مياسير لما يتَحَصَّل من قيم الْأَعْمَال الَّتِي اعينوا بهَا وهم قعُود فِي مَنَازِلهمْ وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة أَن السَّعَادَة فِي الْكسْب وَغَيره لما تحصل غَالِبا أهل الخضوع وللتملق لَان الجاه لما كَانَ مُفِيدا لِلْمَالِ كَمَا سبق وَكَانَ موزعا فِي النَّاس بِحَسب طبقاتهم كَانَ بذله من اعظم النعم واجلها واذ ذَاك لَا يبذله صَاحبه لمن دونه إِلَّا عَن يَد عالية فَيحْتَاج مبتغيه إِلَى خضوع وملق وَألا فيتعذر حُصُوله وَإِذا حصل بتواضع متواضع هَذَا الْخلق حظى بالسعادة فِي كَسبه وَغَيره كَمَا يفوت المترفع عَن هَذَا التَّوَاضُع
برهَان وجود
قَالَ وَلِهَذَا نجد الْخلق الْكثير لمن يتَخَلَّف بالترفع عَن هَذَا التَّوَاضُع لَا يحصل لَهُم عرض من الجاه فيقتصرون فِي التكسب على أَعْمَالهم ويصيرون إِلَى الْفقر والخصاصة(2/307)
كشف حَقِيقَة
قَالَ وَهَذَا الترفع إِنَّمَا يحصل من توهم الْكَمَال واحتياج النا إِلَيْهِ كالعالم المتجر وَالْكَاتِب الماهر الْمجِيد والشاعر البليغ وكل محسن فِي صناعته كَمَا يتَوَهَّم ذَوُو الْأَنْسَاب فِي تعززهم بِمَا رَأَوْهُ أَو سَمِعُوهُ من حَال ابائهم استمساكا فِي الْحَاضِر بالمعدوم إِذْ الْكَمَال لَا يُورث وكما يتخيل ذَوُو الحنكة والتجربة فِي الِاحْتِيَاج إِلَيْهِم وكل هَؤُلَاءِ تجدهم مرتفعين لَا يخصمون لذِي جاه وَلَا يتملقون لمن هُوَ اعلى مِنْهُم ويستصغرون من سواهُم لاعتقادهم الْفضل عَلَيْهِ وَيُحَاسب أحدهم النَّاس فِي معاملتهم اياه بِمِقْدَار مَا يسر فِي نَفسه ويحقد على من قصر لَهُ فِي شَيْء من ذَلِك وَرُبمَا يدْخل على نَفْيه الهموم والاحزان من تقصيرهم مَعَه وَيبقى فِي عناء عَظِيم من ايجاب الْحق لنَفسِهِ واباية النَّاس لَهُ من ذَلِك وكل هَذَا فِي ضمن الجاه فَإِذا فَقده بِهَذَا الْخلق مقته النَّاس بِهِ وَلم يحصل لَهُ حَظّ من احسانهم وَقعد عَن تعاهد من فَوْقه بغشيان مَنَازِلهمْ ففسد معاشه وَبَقِي فِي خصَاصَة وفقر وَفَوق ذَلِك بِقَلِيل واما الثورة فَلَا تحصل لَهُ أصلا
قَالَ وَمن هَذَا اشْتهر بَين النَّاس أَن الْكَامِل فِي الْمعرفَة محروم من الْحَظ وانه قد حُوسِبَ بِمَا رزق مِنْهَا واقتطع لَهُ ذَلِك من الْحَظ وَمن خلق لشَيْء يسر لَهُ انْتهى مُلَخصا(2/308)
مَحْذُور وَاقع
قَالَ وَلَقَد فِي الدول اضْطِرَاب فِي الْمَرَاتِب من أهل الْخلق ويرتفع بِسَبَبِهِ كثير من السفلة وَينزل كثير من الْعلية وَذَلِكَ لَان الدول إِذا بلغت عَادَتهَا من التغلب وَانْفَرَدَ مِنْهَا منبت الْملك بسلطانهم وشمخ عَن الدولة باستمرارها تَسَاوِي حِينَئِذٍ عِنْد السُّلْطَان كل من انْتَمَى إِلَى خدمته وتقرب إِلَيْهِ بنصيحته فيسعى كثير من السوقة فِي الْقرب إِلَيْهِ بجده ونصحه ويستعين على ذَلِك بعظيم من الخضوع والتملق إِلَيْهِ بجده ونصحه ويستعين على ذَلِك بعظيم من الخضوع والتملق إِلَيْهِ ولحاشيته وَذَوي نسبه حَتَّى ترسخ قدمه مَعَهم فَيحصل لَهُ بذلك حَظّ عَظِيم من السَّعَادَة وينتظم فِي عداد أهل الدولة وناشئتها حِينَئِذٍ من ابناء قَومهَا الَّذين ذللوا صعابها مغترون بأثر ابائهم شامخة بهَا نُفُوسهم فيمقتهم بذلك السُّلْطَان ويباعدهم ويميل إِلَى هَؤُلَاءِ المصطنعين الَّذين لَا يعتدون بقديم وَلَا يذهبون إِلَى دَالَّة وَلَا ترفع وأنما دأيهم الخضوع لَهُ والتملق والاعتمال فِي غَرَضه فيتسع جاههم وتعلة مَنَازِلهمْ وتبقي ناشئة الدولة فِيمَا هم فِيهِ من الترفع والاعتداد بالقديم لَا يزيدهم ذَلِك إِلَّا بعدا من السُّلْطَان ومقتا وايثار لهَؤُلَاء المصطنعين عَلَيْهِ إِلَى أَن تنقرض الدولة
قَالَ وَهَذَا أَمر طبيعي فِي الدول وَمِنْه جَاءَ شَأْن الاصطناع فِي الْغَالِب وَالله فعال لما يُرِيد(2/309)
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة أَن القائمين بِأُمُور الدّين من الْقَضَاء وَالشَّهَادَة والقتيا والتدريس والإمامة والخطابة والآذان وَنَحْو ذَلِك لَا تعظم ثروتهم غَالِبا وَذَلِكَ لأمور
أَحدهَا أَن الْكسْب قيمَة الْأَعْمَال كَمَا تقدم وَهِي مُتَفَاوِتَة بِحَسب الْحَاجة اليها لعُمُوم الْبلوى بهَا وَقيمتهَا على تِلْكَ النِّسْبَة أهل هَذِه الصَّنَائِع الدِّينِيَّة لَا تضطر إِلَيْهِم الْعَامَّة بل مَا احْتَاجَ إِلَى مَا عِنْدهم مِمَّن اقبل على دينه والاحتياج إِلَى التيا وَالْقَضَاء لَيْسَ على وَجه الِاضْطِرَار والعموم وَحِينَئِذٍ فيستغني عَنْهُم غَالِبا وانما يهتم بِإِقَامَة مَرَاتِبهمْ صَاحب الدولة لما هُوَ نَاظر فِي الْمصَالح فَيقسم لَهُم حظا من الرزق على نِسْبَة الْحَاجة إِلَيْهِم لَا يساويهم بِأَهْل الشَّوْكَة وَلَا بذوي الصَّنَائِع الضرورية وان كَانَت بضاعتهم اشرف فَلَا يطير فِي سهمهم إِلَّا الْقَلِيل
قلت وَمِمَّا ينْسب لِابْنِ حبيب فِي التشكي من ذَلِك
(صَلَاح امري وَالَّذِي ابْتغِي ... هَين على الرَّحْمَن فِي قدرته)
(ألف من الصفر واقلل بهَا ... لعالم أربى على بغيته)
(رياب يَأْخُذهَا دفْعَة ... وصنعتي أشرف من صَنعته)
وَيَعْنِي بزرياب المعني الشهير(2/310)
الثَّانِي انهم لشرف بضاعتهم اعزه على الْخلق وَعند أنفسهم فَلَا يخضعون أهل الجاه وَلَا يسعهم التذلل أهل الدُّنْيَا فيفوتهم بذلك حَظّ عَظِيم من وُجُوه التمول
قلت وَفِي ذَلِك يَقُول القَاضِي أَبُو الْحسن الْجِرْجَانِيّ الأبيات الْمَشْهُور لَهُ
(يَقُولُونَ لي فِيك انقباض وانما ... رَأَوْا رجلا عَن موقف الذل اجحما)
(يرى النَّاس من داناهم هان عِنْدهم ... وَمن اكرمته عزة النَّفس اكراما)
(وَمَا كل برق لَاحَ لي يستفزني ... وَلَا كل من لاقيت ارضاه منعما)(2/311)
(وَمَا زَالَت منحازا بعرضي جانبا ... من الدَّم اعْتد الصيانة مغنما)
(إِذا قيل هَذَا منهل قلت قد ارى ... وَلَكِن نفس الْحر تحْتَمل الظما)
(واني إِذا مَا فَاتَنِي الْحَظ لم ابت ... اقلب كفي اثره متندما)
(وَلكنه أَن جَاءَ عفوا قبلته ... وان مَال لم اتبعهُ هلا وليتما)
(واقبض خطوى عَن حظوظ قرينه ... إِذا لم انلها وافر الْعرض مكرما)
(واكرم نَفسِي أَن اضاحك عَابِسا ... وان اتلقى بالمديح مذمما)
(انهنهها عَن بعض مَا لَا يشينها ... مَخَافَة أَقْوَال العدا فِيمَا أولما)
(وَلم اقْضِ حق الْعلم أَن كنت كلما ... بذا طمع صيرته لي سلما)
(وَلم ابتذل فِي خدمته الْعلم مهجتي ... لَا خدم من لاقيت لَكِن لَا خدما)
(اغرسه عزا واجنيه ذلة ... إِذا فاتباع الْجَهْل قد كَانَ احزما)(2/312)
(فان قلت جد الْعلم كَاف فَإِنَّمَا كفى ... حِين لم يحفظ حماه واسلما)
(وَلَو أَن أهل الْعلم صانوه صانهم ... وَلَو عظموه فِي النُّفُوس لعظما)
الثَّالِث انهم لما هم فِيهِ من الشّغل بِهَذِهِ الصَّنَائِع الشَّرِيفَة الْمُشْتَملَة على الْفِكر وَالْبدن لَا تفرغ اوقاتهم للمساعي العائدة بادرار الارزاق فَلذَلِك لَا تعظم ثروتهم غَالِبا
عِبْرَة بَالِغَة
قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد باحثت بعض الْفُضَلَاء فانكر ذَلِك على فَوَقع بيَدي اوراق مخرمَة من حسابات الدَّوَاوِين بدار الْمَأْمُون تشْتَمل على كثير من الدخل والخرج يؤمئذ وَكَانَ فِيمَا طالعت فِيهَا أرزاق الْقُضَاة والائمة والمؤذنين فوفقته عَلَيْهِ وَعلم مِنْهُ صِحَة مَا قلته وَرجع إِلَيْهِ وقضيت الْعجب من اسرار الله فِي خلقه وحكمته فِي عوالمه واله الْخَالِق الْمُقدر
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة أَن الفلاحة من معاش الْمُسْتَضْعَفِينَ أهل الْعَافِيَة من البدو وَذَلِكَ لامرين
أَحدهَا أَن كيفيتها سهلة التَّنَاوُل ولبساطتها واصلها فِي الطبيعة وَذَلِكَ لَا ينتحلها أهل الْحَضَر فِي الْغَالِب وَلَا المترفون(2/313)
الثَّانِي أَن منتحلها مَخْصُوص بالهوان والذلة فَفِي الحَدِيث انه ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَقد رأى السِّكَّة بِبَعْض دور الانصار مَا دخلت هَذِه دَار قوم إِلَّا دخله الذل لَكِن حمله البُخَارِيّ على الاستكثار مِنْهَا
قلت وَقد ذكر ابْن الْحَاج لحاق هَذَا الذل لمنتحلها فِي الديار المصرية قَالَ كَأَنَّهُ عبد لبَعْضهِم اسير ذليل صَغِير لَا مَال لَهُ وَلَا روح لما فِيهَا من الذل فِي هَذَا الزَّمَان
تَوْجِيه قَالَ ابْن خلدون وَسَببه وَالله اعْلَم مَا يتبعهَا من المغرم المفضي لتَحكم الْيَد الْغَالِبَة إِلَى مذلة الْغَالِب وقهره فَفِي الحَدِيث
لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تعود الزَّكَاة مغرما إِشَارَة للْملك العضوض الَّذِي يُسمى فجوره حُقُوق الله تَعَالَى حَتَّى تصير مغارم الدول وضرائبها تسمى حقوقا
قلت وَوجه آخر وَهُوَ أَن الاكثار مِنْهَا مَظَنَّة لنسيان الْجِهَاد الَّذِي بِهِ الْغَزْو والحماية كَمَا يلوح من تَوْجِيه البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى وَيشْهد لَهُ مَا رَوَاهُ الْأَمَام احْمَد رَحمَه الله عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ(2/314)
سَمِعت رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أَذْنَاب الْبَقر ورضيتم بالزرع وتركتم الْجِهَاد سلط الله عَلَيْكُم ذلا لَا يَنْزعهُ حَتَّى ترجعوا إِلَى دينكُمْ
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة أَن معنى التِّجَارَة محاولة على التكسب لتنمية المَال فِي الشِّرَاء بالرخص وَالْبيع بالغلاء
قَالَ بعض شُيُوخ التُّجَّار لطَالب الْكَشْف عَن حَقِيقَتهَا انا اعلمكها فِي كَلِمَتَيْنِ اشْتَرِ الرخيص وبع الغالي وَقد حصلت التِّجَارَة وَالْقدر الْبَاقِي يُسمى ربحا والمحاولة لتحصيله إِمَّا بانتظار حِوَالَة الاسواق أَو نقلهَا إِلَى بلد آخر هِيَ فِيهِ انفق
وَهنا محاولتان المحاولة الأولى الاحتكار ومتعلقه ضَرْبَان أَحدهمَا مَالا يضر فِيهِ وَهُوَ جَائِز قَالَ ابْن عَرَفَة الحكرة فِي كل شَيْء طَعَام أَو غَيره جَائِزَة وَمَا اهم احتكاره بِالنَّاسِ مِنْهُ احتكاره
قلت هُوَ فِي الطَّعَام قَول الْمُدَوَّنَة
وَقَالَ اللَّخْمِيّ هُوَ احسن وَفِي ادخار الأقوات فِي الرخَاء مرتفق وَقت الشدَّة ولولاه لم يجد النَّاس فِيهَا عَيْشًا وَلَو قيل انه مستحسن لم اعبه
قَالَ ابْن عَرَفَة وَهُوَ مُقْتَضى تَعْلِيله بالإرفاق فَلِأَنَّهُ مصلحَة راجحة سَالِمَة عَن مضرَّة النَّاس إِذا كَانَ فَاعله لَا يتَمَنَّى غلاء(2/315)
قلت وَقد صرح بِهِ ابْن الْعَرَبِيّ قَالَ فِي الْعَارِضَة أَن كثر الجالب وَكَانَ أَن لم يشتر مِنْهُ رد الطَّعَام كَانَت الحكرة مُسْتَحبَّة
الثَّانِي مَا يضر فِيهِ وَهُوَ مَمْنُوع قَالَ ابْن رشد اتِّفَاقًا
قلت لما ورد فِيهِ من الْوَعيد الزاجر عَن الْمضرَّة فَفِي الصَّحِيح من احتكر فَهُوَ خاطئ أَي اثم وَفِي سنَن ابْن مَاجَه الجالب مَرْزُوق والمحتكر مَلْعُون
مزِيد تخويف
قَالَ ابْن خلدون وَمِمَّا اشْتهر عِنْد ذَوي الْبَصَر والتجربة أَن احتكار الزَّرْع لتحين اوقات الغلاء بِهِ مشؤوم وعائد على فَائِدَته بالتلف(2/316)
والخسران
قَالَ وَسَببه وَالله اعْلَم أَن النَّاس لحاجتهم إِلَى الأقوات مضطرون لما يبذلون فِيهَا فَتبقى النُّفُوس مُتَعَلقَة بِهِ وَفِي تعلق النُّفُوس بِمَا لَهَا شَرّ كَبِير فِيهِ وباله على من يَأْخُذهُ وَلَعَلَّه الَّذِي اعْتَبرهُ الشَّارِع فِي اخذ أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ وَهَذَا وان لم يكن مجَّانا فالنفوس مُتَعَلقَة بِهِ لاعطائه ضَرُورَة من غير سَعَة فِي الْعذر فَهُوَ كالمكره وَمَا عدا الأقوات لَا اضطرار اليها وانما يبْعَث عَلَيْهَا التفنن فِي الشَّهَوَات فَلَا يبْذل المَال فِيهَا إِلَّا بإختيار ولغرض وَلَا يبقي للنفوس تعلق بِمَا اعطى فِيهِ فَلهَذَا تَجْتَمِع القوى النفسانية على مُتَابعَة من عرف بالاحتكار بِمَا يَأْخُذهُ من أَمْوَالهم فَيفْسد وَالله اعْلَم
مُنَاسبَة
قَالَ وَسمعت فِيمَا يُنَاسب هَذَا حِكَايَة ظريفة اخبرني شَيخنَا أَبُو عبد الله الابلي قَالَ حضرت عِنْد القَاضِي بفاس لعهد السُّلْطَان أبي سعيد وَهُوَ الْفَقِيه أَبُو الْحسن الملياني وَقد عرض عَلَيْهِ أَن يخْتَار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قَالَ فاطرق مَلِيًّا ثمَّ قَالَ لَهُم من مكس الْخمر فاستضحك الْحَاضِرين من اصحابه وتعجبوا وسألوه عَن حكمه ذَلِك فَقَالَ إِذا كَانَت الجبايات كلهَا حَرَامًا فأختار مِنْهَا مَالا تتابعه نفوس معطيها وَالْخمر قل أَن يبْذل فِيهَا أحد مَاله إِلَّا وَهُوَ(2/317)
طرب مسرور بوجدانه غير اسف وَلَا مُتَعَلق بِهِ انْتهى
مُلَاحظَة تنظر إِلَى معجل هَذَا الْعقَاب وَفِيه شَهَادَة لَهُ مَا خرجه الاصبهاني عَن أبي يحي الْمَكِّيّ عَن فروخ مولى عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ أَن طَعَاما على بَاب الْمَسْجِد فَخرج عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يَوْمئِذٍ فَقَالَ مَا هَذَا الطَّعَام فَقَالُوا طَعَام جلب إِلَيْنَا أَو علينا فَقَالَ بَارك الله فِيهِ وفيمن جلبه إِلَيْنَا أَو علينا فَقَالَ لَهُ بعض الَّذين مَعَه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد احتكر قَالَ وَمن احتكره قَالُوا احتكره فروخ وَفُلَان مولى عمر بن الْخطاب فَأرْسل أليهما فاتياه فَقَالَ مَا حملكهما على احتكار طَعَام الْمُسلمين قَالُوا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نشتري بِأَمْوَالِنَا ونبيع فَقَالَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ سَمِعت رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من احتكر على الْمُسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس فَقَالَ عِنْد ذَلِك فروخ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَنِّي اعاهد الله واعاهدك أَن لَا اعود فِي احتكار طَعَام ابدا فتحول إِلَى مصر واما مولى عمر فَقَالَ نشتري بِأَمْوَالِنَا ونبيع فَزعم أَبُو يحي انه رأى مولى عمر مجذوما متدوخا المحاولة الثَّانِيَة نقل السّلع من بلد إِلَى آخر وَفِيه للتاجر الْبَصِير بِالتِّجَارَة رعايات ثَلَاث
إِحْدَاهمَا نقل مَا تعم الْحَاجة إِلَيْهِ من الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَالسُّلْطَان والسوقة إِذْ فِي ذَلِك نفَاقه وَخُرُوجه وَلَا كَذَلِك مَا يخص حَاجَة الْبَعْض إِلَيْهِ لتعذر الشِّرَاء على ذَلِك الْبَعْض وَحِينَئِذٍ فيكسد سوق الْمَنْقُول وتفسد ارباحه(2/318)
الثَّانِيَة نقل مَا هُوَ وسط فِي صنفه فان الغالي من كل السّلع إِنَّمَا هُوَ يخْتَص بِهِ أهل الثورة وحاشية الدولة وَهُوَ الْأَقَل بِخِلَاف الْوسط فان النَّاس فِي الْحَاجة إِلَيْهِ اسوة
الثَّالِثَة وَهُوَ خَاص بِطَلَب الرِّبْح والعظيم نقل سلع الْبَلَد الْبعيد الْمسَافَة أَو الْمخوف الطَّرِيق فَإِنَّهَا لبعد مَكَانهَا وَشدَّة ضَرَر نقلهَا يقل حاملها ويعز وجودهَا واذ ذَاك فَيحصل ناقلها على ربح عَظِيم بِسَبَب ذَلِك والبلد الْقَرِيب الْمسَافَة الامن الطَّرِيق يكثر النَّاقِل مِنْهُ واليه فيكثر الْمَنْقُول وترخص أثمانه
ذلالة وجود
قَالَ وَلِهَذَا تَجِد التِّجَارَة الداخلين إِلَى بلد السودَان ارْفَعْ النَّاس وَأَكْثَرهم أَمْوَالًا لبعد طريقهم ومشقته باعتراض المفاوز المخطرة بالخوف والعطش ويقل مَا نقل إِلَيْنَا واليهم فيسرع إِلَى هَؤُلَاءِ الْغنى والثروة من اجل ذَلِك والمتمردون فِي الافق الْوَاحِد مَا بَين امصاره وبلدانه فائدتهم قَليلَة وارباحهم تافهة لِكَثْرَة السّلع بِكَثْرَة ناقلها
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة أَن رخص الاسعار مُضر بالمحترفين بالرخيص لَان الْكسْب إِنَّمَا هُوَ بالبضائع أَو التِّجَارَة وَإِذا دَامَ الرُّخص فِي المتجور فِيهِ وَلم تحصل فِيهِ حِوَالَة سوق فسد الرِّبْح بطول تِلْكَ الْمدَّة وكسد سوق ذَلِك الصِّنْف وَسَاءَتْ أَحْوَالهم(2/319)
اعْتِبَار
قَالَ وَاعْتبر ذَلِك بالزرع إِذا استدبم رخصه كَيفَ تفْسد احوال المحترفين بزراعته لقلَّة الرِّبْح فِيهِ ويصيرون إِلَى الْفقر والخصاصة وَيتبع ذَلِك فَسَاد حَال المحترفين من لدن زراعته إِلَى مصيره مَاكُولَا وان رزق الْجند مِنْهُ يُقَوي فَسَاد حَالهم إِذْ كَانَت ارازاقهم من السُّلْطَان على أهل الفلح زرعا فَإِنَّهَا تقل جبابتهم من ذَلِك ويعجزون عَن اقامة الجندية
تَنْبِيه
إِذا افرط الغلاء فعلى مثل هَذِه الْحَالة إِلَّا فِي النَّادِر فَرُبمَا عَاد فنَاء المَال بِسَبَب احتكاره واذ ذَاك فالمعاش إِنَّمَا هُوَ فِي التَّوَسُّط من ذَلِك وَسُرْعَة حِوَالَة الاسواق
قَالَ وانما يحمد الرُّخص فِي الزَّرْع لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ والعالة من الْخلق هم الْأَكْثَر فِي الْعمرَان فَيعم الرِّفْق بذلك
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة أَن النَّاس فِي التِّجَارَة صنفان المنتفع بهَا وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ تَركهَا
فَالْأول من لَهُ أحد أَمريْن أَو كرهما الْكِفَايَة والجاه
وَالثَّانِي من فقد الْأَمريْنِ مَعًا
وَبَيَانه أَن محاولة التنمية لَا بُد فِيهِ من حُصُول المَال بأيدي الباعة فِي(2/320)
شِرَاء البضائع وَبَيْعهَا وتقاضي اثمانها أهل النصفة مِنْهُم قَلِيل فَلَا بُد من الْغِشّ والمطل المجحف بِالرِّبْحِ لتعطل المحاولة فِي تِلْكَ الْمدَّة والانكار الْمَذْهَب لرأس المَال أَن لم يُقيد بِالشَّهَادَةِ وغناء الْحُكَّام فِي ذَلِك قَلِيل لبِنَاء الحكم على الظَّاهِر فيعاني التَّاجِر من ذَلِك احوالا صعبة وَلَا يكَاد يحصل على تافه من الرِّبْح إِلَّا بالمشقة الْعَظِيمَة أَو يتلاشى رَأس المَال فان كَانَت لَهُ كِفَايَة بالجرأة على الْخُصُومَة وَالْبَصَر بِالْحِسَابِ والاقدام على الْحُكَّام كَانَ إِلَى النصفة اقْربْ وَألا فَلَا بُد لَهُ من جاه يعتضد بِهِ ليوقع لَهُ الهيبة عِنْد الباعة وَيحمل الْحُكَّام على انصافه وان فقد الْأَمريْنِ عرض بِمَا لَهُ بالذهاب وصيره مأكله للباعة وَكَاد إِلَّا يَقْتَضِيهِ مِنْهُم أصلا
