآن إلا طاهر"
وأخرج الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص بلفظ كان فيما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمس المصحف وأنت غير طاهر".
قوله: "ودخول المسجد".
أقول: حديث عائشة أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجوه أصحابه وبيوتهم شارعة إلي المسجد: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد" [أبو دأود "332"] ، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل فيهم رخصة فخرج إليهم فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" وهو حديث صحيح ولا وجه لتضعيف ابن حزم له بأفلت بن خليفة الكوفى فهو معروف مشهور صدوق كما صرح بذلك أئمة الحديث وليس بمجهول كما قال وأيضا قد أخرج هذا الحديث من غير طريقه ابن ماجة والطبراني عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: "إن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض" [ابن ماجة "645"] .
وروى هذا الحديث من طرق وله شواهد فالحجة قائمة بذلك وهو يقتضى تحريم المسجد على الجنب والحائض ولا ينافيه جواز المرور فيه لعابر السبيل وهو المجتاز فيه للحاجة كما فسر الآية جماعة من الصحابة منهم أنس وابن مسعود وجابر وابن عباس وقد قيل إنه المسافر.
وعلى كل حال فهذه رخصة لا تنافى مطلق التحريم وأما الحكم بمنع الصغار من دخول المسجد فلا وجه له لأن رفع قلم التكليف عنهم يقتضي أنها لا تنعقد لهم جنابة ولا يجب عليهم غسل فدخولهم المسجد لا يتنأوله دليل المنع ولا هو محظور في نفسه حتى يجب على المكلفين أن يمنعوهم منه وهذا ظاهر واضح لا يخفى.(1/69)
وأما ما قيل من التعويد والتمرين لهم كما في أمرهم بالصلاة قبل بلوغهم فذلك باب آخر ومن غرائب الأقوال إيجاب الغسل عليهم إذا بلغوا فإن هذا الإيجاب لم يكن له سبب يقتضيه لما قدمنا من أنها لا تنعقد لهم جنابة ولا يتصفون بوصف الاجتناب ما داموا قبل البلوغ والاتفاق كائن على انها لا تتنأولهم الخطابات المشتملة على الأحكام التعبدية فكيف يجب عليهم عند التكليف الغسل لغير سبب شرعي وأما إلزامهم بخطابات الوضع كالجنابات ونحوها فليس ذلك من هذا القبيل فإن ما نحن بصدده لا يقول قائل بأنه من أحكام الوضع ثم يقال لهم إن كان الغسل الأول صحيحا فما وجه إيجاب الغسل عند البلوغ وإن كان غير صحيح فكيف يؤمرون بما لا يصح.
وبالجملة فالتسأهل في إثبات الأحكام الشرعية يأتي بمثل هذه الخرافات ثم قياسهم على كافر أسلم غفلة عظيمة فإن الكافر مخاطب بالشرعيات فأين خطاب الصغار بها ثم لا وجه لإيجاب الغسل على الكافر لأجل اجتنابه حال الكفر فإن الإسلام يجب ما قبله وقد أوجب الشرع عليه الغسل بمجرد الإسلام وذلك تكليف وجب بالإسلام لا بالاجتناب حال الكفر.
[فصل:
"وعلى الرجل الممنى أن يبول قبل الغسل فإن تعذر اغتسل آخر الوقت فقط ومتى بال أعاده لا الصلاة".
"وفروضه مقارنة أوله بنيته لرفع الحدث الأكبر أو فعل ما يترتب عليه فإن تعدد موجبه كفت نية واحدة مطلقا عكس النفلين والفرض والنفل وتصح مشروطة والمضمضة والاستنشاق وعم البدن بإجراء الماء والدلك فإن تعذر فالصب ثم المسح وعلى الرجل نقض الشعر وعلى المرأة في الدمين".
"وندبت هيئته وفعله للجمعة بين فجرها وعصرها وإن لم تقم وللعيدين ولو قبل الفجر ويصلي وإلا أعاده قبلها ويوم عرفة وليالي القدر ولدخول الحرم ومكة والكعبة والمدينة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعد الحجامة والحمام وغسل الميت والإسلام"] .
قوله: "وعلى الرجل الممنى أن يبول قبل الغسل".
أقول: هذا تشريع بغير شرع وإيجاب لما لم يوجبه الله ولا رسوله ولا دل عليه دليل صحيح ولا حسن ولا ضعيف والذي رواه بلفظ: "إذا جامع الرجل فلا يغتسل حتى يبول" لم يكن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من قول أصحابه بل هو كلام مكذوب وباطل موضوع وقياسهم لهذا على بقاء شيء في الرحم من الحيضة إلحاق باطل بباطل وقياس ما لا أصل له على ما لا أصل له.(1/70)
مع اختلاف السبب فإن إيجاب الغسل في الحيض سببه نفس الحيض مع انقطاعه وظهور الطهر وسبب الغسل من الجماع إنزال المنى ثم دعوى بقاء شيء في الرحم من الحيض بعد ظهور الطهر دعوى باطلة ثم لو سلمنا ذلك لكان الباقي بعد ظهور الطهر عفوا كما أن الباقي في الذكر من المنى بعد الإنزال والدفق عفو.
وبالجملة فما هذه بأول غفلة وقعت من المتمسكين بمحض الرأي التاركين للتمسك بأدلة الشرع بل ما هي بأول جرأة اجترؤوا عليها وكلفوا عباد الله بها والدين يسر والشريعة سمحة سهلة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور في الليلة الواحدة على جميع نسائه وهن تسع ويغتسل بعد إتيانه لكل واحدة منهن كما أخرج ذلك عنه الحفاظ الموثوق بهم وبما يروونه ومعلوم أنه لا يتيسر البول بعد كل غسل حتى يبول تسع مرات في الليلة الواحدة وقد ترتب على هذا التشريع البديع ما هو من غرائب التفريع فقال: "فإن تعذر اغتسل آخر الوقت وصلى فقط ومتى بال أعاده لا الصلاة" فيا لله العجب من جري قلم التصنيف بمثل هذه الأمور التي يعرف سقوطها وعدم وجود الدليل عليها اصغر الطلبة لعلم الشرع.
قوله: "وفروضه مقارنة أوله بنيته لرفع الحدث الأكبر".
أقول: أما جعل النية من الفروض فخلاف ما هو الظاهر من دليلها فإنه يدل على أنها شرط كما قدمنا ذلك في نية الوضوء وأما جعل النية لرفع الحدث الأكبر فذلك صواب وقد قدمنا في الوضوء ما يوضح هذا ويقرره.
ولا يعتبر غير نية رفع الحدث فإذا ارتفع فعلى ما شاء ومن العبادات التي يكون الحدث مانعا عنها لأنه قد ارتفع المانع ولا فرق بين فريضة ونافلة لكن إذا كان هذا المانع مرتفعا وأراد أن يفعل الغسل لا لرفع المانع بل لقربة من القرب كغسل الجمعة ونحوه فها هنا لا حدث أكبر تتوجه النية إلي رفعه بل ذلك الغسل لمجرد فعل تلك القربة فلا بد أن ينويها بالغسل وإلا لم يكتب له ثوابها لحديث "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى".
قوله: "والمضمضة والاستنشاق"
أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا متفقا عليه وهو بيان لما أجمله الله سبحانه في كتابه وقد ورد الوعيد على ترك شيء من البدن وورد الأمر ببل كل الشعر وإنقاء البشر وهما حديثان حسنان ولهما شواهد قوية ومجموع ذلك ينتهض للوجوب ومحل المضمضة والاستنشاق وإن لم يكن من ظاهر البدن ففعل النبي صلى الله عليه وسلم لهما في الوضوء والغسل يدل على أن لهما حكم ظاهر البدن.
قوله: "وعم البدن بإجراء الماء والدلك".
أقول: أما تعميم البدن فلا يتم مفهوم الغسل إلا به وأما الدلك فإن ثبت لغة أو شرعا انه داخل في مفهوم الغسل بحيث لا يسمى غسلا إلا به كان ذلك واجبا وفاء بما أوجبه الله من الغسل وقد ذكر نشوان في كتابه شمس العلوم ما يفيد ذلك وهو من أئمة اللغة ويؤيده(1/71)
حديث وأنقوا البشر فإنه فسر صاحب المصباح الإنقاء بالتنظيف ومعلوم أن التنظيف لا يكون إلا بالدلك وأخرج مسلم من حديث عائشة بلفظ أن اسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال: "تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء" [مسلم "4/16"] ، فهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم وفيه الأمر بالدلك للرأس وهو جزء من أجزاء البدن وإن كان يستحق مزيد العناية في غسله لما فيه من الشعر.
قوله: "وعلى الرجل نقض الشعر".
أقول: ليس في هذا دليل صحيح يدل على وجوب ذلك وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا كما أخرجه أبو يعلى من حديث أنس ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج أحمد والبزار عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب بيده على رأسه ثلاثا فقال رجل شعري كثير قال كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأطيب. [أحمد "2/251"] ، ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد نحوه وأخرج البخاري في صحيحه من حديث جبير ابن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا" [أحمد "2/132 – 133"، البخاري "254"، ابن ماجة "276"] ، وأشار بيديه كليتهما.
وأخرج البخاري أيضا عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيض على رأسه ثلاثا" [البخاري "255"] ، وقد ورد أنه كان يفيض الماء على رأسه بعد أن يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر كما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة والأحاديث بنحو هذا كثيرة ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب ذلك على النساء كما في الصحيح من حديث أم سلمة أنها قالت يا رسول الله إني امرأة شديدة عقص الرأس أفأحله إذا اغتسلت؟ قال: "إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات" [مسلم "58/330"، أحمد "6/315"، أبو دأود "251"، الترمذي 105، ابن ماجة "603"، النسائي "1/131"] ، والنساء شقائق الرجال فهذا التعليم لأم سلمة يدل على أن حكم الرجال في ذلك حكم النساء ولم ينتهض دليل صحيح يدل على التفرقة بين الرجال والنساء.
وأما ما أخرجه أبو دأود عن ثويان أنه حدثهم أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: "أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله" [أبو دأود "255"] ، ففي إسناده محمد بن إسماعيل بن أبي عياش وفيه مقال وقيل إنه لم يسمع من أبيه وفي أبيه المقال المشهور ومع ذلك فلا يدل النشر على النقض لما كان مضفورا بل
غايته نشر الضفائر أو نشر ما لم يكن مضفورا ولا ملبدا وقد كان الضفر والتلبيد قليلين في الصحابة وكما أنه لا دليل صحيح يدل على وجوب نقض شعر الرجل والمرأة في الجنابة لا دليل صحيح أيضا يدل على أنه يجب على المرأة نقضه في غسل الدمين وغاية ما يجب عليها ما تقدم من حديث عائشة من قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء: "ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء".(1/72)
وأما ما أخرجه الدارقطني في الأفراد والخطيب في التلخيص والطبراني في الكبير البيهقي من حديث أنس مرفوعا: "إذا اغتسلت المرأة من حيضها فقضت شعرها نقضا وغسلته بخطمي وأشنان وإن غسلت من الجنابة صبت الماء على رأسها صبا وعصرته" ففي إسناده مسلم بن صبح اليحمدي وهو مجهول وهو غير أبي الضحى مسلم بن صبح المعروف فإنه أخرج له الجماعة كلهم وأيضا اقترانه بالغسل بخطمي وأشنان يدل على عدم الوجوب فإنه لم يقل أحد بوجوب الخطمي والأشنان.
ثم قد وقع في رواية مسلم من حديث أم سلمة أأنقضه للحيض والجنابة؟ فقال: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين".
والحاصل أنه لا يجب على الرجل ولا على المرأة نقص الشعر لا في الجنابة ولا في الحيض والنفاس فإيجابه في الجنابة على الرجل دون المرأة ثم إيجابه على المرأة في غسل الحيض والنفاس لم يستند كل ذلك إلي ما يعول عليه كما عرفت.
وأشف ما استدلوا به على وجوب نقض المرأة لرأسها في الحيض هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج" [وَأَرْجُلَكُمْ بخاري "317"، مسلم "115/1211"، ابن ماجة "614"] ، واختصاص هذا بالحج لا يقتضي بثبوته غيره لا سيما وللحج مدخلية في مزيد التنظيف ثم اقترانه بالامتشاط الذي لم يوجبه أحد يدل على عدم وجوبه ثم لا يقوم على معارضة ما تقدم.
ومما يدل على اختصاص هذا بالحج ما أخرجه مسلم عن عائشة أنه بلغها أن عبد الله ابن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن فقالت يا عجبا لابن عمرو بهذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن أفلا أمرهن أن يحلقن رءوسهن لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
وقد جمع بعضهم بين الأحاديث بأن النقض مندوب فقط وجمع بعضهم بأن النقض يتعين إذا لم يصل الماء إلي أصول الشعر إلا بالنقض.
قوله: "وندب هيأته".
أقول: الواجب غسل البدن من قمة الرأس إلي قرار القدم فإذا قد فعل من وجب عليه الغسل ذلك فقد أتى بما عليه لأن ما فعله يصدق عليه مسمى الغسل لغة وشرعا سواء قدم غسل أسفل البدن على أعلاه أو العكس وسواء قدم الميامن على المياسر أو العكس.
ولكنه ينبغي للمغتسل أن يكون اغتساله على الصفة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الهيئة المروية عنه في الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما المتضمنة تقديم أعضاء الوضوء ثم إفاضة الماء على الرأس ثم على الميامن ثم على المياسر وذلك سنة ثابتة غير واجبة.
قوله: "وللجمعة بين فجرها وعصرها وإن لم تقم".(1/73)
أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قاضية بالوجوب كحديث "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" [البخاري "2/858"، مسلم "5/846"، أبو دأود "341"، النسائي "3/93"، ابن ماجة "1089"] ، وحديث "إذا جاء أحدكم إلي الجمعة فليغتسل" [البخاري "877"، مسلم "844"، الترمذي "492"، النسائي"] ، ونحوهما كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام" [البخاري "898"، مسلم "849"] .
ولكنه ورد ما يدل على عدم الوجوب وهو ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن ماجه وابن خزيمة من حديث الحسن البصري عن سمرة مرفوعا: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" [أحمد "5/8، 11، 16، 22"، أبو دأود "354"، النسائي "1380"، الترمذي "497"] ، فإن دلالة الحديث على عدم الوجوب ظاهرة واضحة وقد أعل بما وقع من الخلاف في سماع الحسن من سمرة ولكنه قد حسنه الترمذي.
ويقوي هذا الحديث أنه قد روي من حديث أبي هريرة وأنس وأبي سعيد وابن عباس وجابر كما حكى ذلك الدارقطني قال الترمذي وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأخرجه البيهقي من حديث ابن عباس وأنس وأبي سعيد وجابر.
ويقويه أيضا ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم أتى في الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلي الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" [مسلم "27/857"، ابن ماجة "1090"، أبو دأود "1050"، الترمذي "498"، أحمد "2/424"] ، فإن اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الوضوء في هذا الحديث يدل على عدم وجوب الغسل فوجب تأويل حديث "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" بحمله على أن المراد بالوجوب تأكيد المشروعية جمعا بين الأحاديث وإن كان لفظ واجب لا يصرف عن معناه إلا إذا ورد ما يدل على صرفه كما فيما نحن بصدده لكن الجمع مقدم على الترجيح ولو كان بوجه بعيد.
قال الترمذي في جامعه بعد أن أخرج حديث سمرة المذكور والعمل على هذا عند أهل العلم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم اختاروا الغسل يوم الجمعة ورأوا أنه يجزىء الوضوء عن الغسل انتهى.
واعلم أن حديث: "إذا جاء أحدكم إلي الجمعة فليغتسل" يدل على أن الغسل لصلاة الجمعة وأن من فعله لغيرها لم يظفر بالمشروعية سواء فعله في أول اليوم أو في وسطه أو في آخره ويؤيد هذا ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما مرفوعا "من أتى إلي الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل" زاد ابن خزيمة "ومن لم يأتها فليس عليه غسل"
قوله: "وللعيدين ولو قبل الفجر ويصلي به وإلا أعاده قبلها".
أقول: ليس في ذلك إلا حديث الفاكه بن سعد عند أحمد وابن ماجه والبزار "أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر" [أحمد "4/78"، ابن ماجة "1316"] ، وأخرج نحوه ابن(1/74)
ماجه من حديث ابن عباس وأخرج نحوه أيضا البزار من حديث أبي رافع وفي أسانيدها ضعف ولكنه يقوي بعضها بعضا إلا أن جعل غسل العيدين للصلاة وغسل الجمعة لليوم من الرأي الجاري على عكس ما ينبغي وعلى خلاف ما يقتضيه الدليل.
قوله: "ويوم عرفة".
أقول: قد استدل على ذلك بما أخرجه ابن ماجه قال حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا يوسف بن خالد حدثنا أبو جعفر الخطمي عن عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكهه بن سعد عن جده الفاكهه ابن سعد وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويم النحر ويوم عرفة وكان الفاكهه يأمر أهله بالغسل هذه الأيام انتهى.
وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي وهو كذاب وضاع ونسبه ابن معين إلي الزندقة فالعجب من ابن ماجه كيف يروي في سننه عن مثل هذا.
وأخرج في مسند الفردوس عن أبي هريرة مرفوعا: "الغسل في هذه الأيام واجب يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة" وإسناده مظلم.
وذكر في جامع الأصول عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه ولطوافه بالبيت ولوقوفه بعرفة وقال ذكره رزين انتهى.
وهذه الأحاديث التي ذكرها لا يعرف أصلها ولا من خرجها فلا عمل عليها ولا تقوم بها الحجة.
وأخرج مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة ولوقوفه بعرفة انتهى وهذا فعل صحأبي لا تقوم به حجة.
قوله: "وليالي القدر".
أقول: ليس على هذا أثارة من علم لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قياس صحيح ولا من قول صحأبي وما قيل من قياسه على الجمعة إن كان لمجرد الشرف لزم القول باستحباب الغسل لكل ماله شرف من الأيام والليالي والأقوال والأفعال وهذا خرق للأجماع بل خرق للقواعد الشرعية بل تلاعب بالأحكام الدينية.
وإن كان لجماع غير الشرف فلا ندري ما هو وقد استدل لذلك بعض من لا يفرق بين الغث والسمين بأنه صلى الله عليه وسلم كان يعتزل النساء في ليالي القدر ويغتسل وهذا لايصح بوجه من الوجوه.
قوله: "ولدخول الحرم".
أقول: لم يثبت مشروعية ذلك أصلا ولعل المصنف رحمه الله يريد بقوله لدخول الحرم فعل الإحرام فقد أخرج الترمذي وحسنه والدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث زيد بن ثابت "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لأهلاله واغتسل" [الترمذي "830"] ،وفي إسناد الترمذي عبد الله بن يعقوب المدني لم يتكلم فيه بجرح ولا تعديل ولكن تحسين الترمذي له يدل على أنه قد عرف حاله(1/75)
وقد تابعه الأسود بن عامر شإذان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه مثله والأسود ثقة من رجال الصحيحين.
ويؤيد هذا الحديث ما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى على البيداء أحرم بالحج وفي إسناده يعقوب بن عطاء بن أبي رياح المكي وقد ضعفه أحمد وقال أبو حاتم ليس بالقوي وقال ابن معين ضعيف لكنه وثقة ابن حيان.
قوله: "ومكة"
أقول: وجهه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك" [البخاري "1573"، مسلم "227/ 1259"] .
قال ابن المنذر الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية وقال أكثرهم يجزئ عنه الوضوء.
قوله: "والكعبة والمدينة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم"
أقول: لا يخفاك أن الحكم بكون الشيء مندوبا هو حكم شرعي لا يستفاد من غير الشرع فإذا لم يكن في الشرع ما يفيد ذلك فهو من التقول على الله سبحانه بما لم يقل ومن التشريع للعباد بما لم يشرعه الله لهم ومن توسيع دائرة الشريعة المطهرة بمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة وليت شعري ما الحامل على هذا وما المقتضى له فإن القول بذلك ليس من الخطأ في الاجتهاد فإن هذا إنما يكون عند تعارض الأدلة وتخالف القرائن المقبولة ثم مجرد دعأوى القياس على ما في إثبات الأحكام الشرعية بغالب مسالكه من عوج لا يتم إلا بوجود أصل وفرع بعد تسليم الأصالة والفرعية ثم أمر جامع بينهما جمعا لا يدخله دفع ولا نقض ولا معارضة وما كان بدون ذلك فلا يعجز أحد أن يدعيه ويقول به ولو كان مثل ذلك سائغا لقال من شاء بما شاء وكيف شاء.
ثم كان على المصنف أن يذكر من هذه التي ذكرها دخول بيت المقدس ودخول مسجد قباء ودخول قبور الأنبياء ودخول كل ما له شرف.
وسبحان الله ما يفعل التسأهل في إثبات الأحكام الشرعية من الفواقر التي يبكى لها تارة ويضحك لها أخرى.
قوله: "وبعد الحجامة والحمام".
أقول: أما بعد الحجامة فقد استدل لذلك بما أخرجه أحمد وابو دأود والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغتسل من أربع من الجمعة والجنابة والحجامة وغسل الميت" [أحمد "6/52"، أبو دأود "3160"، ولفظ أبي دأود "كان يغتسل" الخ وصححه ابن خزيمة وقال الدارقطني في إسناده مصعب بن شيبة وليس بالقوي ولا بالحافظ وقال النسائي(1/76)
منكر الحديث ووثقه ابن معين وأخرج له مسلم وأهل السنن.
وقد عورض هذا الحديث بما أخرجه الدارقطني من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يزد على غسل محاجمه وفي إسناده صالح بن مقاتل وليس بالقوي.
والجمع ممكن بحمل الغسل على الندب ولا ينافي الندب الترك في بعض الأحوال.
وأما الغسل بعد الحمام فليس عليه أثارة من علم ولا وجه لذكره في الأغسال المشروعة.
قوله: "وغسل الميت".
أقول: استدلوا على ذلك بما أخرجه أحمد وأهل السنن والبيهقي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ" [أحمد "3/433، 454، 472"، أبو دأود "3162"، ابن ماجة "1413"، الترمذي "993"] .
وفي إسناده صالح مولى التوأمة وفيه مقال ولكنه قد روي من طريق غيره فأخرجه البزار عن أبي هريرة من ثلاث طرق ولهذا حسنه الترمذي وصححه اب حبان وابن حزم وقال ابن دقيق العيد رجاله رجال مسلم وقال ابن حجر هو لكثرة طرقه اسوأ أحواله أن يكون حسنا وذكر المأوردي أن بعض أهل الحديث ذكر له مائة وعشرين طريقا.
ويؤيد هذا الحديث الذي تقدم قبله أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يغتسل من أربع".
وقد ورد ما يدل على أن هذا الأمر محمول على الندب كما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه إن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم"، وقد حسنه ابن حجر.
وكما أخرجه الخطيب من حديث عمر كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل وقد صحح ابن حجر إسناده.
وكما أخرجه الموطأ والبيهقي أن اسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنه غسلته ثم قالت لمن حضر من المهاجرين إن هذا يوم شديد البرد فهل على من غسل فقالوا لا.
قوله: "والإسلام".
أقول: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم بأن يغتسل لما أسلم كما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة وصححه ابن السكن ووقع منه صلى الله عليه وسلم الأمر لثمامة بأن يغتسل لما أسلم كما أخرجه أحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال ولكن فيهما أنه اغتسل والظاهر الوجوب ولا وجه لما تمسك به من قال بعدم الوجوب من أنه لو كان واجبا لأمر به صلى الله عليه وسلم من اسلم لأنا نقول قد كان هذا في حكم المعلوم عندهم ولهذا أن ثمامة لما أراد الإسلام ذهب فاغتسل كما في الصحيحين والحكم يثبت على الكل بأمر البعض ومن لم يعلم الأمر بذلك لكل من اسلم لا يكون عدم علمه حجة له.(1/77)
[باب التيمم
فصل
سببه تعذر استعمال الماء أو خوف سبيله أو تنجيسه أو ضرره أو ضرر المتوضيء من العطش أو غيره محترما أو مجحفا به أو فوت صلاة لا تقضى ولا بدل لها أو عدمه مع الطلب إلي آخر الوقت إن جوز إدراكه والصلاة قبل خروجه وأمن على نفسه وماله المجحف مع السؤال وإلا أعاد إن انكشف وجوده.
ويجب شراؤه بما لا يجحف وقبول هبته وطلبها حيث لا منة لا ثمنه.
والناسي للماء كالعادم]
قوله: فصل: "سببه تعذر استعمال الماء".
أقول: تعذر استعمال الماء كعدمه لأن وجوده مع تعذر استعماله لا يفيد شيئا فالواجد له مع تعذر استعماله غير واجد لماء يمكنه التطهر به فهو داخل تحت قوله تعالي: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة 6] ، إذ ليس المراد وجود مجرد ذات الماء ولو في قعر بئر لا يمكن الوصول إليه فإنه لا يقول بذلك أحد.
ولا فرق بين أن يكون تعذر استعمال الماء لمانع في نفس الماء أو لمانع في المكلف فإن ذلك بمنزلة عدم الماء.
قوله: "أو خوف سبيله".
أقول: إذا خشي الضرر على نفسه أو ماله فقد جعل الله له من استعمال ذلك الماء فرجا ومخرجا فالدين يسر والشريعة سمحة سهلة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، و "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" [مسلم "1337"، النسائي "5/110، 111"] .
قوله: "أو تنجيسه".
أقول: إذا كان استعماله للماء على تقدير يوجب تنجيسه حتى يخرج بذلك عن كونه طهورا فليست هذه صورة مستقلة ولا هذا سببا من أسباب التيمم مستقلا بل هو داخل تحت قوله تعذر استعمال الماء لأن هذا قد تعذر عليه استعمال الماء على الوجه المجزيء فوجود ذلك الماء كعدمه.
قوله: "أو ضرره"
أقول: إذا كان استعمال الماء يحدث للمتوضيء علة يحصل بها الضرر عليه كان ذلك موجبا لترك استعمال الماء والعدول إلي التيمم.
أخرج أبو دأود وابن ماجه والدارقطني من حديث جابر قال خرجنا في سفر وأصاب رجلا(1/78)
منا حجر فشجه في رأسه ثم أحتلم فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل تجدون له رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده" [أبو دأود "336"، ابن ماجة "3"] ، وقد تفرد به الزبير بن حريق وليس بالقوي وقد صححه ابن السكن وله طريق أخرى من حديث ابن عباس.
ومما يدل على جواز التيمم لخوف الضرر حديث عمرو بن العاص أنه احتلم في ليله باردة فتيمم ثم بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال ذكرت قول الله عزوجل {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، فضحك صلى الله عليه وسلم ولم يقل له شيئا وهو حديث صحيح [أحمد"4/203".
قوله: "أو ضرر المتوضيء من العطش".
أقول: لا وجه لأفراد هذا بالذكر فإن خشية الضرر يشمل قوله أو ضرره وقوله أو ضرر المتوضيء وإذا عرفت أن تعذر استعمال الماء أو خوف تنجيسه يدخلان تحت قوله أو عدمه فكان يغنيه عن ذكر هذين السببين ما سيذكره من سببية عدم الماء لما قدمنا وعرفت أن خشية الضرر يغنى عن الضررين اللذين جعلهما سببين بل ويغني عن قوله أو خوف سبيله لأنه إذا كأن يحصل بالخوف ضرر كان مسوغا للتيمم وإلا فلا فكان يكفيه أن يقول وسببه عدم الماء أو خشية الضرر فإن الاقتصار على هذين السببين يقوم مقام الستة الأسباب.
وإذا أراد زيادة الأيضاح قال سببه عدم الماء أو نحوه أو خشية الضرر.
ويدخل أيضا تحت خشية الضرر قوله أو مجحفا به فإن الإحجاف ضرر عظيم ويدخل أيضا تحت عدم الماء قوله: أو فوت صلاة لا تقضى ولا بدل لها لأن وجود الماء في تلك الحال كعدمه لعدم الانتفاع به فرجعت هذه الاسباب التي ذكرها كلها إلي سببين.
واعلم أن كون فوت الصلاة المذكورة سببا من أسباب التيمم لا دليل عليه بخصوصه لكن إذا نظرنا إلي قوله تعالي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" كان ذلك مسوغا للتيميم عند خشية فوت الصلاة بخروج وقتها سواء كانت تقضى أو لا تقضى وسواء كان لها بدل أو لا بدل لها ولا سيما مع قوله سبحانه: {إذا قُمْتُمْ إلي الصَّلاةِ} ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة: 6] .
ويمكن أن يقال إن الله سبحانه لم يتعبد المكلف بالإتيان بالصلاة المفروضة إلا بشرطها المعتد وإذا فاته الأداء وجب عليه القضاء ولا سيما إذا لم يتركها إلي ذلك الوقت الذي خشى قوتها فيه باستعمال الماء اختيارا وتعمدا كالنائم والساهي وأما إذا كانت تلك الصلاة لا تقضى ولا بدل لها فيقال لا يجب عليه الدخول فيها مع وجود الماء إلا بعد أن يأتى بالوضوء فإذا ضاق الوقت عن ذلك فلا وجوب عليه في الصلاة الواجبة كصلاة الجنازة ولا استحباب له في(1/79)
غير تلك الصلاة بالوضوء فهو لا يستطيع فقد عمل بقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
قوله: "أو عدمه مع الطلب إلي آخر الوقت".
أقول: ظاهر الآية الكريمة وهي قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو عَلَى سَفَرٍ أو جَاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] ، أن عدم وجود الماء قيد للمرض والسفر والمجىء من الغائط والملامسة على ما هو الراجح من أن القيد الواقع بعد جمل يعود إلي جميعها ولا يختص ببعضها إلا بدليل ولكن لما كان السبب الموجب للطهارة الصغرى هو المجىء من الغائط وما في معناه والموجب للطهارة الكبرى هو الملامسة للنساء وما في معناه من غير فرق بين مريض ومسافر وحائض كان ذلك دليلا على أن حرف التخيير في قوله: {أو جَاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بمعنى الوأو وقد ورد ذلك كثيرا في لغة العرب وذهب إليه جماعة من أئمة العربية.
فيكون معنى الآية على هذا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاد أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فكان الحاصل من هذا أن المريض الذي حصل له أحد سببي الطهارة وهي المجىء من الغائط أو الملامسة لا يتيمم إلا عند عدم الماء وكذلك المسافر.
لكنه قد ورد ما يدل على أن المرض سبب مستقل لجواز التيمم وإن كان الماء موجودا لما في حديث صاحب الشجة المتقدم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم" الخ ونحوه فيكون قيد عدم وجود الماء راجعا إلي المسافر وهو مجمع عليه أعني كون المسافر لا يتيمم إلا إذا لم يجد الماء ويدل عليه قصة عمرو بن العاص المتقدمة فإنه لما لم يغتسل مع وجود الماء أنكر عليه أصحابه ولم يقرره صلى الله عليه وسلم إلا حيث ذكر ما يدل على أنه خشى الضرر على نفسه واستدل بقوله تعالي: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
ويدل على ذلك أن رخصة التيمم نزلت في السفر لما أقاموا لطلب عقد عائشة كما في الصحيحين وغيرهما وفيه أنها قالت: "وليسوا على ماء وليس معهم ماء" [البخاري "1/334"، مسلم "367"، أبي دأود "317"، النسائي "310"] ، الحديث.
فإن قلت إذا كان القيد المذكور في الآية راجعا إلي المسافر فمإذا يكون في الصحيح الحاضر؟.
قلت لم يكن في الآية تعرض لذلك لما قررناه لكنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تيمم في الحضر كما في الصحيحين وغيرهما ووردت الأدلة الدالة على مشروعية التيمم سواء كان حاضرا أو مسافرا صحيحا أو مريضا كما في حديث "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو إلي عشر سنين" [أبو دأود "332 و 333"، النسائي 1/171"، الترمذي "124"، أحمد "5/146، 155"] ، أخرجه(1/80)
أأهل السنن وغيرهم من حديث أبي ذر وصححه أبو حاتم والحاكم وابن حيان وابن السكن وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح وقد أخرجه مسلم أيضا وروي من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح.
وكما في حديث "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" [البخاري "335، 438، 3124"، مسلم "521"] ، وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ لمسلم "وتربتها طهورا" [مسلم "4/522"، أحمد "5/383"] ، وقد ثبت اعتبار عدم الماء في السفر بالآية المذكورة فاعتباره في الحضر ثابت بفحوى الخطاب فإن السفر مطنة المشقة والتعب ولهذا شرع الله له قصر الصلاة وترك الصيام مع كون المسافر في الغالب غير عارف بمواطن الماء كما يعرفها الحاضر في وطنه وبلد إقامته.
وأما إيجاب الطلب إلي آخر الوقت فلم يدل عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع.
فإن قلت فما المعتبر في عدم وجود الماء؟.
قلت إذا قام المصلى إلي الصلاة ولم يكن عنده ماء ولا كان قريبا منه يمكنه إدراكه ويصلي الصلاة لوقتها جاز له التيمم لأن الله سبحانه وتعالي ذكر القيام إلي الصلاة فقال: {إذا قُمْتُمْ إلي الصَّلاةِ} [المائد: 6] ثم ذكر بعد ذلك رخصة التيمم مع عدم وجود الماء فالمعتبر عدم حضور الماء عند القيام للصلاة وعدم علم المصلي بوجوده في المواضع القريبة منه وحد القرب أن يمكنه الوصول إلي الماء والتطهر به ويصلي الصلاة لوقتها فمن كان هكذا فهو واجد ومن لم يكن هكذا فهو عادم.
ويدل لهذا حديث أبي سعيد قال خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعادا أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال الذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" [أبو دأود "338"، النسائي "433 – 434"] ، أخرجه أبو دأود والنسائي.
وهذا الحديث يرد على أن من أوجب الإعادة إذا وجد الماء في الوقت وما ذكره من أنه يجب عليه شراء الماء وقبول هبته فلا بأس بذلك لم أراد أكمل الطهارتين وأما أنه يجب وجوبا شرعيا فلا دليل عليه وإذا لم يجب قبول الهبة فكيف يجب الطلب لها فإن الظاهر تحريم السؤال على كل حال ولهذا عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا حتى كان يسقط سوط أحدهم وهو على راحلته فينزل له ولا يسأل غيره أن ينأوله وذلك ثابت في الصحيح.
وما ذكره المصنف رحمه الله من أن الناسي للماء كالعادم فهو صواب لرفع الخطاب عن الناسي وعدم المؤاخذة له بنسيانه ولا يكلف الإنسان بما لا يعلمه فإذا ذكر بعد فعل الصلاة بالتيمم فقد أجزأته صلاته ولا إعادة عليه كما تقدم في العادم.(1/81)
[فصل
وإنما يتيمم بتراب مباح طاهر منبت يعلق باليد لم يشبه مستعمل أو نحوه كما مر. وفروضه التسمية كالوضوء ومقارنة أولة بنية معينة فلا يتبع الفرض إلا نفله أو ما يترتب على أدائه كالوتر أو شرطه كالخطبة وضرب التراب باليدين ثم مسح الوجه مستكملا كالوضوء ثم أخرى لليدين ثم مسحهما مرتبا كالوضوء ويكفي الراحة الضرب.
وندب ثلاثا وهيأته] .
قوله: "فصل وإنما يتيمم بتراب"
أقول: استدلوا لذلك بقوله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قالوا الصعيد الطيب هو التراب وهذا هو مسلم فإنه قال في المصباح إن الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره قال الزجاج لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في ذلك انتهى وحكى في الكشاف عن الزجاج مثل ذلك.
واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا" [مسلم "4/522"] ، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره.
ويجاب عنه بأنه من التخصيص بموافق العام فإن مفهوم اللقب لا يخصص به على ما ذهب إليه الجمهور ولكنه يقوى هذا قوله تعالي: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، فإنه لا يتيسر المسح ببعض الحجر ولا ببعض الشجر فتعين أن يكون الممسوح به ترابا.
ولا يعارض هذا تيممه صلى الله عليه وسلم من الحائط فإنه لم يرو أنه كان معمورا من الحجر بل الظاهر أنه معمور من الطين وإذا كان كذلك فالضرب فيه لا يبعد ان يعلق باليد من تربته ما له أثر يمسح به ولا سيما وقد أخرج الشافعي أنه حته أي الحائط الذي تيمم منه بعصا وقد أخرج هذه الزيادة البيهقي من طريق الشافعي ثم قال وفي إسنادها يعني هذه الزيادة إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي عن أبي الحويرث وهو متكلم فيهما عن الأعرج عن أبي الصمة وهو يعني الأعرج لم يسمع منه.
ومما يعين التراب ويفيد أنه المراد أن جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس وغيره فسروا الصعيد بالتراب أو بما صعد على وجه الأرض فجعلوا التراب أحد معنيي الصعيد.
والروايات المصرحة بالتراب هي معينة لأحد معنيي الصعيد.
ثم قد ورد ذكر التراب في غير حديث فأخرج أحمد والبيهقي من حديث على مرفوعا بلفظ "وجعل التراب لي طهورا" [أحمد "1/98"] ، وقد حسن إسناده في مجمع الزوائد وكذلك الحافظ ابن حجر في الفتح وصححه السيوطي.
وقد كان التيمم في زمن النبوة بالتراب لا يعرف غير ذلك فالتعويل على ما هو محتمل من اللفظ لا ينبغي لمصنف.(1/82)
قوله: "مباح"
أقول: استدلوا على ذلك بقوله سبحانه: {صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] ، وأجيب بأن الطيب المذكور مشترك بين معنيي الطهارة عن النجاسة والحل والأليق بالمقام المعنى الأول لا الثاني وأولى من هذا الجواب أن يقال المعنى الحقيقي للطيب هو الطاهر وأما الحلال فمجاز له لا حقيقة كما يفيد ذلك ما ذكره الزمخشري في أساسه.
ولكنه يغني عن الاستدلال بالآية ما ورد في الكتاب والسنة من تحريم ما ليس بحلال فلا يحتاج إلي الاستدلال بدليل آخر فالآية قد دلت على اعتبار كون التراب طاهرا وأدلة تحريم ما للغير قد دلت على اعتبار كون التراب مباحا حلالا.
قوله: "منبت يعلق باليد".
أقول: أما كونه منبتا فلم يدل على ذلك دليل أصلا بل المراد ما يصدق عليه اسم التراب وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه تيمم من الحائط وصح عنه أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا".
فكل تراب يحصل به مقصود التيمم يرفع الحدث وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال أطيب الصعيد تراب الحرث كما أخرجه عنه البيهقي وغيره فلم يشترط القرآن ولا السنة أطيب الصعيد ولا يستلزم كون أطيب الصعيد تراب الحرث أنه لا يجزىء في التيمم إلا هو وغايته أن التيمم به أحب من غيره لكونه الأطيب وقد دل أفعل التفضيل أن غيره طيب فحصل به مقصود التيمم وقد ثبت أن المدينة سبخة وقد كانوا يتيممون منها ولم ينقل أنهم طلبوا ترابا للتيمم وهكذا كانوا يتيممون عند حضور وقت الصلاة مع عدم الماء بما يجدونه من التراب.
وأما اشتراط كون التراب يعلق باليد فوجهه قوله سبحانه وتعالي: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، وقد قدمنا ذلك.
وأما اشتراط كونه لم يشبه مستعمل فليس على عدم كون المستعمل طهورا دليل صحيح لا في الماء ولا في التراب وقد أوضحنا ذلك في الوضوء فليرجع إليه.
قوله: "وفروضه التسمية ومقارنة أوله بنية معينة".
أقول: الكلام في التسمية والنية هنا كالكلام في الوضوء وأما كون النية هنا لا بد أن تكون معينة وأنه لا يتبع الفرض إلا نفله أو شرطه فمبنى على أنه لا يجوز بالتيمم إلا فريضة واحدة وأنه يبطل بالفراغ منها واستدلوا على ذلك بما روى عن ابن عباس أنه قال من السنة أن لا يصلي بالتيمم إلا مكتوبة ثم يتيمم للأخرى كما أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك مجمع على تركه وقد روى عن غيره نحو ذلك من قوله غير مرفوع منها عن علي وفي إسناده ضعيفان وهما الحارث الأعور والحاج ابن أرطأة ومنها عن عمرو بن العاص وابن عمر ولا يقوم شيء من ذلك حجة.
والعجب ممن قال إنه ينجبر ما فيها بالإجماع فإن المرفوع باطل والموقوف لا حجة فيه.(1/83)
فالحق أن يستباح بالتيمم ما يستباح بالوضوء وأنه طهارة جعلها الله سبحانه بدلا عن الوضوء عند عدم الماء وللبدل حكم المبدل إلا ما خصه الدليل ولم يكن هذا مما خصه الدليل.
قوله: "وضرب التراب باليدين".
أقول: قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وعلمه غيره كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنما يكفيك" وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه. [البخاري "338"، مسلم "112/368"، أبودأود "322"، النسائي "312و316"، ابن ماجة "569"] .
والحاصل أن جميع الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا ضربة واحدة للوجه والكفين فقط وجميع ما ورد في الضربتين أو كون المسح إلي المرفقين لا يخلو من ضعف يسقط به عن درجة الاعتبار ولا يصلح للعمل عليه حتى يقال إنه مشتمل على زيادة والزيادة يجب قبولها.
فالواجب الاقتصار على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وما ذكره المصنف رحمه الله من انه يجب مسح الوجه مستكملا كالوضوء إن أراد أنه يجب تمييم الوجه بالمسح فذلك متعين وإن أراد أنه يجب تخليل الشعر فليس ذلك من شأن المسح ولا لتخليل الشعر مدخلية فيه بل المراد التعبد بمسح الشعر ما كان يجب غسله بالماء ويصيب ما أصاب ويخطىء ما أخطأ.
وكذا ما ذكره في مسح اليدين إن أراد به مجرد إيقاع المسح عليهما فلا بد من ذلك ولكن إلي الرسغين إلي المرفقين وإن أراد التخليل ونحوه فليس ذلك من شأن المسح ولا هو داخل في مفهومه.
وأما ما ذكره من أنها بندب هيأة التيمم فلا هيئة له إلا ما اشتمل عليه حديث عمار الذي ذكرناه.
[فصل:
وإنما يتيمم للخمس آخر وقتها فيتحرى للظهر بقية تسع العصر وتيممها وكذلك سائرها وللمقضية بقية تسع المؤداة ولا يضر المتحري بقاء الوقت.
وتبطل ما خرج وقتها قبل فراغها فتقضى] .
قوله: فصل: "وإنما يتيمم للخمس آخر وقتها".
أقول: الأوقات المضروبة للصلاة لا تختص بطهارة دون طهارة فطهارة التراب كطهارة الماء في أن كل واحدة منهما تؤدى بها الصلاة في الوقت المضروب لها ومن زعم أن ذلك يختص بالصلاة المؤداة بالطهارة بالماء فعليه الدليل ولا دليل أصلا.
ثم قد ورد الترغيب في تأدية الصلاة لأول وقتها بأحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما حتى وقع التصريح منه صلى الله عليه وسلم "بأن أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" فمن زعم أن ذلك يختص(1/84)
بالصلاة المؤداة بالطهارة بالماء فعليه الدليل ولا دليل أصلا ثم قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتيمم الذي وجد الماء بعد أن فرغ من صلاته ولم يعد الطهارة ولا الصلاة إنه قد أصاب السنة والخير كل الخير في إصابة السنة فلو كان التيمم آخر الوقت واجبا مفترضا لم يكن مصيبا للسنة لأنه صلى بالتيمم تلك الصلاة لوقتها ولم يؤخرها إلي آخر الوقت وقد وجد الماء في الوقت ولم يعد.
والحاصل أنه لا دليل على ما ذكره في هذا الفصل بل هو خلاف الدليل وأعجب من هذا قوله في آخر الفصل وتبطل ما خرج وقتها قبل فراغها فتقضى فإن الأحاديث الصحيحة ناطقة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها فأي دليل دل على أن هذه الصلاة المؤداة بالتيمم لا تدرك بإدراك ركعة منها ولكن المصنف رحمه الله لما ظن أن خروج الوقت من نواقض التيمم وقع في هذا المضيق وليس على ذلك أثارة من علم بل ليس عليه أثارة من رأي مستقيم فلا رواية ولا رأي يوقعان عباد الله في مثل هذه التكاليف الشديدة وهذا الحرج العظيم اللهم غفرا.
[فصل:
ومن وجد ماء لا يكفيه قدم متنجس بدنه ثم ثوبه ثم الحدث الأكبر أينما بلغ في غير أعضاء التيمم وتيمم للصلاة ثم الحدث الأصغر.
فإن كفى المضمضة وأعضاء التيمم فمتوضىء وإلا أثرها ويمم الباقي وهو متيمم وكذا لو لم يكف النجس ولا غسل عليه.
ومن يضر الماء جميع بدنه تيمم للصلاة مرة ولو جنبا فإن سلمت كل أعضاء التيمم وضأها مرتين بنيتهما.
وهو كالمتوضىء حتى يزول عذره وإلا غسل ما أمكن منها بنية الجنابة ووضأه للصلاة ويمم الباقي وهو متيمم فيعيد غسل ما بعد الميمم معه ولا يمسح ولا يحل جبيرة خشي من حلها ضررا أو سيلان دم] .
قوله: فصل: "ومن وجد ماء لا يكفيه قدم متنجس بدنه".
أقول: لعل وجه ذلك تحريم التلوث بالنجاسة وورود الوعيد الشديد على ذلك وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ في غسله بإزالة النجاسة من فرجيه وكذلك جادت الشريعة بإزالة أثر الخارج من الفرجين بالماء أو الأحجار قبل الوضوء.
ولعل الوجه في تقديم غسل متنجس الثوب على رفع الحدثين أن لهما بدلا وهو التيمم ولا بدل لستر العورة.
ولعل وجه تقديم الحدث الأكبر عند من يقول إن الطهارة الصغرى تدخل تحت الطهارة(1/85)
الكبرى أن الغسل يغني عن الوضوء وأما من يقول بذلك فوجهه أن الحدث الأكبر مانع من رفع الحدث الأصغر ولكن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه كان يقدم الوضوء على الغسل إلا غسل الرجلين فيؤخره إلي بعد الفراغ من الغسل وقد تقدم ذلك.
ويمكن أن يقال إن هذا لا يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن النزاع إنما هو حيث وجد من الماء ما لا يكفي لرفع الحدثين وفعله صلى الله عليه وسلم إنما كان مع وجود ما يكفي لرفع الحدثين وقد يقال إن التأثير مع السعة ووجود ما يكفي لرفع الحدثين يدل على تأثير ما أثره مع عدم وجود ما يكفي لهما وفيه ما فيه
قوله: "فإن كفى المضمضة وأعضاء التيمم فمتوضىء" الخ.
أقول: قد جعل الله عز وجل رخصة التيمم ثابتة لمن لم يجد ماء يتوضأ به فمن وجد ماء يتوضأ به الوضوء الذي ورد به الشرع ويستوفى غسل أعضاء الوضوء فلا يحل له العدول إلي رخصة التيمم وإذا وجد من الماء ما يكفي بعض أعضاء الوضوء دون البعض فهو في حكم العادم لما يكفي للوضوء ولا حكم لوجود ما يكفي لبعض الوضوء فإن فاعل ذلك لا يسمى متوضأ ولا يصدق عليه أنه قد فعل ما أمره الله من الوضوء فالواجب عليه ترك غسل ذلك البعض الذي لم يجد من الماء إلا ما يكفيه ويعدل إلي التيمم ولم يرد ما يدل على خلاف هذا وهكذا من وجد ما يكفيه لغسل بعض بدنه عدل إلي التيمم وتيمم مرة واحدة وصلى ما شاء حتى يجد الماء أو يحدث ولا يغسل بعض بدنه ويترك بعضا.
وهكذا من يضر الماء بدنه إذا غسل به فإنه يترك الغسل بالماء ولا يغسل شيئا منه ويعدل إلي التيمم فيتيمم مرة واحدة ويصلي ما شاء حتى يحدث أو يجد الماء وإذا وجد الماء في الوقت فليس عليه إعادة ولا غسل لأن الجنابة قد ارتفعت وكذا إذا وجده بعد الوقت فلا يغتسل لهذه الجنابة التي قد تيمم لها لأنها قد ارتفعت بالتيمم.
والدليل يدل على ما ذكرناه كحديث "والتراب كافيك ولو إلي عشر حجج" وحديث "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا".
وأما ما ورد في بعض الروايات بلفظ: "إذا وجد الماء فليمسه بشرته" فليس المراد به إلا أنه إذا وجد الماء اغتسل لما يتجدد عليه من الموجبات بعد وجوده لا لما مضى فإنه قد ارتفع ولو سلمنا الاحتمال فهو لا يصلح للاستدلال.
وأيضا قد ورد في هذه الرواية "فإن ذلك خير لك" يدل وهذا يدل على عدم وجوب الغسل للحدث الماضي حيث قد فعل التيمم المشروع.
فإن قيل قد أخرج البخاري في صحيحه في باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء من حديث عمران بن حصين ما حاصله أنه نودي بالصلاة فصلى صلى الله عليه وسلم بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم فقال: "ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم" فقال: أصابتني جنابة ولا ماء قال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" ثم سار صلى الله عليه وسلم فلما(1/86)
وجد الماء أعطى الرجل الذي أصابته الجنابة إناء من ماء فقال: "اذهب فأفرغه عليك" وهذا ظاهر في أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها.
وأخرجه البيهقي عن عمران بن حصين بلفظ: فقال للرجل: "ما منعك أن تصلي؟ " قال: يا رسول الله أصابتني جنابة قال: "فتيمم بالصعيد فإذا فرغت فصل فإذا أدركت الماء فاغتسل" وهذا أأصرح من الحديث الذي قبله في أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها.
وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار العطاردي قد ضعفه جماعة ولكنه قال الذهبي في المغني حديثة مستقيم انتهى والحديث الأول يشهد له ويقويه.
وأخرج الطبراني في الكبير حديث أسلع خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصابته جنابة فأمره صلى الله عليه وسلم بالتيمم فتيمم ثم مروا بماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسلع! هذا أمس هذا جلدك" وهو كالحديث الأول في الدلالة على أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها.
قلت ليس في الحدثين ما يفيد ان الأمر بالغسل للجنابة التي قد تيمم لها كما ذكرت ولو كان كذلك لأمره بإعادة الصلاة التي قد فعلها بالتيمم ولم يثبت ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ولو سلمنا ما ذكرت لكان معارضا لحديث عمرو بن العاص الصحيح أنه احتلم فصلى بأصحابه بالتيمم فشكوه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فقال سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، فقره على ذلك ولم يأمره بالغسل.
وأيضا قياس الجنابة على الوضوء يدل على عدم وجوب غسل الجنابة بعد التيمم لها لما تقدم في حديث الرجلين وقوله صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد: "أصبت السنة" فإذا قوي التيمم على رفع الحدث الأصغر قوي على رفع الحدث الأكبر لاشتراكهما في منع كل واحد منهما من الصلاة.
ويؤيد هذا ما تقدم من العمومات الصحيحة ومع التعارض يرجع إلي الأصل وهو أن التيمم طهارة شرعها الله عوضا عن الماء فيرتفع بها ما يرتفع بالماء.
وقد يجمع بين الأدلة بأن أمره صلى الله عليه وسلم للجنب بأن يغتسل عند وجود الماء ليس لرفع الجنابة فإنها قد ارتفعت بالتيمم بل لغسل ما يتلوث به البدن من آثار الجنابة لا سيما المحتلم فإنه لا بد أن يصيب المني بعض بدنه في الغالب.
[فصل:
ولعادم الماء في الميل أن يتيمم لقراءة ولبث في المسجد مقدرين ونفل كذلك وإن كثر قيل ويقرأ بينهما ولذي السبب عند وجوده والحائض للوطء وتكرره للتكرار] .
قوله: فصل: "ولعادم الماء في الميل أن يتيمم لقراءة ولبث في المسجد مقدرين".(1/87)
أقول: قد عرفناك أن التيمم يرفع الحدث أما مطلقا أو إلي وقت وجود الماء فإذا تيمم لصلاة جاز له أن يفعل ما يفعله المتوضىء حتى يحدث وهكذا إذا تيمم لغير صلاة فإنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم تيمم لرد السلام وهو مجرد ذكر من الأذكار فالتيمم للقراءة ولدخول المسجد أولى وأحق فإذا تيمم لشيء من ذلك بعينه فقد ارتفع الحدث بذلك التيمم فيجوز له أن يفعل غير ما سماه حتى يحدث لأنه قد صار في حكم المتوضىء وقد قدمنا في الوضوء ما يزيدك في هذا بصيرة وليس هذا الحكم مختصا بعادم الماء بل هو ثابت لكل من يجوز له التيمم.
وأما تقيدد الجواز بالعدم في الميل فهو مبني على ما تقدم من وجوب الطلب في الميل وقد قدمنا دفعه وهكذا لا وجه لقوله مقدرين لما عرفت من أن الحدث قد ارتفع ولا فائدة لذكره هنا للنفل ولذوات الأسباب فإنها صلوات يشرع لها التيمم كما شرع للصلوات الخمس.
وما ذكره من أن الحائض تتيمم للوطء فذلك صواب لأن الله سبحانه يقول: {فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ، والتطهر يصدق على طهارة التراب عند عدم الماء كما يصدق على طهارة الماء.
[فصل:
وينتقض بالفراغ مما فعل له وبالاشتغال بغيره وبزوال العذر ووجود الماء قبل كمال الصلاة وبعده يعيد الصلاتين إن أدرك الأولى وركعة بعد الوضوء وإلا فالأخرى إن أدرك ركعة وبخروج الوقت ونواقض الوضوء] .
قوله: فصل: "وينتقض بالفراغ مما فعل له" الخ.
أقول: قد عرفناك غير مرة أن الطهارة بالتراب كالطهارة بالماء يفعل بها المتيمم ما يفعل بها المتطهر بالماء ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك لا من كتاب ولا من سنة ولا من رأي صحيح فلا ينتقض إلا بما تنتقض به الطهارة بالماء فدعوى انتقاضه بالفراغ مما فعل له ليس بشيء وكذلك دعوى انتقاضه بالاشتغال بغيره ليس عليه أثارة من علم.
وأما دعوى انتقاضه بوجود الماء وإيجاب الأعادة للصلاة فدفع في وجه الدليل ورد لما هو الحق بالصدر والنحر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الذي لم يعد عند وجوب الماء قد أصاب السنة والخير كل الخير في إصابة السنة وليس وراء ذلك إلا البدعة.
وأما قوله للذي أعاد: "لك الأجر مرتين" فذلك لكون الله سبحانه لا يضيع عمل عامل وقد تيمم وتوضأ وصلى مرتين ولا يستلزم ثبوت الأجر له إصابته فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت لمن أخطأ في اجتهاده أجرا فقال فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله(1/88)
أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" [البخاري "7352"، مسلم "1716"، أبو دأود "3574"، أبو دأود "3574"، ابن ماجة "2314"] ، فصرح بثبوت الأجر مع الخطأ في الاجتهاد.
وهذا الذي أعاد الوضوء والصلاة قد أخطأ في اجتهاده وثبت له الأجر كما ثبت للحاكم المخطىء في اجتهاده.
وأما دعوى انتقاض التيمم بخروج الوقت فلا أصل له يرجع إليه ولا دليل يدل عليه والصواب الاقتصار في هذا الفصل على قوله: "ونواقض الوضوء" وفيه ما يغني عن تكليف عباد الله ما لم يشرعه لهم بلا خلاف شرعه لهم فان هذا الكتاب وضعه المصنف رحمه الله لبيان ما ورد به الدليل لا لبيان القال والقيل.(1/89)
[باب الحيض
هو الأذى الخارج من الرحم في وقت مخصوص والنقاء المتوسط بينه جعل دلالة على أحكام وعلة في أخر.
وأقله ثلاث وأكثره عشر وهي أقل الطهر ولا حد لأكثره ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة وقبل أقل الطهر وبعد أكثر الحيض وبعد الستين وحال الحمل.
وتثبت العادة لمتغيرتها والمبتدأة بقرئين فإن اختلفا فيحكم بالأقل ويغيرها الثالث المخالف وتثبت بالرابع ثم كذلك] .
قوله: باب الحيض: "هو الأذى الخارج من الرحم في وقت مخصوص".
أقول: قد نظر المصنف رحمه الله في هذا الحد إلي ما وقع في القرآن من قوله عز وجل {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] ، وإلي ما ذكره أهل اللغة.
قال الأزهري والهروي وغيرهما الحيض جريان دم المرأة في أوقات معلومة من رحمها بعد بلوغها.
وقد نوقش المصنف في هذا الحد بما يرد عليه فإن المراد التعريف بالوجه لا بالكنه.
قوله: "وأقله ثلاث وأكثره عشر".
أقول: لم يأت في تقدير أقل الحيض وأكثره ما يصلح للتمسك به بل جميع الوارد في ذلك أما موضوع أو ضعيف لمرة والذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تمكث إحداهن الليالي ذوات العدد لا تصلي"، وغاية ما ثبت في ذلك العدد ما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة قال الترمذي حسن صحيح وقال الترمذي عن أحمد والبخاري أنهما صححاه وكذلك نقل ابن المنذر عنهما من حديث حمنة بنت جحش قالت كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم(1/89)
الحديث وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله كما تحيض النساء".
فلو قيل إن أكثر الحيض سبعة أيام لكان لذلك وجه.
قوله: "ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة".
أقول: قد استدل على تعذره قبل دخول المرأة في التاسعة بالإجماع وكذلك استدل بالإجماع على تعذره قبل أقل الطهر بعد أكثر الحيض.
وأما تعذره بعد الستين فاستدل عليه بأنه أكثر ما قيل في مدة الإياس فكان إجماعا.
والحاصل أنه لا دليل على هذه الثلاث الحالات التي يتعذر عندها الحيض لا من كتاب ولا سنة وليس إلا مجرد الاستقراء وذلك أنه لم ينقل أن امرأة حاضت حيضا شرعيا قبل تسع سنين ولا بعد ستين سنة.
وأما أقل الطهر بعد أكثر الحيض فلا خلاف في ذلك بين القائلين بتقدير مدة أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر وكل على أصله.
وأما من لم يقل بذلك التقدير وجعل الاعتبار بصفات الدم لمن لم تتقرر عادتها فهو خارج عن هذا الإجماع المدعي.
وأما الحالة الرابعة وهي حالة الحمل فهي محل الخلاف وقد استدل كل قائل لقوله بما لا يلزم خصمه وقد يقع لبعض النساء الحيض في أيام حملها ولكن القائل بأنها حالة تعذر لا يقول بأن ذلك حيض بل يجعله لفساد عرض للحامل في طبيعتها ولا يخفاك أنه إذا كان متصفا بصفات دم الحيض التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في دم الحيض "إنه أسود يعرف" [أبو دأود "286و304"، النسائي "1/123" و "1/185"] ، كان الظاهر مع من يقول إنه دم حيض وقد سمعنا في عصرنا بوقوع ذلك لكثير من النساء ولا يلزم من القول بأنه دم حيض أن تعتد بالحيض فإن الدليل الخاص قد دل على أن عدة الحامل بوضع الحمل ولا يلزم من ذلك أيضا أن لا يكون الحيض معرفا لخلو الرحم عن الحمل في الاستبراء لأنا نقول هو معرف إذا لم تظهر قرائن الحمل فإن ظهرت لم يكن معرفا لأن كونه معرفا قد عورض بشيء آخر.
وهذه المسألة من المضائق لما يترتب عليها من ترك صلاة المرأة وصيامها على القول بأن ذلك حيض أو فعل الصلاة والصيام واعتدادها بذلك وعدم قضاء الصيام على القول بأنه ليس بحيض وليس في المقام من الأدلة الشرعية ما تسكن إليه النفس سكونا تاما.
قوله: "وتثبت العادة لمتغيرتها" إلي آخره.
أقول: استدلوا على ثبوت العادة بالقرائن بما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة من حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها" [أبو دأود "297"، الترمذي "126"، ابن ماجة"] .
وقد تكلم في إسناد الحديث بما لا يوجب سقوطه عن درجة الاعتبار وله شواهد تقويه(1/90)
قالوا فأمرها بالرجوع في العادة إلي أقرائها والثلاثة الأقراء وإن كانت أقل الجمع عند الجمهور لكن قالوا إن الثلاثة الأقراء غير معتبرة إجماعا فبقي قرآن.
قلت ومما يدل على اعتبار العادة ما أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة أن أم حبيبة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم قالت عائشة فرأيت مركنها ملآن دما فقال لها رسول الله: "امكني قدر ما كانت حيضتك تحبسك ثم اغتسلي" [مسلم "65/334"، أحمد "6/187"، النسائي "1/121"، أبو دأود "279"] ، فهذا وما قبله يدلان على رجوع المستحاضة إلي العادة وأنها معتبرة وأما أنهما يدلان على أن العادة تثبت بقرائن فلا.
لكن قد تقرر في كتب اللغة أن العادة مأخوذة من عاد إليه يعود إذا رجع فدل ذلك على أنه لا يقال عادة إلا لما تكرر وأقل التكرر يحصل بمرتين.
[فصل:
ولا حكم لما جاء وقت تعذره فأما وقت إمكانه فتحيض فإن انقطع لدون ثلاث صلت فإن تم طهرا قضت الفائت وإلا تحيضت ثم كذلك غالبا إلي العاشر فإن جأوزها فأما مبتدأة عملت بعادة قرائبها من قبل أبيها ثم أمها فإن اختلفن فبأقلهن طهرا وأكثرهن حيضا فإن عدمن أو كن مستحاضات فبأقل الطهر وأكثر الحيض.
وأما معتادة فتجعل قدر عادتها حيضا والزائد طهرا إن أتاها لعادتها أو في غيرها وقد مطلها فيه أو لم يمطل وعادتها تتنقل وإلا فاستحاضه كله] .
قوله: فصل: "ولا حكم لما جاء وقت تعذره" الخ.
أقول: قد تقدم ما يفيد هذا وهو قوله ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة إلخ وإذا كان الحيض متعذرا في تلك الحالات كان الخارج غير حيض وما كان غير حيض فلا تثبت له أحكام الحيض وهكذا لا فائدة لقوله فأما وقت إمكانه فتحيض لأن هذا الباب أعني باب الحيض إنما يراد منه ذكر أحكام ما جاء من الحيض في وقت إمكانه وذلك معلوم أنه حيض وله أحكام الحيض وهكذا لا يحتاج إلي قوله فإن انقطع لدون ثلاث صلت وما بعده لأن هذا قد عرف من قوله فيما سبق فصل وأقله ثلاث.
قوله: "فإن جأوزها فأما مبتدأة عملت بعادة قرائبها من قبل أبيها" الخ.
أقول: استدلوا على ذلك بحديث حمنة الذي قدمنا ذكره وهو حديث صحيح وفيه "فتحيضي ستة ايام أو سبعة أيام في علم الله كما تحيض النساء".
قالوا وقرابتها أحق من غيرهن برجوعها إلي عادتهن واعلم أنه قد ورد ما يدل على(1/91)
الرجوع إلي عادة النساء كهذا الحديث وورد ما يدل على الرجوع إلي صفة الدم كحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان دم حيض فإنه أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق" أخرجه أبو دأود والنسائي [أبو دأود "304" و "286"، النسائي "1/123" و "1/185"] ، وصححه ابن حبان والحاكم وورد ما يدل على رجوع المرأة إلي عادة نفسها كحديث أم حبيبة المتقدم قريبا وفيه "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي".
والجمع بين هذه الأحاديث ممكن بأن يقال إن كانت المرأة مبتدأة أو ناسية لوقتها وعددها فإنها ترجع إلي صفة الدم فإن كان بتلك الصفة التي وصفها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دم حيض وإن كان على غير تلك الصفة فليس بحيض فإن لم يتميز لها وذلك بأن يخرج على صفات مختلفة أو على صفة ملتبسة رجعت إلي عادة النساء القرائب فإن اختلفت عادتهن فالاعتبار بالغالب منهن فإن لم يوجد غالب تحيضت ستا أو سبعا كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا كانت غير مبتدأة بل معتادة عارفة لوقتها وعددها رجعت إلي عادتها المعروفة فإن جأوز عادتها رجعت إلي التمييز بصفة الدم فإن التبس عليها قدر عادتها لعارض عرض لها والتبس عليها التمييز بصفة الدم رجعت إلي عادة النساء من قرائبها فإن اختلفن فكما تقدم في المبتدأة.
وبهذا يرتفع الاشكال ويندفع ما كثر وطال من القيل والقال.
[فصل:
ويحرم بالحيض ما يحرم بالجنابة والوطء في الفرج حتى تطهر وتغتسل أو تيمم للعذر وندب أو تعاهد نفسها بالتنظيف وفي أوقات الصلاة أو توضأ وتوجه وتذكر الله وعليها قضاء الصيام لا الصلاة] .
قوله: فصل: "ويحرم بالحيض ما يحرم بالجنابة".
أقول: قد تقدم في باب الغسل بيان ما يحرم بالجنابة فينبغي الرجوع إليه وقد يحرم بالحيض ما لم يحرم بالجنابة كالصيام فإنه يجوز للجنب أن يصبح صائما ويستمر على ذلك حتى يتطهر وسيأتي تحقيق البحث في الصيام بخلاف الحائض فإنه لا يصح صومها بحال.
قوله: "والوطء في الفرج" الخ.
أقول: هذا معلوم بنص القرآن الكريم قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ولا خلاف في تحريم وطء الحائض وقوله: "حتى تطهر" دل عليه قوله تعالي: {حَتَّى(1/92)
يَطْهُرْنَ} وقوله: "وتغتسل" دل عليه قوله تعالي: {فَإذا تَطَهَّرْنَ} وقوله: "أو تيمم للعذر" قد قدمنا الكلام عليه.
قوله: "وندب أن تتعاهد نفسها بالتنظيف".
أقول: غسل النجاسة من البدن والثوب بعمومات القرآن كقوله تعالي: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 4 – 5] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّأبينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، وورد في السنة ما يؤيد ذلك ويؤكده والحائض من جملة من يشمله الخطاب وأما كونه يندب لها أن تتوضأ فليس على ذلك دليل والوضوء عبادة شرعية فلا يشرع لغير ذلك وأما كونها تذكر الله تعالي فذلك داخل تحت العمومات من الكتاب والسنة القاضية بمشروعية الذكر والحائض داخله تحت عمومات الخطاب ولكنها لا تقرأ القرآن كما تقدم الكلام على ذلك.
قوله: "وعليها قضاء الصيام لا الصلاة"
أقول: هذا معلوم بالأدلة الصحيحة وعليه كان العمل في عصر النبوة وما بعده وأجمع عليه سلف هذه الأمة وخلفها سابقها ولاحقها ولم يسمع عن أحد من علماء الإسلام في ذلك خلاف وأما الخوارج الذين هم كلاب النار فليس هم ممن يستحق أن يذكر خلافهم في مقابلة قول المسلمين أجمعين ولا هم ممن يخرج المسائل الإجماعية عن كونها إجماعية بخلافهم وما هذه بأول مخالفة منهم لقطعيات الشريعة والعجب ممن ينصب نفسه من أهل العلم للاستدلال لباطلهم بما لا يسمن ولا يغني من جوع.
[فصل:
والمستحاضة كالحائض فيما علمته حيضا وكالطاهر فيما علمته طهرا ولا توطأ فيما جوزته حيضا وطهرا ولا تصلي بل تصوم أو جوزته انتهاء حيض وابتداء طهر لكن تغتسل لكل صلاة إن صلت وحيث تصلي توضأ لوقت كل صلاة كسلس البول ونحوه ولهما جمع التقديم والتأخير والمشاركة بوضوء واحد وينتقض بما عدا المطبق من النواقض وبدخول كل وقت اختيار أو مشاركة] .
قوله: فصل: "والمستحاضة كالحائض" الخ.
أقول: قد قدمنا لك قريبا ما يدفع تحير المستحاضة ويقطع عرق شكها ويدفع جميع وسوستها.
وإذا عرفت ذلك حق معرفته علمت أنها لا تكون في بعض أحوالها مجوزة لكون دمها حيضا لكونه غير حيض لأنها إذا لم يحصل لها التمييز لصفة الدم رجعت إلي عادتها إن(1/93)
كانت قد استقرت لها عادة أو إلي عادة النساء من قرائبها إن لم تكن قد استقرت لها عادة ومع الاختلاف ترجع إلي غالبهن ومع عدم الغالب تحيض ستا أو سبعا كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ فلا تكون متحيرة أبدا بل هي في استحاضتها على بيان من أمرها ووضوح من حالها.
وبهذا تعرف الكلام على قوله: "ولا توطأ فيما جوزته حيضا وطهرا" إلخ وإذا تقرر لك هذا علمت أن إيجاب الغسل على المستحاضة لكل صلاة مبني على ثبوت اللبس عليها ولا لبس.
وقد وردت أحاديث أكثرها في سنن أبي دأود في غسل المستحاضة وقد صرح جماعة من الحفاظ بانها لا تقوم بها الحجة وعلى فرض أن بعضها يشهد لبعض فهي لا تقوى على معارضة ما في الصحيحين وغيرهما من أمره صلى الله عليه وسلم لها بالغسل إذا أدبرت الحيضة فقط.
والحاصل أن مثل هذا التكليف الشاق لا يجوز الثباته بغير حجة أوضح من الشمس فكيف يجوز إثباته بما هو ضعيف لا تقوم به حجة هذا على تقدير عدم وجود ما يعارضه فكيف وقد عارضه ما هو في الصحة في أعلى المراتب مع مطابقته لما بنيت عليه هذه الشريعة المباركة من التيسير وعدم التعسير والتبشير وعدم التنفير كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" [البخاري "4344 – 4345"، مسلم "71/1773"، أحمد "4/409"] ، وقال: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة" [البخاري "39"، النسائي "8/121"و "8/122"] ، وقال: "بعثت بالشريعة السمحة السهلة".
ومع هذا فإثبات الغسل عليها لكل صلاة أو للصلاتين مبني على التباس الأمر عليها وقد أرشدها الشارع إلي ما يرفعه ويدفعه كما قدمنا فإن أرادت أن تعذب نفسها بالشك والوسوسة فعلى نفسها براقش تجني لأنها مع تمييز دم الحيض من دم الاستحاضة لا تكون إلا حائضا أو غير حائض وعليها ما تستطيع ويدخل في وسعها من تطهير بدنها وثوبها من دم الاستحاضة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وكما أنه ليس في إيجاب الغسل عليها لكل صلاة وللصلاتين ما تقوم به الحجة كذلك لا دليل تقوم به الحجة في إيجاب الوضوء عليها لكل صلاة.
وأما الحكم عليها بأنه ينتقض وضوءها بدخول كل وقت اختيار أو مشاركة فمن التسأهل في إثبات الأحكام الشرعية لمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة.
[فصل:
والنفاس كالحيض في جميع ما مر وإنما يكون بوضع كل الحمل متخلقا عقيبه دم ولا حد لأقله وأكثره أربعون فإن جأوزها فكالحيض جأوز العشر ولا يعتبر الدم في انقضاء العدة به] .(1/94)
قوله: "فصل والنفاس كالحيض" الخ.
أقول: هذا صحيح وأما اشتراك أن يكون متخلقا عقيبه دم فإن كان النفاس معنى شرعي يفيد هذا الاشتراط فذاك وإن لم يكن له معنى شرعي فالمرجع لغة العرب فإن ثبت فيها ما يدل على ذلك كان لهذا الاشتراط وجه وإلا فلا.
قوله: "وأكثره أربعون يوما"
أقول: قد تعاضدت الأحاديث الواردة بالأربعين وفي بعضها "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت للنساء في نفاسهن أربعين يوما" أخرجه الحاكم وصححه وأخرجه البيهقي من طريق أخرى.
وقد ذكرنا في شرح المنتقى ما ورد في الباب وأما تضعيف من ضعف حديث أم سلمة بمسة الأزدية والقول بأنها مجهولة فلا نسلم جهالة عينها فقد روي عنها كثير بن زياد والحكم بن عتيبة وزيد بن علي بن الحسين بن علي وغيرهم وقد أثنى على حديثها البخاري وصحح الحاكم إسناده فالقول بأن أكثر أيام النفاس أربعون يوما هو أعدل الأقوال وأحسنها فإذا رأت الطهر قبل ذلك طهرت وإن لم تره فهي نفساء حتى تنقضي الأربعون ثم لا حكم لما خرج من الدم بعد ذلك.(1/95)
كتاب الصلاة
مدخل
...
كتاب الصلاة
[فصل
يشرط في وجوبها عقل وإسلام وبلوغ باحتلام أو إنبات أو مضي خمس عشرة سنة أو حبل أو حيض والحكم لأولهما.
ويجبر الرق وابن العشر عليها ولو بالضرب كالتأديب] .
قوله: فصل: "يشترط في وجوبها عقل".
أقول: للإجماع على أن الصلاة وغيرها من الحكام التكليفية لا تجب على المجنون وحديث "رفع القلم عن ثلاث" [أبو دأود "4398"، النسائي "3432"، ابن ماجة "2041"] ، قد روى من طرق يقوى بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فمن لا يكون عاقلا لا يتوجه إليه خطاب الشرع ما دام غير عاقل فلا يجب عليه الصلاة فجعل العقل شرطا للوجوب صحيح وهو مطابق لما ذكره أهل الأصول في حقيقة الشرط أنه ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده لأن الصلاة لا توجد بوجود نفس العقل وإن وجد مجرد طلبها منه وإيجابها عليه وهي تنتفي(1/95)
بانتفاء العقل أعني الصلاة الشرعية فلا تجب على غير عاقل ولا تطلب منه.
وأما جعله للإسلام شرطا للوجوب فمخالف لما هو متقرر عنده وعنده من يقول بخطاب الكفار بالشرعيات وقد حكى بعض أهل الأصول أن ذلك إجماع أعني كونها واجبة عليهم وأنهم يعاقبون على تركها في الآخرة.
وأما جعله البلوغ شرطا للوجوب فحق للأدلة الدالة على رفع قلم التكليف عن الصبيان وللإجماع على ذلك وكونه يحصل باحد الأسباب التي ذكرها صواب أيضا.
واعلم أن الجلال رحمه الله قد جاء في شرحه في هذه الشروط والعلامات بمناقشات للمصنف خرجت به إلي خلاف الإجماع في غير موضع بل إلي خلاف ما هو معلوم بضرورة الشرع فلا نطيل الكلام معه في ذلك فإن بطلان ما ذكره لا يخفى على عارف وقد اعترضه الأمير رحمه الله في حاشيته بما يكشف بعض قناع ما لفقه من الهذيان الذي لم يجر على شرع ولا عقل.
قوله: "ويجبر الرق وابن العشر عليها ولو بالضرب كالتأديب".
أقول: أما الرق المحكوم له بالإسلام فإجباره على فعل الصلاة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيده أخص الناس بإجباره على ذلك وقد ورد الشرع بأنه يحده سيده إذا ارتكب ما يوجب حدا فهكذا يجبره سيده إذا ترك واجبا من غير فرق بين الصلاة وغيرها.
وأما ابن العشر فقد ورد النص بذلك وأما الاستشكال بانه كيف يضرب وهو غير مكلف فنقول المكلف بذلك وليه والشرع قد أباح ضربه لذلك كما يباح ضربه إذا أراد الإقدام على قتل من لا يجوز قتله أو أخذ ماله.
وأما قوله: "وكالتأديب" فإن أراد أن التأديب أصل وإجباره على الصلاة فرع فباطل وإن أراد تنظير أحد الأمرين بالآخر فلم يرد ما يدل على كون هذا التأديب مندوبا فضلا عن كونه واجبا.
[فصل
"وفي صحتها ستة: الأول: الوقت وطهارة البدن من حدث ونجس ممكني الإزالة من غير ضرر. الثاني: ستر جميع العورة في جميعها حتى لا ترى إلا بتكلف وبما لا يصف ولا تنفذه الشعرة بنفسها.
وهي من الرجل ومن لم ينفذ عتقه الركبة إلي تحت السرة ومن الحرة غير الوجه والكفين وندب للظهر والهبرية والمنكب.
الثالث: طهارة كل محمولة وملبوسة وإباحة ملبوسة وخيطه وثمنه المعين وفي(1/96)
الحرير الخلاف فإن تعذر فعاريا قاعدا موميا أدناه فإن خشي ضررا أو تعذر الإحتراز صحت بالنجس لا الغصب إلا لخشية تلف وإذا التبس الطاهر بغيره صلاها فيهما وكذا ماءان مستعمل أو نحوه فإن ضاقت تحرى وتكره في كثير الدرن وفي المشبع صفرة وحمرة وفي السرأويل والفرو وحده وفي جلد الخز.
الرابع: إباحة ما يقل مساجده ويستعمله فلا يجزىء قبر وسابله عامره ومنزل غصب إلا لملجىء أحدهما ولا ارض هو غاصبها وتجوز فيما ظن إذن مالكه وتكره على تمثال حيوان كامل إلا تحت القدم أو فوق القامة وبين المقابر ومزاحمة نجس لا يتحرك بتحركه وفي الحمامات وعلى اللبود ونحوها.
الخامس: طهارة ما يباشره أو شيئا من محموله حاملا لا مزاحما وما يتحرك بتحركه مطلقا وإلا أومأ لسجوده
السادس تيقن استقبال عين الكعبة أو جزء منها وإن طلب إلي آخر الوقت وهو على المعاين ومن في حكمه وعلى غيره في غير محراب الرسول صلى الله عليه وسلم الباقي التحري لجهتها ثم تقليد الحي ثم المحراب ثم حيث يشاء آخر الوقت.
ويعفى لمتنفل راكب في غير المحمل ويكفي مقدم التحري على التكبيرة إن شك بعدها أن يتحرى أمامه وينحرف ويبني ولا يعيد المتحري المخطىء إلا في الوقت إن تيقن الخطأ كمخالفة جهة إمامه جأهلا.
ويكره استقبال نائم ومحدث ومتحدث وفاسق وسراج ونجس في القامة ولو منخفضة.
وندب لمن في الفضاء اتخاذ سترة ثم عود ثم خط"] .
قوله: "وفي صحتها ستة الأول الوقت".
أقول: اعلم أن الأسباب والشروط والموانع من أحكام الوضع والمرجع في حقائقها إلي ما دونه أئمة الأصول لأن البحث أصولي وقد ذكر أهل الأصول في ذلك ما اصطلحوا عليه فقالوا الشرط ما يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يؤثر وجوده في وجوه كالوضوء فإنه شرط للصلاة يؤثر عدمه في عدمها فلا تصح بغير وضوء ولا يؤثر وجوده في وجودها فإنه لا يؤثر مجرد فعل الوضوء في وجود الصلاة.
وأما السبب فهو ما يؤثر وجوده في وجود المسبب وعدمه في عدمه.
وإذا عرفت هذا علمت أن الوقت سبب لا شرط لأنه يؤثر وجوده في وجود المسبب وهو إيجاب فعل الصلاة ويؤثر عدمه في عدمه فإنها لا تجب الصلاة قبل دخول وقتها.(1/97)
وذكر بعض أهل الأصول في حقيقة السبب أنه ما يؤثر وجوده في وجود المسبب ولا يؤثر عدمه في عدمه.
قوله: "وطهارة البدن من حدث ونجس ممكن الإزالة".
أقول: قد عرفناك ان الشرط هو ما يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يؤثر وجوده في وجوده فلا يثبت إلا بدليل يدل على أن المشروط يعدم بعدمه وذلك أما بعبارة مفيدة لنفي الذات والصحة مثل أن تقول لا صلاة لمن لا يفعل كذا أو لمن فعل كذا أو تقول لا تقبل صلاة من فعل كذا أو من لا يفعل كذا ولا تصلح صلاة من فعل كذا أو من لم يفعل كذا وأما مجرد الأوامر فغاية ما يدل عليه الوجوب والواجب ما يستحق فاعله الثواب بفعله والعقاب بتركه وذلك لا يستلزم أن يكون ذلك الواجب شرطا بل يكون التارك له آثما وأما أنه يلزم من عدمه العدم فلا.
وهكذا يصح الاستدلال على الشرطية بالنهي الذي يدل على الفساد المرادف للبطلان إذا كان النهي عن ذلك الشيء لذاته أو لجزئه لا لأمر خارج عنه.
إذا عرفت هذا علمت أن طهارة البدن من الحدثين شرط الصلاة لوجود الدليل المفيد للشرطية وأما طهارته من النجس فإن وجد دليل يدل على أنه لا صلاة لمن صلى وفي بدنه نجاسة أو لا تقبل صلاة من صلى وفي بدنه نجاسة أو وجد نهى لمن في بدنه نجاسة أن يقرب الصلاة وكان ذلك النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان صح الاستدلال بذلك على كون طهارة البدن عن النجاسة شرطا لصحة الصلاة وإلا فلا وليس في المقام ما يدل على ذلك فإن حديث الأمر بالإستنزاه من البول وأن عامة عذاب القبر منه ليس فيه إلا الدلالة على وجوب الاستنزاه فيكون المصلي مع وجود النجاسة في بدنه آثما ولا تبطل صلاته.
قوله: "الثاني ستر جميع العورة".
أقول: الأدلة الصحيحة قد دلت على وجوب ستر العورة في الصلاة وفي غيرها ولكن هذا الدليل الدال على الوجوب لا يدل على الشرطية كما عرفناك وأما ما ورد من "أن الله لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار" [أبو دأود "641"، الترمذي "377"، أحمد "6/150، 218، 259"، ابن ماجة"655"] ، ونحوه قد عورض بما ورد من نفي قبول صلاة شارب الخمر وصلاة الآبق مع أنها تصح صلاتهما ولا وجه لهذه المعارضة لأن نفي القبول يستلزم نفي الصحة فإن ورد دليل يدل على صحة صلاة من ورد الدليل بأن الله لا يقبل صلاته كان ذلك مخصصا له فيكون نفي القبول في حقه مجازا عن عدم توفير الثواب.
قوله: "وهي من الرجل ومن لم ينفذ عتقه الركبة إلي تحت السرة".
أقول: العورة ينبغي الرجوع في تحقيقها وتقديرها إلي ما ورد في الشرع فإن ثبت ذلك في الشرع وجب تقديمه والرجوع إليه لأن الحقيقة الشرعية مقدمة على غيرها.
وإن لم تثبت في ذلك حقيقة شرعية وجب الرجوع إلي معناها وتقديرها عند أهل اللغة(1/98)
لوجوب حمل كلام الشارع على اللغة إذا لم يتقرر في ذلك عرف شرعي.
وقد اتفق الشرع واللغة على أن القبل والدبر عورة من الرجل وزاد الشرع على الفخد فأخرج أبو دأود وابن ماجة والحاكم والبزاز من حديث علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلي فخذ حي ولا ميت" وفي إسناده ابن جريج عن حبيب بن أبي ثابت ولم يسمع منه قال أبو حاتم في العلل إن الواسطة بينهما الحسن بن ذكوان وفيه علة أخرى وهي أن حبيبا رواه عن عاصم ولم يسمع منه.
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه عن محمد بن جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" ورجاله رجال الصحيح غير أبي كثير وقد روي عنه جماعة وأخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه تعليقا.
وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" [الترمذي "2796"] ، وفي إسناده يحيى القتات وفيه ضعيف.
وأخرج أحمد وأبو دأود والترمذي عن جرهد الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "غط فخذك فإن الفخذ عورة" [أحمد "3/478"، أبو دأود "4014"، الترمذي "2798"] ، وصححه ابن حبان وعلقه البخاري في صحيحه.
فهذه الأحاديث قد دلت على أن الفخذ عورة وإليه ذهب الجمهور وذهب أحمد ومالك في رواية عنه أهل الظاهر وابن جرير والإصطخري إلي أن العورة القبل والدبر وتمسكوا بأحاديث فيها دلالة على أن الفخذ ليس بعورة وذلك كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كشف فخذه في خيبر وحديث أنه كان كاشفا لفخذه ثم لما دخل عثمان غطاها ولا يصلح مثل ذلك لمعارضة هذه الأحاديث.
أما الأول فقد اختلفت فيه الروايات هل هو الذي حسر الثوب عن فخذه أو انحسر الثوب بنفسه وأيضا تلك الحالة حالة حرب يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها.
وأما الحديث الثاني فيمكن أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد كشفه ولهذا غطاه وليس بعد التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن الفخذ عورة شيء.
ولم يثبت ما يدل على أن الركبة عورة بل ورد ما يدل على انها ليست بعورة كما في حديث "إذا زوج أحدكم خادمته عبده أو أجيره فلا ينظرن إلي ما دون السرة وفوق الركبة" [أبو دأود "4113 و 4114"] ، أخرجه أبو دأود وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قوله: "ومن الحرة غير الوجه والكفين".
أقول: قد دل الدليل على أن هذا يجب عليها ستره من الرجال ولا يجوز لهم النظر إليه وأما كون صلاتها لا تصح إذا كانت خالية أو مع النساء أو مع زوجها أو محارمها فغير مسلم وغاية ما ورد في ذلك حديث "إن الله لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار" كما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث عائشة فقد أعل بالوقف قال الدارقطني الوقف أشبه(1/99)
وأعل أيضا بالإرسال كما قال الحاكم وغايته أنها لا تصح صلاتها إلا بستر رأسها لأن الخمار هو ما يستر به الرأس وليس فيه زيادة على ذلك.
وأما حديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أتصل المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار فقال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" [أبو دأود "640"] ، أخرجه أبو دأود والحاكم وقد أعل بالوقف قال ابن حجر وهو الصواب قال أبو دأود روى هذا الحديث مالك بن أنس وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحق عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة ولم يذكر واحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم يروونه عن أم سلمة انتهى.
فهذا الحديث لا تقوم به حجة لكونه من قول أم سلمة ولو سلمنا أن العمل على رواية من رفعه كما يقوله أهل الأصول فلا أقل من ان يكون هذا التفرد علة تمنع من انتهاضه للحجية.
قوله: "وندب للظهر والهبربة والمنكب".
أقول: لا دليل على ذلك فإن الندب حكم شرعي لا يجوز إثباته إلا بدليل وقد استدل على ندب ستر الظهر والمنكب بحديث أبي هريرة مرفوعا: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" [البخاري "359"، مسلم "516"، أبودأود "626"، النسائي 770"] . وهو في الصحيحين وغيرهما والعاتق هو ما بين المنكبين إلي أصل العنق فليس فيه دليل على ستر الظهر وأيضا ليس المقصود من الحديث ستر المنكبين بل المراد منه أن يأمن من استرخاء الثوب وسقوطه وقد ثبت ما يفيد هذا المعنى من حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب واحد فليخالف بطرفيه" [البخاري "360"، أبو دأود "628"] ، فليس المراد بالمخالفة إلا ما ذكرنا لا الستر للمنكب.
وأيضا قد ثبت من حديث جابر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليت في ثوب واحد فإن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به" [البخاري "1/472"، مسلم "3010"، أب دأود "634"] .
ويالله العجب من جعل ستر الهبريتين مندوبا فإنه لم يكن ذلك من رأي مستقيم فضلا عن أن يكون عن دليل.
قوله: "الثالث طهارة محموله وملبوسه"
أقول: قد قدمنا لك أن الشرطية التي يستلزم انتفاؤها انتفاء المشروط لا تثبت إلا بدليل خاص وهو ما قدمنا في طهارة البدن ولم يأت في طهارة الثياب حال الصلاة إلا ما غايته الأمر بالطهارة وذلك لا يستلزم الشرطية أصلا فجعل طهارة المحمول والملبوس شرطا من شروط الصحة ليس كما ينبغي.
وأشف ما استدلوا به حديث "أنه صلى الله عليه وسلم خلع نعله في الصلاة لما أخبره جبريل بأن فيها قذرا" [أحمد 3/20، 90"، أبو دأود "650"] ، ولا يخفاك أن هذا مجرد فعل يقصر عن الدلالة على الوجوب فضلا عن الدلالة على الشرطية.(1/100)
ثم القائل بأن طهارة الثياب ليست بشرط هو أحق بالإستدلال بهذا الحديث لأنه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعله وبنى على ما قد فعله من الصلاة قبل خلعه فلو كان وجود النجاسة والملبوس والمحمول يوجب بطلان الصلاة لما بنى صلى الله عليه وسلم على ما قد كان صلى.
قوله: "وإباحة ملبوسه وخيطه وثمنه المعين"
أقول: تخصيص الملبوس باشتراط الحل والإباحة دون المحمول مبني على اصطلاح وقع للمشتغلين بالفقه في هذه الديار وهو خطأ وقد بني عليه الخطأ.
ولا بد من ان يكون ما دخل به المصلى في صلاته مما يجعله على بدنه كائنا ما كان حلالا فإن كان مغصوبا أو بعضه فعليه إثم الغصب وأما أنها لا تصح الصلاة فيه فمبني على ورود دليل يدل على ذلك نعم قد انضم إلي إثم النصب إثم دخوله في الصلاة بما هو مأمور بخلافه وإذا صح حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد بلفظ "من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله عز وجل له صلاته ما دام عليه" [أحمد "98"] ، ثم أدخل إصبعه في أذنيه وقال صمتا إن لم أكن سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا على عدم صحة صلاة من كان عليه شيء غير حلال وأما ما قيل إن ذلك تشديد كسائر ما ورد فيه الوعيد بنفي القبول من العاصي فمردود بل الواجب علينا تفسير نفي القبول بالمعنى الظاهر العربي.
وإذا ورد ما يدل على صحة صلاة من ورد النص بنفي قبولها منه كان ذلك مخصصا له من العموم كما تقدم.
قول: "وفي الحرير خلافة".
أقول: من قال بتحريم لبسه مطلقا كان لبسه في حال الصلاة أحق بالتحريم لأنه دخل في عبادة الرب سبحانه لابسا ما حرمه وتوعد على لبسه فعليه إثم فاعل المحرم وعقوبته وأما أن صلاته تبطل فهذا يحتاج إلي دليل يدل على ذلك ولا يدل على ذلك إلا ما كان مفيدا لنفي صحة صلاة من صلى لابسا للحرير كما قدمنا بيان ذلك في أول هذا الفصل.
قوله: "فإن تعذر فعاريا قاعدا موميا أدناه".
أقول: قد جعل الله في الأمر سعة وفي الشريعة الواردة باليسر ما يخفف الخطب على هذا الذي لم يجد ما يستر به عورته إلا ما كان متنجسا فيدخل في الصلاة على تلك الهيئة المنكرة كاشفا سوءته ثم يترك بعض أركانها ولا شك أن الصلاة بالثوب المتنجس أهون من ذلك فتكون الصلاة في هذه الحالة في الثوب المتنجس عفوا للضرورة وللوقوع فيما هو أشد مما فر منه وقد جاز أكل الميتة عند عدم وجود ما يسد الرمق والشريعة مهيمنة على رعاية المصالح ودفع المفاسد والمعأدلة بين المفاسد إذا كان ولا بد من الوقوع في واحد منها.
وهكذا تجوز الصلاة في الثوب المغصوب إذا كان لا يجد غيره من ثياب ولا شجر يستر عورته وقد اجاز الله مال الغير لسد الرمق وهذا مع عدم خشية الضرر فأما مع خشية التلف فالأمر أوضح ولا وجه للتقيد بخشية التلف وهكذا.(1/101)
ولا وجه لقوله: "وإذا التبس الطاهر بغيره صلى فيهما"
بل يكون اللبس مع عدم وجود غيرهما مسوغا للصلاة بأحدهما للضرورة وأما الصلاة فيهما فذلك يستلزم مفسدة عظيمة ورد النهي عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلي صلاة في يوم مرتين" [أحمد "2/19 و 41"، النسائي "2/114"، أبو دأود "579"] ، وقوله: "لا ظهران في يوم" والحديثان صحيحان.
وأما التباس الماء الطاهر بالمتنجس فيعدل إلي التيمم لأن عدم تميز الطاهر كعدمه فهو غير واجد لماء يرفع به الحدث.
قوله: "وفي المشبع صفرة وحمرة".
أقول: هذا المقام من المعارك والحق أنه يتوجه النهي عن المعصفر إلي نوع خاص من الأحمر وهو المصبوغ بالعصفر لأن العصفر يصبغ صباغا أحمر فما كان من الأحمر مصبوغا بالعصفر فالنهي متوجه إليه وما كان من الأحيمر غير مصبوغ بالعصفر فليس جائزا وعليه يحمل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لبس الحلة الحمراء وقد أطلنا الكلام في شرحنا للمنتفى على هذا البحث وذكرنا الأحاديث المختلفة والكلام عليها والجمع بينها فليرجع إليه.
وأما المشبع صفرة فلا يستدل على المنع عن لبسه بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من النهي عن لبس المعصفر لما قدمنا لك من أن المصبوغ بالعصفر يكون أحمر لا أصفر وهذا معلوم لا شك فيه ولم يرد ما يدل على تحريم الأصفر دلالة يجب المصير إليها ولا سيما وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صبغ بالصفرة ووقع التصريح في بعض الروايات بأنه صبغ بها لحيته وثيابه وكان ابن عمر يفعل ذلك اقتداء به صلى الله عليه وسلم.
قوله: "وفي السرأويل والفرو وحده"
أقول: أما السرأويل فقد أخرج أحمد والطبراني بسند رجاله ثقات من حديث أبي أمامة قال: قلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون فقال رسول الله: "تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب" [أحمد (5/264) ] وفي هذا الأذن بلبس السرأويل وهو يستر العورة سترا فوق ستر المئزر وقد وقع الخلاف هل لبسه النبي صلى الله عليه وسلم أم لا مع ثبوت أنه اشتراه وقد ذكرت ما ورد في ذلك في شرحي للمنتقى وقد استدلوا على الكراهة في الصلاة فيه وحده بما رواه أبو دأود عن بريدة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف يتوشح به وأن يصلي في سرأويل ليس عليه رداء" [أبو دأود "636"، وفي إسناده أبو نميلة يحيى بن واضح الأنصاري المروزي وأبو المسيب عبيد الله بن عبد الله العتكي المروزي وفيهما مقال خفيف جدا وقد وثقا وأخرجه أيضا الحاكم ورمز السيوطي لصحته فكان هذا الحديث صالحا للاحتجاج به على الكراهة في السرأويل وحده.
وأما الكراهة في الفرو وحده فاستدلوا على ذلك بأنه مظنة لانكشاف العورة ولكن هذه المظنة ترتفع بأن يربطه بخيط أو يزره بشوكة ولعلهم لا يخالفون في زوال الكراهة بهذا.(1/102)
قوله: "وفي جلد الخز"
أقول: قد أنكر بعض المتكلمين على هذا الكتاب وجود دابة تسمى الخز وقال إنه بحث في القاموس وغيره من كتب اللغة وبحث حياة الحيوان فلم يجد ذلك وفيه نظر فإنه قال في المصباح ما لفظه الخز اسم دابة ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها وقال الشيخ دأود في التذكرة في الطب ما لفظه الخز ليس هو الحرير كما ذكره ما لا يسع بل هو دابة بحرية ذات قوائم أربع في حجم السنانير ولونها إلي الخضرة يعمل من جلدها ملابس نفيسة يتدأوى بها ملوك الصين حارة يابسة في الشاتيه ينفع من النقرس والفالج وضعف الباءة والأمراض البلغمية ووبرها يبرىء الجراح ويقطع الدم وضعا ويسد الفتوق أكلا ولبسها يبرىء الجذام والحكة انتهى.
فعرفت بهذا اندفاع الاعتراض على المصنف ولكن لا وجه للقول بالكراهة لأن الأصل الحل على ما هو الحق ولا سيما إذا كان هذا الحيوان بحريا لما ورد في خصوص حيوانات البحر من كون ميتها حلالا.
قوله: "الرابع إباحة ما يقل مساجده ويستعمله"
أقول: لا شك أن من صلى في مكان مغصوب أو استعمل شيئا مغصوبا فقد فعل محرما ولزمه إثم الحرام وأما كون ذلك يمنع من صحة الصلاة فلا بد فيه من دليل خاص كما قدمنا تحقيقه وما قيل من انه عصي بنفس ما به أطاع فغير مسلم ولو سلم لم يكن دليلا على عدم صحة الصلاة المفعولة في المكان الغصب.
قوله: "فلا يجزىء قبر وسابلة".
أقول: استدلوا على هذا بحديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله" رواه عبد بن حميد في مسنده والترمذي ["346"] ، وابن ماجة ["746"] قال الترمذي وإسناده ليس بذاك القوي وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظة وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد والعمري ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه انتهى كلام الترمذي.
قال البخاري وابن معين زيد بن جبيرة متروك وقال أبو حاتم لا يكتب حديثه وقال النسائي ليس بثقة وصحح الحديث ابن السكن وإمام الحرمين.
فأما إمام الحرمين فليس من أهل هذا الشأن وأما ابن السكن فكيف يصحح ما كان في إسناده متروك.
ولكنه قد ورد في القبر ما تقوم به الحجة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما [مسلم "98/972"، أبو دأود "3229"، الترمذي "1050"] ، من حديث أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلي القبور ولا تجلسوا عليها" وأخرج أحمد ["3/183" و96"] ، وأبو(1/103)
دأود ["492"] ، والترمذي ["317"] ، وابن ماجة ["745"] ، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" وأخرج مسلم ["23/532"] ، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وورد في الحمام غير حديث ابن عمر المشتمل على السبعة المواطن وهو حديث أبي سعيد المذكور قبل هذا.
وورد في أعطان الإبل ما أخرجه أحمد ["2/491"] ، والترمذي ["348"] ، وصححه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل".
وكان على المصنف ومن تابعه أن يذكروا مع القبر والطريق بقية تلك المواطن السبعة.
قوله: "ومنزل غصب إلا لملجىء ولا أرض هو غاصبها".
أقول: قد أغنى عن هذا قوله: "وإباحة ما يقل مساجده" فإنه يفيد المنع من الصلاة في المنزل الغصب وفي الأرض الغصب ولا وجه لتقييد أرض الغصب بكون المصلي هو غاصبها فلا فرق أن يغصبها هو أو يغصبها غيره لأن جميع ذلك غير مباح للمصلي ولا حلال له.
وأما جواز الصلاة في الأرض التي يظن إذن مالكها فليس بصحيح لأن الظن لا يحلل مال الغير ولا يجوز به استعماله.
قوله: "وتكره على تمثال حيوان كامل".
أقول: قد وردت الأدلة الصحيحة القاضية بتحريم التصوير والنهي عنه وشدة الوعيد عليه وورد ما يدل على تغييره وعدم تركه في البيوت ومن ترك ذلك فقد ترك ما عليه من إنكار المنكر ولزمه من الإثم ما يلزم تارك المنكر وأما الصلاة عليه أو في المكان الذي هو فيه فلم يأتنا الشارع في ذلك بشيء ولعله وجه استثناء ما تحت القدم ما أخرجه أبو دأود والترمذي من حديث أبي هريرة "أن جبريل عليه السلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من القرام الذي في بيت عائشة وسادتين توطآن" [أحمد "2/305" و 478"،أبو دأود "4158"، الترمذي "2807"] .
قوله: "وبين المقابر"
أقول: قد قدمنا الأدلة الصحيحة القاضية بالنهي عن الصلاة إلي القبر والنهي عن الصلاة في المقبرة وهي طية بين المقابر ولا وجه للفرق بين الصلاة على القبر والصلاة بين المقابر وجعل الأول مما لا يجزىء الصلاة وجعل الثاني مكروها فقط بل الكل منهي عنه ممنوع منه وإن كان في الصلاة على نفس القبر زيادة على الصلاة إليه والصلاة بين المقابر ولكن هذه الزيادة لم يعتبرها الشارع بل نهى عن الصلاة في المقبرة وذلك أعم من أن تكون الصلاة على نفس القبر أو بينه وبين قبر آخر أو إلي قبر إذ يصدق على الجميع أنه فعل الصلاة في المقبرة.
وإذا عرفت هذا علمت أنه كان يغني المصنف أن يقول: "ولا يجزىء في مقبرة" ويحذف ذكر بين المقابر.(1/104)
قوله: "ومزاحمة نجس لا يتحرك بتحركه"
أقول: لا وجه للحكم بكراهة ذلك حيث لم يكن مما يتحرك بتحرك المصلي فإنه منفصل عنه فلا تحريم ولا كراهة وإن كان متصلا به أو يتحرك بتحركه فلا وجه لجعله مكروها فقط على مذهب المصنف بل هو محرم ولا تجزىء الصلاة معه فعرفت بهذا أنه لا وجه لذكر هذا ولا حاجة إليه على كل تقدير.
قوله: "وفي الحمام".
أقول: قد تقدم أن الحمام أحد السبعة المواطن التي ورد النهي عن الصلاة فيها وورد أيضا ذكر الحمام في حديث آخر كما سلف فلا وجه لجعل الصلاة على القبر وفي الطريق مما لا تجزىء الصلاة فيه وجعل الحمام مما تكره الصلاة فيه فقط فإن هذا تلاعب بالأدلة على غير صواب ولم يرد ما يصرف النهي عن الصلاة في الحمام إلي مجرد الكراهة حتى يكون ذلك وجها لكلام المصنف.
وينبغي النظر فيما يصدق عليه مسمى الحمام فالظاهر أنه الذي يغتسل فيه ويوقد عليه فلا يدخل في ذلك الصلاة في مكان منفرد عنه كالمكان الذي يسميه الناس المخلع.
قوله: "وعلى اللبود ونحوها".
أقول: ليس على هذا أثارة من علم أصلا ولا يحتاج إلي التبرع بالأدلة الدالة على خلافه فإن ذلك إنما يكوى عند أن يكون في المسألة اشتباه وأما هذه فليست بهذه المنزلة وما هذه بأولة مسألة لم يدل عليها دليل ومن غرائب الأكابر من أهل العلم أنه روى ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهما قالا الصلاة على الطنفسة وهي البساط الذي تحته خمل محدثة وعن جابر بن زيد أنه كان يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض وعن عروة بن الزبير أنه كان يكره أن يسجد على شيء دون الأرض وهذه المقالة من هؤلاء لا مستند لها إلا مجرد الوسوسة والشكوك الخالية عن الدليل.
وأما الإمامية وإن كانوا ليسوا بأهل للكلام معهم فمنعوا من صحة الصلاة على ما لم يكن أصله من الأرض
قوله: "الخامس طهارة ما يباشره". الخ.
أقول: جعل المصنف رحمه الله طهارة ملبوس المصلي ومحموله شرطا مستقلا كما سبق وجعل طهارة المكان الذي يصلي فيه شرطا آخر كما هنا وجعل طهارة البدن شرطا مستقلا كما تقدم وهذا تطويل وتكثير وشغلة للحيز فإنه جعل شروط الصحة ستة ثم جعل طهارة البدن والملبوس والمكان ثلاثة منها وكان يغنيه عن هذا كله أن يقول طهارة بدن المصلى وثيابه ومكانه ويجعل ذلك شرطا واحدا.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الكلام هنا كالكلام على طهارة البدن والثياب فإنهم لم يستدلوا(1/105)
على طهارة المكان إلا بمثل قوله تعالي: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] الآية وبقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] وقد عرفناك أن الشرط لا يثبت إلا بدليل خاص وأن دليل الوجوب لا يثبت به الشرطية وفيما أسلفناه كفاية فارجع إليه.
قوله: "السادس: تيقن استقبال عين الكعبة أو جزء منها".
أقول: قال الله تعالي: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، وشطره سواء كان جهته أو نحوه أو تلقاءه أو قبله على اختلاف تفاسير السلف للشطر يدل على أن استقبال الجهة يكفي من الحاضر والغائب إلا إذا كان حال قيامه إلي الصلاة معاينا للبيت لم يحل بينه وبينه حائل إلا إذا كان في بعض بيوت مكة أو شعابها أو فيما يقرب منها وكان بينه وبين البيت حائل حال القيام إلي الصلاة فإنه لا يجب عليه أن يصعد إلي مكان آخر يشاهد منه البيت بل عليه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام وليس عليه غير ذلك ولم يأت دليل يدل على غير هذا.
وأما ما أخرجه البيهقي في سننه عن ابن عباس مرفوعا "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي" فمع كونه ضعيف الا ينتهض للاحتجاج به هو أيضا دليل على ما ذكرنا لأن من كان في المسجد فهو معاين المبيت ولا حائل بينه وبينه وقد جعل البيت قبلة لأهل الحرم وذلك يدل على أنه لا يجب على أهل الحرم إلا استقبال الجهة وأما غيرهم فذلك ظاهر. والمراد ما بين المشرق والمغرب فإذا توجه إلى جهة التي بينهما فقد فعل ما عليه لحديث "ما بين المشرق والمغرب قبلة" أخرجه الترمذي [342,343] وابن ماجه [1011] من حديث أبي هريرة وأخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر ولا يحتاج المصلي أن يرجع في أمر القبلة إلي تقليد أحد من الأحياء ولا إلي المحاريب المنصوبة في المساجد فمحرابه ما بين المشرق والمغرب. وكل عاقل يعرف جهة المشرق والمغرب ولا يخفى ذلك إلا على مجنون أو طفل.
قوله: "ويعفى لمتنفل راكب"
أقول: قد دلت على هذا الأدلة الصحيحة الثابتة في الصححيحين وغيرهما إلا أن قوله: "في غير المحمل" إن كان وقوفا مع النص وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الاستقبال لراكب الدابة إذا أراد أن يتنفل فلا شك أن الأمر كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر من كان راكبا في محمل وإن كان يصدق عليه أنه راكب للدابة وإن كان لكون من في المحمل يمكنهم الاستقبال فهذا مسلم وغيره مثله فإنه إذا تمكن الراكب من الاستقبال استقبل سواء كان في محمل أو في غير محمل وإن كان لا يتمكن من الاستقبال كان له أن يتنفل إلي غير القبلة سواء كان في محمل أو في غيره فلا وجه لهذا الاستثناء.
قوله: "ولا يعيد المتحري المخطىء إلا في الوقت".
أقول: حديث السرية يرد ذلك وهو ما أخرجه أبو دأود الطيالسي وعبد بن حميد(1/106)
والترمذي وضعفه ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم والعقيلي وضعفه أيضا الدارقطني وابو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن عامر بن ربيعة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه فلما اصبحنا إذا نحن قد صلينا إلي غير القبلة فقلنا يا رسول الله صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله سبحانه {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، فقال: "مضت صلاتكم".
وأخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم تعرف القبلة فقالت طائفة منا القبلة ها هنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطا وقال بعضنا القبلة ها هنا من الجنوب فصلوا وخطوا خطوطا فلما اصبحوا وطلعت االشمس اصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت فأنزل الله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس بسند ضعيف نحوه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء نحوه
فهذه الأحاديث تدل على عدم وجوب الإعادة على المخطىء لا في الوقت ولا بعده وحديث أهل قباء المتفق عليه [البخاري "403 و 4491 و 4494 و 7151"، النسائي "2/61"، أحمد "2/16، 26، 105"، الترمذي "341"] ، أنهم كانوا في حال الصلاة مستقبلين بيت المقدس فلما سمعوا خبر المخبر لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استقبل الكعبة استداروا إلي الكعبة وقررهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يأمرهم بالإعادة مع أنهم قد صلوا بعض الصلاة إلي غير القبلة.
قوله: "ويكره استقبال نائم ومحدث ومتحدث".
أقول: استدلوا على ذلك بما رواه في جامع الأصول عن كتاب رزين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا خلف النيام ولا المتحلقين ولا المتحدثين"، وقد عرفناك أن ما تفرد به رزين لا يجوز العمل به ولا يصلح للاحتجاج لأنه جعل كتابه لجمع ما في الست الأمهات ثم ذكر أحاديث ليست فيها ولا يعرف من خرجها من غيرهم وقد زعم بعضهم أن هذا الحديث أخرجه أبو دأود في سننه ["694"] ، ولم يوجد في السنن فينظر ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهيت أن أصلي خلف المتحدثين والنيام" وفي إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وفيه مقال وهو ثقة من رجال الصحيح.
وأخرج ابن عدي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة خلف النائم قال ابن حجر في فتح الباري وإسناده واه.
وأخرج البزار من حديث على بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي إلي رجل فأمره أن يعيد الصلاة وفي إسناده عبد الأعلى التغلبي وهو ضعيف.
هذا حاصل ما في الباب والعلة في الكراهة اشتغال قلب المصلي إذا كان أمامه شيء مما(1/107)
في الحديث وفي النائم قد يخرج منه شيء يؤذي المصلي وقد عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنبجانية التي بعث بها إلي بعض الصحابة "إنها ألهته في صلاته" "البخاري "373"، مسلم "61، 36/556"] ، وهو حديث صحيح وقال في قرام عائشة "أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصأويره تعرض لي في صلاتي" وهو في الصحيح [البخاري "1/374" [، ولا جامع بين هذا وبين الأحاديث الواردة فيما يقطع الصلاة كالكلب والمرأة الحائض فإن هذا الذي نحن بصدده في كراهة استقبال الشيء المستقر في قبلة المصلي وأحاديث القطع في الشيء الذي يمر بين يديه.
ويعارض ما ورد في المنع من استقبال النائم ما ثبت في الصحيح [البخاري "382"، مسلم "512" أحمد "6/126"، أبو دأود "712، 714"، النسائي "1/101 – 102"، ابن ماجة "956"] ،من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعائشة معترضة في قبلته والظاهر من كونها معترضة أنها كانت نائمة. ولهذا أورد في لفظ في الصحيحين [البخاري "512"، مسلم "268/512"] : "فإذا أراد أن يوتر أيقظني".
ولا شك أن اشتغال قلب المصلي باستقبال المرأة أكثر من اشتغاله باستقبال الرجل وأما توسيع دائرة الكلام إلي كراهة استقبال الفاسق والسراج والنجس فليس كما ينبغي ولو قال المصنف رحمه الله ويكره استقبال ما يلهي لكان ذلك أخصر وأشمل وأوفق بالأدلة.
قوله: "وندب لمن في الفضاء اتخاذ سترة" الخ.
أقول: هذه السنة ثابتة بالأحاديث الصحيحة الكثيرة ولا وجه لتخصيص مشروعيتها بالقضاء فالأدلة أعم من ذلك والكلام على مقدار السترة ومقدار ما يكون بينها وبين المصلي مستوفى في كتب الحديث وشرحه وأكثر الأحاديث مشتملة على الأمر بها وظاهر الأمر الوجوب فإن وجد ما يصرف هذه الأوامر عن الوجوب إلي الندب فذاك ولا يصلح للصرف قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه لا يضره ما مر بين يديه" [أحمد "2/249"، ابن ماجة "943"] ، لأن تجنب المصلي لما يضره في صلاته ويذهب بعض أجرها واجب عليه.
[فصل
وأفضل أمكنتها المساجد وافضلها المسجد الحرام ثم مسجد رسول الله ثم مسجد بيت المقدس ثم الكوفة ثم الجوامع ثم ما شرف عامره.
ولا يجوز في المساجد إلا الطاعات غالبا ويحرم البصق فيها وفي هوائها واستعماله ما علا.
وندب توقي مظان الرياء إلا من أمنه وبه يقتدى] .
قوله: فصل: "وأفضل أمكنتها المساجد" الخ.(1/108)
أقول: أما المساجد الثلاثة فقد ورد النص على أن الصلاة فيها أفضل من غيرها مع تفاضلها في أنفسها فأخرج أحمد ["4/5"] ، من حديث ابن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فصلاة فيه أفضل من مائة صلاة في هذا".
وأخرج أيضا ابن حبان بلفظ "وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة" قال ابن عبد البر اختلفوا على ابن الزبير في رفعه ووقفه ومن رفعه أحفظ وأثبت ومثله لا يقال بالرأي.
وأخرج ابن ماجه ["1406"] ،من حديث جابر مرفوعا صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ورجال إسناده ثقات ورواه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة".
قال البزار إسناده حسن.
وفي الصحيحين [البخاري"1132"، مسلم "506/94"] من حديث أبي هريرة "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة".
والظاهر أن الصلاة في هذه الثلاثة المساجد تكون أفضل من الصلاة في غيرها بذلك المقدار الذي بينه صلى الله عليه وسلم ولا فرق بين الفرائض والنوافل كما يدل عليه تنكير الصلاة في هذه الأحاديث فلا يرد ما أورده الجلال في شرحه من البحث الذي بحثه ولم يثبت زيادة وأفضل من ذلك كله صلاة الرجل في بيت مظلم حيث لا يراه أحد إلا الله يطلب بها وجه الله ولكنه ثبت في الصحيحين [البخاري"731، 6113، 7290"، مسلم "213/781"] وغيرهما [الترمذي "450"، أبو دأود "1044"، النسائي "3/197 – 198"، أحمد "5/182 و 184 و 186"] ، من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" قال الترمذي وفي الباب عن عمر وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وابن عمر وعائشة وعبد الله بن سعد وزيد ابن خالد وأما سائر المساجد فقد ورد ما يدل على فضل الصلاة فيها في الجملة كحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ الرجل فأحسن الوضوء ثم خرج إلي الصلاة لا يخرجه" أو قال "لا ينهزه إلا إياها لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" أخرجه الترمذي ["103"] ، وقال حسن صحيح.
وأخرج مسلم ["41/251" [، وغيره ["الترمذي "51"، النسائي "1/89"، ابن ماجة "428"] ، من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله قال: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلي المساجد وانتظار الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط".(1/109)
وأخرج أبو دأود ["561"] ،والترمذي ["223"] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إلي المساجد بالنور التام يوم القيامة".
وورد أيضا "من حافظ على هذه الصلوات حيث ينادى لها" [مسلم "257/654"، أبو دأود "550"، النسائي "2/108"، ابن ماجة "777"] ، الحديث.
وورد أيضا "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد".
وورد أيضا "أن منتظر الصلاة في المساجد في صلاة" [البخاري "659، 3229"، مسلم "5/166 – 167"، أبو دأود "470"] .
وورد أيضا عدم الترخيص لمن سمع النداء في حضور المسجد الذي ينادى للصلاة فيه وثبت الحث على بناء المساجد والترغيب في ذلك.
وحديث "أحب البلاد إلي الله مساجدها" [مسلم "671"] .
وهذه أحاديث معروفة مشهورة وهي تدل على مزيد خصوصية في الفضيلة للمساجد التي يجتمع الناس إليها وينادى للصلاة فيها وهي أخص من كون كل بقاع الأرض مسجدا لحديث "جعلت لي الأرض مسجدا" فهذا هو الوجه لقول المصنف رحمه: "وأفضل أمكنتها المساجد".
وأما جعل مسجد الكوفة في الشرف بعد الثلاثة المساجد فلم يثبت ذلك بدليل ولا كان للكوفة مسجد في أيام النبوة وكان الأولى أن يجعل مكان مسجد الكوفة مسجد قباء ومسجد عبد القيس بعد أن يذكر شرف البقاع التي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها.
وأما شرف الجوامع فإن كان لكثرة الجماعات فيها فليس ذلك بمختص بالمساجد بل صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ثم صلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ثم كذلك كلما كثر الجمع في الجماعة كانت أزكى كما وردت السنة بذلك.
وأما قوله: "ثم ما شرف عامره" فليس ذلك بمزية توجب كون المسجد أفضل من غيره فضلا عن كون الصلاة فيه أفضل منها في غيره وما اسمج ما قال الجلال رحمه الله ها هنا من أن الأرض قد جعلها الله مسجدا على السواء وهو أعظم من كل عظيم فترجيح وضع العبد على وضع الرب مما لا ينبغي أن ينسب إلي ذي فهم انتهى.
ولا يخفاك أن المساجد التي جعلها العباد هي أحد بقاع الأرض التي جعلها الله مسجدا وليست غيرها ولا خارجة عنها حتى يتم ما قاله وكان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يجعل مكان ما شرف عامره الصلاة في فلاة من الأرض فإنه قد ورد أنها بخمسين صلاة وقد ذكرنا في شرح المنتقي عند ذكر مصنفه لهذا الحديث ما ينبغي الرجوع إليه لما اشتمل عليه من الفائدة.
قوله: "ولا يجوز في المساجد إلا الطاعات".
أقول: هي التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما هي لذكر الله والصلاة" [البخاري"6025"، مسلم "100/284"، الترمذي "147"، النسائي "1/175"، ابن ماجة "528"، أحمد "3/110 – 111"] وفي(1/110)
لفظ: "إنما بنيت لذكر الله والصلاة" والحديث في الصحيح فإن هذا الحصر يدل أنه لا يجوز غير الصلاة والذكر في المسجد إلا بدليل كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفد ثقيف في مسجده قبل إسلامهم وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد الحبشة في مسجده ولعبوا فيه بحرابهم وهو ينظر إليهم وفي كلا الفعلين مصلحة ظاهرة عائدة إلي الإسلام أما إنزال وفد ثقيف فلأجل يشاهدون عبادة المسلمين وتواضعهم لله وكثرة ذكرهم له فتلين قلوبهم وأما إنزال وفد الحبشة فلو لم يكن من ذلك إلا المكافأة لملكهم الصالح الذي هاجر إليه المسلمون فأحسن جوارهم وفعل بهم تلك الأفعال الحسنة وقد ثبت أنهم كانوا يتناشدون فيه الأشعار ولهذا قال حسان لعمر قد كنت أنشد وفيه يعني المسجد من هو خير منك.
وكان غالب ما يتناشدونه ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومد الإسلام وأهله وذم الكفر وأهله وفي ذلك مصلحة ظاهرة وبهذه الخصوصية يمتنع إلحاق غيره من الأشعار به.
ومما يدل على جواز تعلم العلم في المساجد وتعليمه ما أخرجه أحمد ["2/350، 418، 527"] ، وأبوا دأود وإسناد رجاله ثقات عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلي ما ليس له".
ومما ورد المنع منه في المساجد الحد والقصاص لما أخرجه أحمد ["3/343"] ، وأبو دأود ["4490"] ، والدارقطني والحاكم وابن السكن والبيهقي من حديث حكيم بن حزام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد ولا يستفاد فيها" وإسناده لا بأس به.
ومما ورد النهي عنه في المساجد ما في حديث أبي هريرة عند الترمذي وحسنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أن يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد الضالة فقولوا لا رد الله عليك".
والنهي عن إنشاء الضالة ثابت في الصحيح ومن ذلك حديث واثلة الذي أخرجه ابن ماجه مرفوعا: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر" وإسناده ضعيف ولكن له شاهد عند الطبراني وغيره بسند فيه العلاء بن كثير الشامي وهو ضعيف من حديث مكحول عن أبي الورد وأبي أمامة وواثلة من حديث مكحول عن معاذ وهو منقطع ولابن عدي من حديث أبي هريرة وفيه عبد الله بن محرر وهو ضعيف.
وأخرج ابن ماجة ["748"] ، من حديث ابن عمر مرفوعا قال: "خصال لا ينبغين في المسجد لا يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا يقيض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه من أحد ولا يتخذ سوقا" وفي إسناده زيد ابن جبير الأنصاري وهو متروك.
ومن جملة ما ثبت المنع منه في المساجد البصق فيها كحديث "البصاق في المسجد(1/111)
خطيئة وكفارتها دفنها" وهو ثابت في الصحيح ولفظ البخاري ["415"] ، ومسلم ["55/552"] : "البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" هكذا لفظ حديث أنس فيهما وفي لفظ لمسلم ["56/552": "التفل" مكان "البزاق" وفي لفظ النسائي ["2/51"] : "البصاق".
وأخرج مسلم ["57/553"] ، من حديث أبي ذر مرفوعا: "وجدت في مسأوىء أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن".
وأخرج مسلم ["59/552"، عن عبد الله بن الشخير قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته تنخع فدلكها بنعله اليسرى وهكذا إذا كان المسجد غير مفروش فإن كان مفروشا بالحصر أو نحوها فلا يتيسر الدفن الذي هو كفارة البصق فيكون خطيئة غير مكفرة.
وقد وردت أحاديث في منع البصق في قبلة المسجد ووردت أحاديث في أنه يبصق في ثوبه إذا احتاج إلي ذلك فمن دعت حاجته إلي البصق بصق في ثوبه.
قوله: "وندب توقي مظان الرياء".
أقول: الرياء من معاصي الله العظيمة وهو الشرك الأصغر فإذا كان له ذريعة وإليه وسيلة فالواجب قطع تلك الذريعة ودفع تلك الوسيلة فالذريعة إلي الحرام حرام والوسيلة إلي الحرام حرام فتوقي مظان الرياء واجب والوقوع فيها حرام ومدافعة النفس عن مثل هذه المعصية من أوجب الواجبات الشرعية وتجنب الأسباب التي تفضي إليها لازم لكل مسلم فلا وجه لجعل ذلك مندوبا كما قال المصنف رحمه الله.(1/112)
[باب الأوقات
اختيار الظهر من الزوال وآخره مصير ظل الشيء مثله وهو أول العصر وآخره المثلان والمغرب من رؤية كوكب الليل أو ما في حكمها وآخره ذهاب الشفق الأحمر وهو أول العشاء وآخره ذهاب ثلث الليل.
وللفجر من طلوع المنتشر إلي بقية تسع ركعة كاملة.
واضطرار الظهر من آخر اختياره إلي بقية تسع العصر وللعصر اختيار الظهر إلي ما يسعه عقيب الزوال ومن آخر اختياره حتى لا يبقى ما يسع ركعة وكذلك المغرب والعشاء وللفجر إدراك ركعة ورواتبها في أوقاتها بعد فعلها إلا الفجر غالبا.
وكل وقت يصلح للفرض قضاء وتكره الجنازة والنقل في الثلاثة وأفضل الوقت أوله"] .(1/112)
قوله: "اختيار الظهر من الزوال" الخ.
أقول: الأحاديث المبينة للأوقات كثيرة جدا اقوالا وأفعالا وتعليما وحاصلها أن أول وقت الظهر الزوال وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء الزوال وهو أول وقت العصر وآخره ما دامت الشمس بيضاء نقية وأول وقت المغرب غروب الشمس وغروبها يستلزم إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب ويستلزم ظهور النجم الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهدا" فلا مخالفة بين هذه العلامات لدخول وقت المغرب فإنها متلازمة وآخره ذهاب الشفق الأحمر وهو أول وقت العشاء وآخره نصف الليل ولا وجه لقول المصنف "وآخره ذهاب ثلث الليل" فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم امتداده إلي نصف الليل كما هو ثابت في الصحيحين [البخاري"2/51"، [مسلم "222/640"] ، وهي زيادة يجب قبولها ويتعين المصير إليها.
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنه لولا أن يشق على أمته لأخرها إلي نصف الليل فدل ذلك على أنها في ذلك الوقت أفضل وأنه وقت لها بل ورد ما يدل على أنه وقتها إلي أن يذهب عامة الليل أي أكثره.
وأول وقت الفجر طلوع الفجر وهو يعرفه كل ذي بصر وآخره طلوع الشمس فهذه الأوقات لا ينبغي أن يقع في مثلها خلاف لأن الأدلة عليها أوضح من كل واضح وأظهر من كل ظاهر وقد كرر صلى الله عليه وسلم الأيضاح وعلمهم ما لا يحتاجون بعده إلي شيء وجعل هذه الأوقات منوطة بعلامات حسية يعرفها كل من له بصر صحيح فلا نطيل الكلام في هذا فإن الإطالة لا تأتي بطائل.
قوله: "واضطرار الظهر".
أقول: الشارع قد بين أول وقت كل صلاة من الصلوات الخمس وبين آخره حسب ما عرفناك ثم بين بأقواله الصحيحة ان الوقت لكل صلاة من تلك الصلوات هو ما بين الوقتين فهذه الأوقات هي التي عينها الشارع للصلوات الخمس ولم يأت عنه أن الأوقات منقسمة إلي قسمين وقت اختبار ووقت اضطرار بل غاية ما ورد عنه في بيان حالة الاضطرار أن من أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها فمن كان نائما أو ناسيا أو مغشيا عليه أو نحو ذلك وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها أداء لا قضاء وأما من تركها من غير عذر حتى خرج وقتها الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم فهو تارك للصلاة وإن فعلها في وقت صلاة أخرى فكيف إذا تركها حتى خرج وقت الصلاة الأخرى كمن يصلي الظهر وقت اصفرار الشمس فإنه لم يصل أصلا ولا فعل ما فرض الله عليه بل جاء بصلاته في غير وقتها بل في الوقت الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وقت صلاة المنافق.
ولقد ابتلى زمننا هذا من بين الأزمنة وديارنا هذه من بين ديار الأرض بقوم جهلوا الشرع وشاركوا في بعض فروع الفقة فوسعوا دائرة الأوقات وسوغوا للعامة أن يصلوا في غير أوقات الصلاة فظنوا أن فعل الصلاة في غير أوقاتها شعبة من شعب التشيع وخصلة من خصال المحبة لأهل(1/113)
البيت فضلوا وأضلوا وأهل البيت رحمهم الله براء من هذه المقالة مصونون عن القول بشيء منها.
ولقد صارت الجماعات الآن تقام في جوامع صنعاء للعصر بعد الفراغ من صلاة الظهر وللعشاء في وقت المغرب وصار غالب العوام لا يصلي الظهر والعصر إلا عند اصفرار الشمس فيا لله وللمسلمين من هذه الفواقر في الدين.
وسيأتيك الكلام في الجمع الذي جعله هؤلاء ذريعة إلي هذه المفاسد السارية إلي ترك الصلوات التي صرح الشارع بأنه "ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها" [أحمد "3/370، 389"، مسلم "82"، أبو دأود "4678"، النسائي "1/232"، الترمذي "2622"، ابن ماجة "1078"] .
قوله: "ورواتبها في أوقاتها يعد فعلها إلا الفجر"
أقول: رواتب الفرائض كثيرة جدا ومنها ما هو قبل فعل الفريضة ومنها ما هو بعد فعلها فإن أراد الرواتب التي وردت في الأحاديث الصحيحة فهي كما عرفناك وإن أراد ما ورد في حديث ابن عمر المتفق عليه [البخاري "1180 و "1172" و "1165" و "937"، مسلم "729"، أنه قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الغداة فهذا الحديث قد دل على أنه يصلي قبل الظهر ركعتين فلا يتم قوله إلا الفجر.
وإن أراد حديث أم حبيبة الثابت عند الجماعة [مسلم ""103/728"، أبو دأود "1250"، الترمذي "415"، النسائي "1796"، ابن ماجة "1141"] ، إلا البخاري قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة".
ثم بينها صلى الله عليه وسلم كما في رواية بعض الجماعة فقال: "أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر". فهذه فيها أربع قبل الظهر [أبو دأود "1251"، النسائي "1795"، ابن ماجة "1161"، الترمذي "424"] .
وإن أراد غير هذين الحديثين فمنها ما فيه أربع قبل الظهر وأربع بعدها ومنها ما فيه أربع قبل العصر ومنها ما فيه "أن بين كل إذانين صلاة" [مسلم "838", الترمذي "185", ابن ماجه "1162"] أي بين الإذان والإقامة في جميع الصلوات.
وورد في خصوص صلاة المغرب بلفظ: "بين أذاني المغرب صلاة" وورد: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين" [البخاري "1183,7368"] وهو في الصحيح.
وبالجملة فالمصنفون في الفروع في هذه الديار جعلوا رواتب الفرائض ركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين قبل الفجر ولا راتبة عندهم سوى هذه ولا موجب إلا عدم الإشراف على كتب السنة وهجرها بالمرة وجعلها من كتب الخصوم وليسوا بخصوم لأحد من أهل الإسلام بل هم الجامعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن كانوا خصوما بهذا العمل فالويل لمن كانوا خصومه.(1/114)
وأعجب من هذا أنهم جعلوا الوتر ثلاث ركعات لا يزاد عليها ولا ينقص منها ولا وتر عندهم إلا ذلك لأنهم لم يعرفوا ان الوتر إنما هو إيتار صلاة الليل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غالب حالاته يوتر بركعة والمراد اشتمال آخر صلاة الليل على وتر أما بركعة منفردة أو ثلاث أو خمس أو سبع ولكنه قد ورد النهي عن الإيتار بثلاث كما أوضحته في شرح المنتقي.
وأما اعتقاد أن الله شرع صلاة ثلاث ركعات متصلة بعد صلاة العشاء من دون أن يتقدمها صلاة فليس هذا إلا من الجهل البالغ بما جاءت به السنة وأقل ما يفعله من كان عاجزا غير راغب في الأجر أن يصلي ركعتين ويسلم فيهما ثو يوتر بركعة منفردة فإن هذا يصدق عليه أنه لم يصل من النافلة في الليل إلا ركعتين ثم أوترها بركعة وقد كانت صلاته في الليل صلى الله عليه وسلم تبلغ إلي ثلاث عشرة ركعة بوترها وقد يقتصر على اقل منها.
قوله: "وكل وقت يصلح للفرض قضاء".
أقول: استدلوا على ذلك بحديث أنس عند الشيخين [البخاري "597"، مسلم "684"] ، وغيرهما [أوب دأود "442"، أحمد "3/269" و "3/100"، ابن ماجة "696"، الترمذي "178"، النسائي "1/293، 294"] ، مرفوعا: "من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وفي رواية لغيرهما "فوقتها حين يذكرها" وقد عورض ذلك بالنهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وهو ثابت في أحاديث الصحيحين وغيرهما [مسلم "293/831"، أحمد "4/152"، أبو دأود\ "3192"، الترمذي "1030"، النسائي "1/375"، ابن ماجة "1519"] ، وقد قيل إن حديث "من نام عن صلاته" مطلق مقيد بأحاديث النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وهو ممنوع فإنا إذا سلمنا شمول أحاديث النهي للفرائض المقضية كان بين هذه الأحاديث عموم وخصوص من وجه فأحاديث النهي هي أعم من أن تكون الصلاة نافلة أو فريضة مقضية أو مؤداة.
وحديث: "من نام عن صلاته" هو أعم من أن يكون قيام النائم وذكر الناسي في هذه الثلاثة الأوقات أو غيرها إلا أنه لا يخفاك أن الصلاة التي تركت لنوم أو نسيان هي مفعولة في وقت القيام من النوم أو الذكر بعد النسيان في الوقت الذي لا وقت لها سواه فهي أداء لا قضاء فيتوجه النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات إلي النوافل لا إلي الفرائض المؤداة وقد ثبت أن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك فمن أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدركه ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك الفجر وهذه الأحاديث المصرحة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها أخص مطلقا من أحاديث النهي عن الثلاثة الأوقات وصلاة النائم والساهي لأن ذلك الوقت وقت الأداء لها فهي كسائر الفرائض المؤداة ومن زعم أنها مقضية لا مؤداة فالدليل عليه فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وقتها حين يذكرها لا وقت لها سواه.
قوله: "وتكره الجنازة والنفل في الثلاثة"
أقول: الأحاديث الصحيحة قد وردت مصرحة بالنهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وعن(1/115)
قبر الموتى فيها ووردت أحاديث صحيحة مصرحة بالنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس وبعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وظاهر النهي التحريم ولم يرد ما يدل على صرفة عن معناه الحقيقي وهو التحريم إلي معناه المجازي وهو كراهة التنزيه ولم يرد ما يدل على تخصيص ذوات الأسباب من هذا العموم نعم ما ورد فيه دليل يدل على فعله من غير فرق بين وقت الكراهة وغيره كتحية المسجد فبينه وبين أحاديث النهي عموم وخصوص من وجه فيرجع إلي مرجح لأحدهما على الآخر خارج عنهما فإن كان ترجيح الحظر على الإباحة من المرجحات المعمول بها كما يدل عليه حديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" كان المتعين ترك تحية المسجد في الأوقات المكروهة وينبغي للمتحري لدينه تجنب دخول المساجد فيها فإن دخل لحاجة فلا يقعد.
قوله: "وأفضل الوقت أوله"
أقول: قد كان استمرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعل الصلوات في أول أوقاتها وكان ذلك ديدنه وهجيراه ولا يخالف في ذلك أحد ممن له اطلاع على السنة المطهرة وورد من أقواله ما يدل على ذلك كحديث "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" [البخاري "527، 2782، 5970، 7534"، مسلم "137، 138"، و "139" و "140/85"، أحمد "1/451، 1/409 – 410" و "1/439"، النسائي "1/292"، ابن ماجة "173"] . وما ورد في معناه وجعل قوم الإسفار بالفجر أفضل ولكن كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم التغليس بها وورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن تأخير صلاة العشاء إلي ثلث الليل أو إلي نصف الليل أفضل وأنه إنما ترك ذلك لئلا يشق على أمته وورد عنه صلى الله عليه وسلم رخصة الإبراد بالظهر وعلل ذلك بأن "شدة الحر من فيح جهنم" [البخارس "536"، مسلم "615"، النسائي "501"، ابن ماجة "677"، الترمذي "157"، أبو دأود "402"] .
والحاصل أن أفضل الوقت أوله إلا ما خصه دليل مع بيان أنه أفضل كتأخير العشاء لا مجرد الترخيص لعذر فإنه لا يعارض أفضلية أول الوقت.
والعجب من استدلال الجلال للرافضة في قولهم بتأخير صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم لحديث "لا حتى يطلع الشاهد" [مسلم "292/830"، النسائي "521"، والشاهد النجم ثم تكميل هذا الاحتجاج الساقط بقوله ولام النجم للاستغراق فيا لله العجب من وقوع هذا المحقق في مثل هذه المضايق التي يتحاشى كل عارف أن يقع في مثلها وهب أن قول والشاهد النجم ليس بمدرج وأنه من كلام النبوة فكيف يحمل على الاستغراق فيكون مدلوله أن تطلع نجوم السماء كلها حتى لا يبقى نجم وهكذا لو قال قائل لآخر لا اكرمك حتى يأتي الرجل وهو غير مريد لرجل بعينه كان مدلوله على ما زعم الجلال امتناع الإكرام حتى يأتي كل رجل في الدنيا فأي فهم يسبق إلي مثل هذا أو أي علم يدل عليه ويستفاد منه وقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صلاة المغرب حتى صلوها في يومي التعلم في وقت واحد عند غروب الشمس وكانوا يفرغون منها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طول القراءة وإن الرجل ليبصر مواقع نعله 2 كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة وقال: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا صلاة(1/116)
المغرب حتى تشتبك النجوم"، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد ["4/147"] ، وأبو دأود ["418"، والحاكم في المستدرك ورجال إسناده ثقات وابن إسحق قد صرح بالتحديث فيه.
وأخرج ابن ماجه والحاكم وابن خزيمة في صحيحه هذا الحديث من حديث العباس ابن عبد المطلب بلفظ: "لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم".
ثم أعجب من هذا أن الجلال رحمه الله أيستدل على استحباب تأخير الصلاة للمغرب بما ورد من أحاديث: "إذا حضر الطعام" فيا لله العجب أي دليل في هذا؟ فإن العلة التي صرح الشارع بتأخيرها لها حضور الطعام ولم يكن ذلك خاصا بالمغرب بل ورد في جميع الصلوات كما في الحديث الثابت في الصحيح بلفظ: "لا صلاة بحضرة طعام" وحاشا مثله أن يوقعه حب الروافض في مثل هذا التعسف الذي لا يخفى على من له أدنى عرفان ومن الروافض حتى يتبرع بمذهبهم الباطل بما هو من الباطل؟ وما كلامهم في هذه المسألة بأول عناد عاندوا به الشريعة فإنهم يخالفون كل السنن ويدافعون كل حق.
[فصل
"وعلى ناقص الصلاة والطهارة غير المستحاضة ونحوها التحري لآخر الاضطرار ولمن عداهم جمع المشاركة وللمريض المتوضىء والمسافر ولو لمعصية والخائف والمشغول بطاعة أو مباح ينفعه وينقصه التوقيت جمع التقديم والتأخير بإذان لهما وإقامتين ولا يسقط الترتيب وإن نسي ويصح التنفل بينهما"] .
قوله: "فصل وعلى ناقص الصلاة أو الطهارة غير المستحاضة ونحوها التحري لآخر الاضطرار".
أقول: هذا رأي فائل واجتهاد عن الحق مائل وقول عن دليل العقل والنقل عاطل وقد عرفناك فيما سبق ما هو الحق فيما جعلوه وقت اضطرار والمصنف ومن قاله بقوله ممن قبله أو بعده قد أوجبوا على ناقص الصلاة أو الطهارة أن يترك الصلاة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها كما صح بذلك الدليل.
وبيان ما ذكرناه من إيجابهم عليه أن يترك الصلاة المفروضة هو أنه لم يرد في كتاب الله سبحانه ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا من هؤلاء يؤخر الصلاة عن وقتها المضرب لها جوازا فضلا عن أن يكون ذلك على جهة الوجوب فضلا عن أن يكون التأخير إلي آخر وقت الاضطرار حتما فإن من فعل الصلاة في هذا الوقت لغير عذر يقتضي التأخير فقد فعلها بعد خروج وقتها المضروب لها ومن فعلها بعد خروج وقتها المضروب لها فقد تركها ولا تأثير لفعلها بعده.(1/117)
والأحاديث الواردة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها هي رخصة للمعذورين كالنائم والساهي لا لهؤلاء فإنهم مأمورون بفعل الصلاة في وقتها كغيرهم.
فانظر هذه الفائدة التي استفادها المقلد المسكين من هؤلاء المصنفين في علم الدين.
وأما قياس هؤلاء على المتيمم فقياس باطل ودعوى كون صلاة الجميع بدلية مصادرة على المطلوب لأن ذلك هو محمل النزاع.
ثم لو قدرنا صحة القياس تنزلا لكان الأصل المقيس عليه وهو التيمم والمتيمم ممنوعا فإنه ليس على كونه يؤخر الصلاة إلي آخر الوقت أثارة من علم بل ذلك خلاف الأدلة الدالة على أن المتيمم كغيره يصلي في أول الوقت كما يصلي غيره.
وقد قدمنا في باب التيمم ما فيه كفاية فلا أصل ولا فرع ولا عقل ولا شرع.
ثم انظر كيف تلون الكلام في هذه الأحكام فإنه استثنى من ناقص الصلاة والطهارة المستحاضة ونحوها ثم أثبت لمن عداهم جمع المشاركة وهذا كله ظلمات بعضها فوق بعض وخبط يتعجب منه الناظر فيه إذا كان له أدنى تمييز.
والحاصل أن هذا القول لم يسمع في أيام النبوة وقد كان فيهم الزمني وأهل العلل الكثيرة وفيهم من قال له صلى الله عليه وسلم: "صل قائما فإن لم تسطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب" [البخاري "1117"، النسائي "3/224"، أبو دأود "952"، الترمذي "372"، ابن ماجة "1223"] ، ولم يسمع بأنه أمر احدا منهم بتأخير الصلاة عن وقتها ولا جاء في ذلك حرف واحد لا من كتاب ولا من سنة وهكذا لم يسمع شيء من ذلك في عصر الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم ولا في عصر من بعدهم من التابعين وتابعيهم ولم يقل بذلك أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا من سائر أهل الأرض فمثل هذه المسائل من عجائب الرأي الذي اختص به أهل أرضنا هذه.
اللهم غفرا.
قوله: "وللمريض المتوضىء والمسافر ولو لمعصية" الخ.
أقول: أما الجمع للمسافر فقد ثبت بالأحاديث الكثيرة أما جمع التأخير فأحاديثه في الصحيحين [البخاري"1112"، مسلم "46/704"] وغيرهما وأما جمع التقديم فهو ثابت بأحاديث حسان مع مقال فيها ومع معارضتها لما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب.
وأما الجمع للمريض والخائف وفي المطر فلم يرد في ذلك دليل يخصه إلا ما يفهم من قول الرواة لحديث الجمع بالمدينة فإنهم قالوا من غير خوف ولا سفر ولا مطر. [مسلم "49/705"، البخاري"543"، أبو دأود "214"، الترمذي "187"، النسائي "1/290"] .