قلت وُجُوه التِّجَارَة كَثِيرَة قد لَا يلْزم هَذَا الْمَحْذُور فِي بعض مِنْهَا فَتَأَمّله
الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ أَن خلق التُّجَّار نازلة عَن خلق الرؤساء وبعيدة عَن المرؤة ذَلِك لَان التَّاجِر لَا بُد لَهُ فِي محاولة التِّجَارَة من عوارض حرفتها النَّاقِصَة عَن المرؤة والمكايسة والمضاعفة وممارسة الْخُصُومَات وَذَلِكَ مِمَّا ينطبع فِي النَّفس من اثارها المذمومة إِذْ افعال الْخَيْر تعود بآثار الْخَيْر وافعال الشَّرّ والسفسفة تعود بضد ذَلِك(2/321)
تفَاوت اثر
قَالَ وتتفاوت هَذِه الاثار بتفاوت اصناف التُّجَّار فِي اطوارهم فالسافل مِنْهُم الْمُضْطَر لمخالطة شرار الباعة ذَوي الْغِشّ والخلابة والفجور فِي الاثمان اقرارا وانكارا تكون رداءة تِلْكَ الْخلق لَدَيْهِ اشد وتغلب عَلَيْهِ السفسقة والبعد عَن المروات وَألا فَلَا بُد لَهُ من تَأْثِير المكايسة فِي مرؤته وفقدان ذَلِك فيهم بِالْجُمْلَةِ قَلِيل
اتِّفَاق نَادِر
قَالَ وَوُجُود الصِّنْف الثَّانِي مِنْهُم وهم المجرعون بالجاه الْمُغنِي لَهُم عَن مُبَاشرَة ذَلِك كُله نَادِر واقل من النَّادِر وَذَلِكَ بَان يتوفر المَال عِنْده دفْعَة بِنَوْع غَرِيب أَو وراثة بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِهِ عَن الِاتِّصَال بالدولة ويكسبه ظهورا وشهرة فيرتفع عَن تِلْكَ الْمُبَاشرَة اسْتغْنَاء بكفايته وكلائه وحشمه ويساهله الْحُكَّام فِي الاصناف من حَقه برا بِهِ وحفاية فيبعد عَن تِلْكَ الْخلق لاضطراره بمشارفة وكلائه وفَاقا وَخِلَافًا إِلَّا انه قَلِيل وَلَا يكَاد يظْهر اثره وَالله خَلقكُم وَمَا تعلمُونَ
الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة وَالْعشْرُونَ أَن الصَّانِع لَا بُد لَهُ من معلم وَذَلِكَ لَان الصِّنَاعَة هِيَ ملكة فِي أَمر عَمَلي فكري وَعند ذَلِك فاشتراط الْمعلم فِيهَا ظَاهر من وُجُوه(2/322)
أَحدهَا أَن العملي جسماني محسوس وَيقبل احوال مَا هُوَ كَذَلِك بِالْمُبَاشرَةِ والمعلم أَو عب لَهَا واتم فَائِدَة
الثَّانِي أَن المكلة صفة راسخة بتكرار الْفِعْل وَهُوَ بالمعاينة اكمل فالمكلة الْحَاصِلَة عَنْهَا اكمل
الثَّالِث أَن صدق المتعلم فِي الصِّنَاعَة على قدر جودة التَّعْلِيم وملكة الْمعلم وَذَلِكَ من اثر المعاينة فَيكون شرطا فِي خلقه وَحُصُول ملكته
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وَالْعشْرُونَ أَن رسوخ الصَّنَائِع فِي الامصار برسوخ الحضارة على الدول الطَّوِيلَة الامد وَقبل بَيَان ذَلِك فالصنائع إِنَّمَا تكمل بِكَمَال الْعمرَان الحضري وكثرته وَمَا لم يسْتَوْف التمدن بِهِ فَلَا تَنْصَرِف الهمم لما وَرَاء الضَّرُورِيّ وَمن المعاش وَإِذا استوفى مبالغ كَمَاله وَوقت اكماله بالضروري وَمَا يزِيد عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يصرف ذَلِك الزَّائِد إِلَى الكمالات فِي المعاش بالضروري وَمَا يزِيد عَلَيْهِ وَمِنْهَا الصَّنَائِع
إِذا تقرر هَذَا فَتلك الصَّنَائِع هِيَ العوائد الَّتِي لَا رسوخ لَهَا إِلَّا بِكَثْرَة التّكْرَار الطَّوِيل الامد وَظَاهر إِنَّهَا بعد استحكام صبغتها لذَلِك يُفْسِدهَا جملَة شَأْن الملكات الراسخة الْحُصُول
دلَالَة وجود
قَالَ وَلِهَذَا تَجِد الامصار المستحدثة الْعمرَان وَلَو بلغت مبالغها(2/323)
فِي الْوُجُود لم يستحكم فبها رسوخ وَذَلِكَ لَان الْقَدِيمَة الْعمرَان راسخة بطول الاحقاب وتكرار الْأَحْوَال وَهَذِه لم تبلغ الْغَايَة بعد قَالَ: وَهَذَا كَحال فِي الأندلس لهَذَا الْعَهْد فتجد فها رسوم الصَّنَائِع قَائِمَة واحوالها مستحكمة الْبَهْجَة كالمباني والطبخ واصناف الْغناء وَاللَّهْو والآلات والاوتار والرقص وتنصيد الْفرش وَحسن التَّرْتِيب والأوضاع فِي الْبناء وصوغ الانية وَجَمِيع المواعين وَإِقَامَة الولائم والأعراس وَسَائِر الصَّنَائِع الَّتِي يدعوا لَهَا الترف وعوائده فتجدهم اقوم عَلَيْهَا وابصر بهَا فهم على حِصَّة موفورة من ذَلِك وحظ متميز بَين جَمِيع الامصار وان كَانَ عمرانه قَرِيبا نقص وَالْكثير مِنْهُ لَا يُسَاوِي عمرَان غَيرهَا من بِلَاد العدوة
قَالَ وَمَا ذَلِك إِلَّا لرسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية وَمَا قبلهَا من دولة القوط وَمَا بعْدهَا من دولة الطوائف إِلَى هَلُمَّ جرا
قَالَ وَكَذَا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابْن حَمَّاد أثرا بَاقِيا من ذَلِك وان كَانَت هَذِه كلهَا الْيَوْم خرابا أَو فِي حكم الخراب وَلَا يتفطن لَهَا إِلَّا الْبَصِير من النَّاس فتجد من هَذِه الصَّنَائِع إثارة تدل على مَا كَانَ بهَا كأثر الْخط الممحو فِي الْكتاب وَالله الْخَالِق الْعَلِيم
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة وَالْعشْرُونَ أَن الصَّنَائِع ضَرْبَان بسيط يخْتَص بالضروريات ومركب يُرَاد للكماليات وللأول خَواص(2/324)
إِحْدَاهمَا تقدمه بالطبع فِي التَّعْلِيم لبساطته اولا ولتوفر الدعاوي على نَقله لاختصاصه بالضروري ثَانِيًا
الثَّانِيَة نقص تَعْلِيمه لذَلِك إِلَى أَن يكمل باستخراج مركباته من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل بالاستنباط الفكري على التدريج
الثَّالِثَة حُصُوله فِي أزمان وأجيال لَا دفْعَة وَاحِدَة لَازِما بِالْقُوَّةِ لَا يخرج إِلَى الْفِعْل إِلَّا كَذَلِك خُصُوصا فِي الْأُمُور الصناعية فَإِذا لَا بُد لَهَا من زمَان
اعْتِبَار
قَالَ وَلِهَذَا تَجِد الصَّنَائِع فِي الامصار الصَّغِيرَة نَاقِصَة وَلَا يُوجد مِنْهَا إِلَّا الْبَسِيط فَإِذا تزايدت حضارتها ودعت امور الترف إِلَى اسْتِعْمَال الصَّنَائِع خرجت من القوى إِلَى الْفِعْل وَالله اعْلَم
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة وَالْعشْرُونَ أَن الصَّنَائِع إِنَّمَا تستجاد وتكثر إِذْ كثر طالبها لأمرين
أَحدهَا إِنَّهَا إِذا طلبت توجه اليها النِّفَاق واجتهد النَّاس فِي تعلمهَا ابْتِغَاء المعاش بهَا وَإِذا لم تطلب كسد سوقها وَرغب عَن تعلمهَا فاختصت بِالتّرْكِ والاهمال
الثَّانِي أَن الاجادة فِيهَا إِنَّمَا تطالبها الدولة الَّتِي هِيَ السُّوق الاعظم لنفاق كل شَيْء فَإِذا نفقت فِيهَا حظى صَاحبهَا بجدوى الِاشْتِغَال بهَا والسوقة(2/325)
وان طلبوها فبدون طلب الدولة بِكَثِير وَحِينَئِذٍ فَإِذا لم يكن هُنَاكَ دولة طالبة فَلَا وجود للصنائع على كَمَال
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة وَالْعشْرُونَ أَن الامصار إِذا قاربت الخراب انتقصت مِنْهَا الصَّنَائِع لما تقدم أَن استفادتها إِنَّمَا هِيَ بِكَثْرَة طالبها فَإِذا ضعفت احوال الْمصر واخذ فِي الْهَرم بانتقاص عمرانه تناقص فِيهِ الترف وَرَجَعُوا إِلَى الِاقْتِصَار على الضَّرُورِيّ بِنَقْل الصَّنَائِع التابعة للترف لتعذر المعاش بهَا فيفر صَاحبهَا إِلَى غَيره أَو يَمُوت عَن خلف مِنْهُ فَيذْهب رسم تِلْكَ الصَّنَائِع جملَة
قلت فِي الافلاطونيات لَا تزَال الصناعات فِي الْبلدَانِ موفورة مَا وجد من أَهلهَا مطبوعون فِيهَا فَإِذا خلت مِنْهُم فسد نظامها
تَمْثِيل
قَالَ ابْن خلدون كماا يذهب النقاشون والصواغون وَالْكتاب والنساخ وامثالهم وَلَا تزَال الصِّنَاعَة فِي تناقص مَا دَامَ الْمصر فِي انحطاط إِلَى أَن يضمحل وَالله الخلاق الْعَلِيم
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة وَالْعشْرُونَ أَن الْعَرَب ابعد النَّاس عَن لاصنائع وَذَلِكَ لأَنهم اعرق فِي البدو وابعد عَن الْعمرَان وَمَا يَدْعُو اليه من الصَّنَائِع وَغَيرهَا وعجم الْمغرب من البربر بمثابتهم فِي ذَلِك لرسوخ بداوتهم مُنْذُ احقاب من السنين وعجم الْمشرق وأمم النَّصْرَانِيَّة بعدوة الْبَحْر الرُّومِي أوم(2/326)
النَّاس عَلَيْهَا لأَنهم أعرق فِي الْعمرَان الحضري وَأبْعد عَن البدو وسذاجته
شَاهد اعْتِبَار
قَالَ وَلِهَذَا تَجِد اوطان الْعَرَب وَمَا ملكوه فِي الْإِسْلَام قَليلَة الصَّنَائِع بِالْجُمْلَةِ حَتَّى تجلب اليه من مَوضِع آخر وَكَذَا بالمغرب إِلَّا مَا كَانَ من صناعَة الصُّوف فِي نسجه وَالْجَلد فِي خرزه ودبغه فَإِنَّهُم لما استحضروا بالغوا فِيهَا المبالغ لعُمُوم البلوي بهَا وَكَون هذَيْن اغلب السّلع فِي قطرهم لما هم عَلَيْهِ من حَال البداوة
قلت فِي التحف والطرف للمقري سَمِعت بعض الْفُقَرَاء يَقُول لَو رأى ارسطو قدر الْبُرْنُس فِي اللبَاس والكسكس فِي الطَّعَام لاعترف للبربر بحكمة التَّدْبِير الدنيوي وان لَهُم قصب السَّبق فِي ذَلِك
انعطاف
قَالَ وَانْظُر بِلَاد الْعَجم من الصين والهند وَارْضَ التّرْك وأمم(2/327)
النَّصْرَانِيَّة كَيفَ استكثرت فِيهَا الصَّنَائِع واستجلبتها الامم من عِنْدهم كَمَا رسخت فِي الْمشرق مُنْذُ ملك الامم الاقدمين من الْفرس والنبط والقبط وَبني اسرائيل ويونان وَالروم احقابا متطاولة رسخت فِيهَا احوال الحضارة وَمن جُمْلَتهَا الصَّنَائِع
قَالَ وَأما الْيمن والبحرين والحجاز والجزيرة وان ملكهَا الْعَرَب إِلَّا انهم تداولوا ملكهَا آلا من السنين واختطوا امصارها ومدنها وبلغوا المبالغ من الحضارة والترف كعاد وَثَمُود والعمالة وَتبع والاذواء فطال امد الْملك والحضارة ورسخت الصِّنَاعَة فَلم تبل بِبِلَاد الدولة فَبَقيت مستجدة حَتَّى الْآن واختصت بذلك كصناعة الوشي وَالنّصب وَمَا يستجد من حوك الثِّيَاب وَالْحَرِير وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة وَالْعشْرُونَ أَن من حصلت لَهُ ملكة فِي صناعَة لَا يجيد ملكة فِي أُخْرَى كالخياط إِذا اجاد ملكة الْخياطَة ورسخت فِي نَفسه فَلَا يجيد من بعْدهَا ملكة التِّجَارَة أَو الْبناء إِلَّا أَن تكون الأولى لم تستحكم بعد وَلم ترسخ صنعتها
تَوْجِيه
وَسبب ذَلِك أَن الملكات صِفَات للنفوس والوان فَلَا تزدحم دفْعَة وَالْبَاقِي على الْفطْرَة اسهل لقبُول الملكات واحسن اسْتِعْدَادًا لحصولها(2/328)
فَإِذا تلونت النَّفس بالملكة خرجت عَن الْفطْرَة وَضعف استعدادها باللون الْحَاصِل من هَذِه الملكة فَكَانَ قبُولهَا للملكة الْأُخْرَى اضعف
قلت قَالَ الفارابي عسير وبعيد من هُوَ معد بالطبع للفضائل كلهَا الخلقية والنطقية اعدادا تَاما كَمَا هُوَ عسير أَن يُوجد بالطبع من هُوَ معد نَحْو الصَّنَائِع كلهَا إِلَّا أَن الْأَمريْنِ جَمِيعًا غير ممتنعين والاكثر أَن كل وَاحِد معد نَحْو فَضِيلَة مَا أَو فَضَائِل ذَات عدد مَحْدُود أَو صناعَة أَو عدَّة صنائع محدودة
شَهَادَة وَاقع
قَالَ ابْن خلدون والوجود يشْهد لَهُ فَقل أَن تَجِد صَاحب صناعَة يحكمها فَيحكم من بعْدهَا أُخْرَى وَيكون فيهمَا على رُتْبَة وَاحِدَة من الاجادة وَكَذَا فِي الْعلم وان كَانَت الملكة فِيهِ فكرية فَمن حصل فِيهِ على ملكة علم واجادها فِي الْغَايَة قل أَن يجيد ملكة علم آخر على نسبته إِلَّا فِي النَّادِر
قلت كَمَا حكى ابْن خلكان عَن كَمَال الدّين بن يُونُس أَن فُقَهَاء عصره كَانُوا يَقُولُونَ انه يدْرِي اربعة وَعشْرين فَنًّا دراية متقنة(2/329)
قَالَ وَكَانَ فِي كل فن مِنْهَا كَأَنَّهُ لَا يعرف سواهُ
قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن مَجْمُوع مَا كَانَ يعمله من الْعُلُوم لم يسمع من أحد مِمَّن تقدمه انه كَانَ قد جمعه وَلَقَد جَاءَنَا الشَّيْخ اثير الدّين الْمفضل أَبُو عَليّ الابهري صَاحب التعليقة فِي الْخلاف والتصانيف الْمَشْهُورَة من الْموصل إِلَى اربل فِي سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَنزل بدار الحَدِيث وَكنت اشْتغل عَلَيْهِ بِشَيْء من الْخلاف فَبَيْنَمَا انا يَوْمًا عِنْده إِذْ دخل عَلَيْهِ بعض فُقَهَاء بَغْدَاد وَكَانَ فَاضلا فتجاريا فِي الحَدِيث زَمَانا وَجرى ذكر الشَّيْخ كَمَال الدّين فَقَالَ لَهُ الاثير لما حج الشَّيْخ كَمَال الدّين وَدخل بَغْدَاد كنت هُنَاكَ فَقَالَ نعم فَقَالَ كَيفَ كَانَ اقبال الدِّيوَان الْعَزِيز عَلَيْهِ فَقَالَ ذَلِك الْفَقِيه مَا انصفوه على قدر اسْتِحْقَاقه فَقَالَ الاثير مَا هَذَا إِلَّا عجب وَالله مَا دخل بَغْدَاد مثل الشَّيْخ فاستعظمت مِنْهُ هَذَا الْكَلَام وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي كيفتقول هَذَا فَقَالَ يَا وَلَدي مَا دخل بَغْدَاد مثل أبي حَامِد وَالله مَا بَينه وَبَين الشَّيْخ نِسْبَة
وَكَانَ الاثير على جلالة قدره فِي الْعُلُوم يَأْخُذ الْكتاب وَيجْلس بَين يَدَيْهِ يقْرَأ وَالنَّاس يَوْم ذَلِك مشتغلون فِي تعاليق الاثير وَقد شاهدت هَذَا بعيني وَهُوَ يقْرَأ عَلَيْهِ كتاب المجسطي
قَالَ وَلَقَد حكى لي بعض الْفُقَهَاء انه سَأَلَ الشَّيْخ كَمَال الدّين عَن الاثير ومنزلته فِي الْعُلُوم فَقَالَ لَا أعلم فَقَالَ وَكَيف هَذَا يَا مولَايَ وَهُوَ فِي خدمتك مُنْذُ سِنِين عديدة ويشتغل عَلَيْك فَقَالَ أَنِّي مهما قلت بحثا تَلقاهُ بِالْقبُولِ وَقَالَ نعم يَا مَوْلَانَا فَمَا راجعني فِي بحث قطّ حَتَّى اعْلَم حَقِيقَة فَضله
قَالَ ابْن خلكانن وَلَا شكّ انه كَانَ يعْتَمد هَذَا القَوْل مَعَ الشَّيْخ تأدبا وَكَانَ عِنْده بِالْمَدْرَسَةِ البدرية وَكَانَ يَقُول مَا تركت بلادي وقصدت الْموصل(2/330)
إِلَّا للاشتغال على الشَّيْخ انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ
قلت نقلت هَذَا الْكَلَام اسْتِطْرَادًا فِي استجلاء واظهار الْفُضَلَاء وان خرجنَا بِهِ عَن الْمَقْصُود وموقعه عِنْد اهله موقعه
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة وَالْعشْرُونَ الصَّنَائِع الضرورية فِي الْعمرَان الخضري ضَرْبَان
أَحدهَا مَا هُوَ ضَرُورِيّ وَغير شرِيف بالموضوع كالفلاحة ومالبناء والخياطة والنجارة والحياكة
الثَّانِي مَا هُوَ ضَرُورِيّ وشريف بالموضوع ومراتبه صناعات ثَلَاث الصِّنَاعَة الأولى صناعَة التوليد
وَهِي الْمَعْرُوفَة باستخراج الْمَوْلُود الادمي من بطن امهِ ثمَّ مَا يصلحه بعد الْخُرُوج وموضوعها الْمَوْلُود وامه وَهِي ضَرُورَة فِي كَون الانسان إِلَّا فِي حق من اسْتغنى عَنْهَا معْجزَة أَو الهاما وتختص بِالنسَاء غَالِبا وَتسَمى العارفة بذلك قَابِلَة لقبولها مَا تعطيه النُّفَسَاء من الْجَنِين
الصِّنَاعَة الثَّانِيَة الطِّبّ
وَهُوَ حفظ صِحَة الانسان وَدفع الْمَرَض عَنهُ وموضوعه بدن الانسان ضَرُورِيَّة فِي الحواضر لِكَثْرَة الاكل وفقد الرياضة وتعفن الْهَوَاء إِلَّا الْبَوَادِي للسلامة من ذَلِك بقلة الاكل لعدم الخصب وَوُجُود الرياضة بِكَثْرَة الْحَرَكَة وَهِي ضَرُورِيَّة فِي الحواضر لِكَثْرَة الاكل وفقد الرياضة وتعفن الْهَوَاء إِلَّا الْبَوَادِي
قَالَ وَلِهَذَا لَا يُوجد طَبِيب فِي الْبَادِيَة بِوَجْه
مزِيد فَائِدَة
قَالَ ابْن الاكفاني منفعَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبدن وَالنَّفس فالبدن بِكَمَال(2/331)
الصِّحَّة الَّتِي هِيَ افضل حالانه وانما يحفظ بِهِ وَالنَّفس بالتمكن من استكمالها فِي قوتها النظرية والعملية إِذْ الاسقام مَانِعَة من ذَلِك
قَالَ وَأَيْضًا فالطبيب يَسْتَفِيد بنظره فِي التشريح وَمَنَافع الاعضاء مَا يُوضح لَهُ أَن الَّذِي خلق كل شَيْء خلق الانسان فِي احسن تَقْوِيم ثمَّ إِذا اطلع على مَا يَطْلُبهُ كل عُضْو من دَاء وَمَا اعد لَهُ من دَوَاء ومصيره إِلَى الْمَوْت بعده يَتَّضِح لَهُ أَن الَّذِي يردهُ اسفل سافلين هُوَ احكم الْحَاكِمين انْتهى
الصِّنَاعَة الثَّالِثَة الْكِتَابَة
وَهِي رسوم واشكال حرفية تدل على الْكَلِمَات المسموعة الدَّالَّة على مَا فِي النَّفس وَهِي حافظة على الانسان حَاجته وحقيقتها على النسْيَان ومبلغة ضمائر النَّفس إِلَى الْبعيد الْغَائِب ومخلدة نتائج الافكار والعلوم فِي الصُّحُف ورافعة الْوُجُود للمعاني وشرفها ظَاهر من هَذِه الْوُجُوه
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة وَالْعشْرُونَ أَن غير الضَّرُورِيّ مِنْهَا فِي الْعمرَان إِلَى اسْم الحضارة على كثرتها ضَرْبَان
أَحدهَا مَا تَدْعُو اليه عوائد الترف الْقَاصِر عَن مُجَاوزَة الْحَد فِيهِ مَانِعا فِي استجادة مَا هُوَ كمالي حَتَّى تكون فَائِدَة المشتغل بِهِ انفع من فَائِدَة مَا هُوَ ضَرُورِيّ كالدهان والصفار والطباخ والسفاج والهراس ومعلم الْغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع وَشبه ذَلِك
الثَّانِي مَا يَدْعُو اليه الترف الْخَارِج عَن الْحَد الَّذِي تعداه استبحار الْعمرَان كَمَا يصدر عَن أهل مصر فِي تَعْلِيم الطُّيُور والحمر وتخيل اشياء(2/332)
من الْعَجَائِب بايهام قلب الاعيان وتعود الْمَشْي على الخيوط وَرفع الاثقال وَغير ذَلِك من الصَّنَائِع الَّتِي لَا وجود لَهَا فِي الْمغرب لنُقْصَان عمرانه عَن عمرَان تِلْكَ الديار
الْمَسْأَلَة الثَّلَاثُونَ أَن الصَّنَائِع تكسب صَاحبهَا عقلا وخصوصا الْكِتَابَة والحساب وَذَلِكَ لِأَن خُرُوج النَّفس الناطقة للْإنْسَان من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل إِنَّمَا هُوَ بتجدد الْعُلُوم والادراكات من المحسوسات اولا ثمَّ تكتسب القوى النظرية إِلَى أَن يصير ادراكا بِالْفِعْلِ وعقلا مخصا وَهُوَ كَمَال وجودهَا وجسدها فيجدها لذَلِك أَن كل نوع من الْعلم وَالنَّظَر يفيدها عقلا فريدا والصنائع بِلَا شكّ يحصل عَنْهَا وَعَن ملكتها قانون علمي مُسْتَفَاد من تِلْكَ الملكة فيزيد عقلا لَا محَالة
قلت هُوَ معنى قَول افلاطون الصناعات متممة لقوى النَّفس والاعضاء هِيَ تعين النَّفس على مَا لَا تصل اليه إِلَّا بأعضاء الْجَسَد
تَنْزِيل قَالَ وَالْكِتَابَة من بَينهَا اكثر افادة لذَلِك لاشتمالها على عُلُوم وانظار دون غَيرهَا وَهِي الانتقام من صور الْحُرُوف الخطية إِلَى الْكَلِمَات اللفظية فِي الْخِيَار وَمِنْهَا إِلَى الْمعَانِي الَّتِي فِي النَّفس فَيحصل لَهَا ملكة الِانْتِقَال من الْأَدِلَّة إِلَى المدلولات وَهِي ملكة من التعقل تفِيد كَمَال عقل ومزيد فطنة وصناعة الْحساب لاحقة بذلك لاحتياج تصرفها فِي الْعدَد باضلم والتفريق إِلَى اسْتِدْلَال كَبِير فَيبقى صَاحبهَا متعودا للاستدلال وَالنَّظَر وَهُوَ معنى الْعقل {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون}(2/333)
الْفَصْل الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم
وَفِيه مسَائِل جملَة نلخص مِنْهَا مَا يَلِيق بالموضع ويكمل قَصده وغرضه
الْمَسْأَلَة الأولى أَن الْعلم والتعليم طبيعي فِي الْعمرَان البشري لَان الانسان إِنَّمَا يتَمَيَّز عَن سَائِر الْحَيَوَان بالفكر المهتدى بِهِ لصلاح دينه ودنياه وَذَلِكَ بِتَصْدِيق الْأَنْبِيَاء وتعاوه بابناء جنسه وترديده فِي ذَلِك دَائِما إِذْ لَا يفتر عَنهُ طرفَة عين فتنشأ الْعُلُوم والصنائع ثمَّ لأجل مَا جبل عَلَيْهِ من ذَلِك يرغب فِي تَحْصِيل مَا لَيْسَ عِنْده من المدركات فؤرجع إِلَى من سبقه بِهِ أَو اخذه عَن نَبِي مشافهة أَو بِوَاسِطَة فيتلقى ذَلِك عَنهُ ويحرص على استفادته مِنْهُ ثمَّ أَن فكره فِي ذَلِك يتَوَجَّه إِلَى وَاحِد من الْحَقَائِق نَاظرا فِي عوارضه الذاتية حَتَّى يصير الحاقها بِهِ ملكة لَهُ وَعلمه بذلك علما مَخْصُوصًا تتشوف نفوس الجيل الثَّانِي تَحْصِيله بِالرُّجُوعِ إِلَى ذَوي الخصوصية بِهِ وَيَجِيء التَّعْلِيم لَا محَالة
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن تَعْلِيم الْعلم من جملَة الصَّنَائِع لامرين
أَحدهَا أَن الملكة فِي الْعلم غير الْفَهم فِيهِ لوُجُود فهم مَسْأَلَة وَاحِدَة من فن وَاحِد مُشْتَركا بَين الشادي فِي ذَلِك الْفَنّ والمبتدي فِيهِ وَبَين الْعَاميّ والعالم النحرير والملكة إِنَّمَا هِيَ للْعَالم أَو الشادي فَقَط وَلما كَانَت الملكات كلهَا جسمانية والجسمانيات بأسرها محسوسة فيفتقر إِلَى التَّعْلِيم ضَرُورَة(2/335)
الثَّانِي أَن اخْتِلَاف الاصطراحات فِيهِ كَمَا لكل امام مِمَّا اخْتصَّ بِهِ شَأْن الصَّنَائِع كلهَا وكما بَين الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين فِي علم الاصول وَالْفِقْه والعربة ي يدل على أَن ذَلِك لَيْسَ من الْعلم وَألا لَكَانَ وَاحِدًا عِنْد الْجَمِيع فالعلم وَاحِد وَتلك الاصطلاحات صناعات
رِعَايَة
قَالَ ابْن خلدون وَلِهَذَا كَانَ السَّنَد فِي التَّعْلِيم فِي كل علم أَو صناعَة يفْتَقر إِلَى مشاهير المعلمين فِيهَا مُعْتَبرا عِنْد أهل كل فن وجيل
قلت قَالَ ابْن الاكفاني كل تَعْلِيم وَتعلم فَإِنَّمَا يكون بِعلم سَابق فِي مَعْلُوم مَا من عَالم لمن لَيْسَ بِمَعْلُوم وَلما قرر نَحوه الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو اسحاق الشاطبي رَحمَه الله قَالَ وان كَانَ النَّاس قد اخْتلفَا هَل يُمكن حُصُول الْعلم دون معلم أَو لَا بُد لَا مَكَانَهُ من معلم وَلَكِن الْوَاقِع فِي مجاري الْعَادَات أَن لَا بُد من الْمعلم وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة وان اخْتلفُوا فِي بعض التفاصيل كإختلاف الْجُمْهُور والامامية فِي اشْتِرَاط الْعِصْمَة وَقد قَالُوا كَانَ الْعلم فِي صُدُور الرِّجَال ثمَّ انْتقل إِلَى الْكتب وَصَارَت مفاتحه بأيدي الرِّجَال
قلت قَالَ ابْن الاكفاني لم تزل سنة الْعلمَاء القدماء جَارِيَة فِي تَعْلِيم الْعلم مشافهة دون كتاب فَلم يصل علم إِلَى غير مُسْتَحقّه ولكثرة المشتغلين بالعلوم حِينَئِذٍ وحرصهم على تَحْصِيلهَا استمرت اليهم فَلَمَّا ضعفت الهمم وَقصرت انقرض بعض الْعُلُوم فَأخذ من بَقِي من الْعلمَاء فِي تدوين الْعُلُوم(2/336)
فِي الْكتب لتبقى وَلَا تبيد
فَائِدَة
ذكرُوا فِي الشُّرُوط الدَّالَّة على حُصُول الملكة فِي الْعلم امورا وَهِي الْمعرفَة بأصول أَي علم كَانَ وَمَا يَبْنِي عَلَيْهِ ذَلِك الْعلم وَمَا يلْزم عَنهُ وَالْقُدْرَة على التَّعْبِير عَن مَقْصُوده وعَلى دفع الشّبَه الْوَارِدَة عَلَيْهِ فِيهِ
تَعْرِيف ذكر ابْن خلدون مَا حَاصله أَن سير التَّعْلِيم لعهده لَهُ بِحَسب الْوَاقِع حالتان
الْحَالة الأولى
واشرافه على الِانْقِطَاع فِي قطر الْمغرب كُله لنَقص الصَّنَائِع فِيهِ باختلال عمرانه وتناقص دوله عِنْد خراب القيروان وقرطبة وانقراض دولة الْمُوَحِّدين بعد ذَلِك بمراكش لَكِن فِي اواسط الْمِائَة السَّابِعَة رَحل إِلَى المشرع من افريقية القَاضِي أَبُو الْقَاسِم ابْن زيتون فادرك أَصْحَاب الْأَمَام فَخر الدّين واخذ عَنْهُم ولقن تعليمهم وحذق فِي العقليات والنقليات وَرجع إِلَى تونس(2/337)
يعلم كثير وَتَعْلِيم حسن وَجَاء على اثره من الْمشرق أَبُو عبد الله ابْن شُعَيْب الدكالي كَانَ ارتحل اليه من الْمغرب فَأخذ من مشيخة مصر وَرجع إِلَى تونس وَاسْتقر بهَا وَكَانَ تَعْلِيمه مُفِيدا فَأخذ عَنْهُمَا أهل تونس واتصل سَنَد تعليمهما فِي اصحابهما جيلا بعد جيل حَتَّى انْتهى إِلَى ابْن عبد السَّلَام شَارِح ابْن الْحَاجِب واصحابه وانتقل من تونس إِلَى تلمسان من ابْن الْأَمَام واصحابه فَإِنَّهُ قَرَأَ مَعَ ابْن عبد السَّلَام واصحابه على مشيخة وَاحِدَة وَفِي مجَالِس بِأَعْيَانِهَا واصحاب ابْن عبد السَّلَام بتونس وَابْن الْأَمَام بتلمسان لهَذَا الْعَهْد إِلَّا انهم من الْقلَّة بِحَيْثُ يخْشَى انْقِطَاع سندهم
ثمَّ ارتحل من زواوة فِي آخر الْمِائَة السَّابِعَة أَبُو عَليّ نَاصِر الدّين(2/338)
المشذالي وادرك أَصْحَاب ابْن الْحَاجِب واخذ عَنْهُم وَأقر تعليمهم وَقَرَأَ مَعَ شهَاب الدّين الْقَرَافِيّ فِي مجَالِس مُخْتَلفَة وحذق فِي العقليات والنقليات وَرجع إِلَى الْمغرب بِعلم كثير وَتَعْلِيم مُفِيد وَنزل بجاية وَاصل سَنَد تَعْلِيمه بطلبتها وَرُبمَا انْتقل إِلَى تلمسان عمرَان المشذالي من اصحابه واوطنها وَبث طَرِيقَته فِيهَا وصحابه لهَذَا الْعَهْد ببجاية وتلمسان قَلِيل أَو اقل من الْقَلِيل
تنزيلان
أَحدهَا قَالَ وَبقيت فاس وَسَائِر اقطار الْمغرب خلوا من حسن التَّعْلِيم من لدن انْقِرَاض تَعْلِيم قرطبة والقيروان وَلم يتَّصل سَنَد التَّعْلِيم فيهم فعسر عَلَيْهِم حُصُول الملكة والحذق فِي الْعُلُوم إِذْ ايسر طرقها إِنَّمَا هُوَ بالمحاورة والمناظرة فَهُوَ الَّذِي يقرب شَأْنهَا وطالب الْعلم مِنْهُم تَجدهُ بعد ذهَاب الْكثير م عمره ملازما الْمجَالِس العلمية ساكتا لَا ينْطق وَلَا يُعَارض وعنايته بِالْحِفْظِ اكثر من الْحَاجة فَلَا جرم لَا يحصل على طائل من(2/339)
ملكة التصرفي الْعلم والتعليم
وَمن يرى مِنْهُم انه قد حصل تَجِد ملكته قَاصِرَة أَن نَاظرا أَو عَارض وَمَا اتاهم الْقُصُور إِلَّا من قبل التَّعْلِيم وَانْقِطَاع تمهيده وَألا فحفظهم ابلغ من حفظ سواهُم لشدَّة عنايتهم بِهِ وظنهم انه الْمَقْصُود من الملكة العلمية وَلَيْسَ كَذَلِك
شَهَادَة
قَالَ وَمِمَّا شهد بذلك فِي الْمغرب أَن الْمدَّة الْمعينَة لسكنى طلبة الْعلم بالمدارس عِنْدهم سِتّ عشرَة سنة وَهِي بتونس خمس سِنِين
قَالَ وَهَذِه الْمدَّة على الْمُتَعَارف هِيَ اقل مَا يَتَأَتَّى فِيهَا للطَّالِب حُصُوله مبتغاه من الملكة العلمية أَو الْيَأْس من تَحْصِيلهَا فطال امدها بالمغرب بِشدَّة الْقُصُور أجل عسرها من قلَّة الْجَوْدَة فِي التَّعْلِيم خَاصَّة لَا مِمَّا سوى ذَلِك
التَّنْزِيل الثَّانِي
قَالَ واما أهل الاندلس فَذهب رسم التَّعْلِيم من بَينهم وَذَهَبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمرَان الْمُسلمين بهَا مُنْذُ مئين من السنين وَلم يبْق من رسم الْعلم فيهم إِلَّا فن الْعَرَبيَّة والادب لاقتصارهم عَلَيْهِ ومحافظتهم على سنَن تَعْلِيمه واما الْفِقْه فرسم خَال واثر بعد عين واما العقليات فَلَا اثر وَلَا عين لانْقِطَاع سَنَد التَّعْلِيم فِيهَا بتناقص الْعمرَان وتغلب الْعَدو على عامتها إِلَّا قَلِيلا بِسيف الْبَحْر شغلهمْ بمكاسبهم اكثر من شغلهمْ بِمَا بعْدهَا وَالله غَالب على امْرَهْ انْتهى(2/340)
الْحَالة الثَّانِيَة
بَقَاؤُهُ بالمشرق نَافق الاسواق زاخر ببحور الْعِنَايَة بِحِفْظ اتِّصَال الْعمرَان الموفور وان خرجت امصاره الَّتِي كَانَت معادن الْعلم كبغداد والكوفة وَالْبَصْرَة فَإِن الله تعلى قد ادال مِنْهَا بامصارها اعظم مِنْهَا وانتقل الْعلم مِنْهَا إِلَى عراق الْعَجم وَمَا وَرَاء النَّهر من الْمشرق ثمَّ إِلَى الْقَاهِرَة وَمَا يَليهَا من الْمغرب فَلم تزل موفورة الْعمرَان مُتَّصِلَة بِسَنَد التَّعْلِيم
تَحْصِيل وَاقع
قَالَ فَأهل الْمشرق على الْجُمْلَة ارسخ فِي صناعَة تَعْلِيم الْعلم بل فِي سَائِر الصَّنَائِع حَتَّى انه ليظن أَن عُقُولهمْ على الْجُمْلَة ونفوسهم الناطقة اكمل من عقول أهل الْمغرب ونفوسهم وان حَقِيقَة الانسانية بَيْننَا وَبينهمْ تفاوتة لما يرى من كيسهم فِي الْعُلُوم والصنائع وَلَيْسَ كَذَلِك إِذْ لَا تفَاوت بَين الْمشرق وَالْمغْرب بِهَذَا الْمِقْدَار وانما ذَلِك فِي الاقاليم المنحرفة كالاول وَالسَّابِع واما الَّذِي فضل بِهِ أهل الْمشرق فَهُوَ مَا يحصل فِي النَّفس من آثَار الحضارة من الْعقل الْمَزِيد فِي الصَّنَائِع
مزِيد تَحْقِيق
قَالَ ويزيده تدقيقا أَن الْحَضَر لَهُم فِي احوال الدّين وَالدُّنْيَا اداب يُوقف عِنْدهَا اخذا وتركا كَأَنَّهَا حُدُود لَا تتعدى وَهِي مَعَ ذَلِك صنائع يتلقاها الآخر عَن الأول وكل صناعَة مركبة فَيرجع فِيهَا إِلَى النَّفس ويكسبها عقلا مزيدا تستعد بِهِ لقبُول صناعَة أُخْرَى يتهيأ بهَا الْعقل لسرعة ادراك المعارف وَحسن الملكات فِي التَّعْلِيم والصنائع وَسَائِر الاحوال العادية(2/341)
تزيد الانسان ذكاء فِي عقله واضاءة فِي فكره فيزدادون بذلك كيسا لم يرجع إِلَى النَّفس من الاثار العلمية فيظنه الْعَاميّ تَفَاوتا فِي الْحَقِيقَة الانسانية وَلَيْسَ كَذَلِك
دلَالَة
قَالَ إِلَّا ترى إِلَى أهل الْحَضَر مَعَ أهل البدو وَكَيف تَجِد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الْكيس لاجادته من الملكات الصناعية والاداب والادراكات فِي العوائد الحضرية مَالا يعرفهُ البدوي فَلَمَّا امْتَلَأَ من ذَلِك فَكل من قصر عَنهُ ظَنّه انه لكَمَال فِي عقله وان نفوس أهل البدو قَاصِرَة فطرتها وَعَن فطرته وَلَيْسَ كذكل فَإِن فيهم من هُوَ فِي أَعلَى رُتْبَة من الْفَهم والكمال فِي عقله وفطرته لَكِن فاقه أَو فَاتَهُ الحضري بِظُهُور رونق الحضارة والصنائع والتعليم عَلَيْهِ لرجوع آثارها إِلَى النَّفس
انعطاف
قَالَ وَكَذَا اله الْمشرق لما كَانُوا فِي الْعلم والصنائع ارْفَعْ رُتْبَة وَكَانَ أهل الْمغرب اقْربْ إِلَى البداولة ظن المغفلون فِي بَادِي الرَّأْي انه لكَمَال فِي حَقِيقَة الانسانية اختصوا بِهِ عَن أهل الْمغرب وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح فتفهمه وَالله زيد فِي الْخلق مَا يَشَاء انْتهى
تعريفان
أَحدهَا قَالَ ابْن خلدون واكثر من عَنى بالصنف الأول فِي الاجيال الْمَعْرُوفَة اخبارهم الامتان العظيمتان فِي ضخامة الدولة قبل الْإِسْلَام فَارس(2/342)
وَالروم فَكَانَت علومهم بحورا زواخر فِي آفاقهم واعصارهم فتوفر عمرانهم وشماخة دولهم وَكَانَ قبلهم للكلدانيين والسرايانيين والقبط عناية بالحسر والنجامة والطلسمات وعنهم اخذوا ذَلِك
قلت قَالَ ابْن الاكفاني فِي السحر مَنْفَعَة أَن يعلم ليحذر لَا ليعْمَل بِهِ
قَالَ وَلَا نزاع فِي تَحْرِيم عمله إِمَّا مُجَرّد علمه فَظَاهر الاباحة بل ذهب بعض النظار إِلَى فرض كِفَايَة لجَوَاز ظُهُور سَاحر يدعى النبوءة فَيكون فِي الْأمة من يكشفه وينقض مقَالَته فَيعْمل بِهِ قصاصا
قلت قَالَ الطرطوشي تعلمه أَو تَعْلِيمه كفر عِنْد مَالك رَحمَه الله
قَالَ الْقَرَافِيّ وَهُوَ فِي غَايَة الاشكال
واجاب ابْن الشَّاط بِأَنَّهُ على وَجْهَيْن
أَحدهَا لتعرف حَقِيقَته لتجتنب أَو لغير ذَلِك قَالَ وَهَذَا لَيْسَ بِكفْر
الثَّانِي لقصد تَحْصِيل اثره مَتى احْتَاجَ لَك
قَالَ وهاذ هُوَ الَّذِي اقْتضى ظَاهر الْكتاب انه كفر يَعْنِي وَهُوَ الْحجَّة لمَالِك رَحمَه الله(2/343)
قلت وَعَلِيهِ فَقَوله بالتكفير لَيْسَ على الاطلاق
قَالَ ابْن الشَّاط وَالْقَوْل بِطَلَب تعلمه للْفرق بَينه وَبَين المعجزة صَحِيح
انعطاف قَالَ وَلَقَد يُقَال أَن هَذِه الْعُلُوم إِنَّمَا وصلت إِلَى يونان قبل الْفرس إِذْ كَانَ شَأْنهَا عِنْدهم عَظِيما وَذَلِكَ حِين قتل الاسكندر دَارا وَغلب على مملكة الكينية فاستولى على كتب علمهمْ والمسلمون لما فتحُوا بِلَادهمْ اصابوا من صَحَائِف تِلْكَ الْعُلُوم مَا لَا يحده الْحصْر فَكتب سعد بن أبي وَقاص إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ يَسْتَأْذِنهُ فِي شَأْنهَا فَكتب اليه أَن اطرحوها فِي المَاء فان كَانَ فِيهَا هدى فقد هدَانَا الله بأهدى مِنْهُ وان يكن ضَلَالَة فقد كفانا الله فطرحوها فِي المَاء أَو فِي النَّار
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن الْعُلُوم وانما تكْثر حَيْثُ يكثر الْعمرَان وتعظم الحضارة وَذَلِكَ لَان تعلم الْعلم من جملَة الصَّنَائِع كَمَا تقرر والصنائع كَمَا تقدم قبل ذَلِك انمما تكْثر فِي الامثار المستجدة الْعمرَان بطول امد الدول المتعاقبة عَلَيْهَا
قَالَ وَمن تشوف بفطرته إِلَى الْعلم مِمَّن نَشأ فِي الْقرى والامصار غير المستبحرة الْعمرَان فَلَا يجد فِيهَا التَّعْلِيم الصناعي واذ ذَاك فَلَا بُد لَهُ من الرحلة فِي طلبه كشأن الصَّنَائِع كلهَا
شَاهد اعْتِبَار(2/344)
قَالَ وَاعْتبر مَا قَرَّرْنَاهُ بِحَال بَغْدَاد وقرطبة والقيروان وَالْبَصْرَة والكوفة وامثالها لما كثر عمرانها صدر الْإِسْلَام واستوفت فِيهَا الحضارة كَيفَ زخرت فِيهَا بحار الْعلم وتفننوا فِي اصْطِلَاحَات التَّعْلِيم واصناف الْعُلُوم حَتَّى اربوا على الْمُتَقَدِّمين وفاتوا الْمُتَأَخِّرين وَلما تناقص عمرانها انطوى ذَلِك الْبسَاط جملَة وفقد بهَا الْعلم والتعليم وانتقل إِلَى غَيرهَا من اقطار الْإِسْلَام
تَعْرِيف
قَالَ وَنحن الْيَوْم نرى لهَذَا الْعَهْد أَن الْعلم والتعليم إِنَّمَا هـ بِالْقَاهِرَةِ من بِلَاد مصر لاستبحار عمرانها استحكام حضارتها مُنْذُ آلَاف من السنين فاستحكمت فِيهَا الصَّنَائِع وتفننت وَمن جُمْلَتهَا تعليمالعلم
قَالَ واكد بذلك فِيهَا مَا وَقع لهَذِهِ العصور بهَا مُنْذُ مِائَتَيْنِ من السنين فِي دولة التّرْك من ايام صَلَاح الدّين بن ايوب إِلَى هَلُمَّ جرا وَذَلِكَ لَان الامراء من التّرْك يَخْشونَ عَادِية سلطانهم على من يخلفونه من ذُرِّيتهمْ لما لَهُ عَلَيْهِم من الرّقّ وَالْوَلَاء وَلما يخْشَى من معاطب الْملك ونكباته فاستكثروما من بِنَاء الْمدَارِس والزوايا والربط ووقفوا عَلَيْهَا الاوقاف المغلة يجْعَلُونَ فِيهَا شُرَكَاء لولدهم ونصيبا ينظر عَلَيْهَا ويصيب مِنْهَا مَعَ مَا فيهم غَالِبا من الجنوح إِلَى الْخَيْر والتماس الاجور فِي الْمَقَاصِد والافعال فكثرت الاوقاف لذَلِك وَكثر وطالب الْعلم ومعلمه ومتعلمه بِكَثْرَة جرايتهم مِنْهَا وارتحل النَّاس اليها فِي طلب الْعلم من الْعرَاق وَالْمغْرب ونفقت فِيهَا اسواق الْعُلُوم وزخرت بحارها وَالله يخلق مَا يَشَاء(2/345)
قلت وَقع هَذَا التَّأْكِيد بِمَا ذكر فقد لوحظ فِيهِ امور اخر وَهُوَ مَا يخْشَى من رفع الْعلم الْحَقِيقِيّ فِيهِ حَيْثُ يَجْعَل غَايَة طلبه
قَالَ ابْن الاكفاني من تعلم علما للاحتراف لم يَأْتِ عَالما إِنَّمَا جَاءَ شَبِيها بالعلماء وَلَقَد كوشف عُلَمَاء مَا وَرَاء النَّهر بذلك ونطقوا بِهِ لما بَلغهُمْ بِنَاء الْمدَارِس بِبَغْدَاد اقاموا مآتم الْعلم وقالوما كَانَ يشْتَغل بِهِ ارباب الهمم الْعلية والانفس الْكَرِيمَة الزكية الَّذين يقصدون الْعلم لشرفه والكمال بِهِ فَيَأْتُونَ عُلَمَاء ينْتَفع بهم وبعلمهم وَإِذا صَارُوا عَلَيْهِ اجرة تدانى اليه الاخساء وارباب الكسل فَيكون ذَلِك سَببا لارتفاعه
المسالة الرَّابِعَة أَن الْعُلُوم الَّتِي يَخُوض فِيهِ الْبشر صنفان
أَحدهمَا طبيعي للْإنْسَان يَهْتَدِي اليه بفكره وَهُوَ الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَلذَلِك لَا تخْتَص بِملَّة لِاسْتِوَاء جَمِيع الْعُقَلَاء فِي مداركها على أَي مِلَّة كَانُوا وَهِي مَوْجُودَة فِي النَّوْع الانسان مذ كَانَ عمرَان الخليقة
قلت قَالَ ابْن الاكفاني المُرَاد بالحكمة هُنَا استكمال النَّفس النَّاطِق فِي قوتها النظرية والعملية بِحَسب الطَّاقَة الانسانية والاول لحُصُول الاعتقادات اليقينية فِي معرفَة الموجودات واحوالها وَالثَّانِي بتزكية النَّفس باقتناء الْفَضَائِل وَاجْتنَاب الرذائل
قلت وَمَعَ مُوَافقَة الشَّرِيعَة فِي الالهي مِنْهَا فحكمته جَهَالَة مضرَّة
الثَّانِي نقلي يوخذ عَن وَاضعه وَهُوَ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِيهَا إِلَّا فِي الحاق الْفُرُوع بالأصول لعدم اندراج الجزئيات الْحَادِثَة تَحت النَّقْل(2/346)