وقد استدلوا على جواز الدجمع لهم بقياسهم على المسافر وليس بقياس صحيح ولو كان صحيحا لجاز لهم قصر الصلاة وقد مرض النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل إلينا أنه جمع بين الصلوات وكذلك ما نقل إلينا أنه سوغ لأحد من المرضى جمع الصلوات.(1/118)
وأما ما ذكره المصنف من جواز الجمع للمشغول بطاعة فليت شعري ما هي هذه الطاعةالتي يجوز تأثيرها على الصلاة التي هي رأس الطاعات وهي أحد أركان الإسلام والتي ليس بين العبد وبين الكفر إلا مجرد تركها.
وأعجب من هذا وأغرب تجويز الجمع للمشغول بمباح ينفعه وينقص في التوقيت فإن جميع الناس إلا النادر يدأبون في أعمال المعاش العائد لهم بمنفعة وإذا وقتوا فقد تركوا ذلك العمل وقت طهارتهم وصلاتهم ومشيهم إلي المساجد فعلى هذا هم معذورون عن التوقيت طول أعمارهم ولهم جمع الصلاة ما داموا في الحياة وهذا تفريط عظيم وتسأهل بجانب هذه العبادة العظيمة وإفراط في مراعاة جانب الأعمال الدنيوية على الأعمال الأخروية وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم يشتغلون بالأعمال التي يقوم بها ما يحتاجون إليه فمنهم من هو في الأسواق ومنهم من هو في عمل الحرث ونحوه ومنهم من هو في تحصيل علف ماشيته ولم يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عذر أحدا منهم عن حضور الصلاة في أوقاتها ولا بلغنا ان أحدا منهم طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له لعلمهم بأن مثل ذلك لا يسوغه.
وأما التمسك بحديث جمعه صلى الله عليه وسلم في المدينة فهذا وقع مرة واحدة وتأوله كثير من الرأوين للحديث وحمله بعضهم على الجمع الصوري لتصريح جماعة من رواته بذلك.
وقد افردنا هذا البحث برسالة مستقلة وذكرنا في شرح المنتقي ما ينتفع به طالب الحق رحم الله الحافظ الترمذي فإنه صرح بأن جميع ما في كتابه معمول به إلا حديثين هذا أحدهما.
والحال أن كتابه قد اشتمل على ذكر ألوف مؤلفة من الأحاديث.
والحاصل أن الكلام في مثل هذا البحث يطول جدا وقد وقع فيه الخبط البالغ والخلط العجيب وتكلم الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضوع بما هو حقيق بأن يضحك منه وتارة ويبكي منه أخرى بل حقيق بأن يعد في لغو الكلام وسقطه وغلطه.
قوله: "بذان لهما وإقامتين".
أقول: يدل على هذا ما في حديث جابر الطويل عند مسلم ["147/1218"، أبو دأود "1905"، النسائي "1/290". ابن ماجة "3074"، صلى الظهر ثم اقام فصلى العصر.
وأخرج أبو دأود ["1930 و 1931"] ، ما يخالف هذا ابن عمر قال جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء يجمع بإقامة واحدة لكل صلاة ولم يناد في الأولى وفي رواية [أبو دأود "1928"] : "لم يناد بينهما ولا على إثر واحدة منهما إلا بالإقامة".
وفي البخاري [أحمد "1/375"] ، عن ابن مسعود: "أنه صلاهما بإذان وإقامتين" وأخرج الدارقطني في قصة جمعه بين المغرب والعشاء فنزل فأقام الصلاة وكان لا ينادي لشيء من الصلاة في السفر.(1/119)
والراجح حديث جابر فإنه حكاه عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما روي عن ابن مسعود فإنه موقوف عليه فيكون ما ذكره المصنف رحمه الله هنا موافقا لما هو الراجح.(1/120)
[باب الإذان والإقامة
على الرجال في الخمس فقط وجوبا في الأداء ندبا في القضاء ويكفي السامع ومن في البلد إذان في الوقت مكلف ذكر معرب عدل طاهر من الجنابة ولو قاضيا أو قاعدا أو غير مستقبل.
ويقلد البصير في الوقت وفي الصحو]
قوله: "على الرجال"
أقول: هذه العبادة من أعظم شعائر الإسلام وأشهر معالم الدين فإنها وقعت المواظبة عليها منذ شرعها الله سبحانه إلي أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليل ونهار وسفر وحضر ولم يسمع أنه وقع الإخلال بها أو الترخيص في تركها وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر أمراء الأجناد في الغزو أنهم إذا سمعوا الإذان كفوا وإن لم يسمعوه قاتلوا وناهيك بهذا الحديث يجعله صلى الله عليه وسلم علامة للإسلام ودلالة على التمسك به والدخول فيه ومع هذه الملازمة العظيمة الدائمة المستمرة فقد أمر به صلى الله عليه وسلم غير مرة ومن ذلك حديث مالك بن حويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم" وهو في الصحيحين [البخاري "628"، مسلم "674"] ، وغيرهما [أحمد "5/53"، أبو دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "634"، ابن ماجة "979"] . وفي لفظ البخاري ["630"] : "فأذنا وأقيما"، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان ابن أبي العاص: "اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا" عند أحمد ["4/21، 217"] ، وأهل السنن [أبو دأود "531"، الترمذي "1013"، النسائي "2/23"، ابن ماجة "714"] ، وهو حديث صحيح.
ومنها أمره صلى الله عليه وسلم لبلال: "أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة" وهو في الصحيحين [البخاري "605"، مسلم "2/378"، وغيرهما [أبو دأود "508"، الترمذي "1013"، ابن ماجة "730"، أحمد "3/103"] .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد "إنها لرؤيا حق إن شاء الله" ثم أمر بالتأذين وهو حديث صحيح صححه الترمذي ["1/359"] ، وغيره.
ومنها حديث أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" أخرجه أحمد ["5/196" و "6/446"] ، وأبو دأود ["547"، والنسائي ["2/106 – 107"] ، وابن حبان وقال صحيح الإسناد.
والحاصل أنه ما ينبغي في مثل هذه العبادة العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها فإنها أشهر(1/120)
من نار على علم وأدلتها هي الشمس المنيرة وما اسمج ما شكك به الجلال على الوجوب فقال ولو كان وجوبه للصلاة لزم كونه شرطا أو ركنا الخ.
وأقول: يا لله العجب أي قائل قد قال إن جميع ما وجب للصلاة لا يكون إلا شرطا أو ركنا فإن الصلاة لها شروط وأركان وفروض لا شروط ولا أركان.
وهذا مما لا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهو قائل به وتصرفه في كتابه هذا مناد بذلك بأعلى صوت.
ثم هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعة بل لكل مصل عليه أن يؤذن ويقيم لكن من كان في جماعة كفاه إذان المؤذن لها وإقامته.
ثم الظاهر أن النساء كالرجال لأنهن شقائق الرجال والأمر لهم أمر لهن ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب عليهن فإن الوارد في ذلك في أسانيده متروكون لا يحل الاحتجاج بهم فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك وإلا فهن كالرجال.
قوله: "ويكفي السامع ومن في البلد".
أقول: يمكن الاستدلال لهذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "فليؤذن لكم أحدكم" فإن هذا يدل على أنه يكفي إذان واحد من الجماعة وأما كونه يكتفي به من في البلد فيدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ المؤذن كما في حديث "واتخذ مؤذنا لا يأخذ على إذانه أجرا" والظاهر أنه يؤذن في البلدة التي هو فيها وأيضا عدم أمره لمن لم يسمع إذان مؤذنيه في المدينة بأن يؤذن دليل على عدم وجوبه على سامعه وإنما يشرع له المتابعة فقط.
قوله: "في الوقت".
أقول: الإذان هو دعاء إلي الصلاة ولهذا اشتمل على ألفاظ الدعاء التي منها: "حي على الصلاة حي على الفلاح" فلا يفعل في غير الوقت بل ذلك بدعة ظاهر وأما إذان بلال في ذلك الوقت الخاص فقد وضحت فيه العلة بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليوقظ نائمكم ويراجع قائمكم". كما ثبت في الصحيح فلم يبق ما يستدل به على جواز الإذان لنفس الصلاة قبل دخول وقتها وليس هنا ما يقتضي التعارض والترجيح.
قوله: "من مكلف".
أقول: هذا هو الظاهر لأن الإذان عبادة شرعية لا تجزىء إلا من مكلف بها وقد استدل الجلال في شرحه لهذا الكتاب على جواز إذان الصبي بإذان أبي محذورة للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال وهو صبي ولا شيء في الروايات أنه كان صبيا بل الذي في الروايات أنه كان صيتا أو قوي الصوت فلعله تصحف على الجلال الصيت بالصبي فجزم بأنه كان صبيا.(1/121)
وقد وقع في بعض روايات هذا الحديث أنه كان غلأما ولفظ الغلام يطلق على الكبير والصغير قالت ليلى الأخيلية في مدح الحجاج:
شفاها من الذى العضال الذب بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أنا الغلام القرشي المؤتمن ... أبو حسين فاعلمن والحسن
وقال الأزهري سمعت العرب يقولون للمولود غلام وسمعتهم يقولون للكهل غلام.
ومما يدل على أنه كان رجلا ما وقع في رواية النسائي ["633"] ، قال أبو محذورة خرجت عاشر عشرة من مكة فسمعناهم يؤذنون بالصلاة فقمنا نؤذن نستهزىء بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت" فأرسل إلينا فأذنا رجلا رجلا وكنت آخرهم الحديث.
فقوله رجلا يدل على أنه كان رجلا وقال السهيلي إنه كان أبو محذورة في أول إذانه في ست عشرة سنة.
قوله: "ذكر".
أقول: الإذان إعلام بدخول الوقت ودعاء إلي الصلاة فلا يكون إلا برفع الصوت والمرأة مأمورة بالستر ولم يسمع في ايام النبوة ولا في الصحابة ولا فيمن بعدهم من التابعين وتابعيهم أنه وقع التأذين المشروع الذي هو إعلام بدخول الوقت ودعاء إلي الصلاة من امرأة قط.
وأما إذان المرأة لنفسها أو لمن يحضر عندها من النساء مع عدم رفع الصوت رفعا بالغا فلا مانع من ذلك بل الظاهر أن النساء ممن يدخل في الخطاب بالإذان كما قدمنا ذلك.
قوله: "معرب".
أقول: الإذان عبادة شرعية فينبغي أن يكون على الصفة الواردة عن الشارع ومعلوم أنه كان يؤدى معربا على ما تقتضيه لغة العرب فمن جاء به على غير تلك الصفة فهو لم يفعل ما أمر به كسائر الأذكار الواردة عن الشارع.
قوله: "عدل"
أقول: قد عرفت أن الإذان إعلام بدخول الوقت للصلاة ودعاء إليها ومن كان غير عدل ولا يؤمن على الوقات ولا يقبل إذا أخبر بدخولها فيفوت المقصود من جعله مؤذنا.
ويؤيد هذا ما أخرجه أبو دأود ["590"] ، وابن ماجه ["726"] ، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليؤذن لكم خياركم"، وفي إسناده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي وفيه مقال لا يوجب عدم الاحتجاج بحديثه.
وأخرج أحمد وابو دأود وابن حبان وابن خزيمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين".(1/122)
وروى أيضا من حديث عائشة قال أبو زرعة حديث أبي هريرة أصح من حديث عائشة وصحح الحديثين جميعا ابن حبان.
وقد أطلت الكلام على الحديثين في شرحي للمنتقي فليرجع إليه.
ووصفه صلى الله عليه وسلم للمؤذن بأنه مؤتمن يدل على أنه لا بد أن يكون عدلا لأن من ليس بعدل ليس بمؤتمن.
قوله: "طاهر من الجنابة".
أقول: لم يأت ما تقوم به الحجة لا في كون المؤذن طاهرا من الحدث الأكبر ولا من الحدث الأصغر لأن ما هو مرفوع في ذلك لم يصح وما هو موقوف على صحأبي أو تابعي لا تقوم به الحجة وإن كان التطهر للمؤذن من الحدثين هو الأولى والأحسن فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد السلام وهو محدث حدثا اصغر حتى توضأ كما في رواية وتيمم كما في أخرى والإذان أولى بذلك من مجرد رد السلام.
قوله: "ولو قاضيا أو قاعدا أو غير مستقبل".
أقول: لا شك أن الإذان من المذكورين يجزىء ولكنه في القاعد وغير المستقبل مخالف للهيئة المشروعة الثابتة
قوله: "ويقلد البصير في الوقت في الصحو".
أقول: ليس هذا من التقليد في شيء بل هو من باب قبول الرواية لأن المؤذن العدل العارف بمداخل الأوقات ومخارجها إذا أذن فهو بإذانه مخبر بدخول الوقت ولا سيما إذا كان في محل مرتفع كالمنارة وأما مع الغيم فهو مانع من صحة الرواية لأنه يحول بين المؤذن وبين العلامات التي يستدل بها على دخول الأوقاف فلم يكن لروايته بالإذان صحة يتعين عندها القبول.
[فصل
"ولا يقيم إلا هو متطهرا فتكفي من صلى في ذلك المسجد تلك الصلاة ولا يضر إحداثه بعدها وتصح النيابة والبناء للعذر والإذن"] .
قوله: فصل: "ولا يقيم إلا هو متطهرا".
أقول: حديث: "من أذن فهو يقيم" [الترمذي "199"] ، لم يتكلم عليه إلا بأن في إسناده عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم الإفريقي وقد وثقه جماعة ولم يقدح فيه بما يوجب عدم الاحتجاج بحديثه لكنه قد أخرج أحمد ["4/42"] ، وأبو دأود ["512"] عن عبد الله بن زيد صاحب رؤيا الإذان أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برؤياه قال: "القه على بلال" فألقاه عليه فأذن بلال فقال عبد الله أنا رأيته وأنا كنت أريده قال له صلى الله عليه وسلم: "فأقم أنت" وفي إسناد هذا الحديث ومتنه خلاف.(1/123)
والحديث الأول متأخر لأن هذا كان عند رؤيا عبد الله بن زيد للإذان وقيل إن هذا الحديث يدل على أن تولي المؤذن للإقامة إنما هو على طريق الندب فقط.
وأما كون المقيم متطهرا فلم يرد ما يدل على أن ذلك حتم وغايته ان تكون الإقامة مثل الإذان وقد تقدم الكلام فيه.
قوله: "فيكفي من صلى في ذلك المسجد تلك الصلاة".
أقول: مشروعية الإقامة لم تختص بشخص دون شخص ولم يرد فيها ما ورد في الإذان مما يدل على أنه يكفي إذان الواحد في البلد أو في المسجد كما قدمنا فإن ورد دليل يدل على أن إقامة الواحد تكفي غيره وتسقط بها المشروعية على كل من صلى في ذلك المسجد فلا بأس وإلا فالظاهر أن مشروعية الإقامة ثابتة على كل شخص سواء كان وحده أو في جماعة وسواء أقام غيره أو لم يقم.
وأما كونه لا يضر إحداثه بعدها فظاهر لأنه قد أقام وهو متطهر بل لا يضر إحداثه حالها لعدم ورود ما يدل على أن الطهارة واجبة على المقيم.
وأما كون غير المؤذن ينوب عنه في الإقامة فالظاهر أنها تجوز النيابة إذا قد حصل الرضا من المؤذن لأن تخصيصه بالإقامة إنما هو لكونه الأولى بذلك فإذا وقع الإذن جاز للغير أن يقيم سواء كان له عذر أو لا وأما البناء فإنما يكون للعذر لأن وقع الإقامة من اثنين مع عدم العذر بدعة فلو قال المصنف وتصح النيابة للإذن والبناء للعذر لكان صوابا.
[فصل
وهما مثنى إلا التهليل ومنهما حي على خير العمل والتثويب بدعة وتجب نيتهها ويفسدان بالنقص والتعكيس لا بترك الجهر ولا الصلاة بنسيانهما.
ويكره الكلام حالهما وبعدهما والنفل في المغرب بينهما] .
قوله: فصل: "وهما مثنى إلا التهليل".
أقول: قد ثبت تشفيع الإذان وإيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة في الصحيحين [البخاري "605"، مسلم "2/378"] ، وغيرهما [أبو دأود "508"، الترمذي "193"، ابن ماجة "730"، أحمد "3/103"] . وثبت تربيع التكبير في أول الإذان من طرق حسنها البعض وصححها البعض وثبت التربيع في الشهادتين في صحيح مسلم ["6/379"، وغيره [أبو دأود "502"، الترمذي "193"،ابن ماجة "709"، النسائي "2/4"، أحمد "3/409"] . وروي من وجه صحيح تشفيع جميع ألفاظ الإقامة.
وورد في الإقامة من وجه صحيح ما يدل على إيتارها إلا التكبير في أولها وآخرها و"قد قامت الصلاة" فإن ذلك يكون مثنى مثنى.(1/124)
وروي أيضا التثويب في صلاة الصبح من وجه صححه بعض الحفاظ وتكلم فيه آخرون فإن عملنا بأصح ما ورد فهو تشفيع الإذان مع الترجيع في الشهادتين وإيتار الإقامة إلا لفظ قد قامت الصلاة والتكبير في أولها وآخرها.
وإن سلكنا طريقة الجمع فيتعين العمل بالزيادة الخارجة من مخرج صحيح فيكون التكبير في أول الإذان أربعا وتكون الشهادتان مع الترجيح ثمانيا وسائر الألفاظ في الإذان مرتين مرتين إلا قول المؤذن "لا إله إلا الله" في آخره فإنه مرة واحدة ويزاد في صلاة الصبح لفظ التثويب وهو أن يقول المؤذن "الصلاة خير من النوم".
وتكون الإقامة مثنى مثنى إلا قول المقيم لا إله إلا الله في آخرها فإنها مرة واحدة فهذا حاصل ما ورد في الإذان والإقامة وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلي أن الكل سنة وأيها فعله المؤذن والمقيم فقد فعل ما هو حق وسنة قال أبو عمر بن عبد البر ذهب أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه ودأود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلي إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير قالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال: "الله أكبر" في أول الأذان أربعا ومن شاء ثنى ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله: "قد قامت الصلاة" فإن ذلك مرتان على كل حال انتهى.
وهذا الذي قالوه صواب كما قيل في التشهدات والتوجهات ولكن ذلك لا ينافي أن يختار الإنسان لنفسه أصح ما ورد أو يأخذ بالزائد فالزائد قال ابن القيم في الهدي ذاهبا إلي ما ذهب إليه أولئك الأئمة ومشيرا إلي ما اشرنا إليه ما لفظه أنه سن التأذين بترجيع وغير ترجيع وشرع الإقامة مثنى وفرادى لكن صح عنه تثنيه كلمة الإقامة قد قامت الصلاة ولم يصح عنه أفرادها ألبتة وكذلك صح عنه تكرر لفظ التكبير في أول الإذان ولم يصح عنه الاقتصار على مرتين وأما حديث أمر بلال أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة فلا ينافي الشفع بأربع وقد صح التربيع صريحا في حديث عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب وأبي محذورة.
وأما أفراد الإقامة فقد صح عن ابن عمر استثناء كلمة الإقامة فقال إنما كان الإذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين والإقامة مرة مرة غير أنه يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة.
وفي البخاري عن أنس أمر بلال أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة وصح في حديث عبد الله بن زيد وعمر في الإقامة "قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة".
وصح في حديث أبي محذورة تثنية كلمة الإقامة مع سائر كلمات الإذان.
وكل هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة فيها وإن كان بعضها أفضل من بعض انتهى.
وبما أوضحناه لك في هذا البحث ترتفع عنك الإشكالات في هذه المسألة فقد طالت ذيولها وتشعبت طرائقها.(1/125)
قوله: "ومنهما حي على خير العمل".
أقول: هذا اللفظ قد صار من المراكز العظيمة عند غالب الشيعة ولكن الحكم بين المختلفين من العباد هو كتاب الله وسنة رسول فما جاءنا فيهما فسمعا وطاعة وما لم يكن فيهما فإن وضح فيه وجه قياس بمسلك من المسالك المقبولة التي لا ترفع ولا تنقض كالنص على العلة أو دلالة الدليل على ثبوت الحكم في المسكوت عنه بفحوى الخطاب كان للمتمسك بذلك أن يقول به على ما فيه من خلاف.
وهكذا إذا صح الإجماع على حكم ولكن دون تصحيح الإجماع مفأوز متلوية وطرائق متشعبة وعقاب شامخة كما أوضحنا ذلك في إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول.
وإذا كان اختلاف المختلفين في حكم ثابت من السنة فالمرجع دوأوينها التي وضعها علماء الرواية وهي الأمهات وما يلتحق بها من المسانيد ونحوها ولم يثبت رفع هذا اللفظ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب الحديث على اختلاف أنواعها وغاية ما يروى في ذلك ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن بلال أنه كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكانها "الصلاة خير من النوم" وترك "حي على خير العمل" وفي إسناده عبد الرحمن بن عمار بن سعد وهو ضعيف وقد قال البيهقي بعد إخراجه هذا اللفظ لم يثبت فيما علم النبي صلى الله عليه وسلم بلالا وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه انتهى.
ومع هذا ففي هذا التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يترك ذلك فلو قدرنا ثبوته لكان منسوخا.
قوله: "والتثويب بدعة".
أقول: قد رويت فيه أحاديث منها ما هو صحيح ومنها حسن ومنها ما هو ضعيف فلا وجه للقول بأنه بدعة وهو مختص بصلاة الفجر وذلك بأن يقول المؤذن بعد قوله: "حي على الفلاح" "الصلاة خير من النوم".
ولقد وقع للجلال في شرح هذا الكتاب في هذا البحث وفي بحث "حي على خير العمل" من التكلف والتعسف والخروج عن طريق الحق ما يعجب الناظر فيه من قائله خصوصا إذا كان ممن يدعي الإنصاف في مسائل الخلاف وتأثير الأدلة على القيل والقال ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قوله: "وتجب نيتهما"
أقول: لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وما ورد في معناه وقوله عز وجل: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29، يونس: 22، العنكبوت: 65، لقمان: 32، غافر: 14، 65، البينة: 5] . فوجه مشروعيته النية في الإذان والإقامة هو هذا لأن الأعمال المذكورة في الحديث تشمل الأقوال والأفعال.
وأما ما ذكره الجلال في شرحه لهذا الكتاب من أن النية تجب لما كان يقع على وجوه كثيرة(1/126)
لا ما كان يقع على وجه واحد فليس ذلك إلا مجرد رأي محض والدليل قد دل على مشروعية النية على العموم لأنه وقع التعبد بها في كل عمل كما نطق به الدليل فينوي المؤذن والمقيم أن هذا القول الذي قصد له هو ما تعبده الله به وشرعه له وبهذه النية يخلص من كل وجه من الوجوه التي لم يقصدها الشارع ولا شرع الفعل لها.
وأما ما ذكره المصنف من أن الإذان والإقامة يفسدان بالنقص فوجهه أن الذي نقص بعض ألفاظ الإذان والإقامة لم يأت بالمشروع منهما فهو كمن لم يعقل ذلك وهكذا من عكس ألفاظهما.
وأما ما ذكره من أنهما لا يفسدان بترك الجهر فهذا إذا أذن لنفسه أوله ولمن هو حاضر لديه يسمع إسراره وأما إذا كان المؤذن داعيا إلي الصلاة معلما بدخول وقتها فهو لم يفعل ما هو المقصود من نصبه للتأذين وإن كان قد فعل المشروع له بخصوصه من الإذان لنفسه.
وأما عدم فساد الصلاة بنسيانهما فهو واضح لأنهما عبادة خارجة عن الصلاة التي تحريمها التكبير وتحليلها التسليم لا شرط من شروط كالوضوء فلا تفسد الصلاة يتركهما عمدا فضلا عن نسيانهما ولكن التارك لهما عمدا قد أخل بواجبين عليه كما قدمنا من أن الأدلة قد دلت على وجوبهما.
وأما كراهة الكلام حالهما فواضح لأنه اشتغال حال العبادة بما ليس منها وكذا الكلام بعدها لأن الإقامة للصلاة دعاء إليها بعد الدعاء بالإذان فالاشتغال بعد ذلك بغير الصلاة مما لا جدوى فيه من الكلام يخالف ما هو مدلول لفظ الإقامة لا سيما قول المقيم قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة فإن ذلك متضمن للإخبار بقيامها ففعل شيء بعدها من كلام أو غيره يخالف هذا الإخبار وينافيه.
وأما ما ثبت في الصحيح ["624، 643"، أحمد "3/182، 205، 232"] ، من حديث أنس قال أقيمت صلاة العشاء فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم لي حاجة فقام إليه يناجيه فهذا هو من قضاء حوائج المسلمين لا من الاشتغال بما لا يغني من الكلام الذي ذكر المصنف كراهته وقد تكون هذه الحاجة التي طلب ذلك الرجل من النبي صلى الله عليه وسلم قضاءها مما لا ينبغي تأخيره ولو بمجرد ظنه صلى الله عليه وسلم كذلك عند قول القائل لي حاجة وقد يكون هذا الرجل من المؤلفين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتألفه بقضاء حاجته في ذلك الوقت.
قوله: "والنفل بينهما".
أقول: هذا دفع في وجه الأدلة الصحيحة ورد للسنة التي هي أظهر من شمس النهار فإنه قد ثبت مشروعية النفل بين الإذان والإقامة في جميع الصلوات كحديث: "بين كل إذانين صلاة" ثم ثبت مزيد لخصوصية النفل بين إذان المغرب وإقامته فورد بلفظ: "بين إذاني المغرب صلاة" وورد بلفظ: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين" وكرر ذلك ثلاثا وقال في الثلاثة "لمن شاء" وهو في الصحيحين [البخاري "1183، 7368"، مسلم "838"] ، وغيرهما. وقال الرأوي معللا(1/127)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس سنة يعني سنة لازمة لا يجوز تركها.
وقد ثبت أن الصحابة كانوا إذا أذن المؤذنون للمغرب قاموا يصلون هذه النافلة حتى يظن من دخل المسجد أن الصلاة قد صليت لما يرى من كثرة ما يصلي هذه النافلة.
وأما الاستدلال للكراهة بما تقدم من حديث أبي أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب" فليس في ذلك ما يدل على كراهة هذه النافلة فإن المقصود التأخير عن الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها فيه وهو الذي أرشد الأمة إلي فعل هذه النافلة وأكد ذلك عليهم بالتكرير فنصب هذا الحديث في مقابلة الأحاديث التي ذكرناها ليس كما ينبغي ولا يفعله من له ملكة في الاستدلال ومعرفة بما جاءت به السنة.(1/128)
[باب صفة الصلاة
"هي ثنائية وثلاثية ورباعية"
فصل وفروضها نية يتعين بها الفرض مع التكبيرة أو قبلها بيسير ولا يلزم للأداء والقضاء إلا للبس ويضاف ذو السبب إليه.
قال المؤيد بالله تكفي صلاة إمامي حيث التبس أظهر أمر جمعة فقط والمحتاط آخر ما علي من كذا والقاضي ثلاثا عما علي مطلقا وركعتان ممن لا قصر عليه لا الأربع غالبا ثم التكبير قائما لا غيره وهو منها في الأصح ويثنى للخروج والدخول في أخرى ثم القيام قدر الفاتحة وثلاث آيات في أي ركعة أو مفرقا ثم قراءة ذلك كذلك سرا في العصرين وجهرا في غيرهما.
ويتحمله الإمام عن السامع وعلى المرأة أقله من الرجل وهو إن يسمع من بجنبه ثم ركوع بعد اعتدال ثم اعتدال تام وإلا بطلت إلا لضرر أو خلل طهارة ثم السجود على الجبهة مستقرة بلا حائل حي أو يحمله إلا الناصية وعصابة الحرة مطلقا والمحمول لحر أو برد وعلى الركبتين وباطن الكفين والقدمين وإلا بطلت ثم اعتدال بين كال سجودين ناصبا للقدم اليمنى فارشا لليسرى وإلا بطلت.
ويعزل ولا يعكس للعذر ثم الشهادتان والصلاة على النبي وآله قاعدا والنصب والفرش هيئة ثم التسليم على اليمين واليسار بانحراف مرتبا معرفا قاصدا للملكين ومن في(1/128)
ناحيتها من المسلمين في الجماعة وكل ذكر تعذر بالعربية فبغيرها إلا القرآن فيسبح لتعذره كيف أمكن.
وعلى الأمي ما أمكنه آخر الوقت إن نقص ويصح الاستملاء لا التلقين والتعكيس وتسقط عن الأخرس لا الألثغ ونحوه وإن غير.
ولا يلزم المرء اجتهاد غيره لتعذر اجتهاده] .
قوله: "وفروضها نية يتعين بها الفرض مع التكبيرة" الخ
أقول: حديث: "إنما الأعمال بالنيات" وفي لفظ: "لا عمل إلا بنية " قد دل على أن النية شرط من شروط الصلاة لوجود دليل الشرطية القاضي بعدم المشروط عند عدم الشرط فإنه إن قدر أن الذات الشرعية لا تكون إلا بالنية كما هو المعنى الحقيقي انتفت تلك الذات الشرعية بانتفاء النية وهذا هو معنى الشرط.
وهكذا إن قدرت الصحة التي هي أقرب المجازين إلي الحقيقة أفاد انتفاء الصحة بانتفاء النية ولا يصار إلي تقدير الكمال إلا بدليل لأنه مجاز بعيد.
إذا عرفت هذا علمت أن النية شرط من شروط الصحة وأنه لا صلاة لمن لم ينو وليست بفرض كما قال المصنف فإن الفرض لا يؤثر عدمه في عدم ما هو فرض فيه إلا إذا كان ركنا فإن الركن يؤثر عدمه في عدم ما هو ركن فيه لعدم وجود الذات المطلوبة على الصفة المقصودة إلا أن يدل دليل على أن عدم ذلك الركن لا يقدح في تلك الذات المطلوبة ولا يوجب انعدامه انعدامها.
وقد تكلم الجلال ها هنا بما هو نوع من الهذيان لأنه لم يجر على مقتضى الرواية ولا على أسلوب الرأي وهكذا لا وجه لقول المصنف ولا يجب للأداء والقضاء إلا للبس فإن وجوب النية ليس لمجرد رفع اللبس بل لورود التعبد بها في كل عبادة سواء كانت مما يلتبس بغيره أم لا ولا فرق بين الصلوات الخمس وبين غيرها كالجمعة والعيد والجنازة لأن جميع ذلك عمل ولا عمل إلا بنية.
والمراد بالنية قصد تأدية تلك العبادة التي شرعها الله سبحانه لعباده على الوجه المطلوب منهم فلا يصح أن تكون مترددة ولا مجملة ولا مشروطة.
وبهذا تعرف الكلام على ما حكاه المصنف عن المؤيد بالله.
قوله: "ثم التكبير".
أقول: اعلم أن الله سبحانه أمرنا بالصلاة في كتابه العزيز أمرا مجملا فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43، 83، 110، النساء: 77، 103، الأنعام: 72، العراف: 29، يونس: 87، الحج: 78] ، وهذا أمر فما وقع في بيانه منه صلى الله عليه وسلم فهو بيان لمجمل واجب فيكون واجبا.
فهذا الدليل بمجرده قد دل على وجوب جميع ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في الصلاة سواء كان(1/129)
ركنا أو ذكرا أو شرطا ثم زاد هذا الدليل تأكيدا قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" [البخاري "6008"، مسلم "24/392"، أبو دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "2/77"، ابن ماجة "979"] ، فكان هذا دليلا على وجوب جميع ما فعله في صلاته أو قاله فيها فلا يخرج عن الوجوب شيء منها إلا بدليل يدل على عدم وجوبه وذلك كحديث "المسيء صلاته" [البخاري "6251"، مسلم "397"] ، فإنه اقتصر في تعليمه على البعض مما كان صلى الله عليه وسلم يفعله في الصلاة وكان ذلك دليلا على أن ما لم يذكر فيه ليس بواجب ومن جملة ما هو مذكور فيه تكبير الافتتاح فتقرر بهذا أنه من واجبات الصلاة وزاد ذلك تأكيد قوله صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" [أحمد "1/129"، أبو دأود "618"، الترمذي "3"، ابن ماجة "275"] ، فإنه قد بين في هذا الحديث أن للصلاة تحريما وتحليلا فكان ذلك دليلا علي وجوبهما لوجوب ما هما تحريم له وتحليل.
وأما المعارضة بأنه قد وقع في حديث المسيء اشياء غير واجبة فليس مجرد هذه المعارضة قادحة في وجوب ما دلت الأدلة على وجوبه لأن ذلك هو مجرد إلزام لمثل مصنف هذا الكتاب ومن قال بقوله.
وقد استكثر الجلال من التمسك بمجرد هذه المعارضة في شرحه لهذا الكتاب وأسقط بها فرائض جاءت الأوامر بها وثبتت في حديث المسيء وليس هذا من داب أهل الإنصاف بل مجرد مجأدلة ومخاصمة في الحق ولا يوجب وقوع المعارضة أو المناقضة لطائفة ذهاب الحق الذي شرعه الله لعباده وهم إذا التزموا ذلك واعترفوا فالحق من وراء إلزامه لهم واعترافهم له.
ونحن نقول له ما عارضتهم به أو ناقضتهم باعتبار ما قالوه وما صرحوا به هو عندنا ملتزم ونحن نقول بوجوبه حتى يدل دليل على عدم وجوبه وحينئذ يصفو مشرب الحق وترتفع ظلمة الجدال وينجلي قتام الخصام.
فيا طالب الحق خذ هذه الكلية واجعلها على ذكر منك تنتفع بها في كثير من المباحث التي صارت بالتمسك بالطرائق الجدلية ظلمات بعضها فوق بعض ولم يستفد منها كثير من المطلعين عليها إلا مجرد الحيرة وعدم الاهتداء لوجه الصواب.
وقد جمعت جميع طرق حديث المسيء في شرحي للمنتقي وذكرت جميع ألفاظه المختلفة فاحكم لجميع ما اشتمل عليه بالوجوب لما قدمنا من كونه بيانا لمجمل واجب ولأمره صلى الله عليه وسلم بأن نصلي كما رأيناه يصلي ولاقتصاره في تعليم المسيء على ما اشتمل عليه حتى يأتي دليل يخص بعضه بعدم الوجوب فإنك بهذا الصنع قاعد في مقعد الإنصاف قائم في مقام الحق الذي لا تزحزحه شبهة ولا يدفعه جدال ولا يضره قيل ولا قال.
إذا عرفت هذا فاعلم أن تكبير الافتتاح من قعود أو بغير اللفظ الذي ثبت عن الشارع بدعة وكل بدعة ضلالة فما لنا وللتعرض لمثل هذا وأنه قد قال به فلان أو عمل به فلان وجعل ذلك ذريعة إلي الاعتراض على من قال بالحق ودان بالصواب.
قوله: "والقيام قدر الفاتحة".(1/130)
أقول: القيام ركن من أركان الصلاة التي لا تتم إلا به ولا ينبغي أن يقع في مثله خلاف فهو فرض ركني له مزيد خصوصية على مجرد الفرضية لتأثير عدمه في عدم الصلاة.
وأما تقدير المصنف لما هو الواجب من القيام بأنه قدر الفاتحة وثلاث آيات فهذا مجرد رأي محض ليس عليه دليل ولا شبهة دليل.
وأعجب من هذا وأغرب أنه يكفي القيام هذا القدر في ركعة من الركعات ولا يستقر في قيامه في سائر الركعات إلا قدر سبحان الله فإن هذه ليست الصلاة التي جاءت بها الشريعة وعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة منذ فرض الله الصلاة إلي أن قبضه الله إليه.
ويا لله العجب من التجرؤ على مثل هذه العبادة التي هي رأس الدين وأساسه بمثل هذه الخزعبلات والترهات
قوله: "ثم قراءة ذلك كذلك".
أقول: قد ورد الأمر بالقراءة في الكتاب العزيز ثم بينت السنة بأنه "لا صلاة لمن لا يقرأ بأم القرآن" [البخاري "822"، مسلم "34/394"، أبو دأود822"، الترمذي "247"، النسائي "2/137"، ابن ماجة "837"، أحمد "5/314"] ، وفي لفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن".
وقوله: "لا صلاة" يدل أن ترك قراءة الفاتحة تبطل به الصلاة لأن المراد لا صلاة شرعية فما وقع من الصلاة لم يقرأ فيه بأم القرآن فهو غير صلاة شرعية وهذا يكفي في الاستدلال على فرضية القراءة بفاتحة الكتاب بل استلزم عدمها لعدم الصلاة وهو زيادة على مجرد الفرضية وعلى فرض ورود دليل يدل على أن هذا النفي لا يتوجه إلي الذات فقد قدمنا لك أن تقدير الصحة هو أقرب المجازين إلي الذات فيتعين تقدير الصحة.
هذا على فرض أنه لم يرد ما قدمنا بلفظ: "لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" فكيف وقد ورد وثبت فإن ذلك يقطع النزاع ويرفع الخلاف ويدفع في وجه من زعم أن الذي ينبغي تقديره ها هنا هو الكمال.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ورد في حديث المسيء من وجه صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن يقرأ ثم قال له: "اصنع ذلك في كل ركعة" [أحمد "4/340"، أبو دأود "857، 858، 859، 861"، النسائي "2/193"] ، وهذا دليل قوي على وجوب الفاتحة في كل ركعة وقد أخرجه أحمد وابن ماجه في حديث المسيء من رواية رفاعة بن رافع بأسناد صحيح وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي بإسناد صحيح.
فتقرر لك بهذا فرضية قراءة الفاتحة في كل ركعة بالأدلة الصحيحة فدع عنك القيل والقال والمجادلة بما لا يتفق من المقال عند فحول الرجال فإن كل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع.
قوله: "سرا في العصرين وجهرا في غيرهما".
أقول: أما قراءته صلى الله عليه وسلم في الصلوات المفروضة فقد تبين أمرها وعرف ما كان يجهر فيه منها وما كان يسر فيه لكنه لم يرد في تعليم المسيء أنه صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ في صلاتك كذا جهرا وفي(1/131)
صلاتك كذا سرا, بل أمره بالقراءة وهي أعم من أن يأتي بها سرا أو جهرا فيكون فعله للجهر في بعض الصلوات وهي الفجر والمغرب والعشاء والإسرار في البعض الآخر وهما الظهر والعصر كالبيان لذلك الأمر للمسيء فيتم حينئذ القول بوجوب الجهر فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسرار فيما أسر فيه لا بدليل كون فعله بيانا للمجمل ولا بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" بل بما في حديث المسيء.
قوله: "ويتحمله الإمام عن السامع"
أقول: قوله تعالي: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا قرأ فأنصتوا" [أحمد "2/420"، أبو دأود "604"، النسائي "2/141"، ابن ماجة "846"، مسلم "63"] ، يدل على أن الإمام يتحمل القراءة عن السامع.
وعلى تقدير ما قيل من عدم دلالة الآية على المطلوب وعدم انتهاض الحديث للاستدلال به فقد أغنى عن ذلك الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" [أحمد "5/316"، أبو دأود "823"، الترمذي "311"] .
وإن هذا الحديث قد أفاد فائدتين الأولى النهي عن القرآن خلف الإمام والثاني وجوب قراءة الفاتحة خلفه وهذا ظاهر واضح لا ينبغي التردد في مثله لصحته ووضوح دلالته.
قوله: "وعلى المرأة أقله من الرجل".
أقول: لم يرد دليل يدل على هذا إلا مجرد ملاحظة ما هو اقرب إلي الستر وأبعد من الفتنة وأقل الجهر إذا كان مجزئا للرجال فهو مجزىء للنساء بالأولى.
قوله: "ثم ركوع بعد اعتدال ثم اعتدال تام وإلا بطلت إلا لضرر أو خلل طهارة".
أقول: فرضية الركوع والاعتدال منه معلوم بالضرورة الشرعية وبطلان صلاة من لم يفعل ذلك أصلا أو لم يفعله حتى يطمئن معلوم بالأدلة الصحيحة كحديث المسيء فإنه صرح فيه بقوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما" الحديث، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها ظهره" وهو حديث صحيح [الترمذي "265"، أحمد "4/122"، ابن ماجة "870"] ، وورد عند أحمد ["4/22"] ، وغيره بلفظ: "لا ينظر الله إلي صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده" وقد قال للمسيء "ارجع فصل فإنك لم تصل".
وأما الاستدلال على عدم البطلان بقوله للمسيء بعد تعليمه: "إذا انتقصت من ذلك شيئا فقد انتقصت من صلاتك" فلا دلالة له على ذلك لأن انتقاصه من صلاته بترك ركن من أركانها يخرجها عن الصورة المطلوبة للشارع وقد قال لهذا المسيء نفسه "ارجع فصل فإنك لم تصل" فوجب حمل هذا الانتقاص على الإسقاط المبطل للصلاة جمعا بين الروايتين.
ولأهل الرأي في عدم إيجاب الطمأنينة كلام يعرف فساده من يعرف الاستدلال ويدري بكيفيته وقد أفضى ذلك إلي أن يصلي غالب عامتهم وبعض خاصتهم صلاة لا ينظر الله إلي(1/132)
صاحبها ولا تجزئه كما نطق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت هذه الرؤية النازلة بهم هي ثمرتهم المستفادة من تقليدهم.
قوله: "ثم السجود على الجبهة مستقرة".
أقول: قد ثبت في حديث المسيء أنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يمكن جبهته من الأرض وأخرج الترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد أمكن جبهته وأنفه الأرض وقال حسن صحيح وأخرج النسائي ["1113"] من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبعة لا اكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين"، وأخرجه مسلم بلفظ ["231/490"] : "على سبع ولا أكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف" الحديث وفي لفظ الصحيحين [البخاري "812"، مسلم "230/490"، أبو دأود "890"، الترمذي "273"، النسائي "1093"] ، من حديث ابن عباس اقتصر علي ذكر الجبهة دون الأنف، وقد ثبت في ألفاظ الأحاديث في الصحيحين وغيرهما بلفظ أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم. [البخاري"809"] .
وبهذا البيان يتضح لك ان رواية ذكر الجبهة مع الإشارة إلي الأنف لبيان أن السجود على الجبهة لا يكون تأما كاملا إلا بوضع الأنف معها.
ومع هذا فقد أغنانا على ذلك ذكرهما معا في الأحاديث كما اشرنا إليه وقد اجتمع في السجود على الجبهة والأنف البيان للسجود المأمور به في القرآن المعلوم وجوبه بالضرورة الشرعية بالقول والفعل فكان ذلك كافيا في فرضية السجود على تلك الأعضاء من غير انضمام أمر الأمة بذلك فكيف وقد ثبت كما ذكرناه لك وحينئذ تعرف أنه لا وجه لما ذكره الجلال من تلك المقأولات التي هي بمعزل عن التحقيق.
واعلم أن الأمر بالسجود على هذه الأعضاء لا بد أن يكون على الأرض أو على ما هو عليها من حصير أو نحوه فلا يجعل المصلي بين هذه الأعضاء وبين ذلك حائلا لا من حي ولا من غيره فإن فعل خالف ما أمر به مع كون ذلك بيانا لمجمل القرآن ولهذا حكم المصنف على من لم يسجد على هذه الأعضاء بلا حائل بينها وبين الأرض بالبطلان لسجدته ولكنه ربما يقال إن الذي سجد على هذه الأعضاء مع حائل قد سجد عليها وفعل ما أمر به فإنه يصدق عليه لغة وعرفا وشرعا أنه قد سجد عليها فكون الحائل مانعا من صحة السجود الموجود في الخارج يحتاج إلي دليل فإن جاء به صافيا عن شوب الكدر صالحا للحجية فبها ونعمت وإلا فلا نسلم أن ذلك السجود الموجود في الخارج كلاسجود مع كونه على الأعضاء التي وقع الأمر بالسجود عليها.
ومما يؤيد هذا ما في الصحيحين [البخاري "385"، مسلم "191/620"] وغيرهما من حديث [النسائي "116"] ، من حديث أنس قال كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.(1/133)
قوله: "ثم اعتدل بين كل سجودين".
أقول: هذا فرض ركني لا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهو بيان للسجود المأمور به في القرآن وصح في حديث المسيء في الصحيحين وغيرهما بلفظ "ثم ارفع حتى تطمئن جالسا".
فيا عجبا لمن لم يقل بفرضية هذا الركن وتلاعب به في صلاته وترك ما هو الشرع الواضح والركن الذي لا صلاة لمن لا يأت به فيها.
قوله: "ثم الشهادتان".
أقول: لا وجه للاقتصار على مجرد الشهادتين لأنهم استدلوا على وجوبها بما وقع من الأوامر عنه صلى الله عليه وسلم بالتشهد فينبغي إيجاب أحد التشهدات بنفس الدليل الذي استدلوا به على وجوب الشهادتين
وحاصل ما استدل به الموجبون للتشهد ما وقع من امره صلى الله عليه وسلم مع قول ابن مسعود وكنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد فإن هذا يدل على أنه فرض عليهم ولم يأت القائلون بعدم وجوبه بحجة مقبولة إلا قولهم إنه لم يذكر في حديث تعليم المسيء وصدقوا لم يذكر في حديث المسيء لكن إذا تقرر أن حديث تعليم المسيء متأخر عن مشروعية التشهد أما إذا كان حديث المسيء متقدما فلا مانع من أن يتجدد إيجاب واجبات لم يشتمل عليها فإن جهل التاريخ كان القول بالوجوب أرجح لأنه قد وجد ما يقتضي الوجوب ولم يتيقن ما يصرفه عن ذلك فوجب على الوجوب عملا بدليله.
لا يقال إن الأصل البراءة للذمة لأنا نقول لا براءة بعد وجود الدليل الدال على الوجوب إلا بوجود ما يصرفه عن حقيقته.
قوله: "والصلاة على النبي وآله".
أقول: أدلة وجوب ذلك في الصلاة دون أدلة وجوب التشهد وقد عرفناك ما في ذلك ووجهه أن التشهد قد صرحت الأحاديث بمحله وأين يقال وأما الأحاديث الواردة بتعليم كيفية الصلاة فليس فيها ذكر إيقاع ذلك في التشهد.
وأما ما ورد في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود عند ابن حبان وابن خزيمة والحاكم والبيهقي وصححوه والدارقطني أنهم قالوا كيف نصلي عليك في صلاتنا فليس فيه أن ذلك في التشهد بل هو مطلق في جنس الصلاة ومع هذا فلم يذكر الصلاة في حديث المسيء الذي هو مرجع الواجبات.
وقد أطلنا البحث في هذا في شرح المنتقى فليرجع إليه.
قوله: "والنصب والفرش هيئة".
أقول: أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ما روى هو أن يتورك [أحمد "5/424"، أبو دأود "730"، الترمذي "304"، النسائي "3/34"] المصلي عند قعوده لهذا التشهد وقد ورد النصب [البخاري "828"، أبو دأود "734، 967"] ، والفرش ورودا يسيرا بالنسبة إلي التورك وورد صفة ثالثة هي(1/134)
أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه الأيمن وساقه [مسلم "112/ 579"] ، فلا وجه لاقتصار المصنف على هيئة واحدة وتأثيرها على ما هو أصح منها.
قوله: "ثم التسليم على اليمين واليسار".
أقول: أشف ما استدل به القائلون بالوجوب هو حديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم فإن هذا الحديث يدل على أنهما جزاءان للصلاة وعلى تسليم دلالة هذا على الوجوب فإنما يتم ذلك لو قدرنا تأخره عن حديث المسيء فإنه لم يذكر فيه السلام.
وقد عرفناك أن واجبات الصلاة قد انحصرت فيه الا أن يأتي ما يدل على الوجوب ويثبت تأخره عن حديث المسيء لما تقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وأما الخلاف في التسليم هل هو واحدة أو اثنتان أو ثلاث فالأدلة الصحيحة الكثيرة قد دلت على تسليمتين [أبو دأود "997"، أحمد "4/316"] ، والدليل الدال على كفاية الواحدة على تقدير صلاحيته للحجية لا يعارض أحاديث التسليمتين لأنها مشتملة على زيادة غير منافية للمزيد ولم يرد في مشروعية الثلاث شيء يعتد به.
وأما ما ذكره المصنف رحمه الله من الأنحراف فلا يتم السلام المشروع إلا بالانحراف وهكذا لا يكون سلأما مشروعا إلا بالتعريف لأنه الصفة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
وأما قصد الملائكة فلم يدل دليل على ذلك.
قوله: "وكل ذكر تعذر بالعربية فبغيرها".
أقول: دل على هذا ما وقع في رواية من حديث المسيء بلفظ: "فإن كان معك قرآن وإلا فأحمد الله وكبره وهلله" [أبو دأود "861"] ، ووقع في حديث ابن أبي أوفى عند أحمد ["4/353" و "4/356"] ،وأبي دأود ["832"] ، والنسائي "2/143"] ، وغيرهم أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم لا استطيع شيئا من القرآن فقال له صلى الله عليه وسلم: "قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" وفي إسناده مقال لا يوجب سقوط الاستدلال به فمن لم يقدر على قراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن عدل إلي هذا الذكر مع إيجاب التعلم عليه وتضييقه حتى يحفظ الفاتحة وقرآنا معها فبصلي بذلك ما فرضه الله عليه وهكذا من كان مستعجم اللسان وتعذر عليه شيء من أذكار الصلاة بالعربية كالتشهد والتوجه فله أن يأتي بمعنى ذلك بلسانه حتى يتعلم ذلك الذكر الذي تعذر عليه حال وجوب الصلاة عليه وقد جعل الله في الأمر سعة لكن مع تحتم تعلم ما شرعه الله لعباده من اذكار الصلاة خصوصا الفاتحة وما يتيسر معها من القرآن لما قدمنا من الأدلة الدالة على أنها لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب بل لا تجزىء ركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.
وأما إيجاب التأخير إلي آخر الوقت فليس على ذلك دليل وقد قدمنا الكلام على هذا في قوله: "وعلى ناقص الصلاة أو الطهارة التحري لآخر الاضطرار"
قوله: "ويصح الاستملاء لا التلقين والتعكيس".(1/135)
أقول: قال الله سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فالذي لا يحفظ القرآن يستملي من المصحف ويتلقن من الغير ويقرأ ما يقدر عليه ولو غير بعض تغيير.
وإن كان أخرس لا يقدر على النطق ولا يسمع ما يقال له ولا يتعلم بالإشارة فليس عليه شيء فما كلف الله العباد إلا بما يدخل تحت طاقتهم ولا يكلف أحدا منهم بما لا يطيقه.
قوله: "ولا يلزم المرء اجتهاد غيره لتعذر اجتهاده"
أقول: إن كان مجتهدا فهو لا يحتاج إلي اجتهاد غيره قط ولا يتعذر عليه الاجتهاد من كل وجه أصلا وأقل الأحوال أن يرجع إلي البراءة الأصلية عند اشتباه الأمر ثم أقل أحوال المجتهد أن يكون مستحضرا للمرجحات التي يحتاج إليها عند تعارض الأمور أو التباس راجحها من مرجوحها.
نعم إذا كان هذا المجتهد ممن يجوز للمجتهد أن يقلد غيره ولم يطق في الحال خلوصا عما ورد عليه ولا مخرجا مما نابه إلا بالعمل بقول الغير كان له ذلك ولكن ليس هذا الذي هذه صفته هو المجتهد المطلق بل هو مجتهد المذهب وهو مقلد وليس بمجتهد وهكذا من ظن أنه قد صار مجتهدا في بعض المسائل دون بعضها فإنها قد تتخبط عليه الأمور وتضطرب عليه المسائل ولكن هذا ليس هو المجتهد المطلق بل هو إلي المقلدين أقرب وبهم أشبه:
فإن لم يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
[فصل
وسنتها التعوذ والتوجهان قبل التكبير وقراءة الحمد والسورة في الأوليين سرا في العصرين وجهرا في غيرهما والترتيب والولاء بينهما والحمد أو التسبيح في الأخريين سرا كذلك وتكبير النفل وتسبيح الركوع والسجود والتسميع للإمام والمنفرد والحمد للمؤتم وتشهد الأوسط وطرفا الأخير والقنوت في الفجر والوتر عقيب آخر ركوع بالقرآن.
وندب المأثور من هيئة القيام والقعود والركوع والسجود.
والمرأة كالرجل في ذلك غالبا] .
قوله: "فصل وسننها التعوذ والتوجهان قبل التكبيرة".
أقول: من له حظ من علم السنة المطهرة ورزق نصيبا من إنصاف يعلم أن جميع الأحاديث الواردة في التعوذ والتوجهان مصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك بعد تكبير الافتتاح وهذا مما لا يكاد أن يشك فيه عارف أو يخالط فيه ريب وكان يتوجه بعد التكبيرة ويتعوذ بعد التوجه قبل(1/136)
قبل افتتاح القراءة وقد ثبت عنه ألفاظ في التعوذ أيها فعل المصلي فقد فعل المشروع وثبت عنه توجهات أيها توجه به المصلي فقد فعل السنة ولكنه ينبغي للمتحري في دينه أن يحرص على فعل أصح ما ورد في التوجهات وأصحها حديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "2/227"، مسلم "147/598"] ، وغيرهما [أبو دأود "78"، ابن ماجة "805"، النسائي "60"، أحمد "2/231 و 494"] ، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وامي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" فهذا أصح ما ورد في التوجهات حتى قيل إنه قد تواتر لفظه فضلا عن معناه ثم فيه التصريح بأنه كان يتوجه بهذا في صلاته ولم يقيد بصلاة الليل كما ورد في بعض التوجهات فالعمل عليه والاستمرار على فعله هو الذي ينشرح له الصدر وينثلج له القلب وإن كان جميع ما ورد من وجه صحيح يجوز العمل عليه ويصير فاعله عاملا بالسنة مؤديا لما شرع له.
وأصح ما ورد في التعوذ حديث أبي سعيد عند أحمد ["3/50"] ، والترمذي ["242"] ، وأبي دأود ["775"] ، والنسائي ["2/132"] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلي الصلاة استفتح ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة ونفخه ونفثه".
واعلم أن المصنف ومن قال بقوله قد قسموا التوجه إلي توجهين كبير وصغير وجاءوا بما ورد في الكتاب العزيز هربا من أن يقع في الصلاة ما ليس من القرآن فكان حاصل ما اختاروه المخالفة لجميع ما جاءت به السنة.
أما ما جعلوه توجها صغيرا فلم يثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قط وهو {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111] ، فهذا هو في القرآن هكذا وليس هو من التوجهات ولو كان التوجه جائزا بكل ما فيه دعاء في القرآن لكان التوجه غير مختص بما ذكروه بل بكل ما فيه دعاء أو حمد أو توحيد أو عبادة أو استعاذة.
وأما التوجه الكبير فقالوا هو أن يقول وجهت وجهي للذي فطر السمأوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك امرت وأنا من المسلمين وهذا وقد ورد التوجه به من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند مسلم ["6/57"، وأحمد ["2/727"، والترمذي ["266"] ، وغيرهم [أبو دأود "760"، النسائي "2/897"] ، ولكن مع زيادة وهو قوله بعد "وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت" إلي آخر الحديث بطولة فكان الأولى لهم أن يتوجهوا بكل ما ورد في حديث على مع أنه مقيد في صحيح مسلم بصلاة الليل وإن اطلقه غيره فحمل المطلق على المقيد متعين.
ومع هذا فالحديث قد وقع التصريح فيه في سنن أبي دأود أنه كان إذا قام إلي(1/137)
الصلاة كبر ثم قال ففي هذا التوجه الذي أخذوا ببعض الفاظه وجعلوها توجها ما يدفع قولهم إنه قبل تكبير الافتتاح.
قوله: "والحمد والسورة في الأوليين"
أقول: هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا لا يكاد أن يقع فيه اختلاف أنه كان يقرأ في كل واحدة من الركعتين الأوليين الفاتحة وسورة وقد يقرأ سورتين وقد يقرأ سورة طويلة.
ولكن قد عرفناك أن الأدلة قد دلت على وجوب الفاتحة في كل ركعة دلالة بينة واضحة ظاهرة.
وما ذكره من كون القراءة تكون سرا في العصرين وجهرا في غيرهما فذلك هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة وقد قدمنا ما يفيد هذا.
قوله: "والولاء بينهما"
أقول: لم يأت في هذا دليل يخصه وقد كان صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من قراءة الفاتحة يسكت سكتة طويلة ثم يقرأ السورة وهذا مما يدفع كون الموالاة من غير فصل سنة ثم السكوت بين الفاتحة والسورة للدعاء وإن طال الفصل لا يخالف السنة فقد ندب الشارع إلي الدعاء في الصلاة مطلقا ومقيدا ببعض مواضعها فلا وجه لإدخال هذا في مسنونات الصلاة.
ولو جعل المصنف مكانه إطالة الركعتين الأوليين وتخفيف الركعتين الأخريين فقد ثبت عنه أنه كان يطيل القيام في الركعتين الأوليين من الظهر ويقوم في الأخريين على النصف من قيامه في الأوليين ثم يقوم في الأوليين من العصر قدر نصف قيامه في الأوليين من الظهر وفي الأخريين من العصر على النصف من وقوفه في الأوليين منهما وكان ينبغي له أن يذكر في هذا الفصل المشتمل على ذكر سنن الصلاة السنة العظمى والخصلة الكبرى التي هي أشهر من شمس النهار وهي العلم الذي في رأسه نار وذلك سنة الرفع عند افتتاح الصلاة فإنه قد ثبت من طريق خمسين من الصحابة منهم العشرة المبشرة بالجنة.
ثم سنة الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه ثم سنة ضم اليد اليمنى على اليسرى فإن هذه سنن ثابتة بأحاديث متواترة منها ما هو عن طريق عشرين من الصحابة ومنها ما هو اكثر من طريق عشرين ومنها ما هو من طريق نحو العشرين.
ثم سنة التأمين الثابتة بالأحاديث المتواترة هذا على فرض أنه سنة فقط وإن كانت الأحاديث مصرحة بوجوبه.
ثم سنة طول البقاء عند الاعتدال من الركوع والإتيان بذلك الدعاء الوارد فيه ثم سنة طول البقاء عند الاعتدال بين السجودين والإتيان بذلك الدعاء الوارد فيه لا سيما وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان قيامه فركوعه فاعتداله من الركوع فسجوده فاعتداله بين السجدتين فسجوده قريبا من السواء فإن هذه ونحوها سنن ينبغي الاعتناء بشأنها وإرشاد الأمة إلي فعلها وترغيبهم فيها وترهيبهم من تركها والتصريح لهم بأن المحروم من حرمها(1/138)
فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... وهات حديثا ما حديث الرواحل
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل
قوله: "والحمد أو التسبيح في الأخريين".
أقول: هذا التخيير العجيب والتشريع الغريب عبرة للمعتبرين ومغربة خبر للناظرين فإنه قد علم كل من يعرف السنة المطهرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل هذا التسبيح عوضا عن فاتحة الكتاب في شيء من صلاته المنقولة إلينا التي اشتملت عليها مجاميع السنة على اختلاف أنواعها ولا ثبت عنه أنه شرع لأحد من أمته أن يجعل هذا التسبيح عوضا عن الفاتحة أو أنه خيرهم بين الفاتحة وبينه لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف وغاية ما ورد ما قدمنا في حديث المسيء صلاته أنه إذا لم يستطع القراءة سبح وهذا أمر آخر لأنه مشروط بعدم القدرة على القراءة ثم هو رخصة في حالة التعذر مع أنه غير معذور من تعلم ما يقرأ به في صلاته فما لنا وللتخيير بينه وبين الفاتحة التي هي أشرف سورة بالنص في أشرف عبادة وهي الصلاة مع ما ورد من الأدلة الدالة على وجوب الفاتحة في كل ركعة فانظر إلي هذه المجازفة التي يتبرأ عنها قلم كل من له وزن خردلة من إنصاف.
وأما القول بأن التسبيح أفضل من الفاتحة فأغرب وأعجب ولا يأتي التطويل في رده بفائدة لوضوح بطلانه لكل ناظر في علم الأدلة.
والعجب من الجلال في شرحه لهذا الكتاب فإنه جعل معظم مقصده الانتصار لنفاة الأذكار كالأصم وابن علية الذين خالفوا قطعيات الشريعة الثابتة في هذه العبادة بالأدلة التي هي الجبال الرواسي.
فما لك والتلدد نحو نجد ... وقد غصت تهامة بالرجال
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قوله: "وتكبير النقل".
أقول: هذه السنة ثابتة من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا لا يشك في ذلك من له اطلاع على كتب السنة المطهرة وما وقع من ترك الجهر بة أو تركه بالمرة فمن ترك السنن وظهور البدع.
قوله: "وتسبيح الركوع والسجود"
أقول: وهذه السنة متواترة من فعله صلى الله عليه وسلم والتسبيح المشروع هو "سبحان ربي العظيم" في الركوع "وسبحان ربي الأعلى" في السجود وأقل ما يفعله المصلي من ذلك ثلاث تسبيحات في الركوع وثلاث تسبيحات في السجود ويختمها بقوله "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" [البخاري "4968"، مسلم "217/484"، أبو دأود "877"، ابن ماجة "889"] ، وقد ورد أنه يقول المصلي "سبحان ربي العظيم وبحمده" في الركوع وسبحان ربي الأعلى وبحمده في السجود من طرق ضعيفة.(1/139)
فالاقتصار على ما ذكرناه هو الأولى وأما من قال إن التسبيح في الركوع هو أن يقول المصلي سبحان الله العظيم وبحمده وفي السجود سبحان الله الأعلى وبحمده فلا أصل لذلك وقد وردت الأحاديث الصحيحة في الأدعية التي تقال في الركوع والسجود والاعتدال من الركوع والاعتدال بين السجودين وهي ثابتة ثبوتا متواترا ومن منع الأدعية في الصلاة فقد خالف السنة مخالفة ظاهرة فإن مجموع ما وردت مشروعيته من الأدعية في الصلاة لا يفي به إلا مؤلف مستقل ولكن هجر كتب السنة يوقع في مثل هذا.
قوله: "والتسميع للإمام والمنفرد والحمد للمؤتم".
أقول: قد ورد ما يدل على أنه يجمع بين التسميع والحمد كل مصل إمأما كان أو مأموما أو منفردا وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقي والزيادة مقبولة.
قوله: "والتشهد الأوسط"
أقول: الأوامر بالتشهد لم تخص التشهد الأخير بل هي واردة في مطلق التشهد فما قدمنا في التشهد الأخير من الاستدلال على وجوبه فهو بعينه دليل على وجوب التشهد الأوسط ومع هذا فالتشهد الأوسط مذكور في حديث المسيء الذي هو مرجع الواجبات ولم يرد ذكر التشهد الأخير في حديث المسيء فكان القول بإيجاب التشهد الأوسط أظهر من القول بإيجاب الأخير.
وأما الاستدلال على عدم وجوب الأوسط بكون النبي صلى الله عليه وسلم تركه سهوا ثم سجد للسهو فهذا إنما يكون دليلا لو كان سجود السهو مختصا بترك ما ليس بواجب وذلك ممنوع.
قوله: "وطرفا الأخير".
أقول: الأدلة التي ثبت بها وجوب التشهد هي مشتملة على الطرفين فإيجاب البعض بها دون البعض تحكم يأباه الإنصاف ولم يرد ما يدل على تخصيص وسط التشهد الأخير بالوجوب دون طرفيه قط.
قوله: "والقنوت في الفجر والوتر عقيب آخر ركوع بالقرآن".
أقول: إثبات هذا في سنن الصلاة لم يأت دليل يدل عليه فإن الأحاديث الواردة في هذا مصرحة باختصاصه بالنوازل وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذا نزلت بالمسلمين نازلة فيدعو لقوم أو على قوم ولم يثبت غير هذا إلا الدعاء المروي عن الحسن ابن علي [أحمد "1/199"، أبو دأود ""1425"، الترمذي "464"، الترمذي 1745"، ابن ماجة "1178"] مرفوعا بلفظ: "اللهم اهدني فيمن هديت" إلخ فإن ذلك دعاء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله في الوتر فهو من جملة الأدعية الواردة في الصلاة وينبغي فعله فإنه حديث قد صححه جماعة من الحفاظ ولا مقال فيه بما يوجب قدحا ولا يفعل هذا الدعاء إلا في هذا الموضع لا كما يفعله طائفة بعد الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر فإنه لم يدل على ذلك دليل.
والحاصل أنه قد ورد الدعاء في النوازل في جميع الصلوات وفي بعضها وقبل الركوع وبعده.(1/140)
وأما قوله: "بالقرآن" فلم يرد في هذا شيء قط وإنمكا قال به من قال لأنه سمع أن في صلاة الفجر قنوتا مع كونه يمنع الدعاء في الصلاة إلا بالقرآن فتحصل له من هذا أن يقول بما قال.
قوله: "وندب المأثور من هيئات القيام والقعود والركوع والسجود".
أقول: هذه الهيئات الواردة في هذه الأركان بالأحاديث الصحيحة حكمها حكم ما ثبت بأفعاله صلى الله عليه وسلم إن لم يرد فيها إلا مجرد الفعل ولها حكم ما ورد من أقواله إن ثبتت بالقول وإذا اجتمع في شيء منها القول والفعل كان حكمها حكم ما ثبت بالقول والفعل ولا وجه للحكم على جميعها بأنها مندوبة فقط لأن الندب في الاصطلاح الحادث لأهل الأصول والفروع هو رتبة قاصرة عن رتبة ما يقولون فيه إنه مسنون ثم تخصيص هيئات هذه الأربعة الأركان بالذكر دون ما عداها من الأركان والأذكار لا وجه له.
والحاصل أن المقال في هذا المقال أن واجبات الصلاة إذا كانت منحصرة في حديث المسيء صلاته إلا ما ورد فيه دليل يدل على وجوبه بعده فما عدا ذلك ليس بواجب فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله أو أرشد إليه كان ذلك سنة ثابتة وطريقة نبوية فإن لازمه أو إرشدا إليه مؤكدا كان ذلك سنة لها مزيد خصوصية بما وقع لها من اعتنائه صلى الله عليه وسلم بشأنها فاحفظ هذا لتسلم به من تخليطات المخلطين وتخبطات المتخبطين الذين خلطوا الشرع الصافي بالاصطلاحات الحادثة المتواضع عليها بين طائفة من الناس.
قوله: "والمرأة كالرجل في ذلك غالبا".
أقول: النساء شقائق الرجال فما شرعه الله للرجال من هذه الشريعة فالنساء مثلهم إلا أن يأتي دليل على إخراجهن من ذلك الشرع العام كان ذلك مخصصا لهن وسواء كان التخصيص متضمنا للتخفيف وذلك ما اختص وجوبه بالرجال من الأحكام كالجهاد أو متضمنا لتغليظ عليهن كالحجاب.
وبهذا تعرف أنه لا وجه لتخصيص هذا الموضع بالذكر لهن فإن غالب الأبواب قد تختص النساء فيه بما يخالف الرجال ولو نادرا.
[فصل
"وتسقط عن العليل بزوال عقله حتى تعذر الواجب وبعجزه عن الإيماء بالرأس مضطجعا وإلا فعل ممكنه ومتعذر السجود يومىء له من قعود وللركوع من قيام فإن تعذر فمن قعود ويزيد في خفض السجود ثم مضطجعا ويوجه مستلقيا ويوضئه غيره وينجيه منكوحه ثم جنسه بخرقة ويبنى على الأعلى لا الأدنى فكالمتيمم وجد الماء"] .
قوله: فصل: "وتسقط عن العليل بزوال عقله".(1/141)
أقول: لا وجه للتقييد بالعليل بل مجرد زوال العقل موجب لسقوط الصلاة وغيرها إذ لا يتعلق بمن لا عقل له شيء من التكاليف الشرعية وقد أورد الجلال ها هنا إشكالات زائفة ساقطة لا يرد شيء منها والعجب العجيب أنه جعل النتيجة التي تنحل بها تلك الإشكالات حمل أمر النائم والناسي والحائض بالقضاء على الندب فجاء بما يخرق الإجماع خرقا لا يرقع وبما يخالف الأدلة التي هي أوضح من شمس النهار وهكذا يقع في مثل هذه المضايق من جعل أوهام ذهنه وغلطات فكره بالمنزلة التي جعلها فيها هذا المحقق.
قوله: "وبعجزه عن الإيماء بالرأس مضطجعا".
أقول: قوله سبحانه وتعالي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم" يدلان على أنه إذا أمكنه الايماء بعينيه أو بحاجبيه كان ذلك حتما عليه ولا يسقط عنه بمجرد عجزه عن الإيماء برأسه فقد تصيب الإنسان علة يعجز عندها عن الايماء برأسه كما يقع في الأمراض العصبية مع ثبات عقله وقدرته على الايماء بعينيه وحاجبيه.
وأما اختيار المصنف رحمه الله لهيئة الاضطجاع وتقديمها على غيرها فمدفوع بما ثبت في البخاري ["1117"] ، وهو عند أحمد ["4/426"] وأهل السنن [أبو دأود "592"، الترمذي "302"، النسائي "1660"، ابن ماجة "1223" الأربع وغيرهم أن عمران بن الحصين كان به بواسير فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب" وفي رواية للنسائي "فإن لم تستطع فمستلقيا"، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
وهذا الحديث الصحيح يغني عن غيره من الأحاديث الواردة في هذا الباب فإنها لا تخلو من مقام ومعلوم أن من صلى على جنب أو مستلقيا لا يتمكن إلا من مجرد الايماء فلا حاجة إلي الاستدلال على لزوم الايماء فإن هذا الحديث الصحيح يفيد ذلك ويقتضيه.
قوله: "ويوضئه غيره وينجيه منكوحه".
أقول: إذا بلغ المرض بصاحبه إلي هذا الحد فقد جعل الله له فرجا ومخرجا بالتيمم قال الله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية وقد قدمنا الكلام على التقيد بقوله تعالي: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}
قوله: "ويبنى على الأعلى لا الأدنى فكالمتيمم وجد الماء"
أقول: لا دليل على هذا أصلا والواجب عليه أن يفعل ما يمكنه فإذا كان مقعدا وأمكنه القيام أتم صلاته قائما ولا يرفض ما قد فعله فقد نهى الله سبحانه عن إبطال الأعمال فقال {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .والقياس على المتيمم مختل لما عرفناك فيما سبق في باب التيمم أن الأدلة قد دلت على أنه لا يعيد من صلى بالتيمم ثم وجد الماء لا قبل الفراغ من الصلاة ولا بعده.(1/142)
[فصل
"وتفسد باختلال شرط أو فرض غالبا وبالفعل الكثير كالأكل والشرب ونحوهما وما ظنه لاحقا به منفردا أو بالضم أو التبس ومنه العود من فرض فعلي إلي مسنون تركه ويعفى عن اليسير وقد يجب كما تفسد الصلاة بتركه.
ويندب كعد المبتلي الأذكار والأركان بالأصابع أو الحصى.
ويباح كتسكين ما يؤذيه ويكره كالحقن والعبث وحبس النخامة وقلم الظفر وقتل القمل لا إلقائه وبكلام ليس من القرآن ولا من أذكارها ومنهما خطابا بحرفين فصاعدا.
ومنه الشاذة وقطع اللقطة إلا لعذر وتنحنح وأنين غالبا ولحن لا مثل له فيهما أو في القدر الواجب ولم يعده صحيحا والجمع بين لفظتين متباينتين عمدا والفتح على إمام قد أدى الواجب أو انتقل أو في غير القراءة أو في السرية أو بغير ما أحصر فيه وضحك منع القراءة ورفع الصوت إعلأما إلا للمار أو المؤتمين وبتوجه واجب خشي فوته كإنقاذ غريق أو تضيق وهي موسعة قيل أو أهم منها عرض قبل الدخول فيها وفي الجماعة والزيادة من جنسها بما سيأتي إن شاء الله تعالي"]
قوله: فصل: "وتفسد باختلال شرط".
أقول: هذا صواب إذا قد تقررت الشرطية بدليلها الذي يفيدها حسبما قدمنا ذلك ولتعلم أن هذا الحكم منا بعدم المشروط عند عدم شرطه ليس هو بمجرد ما ذكره أهل الأصول في حقيقة الشرط بل للأدلة الدالة على انعدام الذات أو صحتها بانعدام ذلك الشرط ولهذا جزمنا فيما تقدم بأن ما ورد فيه دليل يفيد هذا المفاد فهو شرط ولا يشكل على هذا حديث "من قاء أو رعف أو مذى فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته" [ابن ماجة "1221"] ، ووجه إشكاله أن يقال قد بطل الوضوء وهو شرط بالدليل الصحيح ولم يؤثر عدمه في عدم المشروط لقوله: "وليبن على صلاته" لأنا نقول هذا الحديث لا تقوم به حجة لأنه لم يصح رفعه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح بذلك جماعة من الأئمة منهم الشافعي وأحمد وأبو زرعة ومحمد بن يحيى الذهلي وابن عدي وأبو حاتم الرازي والدارقطني والبيهقي وفي إسناد المرفوع من لا تقوم به الحجة وأصح من هذا الحديث وأرجح حديث طلق بن علي أو علي ابن طلق عند أحمد ["1/86" [، وأهل السنن [أبو دأود "205"، الترمذي "1166"] ، وغيرهم: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف فليتوضأ وليعد الصلاة" وصححه ابن حبان ولا يضر تفرد جرير بن عبد الحميد بالزيادة وهي قوله وليعد الصلاة فإنه إمام ثقة.
ولا يشكل على هذا أيضا حديث ذي اليدين ووجه الإشكال أنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فأخبره ذو اليدين بأنه صلى ثلاثا فقط فقال: "أحق ما يقول ذو اليدين؟ " لأنا نقول هذا(1/143)
الخروج والكلام الواقع منه صلى الله عليه وسلم هو حال اعتقاده لتمام الصلاة وعدم نقصها فالبناء على ما مضى منها هو لهذا والدليل وإن دل على أن الكلام مبطل للصلاة فهو كلام العامد لا كلام من كان ساهيا أو في حكم الساهي.
قوله: "أوفرض"
أقول: الحق أن الفروض لا توجب فساد الصلاة بل يأثم تاركها وتجزئه صلاته لأن الأدلة الدالة عليها إنما اقتضت وجوبها ولم تقتض أن الصلاة تنعدم بانعدامها ولو اقتضت ذلك لما كنت فروضا بل تكون شروطا.
وأما إذا كان الفرض ركنا من الأركان كالركوع والسجود فالركن يختل صورة ما هو ركن فيه باختلاله فالصورة المطلوبة بكمالها غير موجودة فإن تركه عمدا بطلت الصلاة وإن تركه سهوا فعله ولو بعد الخروج من الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الرابعة بعد أن سلم من ثلاث ركعات في حديث ذي اليدين.
قوله: "وبالفعل الكثير" الخ.
أقول: قد خبط المفرعون في هذا المقام خبطا طويلا واضطربت آراء جماعة من الجتهدين العاملين بالأدلة المؤثرين لما صح من الرواية.
والحق الحقيق بالقبول أن يقال إن الصلاة بعد انعقادها والدخول فيها لا تفسد إلا بمفسد قد دل الشرع على أنه مفسد كانتقاض الوضوء ومكالمة الناس عمدا أو ترك ركن من أركانها الثابتة بالضرورة الشرعية عمدا.
فمن زعم أنه يفسدها إذا فعل المصلي كذا فهذا مجرد دعوى إن ربطها المدعي بدليلها نظرنا في الدليل فإن أفاد فساد الصلاة بذلك الفعل أو الترك فذاك وإن جاء بدليل يدل على وجوب ترك الفعل كحديث "اسكنوا في الصلاة" [مسلم "87/119"] ، فإنه حديث صحيح فيقال له هذا أمر بالسكون وغاية ما فيه وجوب السكون وترك ما لم يكن من الحركات الراجعة إلي ما لا يتم الإتيان بالصلاة إلا به فمن فعل ما ليس كذلك من الأفعال كمن يحرك يده أو رأسه أو رجله لا لحاجة فقد أخل بواجب عليه ولزمه إثم من ترك واجبا.
وأما أنها لا تفسد به الصلاة فلا.
فإن قلت هل يمكن الإتيان بضابط يعرف به ما لا يفسد الصلاة وما يفسدها من الأفعال قلت لا بل الواجب علينا الوقوف موقف المنع حتى يأتي الدليل الدال على الفساد.
ومما يصلح سندا لهذا المنع ما ثبت في الصحيحين [البخاري "516"، "5996"، مسلم "543"] ، وغيرهما [أبو دأود "917، 918،919، 920"، النسائي "711، 1204، 1205"، أحمد "5/295، 296"] ، من حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها وفي رواية لمسلم وأبي دأود بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر وقد دعاه بلال إلي الصلاة إذ خرج علينا وأمامه بنت أبي العاص بنت بنته(1/144)
على عاتقه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه وقمنا خلفه وهي في مكانها الذي هي فيه فكبر وكبرنا حتى إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته.
وهذا الحديث الصحيح إذا سمعه المقلد الذي قد تلقن أن الفعل الكثير من مفسدات الصلاة وتلقن أن تحريك الإصبع مثلا ثلاث حركات متوالية لا حق بالفعل الكثير موجب لفساد الصلاة خارت قواه واضطرب ذهنه فإن هذه الصبية لا تقدر على أن تستمسك على ظهره صلى الله عليه وسلم إلا وعمرها ثلاث سنين فصاعدا فأخذها من الأرض ووضعها على الظهر وكذلك إنزالها ووضعها على الأرض يحتاج إلي مزأولة وأفعال تحصل الكثرة لدى هذا المقلد بما هو ليس من ذلك بكثير.
ثم مما يصلح أيضا أن يكون سندا للمنع حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر وكان إذا أراد السجود نزل عنه إلي الأرض فسجد ثم يعود وفعل كذلك حتى فرغ من صلاته والحديث في الصحيحين وغيرهما فإن كان ولا بد من تقدير الفعل الكثير المخالف لمشروعية السكون في الصلاة فليكن ما زاد على ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين فإنه فعل هذه الأفعال في صلاته الفريضة والمسلمون يصلون خلفه وهو القدوة والأسوة وإنما فعل ذلك لبيان جوازه وأنه لا ينافي ما شرعه الله في الصلاة ومن قال بخلاف هذا فقد أعظم الفرية وقصر بجانب النبوة وأوقع نفسه في خطب شديد والهداية بيد الله سبحانه.
وبهذا تعرف أن ما جعله المصنف كثيرا بذاته أو بانضمام غيره إليه وإلحاق الملتبس بالكثير وذكره للعفو عن الفعل اليسير وإيجاب تارة وندب أخرى وكراهته التنزيهية في حالة وإباحته في أخرى لا مستند له إلا مجرد الرأي المحض فلا نطيل الكلام على ذلك.
قوله: "وبكلام ليس من القرآن ولا من أذكارها".
أقول: في الصحيحين [البخاري "1199"، مسلم "538"] وغيرهما من حديث ابن مسعود قال كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال: "إن في الصلاة شغلا" ولفظ أبي دأود ["924"] ، والنسائي ["3/19"] : "إن الله عز وجل يحدث من امره ما شاء وإن الله سبحانه وتعالي قد أحدث ألا تكلموا في الصلاة" وأخرجه عبد بن حميد وأبو بعلي وفيه: "وإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تكلموا".
وأخرج البخاري ["1217"، مسلم ["36/540"] وغيرهما] ابن ماجة "1018"، النسائي "1189"، أحمد "3/334"] من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي"، وكان على راحلته متوجها إلي القبلة.
وأخرج البخاري ["200"] ، ومسلم ["539"] ، وغيرهما [أحمد "4/368"، أبو دأود "949"،(1/145)
الترمذي "405"، النسائي "3/18"] ،عن زيد بن أرقم قال إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
فقد اجتمع في هذه الأحاديث الأمر بترك الكلام والنهي عن فعله في الصلاة قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة.
واختلفوا في كلام الساهي والجأهل وقد ذكرت الخلاف في ذلك وما استدلوا به في شرحي للمنتقى.
ومما يستدل به على المنع من الكلام في الصلاة حديث معأوية بن الحكم السلمي عند مسلم ["33/537"] وغيره [أبو دأود "931"، النسائي "3/14 – 18"، أحمد "5/447، 448"] بلفظ: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" وفي لفظ لأحمد: "إنما هي التسبيح والتكبير والتحميد وقراءة القرآن".
والمراد بقوله: "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" أي من تكليمهم ومخاطبتهم هذا هو المعنى العربي الذي لا يشك فيه عارف وليس المراد ما زعمه المانعون للدعاء في الصلاة من أن المراد لا يصلح فيها شيء مما هو من كلام الناس الذي ليس من كلام الله فإن هذا خلاف ما هو المراد وخلاف ما دلت عليه أسباب هذه الأحاديث الواردة في منع الكلام وخلاف ما ثبت في الصلاة من ألفاظ التشهد ونحوها وخلاف ما تواتر تواترا لا يشك فيه من لديه أدنى علم بالسنة من الأحاديث المصرحة بمشروعية الدعاء في الصلاة بألفاظ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبألفاظ دالة على مشروعية مطلق الدعاء كقوله صلى الله عليه وسلم: "وليتخير من الدعاء أعجبه إليه" [أحمد "1/437"، النسائي "163"] .
وبالجملة فالمنع من الدعاء في الصلاة لا يصدر إلا ممن لا يعرف السنة النبوية ولا يدري بما اشتملت عليه كتبها المعمول بها والمرجوع إليها في جميع الأقطار الإسلامية وفي كل عصر وعند أهل كل مذهب.
ومن عجائب الغلو وغرائب التعصب قولهم إن القراءة الشاذة من جملة ما يوجب فساد الصلاة وجعلوها من كلام الناس وأنه لا يكون من كلام الله إلا ما تواتر وهي القراءات السبع.
والحق أن القراءات السبع فيها ما هو متواتر وفيها ما هو آحاد وكذلك القراءات الخارجة عنها وقد جمعنا في هذا رسالة حافلة ونقلنا فيها مذاهب القراء وحكينا إجماعهم المروي من طريق أهل هذا الفن أن المعتبر في ثبوت كونه قرآنا هو صحة السند مع احتمال رسم المصحف له وموافقته للوجه العربي وأوضحنا أن هذه المقالة أعني كون السبع متواترة وما عداها شإذا ليس بقرآن لم يقل بها إلا بعض المتأخرين من أهل الأصول ولا تعرف عند السلف ولا عند أهل الفن على اختلاف طبقاتهم وتباين أعصارهم.
قوله: "وتنحنح وأنين".(1/146)
أقول: ليس هذا من كلام الناس ولا من التكلم في الصلاة ولا تشمله الأحاديث المشتملة على النهي عن الكلام ولا يحتاج إلي الاستدلال على الجواز بل الدليل على من زعم أن التنحنح والأنين من جملة المفسدات ولا دليل أصلا ولكن إذا فعله المصلي لا لسبب يقتضيه من عروض إنسداد في الصوت كما في التنحنح ولا من زيادة من الخشوع والتدبر كما في الأنين فهو لم يعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا" [الترمذي "3/12"، ابن ماجة "2708"، أحمد "2/40"، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تنحنح في صلاته وثبت عنه أنه كان يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. [أحمد "4/25، 26"، أبو دأود "904"، النسائي "3/13"] .
قوله: "ولحن لا مثل له فيهما"
أقول: الإتيان بالقراءة على الوجه العربي والهيئة الإعرأبية هو المتعين على كل قارىء سواء كان في الصلاة أو خارجها وأما أن ذلك يوجب فساد الصلاة فلا.
فإنه لا بد من دليل يدل على الفساد كما عرفناك غير مرة.
وهكذا الجمع بين لفظتين متباينتين عمدا فإنه لا يوجب فسادا أصلا وإن كان على غير ما ينبغي أن تكون عليه القراءة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة ما بين أسود وأبيض وعربي وعجمي وهم يقرأون القرآن فسره ذلك وقال: "اقرأوا فكل حسن" أحمد "5/132"، الترمذي "2944"] ، وقال لمختلفين في آيات القرآن من الصحابة مثل ذلك ونهاهم عن الاختلاف.
فدعوى كون اللحن أو الجمع بين لفظين من مفسدات الصلاة دعوى عاطلة عن البرهان خالية عن الدليل.
قوله: "والفتح على إمام" الخ.
أقول: جعل هذا من المفسدات من جمود المفرعين وقصور باعهم وعدم اطلاعهم على الأدلة فلو قدرنا عدم ورود دليل يدل على مشروعيته لكان من التعأون على البر والتقوى فكيف وقد ورد ما يدل على مشروعيته فمن ذلك حديث "من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء" وهي في الصحيحين البخاري "2690"، مسلم "102/421"] وغيرهما [أبو دأود "941"، النسائي "2/82، 83"، أحمد "5/332"، 333"] ، وثبت في الصحيحين [البخاري "1203" مسلم "106"، 107، 422"وغيرهما [النسائي "1207، 1208، 1209، 1210"، ابن ماجة "1034"، الترمذي "369"، أبو دأود "939"، أحمد "2/261"] ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" وأخرج أبو دأود وابن حبان والأثرم عن المسور بن يزيد المالكي قال قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم فترك آية فقال له رجل يا رسول الله آية كذا وكذا قال: "فهلا أذكرتنيها" وإسناده لا بأس به وأخرج أبو دأود والحاكم وابن حبان من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي هل كنت معنا قال نعم قال فما منعك ورجال إسناده ثقات وأخرج الحاكم عن أنس قال كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن حجر قد صح عن أبي عبد الرحمن السليمي أنه قال: قال علي: إذا استطعمك الإمام فأطعمه.(1/147)
وأما ما أخرجه أبو دأود عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة" فهذا في إسناده من رمى بالكذب ومع ذلك ففيه انقطاع ولو كان هذا صحيحا ما صح عن علي ما ذكرنا من قوله: إذا استطعمك الإمام فأطعمه وقد ثبت في الصحيح [البخاري "684"، مسلم "102/421"] ، في قصة صلاة أبي بكر بالناس أنهم لما شاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفقوا لأبي بكر ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإعادة مع انهم فتحوا على أبي بكر بما هو غير مشروع للرجال.
والحاصل أن الفتح على الإمام بالآية التي نسيها وبالتسبيح إذا وقع منه السهو في الأركان ستة ثابتة وشريعة مقدرة فالقول بأنه من المفسدات للصلاة باطل وأبطل من هذا ما ذكره المصنف من تقييده للفساد بهذه القيود التي هي مجرد خيال مختل أو رأي معتل.
قوله: "وضحك منع القراءة".
أقول: قد قدمنا في الوضوء أن حديث الأعمى الذي روي أنه تردى فضحك بعض من كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بإعادة الوضوء والصلاة لا تقوم به الحجة ولا يصلح للاستدلال به وذكرنا هنالك ما ورد أن الضحك يبطل الصلاة وذكرنا من قال به فارجع إلي ما ذكرناه هنالك.
قوله: "ورفع الصوت إعلأما إلا للمار أو المؤتمين".
أقول: لا دليل يدل على أن هذا من مفسدات الصلاة أصلا ثم مشروعية التسبيح للرجال عند الفتح على الإمام هو من رفع الصوت إعلأما بلا شك ولا شبهة وهكذا الفتح على الإمام بالآية التي أحصر فيها هو من رفع الصوت إعلأما وقد قدمنا لك الأدلة الدالة على هذا ثم استثناء المار والمؤتمين يدل على أنه لا بأس عند المصنف ومن قال بقوله برفع الصوت إعلأما إذا كان فيه مصلحة فهو يفيد جوازه في كل ما فيه مصلحة عائدة على الواحد والجماعة من المصلين فلا وجه للفرق على ما يقتضيه كلام المصنف.
والحاصل أن غالب هذه الأمور التي جعلها المصنف من مفسدات الصلاة ليس لها مستند إلا مجرد الدعأوي والشكوك والوسوسة وما بمثل هذه الخرافات تثبت الأحكام الشرعية التي تعم بها البلوى والله المستعان.
قوله: "وبتوجه واجب خشي فوته كإنقاذ غريق".
أقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما عمادان من أعمدة الشريعة المطهرة قد دل عليهما كتاب الله عز وجل في كثير من الآيات ودلت عليها السنة المطهرة في الأحاديث المتواترة التي لا شك فيها بل هذان العمادان هما أعظم أعمدة الدين ثم أعظم أنواع هذين العمادين هو ما يرجع إلي حفظ نفوس المسلمين فمن ترك مسلما يغرق وهو يقدر على إنقاذه واستمر في صلاته فقد ارتكب أعظم المنكرات وترك أهم المعروفات فلا هو عمل بالأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا عمل بما ورد في حق المسلم على المسلم(1/148)
ومنها أن يحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه ومنها أن: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" [البخاري "2442"، مسلم "2580"، أبو دأود "4893"، الترمذي "1426"] ، وأي إسلام له أعظم من تركه يموت غرقا وهو بمرأى منه ومسمع وأين عمل هذا المصلي الذي آثر الاستمرار في صلاته على أخيه الذي صار في غمرات الموت بأحاديث المحبة منها "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا". [مسلم "54"، أبو دأود "5193"، الترمذي "2688"، ابن ماجة "3692"] .
فالحاصل أن هذا المصلي قد ترك أعظم الواجبات وارتكب أعظم المحظورات المنكرات واستمراره في صلاته منكر عظيم وقبيح شنيع فإن الله سبحانه قد طلب منه ما هو أهم من ذلك وأعظم وأقدم وهو يؤدي صلاته إذا كان في الوقت سعة وإذا ضاق عنها ولم يدرك شيئا منها فقد جعل الله القضاء لمن فاته الأداء بل يجب على المصلي ترك الصلاة والخروج منها فيما هو دون هذا بكثير وذلك نحو أن يرى من يريد فعل منكر كالزنا وشرب الخمر وهو يقدر على منعه والحيلولة بينه وبين ما هم به من المعصية وهو إذا استمر في صلاته تم لذلك العاصي فعل تلك المعصية فالواجب عليه الخروج من الصلاة وإنكار ذلك المنكر.
والحاصل أن هذه الشريعة المطهرة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد والموازنة بين أنواع المصالح وأنواع المفاسد وتقديم الأهم منها على ما هو دونه ومن لم يفهم هذا فهو لم يفهم الشريعة كما ينبغي والأدلة الدالة على هذا الأصل من الكتاب والسنة كثيرة جدا لا يتسع لها هذا المؤلف.
وقد ذكر الجلال ها هنا أبحاثا ساقطة البنيان مهدومة الأركان ليس في الاشتغال بدفعها إلا تضييع الوقت وشغلة الحير وإذا قد عرفت ما ذكرناه فيه تعرف الكلام على قوله: "أو تضيق وهي موسعة" وعلى قوله: "قيل أو أهم منها عرض قبل الدخول فيها".
ومما يؤيد ما حررناه لك في هذا البحث حديث جريج الثابت في الصحيح [البخاري"2350"، أحمد "2/385"] ، أنها دعته أمه وهو يصلي فقال اللهم أمي وصلاتي وتردد أيهما أقدم فعوقب تلك العقوبة والحال أن إجابته لأمه وقضاء حاجتها لا تفوت باستمراره في صلاته وإكمالها فكيف إذا كان الاستمرار في الصلاة يحصل به هلاك مسلم وكان الخروج منها محصلا لحياته.
وهذا وإن كان من شرع من قبلنا فقد حكاه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ما يخالفه في شرعنا فكان شرعا لنا كما تقرر في الأصول.(1/149)
[باب والجماعة سنة مؤكدة
إلا فاسقا أو في حكمه وصبيا ومؤتما غير متخلف بغيرهم وامرأة برجل والعكس إلا(1/149)
مع رجل والمقيم بالمسافر في الرباعية إلا في الأخريين والمتنفل بغيره غالبا وناقص الطهارة أو الصلاة بضده والمختلفين فرضا أو أداء أو قضاء أو في التحري وقتا أو قبلة أو طهارة لا في المذهب فالإمام حاكم.
وتفسد في هذه على المؤتم بالنية وعلى الإمام حيث يكون بها عاصيا.
وتكره خلف من عليه فائتة أو كرهه الأكثر صلحاء والأولى من المستويين في القدر الواجب الراتب ثم الأفقه ثم الأورع ثم الأقرأ ثم الأسن ثم الأشرف نسبا.
ويكفي ظاهر العدالة ولو من قريب] .
قوله: "باب والجماعة سنة مؤكدة".
أقول: هذا هو الحق فإن الأحاديث المصرحة بأفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفرادى منادية بأعلى صوت بأن الجماعة غير واجبة وموجبة لتأويل ما ورد مما استدل به على وجوبها.
ومن هذه الأحاديث القاضية بعدم الوجوب ما أخرجه البخاري ["651"، ومسلم ["662"] ، وغيرهما من حديث أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام".
ومنها حديث أبي بن كعب عند أحمد ["5/140"] ، وأبي دأود ["554"] ، والنسائي ["843"] ، وابن ماجه ["790"] ، مرفوعا بلفظ: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلي الله عز وجل".
ومن ذلك حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" وهو في الصحيحين [البخاري "645"، مسلم "249، 650"] وغيرهما [أحمد "2/65"] .
ومنها حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وهو في الصحيحين وغيرهما
وأخرج البخاري ["646"] ، وغيره [ابن ماجة "788"، أحمد "3/55"، أبو دأود "560"] ، عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة".
فهذه الأحاديث وما ورد في معناها تدل على أن صلاة الفرادى صحيحة مجزئة مسقطة للوجوب وكل ما ورد مما استدل به على الوجوب فهو متأول والمصير إلي التأويل متعين.
وقد ذكرنا في شرح المنتقي ما لا يبقى بعده ريب لمرتاب فليرجع إليه ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلي صلاة ثوابها جزء من سبعة وعشرين جزءا منها إلا مغبون ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية(1/150)
بمثل هذا لكان مستحقا لحجره عن التصرف في ماله لبلوغه من السفه إلي هذه الغاية والتوفيق بيد الرب سبحانه.
قوله: "إلا فاسقا أو في حكمه".
أقول: الفاسق من المسلمين المتعبدين بالتكاليف الشرعية من الصلاة وغيرها فمن زعم أنه قد حصل فيه مانع من صلاحيته لإمامة الصلاة مع كونه قارئا عارفا بما يحتاج إليه في صلاته فعليه تقرير ذلك المانع بالدليل المقبول الذي تقوم به الحجة وليس في المقام شيء من ذلك أصلا لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح فعلى المنصف أن يقوم في مقام المنع عند كل دعوى يأتي بها بعض أهل العلم في المسائل الشرعية.
وما استدل به على المنع من تلك الأحاديث الباطلة المكذوبة فليس ذلك من دأب أهل الإنصاف بل هو صنع أرباب التعصب والتعنت فإياك أن تغتر بما لفقه الجلال في هذا البحث وجمع فيه بين المتردية والنطيحة وما أكل السبع فإن هذا دأبه في المواطن التي لم ينتهض فيها الدليل.
ومن تتبع شرحه لهذا الكتاب عرف صحة ما ذكرناه.
وإذا عرفت هذا فلا تحتاج إلي الاستدلال على جواز إمامة الفاسق في الصلاة ولا إلي معارضة ما يستدل به المانعون فليس هنا ما يصلح للمعارضة وإيراد الحجج وبيان ما كان عليه السلف الصالح من الصلاة خلف الأمراء المشتهرين بظلم العباد والإفساد في البلاد.
نعم يحسن أن يجعل المصلون إمامهم من خيارهم كما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" وفي إسناده سلام بن سليمان المدائني وهو ضعيف.
وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم".
ولكن ليس محل النزاع إلا كونه لا يصلح أن يكون الفاسق ومن في حكمه إمأما لا في كون الأولى أن يكون الإمام من الخيار فإن ذلك لا خلاف فيه.
قوله: "وصبيا".
أقول: الأحاديث الواردة في أن الأولى بالإمامة الأقرأ أو من كان أكثر قرآنا شاملة للصبي ومنها حديث ابن عمرو بن سلمة الثابت في اصحيح البخاري ["631"] ، وغيره [أبو دأود "589"، النسائي "781"، مسلم "674"، الترمذي "205"، ابن ماجة "979"] أنه أم قومه وهو ابن ست سنين أو سبع أو ثمان وذلك أنه لما وفد أبوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما قال له: "وليؤمكم أكثركم قرآنا"، وكان الصبي عمرو بن سلمة أكثرهم قرآنا لأنه كان يسأل من يمر بهم من الوفد عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به فيحفظ ما يروونه له من القرآن.
وقد ورد ما يدل على أنه وفد مع أبيه كما رواه الدارقطني وابن منده والطبراني.(1/151)
وعلى تقدير أنه لم يفد مع أبيه فقد كانت إمامته مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل عليه ولا يقع التقرير مع نزول الوحي على ما لا يجوز.
وقد استدل أهل العلم على جواز العزل بحديث جابر وأبي سعيد بأنهم فعلوا ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان منهيا عنه لنهى عنه القرآن.
وعلى كل حال فالصبي داخل تحت العموم فمن ادعى أن فيه مانعا من الإمامة فعليه الدليل وقد صحت الصلاة جماعة بصبي مع الإمام كما في حديث ابن عباس [البخاري "859"، مسلم "184، 763"، أبو دأود "610"، النسائي "842"، الترمذي "232"] : "أنه قام يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف على يساره فجذبه وأقامه عن يمينه" وإذا انعقدت صلاة الجماعة مع الإمام فقط فلتنعقد صلاة الجماعة به وهو الإمام ورفع الوجوب عنه لا يستلزم عدم صحة صلاته.
وقد صحت صلاة معاذ [البخاري "700"، مسلم 180"، أبو دأود "599"‘ 600"، الترمذي 583"] بقومه بعد صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متنفل وهم مفترضون فصحت إمامته ولا وجوب عليه إذ قد أدى الصلاة الواجبة عليه.
قوله: "ومؤتما غير مستخلف".
أقول: أما في حال كونه مؤتما فظاهر لحديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به" [البخاري "2/208"، مسلم "414"] ، وحديث "لا تختلفوا على أئمتكم" ومعلوم أن كون الإمام مؤتما تصير له أحكام الإمام وأحكام المؤتم فيؤدي ذلك إلي الاختلاف على إمامه يما يجب عليه الاقتداء به فيه.
وأما ما ورد من ائتمام الناس بأبي بكر وائتمامه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي قاعدا في مرضه وما ورد أنه يأتم بالمتقدمين من بعدهم فالمراد أنهم يركعون بركوعهم ويسجدون بسجودهم لأنهم مطلعون على ركوع الإمام وسجوده واعتداله لقربهم منه وقد يخفى ذلك على من هو بعيد منه فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بمن هو متقدم عليهم من صفوف الجماعة.
وأما المؤتم اللاحق بالإمام إذا قام لتمام صلاته منفردا فلا بأس بأن يأتم به غيره من المؤتمين الذين لم يدركوا إلا بعض الصلاة وعليه عند ذلك نية الإمامة وعليهم نية الائتمام ولا مانع من هذا والأدلة الدالة على مشروعية الجماعة تشمله.
ومن ادعى أنه لا يصلح للإمامة فعليه الدليل والتعليل بكون النية المتوسطة لا تصلح ليس بشيء.
قوله: "وامرأة برجل أو العكس".
أقول: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز إمامة المرأة بالرجل أو الرجال شيء ولا وقع في عصره ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوفهن بعد صفوف الرجال وذلك لأنهن عورات وائتمام الرجل بالمرأة خلاف ما يفيده هذا ولا يقال الأصل الصحة لأنا نقول قد ورد ما يدل على أنهن لا يصلحن لتولي شيء من الأمور وهذا(1/152)
من جملة الأمور بل هو أعلاها وأشرفها فعموم قوله: "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" كما في الصحيحين [البخاري "709"، وغيرهما [أحمد "5/47، 51"، الترمذي "2262"، النسائي "8/227"] ، يفيد منعهن من أن يكون لهن منصب الإمامة في الصلاة للرجال.
وأما كون الرجل يؤم المرأة وحدها فلم يرد ما يدل على المنع من ذلك وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بحضور المساجد والدخول في جماعة الرجال وإذا جاز ذلك مع الرجال جاز أن يؤم الرجل بمرأة واحدة من محارمه ومن يجوز له النظر إليه.
وقد أخرج أبو دأود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نفخ في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نفخت في وجهه الماء"، وإسناده ثقات وظاهره أعم من أن يصليا جماعة أو فرادى.
وأصرح من هذا ما أخرجه أبو دأود ["1309، 1451"] ، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استيقظ من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات".
وأخرج الإسماعيلي في مستخرجه عن عائشة أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من المسجد صلى بنا وقال إنه حديث غريب ولكن غرابته لا تنافي صحته فإن الإسماعيلي إنما ذكر في مستخرجه ما هو على شرط الصحيح.
وثبت في اصحيح البخاري] "2/184"] في ترجمة باب إنه كان يؤم عائشة عبدها ذكوان من المصحف.
وأما كون المرأة تؤم النساء فالظاهر أنه لا منع من ذلك وقد أخرج أبو دأود من حديث أم ورقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها وفي إسناده عبد الرحمن ابن خلاد وهو مجهول الحال ولكن ذكره ابن حبان في ثقاته وقد رواه معه غيره ففي رواية لأبي دأود ["591"] ، قال عن عثمان عن وكيع عن الوليد بن جميع قال حدثتني جدتي وعبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت نوفل فذكره.
قوله: "والمقيم بالمسافر في الرباعية إلا في الأخريين".
أقول: ما أحسن ما قيل في هذا إن المسافر إذا صلى مع المقيم أتم لما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم قال تلك السنة وفي لفظ لأحمد ["1/337"] : "أنه قال له موسى بن سلمة إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا فإذا رجعنا ركعتين قال تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم"، قال في خلاصة البدر إن إسناده على شرط الصحيح انتهى قال في البدر وأخرجه الطبراني في الكبير بإسناد رجاله كلهم محتج بهم في الصحيح.
وأصله في مسلم ["7/688"] ، والنسائي ["3/119""] بلفظ قلت لابن عباس كيف أصلي إذا(1/153)
كنت بمكة إذا لم أصلي مع الإمام قال ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
قوله: "والمتنفل بغيره".
أقول: أما صلاة المتنفل بالمتنفل فمما لا ينبغي أن يقع في صحتها خلاف لما ثبت من ائتمام غير النبي صلى الله عليه وسلم به في كثير من النوافل وهي أحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما.
وأما ائتمام المفترض بالمتنفل فحديث صلاة معاذ [البخاري "700"، مسلم "465"] ، بقومه بعد صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم وتصريحه هو وغيره أن التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم هي الفريضة والتي صلاها بقومه نافلة لهو دليل واضح وحجة نيرة وما أجيب به عن ذلك من أنه قول صحأبي لا حجة فيه فتعسف شديد فإن الصحأبي أخبرنا بذلك وهو أجل قدرا أن يروي يروي بمجرد الظن والتخمين وقد وقع هذا في عصره صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل فلو كان غير جائز لما وقع التقرير عليه.
ومما يؤيد ذلك ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف [البخاري "4136"ن مسلم "843"] ، فإنه صلى بكل طائفة ركعتين فهو في إحدى الصلاتين متنفل وهو مفترضون.
وأيضا الأصل صحة ذلك والدليل على من منع منه.
وأما الاستدلال بحديث: "لا تختلفوا على إمامكم" فوضع الدليل في غير موضعه فإن النهي على فرض شموله لغير ما هو مذكور بعده من التفصيل لا يتنأول إلا ما كان له أثر ظاهر في المخالفة من الأركان والأذكار وفعل القلب لا يدخل في ذلك لعدم ظهور اثر المخالفة فيه ولو قدرنا دخوله لكان مخصوصا بدليل الجواز.
قوله: "وناقص الصلاة أو الطهارة بضده".
أقول: الدليل على من منع من ذلك لأن الأصل الصحة وقد استدلوا على منع إمامة ناقص الصلاة بضده بالحديث الصحيح المصرح بالنهي عن الاختلاف على الإمام وفيه "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" [البخاري"722"، مسلم "86/414"، أبو دأود "603"] ، ولكن هذا لا يدل على أن كل ناقص صلاة لا يؤم بغيره كالأعرج والأشل مع كونهم يجعلونهما وأمثالهما ناقصي صلاة ثم مع هذا قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته وهي آخر صلاة صلاها بهم وكان قاعدا وكانوا قيأما فإن حمل هذا على اختصاصه به صلى الله عليه وسلم كان ذلك خلاف الظاهر وإن جعل ناسخا لم يصح الاستدلال بحديث "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" هكذا ينبغي أن يقال في ناقص الصلاة.
وأما ناقص الطهارة فلا دليل يدل على المنع أصلا فيصح أن يؤم المتيمم متوضئا ومن ترك غسل بعض أعضاء وضوئه لعذر بغيره ونحوهما ولا يحتاج إلي الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته بأصحابه بالتيمم وهو جنب فإن الدليل على المانع كما عرفت والأصل الصحة.
قال في المنتقي وقد صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا وكذلك عثمان وروي عن علي رضي الله عنهم من قوله انتهى.(1/154)
وروى الأثرم عن ابن عباس أنه صلى بجماعة من الصحابة منهم عمار بن ياسر فلما فرغ من الصلاة ضحك وأخبرهم أنه اصاب من جارية له رومية فصلى بهم وهو جنب متيمم.
وأخرج البخاري ["694"] وغيره من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم".
قول: "والمختلفين فرضا"
أقول: قد ذكرنا أن الدليل على من زعم أن ثم مانعا من الصحة ولكن أما مع اختلاف الفرضين فمدعي الصحة يحتاج إلي دليل على ذلك ولم يثبت أصلا ولا سمع في ايام النبوة بمثل هذا.
فالحاصل أن الفريضة إن كانت واحدة فالأصل صحة الائتمام والدليل على من ادعى عدم الصحة أما إذا كانا مفترضين فريضة فظاهر وهكذا إذا كانا متنفلين وقد قدمنا أن الأدلة على ذلك كثيرة جدا.
وأما إذا كان الإمام مفترضا والمؤتم متنفلا فلحديث "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه" أخرجه أبو دأود ["574"] ، والترمذي] "220"] ، وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم فإن الخطاب لجماعة قد صلوا فريضتهم.
وأما إذا كان الإمام متنفلا والمؤتم مفترضا فلحديث معاذ المتقدم وما ورد في معناه.
وأما مع الاختلاف أداء وقضاء مع اتفاق الفريضة فلم يثبت شيء من هذا في أيام النبوة ولا في أيام الصحابة.
وأما مع الاختلاف وقتا فلا يحل لمن لم يكن عنده أن ذلك الوقت وقت للصلاة أن يدخل فيها لا إمأما ولا مؤتما فإن فعل فقد عصى وصلاته باطلة وإذا كان إمأما فقد صحت صلاة المؤتم به الذي يعتقد دخول الوقت لحديث "وإن أخطأ فلكم وعليهم".
وأما مع الاختلاف في القبلة فلا يحل من اعتقد أن القبلة في غير جهة إمامه أن يأتم به.
وأما استثناء الخلاف في المذهب فلا بأس بذلك لكن لا يجوز أن يخالفه فيما نص عليه حديث "لا تختلفوا على إمامكم".
من ذلك التفصيل وإذا عرفت هذا علمت أن قوله: "وتفسد على المؤتم بالنية وعلى الإمام حيث يكون بها عاصيا" لا ينبغي أن يؤخذ كليا فإن الفساد لا يكون إلا لفوات ما دل الدليل على أن الصلاة لا تكون صلاة إلا به وقد قدمنا تحقيق هذا.
ولا وجه لقوله: "وتكره خلف من عليه فائتة" لعدم وجود الدليل على ذلك والكراهة حكم شرعي لا يجوز القول به مجازفة وعلى تقدير كون التراخي عن قضاء الفائتة معصية فذلك لا يستلزم عدم صلاحيته للإمامة كما تقدم.
قوله: "وكرهه الأكثر صلحاء".
أقول: ما ورد فيمن أم قوما وهم له كارهون من الوعيد متوجه إلي الإمام ولم يرد في(1/155)
المؤتمين شيء من ذلك بل الأحاديث القاضية بأن الأئمة في الصلاة إن اصابوا فللمؤتمين بهم ولهم وإن أخطأوا فللمؤتمين وعليهم يدل على أن صلاة المؤتمين صحيحة وأن الإمام الذي أم قوما وهم له كارهون يكون خطؤه عليه لا عليهم وظاهر الأحاديث الواردة في وعيد من أم قوما وهم له كارهون أن صلاته غير مقبولة كحديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة من تقدم قوما وهم له كارهون" الحديث أخرجه أبو دأود ["593"] وابن ماجه ["670"] وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وضعفه خفيف لا يسقط الاعتبار بحديثه.
وأخرج الترمذي ["360"] ، في حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تجأوز صلاتهم آذانهم" وفيه: "إمام أم قوما وهم له كارهون" قال الترمذي حديث حسن غريب انتهى وفي إسناده أبو غالب الراسبي البصري قال أبو حاتم ليس بالقوي وقال النسائي ضعيف لكنه قد صحح له الترمذي ووثقه الدارقطني وعدم قبول صلاته لا يستلزم عدم قبول صلاة المؤتمين لما تقدم فذلك عليه لا عليهم والإثم راجع إليه لا إليهم.
وقد أخرج الترمذي ["358"] ، عن أنس مرفوعا بلفظ: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة رجلا أم قوما وهم له كارهون الحديث قال الترمذي حديث أنس لا يصح لأنه قد روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وفي إسناده أيضا محمد بن القاسم الأسدي قال الترمذي يتكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه وليس بالحافظ وضعفه أيضا البيهقي.
وأخرج ابن ماجه ["971"] عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا رجل أم قوما وهم له كارهون" الحديث قال العراقي إسناده حسن.
وأخرج الطبراني في الكبير عن طلحة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما رجل أم قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه"، وفي إسناده سليمان بن ايوب الطلحي قال أبو زرعة عامة أحاديثه لا يتابع عليها وقال الذهبي في الميزان صاحب مناكير وقد وثق.
وأخرج البيهقي عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "ثلاثة لا تجأوز صلاتهم رؤوسهم رجل أو قوما وهم له كارهون" الحديث. قال البيهقي هذا إسناده ضعيف.
قوله: "والأولى من المستويين في القدر الواجب".
أقول: ثبت في صحيح مسلم ["673"،] ، وأحمد ["3/24"] ، والنسائي ["2/77"] من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة اقرأهم".
وثبت في صحيح مسلم ["673"] ، وغيره من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا" وفي رواية: "فأقدمهم سلما" أي إسلاما "ولا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه".(1/156)
وفي الصحيحين [البخاري "630"، مسلم "674"، وغيرهما [أبو دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "2/77"] من حديث مالك بن الحويرث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولصاحب لي: "إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما".
ولمسلم ["674"، وأحمد "3/436"، "وكانا متقاربين في القراءة".
فهذا الترتيب النبوي هو الذي ينبغي اعتماده والعمل عليه ولم يرد شيء في تقديم الراتب على غيره وما قيل إنه قد ثبت له سلطان لكونه راتبا فذلك مجرد دعوى فإن السطان أمره بالمعروف لغة وشرعا.
نعم إذا كان الرجل في بيته فقد ثبت في صحيح مسلم ["291/673"] ، وغيره أبو دأود ""582"] : "لا يؤم الرجل الرجل في أهله".
وهكذا لم يرد في تقديم الأورع شيء يخصه وأما حديث ابن عباس الذي رواه الدارقطني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" فلا تقوم به الحجة لضعف إسناده.
وهكذا لا دليل على تقديم الأشرف نسبا والاستدلال بمثل حديث "الناس تبع لقريش" [مسلم "1819"، أحمد "3/379"] ، ونحوه وضع الدليل في غير موضعه.
وأما قوله: "ويكفي ظاهر العدالة ولو من قريب" فمبنى على اعتبار العدالة في إمام الصلاة وقد قدمنا ما فيه كفاية.
[فصل
وتجب نية الإمامة والائتمام وإلا بطلت أو الصلاة على المؤتم فإن نويا الإمامة صحت فرادى والائتمام بطلت وفي مجرد الاتباع تردد] .
قوله: "فصل ويجب نية الإمامة والائتمام" الخ.
أقول: صلاة الجماعة عمل لأن لها وصفا زائدا على صلاة الفرادى بالاجتماع والمتابعة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات" وصح عنه أنه قال: "لا عمل إلا بنية" فلا يكون الإمام إمأما ولا المؤتم مؤتما إلا بالنية فإذا لم ينويا جميعا لم تكن جماعة وصحت صلاة الجميع فرادى ومجرد الانتظار والمتابعة لا يوجبان البطلان.
وهكذا إذا نويا الائتمام لم يكن ذلك موجبا لبطلان صلاتهما لأن نية الإمامة قد تضمنت نية أصل الصلاة مع نية أمر زائد عليها وهو التجميع فإذا بطل كونها جماعة لم يبطل كونها صلاة(1/157)
ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل فكهذا ينبغي أن يكون الكلام في هذا المقام فدع عنك التسرع إلي الحكم بالبطلان فأمر الشرع لا يثبت بالترهات والخزعبلات كما وقع هنا في شرح الجلال رحمه الله من المجادلة لعدم وجوب النية من الأصل.
[فصل
ويقف المؤتم الواحد أيمن إمامه غير متقدم ولا متأخر بكل القدمين ولا منفصل وإلا بطلت إلا لعذر إلا في التقدم والاثنان فصاعدا خلفه في سمته إلا لعذر أو لتقدم صف سامته ولا يضر قدر القامة ارتفاعا وانخفاضا وبعدا وحائلا ولا فوقها في المسجد أو في ارتفاع المؤتم لا الإمام فيهما.
ويقدم الرجال ثم الخناثا ثم النساء ويلي كلا صبيانه ولا تخلل المكلفة صفوف الرجال مشاركة وإلا فسدت عليها وعلى من خلفها أو في صفها إن علموا.
ويسد الجناح كل مؤتم أو متأهب منضم إلا الصبي وفاسد الصلاة فينجذب من بجنب الإمام أو في صف منسد لا اللاحق غيرهما] .
قوله: "فصل ويقف الواحد أيمن إمامه" الخ.
أقول: هذا الموقف للمؤتم الواحد هو الثابت ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة وأما الحكم على من تقدم بكل القدمين أو تأخر بهما أو انفصل بقدرهما ببطلان صلاته فليس على ذلك دليل ولا شك أن تسوية الصف والتراص والزاق الكعاب بالكعاب سنة ثابتة وشريعة مستقرة ولكن البطلان لا يكون إلا بدليل يدل عليه ويفيده وإلا فالأصل الصحة بعد الدخول في الصلاة.
قوله: "والاثنان فصاعدا خلفه".
أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم هو هكذا كما في صحيح مسلم ["3010"، وغيره أبو دأود "634"] ، من حديث جابر أنه أقامه النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه ثم جاء آخر فقام عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأيديهما فدفعهما حتى أقامهما خلفه.
وأخرج الترمذي من حديث سمرة بن جندب قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا قال ابن عساكر في الأطراف إنه حديث غريب فاجتمع القول والنقل على أن موقف الاثنين خلف الإمام هو الثابت في عصره صلى الله عليه وسلم في عصر الصحابة بعده أو عصر من بعدهم.
وأما ما روي عن ابن مسعود أنه دخل عليه الأسود بن يزيد وعلقمة فأقام أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فهو موقوف عليه كما في صحيح مسلم ["26/534"] وغيره [الترمذي "1/453"، أبو دأود "868"، النسائي "2/183، 184"] .(1/158)
ووقع عند أحمد ["1/414، 451، 455، 459"] ، وأبي دأود ["868"، والنسائي ["2/49، 50"] ، أن ابن مسعود قال هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع إذا كانوا ثلاثة وفي إسناد هذه الزيادة هارون بن عنترة وفيه مقال معروف قال ابن عبد البر هذا الحديث لا يصح رفعه والصحيح عندهم أنه موقوف على ابن مسعود وعلى تقدير صحة الرفع فقد ذكر جماعة من الحفاظ أنه منسوخ قالوا وإنما تعلم ابن مسعود ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تركه ومن زعم أن هذه الزيادة المقتضية للرفع في صحيح مسلم فقد أخطأ.
وأما اعتبار أن يكونا في سمته فهو معنى كونهما في خلفه وأنهما لو وقفا في جانب خارج عن سمته لم يكونا خلفه وإذا عرض مانع يمنعهما من الوقوف خلفه في سمته جاز لهما الوقوف في أي مكان فلا يجب عليهما إلا ما يدخل تحت إمكانهما.
قوله: "ولا يضر قدر القامة" الخ.
أقول: لا يضر قدر القامة ولا فوقها لا في المسجد ولا في غيره من غير فرق بين الارتفاع والانخفاض والبعد الحائل ومن زعم أن شيئا من ذلك تفسد به الصلاة فعليه الدليل ولا دليل إلا ما روي عن حذيفة أنه أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود البدري بقميصه فجذبه فلما فرغ من صلاته قال له أبو مسعود ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك قال بلى قد ذكرت حين مددتني أخرجه أبو دأود ["597"] وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وفي رواية للحاكم التصريح برفعه ورواه أبو دأود ["598"] ، من وجه آخر وفيه أن الإمام كان عمار ابن ياسر والذي جبذه حذيفة ولكن فيه مجهول لأنه من رواية عدي بن ثابت الأنصاري قال حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر في المدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار وقام علي وكان يصلي والناس من اسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة فلما فرغ عمار من صلاته قال حذيفة ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مكانهم" أو نحو ذلك قال عمار لذلك تبعتك حين أخذت على يدي هكذا ساقه أبو دأود ["1/399، 400"] وفي إسناده الرجل المجهول الذي ذكرناه ورواه البيهقي أيضا.
ففي هذا الحديث والحديث الأول دليل على منع الإمام من الارتفاع على المؤتم ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته صلى الله عليه وسلم على المنبر كما وقع في الصحيحين وغيرهما ومن قال إنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة جوابا عن سؤال بعض الأعلام فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها
قوله: "وتقدم الرجال". الخ.
أقول: أما تقديم الرجال على النساء فهو الثابت في جماعاته في مسجده صلى الله عليه وسلم وكذلك(1/159)
ثبت عنه ذلك في صلاته في غير المسجد كما في حديث فصففت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس.
وأخرج أحمد ["5/298"] ، وابو دأود ["677"] من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل الرجال قدام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان فأفاد هذا تقديم الرجال على الغلمان وتقديم الغلمان على النساء وأما الخناثى فلم يرد فيهن شيء ولا وجد هذا الجنس في زمن النبوة ولا ورد ما يفيد تقديمه على النساء وإنما لما كان له نسبة إلي الرجال ونسبة إلي النساء كان متوسطا بين الجنسين.
قوله: "ولا تخلل المكلفة صفوف الرجال مشاركة لهم وإلا فسدت عليها وعلى من خلفها" الخ.
أقول: إذا لم تقف المرأة في موقفها الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وهو وقوفها في صف النساء أو وقوفها وحدها بعد الرجال فقد صارت بذلك عاصية.
وأما فساد صلاتها بذلك فلا دليل يدل عليه وهكذا لا دليل يدل على فساد صلاة الرجال لأن غاية الأمر دخول الأجنبية معهم ونظرهم إليها وذلك لا يوجب فساد الصلاة بل يكون من وقف بجنبها مختارا لذلك أو نظر إليها عاصيا وصلاته صحيحة وأما من لم يقف بجنبها ولا نظر إليها فليس بعاص فضلا عن كون صلاته تفسد بمجرد دخولها معهم في الصلاة ومشاركتها لهم في الإئتمام بإمامهم.
والحاصل أن هذا التسرع إلي إثبات مثل هذه الأحكام الشرعية بمجرد الرأي الخالي عن الدليل ليس من دأب أهل الإنصاف ولا من صنيع المتورعين.
قوله: "ويسد الجناح كل مؤتم أو متأهب منضم إلا الصبي وفاسد الصلاة"
أقول: أما استثناء الصبي فمصادم للدليل الصحيح الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أنه صف هو واليتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم ووقفت العجوز أم سليم خلفهما ومصادم لما ثبت في الصحيحين [البخاري "859"، مسلم "184/763"] ، وغيرهما [أبو دأود "610"، والنسائي "842"، الترمذي "232"، من صلاة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم وحده بعد أن وقف عن يساره فأداره إلي يمينه
ومصادم لما أخرجه النسائي في الخصائص أن عليا كان يصلي إلي جنب النبي صلى الله عليه وسلم قبل بلوغه.
وأما استثناء فاسد الصلاة فليس على ذلك دليل والأصل الصحية وغاية ما هناك أن يكون فاسد الصلاة بمنزلة السارية المتخللة في وسط الصف ولم يصب من ادعى أن بينهما فرقا.
قوله: "فينجذب من بجنب الإمام"
أقول: أما مشروعية انجذاب من بجنب الإمام فيدل على ذلك ما تقدم في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامه عن يمينه فجاء آخر فوقف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأيديهما فدفعهما حتى أقامها خلفه.(1/160)
وأما مشروعية انجذاب من في الصف المنسد لمن لحق ولم يجد من ينضم إليه فلم يثبت ما يدل على ذلك بخصوصه ولا يصح الاستدلال بما أخرجه أبو دأود في المراسيل بلفظ: "إذا انتهى أحدكم إلي الصف وقد تم فليجذ إليه رجلا يقيمه إلي جنبه" لأنه مع كونه مرسلا في إسناده مقاتل بن حيان وفيه مقال ولم يثبت له لقاء أحد من الصحابة فثم انقطاع بينه وبين الصحأبي فهو مرسل معضل.
ولا يصح الاستدلال أيضا بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الآتي وقد تمت الصلاة بأن يجذب إليه رجلا يقيمه إلي جنبه فإن في إسناده بشر بن إبراهيم وهو ضعيف جدا.
وهكذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي عن وابصة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل صلى خلف الصف: "أيها المصلي هلا دخلت في الصف وجررت رجلا من الصف أعد صلاتك" فإن في إسناده السري بن إسماعيل وهو متروك وقد رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق اخرى ولكن فيها قيس بن الربيع وهو ضعيف ورواه ابن أبي حاتم في علله من طريق ثالثة وفي إسنادها ضعف.
ولكن الانجذاب معأونة على البر والتقوى فيكون مندوبا من هذه الحيثية.
[فصل
وإنما يعتد اللاحق بركعة أدرك ركوعها وهي أول صلاته في الأصح ولا يتشهد الأوسط من فاتته الأولى من أربع ويتابعه ويتم ما فاته بعد التسليم فإن أدركه قاعدا لم يكبر حتى يقوم.
وندب أن يقعد ويسجد معه ومتى قام ابتدأ وأن يخرج مما هو فيه لخشية فوتها وأن يرفض ما قد أداه منفردا ولا يزد الإمام على المعتاد انتظارا وجماعة النساء والعراة صف وإمامهم وسط] .
قوله: فصل: "وإنما يعتد اللاحق بركعة أدرك ركوعها".
أقول: هذا مذهب الجمهور وخالفهم جماعة من أهل العلم وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة بحثت فيها مع بعض أهل العلم المائلين إلي مذهب الجمهور ثم ذكرت في شرحي للمنتقي خلاصة البحث بما لا يحتاج الناظر إلي غيره فلا نطيل الكلام في هذا المقام فإن رجوع الطالب للحق إلي ما ذكرناه يغنيه.
قوله: "وهي أول صلاته في الأصح".(1/161)
أقول: هذا القول الراجح والمذهب الصحيح وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عبد الرحمن بن عوف ودخل معه صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية فلما سلم عبد الرحمن قام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعة ثم سلم وهو في الصحيحين [البخاري"182"، مسلم "105/274"] ، وغيرهما [أبو دأود "149"، أحمد "4/251"] ، وثبت في الصحيحين [البخاري "2/117"، مسلم "151، 152، 153،"] ، وغيرهما [الترمذي "327"] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" فالأمر بالإتمام يدل على أن ما أدركه مع الإمام أول صلاته.
وأما ما ورد في رواية مسلم بلفظ: "وما فاتكم فاقضوا" فقد حكم مسلم على الزهري بأنه وهم في هذا اللفظ فلا متمسك لمن تمسك بهذا اللفظ الذي وقع فيه الوهم.
وأيضا لو قدرنا عدم الوهم لكان تأويل هذا اللفظ الذي خالف الروايات الكثيرة الصحيحة بحمل القضاء على الإتمام فإنه أحد معانيه متعينا وقد ورد به الكتاب العزيز قال الله عز وجل: {فَإذا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي أتممتموها وقال الله عز وجل: {فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] الآية.
وبهذا تعرف أنه ليس في المقام ما يصلح لمعارضة الأمر بالإتمام وتعرف صحة ما قاله المصنف من أنه لا يتشهد الأوسط من فاتته الأولى من أربع وأنه يتم ما فاته بعد التسليم.
وأما قوله: "فإن أدركه قاعدا لم يكبر حتى يقوم" فليس على هذا دليل بل ظاهر أمر المؤتم بالسجود إذا أدرك الإمام ساجدا أنه يكبر ويعتد بتلك التكبيرة لصلاته ولا يعتد بتلك السجدة ولفظ الحديث في سنن أبي دأود هكذا "إذا جئتم إلي الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" وقد صححه ابن خزيمة.
وهكذا حديث: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حاله فليصنع كما يصنع الإمام" أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده إلا ما روي من هذا الوجه والعمل على هذا عند أهل العلم انتهى وفي إسناده الحجاج ابن أرطاة وفيه مقال قال ابن حجر في الفتح وينجبر ضعفه بما رواه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على الحالة التي أنا عليها".
قوله: "وأن يخرج مما هو فيه لخشية فوتها".
أقول: جعل المصنف هذا الخروج مندوبا وقيده بقوله لخشية فوتها وظاهر الحديث الصحيح عند مسلم ["36/71"] ، وأحمد ["517"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1266"، النسائي "2/116"، الترمذي "421"، ابن ماجة "1151"] ، وغيرهم أن الخروج واجب إذا سمع إقامة الصلاة إن كان المراد بقوله في الحديث "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" نفس الإقامة وهي قول المؤذن قد قامت الصلاة.
وإن كان المراد القيام إلي الصلاة كان الواجب عليه إذا عاين قيامه إلي الصلاة أن يخرج لأن ظاهر قوله: "فلا صلاة" نفي ذات الصلاة الشرعية فالمتنفل عند إقامة الصلاة قد بطلت صلاته فإذا(1/162)
استمر فيها فقد استمر في صلاة غير شرعية وخالف ما جاء عن الشارع.
وإن كان المراد المعنى المجازي في قوله: "فلا صلاة" فقد قدمنا لك أن نفس الصحة هو أقرب المجازين إلي الحقيقة فيجب الحمل عليه لأنه يستلزم انتفاء صحة الصلاة.
وبهذا تعرف أنه لا وجه للتقييد بقوله لخشية فوتها ولا لجعل الخروج مندوبا فقط.
قوله: "وندب أن يرفض ما قد أداه منفردا".
أقول: قول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، يدل بعمومه على أنه لا يجوز إبطال عمل من الأعمال كائنا ما كان والذي قد صلى منفردا إذا رفض صلاته فقد أبطل عمله فلا يجوز المخالفة لما يقتضيه هذا العموم إلا بدليل وقد دل الدليل على أن من صلى في بيته ثم وصل إلي جماعة فإنه يدخل معهم في الجماعة ثم اختلفت الروايات أيهما النافلة هل التي قد صلاها أو التي دخل فيها مع الجماعة وثم مرجح لكون النافلة هي الأخرى وهي الأحاديث الواردة أنها "لا تصلي صلاة في يوم مرتين" [أبو دأود "579؟ "، النسائي "860"، أحمد "2/19"] ، وأنه لا ظهران في يوم فلو كانت الثانية هي الفريضة لكان قد أبطل عمله وصلى الصلاة في يوم مرتين وهذا مرجح قوي لكون الثانية نافلة والأولى فريضة ومع هذا فالحديث الذي فيه أن الأولى نافلة والثانية فريضة حديث ضعيف لا تقوم به الحجة.
ويقوي ما ذكرناه من كون الفريضة هي الأولى ما تقدم في حديث معاذ أنه كان يصلي بقومه ويجعلها نافلة وكذلك حديث "ألا رجل يتصدق على هذا" فيصلي معه وقد قدمنا أنه حديث صحيح.
فهذان الحديثان في الجملة يدلان على مشروعية النافلة مع الجماعة.
ويؤيد ما ذكرناه أيضا أحاديث الصلاة مع أمراء الجور فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدخول في جماعتهم ويجعلها الذي قد صلى في بيته نافلة.
وأظهر مما ذكرناه حديث يزيد بن الأسود في قضية الرجلين اللذين لم يصليا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأتي بهما ترعد فرائصهما فقالا قد صلينا في رحالنا فقال لهما: "إذا أتيتما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة" [أبو دأود "575، 576"، النسائي "2/112، 113"] ، هو حديث صحيح.
قوله: "ولا يزيد الإمام على المعتاد انتظارا".
أقول: انتظار اللاحق ليدرك إمامه هو من باب قوله تعالي: {وَتَعَأونُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، فلا يحتاج إلي الاستدلال عليه بدليل يخصه بل يكفي هذا العموم ثم حديث أمر الإمام بالتخفيف لا يعارض هذا العموم إلا إذا حصل بالانتظار تطويل وهو غير مسلم فإن التطويل والتخفيف من الأمور النسبية نعم إذا كان الانتظار يحصل به تضرر من المؤتمين فإنه يخصص عموم الآية وهذا على تقدير أنه لم يرد في انتظار اللاحق دليل يخصه وقد ورد ما يخصصه وهو ما أخرج أحمد ["4/356"] ، وأبو دأود ["802"] ، والبزار عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان ينتظر في(1/163)
صلاته حتى لا يسمع وقع قدم" وفي إسناده رجل مبهم ولكنه قد بين هذا الرجل المبهم المزني في الأطراف فقال إنه روى هذا الحديث أبو إسحق الخميسي عن محمد ابن حجارة عن كثير الحضرمي عن ابن أبي أوفى فذكره وكثير هذا ثقة من ثقات التابعين وذكر النووي في شرح المهذب أن بعض الرواة سمى هذا الرجل فقال طرفة الحضرمي صاحب ابن أبي أوفى وذكر في التقريب أنه مقبول من الخامسة.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة الأولى من صلاة الظهر وهكذا في صلاة الصبح وفي رواية لأبي دأود ["759"] أنه كان يطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية وهكذا في صلاة العصر وهكذا في صلاة الغداة.
وفي رواية لعبد الرزاق وابن خزيمة أنه قال الرأوي ظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى.
قوله: "وجماعة النساء والعراة صف وإمامهم وسط".
قول أما جماعة النساء فقد تقدم الكلام عليها وأما جماعة العراة فالظاهر أنهم يصلون جماعة كما يصلي غيرهم من الرجال ويتقدم الإمام ويصفون خلفه ولهم عذر ظاهر وهو كونهم عراة وعليهم غض أبصارهم.
[فصل
ولا تفسد على مؤتم فسدت على إمامه بأي وجه إن عزل فورا وليستخلف مؤتما صلح للابتداء وعليهم تجديد النيتين ولينتظر المسبوق تسليمهم إلا أن ينتظروا تسليمه.
ولا تفسد عليه بنحو إقعاد مأيوس فيبنى ويعزلون ولهم الاستخلاف كما لو مات أو لم يستخلف] .
قوله: فصل: "ولا تفسد على مؤتم فسدت على إمامه بأي وجه".
أقول: هذا صواب فإن الفساد لا بد من قيام دليل يدل عليه ومجرد تعليق صلاة المؤتم بصلاة الإمام بنية الائتمام به هي ما دام الإمام إمأما فإذا بطلت صلاته فلا وجه لفساد صلاة المؤتم ثم إيجاب نية العزل عليه لا فائدة فيه لأنه قد صار بمجرد بطلان صلاة إمامه منفردا إذ لا ائتمام إلا بإمام ولا إمام فلا وجه للحكم بفساد صلاته إذا لم ينو العزل وهذا إذا كان الذي فسدت به صلاة الإمام لا اختيار له فيه كمن يحدث غير متعمد للحدث أما إذا كان الفساد وقع باختياره بسبب منه فقد قدمنا أن الإمام إذا اصاب فله وللمؤتمين به وإن أخطأ فعليه لا عليهم فلا وجه للحكم بفساد صلاة المؤتم على كل تقدير.
قوله: "وليستخلف مؤتما" الخ.(1/164)
أقول: أما كون هذا واجبا على الإمام فلم يدل عليه لأن صلاته قد بطلت فلم يبق إمأما وصلاة المؤتمين به إذا لم يتقدم أحدهم قد صحت فرادى.
وأما حديث ائتمام الناس بأبي بكر لما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ثم تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخر أبي بكر لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت هذا في الصحيح [البخاري "684، 1201، 1218، 234، 2690، 2693، 790"، مسلم "421"، أبو دأود "940، 941، 942، النسائي "2/77، 78"] ، فغايته الدلالة على أنه إذا لم يحضر إمام الصلاة جاز للمؤتمين أن يؤمروا من يصلي بهم وإذا رجع الإمام وهم في الصلاة كان لللإمام الأول المفضول أن يتأخر ويتقدم الإمام الفاضل فيتم بهم الصلاة.
وهكذا صلاة أبي بكر في مرضه صلى الله عليه وسلم ثم خروج النبي صلى الله عليه وسلم وقعوده جنب أبي بكر فكان أبو بكر يقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر.
فغاية ما فيه الدلالة على ما دل عليه الحديث الأول وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على وجوب الاستخلاف من الإمام الذي بطلت صلاته وأنه لا دليل على تجديد النية من الإمام والمؤتمين به فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم في تين الصلاتين بتجديد النية ولو كان ذلك واجب لأمرهم به.
وأما عدم فسادها على الإمام بعروض إقعاد مأيوس فظاهر ولا يحتاج إلي ذكره ولا فرق بين الإمام والمؤتم والمنفرد أما كونهم يعزلون صلاتهم فلا وجه لذلك وقد تقدم حديث: "وإذا صلي قاعدا فصلوا قعودا" وهذا عذر عارض في وسط الصلاة فلا يكون حكمه حكم من دخل في الصلاة قاعدا.
وأما كون للمؤتمين أن يستخلفوا من يتم بهم الصلاة فلا مانع من ذلك كما تقدم والحاصل أن هذه التفريعات لم تكن مبنية على رواية مقبولة ولا رأي صحيح.
[فصل
ويجب متابعته إلا في مفسد فيعزل أو جهر فيسقط إلا أن يفوت لبعد أو صمم أو تأخر فيقرأ] .
قوله: "فصل ويجب متابعته". الخ.
أقول: هذا صحيح وقد دل عليه حديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا" الحديث وهو في الصحيحين [البخاري "734"، مسلم "414"،وغيرهما [أبو دأود "603، 604"] النسائي "921، 142، 922"، ابن ماجة"846" من حديث أبي هريرة.
وأخرج البخاري ["733"] عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تركعوا حتى يركع ولا ترفعوا حتى يرفع".(1/165)
وأخرج مسلم ["112/426"] ، من حديث أنس أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف".
فهذه الأحاديث ونحوها تدل على وجوب المتابعة مع ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول صورته صورة حمار".
وأما كونه يعزل في المفسد فقد قدمنا في الفصل الذي قبل هذا ما فيه.
وأما كونه يسكت إذا جهر الإمام فذلك فيما عدا فاتحة الكتاب وأما هي ففرض عليه قراءتها في كل ركعة كما تقدم تحقيقه.
[فصل
ومن شارك في كل تكبيرة الإحرام أو في آخرها سابقا بأولها أو سبق بها أو بآخرها أو بركنين فعليين متواليين أو تأخر بهما غير ما استثني بطلت أحدهما] .
قوله: فصل: "ومن شارك إمامه في كل تكبيرة الإحرام".
أقول: ليس في هذا ما يوجب الفساد وهكذا إذا شاركه في أولها وسبق بآخرها وأما إذا سبقه بالتكبيرة كلها أو سبقه بأولها فهذا قد خالف ما أمر به من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا".
أما كون صلاته تفسد فلا وتعليلهم بأنه دخل في الصلاة قبل دخول إمامه علة عليلة لا ينبغي جعلها مقتضية للفساد فإن الفساد لا بد له من دليل خاص يدل عليه يوجب انتفاء الصلاة بانتفاء ما تركه أو انتفاءها بفعل ما فعله.
وأما الحكم بالبطلان بتقدم المؤتم على الإمام بركنين فعليين متواليين أو تأخره عليه بهما فلا شك أن الفاعل لذلك قد اثم وخالف ما هو واجب عليه لما قدمنا من الأدلة في الفصل الذي قبل هذا فإنها قاضية بالمنع من ذلك في الركن الواحد فضلا عن الركنين.
وأما كون ذلك مبطلا للصلاة فلا دليل عليه يوجب البطلان وقد تابع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الخامسة حيث صلى بهم خمسا وهي مشتملة على أركان وأذكار ولم يأمرهم بالإعادة وهكذا في حديث ذي اليدين وأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من الرباعية على ثلاث ثم تكلم وتكلموا ثم قام فكبر وصلى بهم ركعة واحدة وسلم وفي كثير من الروايات أنه سلم على ركعتين ثم قام فصلى ركعتين.
وهذا مما يفيدك أن حكم أهل الفقه بالفساد في كثير من المواضع ليس على ما ينبغي ثم كان يلزمهم أن يوجبوا الفساد بمجرد التقدم بركن واحد فإنه يصدق على الفاعل لذلك إذا كان(1/166)
متعمدا أنه قد خالف حديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" وحديث: "فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف" ويصدق عليه حديث "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول الله صورته صورة حمار".(1/167)
[باب سجود السهو
يوجبه في الفرض خمسة: الأول: ترك مسنون غير الهيئات ولو عمدا.
الثاني: ترك فرض في موضعه سهوا مع أدائه قبل التسليم على اليسار ملغيا ما تخلله وإلا بطلت فإن جهل موضعه نبي على الأسوأ ومن ترك القراءة أو الجهر أو الإسرار أتى بركعة.
الثالث: زيادة ذكر جنسه مشروع فيها إلا كثيرا في غير موضعه عمدا أو تسليمتين مطلقا فتفسد.
الرابع: الفعل اليسير وقد مر ومنه الجهر حيث يسن تركه.
الخامس: زيادة ركعة أو ركن سهوا كتسليمة في غير موضعها] .
باب سجود السهو
قوله: فصل: "يوجبه في الفرض خمسة".
أقول: قد اجتمع في مشروعية سجود السهو أقوال وأفعال وفي أقواله وأفعاله ما هو بصيغة الأمر فكان بهذا واجبا ولكن إذا كان المتروك سنة من السنن التي ليست بواجبة فالسجود لها مسنون لأن الفرع لا يزيد على أصله.
قوله: "الأول نرك مسنون غير الهيئات"
أقول: اعلم أن تسمية بعض ما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم سنة وبعضه هيئة هو مجرد اصطلاح لأهل علم الفروع وليس مثل ذلك حجة بل ما تقرر ثبوته من فعله صلى الله عليه وسلم مع المدأومة عليه فهو سنة وهكذا ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم مقترنا بقرينة تدل على عدم الوجوب وهكذا ما خرج عن حديث "المسيء صلاته" فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه صفة الصلاة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إلا ما ورد بعد تعليم المسيء بدليل يدل على وجوبه فإنه مقبول معمول به فلا يصرف حديث المسيء عن الوجوب إلا ما كان من الأقوال والأفعال في الصلاة ثابتا قبل تعليم المسيء.
إذا تقرر لك هذا علمت أن جعل بعض أفعال الصلاة وأقوالها سنة يسجد فيها للسهو وبعضها هيئة لا يسجد فيها للسهو لا ينبغي الالتفات إليه ولا العمل به.