الْكُلِّي بِمُجَرَّد الْوَضع وَلما كَانَ هَذَا الالحاق القياصي يتَفَرَّع عَن الْأَخْبَار بِثُبُوت الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ نقلي رَجَعَ إِلَى النَّقْل بذلك لَا محَالة
قلت قَالَ ابْن الاكفاني مقررا لمَنْفَعَة هَذَا الصِّنْف من الْعُلُوم وَمن الْمَعْلُوم أَن ارسال الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام إِنَّمَا هُوَ لطف من الله تَعَالَى لخلقه وَرَحْمَة لَهُم ليتم أَمر معاشهم وَيبين مآل مُرَادهم بِحَال الشَّرِيعَة ضَرُورَة على المعتقدات الصَّحِيحَة الَّتِي يجب التَّصْدِيق بهَا والعبادات المقربة من الله تَعَالَى مِمَّا يجب الْقيام بهَا والمواظبة عَلَيْهَا
قَالَ وَالْأَمر بالفضائل وَالنَّهْي عَن الرذائل مِمَّا يجب قبُوله
قلت إِمَّا شرعا فَنعم واما عقلا فَفِيهِ مَا هُوَ مَعْلُوم فِي مَوْضِعه
قَالَ واما الرّوم فَكَانَت الدولة فيهم اولا ليونان وَكَانَ لهَذِهِ الْعُلُوم بَينهم مجَال رحم وَحملهَا مشاهير من رِجَالهمْ وَغَيرهم إِلَى أَن انْتَهَت الرياسة فِيهَا إِلَى أرسطو الْمُسَمّى بالمعلم الأول وَعند مصير الْأَمر إِلَى لاقياصرة هجروا تِلْكَ الْعلم كَمَا تَقْتَضِيه الْملَل والشرائع وَبقيت فِي صحفها مخلدة فِي خزائنهم إِلَى أَن ملكوا الشَّام وَهِي بَاقِيَة فيهم
تَارِيخ قَالَ ثمَّ جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ المستولى على ملك الرّوم وَغَيرهم ابْتَدَأَ أمره بالسذاجة والغفلة عَن الصَّنَائِع إِلَى أَن اخذت الدولة من الحضارة بالحظ الَّذِي لم يكن لغَيرهم من الامم وتفننوا فِي الصَّنَائِع والعلوم فتوجهوا إِلَى الِاطِّلَاع على هَذِه الْعُلُوم الْحكمِيَّة لما سمعُوا من اساقفة المعاهدين وَبِمَا تسموا اليه فطْرَة الانسان فِيهَا فَبعث أَبُو جَعْفَر(2/347)
الْمَنْصُور إِلَى ملك الرّوم أَن يبْعَث اليه من يكْشف لَهُ عَلَيْهَا أَو يكْتب التعاليم مترجمة فَبعث اليه بِكِتَاب اقليدس وَبَعض كتب الطبيعيات واطلع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ فازدادوا حرصا على الظفر بِمَا بَقِي مِنْهَا
وَجَاء الْمَأْمُون بعد ذَلِك وَكَانَت لَهُ فِي الْعلم رَغْبَة فانبعث لهَذِهِ الْعُلُوم واوفد الرُّسُل على ملك الرّوم وطالب فِي اسْتِخْرَاج عُلُوم اليونانيين وانتساخها بالخط الْعَرَبِيّ وَبعث المترجمين لذَلِك فأوعب مِنْهَا واستوعب وَعَكَفَ عَلَيْهَا النظار من أهل الْإِسْلَام وبلغوا فِيهَا الْغَايَة وخالفوا كثيرا من آراء الْمعلم الأول واختصوه بِالرَّدِّ وَالْقَبُول لوقوف الشُّهْرَة عِنْده وَكَانَ من اكابرهم فِي الْملَّة الفارابي وَابْن سينا بالمشرق وَابْن الصَّائِغ بالأندلس وَاقْتصر كثير على انتحال التعاليم وَمَا يتبعهَا من النجامة وَالسحر والطلسمات وَوَقعت الشُّهْرَة فِي هَذَا المتنحل على مسلمة بن احْمَد المجريطي من أهل الاندلس واصحابه
دَاخِلَة فَسَاد
قَالَ وَدخل من هَذِه الْعُلُوم دَاخِلَة واستهوت الْكثير النَّاس بِمَا جنحوا اليها وقلدوا آراءها والذنب فِي ذَلِك لمن ارْتَكَبهُ وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ
قلت ذكر فِي فصل ابطال الفلسفة وَفَسَاد منتحلها أَن ضررها فِي الدّين كثير ثمَّ خَتمه بقوله فَلْيَكُن النَّاظر فِيهَا متحرزا جهده من معاطبها وَليكن نظر من ينظر فِيهَا بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التَّفْسِير(2/348)
وَالْفِقْه واصله وَألا فَقل أَن يسلم وَالله الْمُوفق للحق وَالْهَادِي اليه انْتهى مخلصا
خَاتِمَة اعلام
ثمَّ أَن الْمغرب والاندلس لما ركدت ريح الْعمرَان بِهِ وتناقصت الْعُلُوم بتناقصه اضمحل ذَلِك مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا من رسومه تجدها فِي تفاريق من النَّاس وَتَحْت رَقَبَة من عُلَمَاء السّنة ويبلغنا عَن أهل الْمشرق أَن بضائع هَذِه الْعُلُوم عِنْدهم لم تزل موفورة وخصوصا فِي عراق الْعَجم وَمَا وَرَاء النَّهر وانهم على نهج من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية لتوفر عمرانهم واستحكام حضارته
قَالَ وَلَقَد وقفت بِمصْر على تواليف فِي الْمَعْقُول مُتعَدِّدَة لرجل من عُلَمَاء هراة من بلد خُرَاسَان يشهر بِسَعْد الدّين التَّفْتَازَانِيّ بلغ مِنْهَا الْغَايَة فِي عُلُوم الْكَلَام واصول الْفِقْه وَالْبَيَان تشهد بِأَن لَهُ ملكة راسخة فِي هَذِه الْعُلُوم وَفِي اثنائها مَا يدل على أَن لَهُ اطلاعا على الْعُلُوم الْحكمِيَّة أَيْضا وقدما راسخة عالية فِي سَائِر الْفُنُون الفلسفية كَذَلِك بلغنَا لهَذَا الْعَهْد أَن هَذِه الْعُلُوم الفلسفية بِبِلَاد الافرنجة من ارْض رومة وَمَا يَليهَا من العدوة الشمالية نافقة الاسواق ومتعددة بمجالس التَّعْلِيم وَالله اعْلَم بِمَا هُنَالك وَهُوَ يخلق مَا يَشَاء ويختار(2/349)
التَّعْرِيف الثَّانِي
قَالَ فالنصف الثَّانِي وَهُوَ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة إِنَّهَا قد نفقت اسواقها فِي الْملَّة بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ وانتهت فِيهَا مدارك المناظرين إِلَى الْغَايَة الَّتِي لَا فَوْقهَا بِشَيْء وهذبت اصطلاحاتها وزينت فنونها فَجَاءَت من وَرَاء الْغَايَة فِي الْحسن والتنميق وَكَانَ لكل فن رجال يرجع اليهم فِيهِ واوضاع يُسْتَفَاد مِنْهَا التَّعْلِيم واختص الْمشرق من ذَلِك وَالْمغْرب بِمَا هُوَ مَشْهُور مِنْهَا
قَالَ وَقد كسدت اسواق الْعلم لهَذَا الْعَهْد بالمغرب لتناقص عمرانه وَانْقِطَاع سَنَد التَّعْلِيم وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة
أَن كَثْرَة التواليف فِي الْعُلُوم عائقة عَن التَّحْصِيل
قَالَ اعْلَم انه مِمَّا اضر بِالنَّاسِ فِي تَحْصِيل الْعلم وَالْوُقُوف على غَايَته كَثْرَة التواليف وَاخْتِلَاف الاصطلاحات فِي التَّعْلِيم ثمَّ مُطَالبَة المتعلم باستحضار ذَلِك وَحِينَئِذٍ يسلم لَهُ منصب التَّحْصِيل فَيحْتَاج إِلَى حفظ(2/350)
كلهَا أَو اكثرها وَلَا يَفِي عمره بِمَا كتب مِنْهَا فِي صناعَة وَاحِدَة إِذا تجرد لَهَا فَيَقَع الْقُصُور وَلَا بُد دون رُتْبَة التَّحْصِيل
التَّمْثِيل الأول
مُطَالبَة المشتغل بِالْمذهبِ الْمَالِكِي بِكِتَاب الْمُدَوَّنَة وَمَا كتب عَلَيْهَا من الشروحات ككتاب ابْن يُونُس وللخمي وَابْن بشير(2/351)
والتنبيهات والمقدمات وَكتاب الْعُتْبِيَّة وَالْبَيَان والتحصيل وَكتاب أَن الْحَاجِب وَمَا كتب عَلَيْهِ مَعَ احْتِيَاجه إِلَى تَمْيِيز الطَّرِيقَة القيروانية من الطَّرِيقَة القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق الْمُتَأَخِّرين عَنْهُم والاحاطة بذلك كُله وَحِينَئِذٍ يسلم لَهُ منصب الْفتيا وَهِي كلهَا متكررة وَالْمعْنَى وَاحِد والعمر يَنْقَضِي فِي وَاحِد مِنْهَا
قلت قد نصوا على قريب من هَذَا فاللمازري فِي تعقيبه على احياء الْغَزالِيّ وَقد قرر أَن التَّعْلِيم لَا بُد فِيهِ من مؤونة عَظِيمَة وَهَذِه الْمُدَوَّنَة تشْتَمل على سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف مسئلة وَمِائَتَيْنِ لَيْسَ فِي الْعَصْر من يسامح المقتصر عَلَيْهَا بالفتوى وَلَا يصفه بامامة أَو الْفتيا حَتَّى يضيف اليها الِاطِّلَاع على امثال هَذِه الْمسَائِل
قَالَ ابْن خلدون وَلَو اقْتصر المعلمون المتعلمين على الْمسَائِل المذهبية(2/352)
فَقَط لَكَانَ سهلا وَكَانَ التَّعْلِيم دون ذَلِك بِكَثِير ومأخذه قَرِيبا وَلكنه دَاء لَا يرْتَفع لاستقرار العوائد عَلَيْهِ فَصَارَت كالطبيعة الَّتِي لَا تتبدل
التَّمْثِيل الثَّانِي
مُطَالبَة النَّاظر فِي الْعَرَبيَّة بِكِتَاب سبويه وطرق الْبَصرِيين والكوفيين والبغداديين والاندلسيين وطرق الْمُتَأَخِّرين كَابْن الْحَاجِب وَابْن مَالك والعمر يَنْقَضِي دون ذَلِك فَلَا يطْمع أحد فِي الْغَايَة مِنْهُ(2/353)
إِلَّا الْقَلِيل النَّادِر لتشعبه بِمَا ذكر وصعوبته هَذَا وَهِي آلَة ووسيلة فَكيف يكون الْحَال فِي الْقَصْد الَّذِي هُوَ الثَّمَرَة
تَنْبِيه
تَكْثِير التواليف لمريدها من طلبة الْعلم لَا يُقَال فِيهِ انه عائق عَن التَّحْصِيل بل هُوَ كَفِيل بِكَمَالِهِ وَمن ثمَّ قَالَ ابْن حزم الاستكثار من الْكتب من دعائم الْعلم إِذْ لَا يَخْلُو كتاب من فَائِدَة وَزِيَادَة علم وَقد كشف الْخَلِيل عَن فَائِدَة جمعهَا وغاياته فَقَالَ اقلوا من الْكتب لتحفظوا واكثروا مِنْهَا لِتَعْلَمُوا
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن كَثْرَة الاختصارات الموضوعية فِي الْعُلُوم مخلة بالتعليم
قَالَ ذهب كثير من الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين إِلَى اخْتِصَار الطّرق والانحاء فِي الْعُلُوم بِوَضْع مختصرات مُشْتَمِلَة على حصر مسائلها وادلتها بِاخْتِصَار فِي الالفاظ وحشو الْقَلِيل مِنْهَا بالمعاني الْكَثِيرَة أَو بِاخْتِصَار مَا وضع من المطولات للتفسير وَالْبَيَان تَقْرِيبًا للْحِفْظ كَمَا فعل ابْن الْحَاجِب فِي الْفِقْه واصوله وَابْن مَالك فِي الْعَرَبيَّة والخونجي فِي الْمنطق وَهُوَ فَسَاد فِي التَّعْلِيم واخلال فِي التَّحْصِيل
قلت وَحَاصِل مَا ينشأ عَن ذَلِك مَعَ اخلاله بالبلاغة امور
أَحدهَا أَن فِيهِ تَخْلِيطًا على الْمُبْتَدِئ بالقاء الغايات اليه وَهُوَ لم يستعد بعد لقبولها وَهُوَ من سوء التَّعْلِيم كَمَا سَيَأْتِي أَن شَاءَ الله تَعَالَى(2/354)
الثَّانِي أَن فِيهِ مَعَ ذَلِك شغلا كَبِيرا على التَّعْلِيم بتتبع الالفاظ العويصة للفهم لتزاحم الْمعَانِي عَلَيْهَا واستخراج الْمسَائِل من بَينهَا وَلَا يتَخَلَّص من ذَلِك إِلَّا بعد ذهَاب حَظّ صَالح من الْوَقْت
الثَّالِث أَن الملكة الْحَاصِلَة بعد ذَلِك كُله من التَّعَلُّم مِنْهَا إِذا تمّ سداده وَلم تعقبه آفَة قَاصِرَة عَن الملكات الْحَاصِلَة من الموضوعات البسيطة لِكَثْرَة مَا يَقع فِيهَا من التّكْرَار والاطالة المفسدين لحُصُول الملكة التَّامَّة
ثمَّ قَالَ فقصدوا إِلَى تسهيل الْحِفْظ على المتعلم فاركبوه صعبا يقطعهُ عَن تَحْصِيل الملكات النافعة وتمكنها وَمن يهد الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ
قلت وَمِمَّا يعاب بِهِ سرعَة تقلب الْفَهم لَهَا لتعذر استحضار مَا يفِيدهُ ويعسر عَلَيْهِ دَائِما وَقد ذكر لنا عَن ابْن الْحَاجِب انه رُبمَا رَاجع بعض الْمَوَاضِع من مختصرة الفقهي فَلم يفهمهُ واذ ذَاك فَمَا الظَّن بسواه
عاطفة تَكْمِيل
لقصد الْمَسْأَلَتَيْنِ المذكورتين آنِفا بِذكر فَوَائِد مهمة(2/355)
الْفَائِدَة الأولى
قَالَ ابْن الاكفاني كتب الْعُلُوم لَا تحصر كَثْرَة لِكَثْرَة الْعُلُوم وَاخْتِلَاف الاغراض فِي الْوَضع والتأليف لَكِنَّهَا من جِهَة الْمِقْدَار ثَلَاثَة مختصرة فِي لَفظهَا وجزء مَعْنَاهَا
وَهَذِه تجْعَل تذكرة لرؤوس المشاكل ينْتَفع بهَا المتهي للاستحضار وَرُبمَا افادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة جرأتهم على الْمعَانِي الْعبارَات الدقيقة ومبسوطة ينْتَفع بهَا للمطالعة ومتوسطة لَفظهَا بأزاء مَعْنَاهَا ونفعها عَام
الْفَائِدَة الثَّانِيَة
قَالَ أَيْضا المصنفون الْمُعْتَبرَة تصانيفهم فريقان
أَحدهمَا من لَهُ فِي التَّعْلِيم ملكة تَامَّة ورؤية كَافِيَة وتجارب وَثِيقَة وحدس صائب واستخبار قريب وتصانيفهم عَن قُوَّة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رَأْي يجمع إِلَى تَحْرِير الْمعَانِي بتهذيب الالفاظ وَهَذِه لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا أحد من الْعلمَاء فَإِن نتائج الافكار لَا تقع عِنْد حد بل لكل عَالم ومتعلم مِنْهَا حَظّ وَهَؤُلَاء احسنوا(2/356)
إِلَى النَّاس كَمَا احسن الله تَعَالَى اليهم زَكَاة عَن علومهم لبَقَاء الذّكر فِي الدُّنْيَا وجزيل الاجر فِي الاخرة
الثَّانِي من لَهُ ذهن ثاقب وَعبارَة طَلْقَة وَوَقعت لَهُ كتب جَيِّدَة جمة الْفَوَائِد لَكِنَّهَا غير انيقة التَّأْلِيف وَالنّظم فاستخرج دررها واحسن نظمها وَهَذِه ينْتَفع بهَا المبتدؤون والمتوسطون وَهَؤُلَاء مشكورون على ذَلِك شكر الله سَعْيهمْ
الْفَائِدَة الثَّالِثَة
شَرط الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو اسحاق الشاطبي فِي الِانْتِفَاع بمطالعة الْكتب العلمية شرطين
أَحدهمَا تقدم فهم مَقَاصِد علمهَا وَمَعْرِفَة اصطلاحاته قَالَ وَذَلِكَ يحصل من مشافهة الْعلمَاء أَو بِمَا هُوَ رَاجع اليه إِذْ الْكتب وَحدهَا لَا تفِيد الطَّالِب مِنْهَا شَيْئا دون فتح الْعلمَاء كَمَا هُوَ مشَاهد
الثَّانِي تحرى كتب الْمُتَقَدِّمين من أهل الْعلم المُرَاد تَحْصِيله فَإِنَّهُم اقعد بِهِ من الْمُتَأَخِّرين
قَالَ وَاصل ذَلِك التجربة الْمُشَاهدَة فِي أَي علم كَانَ فالمتأخر لَا يبلغ من الرسوخ فِيهِ مَا بلغه الْمُتَقَدّم وَالْخَبَر الدَّال على ذَلِك فَمِنْهُ خير الْقُرُون قَرْني الحَدِيث وَهُوَ يُشِير أَن كل قرن مَعَ مَا بعده كَذَلِك ثمَّ ذكر من الْأَخْبَار مَا يَقْتَضِي الاعلام بِنَقص الدّين وَالدُّنْيَا واعظم ذَلِك الْعلم فَهُوَ إِذا فِي نقص بِلَا شكّ فَلذَلِك صَار تحرى كتب الْمُتَقَدِّمين وَكَلَامهم(2/357)
وسيرهم انفع لمن اراد الْأَخْذ بِهِ للِاحْتِيَاط فِي الْعلم أَي نوع كَانَ وخصوصا علم الشَّرِيعَة الَّذِي هُوَ العروة الوثقى والوزر الاحمى انْتهى مُلَخصا
قلت قد سبقه لهَذَا الْمَعْنى غير وَاحِد من الشُّيُوخ فقد حكى أَبُو الْحسن الشاري فِي تَارِيخه عَن بعض شُيُوخه انه كَانَ يُبَالغ فِي الْوَصِيَّة بالاعتماد على كتب الْمُتَقَدِّمين حَتَّى انه كَانَ لَا يقتني كتابا من كتب الْمُتَأَخِّرين
قَالَ وَلَقَد كَانَ بعض من لقيناه من الْمُحَقِّقين يمِيل إِلَى هَذِه الطَّرِيقَة
وَحكى عَن ابْن خروف انه كَانَ لَا يقْرَأ من كتب النَّحْو حاشا كتاب سِيبَوَيْهٍ وَيرى انه يطْرَح مَا سواهُ كمفصل الزَّمَخْشَرِيّ وَغَيره(2/358)
قَالَ وَكَانَ يسمح فِي بعض الاوقات فِي الاصول لِابْنِ السراج والتبصرة المنسوبة للصيمري انْتهى
قلت وَلابْن عَرَفَة ع بعض الشُّيُوخ فِيمَا يخص كتاب ابْن الْحَاجِب الفرعي كَلَام هُوَ اشد من هَذَا فَرَاجعه فِي مَوْضِعه
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن وَجه الصَّوَاب فِي تَعْلِيم الْعلم وطرقاته أَن يلقى للمتعلم على التدريج فِي مَرَّات ثَلَاث
إِحْدَاهمَا يلقِي عَلَيْهِ اولا مسَائِل فِي كل بَاب من الْفَنّ هِيَ اصول ذَلِك الْبَاب فِيهِ وَيقرب لَهُ فِي شرحها على سَبِيل الاجمال ومراعاة قُوَّة عقله واستعداده حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى آخر الْفَنّ ومنذ ذَلِك تحصل لَهُ ملكة ضَعِيفَة غايتها تهيئته لفهمه وتحصيله(2/359)
الثَّانِيَة يرفعهُ فِي التَّلْقِين عَن تِلْكَ الرُّتْبَة بِاسْتِيفَاء الْبَيَان الْخَارِج عَن الاجمال واعلامه بِمَا هُنَاكَ من الْخلاف وَوَجهه إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى آخر الْفَنّ فتجود ملكته
الثَّالِثَة يرجع بِهِ وَقد شدا فَلَا يتْرك عويصا وَلَا مُبْهما إِلَّا اوضحه وَفتح لَهُ مقفله فيتخلص من الْفَنّ وَقد استولى على ملكته
قَالَ وَقد يحصل للْبَعْض فِي اقل من ذَلِك بِحَسب مَا يخلق لَهُ وييسر عَلَيْهِ
مُخَالفَة صَوَاب
قَالَ وَقد شاهدنا كثيرا من المعلمين يغفلون عَن طَرِيق هَذَا التَّعْلِيم بالقاء الْمسَائِل المقفلة فِي أول وهلة ثمَّ مُطَالبَة المتعلم باحضار ذهنه فِي حلهَا وَحفظ مَا تلقى مِنْهَا اعتقادا أَن ذَلِك مران على التَّعْلِيم وصواب فِيهِ فَيَخْلِطُونَ عَلَيْهِ بالقاء الغايات فِي المبادئ وَقبل استعداده للفهم فَإِن قبُول الْعلم والاستعداد لفهمه ينشأ تدريجيا والمتعلم أول الْأَمر عَاجز عَن الْفَهم فِي الْجُمْلَة إِلَّا فِي الاقل وعَلى سَبِيل التَّقْرِيب والاجمال ثمَّ لَا يزَال استعداده يتدرج بمخالطة مسَائِل ذَلِك الْفَنّ وتكرارها عَلَيْهِ والانتقال فِيهَا من التَّقْرِيب إِلَى الاسهاب حَتَّى تتمّ الملكة فِي الاستعداد ثمَّ فِي(2/360)
التَّحْصِيل وَإِذا القيت عَلَيْهِ الْغَايَة فِي ابْتِدَائه وَهُوَ عَاجز عَن الْفَهم والوعي وبعيد عَن الاستعداد كل ذهنه وَحسب ذَلِك من صعوبة الْعلم فِي نَفسه فتكاسل عَن قبُوله وَتَمَادَى فِي هجرانه
فَقَالَ وانما أَتَى ذَلِك من صعوبة التَّعْلِيم وسوءه
وَصَايَا نافعة
أَحدهَا يَنْبَغِي للمغلم أَن يزِيد المتعلم على فهم كِتَابه الَّذِي اكب على التَّعْلِيم مِنْهُ بِحَسب طاقته وقبوله مبتدئا أَو منتهيا وَلَا يخلط مسَائِل الْكتاب بغَيْرهَا حَتَّى يعيه من اوله إِلَى آخِره ويستولي مِنْهُ على ملكة بِهِ ينفذ فِي غَيره لَان المتعلم إِذا حصل ملكة مَا استعد بهَا لقبُول مَا بَقِي حَتَّى يستولي على الْغَايَة وَإِذا خلط عَلَيْهِ الْأَمر عجز عَن الْفَهم وادركه الْملَل وانطمس وآيس من التَّحْصِيل وهجر الْعلم والتعليم وَالله يهدي من يَشَاء
الثَّانِيَة يَنْبَغِي لَهُ أَن لَا يطول على المتعلم فِي الْفَنّ الْوَاحِد أَو الْكتاب الْوَاحِد بتقطيع وتفريق مَا بَينهمَا لانه ذَرِيعَة النسْيَان وَانْقِطَاع مسَائِل الْفَنّ بَعْضهَا عَن بعض لعسر حُصُول الملكة بذلك وَإِذا كَانَت اوائل الْعلم واواخره حَاضِرَة عِنْد الْفِكر كَانَت الملكة الناشئة ايسر حصولا وماحكم صبغة لَان الملكة إِنَّمَا تحصل بتتابع الْفِعْل وتكرره وَمَتى تنوسي الْفِعْل فالملكة الناشئة عَنهُ كَذَلِك وَالله علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ
الثَّالِثَة يَنْبَغِي إِلَّا يخلط على المتعلم علمين مَعًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ قل أَن يظفر(2/361)