وقد سجد صلى الله عليه وسلم لذلك التشهد الأوسط فكان ذلك دليلا للسجود لترك مسنون ولكن قد(1/167)
قدمنا لك أن التشهد الأوسط مذكور في حديث المسيء فكان ذلك دليلا على وجوبه فلا يتم هذا الاستدلال ولكن يستدل على السجود بترك المسنون بحديث ثوبان عند أبي دأود وابن ماجة [ابن ماجة "1219"، أبو دأود "1038"، أحمد "5/280"] ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل سهو سجدتان" وقد قيل إن في إسناده انقطاعا لأنه مروي عن طريق عبد الرحمن ابن جبير بن نفير عن ثوبان ولم يدركه عبد الرحمن.
ويجاب عن هذا بأنه رواه أبو دأود من طريق شيخة عمرو بن عثمان الحمصي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن ثوبان فلا انقطاع.
وأما تضعيف الحديث بأن في إسناده إسماعيل بن عياش فالمقال الذي فيه لا يوجب طرح حديثه.
ويؤيد هذا الحديث ما رواه البيهقي من حديث عائشة بلفظ: "سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان".
وقد قدمنا أن السجود لترك مسنون لا يكون واجبا لئلا يزيد الفرع على أصله فغايته أن يكون مسنونا كأصله ولم يرد في ترك المسنون ما يدل على وجوب سجود السهو له كما عرفت بل يختص الوجوب بما ورد الأمر به كالأحاديث التي فيها: "وليسجد سجدتين" وليس ذلك في ترك المسنون.
وأما إيجاب السجود لمن ترك المسنون عمدا فهو عكس ما يدل عليه عنوان هذا الباب فإنه قال: "باب سجود السهو"
وأما تعليلهم بأنه إذا وجب السجود للسهو فوجوبه للعمد أولى فليس ذلك بشيء ها هنا فإن مشروعية السجود قد عللها الشارع بأن في السجود ترغيما للشيطان وأن السجدتين مرغمتان والمتروك عمدا ليس من جهة الشيطان بل من جهة المصلى نفسه.
قوله: "والثاني ترك فرض في موضعه سهوا".
أقول: يدل على هذا سجوده صلى الله عليه وسلم على ركعتين كما في بعض الأحاديث وعلى ثلاث كما في بعض أخرى وسجوده لما صلى خمسا وهي أحاديث صحيحة وهي كلها تدل على وجوب السجود لمثل ذلك.
وأما قوله: "مع أدائه قبل التسليم على اليسار ملغيا ما تخلل وإلا بطلت" فمردود بما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فصلى ما تركه بتكبير وتسليم مع عدم الإلغاء لما كان قد صلاه وهذا دليل أوضح من الشمس ثابت في حديث ذي اليدين وغيره ولم يرد في هذه الشريعة ما يخالف ذلك قط ولكن أبى كثير من المفرعين إلا ترجيح رأيهم المعكوس واجتهادهم المنكوس بلا برهان.
وهكذا يصنع المتعمدون في إثبات الأحكام الشرعية على الرأي دون الرواية وإنها لرزية في الدين وفاقرة من فواقر المفرعين.(1/168)
فإن قلت قد تبين بفعله صلى الله عليه وسلم أن تارك الركعة أو الركعتين يأتي بهما بعد تسليمه الذي وقع منه سهوا فما حكم من ترك مثلا سجدة.
قلت حكمه أن يأتي بها قبل أن يسلم إن ذكرها وإن لم يذكر إلا بعد التسليم كبر وسجد وسلم اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم فيما تركه والسجود هو جزء من الركعة وللجزء حكم الكل.
وما أبعد هذا من أذهان المقلدين وأنفر طبائعهم عنه.
قوله: "ومن ترك القراءة أو الجهر أو الإسرار أتى بركعة".
أقول: هذا رأي بحث ليس عليه أثارة من علم والعجب ممن يتجارأ على إثبات مثل هذا ويكلف الناس به ويزعم أنه الشرع الذي شرعه الله ورسوله لعباده وهو يعلم أنه ليس في ذلك حرف واحد من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح.
فإن قلت فمإذا لديك في مثل هذا؟.
قلت أما من ترك القراءة فقد قدمنا من الأدلة الصحيحة الكثيرة ما يدل على أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب بل قدمنا ما يدل على انه لا ركعة إلا بفاتحة الكتاب وهذا الدليل يفيد أن وجود تلك الصلاة التي لم يقرأ فيها المصلي أصلا باطلة وجودها كعدمها.
وأما من ترك الجهر أو الإسرار فالأمر يسير ليس هنا ما يوجب بطلان الصلاة وغايته على تقدير ثبوت ما يدل على الوجوب أنه ترك واجبا وصلاته صحيحة وعليه أن يسجد للسهو.
قوله: "الثالث زيادة ذكر جنسه مشروع فيها".
أقول: هذه دعوى مجردة بل شريعة متبوعة فالصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" [مسلم "537"] ، فمن جاء بتسبيحة أو تسبيحات أو تكبيرة أو تكبيرات في الموضع الذي شرع جنسها فيه فهو زيادة في ثوابه ومضاعفة لحسناته وإن كرر ما لم يشرع فيه إلا المرة الواحدة كتكبيرة النقل إذا كبر عند الانتقال من ركن إلي ركن تكبيرتين أو ثلاثا فقد خالف السنة بذلك ولا سجود عليه لعدم الدليل على ذلك لا من قول ولا فعل.
وهكذا إذا سبح في موضع التشهد ونحو ذلك.
وأما الجمع بين سورتين أو سور في ركعة فقد وردت به السنة من أنكر ذلك فهو الجاني على نفسه بتركه لعلم السنة فإن قرأ في غير موضع القراءة فقد ورد النهي عن القراءة في الركوع والسجود ففاعل ذلك عمدا آثم ولا دليل يدل على أنه يسجد من فعل ذلك للسهو لأنه متعمد وعلى فرض أنه فعل ذلك سهوا وأن حديث: "لكل سهو سجدتان" يشمله فلا يلحق به إلا فعل ما هو منهي عنه في غير موضعه لا ما كان في موضعه وليس هذا مراد المصنف.
وأما قوله: "إلا كثيرا في غير موضعه" فقد قدمنا الكلام في الفعل الكثير فليرجع إليه.
وأما إيقاع التسليمتين في غير موضعهما فإن كان سهوا فلا يفسد به ما تقدمهما من الصلاة لما تقدم في حديث ذي اليدين وما ورد في معناه بل صلاته قبل التسليم سهوا صحيحة ويقوم يأتي بما فاته بتكبير مستأنف.(1/169)
وأما كونه خروجا من الصلاة فالأمر كذلك ولو كان سهوا ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم فكبر وصلى بهم ما بقي ولو لم يكن خروجا من الصلاة ما استأنف النبي صلى الله عليه وسلم التكبير للدخول في تأدية ما تركه.
وأما إذا سلم عمدا عالما بانه ترك ركعة أو ركنا فق خرج من الصلاة قبل الفراغ منها متعمدا ولم يرد البناء على ما قد فعله قبل التسليم إلا في الناسي فقط فلا يلحق به المتعمد لوجود الفارق بينهما.
قوله: "الرابع الفعل اليسير".
أقول: لم يرد في هذا شيء بل الوارد يخالفه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في صلاته أفعالا هي عند الفقهاء كثيرة فضلا عن أن تكون يسيرة ثم كان لا يسجد سجود السهو فمن ذلك صلاته على المنبر ونزوله منه للسجود ثم رجوعه إليه ومن ذلك حمله أمامه في صلاته ثم وضعها إذا سجد وردها إلي ظهره إذا رفع ثم أمره للمصلي بأن يقاتل الحية وهو باق في صلاته ثم حمله للحسن على ظهره ثم ما وقع منه من إدارة من يقف عن يساره إلي يمينه ودفعه للرجلين اللذين وقفا عن يمينه ويساره إلي خلفه وكذلك اتقاؤه بيده وتأخره ولعنه للشيطان لما جاء له في صلاته بسعفه من نار.
والحاصل أن هذا الباب إذا تتبع حصل منه الكثير ولم يسجد في شيء من ذلك.
وأما ما أخرجه مسلم ["89/ 572"، وغيره [البخاري""401"، أبو دأود "1020"] ، من حديث ابن مسعود قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإما زاد أو نقص علينا فقلنا: يا رسول الله حدث في الصلاة شيء؟ قال: "لا" فقلنا له الذي صنع فقال: "إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين" فينبغي حمل هذه الزيادة أو النقصان على الزيادة التي سجد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي زيادة الركعة الخامسة وعلى النقصان الذي سجد له وهو التسليم على ركعتين أو ثلاث أو ما يشابه ذلك لا لكل زيادة أو نقص لأمرين أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد في هذه الزيادة أو النقص في حديث ابن مسعود بعد اأن نبهوه على ذلك الأمر.
الثاني: ما ذكرنا من الأحاديث التي وقعت منه صلى الله عليه وسلم ولم يسجد لها.
قوله: "الخامس زيادة ركعة أو ركن سهوا".
أقول: هذا صحيح أما زيادة الركعة فلسجوده صلى الله عليه وسلم لما صلى خمس ركعات وأما زيادة الركن فلكونه جزءا من الركعة فيكون حكمه حكمها ويجبر الجميع بسجود السهو.
[فصل
لا حكم للشك بعد الفراغ فأما قبله ففي ركعة يعيد المبتدىء ويتحرى المبتلى ومن لا يمكنه يبني على الأقل ومن يمكنه ولم يفده في الحال ظنا يعيد وأما في ركن(1/170)
فكالمبتلي ويكره الخروج فورا ممن يمكنه التحري قيل والعادة تثمر الظن ويعمل بخبر العدل في الصحة مطلقا وفي الفساد مع الشك ولا يعمل بظنه أو شكه فيما يخالف إمامه وليعد متظنن تيقن الزيادة ويكفي الظن في أداء الظني ومن العلم في أبعاض لا يؤمن عود الشك فيها] .
قوله: فصل: "ولا حكم للشك بعد الفراغ".
أقول: الأصل صحة الصلاة التي فرغ منها فلا يعمل بما يعرض من الشكوك فإن الشك الاصطلاحي الذي هو استواء الطرفين هو مجرد تردد والتردد لا يمكن العمل بأحد طرفيه لأنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر وإذا لم يكن العمل بأحد طرفيه فلا يحتاج فيه إلي أن يقال لا حكم له لأنه ينفي حكم ما يمكن العمل به لا ما لا يمكن العمل به من الأصل فإنه لم يثبت بحال حتى ينفي.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا يجوز العمل بالشك بمعنى إذا تردد في شيء ما كان لتردده معنى وفائدة لا بعد الفراغ من الصلاة ولا قبل الفراغ منها ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الأمر باطراح الشك والبناء على اليقين وفي بعضها البناء على الأقل وورد في بعضها الأمر بتحري الصواب والجمع بين هذه الروايات ظاهر واضح وهو أن من عرض له الشك إن أمكنه تحري الصواب وذلك بأن ينظر في الأمور التي تفيده معرفة الصواب كان ذلك واجبا عليه فإن لم يفده التحري وجب عليه البناء على اليقين وهو البناء على الأقل ويجب عليه السجود لمجرد عروض هذا الشك كما صرحت به الأحاديث الصحيحة ولم يعد المصنف عروض الشك من اسباب السجود مع أنه السبب الذي ثبت ثبوتا أوضح من الشمس وذكر أسبابا قد قدمنا تزييف أكثرها فما كان أحقه بذكر هذا السبب الصحيح.
وأما الفرق بين المبتدىء والمبتلي وبين الركعة والركن فليس بشيء ولا يعول على مثله من له دراية بالرواية والكل سواء في إيجاب تحري الصواب عليهم أولا ثم البناء على اليقين الذي هو الأقل ثانيا بعد اطراح الشك وعدم الالتفات إليه وللركن حكم الركعة فإنه إذا وجب اطراح الشك في الركعة كان وجوب اطراحه في الركن ثابتا بفحوى الخطاب.
قوله: "ويكره الخروج فورا".
أقول: الأولى أن يقال ويحرم الخروج على كال حال ووجه ذلك أن الشارع قد عرفه أنه يتحرى الصواب فإن لم يفده التحري بنى على اليقين والبناء على الأقل ممكن لكل أحد إذا كان صحيح العقل لأنه إذا تردد هل صلى ثلاثا أو أربعا أمكنه أن يبني على الثلاث.
ولو قدرنا أنه اختلط عليه الأمر حتى لم يدركم صلى ولم يهتد إلي مقدار أصلا فعليه أن يبني على أنه في الركعة الأولى لأنه قد صار مصليا ولا أقل من ان يكون في الركعة الأولى وليس عليه غير ذلك فإنه هو الذي أمر به الشارع من البناء على اليقين والبناء على الأقل.(1/171)
واطراح الشك هذا إذا كان المصلي من جنس العقلاء فإن كان قد انسلخ من العقل وصار مجنونا فقد رفع الله عنه قلم التكليف في الصلاة وغيرها.
قوله: "قيل والعادة تثمر الظن".
أقول: هب أن العادة تثمر الظن فكان مإذا فإن المقام مقام العمل باليقين ومقام البناء على الأقل فليس لمجرد الظن ها هنا فائدة يستد بها ولا يجوز العمل به فيما نحن بصدده وهكذا العمل بخبر العدل إن لم يحصل به اليقين الذي أمر به الشارع فلا اعتبار به ويغني عنه البناء على الأقل وهو ممكن كل عاقل.
قوله: "ولا يعمل بظنه أو بشكه فيما يخالف إمامه".
أقول: هذا صواب ولو قال المصنف رحمه الله في هذا الفصل ولا يعمل بالظن والشك مطلقا أي قبل الفراغ من الصلاة وبعده وفي صلاته منفردا أو مع الإمام لكان ذلك صوابا مغنيا عن جميع ما في هذا الفصل على مقتضى ما هو الحق كما عرفناك.
قوله: "ولبعد متظنن تيقن الزيادة".
أقول: الذي تقتضيه الأدلة أنه إذا تيقن الزيادة عمل على اليقين كما تيقن أنه صلى خمسا وليس عليه إلا سجود السهو كما فعله صلى الله عليه وسلم لما اخبروه أنه صلى خمسا فإنه سجد للسهو فقط ولم يعد الصلاة ولا أمرهم بالإعادة ولا اعتبار بكونه زاد تلك الزيادة متظننا فإنه لا عمل بالظن في مثل هذا ولا تأثير له على أن من صلى الخامسة لا بد له من حامل على ذلك من جهة نفسه وأقل ما يحمله على ذلك ما يحصل له من الظن أنها أربعة مثلا وقد عرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ليس عليه إلا سجود السهو.
قوله: "ويكفي الظن في أداء الظني".
أقول: جاء بهذه القاعدة الكلية وهي غير مقبولة لأن الحكم الشرعي الثابت بدليل ظني قد كلف به من وجب عليه وثبت في ذمته يقينا وإن كان دليله ظنيا فكيف يكفي ظن المكلف في تأدية ما هو ثابت عليه بيقين وأين هذا الظن من ظنية دلالة الدليل على وجوب الحكم مع تعلقه بالمكلف بيقين.
وإذا تقرر لك هذا في الظن فهو فيما هو أعلى منه أولى.
[فصل
"وهو سجدتان بعد كمال التسليم حيث ذكر أداء أو قضاء إن ترك وفروضهما النية للجبران والتكبيرة والسجود والاعتدال والتسليم وسننهما تكبير النفل وتسبيح السجود والتشهد.(1/172)
ويجب على المؤتم لسهو الإمام أولا ثم لسهو نفسه قيل المخالف إن كان ولا يتعدد لتعدد السهو إلا لتعدد أئمة سهوا قبل الاستخلاف وهو في النفل ولا سهو لسهو ويستحب سجوده بنية وتكبيرة لا تسليم أحدها شكرا واستغفارا ولتلأوة الخمس عشرة آية أو لسماعها وهو بصفة المصلي غير مصل فرضا إلا بعد الفراغ ولا تكرار للتكرار في المجلس"] .
قوله: فصل: "وهو سجدتان بعد التسليم".
أقول: هذه المسألة قد طال فيها الخلاف وقد استوفيت الكلام في المذاهب وما استدل به لكل مذهب في شرح المنتقى وذكرت فيها ثمانية مذاهب ولاح لي ما ينبغي أن يعد مذهبا تاسعا وهو أنه يسجد لما سجد له رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام كذلك ولما سجد له بعد السلام كذلك وللسهو الخارج عن المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون المصلي مخيرا إن شاء سجد قبل السلام وإن شاء بعده لأن الكل قد ثبت وهذا قول حسن وجمع جامع بين الأدلة.
وأما قوله: "حيث ذكر أداء أو قضاء إن ترك عمدا فالناسي يسجد عند الذكر ويكون أداء وإن خرج وقت الصلاة التي سها فيها".
ولا وجه لتقييده بالعمد فلا فرق بين العمد والسهو.
وإن كان التارك عمدا قد أثم بالتراخي عن تأدية ما يجب عليه.
قوله: "وفروضهما النية للجبران".
أقول: قد قدمنا أن في الأدلة الدالة على النية ما يفيد أنها شرط يؤثر عدمها في عدم المشروط وأما كونها للجبران فلكونه قد لحق الصلاة بالنقص منها أو الزيادة فيها ما هو نقص ولهذا وجب سجود السهو فلا وجه لما قيل أن الزيادة ليست بنقص فتجبر.
وأما فرضية التكبير فلما تقدم لأن سجود السهو قد صار كالصلاة المستقلة لتحريمه بالتكبير وتحليله بالتسليم.
وأما فرضية السجدتين فلكونهما هما والاعتدال أركانا لسجود السهو.
وأما فرضية التسليم فلما تقدم في تسليم الصلاة.
وأما كون تكبير النقل وتسبيح السجود سنة فلكونهما في الصلاة كذلك.
وأما جعل التشهد سنة فلا وجه له بل حكمه حكم تشهد الصلاة وقد تقدم الكلام في ذلك في صفة الصلاة لكنه إذا كان السجود قبل التسليم فلا تشهد بل يغني عنه تشهد الصلاة وهكذا يكفي السلام الواحد تحليلا لصلاة الفريضة ولسجود السهو لأنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم تسليمتين ولا تشهد تشهدين فيما سجد له قبل التسليم وأما ما سجد له بعد التسليم من الصلاة فلا بد من التشهد والتسليم.
وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم تشهد في سجود السهو فأخرج أبو دأود ["1039"] ، والترمذي ["395"] ،(1/173)
والترمذي وابن حبان والحاكم عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم قال الترمذي حسن غريب صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين
وقد ورد في التشهد في سجود السهو غير هذا الحديث وهو ما أخرجه أبو دأود ["1028"] ، والنسائي عن ابن مسعود وأخرجه البيهقي عن المغيرة وفي إسنادهما ضعف ولكن الحديث الأول على انفراده تقوم به الحجة.
قوله: "ويجب على المؤتم لسهو الإمام أولا".
أقول: هذا صحيح لورود الأمر بمتابعة الإمام وإن كان نقص صلاته لا يسري إلي صلاة المؤتم لما تقدم في الحديث الصحيح "أنه إذا أصاب فله وللمؤتمين وإن أخطأ فعليه لا عليهم"
وأما إيجاب السجود على المؤتم لما عرض له من السهو في صلاته فذلك صواب لأن أدلة سجود السهو تتنأوله ولم يرد ما يدل على ان مجرد سجوده مع الإمام لسهو الإمام يسقط عنه السجود لسهو نفسه.
والحاصل أنه إذا كان سهو الإمام في فعل أو ترك قد تابعه المؤتم في ذلك الفعل أو الترك سهوا فسجوده مع الإمام يكفي وإن كان قد وقع منه سهو غير سهو الإمام فعليه أن يسجد له لدخوله بهذا السجود في جملة الأدلة الواردة في سجود السهو.
فقول المصنف قيل المخالف إن كان هو أصوب من قول القائل إنه يسجد مطلقا.
قوله: "ولا يتعدد بتعدد السهو".
أقول: أحسن ما يستدل به لهذا أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم كرروا السجود لتكرر السهو مع أن تكرر السهو ممكن من كل مصل وأما الاستدلال على عدم التعدد بأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على ركعتين وتكلم وسلم.
ففيه أن الكلام وقع بعد الخروج من الصلاة بالتسليم ثم التسليم هو الذي تبين به أنه وقع السهو فإن قيل إنه في حكم المصلي لبنائه على ما قد فعل فيجاب عنه أنه لو كان ذلك صحيحا لكان للكلام الواقع منه في تلك الحالة حكم الكلام الواقع قبل الخروج من الصلاة.
وأما قوله: "إلا لتعدد أئمة سهوا قبل الاستخلاف" فلا وجه له لأن الصلاة واحدة والأئمة المتعددون كالإمام الواحد فكما لا يتعدد السجود لسهو الإمام الواحد كذلك لا يتعدد لتعدد سهو الأئمة وسهوهم بعد الاستخلاف يخصهم لأنهم لم يكونوا أئمة في حال السهو.
قوله: "وهو في النفل نفل".
أقول: قد اختلف أهل الأصول في لفظ الصلاة إذا لم يقيد هل إطلاق الصلاة على الفريضة والنافلة من باب الاشتراك اللفظي أو المعنوي وإلي الثاني ذهب جمهورهم وإلي الأول ذهب الرازي والظاهر الأول فتكون الأحاديث التي ذكر فيها السجود لمن سها في صلاته شاملة للفريضة والنافلة ويكون عدم وجوب النافلة صارفا لما تدل عليه الأحاديث من الوجوب فلا يرد الاشكال الذي أورده الجلال.(1/174)
قوله: "ولا سهو لسهوه"
أقول: سجود السهو قد قدمنا أنه صار كالصلاة المستقلة لوجود خاصيتها فيه وهو كون تحريمهه التكبير وتحليله التسليم.
وقد اتفق الجميع أنه يبطل بمبطلات الصلاة كالحدث ونحوه فلو صح ما قالوه من لزوم التسلسل لكان الحدث غير مبطل له.
وإذا عرفت هذا فالسهو فيه كالسهو في الصلاة بشمول أحاديث السهو له لأنه صلاة.
وأما ما قاله بعض أئمة النحو من أن المصغر لا يصغر فهو بمعزل عن علم الفقه في الدين.
قوله: "ويستحب سجود بنية وتكبيرة لا تسليم أحدها شكرا".
أقول: قد وردت أحاديث كثيرة بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها فيه ضعف ومجموعها مما تقوم به الحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجود شكر في مواضع ولم يرد في ذلك غير فعله صلى الله عليه وسلم فلم يكن واجبا ولم يرد في الأحاديث غير فعله صلى الله عليه وسلم للسجود ولم يرد أنه كبر ولا أنه سلم فالمشروعية تتم بمجرد فعل السجود.
فإن قلت لم يرد في الأحاديث ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم في سجود الشكر فمإذا يقول الساجد للشكر.
قلت ينبغي أن يستكثر من شكر الله عز وجل لأن السجود سجود الشكر.
فإن قلت نعم الله على عباده لا تزال واردة عليه في كل لحظة؟
قلت المراد النعم المتجددة التي يمكن وصولها إلي العبد ويمكن عدم وصولها ولهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد إلا عند تجدد تلك النعم مع استمرار نعم الله سبحانه وتعالي عليه وتجددها في كل وقت.
قوله: "واستغفارا"
أقول: لم يرد في هذا شيء وليس في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص" وقال: "سجدها دأود توبة ونسجدها شكرا" [النسائي "957"] ، ما يدل على مشروعية السجود للاستغفار لأن ذلك هو بيان لمشروعية سجدة التلأوة في صلي الله عليه وسلم وأن دأود عليه السلام فعلها للتوبة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم للتوبة بل قال: "ونسجدها شكرا" فلم يقرر النبي صلى الله عليه وسلم سجود التوبة من دأود بل خالفه فليس ذلك من شرع من قبلنا كما زعمه البعض لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرره وغاية ما في الحديث أنه يحسن السجود في صلي الله عليه وسلم شكرا عند تلأوة الآية أو سماعها.
ولكنه قد ورد أن السجود هو مقام القرب من الرب سبحانه كما في الحديث الصحيح "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" [مسلم "482"] ، فمن قصد إيقاع دعائه في هذا المقام أو استغفاره فقد وفق للصواب وتعرض لنفحات الرحمن في المقام الذي أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن العبد أقرب إلي ربه فيه من سائر المقامات التي يكون العبد عليها كالقيام والقعود والاضطجاع فمن فعل السجود عند دعائه قاصدا به هذا المقصد مريدا به هذه الأرادة فنعم ما فعل.(1/175)
قوله: "ولتلاوة الخمس عشرة آية".
أقول: سجود التلأوة سنة ثابتة وشريعة قائمة حتى ذهب أبو حنيفة ومن تابعه إلي وجوبه والأحاديث في ذلك كثيرة.
وأما اشتراط أن يكون الساجد بصفة المصلي فليس على ذلك دليل ولا حجة فيما يروي عن بعض الصحابة.
وأما قول المصنف غير مصل فرضا فدفع في وجه الدليل الصحيح ورد للسنة الثابتة ولو لم يكن من ذلك إلا ما في الصحيحين [البخاري "766"،،"1074"، مسلم "578"، وغيرهما أبو دأود "1408"، النسائي "2/162": أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الصلاة لما قرأ {إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الإنشقاق: 1] .
قوله: "ولا تكرار للتكرار في المجلس".
أقول: هذا التكرار لنفس الآية التي وقع السجود عند قراءتها إن كان من القارىء الذي قرأها أولا لا لفرض بل لما فرغ من السجود لها ابتدأ بها فلا سجود وإن كان من قارىء آخر أو من هذا القارىء نفسه لا لقصد التكرار كأن يقرأ سورة الانشقاق في جملة ما يتلوه ثم يقوم فيصلي بها فلا وجه لإسقاط السجود.(1/176)
[باب والقضاء
يجب على من ترك إحدى الخمس أو ما لا يتم إلا به قطعا أو في مذهبه عالما في حال تضيق عليه فيه الأداء غالبا.
وصلاة العيد في ثانيه فقط إلي الزوال إن تركت للبس فقط.
ويقضي كما فات قصرا وجهرا وعكسهما وإن تغير اجتهاده لا من قعود وقد أمكنه القيام والمعذور كيف أمكن وفوره مع كل فرض فرض.
ولا يجب الترتيب ولا بين المقضيات ولا التعيين.
وللإمام قتل المتعمد بعد استتابته ثلاثا فأبى] .
قوله: "باب: والقضاء على من ترك إحدى الخمس".
أقول: لفظ الترك يشمل الترك عمدا والترك سهوا أو نسيانا أو لنوم والأدلة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم لم ترد إلا في السهو والنسيان والنوم وقال صلى الله عليه وسلم فيها: "فوقتها حين يذكرها لا وقت لها إلا ذلك" وهذا يفيد أن ذلك وقتها أداء.(1/176)
إذا لا قضاء فتكون هذه الأحاديث مخصصة لما ورد من توقيت الصلاة وتعيين أوقاتها ابتداء وانتهاء فيقال إلا الصلاة التي نام عنها المصلي أو سها عنها فإن فعلها عند الذكر هو وقت أدائها ولو بعد خروج الوقت المضروب لتلك الصلاة.
وأما العمد فلا تشمله هذه الأحاديث الواردة في النوم والسهو والنسيان ولا يدخل تحتها ولا يصح قول من قال إنه ثبت القضاء مع السهو والنسيان والنوم ثبت مع العمد بفحوى الخطاب لأنا نقول ليس تأدية الصلاة التي نام عنها أو نسيها من باب القضاء بل من باب الأداء فلا يتم القياس من هذه الحيثية.
ثم لا نسلم أن ذلك أولى لأن التارك عمدا قد أثم بالترك بالإجماع فإيجاب القضاء عليه لا يرفع عنه هذا الإثم.
فإن قلت قد زعم قوم كدأود الظاهري وابن حزم وابن تيمية ومن تابعهم أنه لا قضاء في العمد وأنه لم يرد بذلك دليل فهل هذا صحيح؟
قلت نعم لم يرد في قضاء الصلاة المتروكة عمدا دليل يدل على وجوب القضاء على الخصوص ولكنه وقع في حديث الخثعمية الثابت في الصحيح [البخاري"1513، 1854، 1855، 4399، 6228"، مسلم "1334، 1335"، أبو دأود "1809"، النسائي "2635، 2641"، الترمذي "928"، ابن ماجة "2909"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "دين الله أحق أن يقضى" والتارك للصلاة عمدا قد تعلق به بسبب هذا الترك دين الله وهو أحق بأن يقضيه هذا التارك.
وأما قول من قال إن دليل القضاء هو دليل الأداء فليس ذلك إلا مجرد دعوى ادعاها بعض أهل الأصول.
وما ذكره المصنف رحمه الله من أن ترك ما لا يتم الصلاة إلا به كتركها وذلك كترك شرط من شروط صحتها أو نحو ذلك فهذا مسلم.
وأما قوله: "أو في مذهبه عالما" فهذا وإن قبله المقلدون فلا بد أن يكون ذلك المتروك مما يستلزم بطلان الصلاة شرعا وإلا فلا اعتبار بالأقوال المخالفة للحق وإن قال بها من قال.
وأما اعتبار أن يكون الترك في حال تضيق عليه فيه الأداء فذلك لإخراج من لا وجوب عليه كالمجنون والحائض وقد أخرج النائم والساهي والناسي بقوله غالبا.
قوله: "وصلاة العيد في ثانيه فقط".
أقول: هذا قد دل عليه الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ["9/265"، بوأبو دأود ["1157"، والنسائي ["1557"، وابن ماجه ["1653"] ، وابن حبان عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: غم علينا هلال شوال فأصبحنا صيأما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد، وصححه ابن حبان وابن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطأبي وابن حجر في بلوغ المرام.(1/177)
فهذا فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يفطروا وأمرهم بالخروج لعيدهم من الغد والناس هم الموجودون إذ ذاك في المدينة وقد كان ترك الإفطار في ذلك لكون الهلال قد غم على أهل المدينة مع كون ذلك الوقت مظنة لظهوره فكان الترك من هذه الحيثية للبس عرض لهم في ذلك اليوم ثم تبين لهم الصواب.
وبهذا يندفع ما وقع الاعتراض به على المصنف.
وأما كون القاضي يقضي كما فات فذلك ظاهر ولكنه إذا تغير اجتهاد المجتهد قبل فعله للقضاء كان العمل على اجتهاده الآخر لا كما قال المصنف لأنه إنما انتقل عن الاجتهاد الأول لدليل قد ظهر له يجب العمل عليه ولم يكن قد فعل القضاء.
وأما قوله لا من قعود وقد أمكنه القيام فصحيح لأنه قد صار قادرا على القيام قبل القضاء فوجب عليه أن يقوم لزوال عذره ومع بقاء العذر يفعل ما بلغته استطاعته.
قوله: "وفوره مع كل فرض فرض".
أقول: هذه دعوى مجردة بل فوره أن يفعل ما يقدر عليه وهو يقدر على أن يأتي بصلاة الأيام المتعددة في بعض يوم.
قوله: "ولا يجب الترتيب ولا بين المقضيات".
أقول: يريد أنه لا يجب الترتيب بين المقضية والمؤداة ولا بين المقضيات نفسها لأن الجمع قد تعلق بمن عليه القضاء ولا دليل يدل على خلاف هذا حتى يتعين المصير إليه وأما من ترك الصلاة لنوم أو نسيان فقد عرفناك أن فعلها في وقت الذكر هو أداء لا قضاء.
قوله: "وللإمام قتل المتعمد" الخ.
أقول: قد دل على هذا كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري"25"، مسلم "36/22"] ، وغيرهما من طرق "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة" الحديث.
وصح عنه في الصحيحين [البخاري "4094"، مسلم "1064"] ، وغيرهما [أحمد "3/4"] أن خالد بن الوليد قال له في الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله اتق الله......, يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا لعله يصلي".
وصح في صحيح مسلم ["134/82"] ، وغيره أبو دأود "4678"، الترمذي "2618"، ابن ماجة "1078"، أحمد "3/370، 389"] ، من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة".
وثبت عند أحمد ["5/346"] ، وأهل السنن [الترمذي "2621"، ابن ماجة "1079"] ، من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، وصححه النسائي والعراقي وأخرجه ابن حبان والحاكم.(1/178)
وثبت إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة وهي عديلة الصلاة بل الصلاة أدخل في الركنية للإسلام منها.
فالحاصل أن تارك الصلاة عمدا كافر يستحق القتل ويجب على إمام المسلمين قتله لا كما قال المصنف وللإمام قتل المتعمد فيقال له صل فإن أبى قتل ولا وجه لتأخيره عن القتل ثلاثة ايام بل مجرد امتناعه يقتل.
[فصل
ويتحرى في ملتبس الحصر ومن جهل فائتته فثنائية وثلاثية ورباعية يجهر في ركعة ويسر في أخرى.
وندب قضاء المؤكدة] .
قوله: "فصل ويتحرى في ملتبس الحصر" الخ.
أقول: إذا تيقن انها فاتته إحدى الصلوات الخمس والتبس أيها الفائتة ولم يفده التحري فلا تحصل له البراءة إلا بفعل الخمس الصلوات جميعها يقول في كل واحدة إن كانت هي فقضاء وإلا فنافلة وصحت النية المشروطة هنا للضرورة وتوقف البراءة عليها.
قوله: "وندب قضاء المؤكدة".
أقول: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنها فاتته الركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر وثبت عنه أنه أمر من فاته وتره بالليل أن يقضيه بالنهار وثبت عنه فيمن فاته ورده بالليل أن يقضيه بالنهار وهذا إذا لم يترك تلك النافلة المؤكدة لغرض المرض أو نحوه.
أما إذا تركها لذلك فقد ورد أن الله يكتب له ثوابها.(1/179)
[باب صلاة الجمعة
تجب على كل مكلف ذكر حر مسلم صحيح نازل في موضع إقامتها أو يسمع نداءها وتجزىء ضدهم وبهم غالبا.
وشروطها اختيار الظهر وإمام عادل غير مأيوس وتوليته في ولايته أو الاعتزاء إليه في غيرها وثلاثة مع مقيمها ممن تجزئه ومسجد في مستوطن وخطبتان قبلها مع عددها(1/179)
متطهرين من عدل متطهر مستدبر للقبلة مواجها لهم اشتملتا ولو بالفارسية على حمد الله تعالي والصلاة على النبي وآله وجوبا.
وندب في الأولى الوعظ وسورة وفي الثانية الدعاء لإمام صريحا أو كناية ثم للمسلمين وفيهما القيام والفصل بقعود أو سكتة ولا يتعدى ثالثة المنبر إلا لبعد سامع والاعتماد على سيف أو نحوه والتسليم قبل الإذان والمأثور قبلهما وبعدهما وفي اليوم ويحرم الكلام حالهما.
فإن مات أو أحدث فيهما استأنفتا ويجوز أن يصلي غيره] .
قوله: "تجب على كل مكلف".
أقول: الأدلة المصرحة بأنها حق واجب على كل مسلم وبأنها واجبة على كل محتلم وبالوعيد الشديد على تاركها وبهمه صلى الله عليه وسلم بإحراق المتخلفين عنها يقتضي أنها واجبة على الأعيان.
وأما ما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم قد هم بإحراق المتخلفين عن الجماعة ولم يثبت بذلك وجوبها على الأعيان فنقول قد ورد الصارف في صلاة الجماعة وهي الأدلة القاضية بصحة صلاة الفرادى ولم يرد في صلاة الجمعة ما يصرف ذلك.
وأما ما قيل من أن مسجده صلى الله عليه وسلم كان يضيق عن أن يصلي فيه جميع أهل المدينة فهذه الدعوى من ضيق العطن أما أولا فالأدلة إذا قضت بالوجوب على الأعيان فلا يصرفها مثل هذا وأما ثانيا فإقامتها خارجة ممكنة وأما ثالثا فقد ورد أن الجمعة كانت تقام في غير مسجده صلى الله عليه وسلم.
ثم ليس بعد الأمر القرآني المتنأول لكل فرد من قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إلي ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، حجة بينة واضحة.
وزحلقة دلالة هذه الآية عن الوجوب العيني تعصب يأباه الإنصاف.
وأما استثناء من استثناه المصنف فيدل على ذلك ما أخرجه أبو دأود من حديث طارق ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض"، وقد وقد صححه غير واحد من الأئمة.
وما قيل من أن طارق بن شهاب لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم قال العراقي فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح وغايته أن يكون مرسل صحأبي وهو حجة عند الجمهور إنما خالف فيه أبو إسحق الإسفراييني على أنه قد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى.
ويؤيده ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بلفظ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا امرأة أو مسافرا أو عبدا أو مريضا" وفي إسناده ضعف.
وفي الباب عند الطبراني في الأوسط وعن مولى لآل الزبير عند البيهقي وعن أم عطية عند(1/180)
ابن خزيمة وعن أبي هريرة ذكره صاحب مجمع الزوائد وصاخب التلخيص وفيه ضعف وعن تميم الداري عند العقلي والحاكم وفي إسناده ضعف.
وأما إيجاب الجمعة على المسافر إذا كان نازلا في الموضع الذي تقام فيه الجمعة أو يسمع النداء لها فهو تخصيص لقوله في الحديث: "أو مسافرا" بغير مخصص.
وأما قوله: "وتجزىء ضدهم" فصواب لأن مجرد الترخيص لهؤلاء لا يدل على عدم صحة الجمعة منهم إذ الرخصة ما خير المكلف بين فعله وتركه مع بقاء سبب الوجوب والتحريم كما تقرر في الأصول وهكذا قوله وتجزىء بهم لأن صلاتهم صحيحة.
قوله: "وشروطها اختيار الظهر".
أقول: قد جعل المصنف الوقت هنا شرطا كما جعله في أول كتاب الصلاة وقد قدمنا الكلام على ذلك هنالك فلا نعيده.
واعلم أن الأحاديث الصحيحة قد اشتمل بعضها على التصريح بإيقاع صلاة الجمعة وقت الزوال كحديث سلمة بن الأكوع في الصحيحين [البخاري "4168"، مسلم "860"] ، وغيرهما [أبو دأود "1085"، النسائي "1391"، ابن ماجة "1100"] ، قال كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس وبعضها فيه التصريح بإيقاعها قبل الزوال كما في حديث جابر عند مسلم ["29/858"] ، وغيره [أحمد "6/38‘ 39"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلي جمالهم فيريحونها حين تزول الشمس وبعضها محتمل لإيقاع الصلاة قبل الزوال وحاله كما في حديث سهل بن سعد في الصحيحين [البخاري "2/427"، مسلم "30/859"] ، وغيرهما [أحمد "5/336"، أبو دأود "1086"، الترمذي "525"، ابن ماجة "1099"] ، قال ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة وكما في حديث أنس عند البخاري وغيره قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم نرجع إلي القائلة فنقيل.
ومجموع هذه الأحاديث يدل على أن وقت صلاة الجمعة حال الزوال وقبله ولا موجب لتأويل بعضها.
وقد وقع من جماعة من الصحابة التجميع قبل الزوال كما أوضحناه في شرح المنتقي وذلك يدل على تقرير الأمر لديهم وثبوته.
قوله: "وإمام عادل" الخ.
أقول: ليس على هذا الاشتراط أثارة من علم بل لم يصح ما يروى في ذلك عن بعض السلف فضلا عن أن يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن طول المقال في هذا المقام فلم يأت بطائل قط ولا يستحق ما لا أصل له أن نشتغل برده بل يكفي فيه أن يقال هذا كلام ليس من الشريعة وكل ما ليس هو منها فهو رد أي مردود على قائله مضروب في وجهه.
قوله: "وثلاثة مع مقيمها".
أقول: هذا الاشتراط لهذا العدد لا دليل عليه قط وهكذا اشتراط ما فوقه من الأعداد.(1/181)
وأما الاستدلال بأن الجمعة أقيمت في وقت كذا وعدد من حضرها كذا فهذا استدلال باطل لا يتمسك به من يعرف كيفية الاستدلال ولو كان هذا صحيحا لكان اجتماع المسلمين معه صلى الله عليه وسلم في سائر الصلوات دليلا على اشتراط العدد.
والحاصل أن صلاة الجماعة قد صحت بواحد مع الإمام وصلاة الجمعة هي صلاة من الصلوات فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة فعليه الدليل ولا دليل وقد عرفناك غير مرة أن الشروط إنما تثبت بأدلة خاصة تدل على انعدام المشروط عند انعدام شرطه فإثبات مثل هذه الشروط بما ليس بدليل أصلا فضلا عن أن يكون دليلا على الشرطية مجازفة بالغة وجرأة على التقول على الله وعلى رسوله وعلى شريعته والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد حتى بلغت إلي خمسة عشر قولا وليس على شيء منها دليل يستدل به قط إلا قول من قال إنها تنعقد جماعة الجمعة بما تنعقد به سائر الجماعات.
قوله: "ومسجد في مستوطن".
أقول: وهذا الشرط أيضا لم يدل عليه دليل يصلح للتمسك به لمجرد الاستحباب فضلا عن الشرطية ولقد كثر التلاعب بهذه العبادة وبلغ إلي حد تقضي منه العجب.
والحق أن هذه الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه وشعار من شعارات الإسلام وصلاة من الصلوات فمن زعم أنه يعتبر فيها ما لا يعتبر في غيرها من الصلوات لم يسمع منه ذلك إلا بدليل وقد تخصصت بالخطبة وليست الخطبة إلا مجرد موعظة يتواعظ بها عباد الله فإذا لم يكن في المكان إلا رجلان قام أحدهما يخطب واستمع له الآخر ثم قأما فصليا صلاة الجمعة.
ولقد تضرب الجلال في هذه الشروط تضربا يأباه الإنصاف بل يأباه التحقيق ومال مع الخوارج في بعضها كما جرت عادته بالقيام في المواطن المبتدعة والأقوال المخترعة.
قوله: "وخطبتان قبلها" الخ.
أقول: قد ثبت ثبوتا متواترا يفيد القطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة قط فالجمعة التي شرعها الله سبحانه هي صلاة الركعتين مع الخطبة قبلها وقد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إلي ذكر الله والخطبة من ذكر الله إذا لم تكن هي المرادة بالذكر فالخطبة فريضة.
وأما كونها شرطا من شروط الجمعة فلا.
وأما قوله: "مع عددها" فقد عرفت ما فيه وهكذا اشتراط طهارتهم وطهارة الخطيب فليس على ذلك دليل بل يصح أن يخطب وهو محدث وهم محدثون ثم يقوم ويقومون فيتطهرون ويصلون صلاة الجمعة.
وهكذا اشتراط عدالة الخطيب لا دليل عليه وأما استدبار الخطيب للقبلة واستقباله للحاضرين فهذه هيئة حسنة كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفعلها من بعده من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ولكن لا دليل يدل على الوجوب فإن تأدية الذكر المأمور بالسعي إليه ممكنة بدون ذلك.(1/182)
وأما اشتمال الخطبة على حمد الله والصلاة على رسوله فهكذا كانت خطبته صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا استفتاحا للخطبة المقصودة ومقدمة من مقدماتها والمقصود بالذات هو الوعظ والتذكير وهو الذي يساق إليه الحديث ولأجله شرع الله هذه الخطبة ولم يشرعها لمجرد الحمد لله والصلاة على رسوله فجعل المصنف للوعظ مندوبا وللحمد والصلاة على رسول الله واجبا ليس كما ينبغي وكان عليه أن يضم إلي الحمد والصلاة الشهادتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لازمهما في خطبته كما لازم الحمد وغيره فلا وجه لإيجاب بعض ما لازمه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بعض فإن ذلك تحكم لا ينبغي من منصف وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو شيئا من القرآن وقد يأتي في خطبته بسورة كاملة والمقصود الموعظة بالقرآن وإيراد ما يمكن من زواجره وذلك لا يختص بسورة كاملة.
والحاصل أن روح الخطبة هو الموعظة الحسنة من قرآن أو غيره وقد خلط المصنف خلطا عظيما بإيجابه للبعض وإهماله للبعض والقول بندبية البعض وكان عليه أن يثبت لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما واحدا وإذا أراد تخصيص البعض بحكم آكد من غيره فليجعل ما هو المقصود والمراد من الخطبة وهو الوعظ آكد من غيره وأدخل في المشروعية.
والقيام في الخطبتين مع القعود بينهما هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف ذلك بدعة
والسكتة مع عدم القعود لم تثبت ولا فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون بل كانوا يقعدون بين الخطبتين.
وأما قوله: "ولا يتعدى ثالثة المنبر إلا لبعد سامع" فلم يرد في هذا شيء فذكره في مندوبات الخطبة لا وجه له
وأما الاعتماد على سيف أو نحوه فقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عنه أيضا التسليم على الحاضرين قبل الشروع في الخطبة من طرق يقوي بعضها بعضا.
قوله: "وندب المأثور قبلهما وبعدهما وفي اليوم".
أقول: قد اشتملت السنة المطهرة على ذلك فمن جملة ما اشتملت عليه الإتيان إلي الجمعة بالسكينة والوقار وعدم تخطي الرقاب وترك الجلوس في مجلس قد سبق إليه سابق والتطيب بعد الاغتسال وصلاة ركعتي التحية ولو في حال الخطبة وصلاة اربع ركعات بعد الفراغ من الصلاة والتكبير إلي الجمعة وترك الاحتباء حال الخطبة وترك العبث بالحصى والتحول من المحل الذي نعس فيه إلي غيره.
ومن المشروعات في اليوم الاستكثار من الدعاء لأن فيه الساعة التي لا يرد فيها الدعاء والاستكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "ويحرم الكلام حالهما".
أقول: هذا هو مقتضى الأدلة كحديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "394"، مسلم "851"] ، وغيرهما [أبو دأود "1112"، الترمذي "511"، النسائي 3/104"، ابن ماجة "1110"] ، أن(1/183)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"، وأخرج هذا الحديث أحمد ["6/62"، وأبو دأود "1051"] ، وأبو دأود من حديث علي وزاد فيه "ومن لغا فلا جمعة له" وفي إسناده رجل مجهول ولكنه قد أخرج معنى هذه الزيادة أحمد ["1/230"] ، وابن أبي شيبة والبزار والطبراني في الكبير من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا والذي يقول له أنصت ليس له جمعة"، وفي إسناده مجالد بن سعيد وفيه مقال خفيف.
وأخرج أحمد ["21184"] ، والطبراني من حديث أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ"، وفي الباب أحاديث.
وأما الخطيب فيجوز له أن يجيب سؤال من سأله ويأمر من ترك ما ينبغي فعله بأن يفعله كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وأما قوله: "فإن مات أو أحدث استؤنفتا" فلا وجه للاستئناف إذا عرض ما يمنع من تمام الخطبة بل يبني الآخر على ما قد فعله الأول إذا لم يكن قد فعل ما هو مشروع.
وقد قدمنا أنه لا دليل على اشتراط كون الخطيب متطهرا لأن المقصود من الخطبة يحصل من المحدث كما يحصل من المتطهر وما قيل من أنها بمنزلة ركعتين فلا أصل لذلك بل هي ذكر من الأذكار وموعظة من المواعظ.
وأما قوله: "ويجوز أن يصلي غيره" فذلك خلاف ما جرت به السنة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب ثم يصلي بالناس مدة حياته ثم كذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم بل كان هذا هو الأمر المستمر عند أمراء الأمصار فضلا عن الخلفاء.
[فصل
ومتى اختل قبل فراغها شرط غير الإمام أو لم يدرك اللاحق من أي الخطبة قدر آية متطهرا أتمت ظهرا وهو الأصل في الأصح والمعتبر الاستماع لا السماع وليس لمن حضر الخطبة تركها إلا المعذورين غالبا ومتى أقيم جمعتان في دون الميل لم يعلم تقدم إحداهما أعيدت فإن علم أعاد الآخرون ظهرا فإن التبسوا فجميعا وتصير بعد جماعة العيد رخصة لغير الإمام وثلاثة.
وإذا اتفق صلاة قدم ما خشي فوته ثم الأهم] .
قوله: "فصل ومتى اختل قبل فراغها شرط غير الامام" الخ.
أقول: قد عرفت ما أسلفنا أنه لم يصح شيء من تلك الشروط وأن إطلاق إسم الشروط عليها لم يدل عليه دليل يثبت به الوجوب فضلا عن الشرطية إلا الخطبتان فقد قدمنا أن دليلهما قد يدل على وجوبهما وبعد هذا كله تعلم أنه لا يضر اختلال شيء مما جعله مشروطا ثم حكمه على(1/184)
بعض الشروط بأنه يضر اختلاله قبل الفراغ وبعضها بأنه لا يضر بعد حكمه على الجميع بالشرطية تحكم يأباه الإنصاف فإن الشرط هو ما يؤثر عدمه في العدم فكيف كان بعض الشروط مؤثرا وبعضها غير مؤثر فهذا كونه تحكما مخالف لاصطلاح أهل الأصول والفروع.
وأعجب من هذا كله أنه لا دليل بيده يدل على ما ذكره لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل إيجاب رفض الجمعة وتتميمها ظهرا مخالف للدليل وهو ما أخرجه النسائي ["1425"] ، من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أدرك من الجمعة فقد أدرك الجمعة" ولهذا الحديث اثنا عشر طريقا صحح الحاكم منها ثلاثا وقال في البدر المنير هذه الطرق الثلاث أحسن طرق هذا الحديث والباقي ضعاف.
وأخرج النسائي ["557"، وابن ماجه "1123"] ،والدارقطني من حديث ابن عمر نحوه وله طرق قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده صحيح وقوى أبو حاتم إرساله وأخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود بلفظ: "من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا"، قال في مجمع الزوائد وإسناده حسن.
فهذه الأحاديث تقوم بها الحجة ويندفع بها ما قاله المصنف ويدل على ما دلت عليه هذه الأحاديث ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"، فإن صلاة الجمعة داخلة في هذا العموم ولا تخرج عنه إلا بمخصص ولا مخصص.
قوله: "وهو الأصل في الأصح".
أقول: الواجب يوم الجمعة الجمعة فريضة من الله عز وجل فرضها على عباده فإذا فاتت لعذر فلا بد من دليل على وجوب صلاة الظهر وقد قدمنا في القولة التي قبل هذه من حديث ابن مسعود بلفظ: "ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا" فهذا يدل على أن من فاتته الجمعة صلى ظهرا فإن كانت الأصالة من هذه الحيثية فذاك.
وأما ما ذكره أهل الفروع من فوائد الخلاف في هذه المسألة فلا أصل لشيء من ذلك.
قوله: "والمعتبر الاستماع لا السماع".
أقول: هذا صحيح فمن وقف حيث ينتهي به الوقوف وكان لا يسمع أو كان أصم أو كان صوت الخطيب خفيفا فالمستمع كالسامع.
قوله: "وليس لمن حضر الخطبة تركها"
أقول: وجه هذا أنه قد ورد النهي عن الخروج من المسجد بعد سماع الدعاء إلي الصلاة والحاضر حال الخطبة داخل تحت هذا النهي وهذا يشمل المعذورين وغيرهم لأنهم قد حضروا إلا إذا كانوا يتضررون بالوقوف إلي وقت انقضاء الصلاة فما جعل الله في الدين من حرج.
قوله: "ومتى اقيم جمعتان في دون الميل" الخ.(1/185)
أقول: هذه المسألة قد اشتهرت بين أهل المذاهب وتكلموا فيها وصنف فيها من صنف منهم وهي مبنية على غير أساس وليس عليها أثارة من علم قط وما ظنه بعض المتكلمين فيها من كونه دليلا عليها هو بمعزل عن الدلالة وما أوقعهم في هذه الأقوال الفاسدة إلا ما زعموه من الشروط التي اشترطوها بلا دليل ولاشبهة دليل.
فالحاصل أن صلاة الجمعة صلاة من الصلوات يجوز أن تقام في وقت واحد جمع متعددة في مصر واحد كما تقام جماعات سائر الصلوات في المصر الواحد ولو كانت المساجد متلاصقة ومن زعم خلاف هذا فإن كان مستند زعمه مجرد الرأي فليس ذلك بحجة على أحد وإن كان مستند زعمه الرواية فلا رواية.
قوله: "وتصير بعد جماعة العيد رخصة لغير الإمام وثلاثة".
أقول: ظاهر حديث زيد بن أرقم عند أحمد ["4/372"، وأبي دأود "1070"، والنسائي "1591" وابن ماجه "1310" بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال: "من شاء أن يصلي فليصل" يدل أن الجمعة تصير بعد صلاة العيد رخصة لكل الناس فإن تركوها جميعا فقد عملوا بالرخصة وإن فعلها بعضهم فقد استحق الأجر وليست بواجبة عليه من غير فرق بين الإمام وغيره وهذا الحديث قد صححه ابن المديني وحسنه النووي وقال ابن الجوزي هو أصح ما في الباب وفي إسناده إياس بن أبي رملة قال ابن القطان وابن المنذر هو مجهول ولكنه يشهد له ما أخرجه أبو دأود ["1073"، وابن ماجه "1311"] ، والحاكم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة فإنا مجمعون"، قال في البدر المنير وصححه الحاكم وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف وأخرج أبو دأود ["1071"، والنسائي "1592"،] ، والحاكم عن وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالي النهار ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصلى ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس قال: أصاب السنة, ورجاله رجال الصحيح.
وأخرجه أيضا أبو دأود ["1072"] ،عن عطاء بنحو ما قاله وهب بن كيسان ورجاله رجال الصحيح وجميع ما ذكرناه يدل على أن الجمعة بعد العيد رخصة لكل أحد ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنا مجمعون" فقد دلت أقواله على أن هذا التجميع منه صلى الله عليه وسلم ليس بواجب.
قوله: "وإذا اتفق صلوات قدم ما خشي فوته ثم الأهم".
أقول: إن كانت الصلوات متفقة في كونها جميعا واجبة كصلاة جمعة وجنازة أو متفقة في كونها جميعا غير واجبة كصلاة الكسوف والاستسقاء فيقدم ما خشي فوته ثم الأهم أما إذا كان بعضها واجبا وبعضها غير واجب فعليه أن يأتي بالواجب عليه فإن أمكن فعل غير الواجب بعده فعله وإلا فهو معذور عن فعله باشتغاله عنه بما هو واجب عليه لأن من الجائز أن يعرض له ما يمنعه عن فعل الواجب الذي أخره وفعل ما خشي فوته من غير الواجب.(1/186)
[باب ويجب قصر الرباعي
"إلي اثنتين على من تعدى ميل بلده مريدا أي سفر بريد حتى يدخله مطلقا أو يتعدى في أي موضع شهرا أو يعزم هو ومن يريد لزامه على إقامة عشر في أي موضع أو موضعين بينهما دون ميل ولو في الصلاة وقد نووا القصر لا العكس غالبا أو لو تردد"] .
قوله: "باب ويجب قصر الرباعي إلي اثنتين".
أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره إلا القصر وذلك في الصحيحين وغيرهما وأظهر الأدلة على الوجوب الحديث الثابت عن عائشة في الصحيحين [البخاري "3935"، مسلم "685"] ، وغيرهما [أحمد "3/272"، النسائي "1/255"] ، بلفظ: "فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر"، فهذا اخبار بأن صلاة السفر أقرت على ما فرضت عليه فمن زاد فيها فهو كمن زاد على أربع في صلاة الحضر ولا يصح التعلق بما روي عنها أنها كانت تتم فإن ذلك لا تقوم به الحجة بل الحجة في روايتها لا في رأيها.
وهكذا لم يثبت ما روي عنها أنه روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم وقد وافقها على هذا الخبر الذي أخبرت به ابن عباس فأخرج مسلم ["687"] ، عنه أنه قال: "إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا والخوف ركعة".
ومن ذلك ما أخرجه أحمد ["1/37"، والنسائي "3/11"، وابن ماجه "1064"] ، عن عمر قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام من غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج النسائي ["3/117"] وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن ضلال فعلمنا كان فيما علمنا أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي في السفر ركعتين.
فهذه الأدلة قد دلت على أن القصر واجب عزيمة غير رخصة وأما قوله تعالي: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، فهو وارد في صلاة الخوف والمراد قصر الصفة لا قصر العدد كما ذكر ذلك المحققون وكما يدل عليه آخر الآية ولو سلمنا أنها في صلاة القصر لكان ما يفهم من رفع الجناح غير مراد به في ظاهره لدلالة الأحاديث الصحيحة على أن القصر عزيمة لا رخصة.
ولم يرد في السنة ما يصلح لمعارضة ما ذكرناه من الأدلة الصحيحة.
قوله: "على من تعدى ميل بلده مريدا أي سفر بريدا".
أقول: هذه المسألة قد اضطربت فيها الأقوال وكثرت فيها مذاهب الرجال وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين.(1/187)
وهذا يدل على أن الخارج لسفر يقصر الصلاة إذا خرج من بلده قدر ما بين المدينة وذي الحليفة وهو ستة أميال ولكن هذا لا يدل على عدم القصر فيما دون هذه المسافة لما ثبت في صحيح مسلم ["691"] ، وغيره [أبو دأود "1201"] ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين.
وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة.
والحاصل أن هذه التقديرات لا تدل على عدم جواز القصر فيما دونها مع كونها محتملة أن يكون قاصدا لسفر هو خلف ذلك المقدار وأن يكون ذلك هو منتهى سفره.
فالواجب الرجوع إلي ما يصدق عليه أنه سفر وأن القاصد إليه مسافر ولا ريب أن أهل اللغة يطلقون اسم المسافر على من شد رحله وقصد الخروج من وطنه إلي مكان آخر فهذا يصدق عليه أنه مسافر وأنه ضارب في الأرض ولا يطلقون اسم المسافر على من خرج مثلا إلي الأمكنة القريبة من بلده لغرض من الأغراض فمن قصد السفر قصر إذا حضرته الصلاة ولو كان في ميل بلده وأما نهاية السفر فلم يرد ما يدل على أن السفر الذي يقصر فيه الصلاة هو أن يكون المسافر قاصدا لمقدار كذا من المسافة فما فوقها.
وقد صح النهي للمرأة أن تسافر بغير محرم ثلاثة أيام وفي رواية: "مسيرة يوم وليلة" وفي رواية: "أن تسافر بريدا" فسمى النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك سفرا وأقله البريد فكان القصر في البريد واجبا ولكنه لا ينبغي ثبوت القصر فيما دون البريد إلا أن يثبت عند أهل اللغة أو في لسان أهل الشرع أن من قصد دون البريد لا يقال له مسافر وأما قول المصنف مريدا أي سفر أي سواء كان السفر طاعة أو معصية فهو صواب لأن الأدلة الأخرى لم تفرق بين سفر وسفر ومن ادعى ذلك فعليه الدليل.
قوله: "أو يتعدى في أي موضع شهرا"
أقول: الذي لم يعزم على إقامة مدة معينة لا يزال يقصر حتى يمضي له قدر المرة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح وفي تبوك.
وقي روي أنه اقام في مكة ثماني عشرة ليلة كما في رواية أو تسع عشرة ليلة كما في رواية أخرى أو سبع عشرة ليلة كما في رواية ثالثة.
وروي أنه قام بتبوك عشرين ليلة فإذا مضى للمتردد الذي لم يعزم على إقامة معينة عشرون ليلة أتم صلاته.
فإن قلت: ومن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أقام أكثر من هذه المدة لأتم صلاته؟.
قلت: المقيم ببلد قد حط رحله وذهب عنه مشقة السفر فلولا أنه صلى الله عليه وسلم قصر في هذه المدة لما كان القصر في ذلك سائغا فعلينا أن نقتصر على المدة التي قصر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق(1/188)
عليه وعلى من معه فيها اسم السفر فقال: "أتمو يا أهل مكة فإنا قوم سفر".
وقد أخرج البخاري ["1080"، وغيره [الترمذي "549"، عن ابن عباس قال لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة اقام فيها تسع عشرة ليلة فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة ليلة قصرنا وإن زدنا أتممنا فهذا حبر الأمة يقول هكذا وهو الحق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قصر فيه مع الإقامة ورجوعا إلي الأصل وهو أن المقيم يتم صلاته فيما زاد على ذلك.
قوله: "أو يعزم هو أو من يريد لزامه على إقامة عشر".
أقول: قد قدمنا لك أن المقيم الذي حط رحل السفر لا يقصر إلا بدليل وقد ثبت فيمن لم يعزم على إقامة معينة ما قدمناه وأما من عزم على إقامة معينة فلم يثبت فيه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في عام حجه في أيام إقامته بمكة وهو قدم مكة صبحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن بمكة ثم خرج إلي منى فقد عزم صلى الله عليه وسلم على إقامة هذه الأربعة الأيام بمكة وقصر الصلاة فيها فمن عزم على إقامة أربعة ايام بمكة قصر وإن عزم على إقامة أكثر منها أتم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم رجوعا إلي الأصل وهو أن المقيم يتم.
وقد خلط الكلام الجلال في هذا المقام ووهم عدة أوهام.
[فصل
"وإذا انكشف مقتضى التمام وقد قصر اعاد تمأما لا العكس إلا في الوقت ومن قصر ثم رفض السفر لم يعد ومن تردد في البريد أتم وإن تعداه كالهائم"] .
قوله: فصل: "وإذا انكشف مقتضى التمام وقد قصر أعاد تماما".
أقول: وجه ذلك عند المصنف أنه انكشف عدم المقتضى للقصر وهو سفر البريد ووجد المقتضى للتمام وهو عدم السفر إلي البريد وأما قوله: "لا العكس" فغير صواب لأنه قد وجد مقتضى القصر والقائل بأن القصر عزيمة لا يفيده قول من قال إنه رخصة ولكنه مبني على قاعدة فروعية وهي أن المختلف فيه لا يقضى إلا في الوقت لا بعده وهو يخالف قاعدة لهم أخرى وهي أن الاعتبار بالانتهاء.
وهكذا قوله: "ومن قصر ثم رفض السفر لم يعد" كأن قياس قواعدهم أن يعيد اعتبارا بالانتهاء لأن النية غير مؤثرة بمجردها.
وأما قوله: "ومن تردد في البريد أتم"، فإن كان التردد في البريد مع عدم مجأوزته فلم يحصل مقتضى القصر وإن كان مع مجأوزته فقد حصل موجبه فلا وجه لقوله وإن تعداه وقياسه على الهائم غير صحيح لأن الهائم لم يقصد السفر فهو غير مسافر وهذا مسافر فإن كان هذا الذي تردد في البريد هائما فلا وجه لقوله كالهائم لأنه هائم لا كالهائم.(1/189)
[فصل
"والوطن ما نوى استيطانه ولو في مستقبل بدون سنة وإن تعدد يخالف دار الإقامة بأنه يصير وطنا بالنية قيل وبأن لا يقصر منه إلا لبريد وتوسطه يقطعه ويتفقان في قطعهما حكم السفر وبطلانهما بالخروج مع الإضراب"] .
قوله: فصل: "والوطن هو ما نوى استيطانه".
أقول: مصير المكان وطنا بمجرد النية لم يوافق رواية صحيحة ولا رأيا مقبولا وجعل النية مؤثرة في دون سنة لا في سنة فما فوقها لا يدري ما وجهه ولا من أين مأخذه وليس مثل هذا الكلام القائل والرأي العاطل مما يدون في مثل كتب الهداية التي هي لقصد إرشاد العباد إلي ما شرعه الله لهم.
وهكذا ما ذكره من الفرق بين دار الوطن ودار الإقامة ليس عليه أثاره من علم وكان الأولى للمصنف أن يجعل مكان هذه الخرافات ما ورد فيمن تأهل في بلد أنه يتم الصلاة فيها لما أخرجه أحمد عن عثمان بن عفان أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال يا ايها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم" وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم وفيه ضعف خفيف لا يوجب ترك ما رواه.(1/190)
[باب وشرط جماعة الخوف
"من أي أمر صائل السفر وآخر الوقت وكونهم محقين مطلوبين غير طالبين إلا لخشية الكر فيصلي الإمام ببعض ركعة ويطول في الأخرى حتى يخرجوا ويدخل الباقون وينتظر في المغرب متشهدا ويقوم لدخول الباقين.
وتفسد بالعزل حيث لم يشرع وبفعل كثير لخيال كاذب.
وعلى الأولين بفعلها له"] .
قوله: باب: "وشروط جماعة الخوف من أي أمر صائل السفر".
أقول: الظاهر ثبوت مشروعية صلاة الخوف من كل أمر يخاف منه في السفر والحضر ولا يدل كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا من خوف خاص وفي إسفاره على أنها لا تصلى من خوف من غير آدمي ولا تصلى في الحضر فإن العلة التي شرعت لها كائنة في الجميع ولا يصح التمسك بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في المدينة مع اشتداد الملاحمة والمدافعة لأنه صلى الله عليه وسلم اشتغل هو وأصحابه بمواقعة الأحزاب حتى قال له عمر يا رسول الله ما كدت اصلي العصر حتى كادت الشمس(1/190)
تغرب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"، قال جابر فقمنا إلي بطحان فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب هكذا في البخاري ["596، 598، 4112"، مسلم "631"، الترمذي "180"، النسائي "3/84"] ، من حديث جابر وفي الموطأ أن الذين فاتهم الظهر والعصر والمغرب وأنهم صلوا بعد هدوء من الليل.
وأيضا قد أخرج النسائي وابن حبان من حديث أبي سعيد أن ذلك كان قبل أن ينزل قوله تعالي: {فَرِجَالاً أو رُكْبَاناً} [البقرة: 239] .
وأما اشتراط أن تكون صلاة الخوف في آخر الوقت فلا دليل عليه بل تفعل في أول الوقت ووسطه وآخره على حسب ما يقتضيه الحال.
وأما اشتراط كونهم محقين مطلوبين غير طالبين فلم يرد ما يدل على ذلك وقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من المواطن وهو طالب للكفار غير مطلوب.
قوله: "فيصلي الإمام ببعض ركعة" الخ.
أقول: قد وردت صلاة الخوف على أنحاء مختلفة وثبت فيها صفات فأيها فعل المصلون فقد أجزأهم وقد ذكرنا ما ورد فيها من الأنواع في شرحنا للمنتقي وذكرنا جملة ما صح من ذلك فليرجع إليه فإن إيراده هنا يحتاج إلي تطويل يخالف ما هو الغرض لنا من التنبيه على الصواب والإرشاد إلي الحق.
وهذه الصفة التي ذكرها المصنف هي من جملة الصفات الواردة ولا وجه للاقتصار عليها فإن ذلك تضييق لدائرة قد وسعها الله على عباده.
قوله: "وتفسد بالعزل حيث لم يشرع".
أقول: إذا لم يوافق العزل صفة من الصفات الواردة فغاية ما هناك أنه أتى ببعض صلاته جماعة وبعضها فرادى وذلك لا يقتضي الفساد.
وأما فسادها بالفعل الكثير للخيال الكاذب فقد قدمنا في الفعل الكثير ما يغني عن الإعادة.
[فصل
فإن اتصلت المدافعة فعل ما أمكنه ولو في الحضر ولا تفسد بما لا بد منه من قتال وانفتال ونجاسة على آلة الحرب وعلى غيرها تلقى فورا ومهما أمكن الإيماء بالرأس فلا قضاء وإلا وجب الذكر والقضاء.
ويؤم الراجل الفارس لا العكس] .
قوله: "فصل فإن اتصلت المدافعة فعل ما أمكنه".(1/191)
أقول: يدل على هذا قول الله سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:6] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ويدل على ذلك ما أخرجه أبو دأود ["1249"] عن عبد الله ابن أنيس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرنة وعرفات فقال: "اذهب فاقتله" قال: وحضرت صلاة العصر فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء يماء نحوه فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك, فقال: إني لفي ذاك فمشيت معه ساعة حتى أمكنني ثم علوته بسيفي حتى برد.
ومثل هذا من هذا الصحأبي المبعوث في هذا الأمر المهم لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أنه يفعل ما أمكنه ولو بمجرد الايماء وإلي غير القبلة وفيه أنه لا يشترط ما تقدم من كونهم مطلوبين وفيه أن صلاة الخوف تصح أن تكون فرادى.(1/192)
[باب وفي وجوب صلاة العيدين خلاف
وهي من بعد انبساط الشمس إلي الزوال ركعتان جهرا ولو فرادى بعد قراءة الأولى سبع تكبيرات فرضا يفصل بينهما الله أكبر كبيرا إلي آخره ويركع بثامنة وفي الثانية خمس كذلك ويركع بسادسة ويتحمل الإمام ما فعله مما فات اللاحق] .
قوله: باب: "وفي وجوب صلاة العيدين خلاف".
أقول: هذه العبارة لا تفيد السامع ولا يحسن السكوت عليها لأنه غالب مسائل الفروع هكذا فيها خلاف ولعله لم يتقرر دليل الوجوب للمصنف كما ينبغي وكان عليه أن يقف على ما دون الوجوب ويجزم به كعادته في هذا الكتاب حتى يكون لكلامه فائدة يستفيدها المقلد.
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لازم هذه الصلاة في العيدين ولم يتركها في عيد من الأعياد وأمر الناس بالخروج إليها حتى أمر بخروج النساء العواتق وذوات الخدور والحيض وأمر الحيض أن يعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين حتى أمر من لا جلباب لها أن تلبسها صاحبتها من جلبابها وهذا كله يدل على أن هذه الصلاة واجبة وجوبا مؤكدا على الأعيان لا على الكفاية.
ويزيد ذلك تأكيدا أنه صلي الله عليه وسلم أمر الناس بالخروج لقضائها في اليوم الثاني مع اللبس كما تقدم، وهذا شأن الواجباتلا غيرها.
قوله: "وهي من بعد انبساط الشمس إلي الزوال".
أقول: قد قدمنا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يفدوا إلي مصلاهم لما أخبره الركب برؤية الهلال.(1/192)
وأخرج أبو دأود ["1135"وابن ماجه "1317"] ، أن عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر على الإمام الذي أبطأ بصلاة العيد ورجال إسناده عند أبي دأود ثقات.
وأخرج أحمد بن الحسن البناء عن جندب في كتاب الأضاحي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين والأضحى على قيد رمح هكذا ذكره ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه.
وأخرج الشافعي في حديث مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي عمرو ابن حزم وهو بنجران أن عجل الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس.
قوله: "وهي ركعتان جهرا ولو فرادى".
أقول: أصل كل صلاة تصح فرادى كما تصح جماعة وصلاة العيد صلاة من الصلوات فمن ادعى أنها لا تصح فرادى كان عليه الدليل ولا يصلح لذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما صلاها إلا جماعة فإن غاية ما يستفاد من ذلك أن التجميع في العيد أولى ولا شك في ذلك ومحل النزاع الصحة فمن نفاها فهو المحتاج إلي الدليل.
وهكذا الجهر هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ولكنه لا ينفي صحة الإسرار.
قوله: "بعد قراءة الأولى سبع تكبيرات فرضا".
أقول: لم يصح في كون التكبير بعد القراءة شيء أصلا بل لم يكن في ذلك حديث ضعيف فضلا عن أن يوجد فيه حديث صحيح أو حسن وأما تقديم التكبير في الركعتين على القراءة ففيه حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخرى والقراءة بعدهما كلتيهما"، أخرجه أبو دأود ["1151"] ، والدارقطني وأخرجه من غير ذكر تقديم التكبير على القراءة أحمد ["6/140، 141"] ، وابن ماجه ["1279"] .
قال العراقي إسناده صحيح وقال الترمذي في العلل المفردة عن البخاري إنه قال حديث صحيح.
وأخرج الترمذي عن عمرو بن عوف المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة قال الترمذي هو أحسن شيء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه الدارقطني وابن عدي والبيهقي وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال الشافعي وأبو دأود إنه ركن من أركان الكذب وقال ابن حبان له نسخة موضوعة عن أبيه عن جده قال ابن حجر في التلخيص وقد أنكر جماعة تحسينه على الترمذي وأجاب النووي في الخلاصة على المنكرين على الترمذي فقال لعله اعتضد بشواهد وغيرها قال العراقي في شرحه للترمذي إن الترمذي إنما تبع في ذلك البخاري فقال قال في كتاب العلل المفردة سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال ليس في هذا الباب شيء أصح منه وبه أقول: انتهى.
وأخرج ابن ماجه ["1277"] ، عن سعد القرظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في(1/193)
الأولى سبعا قبل القراءة وفي الأخرى خمسا قبل القراءة وفي إسناده ضعف.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وتصلح للاحتجاج بها في كون التكبير قبل القراءة وفي كون التكبير سبعا في الأولى وخمسا في الثانية.
وقد وردت روايات أخر في عدد التكبير مقوية لهذه الأحاديث.
قوله: "ويفصل بينهما ندبا الله أكبر" الخ.
أقول: هذا الندب لا يستند إلي كتاب الله ولا إلي سنة رسول الله ولا إلي قول صحأبي ولا تابعي ومجرد أنه استحسنه فرد من أفراد العلماء لا يصلح لإثبات الندب فإن الندب هو أحد الأحكام الخمسة ولا يثبت إلا بدليل يدل عليه في هذا التسرع إلي التقول على الشرع بما لم يكن منه.
والحاصل أن صلاة العيد هي أن يكبر المصلي للإحرام ثم يكبر في الأولى سبع تكبيرات ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن ثم يقوم إلي الركعة الثانية فيكبر خمسا ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن وإذا أراد أن يقتدي بالقراءة التي كان يقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد قرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أو قرأ في الأولى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} وفي الثانية بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} فهذا هو المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته في العيدين.
وأما قوله: "ويتحمل الإمام ما فعله مما فات اللاحق" فلم يدل على هذا التحمل دليل وقد تقدم في أدلة قراءة الفاتحة في كل ركعة ما ينبغي اعتباره هنا وهكذا هذه الأحاديث المذكورة في تكبير صلاة العيدين يفعلها المؤتم كما يفعلها الإمام فلا يكون المؤتم مدركا للركعة إلا بقراءة فاتحتها والإتيان بما شرع فيها من التكبير.
[فصل
"وندب بعدها خطبتان كالجمعة إلا أنه لا يقعد أولا ويكبر في الأولى تسعا وفي آخرهما سبعا سبعا ومن خطبة الأضحى التكبير المأثور ويذكر حكم الفطرة والأضحية وتجزىء من المحدث وتارك التكبير وندب الإنصات ومتابعته في التكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والمأثور في العيدين"] .
قوله: فصل: "وندب بعدها خطبتان كالجمعة".
أقول: هذا أعني كون الخطبتين بعد الصلاة هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة وأما كونهما مندوبتين فلما أخرجه النسائي ["1571" وابو دأود "1155" وابن ماجه(1/194)
"1290"] ، من حديث عبد الله بن السائب قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب"، وهذا الحديث هو من الأحاديث المسلسلة بيوم العيد وقد رويته مسلسلا بإسناد إلي النبي صلى الله عليه وسلم في مجموعي الذي سميته إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر".
قوله: "إلا أنه لا يقعد أولا".
أقول: هذا صواب لأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قعد في خطبة العيد بل كان يفرغ من الصلاة فيقوم ثم يخطب.
قوله: "ويكبر في الأولى تسعا" الخ.
أقول: لم يرد في ذلك دليل صحيح للتمسك به وأما ما رواه البيهقي عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أنه قال من السنة أن تفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى والثانية بسبع تكبيرات تترى فإن أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث مرسل وإن أراد سنة الصحابة فلا تقوم به الحجة إلا أن يكون إجماعا منهم قال ابن القيم وأما قول كثير من الفقهاء إنه تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيد بالتكبير فليس معهم فيها سنة من النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة والسنة تقضي خلافها وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد انتهى.
وأما قوله: "وفي فصول الأولى من خطبة الأضحى التكبير المأثور" فلم يؤثر في ذلك شيء ألبتة فإن أراد أنه يستحب في فصول هذه الخطبة تكبير التشريق الذي سيأتي فهو لم يؤثر في خطبة العيد قط.
قوله: "ويذكر حكم الفطرة والأضحية".
أقول: أما ذكر حكم الفطرة في خطبة عيد الفطر فلم يثبت في ذلك شيء ولكنه إذا فعل ذلك الخطيب فهو من البيان الذي شرعه الله مع كون ذلك مزيد اختصاص بهذا اليوم.
وهكذا ذكر حكم الأضحية وما يجزىء منها وما لا يجزىء وبيان وقتها وما ينبغي للمضحي أن يفعله في أضحيته وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه خطب يوم الأضحى فذكر مشروعية النحر بعد الصلاة وأن من نحر قبل الصلاة فليست بأضحية".
وأما كون الخطبة تجزىء من المحدث فذلك صواب لعدم الدليل على أن يكون الخطيب متطهرا.
وأما أنها تجزىء من تارك التكبير فتارك التكبير ابعد من البدعة من فاعله كما قدمنا.
وأما كون الإنصات مندوبا فلكون سامع الموعظة ينبغي له أن يفهمها وإذا اشتغل بالكلام ولم ينصت لم يفهمها فهو إنما يحسن من هذه الحيثية لا من حيث الدليل فإنه لم يرد في خطبة العيد ما يدل على ذلك ولا ورد ما يدل على المتابعة في التكبير ولا ورد ما يدل في خصوص خطبة العيد على المتابعة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه ورد ما يدل على مشروعية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره وهم أعم من أن يكون في خطبة العيد أو في غيرها ولم يخص إلا خطبة الجمعة لوجوب الإنصات فيها.(1/195)
قوله: "وندب المأثور في العيدين"
أقول: من المأثور في العيدين أن تكون الصلاة في الجبانة إلا لعذر من مطر أو نحوه وأن يخالف الإمام ومن معه الطريق فيرجعون في طريق غير الطريق التي جاءوا منها ورفع الصوت بالتكبير والتهليل وتعجيل الخروج لصلاة الأضحى وتأخيره لصلاة الفطر وأن لا يغدو لصلاة الفطر حتى يطعم ويخرج لصلاة الأضحى قبل أن يطعم وأن لا يصلي قبل صلاة العيد ولا بعدها وأن يلبس أحسن ما يجد ويتطيب بأجود ما يجد وأن يخرج إلي العيد ماشيا وأن يستكثر من الموعظة للرجال والنساء ويرغبهم في الصدقة.
[فصل
"وتكبير التشريق سنة مؤكدة عقيب كل فرض من فجر عرفة إلي آخر أيام التشريق ويستحب عقيب النوافل"] .
قوله: فصل: "وتكبير التشريق سنة مؤكدة" الخ.
أقول: قد ثبت الأمر بالذكر في الأيام المعدودة قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرو: 203] ، وهي أيام التشريق وثبت عنه صلى الله عليه وسلم مطلق التكبير وفي صحيح مسلم ["11/890"] ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والحُيَّضُ يَكُنَّ خلف الناس يكبرن مع الناس".
وفي البخاري ["928"] ،: أن أم عطية قالت كنا نؤمر أن نخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم.
وثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يكبر فيكبر من في المسجد ويكبر بتكبيرهم من في الأسواق وأنه كان يقع ذلك مرة بعد مرة في دبر الصلاة وغيرها من الأوقات.
والحاصل أن المشروع في ايام التشريق الاستكثار من ذكر الله عز وجل خصوصا التكبير والمراد مطلق التكبير وهو أن يقول الله أكبر ويكرر ذلك في الأوقات ومن جملتها عقب الصلاة ولا وجه لتخصيصه بعقب الصلاة ولا لجعل يوم عرفة من جملة الأيام التي يستحب فيها تكبير التشريق فإن أيام التشريق هي أيام النحر وهي يوم النحر ويومان بعده.
وأما يوم عرفة فهو من الأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة التي قال الله سبحانه فيها: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وثبت فيها كما في البخاري ["969"] ، وغيره [أحمد "1/224" الترمذي "757"، ابن ماجة "1727"، أبو دأود "2438"] ، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلي الله عز وجل من هذه الأيام"، يعني ايام العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وما له ثم لم يرجع بشيء من ذلك".
وأخرج مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والحمد".(1/196)
[باب ويسن للكسوفين حالهما ركعتان
في كل ركعة خمسة ركوعات قبلها ويفصل بينها الحمد مرة والصمد والفلق سبعا سبعا ويكبر موضع التسميع إلا في الخامس.
وتصح جماعة وجهرا وعكسهما وكذلك لسائر الإفزاع أو ركعتين لها.
وندب ملازمة الذكر حتى ينجلي ويستحب للاستسقاء أربع بتسلمتين في الجبانة ولو سرا وفرادى ويجأرون بالدعاء والاستغفار ويحول الإمام رداءه راجعا تاليا للمأثور] .
قوله: باب: "ويسن للكسوفين حالهما ركعتان في كل ركعة خمس ركوعات قبلها" الخ
أقول: هذا أكثر ما ورد في صلاة الكسوف فالأخذ به أخذ بالزيادة ولكن أصح ما ورد في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان فإن هذا هو الثابت في الصحيحين [البخاري "1052"، "مسلم "17/907"] ، وغيرهما [أحمد "1/298، 258، 359"، النسائي "3/146، 148"] ، من طرق ثم دون هذا في الصحة مع كونه صحيحا في كل ركعة ثلاثة ركوعات وكذا ركعتان في كل ركعة أربعة ركوعات ثم دون هذين في الصحةركعتان في كل ركعة خمس ركوعات وورد ركعتان في كل ركعة ركوع وورد أن صلاة الكسوف تكون كأحدث صلاة صلوها.
فجملة ما ورد ركوع في كل ركعة وركوعان في كل ركعة وثلاثة في كل ركعة وأربعة في كل ركعة وخمسة في كل ركعة وكأحدث صلاة فهذه ست صفات وقد استشكل كثير من المحدثين وقوع مثل هذا الاختلاف مع كونه صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الكسوف إلا مرة واحدة وذكروا في الجمع وجوها ليس هذا موضع ذكرها وإذا تقرر لك أن مخرج هذه الأحاديث متفقا وأن القصة واحدة عرفت أنه لا يصح ها هنا أن يقال كما قيل في صلاة الخوف أنه يأخذ بأي الصفات شاء بل الذي ينبغي ها هنا أن يأخذ بأصح ما ورد وهو ركوعان في كل ركعة لما في الجمع بين هذه الروايات من التكلف البالغ.
ثم أعلم أنه قد اجتمع ها هنا في صلاة الكسوف الفعل والقول ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموها كذلك فافزعوا إلي المساجد". البخاري ["1044"] .
وفي رواية: "فصلوا وادعوا".
والظاهر الوجوب فإن صح ما قيل من الإجماع على عدم الوجوب كان صارفا وإلا فلا.(1/197)
قوله: "ويفصل بينهما الحمد مرة والصمد والفلق سبعا سبعا".
أقول: كان يغني عن هذا الرأي البحث والاستحسان الصرف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقرأ بعد كل ركوع بسورة من الطوال ولا وجه ها هنا لتكرير الحمد بعد كل ركوع بل يقرأ بعد الدخول في الصلاة ثم يقرأ بين كل ركوعين بسورة من الطوال اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "ويكبر موضع التسميع"، فهو خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "1407"، مسلم "901"] ، وغيرهما [أحمد "6/168"، ابن ماجة "1263"] ، من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الارتفاع من الركوع: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وكذلك كان يقول عند الارتفاع من الركوع الثاني.
وهكذا ينبغي أن يقال عند الارتفاع من سائر الركوعات لمن أراد أن يأتي بالزيادة على ركوعين في كل ركعة اقتداء بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الذي في رواية عائشة في هذا الحديث الذي فيه التسميع والتحميد هو في صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين في كل ركعة ركوعان.
قوله: "وتصح جماعة وجهرا وعكسهما".
أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في هذه المرة التي صلى فيها صلاة الكسوف أنه صلاها جماعة وجهر فيها بالقراءة ولكن أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة يتنأول صلاة الفرادى وصلاة الإسرار مع أنه ثبت من حديث سمرة عند أحمد ["5/16"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1184"، النسائي "3/140"] : "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في الكسوف لا يسمعون له صوتا"، وقد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم ولكن روايات الجهر أصح وأكثر ورأوي الجهر مثبت وهو مقدم على النافي.
قوله: "وكذلك لسائر الإفزاع".
أقول: إذا لم تثبت الصلاة لمثل ذلك كان فعلها لحدوث الأمر المفزع بدعة من هذه الحيثية لا من حيثية كونها صلاة ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وما روي عن بعض الصحابة لم يصح ولو صح لم تقم به الحجة"
قوله: "وندب ملازمة الذكر حتى تنجلي".
أقول: ثبت في الصحيحين [البخاري "1044"، مسلم "901"] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكسوف: "فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا" وفي لفظ آخر فيهما [البخاري "1059"، مسلم "24/912"] ، "فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلي ذكر الله ودعائه واستغفاره"، وفي لفظ لهما [البخاري "1060"، مسلم "9/904"] : "فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنجلي".
قوله: "ويستحب للاستسقاء أربع بتسليمتين".
أقول: لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى أربعا ولا أرشد إلي صلاة الأربع بل الثابت عنه أنه صلى ركعتين فقط وثبت عنه أنه خطب بعد صلاته للركعتين وثبت عنه أنه استسقى في خطبة الجمعة وثبت أنه خطب قبل صلاة الركعتين والكل سنة.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه جهر بالقراءة.(1/198)
وأما قول المصنف رحمه الله ولو سرا أو فرادى فذلك رجوع إلي ما هو أصل كل صلاة أنها تصح سرا وجهرا وجماعة وفرادى.
ولكن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه هو الذي ينبغي اعتماده.
وأما ما ذكره من الجأر بالدعاء والاستغفار فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يدعو ويحول وجهه إلي القبلة ويرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ولا يزال في الدعاء والتضرع".
وما ذكره من تحويل الرداء فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حول رداءه وحول أصحابه ولا وجه لتقييد ذلك بحال الرجوع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله حال الدعاء والخطبة.
وأما قوله: "تاليا للمأثور" فلم يرد في ذلك شيء يصلح للتمسك به لا في حال الخطبة والدعاء ولا في حال الرجوع ولكنه روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب أنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار فقالوا ما رأيناك استسقيت فقال لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} الآية.
[فصل
"والمسنون من النفل ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به وإلا فمستحب وأقله مثنى وقد يؤكد كالرواتب ويخص كصلاة التسبيح والفرقان ومكملات الخمسين.
فأما الترأويح جماعة وصلاة الضحى بنيتها فبدعة"] .
قوله: فصل: "والمسنون من النقل ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به". الخ.
أقول: مراده أنه قد تبين أن ذلك الذي لازمه وأمر به نفل بدليل يدل على ذلك ولهذا قال من النفل فلا يرد عليه باعتبار عبارته شيء ولكنه يقال له ما لازمه فقط فهو سنة وما أمر به أمرا لا يراد به المعنى الحقيقي لوجود صارف فهو سنة وما اجتمع فيه القول والفعل فلا شك أن له مزيد خصوصية فهو آكد مما لم يرد فيه إلا أحدهما فإن أراد هذا المعنى فلا وجه لجعل البعض مسنونا والبعض مستحبا لأن المستحب والمندوب عنده وعند من يوافقه من أهل الأصول والفروع لهما رتبة دون رتبة المسنون.
والحق أن الكل يصدق عليه اسم السنة وإن كان بعضه آكد من بعض لكونه ثابتا بالسنة النبوية بل السنة تشمل ما ثبت وجوبه بالسنة فإن قلت هذا اصطلاح ولا مشاحة فيه قلت إذا جرى الاصطلاح على ما يخالف المعنى الشرعي فهو مدفوع من أصله.
قوله: "وأقله مثنى".
أقول: أما الإيتار بركعة فقد ثبت ثبوتا متواترا وذلك واضح ظاهر لكل من له أدنى اطلاع على السنة المطهرة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف صلاة النفل بالليل والنهار أنها "مثنى(1/199)
مثنى" [أحمد "2/26، 51"، أبو دأود "1295"، الترمذي "597"، النسائي "1666"، ابن ماجة "1322"، وخص صلاة الوتر بالزيادة فصلاها أربعا أربعا وورد ما يدل على جواز الزيادة على أربع متصلة وخصها أيضا بالنقصان فجوز الإيتار بركعة واجتمع في ذلك قوله وفعله.
قوله: "وقد يؤكد كالرواتب".
أقول: رواتب الفرائض قد اجتمع فيها القول والفعل وثبت ذلك ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة فهي داخلة في المسنون من النفل دخولا أوليا فأفرادها بالذكر تطويل بلا طائل.
قوله: "وقد يخص التسبيح".
أقول: كأنه لم يرد في النوافل دليل يخصها إلا هذه التي ذكرها وذلك من أغرب ما يقرع سمع من يعرف الأدلة فإنه قد ورد في الاثني عشر الركعة التي هي رواتب الفرائض "أن من صلاها في يوم وليلة بنى له بيت في الجنة" [مسلم "728"، أبو دأود "1250"، النسائي "3/261"، الترمذي "415"، ابن ماجة "1141". وورد في كل راتبة من هذه الرواتب بخصوصها من الترغيبات ما لا يخفى على عارف فورد في الأربع قبل الظهر والأربع بعدها "أن من صلاها حرمه الله على النار" [أحمد "6/426"، النسائي "1759"] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأ صلى أربعا قبل العصر" [أحمد "1/117"، أبو دأود "1271"، الترمذي "430"] ، وقال صلى الله عليه وسلم في الركعتين قبل الفجر: "إنها خير من الدنيا وما فيها"، [مسلم "725"، أحمد "6/50"، 51"، الترمذي "414"، النسائي "1759"، وقال: "لا تدعوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل" [أبو دأود "1258"] ، بل ورد في غالب النوافل في الليل والنهار من الترغيب بالأحاديث الصحيحة ما لا يخفى على عارف بل ورد في صلاة الضحى التي جعلها المصنف بدعة ما أخرجه البخاري ومسلم [البخاري "3/56"، مسلم "721"] ، وغيرهما [أبو دأود "1432"، الترمذي "760"، النسائي "1677"] ، من حديث أبي هريرة قال: أوصاني خليل صلى الله عليه وسلم بثلاث بصيام ثلاثة أيام في كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام.
وثبت في الصحيح [مسلم "720"] ، "أنه يصبح على كل سلامي صدقة وأنه يجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى".
فالعجب من المصنف حيث يعمد إلي صلاة التسبيح التي اختلف الناس في الحديث الوارد فيها حتى قال من قال من الأئمة إنه موضوع وقال جماعة إنه ضعيف لا يحل العمل به فيجعلها أول ما خص بالتخصيص وكل من له ممارسة لكلام النبوة لا بد أن يجد في نفسه من هذا الحديث ما يجد وقد جعل الله في الأمر سعة عن الوقوع فيما هو متردد ما بين الصحة والضعف والوضع وذلك بملازمة ما صح فعله أو الترغيب في فعله صحة لا شك فيها ولا شبهة وهو الكثير الطيب.
قوله: "والفرقان".
أقول: رحم الله المصنف فإن هذه الصلاة التي جعلها مما خص بالتخصيص مكذوبة(1/200)
موضوعة لم يثبت فيها حرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره من الصحابة وما روي في ذلك عن علي فلا أصل له وهكذا الاختيار والانتفاء والانتقاد، وبالجملة صنع من لا يفرق بين أصح الصحيح وأكذب الكذب.
قوله: "ومكملات الخمسين".
أقول: لا يعرف في السنة المطهرة استحباب مثل هذا ولا ثبت في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف وقد كان صلى الله عليه وسلم يواظب على نوافل لا يخل بها في غالب الحالات.
فإن أراد المصنف ما كان يواظب عليه صلى الله عليه وسلم مضموما إلي الفرائض فهو معروف وهو دون هذا العدد وإن أراد ما أرشد إليه أو كان يفعله في بعض الحالات فهو أكثر من هذا العدد.
فيا لله العجب حيث يعمد المصنف إلي مثل هذه الأمور التي لا دليل عليها أصلا فيجعلها مما خص من النوافل بمزيد مزية على غيرها فإن هذا صنع من لا يدري بالسنة أصلا.
قوله: "فأما الترأويح جماعة والضحى بنيتها فبدعة".
أقول: أما صلاة الترأويح فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في ليال من رمضان وائتم به جماعة من الصحابة وعلم بهم فترك ذلك مخافة أن تفترض عليهم وهذا ثابت في أحاديث صحيحة في الصحيحين [البخاري "2009"، مسلم "173/759"، وغيرهما [ابو دأود "1371"، النسائي "4/156"، الترمذي "808"، ابن ماجة "1326"، أحمد "2/281، 289، 408، 423"] ، وبهذا يتقرر أن صلاة النوافل في ليالي رمضان جماعة سنة لا بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركها إلا لذلك العذر وثبت أيضا عند أحمد ["5/159، 160، 163"] ، وأهل السنن أبو دأود "1375"، النسائي ""3/83، 84"، "ابن ماجة 1327"، الترمذي 806"] ، وصححه الترمذي ورجاله رجال الصحيح عن أبي ذر قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل بنا حتى مضى سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلثا الليل ثم لم يقم بنا في السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه فقال: "إنه من قام مع الإمام حتى يتصرف كتب له قيام ليلة" ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلث الشهر فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح, قلت له: وما الفلاح؟ قال: السحور.
ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم في النافلة في ليالي رمضان جماعة فكيف تكون الجماعة بدعة كما قال المصنف ولم يقع من عمر إلا أنه لما خرج إلي المسجد فوجد الناس أوزاعا متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أولى ثم عزم فجمعهم على أبي ابن كعب. [البخاري "2010"]
فقد كانت الجماعة موجودة في المسجد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يجمعهم عمر وبهذا كله تعرف أن التجميع في النوافل في ليالي رمضان سنة لا بدعة.
وأما ما استحسنه جماعة من أهل العلم من جعل هذه الصلاة عشرين ركعة وجعل القراءة(1/201)
في كل ركعة شيئا معينا فهذا لم يكن ثابتا بخصوصه لكنه من جملة ما يصدق عليه أنه صلاة وأنه جماعة وأنه في رمضان.
وأما صلاة الضحى التي جعلها المصنف بنيتها بدعة فكما قال الشاعر:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
وقد ذكرت في شرحي للمنتقي الأحاديث الواردة فيها وهي شيء واسع فمن أحب الوقوف على ذلك فليرجع إليه حتى يتبين له هذا الخبط والخلط الذي وقع من المصنف فإنه جعل السنن بدعا والبدع سننا والأمر لله العلي الكبير.(1/202)
[كتاب الجنائز
فصل
"يؤمر المريض بالتوبة والتخلص عما عليه فورا ويوصي للعجز ويلقن الشهادتين ويجه المحتضر القبلة مستلقيا ومتى مات غمض ولين برفق وربط من ذقنه إلي قمته بعريض ويشق أيسره لاستخراج حمل تحرك أو مال علم بقاؤه غالبا ثم يخاط".
ويعجل التجهيز إلا للغريق ونحوه ويجوز البكاء والإيذان لا النعي وتوابعه] .
قوله: "كتاب الجنائز".
فصل: "يؤمر المريض بالتوبة والتخلص عما عليه فورا".
أقول: كان الأولى أن يقول المصنف تجب على المريض التوبة والتخلص عما عليه فورا للأدلة من الكتاب والسنة على وجوب التوبة والتخلص عن الحقوق الواجبة عليه نعم إذا بلغ إلي حالة من شدة المرض لا يتذكر ما عليه إلا بتذكير فذلك من الحاضرين عنده من باب الموعظة الحسنة والأمر بالمعروف الذي ندب الله إليه العباد وأمرهم به.
قوله: "ويوصى للعجز".
أقول: هذا من جملة ما يؤمر به أي يؤمر المريض بالتوبة والتخلص إن أمكن حال المرض فإن لم يمكن فإنه يؤمر بأن يوصي للعجز عن التخلص في الحال.
وأصل الوصية واجب في جميع الأحوال إذا لم يتمكن من التخلص ولو كان صحيحا فإن(1/202)
أمكن ذلك فهو الواجب للحديث الصحيح الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "ولا يدعها حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا" [البخاري "2748"، مسلم "92/1032"] .
قوله: "ويلقن الشهادتين"
أقول: قد ثبت الأمر بتلقين من حضره الموت فمن ذلك ما في صحيح مسلم ["1/916"] وغيره [أبو دأود "3117"، الترمذي "976"، النسائي "514"، ابن ماجة "1445"] ، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ومثله من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ["2/917"] ، وغيره وهو مروي خارج الصحيح من طريق جماعة من الصحابة منهم عائشة [النسائي "4/5"] ، وعبد الله بن جعفر [ابن ماجة ""1446"] ، وجابر وعروة بن مسعود وحذيفة ابن اليمان وابن عباس وابن مسعود قال النووي والأمر بهذا التلقين أمر ندب.
قال وأجمع العلماء على هذا التلقين انتهى.
وظاهر الأمر الوجوب ولا قرينة تصرفه عن ذلك وظاهر الأحاديث أن مشروعية التلقين إنما هي لهذا اللفظ أعني لا إله إلا الله ولكنه ثبت في غير هذا التلقين الأمر بمقاتلة الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كما في الصحيحين وغيرهما من رواية ابن عمر.
وقد قيل إن المراد هنا بقول لا إله إلا الله التلفظ بالشهادتين لكونه صار علما على ذلك.
قوله: "ويوجه المحتضر القبلة مستلقيا".
أقول: استدل على مشروعية هذا التوجيه بما أخرجه أبو دأود ["2875"، والنسائي "4012"] ، والحاكم من حديث عبيد بن عمير عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر قال: "هي سبع" وذكر منها: "استحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا" وهذا لايدل على المطلوب لأن المراد بقوله أحياء عند الصلاة وقوله أمواتا في اللحد والكلام في توجيه الحي المحتضر وقد استدل على ذلك بما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي قتادة أن البراء بن معرور أوصى أن يوجه إلي القبلة إذا احتضر فقال صلى الله عليه وسلم: "أصاب الفطرة" فإن صح هذا كان دليلا على مشروعية ذلك وقد ذكره في التلخيص ولم يتكلم عليه.
والأولى أن يكون على شقه الأيمن لا مستلقيا لما ورد في أحاديث من الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلي أن يكون النوم على الشق الأيمن وقال في بعض الأحاديث الثابتة في الصحيحين [البخاري "7393"، مسلم "56/2710"] وغيرهما [أبو دأود "5046"، أحمد "4/290، 296"] بلفظ: "إذا أويت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن"، قال في آخره "فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة" فإن هذا فيه دليل على أنه إنما أرشد إلي ذلك لأن النائم إذا مات مات على الفطرة فينبغي أن يكون المريض عند حضور الموت على شقه الأيمن.
وأخرج أحمد في المسند عن سلمى أم أبي رافع أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت يمينها.(1/203)
والحاصل أنه لم يرد في التوجه عند الموت إلي القبلة ما يدل على مشروعيته إلا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن البراء بن معرور أصاب الفطرة" حيث أوصى بأن يوجه إلي القبلة إذا احتضر ولو كان مشروعا لأرشد إليه صلى الله عليه وسلم من مات في حياته ولم يسمع منه صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء مع كثرة الأموات من أهله وأصحابه.
قوله: "ومتى مات غمض".
أقول: استدل على مشروعية هذا بما أخرجه أحمد ["4/125"] وابن ماجه ["1455"] والحاكم والطبراني في الأوسط والبزار عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت" وفي إسناده قزعة بن سويد قال أبو حاتم محله الصدق وليس بذلك القوي.
والأولى الاحتجاج بما ثبت في صحيح مسلم ["920"] عن ام سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قبض أتبعه البصر" قال النووي واجمع المسلمون على ذلك.
والحكمة فيه أن لا يقبح منظره إذا ترك إغماضه.
وأما ما ذكره المصنف من التليين برفق والربط من ذقن الميت إلي قمته فلم يرد فيه شيء لكنه عمل حسن لئلا تيبس أعضاء الميت فيصعب غسله وتكفينه ولئلا ينفتح فوه فيكون منظره قبيحا.
قوله: "ويشق أيسره لاستخراج حمل تحرك أو مال علم بقاؤه غالبا".
أقول: لم يرد في الشق لواحد من الأمرين شيء يعتمد عليه لكن قد علم بتحرك الحمل أنه حي فدفنه أهلاك له وقد ورد في حفظ النفوس واحترامها ما هو أشهر من ضوء النهار فإن كان مثلا ذلك الحمل المتحرك مما يظن حياته إذا خرج من البطن فإنقاذه واجب ولا يعارض هذا ما ورد من أن الميت يتألم كما يتألم الحي وأن كسر عظمه ميتا ككسره حيا [أبو دأود "3207"، ابن ماجة "1616"، أحمد "6/58، 168،169، 200، 364"] لأن حرمة الحي والحظر في أهلاكه أبلغ من ذلك وأشد.
وأما من ازدرد مالا فمات وهو في بطنه فبقاؤه منكر عظيم وإضاعة للمال المنهي عن إضاعته فإخراجه متوجه والميت هو الجاني على نفسه فلا حرج في تأليمه ولا فرق بين قليل المال وكثيره لأن الكل منكر وإضاعة فلا وجه للاحتراز على مقدار ثلث ماله فإن الله سبحانه إنما جعل له ثلث ماله ليتقرب به إلي الله لا ليدسه في التراب معه.
وأما كونه يخاط بعد الشق فذلك صواب لئلا يكون منظره قبيحا.
قوله: "وتعجيل التجهيز إلا لغريق ونحوه".
أقول: حديث الأمر بالتعجيل للتجهيز وتعليل ذلك بقوله: "فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله" أخرجه أبو دأود ["3159"] ، من حديث الحصين بن وحوح وفي إسناده(1/204)
عروة بن سعيد الأنصاري ويقال عزره عن أبيه وهما مجهولان.
وحديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يؤخرون الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا"، أخرجه أحمد ["1/105"، والترمذي "171"، وابن ماجه "1486"] ، وابن حبان والحاكم وفي إسناده مقال لا يقدح في صلاحيته للاحتجاج به ويشهد لهما أحاديث الإسراع بالجنازة.
وأما استثناء الغريق ونحوه فظاهر لأن من كانت حياته مرجوة كان تعجيل دفنه حراما.
قوله: "ويجوز البكاء والإيذان لا النعي وتوابعه".
أقول: أعلم أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من طرق في الصحيحين [البخاري"1292"، مسلم "26/932"] ، وغيرهما [النساءي "1858"] ، "أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، وفي لفظ: "من ينح عليه يعذب بما ينح عليه" وهو في الصحيحين [البخاري"1291"، مسلم "933"، وغيرهما فهذا يدل على أن النوح والبكاء الذي يمكن دفعه حرام وأما مجرد فيضان العين وذروفها بالدموع من دون صوت ولا نوح ولا تعمد للبكاء فهو الذي حصل الإذن به وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "1303"، مسلم "62/2315"] وغيرهما "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا" وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري"1304"، مسلم "12/924"] وغيرهما لما رأى القوم بكاءه فقال: "ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلي لسانه - أو يرحم"، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "1224"، مسلم "11/923"] ، وغيرهما لما بكى عند أن رأى نفس الصبي تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
فهكذا ينبغي أن يكون الجمع بين الأحاديث المختلفة في هذا الباب.
وأما الإيذان بموت الميت فقد ثبت في كتب اللغة أن النعي هو الإخبار بموت الميت وإذاعته وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "458"، مسلم "956"] ، وغيرهما [أحمد "2/353، 388"، أبو دأود "3203"] ، أنه قال لما رأى قبرا دفن ليلا فقال: "متى دفن هذا؟ " فقالوا: البارحة قال: "أفلا آذنتموني؟ " وثبت في الصحيح [البخاري "1337"،مسلم "956"، أبو دأود "1203"، ابن ماجة "1527"، أحمد "2/353"] أنه قال ذلك لما أخبروه بموت السوداء أو الأسود الذي كان يقم المسجد فدل على أن مجرد الإخبار بموت الميت من دون إذاعة ولا تفجع جائز لإنه قد ورد ما يدل على أن في كثرة المصلين عليه منفعة له وأنهم شفعاؤه وأيضا لا بد من حضور من يتولى تجهيزه وحمله ودفنه فإخبارهم بذلك مما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه الضرورة.
وأما ما ذكره من توابع النعي فهي ما ورد النهي عنه من ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوة الجأهلية كما في الصحيحين [البخاري "1294، 2197"، مسلم "103"] ، وغيرهما(1/205)
[الترمذي "999"، النسائي ""4/20"، ابن ماجة "1584"، أحمد "1/386، 432، 442"] ، وهكذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة"، وهو في الصحيحين [البخاري "1296"، مسلم "104"، وغيرهما [ابن ماجة " 5192"، النسائي "5/20". وهكذا قوله للميت واعضداه واناصراه واكاسباه واجبلاه واأسداه وهو منهي عنه كما ثبت في اصحيح البخاري ["4268"، وغيره [ابن ماجة "1594"، الترمذي "1003"] .
[فصل
ويجب غسل المسلم ولو سقطا استهل أو ذهب اقله ويحرم للكافر والفاسق مطلقا ولشهيد مكلف ذكر قتل أو جرح في المعركة بما يقتله يقينا أو في المصر ظلما أو مدافعا عن نفس أو مال أو غرق لهرب أو نحوه.
ويكفن بما قتل فيه إلا آله الحرب والجورب مطلقا والسرأويل والفرو إن لم ينلها دم وتجوز الزيادة.
قوله: فصل: "ويجب غسل الميت".
أقول: غسل الأموات ثابت في هذه الشريعة ثبوتا قطعيا ولم يسمع في أيام النبوة أنه مات ميت غير شهيد فترك غسله بل هذه الشريعة في غسل الأموات ثابتة من لدن أبينا آدم عليه السلام إلي الآن فإنه أخرج عبد الله بن أحمد في المسند ["7/154"] ، والحاكم في المستدرك قال صحيح الإسناد. ولم يخرجاه يعني الشيخين "أن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له والحدوا وصلوا عليه ثم دخلوا قبره فوضعوه فيه ووضعوا عليه اللبن ثم خرجوا من القبر وحثوا عليه التراب وقالوا يا بني آدم هذه سنتكم".
وقد حكى الإجماع على وجوب الغسل للميت على الكفاية النووي والمهدي في البحر واعترض ابن حجر في الفتح على نقل النووي والإجماع على أنه فرض كفاية بأن المالكية يخالفون في ذلك وأن القرطبي منهم رجح في شرح مسلم أنه سنة ورد ابن العربي على المالكية وقال قد تواتر به القول والعمل.
قوله: "لو سقطا استهل".
أقول: السقط باستهلاله قد صار له حكم الأحياء من العباد ولهذا أنه يرث ويورث فالغسل له داخل في عموم مشروعية الغسل لأموات المسلمين وهذا المقدار يكفي على تقدير أنه لم يرد دليل يدل على غسل السقط فكيف وقد أخرج الترمذي ["1032"] ، والنسائي وابن ماجه ["1508"] ، من حديث جابر "إذا استهل السقط صلي عليه وورث" وأخرج أيضا البيهقي والحاكم وصححه ولا مطعن فيه يوجب سقوط الاحتجاج به وأخرج أحمد ["4/248، 249"(1/206)
و "252"] ، الترمذي ["1031"] ، وابن حبان والحاكم وصححوه "السقط يصلي عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة".
وأخرج ابن ماجه] "1509"] ، من حديث أبي هريرة "صلوا على أطفالكم فإنهم أفراطكم".
وأما ما روى أبو دأود ["3187"] ،من حديث عائشة أنها قالت مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه فقد قال ابن عبد البر حديث عائشة هذا لا يصلح لأن الجمهور قد أجمعوا على الصلاة وراثة وعلما مستفيضا عن السلف والخلف ولا أعلم احدا جاء عنه غير هذا إلا عن سمرة بن جندب وحديثه يحمل أنه لم يصل عليه جماعة وأمر أصحابه فصلوا عليه ولم يحضرهم قال البيهقي رواية الصلاة عليه أشبه بسائر الأحاديث الصحيحة فقد ثبت عن عائشة أنها قالت "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة" [مسلم "30/2662"] ، الحديث.
وإذا قد ثبت للسقط المستهل أنه يصلى عليه فما قبل الصلاة وهو الغسل والتكفين وما بعدهما وهو الدفن كذلك.
قوله: "أو ذهب أقله".
أقول: الظاهر أن ثبوت المشروعية للكل يستلزم ثبوت المشروعية للبعض ولو كان اقل من النصف فلا يحتاج إلي الاستدلال على هذا بدليل مستقل وأما إذا كان الباقي هو الأكثر فهو في حكم الكل كما وقع في أمثال هذه المسألة.
قوله: "ويحرم للكافر والفاسق مطلقا".
أقول: أما الكافر فمسلم فإنه لم يسمع في ايام النبوة ولا بعدها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل كافر وما روي في غسل أبي طالب فلم يثبت ذلك ثبوتا يقوم به الحجة وأيضا هذا الغسل للميت هو حكم من أحكام الإسلام فلاحظ فيه لمن لم يكن مسلما.
وأما الفاسق فلا وجه للقول بأنه لا يغسل ومن قال بذلك فقد غلط غلطا بينا فإن أحكام الإسلام جارية له وعليه ومعصيته لا تخرجه عن الإسلام الذي هو متصف به وأشار المصنف بقوله مطقا إلي عدم الفرق بين كفر التأويل وكفر التصريح وفسقهما ولا يخفاك أن هذا الذي يسمونه كفر التأويل لا أصل له وإنما هو أمر ناشىء عن العصبية الكائنة بين طوائف المسلمين حتى رمى بعضهم بعضا بذلك بغيا وعدوانا والخطأ في مسألة أو مسائل لا يوجب خروج المخطىء عن عصمة الإسلام بل الحق أن الخطأ في الاجتهاد من غير فرق بين مسائل الأصول والفروع يثبت لصاحبه أجر وللمصيب أجران ومن خص هذا الحديث الصحيح ببعض المسائل فهو تخصيص بلا مخصص ودعوى لا برهان عليها ولقد استفز الشيطان من أطاعه بالوقوع في هذا الخطر العظيم فإنه قد صح أن المكفر لأخيه المسلم واقع في هوة الكفر ومترد في حفرته ومتلبس بثيابه وليس ما يزعمه المكفرون بالإلزام بشيء يعتد به بل هو تعصب على تعصب وتعسف على تعسف والهداية للحق بيد هادي الخلائق.(1/207)
قوله: "ولشهيد مكلف ذكر" الخ.
أقول: قد وردت أحاديث قاضية بترك غسل الشهيد منها ما هو في اصحيح البخاري ["1346"] ، ومنها ما هو في غيره [ابو دأود ط3133"] ، وبهذا القدر تقوم به الحجة وقد أطال الكلام في هذا البحث في غير طائل وخبط خبطا لا يخفى على عارف.
وأما اشتراط التكليف والمذكورة فلا دليل عليه بل الصبي والمرأة من جملة الشهداء إذا قتلوا قتلا يستحقون به اسم الشهادة.
أما المرأة فظاهر لأنها من جملة من يكتب له الأجر ويكتب عليه الوزر وعدم وجوب الجهاد عليها لا يسلبها حكم الشهادة إذا قاتلت وقتلت.
وهكذا الصبي فإن رفع قلم التكليف عنه لا يقتضي أنه لا يؤجر فيما يفعله من القرب.
وأما المقتول في المصر ظلما فهو وإن كان شهيدا لكنه لم يأت ما يدل على عدم غسله وهكذا المدافع عن نفسه أو ماله ولا ملازمة بين إثبات اسم الشهادة وترك الغسل فقد وردت الأحاديث الصحيحة بإطلاق اسم الشهادة على المبطون والميت بالطاعون وبالغرق والهدم والمرأة النفاس وغير هؤلاء نحو الخمسين كما ذكره القرطبي والسيوطي في رسالته وجمعت أنا فيه رسالة فهؤلاء يستحقون أجر الشهادة وهم من جملة المسلمين في أنهم يغسلون كما يغسل غيرهم من أموات المسلمين.
ويؤيد هذا ما فعله الصحابة من غسل عمر رضي الله عنه وقد قتل في المصر ظلما وكان قاتله كافرا وهكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتل في المصر ظلما وكان قاتله خارجيا من كلاب النار ولم ينقل أحد أنه دفن بلا غسل وقد نقل المهدي في البحر الإجماع على أن سائر من يطلق عليه اسم الشهيد كالطعين والمبطون والنفساء ونحوهم يغسلون فاقتضى هذا النقل أن يلحق بهم المقتول في المصر ظلما والمقتول في المدافعة عن نفسه أو ماله وأما قوله ويكفن بما قتل فيه الخ فقد استدل على ذلك بما أخرجه أبو دأود ["3134"] ، وابن ماجة ["1515"] ، عن ابن عباس قال "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم"، وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي وقد تكلم فيه جماعة وعطاء بن السائب وفيه مقال.
وأما جواز الزيادة من الأكفان على ما قتل فيه فلم يرد ما يمنع من ذلك والأصل الجواز.
[فصل
وليكن الغاسل عدلا من جنسه أو جائز الوطء بلا تحديد عقد إلا المدبرة فلا تغسله ثم محرمة بالدلك لما ينظره والصب على العورة مستترة ثم أجنبي بالصب على جميعه(1/208)
مستترا كالخنثى المشكل مع غير أمته ومحرمه فإن كان لا ينقيه الصب يمم بخرقة.
فأما طفل أو طفلة لا تشتهي فكل مسلم ويكره الحائض والجنب] .
قوله: فصل: "وليكن الغاسل عدلا من جنسه أو جائز الوطء".
أقول: لم يأت دليل يدل على اشتراط العدالة ولكن الفاسق ليس بمحل للأمانة والستر على الميت إن رأى مالا يحسن إفشاؤه وقد أخرج أحمد من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال: "ليليه أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة"، وفي إسناده مقال ولكنه يشهد له حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري"2442"، مسلم "2580"] ، وغيرهما [أبو دأود "4893"، الترمذي "1426"] ،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" ولا يخفاك أن الفاسق ليس من أهل الأمانة ولا من أهل الورع فمنعه عن الغسل من هذه الحيثية.
وأما كونه يغسله جنسه أو جائز الوطء فهذا هو الثابت في الشريعة فإنه كان في زمن النبوة وما بعدها في عصر الصحابة يغسل الرجل الرجال والمرأة النساء وهذا أمر أوضح من الشمس وقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته إلي النساء يغسلنها وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: "لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك"، أخرجه أحمد ["6/228"، وابن ماجة "1465"] ،والدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي من حديثها.
وكانت عائشة تقول لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه أخرجه أحمد ["6/267"، وأبو دأود "3141"، وابن ماجة "1464". وقد غسل الصديق امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنهما وغسل على فاطمة رضي الله عنهما فما ذكره المصنف صواب وحق.
وقد وقع للجلال ها هنا من زائف الكلام وساقطه ما هو غني عن البيان وإذا ألجأت الضرورة فلم يوجد الجنس غسل الجنس غير جنسه مع ستر ما لا يجوز النظر إليه ويكون الدلك بحائل وإذا تعذر الدلك فالمسح وإذا تعذر المسح فالصب وإذا تعذر الصب ارتفع وجوب الغسل ومحارم المرأة من الرجال أقدم من سائر الرجال ومحارم الرجل من النساء أقدم من غيرهن من النساء للتخفيف بين المحارم في مقدار العورة.
وأما قوله: "وأما طفل أو طفلة لا يشتهى فكل مسلم"، فالصواب أن يغسل كل جنس جنسه إلحاقا للصغار بالكبار.
وأما الحائض والجنب فهما وإن كانا ممنوعين من بعض القرب فإن ذلك لا يقتضي منعهما من كل قربة بل حكمها فيما لم يرد فيه دليل المنع حكم من ليس بجنب ولا حائض.(1/209)
[فصل
وتستر عورته ويلف الجنس يده لغسلها بخرقة وندب مسح بطن الحامل وترتيب غسله كالحي وثلاثا بالحرض ثم السدر ثم الكافور فإن خرج من فرجه قبل التكفين بول أو غائط كملت خمسا ثم سبعا ثم يرد بالكرسف.
والواجب منها الأولى والرابعة والسادسة وتحرم الأجرة ولا تجب النية عكس الحي وييمم للعذر ويترك إن تفسخ بهما] .
قوله: فصل: "وتستر عورته" الخ.
أقول: الأدلة الواردة في منع نظر العورة ولمسها شاملة لعورة الحي والميت فغسلها يكون بالدلك مع حائل بين اليد وبينها وأما مسح البطن فهو لخروج ما عساه يخرج بعد الغسل فهذا وإن لم يرد به دليل ولكنه من المبالغة في تطهير بدن الميت.
وأما صفة الغسل فينبغي الاعتماد في ذلك على حديث أم عطية الثابت في الصحيحين [البخاري "1253"، مسلم "38/939"] ، وغيرهما [أبو داود "3142", الترمذي "990", النسائي "4/3", ابن ماجه "1458", أحمد "5/84"] قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور" وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "1255", مسلم "43/939"] وغيرهما [النسائي "4/28", أبو داود "3142"] "ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها" وفي لفظ لهما: [البخاري "1258,1259"38/939"] "اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن".
فهذا الحديث قد دل على أن الغسل ينبغي أن يكون وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا وإذا رأى الغاسل الزيادة على ذلك زاد وينبغي أن تكون الغسلات بماء وسدر ويكون في الغسلة الآخرة كافور وأنه ينبغي أن تكون البداية في الغسل بميامن الميت ومواضع الوضوء منه.
وبهذا تعرف أن التخيير بين الثلاث أو الخمس أو السبع والزيادة عليها مفوض إلي الغاسل سواء خرج خارج أو لا فلا وجه لما ذكره من قوله: فإن خرج قبل التكفين إلخ ثم خروج الخارج لا وجه لإعادة الغسل لأجله بل يغسل موضع الخروج وما أصابه من سائر البدن فإن أعي الأمر وتكرر خروج الخارج فلا بأس بهذا الفرج أن يرد بخرقة أو نحوها.
وأما قوله: "والواجب منها الأولى والرابعة والسادسة"، فمبني على أن خروج الخارج يوجب الإعادة وهو ممنوع وليس الواجب إلا ما يصدق عليه مسمى الغسل كما تقدم في غسل الجنابة وما زاد على ذلك فهو سنة مفوض إلي الغاسل.
وأما تحريم الأجرة فهو مبني على تحريم أخذ الأجرة على الواجب وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام في الإجارات.
وأما عدم وجوب النية فلكونه لم يرد الأمر بها في هذا بخصوصه ولكن لا يخفاك أن غسل(1/210)
الميت عمل وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات" وصح عنه أنه قال: "لا عمل إلا بنية" ولا سيما إذا كان العمل قربة من القرب وغسل الميت واجب على الأحياء يؤجرون عليه كما يؤجرون على سائر الواجبات فلا وجه لعدم إيجاب النية.
وأما أن الميت ييمم للعذر فلم يرد بذلك دليل والتيمم إنما شرعه الله للأحياء ولم يشرعه في غسل الأموات فمن تعذر مسحه خشية أن يتفسخ ثم تعذر صب عليه الماء لذلك فلا غسل له ولا واجب على الأحياء بل يدفن كما هو.
[فصل
ثم يكفن من رأس ماله ولو مستغرقا بثوب طاهر ساتر لجميعه مما لبسه ويعوض إن سرق وغير المستغرق يكفن مثله.
والمشروع إلي سبعة وترا ويجب ما زاد من الثلث وإلا أثم الورثة وملكوه ويلزم الزوج ومنفق الفقير ثم بيت المال ثم على المسلمين ثم بما أمكن من شجر ثم تراب.
وتكره المغالاة وندب البخور وتطييبه سيما مساجده ثم يرفع مرتبا ويمشي خلفه قسطا وترد النساء] .
قوله: "ثم يكفن من رأس ماله بثوب" الخ.
أقول: قد حصل الاتفاق على أن الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع البدن وأن ذلك مقدم على ما يخرج من التركة من دين وغيره فإن ألجأت الضرورة إلي أن يكفن في ثوب لا يستر جميع بدنه فللضرورة حكمها كما وقع في الصحيحين [البخاري "1276""، مسلم "940"] ، وغيرهما [أبو دأود "3155"، التنرمذي "3852"، النسائي "1904"] ، أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه ويجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر.
وإذا كان للميت تركة كان على المتولي لتكفينه أن يحسن كفنه كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه" [أخرجه الترمذي "995"، وابن ماجة "1474"] ، من حديث ابن قتادة وقال الترمذي إسناده حسن وأيضا رجال إسناده ثقات وهو أيضا ثابت في صحيح مسلم ["943"] ، من حديث جابر بلفظ: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" وورد أيضا الإرشاد إلي التكفين في الثياب البيض كما أخرجه أحمد ["5/342"، وأبو دأود "3878"، والترمذي "994"،وابن ماجة 3566"] ،من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم" وصححه الترمذي ["3/320"] ، وابن(1/211)
القطان وأخرجه أيضا الترمذي ["2810"] ، وصححه وابن ماجه ["3567"] ، من حديث سمرة.
وأما عدد الأكفان فلم يرد في ذلك شيء يعتمد عليه إلا ما ثبت في الصحيحين [البخاري "1264"، مسلم "45/941"] ، وغيرهما [أبو دأود "3151"، الترمذي "996"، النسائي "4/35"، ابن ماجة "1469"] ، من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ولم يثبت في تكفينه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا وكل ما روي في ذلك فهو لا يصلح للمعارضة هذا مع كونه في نفسه غير صحيح لا يحل العمل به فضلا عن أن يعارض ما في الصحيحين وغيرهما ولكن هذا إنما هو فعل من حضر من الصحابة ولا تقوم به الحجة وقد قيل إن وجه الاستدلال به أن الله سبحانه لم يكن يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل ولا يخفاك أن هذا التوجيه لا تقوم به الحجة ولو سلمنا ذلك لكان أفضل الأكفان ثلاثة دروج فلا يصح قول المصنف والمشروع إلي سبعة وترا وقد اقتدى أبو بكر الصديق بكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب كما في البخاري ["1387"] وغيره.
قوله: "ويجب ما زاد من الثلث وإلا أثم الورثة وملكوه".
أقول: الذي أوصى بأن يكفن في زيادة على سبعة أكفان فقد أوصى بما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من إضاعة المال وهذا إضاعة للمال بلا شك ولا شبهة فهو وصية بمحظور لا يجوز تنفيذها وإنما قلنا إنه إضاعة للمال لأنه لا ينتفع به الميت وإن كفن بألف كفن لأن ذلك يصير ترابا عن قريب ومعلوم أنه إذا كان صحيح العقل لا يقصد التزين بذلك بين أهل البرزخ فقد صاروا جميعا في شغل شاغل عن ذلك فالصواب أنه يأثم الوصي والوارث بامتثال هذه الوصية لا بردها والله سبحانه إنما جعل للميت ثلث ماله ليجعله زيادة
في حسناته ويتقرب به إلي الله سبحانه لا ليضعه في موضع الإضاعة ويخالف به ما شرعه الله لعباده من عدم إضاعة المال.
قوله: "ويلزم الزوج" الخ.
أقول: يدل على هذا حديث عائشة الذي تقدم أنه قال لها صلى الله عليه وسلم: "لو مت قبلي لغسلتك" وكفنتك وقد كان الزوج في أيام النبوة وما بعدها يكفن زوجته ولم يسمع عن أحد منهم أنه قال قد انقطع النكاح وذهب موجب حسن العشرة كما يقول الجامدون على الرأي.
وأما الفقير الذي ينفقه في حياته قريبه فهذا من تمام البر والصلة بل من أعظمها فإن أبي لم يجبر على ذلك لعدم الدليل.
وأما قوله: "ثم بيت المال" فصواب فإن هذا هو بيتا مال المسلمين الموضوع لمصالحهم وقد ثبت بالدليل أن تكفين الميت واجب والإمام وبيت مال المسلمين أولى بذلك ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم فمن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلى ومن ترك مالا فلورثته"، [مسلم "43/867، 44/867"،ابن ماجة "45"، النسائي "3/188"] .
وأما قوله: "ثم المسلمين" أيضا صواب لأن تكفين الميت إذا كان واجبا عليهم حرم عليهم أن يدفنوه بغير كفن لأنهم بذلك يخلون بالواجب المتعلق بهم.(1/212)
وأما قوله: "ثم بما أمكن من شجر ثم تراب" فقد عرفناك أن للضرورة حكمها وليس في الإمكان غير ما قد كان.
وأما قوله: "وتكره المغالاة" فهو أيضا صواب لأن المراد بالمغالاة أن يعمد إلي الثياب المرتفعة الأثمان الغالية القيمة فيكفن الميت بها مع حصول المقصود بما هو دونها وقد عرفت أن الزيادة على ما ورد به الشرع إضاعة للمال لما قدمنا وتحسين الكفن وكونه جديدا أبيض لا ينافي هذا فإن ذلك يحصل بدون المغالاة ويؤيد هذا النهي عن المغالاة في الأكفان معللا ذلك بقوله فإنه يسلب سريعا كما أخرجه أبو دأود من حديث علي.
قوله: "وندب البخور وتطييبه سيما مساجده".
أقول: يدل على ذلك ما أخرجه أحمد والبيهقي والبزار بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا" وأخرج نحوه من حديث جابر بلفظ: "إذا أجمرتم الميت فأوتروا" فهذا يدل على مشروعية التطيب ويدل عليه أيضا النهي عن تطييب المحرم وتحنيطه كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس فإن ذلك يدل بمفهومه على تطييب غير المحرم ولم يرد ما يدل على أن مساجد الميت أولى بالطيب من غيرها فالأعضاء مستوية في ذلك.
وأما قوله ثم يرفع مرتبا فلم يرد في هذا شيء يصلح للقول للندب لأنه حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي لا بمجرد الرأي.
قوله: "ثم يمشي خلفه قصدا".
أقول: قد ورد ما يدل على المشي خلف الجنازة وأمامها وفي جوانبها وورد الفرق بين الراكب والماشي كما في حديث المغيرة الذي أخرجه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها". وأخرجه أبو دأود ["3181"، وقال فيه: "والماشي خلفها وأمامها قريبا منها" وفي رواية "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها".
ومع هذا فورد النهي عن الركوب مع الجنازة وامتنع صلى الله عليه وسلم من الركوب مع الجنازة وعلل ذلك بأن الملائكة كانت تمشي وأخرج أحمد وأهل السنن عن ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة وصححه ابن حبان وابن خزيمة وأعل بما لا يقدح في الاحتجاج وقد احتج به أحمد بن حنبل وقد ذهب الجمهور إلي أن المشي أمام الجنازة أفضل واستدلوا بهذا الحديث وذهب الآخرون إلي أن المشي خلفها أفضل واستدلوا بما أخرجه أبو دأود ["3184" والترمذي "1011"] ، وابن ماجه "1484"] ، من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: "ما دون الخبب فإن كان خيرا عجلتموه وإن كان شرا(1/213)
فلا يبعد إلا أهل النار والجنازة متبوعة"، وقد ضعف إسناده جماعة من أهل الحديث ولكنه قد ثبت في الصحيحين [البخاري "47، 1325"، مسلم 945"] ، وغيرهما [الترمذي "1040"، ابن ماجة 1539"، النسائي "4/76"، أبو دأود "3168"] ، من حديث أبي هريرة مرفوعا: "من تبع جنازة مسلم" وثبت في الصحيحين [البخاري "1240"، مسلم "2162"] ، أيضا وغيرهما مرفوعا: "إن حق المسلم على المسلم ست" ومنها: "وإذا مات فاتبعه" [أبو دأود 5030"، الترمذي "2809"، النسائي "4/54"] .
وهذان اللفظان ظاهران في المشي خلف الجنازة وإن كان محتملا كون المراد الخروج معه عند حمله فإنه إذا أخرج الميت من منزله ثم خرج بخروجه المشيعون له كانوا تابعين له لأنه أخرج ثم خرجوا وسواء مشوا خلفه أو أمامه.
وأما قوله: "قصدا" فمراده أن يكون المشي معها متوسطا بين الإسراع والبطء ولكن قد ثبت في الصحيحين [البخاري "1315"، مسلم "944"] ، من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أسرعوا بالجنازة فإن لم تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم".
وثبت في صحيح البخاري ["1762"] ، وغيره من حديث محمود بن لبيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع بجنازة سعد بن معاذ حتى تقطعت نعالنا"، وروى من حديث أبي بكرة قال لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد أن نرمل بها رملا. [أخرجه أبو دأود "3182"، النسائي "1913"] .
فهذه الأحاديث تدل على أن الإسراع أفضل ولا يعارضها ما تقدم من قوله دون الخبب لما قدمنا من كون الحديث ضعيفا.
وأما قوله: "وترد النساء" فلما ورد من المنع لهن من زيارة القبور كما أخرجه أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه وإذا منعن من الزيارة على انفراد فمنعهن من الخروج مع الجنازة مع اجتماعهن بالرجال أولى.
وقد أخرج ابن ماجه والحاكم والأثرم في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن في زيارة القبور وأخرج أبو دأود ["3123"] ، والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة ابنته فقال: "ما أخرجك من بيتك؟ " فقالت: أتيت أهل هذا الميت فرحمت على ميتهم فقال لها: "فلعلك بلغت معهم الكدى؟ " قالت معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر فقال: "لو بلغت معهم الكدى ... " فذكر تشديدا في ذلك قال الحاكم صحيح الإسناد على شرط الشيخين.
وأخرج البخاري "1278"، ومسلم "34/938، 35/938"، وغيرهما [أبو دأود "3167"، ابن ماجة "1577"] ، عن أم عطية قالت نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا وفي الباب أحاديث.(1/214)
[فصل
"وتجب الصلاة كفاية على المؤمن ومجهول شهدت قرينه بالإسلامه فإن التبس بكافر فعليهما وإن كثر الكافر بنية مشروطة وتصح فرادى والأولى بالإمامة الإمام وواليه ثم الأقرب الصالح من العصبة وتعاد إن لم يأذن الأولى.
وفروضها النية وخمس تكبيرات والقيام والتسليم وندب بعد الأولى الحمد وبعد الثانية الصمد وبعد الثالثة الفلق وبعد الرابعة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للميت بحسب حاله والمخافتة وتقديم الابن للأب وتكفي صلاة على جنائز وتجديد نية تشريك كل جنازة أتت خلالها فتكمل ستا لو أتت بعد تكبيرة وترفع الأولى أو تعزل بالنية ثم كذلك فإن زاد عمدا أو نقص مطلقا أعاد قبل الدفن لا بعده واللاحق ينتظر تكبير الإمام ثم يكبر ويتم ما فاته بعد التسليم قبل الرفع.
وترتب الصفوف كما مر إلا أن الآخر أفضل ويستقبل الإمام سرة الرجل وثدي المرأة ويليه الأفضل فالأفضل"] .
قوله: فصل: "وتجب الصلاة كفاية على المؤمن".
أقول: الصلاة على الأموات شريعة ثابتة ثبوتا أوضح من شمس النهار فلم تترك الصلاة لا في أيام النبوة ولا في غيرها على فرد من أفراد أموات المسلمين إلا من عليه دين لا قضاء له وعلى الذي قتل نفسه مع أنه قال فيمن عليه دين: "صلوا على صاحبكم" [البخاري "5371، 6731، 2398،6763، 2399، 4781، 6745، مسلم "1619"، أحمد "2/290، 453، 287، 456، 464، 356، 527" النسائي "4/66"، الترمذي "1070"، ابن ماجة "2415"، أبو دأود "2955"] ، فعرف بهذا أنه ممن يصلى عليه وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لقصد الزجر عن أن يحصل التراخي في قضاء الديون وهكذا تركه للصلاة على قاتل نفسه فإنه للزجر عن أن يتسرع الناس في قتل أنفسهم فلا يلحق غيره من أهل المعاصي به فإنه من جملة المسلمين وممن يدخلون تحت ما شرعه الله لعباده أحياء وأمواتا هم أحق بالشفاعة من المسلمين بصلاتهم عليهم وتخصيص الصلاة بالمؤمنين من الحجر الواسع الرحمة وللتفضل الرباني وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على ما عز والغامدية وقال الإمام أحمد بن حنبل إن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه قال النووي في شرح مسلم قال القاضي مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا انتهى.
وأما الصلاة على الشهيد فقد أوضحنا الكلام فيها في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه.
وأما مجهول الحال كمن يوجد في فلاة يمر بها المسلم والكافر فلا يصلى عليه إلا بعد وجود ما يدل على إسلامه كما ذكر المصنف لأن الصلاة على الكافر حرام وإذا علم أحد(1/215)
الموجودين مسلم ولم يمكن تعيينه صلى عليه وحده وأفراده بالنية وإن كان معه كفار فإن مجرد وجودهم والصلاة إليهم لا يستلزم أن تكون الصلاة عليهم لأن النية مميزة.
ولعل مراد المصنف بقوله فعليهما في الصورة لا في الحقيقة ولا يحتاج إلي أن تكون النية مشروطة بل يجعلها على المسلم من الابتداء وإنما يحتاج إلي المشروطة لو كان سيفعل الصلاة على كل واحد ولا حاجة إلي ذلك بل يجمعون جميعا في قبلته ويصلي على المسلم منهم وحده.
قوله: "وتصح فرادى".
أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في زمنه التجميع ولكن الأصل في كل صلاة أنها تصح فرادى وإن كانت الجمعة افضل كما قدمنا في الصلوات الخمس ويؤيد.
ذلك صلاة الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم فرادى فصلى عليه الرجال أرسالا حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان ولم يؤمهم أحد وهذا ثابت في كتب السير والتاريخ قال ابن عبد البر صلاة الناس عليه صلى الله عليه وسلم فرادى مجمع عليه عند أهل السير وجماعة أهل النقل لا يختلفون فيه انتهى.
وأما ما روي أن صلاتهم عليه فرادى كان بوصية منه صلى الله عليه وسلم فلم يصح في ذلك شيء.
قوله: "والأولى بالإمامة والإمام وواليه".
أقول: هذا صحيح وحديث "لا يؤمن الرجل في سلطانه" يتنأول بعمومه كل صلاة جماعة من الصلوات الخمس وغيرها وقد اقتدى بهذه السنة الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما وقدم سعيد بن العاص يصلي على أخيه الحسن بن علي رضي الله عنه وقال لولا أنها سنة ما قدمتك كما أخرجه البزار والطراني والبيهقي وهو المنقول في كتب السير والتاريخ.
وأما قوله: "ثم الأقرب الصالح من العصبة" فلم يرد بذلك دليل يدل عليه لكنه قد صار القريب أولى بقريبه في كثير من الأمور وهذا منها مع كونه أحق الناس بالشفاعة له بصلاته عليه واصدقهم نية في ذلك وأخلصهم له دعاء لما تقتضيه القرابة من التراحم والتعاطف.
وأما كون الصلاة تعاد إن لم يأذن الأولى فلكون الحق له ولم يأذن به فهو باق وليس في تكرار الصلاة إلا زيادة الخير للميت ولهذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر السوداء أو الأسود حيث دفنوه ولم يؤذنوا النبي صلى الله عليه وأله وسلم مع أن المعلوم أنهم لا يدفنونه إلا وقد صلوا عليه وهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر رطب [البخاري "1340"، مسلم "954"] .هذا والذي قبله ثابت في الصحيحين وغيرهما.
قوله: "وفروضها النية".
أقول: لما قدمنا من الأدلة الدالة على أنها فرض بل على أنها شرط يستلزم عدمه عدم المشروط كما تفيده الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه لا عمل إلا بنية وإنما الأعمال بالنيات والنفي متوجه إلي الذات الشرعية فالموجود في الخارج ليست ذاتا شرعية فمن خالف في وجوب النية فقد أخطأ ولم يصب.(1/216)
قوله: "وخمس تكبيرات".
أقول: قد ثبتت الخمس في صحيح مسلم ["72/957"] ، وغيره [أبو دأود "3197"، الترمذي "1023"، النسائي "4/72"، ابن ماجة "1505"، أحمد "4/367"] ، من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وأنه كبر خمسا على جنازة فسألته فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها وأخرج أحمد ["7/231"] ، عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمسا ثم التفت فقال: ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر النبي صلى الله عليه وسلم صلى جنازة فكبر خمسا وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري وهو متكلم عليه ولكن السنة التي هي أظهر من شمس النهار المروية من طريق جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما أنه كان صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وهو مذهب الجماهير قال ابن عبد البر إنه انعقد الإجماع بعد الاختلاف على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه قال ولا نعلم أحدا من أهل الأمصار يخمس إلا ابن أبي ليلى انتهى.
وأخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كل ذلك قد كان أربعا وخمسا فاجتمعنا على أربع.
واعلم أنه لم يصح شيء في الزيادة على الخمس ولا في النقص عن أربع مرفوعا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ بالأربع هو الذي لا ينبغي غيره لأن تلك الرواية عن زيد بن أرقم قد صرحت بأنه كان يكبر على الجنائز أربعا فلو علم ثبوت الخمس عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنه إلي الأربع في جميع صلاته على الجنائز إلا في تلك المرة الواحدة وعلى تقدير أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم التكبير خمسا على جهة الندور والقلة فالذي ينبغي الاعتماد على ما هو الأعم الأغلب مما ثبت عنه ولا سيما بعد إجماع الصحابة ومن بعدهم عليه.
وأما ما ذكره المصنف من فرضية القيام فلكون صلاة الجنازة لا تتم إلا به وهو ركنها الأعظم وقد قدمنا أنها فرض كفاية على المسلمين فكان القيام من هذه الحيثية فرضا.
وأما ما ذكره من فرضية التسليم فلكونها صلاة وقد تقدم أن الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وقدمنا وجه الاستدلال بهذا الحديث على فرضية التسليم وفيه الكفاية
قوله: "وندب بعد الأولى الحمد".
أقول: صلاة الجنازة صلاة من الصلوات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فهذا يكفي في كونها فرضا في صلاة الجنازة بل في كونها شرطا يستلزم عدمها عدم الصلاة فكيف وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في صلاة الجنازة فاتحة الكتاب.
وأما قوله: "وبعد الثانية الصمد وبعد الثالثة الفلق"، فلم يرد في هذا شيء وإنما هو مجرد استحسان من بعض أهل العلم ولا يثبت بمثل ذلك شرع عام ولا خاص ولا تعبد الله أحدا من(1/217)
خلقه برأي أحد من أهل العلم نعم ينبغي أن يضم إلي الفاتحة قراءة ما تيسر من القرآن وينبغي أن يعمد إلي سورة قصيرة فيقرأها ثم لا يشتغل بغير الدعاء للميت بعد كل تكبيرة بما ورد وبما لم يرد فهذا هو المقصود من صلاة الجنازة.
وما ذكره من كون الدعاء بحسب حال الميت فحال المذنب أنه قد أتى به إلي إخوانه من المسلمين ليشفعوا له عند ربه ويسألونه المغفرة له والتجأوز عنه وقد أمروا بإخلاص الدعاء للأموات فينبغي لكل من صلى على ميت سواء كان الميت صالحا أو طالحا أن يدعو له بالأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان نفسه لا تطأوعه على ذلك فليتجنب الصلاة على الأموات ففي غيره من المسلمين من هو أرق قلبا منه وأكثر رحمة لإخوانه.
قوله: "والمخافتة".
أقول: قد ورد الجهر فأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال لتعلموا أنه من السنة فمعلوم أن قراءته هذه لا تكون إلا جهرا حتى يعلم ذلك من صلى معه وزاد النسائي ["1988"] ، بعد فاتحة الكتاب سورة وذكر أنه جهر ولفظه هكذا فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم ["963"] ، وغيره [النسائي "4/73"، ابن ماجة "1500" أحمد "6/23، 28"، الترمذي "1025"] ، من حديث عوف بن مالك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظنا من دعائه الحديث فإن هذا يدل على أنه جهر بالدعاء فلا وجه لجعل المخافتة مندوبة وإن وردت في حديث أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه أخرجه الشافعي في مسنده وفي إسناده اضطراب وقواه البيهقي في المعرفة وأخرج عن الزهري معناه وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر وأخرجه أيضا النسائي وعبد الرزاق قال ابن حجر في الفتح وإسناده صحيح وليس فيه قوله بعد التكبيرة ولا قوله ثم يسلم سرا في نفسه.
قوله: "وتقديم الابن للأب".
أقول: لا يخفى أن صلاة الجنازة من جملة الصلوات وقد تقدم في صلاة الجماعة أن لعلو السن مدخلا في التقديم فليكن هنا كذلك فإن كان الابن أعلم بالسنة كان مقدما على الأب من هذه الحيثية.
قوله: "ويكفي صلاة على جنائز".
أقول: الأصل أن ذلك جائز صحيح إلا أن يرد ما يمنع من ذلك ولم يرد في ذلك شيء هذا على تقدير أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم على جماعة بعد جماعة من قتلى أحد كما جزم به المحققون فإن جميع ما ورد في الصلاة عليهم في أسانيدها ضعف وقد أطلنا الكلام على ذلك في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه.(1/218)
وأما ما ذكره المصنف رحمه الله من تشريك ما وصل من الجنائز بالنية فهو صحيح إذ لا عمل إلا بنية وصلاته على كل واحد عمل وهكذا رفع ما فرغ من التكبير عليه أو عزله بالنية لأن الصلاة قد تمت على الأول وبقي منها بقية للواصل.
قوله: "فإن زاد عمدا أو نقص مطلقا أعاد".
أقول: قد قدمنا لك أن ما ورد في النقص من أربع والزيادة على الخمس لم يثبت ثبوتا تقوم به الحجة فالزيادة على الخمس والنقص من أربع ابتداع إن وقع ذلك عمدا إلا إذا وقع سهوا وأما كون الصلاة تفسد بذلك فلا لما عرفناك غير مرة أنه لا يدل على الفساد المرادف للبطلان إلا دليل خاص يفيد أن عدم ذلك الشيء يوجب العدم أو أن وجوده مانع من الصحة.
وأما ما ذكره من كون الدفن مانعا من الصلاة فخلاف ما ثبت في السنة ثبوتا متفقا عليه وقد قدمنا الإشارة إلي ذلك.
وأما قوله: "وينتظر تكبير الإمام" فلا وجه له بل يكبر عند وصوله إلي الصف كسائر الصلوات.
وأما كونه يتم ما فاته بعد التسليم قبل الرفع فهو صواب لأنه لم يرد ما يدل على أن الإمام يتحمل عنه.
قوله: "وترتب الصفوف كما مر إلا أن الآخر أفضل".
أقول: أما ترتيب الصفوف كما مر في الصلاة فهو صحيح لأن الجنازة صلاة من الصلوات فالدليل المتقدم في الصلوات الخمس جماعة وتقديم الرجال على الصبيان والصبيان على النساء ثابت هنا.
وأما كون الآخر أفضل فلا دليل عليه بل هو خلاف الدليل الوارد في صلاة الجماعة فإنه مصرح بالترغيب في الأول وبأنه يتم الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك فما ثبت في صلاة الجماعة ثبت في صلاة الجنازة لأن الكل صلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وأما تكثير الصفوف ليكونوا ثلاثة فصاعدا حتى يستحق الميت المغفرة فلا بأس به كما ورد في حديث مالك بن هبيرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له" أخرجه أحمد ["4/79"، أبو دأود "3166" والترمذي "1028"، وابن ماجه "1490"] ، وحسنه الترمذي وله شواهد وقد كان مالك بن هبيرة الرأوي لهذا الحديث إذا قل أهل الجنازة يجعلهم ثلاثة صفوف.
وورد أيضا من حديث عائشة في صحيح مسلم] "58/947"] ، وغيره [الترمذي "1029"، النسائي 1992" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه"، وثبت في صحيح مسلم ["59/948"] ، أيضا وغيره [أبو دأود "3170"، ابن ماجة "1489"] ، من حديث ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه".(1/219)
قوله: "ويستقبل الإمام سرة الرجل وثدي المرأة".
أقول: الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو استقبال رأس الرجل وعجيزة المرأة ولا منافاة بين رواية استقبال وسط المرأة ورواية استقبال عجيزتها فإن عجيزتها هي وسطها ولم يرد ما يصلح لمعارضة هذا فلا وجه لما قاله الجلال إن الكل واسع وما ذكره عقب هذا فهو هوس منه.
وأما قوله: "ويليه الأفضل فالأفضل" فالمراد الأفضل في الجنس فيلي الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء وقد قدم إلي ما يلي الإمام الصبي على المرأة بمحضر من جماعة من الصحابة وشهدوا أن ذلك هو السنة كما أخرجه أبو دأود ["3193"، والنسائي "1977"] ، ورجال إسناده ثقات.
وأما الأفضل باعتبار المزايا الدينية فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقدم في القبر أكثرهم قرآنا أي يكون مما يلي القبلة فلا يبعد أن يقدم عند الصلاة على رجلين أو ثلاثة فصاعدا أفضلهم في المزايا الدينية باعتبار الظاهر كأن يكون أحدهم عالما والآخر غير عالم فيكون العالم مما يلي الإمام.
[فصل
ثم يقبر على ايمنه مستقبلا ويواريه من له غسله أو غيره للضرورة وتطيب أجرة الحفر والمقدمات.
وندب اللحد وسله من مؤخره وتوسيده نشزا أو ترابا وحل العقود وستر القبر حتى توارى المرأة وثلاث حثيات من كل حاضر ذاكرا لله تعالي ورشه وتربيعه ورفعه شبرا.
وكره ضد ذلك والإنافة بقبر غير فاضل وجمع جماعة إلا لتبرك أو ضرورة والفرش والتسقيف والآجر والزخرفة إلا رسم الاسم ولا ينبش لغصب قبر وكفن ولا لغسل وتكفين واستقبال وصلاة ولا تقضى بل لمتاع سقط نحوه.
ومن مات في البحر وخشي تغيره غسل وكفن وأرسب.
ومقبرة المسلم والذمي من الثرى إلي الثريا فلا تزدرع ولا هواؤها حتى يذهب قرارها ومن فعل لزمته الأجرة لمالك المملوكة ومصالح المسبلة فإن استغنت فلمصالح الأحياء دين المسلمين ودنيا الذميين.
ويكره اقتعاد القبر ووطؤه ونحوهما ويجوز الدفن متى ترب الأول لا الزرع ولا حرمة لقبر حربي
قوله: "فصل ثم يقبر على أيمنه مستقبلا".
أقول: هذا معلوم في الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلي الاستدلال عليه فما مات مسلم منذ(1/220)
ظهور النبوة المحمدية إلي الآن إلا وقبر على هذه الصفة إلا لعذر كمن يموت في البحر ونحوه بل وقع منه صلى الله عليه وسلم الأمر بمواراة قتلى المشركين في يوم بدر وجعل لهم قليب دفنوا فيه والأمر أشهر من أن يذكر.
قوله: "ويواريه من غسله أو غيره للضرورة".
أقول: لا دليل على هذا بل الدليل على خلافه فإنه قد ثبت في البخاري ["1342"] ، وغيره أنها لما ماتت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة عثمان جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وقال: "هل من أحد لم يقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا قال: "فانزل في قبرها" وفي رواية لأحمد عن أنس أنها رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة عثمان فقد واراها ونزل في قبرها أبو طلحة مع حضور زوجها ووالدها وأما قوله: "وتطيب أجرة الحفر والمقدمات" فلا وجه لذلك بعد جعل الدفن واجبا على الكفاية وسيأتي الكلام على ذلك في الإجارات إن شاء الله تعالي.
قوله: "وندب اللحد".
أقول: حديث: "اللحد لنا والشق لغيرنا" أخرجه أحمد وأهل السنن] أبو دأود "3208"] ، الترمذي "1045"، النسائي "2009"، ابن ماجة "1554"] ،عن ابن عباس مرفوعا وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر وفيه ضعف وله شاهد من حديث جرير مرفوعا بنحوه أخرجه أحمد والبزار وابن ماجه وفي إسناده عثمان بن عمير وفيه ضعف وفي الحديثين دليل على مشروعية اللحد وأنه الذي ينبغي للمسلمين.
ولا ينافي هذا ما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أنس قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا نبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فسبق صاحب اللحد فلحدوا له قال ابن حجر إسناده حسن وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس لأن مجرد تردد من حضر من الصحابة لا تقوم به الحجة بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" وأيضا قد اختار الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم اللحد كما في هذا الحديث وهو ثابت في صحيح مسلم ["90/966"] ، وغيره [النسائي "4/80"] ، من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص قال قال ألحدوا لى لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "وسله من مؤخره".
أقول: مؤخر القبر هو الذي يكون عند رجلي الميت ويدل على كون ذلك مشروعا ما أخرجه أبو دأود ["3211"] ، وسعيد بن منصور في سننه ورجاله رجال الصحيح عن أبي إسحق قال أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله يزيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال هذا من السنة ولا يعارض هذا ما أخرجه الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا فإن المعنى أنه سل من جهة رأسه من قبل رجلي القبر وعلى تقدير احتماله لغير هذا المعنى فلا تقوم به الحجة لأمرين الأول أنه مرسل والثاني أنه فعل بعض الصحابة ولا تقوم به الحجة كما تقدم.(1/221)
وأما ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود وبريدة أنهم أدخلوا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة فقد ضعف هذا الحديث البيهقي وأيضا لا تقوم به الحجة لأنه فعل لبعض الصحابة قال في البدر المنير إن ذكر أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة وهو غير ممكن كما ذكره الشافعي في الأم وأطنب في الشناعة على من يقول ذلك ونسبه إلي الجهالة ومكابرة الحس انتهى.
وأما قوله: "وتوسيده نشزا أو ترابا وحل العقود" فلم يرد في هذا شيء والاقتداء بما ثبت في الشريعة أولى من ابتداع ما ليس فيها.
وأما قوله: "وستر القبر حتى توارى المرأة" ففي ذلك ما ذكره سعيد في سننه في رواية من حديثه السابق أن عبد الله بن زيد قال أنشطوا الثوب فإنما يصنع هذا بالنساء وأخرجه الطبراني وقال إنه لم يدعهم يمدون ثوبا وقال هذا السنة ويعارضه ما رواه عبد الرزاق من حديث سعد بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر على قبر سعد بن معاذ حين دفن ولكن في إسناده مجهول فلا تقوم به الحجة وأيضا قد قيل إن سبب ذلك أن لا تظهر رائحة من جرح سعد الذي مات به.
قوله: "وثلاث حثيات من كل حاضر ذاكرا".
أقول: استدل لذلك بما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا ورجال إسناده ثقات وأما أبو حاتم فقال في العلل هذا الحديث باطل وقال ابن حجر إسناده ظاهر الصحة لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له قال وأظن العلة فيه عنعنة الأوزاعي وعنعنة شيخه اهـ.
ويؤيده ما أخرجه البزار والدرقطني عن عامر بن ربيعة قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعا وحثى على قبره بيديه ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه وزاد البزار فأمر فرش عليه الماء وقال البيهقي وله شاهد من حديث جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا وله شاهد آخر عند أبي دأود في المراسيل أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى على قبر ثلاثا وفي إسناده مجهول كما قال أبو حاتم وشاهد ثالث عند البيهقي من حديث أبي أمامة قال توفي رجل فلم نصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها على قبر فغفرت له ذنوبه وشاهد رابع أخرجه أبو الشيخ عن أبي هريرة مرفوعا: "من حثى على قبر مسلم احتسابا كتب له بكل ثراة حسنة" قال ابن حجر: إسناده ضعيف.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا فتدل على أن لذلك أصلا في الشريعة وأما ما يشرع من الذكر فأخرج أحمد ["2/27، 40، 59، 69، 127، 128"، وأبو دأود "3213"، والترمذي 1046"، وابن ماجه 1550"] ، من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا وضع الميت في القبر قال: "بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي لفظ "وعلى سنة رسول الله" وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم.(1/222)
وأخرج الحاكم والبيهقي عن أبي أمامة قال لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله" قال ابن حجر وسنده ضعيف.
قوله: "ورشه".
أقول: استدل على ذلك بما أخرجه الشافعي وسعيد بن منصور والبيهقي عن جعفر ابن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم الماء وهو مرسل وعن جابر عند البيهقي قال رش على قبر النبي صلى الله عليه وسلم الماء رشا فكان الذي رش على قبره بلال بن أبي رباح بدأ من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلي رجليه ولا يصح الاستدلال بهذا لوجهين الأول أنه لا حجة في فعل بلال الثاني أن في إسناده الواقدي والكلام فيه معروف وقد تقدم ذكر الرش في حديث عامر ابن ربيعة المذكور في القول الذي قبل هذا.
قوله: "وتربيعه".
أقول: قد اتفق أهل العلم على جواز التربيع والتسنيم وإنما اختلفوا في الأفضل فاستدل القائلون بأن التسنيم أفضل بما أخرجه البخاري في صحيحه ["3/198"،ن 199"] عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسما واستدل القائلون بالتربيع بما أخرجه أبو دأود عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قال قلت يا أمة بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطية مبطوحة ببطحاء العرصة وقد عرفت أن هذا فعل لبعض الصحابة ولكن حديث أبي الهياج الأسدي عن علي قال أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته أخرجه مسلم ["969"، وأبو دأود "3218"، والترمذي 1049"، والنسائي 2031"] ، يدل على أن التربيع أفضل لأن التسنيم بعض إشراف.
قوله: "ورفعه شبرا".
أقول: رفع القبر هو من الإشراف الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم فلا يباح منه إلا ما ورد الإذن به وقد أخرج أبو دأود في المراسيل عن صالح بن صالح قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم شبرا أو نحو شبر وأخرج أبو بكر الآجري في صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عثيم بن بسطام المديني قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع وقد قدمنا لك أن هذا إنما هو من فعل بعض الصحابة فلا تقوم به الحجة وقد ثبت النهي عن أن يبنى على القبور كما في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر.
قوله: "وكره ضد ذلك".
أقول: ما دل عليه دليل مما تقدم بدون ما يقتضي الحتم ولا كراهة الترك فليس تركه مكروها وغايته أنه خلاف الأولى وأما ما لم يدل عليه دليل فتركه أولى من فعله لأن فعله ابتداع.(1/223)
وأما ما ورد فيه النهي كرفع القبر فهو حرام لا كراهة تنزيه هكذا ينبغي أن يقال في أضداد هذه المذكورات.
قوله: "والإنافة بقبر غير فاضل".
أقول: هذا اعتزاز بما وقع من الناس لا سيما الملوك والأكابر من رفع قبورهم وجعل القباب عليها وهذا حرام بالأدلة الصحيحة الثابتة في الصحيح وغيره من طرق توجب العلم اليقين فمنها الأمر بتسوية القبور كما تقدم ومنها النهي عن البناء عليها كما تقدم أيضا ومنها النهي عن اتخاذ القبور مساجد ولعن فاعل ذلك وغير ذلك مما هو مبين في كتب السنة.
وبالجملة فما هذه أول شريعة صحيحة وسنة قائمة تركها الناس واستبدلوا بها غيرها ولكن هذه البدعة قد صارت وسيلة لضلال كثير من الناس لا سيما العوام فإنهم إذا رأوا القبر وعليه الأبنية الرفيعة والستور الغالية وانضم إلي ذلك إيقاد السرج عليه تسبب عن ذلك الاعتقاد في ذلك الميت ولا يزال الشيطان يرفعه من رتبة إلي رتبة حتى يناديه مع الله سبحانه ويطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل ولا يقدر عليه سواه فيقع في الشرك.
فليت شعري ما وجه تخصيص قبور الفضلاء بهذه الداهية الدهياء والمعصية الصماء العمياء فإنهم أحق من غيرهم باتباع السنة في قبورهم وترك ما حرمته الشريعة على الناس.
قوله: "وجمع جماعة إلا لتبرك وضرورة".
أقول: الثابت في هذه الشريعة ثبوتا قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل لكل ميت حفرة مستقلة وكان هذا معلوما لا ينكره أحد ووقع منه جمع جماعة في قتلى أحد للضرورة وتضييق الحادثة فليقتصر على الضرورة ويكون الجمع فيما عدا الضرورة خلاف الشريعة والكراهة اقل ما يتصف به.
وأما الجمع للتبرك فلم يرد في هذا شيء لأن الكلام في جمع جماعة من الأموات في حفرة واحدة لا في حفر متجأورة فليس ذلك مما نحن بصدده.
وأما ما ذكره من كراهة الفرش للقبر فلكون الواقع في زمن النبوة بمرأى ومسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وضع الميت على الأرض ففي فرش القبر مخالفة للسنة الثابتة مع ما في ذلك من كونه من إضاعة المال التي ثبت النهي عنها وما روي من أن بعض الصحابة وضع قطيفة حمراء في قبره صلى الله عليه وسلم فلا حجة في ذلك على أنه قد روى أنهم أخرجوها.
وأما كراهة التسقيف للقبر فلكونه خلاف الشريعة الثابتة المستمرة المستقرة من أنهم كانوا بعد وضع الميت في حفرته يهيلون عليه التراب حتى يستوي على الأرض وأيضا هذا التسقيف يصدق عليه أنه بناء على القبر وهو منهي عنه كما تقدم.
وأما كراهة إدخال الآجر فلم يرد بذلك دليل وهي مثل اللبن الذي كانوا يفعلونه في أيام النبوة وأصلب منه وهكذا إدخال الأحجار وجعلها على اللحد فلا وجه للقول بالكراهة.
قوله: "والزخرفة إلا رسم الاسم".(1/224)
أقول: الزخرفة حرام لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يجصص كما في صحيح مسلم ["970"] ، وغيره [أحمد "3/399"، أبو دأود "3225"، الترمذي "1052"، النسائي "2027"، ابن ماجة"1562"] ، وأما استثناء المصنف لرسم الاسم فمن نصب الرأي الفاسد في وجه الدليل الصحيح فقد ثبت عند الترمذي ["1052"] ، وغيره [ابن ماجة "1563"، أبو دأود "3226"، وقال صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يكتب على القبر وهكذا رواه النسائي بلفظ النهي عن أن يكتب على القبر قال الحاكم الكتابة على القبر وإن لم يذكرها مسلم فهي على شرطه.
قوله: "ولا ينبش لغصب قبر ولا كفن".
أقول: قد علم بالضرورة الدينية عصمة مال المسلم وأنه لا يخرج عن ملكه إلا بوجه مسوغ فمن زعم أن الدفن من مسوغات ذلك فعليه الدليل ولا دليل وقد تقدم أنه يشق بطنه لاستخراج ماله في نفسه لكون ذلك إضاعة مال فكيف لا ينبش للمال الذي اغتصبه وهو الكفن أو الأرض التي دفن فيها مع كونه إتلاف لمال محترم معصوم بعصمة الإسلام وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اغتصب شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين" [البخاري "2453"، مسلم "142/ 1612"] ، فكيف بمن اغتصب قبرا هو عدة أشبار وهكذا ينبش إذا ترك بغير غسل لأن الغسل واجب شرعي لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل هذا إذا كان يظن أن جسمه لم يتفسخ وأن غسله ممكن وهكذا التكفين لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل لأنه واجب شرعي لا يسقط إلا بمسقط شرعي.
وأما مجرد الاستقبال فلم ينتهض الدليل على وجوبه حتى ينبش لتركه.
وأما الصلاة فقد قدمنا ثبوت الصلاة على القبر بالأدلة الصحيحة وذلك يكفي ويسقط الواجب ويحصل به مطلوب الميت من الشفاعة.
وأما قوله: "بل لمتاع سقط" فصواب لما قدمنا.
ومن غرائب المصنف الفرق بين غصب القبر والكفن وبين المتاع الساقط في القبر مع كون الكل من أهلاك مال الغير وإضاعته مع اختصاص الأول بكونه غصبا.
قوله: "ومن مات في البحر وخشي تغيره" الخ
أقول: هذا صواب وليس في الإمكان غير ما قد كان وأما كونه لا يجوز ذلك إلا مع خشية التغير فلا وجه له ولا دليل عليه بل هو مصادم لأدلة تعجيل تجهيز الميت التي قدمنا ذكرها.
قوله: "وحرمة مقبرة المسلم والذمي من الثرى إلي الثريا".
أقول: مجرد الحرمة يدل عليها ما أخرجه أحمد ["5/83، 84، 224"، أبو دأود "3230"، والنسائي "4/96"، وابن ماجه "1568"] ، والحاكم وصححه من حديث بشر بن الخصاصية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يمشي في نعلين بين القبور فقال: "يا صاحب السبتيتين ألقهما" فإذا كان المشي على المقبرة بالنعال ممنوعا فازدراعها وتغيير رسمها وإذهاب قرارها ممنوع بفحوى الخطاب ولكن إلحاق مقبرة أهل الذمة بالمسلمين إن كان من جهة كونهم في أمان المسلمين(1/225)
بتسليم الجزية إليهم فذلك حكم خاص بالأحياء وأما الأموات فقد خرجوا عن العهد وصاروا إلي النار فكيف تكون حرمة مقبرة الكافر الذي هو من أهل النار بالاتفاق كمقبرة المسلم وإن كان الدليل دل على ذلك فما هو؟.
وأما ما ذكره تفريعا على هذه المسألة من لزوم الأجرة إلخ فهو مجرد رأي لا دليل عليه والأصل احترام مال المسلم فلا يؤخذ منها إلا بمسوغ شرعي وليس هذا بمسوغ شرعي بل قد اثم بما فعله وغاية ما يجب عليه إصلاح ما أفسده بحسب الإمكان.
قوله: "ويكره اقتعاد القبر ووطؤه ونحوهما".
أقول: أما الاقتعاد فلحديث أبي هريرة عند مسلم ["971"، وأحمد "2/311، 389، 444"، وأبي دأود "3228"، والنسائي "2044"، وابن ماجه "1566" قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده خير له من أن يجلس على قبر".
وأخرج أحمد من حديث عمرو بن حزم قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر فقال: "لا تؤذ صاحب هذا القبر". قال ابن حجر وإسناده صحيح.
وأما وطء القبر فلما أخرجه مسلم "971"، وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "لأن أطأ على جمرة أحب إلي من أن أطأ على قبر"، ولفظ الطبراني "أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم".
وأما قبر الحربي فلا حرمة له كما ذكر المصنف لما ثبت في كتب السير والحديث [البخاري "428"، مسلم "9/524"، ابن ماجة "742"، أبو دأود "453"، النسائي "702"، أحمد "3/211، 212"، الترمذي "350"] : "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسجده على مقبرة كانت للمشركين بعد أن نبش قبورهم" وهم وإن ماتوا قبل البعثة المحمدية فقد كانوا مخاطبين بإجابة من تقدم من الأنبياء عليهم السلام.
[فصل
وندبت التعزية لكل بما يليق به وهي بعد الدفن أفضل وتكرار الحضور مع أهل المسلم المسلمين] .
قوله: فصل: "وندب التعزية لكل بما يليق به".
أقول: يدل على ذلك حديث عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة"، أخرجه ابن ماجه "1601"] ، وكل رجاله ثقات إلا قيسا ابا عمارة ففيه لين ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عزى مصابا فله مثل أجره" وأعل بتفرد علي بن عاصم بوصله وقد وثقه(1/226)
جماعة واثنى عليه كثير من الحفاظ وله شواهد تقويه وينبغي أن تكون التعزية بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "5655"، مسلم "6/224"] ، وغيرهما [أحمد "5/204، 206"، النسائي "4/2، 22"] ، من حديث أسامة بن زيد قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا لها في الموت فقال للرسول: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب" وهذا لا يقتصر على السبب بل كل شخص يصلح أن يقال له وفيه ذلك ولا وجه لقوله: "وهي بعد الدفن أفضل" بل بنبغي التعزية عند الموت أو عند حضور علاماته أو بعد الموت لأن التعزية هي التسلية.
وأما ما ذكره من تكرر الحضور مع أهل الميت فلم يرد في ذلك دليل يدل عليه بل أخرج أحمد ["8/94"، وابن ماجه "1612"] ، عن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا نعد الاجتماع إلي أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة وإسناده صحيح ولكنه ورد في صنعة الطعام ما أخرجه أحمد ["1/205"،وأبوا دأود "3132"،والترمذي 998"، وابن ماجه "1610"] ، عن عبد الله بن جعفر قال لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفر طعأما فقد أتاهم ما يشغلهم" وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن وأخرجه أيضا أحمد ["8/93" وابن ماجه "1611:"] ، والطبراني من حديث اسماء بنت عميس وهي أم عبد الله بن جعفر.(1/227)
كتاب الزكاة
مدخل
...
كتاب الزكاة
[فصل
تجب في الذهب والفضة والجواهر واللالئ والدر والياقوت والزمرد والسوائم الثلاث وما انبتت الأرض والعسل من ملك ولو وقفا أو وصية أو بيت مال لا فيما عداها الا لتجارة أو استغلال] .
قوله: فصل: "تجب في الذهب والفضة" الخ.
أقول: أما وجوب الزكاة في الذهب والفضة فلا شك في ذلك للأدلة الصحيحة وسيأتي الكلام عليها في باب زكاة الذهب والفضة.
وأما وجوبها في الجواهر المذكورة فليس على ذلك دليل ولعله يأتي تحقيق الكلام ان شاء الله عند ذكرها في باب زكاة الذهب والفضة.
وهكذا يأتي تفصيل الكلام على زكاة السوائم وأما انبتت الأرض والغسل.(1/227)
وأما وجوب الزكاة في الوقف والوصية وبيت المال فليس على ذلك دليل الا عمومات لا تنطبق دلالتها على محل النزاع.
وهكذا يأتي الكلام على زكاة التجارة والمستغلات وإنما أراد المصنف بعقد هذا الفصل حصر ما تجب فيه الزكاة.
[فصل
وإنما تلزم مسلما كمل النصاب في ملكه طرفي الحول متمكنا أو مرجوا وان نقص بينهما ما لم ينقطع وحول الفرع حول أصله وحول البدل حول مبدله ان اتفقا في الصفة وللزيادة حول جنسها وما تضم اليه قيل ويعتبر بحول الميت ونصابه ما لم يقسم المال أو يكون مثليا أو يتحد الوارث.
وتضيق بإمكان الأداء فيضمن بعده وهي قبله كالوجيعة قبل طلبها.
وإنما تجزئ بالنية من المالك المرشد وولي غيره أو الإمام أو المصدق حيث أجبرا أو أخذا من نحو وديع مقارنة لتسليم أو تمليك فلا تتغير بعد وان غير أو متقدمة تتغير قبل التسليم.
وتصح مشروطة فلا يسقط بها المتيقن ولا يردها الفقير مع اللإشكال] .
قوله: فصل: "وإنما تلزم مسلما".
أقول: جعل الإسلام شرطا للزوم الزكاة صواب ولا ينافيه القول بأن الكفار مخاطبون بالشرعيات لأن معنى خطابهم بها عند من قال به هو أنهم يعذبون بترك ما يجب فعله وفعل ما يجب تركه لأن ذلك مطلوب منهم في حال كفرهم ولم يذكر المصنف ها هنا اشتراط التكليف لان الزكاة من الواجبات المتعلقة بالأموال سواء كان المالك مكلفا أو غير مكلف ولكن لا يخفى عليك ان غير المكلف مرفوع عنه قلم التكليف فلا بد من دليل يدل على استحلال جزء من ماله وهو الزكاة ولم يرد في ذلك إلا عمومات يصلح ما ورد في رفع القلم عن غير المكلف لتخصيصها ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في خصوص ذلك يصلح للتمسك به ولا حجة في فعل بعض الصحابة والأموال معصومة بعصمة الإسلام فلا يحل استباحة شيء منها بمحرد مالا تقوم به الحجة لا سيما أموال الأيتام التي ورد في التشديد في أمرها ما ورد.
وأما حديث: "من ولي يتيما فليتجر له ولا يتركه تأكله الصدقة" فأخرجه الترمذي ["641"] والدارقطني والبيهقي وفي إسناده المثنى بن الصباح وهو ضعيف وقال أحمد بن حنبل ليس هذا الحديث بصحيح وروى بأسانيد أخرى فيها متروكون وضعفاء.(1/228)
وهكذا حديث: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة"، لا تقوم به الحجة فإنه رواه الشافعي مرسلا وروى من طرق لا تصح.
وأما وجوب الفطرة على غير المكلف فليس ذلك من تكليف غير المكلف بل من تكليف ولله كما صرحت به الأدلة وأنه يخرجها من مال نفسه عنه وعمن ينفقه.
وأما ما ورد في الزكاة من أنها تؤخذ من الأغنياء وترد في الفقراء فهذا متوجه إلي المكلفين كغيره من التكاليف ودعوى أن غير المكلفين داخلون في هذا مصادرة على المطلوب لأنه استدلال بمحل النزاع.
قوله: "كمل النصاب في ملكه طرفي الحول"
أقول: قد دلت الأدلة في كل نوع من الأنواع التي تجب فيها الزكاة على إن له نصابا معلوما يتعلق الوجوب به ويسقط الوجوب إن لم يكمل فمن زعم انه يثبت الوجوب في دون النصاب من كل نوع فقد خالف الأدلة الصحيحة فإن تمسك بعمومات أو مطلقات فقد ترك العمل بالمخصصات والمقيدات وذلك تقصير في الاجتهاد وترك لما يجب العمل به وإعمال لبعض الأدلة وإهمال للبعض الآخر.
وأما ما ورد في الشريكين فسياتي أنه صلى الله عليه وسلم جعل اجتماع الغنم في المسرح والمراح بمنزلة الاجتماع في الملك.
وأما قوله: "طرفي الحول" فذلك فيما كان حول الحول شرطا له لأما كان المعتبر فيه حصول نصاب منه عند حصوله كما أخرجت الأرض.
ثم الظاهر انه لا بد من استمرار كمال النصاب في جميع الحول من كل نوع من الأنواع التي اعتبر فيها الحول فإذا نقص المال عن النصاب في بعض الحول ثم كمل بعد ذلك استأنف التحويل من عند كماله إذا لم يكن النقص لقصد التحيل لعدم وجوب الزكاة.
وظاهر ما ورد في اعتبار الحول انه لا بد ان يكون النصاب كاملا من أوله إلي آخره كما في حديث على عند [أحمد "1/148"، وأبي دأود "1573"، والبيهقي: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول".
وحديث ابن عمر عند أحمد وأبي دأود والترمذي بلفظ: "من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول".
وحديث علي أيضا عند أبي دأود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار" وقد نقل عن البخاري تصحيحه وحسنه ابن حجر.
وقد ورد اعتبار الحول من حديث عائشة عند ابن ماجه [1792"] ، والدارقطني والبيهقي والعقيلي وفي إسناده حارثة بن أبي الرجال وفيه ضعف ومن حديث أنس عند الدارقطني وفيه(1/229)
حسان بن سياه وهو ضعيف ومن حديث ابن عمر أيضا عند الدارقطني والبيهقي وفيه إسماعيل بن عياش. ومجموع هذه الأحاديث تقوم به الحجة في اعتبار الحول واعتبار ان يكون النصاب كاملا من أول الحول إلي آخره ولا يشترط أن يكون في يده بل إذا كان في يد غيره وديعة أو نحوها وكان متمكنا من اخذه متى أراده فهو في حكم الموجود لديه وهكذا إذا كان دينا على الغير وكان يتمكن منه متى أراد فهو في حكم الموجود لديه لا إذا كان لا يتمكن منه متى أراد فهو في حكم المعدوم فيستأنف التحويل له من عند قبضه ومثله المال المأيوس من رجوعه إذا رجع.
قوله: "وحول الفرع حول أصله".
أقول: استدلوا على هذا بما أخرجه مالك في الموطأ والشافعي عن سفيان بن عبد الله الثقفي ان عمر بن الخطاب قال له تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها ولكنه قد ثبت في المرفوع ما يدل على عدم الاعتبار بالصغار فأخرج أحمد وأبو دأود والنسائي والدارقطني والبيهقي من حديث سويد بن غفلة قال اتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول ان في عهدي انا لا نأخذ من راضع لبن وهذا يدل على ان الزكاة لا تؤخذ من راضع لبن.
وظاهره عدم الفرق بين ان يكون منفردا أو مع الامهات واحاديث اعتبار الحول تدل على انه لا بد من ان يحول على الفرع وأما قوله وحول البدل حول مبدله فظاهر أحاديث الحول انه لا بد من ان يحول على البدل الحول لانه مال مستفاد وان كان بدلا عن مال اصلى فلا تأثير لذلك وهكذا لا يكون للزيادة حول جنسها بل لا بد ان يكون نصابا وحال عليها الحول فمن كان له نصاب ثم استفاد زيادة عليه فلا يجب في تلك الزيادة شيء حتى تكمل نصابا فإذا كملت نصابا فلا بد ان يحول عليها الحول عملا بظاهر الادلة وإذا لم تضم الزيادة إلي جنسها قعدم ضمها إلي غير جنسها بالأولى فلا وجه لقوله: "وما تضم اليه".
وأبعد من هذا كله قول من قال إنه يعتبر لحول الميت ونصابه فإن هذا تكليف يخالف موارد الشريعة لان الميت مات ولم تجب عليه زكاة والحي صار اليه المال ودخل في ملكه بعد ان كان في ملك غيره فكيف يخاطب بزكاة مالم يستقر في ملكه الا بعض الحول.
قوله: "وتضيق بإمكان الأداء".
أقول: المراد انه يتضيق الوجوب على من عليه الزكاة إذا كان الوجوب قد ثبت عليه بكمال النصاب وحول الحول فيما يعتبر فيه الحول بإمكان الأداء وهو ان لايحول بينه وبين المال حائل ويحضر المصرف فإذا لم يمكن الوصول إلي المال ولاحصور المصرف فتكليف المزكي بإخراج الزكاة والحال هكذا من تكليف مالا يطاق وأما مع إمكان الأداء فلم يبق للمزكي عذر في التأخير فإن فات المال ضمنه وكون الواجبات على الفور هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة خصوصوا الزكاة التي ثبت فيها انه يقاتل من هي عليه حتى يؤديها وان عصمة ماله ودمه متوقفة(1/230)
على اخراجها وثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فأنا آخذها وشطرا من ماله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالي" [أحمد"5/422"، أبو دأود "1575"، النسائي "2444"] ، وأما كونها تجزئ بالنية فلكو نها عمل من الاعمال التي يقول فيها صلى الله عليه وسلم: "إنما الاعمال بالنيات" ويقول فيها: "لا عمل إلا بنية" بل هي ركن من أركان الإسلام وضرورية من الضروريات الدينية ما ذكره المصنف بعد هذا إلي آخر الفصل فهو غني عن البيان.
[فصل
ولا تسقط ونحوها بالردة ان لم يسلم ولا بالموت أو الدين لادمي أو لله تعالي وتجب في العين فتمنع الزكاة وقدتجب زكاتان من مال ومالك وحول واحد] .
قوله: فصل: "ولا تسقط ونحوها بالردة"
أقول: الزكاة قد لزمته في حال إسلامه فخروجه من الإسلام أو موته لا يسقط هذا الواجب الذي قد وجب عليه الا بدليل ولا دليل وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "فدين الله احق ان يقضي"، [البخاري "1953"، مسلم "154/1148"] ، والزكاة من دين الله نعم إذا رجع إلي الإسلام كان حديث: "الإسلام يجب ما قبله" دليلا على سقوطها عليه لان ظاهره عدم الفرق بين ما كان في أيام كفره أو ايام إسلامه وتقييده بما كان في أيام الكفر يحتاج إلي دليل.
وأما حديث: "أسلمت على ما اسلفت من خير" [البخاري "1436"، مسلم "195، 123"، أحمد "3/402"] ، فهو في الطاعات التي يفعلها الكافرفي حال كفره ثم يسلم بعد ذلك وهكذا لا تسقط الزكاة بدين على المزكي سواء كان من ديون الله سبحانه أو من ديون بني آدم لان وجوب الزكاة لا يرتفع بوجوب شيء آخر الا بدليل.
قوله: "وتجب في العين فتمنع الزكاة".
أقول: الثابت في أيام النبوة ان الزكاة كانت تؤخذ من عين المال الذي تجب فيه وذلك معلوم لا شك فيه وفي أقواله صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلي ذلك ويدل عليه كقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلي اليمن: "خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر"، أخرجه أبو دأود ["1599"، وابن ماجه "1814"، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين.
وإذا عرفت هذا صار مقدار الزكاة في حكم الخارج عن ملك المزكي فلا يكمل به النصاب ولا يلزم فيه الزكاة.
وأما قوله: "وقد تجب زكاتان من مال ومالك وحول واحد" فذلك غير صحيح وبيانه انهم مثلوا لذلك بمن بذر الارض بحب للتجارة قالوا فإنه عندالحصاد يلزمه زكاتان زكاة التجارة(1/231)
وزكاة الحصاد ولا يخفاك ان ذلك الحب الذي كان للتجارة ان بذر به الارض بعد ان حال عليه الحول فقد وجبت الزكاة بحول الحول فإذا بذر به في الارض لم يبق للتجارة ولا وجبت زكاة الحصاد فيه بل في الخارج من الارض بعد ان صار ذلك الحب مستهلكا لا وجود له فزكاة التجارة وجبت في مال وزكاة الحصاد وجبت في مال آخر ولم تجب في مال واحد فهذه المسألة من اصلها مبنية على غير الصواب.(1/232)
[باب في نصاب الذهب والفضة
وفي نصاب الذهب والفضة ربع العشر وهو عشرون مثقالا ومائتا درهم كملا كيف كانا غيرمغشوشين ولو رديئين المثقال ستون شعيرة معتادة في الناحية والدرهم اثنتنان واربعون لافيما دونه وان قوم بنصاب الاخر الا على الصيرفي] .
قوله: باب: "وفي نصاب الذهب والفضة ربع العشر".
أقول: أما وجوب ربع العشر في نصاب الذهب الفضة المضروبين فقد دلت على ذلك الادلة الصحيحة وهو مجمع عليه وأما كون نصاب الفضة مائتي درهم فيدل على ذلك حديث أبي سعيد عند الشيخين [البخاري "1447"، مسلم "979"] ، وغيرهما [أبو دأود "1558"، أحمد "3/86"، 3/6"] ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"، وأخرجه أيضا مسلم ["980"، النسائي "5/36"] ، من حديث جابر.
قالوا ومقدار الأوقية في هذا الحديث اربعون درهما فهو موافق لما أخرجه أحمد ["1572"، وأبو دأود "8/238"، والترمذي "620"، من حديث على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهما وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم".
وأما كون نصاب الذهب عشرين مثقالا فالدليل على ذلك ما أخرجه أبو دأود من حديث علي عنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى تكون لك عشرون دينارا فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار".
وقد قيل ان المثقال هو قدر الدينار ولهذا جعل المصنف نصاب الذهب عشرين مثقالا.
قوله: "كيف كانا".
أقول: يريد انه لا فرق بين ما كان مضروبا من الذهب والفضة وما كان غير مضروب كالحلية وقداختلف في وجوب الزكاة في الحلية واستدل الموجبون لها فيها بما أخرجه أبو دأود ["1563"، والترمذي "637" والنسائي "5/38"] ، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن(1/232)
جده ان امرأتين اتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ايديهما سواران من ذهب فقال لهما: "أتعطيان زكاة هذا؟ " قالا: لا, قال: "أيسركما أن يسوركما الله تعالي بهما يوم القيامة سوارين من نار" لكنه قال الترمذي لا يصح في الباب شيء.
وأخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "ليس في أقل من خمس ذود صدقة ولا في أقل من عشرين مثقالا شيء ولا في اقل من مائتي درهم شيء" وإسناده ضعيف.
ولفظ المثقال يطلق على المضروب من الذهب وعلى غير المضروب.
وأخرج أبو دأود ["1564"، والحاكم عن ام سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ قال: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكى فليس بكنز" فهذا فيه إشارة إلي تزكية الحلية من الذهب.
وأخرج أحمد ["6/460"] ، عن اسماء بنت يزيد قالت دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أسأور من ذهب فقال لنا: "أتعطيان زكاته؟ " فقلنا: لا قال: "أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار أديا زكاته".
وأخرج البيهقي والحاكم عن عائشة انها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدها فتخات من ورق فقال: "ما هذا يا عائشة؟ " فقالت: صغتهن أتزين لك بهن يا سول الله فقال: "أتؤدين زكاتهن" قالت: لا قال: "هن حسبك من النار" قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين.
ولا يصح استدلال من استدل على وجوب الزكاة في الحلية بما ورد من ذكر الزكاة في الورق والزكاة في الرقة في الاحاديث لانه قد ثبت في كتب اللغة الصحاح والقاموس وغيرهما ان الورق والرقة اسم للدراهم المضروبة فلا يصح الاستدلال بهذين اللفظين على وجوب الزكاة في الحلية بل هما يدلان بمفهومهما على عدم وجوب الزكاة في الحلية بما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" وأخرجه مسلم أيضا من حديث جابر ووجه عدم صحة الاستدلال بهذا انه قد بينه بقوله من الورق والورق هي الدراهم المضروبة كما عرفت فلا تدخل في ذلك الحلية بل مفهوم الحديثين يدل على عدم وجوبها في الحلية.
وإذا عرفت هذا فقد قدمنا ان حديث السوارين قد قال الترمذي فيه أنه لم يصح في الباب شيء والحديث الذي بعده عن عمرو بن شعيب ضعيف كما تقدم فلم يبق في الباب ما يصلح للاحتجاج به ولا سيما مع ما ورد من انه صلى الله عليه وسلم لما بعث معإذا إلي اليمن امره بأن ياخذ من كل أربعين دينارا دينارا وقد كان للصحابة وأهاليهم من الحلية ما هو معروف ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالزكاة في ذلك بل كان معاذ يعظ النساء ويرشدهن إلي الصدقة أي صدقة النفل فيلقين في(1/233)
ثوب بلال من حليهن كما هو ثابت في الصحيح [اليخاري "964"، "1431"، "1431"، مسلم ط884"، أحمد "1/280"، أبو دأود "1141"، "1143"، "1144"، ابن ماجة "1273"، ولو كان عليهن في ذلك زكاة لأخبرهن لأنه فعل ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وكان أمرهن بما هو واجب عليهن أقدم من أمرهن بما ليس بواجب عليهن وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" [البخاري "304، 1462"، 1951"، 2658"، مسلم "80"، النسائي "3/187"، ابن ماجة "1288"] .
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال لا نعلم أحدا من الخلق قال في الحلى زكاة وأخرج مالك أيضا في الموطأ عن ابن عمر انه كان يحلى بناته وجواريه بالذهب فلا يخرج منه الزكاة.
وأخرج مالك أيضا في الموطأ والشافعي عن عائشة أنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلى فلا تخرج منه الزكاة.
وروى البيهقي والدارقطني عن جابر قال ليس في الحلى زكاة وأخرج الدارقطني والبيهقي أيضا عن أنس واسماء بنت أبي بكر نحوه.
وأما ما روى عن ابن عباس من إيجاب الزكاة في الحلى فقال الشافعي لا أدري أثبت عنه أم لا.
وأما قوله: "غير مغشوشين" فصحيح لان غش الذهب والفضة بما ليس بذهب ولا فضة لا تتعلق به الزكاة ولا يجب فيها فيسقط قدر الغش ويزكى الخالص من الذهب والفضة سواء كان جنس الذهب والفضة جيدين أو رديئين لصدق اسم الذهب على الذهب الرديء وصدق اسم الفضة على الفضة الرديئة.
قوله: "المثقال ستون شعيرة" الخ.
أقول: اعلم انه إن ثبت في المثقال والدينار والدرهم ونحوها حقيقة شرعية كان الواجب الرجوع اليها والتفسير بها وان لم يثبت وجب الرجوع في تقدير هذه الاشياء إلي ما ذكره أهل اللغة ولا يصح تفسيرها بالاصطلاح الحادث لا سيما مع اضطرابها واختلافها وفي حديث: "الميزان ميزان أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة" ما يرشد إلي الرجوع اليهما في هذين الامرين والاعتبار بما كان الميزان عليه عند أهل مكة وما كان المكيال عليه عند أهل المدينة في وقت النبوة وقد أخرج هذا الحديث أبو دأود ["3340"] والنسائي ["4594"] والبزار من رواية طأووس عن ابن عمر وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وابن دقيق العيد.
فالاعتبار في الوزن الذي يتلعق به الزكاة بوزن أهل مكة وكذلك الاعتبار في الكيل الذي يتعلق به الزكاة بكيل أهل المدينة عملا بهذا الحديث وهو مقدم علىما في كتب اللغة وغيرها وقد أوضح أهل العلم مقدار الكيل والوزن في مكة والمدينة في ذلك الوقت فلا نطول بذكره.
وأما قوله: "لا فيما دونه وان قوم بنصاب الاخر" فهو صواب لان الزكاة متعلقة بكل(1/234)
جنس عينا فلا بد ان تبلغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة ولااعتبار بكون دون النصاب منه يبلغ نصابا من الجنس الاخر ولا فرق في هذين بين الصيرفي وغيره فلا وجه للاستثناء به.
[فصل
ويجب تكميل الجنس بالاخر ولو مصنوعا وبالمقوم غير المعشر والضم بالتقويم بالانفع ولا يخرج رديء عن جيد من جنسه ولوبا لصنعة ويجوز العكس ما لم يقتض الربا وإخراج جنس عن جنس تقويما ومن استوفى ينا مرجوا أو أبرئ زكاه لما مضى ولو عوض مالا يزكى الا عوض حب ونحوه ليس للتجارة] .
قوله: فصل: "ويجب تكميل الجنس بالاخر"
أقول: ليس على هذا اثارة من علم قط ولم يوجب الشارع فيهما الزكاة الا بشرط ان يكون كل واحد منهما نصابا حال عليه الحول والاتفاق كائن انهما جنسان مختلفان ولهذا لم يحرم التفاضل في بيع احدهما بالاخر ولو كانا جنسا واحدا لكان التفاضل حراما.
وأما استدلال من استدل بحديث: "في الرقة ربع العشر" [البخاري "1454" أبز دأود"1567"، النسائي "2447"] ، زاعما انها تصدق على الذهب والفضة فقد جاء بما ليس في عرف الشرع ولالغة العرب ولا في اصطلاح أهل الاصطلاح وقد قدمنا بيان ذلك.
وإذا تقرر لك عدم صحة هذا التكميل عرفت به عدم صحة قوله ولو مصنوعا وبالمقوم غير المعشروالضم بالتقويم بالانفع.
قوله: "ولا يجزئ رديء عن جيد من جنسه"
أقول: هذا صواب لتعلق الزكاة بالعين ولما ورد من النهي عن نحو هذا بقوله تعالي: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، والاعتبار بعموم اللفظ.
وأما العكس وهو اخراج الجيد عن الرديء فقد فعل المزكي خيرا وتيمم الطيب فأخرجه عن الخبيث وليس هذا من الربا في شيء.
وأما قوله: "ويجوز إخراج جنس عن جنس تقويما" فهو مبني على جواز اخراج القيمة في الزكاة وقد قدمنا الكلام على هذا.
قوله: "ومن استوفى دينا مرجوا أو ابرئ زكاة لما مضى"
أقول: قد قدمنا ان الدين المرجو الذي يتمكن صاحبه منه متى شاء في حكم الموجود عنده إذا كان نصابا على انفراده أو مع غيره مما يملكه المزكي من جنسه وحال عليه الحول.
وأما قوله: "ولو عوض مالا يزكى" فغير مسلم الا ان يحصل التراضي على المعأوضة(1/235)
حتى كان الثابت في الذمة هو النقد من الذهب والفضة فإنه عند ذلك يكون له حكم ما تراضيا عليه من النقد ويبتدئ التحويل له من وقت التراضي من غير فرق بين ان يكون المعوض حبا أو غيره لتجارة أو لغير تجارة.
[فصل
وما قيمته ذلك من الجواهر وأموال التجارة والمستغلات طرفي الحول ففيهن ما فيه من العين أو القيمة حال الصرف ويجب التقويم بما تجب معه والانفع] .
قوله: فصل: "وما قيمته ذلك من الجواهر"
أقول: ليس على وجوب الزكاة في الجواهر كاللؤلؤ والياقوت والزمرد وكل حجر نفيس اثارة من علم قط وأما الاستدلال بمثل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ، فالمراد على تسليم تنأوله للزكاة الاخذ من الأشياء التي وردا الشرع بأن فيها زكاة والا لزم ان يأخذ من كل مال ولو غير زكوى واللازم باطل والملزوم مثله.
ثم لا يخفاك ان الآية في سياق توبة التائبين عن التخلف في غزوة تبوك وليس المأخوذ منهم الا صدقة النففل لا الزكاة بلا خلاف.
قوله: "واموال التجارة".
أقول: اشف ما استدل به القائل بوجوب الزكاة فيها حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته" بالزاي أخرجه الدارقطني عنه من طريقين.
قال ابن حجر وإسناده غير صحيح مداره على موسى بن عبيدة الربذي وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج عن عمران بن أبي انيس عن مالك بن أوس عن أبي ذر وهو معلول لان ابن جريج رواه عن عمران انه بلغه عنه ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه وقال سألت البخاري عنه فقال لم يسمعه ابن جريج من عمران وله طريق رابعة رواها الدارقطني أيضا والحاكم من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام عن عمران قال وهذا إسناد لابأس به انتهى.
ولا يخفاك انها لا تقوم الحجة بمثل هذا الحديث وان زعم من زعم ان الحاكم صححه فليس ذلك بمتوجه على ان محل الحجة هو قوله: "وفي البز صدقته" وقد حكى ابن حجر عن ابن دقيق العيد انه قال الذي رأيته في نسخة من المستدرك في هذا الحديث البر بضم الباء الموحدة وبالراء المهملة قال ابن حجر والداراقطني رواه بالزاي لكن طريقه ضعيفة.
وقد روى البيهقي في سننه حديث أبي ذر هذا وفيه المقال المتقدم وأخرجه من حديث(1/236)
سمرة بن جندب بلفظ: "أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بأن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع" وفي إسناده مجاهيل.
والحاصل انه ليس في المقام ما تقوم به الحجة وان كان مذهب الجمهور كما حكاه البيهقي في سننه فإنه قال إنه قول عامة أهل العلم والدين.
قوله: "والمستغلات".
أقول: هذه مسألة لم تطن على اذن الزمن ولا سمع بها أهل القرن الأول الذين هم خير القرون ولا القرن الذي يليه ثم الذي يليه وإنما هي من الحوادث اليمنية والمسائل التي لم يسمع بها أهل المذاهب الإسلامية على اختلاف اقوالهم وتباعد اقطارهم ولا توجد عليها اثارة من علم لا من كتاب ولا سنة ولا قياس وقد عرفناك ان اموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل اخذها الا بحقها والا كان ذلك من أكل اموال الناس بالباطل وهذا المقدار يكفيك في هذه المسألة.
[فصل
وإنما يصير المال للتجارة بنيتها عندابتداء ملكه بالاختيار وللاستغلال أو الاكراء بالنية ولو مقيدة الانتهاء فيهما فتحول منه ويخرج بالاضراب غير مقيد ولا شيء في مؤنهما وما جعل خياره حولا فعلى من استقر له الملك وما رد برؤية أو حكم مطلقا أو عيب أو فساد قبل القبض فعلى البائع] .
قوله: فصل: "وتصير للتجارة بنيتها" الخ.
أقول: هذا الفصل متفرع عن وجوب الزكاة في أموال التجارة والمستغلات وقد عرفناك ما هو الحق في هذه المسائل فلا تشتغل بفرع لم يصح اصله.
وأما قوله: "وما جعل خياره حولا فعلى من استقر له الملك"، فلا يخفاك ان ما جعل فيه الخيار إذا كان مما تجب فيه الزكاة فلا حكم لما مضى قبل الاستقرار للملك لانه ملك متزلزل غير مستقر فإذا استقر كان ابتداء التحويل من وقت الاستقرار وما ما رد برؤية أو عيب قبل القبض للمبيع فهو لم يخرج عن ملك البائع خروجا صحيحا لعدم القبض مع تعقب الرد بموجب للرد ولا فرق بين ان يكون الرد بحكم أو بغير حكم فلا يستأنف البائع التحويل وأما إذا كان بعدالقبض فهو تجدد ملك للبائع فيستأنف التحويل سواء كان الرد بحكم أو بغير حكم.
هذا هو الاقرب إلي موافقة القواعد الشرعية.(1/237)
باب زكاة الإبل
[فصل
ولا شيء فيما دون خمس من الإبل وفيها جذع ضأن أو ثني معز مهما تكرر حولها ثم كذلك في كل خمس إلي خمس وعشرين وفيها ذات حول إلي ست وثلاثين وفيها ذات حولين إلي ست وأربعين وفيها ذات ثلاثة إلي إحدى وستين وفيه ذات اربعة إلي ست وسبعين وفيها ذاتا حولين إلي إحدى وتسعين وفيها ذاتا ثلاثة إلي مائة وعشرين ثم تستأنف ولا يجزء الذكر عن الانثى الا لعدمها أو عدمهما في الملك فابن حولين عن بنت حول ونحوه] .
قوله: فصل: "ولا شيء فيما دون خمس من الإبل"
أقول: هذا الذي ذكره إلي قوله: "ثم تستأنف" هو في الحديث الصحيح الثابت في البخاري ["1454"] ، وغيره [أبو دأود "1567"، النسائي "2447"، ان أبا بكر كتب لهم ان هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين فيما دون خمس وعشرين من الإبل في كل خمس ذود شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلي خمس وثلاثين فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون إلي خمس واربعين فإذا بلغت ستا واربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلي ستين فإذا بلغت واحدة وستين ففيها جذعة إلي خمس وسبعين فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلي تسعين فإذا بلغت واحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلي عشرين ومائة فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل اربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة.
وظاهر هذا ان عدد الإبل إذا بلغ إلي هذا القدر كان في كل اربعين من مجموع الإبل التي بلغت هذا المقدار بنت لبون وفي كل خمسين منها حقة.
ومثله ما في حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد ["8/207"، أبو دأود "1568"، والترمذي "621"] ، وحسنه ولفظه إلي عشرين ومائة فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة وفي كل اربعين ابنة لبون.
ويؤيد هذا ما سيأتي في زكاة الغنم من ان الفريضة تستأنف على مجموع العدد وإلي هذا ذهب الجمهور وهو الحق.
وفي الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات الموجود عند آل عمرو بن حزم التصريح بما ذهب اليه الجمهور فان فيه: "فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون" هكذا أخرجه الدارقطني بهذا اللفظ من طريق محمد بن عبد الرحمن ان عمر بن عبد العزيز حين(1/238)
استخلف ارسل إلي المدينة يلتمس عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات فوجد عند آل عمرو بن حزم فذكره.
وأخرج مثل هذا أبو دأود ["1570"] ، من طريق الزهري عن سالم مرسلا بلفظ فإذا كانت احدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون.
قوله: "ولا يجزيء الذكر عن الانثى الا لعدمها" الخ.
أقول: يدل على هذا ما تقدم من حديث أنس من قوله فان لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر.
وفي لفظ منه ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده الا ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء.(1/239)
[باب ولا شيء فيما دون ثلاثين من البقر
وفيها ذو حول ذكر أو أنثى إلي أربعين وفيها ذات حولين قيل كذلك إلي ستين وفيها تبيعان إلي سبعين وفيها تبيع ومسنة ومتى وجبت تبع ومسان فالمسان] .
قوله: باب: "ولا شيء فيما دون ثلاثين من البقر"
أقول: أما كونه لا شيء فيما دون الثلاثين فلما عرفناك غير مرة ان اموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل شيء منها إلا بدليل يصلح للنقل عن هذه العصمة المعلومة بالضرورة الدينية وأما كونه تجب في الثلاثين ما ذكره المصنف فلما أخرجه أحمد ["5/230"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1576"، الترمذي "623"، النسائي "5/25، 26"] ، وابن حبان وصححه الدارقطني والحاكم وصححه أيضا من حديث معاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة فهذا الحديث فيه التصريح بما يجب من الزكاة في الثلاثين والاربعين وهو يقتضي أنها إذا بلغت سنين كان فيها تبيعان لانه امره ان يأخذ من كل ثلاثين تبيعا إلي أربعين وياخذ مسنة ثم تكون الفريضة مع الزيادة هكذا.
وفي رواية لأحمد ["5/240"] ، والبزار من حديث معاذ أن أهل اليمن عرضوا عليه ان يأخذ ما بين الاربعين إلي الخمسين وما بين الستين والسبعين وما بين الثمانين والتسعين قال: فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن لا آخذ فيما دون ذلك وزعم أن الأوقاص لا شيء فيها.
وأما قول المصنف: ومتى وجب تبع ومسان فالمسان فلا وجه لذلك ولم يدل عليه(1/239)
دليل بل الخيار للمالك إن شاء أن يعطى من النوعين فعل وان شاء أن يعطى من أحدهما فعل والكل سنة ثابتة وشريعة قائمة فإن طلب ما هو الانفع للفقراء فذلك أمر مفوض اليه والاعمال بالنيات.(1/240)
[باب ولا شيء فيما دون أربعين من الغنم
وفيها جذع ضأن أو ثنى معز إلي مائة واحدى وعشرين وفيها اثنتنان إلي إحدى ومائتين وفيها ثلاث إلي اربعمائة وفيها اربع ثم في كل مائة شاة.
والعبرة بالام في الزكاة ونحوها وبسن الأضحية وبالأب في النسب] .
قوله: باب: "ولا شيء فيما دون اربعين من الغنم".
أقول: أما عدم الوجوب فيما دون الاربعين فلما قدمنا في الباب الذي قبل هذا ولما ثبت في حديث أنس بلفظ فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من اربعين شاة واحدة فليس فيها شيء الا ان يشاء ربها.
وأما ما ذكره المصنف من الواجب في الاربعين وما بعدها فهو الذي في حديث أنس المذكور بلفظ وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت اربعين ففيها شاة إلي شعرين ومائة فإذا زادت ففيها شاتان إلي مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلي ثلاثمائة فإذا زادت ففي كل مائة شاة.
وفي حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد ["8/207"، وأبو دأود "1568"والترمذي "621"] ، وحسنه بلفظ: "وفي الغنم من أربعين شاة شاة إلي عشرين ومائة فإذا زادت شاة ففيها شاتان إلي مائتين فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلي ثلاثمائة فإذا زادت فليس فيها شيء حتى تبلغ اربعمائة فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة".
قوله: "والعبرة بالأم في الزكاة ونحوها وبالاب في النسب".
أقول: المعتبر صدق ما تجب فيه الزكاة من إبل أو بقر أو غنم فإذا كان ذلك الموجود يطلق عليه انه من الغنم أو الإبل أو البقر كان من جملة الجنس الذي هو منه.
وأما كون الاعتبار بالاب في النسب فإن كان هذا اعتبار اللغة فممنوع فإن العرب لا تجعل لمن امه امة ما تجعله لمن امه حرة في الانتساب إلي الاب العربي ولهذا يقول عنترة
إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري وأحمى سائري بالمنصل
فجعل شطره منتسبا بنسب أبيه وشطره منتسبا بنسب أمه.(1/240)
وكانت امه امة وان كان هذا باعتبار الشرع فمحتاج إلي دليل في نفس كون الاعتبار بالاب في النسب في الرفاعة والوضاعة لا في كونه حرا يرث ويورث ويثبت له ما يثبت للأحرار فإن هذا معلوم من الشرع ومن الشعر المنسوب إلي المأمون أو المقول على لسانه لما كانت امه امة يقال لها مراجل:
لا تزرين بفتى من ان يكون له ... أم من الروم أو سوداء عجماء
فإنما امهات الناس أوعية ... مستودعات وللأبناء آباء
[فصل
ويشترط في الانعام سوم اكثر الحول مع الطرفين فمن ابدل جنسا بجنسه فأسامه بنى والا استأنف وانما يؤخذ الوسط غير المعيب ويجوز الجنس والافضل مع إمكان العين والموجود ويترادان الفضل ولا شيء في الأوقاص ولا يتعلق بها الوجوب وفي الصغار احدها إذا انفردت] .
قوله: فصل: "ويشترط في الانعام سوم اكثر الحول مع الطرفين".
أقول: أما اشتراط ذلك في الغنم فلحديث أنس الثابت في الصحيح بلفظ: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت اربعين ففيها شاة".
وفي لفظ منه آخر: "وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من اربعين شاة واحدة فليس فيها شيء".
وأما في الإبل فلما وقع في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا: "في كل إبل سائمة" [أبو دأود "1757"، النسائي "2444"] ، الحديث.
وأما في البقر فلما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس ليس في البقر العوامل صدقة وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك عن ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
ورواه من وجه آخر عنه وفيه الصقر بن حبيب وهو ضعيف ورواه من حديث جابر بلفظ: ليس في المثيرة صدقة وضعف البيهقي إسناده ورواه موقوفا وصححه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الا انه قال الإبل بدل البقر قال ابن حجر وإسناده ضعيف.
قال البيهقي: وأشهر من ذلك ما روى موقوفا من حديث أبي إسحاق عن الحارث وعاصم عن علي "ليس في البقر العوامل شيء".
قال البيهقي: رواه النفيلي عن زهير بالشك في وقفه أو رفعه وروى عن زهير مرفوعا(1/241)
ورواه غير زهير عن أبي إسحاق موقوفا قال ابن حجر وهو عن أبي دأود وابن حبان وصححه ابن القطان على قاعدته في توثيق عاصم بن ضمرة وعدم التعليل بالوقوف وبالرفع.
هذا حاصل ما ورد في اعتبار السوم والانعام الثلاث لها حكم واحد في الزكاة فالوارد في بعضها يقوى الوارد في البعض الاخر ولا سيما مع اعتضاد ذلك بأن الاصل البراءة فلا ينقل عنها الا ناقل صحيح وقد ورد الناقل وهو ايجاب الزكاة في الانعام مقترنا بكونه في السائمة كما عرفت.
ولا يخفاك ان ظاهر أحاديث اعتبار الحول التي قدمنا ذكرها يدل على انه لا بد ان يحول عليها الحول سائمة وان سامت في بعض الحول وعلفت في بعضه فالظاهر عدم الوجوب.
وهكذا إذا بدل جنسا بجنسه غير قاصد للحيلة فإنه يستأنف التحويل للبدل من عند دخوله في ملكه ولا اعتبار بحول المبدل ولا يبنى عليه.
قوله: "وإنما يؤخذ الوسط غير المعيب".
أقول: أما كونه يؤخذ الوسط فلما أخرجه أبو دأود ["1582"] ، والطبراني بإسناد جيد من حديث عبد الله بن معأوية الفاضري من غاضرة قيس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من فعلهن طعم طعم الايمان من عبد الله وحده وانه لا إله الا الله واعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولا يعطى الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط اموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره".
فإن بذلك المسالك ما هو خير مما يجب عليه طيبة به نفسه فلا بأس بذلك لما أخرجه أحمد وأبو دأود والحاكم وصححه من حديث أبي بن كعب قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فمررت برجل فلم أجد عليه في ماله الا ابنة مخاض فاخبرته انها صدقته فقال ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر وما كنت لأقرض الله مالا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة سمينة فخذها فقلت ما انا بآخذ ما لم أومر به فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فخرج معي وخرجنا بالناقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الذي عليك وان تطوعت بخير قبلناه منك وآجرك الله فيه" قال: فخذها فأمر رسول الله صلى الله عليه بقبضها ودعا له بالبركة وفي إسناده محمد بن إسحاق ولكنه قد صرح هنا بالتحديث وهكذا إذا قبل المصدق ما هو معيب فإنه يجزئ رب المال لما في حديث أنس الصحيح المتقدم [البخاري "1448، 1450، 1453، 1454، 1455، 2487، 3106، 5878، 6955"، أبو دأود "1567" النسائي "2447"] . ذكر بعضه بلفظ: "ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس الا إن يشاء المصدق".
وأما قوله: "غير المعيب"، فلما تقدم في حديث الغاصري وفي حديث أنس هذا ولما في حديث ابن عمر المتقدم ذكر بعضه بلفظ: "ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب من الغنم" وكما روى(1/242)
في تعيين الشرار فقد ورد تعيين الخيار في حديث سفيان بن عبد الله الثقفي عند مالك في الموطأ والشافعي في مسنده ان عمر بن الخطاب قال نعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا نأخذها ولا تاخذ الاكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم رواه ابن أبي شيبة مرفوعا.
وأما قول المصنف: "ويجوز الجنس والافضل مع إمكان العين"، فقد عرفت مما سبق جواز إخراج الافضل وأما جواز إخراج الجنس مع إمكان العين فغير مسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجوز ذلك الا بشرط عدم وجود ما هو الواجب في الملك كما في حديث أنس المتقدم وفيه ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده ابنة لبون وعنده ابنة مخاض فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسرتا له أو عشرين درهما وفيه أيضا ومن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتي إذا استيسرنا له أو عشرين درهما وفيه ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسرتا له أو عشرين درهما وفيه ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسرتا له أو عشرين درهما وفيه ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده الا حقة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين.
وبهذه الروايات يتبين لك وجه قول المصنف: "والموجود ويتردان الفضل".
قوله: "ولا شيء في الأوقاص ولا يتعلق بها الوجوب".
أقول: أما كونه لا شيء في الأوقاص وهو ما بين الفريضتين فظاهر وقد صح الدليل لذلك وهو قوله في حديث أنس وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من اربعين شاة فليس فيها شيء وكما في قوله في حديث معاذ المتقدم فأمرني ان لا آخذ فيما بين ذلك وزعم ان الأوقاص لا فريضة فيها وهكذا ما ورد في الفاظ الاحاديث ولا شيء في كذا حتى يبلغ كذا فإنه تصريح بعدم الوجوب في الأوقاص.
وأما كونه لا يتعلق بها الوجوب فغير مسلم بل الشاة الخارجة مثلا من الاربعين هي عن جميع الاربعين لا عن الشاة الموفية للأربعين وهكذا سائر الفرائض التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الوجوب بها فإن المراد ان تلك الزكاة عن جميع ما وجد من الانعام لا عن الموفى للنصاب ونفي الوجوب عن الأوقاص هو ما دامت أوقاصا لا إذا بلغت إلي النصاب فإن الزكاة المخرجة هي عن جميع ذلك النصاب.
قوله: "وفي الصغار احدها إذا انفردت".
أقول: قد قدمنا الادلة الدالة على اعتبار الحول وقدمنا انه لا يكون حول الفرع حول اصله فهذه الصغار ان حال عليها الحول بعدانفرادها فهي إذ ذاك كبار وليست بصغار على انا قدمنا في حديث سويد بن غفلة النهي من النبي صلى الله عليه وسلم له ان لا يأخذ من راضع لبن شيئا فهذا يدل على انه لا يؤخذ منها ما دامت صغارا راضعة وأنه لا يكون حولها حول اصلها.(1/243)
[باب " ما أخرجت الارض في نصاب فصاعدا ضم احصاده الحول
وهو من المكيل خمسة أوسق الوسق ستون صاعا كيلا ومن غيره ما قيمته نصاب نقد عشره قبل إخراج المون وان لم يبذر أو لم يزد على بذر قد زكى أو احصد بعد خوزه من مباح الا المسني فنصفه فإن اختلف فحسب المؤنة ويعفى عن اليسير.
ويجوز حرص الرطب بعد صلاحه وما يخرج دفعات فيعجل عنه والعبرة بالانكشاف وتجب من العين ثم الجنس ثم القيمة حال الصرف ولا يكمل جنس بجنس ويعتبر التمر بفضلته وكذلك الارز الا في الفطرة والكفارة وفي العلس خلاف.
وفي الذرة والعصفر ونحوهما ثلاثة اجناس ويشترط الحصاد فلا تجب قبله وان بيع بنصاب وتضمن بعده المتصرف في جميعه أو بعض تعين لها ان لم يخرج المالك ومن مات بعده وامكن الأداء قدمت على كفنه ودينه المستغرق والعسل من الملك كمقوم المعشر"] .
قوله: باب: "زكاة ما أخرجت الارض في نصاب فصاعدا ضم احصاره الحول وهو من المكيل خمسة أوسق".
أقول: أما باعتبار النصاب في زكاة ما أخرجت الارض وهو ان يكون خمسة أوسق فذلك للدليل الصحيح المتلقى بالقبول من جميع طوائف أهل الإسلام فهو بين عامل به ومتأول له وهو حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وهو في الصحيحين [البخاري "1447", مسلم "979"] وغيرهما من حديث أبي سعيد وهو حجة ظاهرة في أنه لا زكاة فيما دون الخمسة الأوسق ولم يصب من أوجبها في قليل ما انبتت الارض وكثيره عملا بالاحاديث المصرحة بأن "فيم سقت السماء والعيون العشر وفيما سقى بالنضخ نصف العشر" [البخاري "1434", الترمذي "640"] لانه عمل بالعام وترك العمل بالخاص والجمع بينهما واجب بان يبنى العام على الخاص وهذا أمر متفق عليه عند أئمة الأصول في الجملة فمن خالف ذلك في الفروع فإن كان لعدم علمه بالخاص فقد أتي من قبل تقصيره وكيف يكون مجتهدا من جهل مثل هذا الحكم وإن كان قد علم به ولم يعمل به فالحجة عليه قائمة بالدليل الصحيح.
وأما قوله: "ضم أحاصده الحول" فمبنى على أان أحاديث اعتبار الحول شاملة لما خرج من الارض وليس الامر كذلك بل هي واردة في غيره وأما الخارج من الأرض فيجب إخراج زكاته عند إحصاده إن كان خمسة أوسق فصاعدا وكان مما تجب فيه الزكاة لم يسمع في أيام النبوة ولا في أيام الصحابة انه اعتبر الحول فيما يخرج من الأرض بل كانوا يزكون الخارج عند إحصاده إذا كمل نصابه.
وأما كون الوسق ستين صاعا فيدل عليه أما أخرجه أحمد وابن ماجه(1/244)
["1793"] ، من حديث أبي سعيد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الوسق ستون صاعا"، وأخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وأخرجه أيضا النسائي ["2486"، وابو دأود "1559"، وابن ماجه "1832"] ، من طريق اخرى عن أبي سعيد قال أبو دأود وهو منقطع لم يسمع أبو البختري من أبي سعيد وأخرج البيهقي نحوه من حديث ابن عمر وأخرج أيضا نحوه ابن ماجه من حديث جابر وإسناده ضعيف قال ابن حجر وفيه عن عائشة وسعيد بن المسيب.
قوله: "وما قيمته نصاب نقد عشرة".
أقول: الاحاديث الواردة في انه لا زكاة في الخضروات قد أوضحنا في شرحنا للمنتقى انه يقوى بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فهي صالحة لتخصيص العمومات كحديث: "فيما سقت السماء العشر" ونحوه.
وهكذا الاحاديث الواردة في ان الزكاة لا تجب الا في اربعة اجناس البر والشعير والتمر والزبيب فإنها تنتهض بمجموعها للعمل بها كما أوضحناه هنالك.
قوله: "قبل اخراج المؤن".
أقول: المالك انما يزكى ما دخل في ملكه بعدحصاده ودياسه فلا يجب عليه زكاة ما خرج في المؤن التي لا يتم الحصاد والدياس الا بها وليس له ان يخرج مؤن الحرث والسقي والبذر ونحوها فإنه لم يثبت في ذلك لا في ايام النبوة ولا فيما بعدها.
وأما قوله: "وان لم يبذر" فصواب إذا ثبت في الملك فليس من شرط الزكاة ان يقع من المالك البذر للأرض. وهكذا إذا لم يرد على بذر قد زكى فإنها تجب فيه الزكاة لعموم الادلة المصرحة بوجوب زكاة الخارج من الارض بل تجب الزكاة وان كان الحاصل دون البذر الذي قد زكى إذا بلغ النصاب.
وأما قوله: "وإذا حصد بعد حوزه من مباح" فيدل على ذلك عموم الآية الواردة فيما أخرجت الارض وهذا مما أخرجته الارض وصار في ملك مالك تجب عليه أصل الزكاة فاخراجه عن حكم الخارج من الارض يحتاج إلي دليل.
قوله: "الا المسنى فنصفه".
أقول: قد صرحت الادلة الصحيحة بذلك منها حديث ابن عمر في الصحيح بلفظ: "وفيما سقى بالنضخ نصف العشر" ومثله حديث جابر في الصحيح [مسلم "981"، أيضا بلفظ "وفيما سقى بالساقية نصف العشر" قال النووي وهذا متفق عليه قال وان وجدنا ما يسقى بالنضخ تارة وبالمطر اخرى فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب ثلاثة ارباع العشر وهو قول أهل العلم قال ابن قدامة لا نعمل فيه خلافا وان كان احدهما اكثر كان حكم الاقل تبعا للأكثر عند أحمد والنووي وأبي حنيفة واحد قولي الشافعي وقيل يؤخذ بالتقسيط قال(1/245)
ابن حجر ويحتمل ان يقال ان أمكن فصل كل واحد منهما اخذ بحسابه وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع ولو كان اقل.
قوله: "ويجوز خرص الرطب بعدصلاحه".
أقول: قد ثبت في خرص العنب والتمر أحاديث تقوم بها الحجة بل ثبت في الصحيحين [البخاري "1481"، مسلم "15/14"] ، من حديث أبي حميدالساعدي انه صلى الله عليه وسلم خرص صديقة امرأة بنفسه وفيه قصة ولكن هذا الخرص مقيد بما أخرجه [أحمد "3/448"، وابو دأود "1605"، والترمذي "643"، والنسائي "5/42"] ، وابن حبان الحاكم وصححه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثث فدعوا الربع".
وأما قول المصنف: "بعد صلاحه"، فيدل عليه ما في حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل ان يؤكل ثم يخبر يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه اليهم بذلك الخرص أخرجه [أحمد "9/12"، وابو دأود "3413"] .
قوله: "وما يخرج دفعات فيعجل منه".
أقول: المراد للمصنف هو ان الشيء الذي يخرج دفعات يخرص كل دفعة من دفعاته كالتين لانها لا تحصل الدفعة الثانية الا وقد فسدت الأولى وهذا وان كان قد دخل فيما سبق لكنه أراد ان يدفع وهم من يتوهم انه لا يخرص الا مرة واحدى وان خرج دفعات.
وأما التعرض لتعجيل الزكاة فهو دخيل في المقام لا حاجة اليه لان جواز التعجيل لا يختص بهذا وحده.
وأما اعتبار الانكشاف فأمر لا بد منه لما تقدم من ان الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق.
قوله: "وتجب في العين ثم الجنس ثم القيمة حال الصرف".
أقول: هذا صواب لما قدمنا من الادلة الدالة على وجوب الزكاة في العين فإذا تلفت العين فالعدول إلي الجنس هو اقرب إلي العين من القيمة لان جنس الشيء يوافقه في غالب الأوصاف فإذا لم يوجد الجنس اجزأت القيمة لان لذلك غية ما يمكن من التخلص عن واجب الزكاة.
وأما قوله: "ولا يكمل جنس بجنس" فهذا صحيح لان اعتبار النصاب هو في كل جنس على حدة فمن زعم انه إذا حصل خمسة أوسق من جنسين وجبت الزكاة فعليه الدليل.
وأما قوله: "ويعتبر التمر بفضلته" فهذا صحيح ولم يسمع في أيام النبوة ما يخالفه وهكذا الارز والعلس عند من أوجب الزكاة فيهما.
وأما قوله: "وفي الذرة والعصفر ونحوهما ثلاثة أجناس"، فمبنى على وجوب الزكاة في الخضروات وفي غير الاجناس الاربعة وقد قدمنا الكلام على ذلك.(1/246)
قوله: "ويشترط الحصاد" الخ.
أقول: هذا معلوم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أما أوجبا لزكاة فيما قداحصد وعرف مقداره كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فالوجوب متعلق بالنصاب وهو الخمسة الأوسق ولا يعرف قدر النصاب الا بعدا الحصاد وأيضا ما دام ما أخرجته الارض هو معرض للجوائح بالافات السمأوية والارضية فلو وجبت الزكاة فيه قبل حصاده لكان إيجابها قبل ثبوت الملك وتقرره وهكذا الضمان لا يكون الا بعد ثبوت الملك وتقرره.
وأما قوله: "ومن مات بعده قبل إمكان الأداء قدمت على كفنه ودينه المستغرق" فهو بخالف ما تقدم له من قوله وهي قبله كالوديعة قبل طلبها.
قوله: "والعسل من الملك كمقوم المعشر".
أقول: استدل على وجوب الزكاة في العسل بما أخرجه أحمد ["4/236"، وابو دأود "وابن ماجه "823"] ، والبيهقي قال: قلت: يا رسول الله إن لي نحلا قال: "فأد العشور" قال: قلت: يا رسول الله احم لي جبلها قال: فحمى لي جبلها وفي إسناده انقطاع لانه من رواية سليمان بن موسى عن أبي سيارة قال البخاري لم يدرك سليمان احدا من الصحابة وليس في زكاة العسل شيء يصح وقال أبو عمر بن عبد البر لا يقوم بهذا حجة.
وأخرج أبو دأود ["1600"، والنسائي "2499"، ان هلالا أحد بنى متعان جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل وكان سأله ان يحمى واديا يقال له سلبة فحمى له ذلك الوادي وأخرج ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اخذ من العسل العشر وفي إسناده ابن لهيعة وعبد الرحمن ابن الحارث وليس من أهل الاتقان.
وأخرج الترمذي ["629"،عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في العسل كل عشرة أزقاق زق" وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وقد خولف وقال النسائي هذا حديث منكر.
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي هريرة حديثا في زكاة العسل وفي إسناده عبد الله ابن محرز وهو متروك. وأخرج البيهقي عن سعد بن أبي ذئاب ان النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على قومه وانه قال لهم: " أدوا العشر في العسل" وفي إسناده منير بن عبد الله وهو ضعيف.
واحاديث الباب يقوى بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فينتهض الاحتجاج با وقد استوفيت البحث في شرحي للمنتقى وذكرت عدم انتهاض الاحاديث للحجة لأن حديث أبي سيارة وحديث هلال ان كان غير أبي سيارة لا يدلان على وجوب الزكاة في العسل لانه حمى لهما بدل ما اخذ منهما ولكن لا يخفى انه قال في حديث أبي سيارة: "فأد العشر" وهذا تصريح(1/247)
لوجوب الزكاة ولا سيما وقد وقع في رواية لأبي دأود بلفظ من كل عشر قرب قربة ووقع عندالترمذي كما تقدم في العسل في كل عشرة ازقاق زق.(1/248)
[باب " ومصرفها من تضمنته الآية
فإن وجد البعض فقط ففيه والفقير من ليس بغني وهو من يملك نصابا متمكنا أو مرجوا ولو غير زكوى واستثنى له كسوة ومنزل وأثاث وخادم وآلة حرب يحتاجها الا زيادة النفيس والمسكين دونه ولا يستكملا نصابا من جنس واحد والا حرم أو موفيه ولا يغنى بغنى منفقه الا الطفل مع الاب والعبرة بحال الاخذ.
والعامل من باشر جمعها بامر محق وله ما فرض آمره وحسب العمل وتأليف كل واحد جائز للامام فقط لمصلحة دينية ومن خالف فيما اخذ لأجله رد والرقاب والمكاتبون الفقراء المؤمنون فيعانون على الكتابة والغارم كل مؤمن فقير لزمه دين في غير معصية وسبيل الله المجاهد المؤمن الفقير فيعان بما يحتاج اليه فيه ونصرف فضله نصيبه لا غيره في المصالح مع غني الفقراء وابن السبيل من بينه وبين وطنه مسافة قصر فيبلغ منها ولو غنيا لم يحضر ماله وأمكنه القرض ويردالمضرب لا المتفضل وللامام تفضيل غيرمجحف ولتعدد السبب وان يرد في المخرج المستحق ويقبل قولهم في الفقراء ويحرم السؤال غالبا] .
قوله: باب: "ومصرفها من تضمنته الآية فإن وجدالبعض فقط ففيه".
أقول: هذا التقييد صحيح لانه إذا وجد الكل فلكل صنف حق من مجموع الحاصل من الزكاة المجموعة بامر الامام أو من يقوم مقامه لما تقتضيه الآية فإن اللام فيها مفيدة للملك ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو دأود ["1630"] من حديث زياد بن الحارث الصداني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فاتى رجل فقال اعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية اجزاء فان كنت من تلك الاجزاء اعطيتك"،
ولا ينافى ما صرحت به الآية من المصارف الثمانية ما ورد من ان الزكاة تؤخذ من الاغنياء وترد في الفقراء فإذ ذلك محمول على انه لم يوجد في المحل الذي اخذت منه الا الفقراء أما إذا وجد غيرهم فله حق فيها كحق الفقراء فيجمع بين الادلة بهذا.
وأما من اشتراط الفقر في جميع الاصناف فلا يحتاج إلي الجمع بهذا ولكن هذا الاشتراط(1/248)
خلاف ظاهر القرآن وخلاف ما ثبت في السنة كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني الا في سبيل الله أو ابن السبيل أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك"، أخرجه أحمد ["3/56"] ، ومالك في الموطأ والبزار وعبد بن حميد وابو دأود ["1636"] ، وابو يعلى والبيهقي والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد.
وفي لفظ لأبي دأود ["1636"، وابن ماجه "1841"، "لا تحل الصدقة لغني الا لخمسة لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه بها فأهدى منها لغني".
وسيأتي الكلام على هذا الاشتراط في كل صنف اشترط فيه ذلك.
قوله: "والفقير من ليس بغني".
أقول: هذا هو المذكور في كتب اللغة الصحاح والقاموس وغيرهما فيحتاج في معرفة معنى الفقير إلي معرفة معنى الغني وقد جعله المصنف رحمه الله من يملك نصابا ووجه هذا ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر باخذ الزكاة من الاغنياء وردها في الفقراء فوصف ن تؤخذ منه الزكاة بالغني وقد قال: "لا تحل الصدقة لغني"، [أحمد "9/93"، أبو دأود "1633"، النسائي "2598"] ، فكأن الفقير من لا يملك نصابا وقد ذكرنا في شرح المنتفى اختلاف المذاهب في حد الغنى وذكرنا ادلتهم ومنها ما أخرجه أحمد وأبو دأود وابن حبان وصححه عن سهل بن الحنظلية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار"، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: "قدر ما يعشيه ويغديه".
ومنها ما أخرجه أحمد ["1/441"] بوأهل السنن [أبو دأود "1626"، "الترمذي "650"، ابن ماجة "1840"، النسائي "3593"] ، وحسنه الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش" قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: "خمسون درهما أو حسابها من الذهب".
ومنها ما أخرجه أحمد ["3/907"، وأبو دأود "1628"، والنسائي "2596"] ، بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة أوقية فقد الحف".
وفي الباب أحاديث ولكن لا يخفى ان هذه الاحاديث فيمن يحرم عليه سؤال الناس لا فيمن تحرم عليه الزكاة ولكن قد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اشتملت عليه هذه الاحاديث غنيا فيكون الواجد لذلك المقدار غنيا وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الزكاة لاحظ فيها لغني" [أحمد "9/93"، أبو دأود "1633"، النسائي "2598"] ، ويجمع بين هذه الاحاديث بالأخذ بأكثرها مقدارا وهو الخمسون الدرهم.
وأما قول المصنف رحمه الله: "متمكنا أو مرجوا" فقد قدمنا في المرجو انه لا بد ان يكون بحيث يأخذه متى شاء. وأما قوله ولو غير زكوى فوجه ذلك انه قد صار مالكا لقيمة النصاب الزكوى.(1/249)
قوله: "واستثنى كسوة ومنزل" الخ.
أقول: هذه الامور لا يخرج بها المالك لها عن كونه فقيرا مصرفا للزكاة ولم يسمع في عصر النبوة ولا فيما بعده ان ملبوس الرجل ومنزله وما يقيه الحر والبرد وسلاحه يخرجه عن صفة الفقر وقد كان الصرف في الفقراء منه صلى الله عليه وسلم ومن الخلفاء الراشدين ومعهم ما يحتاجون اليه من ذلك وهذا معلوم لا شك فيه.
نعم استثناء ما كان فيه زيادة نفيس ان كان صاحبه يحتاج اليه فلا وجه للاستثناء وان كان لايحتاج اليه ويكفي ما دونه وتندفع عنه الحاجة به فلا بأس بذلك ومن جملة ما ينبغي استثناؤه الدفاتر العلمية للعالم فإن ذلك مصلحته في الغالب عامة.
قوله: "والمسكين دونه"
أقول: قد ثبت في الصحيحين [البخاري "1476"، مسلم "103/1039"] ، وغيرهما [أحمد "2/316"، النسائي "5/84، 85"، أبو دأود "1631"] ، من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسال الناس".
وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "1479"، مسلم "1039"] ، من حديثه: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان وانما المسكين الذي يتعفف اقرأوا ان شئتم {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: 273] ، فأفاد هذا الحديث ان المسكين فقير لقوله: "لا يجد غنى يغنيه" مع زيادة كونه متعففا لا يقوم فيسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه فالمسكين فقير متعفف وبهذا القيد يظهر الفرق بينهما ويندفع قول من قال انهما مستويان وقول من قال ان المسكين فوق الفقير واعلى حالا منه لما هو معلوم من ان تعففه عن السؤال وعدم التفطن لكونه فقيرا زيادة حاجة وعظم ضرورة ومما يدل على افتراقهما في الجملة ما روى عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "اللهم احيني مسكينا"، مع ما علم من تعوذه من الفقر.
قوله: "ولا يستكملا نصايا من جنس" الخ.
أقول: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدفع من العطاء الذي هو مجموع من اموال الله التي من جملتها الزكاة إلي الواحد من الصحابة انصباء كثيرة كما في الحديث الصحيح انه اعطى العباس من الدراهم ما عجز عن حمله وقال لعمر لما قال له إنه يصرف عطاءه فيمن هو أفقر منه إليه: "ما جاءك من هذا المال وانت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" وهو في الصحيحين [البخاري "1473"، مسلم "1045"، وغيرهما [النسائي "2608"] ، من حديثه.
وظاهر هذا الأمر انه يقبل ما جاء إليه من أموال الله وان كان انصباء متعددة وقد كان الخلفاء الراشدون ومن بعدهم يعطون الفرد من المسلمين الالوف الكثيرة وقد أخرج أحمد بإسناد صحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر لبعض من ساله بشاء كثيرة بين جبلين من شاء الصدقة، وثبت ان(1/250)
النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمة ابن صخر: "اذهب إلي صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها اليك" [البخاري "1936" مسلم "1111"، الترمذي "3299"] .
قوله: "ولا يغني بغنى منفقة الا الطفل مع الاب".
أقول: هذه دعوى مجردة ليس عليها دليل فان اثبات الغنى لشخص لا يملك ما يكون به غنيا لكون منفقه غنيا لا يناسب القواعد الشرعية.
وأما قوله والعبرة بحال الاخذ فصحيح لأنه اخذ ذلك وهو مصروف له وان اغناه الله عز وجل في ذلك الوقت الذي اخذ فيه الزكاة وليس مثل هذا مما يحتاج إلي التدوين لوضوحه وظهوره.
قوله: "والعامل من باشر جمعها بأمر محق".
أقول: من ثبت له الولاية على الناس بالمبايعة له منهم جاز العمل له في امور الدنيا والدين لان طاعته قد صارت واجبة بالبيعة وفي هذا من الايات القرآنية والاحاديث الصحيحة ما هو معروف ومن ذلك قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، وفي الحديث الصحيح [أبو دأود"4607"] : "عليكم بالطاعة وان عبدا حبشيا" الحديث.
ولا يتسع المقام لبسط ما ورد في طاعة أولى الامر والنهي عن نزع الايدي من طاعتهم ما اقاموا الصلاة الا ان يظهر منهم الكفر البواح كما صرحت بذلك الاحاديث الصحيحة.
فالعمل لمن صار واليا على المسلمين في الزكاة وغيرها صحيح بل واجب إذا طلب ذلك وان كان غير عادل في بعض الاحوال فيطاع في طاعة الله سبحانه ويعصى في معصيته كما صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" [أحمد "5/66"] .
وقال: "إنما الطاعة في المعروف" [البخاري "7257، 4340، 7145"، مسلم "1840"، أبو دأود "2625"، أحمد 1/94"، النسائي "7/109"] ، هذا ما تقتضيه الشريعة المطهرة وهو أوضح من شمس النهار وليس بيد من خالفه شيء يصلح للتمسك به.
قوله: "وله ما فرض آمره".
أقول: قد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرض لمن يعمل له في الزكاة أجرة عمله كما في الصحيحين [البخاري "7163"، مسلم "112/1045"] ، وغيرهما [أبو دأود "1647"، النسائي "5/102"، أحمد "1/52"] ، من حديث بسر بن سعيد ان ابن السعدي المالكي قال استعملني عمر على الصدقة فلما فرغت منها واديتها اليه أمر لي بعمالة فقلت انما عملت لله فقال خذ ما اعطيت فإن عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اعطيت شيئا من غير ان تسأل فكل وتصدق".
وظاهر هذا انه قد فرض له ما يفيض عن أكله ويمكن التصدق منه ولا يجوز له ان يأخذ الزيادة على ما فرض له الامام أو السلطان لما أخرجه أبو دأود ["2943" بإسناد رجاله ثقات عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استعملنا على عمل فرزقناه رزقا فما اخذ بعد ذلك فهو غلول"،(1/251)
وإذا لم يفرض له أجرة جاز له ان يأخذ من الزكاة بقدر عمله عليها من غير زيادة لعدم المسوغ للزيادة أما إذا كان ما فرض له آمره زائدا على مقدار عمله فإن ذلك الفرض مسوغ للزيادة لان أمر الصرف اليه وقد صرف إلي العامل المقدار الزائد على أجرته.
قوله: "وتأليف كل أحد جائز للامام فقط".
أقول: قد وقع منه صلى الله عليه وسلم التأليف لمن لم يخلص إسلامه من رؤساء العرب كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في اصحيح البخاري ["881، 2971" 7097"] ، وغيره انه قال: "والله إني لأعطى الرجل وأدع الرجل والذي ادع احب الي من الذي اعطى ولكني اعطى اقوأما لما ارى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل اقوأما إلي ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير".
وصح عنه [مسلم "137/1060"] ، انه اعطى ابا سفيان بن حرب وصفوان بن امية وعيينة بن حصن والاقرع بن حابس وعباس بن مرداس كل إنسان منهم مائة من الإبل.
وثبت في صحيح مسلم انه اعطى علقمة بن علاثة مائة من الإبل ثم قال للانصار لما عتبوا عليه: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلي رحالكم" ثم قال لما بلغه أنهم قالوا: يعطى صناديد نجد ويدعنا "إنما صنعت ذلك لأتالفهم" [مسلم "143/1064"] فالتأليف شريعة ثابتة جاء بها القرآن وجعل المؤلفة احد
المصارف الثمانية وجاءت بها السنة المتواترة فإذا كان إمام المسلمين محتاجا إلي التأليف لمن يخشى من ضرره على الإسلام وأهله أو يرجو ان يصلح حاله ويصير نصيرا له وللمسلمين كان ذلك جائزا له وهكذا يجوز لرب المال مع عدم الامام ان يتألف من يخشى منه الضرر على نفسه أو ماله أو على غيره من المسلمين ولأوجه لتخصيص الامام بذلك فإن المؤلفة مصرف من مصارف الزكاة ونوع من الأنواع التي جعلها الله لهم فكما يجوز لرب المال ان يضعها في مصرف من المصارف غير المؤلفة يجوز له أيضا ان يضعها في المؤلفة وهذا ظاهر واضح وأما إذا كان الامام موجودا فأمر الصرف اليه وليس للامام ان يتألف مع قوة يده وبسطة امره ونهيه ووجود من يستنصر به عند الحاجة لما عرف من ان علة التأليف الواقع منه صلى الله عليه وسلم هو ما تقدم عنه.
وأما قول المصنف: "ومن خالف فيما اخذ لأجهله رد" فهو صواب لأن الغرض من التأليف لم يحصل فلم يكن ذلك المؤلف مؤلفا فلا نصيب له في الزكاة.
قوله: "والرقاب المكاتبون الفقراء المؤمنون".
أقول: ظاهر قوله سبحانه: {وَفِي الرِّقَابِ} ان هذا النصيب من الزكاة يصرف في عتق الرقاب ولو بشرائها من ذلك النصيب وعتقها ولا يختص بالمكاتبين ولا بالمتصفين بصفة الايمان بل المراد الاتصاف بالإسلام.
وأما اشتراط الفقر فلا يخفى ان المملوك لا يملك شيئا من المال ولعل مراده من لم يكن عنده من المال ما يخلص رقبته من الرق أو على القول بأن العبد يملك.(1/252)
قوله: "والغارم كل مؤمن فقير".
أقول: هذا مصرف من المصارف المذكورة في القرأن ولأوجه لاشتراط الفقر فيه فان القرآن لم يشترط ذلك والسنة المطهرة مصرحة بعدم اشتراط الفقر فيه كما في حديث أبي سعيد بلفظ: "لا تحل الصدقة لغني الا لخمسة لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله"، أخرجه [ابو دأود "1636"، وابن ماجه "1841"] ، وأخرجه أيضا أحمد "3/56"، ومالك في الموطأ والبزار وعبد بن حميد وابو يعلى والبيهقي والحاكم وصححه فهذا الحديث فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر في الغارم ومن ذكر معه بل يعطى الغارم من الزكاة ما يقضي دينه وان كان انصباء كثيرة.
وأما اشتراط كونه في غير معصية فصحيح لان الزكاة لاتصرف في معاصي الله سبحانه ولا فيمن يتقوى بها على انتهاك محارم الله عز وجل.
قوله: "وسبيل الله المجاهد الفقير".
أقول: قد عرفناك ان حديث أبي سعيدالمذكور قريبا فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر فيمن اشتمل عليه من جملتهم الغازي كما سبق وفي لفظ منه: "لا تحل الصدقة لغنى الا في سبيل الله أو ابن السبيل أو جار فقير يتصدق عليه".
فالسنة قد دلت على انه يصرف إلي هذا الصنف مع الغني والقرأن لم يشترط فيه الفقر فلم يبق ما يوجب هذا الاشتراط بل هو مجرد رأي بحت فيصرف اليه ما يحتاجه في الجهاد من سلاح ونفقة وراحلة وان بلغ انصباء كثيرة لأوجه لاشتراط الايمان بل كل مسلم مصرف لذلك إذا بذل نفسه للجهاد ولا سيما إذا كان له شجاعة واقدام فإنه احق من المؤمن الضعيف.
قوله: "وتصرف فضلة نصيبه لا غيره في المصالح مع غنى الفقراء".
أقول: لم يرد ما يدل على اختصاص هذا الصنف بصرف فضلة نصيبه في المصالح وأما حديث ام معقل الاسدية ان زوجها جعل بكرا في سبيل الله وانها أرادت العمرة فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأمر زوجها ان يعطيها وقال: "الحج والعمرة في سبيل الله" أخرجه أحمد ["6/406"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1988"، الترمذي "939"، ابن ماجة "2993"] ، وفي إسناده رجل مجهول فلا يدل على المطلوب وهو صرف فضلة نصيبه في المصالح لان النبي صلى الله عليه وسلم وسلم جعل الحج والعمرة من سبيل الله فلا يلحق بهما غيرهما من المصالح وقد روى هذا الحديث أبو دأود من طريق اخرى ليس فيها الرجل المجهول.
وقد ورد في صرف فضلة نصيب الزقاب في المصالح ما هو اصرح من هذا فأخرج البيهقي في سننه الكبرى عن يزيد بن أبي حبيب ان ابا مؤمل أول مكاتب كوتب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلي الله عليه: "اعينوا أبا مؤمل" فأعين ما أعطى كتابته وفضلت فضلة فاستفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فامره ان يجعلها في سبيل الله.
قوله: "وابن السبيل" الخ.(1/253)
أقول: هذا نوع من الأنواع الثمانية المذكورة في القرآن ونصيبه من الزكاة ان يعطى منها ما يرده إلي وطنه والمعتبر احتياجه في ذلك السفر وان كان غنيا في وطنه ولو امكنه القرض فان ذلك لا يجب عليه لانه قد صار مصرفا بمجرد الحاجة في ذلك المكان فيعطى حقه الذي فرض الله له وقدأخرج البخاري تعليقا وأحمد في المسند من حديث ابن لاس الخزاعي قال حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة إلي الحج وأخرجه ابن خزيمة والحاكم قال الحافظ ورجاله ثقات الا ان فيه عنعنة ابن إسحاق.
ونصيب ابن السبيل من الزكاة ما يوصله إلي وطنه وان كان انصباء كثيرة وسرب عن السفر رد ما اخذ لعدم وجود السبب الذي لأجله استحق ذلك النصيب.
وأما إذا فضل منه فضله بعد بلوغه إلي وطنه فالظاهر ان يصرفها في مصرف الزكاة لانه لم يبق حينئذ مصرفا.
قوله: "وللامام تفضيل غير مجحف".
أقول: ظاهر الآية المصرحة بمصارف الزكاة يفيد ان لكل صنف من الاصناف الثمانية نصيبا فيها وانه لا يجوز اخذ نصيب صنف لصنف آخر ويؤيد ذلك حديث زياد بن الحارث الصدائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال اعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الاجزاء اعطيتك"، أخرجه أبو دأود ["630"] ، وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن انعم الافريقي وفيه مقال وقد تقدم هذا الحديث.
فإذا كانت الاصناف موجودة مطالبة صرف الزكاة فيهم وجزأها بينهم وان كان بعضها احوج من بعض فضل الاحوج بما يراه لا سيما الفقراء والمجاهدين وإذا لم يوجدالا البعض صرف في الموجود وان كان صنفا واحدا ومن كان مستحقا لها من وجوه كأن يكون فقيرا غارما مجاهدا كان له من نصيب كل صنف نصيب لتعدد الاسباب الموجودة فيه لأنه يصدق عليه انه فرد من أفراد كل صنف من هذه الاصناف.
قوله: "ويرد في المخرج المستحق".
أقول: وجه ذلك انه قدد صار مصرفا للزكاة وذلك كان يفتقر بعدإخراجه لزكاته أو يذهب ماله لجائجة من الجوائج ولكن لا يخفى انه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب قال حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت اشتريه وظننت ان يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك وان اعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه"، وهو أيضا في الصحيحين [البخاري "6/139"، مسلم "3/1621"، وغيرهما [أبو دأود "3539"، الترمذي "2132"، النشائي "6/265"، ابن ماجة "2377"] ، من حديث ابن عمر.(1/254)
وهذا يدل على عدم جواز إرجاع صدقة المتصدق اليه إذا صار مصرفا للصدقة بل يعطى من غيرها من الصدقات التي تصدق بها غيره.
قوله: "ويقبل قولهم في الفقر".
أقول: لا وجه لتخصيص قبول القول بالفقر بل ينبغي ان يقال ويقبل قول من ادعى انه من مصارف الزكاة ويدل على هذا حديث زياد بن الحارث الصدائي المتقدم قريبا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي طلب منه ان يعطيه من الصدقة: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية اجزاء فإن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك".
فهذا يدل على انه يقبل قول من ادعى انه أحد الاجزاء الثمانية ولا يعارض هذا ما في مسلم ["109/1044"] ، وغيره [أبو دأود "1640"، أحمد "3/477"،، 5/160"] ، من حديث قبيصة: "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة" وفيه: "ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد اصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوأما من عيش" فإن هذا في جواز المسألة المحرمة بالادلة الصحيحة لافي جواز سؤال الصدقة ممن كان مصرفا للزكاة فإنه يجوز له ان يسأل ما هو حق له ولا يدخل في ادلة تحريم السؤال.
قوله: "ويحرم السؤال غالبا".
أقول: الاحاديث الدالة على تحريم السؤال كثيرة.
فمنها ما هو مطلق ومنها ما هو مقيد فمن الاحاديث المقيدة حديث: "من سأل وله قيمة أوقية" [أحمد "3/7/9"، أبو دأود "1628"، النسائي "2596"] .
وحديث: "من سأل وله خمسون درهما أو حسابها من الذهب" [أحمد "1/411"، أبو دأود ""1626"، الترمذي "650"، ابن ماجة 1840"، النسائي "2593"] ، وقد قدمنا هذه الاحاديث والكلام عليها.
ومنها حديث: "لا تحلا المسألة الا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع"، أخرجه أحمد ["3/114"، وابو دأود "1641"، وغيرهما [الترمذي "1218"، ان ماجة "2198"] .
ومنها حديث قبيصة المتقدم قريبا وينبغي ان يحمل المطلق على المقيد فتحرم المسألة على كل أحد لا على هؤلاء المذكورين وينبغي ان يكون الاحتراز بقوله غالبا عنهم.
[فصل
ولا تحل لكافر ومن له حكمه الا مؤلفا والغني والفاسق الا عاملا أو مؤلفا والهاشميين ومواليهم ما تدارجوا ولو من هاشمي ويعطى العامل والمؤلف من غيرها(1/255)
والمضطر يقدم الميتة ويحل لهم ما عدا الزكاة والفطرة والكفارة واخذ ما أعطوه مالم يظنوه إياها ولا يجزيء أحد فيمن عليه انفاقه حال الاخراج ولا في اصوله وفصوله مطلقا ويجوز لهم من غيره وفي عبد فقير ومن اعطي غير مستحق إجماعا أو في مذهبه عالما اعاد] .
قوله: فصل: "ولا تحل لكافر ومن له حكمه".
أقول: الآية المشتملة على مصارف الزكاة خاصة بالمسلمين ولا يدخل فيها كافر فلم تشرع الصدقة الا لمواساة من اتصف بوصف من تلك الأوصاف من المسلمين لا لمواساة أهل الكفر فإنا مأمورون بمقاتلتهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ومتعبدون بالاغلاظ عليهم وعدم موالاتهم ومحبتهم وهكذا من في حكمهم من الاطفال الذين هم في دار الكفر وأما إدراج كافر التأويل في قوله: "ولا تحل لكافر" فقد عرفناك غير مرة ان هذا الامر ناشيء عن التعصبات التي ليست من دأب أهل الايمان وان ذلك مجرد دعوى ليس عليها دليل الا مجرد القال والقيل.
وأما استثناء المؤلف فما كان صلى الله عليه وسلم يتألف الا من دخل في الإسلام مع عدم رسوخه فيه.
قوله: "الغني والفاسق".
أقول: أما الغني فقد دلت الاحاديث الصحيحة على انه لاحظ له في الزكاة إذا لم يكن من أحد الاصناف التي قدمنا الادلة على عدم اشتراط الفقر في أهلها كما عرفت وأما الفاسق فهو من جملة المسلمين فإذا كان من أحد الاصناف المذكورة في الآية فمنعه من نصيبه ظلم له ولم يرد في الكتاب والسنة شيء يصلح للاستلال به على منعه.
وأما استثناء العامل والمؤلف من الغني والفاسق فقد قدمنا انه لا يشترط الفقر في هذين الصنفين بل وفي غالب الاصناف كما عرفت.
قوله: "والهاشميين".
أقول: الادلة المتواترة تواترا معنويا قد دلت على تحريم الزكاة على آل محمد وتكثير المقال وتطويل الاستدلال في مثل هذا المقام لا يأتي بكثير فائدة وقد تكلم الجلال في شرحه في هذا الموضع بما يضحك منه تارة ويبكى له اخرى وجمع بين المتردية والنطيحة ما أكل السبع وبحثه في رسالته التي اشار اليها من جنس كلامه الذي أورده هنا وكل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع وهو رحمه الله من بني هاشم فلا جرم.
وأما تحريمها على مواليهم فلحديث أبي ورافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان رسول الله قال: "إن الصدقة لا تحل لنا وان موالي القوم من أنفسهم". أخرجه [أحمد "6/8، 9" وابو دأود "1650"، والنسائي "2612" والترمذي "657"] ، وصححه أيضا ابن خزيمة وابن حيان.(1/256)
وأما قوله: "ولو من هاشمي" فهو الحق لعموم الادلة.
وأما الاستدلال بما رواه الحاكم في النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث عن العباس قال قلت يا رسول الله انك حرمت علينا صدقات الناس فهل تحل صدقات بعضنا لبعض؟ فقال: "نعم" فهذا الحديث قد اتهم به بعض رواته كما ذكره الذهبي في الميزان وفيهم من لا يعرف فلا يصلح للتخصيص.
قوله: "ويعطى العامل والمؤلف من غيرها".
أقول: أما العامل فيدل على تحريمها عليها عليه وعدم جواز قبضه للأجرة منها حديث الفضل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب انه والفضل بن العباس انطلقا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم تكلم احدنا فقال يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة ونؤدي اليك ما يؤدي الناس فقال: "إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس".
أخرجه [أحمد "9/77، 88"، ومسلم "1072"] ، وغيرهما [أبو دأود "2985"، النسائي "5/105"، 106"] ، فهذا فيه دليل انه لا يجوز للعامل على الزكاة من بني هاشم ان يأخذ عمالته منها فإنهما قد بينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انهما إنما يريدان ان يعملا على الزكاة ويصيبا منها ما يصيبه غيرهما من العمال فيها وهو أجرة العمال فمنع من ذلك معللا للمنع بأنها أوساخ الناس.
وأما المؤلف فهو بالمنع من ان يأخذ من الزكاة أولى من العامل لان العامل إنما ياخذ أجرة على قدر عمله والمؤلف لا عمل له على الصدقة فلا يحل تأليفه منها بل يعطى من غيرها.
قوله: "والمضطر يقدم الميتة".
أقول: أما هذا فتشديد عظيم فإنه قد جاز للمضطر ان يتنأول ما يسد به جوعته من مال غيره فكيف بما هو من اموال الله ولا يخفى ما في أكل الميتة من القذر الذي تنفر عنه النفوس وقد لا تسيغه غالب الطبائع فهذا الذي بلغ إلي حالة الاضطرار له في اموال الله سعة والزكاة من جملتها وإذا قدر على القضاء فعل.
ولا وجه لتعليل تقديم الميتة بأن دليلها قطعي فهو ان كان قطعي المتن فهو ظني الدلالة وأيضا قد عرفناك ان الادلة على تحريمها على بني هاشم متواترة فهي قطعية المتن كالقرآن.
قوله: "ويحل لهم ما عدا الزكاة والفطرة والكفارات".
أقول: ان كان لفظ الصدقة المذكور في الاحاديث يتنأول الفطرة والكفارات فهما كالزكاة وان كان لا يتنأولهما فلا دليل على تحريمهما وأما التعليل لتحريمهما بأنهما من أوساخ الناس فصدقة النفل هي من أوساخ الناس مع صدق اسم الصدقة عليها وقد ذكرت في شرحي للمنتقى الخلاف في تحريم صدقة النفل عليهم فليرجع اليه.
قوله: "واخذ ما اعطوه ما لم يظنوه إياها".(1/257)
أقول: هذا صحيح فلا يتعبد الإنسان بتحريم ما لم يعلم انه حرام ولا ظن انه حرام ولكن طريق الورع معروفة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل وان قيل صدقة لم يأكل [الترمذي "656"، النسائي "2613"] ، وبه الاسوة وفيه القدوة للناس خصوصا قرابته وأهل بيته.
قوله: "ولا يجزئ أحد فيمن عليه انفاق حال الاخراج".
أقول: الاصل الجواز ولا يحتاج المتمسك به إلي دليل بل الدليل على المانع ولا دليل فإن تبرع القائل بالجواز بإيراد الدليل على ذلك فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما حديث المرأتين اللتين سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتجزئ الصدقة عنهما على ازواجهما وعلى أيتام في حجرهما فقال: "لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة"، فالظاهر ان هذه الصدقة هي صدقة الفرض ولهذا أوقع السؤال عن الاجزاء اذ صدقة النفل على الرحم مجزئة وأيضا ترك الاستفصال منه صلى الله عليه وسلم يدل على انه لا فرق في هذا الحكم بين صدقة الفرض والنفل.
وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي سعيد انه صلى الله عليه وآله وسلم قال لزينب امرأة عبد الله بن مسعود لما سألته عن الصدقة: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم"، فعلى تسليم الاحتمال في هذا الحديث يكون ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم دليلا على انه لا فرق بين صدقة الفرض والنفل وهكذا ما أخرجه البخاري وغيره عن معن بن يزيد قال أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فقال والله ما إياك اردت فجئته فخاصمته إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لك ما نويت يا يزيد ولك ما اخذت يا معن".
ولم يقع منه صلى الله عليه وسلم الاستفصال هل هي صدقة فرض أو نفل ويؤيد هذا ما ورد من الترغيب في الصدقة على ذوي الارحام كحديث أبي ايوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح".
أخرجه أحمد ["5/416"] ، وأخرج مثله أيضا من حديث حكيم بن حزام.
وأخرج أحمد ["4/17، 18، 214"، والترمذي "658"] ، وحسنه وابن ماجه والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة"، وفي الباب عن أبي طلحة وأبي امامة ولفظ الصدقة يشمل صدقة الفرض كما يشمل صدقة النفل.
ولا يصلح لمعارضة هذا ما روى عن بعض الصحابة اجتهادا منه وأما دعوى من ادعى الاجماع على منع صرف الزكاة في الاصول والفصول فتلك احدى الدعأوي التي لا صحة لها والمخالف موجود والدليل قائم.
وأما قوله: "ويجوز لهم من غيره" فلا حاجة اليه لان الجواز معلوم وهم لا يغنون بغناه وهكذا قوله: "وفي عبد فقير" لا حاجة اليه لان العبد ان كان يملك فهو كسائر المصارف من المسلمين وان كان لا يملك فإعطاؤه لسيده والاعتبار بحال السيد.(1/258)
قوله: "ومن اعطى غير مستحق إجماعا" الخ.
أقول: ان كان عالما بانه غير مصرف للزكاة فقد وضع ماله في مضيعة وتجب عليه الاعادة على كل حال وأما إذا لم يعلم وانكشف من بعدانه غير مصرف فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة: "أن رجلا تصدق بصدقة فوقعت في يد سارق فاصبح الناس يتحدثون بأنه تصدق على سارق فقال: اللهم لك الحمد على سارق لاتصدقن بصدقة فتصدق فوقعت في يد زانيه فأصبح الناس يتحدثون تصدق على زانية فقال: اللهم لك الحمد على زانية لاتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غنى فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فقال: اللهم لك الحمد على غني فقيل: أما صدقتك فقد قبلت أما الزانية فلعلها تستعف من زناها ولعل السارق يستعف عن سرقته ولعل الغنى ان يعتبر فينفق مما آتاه الله عز وجل".
هكذا حكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل وفيه ما يدل على قبول الصدقة إذا وقعت في غير مصرف لها مع الجهل بأنه غير مصرف وظاهر الصدقة المذكورة اعم من ان يكون فريضة أو نافلة وقداختلف أهل العلم في الاجزاء إذا كانت الصدقة فريضة قال في فتح الباري فإن قيل ان الخبر إنما تضمن قصة خاصة وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية فمن اين يقع تعميم الحكم فالجواب ان التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم فيقتضى ارتباط القبول بهذه الاسباب انتهى.
[فصل
وولايتها إلي الامام ظاهرة وباطنة حيث تنفذ أوامره فمن أخرج بعدالطلب لم تجزه ولو جأهلا ويحلف للتهمة ويبين مدعي التفريق وانه قبل الطلب والنقص بعدالخرص وعليه الايصال ان طلب ويضمن بعدالعزل الا باذن الامام أو من اذن له بالاذن وتكفي التخلية إلي المصدق فقط ولا يقبل العامل هديتهم ولا ينزل عليهم وان رضوأ ولا يبتع أحد ما لم يعشر أو يخمس ومن فعل رجع على البائع بما ياخذه المصدق فقط فنية المصدق والامام تكفي لا غيرهما] .
قوله: فصل: "وولايتها إلي الامام ظاهرة وباطنة".
أقول: أمر الزكاة قد كان إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا شبهة وكا يبعث السعادة لقبضها ويأمر من عليهم الزكاة بدفعها اليهم وإرضائهم واحتمال معرتهم وطاعتهم ولا يسمع في أيام النبوة ان رجلا أو أهل قرية صرفوا زكاتهم بغير اذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر لايجحده من له ادنى معرفة بالسيرة النبوية وبالسنة المطهرة.(1/259)
وقد انضم إلي التوعد على الترك والمعاقبة بأخذ شطر المال وعدم الاذن لأرباب الاموال بأن يكتموا بعض اموالهم من الذين يقبضون منهم الصدقة بعد ان ذكروا له انهم يعتدون عليهم ولو كان اليهم صرف زكاة اموالهم لأذن لهم في ذلك.
وأيضا جعل الله سبحانه للعامل على الزكاة جزءا منها في الكتاب العزيز فالقول بأن ولايتها إلي ربها يسقط مصرفا من مصارفها صرح الله سبحانه به في كتابه.
وأما المعارضة لهذا الامر الذي هو أوضح من شمس النهار بأن خالد بن الوليد حبس ادراعه واعتاده في سبيل الله فهذا على تقدير ان حبسها عن الزكاة لا يكون منه الا باذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا صار ذلك معلوما عندالنبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم ان خالدا لا يأخذ جواز هذا التحبيس وإجزاءه عن الزكاة الا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لان مثل ذلك لا يعلم الا من الشرع والاذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرب المال بالصرف في حكم القبض للزكاة منه وأما على تقدير ان المراد بقوله انه قد حبس ادراعه واعتاده في سبيل الله ان من كان هذا فعله في التقرب إلي الله سبحانه بوقف اخص املاكه واحبها اليه مع مزيد حاجته اليها يبعد عنه ان يمنع الزكاة فلا دلالة له على مراد القائل بالمعارضة.
وأما ابن جميل الذي قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه قدمنع من دفع الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل الا انه كان فقيرا فأغناه الله" فليس فيه ما يعارض ما تقدم فإن هذا الذم له فيه اعظم دلالة على تحريم ما وقع منه من المنع وليس فيه انه صرفها إلي مصارفها وقرره صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وهكذا المعارضة بقضية ثعلبة بن حاطب لا وجه لها فإن ذلك رجل اخبر الله سبحانه انه اعقبه نفاقا في قلبه ولهذا امتنع صلى الله عليه وسلم من قبضها منه لما جاء بها بعد ذلك وكذلك امتنع من قبضها منه الخلفاء الراشدون.
والحاصل انه ليس في المقام ما يدل على ان أمر الزكاة إلي ارباها في زمن النبوة قط وبه يندفع جميع ما ذكره الجلال في شرحه هاهنا فإنه لم يأت بشيء بعتد به في المعارضة.
وإذا تقرر هذا فقد ثبت ان ما كان امره إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلي الائمة من بعده ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون بعدي اثرة وامور تنكرونها" قالوا: يا رسول فما تأمرنا؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم".
وأخرج مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يساله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعون حقنا ويسألون حقهم فقال: "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" وفي الباب احاديث.
وإذا عرفت هذا علمت ان الدفع إلي الامام واجب لجميع أنواع الصدقات الا ان يأذن لرب المال بالصرف جاز له ذلك وأما تغيير ذلك بكونه نافذ الامر والنهي في البلد التي فيها رب(1/260)
المال فوجهه انها من جملة اموال الله التي تصرف في المصارف التي من جملتها الدفع عن البلاد والعبادة فإذا كان الامام لا ينفذ له أمر في تلك الجهة كان عاجزا عن هذا ولكنه إذا كان صحيح الولاية وقد بايعه من يعتد به من السملمين كانت طاعته واجبة على من بلغته دعوته ومن جملة الطاعة النصرة له وفدع ما أمره اليه وعليه ان يقوم بحماية أهل تلك الجهة ودفع عدوهم عنهم بما تبلغ اليه طاقته ثم هو لا يعجز عن ان يأخذ الزكاة من اغنياء تلك الجهة ويصرفها في فقرائهم كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "فمن أخرج بعدالطلب لم تجزئه ولو جاهلا" فلا وجه له بعدان أوضحنا لك أن أمرها إلي الامام بتلك الادلة بل من أخرج إلي غيره بغير إذنه لم تجزئه وفي حكم الاذن منه ما هو معلوم من كثير من الائمة من تفويض أهل العلم والصلاح بصرف زكاتهم في مصارفها وصار ذلك كا العادة لهم فإن هذا بمنزلة الاذن لهم وان لم يقع الاذن صريحا.
وأما قوله: "يحلف للتهمة" فهذا صواب لان الامام نائب عن الله في استيفاء حقوقه فله تحليف من يتهمه بكتم البعض منها.
وأما قوله: "ويبين مدعي التفريق" الخ فقد عرفت انه لا يشترط الطلب.
قوله: "والنقص بعدا لخرص".
أقول: وعلى الخارص ان يدع الثلث أو الربع كما في حديث سهل بن أبي حثمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان وصححاه وإنما يحتاج رب المال إلي البينة على النقص بعدالخرص إذا كان السبب خفيا أما إذا كان ظاهرا كأن يقع في الثمرة جائحة فالقول قوله إذا ادعى نقصا يعتاد مثله في تلك الجائحة.
قوله: "وعليه الايصال ان طلب".
أقول: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل النخل والعنب انه كا يبعث من يخرص ذلك كما وردت به الاحاديث ولم يأت البيان عن كيفية حمل ذلك إلي النبي هل كان السعادة هم الذين يوصلونه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يوصله ارباب الاموال وإذا رجعنا إلي الادلة الدالة على ان أرباب الاموال هم المخاطبون بتسليمها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعها اليه كان الستليم المطلوب منهم متوقفا على إيصالهم لها اليه.
قوله: "ويضمن بعدالعزل" الخ.
أقول: لا تأثير لمجردالعزل في الضمان ولا لعدمه في عدمه بل إذا حصد المالك ملكه وقبض ذلك واحرز فإن تلف بعد هذا بتفريط منه مع قدرته على حفظه ضمن زكاة قدر ما تلف وان تلف بأمر غالب ولم يقع منه التفريط فلا ضمان عليه ولا فرق بين عزل قدر الزكاة أو بقائها بين ما هي زكاة له فإن العزل وصف طردى لا تأثير له في الضمان.(1/261)
وأما قوله: "ويكفى التخلية إلي المصدق فقط" فلا وجه لتخصيص ذلك بالمصدق فإن من قال بوجوب الايصال بوجبه إلي الامام وإلي من ينوب عنه وهم السعادة وإلي الفقير أيضا وسائر المصارف إذا اذن الامام لرب المال بالصرف اليهم ومن لم يقل بوجوبه كانت التخلية إلي الجميع كافية.
قوله: "ولا يقبل العامل هديتهم".
أقول: الاستدلال على هذا بحديث أبي حميد الساعدي في الصحيحين وغيرهما قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الازد يقال له: ابن اللتبية فلما قدم قال: هذا لكم وهذا اهدى الي فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمدالله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فاني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا لكم وهذا هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ والله لا ياخذ احدكم شيئا بغير حقه الا لقي الله تعالي بحمله يوم القيامة".
لا يصلح لمنع العامل من قبول الهدية وإنما هو إنكار عليه في تخصيص نفسه بشيء منها لآنها إنما اهديت له لكونه عاملا على الزكاة لا لشيء يرجع اليه نفسه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل ان هذا الحديث يستفاد منه عدم جواز اختصاص العامل بشيء مما يهدي اليه وأما عدم جواز قبوله للهدية فمأخوذ من ادلة اخرى غير هذا الحديث وقد قدمنا حديث: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما اخذ بعد ذلك فهو غلول" ولا سيما إذا كان المقصود بها الرشوة له والتوصل بها إلي مسامحتهم في بعض ما يجب عليهم.
قوله: "ولا ينزل عليهم".
أقول: قد كان السعاة في زمن النبوة ينزلون عليهم إلي ديارهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أرباب الاموال بارضائهم والاحسان اليهم كما اشتملت على ذلك الاحاديث الكثيرة فلا وجه للمنع نعم إذا امتنع ارباب الاموال من ضيافتهم أو جأوزوا القدر الذي تكون فيه الضيافة أكلوا من الزكاة كما انها تكون عمالتهم منها.
قوله: "ولا يبتع أحد ما لم يعشر أو يخمس".
أقول: لقد قدمنا ان الزكاة واجبة من العين وانه لا يجوز العدول إلي الجنس الا مع عدم العين ولا يجوز العدول إلي القيمة الا مع عد الجنس فالقدر الذي لا يجوز بيعه هو الزكاة لا المال المزكى الذي لم يخرج زكاته فإنه لا بأس ببيعه حتى يبقى منه قدر الزكاة فإذا بقي منه قدرها حرم بيعها فلا وجه للمنع من بيع الكل.
وأما الفرق بين ما اخذه المصدق وغيره في رجوع المشترى على البائع فمن غرائب الراي التي لا ترجع إلي معقول ولا منقول.(1/262)
[فصل
فإن لم يكن إمام فرقها المالك المرشد وولى غيره بالنية ولو في نفسه لا غيرهما فيضمن الا وكيلا ولا يصرف في نفسه الا مفوضا ولانية عليه ولا تلحقها الاجازة لكن يسقط الضمان وذو الولاية يعمل باجتهاده الا فيما عين له ولا يجوز التحيل لاسقاطها وأخذها ونحوها غالبا ولا الابراء والضيافة بنيتها ولا اعتداد بما اخذه الظالم غصبا وان وضعه في موضعه ولا يخمس ظنه الفرض] .
قوله: فصل: "فإن لم يكن امام فرقها المالك المرشد" الخ.
أقول: هذا معلوم لا يحتاج إلي التدوين فإن عدم الامام يوجب عدم ثبوت الحق عليهم الذي للامام لان ذلك إنما يكون لامام مووجود لا لإمام مفقود والزكاة فريضة من فرائض الشرع وركن من أركان الإسلام يجب على من هي عليه التخلص عنها بدفعها إلي الامام أو باذنه أو إلي من جعله الله مصرفا لها مع عدم الامام.
وأما كون ولي الصبي والمجنون هو الذي يخرج زكاتهما فلكونهما لا يصلحان للاخراج فينوب عنهما الولي كما ينوب عنهما في غير الزكاة وقد صرح القرأن الكريم بأنه يمل عمن لا يقدر علىان يمل وليه وما ذكره من انه يجوز له ان يصرف في نفسه فذلك صحيح لآنه ليس بمالك بل متصرف عن المالك وهكذا الوكيل له إخراج زكاة الموكل له وصرفها في نفسه مع التفويض إذا كا مصرفا وقد قدمنا الكلام على زكاة الصبي والمجنون بما فيه كفاية ولا وجه لقوله ولا يلحقها الاجازة لان النية تصح متقدمة ومتأخرة ومقارنة لعدم ورود ما يمنع من ذلك فيجزئ المالك ويسقط الضمان على الذي أخرجها بغير أمر منه.
وأما كون ذي الولاية يعمل باجتهاده فلتعذر وقوع ذلك من الصبي والمجنون الا فيما عين له فإنه يكون كالحاكم لنفسه فلا يعمل باجتهاد نفسه.
قوله: "ولا يجوز التحيل لاسقاطها واخذها ونحوها غالبا".
أقول: هذا التحيل لاسقاط فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركان الدين هو شبيه بحيلة اصحاب السبت ولا شك ولا ريب انه ضد للشريعة المطهرة ومعاندة لما فرضه الله على عباده فهو من الحرام البين الذي نهى الله عنه ونعاه على من قعله وليس من المشتبهات كما قاله الامير في حاشيته وهكذا التحيل لأخذ ما حرمه الله على العبد هو أيضا من الحرام البين.
والحاصل ان كل حيلة تنصب لاسقاط ما أوجبه الله أو تحليل ما حرمه فهي باطلة لا يحل لمسلم ان يفعلها ولا يجوز تقرير فاعلها عليها ويجب الانكار عليه لانه منكر وأما إذا كانت للخروج من مأثم كما في قوله تعالي: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] ، وكما ورد في حد المريض في زمنه صلى الله عليه وسلم يعثكول من النخل فذلك جائز وهو من الحلال البين وبين الامرين من التفأوت ما بين السماء والارض.(1/263)
قوله: "ولا الابراء والاضافة بنيتها".
أقول: أما الابراء فقد قدمنا ان الزكاة تجب من العين فإذا لم تكن العين موجودة جاز إخراج الجنس ثم القيمة فهذا الذي جعل الدين الذي له على الفقير من الزكاة الواجبة عليه ان كانت العين موجودة لديه صرفها إلي الفقير وردها الفقير اليه قضاء عن دينه وان لم تكن موجودة لديه كان الابراء للفقير في حكم التسليم اليه ولا مانع من ذلك ومن ادعى ان ثم مانعا فعليه الدليل.
وأما الاضافة للفقير فإن كان ذلك بعين الزكاة فلا شك في جوازه وهكذا ان كان بجنسها مع عدم العين ومن ادعى ان ثم مانعا فعليه الدليل وأما التعليل بالعلل الفرعية من كون الزكاة تمليكا وكون النية لا بد ان تكون مقارنة فليس ذلك مما تقوم به الحجة بل هو في نفسه عليل.
قوله: "ولا اعتداد بما اخذه الظالم غصبا وان وضعه في موضعه".
أقول: هذه المسألة قد أوضح الامر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه لامته كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري: "7052", مسلم: "45/1843"] وغيرهما من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها"، فقالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم".
وأخرج مسلم ["1846"] وغيره [الترمذي "2199"] من حديث وائل بن حجر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله فقال أرأيت ان كان علينا امراء يمنعون حقنا ويسألون حقهم قال: "اسمعوا واطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"، وفي الباب أحاديث واثار كثيرة عن جماعة من الصحابة وقد جعل الله أمر الزكاة إلي الائمة عدلوا أو جاروا فرب المال قد أوجب الله عليه الدفع اليهم لان ذلك هو من الحق الذي لهم ومن تمام الطاعة الثابتة في الكتاب والسنة المتواترة فالقول بعدم الاعتداد هو مجرد شك ووسوسة اقتضى ذلك عدم الاشتغال بعلم السنة وقد قدمنا ذكر الادلة الدالة على وجوب الدفع للزكاة إلي السعاة وان جاروا وظلموا وحصول البراءة بالتسليم اليهم.
وأما قوله: "ولا بخمس ظنه الفرض" فلا وجه له لأنه قد أخرج الواجب وزيادة عليه نأويا به الزكاة فوقع قدر الزكاة عنها والزائد إذا أراد استرجاعه فله ذلك لانه إنما أخرجه معتقدا لوجوبه عليه فانكشف خلافه.
[فصل
ولغير الوصي والولي التعجيل بنيتها الا عما لم يملك وعن معشر قبل إدراكه وعن سائمة وحملها وهو إلي الفقير تمليك فلا يكمل بها النصاب ولا يردها ان انكشف النقص(1/264)
الا لشرط والعكس في المصدق ويتبعها الفرع فيهما ان لم يتمم به وتكره في غير فقراء البلد غالبا] .
قوله: فصل: "ولغيرالولي والوصي التعجيل بنيتها".
أقول: قد دل على ذلك حديث على ان العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك أخرجه أحمد ["1/104"] وأهل السنن [أبو داود "1624", الترمذي "678", ابن ماجه "1795"] والحاكم والدارقطني والبيهقي وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وليس ذلك بقادح في الاحتجاج به ولا ينافي هذا ما ورد في وجوب الزكاة من العين لان الجمع ممكن بحمل حديث التعجيل على انه أخرج زكاته من العين التي ستجب عليه عند كمال الحول.
ومن ادلة جواز التعجيل ما أخرجه البيهقي عن علي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن كنا احتجنا فاستلفنا من العباس صدقة عامين" قال ابن حجر ورجاله ثقات الا انه فيه انقطاعا وأخرج أبو دأودالطيالسي من حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الأول".
وأما قوله: "إلا عما لايملك وعن معشر قبل إدراكه" فهو صواب لما قدمنا من ان الزكاة تجب من العين وذلك المعجل قدملكه الفقير ان انكشف ان الزكاة واجبة على المالك والا رده كما اشار اليه المصنف ولا وجه لقوله والعكس في المصدق وهكذا الفرع له حكم الاصل في الرد وعدمه ولا يتمم به النصاب لما قدمنا في قوله وحول الفرع حول اصله.
قوله: "وتكره في غير فقراء البلد غاليا"
أقول: الاحاديث الصحيحة قد دلت على ان الزكاة تؤخذ من الاغنياء في البلد وترد في الفقراء منهم ولا ينافي ذلك انه كان السعاة يحملون اليه من الزكوات التي يقبضونها فإن مصارف الزكاة ثمانية والرد في فقراء البلد إنما هو لسهم الفقراء ومن الزكاة لا لغيره على انه لا ينافي الرد في فقراء البلد حمل بعض نصيبهم إلي النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك قد يكون لاستغناء فقراء البلد بصرف بعض نصيب الفقراء فيهم وقد يكونون اغنياء وقد لا يوجد فيهم من يستحق الصرف فيه.
وبما ذكرناه تعرف الجمع بين الاحاديث ويتضح عدم التعارض بينها.(1/265)
[باب والفطرة تجب من فجر أول شوال إلي الغروب
في مال كل مسلم عنه وعن كل مسلم لزمته فيه نفقته بالقرابة أو الزوجية أو الرق أو انكشف ملكه فيه ولو غائبا وإنما تضيق متى(1/265)
رجع الا المأيوس وعلى الشريك حصته وإنما تلزم من ملك فيه له ولكل واحد قوت عشر غيرها فإن ملك له ولصنف فالولد ثم الزوجة ثم العبد لا لبعض صنف فتسقط ولا على المشتري وتحوه مما قد لزمته وهي صاع من أي قوت عن كل واحد من جنس واحد الا لاشتراك أو تقويم وانما تجزئ القيمة للعذر وهي كالزكاة في الولاية والمصرف غالبا فتجزئ واحدة في جماعة والعكس والتعجيل بعد لزوم الشخص وتسقط عن المكاتب قيل حتى يرق أو يعتق والمنفق من بيت المال وبأخراج الزوجة عن نفسها وبنشوزها أول النهار موسرة ويلزمها ان اعسر أو تمرد.
وندب التبكير والعزل حيث لا مستحق والترتيب بين الافطار والاخراج والصلاة] .
قوله: "باب والفطرة تجب من فجر أول شوال إلي الغروب".
أقول: قد ثبت في الاحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر وفي الاحاديث الخارجة عن الصحيحين بلفظ: "صدقة الفطر واجبة على كل مسلم" وفي بعض أحاديث الصحيحين بلفظ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر فوجوبها لا شك فيه ولا شبهة ولا يقدح في ذلك ما أخرجه النسائي عن قيس بن سعد بن عبادة قال امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل ان تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله فإن في إسناده رأويا مجولا فلا تقوم به الحجة وعلى التسليم فلا دليل فيه على النسخ لان الامر الأول يكفى ولا يحتاج إلي تجديد.
وقد نقل ابن المنذر وغيره الاجماع على وجوب صدقة الفطر قال في الفتح وفي نقل الاجماع نظر لأن إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الاصم قالا ان وجوبها نسخ انتهى ولا يخفاك انهما ليسا ممن يتكلم في النسخ ولا يعتد بقولهما ولكنه قد روى عن اشهب انها سنة مؤكدة وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية والادلة الصحيحة ترد عليهم وتدفع قولهم.
وأما كون وقت الوجوب من فجر أول شوال إلي الغروب فحديث ابن عباس قال "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطرة طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فن اداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن اداها بعدالصلاة فهي صدقة من الصدقات" أخرجه أبو دأود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه يدل على انها لا تكون بعد الصلاة زكاة فطر بل صدقة من صدقات التطوع والكلام في زكاة الفطر فلا تجزئ بعدالصلاة وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امر بزكاة الفطر ان تؤدى قبل خروج الناس إلي الصلاة".
قوله: "وفي مال كل مسلم عنه وعن كل مسلم لزمته فيه نفقته بالقرابة أو الزوجية أو الرق".(1/266)
أقول: هذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والانثى والصغير والكبير من المسلمين".
وفي حديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما قال كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من من تمر أو صاعا من اقط أو صاعا من زبيب.
وأما إيجاب الاخراج على من لزمته النفقة فذلك ظاهر في العبد وأما الصبي فيخرج عنه وليه من مال الصبي وكذا المجنون وأما الزوجة فتخرج من مالها إذا كان لها مال فإن لم يكن لها ولا للصبي ولا المجنون مال فالظاهر عدم الوجوب وأما الغريب الكبير الذي ينفقه قريبة فلا وجه لايجاب ذلك على من ينفقه وأما ما روى بلفظ: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون".
أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا وأخرجه البيهقي من حديث علي ففي إسنادهما مقال ولا تقوم بذلك حجة.
ويقوى ما ذكرناه في العبد حديث أبي هريرة مرفوعا: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة الا صدقة الفطر" أخرجه مسلم وهو في البخاري بدون الاستثناء.
قوله: "وإنما تلزم من ملك له ولكل واحد قوت عشر غيرها".
أقول: هذا التقرير يقوت عشر مجرد رأي محض لا دليل عليه وظاهر الاحاديث الواردة بأن زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين وهكذا مأورد من الامر بإغناء الفقراء في هذا اليوم يدلان على ان المعتبر وجود وقت هذا اليوم فمن وجده ووجد زيادة عليه أخرجها عن الفطرة ومن لم يجد الا قوت اليوم فلا فطرة عليه لانه إذا أخرجها احتاج للنفقة في هذا اليوم وصار مصرفا للفطرة.
وإذا صح ما ورد من ايجابها على الغني والفقير قد عرفت ما هو الغنى فيما تقدم وعرفت ان الفقير من لا يجد ما يجده الغنى فايجاب الفطرة على الفقير لايستلزم ان يخرج قوت يومه.
وأما قوله: "فإن ملك له ولصنف فالولد" الخ فقد عرفت مما تقدم انه لم يتقرر وجوب إخراج الفطرة الا عن العبد للحديث الصحيح الوارد بذلك.
وأما ما ورد من تقديم النفس ثم الأهل كما في حديث جابر عند مسلم وما ورد من تقديم النفس ثم الولد ثم الزوجة ثم الخادم كما في حديث أبي هريرة عندا حمد وأبي دأود والنسائي وابن حبان والحاكم فذلك في النفقة لا في الفطرة فالتقديم في النفقة يكون هكذا وأما في الفطرة فلا بد(1/267)
من دليل يدل على الوجوب ولا دليل الا في العبد ولم ينتهض حديث "ممن تمونون" للحجية كما قدمنا.
وأما قوله: "لا لبعض صنف فتسقط" فالمناسب لتفريع المصنف ان تجب عليه الفطرة لمن ملك له قوت عشر من ذلك الصنف وأما جعل ذلك كعدم كمال النصاب فخارج عن البحث لا جامع بينه وبين ما نحن بصدده. وأما قوله ولا تجب على المشتري ونحوه ممن قد لزمته فوجه ذلك ان الوجوب قد ثبت على الأول.
قوله: "وهي صاع من أي قوت".
أقول: قد ذكرت في شرحي للمنتقى ان الاحاديث الواردة بأن الفطرة نصف صاع من الحنطة تنتهض بمجموعها للتخصيص وذكرت الكلام علىما ذكره أبو سعيد فليرجع اليه وقد ذهب إلي ذلك جماعة من الصحابة منهم عثمان وعلي وابو هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وامه اسماء بنت أبي بكر كما حكى ذلك عنهم ابن المنذر قال ابن حجر باسانيد صحيحة.
قوله: "وإنما تجزئ القيمة للعذر".
أقول: هذا صحيح لان ظاهر الاحاديث الواردة بتعيين قدر الفطرة من الاطعمة ان إخراج ذلك مما سماه النبي صلى الله عليه وسلم متعين وإذا عرض مانع من إخراج العين كانت القيمة مجزئة لان ذلك هو الذي يمكن من عليه الفطرة ولا يجب عليه مالا يدخل تحت إمكانه.
قوله: "وهي كالزكاة في الولاية والمصرف".
أقول: هذه زكاة خاصة لطهرة الصائم من اللغو والرفث ولإغناء الفقراء في ذلك اليوم فمصرفه الفقراء والولاية في الصرف لمن عليه الفطرة ولم يرد ما يدل على ان الولاية للامام ولا يصح التمسك بعموم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية والا لزم ان صدقة المتطوع يكون مصرفها الثمانية الاصناف وان الولاية فيها للإمام ولا قائل بذلك.
أما قوله: "فتجزئ واحدة في جماعة والعكس" فذلك صحيح لآن الولاية له فيتحرى في الصرف ما هو الاقرب إلي سد فاقة الفقراء من غير ان يفرقها تفريقا لا ينفع.
قوله: "ويجزئ التعجيل بعد لزوم الشخص".
أقول: جعلها ظهرة للصائم من اللغو والرفث وكذلك التصريح باغناء الفقراء في ذلك اليوم وكذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر ان تؤدى قبل خروج الناس إلي الصلاة يدل على ان وقتها يوم الفطر قبل الخروج إلي صلاة العيد ولكنه روى البخاري وغيره من حديث ابن عمر انهم كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين فيقتصر على هذا القدر في التعجيل وقد حكى الامام يحيى إجماع السلف على جواز التعجيل فيحمل هذا الاجماع على(1/268)
هذا القدر من التعجيل وهو يستفاد من حديث: "من أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة" فإن المراد القبلية القريبة لا القبلية البعيدة التي تنافي حديث: "إنها طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين". [أبو دأود "1609"، ابن ماجة "1827".
وأما قوله: "وتسقط عن المكاتب" فصحيح لانه قد صار متصفا بصفة هي متوسطة بين الحر والعبد فلم يكن حرا خالصا ولا عبدا خالصا ولم يرد النص الا في فطرة العبد كما تقدم.
وأما قوله: "والمنفق عليه من بيت المال" فلا وجه للسقوط بل هو كغيره من المسلمين إن وجد زيادة على كفاية يومه أخرجها وان لم يجد الزيادة فلا فطرة عليه ولا تأثير لكونه منفقا عليه من بيت المال.
وأما ما ذكره من سقوطها عن الزوجة باخراجها عن نفسها وبنشوزها فقد عرفت ان فطرتها واجبة عليها لاعلى زوجها.
وأما قوله: "والعزل حيث لا مستحق" فذلك غاية ما يقدر عليه مع عدم المصرف.
قوله: "وندب التبكير"
أقول: ان أراد بالتبكير انها تجزئ قبل الخروج إلي الصلاة فذلك واجب ولا تكون فطرة الا إذا أخرجها في ذلك الوقت كما تقدم وان أراد الزيادة في التبكير حتى يكون إخراجها مثلا بعد فجر يوم الفطر فلا دليل على ذلك.
قوله: "وندب الترتيب بين الافطار والاخراج والصلاة".
أقول: الوارد عنه صلى الله عليه وسلم أخراج الفطرة قبل الخروج إلي الصلاة وتنأول شيء يفطر به قبل الخروج إلي الصلاة فإذا فعل ذلك فعل المشروع سواء قدم الافطار على اخراج الفطرة أو اخره عليه.(1/269)
كتاب الخمس
[فصل
يجب على كل غانم في ثلاثة الأول صيد البر والبحر وما استخرج منهما أو اخذ من ظاهرهما كمعدن وكنز ليس لقطة ودرة وعنبر ومسك ونحل وحطب وحشيش لم يغرسا ولو من ملكه أو ملك الغير وعسل مباح.(1/269)
الثاني: ما يغنم في الحرب ولو غير منقول ان قسم الا مأكولا له ولدابته لم يقبض منه ولا تعدى كفايتهما أيام الحرب.