بِوَاحِد مِنْهُمَا لتقسم البال وانصرافه عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى تفهم الآخر فيستغلقان مَعًا ويستصعبان وَيعود مِنْهُمَا بالخيبة
قلت من كَلَام ابْن رشد الْحَكِيم مقررا لهَذَا الْمَعْنى من احب أَن يتَعَلَّم اكثر من شَيْء وَاحِد فِي وَقت وَاحِد لم يتَعَلَّم وَاحِد مِنْهُمَا وقديما وَردت الْوَصِيَّة بذلك وَعَن بَعضهم انه قَالَ لمؤدب وَلَده لَا تخرجهم من علم إِلَى علم حَتَّى يحكموه فَإِن اصطكاك الْعلم فِي السّمع وازدحامه فِي الْوَهم مضلة مغلقة للفهم
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة
أَن الْعُلُوم الالية لَا توسع فِيهَا الافكار وَلَا تفرع الْمسَائِل وَذَلِكَ لَان الْعُلُوم صنفان
أَحدهمَا مقصو لذاته كالتفسير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَعلم الْكَلَام من الشرعيات والطبيعيات والالهيات من الحكميات وَهَذِه فَلَا حرج من توسيع الْكَلَام فِيهَا وتفريع الْمسَائِل لمزيد تمكن الملكة بذلك
الثَّانِي آلَة لذَلِك الْمَقْصُود لذاته كالعربية والحساب وَغَيرهمَا للشرعيات والمنطق للحكميات وَرُبمَا كَانَ لعلم الْكَلَام واصول الْفِقْه على طَريقَة الْمُتَأَخِّرين وَهَذِه فَلَا يَنْبَغِي أَن يُوسع فِيهَا الْكَلَام وَلَا تَفْرِيع الْمسَائِل لخروجها بذلك عَن الْمَقْصُود بهَا واخلاله بِمَا هِيَ اليه وَسِيلَة لضيق الْعُمر عَن تَحْصِيل الْجَمِيع على هَذِه الصُّورَة وحقيق بِهِ الِاشْتِغَال بهَا فَذَلِك تَضْييع للعمر وخوض فِيمَا لَا يُغني(2/362)
تَمْثِيل قَالَ وَهَذَا كَفعل الْمُتَأَخِّرين فِي النَّحْو والمنطق بل وَهَذَا كَفعل الْمُتَأَخِّرين فِي النَّحْو والمنطق بل واصول الْفِقْه لأَنهم اوسعوا الْكَلَام فِيهَا نقلا واستدلالا واكثروا من التَّفْرِيع بِمَا اخرجها إِلَى قبيل الْمَقْصُود لذاتها وَرُبمَا جر ذَلِك إِلَى انظار ومسائل لَا حَاجَة بهَا فِيمَا هِيَ آلَة لَهُ فَتكون لذَلِك لَغوا
قلت مثله قَول ابْن الْعَرَبِيّ من اقام عمره حسابيا أَو نحويا فقد هلك وَهُوَ بِمَنْزِلَة من اراد صَنْعَة شَيْء فشحذ الالة عمره ثمَّ مَاتَ قبل عمل صَنعته
وَقَول الشَّيْخ أبي اسحاق الشاطبي كل مَسْأَلَة مرسومة فِي أصُول الْفِقْه لَا تنبني عَلَيْهَا فروع فقهية أَو آدَاب شَرْعِيَّة وَلَا تكون عونا فِي ذَلِك فوضعها فِي اصول الْفِقْه عَارِية
لُزُوم ومامجب قَالَ ابْن خلدون فعلى المعلمين كَمَا هُوَ وَسِيلَة أَن لَا يستبحروا فِيهِ وَلَا يستكثروما من مسَائِله وقوفا بالمتعلم مَعَ الْغَرَض مِنْهُ
قلت مثله قَول الْغَزالِيّ كل مَا يطْلب لغيره فَلَا يَنْبَغِي أَن تَجِد فِيهِ الْمَطْلُوب وتستكثر مِنْهُ
وَقَالَ ابْن خلدون وَمن ترقت همته بعد ذَلِك إِلَى توغل فِيهِ وَرَأى فِي نَفسه قيَاما بذلك وانتهاضا اليه فليختر لنَفسِهِ وكل(2/363)
ميسر لما خلق لَهُ
قلت وَقد قَررنَا فِي رَوْضَة الاعلام بِمَنْزِلَة الْعَرَبيَّة من عُلُوم الْإِسْلَام مَا يَتَّضِح بِهِ هَذَا الْموضع على التَّمام أَن شَاءَ الله تَعَالَى
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَن مَذَاهِب أهل الامصار الاسلامية مُخْتَلفَة فِي طرق تَعْلِيم الْولدَان وَقبل بَيَان ذَلِك فتعليم الْولدَان الْقُرْآن من شَعَائِر الدّين ومراسمه أَخذ بِهِ أهل الْملَّة ودرجوا عَلَيْهِ لما يسْبق بِهِ إِلَى الْقُلُوب من رسوخ الْإِيمَان وعقائده إِذْ هُوَ اصل التَّعْلِيم الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ مَا يحصل بعده من الملكات وَذَلِكَ لَان تَعْلِيم الصغار اشد رسوخا وَهُوَ اصل لما بعده لَان السَّابِق الأول إِلَى الْقُلُوب كالاساس للملكات وعَلى كل حَال الاساس يكون حَال كل مَا يَبْنِي عَلَيْهِ إِذا تقرر هَذَا فلاهل الامصار الاسلامية فِي هَذَا التَّعْلِيم طرق
الطَّرِيقَة الأولى لأهل الْمغرب وَمن تَبِعَهُمْ من قراء البربر
وَهِي اقتصارهم على تَعْلِيم الْقُرْآن فَقَط واخذهم اثناء ذَلِك بالرسم وَاخْتِلَاف الْقُرَّاء فِيهِ من غير مزِيد عَلَيْهِ من الحَدِيث وَالْفِقْه أَو الشّعْر أَو كَلَام الْعَرَب إِلَى أَن يحذق فِي ذَلِك قبل الْبلُوغ وَبعده إِلَى الشبيبة أَو يَنْقَطِع دونه فَيكون انْقِطَاعًا عَن الْعلم بِالْجُمْلَةِ وَكَذَا فِي إِذا(2/364)
رَاجع ذَلِك بعد طَائِفَة من عمره فهم لذَلِك اقوم على رسم الْقُرْآن وَحفظه من سواهُم
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة لأهل الاندلس
وَهِي تعليمهم للْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة من حَيْثُ هُوَ لكنه لما كَانَ الْقُرْآن اصل ذَلِك ومنبع الدّين والعلوم جَعَلُوهُ أصلا فِي التَّعْلِيم وخلطوا بِهِ رِوَايَة الشّعْر والترسيل وَحفظ قوانين العربة ي وتجويد الْخط وَالْكِتَابَة وعنايتهم بِهِ اكثر من الْجَمِيع إِلَى أَن يخرج عَن حد الْبلُوغ إِلَى الشبية وَقد شدا بعض الشَّيْء فِي الْعَرَبيَّة وَالشعر وبرز فِي الْخط وَالْكِتَابَة وَتعلق بأذيال الْعلم على الْجُمْلَة لَو كَانَ فِيهَا سَنَد لتعليم الْعُلُوم وَلَكنهُمْ ينقطعون عِنْد ذَلِك لانْقِطَاع سَنَد التَّعْلِيم فِي أفقهم وَلَا يحصل لَهُم إِلَّا ذَلِك التَّعْلِيم الأول وَفِيه كِفَايَة واستعداد إِذا وجد الْمعلم
الطَّرِيقَة الثَّالِثَة لأهل افريقية
وَهِي خلط هَذَا التَّعْلِيم بِالْحَدِيثِ فِي الْغَالِب ومدارسة قوانين الْعُلُوم وتلقين بعض مسائلها إِلَّا أَن عنايتهم باستظهار الْقُرْآن ووقوفهم على اخْتِلَاف رِوَايَات قرائه اكثر مِمَّا سواهُ وعنايتهم بالخط تبع لذَلِك وَبِالْجُمْلَةِ فطريقتهم اقْربْ إِلَى طَريقَة أهل الاندلس لاتصال سَنَد طريقتهم بمشيخة أهل الاندلس الَّذِي جازوا عِنْد تغلب النَّصَارَى على شَرق بلدهم واستقروا بتونس وعنهم اخذ ولدانهم من بعد ذَلِك(2/365)
الطَّرِيقَة الرَّابِعَة لأهل الْمشرق
وَهِي خلط التَّعْلِيم كَذَلِك فِيمَا بلغ عَنْهُم
قَالَ وَلَا أَدْرِي بِمَ عنايتهم مِنْهُ وَالَّذِي ينْقل لنا أَن عنايتهم بدراسة الْقُرْآن وصحف الْعلم فِي زمَان الشبيبة وَلَا يخلطونه بتعليم الْخط لاخْتِصَاص المنتصبين لتعليم قوانينه على انْفِرَاده كَسَائِر الصَّنَائِع فَلذَلِك لَا يتداولونه فِي الْمكَاتب وَإِذا كتبُوا لَهُم الالواح فبخط قَاصِر عَن الاجادة وَمن اراد تعلم الْخط ابتغاه من أهل صَنعته
فَائِدَة اختبار
قَالَ فَأَما أهل افريقية وَالْمغْرب فأفادهم الِاقْتِصَار على الْقُرْآن الْقُصُور عَن ملكة اللِّسَان جملَة لَان الْقُرْآن لَا ينشأ عَنهُ فِي الْغَالِب ملكة لعجز الْبشر عَن الاتيان بِمثلِهِ وَلَا ملكة لَهُم فِي غير اساليبه فَلَا ملكة لَهُم فِي اللِّسَان وحظهم الجمود على الْعبارَات وَقلة التَّصَرُّف فِي الْكَلَام وَرُبمَا كَانَ أهل افريقية اخف من أهل الْمغرب لخلطهم فِي تَعْلِيم الْولدَان بعبارات قوانين الْعُلُوم فيقتدرون على شَيْء من التَّصَرُّف فِي الْكَلَام الأول إِلَّا أَن ملكتهم فِي ذَلِك قَاصِرَة عَن البلاغة لنزول محفوظهم عَن تِلْكَ الْعبارَات مِنْهَا
قَالَ وَأما أهل الاندلس فأفادهم التفنن فِي التَّعْلِيم بِكَثْرَة رِوَايَة الشّعْر والترسيل ومدارسة الْعَرَبيَّة من أول الْعُمر حُصُول ملكة صَارُوا(2/366)
بهَا أعرف فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَقصرُوا فِي سَائِر الْعُلُوم لبعدهم عَن مدارسة الْقُرْآن والْحَدِيث فَكَانُوا لذَلِك أهل خطّ وأدب بارع أَو مقصر على حسب التَّعْلِيم الْكتاب بعسر تَعْلِيم الصِّبَا
غَرِيبَة
قَالَ وَلَقَد ذهب ابْن الْعَرَبِيّ إِلَى غَرِيبَة فِي وَجه التَّعْلِيم واعاد فِي ذَلِك وأبدأ وَقدم تَعْلِيم الْعَرَبيَّة وَالشعر كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل الاندلس
قَالَ لِأَن الشّعْر ديوَان الْعَرَب وَيَدْعُو إِلَى تَقْدِيمه مَعَ الْعَرَبيَّة فَسَاد اللُّغَة ثمَّ ينْتَقل مِنْهُ إِلَى الْحساب ليتمرن فِيهِ ثمَّ إِلَى درس الْقُرْآن واستغفل أهل بِلَاده فِي أَخذ الطِّفْل بِالْقُرْآنِ فِي أول أمره لقرَاءَته مَا لَا يفهم وَتَبعهُ فِي أَمر غَيره اهم مِنْهُ
قَالَ ثمَّ ينظر فِي أصُول الدّين ثمَّ أصُول الْفِقْه ثمَّ الجدل ثمَّ الحَدِيث وَنهي مَعَ ذَلِك عَن خلط علمين إِلَّا مَعَ قبُول المتعلم لجودة ذهنه ونشاطه
قَالَ وَهُوَ لعمري مَذْهَب حسن إِلَّا أَن العوائد لَا تساعد عَلَيْهِ وه ياملك بالاحوال
تَوْجِيه عَادَة
قَالَ وَوجه مَا اخْتصّت بِهِ العوائد من تقدم دراسة الْقُرْآن ايثار التَّبَرُّك بِهِ وخشية مَا يعرض للْوَلَد فِي جُنُون الصِّبَا من القواطع عَن الْعلم فيفوته(2/367)
الْقُرْآن لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي حجر الصِّبَا منقاد للْحكم فَإِذا تجَاوز الْبلُوغ انحل من ربقة الْقَهْر فَرُبمَا عصفت بِهِ ريَاح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون تَحْصِيل الْقُرْآن لَهُ قبل ذَلِك
قَالَ وَلَو حصل الْيَقِين باستمراره فِي طلب الْعلم وَقبُول تَعْلِيمه لَكَانَ هَذَا الْمَذْهَب اولى مِمَّا اخذ بِهِ أهل الْمشرق وَالْمغْرب وَلَكِن الله يحكم مَا يَشَاء لَا معقب لحكمه
الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أَن الشدَّة على المتعلمين مضرَّة بهم
وَذَلِكَ لِأَن ارهاف الْحَد للتأديب مُضر بالمتعلم لَا سِيمَا فِي اصغار الْولدَان لانه من سوء الملكة بِدَلِيل أَن من كَانَ مرباه بالقهر من متعلم أَو مَمْلُوك أَو خديم عَاد عَلَيْهِ بِضيق النَّفس وَذَهَاب النشاط وَحُصُول الكسل وَالْحمل على الْكَذِب والخبث وَالْمَكْر والخديعة وَفَسَاد مَعَاني الانسانية من حَيْثُ الِاجْتِمَاع وَهِي الحمية والمدافعة وَالْقَبُول عَن اكْتِسَاب الْفَضَائِل والخلق الْجَمِيل حَتَّى ينقبض عَن غَايَة مَقْصُودَة فيرتكس وَيعود فِي أَسْفَل السافلين كَمَا وَقع لكل امة حصلت فِي قَبْضَة الْقَهْر والعسف(2/368)
اعْتِبَار قَالَ وَاعْتبر ذَلِك فِي كل من يملك عَلَيْهِ امْرَهْ وَلَا تكون الملكة الكافلة لَهُ رَفِيقَة بِهِ تَجِد ذَلِك فيهم وَانْظُر فِي الْيَهُود وَمَا حصل فيهم بذلك من خلق السوء حَتَّى انهم يوصفون فِي كل افق وعصر بالحرج وَمَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاح المقهور والمتخابث والكيد وَسَببه مَا قُلْنَاهُ فَلذَلِك يَنْبَغِي لمعلم الْولدَان أَن لَا يشدد عَلَيْهِم فِي التَّأْدِيب
استظهار
قَالَ وَقد قَالَ مُحَمَّد ابْن أبي زيد لَا يَنْبَغِي لمؤدب الصّبيان أَن يزِيد فِي ضَربهمْ إِذا احتاجوا اليه على ثَلَاثَة اسواط وَمن كَلَام عمر رَضِي الله عَنهُ من لم يؤدبه الشَّرْع لَا ادبه الله حرصا على صون النُّفُوس عَن مذلة التَّأْدِيب وعلما بِأَن الْمِقْدَار الَّذِي عينه الشَّرْع لذَلِك املك لَهُ فَإِنَّهُ اعْلَم بمصلحته(2/369)
تَعْلِيم ملوكي
قَالَ وَمن أحسن مَذَاهِب التَّعْلِيم مَا تقدم بِهِ الرشيد لعلم وَلَده قَالَ خلف الاحمر بعث إِلَى الرشيد لتأديب وَلَده الامين فَقَالَ يَا أَحْمَر أَن امير الْمُؤمنِينَ قد دفع اليك مهجة نَفسه وَثَمَرَة فُؤَاده فصير يدك عَلَيْهِ مبسوطة وطاعته لَك وَاجِبَة فَكُن لَهُ بِحَيْثُ وضعك امير الْمُؤمنِينَ اقرئه الْقُرْآن وعرفه الْأَخْبَار وروه الاشعار وَعلمه السّنَن وعرفه بمواقع الْكَلَام وبدئه وامنعه من الضحك إِلَّا فِي اوقاته وخذه بتعظيم مَشَايِخ بني هَاشم إِذا دخلُوا عَلَيْهِ وَرفع مجَالِس القواد إِذا حَضَرُوا مَجْلِسه وَلَا تمرن بك سَاعَة إِلَّا وانت مغتنم تأديبة وَفَائِدَة تفيده إِيَّاهَا من غير أَن تحزنه فتميت قلبه وذهنه وَلَا تمعن فِي مسامحته فيستحلي الْفَرَاغ ويألفه وَقَومه مَا اسْتَطَعْت بالرفق والملاينة فَإِن اباهما فَعَلَيْك بالشدة والغلطة
الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة
أَن الرحلة فِي طلب الْعلم ولقاء المشيخة مزِيد كَمَال فِي التَّعْلِيم فَعَلَيْك بِهِ وَذَلِكَ لأمرين(2/370)
أَحدهمَا أَن على قدر كَثِيرَة الشُّيُوخ تكن حُصُول الملكة ورسوخها لما فِي ذَلِك من تَكْرِير الْمُبَاشرَة والتلقين بِحَسب تعدد لقائهم
الثَّانِي أَن تكَرر الْأَخْذ عَنْهُم يُفِيد المتعلم تَمْيِيز الاصطلاحات لما يرى من اخْتِلَاف طرقهم فِيهَا بِمُجَرَّد الْعلم عَنْهَا وَتحقّق إِنَّهَا انحاء تَعْلِيم وطرق توصل لَا إِنَّهَا جُزْء مِنْهَا كَمَا يَعْتَقِدهُ كثير
قَالَ فالرحلة لَا بُد مِنْهَا فِي طلب الْعلم لِاكْتِسَابِ الْفَوَائِد والكمال بلقاء الْمَشَايِخ ومباشرة الرِّجَال وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم
قلت ليشاع الْعِنَايَة بهَا عِنْد المحصلين
قَالَ الْغَزالِيّ قل مَذْكُور فِي الْعلم من زمَان الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَى زَمَاننَا إِلَّا وَحصل الْعلم بِالسَّفرِ وَسَار لاجله وَعَن مَالك ابْن دِينَار رَضِي الله عَنهُ اوحى الله إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن اتخذ نَعْلَيْنِ من حَدِيد وعصا من حَدِيد ثمَّ اطلب الْعلم وماصبر حَتَّى تخرق نعالك وتكسر عصاك
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَهُوَ أول من رَحل فِي طلب الْعلم من أهل الشَّرَائِع(2/371)
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة
أَن الْعلمَاء من بَين النَّاس ابعد عَن السياسة ومذاهبها وَذَلِكَ لامرين أَحدهمَا انهم يعتادون النّظر الفكري والغوص على الْمعَانِي الدقيقة واتنزاعها من المحسوسات وتجريدها فِي الذِّهْن امورا كُلية يحكم عَلَيْهَا بِأَمْر على الْعُمُوم لَا بِخُصُوص مَادَّة أَو شخص أَو جنس أَو صنف من النَّاس وَبعد ذَلِك يطبقون تِلْكَ الكليات على الخارجيات
الثَّانِي انهم يقيسون الْأُمُور على اشباهها بِمَا اعتادوا من الْقيَاس الفقهي فَلَا يزَال حكم نظرهم فِي الذِّهْن وَلَا يصير إِلَى الْمُطَابقَة إِلَّا بعد الْفَرَاغ من الْبَحْث وَالنَّظَر وَلَا يصير بِالْجُمْلَةِ اليها وانما يتَفَرَّع فِي الْخَارِج عماما فِي الذِّهْن من ذَلِك كل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهَا فروع كَمَا فِي الْمَحْفُوظ من أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة فيطلب مُطَابقَة مَا فِي الْخَارِج لَهَا عكس مَا فِي الانظار فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة الْمَطْلُوب فِي صِحَّتهَا مطابقتها لما فِي الْخَارِج فَإِذا هم منفردون فِي سَائِر انظارهم بالأمور الذهنية لَا يعْرفُونَ سواهَا والسياسة تحْتَاج إِلَى مُرَاعَاة مَا فِي الْخَارِج أَو مَا يلْحقهَا من الاحوال الْخفية لَا مَكَان اشتمالها على مَا يمْنَع من الحاقها بشبه أَو مِثَال أَو تنافى الْكُلِّي الَّذِي يحاول تطبيقه عَلَيْهَا وَلَا(2/372)
يُقَاس شَيْء من احوال الْعمرَان على الآخر لاحْتِمَال اخْتِلَافهمَا فِي غير مَا اشتبها فِيهِ من وُجُوه
قَالَ فَيكون الْعلمَاء لما تعودوه من تَعْمِيم الْأَحْكَام وَقِيَاس الْأُمُور بَعْضهَا على بعض إِذا نظرُوا فِي السياسة افرغوما ذَلِك فِي قالب افكارهم وَنَوع استدلالاتهم فيقعون فِي الْغَلَط الْكثير اولا يُؤمن عَلَيْهِم
تنيبه قَالَ وَيلْحق بهم أهل الذكاء والكيس لانهم ينزعون بثقوب اذهانهم إِلَى مثل شَأْن الْفُقَهَاء من الغوص على الْمعَانِي وَالْقِيَاس والمحاكات فيقعون فِي الْغَلَط والعامي السَّلِيم الطَّبْع الْمُتَوَسّط الْكيس لقُصُور ذهنه عَن ذَلِك وَعدم الِاعْتِبَار بِهِ يقْتَصر بِكُل مَادَّة على نَص حكمهَا فِي الاحوال والاشخاص على مَا اخْتصَّ بِهِ وَلَا يتَعَدَّى فِي الحكم بتعميم قِيَاس وقوفا ي اكثر نظره مَعَ الْموَاد المحسوسة كالسابح لَا يُفَارق الموج عِنْد الْمَدّ وَلذَا قيل
(وَلَا توغلن إِذا مَا سبحت ... فَإِن السَّلامَة فِي السَّاحِل)
قَالَ وَيكون مَأْمُونا من الْغَلَط فِي سياسته مُسْتَقِيم النّظر فِي مُعَاملَة ابناء جنسه فَيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضاره وَفَوق كل ذِي علم عليم(2/373)
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة أَن حَملَة الْعلم فِي الْإِسْلَام أَكْثَرهم الْعَجم
قَالَ وَمن الْغَرِيب الْوَاقِع أَن حَملَة الْعلم الشَّرْعِيّ أَو الْعقلِيّ فِي الْملَّة الاسلامية أَكْثَرهم الْعَجم إِلَّا فِي الْقَلِيل النَّادِر وان كَانَ مِنْهُم الْعَرَبِيّ فِي نسبه فَهُوَ اعجمي لي لغته ومرباه ومشيخته مَعَ أَن الْملَّة عَرَبِيَّة وَصَاحب شريعتها عَرَبِيّ
قلت ملخص مَا ذكر فِي ذَلِك من السَّبَب يظْهر باعتبارين وجود الْعلم بِكَثْرَة فِي الاعاجم وقلته فِي الْعَرَب
الِاعْتِبَار الأول كَثْرَة وجود الْعلم فِي الاعاجم وَذَلِكَ فِي نوعيه الشَّرْعِيّ والعقلي
النَّوْع الأول الشَّرْعِيّ وَالسَّبَب فِيهِ أَن الْملَّة فِي اولها لم يكن فِيهَا علم وَلَا صناعَة لسذاجة بداوتها إِذْ ذَاك واحكام شريعتها كَانَت لرجال ينقلونها فِي صُدُورهمْ وَقد عرفُوا مآخذها من الْكتاب وَالسّنة تلقوها عَن الشَّارِع واصحابه وَالْقَوْم يَوْمئِذٍ عرب لم يعرفوا أَمر التَّعْلِيم والتدوين وَلَا دعتهم اليه حَاجَة لجرى الْأَمر على ذَلِك من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَسموا الحاملين لذَلِك بالقراء الَّذين كَانُوا يقرأون الْكتاب وَلَيْسوا بأميين كباقي الْعَرَب فَلَمَّا بعد النَّقْل من لدن دولة الرشيد احْتِيجَ إِلَى وضع التفاسير القرآنية وَتَقْيِيد الحَدِيث مَخَافَة ضيَاعه إِلَى معرفَة الاسانيد وتعديل الروَاة ثمَّ كثر اسْتِخْرَاج احكام الْوَاقِعَات من الْكتاب وَالسّنة فَصَارَت الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة ملكات فِي الاستنباط والتنظير(2/374)