الثالث: الخراج والمعاملة وما يؤخذ من أهل الذمة] .
قوله: "كتاب الخمس يجب على كل غانم في ثلاثة الأول صيد البر والبحر".
أقول: اعلم ان هذه الشريعة المطهرة وردت بعصمة اموال العباد وانه لايحل شيء منها الا بطيبة من انفسهم وان خلاف ذلك من أكل اموال الناس بالباطل وقد ثبت في الكتاب والسنة ان الله سبحانه احل لعباده صيد البر والبحر فما صادوه منهما فهو حلال لهم داخل في املاكهم كسائر ما احل الله لهم فمن زعم ان عليهم في هذا الصيد الحلال خمسة أو اقل أو اكثر لم يقبل منه ذلك الا بدليل يصلح لتخصيص الادلة القاضية بعصمة اموال الناس وينقل عن الاصل المعلوم بالضرورة الشرعية ولم يكن ها هنا دليل قط بل ايجاب ذلك سببه توهم دخول الصيد تحت عموم قوله تعالي: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] ، وهو توهم فاسد وتخيل مختل.
قوله: "وما استخرج منهما أو اخذ من ظاهرهما كمعدن".
أقول: قد ثبت حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جرحها جبار والبئر جبار وفي الركاز الخمس" وهو يدل على وجوب الخمس في الركاز ولكنه اختلف في تفسير الركاز فقال مالك والشافعي انه دفن الجأهلية وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهما ان المعدن ركاز وخصص الشافعي الركاز بالذهب والفضة وقال الجمهور لا يختص الركاز بهما واختاره ابن المنذر وهذا مبحث لغوي يرجع فيه إلي تفسيره عند أهل اللغة لانه لم تثبت فيه حقيقة شرعية فقال في الصحاح والركاز دفن الجأهلية كأنه ركز في الارض ركزا انتهى فهذا يقتضي انه خاص بدفن الجأهلية وأما صاحب القاموس فقال في الركاز ما ركزه الله تعالي في المعادن أي احدثه ودفين أهل الجأهلية وقطع الفضة والذهب من المعدن انتهى.
وظاهر هذا ان ما خلقه الله في المعادن فهو ركاز وان كان من غير الذهب والفضة وان ما يوجد في معادن الذهب والفضة من قطع الذهب والفضة ركاز.
وقال صاحب النهاية ان الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجأهلية المدفونة في الارض وعند أهل العراق المعادن والقولان تحتملهما اللغة لان كلا منهما مركوز في الارض أي ثابت ثم قال والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجأهلي انتهى.
فهذا تصريح منه بأن الحديث إنما ورد في الكنز الجأهلي وقد اتفق عليه أهل اللغة ويقصر عليه لانه مدلول الحديث ببقين وما عداه فهو محتمل فلا يحمل الحديث عليه وان كان له مدخل في الاشتقاق فلا يجب الخمس الا في دفين الجأهلية ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو دأود والنسائي والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل في كنز وجده في خربة: "إن وجدته في خربة جأهلية أو قرية(1/270)
غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس وان وجدته في قرية مسكونة أو طريق ميتاء فعرفه".
وإذا تقرر لك هذا الحديث عرفت انه لا وجه لايجاب الخمس فيما استخرج من البحر من الجواهر ونحوها ولا فيما استخرج من الارض من المعادن ونحوها بل في الكنز الذي هو من كنز الجأهلية فقط وعلى تقدير ان الركاز يتنأول زيادة على دفين الجأهلية وسلمنا الاحتجاج بالمحتمل فلا يشمل زيادة على معدن الذهب والفضة.
وبهذا يتضح لك انه لا خمس فيما ذكره المصنف من الدرة والعنبر والمسك والنحل والحطب والحشيش والعسل.
قوله: "والثاني ما يغنم في الحرب".
أقول: هذا أمر متفق عليه كما حكاه القرطبي قال اتفقوا على ان المراد بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] . مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون وقد حكى هذا الاجماع غيره من أهل العلم والادلة من الكتاب والسنة فيه أوضح من كل واضح واجلى من كل جلي وأما حرب بغاة السملمين فقد وردت الادلة الصحيحة بعصمة اموالهم بكلمة الإسلام والقيام بأركانه فلا يحل من اموالهم الا ما دل الدليل الناقل عن تلك العصمة عليه فمن جاء به صافيا عن شوب الكدر فبها ونعمت ومن عجز عن ذلك وقف حيث أوقفه الله وكف يده ولسانه وقلمه عن الكلام فيما ليس من شأنه ولا اذن الله له به.
ولا فرق في المغنوم من الكفار بين الاراضي وغيرها وأما استثناء المأكول فلا بد فيه من دليل يصلح لاخراجه من عموم الغنائم ولا يصلح لذلك ما روى انهم كانوا يأكلون ما يكفيهم من طعام ونحوه لاحتمال ان يكون ذلك بعدالقسمة أو انه محسوب عليهم من نصيبهم من الغنيمة وفي حديث الجراب الشحم المغنوم في خيبر ما يرشد إلي ما ذكرناه وهو ثابت في الصحيح [البخاري "7/481"، مسلم "72/1772"] .
قوله: "الثالث الخراج والمعاملة وما يؤخذ من أهل الذمة".
أقول: أما الخراج والمعاملة فأرضهما هي من الارض المغنومة من الكفار وفيها الخمس لانها المغنومة وأما ما يؤخذ منها من خراج أو معاملة فأمر وراء الغنيمة لان تلك الارض بعد تخميسها أما ان تقسم على السملمين ولكل واحد منهم ان يدعها في يد أهلها على خراج يؤدونه أو معاملة وذلك هو فائدة ارضه التي دخلت في ملكه كما يدخل في ملكه بالشراء والميراث وله ان يدعها في يد أهلها ويتصرف بها بما شاء من بيع أو غيره.
وأما إذا لم تقسم تلك الارض ورضى الغانمون بأن يشتركوا فيما حصل من غلتها فليس عليهم في ذلك خمس لان الخمس قد وجب في أصل الارض.
وأما الجزية وسائر ما يؤخذ من أهل الذمة فعدم الخمس فيها معلوم لانها موضوعة على أهل الذمة إلي مقابل تأمينهم وعصمة اموالهم ودمائهم وليست من الغنيمة التي تغنم في الحرب.
والحاصل ان ايجاب الخمس في هذه الثلاثة الأنواع لم يكن لدليل ولا لرأي مستقيم.(1/271)
وإذا تقرر لك هذا عرفت انه لا يجب الخمس الا في الغنيمة من الكفار وفي الركاز وما عدا ذلك فليس الا مجرد دعأوى لا برهان عليها من معقول ولا منقول.
[فصل
ومصرفه من في الآية فسهم الله للمصالح وسهم الرسول للامام ان كان والا فمع سهم الله وأولو القربى هم الهاشميون المحقون وهم فيه بالسوية ذكرا وانثى غنيا وفقيرا ويخصص ان انحصروا والا ففي الجنس وبقية الاصناف منهم ثم من المهاجرين ثم من الانصار ثم من سائر المسلمين وتجب النية ومن العين الا لمانع وفي غير المنفق] .
قوله: "فصل ومصرفه من في الآية فسهم الله للمصالح وسهم الرسول للامام".
أقول: قد ذكرت في تفسيري الذي سميته فتح القدير في هذا ستة مذاهب للسلف واحسن الاقوال واقربها إلي الصواب ان سهم الله سبحانه موكول إلي نظر الامام فيصرفه في الامور التي هي شعائر الدين ومصالح المسلمين.
وأما سهم الرسول فلا شك انه للإمام لورود الادلة الدالة على ان ما جعله الله لرسوله فهو لمن يلي امور المسلمين بعده وعليه ان يضع ذلك في مواضعه ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لي مما أفاء الله عليكم الا الخمس والخمس مردود عليكم"، وإذا لم يوجد الامام كان لمن صلح من الملمين ان يضعه في مواضعه.
قوله: "أولو القربى هم الهاشميون المحقون".
أقول: قداختلف السلف في ذلك فقيل هم قريش كلها وقيل هم بنو هاشم وبنو المطلب وقيل هم بنو هاشم خاصة والحق ان بني المطلب لهم نصيب من الخمس فقد ثبت في الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم اعطاهم منه معللا ذلك بقوله: "إنما نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه" فدل ذلك على ان لهم في سهم ذوى القربى كما لبني هاشم في ذلك.
وأما كونه يستوى في ذلك الذكر والأنثى والغني والفقير فينبغي تفويض ذلك إلي نظر الامام العادل الذي يقسم بالسوية ويعمل بما ثبت في الشرع ويؤثره على غيره.
قوله: "وبقية الاصناف منهم".
أقول: هذه دعوى مجردة وتقييدالقرآن الكريم بمجرد الرأي الذي لا دليل عليه والحق ان لليتامى على العموم سهم من الخمس وكذلك للمساكين وابناء السبيل فالقول بأن هذه الثلاثة الاسهم تصرف في سهم ذوي القربى بعيد من الحق بعدا شديدا ومخالف للنصوص القرآنية مخالفة بينة.(1/272)
وأما قوله: "ثم من المهاجرين ثم من الانصار ثم من سائر المسلمين" فليس لهذا الترتيب وجه بل يستحق يتامى المهاجرين والانصار وابناء سبيلهم من هذه الثلاثة السهوم نصيبهم ولا تكون مرتبتهم مسقطة لمن كان من أهل هذه الثلاثة السهوم من غيرهم فهذا شيء قد تولى الله سبحانه قسمته في كتابه فليس لنا ان نقول بالرأي وتقييد كلامه سبحانه بمجرد الخيال ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا شيء حتى يقال انه مقيد للكتاب أو مخصص له.
قوله: "وتجب النية".
أقول: قد قدمنا غير مرة ان الاحاديث المصرحة بأن "الاعمال بالنيات" وبأنه "لا عمل إلا بنية" تدل على وجوب النية في كل عمل وقول ولا سيما الاقوال والافعال التي هي قرب فلا يحتاج إلي الاستدلال على ذلك في كل باب من الابواب والامر أوضح من ان يحتاج إلي تطويل الاستدلال.
وأما كون الخمس يجب من العين فذلك ظاهر لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فأوجب الخمس في المغنوم وذلك ينصرف إلي عينه فلا يجزئ غيرها الا بدليل.
وأما كون الصرف يكون في غير المنفق فقد تقدم في الزكاة ما يفيد في مصرف الخمس فارجع اليه.
[فصل
والخراج ما ضرب على ارض افتتحها الامام وتركها في يد أهلها على تأديته والمعاملة على نصيب من غلتها ولهم في الارض كل تصرف ولا يزد الامام على ما وضعه السلف وله النقص فإن التبس فالأقل مما على مثلها في ناحيتها فإن لم يكن فما شاء وهو بالخيار فيما لا يحول بين الوجوه الاربعة] .
قوله: فصل: "والخراج" الخ.
أقول: هذا البيان لماهية الخراج والمعاملة صحيح.
وأما قوله: "ولهم في الأرض كل تصرف" فلا يدرى ما سببه ولا ما هو الامر الذي يقتضيه فإنها قد خرجت عن ملكيتهم باغتنام المسلمين لها فلا يقتضي ابقاؤهم عليها خراجا أو معاملة عودها إلي ملكهم اصلا فكيف يصح لهم فيها كل تصرف ومن اين جاز لهم ذلك فإن هذا لا تقتضيه القواعدالفقهية مع كون الادلة ترده فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل خيبر بعد أن صالحهم على أن لهم الشطر من ثمارها: "نقركم على ذلك ما شئنا"، وهو في الصحيحين [البخاري "5/21"، مسلم "6/1551"] ، وغيرهما [أبو دأود "3008"] .(1/273)
قوله: "ولا يزد الامام على ما وضعه السلف".
أقول: الامام العادل الناظر في مصالح المسلمين له ان يفعل ما فيه مصلحة لهم على وجه لا يضر بالعاملين في الارض ولا يكون وضع من قبله ما نعاله من الزيادة التي تقتضيها المصلحة كما انه لا يكون ما نعاله له من النقصان الذي تقتضيه المصلحة فله رأيه ونظره المطابق لمراد الله سبحانه وإذا اقتضى نظره نزع الارض من ايديهم نزعها وإذا اقتضى نظره وضعها في يد قوم آخرين فعل فقول المصنف ولا يزد الامام على ما وضعه السلف لا وجه له ولا دليل عليه الا مجرد ايجاب تقليدالاخر للأول وإهمال النظر في المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والاشخاص.
وهذا هو في الاراضي المنتزعة من ايدي الكفار بالجهاد الذي أوجبه الله على المسلمين وأما ما صار يتمسك به بعض المقصرين المروجين للشبه المرخصين في الاموال المعصومة من ان حكم الارض المنتزعة من ايدي البغاة مثل حكم الارض المغنومة من الكفار فهذا كلام ليس من الشرع في شيء بل من التشهي والحكم بالهوى والتلاعب بالدين.
وأما ما صارت الطوائف الإسلامية تترامى به من تكفير التأويل فتلك فاقرة من فواقر الدين لا ترجع إلي أصل ولا تنبنى على عقل ولا نقل لا يغتر بمثلها الا جأهل ومتعصب وكلاهما لا يستحق الكلام معه وسيأتي لهذا مزيد تحقيق عند الكلام على قوله وكل ارض اسلم أهلها.
قوله: "وهو بالخيار فيما لا يحول بين الوجوه الاربعة".
أقول: قد قدمنا ان له ان يعمل بما فيه مصلحة عائدة على المسلمين جارية على منهج لدين فإذا رأى المصلحة في وجه غير الوجوه الاربعة وذلك كأن يقتضي نظره ان يبيعها من أهللها أو من غيرهم عندالظفر بها ويقسم الغنيمة على الغانمين فعل ذلك وهكذا إذا اقتضى نظره تخريب الدور وتغيير رسوم الاموال وقطع الاشجار وتغوير الانهار فعل ذلك لانه ربما يغلب على الظن ان أهلها يغلبون عليها وينتزعونها من ايدي المسلمين كما يقع مثل ذلك كثيرا بين المسلمين والكفار تارة يغلب هؤلاء وتارة يغلب هؤلاء وهكذا إذا اقتضى نظره ان يخص بها بعض الغانمين دون بعض فعل إذا كان في ذلك مصلحة وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارض بني النضير فإنه خص بها المهاجرين لما لم تكن لهم اموال يعيشون بها.
[فصل
ولا يؤخذ خراج ارض حتى تدرك غلتها ويسلم الغالب ولا يسقطه الموت والفوت وبيعها إلي مسلم واسلام من هي في يده وان عشرا ولا يترك الزرع تفريطا] .
قوله: فصل: "ولا يؤخذ خراج ارض حتى يدرك غلتها".(1/274)
أقول: وجه هذه انه لو اخذ الخراج قبل ذلك وذهبت غلة الارض بجائحة كان في الاخذ ظلم على العاملين في الارض الا ان يكون بينهم وبين من إليه الخراج مواطأة على ان ذلك الخراج يسلم في كل عام أو في وقت حصول الغلة سواء زرعت الارض ام لا ادركت غلتها ام لا فإن ذلك يصير كالاجارة لنفس الارض وقدا ختاروا لأنفسهم ذلك ورضوا به والا فقد ثبت الامر بوضع الخراج وهو عام.
وأما قوله: "ولا يسقط بالموت والفوت" فالأمر كذلك لأن الارض باقية والوضع عليها لا على الاشخاص.
وهكذا بيعها إلي مسلم واسلام من هي في يده.
وأما قوله: "ويترك الزرع تفريطا" فمبنى على ما قدمنا من التراضي وأما مع عدم ذلك فاخذ الخراج من ارض لم تزرع ظلم لا يحل للإمام والمسلمين فعله.
وحكم المعاملة حكم الخراج وإنما ترك المصنف ذكر ذلك لكون المعاملة هي على نصيب من الغلة كما سبق فإذا لم تدرك الغلة وذهبت بجائحة لم يجز للامام ولا لغيره من المسلمين ان يأخذوا منهم الا بقدر ما سلم فقط.
[فصل
والثالث أنواع:
الأول الجزية وهي ما يؤخذ من رءوس أهل الذمة وهو من الفقير اثنا عشرة قفلة ومن الغني وهو من يملك الف دينار وثلاثة آلاف دينار عروضا ويركب الخيل ويتختم الذهب ثمان واربعون ومن المتوسط اربع وعشرين وإنما تؤخذ ممن يجوز قتله وقبل تمام الحول.
الثاني: نصف عشر ما يتجرون به نصابا منتقلين بأماننا بريدا.
الثالث: الصلح ومنه ما يؤخذ من بني تغلب وهو ضعف ما على المسلمين من النصاب.
الرابع: ما يؤخذ من تاجر حربي آمناه وإنما يأخذ إن اخذوا من تجارنا وحسب ما يأخذون فإن التبس أولا تبلغهم تجارنا فالعشر ويسقط الأول بالموت والفوت وكلها بالإسلام] .
قوله: فصل: "والثالث أنواع الأول الجزية" الخ.(1/275)
أقول: قد قدمنا انه لا خمس في خراج ولا معاملة ولا ما يؤخذ من أهل الذمة وأما الفرق بين الغني والفقير والمتوسط وتفسير كل واحد منهم بهذه التفاسير فليس لذلك أصل يرجع اليه ولاله دليل يعتمد عليه وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم للناس ما نزل اليهم من قوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ، فامر معاذ بن جبل ان يأخذ من كل حالم دينارا.
أخرجه أحمد ["5/230"] وابو دأود ["1576", "1577", "1578"] والترمذي ["623"] والنسائي ["5/26"] وابن حبان والحاكم وصححاه وإذا نظر الامام لمصلحة راجعة إلي الدين وأهله ان يزيد شيئا من غير ظلم أو ينقص شيئا فعل.
وأخرج البخاري ["6/257"] عن ابن أبي نجيح قال قلت لمجاهد ما شان أهل الشام عليهم اربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال جعل ذلك من قبيل اليسار.
وأما كونها لا تؤخذ الا ممن يجوز قتله فلأمره صلى الله عليه وسلم لمعاذ ان يأخذها من كل حالم.
قوله: "الثاني نصف عشر ما يتجرون به" الخ.
أقول: لم يات في الكتاب العزيز الا الجزية ولا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه ضرب على اموال أهل الذمة شيئا ولا وجه للاستدلال بما وقع من بعض الصحابة فإن ذلك لا تقوم به الحجة لا سيما في مثل اموال المعاهدين الذين وردت السنة المطهرة بأن ظالمهم "لا يرح رائحة الجنة" [أحمد "5/46، 5/50"، أبو دأود "2760"، النسائي "8/24"] .
فالحاصل انه لا يجب عليهم شيء سوى الجزية وهي مأخوذة لحقن الدماء وليس في أموالهم شيء فإن الله سبحانه إنما فرض الزكاة والفطرة في أموال المسلمين تطهرة لهم كما قال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، ولا تطهرة للكفار فهذه المسألة مبنية على غير أساس لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس.
قوله: "الثالث الصلح ومنه ما يؤخذ من بني تغلب".
أقول: ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مصالحة أهل البحرين وكانوا مجوسا كما ثبت في الصحيحين [البخاري "6/257-258", مسلم "6/2961"] وكذلك مصالحته لأكيدر دومة [أبو داود "3037"] وكذلك مصالحته لأهل نجران وكل ذلك جزية صالحهم على مقدارها بما روى عنه في ذلك وليس ذلك مالا آخر غير الجزية وفي ذلك دليل على ان للإمام ان يصالح عن الجزية بما فيه مصلحة.
قوله: "الرابع ما يؤخذ من تاجر حربي امناه".
أقول: هذا الذي يؤخذ من تجار أهل الحرب هو أيضا جزية لانه مأخوذ في مقابلة تأمينهم في بلاد السملمين وحقن دمائهم وليس ذلك شيئا آخر غير الجزية وللإمام ان يأذن لتجار أهل الحرب ان يدخلوا بتجارتهم إلي ارض المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة.
وأما كونه يؤخذ منهم بقدر ما ياخذون من تجارنا إن اخذوا وإلا فلا فهذا أيضا مما لنظر الائمة فيه مدخلا لأن الاخذ منهم مع كون أهل الحرب لا يأخذون من تجار المسلمين يؤدى إلي إنزال الضرر بتجار المسلمين.(1/276)
والحاصل ان الامام المتبصر العارف بموارد هذه الشريعة ومصادرها لا يخفى عليه ما فيه المصلحة أو المفسدة فله نظره المطابق للصواب العائد على المسلمين بجلب المصالح ودفع المفاسد.
قوله: "ويسقط الأول بالموت والفوت".
أقول: لا وجه لهذا السقوط لانه دين قد ثبت للمسلمين بذمة الذمي الذي مات أو فات فلا يسقطه الا مسقط شرعي وقد وفى المسلمون له بالامان فاستحقوا ما جعلوه عليه في مقابلته لا شك في ذلك.
وأما سقوط الجميع بالإسلام فذلك أمر ظاهر لا يحتاج إلي ذكره لان ذلك المأخوذ إنما كان لكونهم كفارا وقد صاروا مسلمين فلم يبق الموجب للأخذ والإسلام يجب ما قبله.
[فصل
وولاية جميع ذلك إلي الامام وتؤخذ هذه مع عدمه ومصرف الثلاثة المصالح ولو غنيا وعلويا وبلديا وكل ارض اسلم أهلها طوعا أو احياها مسلم فعشرية ويسقط بأن يملكها ذمي أو يستأجرها ويكرهان وينعقدان في الاصح وما اجلى عنها أهلها بلا إيجاف فملك للإمام وتورث عنه] .
قوله: فصل: "وولاية جميع ذلك إلي الامام".
أقول: قد كان أمر هذه الامور إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صار إلي الخلفاء الراشدين من بعده فأفاد ذلك ان امرها إلي الائمة ولا يحتاج إلي الاستدلال بزيادة على هذا.
وأما كونها تؤخذ مع عدمه فذلك أمر واضح لانها واجبات شرعية يجب على المسلمين صرفها في مصارفها فإن لم يوجد الامام كان امرها إلي من له نهضة بالقيام بأمور المسلمين كائنا من كان.
وأما قوله: "ومصرف الثلاثة المصالح" الخ فلا يخفى انها كانت معروفة في زمن النبوة وفي أيام الخلفاء الراشدين إلي مصارف معروفة فينبغي للإمام ان يتحرى ذلك ويضعها في مثل تلك المصارف بحسب ما يبلغ اليه إجتهادة ويدخل تحت قدرته وطالب الحق لا يخفي عليه وجهه وقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الواضحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها الا جاحد هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه ثم قال عقيبه: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ"، [أحمد "4/126/127"، الترمذي "2676"، ابن ماجة "43، 44"] .
قوله: "وكل ارض اسلم أهلها أو احياها مسلم فعشرية".
أقول: هذا هو من الوضوح بمكان يستغنى عن تدوينه فإن اراضي أهل الإسلام معصومة(1/277)
بعصمة الإسلام لا يجب فيها الا ما أوجبه الله من الزكاة ومن زعم في ارض منها انها قد صارت إلي صفة غير هذه الصفة فقد خالف ما هو معلوم من الضرورة الدينية ولا يكون الا أحد رجلين أما جأهل لا يدري ما يقول أو متلاعب بالدين لأغراض نفسانية ومقاصد دنيوية كما قدمنا قريبا.
واحق ارض الله سبحانه بإجراء الأحكام الإسلامية عليها ارض اليمن لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "الايمان يمان" وقد صح انهم اسلموا طوعا بغير قتال عند بلوغ البعثة النبوية اليهم فهم احق العالم بما ذكرناه وارضهم احق الارض بذلك.
وأما ما تجدد من الدعأوي الفاسدة والشبه الداحضة من تكفير بعض طوائف الإسلام لبعض فذلك لا يرجع إلي دليل من عقل ولا نقل بل مجرد شهوة شيطانية اثارتها العصبية الجأهلية فإياك ان تغتر بشيء منها فإنها حديث خرافة وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الخراج جزية كما في حديث أبي الدرداء عند أبي دأود مرفوعا: "من اخذ أرضا بجزيتها فقد استقال هجرته" فهذا الوعيد ورد فيمن استأجر ارض الخراج وهو مسلم فكيف يحل لملسلم ان يحكم على السملمين بأن أرضهم خراجية وانهم يسلمون الخراج الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزية وهل يجترئ على ما دون هذا من يؤمن بالله واليوم الاخر.
وأخرج أبو دأود من حديث حرب بن عبيد الله: "إنما الخراج على اليهود والنصارى وليس على المسلم خراج".
وأخرج أبو دأود والترمذي من حديث ابن عباس مرفوعا: "ليس على مسلم جزية" أي خراج.
قوله: "ويسقط بأن يملكها ذمي أو يستاجرها"
أقول: هذا أيضا أوضح من شمس النهار ولا يحتاج إلي تدوينه في كتب الفقه فإن الزكاة إنما فرضها الله سبحانه على المسلمين لا على الكافرين ومن عجائب الزمن انه قد وقع في زمننا هذا المطالبة لليهود بزكاة ما يملكونه من الارض من كثير من المغفلين الذين لا يعرفون الشرائع فما كان المصنف رحمه الله الا كشف له عما يأتي به الزمان من الغرائب فنص على هذا الامر الواضح الجلي في كتابه هذا.
وأما القول بالكراهة لتملك الذمي للأرض العشرية واستئجاره لها فراجع إلي الخلاف في ان أهل الذمة هل يجوز لهم ان يتملكوا شيئا من الاراضي الإسلامية ام لا فمن منع من ذلك لم يجعله مكروها فقط بل يجزم بمنعه وعدم تقرير أهل الذمة عليه ومن جوزه فلا وجه لجعله مكروها.
قوله: "وما اجلى عنها أهلها بلا إيجاف فملك للإمام وتورث عنه".
أقول: هذا مخالف لما في كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أهل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] ، إلي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] ، ثم عطف عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّأوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} [الحشر: 9] ، ثم قال {وَالَّذِينَ جَاءُوا(1/278)
مِنْ بَعْدِهِمْ} الحشر: 10] ، فهذه مصارف ما افاء الله على رسوله من أهل القرى فما معنى قوله: فملك للإمام وتورث عنه مع ان المصنف وغيره استدلوا على هذا الذي ذكروه بقوله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] ، فكيف قصروا الآية على مصرف من المصارف التي ذكرها الله عز وجل؟(1/279)
كتاب الصيام
مدخل
...
كتاب الصيام
هو أنواع منها سيأتي ومنها رمضان.
[فصل
ويجب على كل مكلف مسلم الصوم 4 والافطار لرؤية الهلال وتواترها ومضى الثلاثين وبقول مفت عرف مذهبه صح عندي قيل جوازا ويكفي خبر عدلين قيل أو عدلتين عن ايها ولو مفترقين وليتكتم من انفرد بالرؤية ويستحب صوم يوم الشك بالشرط فإن انكشف منه امسك وان قد افطر.
ويجب تجديد النية لكل يوم ووقتها من الغروب إلي بقية من النهار الا في القضاء والنذر المطلق والكفارات فتبيت. ووقت الصوم الفجر إلي الغروب ويسقط الأداء عمن التبس شهره أو ليله بنهاره فإن ميز صام بالتحري.
وندب التبييت والشرط وإنما يعتد بما انكشف منه أو بعده مما له صومه أو التبس والا فلا ويجب التحري في الغروب.
وندب في الفجر وتوقي مظان الافطار والشاك بحكم الاصل وتكره الحجامة والوصل ويحرم تبييته]
قوله: "يجب على كل مكلف الصوم والافطار لرؤية الهلال وتواترها ومضى الثلاثين".
أقول: وجوب الصيام عند حصول أحد هذه الثلاثة الاسباب معلوم بالضرورة الدينية وإجماع المسلمين والاحاديث الواردة في ذلك مصرحة بهذا مثل حديث [البخاري "4/119"، مسلم "19/108"، أحمد "2/415"، النسائي "4/733"، "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم(1/279)
فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما". ومثل حديث [البخاري "4/113"، مسلم "8/108"، أحمد "2/145"، النشائي "4/134"، ابن ماجة "1654"، "إذا رأيتم الهلال فصوموا فإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما".
والاحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة.
قوله: "وبقول مفت عرف مذهبه صح عندي"
أقول: وجه هذا ان صدور مثل هذا القول من المفتي الذي يعقل حجج الله ويعرف ما تقوم به الحجة على العباد في الصوم والافطار يدل على انه قد صح عنده مستند شرعي من المستندات المعتبرة فكأنه اخبر بوجود ذلك المستند وصحته فكلامه دليل على نفس السبب الشرعي وان لم يكن سببا شرعيا.
هذا إذا كان بالمنزلة التي ذكرناها ولا يكون الا مجتهدا لأن المقلد لا يعقل الحجة ولا يدري ما هو الذي يصلح للاستناد اليه والعمل به وأما إذا لم يكتف المفتي بهذه العبارة وهي قوله: "صح عندي" بل ذكر السبب الذي قامت به لديه الحجة من شهادة شهود عدول أو كمال عدة انه قد صح عنده وجود ذلك السبب وقيام الحجة فالعمل بهذا اقرب من العمل بمجرد إطلاق الصحة بدون ذكر المستند.
قوله: "ويكفى خبر عدلين قيل أو عدلتين"
أقول: يدل على اعتبار العدلين ما أخرجه أحمد والنسائي بإسناد لا بأس به عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب انه خطب في اليوم الذي شك فيه فقال الا اني جالست اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائلتهم وانهم حدثوني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا".
وأخرج أبو دأود ["2338"] والدارقطني وصححه عن امير مكة الحارث بن حاطب قال عهد الينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما ورجاله رجال الصحيح الا الحسين بن الحارث الجدلي وهو صدوق.
وأخرج أحمد ["9/256"، وابو دأود "2339"] ، عن ربعي بن حراش عن رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم اعرأبيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهل الهلال امس عشية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ان يفطروا ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم عن عبيد الله بن عمير بن أنس ان ركبا جاءوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فشهدوا انهم رأوا الهلال بالامس فأمرهم ان يفطروا وإذا اصبحوا ان يغدوا إلي مصلاهم.
وورد ما يدل على الاكتفاء بشهادة الواحد فأخرج أبو دأود والدرامي والدارقطني وابن حبان والحاكم وصححاه والبيهقي وصححه أيضا عن ابن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول صلى الله عليه وسلم اني رأيه فصام وأمر الناس بصيامه.(1/280)
وأخرج أهل السنن [أبو دأود"2340"، النسائي "2113"، الترمذي "691"، ابن ماجة "1652"] ، وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم عن ابن عباس قال جاء اعرأبي إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال: "أتشهد ان لاإله الا الله؟ " قال: نعم, قال: "أتشهد ان محمدا رسول الله؟ " قال: نعم, قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا".
ولا يخفاك ان مادل على اعتبار الشاهدين يدل على عدم العمل بالشاهد الواحد بمفهوم العدد وما دل على صحة شهادة الواحد والعمل بها يدل بمنطوقه على العمل بشهادة الواحد ودلالة المنطقوق أرجح من دلالة المفهوم.
وأما قوله: "عن أيها" فقد قدمنا الكلام على قول المفتي صح عندي.
وأما قوله: "ولو مفترقين" فذلك صحيح فلا خلاف انه لا يعتبر ان يراه الشاهدان مجتمعين.
قوله: "وليتكتم من انفرد بالرؤية".
أقول: قد قدمنا وجوب العمل بخبر الواحد وأن ذلك يلزم جميع المسلمين إذا كان عدلا مقبول الشهادة فهذا الذي انفرد بالرؤية قد حصل له العلم اليقين المستند إلي حاسة البصر فلا وجه لتكتمه بالصوم ولا بالافطار بل عليه التظهر بذلك وإعلام الناس بأنه رآه فمن عمل بذلك عمل ومن ترك ترك وأما الاستدلال على هذا التكتم بحديث: "صومكم يوم يصوم الناس وفطركم يوم يفطر الناس" فمن الاستدلال بما لا مدخل له في المقام فإن ذلك إنما هو ارشاد إلي ان يكون الاقل من الناس مع السواد الاعظم ولا يخالفونهم إذا وقع الخلاف لشبهة من الشبه وأما بعد رؤية العدل فقد اسفر الصبح لذي عينين ولم يبق ما يوجب على الرائي ان يقلد غيره أو يعمل بغير ما عنده من اليقين.
قوله: "ويستحب صوم يوم الشك بالشرط"
أقول: الوارد في هذه الشريعة المطهرة ان الصوم يكون للرؤية أو لكمال العدة ثم زاد الشارع هذا بيانا وأيضاحا فقال: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" فهذا بمجردة يدل على المنع من صوم يوم الشك فكيف وقدا انضم إلي ذلك ما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من نهية صلى الله عليه وسلم لامته عن ان يتقدموا رمضان بيوم أو يومين فإذا لم يكن هذا نهيا عن صوم يوم الشك فلسنا ممن يفهم كلام العرب ولا ممن يدري بواضحه فضلا عن غامضه ثم انضم إلي ذلك حديث عمار بلفظ: "من صام يوم الشك فقد عصى ابا القاسم".
أخرجه أهل السنن [أبو دأود "2334"، الترمذي "686"، النسائي "4/153"، ابن ماجة "1645"] ، وصححه الترمذي "3/70"، وهو للبخاري "4/119" تعليقا وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال ابن عبد البر هذا مسند عندهم لا يختلفون فيه.
قوله: "وان انكشف منه امسك وان قد افطر".(1/281)
أقول: يدل على هذا ما ثبت في الصحيحين [البخاري "4/245"، مسلم "135/135"] ، وغيرهما [النسائي "4/192"، أحمد "4/47"] ، من حديث سلمة بن الاكوع والربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا من اسلم ان يؤذن في يوم عاشوراء ان كل من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم وكان إذ ذاك صيام عاشوراء واجبا فدل هذا على انه إذا انكشف ان اليوم من رمضان امسك من كان قد أكل.
قوله: "ويجب تجديد النية لكل يوم وهو من الغروب إلي بقية من النهار".
أقول: استدل على هذا بما قدمناه من امره صلى الله عليه وسلم لمن أكل في يوم عاشوراء فليمسك ومن لم يأكل فليصم وكان ذلك النداء والامر بالصوم في النهار فدل على ان النية تصح في نهار الصوم واستدل الموجبون للتبييت بحديث ابن عمر عند أحمد وأهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "من لم يجمع الصوم قبل الفجر فلا صيام له" وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه وصححه أيضا الحاكم وليس فيه علة قادحة الا ما قيل من الاختلاف في الرفع والوقف والرفع زيادة وقد صحح المرفوع هؤلاء الاشمة الثلاثة ولا يخفاك ان هذا الحديث عام وانه يدل قوله: "فلا صيام له" على أنه لا يصح صوم من لم يبيت النية فيكون حديث يوم عاشوراء معمولا به فيمن لم ينكشف له ان اليوم من رمضان الا في النهار فلا معارضة بين الحديثين.
وبهذا يتضح لك انه لا وجه لتخصيص القضاء والنذر المطلق والكفارات بوجوب التبييت بل هو واجب في كل صوم الا في تلك الصورة التي ذكرناها وفي صوم التطوع لما ورد انه كان صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيسألهم عن الغداء فإن لم يجده قال: "إني صائم" مع أنه يحتمل أنه كان قد بيت النية وإنما سأل عن الغداء لأنه متطوع والمتطوع امير نفسه.
قوله: "ووقت الصوم من الفجر إلي الغروب".
أقول: ما ذهب اليه القائلون بأن ابتداء الصوم من شروق الشمس ليس عليه دليل قط والاستدلال لهم بمثل حديث: "كلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" لا يطابق المدعى ولا يدل عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الناس بأن بلالا يؤذن بليل ثم علل ذلك بقوله: "ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم"، [البخاري "2/103"، مسلم "1093"] ، فإذانه كان في بقية من الليل لهذه العلة وكان الفجر الحقيقي هو عند إذان ابن ام مكتوم وكما ورد انه كان لا ينادي حتى يقال له اصبحت اصبحت أي دخلت في وقت الصباح والدخول في وقت الصباح يكون بطلوع الفجر وليس المراد انه كا يؤخر الإذان عن وقت طلوع الفجر بل كان ينتظر من يخبره بطلوع الفجر وكيف يصح الاستدلال لهم بمثل هذه الامور وقد صح انه صلى الله عليه وسلم كان يتسحر ثم يخرج إلي صلاة الفجر وكان بين سحوره وصلاته مقدار خمسين آية كما ثبت التقدير بهذا وقد ثبت انه صلى الله عليه وسلم كان يصلى صلاة الفجر بغلس وكان آخر الامرين التغليس.(1/282)
والحاصل ان هذا المذهب هو من جملة المذاهب الساقطة المخالفة لما هو المعلوم من الشريعة.
قوله: "ويسقط الأداء عمن التبس شهره أو ليله بنهاره".
أقول: هذا اللبس يرفع الوجوب عنه لأن تكليفه بالصوم لرمضان مع عدم علمه بأن الشهر شهر رمضان تكليف بما لا يطيقه ولا يدخل تحت وسعه وهكذا تكليفه بصوم وقت لا يدري اهو ليل أو نهار تكليف بصيام وقت لم يتبين انه من نهار رمضان.
ولا شك ان الوجوب مع هذا اللبس منتف وأما وجوب القضاء فذكر المصنف لسقوط الأداء يفيد انه يجب القضاء بعد ذهاب اللبس العارض ولا وجه لايجاب القضاء عليه الا إذا كان سبب اللبس لنوع من أنواع المرض كالأعمى فإنه يدخل تحت قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] .
وأما قوله: "فإن ميز صام بالتحري" فظاهر لأن الخطاب قد توجه اليه بما حصل له من التمييز.
وأما قوله: "وندب التبييت" فقد قدمنا انه واجب ولا وجه لندبيته مع التمييز ولكنه إذا انكشف أنه صام غير رمضان فلا يسقط عنه الوجوب.
وأما إيجاب التحري في الغروب فلكون الاصل بقاء النهار ولكن هذا إذا كان ثم سبب يقتضى التحري كالغيم ونحوه وإلا فوقت المغرب واضح لا يحتاج إلي تحر الا عند من حرمه الله العمل بمشروعية تعجيل الافطار الثابت بالسنة الصحيحة.
وأما كون التحري في الفجر مندوبا فذلك مع عروض ما يقتضي التحري وإلا فهو وسوسة ليست من الشرع في شيء.
وأما قوله: "وندب توقي مظان الافطار فالظاهر" أن اجتناب ما هو مظنة للإفطار واجب لأن البقاء على الصوم واجب والخروج منه حرام والذريعة إلي الحرام حرام.
وأما كون الشاك يحكم بالاصل فذلك صواب فلا ينتقل عنه الا بدليل يصلح للنقل.
قوله: "وتكره الحجامة".
أقول: بمجرد كراهة التنزيه يجمع بين الاحاديث الواردة في ان الحجامة يفطر بها الصائم وبما ورد من الترخيص في ذلك فمن كانت الحجامة تضعفه كانت مكروهة في حقه وقدأخرج البخاري عن ثابت البناني انه قال لأنس اكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا إلا من اجل الضعف وأخرج الدارقطني بإسناد رجاله ثقات عن أنس قال أول ما كرهت الحجامة للصائم ان جعفر ابن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان" ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم وقد ثبت في الصحيح [البخاري "4/174"] ، انه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.
قوله: "والوصل يحرم بنيته".(1/283)
أقول: وجهه انه ثبت النهي عنه في الاحاديث في الصحيحين وغيرهما والنهي حقيقة في التحريم ولا ينافي هذا مواصلته صلى الله عليه وسلم فقد بين العلة في ذلك لما قالوا له إنك تواصل فقال: "لست كهيتئكم إني يطعمني ربي ويسقيني" فاقتضى هذا أن الجواز خاص به لهذه العلة ولو لم يكن ذلك محرما على غيره لما واصل بهم حين لم ينتهوا وقال: "لو مد لنا الشهر لواصلت وصالا يدع به المتعمقون تعمقهم" وفي البخاري أنه واصل بأصحابه لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر لزدتكم" كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا.
[فصل
ويفسده الوطء والامناء لشهوة في يقظة غالبا وما وصل الجوف مما يمكن الاحتراز منه جاريا في الحلق من خارجه بفعله أو سببه ولو ناسيا أو مكرها الا الريق من موضعه ويسير الخلالة معه أو من سعوط الليل فيلزم الاتمام والقضاء ويفسق العامد فيندب له كفارة كالظهار قيل ويعتبر الانتهاء] .
قوله: "فصل ويفسده الوطء"
أقول: لا يعرف في مثل هذا خلاف وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما ان المجامع في رمضان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت يا رسول الله قال: "وما أهلكك؟ " قال وقعت على امرأتي في رمضان فأمره بالكفارة وفي رواية لأبي دأود وابن ماجه انه صلى الله عليه وسلم قال له: "وصم يوما مكانه" وهذه الزيادة مروية من اربع طرق يقوى بعضها بعضا ويدل على تحريم الوطء على الصائم صيأما واجبا مفهوم قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلي نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] .
قوله: "والامناء لشهوة في يقظة"
أقول: ان وقع من الصائم سبب من الاسباب التي وقع الامناء بها بطل صومه وان لم يتسبب بسبب بل خرج منيه لشهوة ابتداء أو عند النظر إلي ما يجوز له النظر اليه مع عدم علمه بأن ذلك مما يتسبب عنه الامناء فلا يبطل صومه وما هو باعظم ممن أكل ناسيا كما سيأتي.
قوله: "وما وصل الجوف مما يمكن الاحتراز منه" الخ.
أقول: هذا معلوم بالضرورة الدينية فمن ادخل مأكولا أو مشروبا من فمه إلي جوفه بطل صومه إذا كان له في ذلك اختيار ولا فرق بين مفطر ومفطر ولا بين مأكول ومشروب معتاد ونادر أما إذا لم يكن له اختيار فلا يبطل صومه لورود الدليل فيمن أكل أو شرب ناسيا وهو ما(1/284)
ثبت في الصحيحين [البخاري "4/155"، مسلم "171/155"] ، وغيرهما [أحمد "2/425"، أبو دأود "2398"، الترمذي "721"، ابن ماجة "1673"، من حديث أبي هريرة قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فانما اطعمه الله وسقاه".
وفي لفظ للدارقطني من هذا الحديث بإسناد صحيح "فإنما هو رزق ساقه الله اليه ولا قضاء عليه".
وفي لفظ لابن خزيمة وابن حبان والحاكم من هذا الحديث: "من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة"، قال ابن حجر وهو صحيح.
وأخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا: "من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه" قال ابن حجر وإسناده وان كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة ان يكون حسنا يصلح للاحتجاج به انتهى.
وقد ذهب إلي العمل بهذا الجمهور وهو الحق ومن قابل هذه السنة بالراي الفاسد فرأيه رد عليه مضروب به في وجهه وكثيرا ما يتمسك المصنفون بمقالات اصولية اصلها مبني على الراي فيرجعون إلي الرأي من حيث لا يشعرون ولهذا الفت كتأبي في الاصول.
الذي سميته ارشادا لفحول إلي تحقيق الحق من علم الاصول واعلم ان من فعل شيئا من المفطرات كالجماع ناسيا فله حكم من أكل أو شرب ناسيا ولا فرق بين مفطر ومفطر ولا حاجة لذكر ما استثناه المصنف فعدم كونه مفطرا معلوم.
وأما قوله: "والقضاء" فخلاف ما ورد به الدليل كما ذكرنا.
وقوله: "ويفسق العامد فيندب له كفارة كالظهار".
أقول: أما الفسق فلكونه اجترأ على كبيرة من الكبائر العظيمة وأما مشروعية الكفارة له فظاهر الدليل ان ذلك واجب حتما ولا ينافيه صرفها فيه وقوله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأطعمه أهلك"، فإنه انما سوغ له ذلك لمزيد فقره وشدة حاجته وعدم قدرته على الصوم فيلحق به من هو مماثل له وأما القادر على احدالأنواع فهي واجبة عليه.
[فصل
ورخص فيه للسفر والاكراه وخشية الضرر مطلقا ويجب لخشية التلف أو ضرر الغير كرضيع أو جنين ولا يجزئ الحائض والنفساء فيقضيان وندب لمن زال عذره الامساك وان قد افطر ويلزم مسافرا ومريضا لم يفطرا]
قوله: فصل: "ورخص فيه للسفر".
أقول: قد رخص في ذلك كتاب الله عز وجل فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ(1/285)
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث في الصحيحين وغيرهما انه صام في السفر وأفطر وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما انه قال لحمزة الاسلمي: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر"،
وأما قوله صلى الله عليه وسلم للصائمين في السفر: "ليس من البر الصوم في السفر"، فانما قال ذلك لما رأى زحأما ورجلا قد ظلل عليه فقال: "ما هذا"؟ فقالوا صائم هكذا في الصحيحين فمن بلغ به الصوم إلي مثل ذلك الضرر فليس صومه من البر لان الله سبحانه قد رخص له في الافطار وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف يصوم ويصومون حتى إذا بلغ الكديد افطر وأفطروا.
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد قال سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض والاحاديث في هذا الباب كثيرة.
قوله: "والاكراه".
أقول: أما من اكره على الافطار ولم يقدر على الدفع ولا بقي له فعل ف وجه للحكم عليه بأنه قد افطر بل صومه باق ولا قضاء عليه وهذا المكره إلي هذا الحد أولى بان يقال فيه لا يفطر من الناسي وأما إذا بقي له قدرة على الدفع حتى لا يفطر فذلك واجب عليه لان إكراهه على الافطار منكر يجب إنكاره.
وأما قوله: "وخشية الضرر مطلقا" فإذا خشى وقوع ضرر عليه في بدنه أو ماله ان لم يفطر جاز له الافطار والظاهر انه لا يبطل صومه بهذا الافطار الذي خشى إذا لم يفعله الضرر لانه مستكره وقد قال صلى الله عليه وسلم: "رفع عن امتي الخطأ والسنيان وما استكرهوا عليه"، وله طرق يقوى بعضها بعضا.
هذا إذا كان الضرر الذي يخشاه صادرا من جهة الغير أما إذا كان صادرا من جهة نفسه لعدم القدرة على الصوم وحدوث الضرر أن فعل فالافطار جائز له لانه قد صار بذلك في حكم المريض وعليه القضاء كما قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، ووجوب الافطار لخشية التلف علوم من قواعدالشريعة كلياتها وجزئياتها كقوله تعالي: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 6] .
"وإذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم".
وحفظ النفس واجب ولم يتعبد الله عباده بما يخشى منه تلف الانفس وقد رخص لهم في الافطار في السفر لانه مظنة المشقة فكيف لا يجوز لخشية التلف أو الضرر.(1/286)
قوله: "أو ضرر الغير كرضيع أو جنين".
أقول: هذا قد دل عليه حديث أنس بن مالك الكعبي عندأحمد وأهل السنن ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله وضع عن المسافر الصم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم" وحسنه الترمذي وقال لا يعرف لابن مالك هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد وقال ابن أبي حاتم في علله سألت أبي عنه يعني الحديث فقال اختلف فيه والصحيح عن أنس بن مالك القشيري انتهى.
والمسمون بأنس بن مالك خمسة هذا احدهم.
وقد ذهب إلي ما دل عليه هذا الحديث الجمهور ونقل بعض أهل العلم الاجماع على عدم جواز صوم الحامل والمرضع إذا خافتا على الجنين أو المرضع قال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم.
قوله: "ولا يجزئ الحائض والنفساء فيقضيان".
أقول: هذا أمر متفق عليه بين أهل الإسلام وبه عمل من كان في عصر النبوة ومن بعدهم إلي هذه الغاية ولا يسمع عن أحد من المسلمين انه خالف في هذا قط الا ما يروى عن الخوارج ولهذا قالت ام المؤمنين عائشة للقائلة لها ما بال الحائض تقضى الصيام ولا تقضى الصلاة احرورية انت أي اخارجية انت لانهم كانوا يسمون الخوارج حرورية فالعجب ممن يميل إلي هذه المقالة الباطلة مستمسكا بالشبه الداحضة ويخالف أهل الإسلام اجمع اكتع ويختار ما ذهب اليه الخوارج كلاب النار.
قوله: "وندب لمن زال عذره الامساك وان قد افطر".
أقول: قد قدمنا الدليل على هذا عند قول المصنف رحمه الله فإن انكشف منه امسك الخ وهذا الذي زال عذره قد صار حكمه حكم الصحيح فالامساك لحرمة الشهر منه كإمساك من انكشف له في بعض اليوم انه من رمضان بجامع ان كل واحد منهما كان معذورا عن الصوم ثم زال عذره.
وأما قوله: "ويلزم مسافرا ومريضا لم يفطرا" فوجهه ظاهر لانه قد زال عذره الذي يجوز له الافطار لأجله فهو كأهل العوالي الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان صائما منهم فليتم صومه وقد قدمنا الجمع بين حديث تبييت النية وبين حديث أهل العوالي.
[فصل
وعلى كل مسلم ترك الصوم بعد تكليفه ولو لعذر ان يقضى بنفسه في غير واجب الصوم والافطار ويتحرى في ملتبس الحصر.(1/287)
وندب الولاء فإن حال عليه رمضان لزمته فدية مطلقا نصف صاع من أي قوت عن كل يوم ولا تتكرر بتكرر الاعوام فإن مات آخر شعبان فمحتمل] .
قوله: فصل: "ويجب على كل مسلم ترك الصوم بعد تكليف ولو لعذر ان يقضى بنفسه في غير واجب الصوم والافطار".
أقول: أما من افطر ناسيا فقد قدمنا انه لا قضاء عليه وأما من افطر لعذر المرض أو السفر فقد دل على وجوب القضاء عليه الكتاب العزيز.
وأما الحائض والنفساء فقد دل على وجوب القضاء عليهما السنة المطهرة والاجماع.
وأما من افطر عامدا فقد قدمنا في حديث المجامع في رمضان أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صم يوما مكانه"، وذكرنا انه صالح للاحتجاج والظاهر انه كان عامدا ولهذا قال هلكت وأهلكت وسمى المحترق.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب انه جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال اني افطرت يوما من رمضان فقال: "تصدق واستغفر وصم يوما مكانه". وهو مرسل.
ويؤيد القضاء الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق أن يقضى".
ولا ينافى وجوب القضاء على العامد ما أخرجه أهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفطر يوما من رمضان من غير رخصةلم يجزه صيام الدهر"، فإن هذا إنما هو بيان لعظم جرمه وغلظ معصيته وانه قد فعل ما لا يمكن تلافيه.
وأما كونه يقضي بنفسه فظاهر لان الوجوب متعلق به فإن مات ولم يقض فقد ثبت في الصحيح حديث: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه".
وأما كونه يكون القضاء في غير واجب الصوم فلكون ذلك الوقت قد تعين صومه لسبب آخر فلا يكون الصوم للقضاء في وقت متعين للأداء وإذا ساغ له الافطار لعذر كا لسفر لم يجز له ان يفعل فيه غير ما رخص فيه لأجله. وأما كون القضاء في غير واجب الافطار كالعيدين وأيام الشتريق وأيام الحيض والنفاس فالأمر أوضح من شمس النهار والادلة على المنع من الصوم في ذلك ثابتة ثبوتا لا يخفى والتعويل على الشبه الداحضة ليس من دأب أهل الانصاف بل من دأب ارباب التعصب والاعتساف.
وأما كونه يتحرى في ملتبس الحصر فذلك غاية ما يقدر عليه من عرض له اللبس.
قوله: "وندب الولاء".
أقول: لا يخفى ان المطلوب من العبد قضاء ما فات من رمضان بعدد الايام التي افطرها فإذا جاء بها متفرقة فقد فعل ما طلب منه كما لو جاء بها مجتمعة لان كل يوم عبادة مستقلة بنية وإمساك في وقت معين من الفجر إلي الغروب فمن قال بوجوب التتابع فقد أوجب بصفة زائدة(1/288)
وعليه الدليل الدال على ذلك ولم يأت من الادلة على وجوب التتابع ما تقوم به الحجة بل الادلة التي وردت في عدم وجوب التتابع انهض من الادلة التي استدل بها الموجبون للتابع وان كان الجميع لا تقوم به الحجة نعم إذا جاء بأيام القضاء متتابعة فقد سارع إلي التخلص عما عليه وبادر إلي امتثال الامر فهو من هذه الحيثية مندوب كما قال المصنف.
قوله: "فإن حال عليه رمضان لزمته فدية مطلقا".
أقول: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ما تقوم به الحجة ولا حجة فيما روى عن بعض الصحابة والذي طلبه الله سبحانه ممن افطر رمضان أو بعضه هو ان يقضيه حيث قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ومن قضى رمضان بعد مضي عام أو عامين أو اكثر فقد فعل ما أوجبه الله سبحانه وهو العدة من ايام اخر ولم يقيد الله سبحانه هذه العدة بايقاعها في العام الذي فات فيه الصوم ولا أوجب على المتراخي كفارة.
[فصل
وعلى من افطر لعذر مأيوس أو ايس عن قضاء ما افطره كالهم ان يكفر بنصف صاع عن كل يوم ولا يجزى التعجيل ويجب الايصاء بها ويحمل عليه على صوم لا صوموا عني وتنفذ في الأول من رأس المال والا فمن الثلث] .
قوله: فصل: "وعلى من افطر لعذر مأيوس أو أيس عن قضاء ما افطره ... ".
أقول: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سلمة بن الاكوع قال لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ، كان من أراد ان يفطر يفتدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
وأخرج أحمد وابو دأود عن معاذ نحوه وفيه ثم انزل الله تعالي: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فأثبت الله سبحانه صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الاطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فثبت بهذا ان الآية كانت للتخيير بين الصوم والفدية لكل الناس ثم نسخت وبقي الترخيص للشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام ويجب عليه الفدية ولا يخالف هذا ما روى عن ابن عباس حيث قال إنها ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان ان يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا أخرجه عنه البخاري لأنه قد جعلها للشيخ الكبير والشيخة.
وأما قوله: "لم تنسخ" فغير صحيح فإن الله سبحانه قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ، ولم يقل وعلى الذين لا يطيقونه.(1/289)
وأخرج الدارقطني والحاكم وصححاه عن ابن عباس انه قال رخص للشيخ الكبير ان يفطر ويطعم كل يوم مسكينا فلا وجه لقول من قال ان الكبير الذي لا يقدر على الصوم لا فدية عليه.
وأما قوله: "أن يكفر بنصف صاع من أي قوت عن كل يوم" فالأولى ما روى عن الصحابة من ان الكفارة إطعام مسكين لان ذلك في حكم التفسير للآية وقولهم مقدم على قول غيرهم في تفسير الكتاب العزيز.
ولا ينافي هذا ما ورد في حديث كعب بن عجرة في الصحيحين مرفوعا انه يصوم ثلاثة ايام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع فإن هذا في كفارة الاذى.
وأما ما ذكره من عدم إجزاء التعجيل فصحيح لعدم وجود السبب وهكذا ما ذكره من وجوب الايصاء لأنه قد لزمه دين لله ودين الله احق ان يقضى.
قوله: "ويحمل عليه على صوم لا صوموا عني".
أقول: ظاهر الادلة الصحيحية ان الولي مأمور بالصوم عن الميت إذا مات وعليه صوم كما في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه".
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس ان امرأة قالت: يا رسول الله ان امي ماتت وعليها صوم نذر فأصوم عنها فقال: "أرأيت لو كان على امك دين فقضيته اكان ذلك يودى ذلك عنها" قالت: نعم قال: "فصومي عن أمك". وأخرج مسلم نحوه عن بريدة مرفوعا.
وقد ذهب الجمهور إلي انه لا يجب الصوم على الولي وبعضهم قال لا يصح والسنة ترد عليهم أما إذا أوصى الميت بأن يكفر عنه من ماله فربما يقال انه قد اختار ذلك لنفسه وارتفع الوجوب عن الولي ويحمل على هذا حديث ابن عمر عندالترمذي وابن ماجه "من مات وعليه صوم فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا"، على ضعف في إسناد هذا الحديث فإن فيه عمر بن موسى بن وجيه وهو ضعيف جدا والرأوي ابراهيم بن نافع وهو أيضا ضعيف وقال الترمذي الصحيح انه عن ابن عمر موقوفا وكذا قال الدارقطني والبيهقي.
وأما ما ذكره من الفرق ما بين ما يخرج من رأس المال ومن الثلث فلا وجه له بل هو مجرد رأي ولا يعلول عليه.(1/290)
[باب وشروط النذر بالصوم
ما سيأتي وان لا يعلق بواجب الصوم الا ان يريد غير ما وجب(1/290)
فيه ولا الافطار الا العيدين والشتريق فيصوم غيرها قدرها وما تعين ما هو فيه اتمه ان أمكن والا قضى ما يصح منه فيه الانشاء وما تعين لسببين فعن الأول إن ترتبا وإلا فمخير ولا شيء للآخر ان عينه لهما كالمال] .
قوله: باب "وشروط النذر بالصوم منها ما سيأتي وان لايعلق بواجب الصوم والافطار".
أقول: هذا صحيح لأنه إذا نذر بصوم رمضان لسبب آخر أو يصوم العيدين وأيام التشريف فقد نذر بمعصية الله وبمالا يملك لأنه قد صار الصوم والافطار في ذلك لله بسبب آخر وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نذر في مصعية الله ولا فيما لا يملك العبد" وإذا ورد دليل على وجوب الكفارة على مثل هذا النذر فعلى بابه ولا ينافى ذلك عدم صحة النذر به وأما إذا أراد غير ما وجب فيه الصوم والافطار كأن ينذر بصوم اليوم الذي يقدم فيه غائبه فيقدم في رمضان أو في أيام العيدين والشتريق فقد كان القدوم في يوم لا يجوز فيه الصوم عن النذر فسقط الأداء وإذا سقط لم يجب القضاء الا بدليل يدل على ذلك.
وبما ذكرناه تعرف انه لا وجه لقول المصنف الا العيدين وأيام الشتريق فيصوم غيرهما قدرها.
وأما قوله: "ومتى تعين ما هو فيه أتمة" فهذا صحيح فإنه إذا قدم وهو صائم على القول بعدم وجوب تبييت النية اتمه بنية النذر وأما إذا كان قد افطر فلا يجب القضاء الا بدليل لأنه لم يجب عليه الأداء.
وأما قوله: "وما تعين لسببين فعن الأول" فصحيح لانه قد صار بتقديمه أولى مما تأخر عنه ومع عدم التقدم نحو ان يقول نذرت بصوم اليوم الفلاني ان قدم فيه الغائب وبصومه ان شفى الله المريض فليس عليه الا صوم ذلك اليوم للسببين جميعا لأنه بصومه قد وفى بالنذرين جميعا.
[فصل
ولا يجب الولاء الا لتعيين كشهر كذا فيكون كرمضان أداء وقضاء أونية فيستأنف ان فرق لعذر ولو مرجوا زال ان تعذر الوصال فيبنى لا بتخلل واجب الافطار فيستأنف غالبا ولا تكرار الا لتأبيد ونحوه فإن التبس المؤيد صام ما تعين صومه أداء أو قضاء قيل ثم يقهقر اليه ويستمر كذلك] .
قوله: فصل: "ولا يجب الولاء الا لتعيين" الخ.
أقول: هذا أمر قد أوجبه على نفسه فوجب الوفاء بما نذر وأما في القضاء فقد قدمنا انه(1/291)
يجوز تفريق قضاء رمضان فتفيق قضاء النذر بالأولى وهكذا إذا نوى ان يتابع ما نذر به من الصوم فقد لزمه بالنية لانها المؤثرة فإذا فعل الصوم مفرقا فلم يفعل النذر الذي نذر به ويتسأنف حتى يفى بنذره وأما مع العذر فلا شك انه مسوغ لا يجب معه الاستئناف وهكذا تخلل واجب الصوم والافطار له حكم العذر فلا يستأنف وبما ذكرناه يعرف الكلام على بقية هذا الفصل.(1/292)
[باب الاعتكاف وشروطه
النية والصوم واللبث في أي مسجد أو مسجدين متقاربين واقله يوم وترك الوطء والايام في نذره تتبع الليالي والعكس الا الفرد ويصح استثناء جميع الليالي من الايام لا العكس الا البعض ويتابع من نذر شهرا أو نحوه ومطلق التعريف للعموم ويجب قضاء معين فات والايصاء به وهو من الثلث وللزوج والسيد ان يمنعا ما لم يأذنا فيبقى ما قد أوجب في الذمة وان يرجعا قبل الايجاب] .
قوله: "باب الاعتكاف وشورطه النية".
أقول: قد اصاب المصنف رحمه الله هنا حيث جعل النية شرطا فإن الادلة الدالة عليها تفيد انه يؤثر عدمها في عدم الفعل الذي شرعت فيه وما كان كذلك فهو شرط لا فرض.
قوله: "والصوم".
أقول: من ادعى ان الصوم شرط لصحة الاعتكاف فالدليل عليه لانه اثبت شرطا متنازعا فيه والوقوف في موقف المنع والقيام في مقام عدم التسليم يكفي من لم يقل بالشرطية ولم يصح في اشتراطه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قيل انه مرفوع لم يصح وما كان موقوفا على بعض الصحابة فلا حجة فيه فإن تبرع من لم يقل بالشرطية بالدليل فله ان يقول صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما انه اعتكف في غير رمضان وثبت في الصحيحين وغيرهما ان عمر بن الخطاب قال يا رسول الله اني نذرت في الجأهلية ان اعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، ولم يرو من وجه صحيح يصح العمل به انه صلى الله عليه وسلم صام ايام اعتكافه في شوال ولا صح انه أمر عمر بالصوم.
وأما ما أخرجه أبو دأود عن عائشة انها قالت السنة على المعتكف الا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الا لما لا بد منه ولا اعتكاف الا بصوم ولا اعتكاف الا في مسجد جامع فقد أخرجه في الموطأ والنسائي وليست فيه قالت السنة قال أبو دأود غير عبد الرحمن بن اسحاق ولا يقول فيه قالت السنة وجزم(1/292)
الدارقطني بأن القدر المرفوع من حديث عائشة قولها لا يخرج وما عداه ممن دونها وكذلك قال البيهقي كما ذكره ابن كثير في الارشاد وأما ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا وقال صحيح على شرط مسلم انه لا اعتكاف الا بصوم فقد صحح الدارقطني والبيهقي وابن حجر انه موقوف على ابن عباس وأيضا قد أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا وصححه انه قال صلى الله عليه وسلم: "ليس على المعتكف صيام" ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه على ابن عباس فتعارضت الرواية عن ابن عباس كما ترى ولا حجة في قوله.
قوله: "واللبث في مسجد أو مسجدين متقاربين".
أقول: مفهوم الاعتكاف الشرعي هو اللبث في المسجد فلا توجد هذه الماهية الا بذلك والا لزم أن يكون الاعتكاف في الدور والاسواق والصحراء صحيحا واللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله ومعلم الشرائع صلى الله عليه وسلم الذي جاء بمشروعية الاعتكاف لم يفعله الا في المسجد ولم يشرعه لأمته الا في المساجد وهذا القدر يكفى ومن ادعى انها توجد ماهية الاعتكاف الشرعية في غير مسجد فالدليل عليه.
وإذا عرفت هذا لم تحتج إلي الاستدلال بما روى "أنه لا اعتكاف إلا في مسجد" أو لا اعتكاف الا في مسجد جماعة ولا للاحتجاج يقول سبحانه: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] .
قوله: "واقله يوم".
أقول: لم يأتنا عن الشارع في تقدير مدة الاعتكاف شيء يصلح للتمسك به واللبث في المسجد والبقاء فيه يصدق على اليوم وبعضه بل وعلى الساعة إذا صحب ذلك نية الاعتكاف وأما حديث: "من اعتكف فواق ناقة فكأنما اعتق نسمة من ولد إسماعيل" فلم يثبت من وجه يصلح للاستدلال به قل في البدر المنير هذا حديث غريب لا أعرفه بعد البحث الشديد عنه.
قوله: "وترك الوطء"
أقول: قد دل على هذا الكتاب العزيز قال الله تعالي: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، ودل عليه إجماع الامة فدل ذلك على ان الوطء لا يجامع الاعتكاف وان عدم الترك وهو فعل الوطء يؤثر عدمه في عدم الاعتكاف فكان شرطا من هذه الحيثية.
وأما قول المصنف: "والايام في نذره تتبع الليالي والعكس ويصح استثناء جميع الليالي من الايام لا العكس إلا البعض" فمبنى على ما ذكره من اشتراط الصوم ومن ان اقل الاعتكاف يوم وقد عرفت ما هو الحق.
وأما قوله: "ويتابع من نذر شهرا أو نحوه" فلا بد ان يكون نأويا للتتابع لأنه لو أراد الاعتكاف عدد أيام الشهر مع التفريق صح ذلك ويعتكف ثلاثين يوما من اشهر وهكذا قوله ومطلق التعريف للعموم لا بد من ان يريد به ذلك لأن معاني التعريف مختلفة ولا مانع من ان يريد بالمعرف غير العموم بل الاصل في التعريف العهد كما صرح بذلك المحقق الرضى وكلام أهل الاصول والبيان في ذلك معروف.(1/293)
وأما قوله: "ويجب قضاء معين فات" فهذا يحتاج إلي دليل وقد قدمنا في صوم النذر ما يكفي.
وهكذا وجوب الايصاء بما فات مبنى على انه قد لزم وتعين بالنذر ووجب قضاؤه وذلك ممنوع.
وأما كونه من الثلث فمبني على الرأي الذي قدمنا الاشارة اليه.
وأما كون للزوج والسيد المنع من هذه الطاعة فذلك صحيح للأدلة الدالة على طاعة الزوج والسيد عموما وخصوصا ولا وجوب ها هنا عليهما حتى يقال ليس للزوج والسيد المنع من الواجب بل هما اختارا الدخول في ذلك بأنفسهما وهما مخاطبان بما هو اهم منه.
[فصل
ويفسده الوطء أو الامناء كما مر وفسادالصوم والخروج من المسجد لا لواجب أو مندوب أو حاجة في الاقل من وسوط النهار ولا يقعد ان كفى القيام حسب المعتاد ويرجع من غير مسجد فورا وإلا بطل ومن حاضت خرجت وبنت متى طهرت.
وندب فيه ملازمة الذكر] .
قوله: فصل: "ويفسده الوطء والامناء لشهوة كما مر".
أقول: أما الوطء فقد تقدم وأما الامناء فإن كان عن مباشرة فله حكم الوطء لدخوله تحت قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [القرة: 187] ، وإلا فلا وجه لاقتضائه الفساد.
وأما قوله: "وفساد الصوم" فمبني على ما تقدم من انه لا اعتكاف الا بصوم.
قوله: "والخروج من المسجد" الخ.
أقول: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت الا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفا فهذا يفيد انه لا يجوز الخروج من المسجد الا لحاجة الإنسان لا لغيرها من القرب ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو دأود من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسال عنه ولكن في إسناده ليث ابن أبي سليم وقدأخرجه مسلم وغيره عن عائشة من فعلها قال ابن حجر والصحيح عن عائشة من فعلها في الصحيحين وغيرهما عنها قالت ان كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما اسأل عنه الا وأنا مارة وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن صفية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا(1/294)
فأتيته لأزوره ليلا فحدثته ثم قمت لانقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار اسامة بن زيد.
وأخرج أبو دأود عن عائشة انها قالت السنة على المعتكف الا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الا لما بدمنه وقد قدمنا ان النسائي أخرجه بدون قوله من السنة وكذلك مالك في الموطأ وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج وما عداه ممن دونها.
والحاصل انه يجوز الخروج لحاجة الإنسان ولما لا بد منه كما فعله صلى الله عليه وسلم من خروجه مع صفية وهذا الخروج للحاجة لا يختص بوقت دون وقت بل يجوز في الليل والنهار في أوله وآخره ووسطه.
وأما كونه لا يقعد ان كفى القيام فذلك صحيح لأن الحاجة إذا قضيت من قيام كان القعود لغير حاجة وقد تقرر ان الخروج لا يكون الا لحاجة.
وأما كونه يرجع من غير مسجد فورا فصواب لأن التراخي خارج عن قدر الحاجة المتنوعة.
وأما كونه يبطل الاعتكاف فغير مسلم فإن الاعتكاف الأول قد صح ولا يعود عليه التراخي بالبطلان لما عرفناك ان الاعتكاف يصح في الوقت اليسير وإذا عاد إلي المسجد عاد له حكم الاعتكاف.
وأما كون الحائض تخرج من المسجد فللأدلة الداله على منعها منه.
وأما المستحاضة فهي في غير وقت الحيض كمن ليست بحائض فلهذا ثبت من حديث عائشة في البخاري انها اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم فربما وضعت الطشت تحتها من الدم.
وأما كونه يندب في الاعتكاف ملازمة الذكر فلكون هذا المعتكف قد فرغ نفسه لعبادة الله في المساجد فينبغي له ان يشتغل بما فيه قربة وطاعة من صلاة وذكر وتلأوة وتفكر واعتبار فقد صار هذا الوقت من هذه الحيثية اخص بذلك من سائر الأوقات وان كان ذلك مندوبا في جميع الأوقات.
[فصل
وندب صوم غير العيدين والتشريق لمن لا يضعف به عن واجب سيما رجب وشعبان وأيام البيض وأربعاء بين خميسين والاثنين والخميس وستة عقيب الفطر وعرفة وعاشوراء ويكره تعمدالجمعة والمتطوع امير نفسه لا القاضي فيأثم الا لعذر وتلتمس ليلة القدر في تسع عشرة وفي الأفراد بعدالعشرين من رمضان] .(1/295)
قوله: فصل: "وندب صوم الدهر" الخ.
أقول: حديث لا صام من صام الابد في الصحيحين من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص وكذلك حديث أبي قتادة عند مسلم وغيره قال: قيل: يا رسول الله كيف بمن صام الدهر؟ قال: "لا صام ولا أفطر" أو "لم يصم ولم يفطر" معناهما أنه لما خالف الهدى النبوي الذي رغب فيه صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من لم يصم صوما مشروعا يؤجر عليه ولا أفطر فطرا ينتفع به ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبدا لله بن عمرو وقد كان أراد أن يصوم الدهر فقال: "صم من كل شهر ثلاثة أيام"، فقال: إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قال: "صم يوما وأفطر يوما فإنه افضل الصيام وهو صوم أخي دأود". هكذا في الصحيحين وغيرهما من حديثه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للثلاثة الذين قال: أحدهم أنه يصوم ولا يفطر وقال الثاني أنه يقوم الليل ولا ينام وقال الثالث إنه لا ياتي النساء فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
فهذا الحديث الصحيح يدل على أن صيام الدهر من الرغوب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحق فاعله ما رتبه عليه من الوعيد فمن رغب عن سنتي فليس مني وقد أخرج أحمد وابو دأود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي اخبره أنه يصوم الدهر: "من أمرك أن تعذب نفسك" ولا ينافي هذا ما ورد في صوم ايام البيض أن صيامها كصيام الدهر وكذلك ما ورد فيمن صام رمضان واتبعه ستا من شوال أنه كمن صام الدهر لأن التشبيه لا يقتضي جواز المشبه به فضلا عن استحبابه وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام كل السنة فلا يدل التشبيه على افضلية المشبه به من كل وجه ومع هذا فقد ورد الوعيد على صوم الدهر فأخرج أحمد وابن حبان وابن خزيمة وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا" وقبض كفه ولفظ ابن حبان "ضيقت عليه جهنم هكذا" وعقد تسعين وأخرجه أيضا البزار والطبراني قال في مجمع الزوائد ورجاله رجال الصحيح فهذا وعيد ظاهر وتأويله بما يخالف هذا المعنى تعسف وتكلف والعجب ذهاب الجمهور إلي استحبابه كما حكاه عنهم ابن حجر في الفتح وهو مخالف للهدى النبوي وهو أيضا أمر لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما "كل أمر ليس عليه امرنا فهو رد" وهو أيضا من الرغوب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رغب عن سنته فليس منه وهو أيضا من التعسير والتشديد المخالف لما استقرت عليه هذه الشريعة المطهرة قال الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "يسروا ولا تعسروا" [البخاري "4344، 4345، 4342"، مسلم(1/296)
"71/1733"] ، أحمد "4/409"] ، وقال: "لن يشاد الدين أحد الا غلبه"، وقال: "أمرت بالشريعة السمحة السهلة".
فالحاصل ان صوم الدهر إذا لم يكن محرما تحريما بحتا فأقل احواله ان يكون مكروها كراهة شديدة هذا لمن لا يضعفه الصوم عن شيء من الواجبات أما من كان يضعف بالصوم عن بعض الواجبات الشرعية فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية بمجردها من غير نظر إلي ما قدمنا من ادلة.
قوله: "سيما رجب".
أقول: لم يرد في رجب على الخصوص سنة صحيحية ولا حسنة ولا ضعيفة ضعفا خفيفا بل جميع ما روى فيه على الخصوص أما موضوع مكذوب أو ضعيف شديد الضعف وغاية ما يصلح للتمسك به في استحباب صومه ما ورد في حديث الرجل البأهلي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صم أشهر الحرم" ورجب من الاشهر الحرم بلا خلاف وهذا الحديث أخرجه أحمد وابو دأود وابن ماجه ولكنه لا يدل على شهر رجب على الخصوص كما يفيد تنصيص المصنف وكان الأولى له ان يقول ويستحب صوم الاشهر الحرم سيما المحرم وذلك لورود الدليل الدال على استحباب صومه على الخصوص كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الصيام بعد رمضان افضل فقال: "شهر الله المحرم".
وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب ففي إسناده ضعيفان زيد بن عبد الحميد ودأود بن عطاء ولكنه على ضعفه اقوى مما روى في استحباب صومه.
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ان عمر كان يضرب اكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان ويقول كلوا فإنما هو شهر كان يعظمه الجأهلية.
وأخرج ابن ابن أبي شيبة أيضا من حديث زيد بن اسالم قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم رجب فقال اين انتم من شعبان وهو مرسل.
قوله: "وشعبان".
أقول: أما هذا الشهر فقد جاءت فيه الادلة الصحيحية حتى قالت عائشة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا اكثر من شعبان فانه كان يصومه كله هكذا في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ فيهما من حديثها ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه الا قليلا بل كان يصومه كله وفي لفظ من حديثها ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط الا شهر رمضان وما رأيته في شهر اكثر منه صيأما في شعبان.(1/297)
وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث ام سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تأما الا شعبان يصل به رمضان ولفظ ابن ماجه كان يصوم شعبان ورمضان وحسنه الترمذي.
قوله: "وايام البيض".
أقول: قد ورد في مشروعية صومها أحاديث كثيرة منها حديث أبي قتادة عند مسلم وغيره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلي رمضان فهذا صيام الدهر كله"، وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وصححاه من حديث أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة ايام فصم ثلاث عشرة واربع عشرة وخمس عشرة"، وأخرجه النسائي وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة وأخرجه النسائي أيضا من حديث جرير قال ابن حجر وإسناده صحيح وفي الباب أحاديث قد ذكرناها في شرح المنتقى.
قوله: "واربعاء بين خميسين".
أقول: تحتمل هذه العبادة ان يريد انه يصوم يوم الخمس ثم يصوم بعده يوم الاربعاء ثم يصوم بعده يوم الخميس وذلك يمكن في ثمانية ايام ويحتمل ان يريد انه يصوم أول خميس من الشهر ثم يصوم أحد ايام الاربعاء من ذلك الشهر ثم يصوم آخر خميس منه وكل هذا لا دليل عليه قط فإن ما ورد من استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر على تقدير احتماله لغير ايام البيض لا يفيد هذا التخصيص والتعيين وكذلك لا يفيد هذا ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والاحد والاثنين ومن الشهر الاخر الثلاثاء والاربعاء والخميس فإن هذا إنما فعله صلى الله عليه وسلم للمدأولة بين ايام الاسبوع وعدم تخصيص بعضها بالصوم دون بعض فكان يصوم بعضها من شهر وبعضها من شهر آخر نعم ورد ما يدل على استحباب صوم الاربعاء مع الخميس عند أبي دأود والترمذي من حديث مسلم القرشي قال: سألت أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر فقال: "إن لأهلك عليك حقا فصم رمضان والذي يليه وكل اربعاء وخميس فإذا انت قد صمت الدهر" وأخرج أبو دأود والترمذي أيضا من حديث عبد الله بن عمر بن العاص ان النبي صلى الله عليه وسلم امره ان يصوم كل اربع وخميس ولكن هذا هو غير ما ذكره المصنف.
قوله: "والاثنين والخميس".
أقول: يدل على ذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض اعمال العباد كل اثنين وخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" وأخرج أحمد والنسائي هذا المعنى من حديث أسامة بن زيد وأخرج أحمد والنسائي والترمذي [ (745) ](1/298)
وابن ماجه وابن حبان وصححه من حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس وأخرجه أيضا أبو دأود من حديث أسامة بن زيد.
وورد في صوم الاثنين على الخصوص ما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي قتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذلك ولدت فيه وأنزل على فيه"
قوله: "وست عقيب الفطر"
أقول: يدل على ذلك ما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي ايوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر" وأخرجه أحمد وعبد بن حميد والزبار من حديث جابر وفي إسناده عمرو بن جابر وهو ضعيف.
وأخرج أحمد والنسائي ابن ماجه والدارمي والبزار من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام رمضان وستة أيام بعدالفطر كان تمام السنة" {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وفي الباب احاديث.
قوله: "وعرفة".
أقول: يدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي ايوب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صيام عرفة كفارة سنتين" وفي بعض الروايات الثابتة في السنن "أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" وفي الباب أحاديث ولم يصح في النهي عن صومه شيء وإنما تركه صلى الله عليه وسلم بعرفة للاشتغال باعمال الحج على ان مجرد الترك لا يرفع استحباب صومه الثابت بالقول المرتب عليه الأجر العظيم ولا سيما وهو أحد أيام العشر التي ورد أنه: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في عشر ذي الحجة" كما في الحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "969"، وغيرهما أحمد "1/224"، الترمذي "757"، ابن ماجة "1727"] .
قوله: "وعاشوراء".
أقول: الاحاديث الصحيحة الكثيرة قد دلت على مشروعية صومه ونسخ وجوبه لا نسخ استحبابه لما في حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الايام الا هذا اليوم يعني يوم عاشوراء ولاشهرا الا هذا الشهر يعني رمضان وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر ان أهل الجأهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وان رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل ان يفرض رمضان فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن يوم عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه"، وفي الصحيحين أيضا من حديث معأوية بن أبي سفيان نحوه وفي مسلم وغيره انه لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/299)
"ان يوم عاشوراء يوم تعظمه اليهود، قال: "لئن بقيت إلي قابل لأصومن التاسع"، وفي لفظ له من حديث ابن عباس: "إذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع"، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية "صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود".
فينبغي لمن أراد ان يصوم يوم عاشوراء ان يصوم اليوم الذي قبله.
قوله: "ويكره تعمد الجمعة".
أقول: قد ثبت في الصحيحين من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة ثم ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا يوم الجمعة الا وقبله يوم أو بعده يوم"، فهذا الحديث المقيد يقيد به إطلاق الحديث الأول ثم ثبت في صحيح مسلم وغيره التقييد بقوله: "إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"
فالحاصل أن صوم يوم الجمعة منهي عنه إلا أن يصوم يوما قبله أو بعده أو يوافق صوما كان يصومه وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على جويرية لما دخل عليها وهي صائمة يوم الجمعة فقال لها: "أصمت أمس؟ " قالت: لا قال: "أتصومين غدا؟ " قالت: لا قال: "فأفطري" كما في البخاري وغيره ويجمع بين هذه الاحاديث وبين ما روى انه صلى الله عليه وسلم كان يصومه بما تقدم في الحديثين.
وورد أيضا النهي عن صوم يوم السبت كما في حديث عبد الله بن بسر عن اخته واسمها الصماء ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت الا فيما افترض عليكم فإن لم يجد احدكم الا عود عنب أو لحاء شجر فليمضغه" أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي وصححه ابن السكن فكان على المصنف ان يذكر يوم السبت مع يوم الجمعة وقدتقدم جواز صومه مع صوم يوم الجمعة فيكون النهي مقيدا بهذا القيد ويحمل عليه ما روى من صومه صلى الله عليه وسلم يوم السبت.
قوله: "والمتطوع امير نفسه".
أقول: قد ثبت في اصحيح البخاري وغيره ان سلمان أمر ابا الدرداء بأن يفطر من صوم كان متطوعا فيه في قصة قال في اثرها فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان".
وأخرج أحمد والترمذي والدارقطني والطبراني والبيهقي انه صلى الله عليه وسلم قال: "لأم هانئ المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وأن شاء أفطر"، وفي إسناده سماك بن حرب وفيه مقال.
وأخرج أبو دأود والنسائي عن عائشة انه اهدى لحفصة طعام وكانتا صائمتين(1/300)
فأفطرتا ودخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا عليكما صوما مكانه يوما آخر"، وفي إسناده زميل وفيه مقال وأخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم من شيء" فقلت لا فقال: "إني صائم" ثم أتانا يوما آخر فقلت: يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال: "أرنيه فلقد أصبحت صائما" فأكل وزادالنسائي ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل المتطوع مثل رجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها".
وأما قوله: "لا القاضي فيأثم" فقد أخرج أحمد وأبو دأود في رواية من حديث أم هاني المتقدم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شرابا فنأولها لتشرب فقالت إني صائمة ولكن كرهت ان ارد سؤرك فقال: "إن كان قضاء من رمضان فاقضى يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي"، وفيه دليل على جواز إفطار القاضي ويقضى يوما مكانه وإن كان فيه المقال المتقدم ولكن الدليل على من قال انه لا يجوز إفطار القاضي.
قوله: "ويلتمس القدر".
أقول: الكلام في هذا البحث يطول وقد ذكرت في شرحي للمنتقى في ذلك سبعة واربعين مذهبا ورجحت منها القول الخامس والعشرين فليرجع إلي ذلك ففيه ما يشفي ويكفي ولا يحتاج الناظر فيه إلي ان ينظر في غيره والمقام لا يتسع لبعض ذلك.(1/301)
كتاب الحج
مدخل
...
كتاب الحج
[فصل
انما يصح من مكلف حر مسلم بنفسه ويستنيب لعذر مأيوس ويعيد إن زال] .
قوله: "كتاب الحج انما يصح من مكلف حر".
أقول: حديث ابن عباس إن امرأة رفعت إلي النبي صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر"، أخرجه مسلم وغيره وفيه دليل ثبوت الحج للصبي.
ويؤيده ما أخرجه البخاري "1858، وغيره أحمد "3/925"، الترمذي "925"، من حديث(1/301)
السائب بن يزيد قال حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا ابن سبع سنين.
وما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث جابر قال حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم وفي إسناده اشعث بن سوار وهو ضعيف وما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس انه بعثه صلى الله عليه وسلم في الثقل وكان اذ ذاك صبيا ولكن حديث ابن عباس الذي أخرجه الحاكم مرفوعا وصححه والبيهقي وابن حزم وصححه بلفظ: "أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى" يدل على ان هذه الحجة الواقعة من الصبي وان ثبت له أجرها لا تسقط عنه حجة الإسلام إذا بلغ وأخرج ابن خزيمة هذا الحديث عن ابن عباس موقوفا وقال الصحيح الموقوف وقال البيهقي تفرد برفعه محمد بن المنهال ولكنه قد تابع محمد بن المنهال على رفعه الحارث بن شريح كما أخرجه الاسماعيلي والخطيب ويؤيد الرفع ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس انه قال احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس فذكره وهو ظاهر في الرفع. ويشهد لحديث ابن عباس هذا ما أخرجه أبو دأود في المراسيل وأحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله عن محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما صبي حج به أهله فمات اجزأت عنه فإن ادرك فعليه الحج وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن اعتق فعليه الحج"، وفي إسناده رأو منهم.
ويؤيد عدم إجزاء حج الصبي عن حجة الإسلام ما ورد في رفع قلم التكليف عنه ولا تلازم بين ثبوت الأجر له وصحة حجة عن حجة الإسلام الواجبة عليه.
وأما العبد البالغ فهو داخل في مثل قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] والاستطاعة في حقه على قول من قال إنه يملك كسائر المكلفين من الاحرار وهكذا إذا وجد من يقوم بمؤنته كسيده فإن ذلك استطاعة وان كان لا يملك فإذا انتهض الدليل على ان ذلك الحج لا يجزئ عن حجة الإسلام فذاك وإلا فالظاهر أنها تجزئه هذه الحجة عن حجة الإسلام.
وأما قوله: "مسلم" فلكون الكافر متلبسا بمانع من صحة حجه فلا يصح حتى يزول المانع كسائر الامور الشرعية.
وأما كونه مخاطبا بالشرعيات بمعنى انه يعذب على تركها فذلك لا يستلزم صحة وقوعها منه مع بقاء المانع الذي هو مقدور له رفعه وهو الكفر وقدتقدم تحقيق هذاالمقام.
قوله: "وتستنيب لعذر مأيوس ويعيده إن زال".
أقول: الدليل لم يرد بجواز مطلق الاستنابة بل ورد في الولد كما في حديث ابن عباس في الصحيحين [البخاري "3/678، 4/66، 4/67، 8/105، 11/8"، مسلم "1334، 1335"، وغيرهما [الترمذي "928"، أبو دأود "1809"، النسائي "2635، 2641"، ابن ماجة 2909"] أن امرأة من خثعم(1/302)
قالت يا رسول الله إن أبي ادركته فريضة الحج شيخا كبيرا لا يستطيع ان يستوى على ظهر بعيره قال: "فحجي عنه"، وأخرج نحوه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث أبي رزين العقيلي انه اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ان أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال: "حج عن أبيك وأعتمر".
وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين اكنت قاضيته" الحديث.
وورد في حج الاخ عن اخيه والقريب عن قريبه كما في حديث ابن عباس عند أبي دأود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي وصححاه ان النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال: "من شبرمة؟ " قال أخ لي أو قريب لي قال: "حججت عن نفسك؟ " قال لا قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، فلا يصح إلحاق غير القرابة بالقرابة للفرق الظاهر ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟ " ويقول للجهينية: "أرأيت لو كان على أمك دين؟ " ثم قال بعد ذلك: "فدين الله احق أن يقضى".
وأما إيجاب القضاء عليه إن زال عذره فمحتاج إلي دليل لأن الحج عنه قد وقع صحيحا مجزئا في وقت مسوغ للاستتابة.
[فصل
ويجب بالاستطاعة في وقت يتسع للذهاب والعود مضيقا الا لتعيين جهاد أو قصاص أو نكاح أو دين تضيقت فيقدم والا اثم وأجزأ.
وهي صحة يستمسك معها قاعدا وأمن فوق معتاد الرصيد وكفاية فاضلة عما استثنى له وللعول وللذهاب متاعا ورحلا وأجرة خادم وقائد للأعمى ومحرم مسلم للشابة في بريد فصاعدا ان امتنع الا بها والمحرم شرط أداء ويعتبر في كل اسفارها غالبا ويجب قبول الزاد من الولد لا النكاح لأجله ونحوه ويكفي الكسب في الأوب الا ذا العول] .
قوله: فصل: "ويجب بالاستطاعة في وقت يتسع للذهاب والعود مضيقا".
أقول: معنى الآية اعني قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمرا: 97] ، أوضح من الشمس فمن كان مستطيعا عند حضور وقت الحج والسفر له من دياره بأن يجد ما يكفيه لذهابه وايابه ويحمله ويحمل زاده ما يحتاج اليه فهذا مستطيع يجب عليه الحج وان(1/303)
كان في ذلك الوقت غير مستطيع فلا وجوب عليه ولا يشترط ان يبقى معه ما يصير به مستطيعا زمانا كثيرا أو قليلا بل المراد من وجود ما ذكرنا عند حضور وقت الحج فإن استمر معه كل السنة وتلف عند حضور وقت الحج فليس بمستطيع ولا يجب عليه الحج وهذا معنى ظاهر واضح لا يحتاج إلي مزيد بيان ولا تدل الآية الكريمة على غيره.
وأما الخلاف في كون الحج على الفور والتراخي فمرجعه ما وقع في الاصول من الخلاف في صيغة الايجاب هل هي للفور أو للتراخي؟
وقد دل على الفور عند الاستطاعة الاحاديث الواردة في الوعيد لمن وجد زادا وراحلة ولم يحج وإن كان فيها مقال فمجموع طرقها منتهض.
واستدل القائلون بالتراخي بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من تأخير حجة إلي سنة عشر مع كون فرض الحج نزل في سنة خمس أو ست على خلاف في ذلك وقد روى في تفسير الاستطاعة المذكورة في القرآن ما أخرجه الدارقطني والحاكم وقال صحيح على شرطهما والبيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال: قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة".
وأخرج ابن ماجه والدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الزاد والراحلة" يعني قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال ابن حجر: وسنده ضعيف.
وفي الباب عن ابن عمر عند الشافعي والترمذي وحسنه وابن ماجه والدارقطني وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي قال فيه أحمد والنسائي انه متروك الحديث.
وعن علي وابن مسعود وعائشة وعبد الله بن عمرو عندالدارقطني من طرق كلها ضعيفة.
وأما قوله: "إلا لتعيين جهاد" الخ فلكون هذه الامور قد تضيقت وتعين القيام بها ولكنه أما يستقيم هذا على تقدير ان الحج لم يتضيق عليه فإن كان قد تضيق عليه كما تضيقت فوجه تقديم الجهاد ان مصلحته عامة.
ووجه تقديم القصاص والدين انه حق لآدمي قد تعلق بمن أراد الحج ويخشى فوته بعروض عارض له من موت أو نحوه.
ووجه تقديم النكاح انه إذا خشي الوقوع في المعصية كان ذلك متعينا عليه.
وأما كونه يأثم إذا قدم الحج على هذه الامور فلأنه قد اخل بما يجب عليه تقديمه وكان اثمة لذلك ولا يستلزم هذا الإثم عدم صحة حجة لأن متعلق الإثم هو أمر غير الحج.
قوله: "وهي صحة يستمسك معها قاعدا".
أقول: هذا لا بد منه والا كان من لا يقدر على الاستمساك معذورا عن الحج بنفسه ويجوز له الاستنابة كما تقدم وقد تقدم تفسيره صلى الله عليه وسلم للاستطاعة وهو لا ينافى هذا لأن من لا يستمسك على الراحلة لا ينفعه وجودها.(1/304)
وهكذا قوله وامن فوق معتادالرصد لأن من كان خائفا على نفسه أو ماله لا يجوز له ان يقدم على ما يخشى منه التلف أو الضرر في البدن أو المال ويدل على ذلك الادلة الكلية والجزئية من الكتاب والسنة.
وهكذا كفايته ذهابا وايابا وكفاية من يحتاج اليه في سفره وكفاية أهله حتى يعود لأنه إذا لم يكن كذلك فقد ضيع نفسه وأهله وهو مخاطب بحفظ نفسه والقيام بمؤنة أهله ثم ذكر المتاع والرحل وهو موافق لتفسير الاستطاعة الذي تقدم.
وأما أجرة الخادم لمن اعتاده وعجز عن القيام بمؤنة نفسه فذلك من كمال الاستطاعة.
وأما قائد الاعمى فذلك مما تمس اليه الحاجة إذا أراد الاعمى ان يحج والظاهر ان عماه عذر له عن الحج وانه غير مستطيع وان وجد قائدا وزادا وراحلة وقياس الحج على صلاة الجماعة قياس مع الفارق الذي هو أوضح من الشمس.
قوله: "ومحرم مسلم للشابة".
أقول: لورود النهى لها عن السفر بغير محرم وأقل المسافة التي قيد بها النهي هو البريد فيجب اعتبار المحرم فيه ولا ينافيه ما ورد مما فيه زيادة على ذلك لأن المنع من سفر البريد قد دل على ذلك بمنطوقه وهو ارجح مما دل عليه بمفهومه فالمرأة ممنوعة من السفر بغير محرم شرعا فلا يتم استطاعتها الا به وإذا امتنع الا بأجرة لم تتم استطاعتها الا بالتمكن من أجرته وقد عرفت ان الاستطاعة شرط للوجوب فالتمكن من المحرم هو من شروط الوجوب لا من شروط الأداء ولا فرق بين شابة وغيرها فإنه لم يرد في الادلة التقييد بالشابة وبهذا تعرف انه لا بد من المحرم في سفر الحج وغيره.
قوله: "ويجب قبول الزاد من الولد".
أقول: الاستطاعة تحصل بوجود ما تقدم بما ذكر في تفسيرها فإذا حصل ذلك في ملك الاب وجب عليه الحج وإذا وهب له الولد فذلك مال رزقه الله إياه من غير حصول منه فلا يجوز له رده ولا سيما مع ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فإن هذا الحديث يدل على انه يصير مستطيعا بمجرد وجود ما تحصل به الاستطاعة في مال ولده وهكذا يجب قبول الهبة من السلطان لورود الامر بقبولها كما في الحديث الصحيح بلفظ: "ما أتاك من هذا المال وانت غير مستشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" وهكذا لو رزقه الله مالا بهبة أو نذر أو نحوهما من غير منه ولا وصمة في دين فقبول ذلك واجب ليؤدى به ما افترضه الله عليه فاعرف هذا ودع عنك ما يقال تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب ونحو ذلك من القواعد المؤسسة على الرأي الفائل والاجتهاد المائل فإنه كثيرا ما يقع الغلط في مثل هذا والمغالطة.
وأما قوله: "لا النكاح لأجله" فصحيح لأن المرأة بالزواج تدخل نفسها في واجبات تجب عليها لزوجها ولا يجب عليها الدخول في مثل ذلك.(1/305)
وأما قوله: "ويكفي الكسب في الأوب" فهو غير صحيح فإن الاستطاعة إنما تكون بوجود الزاد للذهاب والاياب حتى يعزم وهو على ثقة من نفسه بعدم الضياع ونفس الكسب ووجود من يكتسب ما يحتاج اليه معه إحالة على معدوم لا يدرى هل يوجد من بعد أولا يوجد ولا فرق بين ذي العول وغيره وقد عرفت مما سبق انه لا بد من وجود ما يكفي من يعوله إلي رجوعه وبالجملة فالاتكال على الكسب قريب من الاتكال على السؤال الذي نزل في شأنه قوله تعالي: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] .
[فصل
وهو مرة في العمر ويعيده من ارتد فأسلم ومن احرم فبلغ أو اسلم جده ويتم من عتق ولا يسقط فرضه ولا تمنع الزوجة والعبد من واجب وإن رخص فيه كالصوم في السفر والصلاة أول الوقت الا ما أوجب معه لا بإذنه الا صوما عن الظهار أو القتل وهدى المتعدى بالاحرام عليه ثم على الناقض] .
قوله: فصل: "وهو مرة في العمر".
أقول: هذا الحكم قد صار من المعلومات بالضرورة الشرعية وليس في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، الا الدلالة على المرة الواحدة وقد زاد ذلك أيضاحا ما وقع من السؤال للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه بأنه لا يجب لا مرة وقد اجمع على ذلك جميع المسلمين سابقهم ولا حقهم ولا يعرف في ذلك مخالف من أهل الإسلام.
قوله: "ويعيده من ارتد فأسلم".
أقول: عوده إلي الإسلام توبة والله سبحانه قابل التوبة وهو الذي لا يضيع عمل عامل وقد قيد الاحباط في كتابه العزيز بالموت على الكفر فقال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما اسلفت من خير" لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجأهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم فيها أجر.
فإذا كانت الاعمال الصالحة في الجأهلية مكتوبة لفاعلها إذا أسلم فكتبها للمسلم الذي عملها في حال إسلامه ثم ارتد ثم عاد إلي الإسلام ثابت بفحوى الخطاب.
وأما ما قوله: "ومن احرم فبلغ" الخ فقد قدمنا قريبا الكلام في الصبي والكافر والعبد وفيه ما يغني عن الاعادة هنا ولا يخفاك ان ايجاب التمام على العبد مع عدم اسقاطه للفرض من غرائب الرأي المبنية على الخيال.
قوله: "ولا يمنع الزوجة والعبد من واجب".(1/306)
أقول: قد أوجب الله سبحانه على كل واحد منهما واجبات له عز وجل وواجبات للزوج والسيد وعليهما القيام بجميع ذلك وليس للزوج والسيد المنع لهما مما هو واجب عليهما لله عز وجل وليس لهم الاشتغال بغير ما أوجب الله عليهما من واجبات الزوج والسيد فليس لهما ان يوجبا على انفسهما بنذر أو نحوه ما يشغلهما عما يجب عليهما للزوج والسيد فإن فعلا كان للزوج والسيد المنع من ذلك لأن إيجاب ما أوجبه الله عليهما للزوج والسيد سابق على وجوب ما أوجباه على انفسهما وذلك ليس لهما وبهذا يتضح لك الصواب في اطراف هذه المسألة.
[فصل
ومناسكه عشرة الأول الاحرام] .
وقوله: فصل: "ومناسكه عشرة الأول الاحرام".
أقول: الحج الذي طلبه الله من عباده قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فحج باصحابه وقال لهم: "خذوا عني مناسككم"، فالحج الذي فرضه الله سبحانه في كتابه على عبادة هو مجموع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم معلما لأمته ومن ادعى ان شيئا مما فعله غير واجب احتاج إلي الدليل وأما ما شكك به الجلال في شرحه في هذا الموضع من ان الحج القصد في لسان العرب وانه لا ينصرف إلي مالا وجود له فيقال له واصل الصلاة تحركي الصلوين والزكاة النماء والصيام الامساك عن الكلام فكيف يصح انصرافها إلي ما لا وجود له وكل متشرع يعلم ان الله سبحانه ارسل رسوله ليبين للناس ما نزل اليهم وقد فعل جزاه الله عن امته خيرا وقد اتفق أهل الإسلام أولهم وآخرهم سابقهم ولاحقهم على ان هذه التكاليف التي هي أركان الإسلام فضلا عن غيرها وقعت في الكتاب العزيز مجملة وتوقف وقوعها بالفعل من العباد على البيان النبوي ولا خير في هذا ولا موجب للشك فيه والتشكيك على المقصرين الا مجرد الخبط في أودية الرأي وتأثيره على الواضحة التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لا يزيغ عنها إلا جاحد"، ومن جملة ما شمله البيان النبوي الاحرام بل وقع الامر به في السنة المطهرة على الخصوص فمالنا وللرجوع إلي مثل قولهم احرم كمعنى اتهم وانجد وأي مقتض لمثل هذا الكلام الزائف.
[فصل
ندب قبله قلم الظفر ونتف الابط وحلق الشعر والعانة ثم الغسل أو التيمم للعذر ولو حائضا ثم لبس جديد أو غسيل وتوخى عقيب فرض والا فركعتان ثم ملازمة الذكر(1/307)
والتكبير في الصعود والتلبية في الهبوط والغسل لدخول الحرم ووقته شوال وذو القعدة وكل العشر.
ومكانه الميقات ذو الحليفة للمدني والجحفة للشامي وقرن المنازل للنجدي ويلملم لليماني وذات عرق للعراقي والحرم للمكي ولمن بينها وبين مكة داره وما بإزاء كل من ذلك وهي لأهلها ولمن ورد عليها ولمن لزمه خلفها موضعه ويجوز تقديمه عليها الا لمانع] .
قوله: "وندب قبله قلم الظفر" الخ.
أقول: هذه الامور لم يرد فيها ما يدل على مشروعيتها عند الاحرام بل وردت فيها أحاديث قاضية بأنها من السنن مطلقا ولعل المصنف رحمه الله لما وقف على ما ورد من مشروعية الغسل والتطيب للاحرام جزم بندبية هذه الامور لانها من كمال التنظيف وأما ما ذكره من ندبية الغسل فقد ورد في ذلك ثلاثة احاديث.
الأول: حديث زيد بن ثابت عندالترمذي وحسنه والطبراني والدارقطني والبيهقي ان النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لاحرامه واغتسل وقدنقل ابن حجر عن العقيلي انه ضعفه ولم يذكر الوجه وفي تحسين الترمذي له كفاية.
الحديث الثاني: أخرجه الدارقطني عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد ان يحرم يغسل رأسه بحطمي واشنان.
الحديث الثالث: أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لبس ثيابه فلما اتى ذا الحليفة صلى ركعتين وفي إسناده يعقوب بن عطاء قال ابن حجر وهو ضعيف وقد قال ابن القيم في الهدى انه صلى الله عليه وسلم لما أرادا الاحرام اغتسل غسلا ثانيا لاحرامه غير الغسل الأول للجنابة.
وأما قول المصنف أو التيمم للعذر فلا وجه له فليس التيمم يصلح بدلا لمثل هذه الاغسال المندوبة ولا ورود ما يدل على ذلك وأيضا المراد بالغسل للإحرام التنظيف والتيمم يخالف ذلك.
وأما مشروعيته للحائض فقد أخرج أبو دأود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير ان لا تطوف بالبيت"، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وقد ضعفه جماعة من قبل حفظه مع كونه صدوقا ويؤيده ما في صحيح مسلم من أمره صلى الله عليه وسلم لاسماء بنت عميس ان تغتسل بذي الحليفة حين نفست بمحمد بن أبي بكر.
وأما قوله: "وليس جديد أو غسيل" فلم يرد ما يدل على ذلك من قول ولا فعل ولكنه من كمال التنظيف.(1/308)
قوله: "وتوخى عقيب فرض".
أقول: يدل على هذا ما أخرجه أبو دأود والنسائي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل"، ورجاله رجاله رجال الصحيح الا اشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة وما أخرجه أحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم: "أهل في دبر الصلاة "وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وقدتقدم انه ضعيف الحفظ صدوق وقد أخرجه الحاكم من وجه آخر.
وأما قوله: "وإلا فركعتان" فلحديث ابن عباس عند أحمد وأبي دأود أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج حين فرغ من ركعتيه".
قوله: "ثم ملازمة الذكر والتكبير في الصعود والتلبية في الهبوط".
أقول: لم يرد في التكبير مطلقا في هذا الموطن ما يصلح للتمسك به لا عندالصعود ولا عند غيره وأما التلبية فقد ثبت عند مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث خلاد بن السائب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن أمر أصحأبي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية" قال الترمذي: هذا حديث صحيح وصححه ابن حبان والحاكم فهذا يفيد مشروعية رفع الصوت بالتلبية في هذا الموطن من غير فرق بين صعود وهبوط.
وأما قوله: "والغسل لدخول الحرم" فقد ثبت من حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.
قوله: "ووقته شوال" الخ.
أقول: هذا وقت الاحرام كما ان مكانه الميقات فلا يجوز ولا يجزئ فعل الاحرام قبل وقته وفي غير مكانه ومن زعم انه يجوز ذلك أو يجزئ لم يقبل منه الا بدليل وبهذا تعرف عدم صحة قول المصنف ويجوز تقديمه عليهما.
وأما ما قيل من ان معنى قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] ، بان يحرم لهما من دويرة أهله فقد عورض هذا التفسير بغيره فقيل المراد بقوله وأتموا الحج والعمرة ائتوابهما تامين وهذا التفسير هو الذي يقتضيه ظاهر النظم القرآني.
وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب انه قال في قوله تعالي: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال: إتمامهما ان يفرد كل واحد منهما عن الاخر وان يعتمر في غير اشهر الحج.
قال ابن عبد البر وأما ما يروى عن عمر وعلى ان تمام الحج والعمرة ان تحرم لهما من دويرة أهلك فمعناه ان تنشيء لهما سفرا تقصده من البلد كذا فسره ابن عيينه فيما حكاه أحمد(1/309)
عنه والحاصل ان تفاسير الصحابة لا تقوم بها الحجة لا سيما مع اختلافها ومعنى التمام في لسان العرب واضح ظاهر فالواجب البقاء عليه والتمسك به فلا يجوز ولا يجزي الاحرام قبل اشهر الحج ولا قبل الوصول إلي الميقات المضروب للإحرام.
وأما قوله: "ذو الحليفة للمدني" إلخ فهكذا ورد الدليل كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: "وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم قال فهن لهن ولمن اتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها ". وفي الصحيحين [البخاري "1525"، مسلم "5/125"، عن ابن عمر مرفوعا نحوه.
وأما ذات عرق فأخرج البخاري عن ابن عمر قال لما فتح هذان المصران يعني البصرة والكوفة اتوا عمر بن الخطاب فقالوا يا امير المؤمنين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وإنه جور عن طريقنا وإنا إذا اردنا ان نأتي قرنا شق علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق ولكنه قد ورد ما يدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدها لأهل العراق ذات عرق فأخرج أبو دأود والنسائي عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. ولا يضر تفرد المعافي بن عمران به فهو ثقة.
وأخرج مسلم عن أبي الزبير انه سمع جابرا سئل عن المهل فقال سمعت احسبه رفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ومهل أهل العراق ذات عرق.
وأخرج أحمد وابن ماجه عن جابر مرفوعا من غير شك وفي إسناد أحمد ابن ربيعة وفي إسناد ابن ماجه إبراهيم بن يزيد الخوزي وهما ضعيفان.
وفي الباب عن الحارث بن عمرو السهمي عندأبي دأود وعن أنس عند الطحأوي وعن ابن عباس عند ابن عبد البر وعن عبد الله بن عمرو عند أحمد وهذه الاحاديث يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها بأن ذات عرق وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق.
[فصل
وإنما ينعقد بالنية مقارنة لتلبية أو تقليد ولو كخبر جابر ولا عبرة باللفظ وإن خالفها ويضع مطلقة على ما شاء الا الفرض فيعينه ابتداء وإذا التبس ما قد عين أو نوى كإحرام فلان وجهله طاف وسعى مثنيا ندبا نأويا ما احرم له ولا يتحلل ثم يستأنف نية معينة للحج من أي مكة مشروطة بأن لم يكن احرم له يستكمل المناسك كالمتمتع ويلزمه بدنة وشاة ودمان ونحوهما لما ارتكب قبل كمال السعي الأول ويجزيه للفرض ما التبس نوعه لا(1/310)
بالفعل والنذر ومن احرم بحجتين أو عمرتين أو ادخل نسكا على نسك استمر في احدهما ورفض الاخر وأداه لوقته ويتعين الدخيل للرفض وعليه دم ويتثنى ما لزمه قبله] .
قوله: فصل: "وإنما ينعقد بالنية مقارنة لتلبية أو تقليد".
أقول: الاحرام هو مصير الشخص من الحالة التي كان يحل له فيها ما يحرم عليه بعدها إلي الحالة التي يحرم عليه فيها ما كان يحل له فيها ولو لم يكن الا مجرد الكف عن محظورات الاحرام لكان ذلك معنى معقولا لكل عاقل كالصوم فإنه ليس الا الكف عن تنأول المفطرات فمن قال انه لا يعقل معنى الاحرام وانه ليس هناك الا مجرد النية وان النية لا تنوى والا لزم التسلسل فقد اخطأ خطأ بينا ومعلوم ان الشريعة المطهرة بعضها أوامر وبعضها نواه والتعبد في النواهي ليس الا بالكف فيلزمه ان يطرد هذا التشكيل الركيك في شطرالشريعة.
وأما ايجاب النية فقد عرفناك غير مرة ان كل عمل يحتاج إلي النية والعمل يشمل الفعل والترك والقول والفعل وعرفناك ان ظاهر الادلة يقتضى ان النية شرط في جميع ما تقدم من العبادات لدلالة أدلتها على ان عدمها يؤثر في العدم وهذا هو معنى الشرط عند أهل الاصول.
وأما كون النية تقارن التلبية فقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دوأوين الإسلام من غير وجه انه أهل ملبيا وقد قدمنا لك ان افعاله واقواله في الحج محمولة على الوجوب لانها بيان لمجمل القرآن وامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم لأمته ان يأخذوا عنه مناسكهم فمن ادعى في شيء منها انه غير واجب فلا يقبل منه ذلك الا بدليل.
وأما كونها تقارن التقليد فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية: "انه لما كان بذي الحليفة قلد الهدى وأشعره واحرم بالعمرة"، [البخاري " 3/544"، أبو دأود "1754"، أحمد "4/323"] .
قوله: "ولو كخبر جابر"
أقول: هو حديث أخرج معناه أحمد من طريقين ورجاله رجال الصحيح وأخرجه البزار أيضا ومضمونه انه بعث صلى الله عليه وسلم بهدي إلي الحرم ثم نزع قميصه وقال: "إني أمرت بهدي ان يقلد ويشعر فلبست قميصي ونسيت".
ويخالفه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت انا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء احله الله له حتى نحر الهدي ويمكن الجمع بتعدد القصة ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي من حديث جابر انهم إذا كانوا حاضرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعث الهدى فمن شاء أحرم ومن شاء ترك وقد كان ابن عباس وابن عمر يبعثان بالهدى ويمسكان عما يمسك منه المحرم وقال ابن المنذر قال علي وعمر وقيس بن سعد وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون من ارسل الهدي واقام حرم عليه ما يحرم على المحرم وقال آخرون لا يصير بذلك محرما.(1/311)
قوله: "ولا عبرة باللفظ وان خالفها".
أقول: هذا صحيح فالنية هي عقدالقلب واللفظ لادخل له في ذلك ولا اعتبار به فإذا وقع مخالفا لما عقد عليه القلب فهو لغو.
قوله: "ويصنع مطلقه على ما شاء".
أقول: قد قدمنا ان الاحرام غير النية فإذا اطلقه ولم يعين النوع الذي احرم له كان ذلك مفوضا اليه واقعا على اختياره.
وأما قوله وإذا التبس ما قد عينه الخ فأقول: إذا وقع اللبس على وجه يتعذر معه الاهتداء إلي ما يرفعه فلا يجب عليه بمجرد ذلك التعيين شيء ولا يجب عليه شيء مما ذكره المصنف بل له ان يعين بعد ذلك ما شاء ولا يلزمه من أحكام التعيين المنسي شيء هكذا ينبغي ان يقال مطابقة لقواعد الشريعة الكلية والجزئية وقد ثبت في الكتاب العزيز: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وثبت في الصحيح أن الله سبحانه قال عقب كل دعوة من الدعوات التي هذه منها قد فعلت فثبت بهذا عدم المؤاخذة بالنسيان ويؤيده حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فإنه حديث قد تكاثرت طرقه حتى صلح للاحتجاج به وتأويله بأن المراد رفع الإثم غير مقبول وبهذا تعرف انه لا وجه لهذه التفاصيل التي ذكرها المصنف.
قوله: "ومن احرم بحجتين" الخ.
أقول: هذا الذي احرم بالحجتين ان أراد بذلك في عام واحد فهو متلاعب وهذه النية باطلة لا حكم لها ولا يلزمه وينوي بعد ذلك ما شاء ووجود تلك النية الباطلة كعدمها وان أراد في عامين فكأنه الزم نفسه بحجة مع هذه الحجة فيفي بذلك في عام آخر وأما إدخال النسك على النسك فقد لزم الأول وذكر الثاني لغو باطل لا يلزم ولا يحتاج إلي رفض لأنه وقع عند وجود المانع منه وهو النسك الأول ولا يلزمه للدخيل شيء ولا ينبني عليه ما لزمه من الدماء وهذا ظاهر واضح ولكن التفاريع المبنية على غير اساس تأتي بمثل هذه الخرافات.
[فصل
ومخطوراته أنواع منها الرفث والفسوق والجدال والتزين بالكحل ونحوه ولبس ثياب الزينة وعقد النكاح لا الشهاد والرجعة ولا توجب الا الإثم.
ومنها الوطء ومقدماته وفي الامناء أو الوطء بدنة وفي الامداء أو ما في حكمه بقرة وفي تحرك الساكن شاة قيل ثم عدلها مرتبا.
ومنها لبس الرجل المخيط مطلقا الا اصطلاء فإن نسي شقه وعليه دم وتغطية رأسه(1/312)
ووجه المراة بأي مباشر غالبا والتماس الطيب وأكل صيدالبر وفيها الفدية شاة أو إطعام ستة أو صوم ثلاث وكذلك في خضب كل الاصابع أو تقصيرها أو خمس منها وفي إزالة سن أو شعر أو بشر منه أو من محرم غيره يبين اثره في التخاطب وفيما دون ذلك وعن كل إصبع صدقة وفيما دونها حصته ولا تتضاعف بتضعيف الجنس في المجلس ما لم يتخلل الاخراج أو نزع اللباس ونحوه.
ومنها: قتل القمل مطلقا وكل متوحش وان تأهل مأمون العذر بمباشرة أو تسبيب بما لولاه لما انفتل الا المستثنى والبحري والأهلي وان توحش والعبرة بالام وفيه مع العمد ولو ناسيا الجزاء وهو مثله أو عدله ويرجع فيما له مثل إلي ما حكم به السلف والا فعدلان وفيما لا مثل له إلي تقويمهما.
وفي بيضة النعامة ونحوها صوم يوم أو إطعام مسكين وفي العصفور ونحوه القيمة وفي افزاعه وإيلامه مقتضى الحال والقملة كالشعرة.
وعدل البدنة اطعام مائة أو صومها والبقرة سبعون والشاة عشرة ويخرج عن ملك المحرم حتى يحل وما لزم عبدا اذن بالاحرام فعلى سيده ان نسي أو اضطر والا ففي ذمته ولا شيء على الصغير] .
قوله: فصل: "ومحظوراته أنواع منها الرفث والفسوق والجدال".
أقول: هذه الثلاثة على تفسير الرفث بفحش الكلام هي محظورة في غير الحج وعلى غير المحرم فذكرها بقوله تعالي: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، يدل على مزيد اثم فاعلها فيه وانها اشد تحريما على الحاج من غيره.
قوله: "والتزين بالكحل ونحوه".
أقول: لم يثبت ما يدل على ان الكحل والدهن من محظورات الاحرام ولا من مكروهاته والاصل الحل وليس لنا ان نثبت ما لم يثبت من المحظورات ويؤيد الجواز وان كان لا يحتاج إلي دليل لأنه الاصل ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن غير مقتت"، قال الترمذي بعد إخراجه هذا حديث غريب لا نعرفه الا من حديث فرقد السبخي عن سعيد بن جبير وقد تكلم يحيى بن سعيد في فرقد وقد روى عنه الناس انتهى ومن عدا فرقدا من رجال اسناده فهم ثقات.
وأما إذا كان الكحل أو الدهن مطيبا فسيأتي البحث عن الطيب والمطيب والمقتت ما طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان مطيبة.
وأما قوله: "ولبس ثياب الزينة" فهذا حكم لا يرجع إلي رواية ولا رأي صحيح والذي ثبت تحريمه على المحرم من اللباس هو معروف مصرح به في الاحاديث وسيأتي.(1/313)
قوله: "وعقد النكاح".
أقول: قد صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما [مسلم "41/1409"، أحمد "1/69"، أبو داود "1841"، الترمذي "840"، النسائي "5/192"، ابن ماجة 1966"] ، النهي عن ذلك فقال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" كما في حديث عثمان بن عفان وروى النهي أيضا من حديث ابن عمر أخرجه أحمد وفي إسناده أيوب بن عتبة وقد وثق وروى مالك في الموطإ والدارقطني عن أبي غطفان عن أبيه عن عمر بن الخطاب ان رجلا
تزوج وهو محرم ففرق بينهما ولا يعارض هذا ما في الصحيحين [البخاري "4/51"، مسلم "47/1410"، وغيرهما [أحمد "1/266"، أبو داود "1844"، الترمذي "842"، النسائي "5/191"، ابن ماجة "1965"] ، من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم لوجهين الأول انه أخرج أحمد والترمذي من حديث ميمونة نفسها انه تزوجها وهو حلال وبنى بها وهو حلال.
وأخرجه أيضا مسلم وابن ماجه بلفظ تزوجها وهو حلال وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي رافع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا وبنى بها حلالا وكنت الرسول بينهما وأخرج أبو دأود ان سعيد بن المسيب قال وهم ابن عباس في قوله تزوج ميمونة وهو محرم فهذه رواية ميمونة ورواية أبي رافع وهو السفير بينهما ارجح من رواية ابن عباس لانهما اخبر بالقصة.
والوجه الثاني ان حديث ابن عباس غاية ما فيه على فرض انه ارجح لكونه في الصحيحين ان ذلك جائز لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون خاصا به والنهي خاصا بالامة كما تقرر في الاصول ان فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة وعلى تقدير شمول النهي له فيكون فعله مخصصا له.
وأما قوله: "إلا الشهادة والرجعة" فوجهه ان النهي إنما ورد في النكاح.
قوله: "ولا يوجب إلا الإثم".
أقول: هذا صحيح لان الاصل البراءة عن لزوم شيء في المال حتى يأتي الدليل الدال عليه ولم يرد في هذه المذكورات دليل يدل على انه يلزم فاعلها شيء فيجب التوقف في الايجاب على ما ورد وقد عرفناك غير مرة ان اموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل اخراج شيء منها عن ملكهم الا بناقل يصلح للنقل والا كان ذلك من أكل اموال الناس بالباطل.
قوله: "ومنها الوطء ومقدماته" الخ.
أقول: أما كون المحرم ممنوعا من الوطء فظاهر لا سيما بعد حمل قوله: {فَلا رَفَثَ} على الجماع وأما كونه يجب عليه بدنة وفي الامذاء وما في حكمه بقرة وفي تحرك الساكن شاة فليس في هذا شيء في كتاب الله سبحانه ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمأما روى من اجتهادات بعض الصحابة فقد عرفت انها لا تقوم بها الحجة فيما هو دون هذا واعجب من هذا ما سياتي من ان الوطء يفسد الحج ويجب الاستمرار فيه والقضاء له وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.(1/314)
قوله: "ومنها لبس الرجل المخيط".
أقول: الاحاديث الصحيحة قد وردت بمنع المحرم من لبس القميص والسرأويل ثم قالوا انه صلى الله عليه وسلم قد نبه بذلك على المنع من كل مخيط ولا أرى هذا صحيحا فإن ورد ما يدل على تحريم لبس المخيط على العموم فذاك ولكنه لم يرد فينبغي التوقف على المنع مما سماه النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري "3/401"، مسلم "1177"] ، وغيرهما [أبو داود "1824"، الترمذي "833" النسائي "5/131، 132"، ابن ماجة 2929"] ، إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما يلبس المحرم فقال: "لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين".
وأخرج البخاري "4/52"، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين".
وأخرج أحمد وأبو دأود عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في الإحرام عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب وزاد أبو دأود والحاكم والبيهقي ولتلبس بعد ذلك ما احبت من الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سرأويل أو قميصا.
والأحاديث في الباب كثيرة والحاصل ان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد بين أكمل بيان مالا يجوز للمحرم لبسه فما عدا ذلك جاز له لبسه سواء كان مخيطا أو غير مخيط.
وأما قوله: "فإن نسي شقه" فغير صحيح فإن هذا إضاعة للمال وقد رود النهي عنها ولكن ينزع الجبة أو القميص كما في حديث يعلى بن امية ان رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وهو متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل احرم في جبة بعدما تضمخ بطيب فنظر اليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي ثم سرى عنه فقال: "أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ " فالتمس الرجل فجيء به فقال: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في العمرة كل ما تصنع في حجك"، هكذا في الصحيحين [البخاري "9/9"، مسلم "8/1180"، وغيرهما [أبو داود "1819"، الترمذي "836"، النسائي "5/142، 143"] ، وأما ما ذكره من وجوب الدم في لبس المخيط فليس على ذلك دليل والاصل البراءة فلا ينقل عنها الا دليل صحيح يصلح للنقل.
قوله: "وتغطيه رأس الرجل ووجه المرأة".
أقول: أما تغطيه رأس الرجل فلما أخرجه مسلم "99/1206، 100/1206"، وغيره [البخاري "1851، 1267"، أحمد "1/328، 1/215"، النسائي "5/195، 5/197"] ، من حديث ابن عباس ان رجلا وقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا"، وهذا التعليل بقوله فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا يدل على ان العلة في عدم التغطية هو الاحرام قال النووي في شرح مسلم أما(1/315)
تخمير الرأس في حق المحرم الحي فمجمع على تحريمه وأما وجهه فقال مالك وأبو حنيفة هو كرأسه وقال الشافعي والجمهور لا إحرام في وجهه وله تغطيته وأنه يجب كشف الوجه في حق المرأة.
والحديث حجة عليهم وهكذا حكى المأوردي الاجماع على تحريم تغطية الرأس ومما يدل على منع الرجل من تغطية رأسه ما في الصحيحين وغيرهما من نهيه صلى الله عليه وسلم من لبس العمامة والبرنس كما تقدم.
وأما تغطية وجه المرأة فلما روى ان إحرام المرأة في وجهها ولكنه لم يثبت ذلك من وجه يصلح للاحتجاج وأما ما أخرجه أحمد "6/30"، وابو دأود "1833"، وابن ماجه "2935"، من حديث عائشة قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت احدانا جلبابها من راسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه وليس فيه ما يدل على ان الكشف لوجوههن كان لأجل الاحرام بل كن يكشفن وجوههن عند عدم وجود من يجب سترها منه ويسترنها عند وجود من يجب سترها منه وهكذا ما رواه الحاكم وصححه من حديث أسماء بنحوه فإن معناه معنى ما ذكرناه فليس في المنع من تغطية وجه المرأة ما يتمسك به والاصل الجواز حتى يرد الدليل الدال على المنع.
قوله: "والتماس الطيب"
أقول: اعلم ان تحريم الطيب على من قد صار محرما مجمع عليه والاحاديث القاضية بتحريمه عليه كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وليس الخلاف الا في استمرار المحرم على طيب كان قد تطيب به قبل ان يحرم ثم لم يغسله عنه عند الاحرام فظاهر حديث عائشة الثابت في الصحيحين [البخاري "10/370"، مسلم "36، 37/1189"] ، انها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيب ما اجد.
وفي لفظ [مسلم "44/99"] ، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد ان يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك انه يجوز الاستمرار على الطيب الواقع قبل الاحرام ولا يجب غسله وإلي هذا ذهب الجمهور.
وفي لفظ لمسلم "39/1190"، وغيره [البخاري "3/396"، أبو داود "1746"، من حديثها كأني انظر إلي وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم وأخرج أبو دأود "1830"، عن عائشة قالت كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلي مكة فنضمخ جباهنا بالسك المطيب عند الاحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينهانا ورجال إسناده ثقات الا الحسين بن الجنيد شيخ أبي دأود وقد قال النسائي لا بأس به وقال ابن حبان في الثقات إنه مستقيم الامر.
فالحاصل ان الممنوع من الطيب إنما هو ابتداؤه بعدالاحرام لا استدامته والاستمرار عليه إذا وقع قبل الاحرام وقد حققت هذا البحث في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلي زيادة عليه.(1/316)
قوله: "وأكل صيد البر".
أقول: الاحاديث الواردة في صيد البر قد بينت معنى قوله سبحانه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] ، وقد جمعت بينها في شرحي للمنتقى بما حاصله انه يحرم صيدالبر على المحرم إذا صاده بنفسه أو صاده محرم آخر أو صاده حلال لاجل المحرم لا إذا صاده حلال لآ لأجل المحرم فإنه يحل له إذا لم يعنه عليه أحد من المحرمين وبهذا يحصل الجمع بين حديث أبي قتادة [البخاري "6/98"، مسلم "58/1196"، أبو داود ":1852"،، اليترمذي "847"، النسائي "5/182"، ابن ماجة "3093"، أحمد "5/182"] ، وحديث الصعب بن جثامة وسائر ما ورد في الباب فارجع إلي ذلك فإنه بحث نفيس.
قوله: "وفيها الفدية" الخ.
أقول: لم يرد في هذه المذكورات ما يدل على لزوم الفدية والاصل البراءة فلا ينقل عنها الا ناقل صحيح وقد ورد القرآن الكريم بلزوم الفدية للمريض ومن به اذى من رأسه إذا حلق رأسه كما يفيده أول الآية فيقتصر على ذلك والتشبث بالقياس غير صحيح.
وهكذا قوله وكذلك في خضب كل الاصابع إلي آخر البحث لا دليل يدل على لزوم الفدية في شيء من ذلك وبالجملة فلم يرد في إيجاب الفدية في شيء من هذه الامور كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع بل لم يرد في الحكم بحظرية بعضها على المحرم ما يصلح للتمسك به وإيجاب ما لم يوجبه الله هو من التقول على الله بما لم يقل.
قوله: "وقتل القمل مطلقا".
أقول: لم يرد ما يدل على ان هذا من محظورات الاحرام والتعويل على القياسات التي هي مجرد دعأوى على القياس لا تثبت الحجة بمثلها وقد أذن صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة كما في الصحيحين [البخاري "1816"، مسلم "85/1201"] ، وغيرهما [أبو داود "1856"، الترمذي "953"، النسائي "5/194"، 195"] ، ان يحلق رأسه بعد ان رأى القمل بتناثر على وجهه وأوجب عليه الفدية لأجله لا لأجل القمل فإنه لم يأمره بشيء في ذلك ومعلوم ان جميع ما كان في رأسه من القمل قد ذهب عنه بذهاب الشعر وهلك بالقائه على الارض وهكذا لا وجه لقوله وقتل كل متوحش فإنه لا يصدق عليه انه صيد حتى يندرج تحت قوله سبحانه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] ، ولا وجه لايجاب الجزء في ذلك مع أن غالب المتوحش من الحيوانات أنه يخشى منه الضرر وقد نبه صلى الله عليه وسلم على علة النهي عن قتل الخمس المستثناة بما ورد في رواية صحيحة من الحاق "السبع العادي" بها فقال والسبع العادي والوصف بالمشتق مشعر بالعلية وقتله لاجل عدوه وكل ما يعدو له حكمه.
والظاهر انه صلى الله عليه وسلم نبه باستثناء الخمس المستثناة عن كل ضار وان العلة في جواز قتلها هو كونها ضارة فيدخل في ذلك كل ضار والقمل من جملة ما يتضرر به الإنسان فضلا عما له مدخلية في الضرر زائدة على القمل.(1/317)
قوله: "وهو مثله أو عدله" الخ.
أقول: الجزاء واجب في قتل الصيد لا فيما تقدم مما ليس بصيد فلا شك انه المماثل لما صاده لقوله تعالي: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، ولكنه ينبغي أن تكون المماثلة في اخص الأوصاف إذا لم تكن في غالبها لا في الوصف الذي لا مدخل له في المماثلة كما قيل إنه يجب في الحمامة شاة لأنهما متماثلان في العب للماء فإن هذا الوصف لا اعتبار به في الحكم بالمماثلة اصلا بل يقال ان في النعامة بدنة وفي الوعل بقرة وفي الارنب جدي وفي الظبي عنز ونحو ذلك.
وأما الرجوع إلي حكم السلف فلا وجه له الا إذا لم يوجد في الحال من يمكنه الحكم لأن الله سبحانه قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ، والخطاب لكل قوم اتفق فيهم مثل ذلك إلا أن يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك كان العمل به واجبا ولا يجوز المصير إلي خلافه وهكذا إذا فرض ان السلف اتفقوا على حكم من الأحكام وبهذا المقدار يتبين لك الكلام على بقية ما ذكره المصنف في هذا الفصل فإن قلت من حكمه صلى الله عليه وسلم في الجزاء ما أخرجه أبو دأود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والحاكم في المستدرك عن جابر قال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشا وجعله من الصيد قال الترمذي سألت البخاري عنه فصححه وكذا صححه عبد الحق وقد ذكرت فيما سبق ان ما كان من الوحش لا يصدق عليه اسم الصيد قلت الضبع صيد يحل أكله كما سيأتي الدليل على ذلك فلا يرد النقض به.
[فصل
ومحظور الحرمين قتل صيدهما كما مر والعبرة بموضع الإصابة لا بموضع الموت وفي الكلاب القتل أو الطرد في الحرم وان خرجا أو استرسلا من خارجه.
الأول: قطع شجر اخضر غير مؤذ ولا مستثنى اصله فيهما نبت بنفسه أو غرس لبيقى سنة فصاعدا وفيهما القيمة فيهدي بها أو يطعم وتلزم الصغير وتسقط بالاصلاح وصيدهما ميتة وكذا المحرم وفي حق الفاعل اشد.
الثاني: طواف القدوم داخل المسجد خارج الحجر على طهارة ولو زائل العقل أو محمولا أو لابسا راكبا غصبا وهو من الحجر الأسود ندبا جاعل البيت عن يساره حتى يختم به اسبوعا متواليا ويلزم دم لتفريقه أو شرط منه عالما غير معذور أن لم يستأنف ولنقص أربعة منه فصاعدا وفيما دون ذلك عن كل شرط صدقة ثم ركعتان خلف مقام(1/318)
إبراهيم عليه السلام فإن نسي فحيث ذكر قيل من ايام التشريق.
وندب الرمل في الثلاثة الأول لا بعدها وان ترك فيها والدعاء في أثنائه والتماس الأركان ودخول زمزم بعد الفراغ والاطلاع على مائه والشرب منه والصعود منه إلي الصفا من بين الأصطوانتين واتقاء الكلام والوقت المكروه. الثالث: السعي وهو من الصفا إلي المروة شرط ثم منها اليه كذلك اسبوعا متواليا وحكمه ما مر في النقص والتفريق وندب على طهارة وان يلي الطواف ويشترط الترتيب والا فدم وللرجل صعود الصفا والمروة والدعاء فيهما والسعي بين الميلين:
الرابع الوقوف بعرفة وكلها موقف الا بطن عرنة ووقته من الزوال في عرفة إلي فجر النحر فإن التبس تحرى ويكفي المرور على أي صفة كان ويدخل في الليل من وقف في النهار والا فدم وندب القرب من مواقف الرسول وجمع العصرين فيها وعصر التروية وعشائه وفجر عرفة في منى والافاضة من بين العلمين.
الخامس: المبيت بمزدلفة وجمع العشاءين فيها والدفع قبل الشروق.
السادس: المرور بالمشعر وندب الدعاء.
السابع: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات مرتبة مباحة طاهرة غير مستعملة ووقت ادائه من فجر النحر غالبا إلي فجر ثانية عند أوله يقطع التلبية وبعده يحل غير الوطء.
وندب الترتيب بين الذبح والتقصير ثم من بعد الزوال في الثاني إلي فجر ثانية يرمى الجمار بسبع سبع مبتدئا بجمرة الخيف خاتما بجمرة العقبة ثم في الثالث كذلك ثم له النفر فإن طلع فجر الرابع وهو غير عازم على السفر لزم منه إلي الغروب رمى كذلك وما فات قضى إلي آخر أيام التشريق ويلزم دم وتصح النيابة فيه للعذر وحكمه ما مر في النقص وتفريق الجمار وندب على طهارة وباليمنى وراجلا والتكبير مع كل حصاة.
الثامن: المبيت بمنى ثاني النحر وثالثة وليلة الرابع ان دخل فيها غير عازم على السفر وفي نقصه أو تفريقه دم.
التاسع: طواف الزيارة كما مر بلا رمل ووقت ادائه من فجر النحر إلي آخر أيام الشتريق فمن اخره فدم وإنما يحل الوطء بعده ويقع عنه طواف القدوم إن أخر والوداع بغير نية ومن اخر طواف القدوم قدمه.
العاشر طواف الوداع كما مر بلا رمل وهو على غير المكي والحائض والنفساء ومن فات حجة أو فسد وحكمه ما مر في التقصي والتفريق ويعيده من أقام بعده أياما] .(1/319)
قوله: فصل: "ومحظور الحرمين قتل صيدهما كما مر".
أقول: أما حرم مكة فلما ثبت في الصحيحين [البخاري "1587"، 1834، 2783، 2825، 3189"، مسلم "1353"، وغيرهما [أبو داود "2018"، أحمد "1/226، 255، 259"، النسائي "5/203، 204"] ، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده"، الحديث ومثله في الصحيحين [البخاري "4/346"، مسلم "447/1355"، وغيرهما [أبو داود "2017"] ، أيضا من حديث أبي هريرة.
وأما حرم المدينة فلما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أيضا من حديث عباد بن نميم عن عمه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة".
وفي الصحيحين [البخاري "4/81"، مسلم "1370"، أيضا من حديث علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حرم ما بين عير إلي ثور وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى".
وفي صحيح مسلم "458/1362"، من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها".
وأخرج مسلم "1374"، أيضا من حديث أبي سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني حرمت المدينة حرام ما بين مأزمنيها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف".
وفي البخاري "4/81"، من حديث أنس بلفظ: "لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث"، وفي الباب احاديث. فهذه الأدلة تدل على تحريم ما اشتملت عليه ومن جملة ذلك الصيد وإذا حرم مجرد تنفيره كان تحريم قتله ثابتا بفحوى الخطاب.
وأما قوله والاعتبار بموضع الإصابة لا بموضع الموت فصحيح ولا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهكذا الاعتبار في الكلاب المرسلة للصيد ان يكون من الحرم الا إذا اسلها من غيره غير قاصد لدخولها الحرم.
قوله: "الثاني قطع شجر اخضر غير مؤذ ولا مستثنى".
أقول: أما تحريم قطع الشجر فقد دلت عليه الادلة التي ذكرنا بعضها في البحث الذي قبل هذا وقد ورد فيها الترخيص في الاذخر وفي علف الدواب منها فهذان الصنفان هما المستثنيان من النبات النابت في الحرم وأما الشجر المؤذي فلم يرد دليل يدل على الترخيص فيه لكن إذا كان نابتا في الطريق مثلا على وجه لا يمكن المرور الا بحصول ضرر منه فقواعدالشريعة تدل على جواز قطع ما كان ضارا وقد جاز قتل الحيوان لضرره فكيف لا يجوز قطع النبات. وما ورد(1/320)
في رواية بلفظ: "لا يعضد شوكها" فمحمول على ما يمكن المحرم تجنبه الا إذا الحت الضرورة إلي المرور عليه والوقوف فوقه فإن قطعه لدفع ضرره أولى من تركه مع حصول الضرر منه وقد أذن صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة أن يحلق رأسه لضرر ما فيه من القمل وقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ، فالترخيص للمريض إنما هو لمجرد تضرره بالمرض وكذلك من به أذى من رأسه فإن ذلك إنما رخص فيه لما يحصل به من الضرر.
وأما قوله: "نبت بنفسه أو غرس ليبقى سنة" فلا وجه لهذا التقييد ولا ورد ما يدل عليه ولكن الأمر المستمر من أهل الحرمين في سالف الزمان وإلي الان انهم يزرعون الزرائع ويغرسون الغروس فلعل هذا الشيء ثبت لهم كأن يكون الأمر في عصر النبوة وعصر الصحابة هكذا فإنه إذا كان هكذا كان ذلك دليلا على الجواز.
قوله: "وفيهما القيمة".
أقول: أما قتل صيدالحرم فقد صرح القرأن الكريم بأن من قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم وقد تقدم تحقيق ذلك وأما القيمه في الصيد فلا دليل يدل على لزومها وهكذا لم يرد دليل يدل على وجوب الجزاء أو القيمة في قطع شجر الحرم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم" 64] ، والاصل براءة الذمة وعصمة أموال المسلمين حتى يرد الدليل الصحيح الناقل عن ذلك ولكنه ورد في قطع شجر حرم المدينة كما أخرجه مسلم وغيره من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص ان سعدا ركب إلي قصره بالعقيق فوجدا عبدا يقطع شجرا ويخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه ان يرد عليه أو عليهم ما اخذ من غلامهم فقال معاذ الله ان ارد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي ان يرد عليهم.
وأخرج أحمد وابو دأود من حديث سليمان بن أبي عبد الله قال رأيت سعد بن أبي وقاص اخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلبه ثيابه فجاء مواليه اليه فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال: "من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه"، فلا أرد عليك طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ان شئتم أعطيتكم ثمنه أعطيتكم وأخرجه الحاكم وصححه.
قوله: "الثاني طواف القدوم".
أقول: قد عرفناك ان النبي صلى الله عليه وسلم علم الناس مناسك حجهم الذي أمر به الله سبحانه في كتابه العزيز بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} آل عمران: 97] ، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، فكل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو واجب بالقرآن وبالسنة وليست المناسك الا هذه المأخوذة من فعله ولم يعلم الناس بها إلا منه فما قيل انه لا بد أن يعرف أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو منسك فهو غلط أو مغالطة.
وإذا تقرر لك هذا فقد ثبت ثبوتا متواترا إن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجته الذي علم الناس كيف يحجبون طواف القدوم فدل ذلك على أنه منسك واجب لمن كان حجه مثل حجه صلى الله عليه وسلم(1/321)
والقائل بعدم الوجوب عليه الدليل الموجب لتخصيص ما قدمنا من القرآن والسنة المبينين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وكان طوافه صلى الله عليه وسلم داخل المسجد خارج الحجر وهذا يكفي في الاستدلال على هذه الصفة مع ما يفيده ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "8/170"، مسلم "399/1333"] ، وغيرهما [أحمد "6/176، 177"، النسائي "5/214، 215"] ، أنه قال: "الحجر من البيت".
قوله: "على طهارة".
أقول: إنما يثبت وجوب هذه الطهارة إذا ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم طاف طاهرا أي متوضئا وضوء الصلاة أو أمر الطائفين بذلك ولا يدل على هذا الوجوب منعه صلى الله عليه وسلم للحائض ان تطوف بالبيت فإن المانع من ذلك إنما هو حيضها فلا يدل الا على ان الحائض ممنوعة من البيت بل فيه ما يفيد عدم وجوب كون الطواف على طهارة لأنه لم يأمرها الا بانتظار انقطاع حيضها ولم يأمرها بأن تتوضأ للطواف وهكذا لا يدل على ذلك حديث: "الطواف بالبيت صلاة" فإنه ليس المراد انه كالصلاة في جميع أحكامه التي من جملتها الطهارة فإنه لم يقع فيه شيء من أركانها ولا من أذكارها فكيف يستدل به على وجوب ما هو خارج عنها وهو الطهارة وأما الاستدلال بكون آخر الطواف ركعتي الطواف وهما لا يصحان الا من متطهر فهذا الاستدلال إنما يتم على تقدير وجوب الموالاة بين الركعتين وبين الطواف بحيث لا يفصل بينهما فاصل يتسع للطهارة ولم يرد ما يدل على هذا الا ان يقال إنه صلى الله عليه وسلم وإلي بينهما فدل ذلك على انه طاف متوضئ نعم قد ثبت من حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما ان أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة انه توضأ ثم طاف بالبيت فهذا هو الدليل على وجوب كون الطواف على طهارة وقد تقرر ان الأصل في كل أفعاله في الحج الوجوب.
وأما كونه يجزى طواف زائل العقل لذلك للعذر العارض له لا سيما من استمر عليه ذلك كمن غلبه المرض وخشي ان يفوته الطواف وليس هذا بمناقض لما تقدم من إيجاب الطهارة فللأعذار حكمها.
وأما قوله: "ولو محمولا أو لابسا أو راكبا غصبا". فلا شك ان لابس المغصوب أو راكب المغصوب قد اثم اثم فاعل الحرام وأما كون هذا يبطل به الطواف فيحتاج إلي دليل يدل عليه.
قوله: "وهو من الحجر الاسود ندبا".
أقول: قد عرفناك غير مرة ان افعاله صلى الله عليه وسلم في الحج محمولة على الوجوب لانها بيان لمجمل قوله تعالي: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، ولمجمل قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" وفي الطواف خاصة لمجمل قوله تعالي: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وقد صح انه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة اتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا وهكذا يجب التسبيع للطواف كما وردت بذلك الاحاديث الكثيرة الصحيحة وهي بيان لمجمل القرآن والسنة كما عرفت وهكذا التوالي بين الاشواط على الحد الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل هذه الأفعال فريضة على كل من يحج البيت.(1/322)
قوله: "ويلزم لتفريقه دم أو شوط منه" الخ.
أقول: ليس على هذا دليل يدل عليه وأما ما استدلوا به من حديث ابن عباس بلفظ من ترك نسكا فعليه دم فلم يصح رفعه قال ابن حجر في التلخيص لم اجده مرفوعا وقد اعل ابن حبان الرفع بأن في إسناده مجهولين أحمد بن علي المروزي وعلي بن أحمد المقدسي فالعجب من الزام عباد الله بأحكام ليست من الشرع في شيء ولا قام عليها دليل ولا شبهة دليل وقد قرن الله سبحانه في كتابه العزيز بين الشرك وبين التقول عليه بما لا يعلمه المتقول فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
قوله: "ثم ركعتان خلف مقام إبراهيم".
أقول: قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان لمجمل القرآن والسنة وفي حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حج النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلي مقام إبراهيم قرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] ، فصلى ركعتين فقرا فيهما فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد [مسلم "147/1218"، النسائي "2961"] .
فقراءته صلى الله عليه وسلم للاية يدل على انها واردة في صلاة هاتين الركعتين فيكون ذلك دليلا قرآنيا عليهما بخصوصهما والناسي لهما يقضيهما عند الذكر في أيام التشريق أو غيرها لاكما ذكره المصنف هذا إن ورد دليل يدل على القضاء والا فالنسيان عذر مسوغ للترك وعدم المؤاخذة به كما قدمنا تحقيق ذلك في غير موضع.
قوله: "وندب الرمل في الثلاثة الأول" الخ.
أقول: هذا مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فكان من جملة فرائض الحج على ما قدمنا تقريره وقد انضم إلي هذا الفعل الذي وقع بيانا للكتاب والسنة ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم امرهم ان يرملوا الاشواط الثلاثة لما بلغه ان المشركين قالوا: إنها قد وهنتهم حمى يثرب ولا يقال إنه يزول الوجوب بزوال سببه لأن فرائض الحج قد ثبتت وإن زالت اسبابها وحكى النووي في شرح مسلم عن ابن عباس أنه قال: الرمل ليس بسنة قال النووي هذا مذهبه وخالفه جميع العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم انتهى.
قوله: "وندب الدعاء في أثنائه".
أقول: لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وصححه من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالي"، وقد عرفت أن هذه مناسك واجبة ولم تشرع الا للدعاء فالدعاء واجب بهذا الدليل ثم قد ثبت انه صلى الله عليه وسلم دعا في طوافه فكان ذلك بيانا لمجمل القرآن والسنة فكان(1/323)
واجبا والمراد مطلق الدعاء والذكر فإن أمكن فعل المروى في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أتم وأكمل وقد أخرج أحمد "12/67"، وابو دأود "1892"، والنسائي "وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث عبد الله بن السائب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر الاسود: " {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقد رويت في أدعيته صلى الله عليه وسلم في الطواف أحاديث وفي بعضها ضعف.
قوله: "والتماس الأركان".
أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم الا استلام الركن اليماني والركن الاسود كما في الاحاديث الصحيحة ولم يثبت انه استلم غيرها قط ثم ثبت عنه في الركن الاسود انه قبله وثبت عنه انه وضع يده عليه ثم قبلها وثبت عنه انه استلمه بمحجن ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الركن اليماني الا مجرد الاستلام لا التقبيل الا في رواية رواها البخاري في تاريخه عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله ورواه أيضا أبو يعلى والدارقطني وفي إسناده عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف وزاد الدارقطني في هذا الحديث انه صلى الله عليه وسلم كان يضع خده عليه ولكن الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلمه فقط ورواية التقبيل ووضع الخد لم تثبت كما عرفت.
قوله: "ودخول زمزم بعد الفراغ".
أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر وغيره فهو من الأفعال المشتملة على بيان مجمل الكتاب والسنة كما عرفت ولا وجه لجعله وجعل الاستلام مندوبين فقط وأما الاطلاع على ماء زمزم فلم يثبت فيه دليل لا صحيح ولا حسن وأما الشرب منه فلو لم يكن فيه الا ما ثبت في صحيح مسلم: "أنه طعام طعم وشفاء سقم" لكان ذلك كافيا مع ان حديث: "ماء زمزم لما شرب له" هو عند أحمد وابن ماجه وقد صححه المنذري والدمياطي وحسنه ابن حجر وهو مروي من طريق جماعة من الصحابة.
وأما قوله والصعود إلي الصفا الخ فقد ثبت هذا من فعله صلى الله عليه وسلم فله حكم سائر أفعاله في الحج.
قوله: "واتقاء الكلام والوقت المكروه".
أقول: أما اتقاء الكلام فقد قدمنا حديث "إنما جعل الطواف والسعي ورمي الجمار لإقامة ذكر الله سبحانه" والكلام بغير ما فيه ذكر الله مكروه من هذه الحيثية.
وأما اتقاء الوقت المكروه فلم يرد ما يدل على كراهة الطواف في الأوقات المكروهة وأما حديث: "الطواف بالبيت صلاة" فقد قدمنا انه لا يدل على إثبات أركان الصلاة وأذكارها اللذين هما ماهية الصلاة فكيف يدل على ما هو خارج عنها مع انه قد أخرج أحمد "4/80"، وأهل(1/324)
السنن ل [أبو داود "1894"، الترمذي "868"، النسائي "5/223"، ابن ماجة "1254"] ، من حديث ابن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا احدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء"، وقد صححه الترمذي وابن حبان وهو يرد القول بكراهة الطواف في الأوقات المكروهة ويدل على انه لا يكره فعل ركعتي الطواف في الأوقات وقد كان بعض السلف يؤخرها إذا صادف فراغه من الطواف في وقت مكروه.
قوله: "الثالث السعي".
أقول: هذا نسك ثابت بفعله صلى الله عليه وسلم الذي وقع بيانا لمجمل القرآن والسنة مع ما ورد من حديث حبيبة بنت أبي تجراه قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي تدور به إزاره وهو يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليك السعي"، أخرجه أحمد والشافعي وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف ولكن قد روى من طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة والطبراني من حديث ابن عباس.
وأخرج أحمد "6/421، 422"، من حديث صفية بنت شيبة ان امرأة خبرتها انها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كتب الله عليكم السعي فاسعوا"، وفي إسناده موسى ابن عبيدة وهو ضعيف.
وقد أخرج النسائي "2972"، عنه صلى الله عليه وسلم انه استلم الركن ثم خرج فقال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدأوا مما بدأ الله به".
وأخرج مسلم "84/1780"، من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا الحديث.
قوله: "وهو من الصفا إلي المروة شوط ثم منها اليه كذلك".
أقول: هذا هو الحق ومن خالف في ذلك فقد غلط غلطا بينا وعلى هذا سلف هذه الامة وخلفها وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه بدأ بالصفا كما قدمنا قريبا >و
ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "3/502"، مسلم "231، 1261"، وغيرهما "الترمذي "2960"، ابن ماجة 2974"] ، أنه طاف بين الصفا والمروة سبعا وهذا فيه غاية البيان فلو كان السعي من الصفا إلي المروة ثم منها اليه شوطا لكان قد طاف بين الصفا والمروة اربع عشرة مرة لا سبعا فقط.
وأما كونه متواليا فهذا كان سعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وأما قوله: "وحكمه في النقص والتفريق ما مر" فقد قدمنا انه لم يدل على ذلك دليل لافي الطواف ولا في السعي وأما كونه على طهارة فلم يدل على ذلك دليل وأما اشتراط الترتيب بين الطواف والسعي فكهذا كان فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه من تقديم الطواف على السعي. وأما كون عدم الترتيب يوجب دما فلا دليل على ذلك وقد قدمنا لك الكلام على حديث: "من(1/325)
ترك نسكا فعليه دم" وأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حجة في قول غيره ولكنه ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمرو وانه قام إلي النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال كنت احسب ان كذا قبل كذا ثم قام اليه آخر فقال كنت احسب ان كذا قبل كذا حلقت قبل ان انحر نحرت قبل ان ارمي وأشباه ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افعل ولا حرج لهن كلهن"، فما سئل يومئذ عن شيء الا قال: "افعل ولا حرج"، وفي الباب أحاديث وليس في شيء منها ذكر تقديم السعي على الطواف الا ان يكون مثل ذلك داخلا في مثل هذا العموم وأما ما وقع في حديث اسامه عند أبي دأود بلفظ: سعيت قبل أن أطوف, فقد قال الحفاظ انه ليس بمحفوظ.
قوله: "وللرجل صعود الصفا والمروة والدعاء فيهما".
أقول: قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه اتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلي البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء ان يدعو وهكذا ثبت في الصحيح من حديث جابر وفيه فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ثم قال في آخره ثم نزل إلي المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا وقد قدمنا حديث: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا ورمى الجمار لإقامة ذكر الله"، ولم يرد ما يدل على تخصيص الرجال بصعود الصفا والمروة.
وأما مشروعية السعي بين الميلين فقد قدمنا ما يدل على ذلك قريبا.
قوله: "الرابع الوقوف بعرفة".
أقول: الدليل على ان هذا منسك من مناسك الحج ما قدمناه من فعله صلى الله عليه وسلم الذي وقع بيانا لمجمل الكتاب والسنة مع ما انضم إلي ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، كما في حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي.
وأخرج أحمد "4/15"، وأهل السنن [أبو داود "1950"، الترمذي "891"، النسائي "264"، ابن ماجة "316"، وصححه الترمذي "3/239"، من حديث عروة بن مضرس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه"، وقضى تفثه ورجال إسناده رجال الصحيح ومحمد بن اسحاق قد صرح فيه بالتحديث وقد صححه جماعة من الحفاظ.
وأما قوله وكلها موقف الا بطن عرنة فلما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر انه صلى الله عليه وسلم قال: "وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف"، يعني المزدلفة.(1/326)
وأما استثناء بطن عرنة فيدل عليه حديث جابر مرفوعا عندابن ماجه وفيه التصريح باستثناء بطن عرنة قال ابن حجر وفيه القاسم بن عبد الله بن عمر العمري كذبه أحمد ثم ذكر له شواهد لايخلو كل واحد منها عن مقال شديد.
قوله: "ووقته من الزوال في عرفة إلي فجر النحر".
أقول: قد نقل كثير من الائمة الاجماع على هذا الوقت وما روى عن أحمد بن حنبل من ان النهار من يوم عرفة كله وقت للوقوف فهو مسبوق بالاجماع.
وأما استدلالة بما تقدم من حديث عروة بن مضرس من قوله وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد قيد مطلق النهار الاجماع بأنه من الزوال.
قوله: "فإن التبس تحرى".
أقول: هذا مبني على حصول اللبس من كل وجه أما إذا قداتفق السواد الاعظم وجمهور الحاج على يوم الوقوف فلا لبس بل الرجوع اليهم يكفي ويرفع اللبس.
وأما قوله ويكفي المرور على أي صفة كان فغير مسلم بل لا بد ان يفعل ما يصدق عليه مسمى الوقوف فإن هذا هو النسك الاعظم فلا بد من حصول مدلوله وإذا قد فعل هذا فلا وجه لقوله ويدخل في الليل من وقف في النهار ولا دليل يدل على ذلك وهكذا لا دليل على قوله والا فدم لما قدمناه لك.
قوله: "وندب القرب من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم".
أقول: هذه الفضيلة لا تنافي ما قاله صلى الله عليه وسلم من ان عرفة كلها موقف فان تتبع آثاره والوقوف في مواقفه في حج وغيره هو من اعظم مواطن التبرك التي تكون ذريعة إلي الخير وصلة إلي الرشد وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون في مثل هذا ويتنافسون فيه حتى كان عبد الله بن عمرو إذا وصل إلي السباطة التي بال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فعل كفعله وبال قائما مع ما في ذلك من التعرض لمخالفة النهى ان يبول الرجل قائما فكيف مالا يخالفه شيء.
وأما قوله: "وجمع العصرين فيها" فلم يثبت في هذا ما يصلح للاستدلال به والذي في حديث جابر الطويل المتضمن لبيان حجه صلى الله عليه وسلم انه نزل بنمرة حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت فركب حتى اتى بطن الوادي فخطب الناس ثم اذن بلال ثم اقام الصلاة فصلى الظهر ثم اقام فصلى العصر ولم يصل بينهما وهكذا لم يثبت انه صلى الله عليه وسلم جمع بين عصرى التروية وأما صلاته صلى الله عليه وسلم في منى الصلوات الخمس فقد وقع ذلك كما في حديث جابر وهكذا الإفاضة من بين العلمين.
قوله: "الخامس المبيت بمزدلفة".
أقول: قد صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من فعله الواقع بيانا لمجمل الكتاب والسنة كما قدمنا غير مرة وانضم إلي ذلك ما تقدم في حديث عروة بن مضرس.
وأما قوله: "وجمع العشاءين فيها" فقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث جابر الطويل انه صلى الله عليه وسلم(1/327)
اتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بإذان واحد واقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر الحديث وفي الباب أحاديث في الصحيحين [البخاري "3/523"، مسلم "287"، 288، 1286"] ، وغيرهما [أبو داود "1926"، الترمذي "887"، النسائي "3033"] .
وهكذا الدفع منها قبل الشروق وقد ثبت في حديث جابر المذكور انه صلى الله عليه وسلم بعد ان صلى الفجر ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام وفي الباب احاديث.
والحاصل ان الادلة قد دلت على وجوب المبيت بمزدلفة وعلى جمع العشاءين بها وعلى صلاة الفجر فيها وعلى الدفع منها قبل شروق الشمس فهذه واجبات من واجبات الحج وفرائض من فرائضه لا سيما صلاة الفجر بمزدلفة لقوله في حديث عروة بن مضرس المتقدم "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" فإن هذه العبارة تفيد انه لا يتم حج من لم يصل الفجر بالمزدلفة.
قوله: "السادس المرور بالمشعر".
أقول: هذا قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم انه ركب القصواء حتى اتى المشعر الحرام ولا ينافي كونه منسكا من مناسك الحج قول من قال إنه من المزدلفة أو المزدلفة فلا مانع من ان يجتمع في موضع واحد منسكان فمبيته صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة نسك واتيان المشعر الحرام بعد صلاة الفجر نسك وقد أيد كونه نسكا الامر القرآني بالدعاء عنده حيث قال تعالي: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، فإن قلت كان يلزم على هذا ان يكون في المزدلفة نسكات متعددة المبيت بها وجمع العشاءين فيه وصلاة الفجر بها والمرور بالمشعر الحرام والدعاء عنده قلت هذا ملتزم وما المانع من ذلك وهذا الذكر المشروع قد بينه صلى الله عليه وسلم فإنه لما اتى المشعر الحرام استقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى اسفر جدا هكذا في الحديث الثابت في الصحيح وبه يظهر انه لا يكفى مجرد المرور بالمشعر بل لا بد من الوقوف فيه كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "السابع رمي جمرة العقبة".
أقول: رمى الجمار قد صح من قبله صلى الله عليه وسلم على الصفة الثابتة في الاحاديث المشتملة على بيان حجه صلى الله عليه وسلم فكان رميها رميها منسكا من مناسك الحج لما قدمنا من ان فعله صلى الله عليه وسلم لبيان مجمل الكتاب والسنة ومن جملة ذلك ما في حديث جابر الثابت في الصحيح قال رمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس وثبت أيضا من فعله صلى الله عليه وسلم أنه رمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات والمراد بالجمرة هنا وبالجمرة الكبرى جمرة العقبة.
وأما اشتراط كونها طاهرة مباحة فللأدلة الواردة في المنع من استعمال النجاسات وملابستها وما ورد فهي تحريم مال الغير الا باذنه وأما كونها غير مستعملة فلم يدل عليه دليل والاصل الجواز والدليل على المانع.(1/328)
قوله: "ووقته من فجر النحر إلي فجر ثانية".
أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم انه رمى ضحى كما تقدم وأخرج أحمد "1/234، 311"] ، وأهل السنن [أبو داود "1940"، ابن ماجة "3025"، النسائي "5/270، 272"، الترمذي "892"] ، من حديث ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم نهى أغيلمة بني عبد المطلب ان يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس وصححه الترمذي "3/239، 240"، وابن حبان وحسنه ابن حجر في الفتح.
وهكذا أخرج الترمذي "893"، من حديثه انه صلى الله عليه وسلم نهى ضعفه أهله ان يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فدل ما ذكرناه على ان أول وقت الرمي من طلوع الشمس لا من فجر النحر ولا يعارض هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ام سلمة انها رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح لانها استدلت على ذلك بقولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن للظعن" فكان ذلك خاصا بهن.
وهكذا لم يدل دليل تقوم به الحجة على امتداد الوقت إلي فجر ثاني النحر فالذي ينبغي التعويل عليه في هذا الوقت هو فعله صلى الله عليه وسلم من رميه ضحى مع انضمام النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس اليه فيكون وقته من طلوع الشمس في يوم النحر إلي آخر الوقت الذي يطلق عليه انه ضحى.
وأما ما أخرجه البخاري "3/559"، وغيره [أبو داود "1983"،النسائي "272"، ابن ماجة "3050"، من حديث ابن عباس انه ساله رجل فقال: رميت بعدما امسيت فقال: "افعل ولا حرج"، ففيه الترخيص لمن جهل الوقت لا لمن علمه.
قوله: "وعند أوله يقطع التلبية".
أقول: لحديث ابن عباس في الصحيحين [البخاري "3/404"، مسسلم "167، 1281"، وغيرهما أبو داود "1815"، الترمذي " 918"، ابن ماجة "3040"، النسائي "3081"] . ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي بمنى حتى رمى جمرة العقبة ولكن هذا يحتمل انه قطع التلبية عند الشروع في الرمي ويحتمل انه تركها عند الفراغ منه ويؤيد هذا ما روى من حديث الفضل بن عباس عند النسائي "4086/والبيهقي انه صلى الله عليه وسلم قطع التلبية مع آخر حصاة.
وأما قوله: "وبعده يحل غير الوطء" فلحديث أنس عند مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم اتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق: "خذ" وأشار إلي جانبه الايمن ثم الايسر.
ولما أخرجه أحمد "1/234"، أبو داود "1978"، النسائي "3084"، ابن ماجة "3041"، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء الا النساء"، فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ راسه بالمسك أفطيب هو؟ قال في البدر المنير: وإسناده حسن.
وفي الصحيحين من حديث عائشة قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ان يحرم ويوم النحر قبل ان يطوف بالبيت.(1/329)
ولفظ النسائي "2687"، "طيبت رسول الله صلي الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله بعد ما رمي جمرة العقبة ثبل أن يطوف بالبيت".
وأما قوله: "بين الذبح والتقصير" فيدل عليه تقديم النبي صلى الله عليه وسلم للرمي وفعل الذبح بعده ثم الحلق بعدالذبح كما هو ثابت في الصحيح والاحاديث الواردة بالتصريح بنفي الحرج لمن قال حلقت قبل ان ارمي ولمن قال حلقت قبل ان انحر ولمن قال افضت قبل ان احلق انه يجوز تقديم البعض على البعض حتى قال ابن عباس في حديثه الثابت في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج" وقال ابن عمرو في حديثه الثابت في الصحيحين وغيرهما فما سئل يومئذ عن شيء الا قال: "افعل ولا حرج".
قوله: "ثم من بعد الزوال في الثاني" الخ.
أقول: يدل على هذا ما أخرجه أحمد وابو دأود وابن حبان والحاكم من حديث عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلي مني فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها.
وأخرج أحمد "12/218"، والترمذي "898"، وابن ماجه "3054"، من حديث ابن عباس قال رمى رسول الله صلى الله عليه وآله الجمار حين زالت الشمس وأخرج نحوه مسلم في صحيحه من حديث جابر.
وأما الابتداء بجمرة الخيف والختم بجمرة العقبة فلما ثبت في البخاري وغيره من حديث ابن عمر انه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمى الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمى الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
قوله: "فإن طلع في الرابعة" الخ.
أقول: يدل على هذا حديث عائشة المتقدم قريبا انه صلى الله عليه وسلم مكث بمنى ليالي أيام التشريق الحديث وقد تقدم ان رميه صلى الله عليه وسلم إنما كان وقت الزوال فلا يدخل وقت الرمي الا هذا الوقت لا عند طلوع الفجر كما ذكر المصنف.
قوله: "وما فات قضى إلي آخر أيام التشريق".
أقول: لم يرد ما يدل على هذه الكلية وأما حديث عاصم بن عدي عند أحمد "5/450"، وأهل السنن [أبو داود "1975"، ابن ماجة "3037"، الترمذي " 955"، النسائي "3069"، ومالك(1/330)
والشافعي وابن حبان والحاكم وصححه الترمذي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة من بعدالغد ليومين ثم يرمون يوم النفر فهو على فرض ان بعض هذا الرمي وقع قضاء مختص بأهل الاعذار نعم حديث: "فدين الله أحق أن يقضى" يدل بعمومه على وجوب القضاء ولكل عبادة ورد بها الشرع الا ما خصه دليل.
وأما قوله: "ويلزم دم" فقد قدمنا انه لا دليل على ذلك الا قول ابن عباس ان صح وقد عرفت ان قول الصحأبي ليس بحجة على أحد من العباد.
وأما قوله: "وتصح النيابة للعذر" فهو وان لم يرد ما يدل على ذلك ولكن الاعذار مسوغة للاستنابة الا ان يقال ان العذر مسقط للوجوب من الاصل لأنه لا وجوب على معذور الا ان يكون مثل رعاء الإبل.
وأما قوله: "وحكمه ما مر في النقص وتفريق الجمار" فقد قدمنا الكلام على ذلك هنالك.
وأما قوله: "وندب على طهارة" فليس على ذلك دليل.
وأما قوله: "وباليمنى" فيدل عليه أحاديث التيامن فإنها تشتمل على مثل هذا.
وأما قوله: "وراجلا" فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الرمي راكبا وراجلا فكان الكل سنة ولا وجه لتخصيص أحد الامرين بالندب.
وأما التكبير مع كل حصاة فقد قدمنا انه كان صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل حصاة.
قوله: "الثامن المبيت بمنى" الخ.
أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم الواقع بيانا لمجمل القرآن والسنة فافاد ذلك فرضيته ويؤيد ما تقدم من ترخيصه للرعاء في البيتوتة فإن الترخيص لهم يدل على انه عزيمة على غيرهم وهكذا ترخيصه صلى الله عليه وسلم للعباس فإنه يدل على انه عزيمة على غيره وبذلك تتأكد الفرضية.
وأما قوله: "وليلة الرابع إن دخل وهو غير عازم على السفر" فليس في هذا دليل تقوم به الحجة.
وأما قوله: "وفي نقصه وتفريقه دم" فقد قدمنا ان إيجاب هذا الدم في هذه المناسك من التقول على الشرع بما لم يقل.
قوله: "التاسع طواف الزيارة".
أقول: هو المسمى بالافاضة وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة فكان نسكا ويؤكد ذلك وقوع الاجماع عليه قال النووي في شرح مسلم وقد اجمع العلماء ان هذا الطواف وهو طواف الافاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج الا به واتفقوا على انه يستحب فعله يوم النحر بعدالرمي والنحر والحلق فإن آخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالاجماع فإن أخره إلي بعد أيام التشريق وأتى به بعدها أجزأه ولا شيء عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال أبو حنيفة ومالك إذا تطاول لزم معه دم انتهى. وقد حكى مثل هذا الاجماع الذي حكاه النووي في الطوافين المهدي في البحر قيل(1/331)
وطواف الافاضة هذا هو المأمور به في قوله تعالي: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28] .
وأما كونه بلا رمل فلعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الطواف.
وأما قوله: "ووقت أدائه من فجر النحر إلي آخر أيام التشريق" فلما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر انه صلى الله عليه وآله وسلم أفاض يوم النحر وهكذا في صحيح مسلم من حديث جابر.
وأما امتداده إلي آخر ايام التشريق فهو مجمع عليه كما تقدم.
وأما قوله فمن أخره فدم فلا دليل على ذلك كما قدمنا.
وأما قوله: "ويقع عنه طواف القدوم" إن أخر والوداع بغير نية فلا دليل على هذا الوقوع ولا يدل عليه ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك"، لأن غاية ما في هذا انه لا يجب الا طواف واحد وليس فيه وقوع طواف عن طواف وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه طاف ثلاثة طوافات طواف القدوم وطواف الافاضة وطواف الوداع فما ورد مما يخالف هذا عن صحأبي أو غيره لم تقم به حجة.
وأما قوله: "ومن أخر طواف القدوم فدم"، فهذا صحيح لأن طواف القدوم من جملة مناسك الحج وقد قدمه صلى الله عليه وسلم على طواف الافاضة فإذا أخره عن وقت قدومه قدمه قبل طواف الافاضة وفاء بما شرعه صلى الله عليه وسلم لأمته.
قوله: "العاشر طواف الوداع".
أقول: هذا الطواف قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم المبين لمجمل القرآن والسنة ويزيده تأكيدا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه أمر الناس ان يكون آخر عهدهم بالبيت.
وأما كونه بلا رمل فلكون ذلك لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
وأما كونه على غير الحائض والنفساء فلثبوت الترخيص منه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح [البخاري "1/407"، مسلم "119/1211"] .
وأما كونه على غير المكي فلكونه غير مودع للبيت.
وأما كون حكمه ما مر في النقص والتفريق فقد قدمنا الكلام على ذلك.
وأما كونه يعيده من اقام بعده ايأما فلأمره صلى الله عليه وسلم للناس ان يكون آخر عهدهم بالبيت.
[فصل
ويجب كل طواف على طهارة وإلا أعاد من لم يلحق بأهله فإن لحق فشاة الا الزيارة فبدنة عن الكبرى وشاة عن الصغرى قيل ثم عدلهما مرتبا ويعيد إن عاد فتسقط البدنة إن أخرها ويلزم شاة والتعري كالأصغر وفي طهارة اللباس خلاف] .(1/332)
قوله: "فصل ويجب كل طواف على طهارة".
أقول: قد قدمنا في طواف القدوم انه صلى الله عليه وسلم ثبت عنه انه توضا ثم طاف فالحاق سائر الطوافات به إلحاق صحيح لعدم الفارق ولكن المصنف رحمه الله خبط في هذا الفصل فإن قوله وإلا أعاده من لم يلحق بأهله لا يناسب ما ذكره من وجوب الطهارة لأن الاعادة فرع البطلان والبطلان لا يكون الا لخلل شرط أو ركن والطهارة واجبة في الطواف كما قال وليست بشرط ولا ركن ثم قوله فإن لحق بأهله فشاة لا دليل عليه كما قدمنا ثم إيجابه على من فاته طواف الزيارة بدنة عن الكبرى وشاة عن الصغرى لا دليل عليه ولا يوافق الرأي الذي بني عليه لأن الطهارة إذا كانت شرطا بطل طواف الزيارة بعدمها ما تقرر ان الشرط يؤثر عدمه في العدم وإذا بطل طواف الزيارة فهو عنده ركن من أركان الحج الثلاثة وذلك يقتضي أن يبطل الحج ببطلانه وقد جرى على هذا في الفصل الذي بعدهذا فما ذكره هنا من أن يجبره الدم لا يناسب مجرد الرأي فضلا عن الرواية وإذا عرفت عدم لزوم الدم عرفت عدم صحة قوله ثم عدلهما.
وأما قوله ويعيده إن عاد فهو مخالف لما سيأتي له من قوله فيجب العود له ولأبعاضه وهكذا قوله فتسقط البدنة الخ فإنه مبني على لزومها ولا لزوم كما عرفت وهكذا على التعري بأنه كالحدث الاصغر لا دليل عليه وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا يطوفن بالبيت عريان"، [البخاري "3/483"، مسلم "135/1347"، وظاهر هذا ان من طاف عريانا فلا طواف له.
وأما اشتراط طهارة اللباس فلا دليل عليه ولا يفيد حديث "الطواف في البيت صلاة" لما قدمنا.
[فصل
ولا يفوت الحج الا بفوات الاحرام أو الوقوف ويجبر ما عداهما دم الا الزيارة فيجب العود له ولأبعاضه والايصاء بذلك] .
قوله: "فصل ولا يفوت الحج" الخ.
أقول: أما فوات الحج بفوات الاحرام فلا دليل يدل على ذلك الا إذا ثبت ما يدل على انه شرط فيما هو ركن من أركان الحج كالوقوف وطواف الزيارة.
وأما فوات الحج بفوات الوقوف فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك"، [أبو داود "1949"، الترمذي "889"، النسائي "5/156"، ابن ماجة 3015"، أحمد "4/335"] ، وصح عنه انه قال: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة. ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه"، وفي ذلك دليل يدل على ان الحج يفوت بفوات الوقوف بعرفة.(1/333)
وأما طواف الزيارة فقد قدمنا نقل الاجماع على انه ركن من أركان الحج يفوت بفواته ولا يصح الا به.
وأما كونه يجبر ما عدا الاحرام والوقوف فقد قدمنا انه لا دليل على وجوب هذه الدماء.
وأما وجوب العود لطواف الزيارة فهو مناسب للإجماع على ركنيته وإذا لم يتمكن من ذلك لم يتم حجه.
وأما وجوب الايصاء به على انفراده فغير مسلم بل إذا مات قبل تأديته فكأنه لم يحج فمن أوجب الوصية بالحج على من لم يحج أوجبها عليه وسيأتي الكلام على هذا.(1/334)
باب العمرة
...
[باب والعمرة
إحرام وطواف وسعي وحلق أو تقصير ولو اصلع وهي سنة لا تكره الا في اشهر الحج والتشريق لغير المتمتع والقارن وميقاتها الحل للمكي وإلا فكالحج وتفسد بالوطء قبل السعي فيلزم ما سيأتي إن شاء الله] .
قوله: "باب والعمرة إحرام وطواف وسعي" الخ؟.
أقول: أفرد المصنف هذا الباب للعمرة المفردة فلا يرد عليه ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لعائشة: " طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك" وقد تقدم ولا يرد عليه ما سيأتي من ان القارن يكفيه طواف وسعى واحد لهما.
وأما كون ماهية العمرة هي هذه الاربعة فلثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في عمرته المفردة ويؤيده حديث يعلى بن امية المتقدم فإنه قال: "واصنع في عمرتك ما انت صانع في حجك" وهو في الصحيحين [البخاري "9/9"، مسلم "8/1180"، وغيرهما [أبو داو "1819"، الترمذي "836"، النسائي "5/142، 143"] .
وأما قوله: "وهي سنة" فلعدم ورود دليل صحيح يدل على وجوب العمرة المفردة وما ورد مما فيه دلاله على الوجوب فلم يثبت من وجه تقوم به الحجة.
وأما قوله تعالي: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، فليس هذا في المفردة بل العمر التي مع الحج وقد لزمت بالدخول فيها والنزاع في وجوب العمرة المفردة من الاصل ويؤيد عدم الوجوب ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة واجبة هي قال: "لا"، وفي إسناده الحجاج بن ارطاة وفيه ضعف ويؤيد عدم الوجوب قوله تعالي: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، ولم يذكر العمرة(1/334)
وفي الاحاديث الصحيحية التي فيها بيان أركان الإسلام الاقتصار على الحج ولم يذكر العمرة.
قوله: "ولا تكره الا في اشهر الحج".
أقول: كان أهل الجأهلية يكرهون العمرة في أشهر الحج فلما جاء الإسلام أبطل ذلك واعتمر في أشهر الحج كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر اربع عمر في ذي القعدة الا التي اعتمر مع حجته وفي حديث عائشة عند أبي دأود ان النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال.
فالحاصل انها مشروعة في جميع السنة ولا تكره في وقت من الأوقات وما كان يحسن من المصنف رحمه الله ان يعتمد على هذه السنة الجأهلية ويذكرها في كتابه هذا.
قوله: "وميقاتها الحل للمكي".
أقول: استدل لذلك بما في الصحيحين [البخاري "3/606"، مسلم "1211"، وغيرهما [أبو دتاود "1778"، ابن ماجة "2963"، النسائي "2764"، من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلي التنعيم ويعمرها منه وقد اجاب من قال إنه يصح لمن كان في مكة ان يحرم للعمرة من مكة كما يحرمون للحج منها بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بذلك تطييبا لقلب عائشة بأن تدخل إلي مكة من الحل كما دخل ازواجه كذك وهذا الجواب خلاف الظاهر.
والحاصل انه صلى الله عليه وسلم لم يقع منه تعيين ميقات للعمرة وقد ثبت عنه تعيين ميقات الحج لأهل كل جهة فإن كانت العمرة كالحج في هذه المواقيت فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها"، وهو في الصحيحين [البخاري "3/384، 3/387، 3/388، 4/59"، مسلم "8/1180"] وغيرهما [أبو داود "1737"] ، بل وقع التصريح في حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما بعد ذكر المواقيت لأهل كل محل انه قال صلى الله عليه وسلم: "فهن لأهلن ولمن اتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة"، فصرح في هذا الحديث بالعمرة.
وأما قوله: "ويفسد بالوطء قبل السعي" فقد عرفت ما مر في كونه يفسدالحج وفي ذلك ما يغني عن إعادة البحث هنا وسيأتي قول المصنف فصل ولا يفسد الاحرام الا الوطء.(1/335)
باب المتمتع
...
[باب والمتمتع
من يريد الانتفاع بين الحج والعمرة بما لا يحل للمحرم الانتفاع به وشروطه ان ينويه وان لا يكون ميقاته داره وان يحرم له من الميقات أو قبله وفي اشهر الحج وان يجمع حجة وعمرة سفر وعام واحد] .(1/335)
قوله: "باب والمتمتع هو من يريد الانتفاع بين الحج والعمرة بما لا يحل للمحرم الانتفاع به".
أقول: قد ثبت ان أنواع الحج ثلاثة تمتع وقران وأفراد فهذا الرسم لبيان ماهية حج التمتع وتمييزه من النوعين الاخرين فلا يرد عليه من هذه الحيثية اعتراض والمراد انه توصل بالعمرة إلي ان يحل له مالا يحل لمن يحج كحجه.
قوله: "وشرطه أن ينوى".
أقول: التمتع بالعمرة إلي الحج عمل وانما الاعمال بالنيات ولا عمل الا بنية كما صح ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصاب المصنف بجمل النية شرطا ها هنا فهو الحق في جميع الاعمال وقد قدمنا تقرير ذلك وأما قوله وان لا يكون ميقاته داره فقد استدل عليه بقوله تعالي: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهلهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، على ان الاشارة إلي التمتع وهو الظاهر لا إلي الهدى ويؤيد هذا المجي بصيغة الاشارة إلي البعيد ويؤيده أيضا قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] ، فإنه خطاب للمحصرين لا لأهل مكة فإنهم لا يحصرون عن البيت.
وأما قوله: "وأن يحرم له من الميقات أو قبله" فمعناه انه يشترط لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ان يحرم من الميقات وقد تقدم في باب العمرة ما يوضح المراد ويبين الصواب.
وأما قوله: "وفي اشهر الحج" فليس عليه دليل تقوم به الحجة.
وأما قوله: "وأن يجمع حجه وعمرته سفر وعام واحد" فلكونه لا يظهر معنى التمتع الا بجمع الحج والعمرة في عام واحد ثم الواقع ممن حج تمتعا من الصحابة في عام حجة صلى الله عليه وسلم كان هكذا ولكن قد عرفناك ان الدليل الذي يصلح للاستدلال به على الشرطية لا بد ان يكون مقتضيا لتاثير عدم الشرط في عدم المشروط كما سبق غير مرة.
[فصل
ويفعل ما مر الا انه يقدم العمرة فيقطع التلبية ندبا عند رؤية البيت ويتحلل عقيب السعي ثم يحرم للحج من أي مكة وليس شرطا ثم يستكمل المناسك مؤخرا لطواف القدوم ويلزمه الهدى بدنة عن عشرة وبقر ةعن سبعة مقترضين وان اختلف وشاة عن واحد فيضمنه إلي محله ولا ينتفع قبل النحر به غالبا ولا بفوائده ويتصدق بما خشى فساده إن لم يتبع وما فات ابد له فإن فرط فالمثل والا فالواجب فإن عاد خير ويتصدق بفضله الأفضل(1/336)
ان نحر الادون فإن لم يجد فصيام ثلاثة ايام في الحج أخرها يوم عرفة فإن فاتت فأيام التشريق ولن خشي تعذرها والهدى تقديمها منذ احرم بالعمرة ثم سبعة بعد التشريق في غير مكة ويتعين الهدى بفوات الثلاث وبإمكانه فيها لا بعدها الا في أيام النحر] .
قوله: "فصل ويفعل ما مر الا انه يقدم العمرة"
أقول: هو لا يكون متمتعا الا بتقديم العمرة كما سلف وأما الخلاف في قطع التلبية متى يكون فقد قدمنا ما ورد في قطعها وفي أي وقت يقطع.
وأما قوله: "ويتحلل عقيب السعي" فهذا شأن المتمتع ولم يتمتع الا لهذا.
وأما كونه يحرم للحج من أي مكة فصحيح وإذا أراد ان يحرم من غيرها فله ذلك.
وأما قوله: "ثم يستكمل المناسك مؤخرا لطواف القدوم" فليس على من قدم مكة متمتعا الا طواف عمرته ولا يجب عليه طواف آخر للقدوم.
قوله: "ويلزمه الهدى".
أقول: لما في القرآن الكريم من قوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وقد وقع الاجماع على وجوب الهدى على المتمتع.
وأما كون البدنة عن عشرة والبقرة عنس سبعة فترده الاحاديث الصحيحية كما في حديث جابر في الصحيحين وغيرهما قال امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة وفي لفظ لمسلم انه قيل لجابر ايتشرك في البقر ما يشترك في الجزور فقال ماهي الا من البدن فدل على استواء البقرة والبدنة وان كل واحد منهما عن سبعة واليه ذهب الجمهور ولا يعارض هذا ما روى عن ابن عباس قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الاضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه وحسنه الترمذي فإن هذا في الأضحية وهي باب آخر غير باب الهدى.
وهكذا لا يعارض هذا ما في الصحيحين من حديث رافع بن خديج انه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير فإن هذا في القسمة وهي باب آخر.
وأما قوله فيضمنه إلي محله فلا دليل عليه بل إذا خاف هلاكه فعل ما أمر به صلى الله عليه وسلم من سأله عن الهدى إذا خاف صاحبه عطبه فإنه قال له: "انحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم خل بينها وبين الناس يأكلونها" أخرجه أحمد "4/334"، وابو دأود "1762"، وابن ماجه "3106"، والترمذي "910"] ، وصححه وهو في صحيح مسلم بلفظ: "انحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها انت ولا أحد من أهل رفقتك" ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بتعويضها.
وأما قوله: "ولا ينتفع قبل النحر به" فمخالف بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين(1/337)
[البخاري "3/536"، مسلم "1323"] ، من حديث أنس انه أمر صاحب البدنة ان يركبها وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر انه سئل عن ركوب الهدى فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا الجئت إليها حتى تجد ظهرا".
وأخرج أحمد "13/42، 43"] ، عن علي انه سئل يركب الرجل هديه فقال لا بأس به قدكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالرجال يمشون فيأمرهم بركوب هديه وفي إسناده محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ضعفه جماعة وثقه ابن حبان.
وكما انه لا دليل على المنع من الانتفاع بالهدى فلا دليل أيضا على المنع من الانتفاع بفوائده.
وأما قوله: "ويتصدق بما خشى فساده" فهذا صواب لكن قوله ان لم يبتع لا وجه له وهكذا لا وجه لقول وما فات ابدله لعدم الدليل على ذلك ولما قدمنا من انه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك من عطب هديه وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وأما قوله: "فإن فرط فالمثل" فإذا كان التفريط بغير وجه مسوغ فهو لم يفعل ما امره الله به بقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، من الهدى فعليه ان يفعل ما يصدق عليه مسمى الهدى وان كان دون الذي فرط فيه فلا وجه لقوله فالمثل بل لا يجب عليه الا الواجب الاصلي.
وأما قوله: "فإن عاد خير" فصواب لأنه لم يجب عليه الا الهدى وهو يحصل بالوفاء بأحدهما ولا وجه لقوله ويتصدق بفضلة الافضل إن نحر الادون لما عرفناك.
قوله: "فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام".
أقول: لنص الكتاب العزيز على ذلك وظاهر قوله تعالي: {فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] . انها تصام في أيام الحج أو مع أعمال الحج.
وأما قوله فإن فاتت فأيام التشريق فمبني على ان القرآن قد خصص ما ورد في النهي عن صومها وفيه نظر لأن أحد الامرين ليس بأولى بالتخصيص من الاخر فكما قيل إن القرآن هنا قد خصص السنة يمكن ان يقال هنا إن السنة هنا قد خصصت القرآن ولا ينتهض لنسخ النهي عن صومها ما ورد عن بعض الصحابة نعم إن صح ما رواه الطحاوي والدارقطني والحاكم عن عبد الله بن حذافة مرفوعا: "إن هذه أيام أكل وشرب وذكر لله فلا صوم فيهن الا صوما في هدى"، كان هو التخصيص لما ورد في النهي عن صومها.
وأما قوله: "ويجوز لمن خشي تعذرها والهدى تقديمها منذ احرم بالعمرة" فهذا محتاج إلي دليل يدل عليه.
وأما قوله: "ثم سبعة بعد التشريق في غير مكة" فكان الأولى ان يقول وسبعة إذا رجع إلي أهله فإنه اتم وأكمل.
وأما قوله: "ويتعين الهدى بفوات الثلاث" فلا دليل على هذا التعيين بل الظاهر أنه إذا حصل التعذر لم يلزمه شيء لا الصوم ولا غيره فإن قيل قد وجب القضاء بقوله صلى الله عليه وسلم:(1/338)
"فدين الله أحق أن يقضى"، فيجاب عنه بان يقضى صوم الثلاث لأنها هي التي صارت واجبة عليه عند تعذر الهدى ولا وجه لقوله وبإمكانه فيها لأنه قد صار معه معذورا عن الهدى ووجب عليه الصيام بالدخول فيه ولا فرق بين أيام النحر وغيرها.(1/339)
باب القارن
...
[باب والقارن
من يجمع بنية إحرامه حجة وعمرة معا وشرطه ان لا يكون ميقاته داره وسوق بدنة وندب فيه وفي كل هدى التقليد والايقاف والتجليل ويتبعها واشعار البدنة فقط] .
قوله: "باب والقارن من يجمع بنية إحرامه حجة وعمرة معا".
أقول: هذا الرسم بين به ماهية حجالقرىن وإنما سمى قرانا لأنه قرن فيه بين الحج والعمرة ولكن ليس من شرطه ان ينويهما جميعا بل يجوز ان يحرم بالحج مفردا ثم يدخل العمرة على الحج كما وقع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون قارنا وقد وقع الاتفاق على انه صلى الله عليه وسلم حج قرانا مع ما جاءت به الاحاديث الصحيحية من انه صلى الله عليه وسلم لبى بالحج أولا ثم بالعمرة بعد ذلك.
وأما قوله وشرطه ان لا يكون ميقاته داره فلا دليل على ذلك ولا يصح قياس القرآن على التمتع لعدم وجود الجامع الصحيح الذي لا يتم القياس بدونه.
قوله: "وسوق بدنة".
أقول: قد ساق صلى الله عليه وسلم هديا في حجه الذي بين فيه للناس ما نزل اليهم وقد قدمنا انه بيان لمجمل القرآن والسنة المقتضيين للوجوب فكان واجبا وما قيل من انه يلزم القائلين بوجوب سوق الهدى بفعله صلى الله عليه وسلم أن يوجبوا التقليد والاشعار فهو ملتزم وان ابوه ولا يلزمهم ان يكون الهدى قدر هديه صلى الله عليه وسلم لأنه قد وجد مسمى الهدى والسوق في الهدى الواحد.
ويؤيد هذا ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقلد ولم يشعر الا بدنة واحدة فدل ذلك على انها على انفرادها هديه دون غيرها وما ذكره المصنف من التقليد والتجليل والاشعار فهو ثابت بالاحاديث الصحيحة.
وأما إيقاف الهدى في المواقف لم يرد من وجه تقوم به الحجة وما يدل على ان السوق في هذا النوع من أنواع الحج شرط قوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى" [البخاري "3/504"، مسلم "141/1216"، أبو داود "1785، 1789"، أحمد "3/320"] ، وهو حديث صحيح فجعل صلى الله عليه وسلم سوق الهدى هو المقتضى لبقائه قارنا.(1/339)
[فصل
ويفعل ما مر إلا انه يقدم العمرة إلي الحل ويتشنى ما لزمه من الدماء ونحوها قبل سعيها] .
قوله: "فصل ويفعل ما مر".
أقول: هذه العبارة صحيحية على ما تقتضيه الادلة وإن كانت غير مناسبة لما هو المقرر عند المصنف ومن قال بقوله فقد ثبت في الصحيحين [البخاري "1557"، مسلم "111/1211"] ، وغيرهما من حديث عائشة: "أن الذين جمعوا بين الحج والعمرة إنما طافوا طوافا واحدا".
وثبت في صحيح مسلم "133/1211"] وغيره [أحمد "6/124"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك".
وفي مسلم "133/1211"، أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك".
وفي صحيح البخاري "1558/1559"] ، عن ابن عمر أنه طاف لحجه وعمرته طوافا واحدا بعد أن قال إنه سيفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أحمد "2/67"، وابن ماجه "2975"، وسعيد بن منصور عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرن بين حجه وعمرته أجزأه لهما طواف واحد".
وأخرج الترمذي "948"، بلفظ: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد لهما حتى يحل منهما جميعا"، وحسنه.
وأما قوله: "إلا انه يقدم العمرة إلي الحل" فليس على هذا دليل وقد عرفت انه يكفي لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد فلا تقديم ولا تأخير.
وأما قوله: "ويتثنى ما لزمه من الدماء ونحوها قبل سعيها" فمبنى على وجوب طوافين وسعيين هو مندفع بما قدمنا.
[فصل
ولا يجوز للآفاقي الحر المسلم مجأوزة الميقات إلي الحرم الا بإحرام غالبا فإن فعل لزم دم ولو عاد إن كان قد احرم أو عاد من الحرم فإ فاته عامه قضاه ولا يداخل غيره] .
قوله: "فصل ولا يجوز للآفاقي" الخ.
أقول: لم يرد على هذا دليل يصلح للتمسك به ولا حجة في اجتهاد بعض الصحابة ولا فيما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح ولو كان هذا شرعا ثابتا لما خفي دليله فقد كان الداخلون إلي مكة من الافاق في أيام النبوة كثيرين جدا ولم يسمع عن أحد منهم انه أمره صلى الله عليه وسلم(1/340)
بالإحرام وإذا عرفت بطلان إيجاب الاحرام لمجرد المجأوزة عرفت بطلان إيجاب الدم على من جاوز بغير إحرام وبطلان إيجاب القضاء للإحرام المتروك عند المجاوزة.
والحاصل ان هذا الفصل مبني على غير أساس.
[فصل
ويفعل الرفيق فيمن زال عقله وعرف نيته جميع ما مر من فعل وترك فيبي ان أفاق وإ مات محرما بقي حكمه فإن كان قد احرم وجهل فكناس ما احرم له ومن حاضت اخرت كل طواف ولا يسقط عنها الا الوداع وتنوى المتمتعة والقارنة رفض العمرة إلي بعدا لتشريق وعليهما دم الرفض] .
قوله: "فصل وبفعل الرفيق فيمن زال عقله".
أقول: زوال العقل لا تصح معه عبادة ولا معاملة فمن زعم انها تصح منه هذه العبادة وان مجرد فعل رفيقه به ما شرعه الله لعباده من اعمال الحج تكفي ويسقط عنه الوجوب فهو مطالب بالدليل المخصص لهذه العبادة من بين سائر العبادات ولا دليل اصلا ولم يتفق مثل هذا في زمن النبوة ولا له مأخذ من كتاب ولا سنة ولا قياس والعجب من قوله ويبنى إن أفاق فإن هذا الذي زال عقله قد من الله عليه برجوع عقله وأمكنه ان يأتي بما أوجبه الله عليه عاقلا صحيحا فكيف يدع هذا ويجترئ بما فعل به حال جنونه وإذا عرفت هذا عرفت عدم صحه ما ترتب عليه.
قوله: "ومن حاضت اخرت كل طواف".
أقول: قد ثبت انه صلى الله عليه وسلم أمر عائشة لما أخبرته انها قد حاضت بأن تغتسل ثم تهل بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة وثبت في الصحيح انه صلى الله عليه وسلم قال لها: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، وثبت في الصحيح أيضا انه صلى الله عليه وسلم قال لها: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك".
وأما قوله: "ولا يسقط عنها الا طواف الوداع" فقدت تقدم انه صلى الله عليه وسلم رخص فيه للحائض.
وأما قوله: "وتنوى القارن والمتمتعة رفض العمرة إلي ما بعد ايام التشريق" فليس على هذا دليل بل هو خلاف الدليل الصحيح وهكذا لا وجه لقوله وعليهما دم الفرض.
[فصل
ولا يفسد الاحرام الا الوطء في أي فرج على أي صفة وقع قبل التحلل برمي جمرة(1/341)
العقبة أو بمضي وقته أداء وقضاء أو نحوهما فيلزم الاتمام كالصحيح وبدنة ثم عدلها مرتبا وقضاء ما أفسد ولو نفلا ومالا يتم قضاء زوجة اكرهت ففعلت الا به وبدنتها ويفترقان حيث افسدا حتى يحلا
قوله: "فصل ولا يفسد الاحرام الا الوطء"
أقول: قد قدمنا طرفا من الكلام على هذا وقدا ستدل من قال بالفساد بقوله تعالي: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، وهذا الاستدلال غير صحيح.
أما أولا: فللاحتمال في معنى الرفث والمحتمل لا تقوم به الحجة.
وأما ثانيا: فلو سلمنا ان الرفث هو الوطء لكان المنع منه لا يستلزم بطلان الحج لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام وغايته ان فاعله إذا تعمد اثم إثم فالح الحرام فمن اين يلزم بطلان حجه.
وأما ثالثا: فلو كان الرفث مبطلا للحج لزم ان يكون الجدال مبطلا له واللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله وإذا عرفت انه لادليل على ان الجماع عمدا مبطل للحج فكيف يبطل الجماع سهوا أو جهلا.
وأما قوله: "قبل التحلل برمي جمرة العقبة" فقد قدمنا حديث ابن عباس بلفظ: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء".
والحاصل ان ما رتبه المصنف على فسادا لحج بالوطء وجعله متفرعا عليه من لزوم إتمامه كالصحيح ولزوم قضائه ولو نفلا كلام لا دليل عليه وتكليف لعبادالله بما لم يكلفهم الله به وهكذا من اعتمد في اثبات الأحكام الشرعية على خيالات الرأي وزائف الاجتهاد ياتي بمثل هذه الخرافات التي لا ثمرة لها الا إتعاب العباد في غير شرع.
ومن هذا الكلام الوارد على خلاف مناهج الشرع وأساليب الدين الحنيف قوله وما لا يتم قضاء زوجة اكرهت الا به ففعلت ويفترقان من حيث افسدا حتى يحلا وبطلان جميع هذا غني عن البيان وليته اقصتر على دعوى فساد الحج بالوطء ثم يقول وعليه ان يحج عن فرضه الذي افسده بالوطء في عام آخر فإن هذا وإن كان لا دليل عليه ولكنه أهون الشررين وأقل الضررين.
[فصل
ومن احصره عن السعي في العمرة أو الوقوف في الحج حبس أو مرض أو خوف أو انقطاع زاد أو محرم أو مرض من يتعين امره أو تجدد عدة أو منع زوج أو سيد لهم ذلك بعث بهدي وعين لنحره وقتا من ايام النحر في محله فيحل بعده فإن انكشف حله قبل(1/342)
أحدهما لزمته الفديه وبقي محرما حتى يتحلل فإن زال عذره قبل الحل في العمرة والوقوف في الحج لزمه الاتمام فيتوصل اليه بغير مجحف وينتفع بالهدي إن ادركه في العمرة مطلقا وفي الحج إن ادرك الوقوف وإلا تحلل بعمرة ونحره ومن لم يجد فصيام كالمتمتع وعلى المحصر القضاء ولا عمرة معه] .
قوله: "فصل ومن احصره عن السعي في العمرة أو الوقوف في الحج" الخ.
أقول: احسن ما يستدل به على اثبات حكم هذا الحصر ما أخرجه مسلم وغيره عن ابن عباس ان ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فكيف تأمرني أهل؟ فقال: "أهلي واشترطي أن محلى حيث حبستني".
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بن الزبير فقال لها: "لعلك أردت الحج؟ " قالت: والله ما أجدني الا وجعة فقال لها: "حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني".
وقد أخرج أحمد "3/450"، من حديث ضباعة نفسها وفي الباب عند أنس عند البيهقي وعن جابر عنده أيضا وعن ابن مسعود وأم سلمة عنده أيضا وعن ام سلمة عند أحمد والطبراني في الكبير وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير.
فهذه الاحاديث قد دلت على ثبوت حكم الحصر وان من اشترط هذا الاشتراط لم يثبت عليه حكم الحصر ومن لم يشترط ثبت عليه وقد ذهب جماعة من الصحابة منهم على وعمر وابن مسعود وجماعة من التابعين اليه ذهب أحمد واسحاق وابو ثور إلي انه لا يجوز التحلل مع عدم الاشتراط وذهب أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين إلي انه لا يصح الاشتراط وهذه الاحاديث ترد عليهم.
وإذا تقرر هذا فقد ثبت انه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه احصروا بالحدييية ونزل قوله تعالي: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، فدل هذا على ان ما يلزم هذا المحصر الذي لم يشترط هو ما استيسر له فقول المصنف رحمه الله: "بعث بهدي" ما استيسر له وهذا إذا أمكنه البعث بالهدي فإن تعذر عليه ذلك لخوف طريق أو نحوه نحره حيث احصر وإن كان في الحل فقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحديبية وهي من الحل ولهذا تلكأ اصحابه ولم ينحروا حتى نحر ولم يحلقوا حتى حلق وهذه الآية وإن كان سببها خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ كما تقرر في الاصول فيقيد بها ما ورد مطلقا كحديث: "من كسر أو عرج فقد حل" وأما ما ذكره من لزوم الفدية إذا انكشف حله قبل احدهما فلا دليل عليه كما انه لا دليل على قوله فإن زال عذره قبل الحل في العمرة والوقوف في الحج لزمه الاتمام الخ بل الظاهر(1/343)
ان من احصر وقد اشترط فإنه يصير حلالا والأمر مفوض اليه إن شاء حج مع زوال عذره وإن شاء ترك وحج في عام آخر وهكذا من لم يشترط وبعث بالهدي فإنه بعد بعثه بالهدى باختيار نفسه إذا زال عذره ولا قضاء عليه إذا لم يحج بل الفرض باق عليه متى استطاع وجب عليه الاتيان به فهذا حاصل ما ينبغي اعتماده في هذا البحث ولم يرد ما يخالفه الا مالا تقوم به الحجة ومالا تقوم به الحجة وجوده كعدمه.
[فصل
ومن لزمه الحج لزمه الايصاء به فيقع عنه والا فلا وإنما ينفذ من الثلث الا ان يجهل زيادة الوصي المعين فكله وإن علم الاجير وإذا عين زمانا أو مكانا أو نوعا أو مالا أو شخصا تعين وإن اختلف حكم المخالفة الا فالأفراد ومن الوطن أو ما في حكمه وفي البقية حسب الامكان] .
قوله: "فصل ومن لزمه الحج لزمه الايصاء به".
أقول: لم يكن في هذا دليل يصلح للتمسك به بل من لزمه الحج ووجد السبيل اليه وجب عليه تأديته لقوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، فإن لم يفعل فقد باء بالإثم ولم يسمع في أيام النبوة ان رجلا أوصى بان يحج عنه بعدموته استدراكا لما فاته من فريضة الحج ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم شيء في الوصية بالحج بل ثبت عنه حج الولد عن أبيه وأمه وحج الاخ عن اخيه وابن عمه وقريبه وقد قدمنا الكلام على هذا والاصل في العبادات البدنية انها لاتصح الا ممن وجبت عليه ولا تصح من غيره الا بدليل وقد دل الدليل في الحج على ما ذكرنا فيقتصر عليه وكذلك ورد في الصوم: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" كما قدمنا فيقتصر على ذلك وما عدا ما ورد به الدليل فالأصل المنع ولم يات من قال بأن الوصية مسوغة لحج غير الموصى عنه بما يصلح للاحتجاج به وأما عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله احق ان يقضي" فمعناه صحيح وان من فاته شيء من العبادات فعليه القضاء.
وأما كونه يصح ان يقضيه عنه غيره فمتوقف على ورود الدليل بذلك فما ورد به الدليل صح ومالا فلا ولا سيما مع ما ثبت من قوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وقوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه كل شيء الا صدقة جارية أو علم ينفع به أو ولد صالح يدعو له". [مسلم "1631"، الترمذي "1376"، النسائي "6/251"، أحمد 2/372"، أ [وداود "2880"] .
فالحاصل ان المتعين الوقوف على موارد النصف في كل شيء يقال إنه يلحق الميت ويناله ثوابه أو يسقط عنه فرضا من فرائض الله عليه وقد اطلنا البحث في هذا في شرحنا للمنتقى(1/344)
وذكرنا جميع ما ورد من الادلة الدالة على تخصيص هذه الادلة المقتضية لاختصاص كل عامل بعمله فليرجع اليه. وبهذا القدر تعرف لأكلام على ما جعله المصنف متفرعا على لزوم الوصية بالحج إلي آخر الفصل فلا تشتغل بالكلام عليه.
[فصل
وإنما يستأجر مكلف عدل لم يتضيق عليه حج في وقت يمكنه أداء ما عين فيستكمل الأجرة بالاحرام والوقوف وطواف الزيارة وبعضها بالبعض وتسقط جميعا بمخالفة الوصي وإن طابق الموصى وبترك الثلاثة وبعضها بترك البعث ولا شيء في المقدمات الا لذكر أو فساد عقد وله ولورثته الاستنابة للعذر ولو لبعد عامة إن لم يعين وما لزمه من الدماء فعليه الا دم القران والتمتع] .
قوله: "فصل وإنما يستأجر مكلف" الخ.
أقول: هذا فصل مبني على صحة الاسئجار وصحة الوصية به وقد قدمنا الكلام على ذلك فلا حاجة لنا في الكلام على هذا الفصل فإنه متفرع على ما أوضحنا عدم ورود دليل يدل عليه وعلى تقدير صحة الاستئجار وصحة الوصية فما ذكره المصنف من اشتراط التكليف والعدالة في الاجير أمر لا بد منه فإن غير المكلف لا يصح منه عمل نفسه فكيف يصح منه عمل غيره ومن لا عدالة له فهو غير مأمون ان يستأجر على تأدية فريضة الله وركن من أركان الإسلام.
وأما قوله: "لم يتضيق عليه الحج" فصحيح إن قلنا بصحة الاستئجار لأنه مع التضييق قد صار مخاطبا بفريضة نفسه فلا يجوز له الاشتغال بغيرها مما هو فرض على غيره ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "حج عن نفسك ثم عن شبرمة" وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث.
وهكذا لا بد ان يكون الاستئجار للأجير في وقت يمكنه أداء ما استؤجر له وأما كونه يستحق الأجرة بالاحرام والوقوف وطواف الزيارة فلكونها أركان الحج التي يتم بفعلها وقد قدمنا الكلام على ذلك.
وأما كون الأجرة تسقط جميعها بمخالفة الوصي وإن طابق الموصى فهو خلاف ما يختاره المصنف في سائر الابواب من ان الاعتبار بالانتهاء.
وأما كونه لا شيء في المقدمات فصحيح لأنه لم يفعل المقصود لو بعضه الا ان يذكرها فقد اشترط لنفسه لا لفساد العقد فإن فساده لا يكون سببا لاستحقاق الأجرة على غير المقصود.(1/345)
وأما كون له ولورثته الاستنابة فمحتاج إلي دليل لأن الوجوب عند من قال بصحة الاجارة متعلق بذمة الميت لا بذمة الاجير.
[فصل
وأفضل الحج الإفراد مع عمرة بعد التشريق ثم القران ثم العكس]
قوله: "فصل وافضل أنواع الحج الأفراد".
أقول: نوع الأفراد هو أحد الأنواع التي ثبتت بالسنة المطهرة وبه حج بعض من كان معه صلى الله عليه وسلم من الصحابة.
وأما قوله: "مع عمرة بعد ايام التشريق" فليس لهذا وجه ابدا وجعل العمرة بعد أيام التشريق مبني على ما تقدم للم صنف من ان العمرة لا تكره الا في اشهر الحج وأيام الشتريق وقد عرفناك فيما سبق أن القول بهذه الكراهة كانت سنة جأهلية أبطلها الإسلام.
واعلم ن حجة صلى الله عليه وسلم وان اختلفت الأحاديث في بيان نوعه فقد تواتر انه حج قرانا وبلغت الاحاديث في ذلك زيادة على شعرين حديثا من طريق سبعة شعر صحأبيا ولم يرد ما يصلح لمعارضته بعض هذه الاحاديث فضلا عن كلها فمن جعل وجه التفضيل لاحد أنواع الحج هو انه صلى الله عليه وسلم حج بنوع كذا وان الله سبحانه لا يختار لرسوله الا ما كان فاضلا على غيره فقد كان حجه صلى الله عليه وسلم قرانا فيكون القران افضل أنواع الحج ولكنه قد ثبت من حديث جابر في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى وجعلها عمرة"، فدل على ان التمتع افضل من القران وقد سقت المذاهب والادلة في شرحي للمنتقى مما لا يحتاج الناظر فيه إلي الرجوع إلي غيره فالاحالة عليه أولى لأن المقام طويل الذيول وكل أنواع الحج شريعة صحيحية وسنة ثابتة فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل".
[فصل
ومن نذر أن يمشي إلي بيت الله أو ما في حكمه لزمه لأحد النسكين فيؤدى ما عين وإلا فما شاء ويركب للعجز فيلزم دم وبأن يهدي شخصا حج به أو اعتمر إن أطاعه(1/346)
ومؤنه وجوبا وإلا فلا شيء وبعبده أو فرسه شرى بثمنه هدايا وصرفها من حيث نوى وبذبح نفسه أو ولده أو مكاتبه ذبح كبشا هنالك لا من له بيعه فكما مر.
ومن جعل ماله في سبيل الله تعالي صرف ثلثه في القرب لا هدايا ففي هدايا البيت والمال للمنقول وغيره ولو دينا وكذا الملك خلاف م بالله في الدين] .
قوله: "فصل ومن نذر ان يمشي إلي بيت الله لزمه لأحد النسكين"
أقول: أما لزوم الوفاء فلما ورد من الوفاء بالنذر إذا كان في غير معصية الله.
وأما كونه يلزمه لاحد النسكين فلا دليل على هذا وقد قدمنا انه لا دليل على عدم مجاوزة الحرم الا بإحرام.
وأما جواز الركوب للعجز ولزوم الدم فلحديث عقبة الثابت في الصحيحين [البخاري "4/87"، مسلم "11/1644"] ، وغيرهما [أبو داود "3299"، النسائي "3814"، أحمد "4/152"] ، ان اخته نذر بالحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عن مشى أختك لغني فلتركب"، وأخرج أبو دأود نحوه من حديث ابن عباس وزاد فيه "ولتهد بدنة".
وأما قوله: "ومن نذر ان يهدي شخصا" فإن أراد بالإهداء الإيصال فلا باس بأن يحج به ويعتمر إن اطاعه ولكن لا دليل على ذلك فإن غاية ما يجب عليه إيصاله إلي حيث نذر وإن أراد بالاهداء جعل الشخص هديا فهذا نذر في يمعصية الله وهو باطل.
وهكذا لا يصح نذر من نذر بذبح نفسه لأنه نذر في معصية الله.
وأما قوله: "ومن نذر بعبده أو فرسه" الخ فإذا كان قصده من ذلك لزمه وإن كان له قصد آخر كان ينذر بعبده لخدمة الحرم وبفرسه لركوب من يلي الحرم عليه أو نحو ذلك كان صحيحا وإن قصد جعلهما هدايا فلا يصح النذر بالعبد لأنه في معصية الله ويصح بالفرس فينحرها حيث ينحر الهدى لأن الراجح ان أكلها حلال كما سياتي.
وأما قوله: "ومن جعل ماله في سبيل الله" الخ فهذا سيأتي الكلام عليه في النذر إن شاء الله تعالي.
وأما قوله: "لا هدايا ففي هدايا البيت" فهو صحيح لأن الهدايا لا تكون الا كذلك.
وأما قوله: "والمال للمنقول وغيره" الخ فهذا هو معنى المال لغة الا ان يتجدد اصطلاح يقصره على البعض كان الاصطلاح مقدما لأن الرجل يتكلم باصطلاح قومه فيحمل ماتكلم به عليه.
[فصل
ووقت دم القران والتمتع والإحصار والإفساد والتطوع في الحج أيام النحر اختيارا(1/347)
وبعدها اضطرارا فيلزم دم التأخير ولا توقيت لما عداها واختياري مكانها مني ومكان دم العمرة مكة واضطراريهما الحرم وهو مكان ما سواهما الا الصوم ودم السعي فحيث شاء.
وجميع الدماء من رأس المال ومصرفها الفقراء كالزكاة الا دم القران والتمتع والتطوع فمن شاء وله الأكل منها ولا تصرف الا بعد الذبح وللمصرف فيها كل تصرف] .
قوله: "فصل ووقت دم القرآن" الخ.
أقول: إن كان جعل أيام النحر وقت اختيار لدليل يدل على ذلك فما هو فإن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم انه نحر هديه يوم النحر وامر من معه بالنحر في يوم النحر فكان ينبغي ان يكون يوم النحر هو وقت الاختيار ثم إذا خرج هذا الوقت كان إجزاء النحر فيما بعده محتاجا إلي دليل وليس كل عبادة تقضى لكن يقال ان لأعذار حكمها وان من تعذر عليه النحر في يوم النحر كان الوقت ممتدا في حقه كامتداد وقت الأضحية لحديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيام التشريق ذبخ"، أخرجه أحمد "4/82"، وبان حبان في صحيحه والبيهقي وأخرج نحوه ابن عدي من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف وأخرج نحوه أيضا ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد وهو ضعيف.
وأما كون وقت الاضطرار بعد أيام التشريق فهذا يحتاج إلي دليل لأنه تعيين وقت لعبادة من العبادات وذلك لا يثبت بمجرد الرأي فإن قام الدليل على ذلك فلا وجه لايجاب دم التأخير وقد قدمنا البحث عن هذا.
وأما قوله: "ولا توقيت لما عداها" فإذا قد ثبت وجوب الدم غير مقيد بوقت فالأمر كذلك وهكذا لا دليل لجعل مكانين اختياري واضطراري لدم العمرة بل مكان جميع الدماء مني وفجاج مكة ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "إن منى كلها منحر وإن فجاج مكة طريق ومنحر".
وأما استثناء الصوم فإن كان المراد به الذي قال الله سبحانه فيه: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، فظاهر وإن كان سائر أنواع الصوم التي تلزم من لم يجد الدم فلم يرد دليل يدل على تعيين وقتها.
وأما دم السعي فحكمه حكم سائر الدماء زمانا ومكانا ولا وجه لاستثنائه.
وأما كون جميع الدماء من رأس المال فهكذا ينبغي ان يكون لانها لزمت من هي عليه فوجب تخليصها من ماله ولا وجه لاخراجها من الثلث فإن الامور التي وردت ان مخرجها من الثلث هي امور مخصوصة معروفة لزمت بالوصية أو لنذر أو نحوهما.
قوله: "ومصرفه الفقراء كالزكاة".
أقول: الظاهر عدم الفرق بين هذه الدماء ودم القران أو التمتع أو التطوع انه يجوز الأكل منها لمن هي عليه لقوله تعالي: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] ، وقوله تعالي:(1/348)
{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، وقد ثبت في الاحاديث الصحيحية ان النبي صلى الله عليه وسلم أكل مما أهداه وأطعم أصحابه ونساءه فهذا الكتاب العزيز والسنة المطهرة قد دلا على جواز الأكل منها وصرفها في مصارفها ودعوى التفرقة بين الدماء يحتاج إلي دليل ولم يثبت ما يقتضى ذلك وإن كان السبب خاصا فلا يتقيد الحكم بالسبب.
وأما كونها لا تصرف الا بعد الذبح فلكون الحكم المتعلق بها لا يسقط الا بنحرها وأما كون للمصرف يها كل تصرف فظاهر.(1/349)
كتاب النكاح
مدخل
...
كتاب النكاح
[فصل
يجب على من يعصى لتركه ويحرم على العاجز عن الوطء من تعص بتركه وعارف التفريط من نفسه مع القدرة وينعقد مع الإثم ويندب ويكره ما بينهما ويباح ما عدا ذلك وتحرم الخطبة على خطبة المسلم بعد التراضى وفي العدة الا التعريض في المبتوتة.
وندب عقده في المسجد والنثار وإنتهابه والوليمة وإشاعته بالطبول لا التدفيف المثلث والغناء] .
قوله: "يجب على من يعصى لتركه".
أقول: قد علم بنصوص الكتاب والسنة وبإجماع الامة ان الزنا حرام وكذلك ما يؤدي اليه وما هو مقدمة له فمن خشي على نفسه الوقوع في هذا وجب عليه دفعه عن نفسه فإن كان لا يندفع الا بالنكاح وجب عليه ذلك وإن كان يندفع بمثل الصوم أو السفر أو التقليل من طعامه وشرابه أو أكل غير ما فيه دسومة من الاطعمة لم يجب عليه النكاح لإمكان دفع المعصية بدونه.
قوله: "ويحرم على العاجز عن الوطء من تعصى لتركه".
أقول: هذا التحريم لا وجه له ولا يلزم الإنسان ترك ما احل الله له بل ما امره به ورغبه فيه بتجويز وقوع المعصية من غيره فذنب كل مذنب عليه لا يتعداه إلي غيره وهذه المرأة قد جعل الله لها فرجا ومخرجا وأوجب عليها ان تدع ما حرمه عليها وتشكو امرها إلي حكام الشريعة كما وقع ذلك من المراة التي شكت زوجها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنما معه كهدية الثوب [البخاري "5/249"، مسلم "111/1433"، أبو داود "2309"، الترمذي "1118"، النسائي "6/148"، ابن ماجة 1932"، أحمد "6/42"، 46"] ، فإذا كان إمساكه لها مع عجزه عن أن يعفها ويكسر(1/349)
سورة شهوتها فذلك من الامساك لها ضرارا وقد قال الله سبحانه {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} [البقرة: 230] ، وهو أيضا من المضارة لها وقد قال تعالي: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق: 6] . وهذا مضار لها وفي الشريعة المطهرة ما يدل على جواز الفسخ بمجرد الكراهة كما في حديث: "أتردين عليه حديقته" وفيها أيضا جواز الفسخ للاعواز عن النفقة وبهذا تعرف انه لا وجه للحكم بهذا التحريم بادئ بدء وهكذا لا وجه للحكم بالتحريم على عارف التفريط من نفسه فإنه قد يتحول الحال وقدترضى المرأة بتفريطة وبعد هذا كله فالطلاق بيده إذا استمر على هذا السجية المذمومة والطبيعة الناقصة وأيضا لها ان تطلب الخلاص منه لما قدمنا.
قوله: "ويندب ويكره ما بينهما ويباح ما عدا ذلك".
أقول: النكاح من آكد السنن وقد أمر الله سبحانه به في كتابه العزيز وثبت في السنة الصحيحية في الصحيحين [البخاري "4/119"، مسلم "1400"] ، وغيرهما [أبو داود "2046"، الترمذي "1081"، النسائي "4/169، 6/56، 57" ابن ماجة "1845"، أحمد "1/4"] ، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" وصح عنه في الصحيحين [البخاري "9/117"، مسلم "4/129"] ، وغيرهما النهي عن التبتل وقال فيما صح عنه في الصحيحين [البخاري "9/104"، مسلم "1401"، وغيرهم "لكني أصوم وأفطر واصلي وانام واتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
والحاصل ان النكاح سنة مؤكدة فلا وجه لجعل بعض اقسامه مباحا فإن ذلك دفع في وجه الادلة ورد للترغيبات الكثيرة في صحاح الاحايث وحسانها وقد ذكرنا بعضا من ذلك في شرحنا للمنتقى نعم من كان فقيرا لا يستطع القيام بمؤنة الزوجية فله رخصة في ترك هذه السنة الحسنة لقوله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ} [النور: 33] ، الآية على ما في تفسيرها من الاختلاف.
قوله: "وتحرم الخطبة على خطبة المسلم بعد التراضي".
أقول: الاحاديث الصحيحية الواردة الثابتة في الصحيحين وغيرهما عن عقبة بن عامر وأبي هريرة وابن عمر قد صرحت بالنهي عن ان يخطب الرجل على خطبة اخيه إلي غاية هي قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى ينكح أو يترك"، وفي حديث آخر بلفظ: "حتى يترك الخاطب أو يأذن له الخاطب" فوقوع الخطبة مقتض لتحريم خطبة الآخر إلي هذه الغاية وبمجرد وقوع الخطبة الأولى يحصل التحريم سواء علم الاخر بالرضا من المرأة ام لم يعلم لكن وإذا انتهى الحال إلي عدم وقوع الرضا منها فتلك الخطبة كأنها لم تكن لعروض مانع من ثبوتها وهو عدم الرضا ولا يقال انها لا تحرم الخطبة على الاخر الا إذا علم بالرضا بل تحرم عليه ما لم يعلم بعدم الرضا عملا بالنهي ووقفا على حكمه ولا منافاة بين الاحاديث القاضية بتحريم الخطبة وبين ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من المشورة على فاطمة بنت(1/350)
قيس بأن تنكح اسامة بن زيد بعد ان خطبها أبو جهم ومعأوية لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخطبها لأسامة بل أشار عليها به بعد ان استشارته وبين لها ان معأوية صعلوك وأبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه وانه ضراب للنساء والامر اليها في ذلك.
وفي رواية في صحيح [مسلم "36/1480" أبو داود "2284"، الترمذي "1135"، النسائي "6/75 – 76"، ابن ماجة "1869"، أحمد "6/411"، 412"] ، وغيره ان اسامة قد كان خطبها معهما وان الثلاثة خطبوها فأشار عليها النبي صلى الله عليه وسلم به وهذا يوضح لك عدم الاختلاف بين هذا الحديث واحاديث تحريم الخطبة على الخطية.
قوله: "وفي العدة الا التعريض في المبتوتة".
أقول: يدل على هذا قوله عز وجل: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] ، فإنه يفيد انه لا يجوز التصريح بالخطبة ويجوز التعريض ثم نهاهم عن أن يواعدوهن سرا فقال: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} على ما في معنى هذه المواعدة من الاختلاف ثم استثنى من هذا فقال: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} [البقرة: 235] .
فالحاصل انه لم يبح سبحانه الا التعريض والقول المعروف فكان التصريح بالخطبة للمعتدة أو ذكر شيء مستهجن في مكالمتها غير جائز وقد كان هذا امرا متقررا معروفا عندهم كما يدل عليه ما أخرجه الدارقطني عن سكينة بنت حنظلة قالت استأذن على محمد بن علي ولم تنقض عدتي مهلكة زوجي فقال قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتي من علي وموضعي من العرب قلت غفر الله لك يا أبا جعفر إنك رجل يؤخذ عنك وتخطبني في عدتي فقال إنما اخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة فقال: "لقد علمت أني رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرته من خلقه وموضعي من قومي" أكانت تلك خطبة؟.
ثم اعلم أنه لا فرق في المنع من التصريح للمعتدة بالخطبة بين ان تكون في عدة طلاق رجعي أو بائن أو في عدة الوفاة ولا وجه للتعليل بأن الرجعية لم ينقطع حق زوجها بخلاف غيرها لان الدليل لم يفصل بين عدة وعدة.
قوله: "وندب عقده في المسجد".
أقول: إن انتهض حديث: "واجعلوه في المساجد" للحجية فأقل احوال هذا الامر الندب والا فالمساجد إنما بنيت لذكر الله والصلاة فلا يجوز فيها غير ذلك الا بدليل يخصص هذا العموم كما وقع من لعب الحبشة بحرابهم في مسجده صلى الله عليه وسلم وهو نيظر وكما قرر من كانوا يتناشدون الاشعار فيه.
قوله: "والنثار وانتهابه".
أقول: لم يثبت في هذا شيء والحديث المروي في ذلك قد تكلمنا عليه في كتابنا الذي سميناه الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة وقد ذكره ابن حجر في التلخيص وعزاه إلي(1/351)
البيهقي وقال في إسناده ضعف وانقطاع قال ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة عن معاذ نحوه وفيها بشر بن إبراهيم انتهى قلت وكان متهما بوضع الحديث ورواه الغزالي والرازي والقاضي حسين أحد اصحاب الشافعي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر في إملاك فأتى باطباق عليها جوز ولوز وتمر فنثرت فقبضنا ايدينا فقال: "ما بالكم لا تأخذون؟ " فقالوا: لأنك نهيت عن النهية فقال: "إنما نهيت عن نهبى العساكر خذوا على اسم الله فجاذبنا وجاذبناه" وهذا موضوع لا شك فيه وهؤلاء الذين رووه ليسوا من أهل الرواية وانتهاب النثار إذا لم يكن حرأما لصدق النهي عليه فأقل الاحوال ان يكون مكروها.
قوله: "والوليمة".
أقول: قد دلت على مشروعيتها الاحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما وقد صح انه صلى الله عليه وسلم أولم على نسائه وصح انه أمر من تزوج بالوليمة كما قال لعبد الرحمن بن عوف أولم ولو بشاة وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس.
وأما قوله: "واشاعته بالطبول لا التدفيف المثلث والغناء" فقد ثبت الترخيص في طرف من اللهو في العرسات وقد ذكر صاحب المنتقى الادلة على ذلك وتكلمت في شرحي له عليها ومن خالف في ذلك فقد خالف ما كان ثابتا معلوما ومن جوز اللهو في غير هذا الموطن فقد خالف ما يدل عليه الكتاب العزيز والسنة المطهرة وسيأتي استيفاء البحث عن هذا في كتاب الحدود.
[فصل
ويحرم على المرء اصوله وفصوله ونساؤهم وفصول اقرب اصوله وأول فصل من كل أصل قبله واصول من عقد بها لا فصولها ولا هما من المملوكة الا بعد وطء أو لمس لشهوة ولو بحائل أو نظر مباشر ولو خلف صقيل لافي مرآة والرضاع في ذلك كالنسب غالبا والمخالفة في الملة والمرتدة والمحصنة والملاعنة والمثلثة قبل التحليل الصحيح والمعتدة والمحرمة والخامسة والمتلبسات بالمحرم منحصرات والخنثى المشكل والامة على الحرة وان رضيت ولحر الا لعنت لم يتمكن من حرة وامرأة مفقود أو غريق قبل صحة ردته أو طلاقه أو موته أو مضى عمره الطبيعي والعدة ويصح بعدها فإن عاد فقد نفذ في الأوليين لا الاخريين فيبطل وتستبرئ له فإن مات أو طلق اعتدت منه أيضا وله الرجعة فيهما لا الوطء في الأولى ولا حق لها فيهما ولا يتداخلان ويحرم الجمع بين من لو كان احدهما ذكرا حرم على الاخر من الطرفين فإن جمعهما عقد حرتين أو امتين بطل كخمس حرائر أو(1/352)
إماء لا من يحل ويحرم فيصح من يحل وكل وطء لا يستند إلي نكاح أو ملك صحيح أو فاسد لا يقتضى التحريم] .
قوله: "فصل ويحرم على المرء أصوله وفصوله".
أقول: هذا معلوم بالكتاب والسنة وبإجماع المسلمين اجمعين وهكذا تحريم نساء الأوصل والفصول هو منصوص عليه في الكتاب العزيز وهكذا تحريم فصول أقرب الاصول فإنهم الاخوة والاخوات وابناء الإخوة وأبناء الإخوات وتحريمهم في الكتاب العزيز وهكذا يحرم على الرجل أصول من عقد بها بالكتاب العزيز حيث قال عز وجل: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ، وظاهره انه لا فرق بين ان يكون قد وقع الدخول ام لا ولكنه قرأ جماعة من الصحابة منهم علي وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير: {وأمهات نسائكم التي دخلتم بهن} فإن صحت هذه القراءة كانت دليلا على انها لا تحرم الا ام المدخولة وادعى بعض أهل العلم ان قوله سبحانه: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} يعود إلي قوله: {مِنْ نِسَائِكُمْ} وإلي قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وفي ذلك الخلاف المعروف في الاصول في القيد إذا جاء بعد متعدد ولكنه يقوى عود هذا القيد إلي الجميع القراءة المذكورة.
ويدل على خلاف هذا التقييد ما أخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "من نكح امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها حرمت عليه أمها ولم يحرم عليه ابنتها" وهذا لو صح لكان نصا في محل النزاع ولكنه حديث ضعيف وفي إسناده ضعيفان هما المثنى بن الصباح وابن لهيعة فإن صح إسناد تلك القراءة فهي ارجح من هذا الحديث وإن لم يصح إسنادها كان العمل بما يقتضيه قوله تعالي: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} من شموله للمدخولة وغيرها هو المتعين.
قوله: "ولا هما من المملوكة" الخ.
أقول: الامة لا تصير من نساء سيدها الا بوطئها بخلاف الحرة فإنه اتصير من نساء زوجها بالعقد عليها ولا يحتاج إلي قياس الامة على الحرة بل هي داخلة في عموم قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} فإن ترجيح تقييد هذا العموم بتلك القراءة لم تحرم اصول الامة الموطوءة ولا فصولها الا بعد الدخول بها وان لم يترجح التقييد فقد عرفت ان الامة لا تكون من نساء سيدها الا بالدخول فهي قبل الدخول ليست من نسائه فلا تحرم اصولها ولا فصولها الا بدخولها ولهذا اتفقوا على انها لا تحرم ام الامة ولا ابنتها الا بعدالدخول واختلفوا في الزوجة.
وأما قوله: "أو لمس لشهوة ولو بحائل" فلا يتم الا بعد تسليم انه يصدق عليه مسمى الدخول شرعا وهو بعيد وابعد منه قوله: "أو نظر مباشر ولو خلف صقيل".
والحاصل انه إذا لم يصدق على هذا اللمس وهذا النظر انه وطء ولا دخول شرعا فصدق ذلك لغة ابعد وأبعد وقد عرفناك ان الامة لا تكون من نساء سيدها الا بالوطء لا بمجرد الشراء ولا بما لا يصدق عليه مسمى الوطء.(1/353)
قوله: "والرضاع في ذلك كالنسب".
أقول: قد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة في الصحيحين وغيرهما انه قال: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم"، [اليخاري "5/253، مسلم "12/1447"] ، وفي لفظ فيهما: "ما يحرم من النسب" [البخاري "5/253"، مسلم "13/1447"] وفي لفظ فيهما: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة"، فالواجب التوقف على ما تدل عليه هذه الاحاديث بعمومها ولا يخص منها الا ما خصصه دليل صحيح صالح للتخصيص.
وإذا عرفت هذا كفاك عن الخبط والخلط الواقع في هذه المسألة لكثير من المتكلمين فيها وعليك ان تلاحظ مع ملاحظتك لهذه الادلة انه صلى الله عليه وسلم لم يقل يحرم من الرضاعة ما يحرم من الصهارة فلا يحرم من اصهار أهل الرضاعة الا ما جاء النص بتحريمه والا فهو حلال وقد ذكرت في شرحي للمنتقى ما يهتدي به الناظر إلي صوب الصواب.
قوله: "والمخالفة في الملة".
أقول: ما كان ينبغي للمصنف ومن قال يقوله ان يتركوا ما دل عليه الكتاب العزيز بالخصوص ويتمسكوا بالعام فإن قوله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، مخصص لعموم قوله سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، على تقدير تحقق الاشراك في اليهود والنصارى فإن هذا حكم الله عز وجل في كتابه العزيز فكيف يبلغ التعصب بصاحبه إلي اهمال الدلائل القرآنية التي هي أوضح من شمس النهار ولهذا فإن السلف لم يظهر بينهم خلاف في جواز نكاح الكتابيات ولا أنكر أحد منهم على فاعله ومع هذا فقد وقع الاجماع على حل وطء المسبيات من المشركين ولم يخالف في ذلك مخالف فكما كان هذا المخصص لعموم الكتاب معمولا به عندهم يكون ما هو اظهر منه وأوضح دلالة وهو قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فلا يدخل تحته الا من كان من أهل الكتاب ولم يبق على دين الانبياء الذين انزل الله عليهم كتابه الا اليهود والنصارى فيخرج من هذا المخصص المجوس ولكنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فكان لهم حكمهم في حل نسائهم ونحو ذلك من الامور الثابتة لأهل التاب ولم يصح الاستثناء المروي في هذا الحديث وهو قوله: "غير آكلي ذبائحهم وناكحي نسائهم"، فكان للمجوس حكم أهل الكتاب في جميع ما اثبته شرعنا لهم.
وأما قوله: "والمرتدة" فلا وجه لأفرادها بالذكر فهي كافرة من جملة الكوافر ومخالفة في الملة من جملة المخالفات والكلام فيها كما قدمنا.
وأما قوله: "والمحصنة" فتحريمها ثابت بنص القرآن وإجماع المسلمين وهكذا الملاعنة أبدا والمثلثة حتى تنكح زوجا غيره وهكذا المعتدة بنص القرأن والاجماع.(1/354)
وأما قوله: "والمحرِمة" فما كان ينبغي إدخالها ها هنا لانها لا تعقد نكاح نفسها واغذا عقد لها ولى حلال وهي محرمة فما بذلك من بأس وقد قدمنا اختلاف الادلة في عقدالمحرم للنكاح.
قوله: "والخامسة".
أقول: أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على أربع بقوله عز وجل: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، فغير صحيح كما أوضحته في شرحي للمنتقى ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفي وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه وإن كان في كل واحدم منهما مقال ولكن الاجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل وقد حكى الاجماع صاحب فتح الباري والمهدي في البحر والنقل عن الظاهرية لم يصح فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو اعرف بمذهبهم وأيضا قد ذكرت في تفسيري الذي سميته فتح القدير تصحيح بعض هذه الاحاديث واطلت المقال في ذلك فليرجع اليه.
قوله: "والملتبسات بالمحرم منحصرات".
أقول: ليس على هذه المسألة دليل يخصها وليس فيها الا الرجوع إلي قواعد مقررة وهي ان الاصل في الفروج التحريم وان الحظر مقدم على الاباحة والبراءة الاصلية وإنكانت مستصحبة لكن قد عورضت بمثل ذلك فإن ينتهض دليل على تقديم الحظر على الاباحة في مثل الفروج فذاك والا فلا ناقل ينقل عن البراءة الاصلية المعلومة بالادلة الكلية والجزئية.
قوله: "والخنثى المشكل".
أقول: إن صح وجود هذا في العالم اعني المشكل الذي لا يتميز فالتحريم محتاج إلي دليل ولا دليل الا مجرد استبعادات ولا تقوم بمثلها الحجة لا عقلا ولا نقلا وأما وجود من له فرج كفرج الرجل وفرج كفرج المرأة مع التمييز بان يكون الفرج الذي له القوة وبه الانتفاع بالبول ونحوه أو بمجرد السبق فهو محكوم له بالفرج الذي هو كذلك وما اقل جدوى تحرير مثل هذه المسائل في كتب الهداية.
قوله: "والامة على الحرة وإن رضيت".
أقول: ليس في هذا وفي قوله ولحر الا لعنت لم يتمكن من حرة الا ما دل عليه قوله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] ، الآية وهذا الذي تحته الحرة قدا ستطاع طولا بالحرة التي تحته وأما الحر الذي لم يتمكن من حرة فلم يستطع طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات ولا يشترط ان يكون عنتا بل مجرد عدم التمكن من الحرة يكفي وليس في السنة ما تقم الحجة به في هذا لان ما روى مرفوعا لم يصح وما روى غير مرفوع لا تقوم به الحجة.
قوله: "وامرأة مفقودا". الخ.
أقول: قد أمر الله سبحانه بإحسان عشرة الزوجات فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ،(1/355)
ونهى عن إمساكهن ضرارا فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} [البقرة: 231] ، وأمر بالامساك بالمعروف أو التريح بإحسان فقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، ونهى عن مضارتهن فقال: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فالغائب ان حصل مع زوجته التضرر بغيبته جاز لها ان ترفع امرها إلي حكام الشريعة وعليهم ان يخلصوها من هذا الضرار البالغ هذا على تقدير ان الغائب ترك لها ما يقوم بنفقتها وانها لم تتضرر من هذه الحيثية بل من حيثية كونها لا مزوجة ولا أيمة أما إذا كانت متضررة بعدم وجود ما تستنفقه مما تركه الغائب
فالفسح بذلك على انفراده جائز ولو كان حاضرا فضلا عن ان يكون غائبا وهذه الايات التي ذكرناها وغيرها تدل على ذلك.
فإن قلت هل تعتبر مدة مقدرة في غيبة الغائب قلت لا بل مجرد حصول التضرر من المراة مسوغ للفسخ بعدالاعذار إلي الزوج إن كان في محل معروف لا إذا كان لا يعرف مستقره فإنه يجوز للحاكم ان يفسخ النكاح بمجرد حصول التضرر من المراة ولكن إذا كان قد ترك الغائب ما يقوم بما نحتاج اليه ولم يكن التضرر منها الا لأمر غير النفقة ونحوها فينبغي توقيفها مدة يخبر من له عدالة من النساء بأن المراة تتضرر بالزيادة على تلك المدة وأما إذا لم يترك لها ما تحتاج اليه فالمسارعة إلي تخليصها وفك اسرها ودفع الضرار عنا واجب ثم إذا تزوجت بآخر فقد صارت زوجته وان عادالأول فلا يعود نكاحه بل قد بطل بالفسخ فلا تشتغل بهذه التفاصيل التي ذكرها المصنف رحمه الله.
قوله: "ويحرم الجمع بين من لو كان احدهما ذكرا" الخ.
أقول: هذه الكلية محتاجة إلي دليل تقوم به الحجة ولم يرد الا فيما هو اخص من ذلك كالجمع بين الاختين وبين المرأة وعمتها والمراة وخالتها أما الجمع بين الاختين فبنص الكتاب العزيز وأما الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها فبالسنة الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما المروية من طريق جماعة من الصحابة وقد أبعد من رام دفع هذا الحكم الثابت بهذه السنة الصحيحية بمجرد الخيالات المختلة والعلل المعتلة وقد حكى بعض أهل الاجماع على التحريم ومثل الروافض والخوارج من فرق الضلال ليسوا ممن ينبغي ان يشتغل بشانهم ولا بتدوين مقالاتهم الباطلة ولا يقدح خلافهم في إجماع الامة الإسلامية ولكن التعصب يتشعب شعبا كثيرة قد يقع الواقع فيها بل في أشدها ضررا واعظمها خطرا وهو لا يدري كما أوضحت ذلك في كتأبي الذي سميته ادب الطلب ومنتهى الأرب.
واعلم أن الله سبحانه قد انزل في كتابه العزيز فيما يحل ويحرم من المناكح الكثير الطيب ثم ان النبي صلى الله عليه وسلم بين للناس ما نزل اليهم وبالغ في البيان والأيضاح فيس بنا حاجة إلي التعويل على ما يذكره أهل الفروع إذا جاءوا بما لم يرد به دليل.
وأما الحكم ببطلان العقد الذي وقع فيه الجمع بين حرتين أو امتين فهو صواب إن كان قد وردالدليل المقتضى للمنع من ذلك لأن الفاعل لذلك فعل مالا يبيحه الشرع وما ليس عليه(1/356)
امر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو رد ورده هو عدم الاعتداد به ولا يراد بالبطلان الا ذلك وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بالبطلان فيما هو دون هذا فقال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" فهذا حكمه صلى الله عليه وسلم كونه لا مانع من نكاح المرأة بل هو حلال مطلق ولكنه لم يوجدا الاذن ممن هو ولي لها فأين هذا الامر من العقد على من هي محرمة بنص الشرع.
وأما قوله: "كخمس حرائر أو إماء" فقد تقدم الكلام عليه ولكن المصنف أراد مجرد النظير والتمثيل.
وأما قوله: "لا من يحل ويحرم فيصح من يحل" فهو ظاهر واضح لا يحتاج إلي ذكر.
وأما قوله: "وكل وطء لا يستند إلي نكاح" الخ فصواب لأن الحكم بالتحريم يحتاج إلي دليل ولا دليل وقد قال بالتحريم الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق ولم نقف لهم على ما يصلح للتمسك به.
[فصل
ووليه الأقرب فالأقرب المكلف الحر من عصبة النسب ثم السبب ثم عصبته مرتبا ثم سببه ثم عصبته كذلك ثم الوصى به لمعين في الصغيرة ثم الامام والحاكم قيل ثم الوصي به في الكبيرة ثم توكل ويكفي واحد من أهل درجة الا الملاك ومتى نفتهم غريبة حلفت احتياطا وتنتقل من كل إلي من يليه فورا بكفره وجنونه وغيبته منقطعة وتعذر مواصلته وخفاء مكانه وبادنى عضل في المكلفة الحرة ولا يقبل قولها فيه] .
قوله: "ووليه الاقرب فالأقرب" الخ.
أقول: لما أمر الله سبحانه بإنكاح النساء {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، وقال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] ، كان أولياء المرأة ممن دخل في هذا الخطاب دخولا أوليا فكانوا احق بإنكاحها من هذه الحيثية ثم جاءت السنة الصحيحية بأنه لا نكاح الا بولي وان النكاح بغير ولي باطل وثبت عنه صلى الله عليه وسلم بأن الأولياء "إذا اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" فتبين بذلك ان المراد بما في القرآن هم خصوص الأولياء ومعلوم ان الاقرب اليها اخص من الأبعد من جهة كون ولايته على المرأة لها مزيد خصوصية بالقرب وقد ذهب إلي اعتبار الولي جمهور السلف والخلف حتى قال ابن المنذر انه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك وسيأتي والكلام على هذا في شروط النكاح وليس المراد هنا الا كون الأولياء الذين اليهم ولا ية النكاح هم هؤلاء الذين ذكرهم المصنف مرتبين على هذا الترتيب وقد ذهب إلي هذا الجمهور وروى عن أبي حنيفة انه اثبت الولاية في النكاح للقرابة الذين ليسوا من العصبات.(1/357)
وأما ما قيل من ان الولاية في النكاح مقيسة على الميراث فلا وجه له بل هي ثابتة بالادلة المتقدمة فلا تحتاج إلي القياس الا ان يقال ان كون الولاية مرتبة على هذا الترتيب هو بالقياس على الميراث ولكنه لا يتم لأنه قد ثبت الميراث لمن لا ولاية له في النكاح كالاخوة لأم وأيضا قد يكون الميراث مستحقا لغير من اليه العقد الاخوة لأب والاعمام وأبناء الاعمام إذا كان في ذوي السهام من ياخذ جميع الميراث كالبنات مع الاخوات لأبوين.
وقيل العلة في كون هؤلاء الأولياء للنكاح ان الغضاضة تلحق بهم دون غيرهم وهو غير مسلم فإن الغضاضة قد تلحق مثلا بالاخوة لأم لحوقا زائدا على الاعمام وأبناء الاعمام وسيأتي لنا ان شاء الله في البيع تحقيق للأولياء في النكاح وفي البيع شرعا ولغة فلينظر.
وأما إثبات الولاية للمعتق فلحديث: "الولاء لحمة كلحمة النسب" وهو حديث لامطعن فيه وله شواهد كما ذكره صاحب التلخيص.
وظاهر هذا التشبيه انه يثبت له ما يثبت لذي النسب وأما اثباتها لعصبة المعتق فلكون التشبيه المذكور يدل على ان عصبة المعتق يقومون مقامه إذا لم يوجد أحد من عصبة النسب ثم معتق المعتق وعصبته لهم مدخل في ذلك التشبيه فلهذا ذكرهم المصنف.
وأما اثبات الولاية لوصي من اليه الولاية فلا اراه صحيحا لأن الولاية إنما هي للأولياء الاحياء ومن مات منهم انقطعت ولايته بموته فلا تثبت ولاية لوصيه في النكاح وأما اثبات الولاية للأمام ولمن يلي من جهته فلحديث عائشة عند أحمد وأبي دأود والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر لما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"، ولهذا الحديث طرق وفيه انه لا ولاية للسلطان الا عند اشتجار الأولياء وإذا ثبتت له الولاية مع وجودهم مشتجرين فثبوتها مع عدمهم أولى.
قوله: "ثم توكل".
أقول: هذا لم يسمع في أيام النبوة ولا روى الإذن به ولهذا انه صلى الله عليه وسلم لما بعث يخطب ام سلمة قالت ليس أحد من أوليائي شاهدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك"، فقالت لابنها قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه رواه أحمد "6/295، 213، 214، 217، 218"، والنسائي "3254"، وقد اعل هذا الحديث بما ذكرنا في شرح المنتقى ولم يأمرها صلى الله عليه وسلم لما قالت ليس أحد من أوليائي شاهدا ان توكل ولا أذن لها بذلك ولكنه إذا عدم الأولياء والسلطان ومن يلي من جهته صارت الحالة ضرورية للحاجة إلي معرفة رضاها بالزوج ثم العقد له ولعله يتوجه على من صلح لذلك ان يفعله من غير وكالة منها إذا قد رضيت بالزوج ولا سيما مع حديث: "لاتزوج المراة المراة ولا تزوج المراة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"، أخرجه ابن ماجه "1882"، والدارقطني من حديث أبي هريرة. قال ابن حجر رجاله ثقات وقدا أعل بالوقف لكن لا في جميعه بل في قوله: "فإن الزانية"(1/358)
الخ والموكلة لمن يزوجها مزوجة لنفسها لكنه أخرج أبو دأود عن عقبة بن عامر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة؟ "، قال: نعم, وقال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانا؟ "، قالت: نعم فزوج أحدهما صاحبه والحديث رجاله ثقات الا عبد العزيز بن يحيى وهو صدوق يهم فقد يقال ان هذا توكيل من المراة ويمكن ان يقال انه صلى الله عليه وسلم إنما قال لها ذلك لمعرفة رضاها بالزوج المذكور وهو أولى بالمؤمنين من انفسهم.
قوله: "ويكفي واحد من أهل درجة".
أقول: هذا صحيح لأن الولي المعتبر في النكاح يكفي فيه الواحد وإذا تشاجروا فالولاية للسلطان كما تقدم.
وأما كونه لا يكفي في الملاك للأمة فلكون لكل واحد نصيب من المملوكة واذنه معتبر فيما هو ملك له لا يغنى عنه غيره.
وأما قوله: "وينتقل" الخ فهذا صحيح لأن الكافر مسلوب الأهلية ولهذا تزوج صلى الله عليه وسلم ام حبيبة وعقد لها غير أبيها أبي سفيان لأنه لم يكن قد سلم اذ ذاك.
وهكذا إذا كان الولي غائبا غيبة يضر بالمرأة انتظار عوده وأما مع تعذر مواصلته وخفاء مكانه فلا شك في ذلك إذا كان لا يرجى عوده وظهوره قبل مضى مدة تتضرر المرأة بالانتظار له فيها وهكذا إذا وقع منه عضل فإنه قد آذن بابطال حقه مع تعرضه لمخالفة النهي القرآني ولا بد من تقرر ذلك بوجه شرعي لا بمجرد قول المرأة
[فصل
وشروطه أربعة:
الأول: عقد من ولي مرشد ذكر حلال على ملتها بلفظ تمليك حسب العرف لجميعها أو بعضها أو إجازته قيل ولو عقدها أو عقد صغير مميز أو من نائبه غيرها وقبول مثله من مثله في المجلس قبل الاعراض ويصحان بالرسالة والكتابة ومن المصمت والأخرس بالاشارة واتحاد متوليهما مضيفا في اللفظين والا لزمه أو بطل ويفسده الشغار والتوقيت قيل بغير الموت واستثناء البضع والمشاع وشرط مستقبل ويلفو شرط خلاف موجبه غالبا.
الثاني: اشهاد عدلين ولو اعميين أو عبديهما أو رجل وامرأتين وعلى العدل التتميم حيث لاغيره وعلى الفاسق رفع التغرير وتقام عند المكتوب اليه وفي الموقوف عندالعقد.
الثالث: رضى المكلفة نافذا الثيب بالنطق بماض أو ما في حكمه والبكر بتركها حال(1/359)
العلم بالعقد ما يعرف به الكراهة من لطم وغيره وان امتنعت قبل العقد أو تثيبت الا بوطء يقتضى التحريم أو غلط أو زنا متكررين.
الرابع: تعيينها بغشارة أو وصف أو لقب أو بنتى ولا غيرها أو المتوطأ عليها ولو حملا فإن تنافى التعريفان حكم بالاقوى] .
قوله: "فصل وشروطه أربعة الأول عقد من وليى" الخ.
أقول: الاحاديث الواردة في اعتبار الولي قد سردها الحاكم من طريق ثلاثين صحأبيا وفيها التصريح بالنفي كحديث أبي موسى عندأحمد وأبي دأود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه بلفظ: "لا نكاح الا بولي" فأفاد انتفاء النكاح الشرعي بانفاء الولي وما افاد هذا المفاد اقتضى أن ذلك شرط لصحة النكاح لأن الشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط كما تقرر في الاصول فكيف وقدا خرج أحمد وابو داود والترمذي وابن ماجه حديث عائشة الذي قدمناه وفيه: "أيما امرأة نكحت بغي إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل" وقد قدمنا حديث أبي هريرة: "أن المرأة لا تزوج المراة ولا تزوج المرأة نفسها" فالولي شرط من شروط النكاح التي لا يصح الا بها إذا كان موجودا والا فولاية ذلك إلي السلطان على ما تقدم وقد قدمنا أيضا ان ابن المنذر قال إنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف في اعتبار الولي.
وأما قوله: "مرشد" فلكون غير المرشد لا يصلح لأمر نفسه فكيف يصلح لأمر غيره؟ وقد قدمنا في حديث ام سلمة انها امرت ابنها ان يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها حيث لم يحضر هنالك أحد من أوليائها وكان اذ ذاك صغيرا جدا ولكنه قد قيل انه لا أصل لهذه الزيادة اعني قولها لابنها يا عمر قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما اشتراط كون الولي ذكرا فلما قدمنا من حديث: "لا تزوج المراة المرأة ولا المرأة نفسها"، مع انه لا يشملها لفظ الولي المذكور في الاحاديث.
وأما اشتراط كونه حلالا فقد تقدم تحقيقه في الحج.
وأما كونه على ملتها فلكون الأحكام منقطعة بين المسلم والكافر في الميراث والولاية وغيرهما ولهذا زوج ام حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم غير أبيها أبي سفيان لأنه كان اذ ذاك مشركا.
قوله: "بلفظ تمليك".
أقول: ينبغي ان يكون هذا اللفظ الذي وقع به العقد بلفظ النكاح أو التزويج أو ما يفيد هذا المفاد مما يتعارف به الناس بينهم ولو لم يكن يفيد التمليك وما يفهم من الاعراف المصطلحة بين قوم مقدم على غيره لأن التفاهم بينهم هو باعتبار ذلك الاصطلاح ولم يأت في الكتاب والسنة ما يدل على انه لا يجزئ في هذا الا لفظ أو الفاظ مخصوصة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال في الواهبة نفسها له لمن زوجه بها: "ملكتكها بما معك من القرأن"، [البخاري "9/190"،(1/360)
مسلم "76/1425" أحمد "5/330"، 336"، أبو داود "2111"، النسائي "6/123"، الترمذي "1114"، ابن ماجة "1889"] ، وروى بلفظ: "زوجتكها"، [مسلم "77/1425"، وبلفظ: "زوجناكها"، [البخاؤري "9/90، 91"] ، وبلفظ: "أنكحناكها" [أحمد "5/330"] .
وأما قوله: "أو إجازته" فغير مسلم بل الظاهر ان العقدالواقع من غير الوي غير صحيح في نفسه فلا يصححه الاجازة وأما عقدالنكاح من نائب الولي فصحيح لان عقد نائبه كعقده فقد وقع على وجه من الابتداء.
قوله: "وقبول مثله".
أقول: لا يتم العقدا لا بالايجاب والقبول ولكن إذا تقدم السؤال كان مغنيا عن القبول كما في حديث: زوجنيها يا رسول الله, قال: "زوجتكها" وقد كان مثل هذا هو الغالب في أيام النبوة.
وأما قوله: "في المجلس قبل الاعراض" فلكون التراخي عن القبول حتى يتفرقا من المجلس يدل على عدم الرضا وهكذا إذا وقع الاعراض ولكنه إذا قبل بعدالمجلس أو بعد أن اعرض ولم يحصل من المتكلم بالايجاب ما يدل على رجوعه عن إيجابه فهو مقبول لعدم وجود دليل من شرع أو عقل يدل على انه لا حكم لما وقع بعدالمجلس أو بعد الاعراض إذا لم يرجع المتكلم بالايجاب عن ذلك.
وأما صحة العقد بالرسالة والكتابة ومن المصمت والاخرس بالاشارة فلا نزاع في مثله ولم يرد ما يدل على أنه لا بد ان يكون لفظا.
وأما كونه يصح اتحاد متوليهما مضيفا فلعدم ورود ما يدل على المنع من ذلك وأيضا قد قدمنا حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة؟ " قال: نعم, وقال لمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانا؟ " قالت نعم فزوج احدهما صاحبه.
قوله: "ويفسده الشغار".
أقول: الأحاديث الصحيحية الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة فيها التصريح بالنهي عن الشغار وفيها التفسير له بأنه أن يزوج الرجل ابنته أو أخته من الرجل على أن يزوجه ابنته أو أخته وليس بينهما صداق وهذا التفسير روى موقوفا ومرفوعا والنهي حقيقة في التحريم المقتضى للفساد المرادف للبطلان.
وما ذكره من الفرق بين النهي لذات الشيء أو لجزئه أو لأمر خارج عنه هو مجرد رأي بحث ودعوى محضة بل كلها نهى عنه الشارع فقد منع العباد من قربانه والتلبس به وذلك هو معنى كونه غير مأذون فيه وغير شرعي وما كان كذلك فليس من أمره صلى الله عليه وسلم وما لم يكن من امره فهو رد وهذه التفرقة بين أقسام النهي صارت عصا يتوكأ بها من يريد دقع الدليل بمجرد القال والقيل وصارت ذريعة للمغالطة والمراوغة والهرب من الحق على أنه قد ورد ها هنا التصريح بنفي هذا النكاح كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا شغار في(1/361)
الإسلام" والنفي يتوجه إلي الذات حقيقة ولا مانع من ذلك لأن المراد الذات الشرعية وعلى تقدير وجود مانع فأقرب المجازين اليها نفي الصحة وبنفي الصحة يحصل المطلوب.
ولا يختص الشغار بالبنات والاخوات بل حكم غيرهن من القرائب حكمهن وقد حكى النووي الاجماع على ذلك.
قوله: "والتوقيت".
أقول: اعلم ان النكاح الذي جاءت به هذه الشريعة هو النكاح الذي يعقده الأولياء للنساء وقد بالغ الشارع في ذلك حتى حكم بأن النكاح الواقع بغير ولي باطل وكرر ثلاثا ثم النكاح الذي جاءت به هذه الشريعة هو الكاح الذي أوجب الشارع فيه إشهاد الشهود كما ثبت ذلك بالاحاديث ثم النكاح الذي شرعه الشارع هو النكاح الذي يحصل به التوارث ويثبت به النسب ويترتب عليه الطلاق والعدة وإذا عرفت هذا فالمتعة ليست بنكاح شرعي وإنما هي رخصة للمسافر مع الضروروة ولا خلاف في هذا ثم لا خلاف في ثبوت الحديث المتضمن للنهي عنها إلي يوم القيامة وليس بعد هذا شيء ولا تصلح معارضته بشيء مما زعموه وما ذكروه من انه استمتع بعض الصحابة بعدموته صلى الله عليه وسلم فليس هذا ببدع فقد يخفى الحكم على بعض الصحابة ولهذا صرح عمر بالنهي عن ذلك وأسنده إلي نهيه صلى الله عليه وسلم لما بلغه ان بعض الصحابة تمتع فالحجة إنما هي فيما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما فعله فرد أو أفراد من الصحابة وأما المرأوغة بان التحليل قطعي والتحريم ظني فذلك مدفوع بأن استمرار ذلك القطعي ظني بلا خلاف والنسخ إنما هو للاستمرار لا لنفي ما قد وقع فإنه لا يقول عاقل بأنه ينسخ ما قد فرغ من فعله ثم قد اجمع المسلمون على التحريم ولم يبق على الجواز الا الرافضة وليسوا ممن يحتاج إلي دفع اقوالهم ولا هم من يقدح في الاجماع فإنهم في غالب ما هم عليه مخالفون للكتاب والسنة ولجميع المسلمين قال ابن المنذر جاء عن الأوائل الرخصة فيها يعني المتعة ولا أعلم اليوم احدا يجيزها الا بعض الرافضة وقال القاضي عياض اجمع العلماء على تحريمها الا الروافض وقال ابن بطال واجمعوا الان على انه متى وقع يعني المتعة ابطل سواء كان قبل الدخول أو بعده وقال الخطابي تحريم المتعة كالاجماع الا عن بعض الشيعة.
قوله: "واستثناء البضع والمشاع".
أقول: العقد إذا وقع على وجه الصحة فهذا الاستثناء الذي يتضمن تحريم الحلال لاحكم له ولا عمل بما يقتضيه بل هو مدفوع ممنوع كما لو قال بعدالفراغ من العقد ولا يطؤها أولا ينظر اليها أو نحو هذه الامور التي لا ثبات لها في الشرع بل هي من افعال الجأهلين لسر الشريعة ولا فرق بين الاستثناء والشرط فإن الكل إذا تضمن تحليل الحرام أو تحريم الحلال كان باطلا ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، [البخاري "4/369، 370"، مسلم "1504"، أبو داود "3929"، النسائي "6/164 – 165، 7/305، 306"، الترمذي"21424"، ابن ماجة "2512"، أحمد "6/81، 82، 183، 206، 213، 271، 272"] ، فعرفت بهذا انه لا وجه لقوله واستثناء البضع والمشاع وشرط مستقبل وقد اصاب حيث قال: ويلغوا شرط(1/362)
خلاف موجبه وليست هذه الشروط هي التي أمر الله بالوفاء بها كما في حديث "أحق الشروط:ن تفوا به ما استحللتم به الفروج" [البخاري "5/323"، مسلم "63/1418"، أحمد "4/144، 150"، أبو داود "2139"، الترمذي "1127"، النسائي "6/92، 93"، ابن ماجة "1954"] ، فإن هذا في الشروط التي لا تحلل حرأما ولا تحرم حلالا كأن يشترط لها ان يكون لها من الطعام كذا أو من الكسوة كذا أو شرط لها ان لا يكلفها شيئا من الاعمال ونحو ذلك.
قوله: "الثاني اشهاد عدلين".
أقول: في الباب أحاديث يقوى بعضها بعضا منها عند أحمد والدارقطني والبيهقي وشار اليه الترمذي وفي إسناده ابن محرر وهو متروك ولفظه: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ومنها عن عائشة مرفوعا بهذا اللفظ أخرجه الدارقطني والبيهقي ووفي إناده مقال ومنها عن ابن عباس بنحوه وقد روى مرفوعا وموقوفا ومنها عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا عندالبيهقي بلفظ: "لا نكاح إلا بأربعة: خاطب وولي وشاهدين" وفي إسناده ضعيف ومنها عن عائشة غير حديثها الأول عند الدارقطني بلفظ: "لا بد في النكاح من أربعة الولي والزوج والشاهدين" وفي إسناد مجهول وروى نحوه البيهقي في الخلافيات عن ابن عباس موقوفا وصححه ورواه ابن أبي شيبة عنه أيضا ومنها عن أنس أشار اليه الترمذي ومنها عن ابن عباس عند الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البغايا اللاتي ينكحن انفسهن بغير بينة"، ومنها عندالشافعي عن الحسن مرسلا كحديث عمر ان بن حصين ومنها عن أبي الزبير المكي ان عمر بن الخطاب اتى بنكاح لم يشهد عليه الا رجل وامراة فقال هذا نكاح السر ولا اجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمت أخرجه مالك في الموطأ وظاهر الاحاديث المقتضية للنفي ان الاشهاد شرط للنكاح لا يصح بدونه لما قدمنا ان النفي حقيقة يتوجه إلي الذات الشرعية فيفيدارتفاعها بارتفاعه وذلك معنى الشرط وعلى فرض وجود قرينة تدل تمنع من اعتبار المعنى الحقيقي فنفي الصحة أقرب المجازين إلي الذات وذلك يفيدالشرطية أيضا قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم قالوا لا نكاح الا بشهود لم يختلفوا في ذلك من مضى منهم الا قوم من المتأخرين من أهل العلم
وإنما اختلف أهل لعلم في هذا إذا شهد واحد بعد واحد فقال اكثر أهله العلم من الكوفة وغيرهم لا يجوز النكاح حتى يشهد الشاهدان معا عند عقدة النكاح وقد روى بعض أهل المدينة إذا شهد واحد بعد واحد فإنه جائز إذا اعلنوا ذلك وهو قول مالك ابن أنس وغيره وقال بعض أهل العلم يجوز شهادة رجل وأمرتين في النكاح وهو قول لأحمد وإسحاق انتهى كلام الترمذي.
وأما قوله: "وعلى العدل التتميم" فمبني على ان ذلك فرض كفاية على العدول ولا دليل يدل على ذلك.
وأما قوله: "وعلى الفاسق رفع التغرير" فلتصريح الاحاديث باعتبار العدالة فلا يجوز لمن علم من نفسه انه غير عدل ان يشهد على النكاح.(1/363)
وأما كونها تقام عند المكتوب اليه وفي الموقوف عند العقد فلكون هذين المقامين هما اللذان ينجز عندهما النكاح ولا يضر توقف الموقوف على شيء آخر وهو الاجازة.
وقوله: "الثالث رضاء المكلفة" الخ
أقول: قد دلت الاحاديث الصحيحة على انه لا يتم نكاح الا برضا المنكوحة كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "9/191"] ، وغيرهما [أبو داود "2092"، الترمذي "1107"، النسائي "6/85"، ابنن ماجة "1871"، أحمد "2/250، 279، 425، 434، 475"] ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تسأذن"، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت"، وفي مسلم وغيره من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثيت احق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها"، وأخرج البخاري "9/194"، وغيره أبو داود "2101"، النسائي "6/86"، ابن ماجة"1870"] ، عن خنساء بنت خدام الأنصارية ان أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها والاحاديث في هذا الباب كثيرة وهي تفيد انه لا يصح نكاح من لم ترض بكرا كانت أو ثيبا.
قوله: "الرابع تعيينها" الخ.
أقول: هذا أمر لا بد منه ولولا ذلك لم يكن العقد على شيء يعقد ولا يسمى عقدا أو لا تثبت له أحكامه ويكون التعيين مما يفيد ذلك من ذكر اسم المنكوحة أو نسبها أو وصفها أو الاشارة اليها أوسبق التواطؤ عليها. وإذا تنافى التعريفان كان العمل على الاقوى منهما كما قال المصنف الا ان يعرف بقرينة حال أو مقال ان مطلوب الزوج هو ما تضمنه التعريف الاضعف فإن ذلك اليه ولا اعتبار بمجردا لالفاظ ونحوها إذا خالفت ما في النفس.
قوله: "ويصح موقوفا حقيقة أو مجازا".
أقول: العقد مثلا إذا وقع من الولي فزوج الخاطب ولم يكن قد وقع الرضا من المرأة فهذا عقد في الصورة إن أجازته كان عقدا صحيحا يستباح به وطؤها وإن لم تجزه كان وجوده كعدمه وهكذا إذا زوج الخاطب غير الولي.
والمراد من صحة كونه موقوفا على الاجازة انه لا يحتاج عندالاجازة إلي تجديد عقد آخر بل يكفي مجرد وقوعها وكان الظاهر ان العقدا لواقع بغير رضاء المرأة أو من دون ولي باطل لا حكم له ولا ينعقد من اصله وانه لا بد من عقدآخر عند رضاء المرأة أو عقد آخر من الولي ولكنه ثبت ما قدمناه عند البخاري وغيره من حديث خنساء بنت خدام الانصارية ان أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها فإن قوله فرد نكاحها يدل على ان العقد الذي قد كان وقع يسمى نكاحا وأنها لو رضيت به لم يحتج إلي تجديد.
ومن ذلك ما أخرجه أحمد "4/155"، وابو دأود "2096"، وابن ماجه "1875"،(1/364)
والدارقطني بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عباس أن جارية بكرا اتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا التخيير يدل على أن العقدا لواقع قدن نفذ بإجازتها ولا يحتاج إلي تجديد.
ومن ذلك ما أخرجه أحمد باسناد رجاله ثقات وأخرجه أيضا الدارقطني عن ابن عمر قال توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن اميه بن حارثة الأوقصى وأوصى إلي اخيه قدامة بن مظعون فخطبت إلي قدامة بن مظعون فزوجنيها ودخل المغيرة بن شعبة إلي امها فأرغبها في المال فحطت اليه وحطت الجارية إلي هوى امها فترافعوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها".
وكما تدل هذه الأحاديث على أن العقد يكون موقوفا على إلاجازة فهي تدل أيضا على ما ذكره المصنف من تخيير الصغيرة إذا بلغت ولا تحتاج في إثبات خيارها إلي قياسها على بريرة حيث خيرها النبي صلى الله عليه وسلم لما عتقت بين البقاء تحت زوجها أو فسخه.
ولا يقال أن ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث هو كان قبل الدخول لأنا نقول الصغيرة لا حكم للرضا منها قبل بلوغها ولا يكون الدخول بها دليلا على أنها قد رضيت.
وإذا ظهر ذلك هذا عرفت أنه لا وجه لقوله إلا من زوجها ابوها كفئا لا يعاف فإن هؤلاء النساء المذكورات في هذه الأحاديث الثلأثة زوجهن اباؤهن بأكفانهن فإن العرب أكفاء لبعضهم البعض.
وأما الاستدلال على هذا الاستثناء بحديث: "أنت ومالك لأبيك" فغير مطابق لمحل النزاع ومما ينبغي أن يذكر ها هنا مع تلك الثلاثة الأحاديث حديث عبد الله بن بريرة عن أبيه قال جاءت فتاة إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أن أبي زوجني ابن اخيه يرفع بن خسيسته قال فجعل الأمر اليها فقالت قد اجزت ما صنع ولكني اردت أن اعلم النساء أن ليس إلي الأباء من الأمر شيء أخرجه ابن ماجه برجال الصحيح وأخرجه أيضا أحمد والسنائي من حديث عبد الله بن بريدة عن عائشة وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر اليها ولم يكن ذلك لعدم الكفاءة كما يفيده قولها ليرفع بي خسيسته فإن أباها قد زوجها بابن اخيه وهو كفء لها وإنما جعله اليها لعدم الرضا منها ولهذا نفذ العقد بإجازتها.
وأما قوله: "وكذا الصغير في الاصح" فقد استدل لهذا إلالحاق بالقياس وهو قياس قوي لاشتراكهما في كثير من الأحكام ولكنه يقال ها هنا فارق اقوى من هذا الجامع الذي كان به إلالحاق وهو أن الصغير عند بلوغه يملك الطلاق ويقدر على تخليص نفسه به بخلاف الصغيرة عند بلوغها فإنه لا مخرج لها من عقدة نكاح من صارت في عقده إلا بالفسخ.
وأما قوله: "ويصدق مدعي البلوغ بإلاحتلام فقط محتملا" فوجهه أنه لا يمكن إقامة البينة على هذا السبب المعدود من اسباب البلوغ بخلاف غيره من الأسباب فإن الحيض يمكن أن(1/365)
تشهدالعدلة والعدلات على خروج لدم من الفرج وكذلك الانبات فإنه أمر يمكن مشاهدته والشهادة عليه وهكذا مقدار العمر فإنه يمكن قيام الشهادة عليه بأنه مولود في سنة كذا وان عمره إلي وقت التنازع كذا وهكذا الحبل فإن عظم البطن حركة الجنين فيه مما يمكن إقامة البيئة عليه فهذا وجه تخصيص المصنف للاحتلام مع الاحتمال.
[فصل
ومتى انفق عقدا وليين مأذونين مستويين لشخصين في وقت واحد أو أشكل بطلا مطلقا وكذا إن علم الثاني ثم التبس الا لإقرارها بسبق احدهما أو دخول برضاها]
قوله: "فصل ومتى اتفق عقدا وليين" الخ.
أقول: لا وجه لبطلانهما بل ينبغي ان يقال إن الامر مفوض إلي المرأة فمن اجازت عقده كان صحيحا وبطل الاخر ويدل على هذا ما قدمنا من الاحاديث في الفصل قبل هذا ويدل عليه أحاديث الاستئمار واحاديث الثيب احق بنفسها من وليها ولا ينافي هذا كونها قد أذنت لهما لأن من المعلوم أن إذنها لا ينصرف إلي ان يزوجها برجلين فإن ذلك معلوم البطلان.
وهكذا الكلام في قوله: "وكذا إن علم الثاني ثم التبس" وأما إذا علم المتقدم من العقدين فإنه يصح ويبطل الثاني ويدل على ذلك "أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول" كما أخرجه أبو دأود من حديث سمرة
[فصل
والمهر لازم للعقد لا شرط وإنما يمهر مال أو منفعة في حكمة ولو عتقها مما يسأوي عشر قفال خالصة لا دونها ففاسدة فيكمل عشرا وينصف كما سيأتي ولها فيه كل تصرف ولو قبل القبض والدخول والابراء من المسمى ملطقا ومن غيره بعد الدخول ثم إن طلق قبله لزمها مثل نصف المسمى ونحو ذلك وفي رده بالرؤية والعيب اليسير خلاف وإذا تعذر أو استحق فقيمته منفعة كان أو عينا] .
قوله: فصل: "والمهر لازم للعقد لا شرط".
أقول: لم يرد ما يدل على ان المهر شرط من شروط العقد أو ركن من أركانه وأما قوله سبحانه: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ،فالمراد ان المهر واجب(1/366)
للمنكوحة لا يجوز مطلها منه ولو كان العقد لا يصح الا بالمهر لم يقل الله عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] ، فإن هذه الآية تفيد ان العقد قد يقع قبل فرض المهر ويؤيد هذا ما أخرجه أبو دأود وابن ماجه من حديث عائشة قالت امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ادخل امراة على زوجها قبل ان يعطيها شيئا قال البيهقي وصله شريك وأرسله غيره ومثله ما أخرجه أبو دأود من حديث عقبة بن عامر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج امرأة من رجل ممن شهد بدرا ولم يفرض لها صداقا حتى إذا حضرته الوفاة قال إن زوجتي فلانة لم افرض لها صداقا وإني اشهدكم اني قد أعطيتها سهمي في خيبر فباعته بعدموته بمائة الف.
وأما ما أخرجه أبو دأود والنسائي والحاكم وصححه من حديث ابن عباس قال لما تزوج على فاطمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئا"، قال ما عندي شيء قال: "أين درعك الحطمية؟ "، وفي رواية لأبي داود ان النبي صلى الله عليه وسلم منعه حتى يعطيها شيئا فليس فيه ذكر المهر ولا ان هذا من المهر والا لزم ان لا يحل الدخول الا بعد تسليم المهر أو تسليم شيء منه وهو خلاف الاجماع.
قوله: "وإنما يمهر مال أو منفعة في حكمه".
أقول: أما المال فظاهر واليه ينصرف ما في الايات القرآنية والاحاديث النبوية وأما المنفعة فقد دل على ذلك حديث سهل بن سعدالثابت في الصحيحين وغيرهما انها جاءت امراة إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك وفيه أنه قام رجل فقال زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ "، فقال ما عندي الا إزاري هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن اعطيتها إزارك جلست لا ازار لك فالتمس شيئا"، فقال: ما أجد شيئا فقال: "التمس ولو خاتما من حديد"، فالتمس فلم يجد شيئا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء؟ "، قال: نعم سورة كذا وسورة كذا لسور يسميها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد زوجتكها بما معك من القرآن".
وأما ما رواه ابن أبي شيبة مرسلا عن أبي النعمان الازدي قال زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سور من القرأن فقال: "لا يكون لاحد بعدك مهرا"، فهو مع كونه مرسلا ففي إسناده من لا يعرف كما ذكره ابن حجر في الفتح.
وفي الباب عن أبي هريره عند أبي داود والسائي وعن ابن مسعود عند الدارقطني وعن ابن عباس عند أبي الشيخ وعن ضميرة عند الطبراني وعن أنس عند البخاري وعن أبي أمامة عند تمام في فرائده وعن جابر عند أبي الشيخ وكلها متضمنة لما في حديث سهل بن سعد.
قوله: "ولو عتقها"،
أقول: هذا شرع ثابت وفيه حديث أنس في الصحيحين [اليخاري "1/480"، مسلم(1/367)
"84/1365"] ، وغيرهما أبو داود "2054"، الترمذي "1115"، النسائي "6/114"، ابن ماجة "1957"] ، ان النبي صلى الله عليه وسلم اعتق صفية وتزوجها فقال له ثابت ما اصدقها قال نفسها اعتقها وتزوجها وفي لفظ للبخاري وجعل عتقها صداقها.
قوله: "مما يساوي عشر قفال" الخ.
أقول: لم يثبت في هذا شيء تقوم به الحجة وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمس ولو خاتما من حديد"، فينبغي ان يكون ما في هذا الحديث هو اقل المهر ويؤيده ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عامر بن ربيعة ان امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ " قالت: نعم, فأجازه.
وأخرج أحمد وابو دأود من حديث جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعأما كانت له حلالا"، وفي إسناده موسى بن مسلم وقيل مسلم بن رومان وهو ضعيف.
وبهذا يتضح لك انه لا وجه لجعل تسمية ما دون العشر فاسدة ولا لوجوب التكميل عشرا وأما ما ذكره من جواز تصرفها فيه وابرائها منه فلكونه قد صار ملكا لها وهذا شأن كل ملك يملكه الإنسان والفرق بين عموم التصرف وخصوص الابراء مجرد رأي يرجع إلي قواعد قد ذكروها ليس عليه أثارة من علم.
وأما رد المهر بالرؤية والعيب فلها ذلك لأنه مال استحقته بالشرع فلا يلزمها قبوله على غير الصفة التي ترتضيها ما لم يكن الرد تعنتا بلا سبب فليس لها ذلك وإذا تعذر أو استحق حتى لم يمكن الظفر بالعين ولا بما يماثلها فليس لها الا القيمة وذلك غاية ما يمكن فلا يجب عليه غيره.
[فصل
ومن سمى مهرا تسمية صحيحية أو في حكمها لزمه كاملا بموتهما أو احدهما بأي سبب وبدخول أو خلوة الا مع مانع شرعي كمسجد أو عقلي فيهما أو فيها مطلقا أو فيه يزول ونصفه فقط بطلاق أو فاسخ قبل ذلك من جهته فقط لا من جهتهما أو من جهتها فقط حقيقة أو حكما فلا شيء ومن لم يسم أو سمى تسمية باطلة لزمه بالوطء فقط مهر مثلها في صفاتها من قبل أبيها ثم امها ثم بلدها وللأمة عشر قيمتها وبالطلاق المتعة ولا شيء بالموت الا الميراث ولا بالفسخ ملطقا] .(1/368)
قوله: فصل: "ومن سمى مهرا تسمية صحيحة" الخ.
أقول: حديث أن امراة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقا ولم يكن دخل بها فقال عبد الله بن مسعود ارى لها مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الاشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع ابنة واشق بمثل ما قضى أخرجه أحمد وأهل السنن والحاكم وابن حبان والبيهقي وصححه الترمذي وابن مهدي وغيرهما فيه دليل على ثبوت المهر بالموت بطريق الأولى لأنه إذا ثبت مع عدم التسمية يثبت معها بفحوى الخطاب فهذا الحديث يكفي في الاستدلال به على ان الموت يجب به المهر والميراث.
وأما قوله سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فلا معارضة بينه وبين هذا الحديث لأن هذا الحديث في الموت والاية في الطلاق وقياس الموت على الطلاق قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار والحديث صحيح وله شواهد ولم يصب من اعله بالاضطراب وبين الاضطراب بأنه روى مرة عن معقل بن سنان ومرة عن رجل من اشجع أو ناس من اشجع وقيل غير ذلك قال البيهقي قد سمى فيه معقل بن سنان وهو صحابي مشهور والاختلاف فيه لا يضر فإن جميع الروايات صحيحة وفي بعضها ما دل على ان جماعة من اشجع شهدوا بذلك.
وأما ما روي عن الشافعي انه قال إن صح حديث بروع بنت واشق قلت به فقد قال الحاكم قال شيخنا أبو عبد الله لو حضرت الشافعي لقمت على رءوس الناس وقلت قد صح الحديث فقل به.
قوله: "وبدخول أو خلوة".
أقول: أما الدخول فظاهر ولا خلاف فيه والنصوص متطابق عليه وأما الخلوة فلم يكن في المقام ما ينتهض للاحتجاج به ولم يصح من المرفوع ما تقوم به الحجة وأما اقوال بعض الصحابة فلا حجة فيها ولاس يما مع اضطرابها واختلافها وقد قال عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فإن كان المراد بالمس الجماع فظاهر ان الخلوة ليست بجماع وإن كان المس اعم من الجماع وهو وضع عضو منه على عضو منها فليست الخلوة المجردة مسا وإن أرخى عليها مائة ستر ونظر إليها ألف نظرة.
وإذا عرفت هذا فلا حاجة بنا إلي التكلم على الخلوة الصحيحة والفاسدة.
قوله: "ونصفه بطلاق أو فاسخ قبل ذلك".
أقول: أما استحقاق النصف بالطلاق فبقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وأما استحقاقه بالفسخ فقيل قياسا على الطلاق بجامع العقد والتسمية وفي النفس من هذا القياس شيء ثم في النفس أيضا من كون الموجب لذلك(1/369)
هو الفسخ من جهته فقط ويمكن ان يقال إن الزوج لما اختار إخراجها عن عقد نكاحه بالفسح كان ذلك كالطلاق منه بخلاف ما لو كان الفسخ من جهتها أو جهتهما معا.
قوله: "ومن لم يسم أو سمى تسمية باطلة لزمه بالوطء فقط مهر مثلها في صفاتها".
أقول: أما لزوم المهر بالوطء فأمر أوضح من شمس النهار لأنه بما استحل من فرجها وأما كون اللازم مهر المثل فقد قدمنا في حديث معقل بن سنان في أول هذا الفصل ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بأن لها مثل نسائها حيث لم يفرض لها زوجها صداقا وهو دليل قوى ومستند سوى ومتمسك جلي ولفظ نسائها يقتضي ان الاعتبار بمهر قرائبها لأنهن اخص من يضاف اليها واخصهن قرائبها من قبل الاب ثم من قبل الام ثم سائر النساء المماثلات لها في المنصب والمسكن والقبيلة لان بينها وبينهن ملابسة مصححة للإضافة.
وقوله: "وللأمة عشر قيمتها".
أقول: ليس هذا مرجع إلي رواية صحيحة ولا رأي مقبول وما قبل من انه قياس على مهر بناته صلى الله عليه وسلم وزوجته وكان جملة مهر كل واحدة خمسمائة درهم وهو عشر الدية فلزم للأمة عشر قيمتها فهذا غلط فإن الدية عشرة آلاف درهم وعشرها الف لا خمسمائة فالظاهر انه يرجع في مهور الاماء إلي مهر امثالهن إن وجدن والا فالرجوع إلي نصف مهر غالب الحرائر أولى لوقوع التنصيف للعبيد والاماء في كثير من الأحكام.
قوله: "وبالطلاق المتعة".
أقول: تمتيع المطلقة قبل الدخول ثابت بقوله عز وجل: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] ، فهذه الآية فيها الامر بالمتعة للمطلقة قبل الدخول فأفاد ذلك الوجوب ودل على ذلك أيضا قوله تعالي: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 237] ، قدره فهذا الامر يدل أيضا على الوجوب فمن قال بأن المتعة لا تجب الا للمطلقة قبل الدخول إذا لم يفرض لها الزوج فريضة لا إذا فرض لها فريضة فإنها تستحق نصف ما فرض لها بقوله تعالي: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فعلله أراد الجمع فيكون هذا جمعا بين هذه الايات.
وأما قوله سبحانه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، فظاهرها إيجاب المتعة لكل مطلقة مدخولة أو غير مدخولة مع الفرض ومع عدمه وقد ذهب إلي ذلك جماعة من السلف ووجهه انها عامة لكل مطلقة والتنصيص على غير المدخولة التي لم يفرض لها صداق تنصيص على بعض أفراد العام فلا ينافى بقية الأفراد ويمكن ان يجيب عن هذا من خصص الوجوب بغير المدخولة التي لم يفرض لها صداق بأن الايتين قد اشتملتا على قيدين لهما مفهوم معمول به فيقيد بهما هذه الآية العامة ومجموع هذه الايات قد دلت على(1/370)
وجوب المتعة دلالة واضحة بينة بالامرين في الايتين الأوليين وبقوله: {حَقّاً} في الآية الثالثة. ولم يبق بيد من قال بعدم الوجوب الا مجرد المرأوغة والمغالطة.
قوله: "ولا شيء بالموت الا الميراث".
أقول: قد قدمنا في أول هذا الفصل حديث معقل بن سنان الاشجعي وهو نص في محل النزاع ودلالته على وجوب مهر المثل كاملا والميراث إذا مات الزوج قبل الدخول أوضح من شمس النهار ولم يأت من ذهب إلي خلافه بشيء يعتد به والمصير إلي القياس مع وجود النص مدفوع بلا خلاف بين طائفتي المثبتين للقياس والنافين للعمل به.
قوله: "ولا الفسخ مطلقا".
أقول: أي لا مهر ولا متعة ولا ميراث أما عدم ايجاب المهر فلأن الله سبحانه إنما شرعه للمطلقات وأما عدم المتعة فلتصريح الايات القرآنية بأنها للمطلقات وأما عدم الميراث فلكون حديث معقل واردا في الموت فمن قال بإيجاب شيء من هذه في الفسخ لم يكن له دليل الا مجرد القياس على الطلاق وعلى صحة هذا القياس فهو لا يكون الا في الفسخ من جهة الزوج لأنه وقع بالفسخ التسريح كما يقع بالطلاق ولكن الآية التي اثبتت نصف المهر بالطلاق قبل الدخول مصرحة بوقوع الفريضة فقال عز وجل: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] ، وهذه المفسوخة لم يفرض لها.
والحاصل انه لا بد من وجود المقتضى للإيجاب على الزوج سالما عن شوائب الدفع والمنع والنقص ومن لم يقل بالشيء لعدم وجودا لدليل فقد سلك الطريق البينة والمهيع الواضح.
[فصل
وتستحق كل ما ذكر في العقد ولو لغيرها أو بعده لها ويكفي في المراز ذكر القدر والناحية وفي غيرها الجنس فيلزم الوسط وما سمى بتحيير تعين الاقرب إلي مهر المثل غالبا وبجمع تعين وإن تعدى مهر المثل ومن مريض لم يتمكن بدونه فإن بطل أو بعضه ولو غرضا وفيت مهر المثل كصغيرة سمى لها غير أبيها دونه أو كبيرة بدون رضاها ولو ابوها أو بدون ما رضيت به أو لغير من اذنت بالنقص له مع الوطء في الكل قيل والنكاح فيها موقوف لا ينفذ الا باجازة العقد غير مشروط يكون المهر كذا وكالشرط اجزنا العقد لا المهر وكالاجازة التمكين بعد العلم] .
قوله: فصل: "وتستحق كل ما ذكر في العقد ولو لغيرها أو بعده لها".
أقول: قد دل على هذا ما أخرج أحمد "2/182"،وابو دأود "2129"،والنسائي(1/371)
"6/120"،وابن ماجه "1955"] ، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنته وأخته"، وليس في هذا الحديث مقال الا ما يروى في قول عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقد وقع العمل بحديثه في كثير من الأبواب وحسنه من حسنه في مواضع ومن دون عمرو بن شعيب ثقات وفيه دلالة على ان جميع ما ذكر قبل العقد أو حاله يكون مستحقا للمرأة وأما بعده فيكون لمن جعل له من الأولياء إذا لم يجعل للمرأة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنته وأخته"، وما كان للمصنف رحمه الله ان يخص ذكر المراز من بين أنواع الارض وكان ينبغي له ان يقول ويكفي في الارض.
وأما لزوم الوسط فظاهر وهكذا لزوم الاقرب إلي مهر المثل فيما سمى بتخيير وهكذا لزوم الجميع فيما سمى بجمع لأن ذلك هو مقتضى الصيغة الجامعة ولا فائدة للتنصيص على نفوذه من المريض فإن تصرفه في ماله باق ما دام حيا أما من الجميع أو من الثلث ولا وجه للزوم مهر المثل إذا بطل المسمى أو بعضه بل يلزم قدر قيمة المسمى سواء كان فوق مهر المثل أو دونه لأن الولي والمرأة إنما رضيا بالمسمى فكان الرجوع إلي قيمته هو المتعين.
وأما الصغيرة التي سمى لها غير أبيها دون مهر المثل فلا شك ان لها المطالبة بالتوفية اليه الا ان يكون ذلك لمصلحة راجحة لها في الحال كأن تكون محتاجة إلي النفقة أولا يوجد من يقوم بمالها الا بدون مهر المثل فإنه لا يجوز لها المطالبة بعد ذلك بالتوفية إلي مهر المثل وأما إذا لم يكن ذلك لمصلحة فلها المطالبة ولو كان الذي زوجها بدون مهر المثل هو ابوها فالمدار في هذا على المصلحة.
وأما الكبيرة إذا سمى لها وليها دون مهر المثل بغير رضاها أو بدون ما رضيت أو لغير من اذنت بالنقص له فهي على حجتها ولها المطالبة بالتوفية إلي مهر المثل وهذا ظاهر ولا وجه لقوله مع الوطء في الكل بل لها المطالبة على كل حال ولكنه بنى على ما تقدم له من ان مهر المثل مع عدم التسمية لا يستحق الا بالوطء ولا وجه لقول من قال إن النكاح في هذه الصورة موقف ولا لما تفرع عليه.
[فصل
ولها الامتناع قبل الدخول برضا الكبيرة وولى مال الصغيرة حتى يسمى ثم حتى يعين ثم حتى يسلم ما لم يؤجل وما سماه ضمنه وناقصه حتى يسلم لا الزيادة الا بجنايته أو تغلبه فإن وطيء قبله المصدقة جهلا لزمه مهرها ولا حد ولا نسب ولا تصير ام ولد(1/372)
وتخير بين عينيهما أو قيمتهما ومهر المثل ثم إن طلق قبل الدخول عادت له انصفاهما فيعتق الولد ويسعى بنصف قيمته لها] .
قوله: فصل: "ولها الامتناع" الخ.
أقول: المهر من الاموال التي استحت بها الفروج وقد وصانا المصدوق الصادق بالوفاء بها للنساء فلا شك ولا ريب ان لها الامتناع حتى يسلم اليها لأن المطالبة بهذا مطالبة بحق لا بباطل وهو من تمام الامساك بمعروف ولا يمنع حصول الرضا منها بالتأجيل جواز المطالبة بالتسليم فذلك حق لها وحصول الرضا منها في وقت لا يمنع من المطالبة من بعد وإذا كان هذا في الرضا منها فلها المطالبة فيما رضى الولي بتأجيله بلا شك ولا شبهة لأنه لا يجوز للولي ان يقطع عليها حقا هو لها الا إذا كان ذلك لمصلحة كما قدمنا وسيأتي الكلام على لزوم التأجيل إذا كان في عقد وفيه ما سيأتي إن شاء الله.