واحتاجت إِلَى عُلُوم آخر وَهِي وَسَائِل اليها كقوانين الْعَرَبيَّة لفساد اللِّسَان وقوانين ذَلِك الاستنباط والذب عَن العقائد الايمانية بالأدلة لظُهُور الْبدع والالحاد
وَهَذِه كلهَا عُلُوم ذَات ملكات محتاجة إِلَى التَّعْلِيم فاندرجت فِي جملَة الصَّنَائِع واحتاجت إِلَى التَّعْلِيم وَقد تقدم أَن الصَّنَائِع من منتحل الْحَضَر وان الْعَرَب ابعد النَّاس عَنْهَا فَصَارَت الْعُلُوم لذَلِك حضرية وَبعد الْعَرَب عَنْهَا والحضر لذَلِك الْعَهْد فهم الْعَجم أَو من فِي معناهم من الموَالِي وَمن تَبِعَهُمْ فِي الحضارة من أهل الامصار فَكَانَ صَاحب صناعَة النَّحْو سِيبَوَيْهٍ والفارسي والزجاج وهم عجم فِي النّسَب لَكِن ربوا فِي(2/375)
اللِّسَان الْعَرَبِيّ فاكتسبوه بالمربي ومخالطة الْعَرَب وَحَملَة الحَدِيث أَكْثَرهم عجم أَو مستعجمون باللغة والمربي وعلماء علم الْكَلَام واصول الْفِقْه كَذَلِك وَكَذَلِكَ اكثر الْمُفَسّرين فَلم يقم بفهم الْعلم وتدوينه إِلَّا الاعاجم وَظهر مصداق قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو تعلق الْعلم بأعنان السَّمَاء لَنَالَهُ رجال من ابناء فَارس
النَّوْع الثَّانِي الْعقلِيّ وَذَلِكَ انه لم يظْهر فِي الْملَّة إِلَّا بعد أَن ظهر حَملَة الْعلم ومؤلفوه واستقرت اصنافه كلهَا صناعَة فاختصت بالعجم وَتركهَا الْعَرَب كَسَائِر الصَّنَائِع وَلم يزل فِي امصارهم طول مَا بقيت حضارتها كالعراق وخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر فَلَمَّا خربَتْ تِلْكَ الامصار وَذَهَبت مِنْهَا الحضارة الَّتِي هِيَ سر الله فِي حُصُول الْعُلُوم والصنائع ذهب الْعلم جملَة لما شملهم فِي البداولة واختص بالامصار الموفورة الحضارة
قَالَ وَلَا اوفي الْيَوْم حضارة من مصر فَهِيَ أم الْعُلُوم وديوان الْإِسْلَام وينبوع الْعُلُوم والصنائع وَبَقِي بعض الحضارة فِيمَا وَرَاء النَّهر بالدولة الَّتِي فِيهَا فَلهم بذلك حِصَّة من الْعُلُوم والصنائع لَا تنكر وَاعْتبر ذَلِك بِمَا تقدم لَهُ من وُقُوفه على كتب التَّفْتَازَانِيّ
قَالَ واما غَيره من الْعَجم فَلم ير لَهُم بعد من بعد الْأَمَام فَخر الدّين ونصير الدّين الطوسي كَلَام يعول على نهايته فِي الاجادة(2/376)
قَالَ فَاعْتبر ذَلِك وتأمله تَرَ عجبا فِي احوالك الخليقة وَالله يخلق مَا يَشَاء لَا اله إِلَّا هُوَ
الِاعْتِبَار الثَّانِي
قلَّة وجود الْعلم فِي الْعَرَب وَذَلِكَ لَان الَّذين ادركوا مِنْهُم الحضارة وَخَرجُوا اليها عَن البداوة صرفُوا عَن النّظر فِي الْعلم لامرين
أَحدهمَا اشتغالهم بالرياسة فِي الدولة العباسية وَمَا دفعُوا اليه من الْقيام بِالْملكِ ووظائف الامارة فهم كَانُوا اولياء ذَلِك والقائمين بأعبائه
الثَّانِي انفتهم من انتحال الْعلم حِينَئِذٍ لمصيره من جملَة لاصنائع وشأن الؤساء استنكافهم عَن المهنة بهَا أَو بِمَا يجر اليها فدفعوا ذَلِك إِلَى من قَامَ بِهِ من الْعَجم والمولدين لَكِن مَا زَالُوا يرَوْنَ لَهُم حق الْقيام بِهِ فَإِنَّهُ دينهم وعلومهم وَلَا يحتقرون حملتها كل الاحتقار حَتَّى إِذا خرج الْأَمر من الْعَرَب إِلَى الْعَجم صَارَت الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة غَرِيبَة النّسَب عِنْد أهل الْملك بِمَا هم عَلَيْهِ من الْبعد عَن نَسَبهَا وامتهن حملتها لبعدهم عَنْهُم واشتغالهم بِمَا لَا يجدي عَلَيْهِم فِي الْملك فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَعند ذَلِك فَظَاهر قلَّة وجود الْعلم فِي الْعَرَب وكثرته فِي الاعاجم(2/377)
الخاتمة فِي سياستي الْمَعيشَة وَالنَّاس
وَقبل الْخَتْم بهما فَهُنَا مقدمتان
إِحْدَاهمَا فِي التَّقْوَى والاخرى فِي حسن الْخلق إِذْ برعاية هَاتين الخصلتين صَلَاح المعاش والمعاد وَمن ثمَّ تأكدت عناية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْوَصِيَّةِ بهما فَعَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّقِ الله حَيْثُ مَا كنت وَاتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها وخالق النَّاس بِخلق حسن
الْمُقدمَة الأولى فِي التَّقْوَى
وفيهَا مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى سبق فِي مُقَدمَات الْكتاب أَن الْمَقْصُود بالخلق لَيْسَ مُجَرّد الدُّنْيَا فَقَط بل الدّين المتكفل بنيل سَعَادَة الابد فِي الدَّار الاخرة وَحِينَئِذٍ بِحَسب الِاعْتِبَار فالدنيا وَضعهَا لأخذ الزَّاد مِنْهَا فِي السَّعْي للفوز بِهَذِهِ السَّعَادَة وَهُوَ التَّقْوَى الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} فَمن انْقَضى عَلَيْهِ نفس من انفاس عمره لَا يشْتَغل فِيهِ بِأخذ الزَّاد فقد أخل بِمَا قصد بِهِ وضيع(2/379)
مَا لَا قيمَة لَهُ فِي اعتداده بِمَا لَيْسَ بِشَيْء وَهُوَ الخسران الْمُبين وَمن ثمَّ قَالَ الْحجَّاج واعجب ذَلِك الْحسن رَضِي الله عَنهُ أَن امْرَءًا تمْضِي هَل سَاعَة فِي غير مَا خلق لَهُ لجدير أَن تطول عَلَيْهَا حسرته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَفِي مَعْنَاهُ قَالَ الْبَاجِيّ رَحمَه الله
(إِذا كنت اعْلَم علما يَقِينا ... بِأَن جَمِيع حَياتِي كساعة)
(فَلم لَا اكون ضنينا بهَا ... وَاجْعَلْهَا فِي صَلَاح وَطَاعَة)
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة
مِمَّا يدل على أَن هَذِه الْخصْلَة الْعَظِيمَة اشرف غايات الْوُجُود الانساني وارفع مَا يترقى بِهِ لاحراز تِلْكَ السَّعَادَة إِنَّهَا وَصِيَّة الله تَعَالَى للاولين والآخرين من عباده قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا الله}
قَالَ الْغَزالِيّ لَو كَانَت فِي الْعَالم خصْلَة هِيَ أصلح للْعَبد من هَذِه الْخصْلَة الْأَمر بهَا عباده ووصى خواصه فَلَمَّا اقْتصر عَلَيْهَا علمنَا إِنَّهَا الْغَايَة الَّتِي لَا تجَاوز والخصلة الجامعة لخير الدُّنْيَا والاخرة
قلت ولأمر مَا تكَرر الحض عَلَيْهَا فِي الْكتاب الْعَزِيز تَصْرِيحًا وتلويحا
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ ذكرهَا فِي كِتَابه تَعَالَى نصا فِي نَحْو مائَة وَتِسْعين موضعا وَوَقعت بِالْمَعْنَى فِيمَا لَا يُحْصى قَالَ
ولكثرة ذكر الله تَعَالَى لَهَا لم تجر على لِسَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا قَلِيلا
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة
من فوائدها الجامعة بَين خير الدُّنْيَا والاخرة امور يَكْفِي مِنْهَا عشرَة(2/380)
الْفَائِدَة الأولى
التأييد والنصرة أَن الله مَعَ الَّذِي اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ قَالَ الْعلمَاء الْمَعِيَّة معيتان عَامَّة وَهِي معية الاحاطة وَالْعلم وَهُوَ مَعكُمْ اينما كُنْتُم وخاصة وَهِي معية المعونة والنصرة {إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا}
قَالَ صَاحب مشارع الاشواق وَهَذِه معية منوطة بالعبودية الْخَالِصَة من شوائب المخالفات فَمن كَانَ عبد الله حَقًا فَلَا غَالب لَهُ إِذْ الله مَعَه وَهُوَ ناصره ومؤيده {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} من الله
الْفَائِدَة الثَّانِيَة
الحراسة من الاعداء وان تصبروما وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فَإِن فعلموها يَعْنِي الصَّبْر وَالتَّقوى لَا يصل اليكم كيدهم شَيْئا فَإِن الله مُحِيط بعلمهم ويمكر لكل ماكر امسكه الله أَو ارسله وان ادركتم قَوْله {فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تشكرون} أَي اتَّقوا الله أَن تدفعوها بنخوة تخَالف الشَّرِيعَة أَو بكبر يضاد الْملَّة وخذوها بامتثال الْحُدُود وَالْقِيَام تَحت جَرَيَان الْمَقَادِير تَكُونُوا من الشَّاكِرِينَ
واجل الشُّكْر مَا كَانَ على المصائب انْتهى(2/381)
الْفَائِدَة الثَّالِثَة
النجَاة من الشدائد وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ إِذا صدق العَبْد فِي تقواه سَله من الْمعاصِي كالشعرة من الْعَجِين تقيا نقيا وَكَفاهُ المهم وَلم يبتله بِالشغلِ وَلَا كلفه طلب الرزق وَلَا مكن مِنْهُ الْخلق وجلى عَنهُ الظُّلم وَيسر لَهُ العسير كَمَا قَالَ وَمن {يتق الله يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا} وان سبق مِنْهُ تَفْرِيط وَعَاد إِلَى التَّقْوَى كفر عَنهُ مَا مضى وَذَلِكَ قَوْله يكفر سيئاته انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ
الْفَائِدَة الرَّابِعَة
حُصُول الْعَاقِبَة الْحسنى وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ يَعْنِي الَّذين استعانوا بِاللَّه وصبروا على بلَاء الله وَرَضوا بِقَضَاء الله وَلم يُؤثر فيهم الْخُرُوج من الوطن وَلَا تعذر الزَّمن
الْفَائِدَة الْخَامِسَة
اصلاح الاعمال {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا يصلح لكم أَعمالكُم}
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قيل سددوا اقوالكم تسدد اعمالكم وَلَقَد رفع عَنْك الْحَرج من رَضِي عَنْك بِحَالَة وقالة فالحالة ترك الشّرك والقالة كلمة الشَّهَادَة فَإِذا فَعلْتُمْ ذَلِك اصلح الله اعمالكم الدُّنْيَوِيَّة من الْخلَل وَغفر لكم فِي الْآخِرَة الزلل فحصلت لكم سَعَادَة الدَّاريْنِ(2/382)
قَالَ وَمن فَوَائِد أبي سعيد الشَّهِيد ذكر الاعمال بِالْجمعِ وقدمها على الغفران لِأَنَّهُ مَا لم تصلح اعمالك وَلم تكفك اشغالك لم تتفرغ لحَدِيث آخرتك
الْفَائِدَة السَّادِسَة
الرزق الْحَلَال {وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} خرج ابْن الْمُبَارك عَن الْحسن قَالَ لزم رجل بَاب عمر رَضِي الله عخنه كلما خرج رَآهُ بِالْبَابِ فَقَالَ يَوْمًا انْطلق فأقرأ الْقُرْآن فَإِنَّهُ سيغنيك عَن بَاب عمر فَانْطَلق الرجل فَقَرَأَ الْقُرْآن فَفَقدهُ عمر فَجعل يَطْلُبهُ إِذْ رَآهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ يَا فلَان لقد فقدناك فَمَا الَّذِي حَبسك عَنَّا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرتنِي أَن اقْرَأ الْقُرْآن فَقَرَأته فإنني عَن بَاب عمر فَقَالَ لَهُ وَمَا قَرَأت قَالَ {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فقه الرجل فلأجل هَذَا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى من تحقق بالتقوى هون الله عَلَيْهِ الاعراض عَن الدُّنْيَا
الْفَائِدَة السَّابِعَة
فتح ابواب البركات الكفيلة باتمام النِّعْمَة وَحسن عَاقبَتهَا {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض}
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَلَو اتَّقوا مَا حذرناهم مِنْهُ واعتبروا بِمن سلف قبلهم من الامم لمكناهم من امالهم الدُّنْيَوِيَّة وعصمناهم من الافات
قَالَ وَلَيْسَ الْعبْرَة فِي النِّعْمَة وانما الْعبْرَة فِي الْبركَة فِيهَا وَلَيْسَت الْعبْرَة فِي الْبركَة إِنَّمَا الْعبْرَة فِي الْعَاقِبَة وَهِي الرِّضَا(2/383)
الْفَائِدَة الثَّامِنَة
الْكَرَامَة والعزة {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم}
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَذَلِكَ من أعظم مراتبها واكثر فوائدها وَأجل ثمراتها فَأكْرم الْخلق عِنْد اله أَكْثَرهم وقاية وَمن استوفاها فَهُوَ اقْربْ إِلَى الله وارفع مرتبَة لَدَيْهِ
قَالَ فِي احكامه وَفِي الحَدِيث الْحسب يُسَاوِي المَال وَالْكَرم يُسَاوِي التَّقْوَى
الْفَائِدَة التَّاسِعَة
الْبشَارَة فِي الدُّنْيَا وَعند الْمَوْت الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ الَّذين قَالُوا لَا اله إِلَّا الله ووفوا بذلك فِي الاعتقادات والتحرز من الغفلات والتوقي من الشُّبُهَات دع عَنْك الْمُحرمَات لَهُم الْبُشْرَى قطعا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا بالمعيشة الطّيبَة وَفِي الْأُخْرَى بالحالة المرضية
الْفَائِدَة الْعَاشِرَة
رَجَاء الرَّحْمَة وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ ترحمون
قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد التَّقْوَى على كمالها عزيزة الْوُجُود واجتماع خصالها مُتَعَذر وَرَحْمَة الله تَعَالَى لَا تَنْحَصِر فيستقيم حمل(2/384)
الْأَمر بهَا مَعَ الترجية على انه فِي كل خصْلَة مِنْهَا على انفرادها مَعَ قطع النّظر عَن غَيرهَا لِأَن الاية لَيست نصا فِي عُمُوم التَّقْوَى وَلَا فِي عُمُوم الرَّحْمَة لِأَن اتَّقوا وترحمون فعلان فِي الاثبات لَا عُمُوم لَهما وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث الْبَغي فِي البُخَارِيّ وَحَدِيث غُصْن الشوك فِي الْمُوَطَّأ
قَالَ وَمن هَذَا الْبَاب خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا ثمَّ رجام برحمة التَّوْبَة عَلَيْهِم أجل عَمَلهم الصَّالح وان كَانَ مشوبا بِشَيْء
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة
مَحل هَذَا التَّقْوَى الْقلب لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّقْوَى هَا هُنَا اشار إِلَى صَدره فالعناية بِهِ لذَلِك ولتوقف صَلَاح سَائِر الْجَوَارِح عَلَيْهِ متأكدة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله إِلَّا وَهِي الْقلب
قَالَ الْغَزالِيّ وصلاحه بتقدم تَطْهِيره من حب الدُّنْيَا هُوَ رَأس كل خَطِيئَة والداء العضال الَّذِي اعجز الْخلق
قَالَ وَطَرِيقه فِي ذَلِك بِمَعْرِِفَة عيب الدُّنْيَا وآفتها وَشرف الاخرة ورتبتها
قَالَ واقل آفاتها وَهُوَ مُتَيَقن للعاقل وَالْجَاهِل إِنَّهَا منقضية على الْقرب وسعادة الاخرة لَا انْقِضَاء لَهَا هَذَا أَن سلمت من الموذيات والمكدرات وهيهات لم يسلم أحد من ذَلِك(2/385)
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة
قَالَ الْغَزالِيّ حَدهَا تبرئة الْقلب عَن شَرّ لم يسْبق اليك مثله بِقُوَّة الْعَزْم على تَركه حَتَّى يصير ذَلِك وقاية بَيْنك وَبَين كل شَرّ
قَالَ ثمَّ الشرور قِسْمَانِ اصلي كالمعاصي المحضرة وَغير اصلي كالمباح الْمَأْخُوذ بِشَهْوَة وتقوى الأول فرض وَهِي ادنى الدَّرَجَات وتقوى الثَّانِي ادب وَهِي اعلاها وَالْجمع بَينهمَا هُوَ الْكَمَال الْجَامِع لكل خير فِيهَا وَهُوَ الْوَرع الَّذِي هُوَ ملاك الدّين انْتهى مُلَخصا
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة
قَالَ الْعلمَاء منَازِل التَّقْوَى ثَلَاثَة عَن الشّرك وَعَن الْبِدْعَة وَعَن الْمعاصِي
قَالَ الْغَزالِيّ وَقد ذكرهَا الله تَعَالَى فِي آيَة وَاحِدَة فِي قَوْله {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا وآمنوا ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا} فالاولى عَن الشّرك والايمان فِي مُقَابلَة التَّوْحِيد وَالثَّانيَِة عَن الْبِدْعَة والايمان الَّذِي ذكر مَعَهُمَا إِقْرَار بِالسنةِ وَالْجَمَاعَة وَالثَّالِثَة عَن الْمعاصِي الفرعية والاقرار فِيهَا مقابلها بالاحسان وَهُوَ الطَّاعَة والاستقامة عَلَيْهَا
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة
تفْتَقر التَّقْوَى إِلَى عُلُوم ثَلَاثَة
الْعلم الأول المتقى وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ لقَوْله تَعَالَى {وَاتَّقوا الله} فَإِذا لَا تصح إِلَّا بعد مَعْرفَته بأسمائه وَصِفَاته ووعوده ووعيده ضَرُورَة لِأَن تعبده بهَا ثَان عَن معرفَة المتعبد لَهُ بِمَا يجب لوُجُوده الْمُقَدّس جلّ جَلَاله(2/386)
الْعلم الثَّانِي وَهُوَ المتقى بِهِ وَهُوَ الْعَمَل بالطاعات وَاجْتنَاب السَّيِّئَات قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد من لَا يعرف مَا يعْمل وَلَا مَا يتْرك لَا يَصح أَن يكون متقيا وَألا فيتقي مَاذَا
وَقد قَالَ الْقَائِل
(خل الذُّنُوب صغيرها ... وكبيرها فَهُوَ التقى)
(واصنع كماش فَوق ارْض ... الشوك يحذر مَا يرى)
(لَا تحتقرن صَغِيرَة ... أَن الْجبَال من الْحَصَا)
قَالَ وَلَا شكّ أَن الْأَعْمَى لَا يعرف الشوك من غَيرهَا ليتقيها فَلَا بُد لَهُ أَن يَقع فِيهَا كَذَلِك كل من لَا يعرف طرق الشَّرْع اعمى عَنْهَا حَيْثُ لَا يتَصَوَّر أَن يسلكها انْتهى
قلت وَمن هُنَا يجب علم مَا بِهِ التَّقْوَى الْوَاجِبَة من بَاب مَا لَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب
الْعلم الثَّالِث الْبَاعِث على التَّقْوَى وَهُوَ الفكرة الْمعبر عَنْهَا بِالذكر الْخَفي وَهُوَ ذكر الله تَعَالَى عِنْد أمره وَنَهْيه
قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد من لَا يعرف موضعهَا لَا يكون لَهُ باعث على التَّقْوَى
قَالَ وموضوعها امران
أَحدهَا فَوَائِد التَّقْوَى
قلت وَقد سبق مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَة
الثَّانِي الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بأقوال الْعباد واعمالهم وَهِي خَمْسَة عشر حكما مَنْصُوصا عَلَيْهَا من علمهَا مَعَ تِلْكَ الْفَوَائِد فقد توفرت عِنْده دواعي التَّقْوَى وَعلم علومها الَّتِي تضمنها قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء}(2/387)
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة
الْأَحْكَام الَّتِي أَشَارَ اليها هِيَ الِاطِّلَاع والترقب والتلقي وَالْحِفْظ والاملاء والكتب والاتساخ والتعاقب والمقابلة وَالْعرض وَالدُّعَاء والاداء والروية وَالْوَزْن وَالْجَزَاء
فَالْأول وَهُوَ الِاطِّلَاع أَنْوَاع أَحدهَا اطلَاع الله تَعَالَى {ونعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه} {ألم يعلم بِأَن الله يرى}