ولا شك في ضمان الزوج لما نقص من المسمى وأما ما حصل من زيادة فيه كالنتاج والغلة فهو لديه كالوديعة لا يضمن الا بجناية أو تفريط أو غصب.
وأما وطء المصدقة جهلا فله حكم الوطء لشبهة وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالي.
[فصل
ولا شيء في افضاء الزوجة صالحة بالمعتاد لا بغيره أو غيرها كارهة فكل الدية ان سلس البول الا فثلثها مع المهر لها وللمغلو بها ونحوهما ونصفه لغيرهما مكرهة بكرا بالمعتاد وبغيره كله.
قوله: فصل: "ولا شيء في إفضاء الزوجة" الخ.
أقول: وجهه ان الشارع قدا ذن بمطلق الوطء للأزواج فمن وطيء صالحة بالعضو المعتاد فهو لم يفعل الا ما اذن له به الشرع وليس فيما اذن به الشرع مغرم الا بدليل ولا دليل لكن لا بد ان تكون المباشرة على الوجه المعتاد أما إذا كانت على وجه لا يفعله الازواج فهو معتد بمجرد ذلك.
وأما التقييد بكونها صالحة فلكونه قد علم من مقاصد الشرع ان من كانت في سن صغيرة بحيث لا يحتمل مثلها الوطء انه لا يجوز للزوج مباشرتها لما ورد من المنع من الضرار وتأليم الغير واحترام بدنه الا بحقه ولم يكن جماع الصغيرة من الحق المأذون به.
وأما التقييد لذلك بكونه بالعضو المعتاد فظاهر لأن ذلك هو المعروف الذي وقع الاذن به دون ما عداه.(1/373)
وأما إيجاب الدية لمن وقع الافضاء بها بغير المعتاد من الزوجات أو لمن كانت من غير الزوجات فلكون ذلك جناية ولزوم ارشها داخل في العمومات ولكن كون الارش الدية مع سلسل البول والثلث مع عدمه هو مجرد رأي لم يدل عليه دليل وسيأتي الكلام في كتاب الجنايات إن شاء الله.
وفي ايجاب المهر لغير الزوجة مع الارش نظر وأما إيجابه للمغلوط بها ونحوها فظاهر لأنه قد استحل فرجها لشبهة فكان عليه ما يلزم في الفروج الحلال ولا وجه لايجاب النصف لغير الزوجة والمغلوط بها بل ذلك زنا يوجب الحد على الفاعل وهي مع الكراهة لا حد عليها وأما إذا كان إدهاب بكارتها بغير وطء فذلك جناية ولها حكمها.
[فصل
ويترادان على التراخي بالتراضي والا فبالحاكم قبل الرضا بالجنون والجذام والبرص وان عمهما وبالرق وعدم الكفاءة ويردها بالقرن والرتق والعفل وترد بالجب والخصى والسل وإن حدثت بعد العقد لا بعد الدخول الا الثلاثة الأول ولا يرجع بالمهر الا على ولي مدلس فقط ويفسخ العنين بعد إمهاله سنة شمسية غير ايام العذر.
قوله: فصل: "ويترادان على التراخي بالتراضي" الخ.
أقول: من قال إنه يجوز للزوج تسريح زوجته وأخراجها عن عقدة نكاحه بهذا السبب الذي هو الفسخ فهو محتاج إلي دليل يدل على ذلك وهكذا من قال إن للمرأة ان تخلص نفسها من عقد الكاح الواقع عليها بهذا السبب الذي هو الفسخ لم يقبل منه ذلك الا بدليل.
أما الطرف الأول فلم يثبت في ذلك مرفوعا إلي النبي صلى الله عليه وسلم الا ما أخرجه أحمد من حديث كعب بن زيد أو زيد بن كعب ان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امراة من بني غفار فلما دخل عليها فوضع ثوبه وقعد على الفراش ابصر بكشحها بياضا فانحار عن الفراش ثم قال خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما آتاها شيئا وأخرجه سعيد بن منصور في سننه وقال عن زيد بن كعب بن عجرة ولم يشك وقد أخرجه على الشك ابن عدي والبيهقي وأخرجه من حديث كعب بن عجرة الحاكم في المستدرك وأخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر وكذلك أخرجه البيهقي وفي إسنادالحديث الأول جميل بن زيد وهو ضعيف قال جميل بن زيد حدثني شيخ من الانصار ذكر انه كانت له صحبة يقال له كعب بن زيد أو زيد بن كعب فعلى تقدير ان هذه الاحاديث يشهد بعضها لبعض ليست بنص في محل النزاع فإن لفظ: "خذي عليك ثيابك" أو الحقي بأهلك هما يصلحان للطلاق ويحتملانه والمحتمل لا تقوم به الحجة.
وأما ما رواه الدارقطني عن عمر بن الخطاب انه قال: "أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو(1/374)
أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره" وأخرجه مالك في الموطأ والشافعي من طريق مالك وابن أبي شيبة قال ابن حجر في بلوغ المرام ورجاله ثقات فلا يخفاك انه قول صحأبي لا تقوم بمثله الحجة ومثله ما رواه سعيد بن منصور عن علي بن أبي طالب.
وأما الطرف الثاني فليس فيه الا حديث بريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم خيرها لما عتقت وكان زوجها عبدا وهو حديث صحيح وغايته الدلالة على جواز فسخ الامة إذا عتقت لنكاح زوجها إذا كان عبدا لأنها عند ذلك قد ملكت نفسها والحاق غيرها بها الحاق مع الفارق.
وبهذا تعرف انه لا حاجة بنا إلي الكلام على هذه العيوب المذكورة في هذا الفصل وهكذا الفسخ بالعته لم يكن فيه شيء من المرفوع ولا تقوم الحجة بقول الصحابة.
[فصل
والكفاءة في الدين ترك الجهاز بالفسق ويلحق الصغير بأبيه فيه وفي النسب معروف وتغتفر برضا الاعلى والولي قيل الا الفاطمية ويجب تطليق من فسقت بالزنا فقط ما لم تتب] .
قوله: فصل: "والكفاءة في الدين ترك الجهاز بالفسق".
أقول: الكفاءة في الدين معتبرة اتفاقا كما حكاه ابن حجر في الفتح ويدل على ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وقوله تعالي: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] ، ويدل عليه أيضا ما أخرجه الترمذي وحسنه عن أبي حاتم المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير"، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه"، ثلاث مرات.
ونقل المنأوي عن البخاري انه لم يعده محفوظا وعده أبو دأود في المراسيل واعله ابن القطان بالارسال وضعف رواته ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب اليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد عريض"، وفي الحديثين دليل على ان ما لا برضى دينه لا يزوج وذلك هو معنى الكفاءة في الدين والمجاهر بالفسق ليس بمرضى الدين.
قوله: "وفي النسب معروف".
أقول: استدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه ابن ماجه بإسناد رجاله رجال(1/375)
الصحيح من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه ان فتاة جاءت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ان أبي زوجني ابن اخيه ليرفع بي خسيسته قال فجعل الامر اليها فقالت قداجزت ما صنع أبي ولكن اردت ان اعلم النساء انه ليس إلي الاباء من سبيل وأخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة ومحل الحجة منه قولها ليرفع بي خسيسته فإن ذلك مشعر بانه غير كفء لها 2 ولا يخفى ان هذا إنما هو من كلامها وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الامراليها لكون رضاها معتبرا فإذا لم ترض لم يصح النكاح سواء كان المعقود له كفء أو غير كفء وقد قدمنا الكلام في اعتبار الرضا وأيضا هو زوجها ابن اخيه وابن عمر المراة كفء لها.
واستدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة مرفوعا: "إن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه المال"، وبما أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو الحاكم من حديث سمرة مرفوعا: "الحسب المال والكرم التقوى"، ويحتمل ان يكون المراد ان هذا هو الذي يعتبره أهل الدنيا كما صرح به في حديث بريدة وان هذه حكاية عن صنيعهم واغترارهم بالمال وعدم اعتدادهم بالدين فيكون في حكم التوبيخ لهم والتقريع.
وأما ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر انه صلي الله عليه وسلم قال: "العرب أكفاء بعضهم لبعض قبيلة لقبيلة وحي لحي ورجل لرجل الا حائك أو حجام"، فقد ذكر الحافظ أنهموضوع وقد أوضحنا الكلام عليه في كتابنا في الموضوعات الذي سميناه الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة.
وأما ما أخرجه الترمذي عن علي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفئا"، فليس في هذا الحديث ما يدل على اعتبار الكفاءة في النسب بل يحمل على ان المراد إذا وجدت لها كفءا ترضى خلقه ودينه كما في الحديثين السابقين.
وما حديث: "خياركم في الجأهلية خياركم في الإسلام"، [البخاري "6/525"، مسلم "2838"] ، فليس فيه دلالة على المطلوب لأن إثبات كون البعض خيرا من بعض لا يسلتزم ان الادنى غير كفء للأعلى.
وهكذا حديث: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم" فإن هذا الاصطفاء لا يدل على ان الادنى غير كفء للأعلى وقد ثبت أنه صلي الله عليه وسلم زوج مولاء زيد بن حارثة بزينب بنت جحش القرشية وزوج أسامة بن زيد بفاطمة بنت قيس القرشية وزوج عبد الرحمن بن عوف بلالا بأخته وأخرج أبو دأود أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه"، وأخرجه أيضا الحاكم وحسنه ابن حجر في التلخيص.
وأخرج البخاري "9/131"، وغيره النسائي "6/63، 64"، أبو داود "2061" عن عائشة ان أبا(1/376)
حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالما وأنكحه ابنة اخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى امرأة من الانصار.
وإذا تقرر لك هذا عرفت ان المعتبر هو الكفاءة في الدين والخلق لا في النسب لكن لما اخبر صلى الله عليه وسلم بان حسب أهل الدنيا المال وأخبر صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح "مسلم "3/45"، عنه ان في امته ثلاثا من أمر الجأهلية الفخر بالاحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة كان تزويج غير كفء في النسب والمال من اصعب ما ينزل بمن لا يؤمن بالله واليوم الاخر ومن هذا القبيل استثناء الفاطمية من قوله ويغتفر برضا الاعلى والولي وجعل بنات فاطمة رضي الله عنها أعظم شرفا وأرفع قدرا من بنات النبي صلى الله عليه وسلم لصلبه فيا عجبا كل العجب من هذه التعصبات الغريبة والتصلبات على أمر الجأهلية.
واعجب من هذا كله ما وقع للجلال من نقل الاكاذيب المفتراة في شرحه لهذا الموضع وهو مصداق ما اخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ان تلك الخصال المذكورة في الحديث السابق كائنة في أمته وانها لا تدعها امته في جأهلية ولا إسلام كما وقع في الصحيح وإذا لم يتركها من عرف انها من امور الجأهلية من أهل العلم فكيف يتركها من لم يعرف ذلك والخير كل الخير في الانصاف والانقياد لما جاء به الشرع ولهذا أخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهقال: "أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس".
قوله: "ويجب تطليق من فسقت بالزنا ما لم تتب".
أقول: إذا كان الاستمرار على نكاح الزانية كابتدائه كان قوله عز وجل: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] ، دليلا على تحريم إمساك من زنت ووجوب تطليقها ولكن في الحديث الصحيح "ابن ماجة 1851"، الترمذي "1163"، "واتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم"، حتى قال: "إلا ان يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"، بدل على جواز إمساك الزانية بعد هجرها وضربها لأن الظاهر ان الفاحشة المبينة هي الزنا.
وأما ما أخرجه أبو دأود والنسائي من حديث ابن عباس ان رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال: "غربها" فقال: أخاف أن تتبعها نفسي قال: "فاستمتع بها إذن"، فعلى تقدير ثبوت الحديث وصلاحيته للحجية وان المراد بقوله: لا ترد يد لامس الكنابة عن الزنا يكون دليلا على جواز الامساك مع مزيد محبة الزوج لها وعدم صبره على فراقها.
فإن قلت فما الجمع بين هذه الآية المصرحة بالتحريم وبين ما في هذين الحديثين قلت باحد وجهين أما حمل الآية على ابتداء النكاح دون الاستمرار عليه وأما تخصيص تحريم امساك بمن لا ينجع فيها هجر ولا ضرب ولا تتبعها نفس زوجها وهذا كله إنما هو في الزوجات وأما الاماء المملوكات فقد ثبت في الصحيح "البخاري"4/369"، مسلم "1703"، الترمذي "4470، 4471"،(1/377)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا زنت امة احدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم قال في الثالثة: فليبعها ولو بحبل من شعر".
[فصل
وباطله ما لم يصح إجماعا أو في مذهبهما أو احدهما عالما ويلزم فيه بالوطء فقط مع الجهل الاقل من المسمى ومهر المثل ويلحق النسب بالجأهل وإن علمت ولا حد عليه ولا مهر وفاسده ما خالف مذهبهما أو احدهما جأهلين ولم يخرق الاجماع وهو كالصحيح الا في الاحلال والاحداد والاحصان واللعان والخلوة والفسخ والمهر] .
قوله: فصل: "وباطله" الخ.
أقول: باطل النكاح ما جاء الشرع بابطاله كما في المرأة المنكوحة بغير إذن وليها وبغير وقوع الرضا منها أو وقع التصريح في الكتاب أو في السنة الصحيحية بتحريمه ولا اعتبار بمذهب الزوجين أو احدهما فإن ذلك مما لا تعويل عليه بل الاعتبار بما تقرر في الشرع.
لا في المذهب وأما الفرق بين الفاسد والباطل فاصطلاح مجرد لا يجوز ان ينبني عليه أحكام الشرع.
وأما لزوم المهر فهو بما استحله من فرجها.
وأما لحوق النسب فلا بد من دليل على ذلك الا إذا جعل الجهل مثبتا للفراش مع كون الوطء وطء شبهة.
وأما عدم وجوب الحد فلكونه يدرأ بالشبهات والجهل شبهة.
وهذا الفصل مبني على مجرد الرأي الذي ليس عليه اثارة من علم والحق الحقيق بالقبول هو ما ذكرناه.
[فصل
وما عليها الا تمكين الوطء صالحة خالية حيث يشاء في القبل ولو من دبر ويكره الكلام حاله والتعري ونظر باطن الفرج وعليه مؤن التسليم والتسوية بين الزوجات غالبا في الانفاق الواجب وفي الليالي والقيلولة في الميل وللأمة نصف ما للحرة وتؤثر الجديدة الثيب بثلاث والبكر بسبع إن لم يتعداها برضاها واليه كيفية القسم إلي السبع باذنهن ويجب قضاء ما فات ويجوز هبة النوبة والرجوع والسفر بمن شاء والعزل عن الحرة برضاها(1/378)
وعن الامة مطلقا ومن وطيء فجوز الحمل ثم مات ربيبه ولا مسقط للإخوة لأم أو لا حاجب لها كف حتى يتبين] .
قوله: فصل: "وما عليها الا تمكين الوطء"،
أقول: لا ريب ان نساء الصحابة في أيامه صلى الله عليه وسلم كن يقمن بعمل البيوت واصلاح المعيشة بل قد كان نساؤه صلى الله عليه وسلم كذلك ووردت هذه الشريعة بتقرير ذلك ولو كان غير جائز لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إتعاب لهن وإتعاب النفس المعصومة بعصمة الإسلام غير جائز ومع هذا فقد أمر به صلى الله عليه وسلم ابنته البتول المطهرة لما شكت اليه مشقة ما تزاوله من الطحن وحمل القربة وطلبت منه خادما يعينها على ذلك حين جاء اليه صلى الله عليه وسلم الخدم فقال: "اتق الله يا فاطمة واعملي عمل أهلك"، هذا معنى ما في الصحيحين [البخاري "7/71"، مسلم "8/2727"، وغيرهما "احمد 1/136"، أبو داود " 5062"، وارشدها إلي ان تسبح الله ثلاثا وثلاثين وتحمده ثلاثا وثلاثين وتكبره اربعا وثلاثين وقال لها ان هذا الذكر خير لها من خادم.
وقد قدمنا ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للفزارية التي تزوجت على نعلين: "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ "، فقالت نعم فاجازه فإنه يدل على ان المرأة قد صارت نفسها ومالها تحت حكم الزوج فضلا عن مجرد اعمالها في بيته.
وأما اعتبار كونها صالحة للوطء فأمر لا بد منه لأن جماع غير الصالحة له حرام على الزوج وحرام على الولي ان يمكنه منها أو يامرها بذلك وهكذا اعتبار خلو الزوجين عن حضور حاضر فإن ذلك لا بد منه ولا يلزم الزوجة ان تمكن الزوج من نفسه في غير خلوة ولا يجوز له ان يطلب منها ذلك.
وأما جواز ان يكون الوطء حيث يشاء الزوج فذلك حق له يفعله اينما أراد مع عدم المانع ولا يكون الا في القبل ولو من دبر يعني الايلاج لا يكون الا في القبل.
وأما جواز الاستمتاع في غيره كا لفخذين وعلى ظاهر الاليتين ونحو ذلك فلا شك في جوازه وقد وردت به السنة الصحيحة وأما الوطء في نفس الدبر فأقل ما ورد في منعه يفيد تحريمه وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقى وفي التفسير بما لا يحتاج المطلع عليه إلي النظر في غيره فليرجع اليهما.
قوله: "ويكره الكلام حاله".
أقول: الكراهة حكم من أحكام الشرع لا تثبت الا بدليل ولا دليل وأما التعري الذي يستلزم ظهور العورة التي لا يتم االجماع بدون كشفها في ذلك حديث: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن استطعت أن لا يرها أحد فافعل"، فقال فالرجل يكون خاليا؟ قال: "الله أحق أن يستحي منه من الناس" وهو حديث صحيح قد قدمنا ذكره وأخرج ابن ماجه عن عتبة بن عبد السلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجرد تجرد العيرين"،
وأخرج الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والتعري فإن معكم من لا(1/379)
يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلي أهله"، وفي إسناده ضعيفان.
وأما نظر باطن الفرج فليس فيه ما يدل على كراهته وأما ما روى بلفظ: "إذا جامع الرجل امرأته فلا ينظر إلى فرجها" فلا أصل له.
وأما يجاب مؤن التسليم على الزوج فليس عليه دليل لكن لما وجب عليه نفقتها وكسوتها وجميع ما تحتاج اليه جعلوا هذا لاحقا بذلك لكون الاعراف مقتضية له ومتطابقة عليه.
قوله: "والتسوية بين الزوجات"،
أقول: قد اشار إلي هذا القرآن قال الله سبحانه: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] ، وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وصح عنه صلي الله عليه وسلم "القسمة بين نسائه ولم يفضل بعضهن على بعض"، فكان هذا كافيا في أصل التسوية وأما دليل الوجوب فحديث: "إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل" أخرجه أحمد وأهل السنن وغيرهم وإسناده صحيح فإن وقوع هذا يوم القيامة بهذا السبب يدل على وجوبه ولو لم يكن واجبا لما عوقب عليه هذه العقوبة.
وأخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم, قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت إن انسا رفعه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى هذا الحديث جماعة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة وصحيح أبي عوانة وسنن البيهقي ومستخرج لاسماعيلي وهكذا رواه الدارمي والدارقطني.
وأما تخصيص التسوية بالانفاق الواجب والليالي والقيلولة فبعيد فإن حديث أبي هريرة عندأحمد وأهل السنن والدارمي وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط اشيخين وصححه أيضا الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان يميل لأحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا"، يدل على وجوب التسوية فيما هو أعم من الانفاق الواجب مما يملكه العبد لا مما لا يملكله كالمحبة ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيم تملك ولا أملك" أخرجه أهل السنن [أبو داود "2134"، النسائي "7/64"، الترمذي "1140"، ابن ماجة "197"، والدارمي وبن حبان والحاكم وصححاه.
وأما كون للأمة التي هي زوجة نصف ما للحرة فقد استدل لذلك بما أخرجه البيهقي عن علي بن أبي طالب أنهقال من السنة ان للحرة يومين وللأمة يوما وقداحتج بهذا الامام أحمد بن حنبل ويقوى هذا ما وقع في كثير من المسائل من التنصيف للعبد والامة.
وأما تأثير الجديدة الثيب بثلاث والبكر بسبع فلحديث أنس المتقدم وما ورد في معناه ويدل على أن حق التأثير يبطل بمجاوزة المقدار المحدود ما في صحيح مسلم "41/1460" وغيره [أبو داود "2122"، ابن ماجة "1917"، أحمد "6/292"] ، من حديث ام سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم لما(1/380)
تزوجها اقام عندها ثلاثة ايام وقال: "إنه ليس بك على أهلك هوان فإن شئت سبعت لك وإن سبعت سبعت لنسائي".
وأما قوله: "واليه كيفية القسم إلي السبع" فلا وجه له ولا دليل يدل عليه بل اليه كيفية القسم كيف شاء ما لم يستلزم ذلك ضرارا للنساء.
وأما قضاء ما فات فلكون ما هو لها قد استحقته وصار في حكم الدين على الزوج قوله ويجوز هبة النوبة أقول: لما ثبت في الصحيحين وغيرهما ان سودة بن زمعه وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة وقد ثبت في الصحيحين أيضا عن عائشة انها قالت في قوله تعالي: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء: 128] ،
هي المراة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها تقول له امسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وانت في حل من النفقة علي والقسم لي فذلك قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .
وأما قوله: "ولها الرجوع عنها" فوجهه ان تلك الهبة وقعت منها بلا عوض أما إذا كانت بعوض فإن رضيت بترك ما صار اليها من العوض فلها الرجوع سواء كان العوض مالا أو منفعة ولا يمنع من الرجوع مثل حديث: "العائد في هبته كلاعائد في قيئه" لان ذلك خارج مخرج التكريه للرجوع فهو دليل على الجواز مع الكراهه وهذا هو الصواب لا ما ذكره ابن القيم في الهدى من ابطال الرجوع لكون الهبة خرجت مخرج المعأوضة وقد سماها الله تعالي صلحا فيلزم كما يلزم ما صالح عليه من الحقوق والاموال لأنا نقول قد رضيت بإرجاع ما صار اليها عوضا عن هبتها لنوبتها.
قوله: "والسفر بمن شاء".
أقول: الحق أنهلا بد من القرعة بينهن كما ثبت في الصحيحين [البخاري"5/218"، مسلم "7/138"، وغيرهما أبو داود "2138"، ابن ماجة " 1970"، أحمد "6/114، 117، 195، 197"، ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا اقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وهذا شرع منه صلى الله عليه وسلم فهو لأمته وليس لهم تركه وما قيل من انه قد سقط القسم مع السفر فنقول نعم لكنها لم تسقط القرعة فليس للزوج ان يسافر بمن شاء منهن بل يجب عليه الاقراع بينهن ولولا ذلك لم يكن عادلا بين سائه ولا عاملا بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "والعزل عن الحرة برضاها".
أقول: اختلفت الاحاديث في جواز العزل فمنها ما هو محتمل للجواز ولعدم الجواز كحديث أبي سعيد في الصحيحين [البخاري "3/390"، مسلم "1438"، وغيرهما أبو داود "2172"،، أحنمد "3/68"، قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب(1/381)
فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلي يوم القيامة"، ومنها ما هو مصرح بالمنع كحديث أبي سعيد أيضا عندأحمد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزل: "أنت تخلقه أنت ترزقه أقره قراره فإنما هو ذلك القدر"، وحديث ااسامة بن زيد عند مسلم وغيره ان رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني اعزل عن امرأتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم تفعل ذلك؟ "، فقال الرجل: أشفق على أولادها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان ضارا ضر فارس والروم"، وحديث جدامة بنت وهب الاسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ـناس وهو يقول: "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا" ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي" {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] .
ومنها ما فيه دلالة على الجواز كحديث جابر كنا تعزل والقرآن ينزل وهو في الصحيحين وغيرهما زاد مسلم كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا وكحديث أبي سعيد عند أحمد وأبي دأود والترمذي والنسائي بإسناد رجاله ثقات قال قالت اليهود العزل الموءودة الصغرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذبت يهود إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه"، وأخرج نحوه النسائي من حديث أبي هريرة وقداختلف أهل العلم في هذه الاحاديث فمنهم من جمع بحمل حديث جدامة وما ورد في معناه على التنزيه ومنهم من رجح أحاديث الجواز لصحتها وكثرتها والطريقة الأولى ارجح.
وأما تقييد الجواز بكونه برضا الحرة فقداستدل على ذلك بما أخرجه أحمد وابن ماجه عن عمر بن الخطاب قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نعزل عن الحرة الا بإذنها وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال معروف ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس قال نهى عن عزل الحرة الا باذنها ويؤيده ما حكاه ابن عبد البر من الاجماع على أنهلا يعزل عن الزوجة الحر الا بإذنها ووافقه على نقل الاجماع ابن هبيرة كما قال ابن حجر في الفتح.
وأما جواز العزل عن لامة مطلقا فلما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر ان رجلا اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وانا اطوف عليها واكره ان تحمل فقال: "اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها".
وأما قوله: "ومن وطيء مجوز الحمل" الخ فهو رأي بحث ليس عليه اثارة من علم.(1/382)
[فصل
ويرتفع النكاح بتجدد اختلاف الملتين فإن اسلم احدهما فمع مضي عدة الحربية مدخولة والذمية مطلقا أو عرض الإسلام في الثاني فينتظر بلوغ الزوج وتستأنف المدخولة ويتجدد الرق عليهما أو على احدهما ويملك احدهما الاخر أو بعضه نافذا وبرضاع صيرها محرما قوله فصل ويرتفع النكاح بتجدد اختلاف الملتين] .
أقول: لقد قيل إن هذا إجماع ويدل عليه قوله عز وجل: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ، وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] .
وأما كونه إذا اسلم احدهما فمع مضي عدة الحربية الخ فقد أخرج في الموطإ عن ابن شهاب قال لم يبلغنا ان امرأة هاجرت إلي الله وإلي رسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر الا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها الا ان يقدم زوجها مهاجرا قبل ان تنقضي عدتها وأنهلم يبلغنا ان امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها وأخرجه أيضا ابن سعد في الطبقات.
وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقاتلونه ومشركي أهل عهد لايقاتلهم ولا يقاتلونه وكان إذا هاجرت المراة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح وإذا جاء زوجها قبل ان تنكح ردت اليه.
وأخرج مالك في الموطأ وابن سعد في الطبقات ان امرأة صفوان بن امية اسلمت وهو كافر فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما حتى أسلم صفوان واستقرت عنده بذلك النكاح قال ابن شهاب وكان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر وهكذا امراة عكرمة بن أبي جهل فإنها اسلمت وزوجها كافر فلما اسلم ثبتا على نكاحهما.
والحاصل أنهلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهفرق بين رجل وزوجته إذا اسلمت دونه حتى تنقضي عدتها وإذا اسلم وهي في العدة كانت باقية في عقد نكاحها ولا تحتاج إلي تجديد عقد هذا هو الثابت بلا خلاف.
وأما ما روى من طرق صحيحة أنه صلي الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول لم يحدث شيئا وكان اسلامه بعد سنتين وقيل بعد ست سنين فهو وإن كان اصح من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد كما أخرجه ابن ماجه وفي إسناده حجاج بن ارطاة وهو ضعيف لكن لا بد من تأويل حديث ابن عباس لوقوع الاجماع على عدم جواز تقرير المسلمة نحت الكافر إذا تأخر إسلامه عن إسلامها حتى انقضت عدتها وممن نقل هذا الاجماع ابن عبد البر فقيل في تأويله إنه لم يكن قد نزل تحريم نكاح المسلمة على الكافر وقيل غير ذلك وقد ذكرنا ذلك في شرحنا للمنتقى.(1/383)
والأولى ان يقال إن النكاح موقوف فإن اسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته وإن انقضت عدتها فلها ان تنكح من شاءت وإن احبت انتظرته وإذا اسلم كانت زوجته من غير حاجة إلي تجديد نكاح وليس في هذه الشريعة ما يخالف هذا وقد ذهبت اليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم.
وإذا عرفت هذا لم تحتج إلي ما ذكره المصنف وغيره في هذا المقام.
قوله: "ويتجدد الرق عليها أو على أحدهما"
أقول: المسبية قد صارت ملكا للسابي لها من المسلمين ولم يبق لزوجها عليها يد ولا لكونها كانت زوجته تأثير وهكذا الزوج إذا سبي صار عبدا لا يجوز له ان يتزوج الا باذن سيده السابي له ولا حكم لما كان فيه في الجأهلية إذا سبيا معا فهذا هو مراد الصمنف بقوله: "ويتجدد الرق" عليهما الخ ولكنهما إذا سبيا معا ورضى السابي لهما بأن يبقيا على نكاحهما فالظاهر ان مجرد هذا الاذن يكفي ولا يحتاج إلي تجديد عقد كما تقدم في الاحرار.
قوله: "ويملك احدهما الاخر".
أقول: المراة إذا ملكت زوجها كان لها الخيار كما كان لبريرة لأنها حرة وزوجها عبد فإذا اختارت الفسح فلها ذلك فإن بريرة فسخت نكاحها لما كان زوجها عبدا فإذا ملك الزوج زوجته كان له الخيار أما بقي على النكاح الذي كان بينهما إذا كان ممن يجوز له التزوج بالأمة وأما اختار فسخ النكاح ويكون لها حكم المملوكات يطأها بالملك ويتصرف فيها كيف شاء.
وبهذا تعرف أنهلا ينفسخ النكاح بمجرد ملك احدهما الاخر بل هو موقوف على اختياره وليس في المقام ما يقتضى تطويل الكلام.
وأما إذا كانا مملوكين ثم اعتق احدهما وملك الاخر فظاهر لأنه تجددت له الحرية ثم تجدد له ملك الاخر وأما إذا كان احدهما حرا والاخر مملوكا ثم ملك الحر المملوك فإن كان الحر الذي ملك الاخر هو الرجل فلا شك في أنه يختار ما أراد من البقاء على العقد أو الوطء بالملك لأن الملك يقتضى ذلك وإن كان الحر هو المرأة وملكت الزوج فعلى تقدير رضاها به في الابتداء قد تجدد لها بملكه ما يقتضى ثبوت الخيار لها لأن ملكها له قد اثبت لها حقوقا عليه يجوز لها بسببها فسخ النكاح ولا يصح فرض المسألة على انهما كانا حرين لأن الحرية لا تنتقل إلي الرقية الا بالسبي كما تقدم فإذا قدرنا انهما كانا حرين وأسلم احدهما وسبى الاخر فالكلام فيه كما تقدم في تجدد الرق.
قوله: "وبرضاع صيرها محرما".
أقول: لأنه "يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب" كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم فإذا رضع أحدهما رضاعا قام الدليل، الصحيح على أنهيقتضي التحريم صار ذلك موجبا لانفساخ النكاح وسيأتي في الرضاع إن شاء الله ما هو المقتضى للتحريم على مقتضى الادلة.(1/384)
[فصل
ويصح نكاح العبد ولو اربعا حرائر بإن مالكه المرشد ومطلقه للصحيح وواحدة فقط وبإجازته مستمر الملك ومنها السكوت وطلق وبعتقه قبلها وبعقده له ولو كارها وما لزمه فعلى سيده الا تدليسه ففي رقبته والفاسد والنافذ بعتقه ففي ذمته ويلحق الولد بامه فلا حق له عليه ويصح شرط حريته لأ تملكه ويبطل بخروجها عن ملك سيدها قبل العلوق وطلاقه والعدة منه كالحر] .
قوله: فصل: "ويصح نكاح العبد ولو اربعا حرائر".
أقول: القائلون بأنه يجوز للعبد ان يتزوج اربعا جعلوه داخلا فيما ورد من تسويغ الاربع للعباد وهو من جملتهم لا يخرج عنه الا بمخصص يخصصه كما في سائر الخطابات.
والقائلون بأنهلا يجوز الا اثنتان وهم جمهور السلف ومن بعدهم قاسوا نكاحه على طلاقه فلم يجوزوا له الا اثنتين كما أنهلا يملك من الطلاق الا اثنتين بالدليل الاتي إن شاء الله تعالي وكذلك قاسوه على الحدود الثابت تنصيفها عليه بنص القرأن في الاماء وإلحاق العبد بهن بعدم الفارق وبالاجماع.
وليس في المقام نص يتعين الرجوع اليه ودعوى إجماع الصحابة على ما قاله الجمهور يزيده قوة فإنها مرجح قوي ولم يثبت القل عن فرد من أفرادهم مما يخالف ذلك.
وأما توقف الجواز على اذن مالكه فلا بد منه لأنه المالك لرقبته ومنافعه فلا يصح تصرفه في شيء منها الا بإذنه ولا سيما مثل النكاح فإنه يستغرق كثيرا من منافعه المستحقة للسيد ويعرض سيده لايجاب نفقة الزوجة أو الزوجات.
ومع هذا فحديث: "أيما مملوك نكح بغير إذن مولاة فهو عاهر" كما في رواية وفي أخرى: "فنكاحه باطل" قد حسنه الترمذي وصححه الحاكم من حديث جابر وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث ابن عمر وفي إسناده ضعف ولكنه يزيد حديث جابر قوة.
وأما كون مطلق الاذن يكون للصحيح ولواحدة فقط فيكون مدلول اللفظ يصدق بالواحدة ويحمل على الصحيح وهذا على تقدير أنهليس في اللفظ ما يدل على زيادة على واحدةأما لو كان فيه ما يدل على ذلك فله حكمه وهو غير مراد المصنف.
وأما كونه ينفذ بإجازة السيد فلأن العقد الواقع بغير إذن موقوف على إذن السيد فإذا وقعت منه الاجازة فهي إذن إذا كان ملكه للعبد باقيا لا إذا كان قد خرج عن ملكه فلا حكم لاجازته.
وليس من الاجازة مجردا لسكوت لأنه كما لا يشعر بالرضى لا يشعر بالكراهة الا ان يصحبه ما يفيد الرضا كأن يفعل فعلا لا يفعله الا من هو راض.
وأما جعله قول السيد للعبد طلق من الاجازة فمن جعل ما هو مناف للشيء مثبتا له وهو خلاف المعقول وأما كون الامر بالطلاق قد اشعر بالاعتداد بما وقع منه من النكاح فشيء لا(1/385)
ينبغي الالتفات اليه ولا التعويل عليه الا ان يرد بذلك دليل.
وأما نفوذ نكاح العبد بعتقه قبل الاجازة فلا وجه له لأن مصيره إلي ملك نفسه لا يصحح ما كان باطلا فعليه ان يجددالعقد بعد العتق.
وأما عقدالسيد له فهو إجازة لعقده الأول بلا شك لإشعاره بالرضا له به.
وأما كون ما لزمه من مؤن النكاح لازم لسيده فلكونه قد اختار ذلك بالاذن أو ما في حكمه ولو لم يرض بما لم يعلم بحقيقته ولهذا كان تدليس العبد في رقبته لأنه كالجنابة منه.
وأما قوله: "والفاسد النافذ بعتقه ففي ذمته" فهذا إذا لم يحصل من السيد إذن به ولا إجازة له وإلا فلا فرق بينه وبين الصحيح وانصراف الاذن إلي الصحيح لا ينافي الرضا بالفاسد والرضا هو مناط اللزوم.
وأما قوله: "ويلحق الولد بأمه" الخ فهذا محض رأي ليس عليه اثارة من علم والأولى ان اللحوق في العبيد كاللحوق في الاحرار رجوعا إلي أصل الشرع فإن لم يرد فيه دليل كان التشريع العام كافيا.
قوله: "وطلاقه والعدة منه كالحر".
أقول: يدل على هذا ان الاصل في العبيد والاماء ان لهم حكم الاحرار وانهم داخلون في الخطابات العامة والتشريعات الشاملة ولا يخرجون عن ذلك الا بدليل يقتضى التخصيص وقد ثبت كتابا وسنة ان الطلاق ثلاث والعدة ثلاثة قروء فهذا الاستدلال يكفي مع عدم وجود ما ينتهض للتخصيص فكيف وقد أخرج أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه عن عمر بن معتب ان أبا حسن مولى بني نوفل اخبره أنهاستفتى ابن عباس في مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم عتقا هل يصلح له ان يخطبها قال نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وثق أبا الحسن هذا أبو حاتم وابو زرعة وأما عمر بن معتب ففيه مقال ولكن هذا الحديث على كل حال انهض من حديث ابن عمر مرفوعا: "طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان" فإن في إسناده ضعيفين وقال الدراقطني الصحيح أنه موقوف وقد أخرج أبو دأود من حديث عائشة "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" وفي إسناده مظاهر بن اسلم وهو ضعيف.
وليس في الباب غير هذين الا روايات موقوفة لا تقوم بها الحجة ومثل هذا لا ينتهض لتخصيص عموم ما ثبت كتابا وسنة فكيف وقد عورضت هذه المخصصات بحديث ابن عباس السابق.
وإلي ما ذكرناه من استواء الحر والعبد في عدد الطلاق واستواء الامة والحرة في العدة ذهب جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وجابر وأبو سلمة وابو قتادة.(1/386)
[فصل
وفي الامة بعقدالمالك المرشد ووكيل المالكة وولي مال الصغير أو نائبهم أو إجازته كما مر الا السكوت وبعتقها قبله ويكرهها على التمكين غالبا لا العبد على الوطء وله المهر وإن وطئت بعدالعتق الا في النافذ به والنفقة مع التسليم المستدام ويصح شرطها مع عدمه والعكس] .
قوله: فصل: "وفي الامة بعقد المالك المرشد".
أقول: لا فرق بين الامة والعبد لان الكل مال لمالكهما ولكن لما كان العبد ممن يصلح ان يعقد لنفسه عقد النكاح كان إذن المالك له يكفي في صحة نكاحه ولما كانت الامة لا تنكح نفسها كان الامر إلي سيدها وإذا كان المالك لها امرأة فقد تقدم انها لا تزوج المرأة المرأة فتوكل من يعقد لامتها وإذا كانت الامة لصغير وكان في تزويجها مصلحة له كان ذلك إلي وليه كسائر تصرفات الولي في مال الصغير ونحوه ولهؤلاء ان يوكلوا من يعقد النكاح ويتنوب عنهم في الاجازة ممن له ولاية أو نيابة تكفي.
وأما السكوت فقد قدمنا أنهلا يكفي في اجازة نكاح العبد والامة مثله فلا فرق بينهما وأما كونه ينفذ عقد الامة بعتقها قبلها فلا وجه له كما قدمنا في عتق العبد.
وأما إكراهها على التمكين للزوج فله ذلك كما يجوز له ان يكرهها على غيره من الاعمال لانها ماله ومنافعها له وهكذا ان يكره العبد لهذه العلة إذا كان قادرا على ذلك.
وأما استحقاق سيد الامة لمهرها فلكون ذلك لفائدة حصلت من ماله.
وأما إذا عتقت قبل الوطء فالظاهر ان المهر لها لأنه عوض عن بضعها وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء وذكر مهورهن فقال: "إنها احق الامور بالوفاء بها لانها استحلت بها الفروج"، [البخاري "9/217"، مسلم "1418"، أحمد "4/150"، أبو داود "2139"، النسائي "6/92، 93"] ، فلا فرق بين العتق المطلق والعتق الذي نفذ به النكاح فإن المهر لها فيهما.
وأما استحقاق السيد لنفقة الامة مع التسليم لها اليه فذلك ظاهر لأنه زوج وهي زوجة وحكمهما في ذلك حكم غيرهما وإذا شرط الزوج ان لا نفقة عليه ورضى بذلك السيد وجب الوفاء بالشرط وهكذا إذا شرط السيد النفقة على الزوج مع عدم التسليم ورضى بذلك لزم الوفاء بالشرط فالمؤمنون عند شروطهم.
[فصل
وللمالك فيها كل تصرف الا الوطء ومنع الزوج ومتى عتقت خيرت ما لم تمكن(1/387)
عالمة بالعتق وثبوت الخيار كحرة نكحت على امة ولا ينفسخ نكاح الامة ومتى اشتراها لم تعد ام ولد بما قد ولدت ويطأها بالملك ولو في عدة طلاقه الا التثليث فبعد التحليل بما سيأتي فقط وأما المكاتبة فبرضاها وام الولد به بعد عتقها والمهر لهما وولاية الوقف إلي الواقف ويراضي المصرف والمهر له] .
قوله: فصل: "وللمالك فيها كل تصرف"،
أقول: هذه الكلية معلومة لانها ماله فيتصرف بها كيف شاء وإنما ذكر هذا ليستثنى منه قوله الا الوطء ومنع الزوج فإن هذين الامرين لا يجوزان له لأنه رضى بتزويجها فليس له ان يفعل ما يخالف ما يوجبه ما رضى به.
وأما كونها إذا عتقت خيرت فذلك ثابت بحديث بريرة والخلاف في كونها تفسخ نفسها مطلقا أو حيث كان زوجها عبدا كما كان زوج بريرة عبدا معروف.
وقد قررنا البحث في شرحنا للمنتقى بما يكتفى به الناظر فيه وإذا اختارت البقاء في عقدة النكاح فالأمر اليها ولا يبطل خيارها الا إذا وقع منها الرضا المحقق.
وأما قوله: "كحرة نكحت على الأمة" فلم يرد المصنف أنهأصل والامة التي عتقت مقاسة عليه وإنما أراد تنظير المسألة بالمسألة في الفسخ كما جرت عادته في مواضع بمثل هذا ولا أرى لجواز فسخ الحرة المنكوحة على الامة وجها مقبولا فضلا عن دليل يدل عليه لان الحرج في ذلك على الزوج كما في قوله تعالي: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] ، فإذا نكح الحرة فقد وجد السبيل اليها واستطاع الطول المبلغ إلي نكاح الحرائر وكون مجرد الغضاضة اللاحقة للحرة بنكاحها على الامة مسوغا للفسخ لا دليل عليه وقد قدمنا في فصل العيوب التي جعلوها مقتضية للفسخ ما فيه كفاية.
وأما قوله: "ولا ينفسخ نكاح الامة" فصواب لأنه دخل فيه في وقت يجوز له الدخول ولم يتجدد ما يدل على البطلان وغاية الامر أنهمع التمكن من الحرة يجب عليه تسريح الامة وأما أنهيبطل فلا.
وهكذا وقوله: "ومتى اشتراها لم تصر ام ولد بما قد ولدت" لأنها ولدت له وهي زوجته لا مملوكته والتي تصير ام ولد بما ولدت إنما هي الموطوءة بالملك.
وأما قوله: "ويطأها بالملك ولو في عدة طلاقه" ففيه نظر لأنه وإن كان أصل مشروعية العدة لبراءة الرحم وعدم الاختلاط في الانساب لكنها قد صارت بعد ثبوتها تعبدية ولهذا وجبت على الصغيرة والايسة والحامل.
وأما كونه لا يطأها بعد التثليث حتى تنكح زوجا غيره فلأنها كانت لديه زوجة داخلة تحت عموم قوله سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، ولم يرد ما يدل على تخصيصها من هذا العموم.(1/388)
وأما المكاتبة وأم الولد فقد حصل لها سبب من اسباب الحرية وإن توقف نفوذه على الوفاء بمال المكاتبة في المكاتبة وعلى موت السيد أو تنجيزه لعتقها في أم الولد فلا بد من رضاهما والمهر لهما لعدم بقاء الملك المستقر عليهما
وأما كون ولاية الوقف من العبيد والاماء إلي الواقف فمبني على ما سيأتي والظاهر انها إلي الموقوف عليه لأنه المتصرف بالمنافع والنكاح من جملة ما يحصل له به منفعة ولهذا كان المهر له فإن كان الوقف على مسجد أو نحوه فإلي من اليه الولاية في وقف ذلك المسجد ونحوه وإلا فالأمر إلي الامام والحاكم.
[فصل
ومن وطيء امته فلا يستنكح اختها وله تملكها ولا يجمع بين اختين ونحوهما في وطء وإن اختلف سببه ومن فعل اعتزلهما حتى يزيل احدهما نافذا ومن دلست على حر فله الفسخ ولزمه مهرها ولحقه ولدها وعليه قيمته إن سلمت بجنايتها فإن أباها فالزائد على قيمتها وهو له في ذمتها ويسقط إن ملكها فإن استويا تساقطا.
الاختلاف إذا اختلفا فالقول لمنكر العقد وفسخه وفساده ومنه وقع في الكبر ولم ارض وقال في الصغر فيلزم لا في الصغر فافسخ وقال في الكبر ورضيت ولمنكر تسمية المهر وتعيينه وقبضه وزيادته على مهر المثل ونقصانه والابعد عنه زيادة ونقصانا فإن ادعت اكثر وهو أقل أو المثل فبينا حكم بالأكثر والا فللمبين ونحوه ثم مهر المثل وللمطلق قبل الدخول في قدره وإذا اختلفا في معين من ذوي رحم لها عمل بمقتضى البينة فإن عدمت أو تهاترا فلها الاقل من قيمة ما ادعت ومهر المثل ويعتق من اقر به مطلقا وولاء من انكرته لبيت المال والبينة على مدعي الاعسار وبعض الاخذ مع اللبس] .
قوله: فصل: "ومن وطيء امة فلا يستنكح اختها".
أقول: عموم قوله سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ، يشملهما لأنه قد وجد الجمع بينهما ووجدت الاخوة فيهما والظاهر ان الآية تتنأول الجمع بين الاختين الحرتين في عقدالنكاح وفي الوطء فكما لا يجوز الجميع بنهما في الوطء لا يجو ز الجمع بينهما في عقدالنكاح وهكذا لا يجوز له ان يعقد عقدة النكاح على اختين امتين ولا يجوز له ان يجمع بينهما في الوطء لتناول العموم لذلك.
وأما الجمع في مجرد الملك فهو وإن صدق عليه أنهجمع بين ختين لكنه ليس بنكاح ولا وطء والمقصود تحريم النكاح والوطء وإذا وطيء احدى الأمتين الاختين كان تحريم النكاح(1/389)
على الاخرى وتحريم وطئها داخلا تحت عموم الآية لأن الوطء مقصود ومجرد عقدالنكاح مقصود وهذه الآية لم يرد ما يعارضها أو يخصصها.
وأما قوله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ، فالمراد به جواز ما جوزه الشرع ولهذا وقع الاجماع على أنه لا يجوز للمالكة ان يطأها مملوكها ولا للمالك ان يطأه مملوكه وقد حكى ابن عبد البر اجماع الصحابة والتابعين ان هذه الآية خاصة بالرجال دون النساء ثم قوله عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} مدنية وقوله سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] مكية.
وأما قوله: "ومن فعل اعتزلهما حتى يزيل أحدهما نافذا" فلكونه لا يخلص عن الجمع المحرم الا بذلك ولا بد ان يكون على وجه يمتنع منه جواز وطئها ما دامت اختها في ملكه موطوءة له.
وأما قوله: "ومن دلست على حر فله الفسخ" فوجه ذلك أنه لم يرض بأن تكون زوجه الا على انها حرة لما عليه من التبعة في أولاده بلحوقهم بامهم حيث هي امة مملوكة عند القائل بذلك ولا سيما إذا كان يستطيع نكاح الحرة فإن تدليسها عليه قد أوقعه فيما لا يجوز له.
وأما لزوم مهرها فهو بما استحل من فرجها وهكذا لحوق ولدها به لأنه لم يرض بنكاحها أمة حتى يلحق الأولاد بها ولا وجه لتسليم قيمة الولد إلي السيد.
وأما كون الامة تصير اليه بجنايتها فإن اختار السيد ذلك فهو إليه لأن جناية المماليك متعلقة برقابهم لكن هذا مبني على أنه قد لحقه غرم بتدليسها وهو تسليم قيمة الولد إلي السيد ولا دليل يدل على ذلك.
قوله: "الاختلاف إذا اختلفا فالقول لمنكر العقد".
أقول: لان المدعى لوقوعه هو مدعي ما هو خلاف الاصل من عدم الوقوع وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: "أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين" وإذا اتفقا على وقوع العقد وادعى احدهما أنه تعقب ذلك وقوع الفسخ له فهو يدعى خلاف ما هو الظاهر وبهذا القدر يصير مدعيا ويصير المنكر منكرا وعلى المدعى البينة وعلى المنكر اليمين.
وهكذا الكلام فيمن ادعى فساده بعد الاتفاق على وقوعه وأما كون البينة علىمن تدعى ان العقد من أبيها وقع عليها في الكبر وأنها لم ترض فوجهه انها قد ادعت شيئين الاصل يخالفهما الأول منهما ان العقد عليها وقع بعد ان انتقلت من صفة الصغر إلي صفة الكبر.
والثاني: انها لم ترض.
لا يقال الاصل عدم الرضا فيكون القول قولها لأنا نقول الظاهر يدفعه لأنها قد ادعت وقوع العقد في الكبر وكونها لم ترض هو خلاف ما هو الظاهر.
وأما قوله: "لا في الصغر فافسخ" الخ فوجهه ما قدمنا من ان الاصل عدم الانتقال من صفة الصغر إلي صفة الكبر.(1/390)
وأما قوله ولمنكر تسمية المهر الخ فلكون الاصل عدم حصول هذه التسمية فيكون القول قول النافي لأنه المنكر والبينة على المدعى فيندرج ذلك تحت حديث: "على المدعى البينة وعلى المنكر اليمين".
وأما قوله: "فإن ادعت أكثر" الخ فوجهه ان مدعي الاكثر هو الذي أوجب عليه الشارع البينة ولم يوجبها على من ادعى الاقل لأنه منكر وإن جعل كلامه في صورة الدعوى ومع انفراد احدهما بالبينة يحكم للمبين كما قال المصنف لقيام البرهان المقتضي لصدق قوله.
وأما قوله: "وللمطلق قبل الدخول في قدره" فلا وجه له بل الظاهر ان القول لمنكر الزيادة ولا تأثير للدخول وعدمه في مثل هذا.
وأما قوله: "وإذا اختلفا في معين من ذوي رحم لها" فالظاهر ان القول قولها في إنكار علمها لكونه رحما لها وفي إنكار رضاها به على تقدير انهما اختلفا في نفس وقوع الرضا منها لأن رضاها بمن يعتق عليها هو خلاف الظاهر ومجرد أنه قد يتعلق لها غرض بعتقه عليها لا يسأوي ما تطلبه النفوس من المال فإن هذا آثر من الأول في الطباع فلا وجه لتعويل المصنف على البيينة بادئ بدء فإن ها هنا رتبة مقدمة على ذلك وهي ان القول قول المنكر والبينة على المدعى وإذا بينا فالعمل على بينة المدعى لما قدمنا ولا وجه للحكم للتهاتر ولا للرجوع إلي الاقل من قيمة ما ادعت ومهر المثل.
وأما قوله: "ويعتق من اقر به مطلقا" فلا وجه له لأن اقراره بذلك مقيد بكونه مهرا لها وهي لم تقبل الاقرار مقيدا بهذا القيد فلا يخرج عن ملك الزوج ويكون ولاؤه إذا اعتقه له لا لبيت المال.
وأما قوله: "والبينة على مدعي الاعسار للاسقاط" فلكونه يدعي امرا يريد به إسقاط حق عليه فلا يقبل الا ببينة. وهكذا إذا ادعى الاعسار ليحل له مالا يحل الا لمعسر فهو وإن كان الظاهر عدم الغنى لكنه يريد بذلك استحلال ما يتوقف تحليله على صحة الدعوى.(1/391)
باب على واهب الأمة وبائعها استبراء غير الحامل
...
[باب وعلى واهب الامة وبائعها مطلقا استبراء غير الحامل
والمزوجة والمعتدة الحائض بحيضة غير ما عزم فيها ومنفطعته لعارض بأربعة اشهر وعشر وغيرهما بشهره وعلى منكحها للعقد ومن تجدد له عليها ملك لا يد للوطء بذلك وبالوضع والعدة وكالبيعين المتفائلان والمتقاسمان بالتراضي فقط ولهم الاستمتاع في غير الفرج الا مشتريا ونحوه يجوز الحمل وتجوز الحيلة] .(1/391)
قوله: "باب وعلى واهب الامة وبائعها" الخ.
أقول: ليس على هذا اثارة من علم قط وما ذكروه من الاقيسة فهي ظلمات بعضها فوق بعض والعجب كل العجب من ايجابه على كل بائع ولو كانت امرأة وفي كل امة مبيعة أو موهوبة ولو كانت صغيرة فإن كان المقصود بهذا معرفة براءة الرحم فالصغيرة والبكر هذه البراءة كائنة فيهما ثم ايجاب الاستبراء على المشتري والمتهب تحصل به هذه البراءة فما الموجب لايجاب ذلك على البائع على ان إيجابه على المشتري ونحوه إنما يثبت بالقياس على المسبية فإنها مورد النص ولكن لما كانت المشتراة ونحوها تشاركها في العلة التي وجب استبراؤها لها كان قياسها عليها صحيحا من هذه الحيثية لما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي الدرداء ان النبي صلى الله عليه وسلم اتى على امرأة محج على باب فسطاط فقال: "لعله يريد أن يلم بها؟ " فقالوا: نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ " والمحج الحامل فإن مثل هذه العلة كائنة في المشتراة ونحوها وقد قال صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس: "لا توطا حامل حتى تضع ولا حائض حتى تستبرأ بحيضة"، أخرجه أحمد وابو دأود والحاكم وصححه.
ويشهد له ما عند الدارقطني من حديث ابن عباس وما عند الترمذي من حديث العرباض ابن سارية وما عندأبي شيبة من حديث علي مع ان ظاهر هذا العموم يشمل المشتراة ونحوها وكونه في سبايا أوطاس لا يوجب تقييده بذلك لما تقرر من ان الاعتبار بعموم الفظ لا بخصوص السبب.
وقد ورد ما يدل بعمومه على استبراء المشتراة ونحوها فأخرج أحمد والطبراني من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره"، ولكن إسناده ضعيف قال في مجمع الزوائد في إسناده بقية والحجاج ابن ارطاة وكلاهما مدلس انتهى ولكنه يشهد له ما أخرجه أحمد وابو دأود وابن أبي شيبة والدارمي والطبراني والبيهقي والضياء المقدسي وبان حبان وصححه والبزار وحسنه من حديث رويفع بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستقنى ماءه ولد غيره"، فإنه يشمل الامة المشتراة ونحوها وإن كان في لفظ في هذا الحديث عن الترمذي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها"، وفي لفظ لأحمد: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض"، فإن هذا التقييد لاينافي عموم قوله: "فلا يسقيا ماءه ولد غيره"،
والحاصل ان مجرد قياس المشتراة ونحوها على المسبية على تقدير عدم شمول الدليل لها واضح الوجه للاشتراك في تلك العلة.
وأما إيجاب الاستبراء على البائع ونحوه فلا ينبغي ان ينسب إلي عالم وهكذا ايجاب استبراء الصغيرة والبكر فإنه لم يدل دليل على وجوبه على السأبي ولا على المشتري ونحوه والتعليل بتلك العلة ينافي الايجاب فيهما.(1/392)
وهكذا التصريح في تلك الرواية بلفظ الثيبت وقد ذهب إلي وجوب الاسبتراء على المشتري ونحوه الجمهور ولم يخالف في ذلك الا دأود والبتي.
وإنما استثنى المصنف الحامل والمزوجة والمعتدة لانهن لا يوطأن أما الحامل فإذا كان حملها من زنى فإنه يجوز بيعها ولا توطأ حتى تضع ولا يستقيم في الحامل من غير زنى لانها تصير بالحمل مع الوضع ام ولد.
وأما المزوجة فظاهر لانها إذا بقيت بعد بيعها تحت زوجها فهي لا توطأ وإن لم تبق تحته فلا بد من العدة ولا توطأ الا بعد انقضائها.
وهكذا المعتدة لا توطأ الا بعد انقضاء عدتها هذا على تقدير صحة الوجوب على البائع ونحوه وقد عرفت أنه لا أصل له.
وما زعموه من ان ذلك تعبد فهو مجرد دعوى لا أصل لها فالتعبد إنما يثبت بدليل والا كان من التقول على الله بما لم يقل وقد قال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، فجعل التقول على الله بما لا يعلمه الإنسان عديلا للشرك وما قبله والله الهادي.
وأما قوله: "الحائض بحيضة غير ما عزم فيها" فبراءة الرحم تتحقق بتلك الحيضة التي هي فيها ولكن ما قاله صلى الله عليه وسلم: "ولا غير حامل حتى تحيض حيضة"، دل على أنه لا بد من حيضة كاملة يجب الاستبراء بها على السأبي والمشتري ونحوه لا على البائع ونحوه فلا يجب حيضة ولا بعض حيضة كما قدمنا.
وأما قوله: "ومنقطعته لعارض بأربعة اشهر وعشر" فقد عرفناك أنه لا استبراء على البائع ونحوه لكن إذا اشتراها مشتر وتجدد عليها ملك لمالك بأي سبب من سبي أو هبة أو ميراث أو نحو ذلك فكيف يكون اسبتراؤها الذي يعرف به براءة الرحم مع عدم ورود دليل يدل على هذ الصورة بخصوصها والظاهر أنه يحال ذلك على ما يعرف به انها غير حامل ولا يخفى مثل ذلك على غالب النساء.
وأما التحديد باربعة اشهر وعشر فلا وجه له قط ومن توهم صحة قياسها على المتوفي عنها فلم يصب ومن زعم ان هذا المقدار هو اكثر العددالمشروعة فكانت لاحالة عليه لتيقن البراءة فهو أيضا لم يأت بطائل.
وهكذا لا وجه لقوله وغيرهما بشهر لما قدمنا وهكذا قوله وعلى منكحها للعقد لا وجه له لما تقدم.
وأما قوله: "ومن تجدد له عليها ملك" الخ فصواب لكن على التحقيق الذي قدمناه فلا نعيده هنا.
وأما قوله: "والحامل بالوضع" للدليل المتقدم.(1/393)
وأما المعتدة فقد علم باعتدادها براءة رحمها لكن ظاهر الدليل أنه لا بد من استبرائها بحيضة عند سبيها أو ملكها فإن بقي من العدة قدر حيضة فذلك هو استبراءها وكمال عدتها وإن لم يبق من العدة قدر حيضة فلا بد من حيضة.
وأما قوله: "وكالبيعين" الخ فلا فائدة فيه لأنه إن صدق عليه أنه من تجدد الملك فقد اغنى عنه ما تقدم وإن لم يصدق عليه ذلك فلا وجه له الا ان يكون قد وقع من المشتري قبل الاقالة والفسخ وطء.
وأما ذكر جواز الاستمتاع فلا حاجة اليه لأن الممنوع هو الوطء الذي يسقي به زرع غيره لا غيره.
قوله: "ويجوز الحيلة".
أقول: هذه الحيلة التي جوزها قد استند فيها إلي ما يحكى في كتب التواريخ من قصة وقعت لأبي يوسف مع الرشيد وما بمثل هذاتؤكل الكتف ولا يجوز لمسلم ان يجترئ على مخالفة الادلة الثابتة من كون الحائض تستبرأ بحيضة والنهي منه صلي الله عليه وسلم عن ان يسقي ماء الرجل ولد غيره ومعلوم ان هذه الحيلة لا تخلص من مثل هذا مع كون براءة الرحم التي هي العلة في وجوب الاستبراء غير حاصلة بل لا براءة اصلا فكيف يقال بجواز هذه الحيلة الفاسدة الكاسدة وابو يوسف قد ربح مالا كثيرا من الرشيد ومن الجارية فما بال من لم يربح بها الا شغلة الحيز في قرطاسه بمداد يصدرها في كتابه هذا الذي وضعه لهداية المقصرين وإرشاد المقلدين اللهم غفرا.
هذا إذا أراد ان هذه الحيلة البائسة والذريعة الخاسرة تسقط الاستبراء على المشتري والبائع كما هو الواقع من أبي يوسف.
أما إذا أراد انها تسقطه على البائع فقد عرفناك أنه لااستبراء عليه ولا حاجة له في تطلب الحيل فالشرع لم يوجب عليه ذلك حتى يحتاج إلي التخلص عنه بالتحيلات التي لا تنصب في الغالب الا لردأحكام الله واخراج المكلفين مما كلفهم الله إخراجا طاغوتيا عنادا لله وتجرؤا عليه والامر لله العلي الكبير.
[فصل
ومن وطيء امة ايما له ملك في رقبتها ثبت النسب وإن لا ملك فلا إلا امة الابن مطلقا واللقيطة والمحللة والمستأجرة والمستعارة للوطء والموقوفة والمرقبة المؤقتة ومغصوبة شراها مع الجهل فيهن ومهما ثبت النسب فلا حد والعكس في العكس الا المرهونة والمصدقة قبل التسليم مع الجهل والمسبية قبل القسمة والمبيعة قبل التسليم مطلقا والولد(1/394)
من الأول حر وعليه قيمته غالبا ومن الاخر عبد ويعتق إن ملكه ولهن المهر الا المبيعة] .
قوله: فصل: "ومن وطيء امة ايما له ملك في رقبتها ثبت النسب".
أقول: الحكم في ولدالمشتركة سيأتي وغالب ما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الفصل ظلمات بعضها فوق بعض واعتماد على القيل والقال والرأي الذي ليس له إلي منهج الحق سبيل أما ثبوت النسب فلا يثبت الا بدليل يدل على ذلك لا بمجرد دعوى شبهة لا أصل لها فإن غالب هؤلاء الاماء المذكورات وطؤها وطء زنا بلا شك ولا شبهة والولد ولد زنى لا يلحق بالزاني الا بدليل.
وأما سقوط الحد فإن وجدت شبهة يدرأ بها الحد فذاك كوطء المسبية قبل القسمة لان الواطيء من جملة الغانمين فله ملك في رقبتها ويكون حكم ولدها حكم ولد المشتركة وسيأتي.
وأما المبيعة قبل التسليم فقد صارت ملكا له بالعقد وليس وطؤها من وطء الشبهة بل من وطء الملك الحلال وولدها لاحق بهذا المشترى وليس مجرد التسليم الا لتمام العقد ونفوذه ولا اعتبار بخلاف من يخالف في هذا. والعجب من المصنف رحمه الله حيث يجعل اللقيطة والمحللة والمستأجرة والمستعارة للوطء من جملة الموطوءات لشبهة فإنه لا شبهة هنا اصلا بل الواطيء زان والولد ولد زنا.
وأما أمة الابن إذا وطئها الاب والموقوفة إذا وطئها الموقوف عليه والمرقبة إذا وطئها المرقب والمغصوبة إذا اشتراها مشتر فوطئها فها هنا شبهة مع الجهل لا مع العلم وغاية هذه الشبهة سقوط الحد لا لحوق النسب فالولد ولد زنا. وأما الموهوبة فهي خامسة الاربع المتقدمات وكذا المصدقة هي سادستهن فلا شبهة ها هنا في هؤلاء الست ولا تأثير للجهل في لحوق النسب وأما قول المصنف والولد من الأول حر الخ فنقول الولد من الجميع ولد زنا الا ما دل عليه دليل ولا دليل الا في وطء المشتركة وتلحق بها المسبية قبل القسمة لما قدمنا وأما المبيعة قبل التسليم فما ينبغي جعلها في عداد المتردية والنطيحة وما أكل السبع لما عرفناك.
وأما المهر فمتى وجب على الواطىء الحد في وطئها فلا مهر وإذا لم يجب فإن كانت راضية مطأوعة غير مكرهة فلا وجه لايجاب المهر لها لأنه إنما يجب في النكاح الشرعي وما يلحق به.
[فصل
وتستهلك امة الابن بالعلوق فيلزم قيمتها ولا عقر والا فالعقر فقط قوله فصل وتستهلك امة الابن بالعلوق] .(1/395)
أقول: إن كان حديث انت ومالك لأبيك شبهة يسقط بها الحد فلا وجه للحقوق النسب ولا للزوم قيمتها ولا للزوم مهرها لان الاب زان اندفع عنه الحد والولد ولد زنى فلا تصير الامة ام ولد ولا يلحق ولدها باحد.
هذا على تقدير أنه قد علم ان الولد من وطء الاب والا فالولد للفراش إن ثبت لها فراش.
[فصل
ولا توطأ بالملك مشتركة فإن وطيء فعلقت فادعاه لزمه حصة الاخر من العقر وقيمتها يوم الحبل وقيمته يوم الوضع إلا لأخيه ونحوه فإن وطئا فعلقت فادعياه معا تقاصا أو ترادا وهو ابن لكل فرد ومجموعهم اب ويكمل الباقي فإن اختلفوا فللحر دون العبد م بالله ولو مسلما ثم للمسلم] .
قوله: فصل: "ولا توطا بالملك مشتركة".
أقول: هذا معلوم بالضرورة الدينية.
وأما قوله: "فإن وطيء تعلقت" الخ فوجهه انها قد صارت ام ولد للواطيء فصارت حرة وبطل ملك الشريك فهو كما لو اعتقها فإنها تعتق ويزلمه حصة شريكة ولا وجه لايجاب حصة شريكة من العقد لأنه ضمن له قيمة نصيبه ولا يجب عليه غير ذلك.
وهكذا لا يجب عليه حصة شريكه من قيمة الولد لأنه قد صار لاحقا به وبسببه كان الاستهلاك للأمة فلا يجب عليه الا حصة شريكه من قيمتها فقط ولا وجه للاستثناء في قوله الا لأخيه ونحوه لأنه لم يملك حتى يعتق عليه بل هو ولد للواطيء ولو قدرنا أنه يملكه الواطيء كان عتقه بكونه رحما له لأنه المالك ولا ملك لأخيه هذا على تقدير أنه تضمن حصة الشريك من قيمة الولد إذا كان غير اخ له وقد عرفناك أنه لا وجه لذلك.
قوله: "فإن وطئا فعلقت" الخ.
أقول: ينبغي العمل في مثل هذا بحديث زيد بن ارقم الذي أخرجه أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه قال اتى علي وهو باليمن في ثلاثة وقعوا على امراة في طهر واحد فسأل اثنين فقال اتقران لهذا بالولد قالا لا ثم سأل اثنين اتقران لهذا بالولد فقالا لا فجعل كلما سأل اثنين اتقران لهذا بالولد قالا لا فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي اصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندي المعروف بالاجلح قيل لا يحتج بحديثه ووثقة يحيى بن معين والعجلي وقال ابن عدي مستقيم الحديث وضعفه النسائي وقد روى مرسلا وصوبه النسائي.(1/396)
فهذا الحديث يدل على ان الحكم في الامة المشتركة هو هذا الحكم العلوي مع هذا التقرير المصطفوي والقرعة قد ثبت العمل بها في السنة في مواضع كثيرة كما أوضحنا ذلك في شرح هذا الحديث من شرحنا للمنتقى.
وأما ما ذكره المصنف فهو مجرد رأي لا يجمل الرجوع اليه مع ورود اقل دليل وأبعد مستند.(1/397)
[باب الفراش
إنما يثبت للزوجة بنكاح صحيح أو فاسد امكن الوطء فيهما أو باطل يوجب المهر غالبا تصادقا على الوطء فيه مع بلوغهما ومضى اقل مدة الحمل وللأمة بالوطء في ملك أو شبهته مع ذينك والدعوة] .
قوله: باب: "الفراش إنما يثبت للزوجة بنكاح صحيح أو فاسد امكن الوطء فيهما" الخ.
أقول: هذا الذي ذكره المصنف صحيح وقد افرط من قال إنه لايعتبر إمكان الوطء وان العقد بمجرده يكفي فإن هذا إثبات للفراش بما لا يصدق عليه اسم الفراش لا لغة ولا شرعا وفرط من قال إنه لا بد من العلم بالدخول فإن معرفة هذا متعسرة جدا فاعتباره يؤدي إلي بطلان كثير من الانساب فالتوسط بين الافراط والتفريط هو الحق وهو ما ذكره المصنف الا ان قوله أو باطل يوجب المهر تصادقا على الوطء فيه لا وجه له بل يكفي فيه مجرد الامكان كما كفى في الصحيح والفاسد لأن الدخول فيه مع العقد وجهل المبطل يصير به في حكم العقد الشرعي في ثبوت الفراش ولحوق النسب.
وأما فيما عدا ذلك فقد قدمنا الكلام فيه وأما مضى اقل مدة الحمل فامر لا بد منه لانها إذا ولدت قبل مضيها كان ذلك كاشفا عن كون المولود هذا كائنا من غير هذا الفراش.
قوله: "وللأمة بالوطء في ملك أو شبهته مع ذينك والدعوة".
أقول: ثبوت فراش الامة هو مورد النص كما في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما قالت اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلي شبهه وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي شبهه فرأى شبها بينا بعنبة, فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة".(1/397)
وفي لفظ للبخاري أنه قال: "هو أخوك يا عبد".
فهذا الحديث قد دل على ثبوت الفراش للأمة ودل على ثبوت افراش الحرة بفحوى الخطاب وتمسك المشترطون للدعوة بهذه الدعوة الواقعة في الحديث ولكن هذا انما اتفق في هذه الحادثة وليس فيه ما يدل على ان ذلك شرط لا يثبت النسب بدونه فقد كان الصحابة في زمنه صلى الله عليه وسلم يطأون الاماء ويحدث لهم منهن الأولاد ويصيرون أولادا لهم ولم يسمع أنه صلى الله عليه وسلم اخبرهم بأنه لا بد من الدعوة ولا ورد ذلك في شيء من المرفوع ولا سمع عن صحأبي أنه قال باشتراط ذلك وهكذا من بعد الصحابة.
فالحاصل ان فراش الامة يثبت بما يثبت به فراش الحرة وثبوت الملك عليها بمنزلة العقد على الحرة فلا يعتبر معه الا ما يعتبر في فراش الحرة من إمكان الوطء.
[فصل
وما ولد قبل ارتفاعه لحق بصاحبه قيل وإن تعدد كالمشتركة والمتناسخة في طهر وطئها كل فيه قبل بيعه وصادقهم الاخر وادعوه معا فإن اتفق فراشان مترتبان فبالاخر إن امكن والا فبالأول إن امكن والا فلا يهما واقل الحمل ستة اشهر واكثره اربع سنين] .
قوله: فصل: "وما ولد قبل ارتفاعه لحق بصاحبه".
أقول: وجهه ان السبب وهو الفراش لما كان باقيا كان المسبب وهو لحوق الولد ثابتا وأما قوله: "وإن تعدد كالمشتركة والمتناسخة" فالحكم في هاتين الامتين هو الحكم الذي قضى به على رضيى الله عنه وقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "فإن اتفق فراشان مترتبان" الخ فهذا هو غاية ما يجب من التحري في حفظ الانساب وعدم التسأهل في إثباتها فإن تعذر على كل حال لم يجز حمل النسب على الغير بغير مسوغ لان ذلك ظلم له وللولد.
قوله: "واقل الحمل ستة أشهر وأكثره أربع سنين".
أقول: لم يات دليل قط لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف مرفوع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ان اقل الحمل كذا ولم يستدلوا الا بقوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] ، مع قوله سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] .
ويقوى هذه الدلالة الايمائية أنه لم يسمع في المنقول عن أهل التواريخ والسير أنه عاش مولود لدون ستة اشهر وهكذا في عصرنا لم يسمع بشيء من هذا بل الغالب ان المولود لستة اشهر لا يعيش إلا نادرا لكن وجود هذا النادر يدل على أن الستة الاشهر اقل مدة الحمل وقد كان من جملة من ولد لستة اشهر من المشهورين عبد الملك بن مروان الخليفة الاموي وهكذا لم(1/398)
يرد في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف مرفوع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اكثر مدة الحمل اربع سنين ولكنه قداتفق ذلك ووقع كما تحكيه كتب التاريخ غير ان هذا الاتفاق لا يدل على ان الحمل لا يكون اكثر من هذه المدة كما ان اكثرية التسعة الاشهر في مدة الحمل لا تدل على أنه لا يكون في النادر اكثر منها فإن ذلك خلاف ما هو الواقع.
والحاصل أنه ليس هناك ما يوجب القطع بل إذا كان ظاهر بطن المرأة ان فيه حملا كأن يكون متعاظما ولا علة بالمراة تقتضي ذلك وحيضها منقطع وهي تجد ما تجده الحامل فالانتظار متوجه ما دامت كذلك وإن طالت المدة أما إذا كان ثم حركة في البطن كما يكون في بطن الحامل فلا يقول بأنها إذا مضت الاربع السنين لا يكون له حكم الحمل الا من هو من أهل الجمودالذين لا يميزون فإن الحمل ها هنا قد صار متيقنا بوجود الحركة التي لا تكون الا من جنين موجود في البطن ولا يجوز المصير إلي تجويز ان ذلك المتحرك غير جنين.
وأما إذا لم يكن البطن متعاظما وليس الا مجرد دعوى المراة على الحمل بانقطاع حيضها أو بغيره من القرائن التي لا تظهر وتحس فيجب الانتظار إلي انقضاء المدة الغالبة وهي التسعة الاشهر فإن مضت ولم يظهر في بطنها ما يدل على الحمل من التعاظم والحركة فلا انتظار بعدها لأن هذه المدة الغالبة لاتنقضي والبطن كما هي في غير الحامل فهذا هو الذي ينبغي اعتماده في مثل هذه المسألة.
[فصل
وإنما يقر الكفار من الانكحة على ما وافق الإسلام قطعا أو اجتهادا فمن اسلم عن عشر واسلمن معه عقد بأربع إن جمعهن عقد والا بطل ما فيه الخامسة فإن التبس صح ما وطيء فيه فإن التبس أو لم يدخل بطل فيعقد وقيل يطلق ويعقد فيختلف حكمهن في المهر ولميراث] .
قوله: فصل: "وإنما يقر الكفار من الانكحة" الخ.
أقول: الاصل في هذا ما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه والشافعي وصححه ابن حبان وغيره وحسنه الترمذي من حديث الضحاك بن فيروز عن أبيه قال اسلمت وعندي امراتان اختان فأمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أطلق إحداهما ولفظ الترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "اختر أيتهما شئت".
وهكذا حديث غيلان الثقي أنه اسلم عن عشر واسلمن معه فامره رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يختار منهن أربعا وقد قدمنا تخريجه وتصحيحه.
وفي هذين الحديثين دليل على أنه لا يقر الكفار من انكحتهم الا على ما يوافق الإسلام أي(1/399)
يوافق ما هو متقرر في الشريعة الإسلامية لا في اجتهادات المجتهدين من أهلها إن كان الاجتهاد مخالفا للدليل فإن مثل ذلك لا يصلح للرد اليه ولا للتعويل عليه.
وأما قوله: "عقد بأربع" فلا وجه له بل يكفيه ان يختار منهن اربعا بغير عقد فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما امره بذلك وفي رواية أنه قال: "أمسك منهن أربعا" وقال في حديث الضحاك المذكور: "اختر أيتهما شئت".
وإذا تقرر لديك أنه لا وجه لتجديد العقد عرفت عدم الحاجة إلي الكلام على ما جعله المصنف متفرعا على ذلك إلي آخر البحث.(1/400)
كتاب الطلاق
[باب إنما يصح من زوج مختار مكلف
غالبا قصد اللفظ في الصريح وهو مالا يحتمل غيره إنشاء أو إقرارا أو نداء أو خبرا ولو هازلا أو ظانها غير زوجته أو بعجمي عرفة واللفظ والمعنى في الكتابة وهو ما يحتمله وغيره كالكتابة المرتسمة وإشارة الاخرس المفهمة وعلى أو يلزمني الطلاق وتقنعي وانت حرة وانا منك حرام لا طالق.
وسنيه واحدة فقط في طهر ولا وطء منه في جمعيه ولا طلاق ولا في حيضته المتقدمة وفي حق غير الحائض المفرد فقط وندب تقديم الكف شهرا ويفرق الثلاث من أرادها على الاطهار أو الشهور وجوبا ويخلل الرجعة بلا وطء ويكفي في نحو انت طالق ثلاثا للسنة تخليل الرجعة فقط.
وبدعيه ما خالفه فيأثم ويقع ونفي احدالنقيضين إثبات للاخر وإن نفاه كلا لسنة ولا لبدعة.
ورجعيه ما كان بعد وطء على غير عوض مال وليس ثالثا وبائنه ما خالفه مطلقه يقع في الحال ومشروطه يترتب على الشرط نفيا واثباتا ولو مستحيلا أو مشيئة الله تعالي.
وآلاته إن وإذا ومتى وكلما ولا يقتضى التكرار الا كلما م ومتى غالبا ولا الفور الا ان في التمليك غير إن وإذا مع لم ومتى(1/400)
تعدد لا بعطف فالحكم للأول وإن تأخر وقوعه إن تقدم الجزاء فإن تأخر أو عطف المتعدد بأو أو بالوأو مع إن فلواحد.
وينحل وبالوأو لمجموعه] .
قوله: "كتاب الطلاق إنما يصح من زوج".
أقول: الايات القرآنية والاحاديث النبوية الواردة في الطلاق هي كلها مصرحة بأن الطلاق هو الواقع من الازواج ولم يرد غير هذا حتى يحتاج إلي الكلام عليه فمن ادعى أنه يصح طلاق من غير زوج فعليه البرهان فإن نهض به والا كانت دعواه ردا عليه.
وأما ما ورد في التخيير والتوكيل فهو كائن من جهة الزوج فأنه إذا خير زوجته فقد جعل الامر الذي هو اليه اليها وهكذا إذا وكل وكيلا يطلق زوجته.
وإذا تقرر لك هذا عرفت أنه لا حاجة إلي الاستدلال على كون الطلاق إنما يصح من الزوج بالاحاديث التي لا تقوم بها حجة كحديث: "الطلاق لمن أمسك بالساق" "ابن ماجة 2081".
نعم يجب على الزوج إذا امره ابوه ان يطلق امرأته ان يطيعه ويطلقها لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح من حديث ابن عمر قال كان تحتي امراة احبها وكان أبي يكرهها فأمرني ان اطلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك"، فهذا الحديث فيه أنه يجب على الزوج ان يطلق امرأته إذا امره ابوه بذلك وفيه أيضا دليل على أنه لا يصح الطلاق الا من الزوج فإنه لو كان يصح من غيره لكان الاب احق بذلك فإذا لم يصح من الاب لم يصح من غيره بفحوى الخطاب.
وأما ما روى عن ابن عباس أنه يقع طلاق السيد على عبده فهو قول صحأبي لا تقوم به حجة مع أنه قد روى هو نفسه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف قوله هذا في حديث العبد الذي قال يا رسول الله سيدي زوجني امته وهو يريد ان يفرق بيني وبينها فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"، أخرجه ابن ماجه والدارقطني والطبراني وابن عدي وفي إسناده ابن لهيعة.
قوله: "مختار".
أقول: الأقوال والأفعال الصادرة على وجه الاكراه قد دلت ادلة الشرع الكلية والجزئية على أنه لا يترتب عليها شيء من الأحكام فإن الله سبحانه لم يجعل من كفر مكرها كافرا فقال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] ، وإذا كان الاكراه مبطلا للكفر بالله والاشراك فما ظنك بغيره وقال الله سبحانه: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما دعاه عباده بهذه الدعوات قال: "قد فعلت".
فالمكره لو كلف بما أكره به ويثبت عليه أحكامه لكان قد حمل مالا طاقة له به ومن هذا(1/401)
القبيل حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإن له طرقا يشهد بعضها لبعض ولذلك حسنه من حسنه.
والمراد بالرفع رفع الخطإ بذلك وترتب أحكامه عليه وهذا المقدار يكفي في الاستدلال على عدم صحة طلاق المكره على تقدير عدم وجوب ما يدل عليه بخصوصه فكيف وقد دل عليه خصوصا حديث: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" فإن ابن قتيبة والخطأبي وابن السيد حكوا عن ائمة اللغة أنهم فسروه بالاكراه ولا ينافي ذلك تفسير بعضهم له بالغضب وبعضهم له بالتضييق على ما في هذين التفسيرين من الضعف البين والمخالفة لما هو الظاهر.
قوله: "مكلف".
أقول: للانفاق على ان الصبي والمجنون غير مكلفين بالأحكام الشرعية ولكون ما صدر منهما لم يكن صادرا عن قصد أما المجنون فظاهر اذ لا قصد له صحيح اصلا وأما الصبي فلأن قصده كلا قصد لنقصان إدراكه.
ومما يدل على عدم الوقوع حديث: "رفع القلم عن ثلاثة"، [أحمد "6/100، 101 144"، أبو داود "4398"، النسائي "6/156" ابن ماجة "2041"] ، ولا وجه لاستثناء السكران بقوله غالبا لأنه إذا ذهب إدراكه كان لاحقا بالمجانين وله حكمهم.
وأما قول من قال إنه يقع طلاقه عقوبة له فقد ورد الشرع بأن عقوبته الحد وليس لنا ان تجعل له عقوبة من جهة انفسنا ونرتب عليها أحكاما لم يأذن الله بها وقد سكر حمزة رضي الله عنه قبل تحريم الخمر وقال للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلي رضي الله عنه لما دخلا عليه وهو سكران: هل أنتم الا عبيد لأبي, فلو كان لكلام السكران حكم لكان هذا الكلام كفرا.
وقد أطلنا الكلام على طلاق السكران في شرحنا للمنتقي فليرجع اليه ففيه مالا يحتاج الناظر فيه إلي غيره.
قوله: "قصد اللفظ في الصريح".
أقول: هذا من غرائب الاجتهاد وعجائب الراي وكيف يؤاخذ من قصد التكلم باللفظ غير مريد لمعناه بما هو مدلول ذلك اللفظ مع أنه غير مقصود ولا مراد واي تكليف ورد بمثل هذا واي شرع أو لغة أو عرف دل عليه فإن الالفاظ إنما هي قوالب المعاني ولا تراد لذاتها اصلا لا عند أهل اللغة ولا عند أهل الشرع فالمتكلم بلفظ الطلاق الصريح في معناه إذا لم يرد المعنى الذي وضع له ذلك اللفظ وهو فراق زوجته فهو كالهاذي الذي يأتي في هذيانه بألفاظ لا يريد معانيها ولا يقصد مدلولاتها.
فالحاصل ان من لم يقصد معنى اللفظ لم يؤاخذ به وإن تكلم به الف مرة ومن زعم غير هذا فقد جاء لما لم يعقل ولا يطابق شرعا ولا عقلا ولا رايا قويا نعم إذا جاء في لفظه بما هو طلاق صريح وقال إنه لم يقصد معناه ولا أراد مدلوله كان مدعيا لخلاف الظاهر لأنه ادعى ما لا(1/402)
يفعله العقلاء في غالب الاحوال ولكن لما كان القصد لا يعرف الا من جهته كان القول قوله مع يمينه إن خاصمته في ذلك امرأته أو احتسب عليه محتسب.
وأما قوله: "إنشاء كان أو إقرارا أو نداء أو خبرا" فكل هذه إذا وقعت من الزوج قاصدا بها معانيها كان ذلك طلاقا بلا شك ولا شبهة لا إذا لم يقصدها كما عرفناك.
قوله: "ولو هازلا".
أقول: الهازل هو الذي تكلم باللفظ قاصدا لمعناه المراد منه ولكن أوقعه على طريقة الهزل ولم يوقعه على طريقة الجد أما لو لم يقصد به المعنى بكل تكلم باللفظ من غير قصد قط فإن هذا لا يصدق عليه أنه هازل وهذا ظاهر مكشوف ووجه وقوع الطلاق من الهازل ورود الشرع بذلك وهو ما أخرجه أحمد وأبو دأود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وأخرجه أيضا الدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة".
وما قيل من أن في إسناده عبدا لرحمن بن حبيب بن اردك وقد قال النسائي إنه منكر الحديث فهو مدفوع بأنه قد وثقه غيره قال ابن حجر فهو على هذا حسن.
وأخرج الطبراني من حديث فضالة بن عبيد بلفظ: "ثلاث لا يجوز فيهن اللعب الطلاق والنكاح والعتق" وفي إسناده ابن لهيعة.
وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن عبادة بن الصامت بلفظ: "لا يجوز اللعب فيهن الطلاق والنكاح والعتاق فمن قالهن فقد وجبن" وإسناده منقطع.
وأخرج عبد الرزاق عن أبي ذر "من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز" وفي إسناده انقطاع أيضا.
وأخرج عبد الرزاق نحوه عن علي وعمر موقوفين.
فالحديث المتقدم وما في معناه قد دل على وقوع هذه الثلاثة من الهازل ولولا ورود ذلك لم يقع بها شيء لأنه لم يخرجها مخرج القصد الصحيح والعزم المعتبر كما قال عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] .
قوله: "أو ظانها غير زوجته".
أقول: هذا بناء على ان مجرداللفظ يكفي كما سلف وقد عرفت أنه لا بد ان يقصد باللفظ أي لفظ كان فراق زوجته فالقاصد لغيرها فانكشف انها هي هو غير قاصد لفراق زوجته فلا يقع طلاقه عليها فإنه لم يوقعه عليها بل أوقعه على غيرها.
وأما قوله: "أو بعجمي عرفه" فصحيح إذا كان عارفا بمعناه وقصد به فرقتها فليس الطلاق مختصا بألفاظ العرب.
وأما قوله: "واللفظ والمعنى في كناية" فقد عرفت أنه لا فرق بين اللفظ الصريح والكناية لأنه إذا لم يكن قاصدا لمعناه لم يقع به الطلاق ولا فرق بين ان تكون الكناية بلفظ أو إشارة أو(1/403)
كتابة إذا ليس المراد الا الافهام وهو يقع بجميع ذلك ولم يصب من قال إنه لا يقع الطلاق بالكناية.
والحاصل أنه يقع الطلاق لكل لفظ أو نحوه يدل على الفرقة كائنا ما كان حيث كان مريدا للفرقة به فلا فائدة في تعداد الالفاظ.
قوله: "وسنيه واحدة فقط في طهر".
أقول: أما اشتراط كونها واحدة فليس في الاحاديث الصحيحية ما يدل عليه وأما ما روى من حديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ في كل قرء طلقة فلم يثبت ولا تقوم بمثله الحجة وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما طلق ابنه عبد الله امرأته وهي حائض: "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا"، فقوله: "ثم ليطلقها" يدل على جواز الطلاق منه في تلك الحال كيف شاء واحدة أو أكثر. وهكذا سائر روايات الصحيحين فإنها مصرحة بلفظ الطلاق وهو لا يختص بالواحدة فله ان يطلقها في ذلك الطهر ثم يراجعها ثم يطلقها اخرى.
وثبت في حديثه في الصحيحين [البخاري "5332" مسلم "1471"، وغيرهما [أبو داود "2179"، الترمذي "1175"، النسائي "6/137، 141"] ، أنه قال له: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها"، فدل على أنه إذا وقع الطلاق في الحيض فلا بد في طلاق السنة من ان تطهر في هذه الحيضة ثم ينقضى هذا الطهر والحيض بعده ويطلقها في الطهر الثاني فإن طلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها لم يكن سنيا كما قال المصنف وفي طهر لا وطء فيه ولا طلاق ولا في حيضته المتقدمة الا ان اشتراط ان لا يكون وطؤها في هذا الحيض ليس في الادلة ما يدل عليه فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما عرف بان لا يطلقها في الطهر الذي وقع بعدالحيضة التي طلقها فيها.
وأما قوله: "في حق غير الحائض المفرد فقط" فوجهه ان الذي انكره النبي صلى الله عليه وسلم هو ايقاع الطلاق في الحيض وهذه ليست بحائض ولم يدل دليل على كيفية الطلاق السني في حقها فكان ايقاع الطلاق عليها في أي وقت كان موافقا للسنة.
وأما اشتراط ان تكون واحدة فقد قدمنا أنه لا يدل دليل على ذلك في الحائض ولا ورد ما يدل على اشتراطه في طلاق السنة في غير الحائض.
ولا وجه لقوله: "وندب تقديم الكف شهرا" لأن الندب حكم شرعي فلا يثبت الا بدليل.
وأما قوله: "ويفرق الثلاث" الخ فمبني على ان الطلاق لا يكون على السنة الا إذا كان مفردا وليس على ذلك دليل.
وأما قوله: "وتخلل الرجعة". وقوله: "ويكفي في نحو انت طالق ثلاثا للسنة تخليل الرجعة" فمبني على ان الطلاق لا يتبع الطلاق وسيأتي البحث عنه إن شاء الله.
قوله: "ويدعيه ما خالفه فياثم ثم يقع".(1/404)
أقول: الذي دل على هذا الطلاق المسمى بطلاق السنة هو حديث ابن عمر الذي قدمنا ذكر بعض طرقه وقد ورد فيه في رواية في الصحيحين [البخاري "4908، 7160"، مسلم "4/1471"] ، وغيرهما [أحمد "2/26، 58، 81، 130"، الترمذي "1176"] : وكان عبد الله طلق تطليقة فحسبت من طلاقها.
وفي رواية لمسلم وأحمد والنسائي أن ابن عمر كان إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم أما إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم امرني بهذا وإن كنت قد طلقت ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت الله عز وجل فيما امرك به من طلاق امرأتك.
وفي لفظ في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مره فليراجعها".
وفي لفظ للبخاري عن ابن عمر أنه قال: "حسبت علي بتطليقه".
فهذه الروايات تدل على وقوع البدعي وقد ذهب إلي ذلك الجمهور واستدل القائلون بعدم وقوعه بما أخرجه أحمد وأبو دأود والنسائي عن ابن عمر بلفظ فردها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرها شيئا ورجال هذا الحديث رجال الصحيح قال ابن حجر وإسناده هذه الزيادة على شرط الصحيح وقال ابن القيم إن هذا الحديث صحيح قال الخطابي قال أهل الحديث لم يرو أبو الزبير انكر من هذا الحديث وقد يحتمل ان يكون معناه ولم يرها شيئا يحرم معه المراجعة ولم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار.
وقال ابن عبد البر قوله لم يرها شيئا منكر لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف إذا خالفه من هو أوثق منه ولو صح فمعناه عندي والله أعلم ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تكن على السنة.
وقال أبو دأود بعد إخراجه لهذه الزيادة روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة واحاديثهم على خلاف ما قال أبو الزبير.
وبهذا تعرف ان القول بوقوع البدعي ارجح ويؤيد هذا أنه أخرج ابن وهب في مسنده عن ابن أبي ذئب أنه قال في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وهي واحدة"، وقال ابن أبي ذئب وحدثني حنظلة بن أبي سفيان سمع سالما يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأخرجه الدارقطني عن يزيد بن هرون عن بن أبي ذئب وأبي اسحق جميعا عن نافع عن أبي عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هي واحدة".
وأخرج الدارقطني أيضا من رواية سعيد عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصة فقال عمر: يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: "نعم".
وقد حررت هذا البحث في رسالة مستقلة.
قوله: "ونقى أحد النقيضين إثبات للآخر".
أقول: يعني حيث نفاهما معا فإن نفى الأول يكون اثباتا للآخر فإذا قال هي طالق لا(1/405)
لبدعة ولا للسنة طلقت للسن والعكس للبدعة وانت خبير بأن هذا إن كان رجوعا إلي مدلول ما تكلم به فقد تكلم بما يفيد عدم وقوع الطلاق على كل حال لأنه قال لا كذا ولا كذا ومعنى هذا عدم الوقوع في كلا الحالتين وعلى كلا الوصفين المتقابلين وإن كان رجوعا إلي شيء آخر غير مدلول الكلام الذي تكلم به فما هو وللرجل ان ينفي الطلاق عن نفسه بأي عبارة أراد فكيف يكون نفيه البالغ المتضمن لرفع النقيضين أو الضدين موجبا لوقوع الطلاق.
قوله: "ورجعيه ما كان بعد وطء على غير عوض مال وليس ثالثا".
أقول: هذا الرسم للرجعي صحيح الا اشتراط الوطء ففيه ما فيه فإن الخلوة توجب العدة وكونه لا يثبت لزوجها عليها الرجعة فيها محتاج إلي دليل.
وأما المختلعة فهي افتدت نفسها فلو كان له مراجعتها من جهة نفسه بدون اختيارها لكان ذلك خلاف ما هو مقصوده من الافتداء.
وأما المثلثة فبنص القرآن وهكذا قوله وبائنه ما خالفه فإن الكلام فيه هكذا.
قوله: "ومطلقه يقع في الحال وشروطه يترتب على الشرط".
أقول: أما وقوع المطلق في الحال فظاهر لا يحتاج إلي ذكره لان تجرد اللفظ عن التقييدات يوجب ان يكون زمانه زمان التكلم به اذ هو مقتضى اللفظ ولا صارف يصرف عنه.
وأما كون مشروطه يترتب على الشرط فظاهر ومن شكك في وقوع الطلاق المشروط فهو لم يأت في تشكيكه بطائل فإن التقييد بالشروط في الكتاب والسنة لا يحيط به الحصر فضلا عن كلام العرب وليس هذا التشكيك مختصا بالطلاق بل يجري في جميع الابواب وفي كل شرط مستقبل في اللغة العربية باسرها وهذا دفع للشرع بالصدر فضلا عن كونه ردا للغة العرب.
قوله: "أو مشيئة الله".
أقول: قد جاءت السنة الصحيحة بأن التقييد بالمشيئة يوجب عدم وقوع ما علق بها كمن حلف ليفعلن كذا إن شاء الله فإنه لا يلزمه حكم اليمين في هذا أو غيره فالمعلق للطلاق بالمشيئة إن أراد هذا المعنى لم يقع منه الطلاق وان أرادا لطلاق إن كان الله سبحانه يشاؤه في تلك الحال فإن كان ممسكا بها بالمعروف وهي مطيعة له فالله سبحانه لا يشاء طلاقها.
وإن كان غير ممسك بالمعروف فقد أراد الله سبحانه منه في تلك الحالة ان يسرحها بإحسان كما قال في كتابه العزيز فمراده هو ما في كتابه من التخيير بين الامساك بالمعروف والتسريح بالاحسان.
وإن أراد ما يريده غالب الناس من لفظ التقييد بالمشيئة فإنهم يريدون تأكيد وقوع ما قيدوه بها في الاثبات وتأكيد عدم وقوع ما قيدوه بها في النفي وقع الطلاق المقيد بالمشيئة لأنه قد أراد الفرقة بعبارة مؤكدة.
وأما قوله: "وآلاته" الخ فالمصنف رحمه الله إنما اقتصر على هذه لكونها أمهات الات الشرط كما صرح هو بذلك.(1/406)
قوله: "ولا يقتضي التكرار الا كلما".
أقول: لهذا صحيح لانها تقتضيه لذاتها بخلاف عيرها فا متى لا تدل على تكرار كما يعلم من قول القائل متى جئتني اكرمتك فإنه لا يراد بهذا أنه يكرمه في كل وقت من أوقات مجيئه وأما كلما فإنها دالة على التكرار دلالة بينة واضحة ولا ترد لغيره الا لقرينة تصرفها عما هو اصلها وأما تكرر المعلق على علة بتكررها فهذا بحث آخر ليس المصنف بصدد بيانه.
قوله: "ولا يقضتي الفور الا إن في التمليك".
أقول: إن كان هذا الاقتضاء من هذا الحرف فهو محتاج إلي نقل عن أهل اللغة وإن كان ذلك بخصوص كونها في التمليك فلا شك أنه لم يرد ما يدل على الفور في مثل قول الرجل لامرأته طلقي نفسك إن شئت فإن المشيئة منها كما يصح اعتبارها في الحال يصح اعتبارها في الاستقبال وكذا قوله وغير ان وإذا مع لم فإنه لم يرد ما يدل على هذه الدعوى من شرع ولا لغة وان كان هذا الاقتضاء هو مجرد اصطلاح للمصنف وأهل محله فلا مشاحة في الاصطلاحات.
قوله: "ومتى تعدد لا بعطف فالحكم للأول" الخ.
أقول: ايقاع القيود بعدالكلام يوجب ان يكون كلها قيودا له فيقول القائل انت طالق إن أكلت إن شربت هو كقوله انت طالق إن أكلت انت طالق إن شربت فيقع الطلاق بواحد منهما فإن أكلت طلقت وإن شربت طلقت ولا فرق بين المتقدم في كلامه والمتأخر بل الاعتبار بما تقدم وقوعه من المرأة هكذا ينبغي ان يكون الكلام في هذا المقام.
وأما مع العطف فيما اقتضاه العاطف من جمع أو ترتيب كان العمل عليه وهو ظاهر فالقائل انت طالق إن أكلت وشربت لا يقع طلاقه الا بمجموع الأكل والشرب وإن قال إن أكلت ثم شربت فلا يقع طلاقه الا بوقوع الأكل أولا ثم الشرب ثانيا وهكذا في التخيير تطلق بواحد منهما.
[فصل
ويصح التعليق بالنكاح والطلاق نفيا وإثباتا لواحدة أو اكثر وبالوطء فيقع بالتقاء الختانين والتتمة رجعة في الرجعي وبالحبل قيل ويكف بعد الانزال حتى يتبين وبالولادة فيقع بوضع متخلق لا وضع الحمل فبمجموعه وبالحيض فيقع برؤية الدم إن تم حيضا قوله فصل ويصح التعليق بالنكاح والطلاق] الخ.
أقول: لا حاجة لذكر هذا الفصل فإنه يغني عنه ما تقدم من تجويز الطلاق المشروط ووقوعه عنه وقوع شرطه وهذه الصورة المذكورة في هذا الفصل هي داخلة تحت ذلك العموم فإن قول(1/407)
الزوج إن نكحت فلانة أو طلقتها فأنت طالق وكذا قوله إن وطئتها وكذا قوله إن ولدت فأنت طالق وإن حضت فأنت طالق هي طلاقات مشروطة فهي داخلة فيما تقدم ولعله أراد ان يبين ما ذكره من ان التتمة رجعة في الرجعى وان الولادة تكون بوضع مولود متخلق ووضع الحمل لا يكون وضعا الا بوضع المجموع ولكن لا يخفاك ان بيان مثل هذه الامور لا يلجىء إلي هذا التكرار الطويل مع وضوح الامر في هذه الاشياء وعدم خفائها حتى يقتضي ذلك بيانها.
[فصل
وما علق بمضي حين ونحوه قيل وقع بالموت ومنه إلي حين ويقع بأول المعين وأول الأول إن تعدد كاليوم غدا ولو بتخيير أو جمع غالبا ويوم يقدم ونحوه لوقته عرفا وأول آخر اليوم وعكسه لنصفه أمس لا يقع وإذا مضى يوم في النهار لمجيء مثل وقته وفي الليل لغروب شمس تاليه والقمر لرابع الشهر إلي سبع وعشرين والبدر لرابع عشر فقط والعيد وربيع وجمادي وموت زيد وعمرو لأول الأول وقبل كذا للحال وبشهر لقبله به وقبل كذا وكذا بشهر لقبل أخرهما به ويدخله الدور ولا يصح التحبيس وهو متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ومهما لم يغلب وقوع الشرط لم يقع المشروط وما أوقع على غير معين كإحداكن أو التبس بعد تعينه أو ما وقع شرطه أوجب اعتزال الجميع فلا خيرجن الا بطلاق فيجبر الممتنع فإن تمرد فالفسخ ولا يصح منه التعيين ويصح رفع اللبس برجعة أو طلاق] .
قوله: فصل: "وما علق بمضى حين ونحوه" الخ.
أقول: إن كان الحين مشتركا بي ما يطلق عليه من الحصص الزمانية فلا بد ان يريد واحدة منها ولا تطلق بمجرد وقوع اللحظة اليسيرة لانها أحد معاني الحين فهي كغيرها لا مرجع لها على ما هومن جملة معاني الحين حقيقة وإن كان لاحين حقيقة في واحد منها مجازا فيما عداه لم تطلق الا بالحين الحقيقي الا ان يكون مريدا للمجاز فله أرادته.
وإن كان الحين مطلقا في أفراده يتنأولها على جهة البدل كرجل فإن أراد واحدا منها كان الطلاق واقعا بمضية وان لم يرد وقع الطلاق بما يصدق عليه ذلك المطلق وأول ما يصدق عليه اللحظة من الزمان.
وأما قول المصنف: "ومنه إلي حين" فليس مراده ما يدل عليه لفظ إلي من كون الطلاق مغيا بغاية هي مضي الحين فإن هذه الأرادة لا تصدر من متشرع فضلا عن عالم فليس مراده الا ان إلي هنا بمعنى مع فكأنه قال انت طالق مع مضي حين فإذا مضى طلقت.(1/408)
وأما قوله: "ويقع بأول المعين" فصحيح لان ذلك الوقت قد صار زمانا لوقوع الطلاق وليس بعضه أولى من بعض فتطلق لدخول ذلك الوقت المعين حيث لم يكن متعددا وبأول وقت يدخل من المتعدد وإن كان الظاهر أنه قد جعل المتعدد وقتا للطلاق فيرجع إلي أرادته إن كان له أرادة كان العمل عليها وإن كان لا أرادة له فكما قدمنا أنه في حكم الواحد فيقع بدخول جزء من الوقت.
وأما التخيير فالظاهر أنه لا جزم بوقوع الطلاق في احدهما فإذا قال: أنت طالق اليوم أو غدا فإن كان له أرادة كان العمل عليها وإن لم تكن له أرادة فلا يقع بمضي اليوم طلاق بل لا يقع الا بدخول جزء من الغد لعدم استقرار الكلام مع حرف التخيير فإنه إنما يكون للشك أو التشكيك.
وما الجمع نحو ان يقول انت طالق اليوم وغدا فإنه قد صار الجمع كالوقت الواحد لما يقتضيه حرف الجمع ويقع بدخول جزء من اجزاء الأول.
وأما قوله: "ويوم يقدم ونحوه لوقته عرفا" فهذا صحيح إن كان ثم عرف وإلا فالظاهر انها تطلق بأول جزء من اليوم الذي قدم فيه ويكون قدومه كاشفا عن وقوع الطلاق في أول اليوم.
وأما قوله: "وأول آخر اليوم وعكسه لنصفه" فالظاهر أن آخر اليوم وهو آخر اجزائه فتطلق في أول هذا الجزء ولا يتحقق وقوع هذا الطلاق الا بانقضاء اليوم كله وتطلق في العكس عند مضى جزء من أول اليوم. لانه يصدق بمضي ذلك الجزء أنه آخر أول اليوم.
وأما كون امس لا يقع فظاهر لأنه قد انقضى فلم يبق منه ما يكون وقتا لوقوع الطلاق.
وأما قوله: "وإذا مضى يوم في النهار فلمجيء مثل وقته" فالظاهر أنه لا بد من مضي يوم مستقل من غير اعتبار الكسر لان هذا هو المعنى الحقيقي فلا تطلق الا بمضي اليوم المستقبل كله كما لو قال ذلك وهو في الليل.
وأما قوله: "والقمر لرابع الشهر" الخ فإن كان هذا مدلوله اللغوي فلا باس به وإلا فالظاهر أن يقال له قبل الكمال هلال وهكذا اختصاص البدر بليلة رابع عشر إن كان ذلك مدلولا لغويا فلا بأس والا فالظاهر أنه يقال له بدر ما بقي كاملا:
توفي البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل
وأما قوله: "والعيد وربيع وجمادي" الخ فليس لذكر هذا فائدة يعتد بها بعد قوله ويقع بأول المعين وأول الأول.
وأما قوله: "وقبل كذا للحال" فصحيح لأن وقت التكلم هو أول الأوقات القبلية وليس المراد القبلية المطلقة والا لزم ان لا يقع الطلاق بل يكون كقوله انت طالق امس ووجهه أن هذه القبلية لذلك الامر الذي سماه كائنة قبل التكلم.
وأما قوله: "وقيل كذا وكذا بشهر لقبل آخرهما به" فالظاهر ان القبلية المنسوبة إلي الشيئين(1/409)
المذكورين تكون قبل أولهما ولا وجه لجعلها مختصة بقبلية الاخر فإذا دخل أولهما وقد مضى من وقت التكلم شهر فصاعدا كشف عن وقوع الطلاق قبله الشهر وأما إذا دخل أولهما قبل مضى شهر فالظاهر عدم وقوع الطلاق كما لو قال انت طالق امس.
قوله: "ويدخله الدور".
أقول: الدور هو عدم تناهي التوقفات في أمور متناهية كأن يتوقف كل واحد من الامرين على الاخر مثلا فلا ينجز واحد منهما لأنه متوقف على الاخر والاخر متوقف عليه فهذا المطلق الذي جاء في طلاقه بما يقتضي الدور لم يرد ايقاع الطلاق فلا يقع طلاقه لعدم أرادته ولعدم اقتضاء ما جاء به من الدور للوقوع فمن قال إنه يقع الطلاق المشتمل على الدور فهو لم يصب لأنه إن أراد وقوعه من حيث الصيغة فهي متمانعة كما هو شأن الدور وإن أراد وقوعه من حيث الأرادة فهو بحث آخر.
وأما قوله: "ولا يصح التحبيس" فهو راجع على ما قدره من أنه يدخله الدور بالنقض لأنه صادق على التحبيس معنى الدور فإن قوله في مثاله وهو تى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا قد جعل هذا الطلاق متوقفا على وقوع الثلاث ووقوع الثلاث متوقفا على وقوع الطلاق وهذا هو الدور لصدق حقيقته التي قدمنا ذكرها عليه فلا عذر لمن قال بأنه يدخل الطلاق احدهما ان يقول بعدم دخول الاخر.
ومن قال بعدم دخول الطلاق احدهما ان يقول بدخول الاخر والحاصل ان الطلاق الذي وقع على هذه الصفة ينبغي الرجوع إلي مدلول لفظه وقد وجدنا اللفظ الذي جاء به متمانعا لا يقع بعضه الا بوقوع البعض الاخر فلا يجوز لنا ان نحكم بالوقوع لأنه حكم على الزوج بغير ما تكلم به وتفويت لزوجته وإخراج لها من عقد نكاحه بغير صدور ما يدل على ذلك منه فالحكم بالوقوع فيه ظلم له من هذه الحيثية.
وأما استدلال من ابطل الدور والتحبيس بأن ذلك بدعة وأنه على غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يلزم منه ان يمتنع منه إيقاع الطلاق عليها دائما وهو مأذون به فهو استدلال لشيء آخر وقد عرفت ان الله سبحانه جعل الطلاق بيد الازواج فلهم ان يطلقوا متى شاءوا ولهم ان لا يطلقوا ابدا وهذا الذي جاء بالدور قد أراد ان لا يطلق أبدا فما المانع من هذا؟
قوله: "ومهما لم يغلب وقوع الشرط لم يقع المشروط".
أقول: الاصل عدم الوقوع فلا يقع الطلاق الا إذا تيقن وقوع الشرط ولا يكفي مجرد الظن وإنما اعتبره المصنف هنا لما سيأتي من أنه يكفي الظن الغالب في النكاح تحريما ولكن الذي ينبغي ها هنا ان لا ينتقل عن الاصل الذي هو عدم وقوع الشرط الا بعلم لا بظن.
قوله: "وما أوقع على غير معين" الخ.
أقول: هذه الصور ينبغي تحقيق الكلام فيها بما يظهر به الصواب إن شاء الله.
أما الصورة الأولى أعني قوله: "وما أوقع على غير معين فإحداكن" فالمتكلم بهذا اللفظ مخاطبا به زوجاته قد أراد ايقاع الطلاق على واحدة منهن غير معينة ولم يجعل لنفسه في الامر(1/410)
سعة فلا وسع الله عليه قد صارت احداهن طالقا بيقين وكل واحدة يحتمل ان تكون هي المرادة وان تكن غير المرادة فلا تحل له واحدة منهن الا بعد رجعة في الطلاق الرجعى لكل واحدة وللواحدة التي ابهمها ولكن تحسب هذه طلقة على كل واحد ولا وجه ها هنا للرجوع إلي البراءة فقد وقع منه طلاق واحدة بيقين وعدم تعينها لا يستلزم عدم وقوع ذلك الطلاق لا عقلا ولا شرعا ولا لغة ولا عرفا.
وهكذا الكلام في الصورة الثانية أعني قوله: "أو التبس بعد تعيينه" بل الوقو في هذه الصورة اظهر من الوقوع في الصورة التي قبلها لانها قد طلقت واحدة منهم معينة بيقين.
وأما الصورة الثالثة اعني قوله: "وما وقع شرطه" فإن كان ذلك الشرط دائرا بين نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان وهي القضية المانعة للجمع والخلو معا نحو ان يقول لشبح رآه إن كان هذا حيوانا فزينب طالق وإن كان غير حيوان ففاطمة طالق والتبس بعد ذلك ما هو فمعلوم أنه قد وقع الطلاق على إحداهما وتكون هذه الصورة مثل الصورتين الأوليين.
وأما إذا كان ذلك الشرط دائرا بين شيئين غير متناقضين كأن يقول إن كان هذا الطائر غرابا فزينب طالق وإن كان حدأة ففاطمة طالق فلا يقع الطلاق ولا يجب عليه الاعتزال لأنه يجوز ان يكون ذلك الطائر غير الغراب وغير الحدأة.
ولعل المصنف لا يريد الا المثال الأول في هذه الصورة لا المثال الثاني فعرفت بهذا صحة ما ذكره من وجوب الاعتزال وصحة قوله فلا يخرجن الا بطلاق وهكذا لا يرجعن إلي نكاحه الا برجعة لمن وقع عليها الطلاق أو لكل واحدة إذا كان الطلاق رجعيا أو بعقد على المبهمة أو على كل واحدة إذا كان الطلاق بائنا.
وأما قوله: "فيجبر الممتنع فإن تمرد فالفسخ" فصواب لانهن قد صرن معلقات عن النكاح مع حصول الاضرار بهن بالاعتزال فإذا لم يطلق كان الفسخ من الحاكم هو الواجب عليه دفعا لما صرن فيه من الضرار مع حبسهن عن الازواج.
وأما قوله: "ولا يصح منه التعيين" فإن كان هذا التعيين لامر اقتضى ارتفاع اللبس فكيف لا يقبل منه التعيين عند حصول مقتضيه وزوال مانعه هـ وإن كان التعيين منه لا لارتفاع سبب اللبس بل مجرد التشهي فلا وجه له ولا يصح بحال.
وأما قوله: "ويصح رفع اللبس برجعة أو طلاق" فظاهر.
[فصل
ولا يجوز التحليف به مطلقا ومن حلف مختارا أو مكرها ونواه حنث المطلق ليفعلن بموت أحدهما قبل الفعل والمؤقت بخروج آخره متمكنا من الحنث والبر(1/411)
ولم يفعل ويتقيد بالاستثناء متصلا غير مستغرق ولو بمشيئة الله تعالي أو غيره فيعتبر المجلس وغير وسوى للنفي والا له مع الاثبات وقيل الا ان للفور] .
قوله: فصل: "ولا يجوز التحليف به مطلقا".
أقول: لا يجوز التحليف به ولا بغيره والحلف إنما هو بالله عز وجل وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله وأمر بالحلف به والاحاديث في هذا الباب كثيرة.
وأما قوله: "ومن حلف مختارا أو مكرها ونواه حنث" فاعلم ان إيقاع الطلاق على الزوجة قد يكون بإنشاء لفظ يدل عليه أو بالاخبار عن وقوع طلاق منه متقدم أو بالشرط نحو إن دخلت الدار فأنت طالق.
وأما قول القائل: عليه الطلاق أو يلزمه الطلاق ونحو ذلك فليس من ذلك في شيء ولم يجعله الله على رجل طلاقا ولا ألزمه احدا من عباده به ولا يصح من العبد ان يجعل على نفسه غير ما جعله الله عليه ويلزمها غير ما الزمه الله به وهو لم يكن مريدا بالحلف بالطلاق فراق زوجته وإخراجها من حباله حتى يكون هذا اللفظ بمنزلة كنايات الطلاق بل هو لم يرد الا تأكيد وقوع ما حلف على وقوعه أو تأكيد نفي ما حلف على نفيه فمن قال عليه الطلاق ليفعلن كذا أو عليه الطلاق ما فعل كذا أو يلزمه الطلاق ليفعلن أو ما فعل فليس المراد له والمقصود منه عند التكلم بهذا الكلام الا وقوع ذلك الامر أو عدم وقوعه ولكنه أراد ان يشعر السامع بحرصه وتكالبه على الوقوع أو عدمه.
وإذا تقرر لك هذا علمت ان وقوع الطلاق بمجرد الحلف به في حيز الاشكال لأنه إلزام نفسه بما لا يلزمها لا من جهة الشرع ولا من جهة الشخص نفسه ولم يكن في لفظه ما يدل على الفرقة ولا ظهر منه حال الحلف أنه مريد للطلاق بهذا اللفظ الذي جاء به حال التكلم به ولا أنه مريد له في المستقبل لأنه بصدد الاخبار بحرصه على وقوع ما حلف عليه بالطلاق أو عدم وقوعه.
وبالجملة فليس في الشرع ما يدل على وقوع هذا الطلاق ولا في اللفظ ولا في القصد فتدبر هذا.
قوله: "ويتقيد بالاستثناء".
أقول: هذا صحيح ولا يحتاج إلي التنصيص عليه فكل كلام إذا قيد بقيد كان ذلك القيد معتبرا من غير فرق بين الاستثناء وغيره ولا بد ان يكون الاستثناء متصلا غير مستغرق كما قال.
وأما قوله: "ولو بمشيئة الله تعالي" فقد قدمنا الكلام على ذلك وهكذا التعليق بمشيئة غير الله سبحانه فإن الاعتبار بما يختاره حال التكلم بهذا الكلام والتشكيك في مثل هذا هذيان لا يلتفت اليه.
وأما قوله: "وغير وسوى للنفي" فمسلم ان أراد الدلالة المنطوقية لا إذا أراد مطلق الدلالة(1/412)
فإنهما يدلان بمفهومها على إثبات المقدار الذي توجها إلي نفي ما عداه وإن كانت دلالة الا أوضح من دلالتهما على ذلك.
وأما قوله: "قيل: وإلا للفور" فغير مسلم لان الصيغة لا دلالة لها على ذلك وأما مجرد الأرادة والاعراف فباب آخر.
[فصل
ويصح توليته أما بتمليك وصريحه ان يملكه مصرحا بلفظه أو يأمر به مع إن شئت ونحوه والا فكنابة كأمرك أو امرها اليك أو اختاريني أو نفسك فيقع واحدة بالطلاق أو الاختيار في المجلس قبل الاعراض الا المشروط بغير إن ففيه وبعده ولا رجوع فيهما ولا تكرار الا بكلما وأما بتوكيل منه ان يأمر به لا مع إن شئت ونحوه فلا يعتبر رالمجلس ويصح الرجوع قبل الفعل ما لم يحبس الا بمثله ومطلقه لواحدة على غير عوض ويصح تقييده وتوقيته والقول بعد الوقت للأصل في نفي الفعل لا حاله فللوكيل] .
قوله: فصل: "ويصح توليته" الخ.
أقول: الطلاق لما كان إلي الزوج كان له ان يجعله بيد غيره ولا مانع من ذلك لا من شرع ولا من عقل ولا من لغة فله ان يأمر من يطلق عنه بأي لفظ كان ومن ذلك ان يقول لزوجته امرك اليك أو يقول لغيرها امرها اليك أو يقول للمرأة اختاريني أو نفسك وقد ثبت أصل التخيير في كتاب الله سبحانه فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28،29] ، ثم لما نزلت هذه الآية خير النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته وخاطب كل واحدة منهن بذلك كما في الصحيحين [البخاري "9/367"، مسلم "27/1477"] ، وغيرهما [أبو داود "2203"، الترمذي "1179"، النسائي "6/161"، ابن ماجة "2052"] . وأما كونه لا يقع واحدة بالطلاق ممن جعل الزوج الامر اليه أو بالاختيار من الزوجة فظاهر لأن المطلق ينصرف إلي ذلك ويصدق بالواحدة الرجعية.
وأما اشتراط ان يكون ذلك في المجلس فلا دليل يدل عليه بل الظاهر أنه يصح وإن طال الوقت ما لم يحصل الاضراب المشعر بعدم القبول.
وأما كونه لا يصح الرجوع من الزوج فلكونه قد صرف عن نفسه امرا هو اليه فصار الغير مسلطا عليه ويمكن ان يقال إنه إذا رجع قبل الفعل فالرجوع صحيح إلا أن يمنع عنه مانع شرعي أو عقلي ولا مانع هنا ولم يكن قد وقع الفعل فكان الرجوع في محله.(1/413)
وأما قوله: "ولا تكرار الا بكلما" فلما قدمنا قريبا.
وأما قوله: "وأما بتوكيل ومنه ان يأمر به لامع إن شئت ونحوه" فلا يعتبر المجلس فلا يخفاك أنه لا فرق بين التمليك والتوكيل في عدم اعتبار المجلس ولا يظهر للفرق وجه يعتد به.
وأما قوله: "فيصح الرجوع" فوجهه ان للموكل عزل الوكيل متى شاء الا ان يأتي بما يمنع لرجوع كالتحبيس.
وأما كون مطلقه لواحدة على غير عوض مال فلما قدمنا.
وأما كونه يصح تقييده وتوفيته فظاهر لان للموكل ان يامر الوكيل بما أراده وأما كون القول بعدالوقت للأصل في نفي الفعل فلكون الاصل عدمه لا في الوقت فإن الظاهر مع الوكيل.(1/414)
[باب الخلع
أما يصح من زوج مكلف مختار أو نائبه بعقد على عوض مال أو في حكمه صائرا أو بعضه إلي الزوج غالبا من زوجته صحيحة التصرف ولو محجورة ناشزة عن شيء مما يلزمها له من فعل أو ترك أو من غيرها كيف كانت مع القبول أو ما في حكمه في مجلس العقد أو الخبر به قبل الاعراض فيهما كأنت كذا على كذا فقبلت أو الغير أو طلقني أو طلقها على كذا فطلق أو شرطه كإذا كذا أو طلاقك كذا فوقع ولو بعد المجلس فيجبر ملتزم العوض في العقد والزوج على القبض فيهما ولا ينعقد بالعدة ولا تلحق الاجازة الا عقده] .
قوله: باب: "الخلع إنما يصح من زوج".
أقول: أما كونه لا يصح الا من زوج مكلف مختار فظاهر لما قدمناه وكذلك يصح من نائبه لما سلف.
وأما قوله: "بعقد" فليس لهذا حاجة بل المراد حصول التراضي بأي لفظ كان وعلي أي صفة وقع.
وأما كونه على عوض مال أو في حكمه فلما تقدم في المهور لانها تفتدى نفسها بما صار اليها أو بعضه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ردي عليه حديقته" [البخاري "9/395"] .
وأما اشتراط النشوز منها فلقوله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، فقيد سبحانه حل الافتداء بمخافتهما الا يقيما حدود الله وظاهر الآية ان الخلع لا يجوز(1/414)
إلا بحصول المخافة منهما جميعا بأن يخاف الزوج ان لا يمسكها بالمعروف وتخاف الزوجة أن لا تطيعه كما يجب عليها.
ولكنه لما ثبت حديث ابن عباس عند البخاري وغيره ان امراة ثابت بن قيس بن شماس جاءت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني ما اعتب عليه في خلق ولا دين ولكني اكره الكفر في الإسلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته"، قالت نعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة"، دل ذلك على ان المخافة لعدم إقامة حدود الله من طريقها كافية في جواز الاختلاع.
ولا ينافي جواز الاختلاع الاحاديث الواردة في اثم المختلعات فإن ذلك محمول على الكراهة فقط لتصريح القرأن الكريم والسنة بجواز ذلك.
وأما قوله: "أو من غيرها كيف كانت" فوجهه ان العوض لما كان من غيرها لم يشترط فيها ما يشترط حيث العوض منها ولكن كون هذا خلعا تثبت به أحكامه غير مسلم.
وأما قوله: "مع القبول أو الامتثال أو ما في حكمه" فالمراد ما يشعر بالرضا بذلك كما تقدم.
وأما المعاقدة العرفية والمحافظة على ما يفيدها فليس ذلك الا مجرد رأي فلا تشتغل بالكلام على ما تفرع على هذا إلي آخر الفصل.
[فصل
ولا يحل منها أكثر مما لزم بالعقد لها ولأولادها منه صغار ويصح على ذلك ولو مستقبلا وعلى المهر أو مثله كذلك فإن لم يكن قد دخل رجع بنصفه ونحو ذلك] .
قوله: فصل: "ولا يحل منها أكثر مما لزم بالعقد" الخ.
أقول: ظاهر القرآن يدل على هذا فإنه سبحانه قال: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229] إلي آخر الآية فإنها واردة في اخذ الزوج لشيء مما اتاها فإذا اخذ منها زيادة على ما أتاها فقد خالف ما في الكتاب العزيز.
ويدل على هذا أيضا ما أخرجه ابن ماجه بإسناد رجاله رجال الصحيح الا ازهر بن مروان وهو مستقيم الحديث من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال لامرأة ثابت بن قيس: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم وازيده فامره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ حديقته ولا يزداد وأخرجه أيضا النسائي "6/169"، والبيهقي. وأخرج الدارقطني عن أبي الزبير ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "أما الزيادة فلا ولكن حديقته".(1/415)
قالت: نعم فاخذها قال الدارقطني وقد سمعه أبو الزبير من غير واحد انتهى وإسناده إلي أبي الزبير صحيح.
ولا يعارض الدلالة القرآنية وما ذكرناه عنه صلى الله عليه وسلم ما روى البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال كانت اختي تحت رجل من الانصار فارتفعا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: وأزيده فخلعها فردت عليه حديقته وزادته فإن إسناد هذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة مع كونها زادته من قبل نفسها فلا حجة في ذلك.
وأما قوله: "ولأولاد منه صغار" فوجهه أنه من جملة ما أتاها ولكن لا يخفى ان المراد بما أتاها ما جعله صداقا لها فقط فلا يدخل في ذلك ما سلمه لسبب آخر من نفقة أو كسوة لها أو لأولادها أو أجرة حضانة أو نحو ذلك.
وأما قوله: "ويصح على ذلك..... إلي آخر الفصل" فظاهر.
[فصل
ويلزم بالتغرير مهر المثل ولا تغرير إن ابتدأ أو علم وحصة ما فعل وقد طلبته ثلاثا أولها وللغير حسب الحال وقيمة ما استحق وقدر ما جهلا سقوطه أو هو وهي المبتدئة وينفذ في المرض من الثلث ولها الرجوع قبل القبول في العقد لا في الشرط ويلغو شرط صحة الرجعة] .
قوله: "ويلزم بالتغرير مهر المثل".
أقول: الزوجة إذا غررت على زوجها كأن تقول له طلقني على ما في هذا المكان فطلقها عليه ثم انكشف أنه لم يكن في ذلك المكان شيء فالطلاق غير واقع لأنه أوقعه مقيدا بقيد وهو العوض الذي غررت به ولم يوقعه مطلقا فلا يصح في هذا طلاق خلع ولا غير خلع ولو قدرنا أنه قد صح الطلاق ولزمها ما غررت به لم يكن للرجوع إلي مهر المثل وجه بل ينبغي الرجوع إلي المقدار الذي يكون به الاختلاع في العرف الغالب لأنه المقصود لهما.
وأما قوله: "ولا تغرير إن ابتدأ" فغير مسلم لأنه إذا كان الابتداء منه مقتضيا لعدم التغرير منها فإنه إنما طلق إلي مقابل مال في ظنه فلا يقع الطلاق إذا لم يكن ثم مال كما تقدم.
وأما إذا علم بأنه لاشيء فقد رضي لنفسه بايقاع الطلاق بلا عوض.
وأما قوله: "وحصة ما فعل وقد طلبته ثلاثا" فظاهر وهكذا ما بعده.
وأما قوله: "وينفذ في المرض من الثلث" فسيأتي البحث في الوصايا وهو شامل لهذه المختلعة ولغيرها.(1/416)
وأما قوله: "ولها الرجوع" الخ فإذا لم يقع الرضا من الزوج كان لها ذلك وهكذا إذا لم يكن قد ظهر منه ما يدل على الرضا فلها ذلك من غير فرق بين عقد وشرط.
وأما قوله: "ويلغو شرط صحة الرجعة" فلكون مقتضى الخلع هو عدم صحة الرجعة وان الامر مفوض إلي اختيار المراة لانها لم تفتد بمالها الا لهذا المقصد ولو علمت أنه يفارقها في هذا الوقت ويراجعها في الوقت الثاني شاءت ام ابت لم ترض بما افتدت به فإن ذلك لا يفعله عاقل فليس هذا من الشروط الشرعية بل من الشروط التي يراد بها المخادعة والمخالفة لما شرعه الله.
[فصل
وهو طلاق بائن يمنع الرجعة والطلاق ولفظه كناية ويصير مختله رجعيا غالبا ويقبل عوضه الجهالة ويتعين أوكس الجنس المسمى ويبطل الخلع ببطلانه غير تغرير لا الطلاق قوله فصل وهو طلاق بائن] الخ.
أقول: قد استدل على كونه طلاقا بما تقدم عند البخاري من حديث ابن عباس بلفظ وطلقها تطليقة ومعلوم ان هذه الطلقة الواقعة منه لها حكمها ولا ينافي ما في هذا الحديث ما وقع من حديث الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لثابت بن قيس: "خذ الذي لك عليها وخل سبيلها"، كما أخرجه النسائي بإسناد صحيح لان تخلية السبيل كناية عن الطلاق فلا اشكال من هذه الحيثية وإنما الاشكال فيما قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: "أنها تعتد بحيضة"، كما في حديث الربيع المذكور فإنه صلى الله عليه وسلم: "أمرها ان تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها"، وكذلك في حديث ابن عباس عند أبي دأود والترمذي وحسنه وفيه فأمرها صلى الله عليه وسلم ان تعتد بحيضة وهكذا في حديث آخر عن الربيع أخرجه الترمذي وفيه: فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة.
فهذه الاحاديث تدل على أنه فسخ لا طلاق لأن الطلاق حكمه ما ذكره الله سبحانه بقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، ومن جملة ما استدلوا به على أنه فسخ لا طلاق قوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، ثم ذكر سبحانه الافتداء ثم عقبه بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، قالوا: ولو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل فيه الا بعد زوج هو الطلاق الرابع.
والذي ينبغي الجمع به هو ان عدة هذه الخلع حيضة لا غير وليس غير سواء كان بلفظ الطلاق أو بغيره مما يشعر بتخلية السبيل أو بتركها وشأنها من دون ان يجرى منه لفظ قط ويكون الوارد في هذا الطلاق الكائن في الخلع مخصصا لما ورد في عدة المطلقة فتكون عدة الطلاق(1/417)
ثلاثة قروء الا إذا كان الطلاق مع الافتداء فإنه حيضة واحده لا تحسب عليه طلقة الا إذا جاء بلفظ الطلاق أو بما يدل عليه لا إذا لم يقع منه لفظ البتة بل تركها وشأنها فإن هذا لا يحسب عليه طلاقا.
وبهذا التقرير تجتمع الادلة ويرتفع الاشكال على كل تقدير.
وأما كونه يمنع الرجعة فلما قدمنا في الفصل الأول فلا نعيده.
وأما كونه يمنع الطلاق فمبنى على أنه طلاق وعلى ما سيأتي من ان الطلاق لا يتبع الطلاق وستعرف ما هو الحق في ذلك إن شاء الله.
وأما كون لفظه كناية إذا قال به لزوجته من دون مال منها فإذا أراد به الطلاق كان طلاقا لعدم انحصار الصيغ التي يكون بها الطلاق.
قوله: "ويصير مختله رجعيا".
أقول: ليس المعتبر في صحة الخلع الا ما ذكره الله عز وجل من وقوع المخافة من الزوجين ان لا يقيما حدود الله فإذا حصل ذلك ووقع منها الافتداء طيبة به نفسها فهذا هو الخلع الذي شرعه الله عز وجل وإذا وقع على غير هذا الوجه كأن تكون الزوجة مكرهة أو الزوج مكرها أو كان احدهما صغيرا فهذا ليس هو الخلع الذي اذن الله به فلا يصح من الاصل ولا يصير رجعيا لان ايقاع الطلاق إنما كان إلي مقابل المال الذي افتدت به المراة فإذا وجد مع كونهما مكلفين مختارين خائفين ان لا يقيما حدود الله فهو خلع بأي صيغة كان وعلي أي صفة وقع وإن أختل أحد هذه الامور فلا يكون خلعا ولا يثبت به طلاق لا بائن ولا رجعي.
ولا يعتبر في صحة الخلع صدور النشوز من المراة بالفعل أو عدم إحسان العشرة من الزوج بالفعل بل المراد حصول مجرد المخافة فإن كان قد وقع ما خافاه أو احدهما وجازت المخالعة بفحوى الخطاب.
وأما قوله: "ويقبل عوضه الجهالة" فإذا خالعها على شيء مجهول القدر أو الجنس ورضيا بذلك ثبت الخلع ويلزمها تسليم أوسط الجنس المسمى لا اعلاه ولا أدناه فهذا هو الذي ينبغي اعتماده ولا يتم العدل بينهما الا به.
وأما قوله: "ويبطل الخلع" الخ فقد تقدم له ما يغني عن ذكره هنا.
[فصل
والطلاق لا يتوقت ولا يتوإلي متعدده بلفظ أو الفاظ ولا تلحقه الاجازة لكن يتم كسره ويسرى وينسحب حكمه ويدخله التشريك والتخيير غالبا ويتبعه الفسخ لا العكس ويقع المعقود وعلى غرض بالقبول أو ما في حكمه في المجلس قبل الاعراض ولا ينهدم الا ثلاثة(1/418)
ولا شرطه الا معها فينهدم ولو بكلما ولا ينهدمان الا بنكاح صحيح مع وطء في قبل ولو من صغير مثله يطأ أو مجبوب غير مستأصل أو في الدمين أو مضمر التحليل وينحل الشرط بغير كلما م ومتى بوقوعه مرة ولو مطلقة] .
قوله: فصل: "والطلاق لا يتوقت".
أقول: مراده أنه لا يصح إيقاع الطلاق مؤقتا بوقت محدود كأن يقول انت طالق شهرا أو سنة لا إذا قال: أنت طالق في الشهر الفلاني أو في أول سنة كذا فإن هذا صحيح.
وأما قوله: "ولا يتوإلي متعدده" فاعلم ان البحث في هذه المسألة يطول إذا اردنا استيفاء ما احتجت به كل طائفة وما اجيب به عليها وقد افردنا ذلك برسالة مستقلة وذكرنا في شرحنا للمنتقى ما ينتفع به الناظر فيه وينشرح له قلبه. والحاصل ان ها هنا حجة تأكل الحجج ودليلا لا يقوم له شيء مما أورد في هذا المقام وهو حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم وغيره قال كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه اناة فلو امضيناه عليهم فأمضاه عليهم.
فإذا كان هذا هو الطلاق الكائن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به الصحابة من بعده زيادة على اربع سنين فأي دافع يدفع هذه الحجة واي معارض يقوم بمعارضتها.
وجميع ما جاءوا به من الاجوبة قد دفعناه في شرحنا المشار اليه ولكن لما كان القول بالتتابع هو الذي ذهب اليه أهل المذاهب الاربعة وقع الاستكثار من المجأولة والمجادلة والامر اقرب من ذاك والحق بين المنار واضح السبيل على ان الادلة الدالة على ما في حديث ابن عباس هذا هي ارجح وأصرح من الادلة المخالفة له كما يعرف ذلك من انصف ولم يتعسف.
وأما ما قيل من التشكيك في لفظ التوالي الواقع في عبارة المصنف فهذيان غريب.
وأما قوله: "ولا تلحقه الاجازة" فلا وجه له بل الظاهر ان قول الزوج عند سماع الطلاق لزوجته من فضولي اجزت ذلك هو بمنزلة ابتداء الطلاق وقد عرفناك ان الطلاق يقع بأي لفظ كان وعلى أي صيغة وقع إذا أراد به الزوج الفرقة.
وأما تعليلهم لعدم الوقوع بأن الاجازة لا تلحق الاستهلاكات فدعوى على دعوى ورأى بحث على راى بحث ولا يغني ذلك من الحق شيئا.
قوله: "لكن يتم كسره".
أقول: إذا قال: أنت طالق نصف طلقة وأراد إيقاع هذا القدر عليها فقط فلا يقع الطلاق اصلا لأنه لم يرد الطلاق الشرعي الذي اذن الله به ولا أراد الفرقة الخالصة التي هي معنى الطلاق فالحكم عليه بالطلاق لم يستند إلي لفظ تكلم به ولا إلي قصد قصده.(1/419)
وهكذا قوله: "ويسرى" لا وجه له لمثل ما ذكرنا وهكذا ما ذكره من الانسحاب فإنه ابعد عن صوب الصواب.
وأما قوله: "ويدخله التشريك" فإن أراد أن إحدى زوجتيه مشاركة للأخرى التي أوقع عليها الطلاق وان ذلك الذي أوقعه مشترك بينهما فقد عرفت ما قلناه في كسر الطلاق وهذا منه.
وإن أراد ان الاخرى طالق مع الأولى أو كما طلق الأولى فهذا صحيح لانه قد جاء بما يدل على فراق الأولى قاصدا لفراقها ثم تكلم آخرا بما يفيد ان االاخرى قد فارقها كما فارق الأولى.
وأما قوله: "والتخيير" فلا حكم له لأن التخيير في الطلاق بين هذه أو هذه لم يستقر على واحده منهما معينة ولا مبهمة فلا يقع بخلاف ما قدمنا في قوله وما أوقع على غير معين كإحداكن فإنه جازم هنا بطلاق واحدة مبهمة فقد صارت أحداهن مطلقة وهكذا ما التبس بعد تعيينه وبهذا تعرف الفرق بن هذا التخيير وبين ما تقدم.
وأما كونه يتبعه الفسخ فمحتاج إلي دليل لان المحل قد صار غير قابل فلا فرق بين الطرد والعكس.
وأما اعتبار المجلس في المعقود على مال فقد عرفناك ما هو الصواب فيما تقدم.
قوله: "كولا ينهدم الا ثلاثة".
أقول: وجه تخصيص الانهدام بالثلاث لا بما دونها انها مورد النص فإن الله سبحانه قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، أي فإن طلق مرة ثانية من طلقها مرتين فلا تحل له بعد هذا التثليث حتى تنكح زوجا غيره فإن نكحت زوجا غيره حلت له والظاهر انها تحل له حلا مطلقا فيملك عليها من الطلاق ما يملكه لو نكحها ابتداء.
وإذا عرفت ان التثليث هو مورد النصف فاعلم أنه لم يرد في شيء من الكتاب والسنة ما يدل على انها إذا نكحت زوجا غيره بعد طلقة أو تطليقتين ان الطلقة أو الطلقتين يكون لها حكم الثلاث في الانهدام لكن ها هنا قياس قوي هو القياس الذي يسمونه قياس الأولى وتارة يسمونه فحوى الخطاب فإنه يدل على ان انهدام ما دون الثلاث مأخوذ من الآية بطريق الأولى ويعضد هذا ان الاحتساب بما وقع من طلاق الزوج عليها بعد ان نكحت زوجا غيره خلاف ما يوجبه الحل المفهوم من قوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 230] ، فإن ظاهره انها تحل له الحل الذي يكون للزوج على زوجته لو تزوجها ابتداء.
وأما انهدام الشرط فالظاهر أنه ينهدم بنكاحها للغير سواء كان ذلك بعد طلاق الثلاث أو بعد اقل منها لانها لما تزوجت بالغير كان هذا الشرط في حكم العدم ودخلت تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل نكاح"، [أبو داود "2190"، الترمذي "1181"، ابن ماجة "1/660"، أحمد "2/189، 190، 207"] ، ولو قلنا إنه يقع الطلاق بوقوع الشرط إذا صادف كونها زوجة له بعد نكاح زوج آخر لها لكان هذا مما يصدق عليه أنه من الطلاق قبل النكاح وإن كان تعليقه وهي زوجة له لكنها قد(1/420)
انمحت تلك الزوجية وصار وجودها كعدمها فكأنه قال لأجنبية إن دخلت الدار بعد ان اتزوجها فهي طالق.
وأما كونهما لا تنهدمان الا بنكاح صحيح فليس المراد بهذه الصحة هو ما يصطلح عليه المفرعون بل المراد الصحة الشرعية وهي الواقعة على الصفة التي كانت تقع عليها انكحة الإسلام.
وأما قوله: "مع وطء" فالاية وإن كانت تتنأول العقد كما تتنأول الوطء على القول بأن لفظ النكاح مشترك بين العقد والوطء اشتراكا لفظيا لكن حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما قالت جاءت امراة رفاعة القرظي إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب قال: "أتريدين أن ترجعي لرفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، يدل على ان المراد بالنكاح في الآية الوطء لا العقد ومعلوم أنه لا يكون وطء الا بعد عقد ولا سيما مع ما أخرجه أحمد والنسائي وأبو نعيم في الحلية من حديث عائشة أيضا قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العسيلة هي الجماع".
وأخرج أيضا أحمد والنسائي عن ابن عمر قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ويتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل ان يدخل بها هل تحل للأول قال: "لا حتى يذوق العسيلة"، ولفظ النسائي: "لا تحل للأول حتى يجامعها الاخر"،
وأما قوله: "في قبل" فلأن ذلك هو النكاح الذي اذن الله به وهو العسيلة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما صحة وطء الصغير إذا كان مثله يطأ فلأنه يصدق عليه أنه نكحها وأنه وطئها وإن لم يكن له من اللذة ما يكون للكبير.
وأما المجبوب فلا بد ان يصدق على وطئه أنه وطء والا فلا اعتبار بذلك.
وأما قوله أو في الدمين فلكون ذلك مما يصدق عليه مسمى الوطء.
قوله: "أو مضمر التحليل".
أقول: هذا الذي اضمر التحليل أو واطأ عليه هو الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والترمذي وصححه وصححه أيضا ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له وهو الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث علي بن أبي طالب عند أحمد وأبي دأود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن السكن قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له, وهو الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ "، قالوا: بلى يارسول الله, قال: "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له"، أخرجه "1936"، ابن ماجه والحاكم وفي إسناده مقال وأخرج ابن ماجه "1934"، نحوه من حديث ابن عباس وأخرج أحمد "2/323"، والبيهقي(1/421)
والبزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه وحسنه البخاري.
واللعن على الذنب يدل على أنه ذنب كبير شديد ولا تحل لزوجها الأول بهذا التحليل لأن الله سبحانه قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} البقرة: 230] ، والمراد النكاح الشرعي وهذا ليس بنكاح شرعي بل نكاح ملعون فاعله والمفعول لأجله.
وأما قوله: "وينحل الشرط بغير كلما" الخ فقد قدمنا الكلام في كلما ومتى ولا شك ان الشرط ينحل في غيرهما بمرة واحده لأن الشرط مطلق والمطلق يصدق بالمرة ولو وقع الشرط مطلقة انحل بذلك لأنها وقت دخولها غير صالحة لوقوع الطلاق عليها على قول من يقول إن الطلاق لا يتبع الطلاق كما تقدم فقد وجد ها هنا مانع من وقوع الطلاق عليها وهو كونها مطلقة.(1/422)
[باب العدة
هي أما عن طلاق فلا تجب الا بعد دخول أو خلوة بلا مانع عقلي ولو من صغير مثله يطأ فالحامل بوضع جميعه متخلقا والحائض بثلاث غير ما طلقت فيها أو وقعت تحت زوج جهلا فإن انقطع ولو من قبل تربصت حتى يعود فتبنى أو تيأس فتستأنف بالاشهر ولو دمت فيها فإن انكشفت حاملا فبالوضع ان لحق والا استأنفت والضهيا والصغيرة بالاشهر فإن بلغت فيها فبالحيض استأنفت به والا بنت والمستحاضة الذاكرة لوقتها تحرى كالصلاة والا تربصت] .
قوله: باب: "العدة هي أما عن طلاق فلا تجب الا بعد دخول أو خلوة".
أقول: لأن من طلقت قبل الدخول والخلوة فهي التي قال الله سبحانه فيها: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الطلاق: 4] ، وقد قدمنا طرفا من الكلام على الخلوة في النكاح فارجع إليه.
وأما قوله: ولو من صغير مثله يطأ فصحيح لأنه يصدق عليه أنه زوج وأنه ناكح والعدة لم تشرع لبراءة الرحم فقط ولو كان ذلك المقصود لكانت الحيضة كافية بل شرعت لأمور منها البراءة ومنها انتظار الرجعة ومراعاة حق الزوج لكونه الاحق بها.
وعلى كل تقدير فهي أمر تعبد الله به النساء عند مفارقة أزواجهن بطلاق أو فسخ أو موت.
قوله: "فالحامل بوضع الحمل".
أقول: هذا مجمع عليه وهو نص الكتاب العزيز والمراد وضع ما يصدق عليه أنه حمل من غير فرق بين حي وميت تام الخلق أولا نفخ فيه الروح أم لا ولا بد من وضعه(1/422)
جميعه كما قال المصنف لأنه ظاهر قوله: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فلو ولدت أحد التوأمين لم يصدق عليها انها وضعت حملها بل وضعت بعضه.
قوله: "والحائض بثلاث حيض".
أقول: هذا هو الحق وإن كان لفظ القرء في لسان العرب مشتكرا بين الطهر والحيض أو حقيقة في أحدهما مجازا في الاخر لكن لما كان الشارع لا يستعمله الا في الحيض كما نقله المحققون كان ذلك كالحقيقة الشرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية وقد انكر صاحب الكشاف إطلاق القرء على الطهر.
قال ابن القيم إن لفظ القرء لم يستعمل في كلام الشارع الا للحيض ولم يجيء عنه في موضع واحد استعماله للطهر إلي أن قال: فإذا ثبت استعمال الشارع للقرء في الحيض علم ان هذا لغته فتعين حمله عليها في كلامه قال ويدل على ذلك ما في سياق الآية من قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] ، وهذا المخلوق هو الحيض والحمل عند عامة المفسرين قال وبهذا قال السلف والخلف ولم يقل أحد إنه الطهر وأيضا فقد قال سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ، فعلق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر وقد اطال ابن القيم رحمه الله في تحقيق هذا البحث وأطاب.
وإذا تقرر لك ان الاستعمال النبوي واستعمال السلف والخلف للقرء في الحيض لا في الطهر وجب حمل ما في الآية من قوله عز وجل: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} على الحيض لا على الاطهار.
ويدل على هذا ما أخرجه ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات عن عائشة قالت: أُمرت بريرة ان تعتد بثلاث حيض هذا مع ما في حديث ابن عباس عند أحمد والدارقطني ورجاله رجال الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة فاختارت نفسها وامرها ان تعتد عدة الحرة فكانت عدة الحرة هي الثلاث الحيض.
ومما يدل على ما ذكرناه ما أخرجه الترمذي وأبو دأود من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان"، وفيه مقال معروف وقد قدمنا بيانه.
وشهد له ما أخرجه ابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان".
وقد قدمنا في حديث امراة ثابت بن قيس بن شماس ان النبي صلى الله عليه وسلم امرها ان تعتد بحيضة.
وقد قدمنا أيضا في سبايا أوطاس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا حائض حتى تستبرأ بحيضة"، والاستبراء هو عدة مختصرة فكان النص على الحيض فيه معنويا لكون عدة الحرائر بالحيض لا بالطهر.(1/423)
وأما قوله غير ما طلقت فيها فوجهه ان هذه التي طلقت وهي فيها هي بعض حيضة لا حيضة كاملة والاعتبار بالحيضة الكاملة ليصدق قوله سبحانه: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] .
وأما قوله: "أو وقعت تحت زوج جهلا" فوجهه أن الله سبحانه أوجب عليها أن تعتد بثلاثة قروء في غير نكاح وهذه وقعت حيضتها وهي في نكاح زوج اخر وإن لم يكن نكاحا صحيحا لكن كان الجهل فارقا بينه وبين الزنا.
قوله: "فإن انقطع ولو من قبل تربصت حتى يعود" الخ.
أقول: هذه المسألة قد اضطربت فيها الاقوال وتفرقت فيها المذاهب وسبب ذلك ان الله سبحانه بين في كتابه العزيز اقسام المعتدات فجعلهن اربعا الحائض والحامل والتي لم تحض اصلا والايسة وهذه التي انقطع حيضها بالعلة ليست واحدة منهن ولم يثبت في السنة المطهرة ما يدل على عدة هذه وكل مسألة لم يوجد عليها النص ولا الظاهر في الكتاب ولا في السنة كانت عرضة لاراء الرجال وموطنا لاختلاف الاقوال.
وقد حاول بعض أهل العلم إدراج هذه تحت الايسة فلم يصب فإن معنى الاياس عن الحيض لم يحصل لهذه لأنه انقطع حيضها وهي في وقت إمكانه فإن قدرنا أنه حصل الاياس من عود الحيض فهي ايسة ولكن حصول الاياس لها بعيد جدا فإن اسباب انقطاع الحيض كثيرة كما صرح بذلك الحكماء في تصانيفهم في العلل وأسبابها. والحاصل ان اليأس إن كان كما ذكر كثير من المحققين إنه هو المقابل للرجاء والطمع كان المعتبر في حق هذه هو عدم وجود الرجاء منها لرجوع الحيض وعدم طمعها في عوده فإذا حصل لها ذلك كانت مندرجة تحت قوله سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] .
وأما إذا كان اليأس هو القطع بعدم العود فلا تندرج تحت هذه الايسات الا بعد حصول القطع لها بعد معاودة الحيض.
والموجود في كتب اللغة أن اليأس القنوط فإن تقرر ثبوت حقيقة شرعية للياس كانت مقدمة وإن لم يتقرر ذلك كان الرجوع إلي المعنى اللغوي هو المتوجه.
ولا يقدح في وجوب الرجوع إلي المعنى اللغوي ورود الاستعمال في الكتاب أو السنة للياس بمعنى عدم مجرد الطمع في الحال فإن ذلك يكون مجازا أما إذا كثر الاستعمال حتى صار مفيدا لكونه الحقيقة الشرعية فهو مقدم كما تقدم.
وإذا عرفت هذا فها هنا بحث آخر ينبغي ان تمعن النظر فيه وتتدبره وهو ان هذه التي انقطع حيضها قبل عدتها أو حال عدتها مندرجة تحت قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فإنها يصدق عليها عند هذا الانقطاع انها من اللائي لم يحضن فتكون عدتها كعدتهن وليس في الآية ما يدل على أن المراد انهن لم يحضن اصلا بل المراد عدم وجود الحيض عند العدة كما تقول من لم يأتك(1/424)
من الرجال فلاتعطه فليس المراد الا عدم إتيانه اليه حال العطاء لا عدم إتيانه اليه دائما بحيث لو كان قد اتاه مرة في عمره لكان مستحقا للعطاء وقد وقع الاتفاق على ان الصغيرة التي لم تبلغ من التكليف هي من اللائي لم يحضن ومعلوم أنه لا يراد عدم حيضها في جميع الازمنة ماضيها ومستقبلها للقطع بانها إذا بلغت وحاضت ولم يكن ذلك مبطلا لعدتها التي اعتدتها حال صغرها بالاشهر ومعلوم أيضا ان المرأة إذا حاضت مرة واحده صدق عليها انها حاضت فإذا تخلف عنها الحيض يصدق عليها انها لم تحض وإذا عرفت هذا علمت ان المراة إذا وجبت عليها العدة وحيضها منقطع لعارض فهي من اللائي لم يحضن وهكذا إذا انقطع عنها وهي في وسط عدتها فهي من اللائي لم يحضن فعدتها ثلاثة اشهر كعدة اللائي لم يحضن فإن انكشف ان ذلك الانقطاع للحمل فعدتها تنقضي بوضعه وإن استمر الانقطاع ولم يكن سببه الحمل حتى مضت عليها ثلاثة اشهر فقد انقضت عدتها بالثلاثة الاشهر فإن عاد حيضها قبل مضي الثلاثة الاشهر كشف ذلك انها حائض وهي باقية في العدة فتستأنف العدة بالحيض على أنه لو قيل انها تحتسب بما قد مضى من الاشهر وتجعل كل شهر في مقابل حيضة فإذا عاد عليها الحيض وقد مضى عليها شهران اكتفت بحيضة لم يكن هذا بعيدا عن الصواب وأي مانع منه فإنها امراة ادركتها عدتها وهي غير حائض فاعتدت بالاشهر كما أمر الله سبحانه اللائي لم يحضن وإذا عادت عليها الحيضة صارت من النساء الحيض فكملت عدتها بالحيض وهذا وإن بعد فهمه ونبا عن اذهان المقلدين فله وجه صحيح وتوجيه صبيح.
وبعد هذا كله فاعلم ان هذا التعسير الشديد الذي أوجبوه على هذه المراة من انها تنتظر إذا لم يعد اليها الحيض إلي ان تيأس من عوده وذلك ببلوغها سن الاياس فيه مخالفة عظيمة لهذه الشريعة المطهرة التي جاءت بالتيسير دون التعسير وبالتبشير دون التنفير فإن المراة إذا انقطع حيضها وهي شابة فانتظرت حتى تكون عجوزا كان في ذلك من التعسير عليها والمضارة لها ما لا يجوز نسبته إلي هذه الشريعة السمحة السهلة فإنها تصير ممنوعة من الازواج طول عمرها.
وإذا كانت ممن تجب نفقتها على زوجها الذي طلقها كان في ذلك من التشديد عليه والتغريم له مالا يبيحه الشرع فإنه صار ينفق ماله على امرأة قد أخرجها من نكاحه ما دامت غير عجوز وربما بمضي عليها من السنين العدد الكثير والدهر الطويل فإن من النساء من لا يفارقها الحيض الا وهي في ستين سنة فما زاد عليها فهل سمعت اذناك بأشد من هذا التشريع على هذه المسكينة وزوجها المسكين مع ان الله سبحانه قيد ما شرعه لعباده بالاستطاعة فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقال اصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
قوله: "والضهيأ والصغيرة بالاشهر".
أقول: لأن كل واحده منهما يصدق عليها انها من اللائي لم يحضن أما الضهيأ فظاهر لانها لم تحض اصلا وأما الصغيرة فلكونها وقت وجوب العدة عليها ليست من ذوات الحيض.
وأما حكم العجوز التي قد بلغت سن تعذر الحيض فهي غير داخلة في هاتين اللتين ذكرهما(1/425)
لانها إذا كانت من ذوات الحيض ووقع عليها طلاق زوجها وهي عجوز فقد نص الله سبحانه في كتابه ان عدتها ثلاثة اشهر.
ولعل المصنف رحمه الله اكتفى بما قدمه في منقطعة الحيض لعارض من وجوب انتظارها إلي سن الاياس ثم تعتد بالاشهر وما كان يحسن منه هذا الصنع فإنه ادرج من نص القرأن الكريم على عدتها في الكلام على من وقع في عدتها ذلك الاضطراب الشديد.
وأما قوله: "والمستحاضة الذاكرة لوقتها" فقد قدمنا في الحيض مالا يحتاج إلي إعادته هنا.
[فصل
وفي عدة الرجعى الرجعة والارث والخروج بإذنه والتزين والتعرض لداعي الرجعة والانتقال إلي عدة الوفاة والاستئناف لو راجع ثم طلق ووجوب السكنى وتحريم الأخت والخامسة والعكس في البائن وما عن وفاة فبأربعة اشهر وعش كيف كانا والحامل بها مع الوضع ولا سكنى ومتى التبست بمطلقة بائنا مدخولتين فلا بد لذات الحيض من ثلاث معها من الطلاق ولهما بعد مضى اقصر العدتين نفقة واحده فقط كغير مدخولتين في الكل فإن اختلفتا فقس وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن غالبا] .
قوله: فصل: "وفي عدة الرجعي الرجعة".
أقول: ثبوت الرجعة للزوج في الطلاق الرجعي مجمع عليه قال ابن حجر في الفتح وقد أجمعوا على ان الحر إذا طلق الحرة بعد الدخول بها تطليقة أو تطليقتين فهو احق برجعتها ولو كرهت المرأة ذلك فإن لم يراجع حتى انقضت العدة فتصير اجنبية فلا تحل له إلا بنكاح مستأنف انتهى.
ومستند هذا الاجماع قوله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ، وهذه الآية وإن كانت منسوخة بقوله تعالي: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، الآية كما أخرجه أبو دأود والنسائي من حديث ابن عباس قال كان الرجل إذا طلق امرأته فهو احق برجعتها وإن طلق ثلاثا فنسخ ذلك: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال خفيف فالمنسوخ منها إنما هو استحقاق الرجعة بعدا لمرتين لا كون بعولتهن احق بردهن قبل التثليث.
وقد أخرج الترمذي نحوه من حديث عائشة وروى موقوفا على عروة قال الترمذي وهذا أصح.(1/426)
ومن الأدلة الدالة على ثبوت الرجعة في الطلاق الرجعي قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "مره فليراجعها"، وقد تقدم وما أخرجه أبو دأود والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث ابن عباس عن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لركانة: "ارتجعها" [أحمد "1/265"] .
قوله: "والارث".
أقول: إذا صح ثبوت الاجماع على ثبوت الميراث في الطلاق الرجعي فلا بد من مستند والحجة عند من لا يقول بحجيته مستنده لا هو وقد وقعت المسألة في زمن الصحابة فأخرج الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي بكر ان رجلا من الانصار يقال له حبان بن منقذ طلق امرأته وهو صحيح وهي ترضع ابنته فتباعد حيضها ومرض حبان فقيل له إنك إن مت ورثتك فمضى إلي عثمان وعنده على وزيد ابن ثابت فسأله عن ذلك فقال لعلي وزيد بن ثابت ما تريان؟ فقالا: نرى انها إن ماتت ورثها وإن مات هو ورثته لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ولا من اللواتي لم يحضن فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة قورثها عثمان وأخرجه من هذه الطريق البيهقي وأخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى ابن حبان انها كانت عند جده حبان منقذ امرأتان هاشمية وانصارية فطلق الانصارية وهي ترضع فمرت بها سنة ثم هلك عنها ولم تحض فقالت انا ارثه فاختصما إلي عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال لها: ابن عمك أشار بهذا يعني على ابن أبي طالب وأخرجه من هذه الطريق البيهقي أيضا.
وأخرج البيهقي بسند صحيح ان علقمة طلق امرأته طلقة أو طلقتين فحاضت حيضة ثم ارتفع حيضها سبعة اشهر وفي لفظ سبعة عشر شهرا ثم مات فاتى ابن مسعود فقال حبس الله عليك ميراثها وورثة منها.
ومما يدل على ثبوت الميراث قوله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] ، فسماهم بعولا والاصل الحقيقة وقال سبحانه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] ، وقال: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} الاية.
قوله: "والخروج بإذنه".
أقول: وجهه انها لم تنقطع الزوجية بينهما فقد بقي له طرف منها وبقي لها طرف منه وذلك إذا تراجعا ومعلوم انها إذا كانت باقية لديه غير مطلقة انها لا تخرج الا باذنه لأنها قد تدعو حاجته اليها وهي خارجة عن البيت وقد يكون عليه في خروجها ما يلحق به غضاضة أو تعتريه بسببه غيره ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه"، فإذا كان هذا في الصوم الذي هو من اعظم القرب فكيف بالخروج!
وإذا عرفت هذا عرفت أنه ينبغي لها في أيام عدة الرجعة ان لا تخرج الا باذن زوجها لأنه إذا كان(1/427)
عازما على رجعتها لحقه من الغضاضة والغيرة ما يلحقه عليها قبل طلاقها الا ان يكون الخروج للحاجة فقد ثبت تجويز ذلك للمطلقة ثلاثا مع عدم تجويز الرجعة كما في حديث جابر عند مسلم وغيره قال: طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجد نخلا لها فلقيها رجل فنهاها وأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها: "أخرجي فجدي نخلك لعلك ان تصدقي منه أو تفعلي خيرا".
قوله: "والتزين".
أقول: لا وجه لهذا الا إذا كانت تقدر اطلاع الزوج عليها في تلك الحال بأن يصل اليها لمراجعتها فيكون في تزينها زيادة في الترغيب له في مراجعتها فإن بقاءهما على النكاح ورجوعهما إلي ما كانا عليه مع عدم ما يقتضي الفرقة هو من الامور المندوب اليها فيكون فيما يرغب اليه طرف من الندب ونوع من القربة وهكذا التعرض منها لداعي الرجعة بان تذكره بحسن العشرة وثنى عليه بما يقتضى عطفه عليها ومراجعته لها وتنشر محاسنه التي عرفتها منه عند من يبلغه ذلك فإن هذا من أعظم ما يدعوه إلي مراجعتها.
وليس المراد بالتعرض لذلك هو بروزها له والتعرض لرؤيته لها فإن ذلك أمر قد منع منه الطلاق.
قوله: "والانتقال إلي عدة الوفاة".
أقول: ليس على هذا دليل ولا هو رأي مستقيم فإنه مات من كان زوجها وهي في عدة طلاقه ولم يتجدد له ولا لها ما يخالف ذلك حتى يكون وجها للانتقال من هذه العدة المتيقنة إلي مالا يوجبه عليها شرع ولا عقل وكونها ترثه إذا مات وهي في هذه العدة لا يستلزم ان يتجدد عليها عدة اخرى لانها إنما ورثته بكونها باقية في عدة طلاقه الرجعي فتستمر على تمام عدتها وليس عليها غير ذلك.
وأما وجوب استئناف العدة لو راجع ثم طلق فهذا أمر معلوم لا يحتاج إلي ذكره لأنها قد رجعت بالرجعة إلي نكاح جديد بعد ان خرجت من الأول بتلك الطلقة التي هي محسوبة عليه فإذا خرجت من نكاحه بطلقة اخرى توجه عليها ما شرعه الله للمطلقات بنصوص الكتاب والسنة ومن خالف في هذا فقد جاء بما يخرق الاجماع ويخالف الأدلة القطعية.
قوله: "ووجوب السكنى".
أقول: يدل على هذا ما أخرجه أحمد والنسائي من حديث فاطمة بنت قيس قالت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن زوجي فلانا ارسل الي بطلاق وإني سألت أهله النفقة والسكنى فابوا على فقالوا يا رسول الله إنه ارسل اليها بثلاث تطليقات قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة"، وفي إسناده مجالد بن سعيد وفيه ضعف وقد تابعه في روايته ضعيف وذلك يقوى رواية مجالد. ويؤيد هذا الحديث ما في صحيح مسلم "44/480"، وغيره [أحمد "6/411، 412، أبو داود(1/428)
"2288، 2289"، النسائي:"6/210"، ابن ماجة "2035، 2036"] ، من حديث فاطمة بنت قيس أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا قال: "ليس لها سكنى ولا نفقة"، فإن كون هذا في المطلقة ثلاثا يدل على ان الرجعية بخلافها.
ويدل على هذا أيضا قوله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ، فإن السلف فهموا من هذه الآية انها في الرجعية لقوله عز وجل في آخر الاية {َلعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وليس الامر الذي يرجى إحداثه الا الرجعة لا سوى.
ومع هذا كله فوجوب السكنى للرجعية مجمع عليه.
وأما قوله: "وتحريم الأخت والخامسة" فوجهه ما قدمنا في الارث.
قوله: "والعكس في البائن".
أقول: أما عدم ثبوت الرجعة في الطلاق البائن فلقوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، فإن هذه الآية فسخت ما كانت الجأهلية تفعله من مراجعة النساء بعد التثليث كما قدمنا وقدمنا أيضا في المختلعة ما يدل على عدم ثبوت الرجعة لها وقد وقع الاتفاق على عدم ثبوت الرجعة للمطلقة قبل الدخول والخلوة كما وقع الاجماع على عدم ثبوت الرجعة للمثلثة.
وأما عدم ثبوت الميراث فلكونها قد انقطعت بينهما علاقة الزوجية ولا يصدق عليها بعده انها زوجة وهكذا خروجها بغير إذنه فإنها لما لم تكن أحكام الزوجية باقية عليها كان لها الخروج بغير إذنه وقد قدمنا حديث جابر في خالته المثلثة وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم اذن لفاطمة بنت قيس عند ان طلقها زوجها الطلقة الثالثة ان تخرج من بيته بغير إذنه وتنتقل إلي عند ابن ام مكتوم.
وأما عدم التزين والتعرض لداعي الرجعة فظاهر لأنه قد زال الغرض الذي يفعلان لأجله وهو رجاء الرجعة.
وأما عدم انتقالها إلي عدة الوفاة فقد قدمنا أنه لا دليل يدل على ان الانتقال المذكور في الرجعية فكيف في البائنة.
وأما عدم وجوب السكنى فللدليل الثابت في الصحيح كما قدمنا وأما عدم تحريم الأخت والخامسة فلكونها قد انقطعت بينهما علاقة الزوجية.
قوله: "وأما عن وفاة فبأربعة اشهر وعشر".
أقول: هذا مما لا ينبغي ان يقع فيه خلاف لأنه نص القرأن الكريم وأما إذا كانت المتوفى عنها حاملا فقد ذهب الجمهور إلي ان عدتها بوضع الحمل وإن وضعت ليلة موت زوجها وذهب آخرون إلي ان عدتها بآخر الاجلين فلا بد ان تضع حملها ويمضي عليها اربعة اشهر وعشر ووجه هذا القول انهم نظروا في الايتين الكريمتين فإن قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 240] ، الآية عام في كل من مات عنها زوجها سواء كانت حاملا أو غير حامل وقوله تعالي: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، عام يشمل المطلقة والمتوفى عنها فجمعوا بين(1/429)
العمومين بقصر الآية الثانية على المطلقة بقرينة ذكر عدد المطلقات كالايسة والصغيرة قبلها ولم يهملوا ما تنأولته من العموم فعملوا بها وبالتي قبلها في حق المتوفى عنها ولكن قد جاء ها هنا ما يوجب ترك هذا التعارض وعدم الاشتغال بشأنه وهو ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ام سلمة ان امرأة من اسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفي عنها وهي حامل فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت ان تنكحه فقال والله ما يصلح ان تنكحي حتى تعتدي آخر الاجلين فمكثت قريبا من عشر ليال ثم نفست ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انكحي" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث سبيعة نفسها بمعناه.
وفي الباب أحاديث وآثار عن الصحابة فلم يبق بيد من قال تعتد بآخر الاجلين ما يوجب الاشتغال به لأن هذه الأدلة قد بينت أوضح بيان ودلت اظهر دلالة على ان الاعتبار بوضع الحمل وان قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] ، خاص بغير الحوامل.
قوله: "ولا سكنى".
أقول: الايات التي فيها ذكر السكنى كقوله تعالي: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] ، وقوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] , ظاهر السياق فيها اختصاصها بالرجعيات فلا ينتهض الاحتجاج بذلك على وجوب السكنى للمتوفى عنها.
وأما حديث الفريعة الذي أخرجه أحمد ومالك في الموطأ والشافعي وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم أنها قالت: خرج زوجي في طلب اعلاج له فأدركهم في طرف القدوم فقتلوه فأتاني نعيه وانا في دار شاسعة من دور أهلي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت:إن نعى زوجي اتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع لي نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له فلو تحولت إلي أهلي وإخوتي لكان ارفق بي في بعض شأني فقال تحولي فلما خرجت إلي الحجرة دعاني فقال: "امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت فيه اربعة اشهر وعشرا قال فأرسل إلي عثمان فاخبرته فأخذ به.
فهذا الحديث وإن كان صحيحا ولم يأت من قدح فيه بشيء ينبغي الالتفات اليه لكن غاية ما فه انها تعتد في المنزل الذي أتاها فيه نعي زوجها وليس فيه ان سكناها في مدة عدة الوفاة من مال الزوج وقد صرحت أنه لا منزل لزوجها فقالت: وليس المسكن له فعرفت بهذا أنه لا دليل في الحديث على إيجاب السكنى للمتوفى عنها من مال زوجها ولكن يجب عليها ان تعتد في المنزل الذي كانت فيه عند موت زوجها سواء كان لها أو للزوج أو لغيرهما ولا يبعد ان أجرة المنزل إذا كان للغير لازمة لها بل هو الظاهر بل لا يبعد ان المنزل إذا كان لزوجها فلورثته أن يطالبوها بالكراء فهذا حكم تعبد الله به المعتدة ولم يوجبه على زوجها ومع هذا فقد قدمنا(1/430)
حديث فاطمة بنت قيس الذي أخرجه أحمد والنسائي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة"، وفي لفظ آخر: "إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة فإذا لم تكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى"، وهذا نص في محل النزاع وفيه مقال كما تقدم قريبا مع أنه لا حاجة لمن نفي وجوب السكنى بالاستدلال على عدم الوجوب بل يكفيه ان يقف موقف المنع حتى يأتي الدليل الذي تقوم به الحجة وإلا كان التمسك بالبراءة الاصلية يكفيه.
ويؤيد عدم الوجوب ما أخرجه النسائي وأبو دأود عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة 240] ، نسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله لها من الربع أو الثمن ونسخ اجل الحول ان جعل اجلها اربعة اشهر وعشرا وفي إسناد أبي دأود علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال خفيف ولكنه رواه النسائي من غير طريقه وقد دل على أنه ليس للمتوفى عنها الا الميراث لا نفقة ولا سكنى ولا وصية.
قوله: "ومتى التبست بمطلقة بائنا" الخ.
أقول: ووجهه ان المطقة البائنة قد أوجب الله سبحانه عليها العدة ثلاثة قروء والمتوفى عنها أوجب الله عليها العدة بأربعة اشهر وعشر فمع اللبس لا تخرج كل واحده منهما مما أوجبه الله عليها بيقين الا بالعدتين.
وأما ما ذكره من ان لهما بعد مضي اقصر العدتين نفقة الخ فالحق أنه لا نفقه للمتوفى عنها ولا للبائنة كما سيأتي بيانه في باب النفقات إن شاء الله.
قوله: "وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن".
أقول: العدد المبينة في الكتاب والسنة وهي للمطلقات والمتوفى عنهن وثبت في المختلعة انها تعتد بحيضة وقد قدمنا ان الخلع فسخ لا طلاق فالقول بأن عددالفسخ كعددالطلاق البائن يحتاج إلي دليل ولا دليل فوجب الرجوع إلي ما ثبت في نوع من أنواع الفسخ وهو الخلع مع ما يؤيد ذلك من كون المسبية تستبرئ بحيضة كما تقدم النص على ذلك في الحائض وان الحامل تستبرئ بوضع الحمل فينبغي ان تكون عدة الفسخ حيضة إن كانت حائضا أو وضع الحمل إن كانت حاملا لأن براءة الرحم تتحقق بذلك ولم يرد ما يدل على زيادة ذلك والبراءة الاصلية تقتضي عدم ايجاب العدة عليها لان التعبد بغير دليل من التقول على الله بما لم يقل.
وهكذا لا يجب للمفسوخة نفقة ولا سكنى لعدم الدليل على ذلك بل لورود النص بان النفقة والسكنى إنا هي للمطلقة رجعيا كما قدمنا لكن ها هنا إشكال وهو ما أخرجه أحمد والدراقطني ورجاله رجال الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة فاختارت نفسها وامرها ان تعتد عدة الحرة.
وأخرج ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات عن عائشة قالت امرت بريرة ان تعتد بثلاث حيض.(1/431)
ويمكن ان يجمع بين الاحاديث بان ما ورد فيه النص كالخلع وفسخ الامة إذا عتقت يوقف على محله ويبقى ما عدا ذلك من الفسوخات على البراءة الاصلية ولا يجب الا ما يحصل به براءة الرحم وهي الحيضة في الحائض وإن كانت حاملا فوضع الحمل لما ورد في الاستبراء وأما دعوى المصنف الاجماع فمن اغرب ما يقرع الاسماع.
[فصل
وهي من حين العلم للعاقلة الحائل ومن الوقوع لغيرها وتجب في جميعها النفقة غالبا واعتدادالحرة حيث وجبت ولو في سفر بريد فصاعدا ولا تبيت الا في منزلها الا لعذر فيهما وعلى المكلفة المسلمة الاحداد في غير الرجعى وتجب النية فيهما لا الاستئناف لو تركت أو الاحداد وما ولد قبل الاقرار بانقضائها لحق ان امكن منه حلالا في الرجعى مطلقا وفي البائن لاربع فدون وكذا بعده بدون ستة اشهر لابها أو بأكثر الا حملا ممكنا من المعتدة بالشهور للياس] .
قوله: فصل: "وهي من حين العلم للعاقلة الحائل ومن الوقوع لغيرها".
أقول: هذه التفرقة لا يدري ما اصلها ولا ما مقتضيها وما استدلو به من ان الله سبحانه ذكر التربص في عدة ذوات الاقراء فقال: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وان ذلك يدل على انها لا بد ان تكون قاصدة للدخول في العدة فتسليم ذلك غايته ان تقصد عندالعلم ولا ينافي ذلك الاعتداد بما قد مضى قبل العلم ومع هذا كان يلزم ان تكون عدة الوفاة من وقت العلم لان الله سبحانه قال فيها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] ، فلم يبق وجه لهذا الفرق بل العدة للحامل والحائل العاقلة على سواء وأما الصغيرة والمجنونة فلا علم لها فالعدة فيهما لاحقة بالعدة للعقالة إن كانت من وقت الوقوع كانت لهما من وقت والوقوع وإن كانت من وقت العلم كانت لهما من الوقت الذي يحصل العلم فيه لوليهما.
والحاصل ان هذه التفرقة لا تنبنى على شرع مقبول ولا على رأي معقول ولم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على انها لا تعتد الا من وقت العلم بل ظاهر اطلاقات الكتاب والسنة ان العدة من عند وقوع الموت أو الطلاق وإن تأخر العلم بهما لان هذه المدة التي مضت بعد الوقوع وقبل العلم هي مدة من المدة المتعقبة لموت الزوج أو طلاقه فمن زعم أنه لا يحتسب بها فعليه الدليل فإن عجز عنه فهي من جملة العدة ولس على المراة إحداد ولا غيره حتى تعلم لانها لا تكلف بلوازم العدة الا بعد علمها والا كان ذلك من تكليف الغافل وهو مجمع على عدم التكليف به.(1/432)
هذا على تقدير أن هذا الحكم تكليفي اعني كون الموت والطلاق سببين للعدة فإن كانا وضعيين فالامر اظهر. والحاصل ان العدة من وقت الوقوع على كل حال ولكل معتدة ومن ادعى غير هذا فهي دعوى مجردة لا يعول على مثلها.
قوله: "ويجب في جميعها النفقة".
أقول: الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ان النفقة لا تجب للمطلقة ثلاثا لما ثبت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المطلقة ثلاثا: "ليس لها نفقة ولا سكنى".
وثبت في صحيح مسلم "41/1480"، وغيره أحمد "6/414، 415، أبو داود "2290"، النسائي"3552"، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "لا نفقة لك الا ان تكوني حاملا".
وهكذا لا نفقة ولا سكنى للمختلعة لما قدمنا من ان ذلك فسخ لا طلاق ولم يرد ما يدل على لزوم النفقة في الفسخ على أنه لو كان طلاق لكانت كالمثلثة بجامع عدم جواز المراجعة لهما.
وهكذا لا نفقة ولا سكنى للمتوفى عنها زوجها لعدم الدليل على ذلك وقد مات الزوج وانتقل حقها إلي تركته فليس لها الا الميراث وأما ما ورد من انها تعتد في منزلها الذي يلغها فيه موت زوجها فذلك تعبد لها لا لزوجها وقد قدمنا تحقيقه.
وأما المطلقة رجعيا فقد ورد الدليل الدال على وجوب النفقة والسكنى لها حسبما قدمنا وأما المطلقة عن خلوة فلا عذر لمن جعل الخلوة كالدخول من ان يجعلها كالمدخولة فيما يجب لها ويحرم عليها وقد قدمنا كلأما في الخلوة فليرجع اليه ولعله يأتي مزيد بحث في باب النفقات إن شاء الله.
وقد قررنا الكلام في هذه المباحث في شرحنا للمنتقى بما لا يبقى بعده حاجة إلي غيره بل افردنا هذه الابحاث برسالة مستقلة.
قوله: "واعتداد الحرة حيث وجبت".
أقول: قد قدمنا ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للمثلثة نفقة ولا سكنى وعلى تقدير أنه يجب عليها ان تعتد في المنزل الذي وقع الطلاق وهي فيه كما يدل عليه ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها: ألم ترى إلي فلانة بنت الحكم طلقها زوجها البتة فخرجت؟ فقالت عائشة: بئسما صنعت فقال: ألم تسمعي إلي قول فاطمة بنت قيس - يعني أنه لم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجها نفقة ولا سكنى فقالت عائشة: أما إنه لا خير لها في ذلك, فذلك تكليف عليها لا على زوجها كما قلنا في المتوفى عنها جمعا ين الأدلة ويحمل تجويز الخروج لها على الخوف وعدم الامن.(1/433)
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري وغيره عن عائشة انها قالت: كانت فاطمة بنت قيس في مكان فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخرجه مسلم وغيره من حديث فاطمة بنت قيس قالت: قلت: يا رسول الله زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم على فأمرها فتحولت وثبت في صحيح مسلم وغيره من حديثها ان النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تنتقل عند ابن أم مكتوم.
وأما المتوفي عنها فقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في المنزل الذي أدركتها فيه وفاة زوجها بعد أن أخبرته ان المنزل ليس لزوجها فدل ذلك على انها متعبدة بذلك كما سلف.
وأما المطلقة رجعيا فقد قدمنا ان سياق قوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] ، وقوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، يدل على ان المراء المطلقة رجعيا مع ما قدمنا من حديث فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة" وقد قدمنا أيضا انها لا تخرج من البيت الذي يسكنها فيه الا باذنه فقوله ولو في سفر بريد فصاعدا ولا تبيت الا في منزلها صحيح. وهكذا يجب عليها في النهار ان تقعد في منزلها الا لحاجة أو خوف ولهذا قال المصنف رحمه الله: الا لعذر فيهما وقد قدمنا إذنه صلى الله عليه وسلم لفاطمة بالانتقال لذلك العذر وقدمنا أيضا حديث جابر عند مسلم وغيره أنه قال طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجد نخلا لها فلقيها رجل فنهاها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "اخرجي فجدي نخلك لعلك أن تصدقي أو تفعلي خيرا".
قوله: "ويجب على المكلفة المسلمة الاحداد على غير الرجعي".
أقول: أما وجوبه على المتوفى عنها فالاحاديث في ذلك كثيرة صحيحة وقد تضمن انها لا تكتحل ولا تتطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب ولا تختضب ولا تلبس الحلى ولا تمتشط.
وأما المطلقة رجعيا فلا احداد عليها بالاجماع وأما المطلقة بائنا فلا إحداد عليها عند الجمهور وهو الحق لعدم ورود دليل يدل على ذلك فيجب البقاء على البراءة الاصلية ولا يخرج منها الا من ورد النص بالوجوب عليه وهو المتوفى عنها فقط نعم ورد ما يدل على جواز الاحداد على الميت وإن كان غير زوج لكن ثلاثة أيام فقط كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ام حبيبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"، وهو في الصحيحين أيضا من حديث زينب بنت جحش وهو في الصحيحين أيضا من حديث أم سلمة.
قوله: "ويجب النية فيهما".(1/434)
أقول: أما وجوب النية في العدة فلكونها عملا "وإنما الاعمال بالنيات" كما صح عنه صلى الله عليه وسلم وأما الاحداد فكذلك لكونه عملا تعبد الله به المتوفى عنها وأما عدم وجوب الاستئناف للعدة لو تركت المعتدة النية فلكونها قد وقعت العدة الواجبة بالحيض وهكذا لو تركت الاحداد لانها قد وقعت العدة وإخلالها بواجب عليها لايستلزم بطلان عدتها وسيأتي لنا في فصل الرجعة ما ينبغي اعتبار مثله هنا عند قول المصنف ويصح وإن لم تنو. قوله: "وما ولد قبل الاقرار بانقضائها" الخ.
أقول: مهما كان الفراش ثابتا شرعا كان الولد لاحقا قطعا ولا شك ان المطلقة رجعيا تجوز مراجعتها من زوجها وإن طالت المدة ولهذا لحق ولدها مطلقا لثبوت فراشها مع كونها رجعية لم تقر بانقضاء عدتها.
وأما البائنة فلا ريب أنه يمكن تجويز وطئها من زوجها في الساعة التي طلقها فيها فإذا جاءت بولد لأربع سنين فما دون عند من جعل هذه المدة أكثر مدة الحمل فقد جاءت به لاحقا بأبيه وقد عرفناك ما هو الذي ينبغي اعتماده في أقل مدة الحمل وأكثرها فارجع اليه.
وأما إذا كانت المطلقة قد أقرت بانقضاء العدة فقال المصنف إنها إن جاءت به لدون ستة اشهر من عند الاقرار بالانقضاء لحق وإلا فلا والظاهر أنه لا وجه للتقييد بهذه المدة وأن المطلقة المقرة بانقضاء عدتها إن كان الطلاق رجعيا لحق بزوجها لجواز أنه راجعها قبل إقرارها بالانقضاء بلحظة ولا يكون إقرارها حجة عليه في إبطال نسب ولده منه وإبطال نسبه عن ولده مع إمكان بقاء الفراش والحكم بكذب الاقرار أولي من الحكم بإبطال نسب لم يرتفع فيه الفراش ارتفاعا معلوما.
وأما المطلقة بائنا فتجويز وطء زوجها لها لا ينبغي المصير اليه وعلى فرض إمكانه فهو ممنوع منه شرعا فلا يثبت به الفراش وإذا لم يثبت الفراش لم يلحق النسب فلم يلحق النسب بعد إقرار البائنة بالانقضاء الا بدون ستة اشهر لأنه لا يحتمل ان يكون حملا حادثا بعدالاقرار بالانقضاء فيحمل على أنه حمل من الزوج قبل ايقاع الطلاق ولكن كان ينبغي ان لا يقع التقييد بدون الستة الاشهر بل ينبغي ان يقال إنه يلحق به وإن طالت المدة إلي انقضاء اربع سنين عندهم من وقت الطلاق لان عدم العمل باقرارها بالانقضاء أولى من حملها على الزنا وإبطال نسب لم يأذن الشرع بإبطاله ولا جاء به برهان.
وأما عندي فإذا كانت قرائن الحمل ظاهرة فلا حكم للإقرار بالانقضاء مطلقا ويلحق به لفوق اربع سنين لأن ظهور القرائن تدل على كذب اقرارها مع احتمال الوهم منها بل يجب حملها على الوهم بوجود ما يدفعه من القرائن مصاحبا له.
وأما استثناء حمل المعتدة بالشهور للبائن فوجهه انها إذا حبلت فقد تبين انها غير آيسة فلا حكم لاقرارها بالانقضاء وقد عرفناك عند قوله فإن انقطع ولو من قبل تربصت حتى يعود ما ينبغي ان تضمه إلي هذا ملاحظا لثبوت الفراش وان ارتفاعه لا يكون الا بأمر يوجب القطع.(1/435)
[فصل
ولا عدة فيما عدا ذلك لكن تستبرأ الحامل من زنى للوطء بالوضع والمنكوحة باطلا والمفسوخة من اصله وحربية اسلمت عن كافر وهاجرت كعدة للطلاق الا ان المنقطعة الحيض لعارض اربعة اشهر وعشرا وأم الولد عتقت بحيضتين وندبت ثالثة للموت والمعتقة للوطء بالنكاح بحيضة ولو لمعتق عقيب شراء أو نحوه] .
قوله: فصل: "ولا عدة فيما عدا ذلك".
أقول: وجه هذا عدم ورود دليل يدل على غير من قد وقع نص الكتاب والسنة بالعدة عليهن لان ذلك حكم شرعي فلا يجوز اثباته الا بحجة شرعية.
وأما قوله: "لكن تستبرأ الحامل" الخ فهو استثناء منقطع لأن الاستبراء هو شيء غير العدة شرعه الله سبحانه لبراءة الارحام ولدفع اختلاط الاموال ولم يرد ما يدل على خصوص استبراء الحامل من زنا الا ما قدمنا من الأدلة الدالة على استبراء المسبية والمشتراة ونحوهما فقد ذكرنا هنالك من الأدلة ما يدل بعمومه وإطلاقه على مشروعية الاستبراء إذا كانت تلك العلة موجودة وهي موجودة في الحامل من زنا لكن اقتصاء المصنف على الحامل غير مناسب بل يقال في الزواني لا توطأ منهن حائض حتى تستبرأ بحيضة ولا حامل حتى تضع حملها كما قال صلى الله عليه وسلم فيما ذكرناه سابقا.
ومن جملة الاحايث العامة الشاملة للحامل من زنا حديث أبي هريرة عند أحمد والطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره".
ومنها حديث رويفع الذي تقدم بلفظ: "من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يسقى ماءه ولد غيره"، وهو حديث صحيح.
وأما المنكوحة باطلا فهي داخلة تحت الأدلة التي اشرنا اليها كما صلت فيها الزانية.
والشبهة في هذه لا تنتهض لايجايب العدة الشرعية عليها وغاية ما فيها أنه يسقط بها الحد وقد قدمنا تحقيق الكلام في هذه وأمثالها وأما المفسوخة من اصله فقد قدمنا ما يغني عن إعادته هنا.
وأما الحربية التي أسلمت عن كافر وهاجرت فقد قدمنا الاحاديث المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين المهاجرات وازواجهن الباقين على الكفر الا بعد انقضاء عدتهن ومن اسلم زوجها وهي في العدة أقرها على نكاحها الأول كما وقع منه صلى الله عليه وسلم في ابنته زينب مع زوجها أبي العاص بن الربيع.
وأخرج مالك في الموطأ عن الزهري أنه قال لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلي الله روسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل ان تنقضي عدتها ولم يبلغنا ان امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها.
وأما قوله: "إلا ان المنقطعة الحيض لعارض" الخ فقد قدمنا تحقيق الكلام فيه وتخصيص(1/436)
هذا الموضع بهذا الحكم لهذه المنقطعة لا وجه له بل ينبغي من المصنف ان يجعل حكمها واحدا في عدة واسبتراء.
قوله: "وأم الولد عتقت بحيضتين".
أقول: تخصيص ام الولد بهذا الحكم من التحكم الذي لا وجه له ولا دليل عليه ولو قال هذا من يقول إن عدة الامة حيضتان كان لذلك وجها الحاقا لها بالاماء المنكوحات وأما المصنف فإنه لا يفرق بين عدة الحرة والامة فما باله جاء بهذا الحكم في أم الولد وكان عليه ان يجعل عليها العدة الكاملة كما يجعله على الامة المنكوحة والحرة أو يجعل عليها الاستبراء الذي يعرف به براءة الرحم وهو حيضة كما تقدم في الاماء وأما هذه العدة المتوسطة بين العدتين فمن غرائب الرأي وعجائب التحكم والاحسن إلحاق هذه أم الولد بالامة المزوجة إذا عتقت ثم خيرت فاختارت نفسها وقد قدمنا في حديث بريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم امرها ان تعتد عدة الحرة ثلاثة حيض بجامع ان كل واحدة منهما كانت امة منكوحة ثم عتقت وصارت في يد نفسها.
وأعجب من هذا الذي ذكره المصنف من اعتدادها بحيضتين ما ذكر عقيبه من قوله وندبت ثالثة للموت فإنه جاء أولا بكلام هو هرولة بين عدة الحرائر والاماء وجاء ثانيا بكلام هو هرولة أيضا بين الوجوب وعدمه مع كون العدة عدة وفاة وليس بعد هذا من التسأهل في اثبات الأحكام الشرعية شيء.
وأما قوله: "والمعتقة للوطء بالنكاح بحيضة" فهذا وإن كان رأيا معقولا الحاقا لها بالاماء اللات تجدد عليهن الملك وقد تقدم ما في ذلك من الأدلة لكنه مدفوع بما ذكرناه من امره صلى الله عليه وسلم لبريرة ان تعتد بثلاث حيض عدة الحرة فإن هذه امة عتقت وتلك امة عتقت فالحاق المعتقة بمن عتقت أولى من الحاقها بمن لم تعتق ولا فرق بين ان يكون الذي أراد وطئها بالنكاح هو المعتق أو غيره.
[فصل
ولمالك الطلاق فقط إن طلق رجعيا ولما يرتد احدهما مراجعة من لم تنقض عدتها ويعتبر في الحائض كمال الغسل أو ما في حكمه وتصح وإن لم ينو أما بلفظ العاقل غالبا أو بالوطء أو أي مقدماته لشهوة مطلقا ويأثم العاقل إن لم ينوها به وبلا مراضاة ومشروطة بوقت أو غيره ومبهمة ومولاة ولو لها وفي إجاتها نظر ويجب الاشعار ويحرم الضرار] .
قوله: فصل: "ولمالك الطلاق فقط إن طلق رجعيا" الخ.
أقول: هذا صحيح فالرجعة بيد من بيده الطلاق ولكنه يجوز له ان يوكل من يراجع عنه كما يجوز له أن يوكل من يتزوج له أو يطلق عنه.(1/437)
وأما تقييد ذلك بقوله: ولما يرتد احدهما فلا حاجة اليه لأن المرتد منهما ان استمر على ردته فإن كان الزوج هو الذي ارتد فمعلوم أنه لا يجوز للكافر نكاح المسلمة لا بإذنها ولا بغير إذنها بل تتربص حتى تنقضي عدتها ثم تنكح من شاءت وإن كانت المرتدة هي الزوجة فكذلك لا يجوز للزوج ان يراجعها وهي كافرة كما قال تعالي: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] .
وأما إذا ارتد احدهما بعد طلاق ثم رجع إلي الإسلام قبل انقضاء العدة فقد عرفناك فيما سبق ان الفرقة قد وقعت بالطلاق وأنها لا يتبعها الفسخ لان المحل غير قابل لذلك ما تقدم في كون الطلاق لا يتبع الطلاق.
قوله: "ويعتبر في الحائض كمال الغسل" الخ.
أقول: قد ذهب إلي هذه جماعة من الصحابة ولكن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو الرجوع إلي انقضاء العدة التي شرعها الله للمعتدات فإذا انقضت الحيضة الثالثة انقضت العدة وليس الغسل الا لجواز مثل الصلاة والتلأوة ودخول المسجد لا لأمر يرجع إلي العدة فإنها قد انقضت ومضت ولم يبق لها حكم.
وأما قوله: "وتصح وإن لم تنو" فإن أراد ان النية غير واجبة في الرجعة فمدفوع بانها عمل وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الاعمال بالنيات"، وإن أراد انها واجبة ولا تبطل الرجعة بتركها بناء على ان الرجعة التي شرعها الله قد وقعت واثم التارك للنية لا يستلزم بطلان الرجعة فهذا له وجه ولكن كيف يتصور ان تقع الرجعة من الفاعل ولم ينوها فإن نفس القصد إلي الرجعة يستلزم حصول النية لأن النية هي القصد وقد وقع فإن قدرنا مثلا أنه جاء بلفظ يفيد الرجعة وهو غير قاصد للرجعة فليست هذه برجعة اصلا لأن تلفظ المتكلم بما لا يريده لاحكم له بل هو من اللغو الباطل والهذيان البحت.
وهكذا لو قدرنا أنه وطئها لا بنية الرجعة فإن هذا الوطء ليس برجعة شرعية بل هو بالزنا اشبه ولعل الذي حمل المصنف على هذا المشي على ما قدمه من قوله ويجب النية لا الاستئناف فيهما ولكن هذا يرد عليه هنالك كما يرد عليه هنا.
قوله: "أما بلفظ العاقل أو بالوطء" الخ.
أقول: أما اللفظ فظاهر ان الله سبحانه شرع للأزواج الرجعة وليس المراد بها إلا أن يراجعها إلي نكاحه بان يقول قد ارجعتك أو راجعت فلانة أو يؤذنها بأنها تعود إلي ما كانت عليه أو يامرها بأن تدخل إلي المكان الذي كانا يجتمعان فيه وهي غير مطلقة وهو يعلم انها تفهم من ذلك الرجعة.
وأما مراجتها بالوطء باديء بدء بأن لا تشعر الا وقد اقتحم عليها وأخذ برجلها ونكحها فهذا وإن كان رجعة لأنه لا يفعله الا من أراد الرجوع فيما كانا فيه من النكاح ومجرد القصد إلي هذا قبل صدوره منه يفيد الرجعة ولكن هذه الرجعة دوأبية لا إنسانية فضلا عن ان تكون شرعية(1/438)
وإنما يفعل مثل هذا الفعل الزناة ولم يكن له إلي ذلك حاجة فإنه كان يكفيه ان يناديها من وراء الباب للمنزل الذي هي فيه أنه قد راجعها ثم يدخل بعد ذلك سريعا ويطأها كيف شاء وعلى أي صفة أراد فيكون قد وقع منه الاشعار وفعل ما يعفله المتشرعون ولم يفت عليه قضاء حاجته والبلوغ إلي شهوته.
وأما قوله: "ويأثم الفاعل إن لم ينوها به" فهذا مع عدم النية لم يرد الرجعة بل أراد الزنا وليست هذه رجعة شرعية. وأما كونها تصح بلا مراضاة فصحيح لان الله سبحانه أباح ذلك للأزواج ولم يعتبر رضا الزوجات.
وأما كونها تصح مشروطة فللزوج ذلك وقد يكون له في الشرط فائدة تحت الزوجة على كمال الطاعة وهكذا تصح الرجعة المبهمة ويرجع اليه في التعيين فإن عين من هي المقصود له تعينت وإن لم يعين حتى مات فإحداهما زوجة تستحق الميراث ويكون الميراث بينهما ويجب عليهما العدة.
وأما قوله: "ومولاة" فصحيح كما قدمنا في أول هذا الفصل ولا وجه لقول المصنف فقط فإنه إن أراد إخراج رجعة من لم يكن بزوج مع عدم رضا الزوج فذلك معلوم لا يحتاج إلي ذكره وإن أراد أنه لا يصح منه التوكيل بها ونحوه فهو مخالف لما هنا فإن التولية نعم التوكيل.
وأما قوله: "وفي إجازتها نظر" فلا وجه لهذا النظر لأن إجازة الرجعة رجعة.
قوله: "ويجب الاشعار".
أقول: لا شك في ان هذا واجب على الزوج للزوجة ولا سيما إذا كان ترك الاشعار لها يؤدي إلي ان تقع في محظور من إجابة خطبة من يخطبها أو الدخول في نكاح من يريد نكاحها بل الظاهر وجوب الاشعار لمن يتصل به ويجأوره لئلا يظنوا به مالا يحل واجتناب ذلك واجب بل قد ورد ما يدل على وجوب الاشهاد فأخرج أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي بسند صحيح عن عمران بن الحصين أنه سئل عن الرجل يطلق امراته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجتها فقال: طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة اشهد على طلاقها وعلى رجتها ولا تعد فإن قوله: لغير سنة يدل على أنه قد عرف من السنة ما يفيد الاشهاد فهو كقول الصحأبي من السنة كذا.
ومما يؤيد هذا: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، فإنه وارد عقب قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ، وقد وقد الاجماع على عدم وجوب الاشهاد في الطلاق واتفقوا على الاستحباب.
قوله: "ويحرم الضرار".
أقول: الضرار محرم على كل حال وهو اشد تحريما لمن وصى الله بهن عباده كما تقدم ولمن قال في حقهن {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، ولمن قال في حقهن {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ(1/439)
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وقد قدمنا ان قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، نزل في الرجل الذي قال لامرأته والله لا اطلقك فتبيني ولا أويك ابدا قالت وكف ذلك قال اطلقك فكلما همت عدتك ان تنقضي راجعتك فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الاية [الترمذي "1192".
[فصل
والقول لمنكر البائن غالبا ولتمتنع منه مع القطع ولمنكر وقوعه في وقت مضى وفي الحال إن كان الزوج ولمنكر تقييده وحصول شرطه ممكن البينة ومجازيته وللزوج في كيفيته ولمنكر الرجعة بعد التصادق على انقضاء العدة لا قبله فلمن سبق في المعتادة وللزوج في النادرة ولمنكر مضيها غالبا فإن ادعاه الزوج حلفت في دعوى انقضاء الحيض الاخر كل يوم مرة وفي إنكارها الجملة كل شهر مرة وتصدق من لا منازع لها في وقوع الطلاق وانقضاء عدتها.
قوله: فصل: "والقول لمنكر البائن".
أقول: الاصل عدم البينونة فمدعيها مدع ومنكره منكر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن البينة على المدعي واليمين على المنكر"، فهذا فرد من الأفراد المندرجة تحت هذا الحديث العام والشرع الشامل.
وأما قوله: "ولتمتنع منه مع القطع" فلما هو معلوم من ان تمكينها من نفسها منكر في اعتقادها حيث هي قاطعة بالبينونة قطعا بمستند شرعي لا بمجرد الخيال ولا بمجرد فتأوى المقصرين.
وأما قوله: "ولمنكر وقوعه في وقت مضى" فلكون الاصل عدمه وموافق الاصل منكر ومدعى خلاف الاصل مدع وعلى المدعى البينة وعلى المنكر اليمين.
وأما قوله: "وفي الحال إن كان الزوج" فصحيح لأن الاصل وقوع الطلاق بخلاف ما إذا كان الزوج ينوي المدعى فإنه يصح منه إنشاء الطلاق في الحال.
وهكذا قوله لمنكر تقييده لان الاصل عدم التقييد وهكذا منكر حصول شرطه لان الاصل عدم حصوله ولا وجه للتقييد بقوله وممكن البينة لان كل شرط يمكن البينة عليه الا ان يجعل الشرط امرا يرجع إلي ضميرها وما في نفسها مثلا فإن ذلك لا يعرف الا من جهتها.
وهكذا يكون القول لمنكر مجازيته لان المجاز خلاف الاصل والاصل الحقيقة.
وأما قوله: "وللزوج في كيفيته" فغير مسلم بل إن كانت تلك الكيفية خلاف ما هو المتبادر(1/440)
كان القول قول منكرها والبينة على مدعيها وإن كانت هي المتبادرة من العرف والاصطلاح فالقول قول مدعيها.
وهكذا القول قول منكر الرجعة لأن الاصل عدمها ولا وجه لقوله بعد التصادق على انقضاء العدة الخ لأن الاصل العدم ملقا وإذا ادعت المرأة انقضاء عدتها وأنكر الزوج فعليها البينة فإن النساء العوارف يفرقن بين الطهر والحيض وبين دم الحيض وغيره وإذا كان هذا الامر المتعلق بالفروج يمكن البينة عليه فغيره بالأولى حسبما حققنا ذلك فيما مضى.
وأما تصديق من لا منازع لها فظاهر لا يحتاج إلي ذكره وتدوينه.
والحاصل ان هذا الفصل معلوم مما سيأتي في كتاب الدعأوى وإنما يتعرض المصنف في الابواب لمن القول قوله ولمن البينة عليه لقصد مزيد الأيضاح وتكثير الافادة.(1/441)
[باب الظهار
صريحة قول مكلف مختار مسلم لزوجة تحته كيف كانت ظاهرتك أو انت مظاهرة أو يشبهها أو جزءا منها بجزء من امه نسبا مشاع أو عضو متصل ولو شعرا أو نحوه فيقع ما لم ينو غيره أو مطلق التحريم وكنايته كأمي أو مثلها أو في منازلها وحرام فيشترط النية وكلاهما كناية طلاق ويتوقت ويتقيد بالشرط والاستثناء الا بمشيئة الله في الاثبات ويدخله التشريك والتخيير] .
قوله: باب: "الظهار فصل صريحة قول مكلف".
أقول: اشتراط كون الزوج مكلفا مختارا وجهه ان غير المكلف لا يصلح لايقاع هذا ولم يؤذن له به وهكذا المكره لا حكم لفعله ولا يعتد به لان الاختيار شرط لصحة كل إنشاء.
وأما قوله: "مسلم" فوجهه ان ما في الكتاب والسنة متضمن لما شرعه الله لعباده المسلمين وأما الكفار فهم وإن كان فيهم الخلاف في التكليف بالشرعيات فليس ذلك إلا باعتبار العقوبة عليهم في تركها لا باعتبار وجوب تنجيزها عليهم حال الكفر ولا باعتبار صحتها منهم.
وأما كونه لزوجة تحته فلأنه لا يكون ظهارا إلا ما كان كذلك لأنه نوع من أنواع الفرقة فلا يقع على اجنبية لعدم المقتضى ووجود المانع وقد صح أنه: "لا طلاق قبل نكاح" كما تقدم فهكذا ما يؤول أمره إلي ما يؤول إليه الطلاق ولو في بعض أحواله وأما اعتبار كونها تحته فلأن المطلقة قد وقعت عليها الفرقة بنفس الطلاق ولا يتبع الطلاق الطلاق كما قدمنا ولا ما هو في معنى الطلاق لأنه تحصيل للحاصل ولا يشترط في الزوجة شيء مما يشترط في الزوج لانها إنما هي مكان للإيقاع عليها وذلك يصح كيف كانت.(1/441)
قوله: "ظاهرتك وانت مظاهرة".
أقول: إن الظهار الذي نص عليه القرآن الكريم المراد به ما كانت توقعه الجأهلية ويجعلونه طلاقا وكانوا يقولون انت على كظهر امي فتصير المرأة بذلك مطلقة فمعنى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] يوقعون عليهن ما كانت توقعه الجأهلية على نسائهم فمن أراد هذا المعنى بلفظ يدل عليه كقوله ظاهرتك وانت مظاهرة أو انت الظهار كان ذلك صحيحا والأرادة جارية على مقتضى اللغة كما لو قال في الطلاق انت الطلاق ونحو ذلك ولا يمنع من هذا شرع ولا عقل ولا لغة.
قوله: "أو يشبهها أو جزءا منها بجزء من امه نسبا".
أقول: هذا صواب لأن اجزاء الام متفقة فلا فرق بين الظهر وغيره وأما تشبيه مثل الزوجة بابنته واخته أو جزء منها بجزء منها فهذا خارج عن معنى النص وإن كان معنى الحرمة موجودا والقول بالقياس لا يكون الا بجامع الحرمة وجامع الحرمة موجود في الاجنبيات فضلا عن القرائب فإن أريد التحريم المؤبد لزم ذلك في مثل الملاعنة. والحاصل ان هذا القياس لا ينبغي ان يقال به ها هنا فإن الله سبحانه قد وصف المظاهرين بانهم: {لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: 2] ، فلا ينبغي توسيع دائرة ما هذا شأنه بل يقصر على موردا لنص وهن الامهات من النسب وقد استرسل بعض أهل العلم في هذا القياس حتى قال: إن مجرد تحريم الوطء المطلق ظهار وهو باطل من القول وغلط في الاستدلال.
وأما اعتبار ان يكون ذلك الجزء مشاعا فظاهر لأنه يدخل فيه كل جزء من أجزاء البدن بقدر ما سمى.
وهكذا قوله أو عضو متصل فإنه لا يشترط ان يكون الذي سماه هو الفرج أو ما يدخل فيه الفرج أو جزء منه ليكون موردالنص هو تشبيه الزوجة بظهر الام وهو غير الفرج ولا يدخل فيه شيء منه.
وأما قوله: "ولو شعر أو نحوه" فمبني على أنه يعود على مسمى العضو وهو يتخالف كما في كتب اللغة.
قوله: "فيقع ما لم ينو غيره".
أقول: قد الزم رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الظهار من ظاهر في الإسلام وهو لم يرد الا ما كانت تريده الجأهلية ولم يكن قد تبين حكم الظهار في الإسلام حتى يكون مرادا له وقد ورد الإسلام بنسخ كون الظهار الذي كانت تفعله الجأهلية طلاقا وأوجب فيه الكفارة ولا يخفى ان من نوى الظهار ما كانت تنويه الجأهلية به وهو الطلاق فقد صار مظاهرا ولزمته أحكام الظهار التي بينها الكتاب والسنة لأن السبب وارد فيمن أراد ظهار الجأهلية وهو الطلاق فقوله فيقع مالم ينو غيره غير مسلم بل يقع ولو نوى به الطلاق.
وأما إذا نوى اليمين فقد نوى به غير معناه اللغوي والشرعي وليس هذا اللفظ من ألفاظ(1/442)
اليمين فلا يقع ظهارا لعدم نيته له ولا للطلاق ولا يقع يمينا لان الجأهلية لم تستعمله في ذلك ولا فيه ما يفيد اليمين.
وأما إذا أراد تحريم العين فهو يصدق عليه أنه قد أراد ما كانت عليه الجأهلية فإنهم لا يريدون بقولهم للنساء هن عليهم كظهور امهاتهم الا التحريم الذي يستلزم الفرقة لان الشرع اقر أرادة التحريم وإن جعلها منكرا من القول وزورا ورتب عليها ما رتب من التكفير.
ومما يؤيد هذا ما أخرجه أهل السنن [أبو داود "2221"، الترمذي "1199"، ابن ماجة "2065"، النسائي "3475"] ، وصححه الترمذي والحاكم من حديث ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها, فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال: "ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ " فقال: رأيت خلخالها في ضوء القمر, فقال صلى الله عليه وسلم: "فلا تقربها حتى تفعل ما امرك الله"، فإن قوله قبل ان اكفر يفيد أنه أراد الظهار الشرعي وأنه وقع منه ذلك بعد ورودالشرع به فوجب عليه ما وجب على المظاهر وهذا إذا أراد تحريم العين بما جاء به من لفظ الظهار وأما إذا قال حرمتها أو هي حرام فليس شيء لأنه حرم على نفسه ما لم يحرمه الله عليه وليس له ان يشرع لنفسه ما لم يشرع الله لها ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل امراته فهي يمين يكفرها, وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، وقد اطلنا المقال في هذا البحث في شرحنا للمنتقى فليرجع اليه.
وأما قوله: "وكنايتها كأمي ومثلها" الخ فصحيح لأن اللفظ إذا احتمل معنيين أو معاني لم ينصرف إلي احدهما الا بالنية من المتكلم.
وأما قوله: "وحرام" فليس بشيء كما عرفت.
وأما قوله: "وكلاهما كناية طلاق" فقد قدمنا لك ان الشرع نسخ ما كانت تفعله الجأهلية من الظهار مريدين به الطلاق وظاهر هذا أنه لا يقع به الطلاق اصلا وإن أراده لأنه أراد ما لم يصح في الشريعة.
قوله: "ويتوقت".
أقول: لما أخرجه أحمد "4/37، 5/436"، وابو دأود "2213"، والترمذي "1198، 3299"، وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن الجارود والحاكم من حديث سلمة بن صخر قال كنت امرءا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرتي حتى ينسلخ رمضان الحديث وهو يدل على صحة توقيت الظهار وقد اثبت النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الظهار كما في بقية الحديث وفيه طول وفيه أنه واقعها قبل انقضاء رمضان وأما قوله: "ويتقيد بالشرط والاستثناء" فظاهر لعدم المانع من ذلك.
وأما قوله: "إلا بمشيئة الله" يعني فإنه لا يصح تقييده بها لان الله سبحانه لا يشاؤه لوصفه(1/443)
له بأنه منكر من القول وزور فإذا قيده بمشيئته لم يقع وأيضا الاحاديث الواردة في مطلق التقييد بالمشيئة تدل على ان ما قيد بها لا يلزم لا في اليمين ولا غيرها كما قدمنا.
وأما كونه يدخله التشريك والتخيير فوجهه ما قدمنا في الطلاق.
[فصل
ويحرم به الوطء ومقدماته حتى يكفر أو ينقضي وقت الموقت فإن فعل كف ولها طلب رفع التحريم فيحبس له إن لم يطلق ولا يرفعه الا انقضاء الوقت أو التكفير بعدالعود وهو أرادة الوطء ولا يهدمه الا الكفارة وهي عتق كما سيأتي فإن لم يجد فصوم شهرين في غير واجب الصوم والافطار لم يطأها فيهما ولا وإلا استأنف الا لعذر ولو
مرجوا زال فيبنى فإن تعذر البناء على الصوم قيل اطعم للباقي فإن لم يستطعه فاطعام ستين مسكينا أو تمليكهم كاليمين وياثم إن وطيء فيه قيل ولا يستأنف ولا يجزئ العبد الا الصوم ومن امكنه الاعلى في الادنى استأنف به والعبرة بحال الأداء وتجب النية الا في تعيين كفارتي متحد السبب ولا تتضاعف الا بتعدد المظاهرات أو تخلل العود والتكفير] .
قوله: فصل: "ويحرم به الوطء ومقدماته حتى يكفر"
أقول: لأن هذا التحريم هو مدلول الظهار الذي ورد به الكتاب والسنة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر في الحديث المتقدم عنه ان لا يقربها حتى يفعل ما امره الله وهو حديث صحيح كما قدمنا ولم يأت من اعله بما يصلح لدعواه.
وأما قوله: "أو ينقضي وقت المؤقت" فبمني على ان انقضاء الوقت بمثابة العود والوطء وأما قوله: "فإن فعل كف" يعني حتى يكفر وليس عليه في هذا الوطء كفارة غير الكفارة التي وجبت للظهار لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض على من وطيء قبل ان يكفر الا بكفارة واحدة كما تقدم وقد أخرج الترمذي وحسنه ابن ماجه من حديث سلمة بن صخر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر بواقع قبل أن يكفر قال: "كفارة واحدة"، قال الترمذي والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم.
وأما قوله: "ولها طلب رفع التحريم" الخ فصواب لان الاستمرار على التحريم مضاره لها وقدنهى الله سبحانه عن ذلك ولا اعتبار بما يقوله المقلدون بأنه لا حق لها في الوطء فكيف تطلب رفع التحريم نعم إذا كان لا يريد إمساكها سرحها بإحسان كمال قال الله سبحانه.
قوله: "ولا يرفعه الا انقضاء الوقت أو التكفير بعد العود" الخ.
أقول: أما كونه يرفعه انقضاء الوقت بدون تكفير فغير مسلم وأما كونه يرفعه التكفير بعد(1/444)
العود فصحيح كما صرح به الكتاب العزيز قال الله عز وجل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] ، واختلفوا هل العلة في وجوبها العود أو الظهار بعد اتفاقهم على انها تجب الكفارة بعد العود؟.
فذهب قوم إلي الأول وذهب آخرون إلي الثاني وذهبت طائفة ثالثة إلي ان العلة مجموع العود والظهار ثم اختلفوا في العود ما هو فقيل إنه أرادة المس لما حرم بالظهار وقيل بل هو إمساكها بعد الظهار وقتا يسع الظهار ولم يطلق وقيل هو العزم على الوطء فقط وإن لم يطأ وقيل هو الوطء نفسه وقيل إعادة لفظ الظهار.
والظاهر ان المراد به العود من الحالة التي هو فيها وهي التحريم بالظهار إلي الحالة التي كان عليها وهو كون الوطء حلالا بموجب عقد النكاح وهذا هو الذي تقتضيه اللغة وتنطبق عليه الأدلة كما لا يخفى فإنه إذا عزم الرجل على شيء فقال إنه قد عاد عما عزم عليه كان المفهوم من هذا العود هو الرجوع من العزم على ذلك الشيء إلي عدم العزم عليه فالعائد هو هذا.
قوله: "ولا يهدمه الا الكفارة".
أقول: هذا صحيح وهو الذي ذكره الله سبحانه وجاءت به السنة المطهرة ومن قال إنه يهدمه غير الكفارة فهو إنما نظر إلي أنه قد حصل موجب للتحريم أما مطلقا أو مقيدا وليس الكلام في هذا إنما الكلام في الشيء الذي يصير به منهدما حتى يكون وجوده كعدمه.
وأما مثل الطلاق ونحوه مما تحصل به الفرقة فذلك لا يوجب رفع ما كان قد اقترفه من أمر الموجب لما أوجبه الله من الكفارة عند ان يريد عودها إلي نكاحه.
قوله: "وهي عتق" الخ.
أقول: التقييد لإجزاء الصوم بعدم وجود رقبة يعتقها ثم تقييد إجزاء الاطعام بعدم الاستطاعة للصوم هو الذي صرح به الكتاب العزيز وصرحت به السنة المطهرة في مظاهرة أوس بن الصامت لزوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة.
وأما قوله: "لم يطأ فيهما" فهو أمر مجمع عليه كما حكاه ابن القيم وغيره فإنه قال لا خلاف في تحريم وطئها في زمن الصوم ليلا ونهارا.
وأما اشتراط ان يكون الصوم متتابعا فلذكر التتابع في الكتاب العزيز والسنة المطهرة وظاهر ذلك ان من لم يتابع لم يفعل ما أمر الله سبحانه ولا صام الصوم الذي شرعه الله فيستأنف وأما إذا كان ترك التتابع لعذر مسوغ فذلك لتقييد ما أوجبه الله سبحانه بالاستطاعة وهذا لم يستطع فلا يجب عليه الاستئناف.
وأما قوله: "فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا" فهذا هو الذي صرح به القرآن والسنة وأما قوله: "أو تمليكهم كاليمين" فمراده ان يدفع اليهم ما يأكولنه وذلك هو إطعام إذ لا فرق في صدق مسمى الاطعام بين ان يهيء لهم طعأما يأكلونه أو يدفع إلي كل واحد من الطعام ما يأكله وقد ورد في الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر"، كما(1/445)
في حديث أوس بن الصامت وورد في حديث سلمة ابن صخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعا فقال: "أطعمه ستين مسكينا".
وظاهر القرآن والسنة أنه يطعم ستين مسكينا مرة واحدة أما ان يهيء لهم طعأما يأكلونه عنده أو بأن يدفع إلي كل واحد ما يأكله ولا يجب الاطعام مرتين ولا دليل علي ذلك.
قوله: "وياثم إن وطيء فيه".
أقول: وقع في الكتاب العزيز التقييد بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، في العتق والصوم ولم يقع التقييد به في الاطعام فالظاهر عدم الإثم في الاطعام وعدم الاستئناف لأن ترك التقييد فيه مشعر بان احكمه غير حكم ما وقع التقييد فيه إعمالا للكتاب العزيز ورجوعا إلي البراءة الاصلية ومن زعم ان الاطعام لاحق بالعتق والصوم بالقياس بعدم الفارق فزعمه هذا رد عليه فإن التنصيص في الكتاب العزيز على البعض دون البعض دليل على الفرق وإن لم يعلمه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] ، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
على أنه قد قيل إن عدم وجوب الاستئناف في الاطعام مجمع عليه وهذا الاجماع إن صح يندفع به القياس وتبطل معه دعواه.
وأما قوله: "ولا يجزء العبد الا الصوم" فمبنى على ان العبد لا يملك فلا يجب عليه ما هو مال وأما قوله: "ومن أمكنه الاعلى في الادنى استأنف به" فلا وجه له فإنه فعل ما هو الواجب عليه ودخل فيه حال كونه لا يجب عليه غيره فتجدد الوجوب عليه بعد التلبس بما هو الواجب عليه تكليف له بما لم يكلف به.
وأما كون العبرة بحال الأداء فصحيح لان اعتبار غيرها مع استمرار الوجوب عليه يحتاج إلي دليل.
وأما كونها تجب النية فظاهر لان التكفير عمل والاعمال بالنيات ولو كان ذلك في كفارتي متحدي السبب فإن التعيين بالنية واجب لأن كل واحدة منهما عمل والاتحاد لا يبطل ذلك ولا يرفع الوجوب.
وأما قوله: "ولا تتضاعف الا لتعدد المظاهرات" فصحيح لان الله سبحانه لم يوجب في الظهار الا كفارة واحدة فمن زعم أنه يجب غير ذلك فقد ادعى مالا دليل عليه وقد قدمنا الدليل على عدم تعود الكفارة وأنه مذهب الجمهور. وهكذا تعدد الكفارة إذا تخلل العود والتكفير بين الظهارين لأن كل واحد منهما أوجب الشرع فيه كفارة وإن كانت المظاهرة واحدة ومثل هذا ظاهر لا يحتاج إلي التنصيص عليه.(1/446)
[باب الايلاء
من حلف مكلفا مختارا مسلما غير اخرس قسما لا وطيء ولا لعذر زوجة تحته كيف كانت أو اكثر لا بتشريك مصرحا أو كانيا نأويا مطلقا أو مؤقتا بموت ايهما أو بأربعة اشهر فصاعدا أو بما يعلم تأخره عنها غير مستثنى الا ما تبقى معه الاربعة رافعته بعدها وإن قد عفت إن رجعت في المدة وكلهن مع اللبس لا ولي غير العاقلة فيحبس حتى يطلق أو بفيء القادر بالوطء والعاجز باللفظ ويكلفه متى قدر ولا إمهال الا بعد مضى ما قيد به يوما أو يومين ويتقيد بالشرط لا الاستثناء الا ما مر ولا يصح التكفير الا بعد الوطء ويهدمه لا الكفارة والتثليث والقول لمنكر وقوعه ومضى مدته والوطء وسنة ثم سنة إيلاءان لاسنتان] .
قوله: باب: "الايلاء فصل يوجبه حلف مكلف" الخ.
أقول: وجهه ان حلف غير المكلف لا ينعقد ولا يلزم لرفع قلم التكليف عنه وهكذا حلف المكره لأن فعله لم يصدر على وجه يتعلق به حكمه.
وأما اشتراط ان يكون مسلما فلكون هذه الشريعة واردة لما شرعه الله لأهل الإسلام وأما خطاب الكفار بما اخلوا به من الواجبات في الدنيا عند الحساب يوم القيامة فذلك بحث آخر لأن عقوبتهم عليها في الاخرة لا يستلزم صحتها منهم في الدنيا.
وأما اشتراط ان يكون غير اخرس فظاهر لان هذا بحث لفظي والاخرس لا يقدر على الكلام.
وأما اشتراط ان يكون الحلف قسما فزيادة قد افادها قوله من حلف لأن مطلق الحلف ينصرف إلي القسم بالله أو بصفاته.
وأما قوله: "لا وطيء ولا لعذر" فصحيح لأن الحكم مترتب على الحلف وقد وقع سواء كان سبب الحلف عذرا أو غير عذر وأما كون المحلوف عليه هو وطء الزوجة فظاهر لأنه لا يقال للحلف إيلاء الا إذا كان كذلك وإلا كان يمينا من سائر الايمان.
وأما كونها تحته كيف كانت فالكلام فيه كالكلام في الظهار وقد تقدم.
وهكذا قوله لا بتشريك فإنه لا يصح مجرد التشريك بل لا بد من الحلف من كل واحدة لان معنى هذا الباب لا يوجد الا بالحلف ولا حلف من الاخرى.
وأما قوله: "مصرحا أو كانيا نأويا" فظاهر لأن المراد ما يفهم به المراد وهو يحصل بالكناية كما يحصل بالتصريح وأما النية فلا بد منها في الصريح والكناية كما قدمنا ذلك غير مرة وهكذا لا فرق بين ان يكون الحلف مطلقا أو مقيدا بوقت لأن الكل حلف يصدق عليه مسمى الايلاء.
وأما كون التوقيت بالموت أو بأربعة اشهر فصاعدا أو بما يعلم تأخره عنها فالوجه في ذلك(1/447)
كله ان الله سبحانه قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] ، فإذا وقت بالموت فهو غاية ماله من الحياة ولكن بعد مضى الاربعة ترافعه وإذا وقت بما فوق الاربعة رافعته عند انقضاء الاربعة وهذا مبني على أنه لا يصح التوقيت بدون الاربعة وأنه لا يكون ايلاء الا بذلك والاية غير واردة في هذا المعنى بل واردة في معنى مدة الامهال للمولى وانها تجوز للمرأة المرافعة بعد الاربعة الاشهر لما في الزيادة عليها من الاضرار بها.
وقد ثبت في الصحيح [البخاري "9/300"، مسلم "25/1085"] ، ان النبي صلى الله عليه وسلم أقسم ان لا يدخل على نسائه شهرا فلو كان ما في القرآن بيانا للمدة التي لا يجوز ان يكون وقت الايلاء دونها لم يقع منه صلى الله عليه وسلم الايلاء شهرا فعرفت بهذا ان هذه المدة ليست الا لعدم جواز التوقيت بزيادة عليها وأنه يجوز للمرأة المرافعة بعدها.
وأما قوله: "وكلهن مع اللبس" فظاهر لأنه قد جاء بما يحتمل ان كل واحده منهن محلوف منها على انفرادها فلا يجوز قربان إحداهن الا بعد انجلاء اليمين وأما كونه يحبس حتى يطلق أو يفيء فوجهه أنه لا يرتفع الضرار عن الزوجة الا بذلك وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال إذا مضت اربعة اشهر يوقف حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق قال البخاري ويذكر ذلك عن عثمان وعلى وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أحمد بن حنبل عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر انهم قالوا يوقف المولى بعد الاربعة فأما ان يفيء وأما ان يطلق.
وأخرج الدارقطني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال سألت اثني عشر رجلا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يولى قالوا ليس عليه شيء حتى تمضي اربعة اشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق.
قوله: "والقادر بالوطء" الخ.
أقول: الظاهر ان قوله عز وجل: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] ، معناه الرجوع كما يفيد ذلك اللغة فمعنى فاءوا رجعوا إلي ما كانوا عليه وحللوا ما وقع منهم من اليمين بالتكفير عنها وذلك أمر يكفي فيه العزم عليه والقصد اليه ولا يعتبر وطء ولا لفظ وبهذا يعرف أنه لا وجه لقول المصنف رحمه الله ويكلفه متى قدر ولا إمهال الخ.
وأما قوله: "ويتقيد بالشرط" فصحيح لأنه يمينه هذه كلام من جملة الكلام الذي يقبل التقييد بالشرط والاستثناء ولا مانع من ذلك.
وأما كونه لا يصح التفكير الا بعدالوطء فوجهه ان الكفارة تلزم بالحنث والمحلوف عليه هو الوطء فلاتلزمه الكفارة الا بعد الحنث بفعل ما حلف عليه أنه لا يفعله.
وأما قوله: "ويهدمه لا الكفارة التثليث" فلا وجه له إذ لا مدخل للتثليث في رفع هذه اليمين إلا أن يريد أنها لا ترافعه إذا انقضت الاربعة الاشهر وقد صارت مثلثة فهذا صحيح لأنه(1/448)
هنا قد حرم وطؤها بسبب آخر وهو التثليث فليس لها المطالبة بشيء قد صار محرما عليها وعلى زوجها.
فإن قيل انها تطالبه بأن يفيء باللفظ لترفتع الغضاضة عنها فقد عرفناك ان الفيء الرجوع إلي النكاح وقد ارتفع فلا يصح الرجوع اليه الا بعد ان تنكح زوجا غيره ومتى رجعت اليه بعد نكاح غيره فوطئها لزمته الكفارة.
وما أقل جدوى هذا الانهدام الذي ذكره المصنف لا سيما مع اعترافه بأنها لاتنهدم الكفارة وأما قوله: "والقول لمنكر وقوعه ومضى مدته والوطء" فظاهر لأن الاصل عدم هذه الثلاثة فالقول لمنكرها وعليه اليمين وعلى مدعيها البينة.
وأما قوله: "وسنة ثم سنة إيلاءان" فلا وجه له بل هو إيلاء واحد تعلقت به تلك اليمين فلا فرق بين قوله سنة ثم سنة وبين قوله سنتان نعم إذا قال والله لا وطئتك هذه السنة ثم قال والله لا وطئتك السنة التي بعدها كان ذلك إيلائين فترافعه في السنة الأولى بعد مضي اربعة اشهر وكذلك في السنة الثانية.(1/449)
[باب اللعان
يوجبه رمي مكلف مسلم غير اخرس لزوجة مثله حرة ممكنة الوطء تحته عن نكاح صحيح أو في العدة بزنا في حال يوجب الحد ولو قبل العقد أو نسبة ولده منها إلي الزنا مصرحا قيل ولو بعد العدة وثم إمام ولا بينة ولا اقرار فيهما ومنه يا زانية] .
قوله: باب: "اللعان فصل يوجبه" الخ.
أقول: المراد بالايجاب التسويغ والجواز مع ثبوت ذلك ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يعظ الملاعنين ويخوفهما من الاقدام عليه.
وأما اشتراط كون الزوج مكلفا مسلما فلما تقدم غير مرة.
وأما كونه غير اخرس فلكون اللعان لا يكون الا باللفظ لا بالاشارة ولا بالكناية.
وأما اعتبار كون الزوجة مثل الزوج فلأنها تحلف كما يحلف وتثبت ما ينفي الزوج وتنفي ما يثبت وذلك لا يكون الا من مكلفة مسلمة غير خرساء.
وأما اشتراط ان تكون الزوجة حرة فلكون ذلك مورد النص ولكن المفسدة كائنة في الامة كالحرة والأحكام تدور بدوران عللها.
وأما كونها ممكنة الوطء فلأن اللعان لا يكون الا بالرمي بالزنا أو النفي للولد وهو يستلزم الزنا فن كانت رتقاء أو عذراء فلا يتيسر ذلك منها.(1/449)
وأما كونها تحته عن نكاح صحيح فلا وجه له بل يكفي ان تكون تحته عن نكاح شبهة يوجب لحوق النسب لأن ذلك هو المقتضى للعان ومعلوم ان نفي اللاحق بشبهة يترتب عليه من الفائدة ما يترتب على نفي اللاحق بنكاح صحيح.
وأما قوله: "في العدة" فصحيح لأن لحوق الولد به في العدة ثابت لثبوت الفراش فالغرض باللعان موجود وهو نفي الولد.
وأما قوله: "بزنا في حال يوجب الحد" فهذا صحيح إن كان الغرض من اللعان دفع الحد وأما إذا كان الغرض منه نفي الولد فهذا صحيح وإن كان الحد ساقطا لشبهة كما تقدم واضافة الزنا منها إلي قبل عقده بها صحيح لان الغرض الذي يكون لاجله اللعان موجود.
وهكذا يقوم مقام رميه بالزنا نسبة ولده منها إلي الزنا لأن ذلك يستلزم الزنا.
وأما قوله: "ولو بعد العدة" فإنما يتم إذا كان الولد لاحقابه بعدها لا إذا لم يلحق به فلا فائدة في اللعان وأما أعتبار ان يكون في الزمان إمام فلا وجه لذلك بل الصالح لتنفيذ أحكام الله سبحانه من هذه لامة يقوم بما تقوم به الائمة في جميع الامور من غير فرق بين الحدود وغيرها كما تدل على ذلك الايات القرآنية والاحاديث النبوية.
وأما قوله: "ولا بينة ولا إقرار فيهما" فصحيح لأن اللعان إنما يصح مع التناكر والتدافع وأما قوله: "ومنه يا زانية" فلا حاجة اليه بعد قوله بزنى.
[فصل
ويطلبه الزوج للنفي وإسقاط الحق وهي للنفي والقذف فيقول الحاكم بعد حثهما على التصادق فامتنعا قل والله إني لصادق فيما رميتك به من الزنا ونفي ولدك هذا اربعا ثم تقول والله إنه لمن الكاذبين في رميه ونفيه كذلك والولد حاضر مشار اليه فإن قدمها اعاد ما لم يحكم ثم يفسخ ويحكم بالنفي إن طلب فيسقط الحد وينتفي النسب وينفسخ النكاح ويرتفع الفراش ويحرم مؤبدا لا بدون ذلك مطلقا ويكفي لمن ولد بعده لدون ادنى الحمل ويصح الرجوع عن النفي فيبقى التحريم فإن رجع بعد موت المنفي لم يرثه قبل وإن لحقه ولده ولا نفي بعد الاقرار أو السكوت حين العلم به وإن له النفي ولا بدون حكم ولعان ولا لمن مات أو أحد ابويه قبل الحكم ولا لبعض بطن دون بعض ولا لبطن ثان لحقه بعد اللعان ويصح للحمل إن وضع لدون ادنى مدته لا اللعان قبل الوضع. وندب تأكيده بالخامسه والقيام حاله وتجنب المسجد] .(1/450)
قوله: فصل: "ويطلبه الزوج" الخ.
أقول: الطلب من كل واحد منهما يكون لاحد غرضين أولهما معا الأول انتفاء نسب الولد من الزوج وغرض الزوج من ذلك أنه لا يلحق به من هو من غيره وغرضها ان يكون ابنا لها على الاستقلال.
الثاني دفع الحد فغرض الزوج باللعان ان لا يحد حد القذف وغرضها ان لا تحد حد الزنا.
وأما كون من أغراض الزوج إسقاط الحق من نفقة عدة ونحوها فذلك لا يتم الا على القول بوجوب النفقة ونحوها لكل مطلقة رجعيا كان أو بائنا وقد عرفت ما قدمنا من أنه لا نفقة ولا سكنى للمطلقة بائنا فالزوج يمكنه ان يسقط عن نفسه ذلك بطلاق بائن من غير اقتحامه لهذه العقبة الكوود.
قوله: "فيقول الحاكم بعد حثهما على التصادق".
أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال لهما: "إن عذاب الدنيا اهون من عذاب الاخرة" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "5312"، مسلم "1493"] ، وغيرهما [أبو داود "2257"، النسائي "6/177"، أحمد "4587"] ، أنه قال لهما: "الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ".
وأما قوله: "قل: والله إني لصادق فيما رميتك به من الزنا" فقد علمنا الله سبحانه كيف يقول المتلاعنان فلا حاجة إلي الزيادة على ذلك ولا في إحضار الولد.
وأما قوله: "فإن قدمها أعاد ما لم يحكم" فوجهه أن القرأن قدم إيمان الزوج على إيمان الزوجة فتقديمها مخالف لما علمنا الله به وأرشدنا إليه وهكذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللعان الواقع لديه الرجل على المراة وأيضا قولها والله إنه لكاذب جواب عن قوله إنه لصادق والجواب لا يتقدم على ما هو جواب عليه.
قوله: "ثم يفسخ ويحكم بالنفي".
أقول: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للزوج: "لا سبيل لك عليها" وفي الدارقطني من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرق بين المتلاعنين وقال: "لا يجتمعان أبدا"، وهكذا روى من حديث ابن عباس [أبو داود "2256"] ، ومن حديث علي وابن مسعود.
وأما نفي الولد فثبت في الصحيحين [البخاري "5315"، مسلم "8/1494"، وغيرهما [أبو داود "2259"، الترمذي "1203"، النسائي " 6/178"، أحمد "2/7، 38، 64، 71"] ، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين والحق الولد بالمرأة.
وأما ما ذكره من سقوط الحد فلا ينبغي ان يقع فيه خلاف لأن ذلك هو موجب اللعان وهكذا كونه ينفي النسب لأن ذلك موجب اللعان أيضا وهكذا كونه ينفسخ النكاح بمجرد اللعان لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سبيل لك عليها".(1/451)
وأما ما ثبت في الصحيحين [البخاري "5308"، مسلم "1492"] ، من ان عويمرا العجلاني لما فرغا من اللعان قال كذبت عليها يا رسول الله إن امسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يامره رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس في ذلك حجة الا أنه ثبت في الصحيحين وغيرهما عن الزهري أنه قال فكانت سنة المتلاعنين وفي الصحيحين وغيرهما أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذاكم التفريق بين كل متلاعنين"، وفي لفظ لمسلم وغيره أحمد "وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين".
وأخرج أبو دأود بإسناد رجاله رجال الصحيح عن سهل بن سعد في خبر المتلاعنين قال: فطلقها ثلاث تطليقات فانفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند النبي صلى الله عليه وسلم سنة والحاصل أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق ما بينهما قبل الطلاق كما تقدم فالفرقة بتفريق الحاكم مغنية عن الطلاق فإن وقع الطلاق فذلك تأكيد للقرعة ولا تتوقف الفرقة عليه وإنما نسبه إلي السنة لكونه وقع بحضرته صلى الله عليه وسلم ولم ينكره.
وأما كونه يرتفع الفراش فلكونها قد حرمت عليه تحريما مؤبدا كما تقدم عنه صلى الله عليه وسلم بلفظ: "لا يجتمعان أبدا".
وأما قوله: "لا بدون ذلك مطلقا" فصحيح لكونه لم يكمل السبب.
وأما قوله: "ويكفي عن ولد بعده" الخ فلكونه حملا واحدا لا يصح النفي لبعضه دون البعض.
قوله: "ويصح الرجوع عن النفي" الخ.
أقول: الرجوع عن النفي رجوع عن اللعان وإقرار ببطلان أيمانه وأنه مفتر عليها وقاذف لها فبطل اللعان من اصله ولا يبقى شيء من أحكامه لا تحريم ولا غيره ولا فرق بين ان يرجع قبل موت الولد أو بعده وتجويز ان يكون رجوعه طمعا في الميراث لا يدفع ما هو الظاهر فيرثه ويلحقه ولده.
وأما كونه لا يصح نفي الولد بعد الاقرار فظاهر لان الاقرار يكذب النفي.
وأما مجرد السكوت مع علمه بأن له النفي فلا وجه لجعله مبطلا لان له حقا في النفي لا يبطل الا بابطاله باقرار صحيح أو ما يقوم مقامه.
وأما قوله: "فلا يصح النفي بدون حكم ولعان" فلكون الطريق الشرعية إلي ذلك هو اللعان فمن جاء من طريق غيرها فقد جاء بخلاف الشرع.
وأما قوله: "ولا لمن مات أو أحد ابويه قبل الحكم" فلا وجه له بل إذا أمكن اللعان فالسبب الذي يكون به النفي موجود سواء كان الولد حيا أو ميتا وأما إذا كان الميت أحد الزوجين قبل أن يقع اللعان فقد بطل السبب وهو اللعان بموته.(1/452)
وأما إذا مات بعد اللعان قبل الحكم فقد حصل السبب وهو اللعان لأنه فرقة بمجرده كما تقدم ولو كان الحكم شرطا لما كانم موت احدهما مانعا له لأنه يمكن الحاكم ان يحكم بعد موت احدهما بما يقتضيه اللعان من نفي الولد.
وأما قوله: "ولا لبطن ثان لحقه بعد اللعان" فلا وجه له لانها قد حرمت عليه ابدا فلا يمكن بعد ذلك ثبوت الفراش وقد صرح فيما تقدم بأنه يرتفع الفراش وعرفناك ان التحريم المؤبد وارتفاع الفراش يحصلان بمجرد اللعان سواء وقع الحكم من الحاكم ام لا.
وأما قوله: "ويصح للحمل إن وضع لدون أدنى مدته" فلا وجه لهذا التقييد بل يصح للحمل مهما كان ممكنا ان يكون للفراش الذي كان بينهما.
وأما قوله: "لا اللعان" فوجهه أنه قد يكون غير حمل لعلة من العلل ولا وجه لهذا لأن مرجع اللعان هو ان يشاهدها تزني فإن وقع له ذلك لاعنها ونفى ولدها إن وجد ولا يضره إن لم يوجد.
والحاصل ان هذه مسائل مظلمة لم يدل عليها دليل ولا كانت مبنية على رأي معقول.
قوله: "وندب تأكيده بالخامسة".
أقول: الخامسة منصوص عليها في الكتاب العزيز وأمر بها صلى الله عليه وسلم في اللعان الواقع لديه فلها حكم الاربع الشهادات ولا يبعد ان تكون آكد منها ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها الموجبة"، فإن هذا يشعر بأن تمام اللعان وصحته وإبجابه لما يوجبه يتوقف عليها فكان الأولى الحكم عليها بما يدل على انها آكد من الاربع الشهادات وأدخل منها في اقتضاء حكم اللعان.
وأما قوله والقيام حاله فيرشد اليه ما وقع في وصف اللعان الواقع بين يديه صلى الله عليه وسلم أنه قام الرجل فقال: وقامت المرأة فقالت.
وأما قوله: "ويجنبه المسجد" فلا وجه له بل هو خلاف ما روى من وقوع اللعان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد عند المنبر(1/453)
[باب الحضانة
الأم الحرة أولى بولدها حتى يستغنى بنفسه أكلا وشربا ولباسا ونوما ثم امهاتها وإن علون ثم الاب الحر ثم الخالات ثم امهات الاب وإن علون ثم امهات أب الام ثم الاخوات ثم بنات الخالات ثم بنات الاخوات ثم بنات الاخوة ثم العمات ثم بناتهن ثم بنات العم ثم عمات الاب ثم بناتهن ثم بنات اعمام الاب ويقدم ذو السببين ثم ذو الام وينتقل من كل إلي من يليه بالفسق والجنون ونحوه والنشوز والنكاح الا بذي رحم له "م" وتعود بزوالها ومضى(1/453)
عدة الرجعى فإن عدمن فالاقرب الاقرب من العصبة المحارم ثم من ذوي الرحم المحارم ثم بالذكر عصبته غير محرم ثم من ذوي رحم كذلك] .
قوله: باب: "الحضانة الام الحرة أولى بولدها".
أقول: قال الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 232] فجعل الرضاع اليهن واثبت الحق لهن لا ينزع ذلك عنهن نازع الا مع التعاسر كما في قوله عز وجل: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 2] .
ويؤيد ثبوت الحق لهن وتقديمهن على غيرهن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي"، وهو حديث حسن لا مطعن في إسناده ويؤيده حديث: "لا توله والدة بولدها" وستأتي الاحاديث الدالة على المنع من التفريق ولا يزال الحق ثابتا للأم حتى يبلغ الصبي إلي سن الاستقلال فإذا بلغ ذلك ووقع النزاع بين الام والاب كان العمل على حديث تخيير الصبي الذي أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للغلام: "هذا أبوك وهذه أمك فاتبع أيهما شئت"، فتبع أمه فالجمع بين الحديثين ظاهر مكشوف ولا ينافي ذلك كون الاب اعرف بمصالح المعاش وادرى بما فيه المنفعة للصبي في حاله وماله فإن النظر منه في ذلك ممكن مع كون الصبي عند امه وفي حضانتها ولا وجه لرد الاحاديث بمجرد هذا الخيال ثم لا فرق بين الحرة والامة لعموم الأدلة ولاستوائهما في الحنو على الصبي ورعاية ما يصلحه ودفع ما يضره فإن لم يقع الاختيار من الصبي أو تردد في الاختيار وجب الرجوع إلي الاقراع بينهما لثبوت ذلك في حديث أبي هريرة عند أبي شيبة بلفظ: "استهما فيه" وصححه ابن القطان.
قوله: "ثم امهاتها وإن علون".
أقول: ليس على هذا دليل الا مجرد القياس على الامهات وغيره من طرق النص الذي لا يجوز معه التعلق بالاقيسة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الخالة أم"، [البخاري "2699"] ، قال ذلك عند وقوع التخاصم في الحضانة فإذا عدمت الأم أو بطل حقها فالخلالة أقدم من الجدات وهي مع الأب كالام معه يثت بينهما التخيير للصبي والاستهام عليه ولم يأت من خالف هذا بشيء يعول عليه أو يصلح للرجوع اليه.
وأما قوله: "ثم أمهات الأب" إلي آخر المعدودات فلا دليل على شيء من ذلك بل مجرد رأي بحت وجهه النظر إلي من هو مظنة للحنو على الصبي.
والحاصل ان الحق في الحضانة للأم ثم للخالة فإن عدما فالأب أولى بولده يضعه حيث يشاء من قرائبه أو غيرهن وإذا وقع النزاع بينه وبين الام أو الخالة كان الحكم ما تقدم في الاحاديث كما بينا وإذا كان الاب لا يحسن حضانة ولده أو ليس ممن يقوم برعاية مصالحه كان للحاكم أن يعين من يحضنه من قرائبه أو غيرهن وهكذا إذا كان الاب غير موجود.(1/454)
وما ذكره من تقديم ذوي النسبين على ذوي النسب ومن تقديم ذوي الام على غيرهم فوجهه ما قدمنا من تقديم من هو مظنة للحنو والحياطة.
قوله: "وينتقل من كل إلي من يليه بالفسق".
أقول: ليس على هذا دليل فإن العدالة معتبرة فيما اعتبره الشرع لا في كل أمر من الامور واعتبارها في هذا الموضع حرج عظيم وتعسير شديد فان غالب النساء التسأهل في كثير من الامور الدينية ولو كانت العدالة معتبرة فيهن ومسوغة لنزع أولادهن من ايديهن لم يبق صبي بيدامه الا في اندر الاحوال وأقلها فيكون في ذلك اعظم جناية على الصبيان بنزعهم عمن يرعى مصالحهم ويدفع مفاسدهم وجناية أيضا على الام بتولها بولدها والتفريق بينها وبينه ومخالفة لما عليه أهل الإسلام سابقهم ولاحقهم.
وأما انتقال الولاية بالجنون فظاهر لأنها لا تقدر على تدبير نفسها فضلا عن ان تقدر على تدبير غيرها وأيضا يخشى على الصبي ان تدعه يموت جوعا وعطشا أو تهلكه عند ثوران جنونها واستحكام تخليطها.
وأما النشوز فلا وجه لجعلها من أسباب الانتقال ولا مقتضى لذلك بل حقها ثابت بالنص فلا يسقطه الا مسقط شرعي بدليل مرضي.
وأما الانتقال بالنكاح فلقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي".
وقوله: "إلا بذي رحم له" يدل عليه قصة التنازع في ابنة حمزة فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بها للخالة كما تقدم وهي كانت تحت جعفر بن أبي طالب ولم يجعل نكاحها بذي رحم للصبي وهو جعفر عم الصبية مبطلا لحقها.
وأما القول بأنه يعودالحق للمرضعة بزوال سبب الانتقال فصحيح لأن المانع قد زال فلم يبق وجه لجعله مانعا بعد زواله.
وأما قوله: "فإن عدمن فالأقرب الاقرب" الخ فليس ذلك وجه بل ينبغي الرجوع إلي حاكم الشرع فيضعه عند من رأى فيه صلاحا من هؤلاء فإن كان غيرهم اصلح منهم وضعه عنده إذ لا حق لهؤلاء في الحضانة ولا ورد بذلك دليل يرجع اليه.
[فصل
وللأم الامتناع إن قبل غيرها وطلب الأجرة لغير ايام اللبإ ما لم تبرع وللأب نقله إلي مثلها تربية بدون ما طلبت وإلا فلا والبينة عليه وليس للزوج المنع من الحضانة حيث لا أولى منها وعلى الحاضنة القيام بما يصلحه لا الاعيان والرضاع يدخل تبعا لا العكس(1/455)
وتضمن من مات لتفريطها عالمة غالبا وإلا فعلى العاقلة ولها نقله إلي مقرها غالبا والقول لها فيما عليه] .
قوله: "وللأم الامتناع إن قبل غيرها".
أقول: الحق لها كما تقدم ولها تركه متى شاءت وعليها حق للطفل فلا يجوز لها ان تتركه في حال يتضرر بتركه فيها ومن جملتها عدم قبول الصبي لغيرها.
وأما الأجرة فقد صوغها لها القرآن الكريم قال الله عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] .
وأما استثناء ايام اللبإ فلا وجه له لأن الله سبحانه اطلق استحقاق الأجرة ولم يقيده بما يخرج هذ الايام وتعليلهم ذلك بأن الصبي لا يعيش بدونها باطل فكم من صبي تموت امه في النفاس ولم يرضع منها ويعيش بلبن غيرها من النساء بل ولبن غيرهن وكم من امرأة تضع ولا لبن لها ولا يرى فيها اللبن الا بعد أيام فيرضع الصبي في هذه ايام اللبإ من لبن غيرها وهذا معلوم يعرفه كل احد.
قوله: "وللأب نقله إلي مثلها تربية بدون طلب".
أقول: الله سبحانه قد أمر الازواج بان بعطوهن اجورهن فقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وأوجب ذلك على الزوج بالامر القرأني وأكد ذلك بقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، ولفظ على ظاهر في الوجوب فان كانت الام راضية بالأجرة المتعارفة المتوسطة في عرف الناس فليس له نقل الرضيع إلي غيرها وإن تبرع الغير بإرضاعه بدون أجرة فضلا عن ان يرضى بدون ما رضيت الام وقد اخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن الامهات احق بأولادهن وأوجب لهن الأجرة فنزعهم عنهن مخالف للقرآن والسنة وظلم بين فإن طلبت فوق الأجرة المتعارفة وكان الزوج يتعاسر ذلك فلا بأس بأن ينقله منها لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] .
وبهذا تجتمع الأدلة وتجرى على نمط واحدة ويوافق بعضها بعضا ومما يومئ إلي هذا الجمع الذي ذكرناه قوله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] , فإن تقييد ذلك بالمعروف مشعر بأنه الذي على الزوج لها فليس عليه ان يزيد عليه ولا عليها ان ترضع بدونه ويوميء إلي ذلك أيضا لفظ التعاسر المذكور في الاية.
وأما قوله: "وليس للزوج المنع من الحضانة" الخ فمبني على أنه لم يوجد غيرها فإن وجد من يرضعه لم يتعين الوجوب عليها وجاز للزوج منعها من ذلك لوجوب طاعتها له في غير معصية الله.
وأما قوله: "وعلى الحاضنة القيام بما يصلحه" فمعلوم لا يحتاج إلي النص عليه لأن ذلك هو معنى الحضانة وأما الاعيان التي يحتاج اليها الرضيع فذلك على أبيه وقد أوجب الله عليه أجرتها فضلا عما يحتاج اليه ولده.(1/456)
وأما قوله: "والرضاع يدخل تبعا" فمن هذيان المفرعين.
وأما كونها من مات لتفريطها عالمة فمعلوم لأن ذلك جناية توجب الضمان ومع عدم العلم هي قاتلة خطأ والكلام فيها كالكلام على قاتل الخطا وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: "ولها نقله إلي مقرها".
أقول: هذا اقتضاه إثبات اخصيتها به بالنص النبوي فلها ان تنقله إلي مقرها ولا سيما إذا كان عليها ضرر في بقائها في غير مقرها وقد كانت الحواضن الاجنبيات في أيام النبوة وأيام الصحابة ينقلن الاطفال المدفوعين اليهن للرضاع إلي مساكنهن وقرى قومهن ومن جملة من وقع له هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن حليمة السعدية لما استرضعت له نقلته إلي دار قومها وإذا جاز هذا للأجنبيات مع عدم ثبوت الحق لهن.
فكيف لا يجز للأمهات ومن يلتحق بهن مع ثبوت الحق لهن.
وأما قوله: "والقول لها فيما عليه" فخروج عن مقصود الباب والحكم فيه ان على المدعى البينة وعلى المنكر اليمين لأن كون الاب هو القائم بمصالحه يقوى كون ما عليه له وكونه في يد الام يقوى كون ما عليه لها وسيأتي بسط الكلام في هذا في الدعأوي إن شاء الله.
[فصل
ومتى استغنى بنفسه فالأب أولى بالذكر والأم بالانثى وبهما حيث لا اب فإن تزوجت فمن يليها فإن تزوجن خير بين الام والعصبة وينقل إلي من اختار ثانيا] .
قوله: فصل: "ومتى استغنى بنفسه فالاب أولى بالذكر والام أولى بالانثى".
أقول: هذا رجوع إلي مجرد الرأي وعمل بالاستحسان مع قطع النظر عن الأدلة والواجب على المتشرع العمل بالدليل وترك القال والقيل وقد قدمنا حديث التخيير وان النبي صلى الله عليه وسلم قال لصبي: "هذا أبوك وهذه أمك فاتبع أيهما شئت"، وقدمنا أيضا حديث الاستهام ويعضد ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن عبد الحميد بن جعفر الانصاري ان جده اسلم وأبت امرأته ان تسلم فجاء بابن صغير له لم يبلغ وفي رواية انها صبية فاجلس النبي صلى الله عليه وسلم الاب ها هنا والام ها هنا وخيره وقال: "اللهم اهد قلبه"، فمال إلي أمه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهده"، فمال إلي أبيه فأخذه.
فهذا التخيير وقع بين ابوين احدهما مسلم والاخر كافر وفي الحديث الأول وقع بين ابوين مسلمين ومعلوم ان مصير الصبي أو الصبية إلي يد الكافر فيه عند أهل الرأي مفسدة اعظم من المفسدة المجوزة إذا صار الذكر إلي الام المسلمة أو الانثى إلي الاب المسلم لأن اعظم ما يخشى على الصبي الصائر إلي الكفار أو الكافرة ان يرغباه في دينهما ويحبباه إليه ولهذا ورد في الصحيح(1/457)
[البخاري "1292- 1293"] ، "ولكن أبواه يهودانه وينصرانه"، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يراع في حكمه الذي هو الشرع الواجب قبوله على كل مسلم مثل هذه المصلحة والمفسدة فكيف ساغ لأهل الرأي المتلاعبين بالأدلة ان يؤثروا ما هو دونها بمراحل على الدليل الواضح الظاهر فانظر إلي شؤم الرأي وما يجلبه على أهله.
وأما قوله: "فإن تزوجت فمن يليها" فذلك معلوم فإن انتقالها إلي من له حق في الحضانة وهي الخالة ثم الاب كما قدمنا أولى من انتقاله إلي من لا حق له وقد عرفناك ان الحاكم يعين باجتهاده مع الاختلاف أو مع عدم من له الحق من يرى فيه صلاحا.
وأما قوله: "فإن تزوجن خير بين الام والصعبية" فلا وجه له بل حق الام قد بطل بالنكاح ولا حق للعصبة في الحضانة فيرجع في تعيين من يرضعه إلي الحاكم فهو أولى برعاية المصالح.
وأما قوله: "وينقل إلي من اختار ثانيا" فوجه ذلك أنه قليل التمييز ولكن قد جعل الشارع الاختيار موجبا لثبوت الحق لمن اختاره فكونه يبطل باختيار آخر يخالفه محتاج إلي دليل.(1/458)
[باب النفقات
فصل على الزوج كيف كان لزوجته كيف كانت والمعتدة عن موت أو طلاق أو فسخ الا بحكم غالبا أو لامر يقتضى النشوز ذنب أو عيب كفايتها كسوة ونفقة وإدأما ودواء وعشرة دهنا ومشطا وسدرا وماء ولغير البائنة ونحوها منزلا ومخزنا ومشرفة تنفرد بها والاخدام في التنظيف بحسب حالهما فإن اختلفا فبحاله يسرا وعسرا ووقتا وبلدا الا المعتدة عن خلوة والعاصية بنشوز له قسط ويعود المستقبل بالنوبة ولو في عدة البائن ولا يسقط الماضي بالمطل ولا المستقبل بالابراء بل بالتعجيل ولا تطلب إلا من مريد الغيبة في حال وهو تمليك في النفقة غالبا الا الكسوة ولا يتبرع الغير إلا عنه ولا رجوع وينفق الحاكم من مال الغائب مكفلا والمتمرد ويحبسه للتكسب ولا فسخ ولا تمتنع منه مع الخلوة إلا لمصلح والقول لمن صدقته العدلة في العشرة والنفقة ونفقتها على الطالب وللمطيعة في نفي النشوز الماضي وقدره وفي غير بينة بإذنه في الانفاق قيل ومطلقة ومغيبة وتحلف] .
قوله: باب: "النفقات فصل يجب على الزوج كيف كان لزوجته كيف كانت".
أقول: قد ثبت الاجماع على وجوب نفقة الزوجات على الازواج ولم يرد في ذلك خلاف والأدلة على ذلك كثيرة منها حديث معأوية القشيري عند أبي دأود والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححه أيضا الدارقطني في العلل قال:(1/458)
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما تقول في نسائنا؟ قال: "أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن".
وفي لفظ من حديثه هذا عند أحمد وأبي دأود وابن ماجه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل ما حق المرأة على الزوج؟ قال: "تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت".
ومنها ما في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذوي قرابتك".
ومنها حديث عائشة في الصحيحين [البخاري "5364"، مسلم "5/5، 5/3"] ، وغيرهما أبو داود "3533"، النسائي "8/246، 247"، أحمد "6/39، 50، 206"] : أن هندا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم قال: "خذي ما يكفيك ووندك بالمعروف".
قوله: "والمعتدة عن موت أو طلاق أو فسخ".
أقول: أما المطلقة رجعيا فقد قدمنا ما يدل على وجوب النفقة لها والسكنى وأما المطلقة ثلاثا فحديث فاطمة بنت قيس نص في محل النزاع ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في المطلقة ثلاثا: "ليس لها نفقة ولا سكنى"، وهو في الصحيحين وغيرهما كما تقدم وقال لها أيضا: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة" وقد تقدم.
وأما المخالعة فقد قدمنا ان الخلع فسخ وقد قدمنا ان العدة فيه حيضة وقدمنا أيضا أنه لا نفقة لها.
وأما المعتدة عن وفاة فقد قدمنا أيضا لا نفقة لها ولا سكنى وذكرنا الأدلة هنالك.
وأما المعتدة عن فسخ فقد قدمنا أيضا عند قوله وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن ما يغني عن تكريره هنا. فالحاصل انها لا تجب النفقة للمعتدة إلا إذا كانت حاملا لقوله عز وجل: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، أو كانت مطلقة طلاقا رجعيا وقد تقدم تحقيق هذا في مواطنه بما لا يحتاج إلي زيادة.
وأما ما ذكره من تنويع الفسخ إلي ما هو بحكم وبغير حكم ولأمر يقتضى النشوز ولأمر لا يقتضى النشوز فليس على ذلك أثارة من علم وليس في جميع ذلك عدة بل يجب الاستبراء فقط الحائض بحيضة والحامل بوضع الحمل إلا ما ورد فيمن عتقت خيرت وقد قدمنا الكلام عليه وعلى الجمع بين الأدلة عند قوله وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن.
وأما قوله: "كفايتها كسوة ونفقة وإداما" فصحيح مع التقييد بقوله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ} [الطلاق: 7] .(1/459)
وأما إيجاب الدواء فوجهه ان وجوب النفقة عليه هي لحفظ صحتها والدواء من جملة ما يحفظ به صحتها.
وأما قوله: "وعشرة دهنا ومشطا وسدرا وماء" فليس في هذه الامور دليل يدل على أنها تلزم الزوج ولا هي مما تدعو اليه الضرورة.
وأما قوله: "ولغير البائنة ونحوها" الخ فقد قدمنا لك انها لا تجب السكنى الا للمطلقة رجعيا فقط.
وأما قوله: "والاخدام في التنظيف" فليس في الأدلة ما يدل على إيجاب ذلك على الزوج وإن كان مما يدخل حسن العشرة وتحت الامساك بمعروف وتحت قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ، ولكن ليس ذلك بحتم على الزوج على تقدير ان الزوجة ممن تعتاد ذلك.
قوله: "بحسب حالهما وإن اختلفا فبحسب حاله" الخ.
أقول: الوجوب على الزوج فينبغي ان يكون الاعتبار بحاله وهو المخاطب ولقوله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، فإذا كان الزوج موسعا عليه انفق نفقة موسعة وإن كان مضيقا عليه انفق بحسب قدرته وما تبلغ إليه استطاعته وليس عليه غير ذلك ولا اعتبار بحال المرأة أبدا فإذا كان مضيقا عليه وهي من أهل الرفاهية وممن يعتاد التوسع في المطعم والمشرب ونحوهما توسعت من مال نفسها إن كان لها مال وإلا صبرت على ما رزق الله زوجها فهو القابض الباسط.
والحاصل ان الانفاق يكون بالمعروف كما أرشد اليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، والمعروف بين أهل الغنى والسعة وبين أهل الفقر والشدة لا يخفى على من له خبره بأحوال الناس في مصره وعصره.
وأما قوله: "إلا المعتدة عن خلوة" ففيه ما قدمنا في العدة وهم يوجبون نفقة البائنة فهذه إن كانت بائنة كما ذكروا فيما سبق ان رجعية ما كان بعد وطء على غير عوض مال وبائنة ما خالفه فما بالها لم تجب نفقتها كسائر البائنات وإن كان طلاقها رجعيا لا بائنا فالرجعية قد أوجبوا لها النفقة والسكنى وأوجبهما لها الدليل وقد جعلوا الخلوة موجبة للمهر فما بالها لم توجب النفقة.
قوله: "والعاصية بنشوز له قسط".
أقول: لم يرد في الأدلة ما يدل على ان الزوجة إذا عصت زوجها سقطت نفقتها ويمكن ان يقال إن الله سبحانه قد أمرهن بالطاعة وبالغ النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك غاية المبالغة حتى قال: "لو جاز السجود لغير الله لامرت الزوجة ان تسجد لزوجها" [الترمذي "1159"] ثم ورد تقييد عدم البغي عليهن بالطاعة كما في قوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] ، فإذا حصلت المعصية منها لزوجها جاز له أن يعاقبها بقطع النفقة حتى تعود إلي طاعته لانها تركت ما هو حق عليها من الطاعة فجاز له ان يترك ما هو حق عليه من النفقة.(1/460)
وأما ما ذكره انها تعود بالتوبة فظاهر لارتفاع المانع فلا يبقى له حكم المنع بعد ارتفاعه.
قوله: "ولا يسقط الماضي بالمطل".
أقول: وجهه انها قد وجبت نفقة الزوجة على زوجها بالنص والاجماع فمن ادعى أنه إذا مطلها وعصى الله بمطلها وخالف ما أوجبه الله عليه يكون ذلك مسقطا لما هو واجب عليه بيقين فقد ركب شططا وقال غلطا وأخذ بطرف من تحسين الكلام وترويق العبارة كما فعله ابن القيم في الهدى وتابعه على ذلك من اطلع على كلامه ثم هذه المراة المسكينة الممطولة مما فرضه الله لها وجعله حقا على زوجها لا يخلو أما ان تنفق على نفسها في أيام المطل من مالها وذلك مما لم يوجبه الشرع عليها على تقدير ان لها مالا أو تنفق على نفسها دينا من مال غيرها فكيف يجب عليها قضاء ما هو حق على الزوج بالشرع الواضح والاجماع الصحيح؟.
قوله: "ولا المستقبل بالابراء".
أقول: إن استمرت على ذلك طيبة به نفسها سقط بلا شك ولا شبهة لأنه حق لها ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وليس هو أيضا من أكل اموال الناس بالباطل كما قال تعالي: {وَلا تَأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، بل هو من أكل اموال الناس بالحق.
وأيضا هو مثل ما قال الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] ، ولكنهم عللوا عدم السقوط بالابراء بعلة عليلة فقالوا إنه إسقاط قبل الاستحقاق وليس هذا بشيء نعم إذا لم تستمر طيبة نفسها وطلبت النفقة كان لها ذلك من الوقت الذي تبين فيه انها لم تطب بالابراء نفسا.
وأما ما ذكره من التعجيل فصحيح لانها قداخذت ما تستحقه مؤجلا معجلا وذلك ادخل في الوفاء.
وأما قوله: "ولا تطلب الا من مريد الغيبة في حال" فعدم جواز الطلب صحيح لأنه ليس عليه الا القيام بنفقتها في كل يوم بسحب الحاجة فإن أراد سفرا كان لها ان تطالبه بما تحتاج اليه مدة غيبته.
وأما قوله: "وهو تمليك في النفقة لا الكسوة" فهما مستويان ليس لها من النفقة إلا ما استنفقته وما بقي منها فللزوج كما أنه ليس لها من الكسوة الا ما لبسته وما بقي منها فللزوج ولكن قواعد الرأي المبنية على غير شيء تأتي بمثل هذا.
وأما قوله: "ولا يتبرع الغير إلا عنه" فصحيح لأنه إذا اعطاها تبرعا من نفسه فهو متصدق عليها ولا يسقط بهذه الصدقة عليها ما هو حق لها وإذا تبرع عن الزوج وقبلت ذلك فقداستوفت حقها ياختيارها ولا يلزم الزوج ذلك إلا إذا كان عن امره وإن اسقط حقا عليه.
قوله: "وينفق الحاكم من مال الغائب".
أقول: هذا صحيح إن طلبت منه ذلك المرأة لان الحاكم يجب عليه القيام بالتخلص مما(1/461)
أمر الله سبحانه به عباده من حقوق أوجبها عليهم وحق الزوجة من جملة ذلك وهو أيضا من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن أهل الامر القادرين على نهي عن المنكر احق الناسب بالقيام به ومعلوم إن ترك الزوج لانفاق زوجته وماله بمرأى منها ظلم عظيم ومنكر بالغ فلا فسحة لمن يقدر على إنصافها من القيام بذلك وقد أمر الله سبحانه الحكام ان يحكموا بالحق والعدل وهذا من الحكم بالحق وبالعدل وكما يجب ذلك على الحكام في حق الزوج الغائب كذلك يجب عليهم في حق الزوج الحاضر الممتنع ما أوجب الله عليه فيأخذ الحاكم من ماله ما يقوم بنفقة زوجته شاء ام أبي.
قوله: "ويحبسه للتكسب".
أقول: الأولى ان يقال ويأمره بالتكسب إذا كان يجد له مكسبا يعيش به وهو ومن يعول ولم يتركه لعذر بل تركه بطرا أو كسلا أو ضرارا لنفسه ولأهله كما يفعل ذلك من ابتلى بالحمق وقد ارشد النبي صلى الله عليه وسلم إلي التكسب حتى أمر بعض من لم يتكسب ان يبيع ما يجد ثم امره ان يشترى فأسا ثم امره بأن يذهب ويحتطب وقال الله عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] ، فإن أبي وصمم على ذلك مع إمكانه وكان فيتركه ما يضره أو يضر من يعول فلا بأس ان يمسه بعقوبة تحمله على طلب ما فيه مصلحة له ولمن يعول ودفع مفسدة عنه وعنهم وأي مفسدة اعظم من قعود رجل في بيته بلا عذر وأبوب المكاسب مفتحة وأسباب الرزق منتشرة وأطفاله يتضاغون من الجوع وامرأته المحجبة تقاسي شدائد الفاقة وتمارس اهوال المسغبة.
قوله: "ولا فسخ".
أقول: قد ذهب الجمهور كما حكاه ابن حجر في فتح الباري إلي ثبوت الفسخ إذا لم يجد الرجل ما ينفق على أمراته وهو الحق لقوله عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} [البقرة: 231] ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الاصول وأي ضرار اعظم من ان يبقيها في حسبه وتحت نكاحه بغير نفقة فإن هذا ممسك لها ضرارا بلا شك ولا شبهة بل ممسك لها مع اشد أنواع الضرار فإن قوام الانفس لا يكون الا بالطعام والشراب ولقول الله عز وجل: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، فخير الازواج بين الامرين فليس لهم فسحة في المعاملة للزوجات باحدهما فمن لم يمسك بمعروف كان عليه التسريح باحسان فإن لم يفعل كان على حكام الشريعة ان يوصلوا الممسكة ضرارا بحكم الله عز وجل فيفسخون نكاحها.
وأين الامساك بمعروف من رجل ترك زوجته في مضايق الجوع ومتألف المخمصة وعرضها للهلاك وحبسها عن طلب رزق الله عز وجل وأراد ان تكون له فراشا وهي بهذه الحالة المنكرة والصفة المستشنعة وكل من يعرف الشريعة يعلم ان هذا منكر من منكراتها ومحرم من محرماتها ولقوله عز وجل ولا تضاروهن وهذا من اعظم أنواع الضرار وأشدها كما سلف.(1/462)
وأيضا قد شرع الله سبحانه بعث الحكمين بين الزوجين عند مجرد الشقاق وفوض اليهما ما فوضه إلي الازواج فإذا كان لهما التفرقة بمجرد وجود الشقاق فكيف لا يكون لحاكم الشريعة الفسخ بعد وصول المراة اليه تشكو اليه ما مسها من الجوع ونزل بها من الفاقة لشديدة.
والحاصل ان بعض ما ذكرناه يصلح مستندا لفسخ النكاح في هذه الحالة فكيف وقد أخرج الدراقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: "يفرق بينهما" وقد اعله من اعله ودفع الاعلال الحافظ محمد بن ابراهيم الوزير وعلى كل حال فها هنا ما يفي عن هذا الحديث كما عرفت.
وأما استدلال المانعين من الفسخ بقوله سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، فيجاب عنه بأنا لا نكلفه بان ينفق زيادة على ما آتاه بل دفعنا الضرار عن المراة وخلصناها من حباله لتذهب تطلب لنفسها رزق الله عز وجل بالتكسب أو تتزوج آخر يقوم بمطعمها ومشربها.
وأما قوله: "ولا تمتنع منه مع الخلوة الا لمصلحة" فوجهه وجوب طاعتها له وامتثال ما يامر به ويطلبه منها إذا كان ممسكا لها بمعروف والا كان لها الامتناع حتى تخلص من حباله.
وما ذكره من ان القول لمن صدقته العدلة فذلك صحيح إذا حصل التناكر والاختلاف وطلبا من يرفع إلي الحاكم بحقيقة الحال.
وأما قوله: "وللمطيعة في نفي النشوز الماضي" فصحيح لأن الاصل عدم النشوز مع وجود الطاعة عنها في حال الاختلاف فيكون على الزوج البينة في إثباته وإذا اختلفا في قدر مدة النشوز فالبينة على مدعى الزيادة لأن الاصل عدمها لا كما قاله المصنف.
وإذا اخلتفا هل انفق عليها في الماضي ام لا فا كانت في بيته فالقول قوله لأنها تدعى خلاف الظاهر وإن لم تكن في بيته فالقول قولها وإنما قيده المصنف بالاذن لانها إذا كانت في بيته بغير إذنه فذلك بمجرده نشوز وإذا كانت مطلقة أو كان زوجها غائبا فالقول قولها لأن الاصل عدم الانفاق مع يمينها والبينة على الزوج.
[فصل
ونفقة الولد غير العاقل على أبيه ولو كافرا أو معسرا له كسب ثم في ماله ثم على الام قرضا للأب والعاقل المعسر على ابويه حسب الارث إلا ذا ولد موسر فعليه ولو صغيرا أو كان الوالد كافرا ولا يلزم ان يعفه ولا التكسب الا للعاجر ولا يبيع عنه عرضا إلا باذن الحاكم وعلى كل موسر نفقة كل معسر على ملته يرثه بالنسب فإن تعدد الوارث فحسب الارث غالبا وكسوته وسكناه وإخدامه للعجز ويعوض ما ضاع ويسقط الماضي بالمطل.(1/463)
والموسر من يملك الكفاية له وللأخص به إلي الدخل والمعسر من لا يملك قوت عشر غير ما استثنى والبينة عليه. وعلى السيد شبع رقه الخادم وما يقيه الحر والبرد أو تخلية القادر وإلا كلف إزالة ملكه فإن تمرد فالحاكم ولا يلزم ان يعفه ويجب سد رمق محترم الدم م ولو بنية الرجوع وذو البهيمة يعلف أو يبيع أو يسيب في مرتع وهي ملكه فإن رغب عنها فحتى تؤخذ وعلى الشريك حصته وحصة شريكه الغائب والمتمرد فيرجع وإلا فلا وكذلك مؤن كل عين لغيره في يده باذن الشرع غالبا والضيافة على أهل الوبر] .
قوله: فصل: "ونفقة الولد غير العاقل على أبيه".
أقول: قد ثبت كتابا وسنة وإجماعا مشروعية صلة الرحم وورود التأكيد في شأنها بأن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله وهذا يشمل كل قريب متحقق القرابة صادق عليه اسم الرحم وورد في خصوص الابوين حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال رجل يا رسول الله أي الناس احق مني بحسن الصحبة؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك".
وفي لفظ لمسلم أنه قال: "من أبر"، وورد في خصوص الأولاد حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما ان هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما اخذت منه وهو لا يعلم فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
وورد ما هو اعم مما تقدم كحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي دأود والحاكم قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك" قلت: ثم من؟ قال: "أمك" قلت: ثم من؟ قال: "أمك" قال: قلت: ثم من؟ قال: "أباك ثم الاقرب فالاقرب".
وأخرج النسائي وابن حبان والدارقطني وصححاه الحديث عن طارق المحاربي كما في بلوغ المرام ولعله سقط الصحأبي على الناسخ قال قدمت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب الناس على المنبر وهو يقول: "يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك".
وأخرج أبو دأود والطبراني والبيهقي بإسناد لا بأس به عن كليب بن منفعة عن جده أنه اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة".
وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ابدأ بنفسك تصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذوي قرابتك فهكذا وهكذا".
وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة قال قال(1/464)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا" قال رجل: عندي دينار, قال: "تصدق به على نفسك"، قال: عندي دينار آخر قال: "تصدق به على زوجتك" قال عندي دينار آخر قال: "تصدق به على ولدك" قال: عندي دينار آخر قال: "تصدق به على خادمك"، قال: عندي دينار آخر قال: "أنت أبصر به"، وأخرجه أيضا أبو دأود لكنه قدم الولد على الزوجة.
والاحاديث في هذا الباب كثيرة جدا وحديث إذنه صلى الله عليه وسلم لهند ان تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف يدل على وجوب نفقة الأولاد على أبيهم لكن لا مطلقا إذا لم يكن لهم مال أما إذا كان لهم مال فلا وجه لوجوب النفقة من مال غيرهم وقد دل على ذلك ما جاء في القرآن الكريم من تفصيل الكلام في أموال اليتامى وإنفاقهم منها وجواز ان يأكل المنفق لهم من مالهم بالمعروف.
وأما قوله: "ولو كافرا" فذلك إذا رافعه الابن إلي الشريعة الإسلامية قضينا عليه بما فيها.
وأما قوله: "أو معسرا له كسب" فلا بد ان يفضل من كسبه فضله تكون مالا حتى ينفق منها ولده وأما إذا كان لا يحصل له من الكسب إلا ما يكفيه فقط فليس عليه إنفاق أولاده بل ينفق ذلك على نفسه كما تقدم في الاحاديث ورزق أولاده على خالقهم.
وقد عرفت مما سبق أنه لا وجه لقوله: "ثم في ماله" وان إنفاقه من ماله مقدم على إنفاقه من مال أبيه.
وأما قوله: "ثم على الام قرضا للأب" فإذا كانت غنية فعليها النفقة لأولادها لأن الخطاب في الاحاديث السابقة إن كان للرجال فللنساء حكمهم كسائر الخطابات التي في الكتاب والسنة بصيغة خاصة بالذكور فإن النساء شقائق الرجال ولا يخرجهن من ذلك إلا دليل يخصصهن من الواجبات على الرجال فلا وجه لقوله قرضا للأب.
قوله: "والعاقل المعسر على ابويه حسب الارث"،
أقول: لما قدمنا من الأدلة ولا سيما إذا كان قوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، شاملا للكبار فإن من جملتهم إذا ذاك معاوية وقد كان كبيرا لأنه اسلم عام الفتح وكان عمره عند إسلامه ثماني وعشرين سنة فقد كان عند الهجرة في ثماني عشرة سنة.
والحاصل ان هذه النفقات التي هي مما يصدق عليه أنه صلة للارحام إذا لم يوجد دليل ناهض ينتهض على وجوبها فهي من افضل القرب واعظم الطاعات المقربة إلي الله عز وجل كما قدمنا.
وأما قوله: "إلا ذا ولد موسر فعليه" فوجه ذلك ان وجوب الاحسان من الأولاد لابائهم آكد من وجوب الاحسان من الاباء لابنائهم كما قال الله سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة: 83، النساء: 36، الأنعام: 151، الإسراء: 23] ، وكما ورد في الحديث: "أنت ومالك لأبيك"، وهو حديث حسن أخرجه أحمد وابو دأود وابن خزيمة وابن الجارود ومثله حديث: "إن أطيب ما أكل الرجل(1/465)
من كسبه وولده من كسبه فكلوا من أموالهم"، أخرجه أحمد "6/31، 41، 127، 162، 173، 193، 201، 203"] ، وأهل السنن [أبو داود "3528"، النسائي "4449"، ابن ماجة "2290"، الترمذي "1358"] ، وابن حبان والحاكم وصححه أبو حاتم وأبو زرعة.
وأما قوله: "ولو صغيرا" فلما ذكره الله سبحانه في القرأن في أموال اليتامى والاباء احق من يقوم على اموالهم ويستنفق منها بالمعروف.
وبالجملة فعموم قوله عز وجل: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ، وقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، يدخل تحته الزوجات والاباء والابناء دخولا أوليا وتتنأول سائر القراب. ة
وأما قوله: "ولو كان صغيرا" فلعموم ما قدمنا.
وأما قوله: "أو كافرا" فإذا ترافعوا إلي المسلمين وجب الحكم على الكافر بما في الشريعة الإسلامية.
وأما قوله: "ولا يلزمه أن يعفه" فلكون ذلك مما لا يدخل في مسمى النفقة إلا ان يبلغ الحد إلي التضرر البالغ كان من باب التدأوي لحفظ النفس وقد تقدم حديث: "أنت ومالك لأبيك" وتقدم قوله تعالي: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وهذا من الاحسان.
وهكذا قوله: "ولا التكسب إلا للعاجز" فإنه إذا قعدالأب وعجز عن الكسب وولده قوى سوى وأبواب المكاسب متيسرة له ولم يكسب على والده فهو لم يحسن اليه كما امره الله سبحانه ولا بره كما أوجب ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا كانا قادرين على التكسب تكسب كل واحد منهما لنفسه فإن قدر الولد ان يكفي والده مؤنة التكسب فهو من تمام البر به والاحسان اليه.
والحاصل أنه إذا كان البر والاحسان واجبين على الولد لوالده كما تدل عليه الأدلة لزمه مالا يتم البر إلا به ولا يخرج عن ذلك الا ما خصه الدليل وأيضا هو أقرب قربا وأمس رحما فالأدلة الدالة على صلة الارحام تتنأوله أوليا كما قدمنا الاشارة إلي ذلك والامهات احق بهذا البر والاحسان والصلة من الاباء للأحاديث المتقدمة في أول الفصل ولغيرها كما أخرجه البخاري في الادب المفرد وأحمد وابن حبان والحاكم وصححاه مرفوعا بلفظ: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب".
وأما قوله: "ولا يبيع عنه عرضا إلا باذن الحاكم" فالعرض من جملة المال الذي جعله الشارع للأب وأمره صلي الله عليه وسلم بالأكل منه.
قوله: "وعلى كل موسر نفقة كل معسر" الخ.
أقول: لا دليل يدل على وجوب هذا الانفاق وما استدلوا به من قوله تعالي: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] ، فوضع للدليل في غير موضعه فان الآية واردة في غير هذا المعنى لان الله سبحانه قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ(1/466)
مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] ، أي وارث المولود له وفي الآية احتمالات كما أوضحنا ذلك في تفسيرنا وهذا المعنى هو الظاهر منها ولا يصح الاحتجاج بمحتمل مسأو فكيف بمحتمل مرجوح.
والحاصل ان الأدلة التي قدمنا في أول الفصل تدل على مشروعية الاحسان إلي القرابة الدين هم غير الاباء الابناء وهم داخلون فيما ورد في صلة الارحام وأما كون ذلك حتما لازما فلا دليل على ذلك يتعين الاخذ به.
وأما تقييد ما ذكره من وجوب انفاق الاقارب المذكورين بالارث بالنسب فلا وجه له بل صلة الارحام ثابتة ومشروعيتها عامة والاقرب احق بها من الابعد وهكذا تندرح في مشروعية صلة الرحم كسوته وإخدامه للعجز.
قوله: "ويسقط الماضي بالمطل".
أقول: أما النفقة الواجبه كنفقة الابن لأبويه والاب لأولاده فالكلام فيها كالكلام في نفقة الزوجة وقد قدمنا تحقيق ذلك وهكذا نفقة الارقاء لانها واجبة حتما.
وأما نفقة سائر القرابة فقد عرفناك أنه لا دليل يدل على وجوبها بل هي من باب صلة الارحام ولا يجب على الإنسان قضاء مالا يجب عليه ولكنه ينبغي ان يسلك في هذه الصلة المسلك الذي ارشداليه الشارع في الاحاديث المتقدمة بقوله: "الأقرب فالأقرب" وبقوله: "ثم أدناك أدناك".
وأما ما ذكره من رسم الايسار والاعسار فلا دليل عليه ولكن الذي ينبغي اعتماده هو ما اشار اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال للرجل الذي قال عنده دينار فإنه أمر ان يتصدق به على نفسه ثم قال عندي دينار آخر قال تصدق به على زوجتك إلي آخر الحديث المتقدم وما ورد في معناه وقد قدمنا في تفسير الغني الذي يحرم عليه الزكاة ما فيه كفاية وليس المقصود هنا ان يحصل مسمى الغنى بل المقصود وجود الكفاية التي يصير ما زاد عليها في حكم الفضلة التي لا تدعو اليها حاجة راجعة إلي النفقة والكسوة والمنزل والفراش وما يقي البرد والحر فإذا وجدا لرجل هذا لنفسه ولمن تجب عليه نفقته وهم من قدمنا ذكرهم وصل ارحامه الاقرب فالأقرب بما احب إن أراد الخير وأحب الثواب وإلا يكون من القاطعين للأرحام فيعرض نفسه للقطيعة من الله سبحانه.
قوله: "وعلى السيد شبع رقه الخادم وما يقيه الحر والبرد".
أقول: هذا واجب على السيد من واجبات الشريعة وقد كرر صلى الله عليه وسلم التوصية بالارقاء وامر بإطعامهم مما يطعم سيدهم والباسهم مما يلبس وأمر بإطعام المماليك وكسوتهم بالمعروف هذا كله ثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين.
وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته".(1/467)
أخرج أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه بأسانيد بعضها رجاله رجال الصحيح قال كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه الصلاة وما ملكت ايمانكم وهو مجمع على وجوب نفقة الارقاء.
وأما قوله: "أو تخلية القادر" فلا وجه له لأنه مهما بقي في ملكه كان الوجوب ثابتا عليه ولا نيفعه تخليته فإنه تخلص مما أوجبه عليه الشرع بغير مخلص شرعي بل يجبر على ينفعه أو إنفاقه أو عتقه ولا عذر له من أحد هذه الثلاثة الامور لأن علاقة وجوب إنفاقه عليه هي كونه مملوكا له فمهما بقي الملك فالعلاقة موجودة والسبب حاصل.
وأما كونه لا يلزمه ان يعفه فظاهر.
قوله: "ويجب سد رمق محترم الدم"
أقول: قد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" وأي إسلام له ابلغ من ان يدعه يموت جوعا وهو يجد ما يسد رمقه ويبقى حياته.
وثبت أيضا في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، فهذا الذي ترك اخاه يموت جوعا وهو يجد ما ينعشه ويدفع عنه ما نزل به من الضر ليس بمومن وواجب على كل مسلم ان لا يفعل ما يسلب عنه الايمان أو يترك ما يكون سببا لذهاب إيمانه وأيضا قد أوجب الله سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما العمادان العظيمان لهذا الدين ومعلوم ان سد رمق من نزل به الموت من الجوع من اعظم المعروف وتركه من اقبح المنكر وقد قال الله سبحانه وتعالي: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وسد رمق المضطر من اعظم أنواع البر والتقوى وتركه من اعظم الإثم والعدوان.
والحاصل ان كليات الكتاب والسنة وجزئيائتهما تدل على وجوب مثل هذا وجوبا مضيقا ومن استدل على هذا الوجوب بما ورد في الضيافة فقد ابعد النجعة.
وأما ما ذكره عن المؤيد بالله من ان له ان ينوى الرجوع على من سد رمقه فهذا مخالف للقواعد الشرعية فإن المطعم قام بواجب عليه هو من اعظم الواجبات فليس له ان يرجع في ذلك على ذلك المضطر.
قوله: "ودواء البهيمة" الخ.
أقول: أما الأجر على إنفاقها فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث بأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ بهذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم امسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: "في كل كبد رطبة(1/468)
أجر"، فإن قول السائل: وإن لنا في البهائم أجرا؟ يشمل كل بهيمة من أهلي ووحشي وجوابه صلى الله عليه وسلم "في كل كبد رطبة أجر"، يتناول الجميع.
وأما إثم من حبس البهائم فلم يطعمها ولا تركها فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي اطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، وهو ثابت في الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة.
وإذا كان هذا في هرة فغيرها من البهائم التي يملكها الناس ولا يحل أكلها أولى بذلك واحق ولا شك أنه يخلص من الإثم باخراجها عن ملكه إلي ملك غيره ببيع أو نحوه.
وأما التسييب فلا بد من تقييده بكون تلك البهيمة مما يأكل ويشرب بنفسه ويقدر على ذلك أما إذا كانت لا تقدر على ذلك كما في كثير من البهائم فلا يبرأ بتسييبها وهكذا لا بد ان تكون لها قدرة على حماية نفسها من السباع وإلا كا نمخرجا لها من الهلاك إلي الهلاك ومسلما لها إلي يد المعاطب والمتالف.
وأما كونها لا تخرج ع ملكه بالتسييب إلا ان يرغب عنها فيأخذها غيره فظاهر وهكذا حكم من في يده تلك البهيمة وهي لغيره بإذنه حكم المالك في وجوب القيام بما يحتاج إليه حتى يرجعها لمالكها وله الرجوع عليه بما أنفق.
وهكذا الشريك فيها إذا غاب شريكه أو تمرد فإنه يجب عليه القيام بما يحتاج إليه ويرجع بما انفقه على حصة شريكه.
قوله: "والضيافة على أهل الوبر".
أقول: الضيافة حق على من نزله ضيف سواء كان من أهل المدر أو الوبر ولا وجه لتخصيصها بأهل الوبر ولم يصح في ذلك شيء.
وأما ما يروى من ان الضيافة على أهل الوبر فهو باطل موضوع كما بينت ذلك في المؤلف الذي سميته الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة.
والأحاديث الواردة في مشروعية الضيافة كثيرة ومنها ما في الصحيحين [البخاري "10/531"، مسلم "14/48"] ، وغيرهما [أبو داود "3748"، الترمذي "1967، 1968"، ابن ماجة "3675"، أحمد "4/31، 6/385"] ، عنه صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته"، قالوا: وما جائزته؟ قال: "يومه وليلته".
ومما يدل على الوجوب حديث عقبة بن عامر في الصحيحين [البخاري"1/532"، مسلم "1727"، وغيرهما [أبو داود "3752"، الترمذي "1589"، ابن ماجة "3676"، أحمد "4/149"] : قالوا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى؟ فقال: "إن أمروا لكم بما ينبغي للضيف(1/469)
فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم"، فإن إذنه صلى الله عليه وسلم بالاخذ يدل على الوجوب على من نزل به ضيف.(1/470)
[باب الرضاع
ومن وصل جوفه من فيه أو انفه في الحولين لبن آدمية دخلت العاشرة ولو ميتة أو بكرا أو متغيرا غالبا أو مع جنسه مطلقا أو غيره وهو الغالب أو التبس دخول العاشرة لا هل في الحولين ثبت حكم البنوة لها ولذي اللبن إن كان وإنما يشاركها من علقت منه ولحقه حتى ينقطع أو تضع من غيره أو يشترك الثلاثة من العلوق الثاني إلي الوضع وللرجل فقط بلبن من زوجتيه ولايصل إلا مجتمعا ويحرم به من صيره محرما ومن انفسخ نكاح غير مدخولة بفعله مختارا رجع بما لزم من المهر عليه إلا جأهلا محسنا] ي.
قوله: باب: "الرضاع فصل من وصل جوفه من فيه أو انفه" الخ.
أقول: اعلم ان الرضاع المقتضى للتحريم ورد مطلقا كما في قوله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم"، وفي لفظ: "من النسب" ونحو ذلك من الاحاديث الواردة بهذا المعنى ثم ورد تقييد هذا الرضاع المطلق بقيود وردت بها السنة.
فمنها حديث عائشة عند مسلم "7/1450"، وغيره [أحمد "6/96"، أبو داود "2063"، النسائي "6/101"، الترمذي "1150"، ابن ماجة "1940"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم المصة والمصتان".
وأخرج مسلم وغيره من حديث ام الفضل ان رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم اتحرم المصة فقال: "لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان"، وفي لفظ لمسلم "18/1451"، وغيره [النسائي "6/100، 101"، أحمد "6/340"] ، من حديثها قالت دخل اعرابي إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتي فقال: يا نبي الله إن كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثى رضعة أو رضعتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان".
وأخرج أحمد والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الزبير ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم من الرضاعة المصة والمصتان"، قال الترمذي الصحيح عن أهل الحديث من رواية ابن الزبر عن عائشة كما في الحديث الأول ورواه النسائي من حديث أبي هريرة.(1/470)