(إِذا مَا خلوت الدَّهْر يَوْمًا فَلَا تقل خلوت وَلَكِن قل على رَقِيب ... وَلَا تحسبن الله يغْفل سَاعَة وَلَا أَن مَا يخفى عَلَيْهِ يغيب)
الثَّانِي اطلَاع الْحفظَة الْكِرَام وان عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
قلت وَفِي الحَدِيث أَن لسَانك قلمهم وَرِيقك مدادهم وَمَا ينطوي الْقلب عَلَيْهِ قَلِيل يطلعون عَلَيْهِ وَذَلِكَ بعلامة يَجْعَلهَا الله لَهُم وَقيل يبْقى عَنْهُم مغيبا
الثَّالِث اطلَاع جَمِيع الْمَلَائِكَة لما ورد أَن الْعَرْش مرآتهم الَّتِي يرَوْنَ فِيهَا جَمِيع الْوُجُود كالادميين واحوالهم ليشهدوا لَهُم وَعَلَيْهِم فِي الاخرة
وَالثَّانِي هُوَ الترقب من الْحفظَة {مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} أَي حَاضر فَهُوَ بِمَعْنى الْمُلَازمَة قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد وَفِي هَذَا يُفَارق الِاطِّلَاع يُرِيد الْمُتَقَدّم الذّكر قَالَ إِذْ الْمُلَازمَة أَمر زَائِد على الْعلم
قلت وَكتب الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي على هَذَا الْموضع وَمن خطه نقلت وَتَأمل اطلَاع ابليس وقبيله على احوال العَبْد {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم}(2/388)
وَالثَّالِث وَهُوَ التلقي فِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد} وَمَعْنَاهَا أَخذ الْملكَيْنِ الْكَاتِبين عَنْك اقوالك وافعالك قبل أَن توخذ عَنْك وَمثله تلقي الركْبَان فَإِذا صدرت مِنْك حَسَنَة أَو سَيِّئَة بقوله أَو فعل تلقياها قبل النَّاس أَجْمَعِينَ
قَالَ الاستاذ وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُبَادرَة وَذَلِكَ أَمر زَائِد على الْمُلَازمَة وَالْعلم
وَالرَّابِع وَهُوَ الْحِفْظ فَمن قَوْله تَعَالَى {وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين} وَمَعْنَاهُ خلاف النسْيَان أَي يعلمونه ثمَّ لَا ينسونه إِلَى أَن يؤدوا الشَّهَادَة يَوْم الْقِيَامَة فَيكون الْعَمَل مَكْتُوبًا فِي كتبهمْ مَحْفُوظًا فِي نُفُوسهم
وَالْخَامِس وَهُوَ الاملاء وَمَعْنَاهُ القاؤك على الْملكَيْنِ كل مَا تَقوله من خير أَو شرك فَإِن أكثرت اكثرا وَإِن اقللت قللا فمستفاد من قَوْله تَعَالَى {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان} الاية أَي مَا يلقيه العَبْد كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تَقول لمن تحدث بعد الْعَتَمَة أَلا تريحون الْكتاب
السَّادِس وَهُوَ الْكتب فَفِي قَوْله {إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} كراما كاتبين قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَن لله مَلَائِكَة ينزلون كل يَوْم بِشَيْء يَكْتُبُونَ فِيهِ اعمال الْعباد
وَالسَّابِع وَهُوَ الاستنساخ فِي قَوْله تَعَالَى هَذَا كتَابنَا ينْطق عَلَيْكُم بِالْحَقِّ انا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كنت تعلمُونَ(2/389)
قَالَ الاستاذ فسره ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بِأَن الله تَعَالَى خلق النُّون وَهِي الدواة وَخلق الْقَلَم فَقَالَ اكْتُبْ قَالَ وَمَا أكتب قَالَ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من عمل مَعْمُول برا وفجورا ورزق مقسوم من حَلَال أَو حرَام ثمَّ ألزم كل شَيْء من ذَلِك شَأْنه دُخُوله فِي الدُّنْيَا ومقامه فِيهَا وَخُرُوجه مِنْهَا كم هُوَ ثمَّ جعل على الْعباد حفظَة كتابا وعَلى الْكتاب خزانا فالحفظة ينسخون فِي كل يَوْم من الْخزَّان عمل ذَلِك الْيَوْم فَإِذا فنى ذَلِك الرزق وَانْقطع الاثر وانقضى الاجل أَتَت الْحفظَة الخزنة يلطبون عمل ذَلِك الْيَوْم فَتَقول الخزنة مَا نجد لصاحبكم عندنَا شَيْئا فترجع الْحفظَة فيجدونه قد مَاتَ
ثمَّ قَالَ ابْن عَبَّاس ري الله عَنهُ ألستم قوما عربا تَسْمَعُونَ الْحفظَة تَقول انا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تعلمُونَ وَهل يكون الاستنساخ إِلَّا من اصل قَالَ فقد اخبرك ابْن عَبَّاس أَن على الْعباد حفظَة وعَلى الْحفظَة خزانا يسمون أَيْضا حفظَة الْحفظَة
وَالثَّامِن وَهُوَ التَّعَاقُب فَالْمُرَاد بِهِ تعاقب الْمَلَائِكَة فِي الْخلق لَيْلًا وَنَهَارًا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ الحَدِيث قَالَ الاستاذ وَهُوَ مُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى {وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} فهم يتعاقبون عِنْد مَا يرسلون
وَالتَّاسِع وَهُوَ الْمُقَابلَة فَهِيَ فِي الاتنساخ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فرغ الله مِمَّا هُوَ كَائِن تنسخ الْمَلَائِكَة مَا يعْمل الْعباد يَوْمًا فيوما من اللَّوْح الْمَحْفُوظ فيقابل بِهِ عمل الانسان لَا يزِيد على ذَلِك وَلَا ينقص
والعاشر وَهُوَ الْعرض فَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ تعرض الاعمال يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس فَأحب أَن يعرض عَمَلي وَأَنا(2/390)
صَائِم قَالَ الاستاذ قيل أَن المعروض مَا كتبت الْمَلَائِكَة وَألا فالاعمال مَعْلُومَة لله تَعَالَى فِي كل وَقت وَعند الْعرض ينْسَخ مِنْهَا مَا يجْرِي عَلَيْهِ من خير ويلغى سائره والمكتوب اولا هُوَ الْجَمِيع
قَالَ وَتعرض أَيْضا على ارواح المعارف الْمُؤمنِينَ وعَلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليشهدون بهَا وَقع ذَلِك فِي رقائق ابْن الْمُبَارك انْتهى
وَالْحَادِي عشر وَهُوَ الدُّعَاء فَفِي قَوْله تَعَالَى {كل أمة تدعى إِلَى كتابها} أَي إِلَى الْكتاب الَّذِي كتبته حَفظتهَا فِي الدُّنْيَا
الثَّانِي عشر وَهُوَ الاداء فَفِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ قرينه هَذَا مَا لدي عتيد} أَي هَذَا مَا عِنْدِي حَاضر مِمَّا كتبته عَلَيْهِ فَهُوَ أَدَاء شَهَادَة يحملهَا القرين فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ أَدَاء الاعضاء وَالْأَرْض بشهادتها يَوْم تشهد عَلَيْهِم ألسنتهم وايديهم وارجلهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ وَالْأَرْض يَوْمئِذٍ تحدث اخبارها
الثَّالِث عشر وَهُوَ الرُّؤْيَة فَفِي قَوْله تَعَالَى {ليروا أَعْمَالهم فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره}
وَالرَّابِع عشر وَهُوَ الْوَزْن فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون} الاية حمل على الموزونات أَو على انه اتى بِلَفْظ الْجمع تَعْظِيمًا لشأنه وتحذيرا من السَّيِّئَات وتحريضا على الْحَسَنَات(2/391)
قَالَ بعض الشُّيُوخ وَلَو لم تسمع من الْقُرْآن إِلَّا هَذِه الاية لَكَانَ فِيهَا للعاقل كِفَايَة لاشتمالها على الْوَعيد التَّام لأهل الذُّنُوب والوعد الْجَمِيل لأهل الطَّاعَات
وَالْخَامِس عشر وَهُوَ الْجَزَاء {الْيَوْم تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} {ليجزي الله كل نفس مَا كسبت}
قلت وَمن ثمَّ سميت الْقِيَامَة بِيَوْم الْجَزَاء اعلاما بِأَن لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ أَي لَا تقضي وَلَا تفدى لقَوْله تَعَالَى {فاليوم لَا يُؤْخَذ مِنْكُم فديَة}
قَالَ أما انه يقْضِي بِغَيْر اخْتِيَاره من حَسَنَاته بِمَا عَلَيْهِ من الْحُقُوق
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة
قَالَ الشَّيْخ عز الدّين النَّاس فِي رُتْبَة مشقة التَّقْوَى على ثَلَاثَة
أَحدهَا شَاب نَشأ فِي عبَادَة الله وَلَا تقع مِنْهُ إِلَّا الصَّغَائِر نَادرا فرعايتها سهلة عَلَيْهِ لمصيرها كالعادة المألوفة لَهُ وَمهما وَقعت مِنْهُ الزلة استوحش مِنْهَا وبادر إِلَى الاقلاع عَنْهَا
الثَّانِي تائب من ذنُوبه بعد مَا ألف الْمعاصِي فنفسه تذكره بشهواتها والشيطان يحثه على ذَلِك فرعايتها شاقة عَلَيْهِ لما ألف من الركون إِلَى الشَّهَوَات والاستراحة من مشقة الطَّاعَات
الثَّالِث مُسلم موحد مرتكب جَمِيع مَا يهواه من الْمعاصِي والمخالفات(2/392)
فرعايتها شَدِيدَة الْمَشَقَّة لما يفوتهُ من تِلْكَ الشَّهَوَات ويشق عَلَيْهِ من مُلَابسَة الطَّاعَات
الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة
تقدم فِي الْبَاعِث على التَّقْوَى مَا يُؤْخَذ مِنْهُ تسهيل مشقتها وَحَاصِله بالخوف تَارَة وبالرجاء أُخْرَى وَمن ثمَّ قَالَ الشَّيْخ عز الدّين إِذا نظر إِلَى مَا أعد الله لِلْمُتقين من الكرامات حثه على حتمال مشقة الطَّاعَات وَإِذا نظر إِلَى مَا توعد بِهِ العصاة من الْعقَاب حثه على أَن يتقيها بملازمة المشقات فِي اقامة الطَّاعَات
قَالَ وَلَا بُد من استحضار ذَلِك دَائِما حَتَّى يصير الثَّوَاب وَالْعِقَاب نصب عين فيحثاه على فعل الطَّاعَات وَترك المخالفات
الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي حسن الْخلق
وَقد سبق فِي مُقَدمَات الْبَاب الثَّانِي من الْكتاب الثَّانِي أَيْضا مَا هُوَ من فُصُول هَذَا الْمقَام وكماله الْآن بِمَا يفْتَقر اليه من مسَائِله
الْمَسْأَلَة الأولى
قَالَ الْغَزالِيّ هُوَ صفة سيد الْمُرْسلين وَأفضل اعمال الصديقين والاخلاق السَّيئَة هِيَ السمُوم القاتلة والمخازي الفاضحة(2/393)
وَقَالَ الطرطوشي وَاعْلَمُوا أَن الْخلق الْحسن افضل مَنَاقِب العَبْد وَبِه يظْهر جَوَاهِر الرِّجَال
قَالَ والانسان مَشْهُور بخلقه فَإِن الله تَعَالَى خص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا خصّه بِهِ من الْفَضَائِل وَلم يثن عَلَيْهِ بِشَيْء بِمثل مَا أثنى عَلَيْهِ بخلقه فَقَالَ {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم}
قَالَ وَعَن هَذَا قَالَ الشُّيُوخ أَن الله دَعَا الْخلق اليها كَمَا دَعَا نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة
من فضائله المرغب فِيهَا أُمُور أَحدهَا دلَالَته على أَن المنتصف بِهِ من خِيَار الْعباد فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاحِشا وَلَا متفحشا وَكَانَ يَقُول أَن من خياركم أحسنكم خلقا
الثَّانِي انه أثقل مَا يوضع فِي ميزَان الْحَسَنَات يَوْم الْقِيَامَة فَعَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا شَيْء اثقل فِي ميزَان الْمُؤمن يَوْم الْقِيَامَة من خلق حسن وَالله يبغض الْفَاحِش الْبَذِيء رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
الثَّالِث أَن صَاحبه احب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقرب النَّاس اليه فِي الْآخِرَة فَعَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا انه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِلَّا اخبركم بأحبكم الي وأقربكم مني مَجْلِسا(2/394)
يَوْم الْقِيَامَة قَالُوا نعم يَا رَسُول الله قَالَ أحسنكم خلقا رَوَاهُ الْأَمَام احْمَد
الرَّابِع تبليغه لَا عظم الدَّرَجَات مَعَ التَّقْصِير فِي الْعَمَل فَعَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَن العَبْد ليبلغ بِحسن خلقه عَظِيم دَرَجَات الاخرة وَشرف الْمنَازل وانه لضعيف الْعِبَادَة وانه ليبلغ بِسوء خلقه أَسْفَل دَرَجَة فِي جَهَنَّم
الْخَامِس انه فِي مُعَاملَة الْخلق لما يفوت من ارضائهم بِمَعْرُوف المَال فَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انكم لن تسعوا النَّاس بأموالكم وَلَكِن يسعهم مِنْكُم بسط الْوَجْه وَحسن الْخلق
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة
لحسن الْخلق عَلَامَات تدل على عدوى الْوَفَاء بهَا بعد المجاهدة
قَالَ الْغَزالِيّ وَأول مَا يمْتَحن بِهِ الصَّبْر على الاذى وَاحْتِمَال الجفا قَالَ وَقَالَ يُوسُف بن اسباط علامتها عشرَة اشياء قلَّة الْخلاف وَحسن الانصاف وَترك طلب العثرات وتحسين مَا يَبْدُو من السَّيِّئَات والتماس المعذرة وَاحْتِمَال الاذى وَالرُّجُوع بالملامة على النَّفس والتفرد بِمَعْرِِفَة عُيُوب نَفسه دون عُيُوب غَيره وطلاقة الْوَجْه للكبير وَالصَّغِير ولطف الْكَلَام لمن دونه وفوقه(2/395)
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة
قَالَ الْغَزالِيّ وَلم يبلغ كَمَال الِاعْتِدَال فِيهَا يَعْنِي الْخلق الْحسن إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس بعده متفاوتون فِي الْقرب والبعد مِنْهُ
قَالَ فَكل من قرب مِنْهَا فَهُوَ قريب من الله تَعَالَى بِقدر قربه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكل من جمع كمالها اسْتحق أَن يكون بَين الْخلق ملكا مُطَاعًا يرجعُونَ اليه ويقتدون بِهِ وَمن انْفَكَّ عَن جُمْلَتهَا واتصف بأذدادها اسْتحق أَن يخرج من بَين الْعباد لقُرْبه من الشَّيْطَان اللعين المبعد وَلم يبْعَث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بتميم محَاسِن الاخلاق
قلت مثله للطرطوشي وَهُوَ مَقْطُوع بِهِ من سيرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة
الحكايات فِي حسن الْخلق مُتعَدِّدَة وَيَكْفِي مِنْهَا فِي الْموضع حكايتان
الْحِكَايَة الأولى يرْوى أَن عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا كَانَ يمِيل وَجهه إِلَى السوَاد إِذْ كَانَت أمه سَوْدَاء وَكَانَ لَهُ فِي نيسابور على بَاب دَاره حمام وَكَانَ إِذا دخله فرغ لَهُ فدخله يَوْمًا فاطبق بَابه وَمر الحمامي إِلَى بعض حَوَائِجه فَتقدم انسان رستاقي وَنزع ثِيَابه وَدخل الْحمام فَرَأى عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا رَضِي الله عَنهُ فَظن أَنه بعض خدم الْحمام فَقَالَ لَهُ قُم فاحمل الي المَاء فَقَامَ وامتثل جَمِيع مَا كَانَ يَأْمُرهُ بِهِ فَرجع الحمامي فَرَأى ثِيَاب(2/396)
الرستاقي وَسمع كَلَامه مَعَ عَليّ بن مُوسَى فخاف وهرب وخلاهما فَلَمَّا خرج عَليّ بن مُوسَى وَسَأَلَ عَن الحمامي فَقيل لَهُ خَافَ مِمَّا جرى فهرب فَقَالَ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يهرب أَن الذَّنب على من وضع مَاءَهُ عِنْد أمة سَوْدَاء هلا اخْتَار
الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل كَانَ مُحَمَّد بن سَحْنُون ايام قَضَائِهِ بأفريقية إِذا قعد للتدريس أَتَاهُ انسان يتخطى رِقَاب النَّاس حَتَّى يصل اليه فيحدثه سَاعَة فِي أُذُنه ثمَّ ينْصَرف فبقى كَذَلِك مُدَّة وَكَانَ إِذا اقبل يَقُول القَاضِي لجماعته افسحوا لَهُ وَيَأْتِي فيفعل الْعَادة ثمَّ انْقَطع بعد ذَلِك مُدَّة فَسَأَلَ عَنهُ من حَضَره فقاولوا لَا عرف خَبره فَقَالَ اطلبوه فَإِذا وجدتموه فآتوني بِهِ فوجدوه فَأتوا بِهِ اليه فَأَخذه وخلا بِهِ وَقَالَ لَهُ مَا مَنعك من عادتك فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي لي بَنَات قد كبرن واحتجن إِلَى التَّزْوِيج وَأَنا فَقير فَقَالَ لي بعض النَّاس أغضبت فلَانا فَنحْن نزيل فقرك ونجهز بناتك أَو كَمَا قَالُوا فَبَقيت تِلْكَ الْمدَّة أجيء اليك فاقذفك واشتمك وأفعل مَا قدر رَأَيْت علك تغْضب يَوْمًا فَيحصل لي مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَيِست من غضبك تركت ذَلِك إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ فَقَالَ لَهُ لَو اخبرتني كنت اقوم لَك بضرورتك ثمَّ قَالَ لَهُ اعليك سفر فَقَالَ لَهُ لَو اخبرتني كنت اقوم لَك بضرورتك ثمَّ قَالَ لَهُ اعليك سفر فَقَالَ يَا سَيِّدي أَي شَيْء اشرت بِهِ على فعلت فَأمر الْكَاتِب أَن يكْتب لَهُ كتابا بِالْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ إِلَى نوابه فِي الْبِلَاد وانه مُسْتَحقّ مِمَّن يعتني بِهِ القَاضِي فسافر إِلَى الْبِلَاد ثمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ الْأَمْوَال مَا أَزَال فقره وجهز بَنَاته(2/397)
السياسة الأولى
سياسة الْمَعيشَة
وَقبل النّظر فِيهَا فَهُنَا مُقَدمَات
الْمُقدمَة الأولى
أَن الِاكْتِسَاب للمعاش مَطْلُوب شرعا مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع كَمَا أَن تَركه مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ مَذْمُوم كَذَلِك أَو مفضول فقك كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكْتَسب لنَفسِهِ وَعِيَاله وَيدخل الاسوال لذَلِك حَتَّى قَالَت الْكَفَرَة {مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام وَيَمْشي فِي الْأَسْوَاق لَوْلَا أنزل إِلَيْهِ} توهما أَن ذَلِك ينْقض من على منصبه وحاشاه بل هُوَ الْمُعظم عِنْد الله وَأقرب إِلَى مرضاته لما فِيهِ من التَّوَاضُع والفهم عَنهُ فِي الدّلَالَة على طرق المكاسب بِحَسب مَا وضع الْوُجُود عَلَيْهِ
قَالَ الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو اسحاق الشاطبي فِي بعض تقاييده وَكَذَلِكَ اصحابه رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا بَين عَامل فِي سوقه وعامل فِي أرضه ومسافر يَبْتَغِي من فضل الله وهم الْقدْوَة لمن سوماهم وَلم يَكُونُوا يتحاشون من ذَلِك وَلَا يلحقهم فِيهِ كسل وَكَانَ الْغِنَا من مقاصدهم والتكسب من شَأْنهمْ وعَلى صِحَة ذَلِك اتّفق الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم
الْمُقدمَة الثَّانِيَة
أَن الْقيام بأمهات الصَّنَائِع الضرورية فرض على الْكِفَايَة كَمَا قَرَّرَهُ غير وَاحِد كالفلاحة وَالْبناء والخياطة وَالتِّجَارَة والحياكة حَتَّى الْحجامَة مِمَّا تَدْعُو اليه الضَّرُورَة(2/398)
غنيمَة ثاب يَنْبَغِي لمن قَامَ بِشَيْء من هَذِه الصَّنَائِع الْمَفْرُوضَة على الْكِفَايَة أَن يَنْوِي فِيهِ أَمريْن
أَحدهمَا امْتِثَال الْأَمر بِهِ وان كَانَ مَعْقُول الْمَعْنى ليحصل لَهُ الثَّوَاب من تِلْكَ الْجِهَة
الثَّانِي اسقاط الطّلب بِهِ عَن الْمُسلمين ليدْخل فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الله فِي عون العَبْد مَا كَانَ العَبْد فِي عون اخيه واذ ذَاك فَلَا فرق بَين الِاشْتِغَال بِهِ والتلبس بِالْعبَادَة الْمَحْضَة كَالصَّلَاةِ وَنَحْوهَا وَهُوَ من بَرَكَات النِّيَّة الصَّالِحَة نبه عَن ذَلِك ابْن الْحَاج وحض عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهر
الْمُقدمَة الثَّالِثَة
أَن الممعايش المبتغى بهَا طلب الرزق من جملَة الاسباب الْمَوْضُوع عَلَيْهَا تَرْتِيب الْوُجُود والاسباب من حَيْثُ هِيَ اسباب لَا اثر لَهَا بِنَفسِهَا فِي مسبباتها وَلَا هِيَ مولدة لَهَا وانما الاثر فِي الْحَقِيقَة لفاعل كل شَيْء وَهُوَ الله تَعَالَى لما نبه عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون أأنتم تخلقونه أم نَحن الْخَالِقُونَ} أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون فالامناء والحرث سَبَب يكتسبه الانسان وَمَا ينشأ عَنْهُمَا فَالله خالقه ومبدعه
تَنْزِيل
قَالَ الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي رَحمَه الله فَكَذَلِك قعُود التَّاجِر فِي الْحَانُوت مثلا هُوَ السَّبَب وَالله يُهَيِّئ لَهُ المعاش إِذْ لَا قدرَة لَهُ على جلب(2/399)
البائعين والمشترين فَهُوَ شبه ناصب يَد الْفقر إِلَى الله تَعَالَى فِي ذَلِك السَّبَب
ثَمَرَة
قَالَ وكل من علم هَذَا تحقق أَن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين ينشأ لَهُ من هَذَا الْعلم حَالَة قلبية تسمى التَّوَكُّل وَهُوَ الِاعْتِمَاد على الله والتعويل على فَضله وَرَحمته دون الِاعْتِمَاد على السَّبَب والاكتساب عَلامَة
قَالَ وعلامة ذَلِك فِي العَبْد أَن لَا يتَغَيَّر بِتَغَيُّر الاحوال فَإِن الِاكْتِسَاب لَا يُؤمن اختلافه بالكساد والنفاق والنشاط والكسل وَغير ذَلِك فقد يكون موسعا عَلَيْهِ ثمَّ يصير مَقْدُورًا عَلَيْهِ وَبِالْعَكْسِ فَإِذا كَانَ ثَابتا صَابِرًا مَعَ وجود هَذِه الْعَوَارِض فَذَلِك هُوَ الدَّلِيل على أَن قلبه مُتَعَلق بمسبب الاسباب وَهَذَا اعلى مَرَاتِب التَّوَكُّل وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ
إِذا تقرر هَذَا فَلَا نوار الاضاءة بجوامع الْعَمَل بِهَذِهِ السياسة مطالع ثَلَاثَة(2/400)
المطلع الأول
فِي كليات مِمَّا تدبر بِهِ الْمَعيشَة من جَانب الْوُجُود وَفِيه انارات
الانارة الأولى
اقتناء المكاسب فِي الْوَقْت الْمَحْمُود لذَلِك وَهُوَ سنّ الشبيبة والاكتهال وَذَلِكَ لِأَن الانسان اربعة احوال الصِّبَا والشبيبة والاكتهال والشيخوخة مانعان من ذَلِك لفساد الاعضاء وَضعف القوى لَا سِيمَا الْعقل والتجربة فِي الصِّبَا قَالُوا وَمن أول الشبيبة إِلَى مُنْتَهى الاكتهال من أَرْبَعِينَ وَذَلِكَ من الْعشْرين إِلَى السِّتين وَمَا وَرَاء السِّتين فضعيف لما تفي بتدبير نَفسه ومكابدة ضعفه وَمَا قبل الْعشْرين فَتخرج وَتعلم وَأَوَان للارتياض واكتساب الْفَضَائِل
الانارة الثَّانِيَة
توَسط سعي هَذَا الاقتناء بَين طرفِي الافراط والتفريط فَالْأول لِئَلَّا يقطع عمره فِي جَمِيع مَا يصل بِهِ إِلَى اللَّذَّات الَّتِي يُشَارِكهُ فِيهَا الْحمار وَالْخِنْزِير أَو يستعد بِهِ لمتخوف الْحَاجة وَقد وَقع فِيهَا مثلهَا أَو اشد كَمَا قيل
(وَمن ينْفق السَّاعَات فِي جمع مَاله ... مَخَافَة فقر فَالَّذِي فعل الْفقر)
وَالثَّانِي لِئَلَّا يهمل التكسب اتكالا على البخث وايثارا لدواعي الطباع من غير مَادَّة كَافِيَة فيضيع الحزم ويعجز عَن غَايَة مَا اخْتَارَهُ ومقصد اليه إِذْ لَا قدرَة عَلَيْهِ غَالِبا إِلَّا بِالْمَالِ(2/401)
الانارة الثَّالِثَة
توسع الْحِيلَة فِي الِاكْتِسَاب بِحَسب مزِيد الفطنة وجودة الْفِكر والروية قَالَ بعض الْحُكَمَاء يتحَرَّى ايضا بِبَالِهِ ضروب المهن وَمَا يُمكنهُ أَن ينفذ فِيهِ حِيلَة وَلَا يحفل فِيمَا يُنْفِقهُ من ذَلِك بقول قَائِل
قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُنَا فِي خدمَة السُّلْطَان والصنائع اللطيفة اشياء يُمكن الْفَهم أَن يخترع مِنْهَا فِي بلد دون بلد وَوقت دون وَقت مكسبا يُخَالف بِهِ الْعَامَّة أَن ساعده البخت
الانارة الرَّابِعَة
سَلامَة السَّعْي من الضّر وَكَثْرَة التَّعَب وان كَانَ الرِّبْح اقل وَحَيْثُ لَا يتهيأ ذَلِك ويضطر إِلَى الْحَرَكَة وخصوصا فِي الْبَحْر فعلى شرطين
أَحدهمَا تخير الاوقات الَّتِي تغلب فِيهَا السَّلامَة مَعَ تقدم استجادة المراكب الْكِبَار غير الْقَدِيمَة والكاملة الْعدة الحاذقة النواتية
وَالثَّانِي تقليل مَسَافَة الجري فِيهِ مَا أمكن قَالَ بعض الْحُكَمَاء وَهَذِه امور مَتى احرزها الحازم مَعَ تقليل ركُوبه كَانَت أقرب إِلَى السَّلامَة
الانارة الْخَامِسَة
اقتصاد النَّفَقَة بتوسطها بَين رذيلتي السَّرف والتبذير قَالَ الْبَلْخِي المَال إِنَّمَا يقتني ليرتفق بِهِ فِي مصَالح المعاش وبازاء كل جمع مِنْهُ تَفْرِيق وَمُقَابل كل كسب مِنْهُ اتِّفَاق وَلَكِن دخل مِنْهُ خرج
قَالَ وَلذَلِك قد يُوجد المَال الْكثير إِذا انفق مِنْهُ باسراف لم يلبث أَن ينفذ ويفنى حَتَّى يبْقى صَاحبه عائلا مملقا
قلت وَفِيمَا ارشد اليه الْكتاب الْعَزِيز مَعَ وضوح مَعْنَاهُ كِفَايَة قَالَ تَعَالَى وَالَّذين إِذا انفقوما لم يُسْرِفُوا وَلم يقترُوا وَكَانَ بَين ذَلِك قواما(2/402)
المطلع الثَّانِي
فِي أُمَّهَات مِمَّا تحفظ بِهِ من جَانب الْعَدَم وَفِيه اضاءات
الاضاءة الأولى
اجْتِنَاب مفرط الْحِرْص الْخَارِج عَن حُدُود الاجمال فِي الطّلب الْمَحْمُود عقلا ونقلا
قَالَ الْبَلْخِي وَهُوَ صُورَة افراط قُوَّة الشَّهْوَة الَّتِي سمتها الْحُكَمَاء مصيدة لَان عَامَّة النَّاس إِنَّمَا يقعون فِي المتالف والمعاطب بتسليط هَذِه الْقُوَّة عَلَيْهِم
قَالَ وَلَيْسَت هِيَ مصيدة لَهُم فَقَط بل ولاصناف الْحَيَوَان فَإِن اصطياده بالمصائد المنصوبة لَهَا إِنَّمَا يَقُودهَا اليه الشره المفرط إِلَى تنَاول مَا يلوح من الاغذية فِي تِلْكَ المصائد
الاضاءة الثَّالِثَة
اتقاء بخل النَّفَقَة فِي الاغراض الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ فِي هَذَا الْمقَام مَقَاصِد الساعين للدّين وَالدُّنْيَا وَهِي طلب اللَّذَّة وَالْحَمْد وَالْأَجْر لِئَلَّا يفوتهُ فِي ترك النَّفَقَة فِي تَحْصِيلهَا خيراتها العاجلة والاجلة فيفقد فَائِدَة النَّفْع بِالْمَالِ وَيعود عَلَيْهِ بالشقاء لَا السَّعَادَة وَفِي الحَدِيث إِنَّمَا لَك من مَالك مَا أكلت فأفنيت أَو لبست فأبليت أَو تَصَدَّقت فأبقيت
قلت وَقد سبق أَن مَالا ينْتَفع بِهِ من المَال لَا يُسمى رزقا
الاضاءة الثَّالِثَة
احْتِرَاز الحزم من غرر الْمُعَامَلَة بِالنَّسِيئَةِ بِاعْتِبَار من يظنّ بِهِ عدم الْوَفَاء(2/403)
فَفِي الْعود اليوانية مَا حَاصله أَن كساد السّلع وبوارها اولى من مقَامهَا ي ذمَّة من سَاءَ قَضَاؤُهُ لَا سِيمَا أَن اضْطر اليها واستمالك فِيهَا بِزِيَادَة الرِّبْح وَسُرْعَة الْقَضَاء ليحوزها مِنْك فهناك يتَوَقَّع مَحْذُور الْخطر لَا محَالة
قَالَ وان كَانَ الاخلاف مَعَ هَذَا سهلا عَلَيْهِ وَالْحيَاء مفقودا مِنْهُ احتجت إِلَى مُقَابلَته بِمَا يزل سُورَة مروءتك وموقعك فِي الشَّرّ لَا يعدل هَذَا شَيْء من المصائب
الاضاءة الرَّابِعَة
تبَاعد التحفظ من عَاقِبَة التظاهر للنَّاس بأقصى مَا تبلغ اليه صُورَة الْحَال فَفِي العهود اليونانية لَا تخرجنك كَثْرَة مَالك إِلَى التصدي للنَّاس النَّاس فَإنَّك تبْتَاع بذلك حسن الثَّنَاء وتردع بِهِ حسد الْحَاسِد وَطعن الطاعن
الاضاءة الْخَامِسَة
هِيَ طلب السَّلامَة من مُخَالطَة السُّلْطَان فَفِي العهود لَا يحملنك ترَاهُ من قرب الْأُمُور على أهل طبقتك بالسلطان إِلَى ملابسته والترسم بِهِ فَإِن موقعك مِنْهُ موقع السخلة من الاسد يحميها فِي شبعه ويطرقها فِي جوعه
تَمْثِيل قَالَ وَقد شبه المخالط للسُّلْطَان من ذَوي المَال بِرَجُل شقّ عَلَيْهِ نقل المَاء إِلَى دَاره لسقي بُسْتَان لَهُ بهَا واصابة حاجاتها مِنْهُ فاحتفر من(2/404)
بَحر يجاوره نَهرا إِلَى دَاره فاستمته بِهِ وَحسن اثره عَلَيْهِ فِي سُكُون المَاء وتقاصره عَن الزِّيَادَة فَلَمَّا زَاد مَاء ذَلِك الْبَحْر وَمَاجَتْ امواجه غلب على النَّهر وَالنّهر على الدَّار فغرق جَمِيع مَا فِيهَا وَكَانَ مَا خسر بهَا اضعاف مَا توفر عَلَيْهِ مِنْهُ
قَالَ وَلَا يغرنك سهولة الْأَمر عَلَيْهِ فِي موافقتك فَإِنَّهَا عَلَيْهِ فِي خِلافك اسهل
عاطفة تَكْمِيل بتتميمتين
التتميمة الأولى
ذكرُوا مِمَّا يرجع لمعاني المطلع الأول امورا يدبر بهَا المعاش
أَحدهَا خدمَة زمَان الشيخوخة قبل مَجِيئه كَمَا يخْدم فِي الصَّيف زمَان الشتَاء قبل هجومه بِجمع الْحَطب وَمَا يصعب إِذْ ذَاك الْوُصُول اليه
الثَّانِي إِثْبَات مَكَارِم الاخوان الْمُحْسِنِينَ كَمَا يثبت ديوَان الْمُعَامَلَة ليتخلص مِنْهَا بِحسن الْمُكَافَأَة لَهُ فتسلم الْحُرِّيَّة من رق الايادي
الثَّالِث احراز هني الْعَيْش بِحَمْد النَّاس مساعي الِاكْتِسَاب واصابتهم مِنْهُ مَا تقوم بِهِ الْحجَّة عَلَيْهِم ليعتصم بهم من الاشرار إِذْ سياسة الْغَنِيّ اشد من سياسة الْملك للرعية كَذَا فِي العهود
الرَّابِع مُرَاعَاة من فَوْقك وتحتك وَمن فِي طبقتك فَالْأول بالتواضع مَعَه وَالثَّانِي بالشفقة عَلَيْهِ وَالثَّالِث بالانصاف لَهُ وَإِلَّا خشيت على نَفسك بِمَا يكدر معاشك(2/405)
الْخَامِس اظهار الْفَاقَة عِنْد ضعف مَال السُّلْطَان فَفِي العهود الْوَاجِب فِي الْخدمَة من ذَوي الْيَسَار إِذا قلت أَمْوَال السُّلْطَان أَن يظهروا الْفَاقَة ويقبضوا التَّوسعَة حَتَّى ترجع اموالهم إِلَى وفورها فَإِن انتقاص أَمْوَال الْملك محنة لحقت الاغنياء بمملكته
التميمة الثَّانِيَة
قرروا أَيْضا مِمَّا هُوَ فِي غَرَض المطلع الثَّانِي امورا
أَحدهَا مُعَاملَة الاصدقاء والمعارف فقد قَالُوا لَا تتمّ مبايعة بَين صديقين لَان من احوال الْمُبَايعَة استغلاء البَائِع الثّمن واسترخاص الْمُبْتَاع السّلْعَة وَلَيْسَت تحْتَمل الصداقة هذَيْن
الثَّانِي مُسَامَحَة الاهل وَالْولد فِي الاسترسال فِي مطَالب الترف وعوائد البذخ لما فِي ذَلِك من الْفساد الْعَائِد على النَّفس وَالْمَال إِمَّا المَال فَظَاهر واما النَّفس فَلَمَّا سبق أَن الترف مُفسد لَهَا مِمَّا يرسم فِيهَا من الوان الشَّرّ والسفسفة
الثَّالِث النَّاس الشرار بِقَضَاء حوائجهم وتوفية اغراضهم لِئَلَّا تعجز الْمقدرَة عَن الْوَفَاء لما تعود من ذَلِك وَحِينَئِذٍ فَلَا بُد من المحاجزة بَيْنك وَبينهمْ بسياج الْوُقُوف عِنْد حد مَحْدُود(2/406)
الرَّابِع مُرُور زمَان فِي غير مَا يعود بمصلحة معاش أَو معاد لَان الْعُمر قصير لَا يَتَّسِع بِخلق مَا يضيع مِنْهُ فِي غير شَيْء
الْخَامِس اعْتِمَاد السُّلْطَان فِي مُطَالبَة المعاملين لما فِيهِ من خلاف حسن المدارات ولطيف التأني ومزاولة الْأُمُور بالرفق وَفَسَاد النيات كَذَا فِي العهود
قلت وَلَا يُعَارض مَا تقدم فِي التعويل على الجاه فِي استخلاص الْحُقُوق لِأَن ذَلِك حَيْثُ لَا يُمكن بِهَذِهِ السِّيرَة وَهنا مَعَ وفائها بِالْمَقْصُودِ لَا تعدل عَنْهَا
المطلع الثَّالِث
فِي مهمات دينية يعْتَبر مِنْهَا حفظ المعاش من جَانِبي الْوُجُود والعدم وَفِيه لوامع
اللامع الأول
أَن الْعدْل فِي الْمُعَامَلَة المعاشية باتقاء الظُّلم فِيهَا وان لم يفْسد العقد وَهُوَ ظلمان مَا يعم ضَرَره وَمَا يخص المعامل
الظُّلم الأول مَا يعم ضَرَره وَله مثالان الْمِثَال الأول الاحتكار وَقد سبق بَيَانه حكما وَحِكْمَة وتكميله الْآن بملاحظة امرين
أَحدهمَا مَا ورد فِي فَضِيلَة تَركه فَفِي الحَدِيث من جلب طَعَاما فَبَاعَهُ بِسعْر وقته فَكَأَنَّمَا تصدق بِهِ وَفِي رِوَايَة فَكَأَنَّمَا اعْتِقْ رَقَبَة(2/407)
الثَّانِي مَا روى عَن السّلف فِي شدَّة الحذر مِنْهُ وهم الاسوة فِي الِاتِّبَاع فَعَن بَعضهم انه جهز سفينة حِنْطَة إِلَى الْبَصْرَة وَكتب إِلَى وَكيله بِعْ هَذَا الطَّعَام يَوْم يدْخل الْبَصْرَة وَلَا تؤخره إِلَى الْغَد فَوَافَقَ سَعَة فِي السّعر فَقيل لَهُ أَن أَخَّرته جُمُعَة ربحت فِيهِ أضعافه فَأَخَّرَهُ جُمُعَة فربح فِيهَا امثاله وَكتب إِلَى صَاحبه بذلك فَكتب اليه يَا هَذَا انا كُنَّا قد قعننا بِرِبْح يسير مَعَ سَلامَة ديننَا وانك خَالَفت وَمَا نحب أَن نربح أضعافه لذهاب شَيْء من الدّين وَقد جنيت علينا جِنَايَة فَإِذا أَتَاك كتابي هَذَا فَخذ المَال كُله فَتصدق بِهِ على ضعفاء الْبَصْرَة وليتني انجو من الاحتكار كفافا لَا لي وَلَا عَليّ
الْمِثَال الثَّانِي ترويج الدِّرْهَم الزائف فِي اثناء النَّقْد قَالَ الْغَزالِيّ إِذْ يستضر بِهِ المعامل أَن لم يعرف وان عرف فيروجه على غَيره كَذَلِك الثَّالِث وَالرَّابِع وَلَا يزَال يتَرَدَّد فِي الايدي ويعم الضَّرَر ويتسع الْفساد وَيكون وزر الْكل ووباله رَاجعا اليه فَإِنَّهُ الَّذِي فتح ذَلِك الْبَاب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سنّ فِي الْإِسْلَام سنة سَيِّئَة فَعمل بهَا من بعده كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بهَا لَا ينقص من اوزارهم شَيْئا
مُبَالغَة
قَالَ وَقَالَ بَعضهم انفاق دِرْهَم زائف اشد من سَرقَة مائَة(2/408)
دِرْهَم لِأَن السّرقَة مَعْصِيّة وَاحِدَة وَقد تمت وانقطعت وانفاق الزائف بِدعَة اظهرها فِي الدّين وَسنة سَيِّئَة يعْمل بهَا من بعده فَيكون عَلَيْهِ وزرها بعد مَوته والى مائَة سنة ومائتي سنة إِلَى أَن يفنى ذَلِك الدِّرْهَم وَيكون عَلَيْهِ مَا فسد وَنقص من أَمْوَال النَّاس بِسَبَبِهِ فطوبى لمن مَاتَ وَمَاتَتْ مَعَه ذنُوبه وَالْوَيْل الطَّوِيل لمن يَمُوت وَتبقى ذنُوبه مائَة سنة ومائتي سنة يعذب بهَا فِي قَبره ويسئل عَنْهَا إِلَى انقراضها قَالَ الله تَعَالَى {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} أَي ونكتب أَيْضا مَا آخروا من آثَار اعمالهم كَمَا نكتب مَا قدموه
تأصيل قَالَ الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي قَاعِدَة أَن ايقاع السَّبَب بِمَنْزِلَة ايقاع الْمُسَبّب
قلت وَيَعْنِي سَوَاء قصد ذَلِك الْمُسَبّب أَو لَا لما بَين هُوَ هَذَا فِي الْقَاعِدَة قَائِلا لِأَنَّهُ لما جعل مسببا عَنهُ فِي مجْرى الْعَادَات عد كَأَنَّهُ فَاعل لَهُ مُبَاشرَة
تَحْصِيل قسم ابْن رشد التَّعَامُل بالزائف إِلَى اربعة حرَام مَعَ من يعلم غشه بِهِ ومكروه مَعَ من لَا يُؤمن غشه كالصيارفة وشبههم ومختلف فِي جَوَازه وكراهته مَعَ من يجهل صنعه وَجَائِز اتِّفَاقًا مَعَ من يكسرهُ أَو يعلم انه لَا يغش بِهِ إِلَّا على قِيَاس قَول سَحْنُون فِي نوازله من كتاب السّلم(2/409)
تَفْرِيع قَالَ ابْن عَرَفَة مُخْتَصرا لكَلَامه فَإِن بَاعه مِمَّن يخْشَى أَن يغش بِهِ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا الاسْتِغْفَار وَمن يغش بِهِ يجب عَلَيْهِ رده أَن قدر فَإِن عجز فَفِي وجوب الصَّدَقَة بِكُل ثمنه أَو بِالزَّائِدِ على قيمَة بَيْعه مِمَّن لَا يغش بِهِ
ثَالِثهَا لَا تجب صَدَقَة بِشَيْء مِنْهُ إِلَّا اسْتِحْبَابا
الظُّلم الثَّانِي
مَا يخص ضَرَره المعامل وَهُوَ كل مَا يستضر بِهِ وضابطه الْعدْل فِيهِ
الْغَزالِيّ إِذْ لَا يحب لَهُ إِلَّا مَا يحب لنَفسِهِ
قَالَ وكل مَا لَو عومل بِهِ لشق عَلَيْهِ وشق على قلبه فَيَنْبَغِي لَهُ أَن لَا يُعَامل بِهِ غَيره بل يَنْبَغِي أَن يَسْتَوِي عِنْده درهمه وَدِرْهَم غَيره
تَفْصِيل
لما يظْهر بِهِ بَيَان هَذِه الْجُمْلَة أَمْثِلَة
الْمِثَال الأول الثَّنَاء على السّلْعَة بِمَا لَيْسَ فِيهَا وَوَجهه الْغَزالِيّ بِأَن الْكَذِب فِيهِ مَعَ الْقبُول تلبيس وَمَعَ رده اسقاط مرؤة لَان مَالا يروج بِهِ قد لَا يقْدَح فِي ظَاهر الْمُرُوءَة فِيهَا(2/410)
قَالَ وان اثنى على السّلْعَة بِمَا فِيهَا هذيان وَتكلم بِمَا لَا يَعْنِي إِلَّا بِقصد تَعْرِيف اخيه الْمُسلم من غير اطناب
تحذير
قَالَ وَلَا يَنْبَغِي أَن يحلف عَلَيْهِ الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ كذب فيمين غموس وَهِي من الْكَبَائِر الَّتِي تدع الديار بَلَاقِع وان صدق فقد جعل الله تَعَالَى عرضة لايمانه وَالدُّنْيَا اخس من أَن نقصد ترويجها بِذكر الله من غير ضَرُورَة وَفِي الْخَبَر ويل للتجار من بلَى وَالله وَلَا وَالله وويل للصناع من غَد وَبعد غَد
تَنْبِيه
قَالَ بَان الْحَاج وَهَذَا إِذا كَانَ الْحلف بِاللَّه فَإِن كَانَ بِالْعِتْقِ أَو الطَّلَاق فَهُوَ اشنع لدُخُوله تَحت شَهَادَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تحلفُوا بِالطَّلَاق وَلَا بالعتاق فَإِنَّهُمَا من ايمان الْفُسَّاق وَلذَلِك قَالَ مَالك يُؤَدب من حلف بهما قَالَ وَلَا شكّ أَن فَاعل ذَلِك تمحق الْبركَة من بَين يَدَيْهِ فَلَا ينْتَفع بِالْمَالِ غَالِبا
مُلَاحظَة
قَالَ وَلذَلِك تَجِد كثيرا مِنْهُم كَأَنَّهُمْ وكلاء وأمناه فِي اموالهم لَا يَجدونَ سَبِيلا إِلَى التَّصَرُّف بهَا فِي طَاعَة غَالِبا بل هم خَزَنَة(2/411)
لغَيرهم طَوْعًا أَو كرها وَلَا منتفع لَهُم بِهِ إِلَّا قَلِيلا قَالَ وعلامة كَون المَال لَهُ تسليطه على هَلَكته فِي الْحق انتفاعا بِهِ وتخليدا لآثار بركته
حكايتان
يعْتَبر بهما فِي شدَّة الحذر من الثَّنَاء وَلَو بالتلويح
الْحِكَايَة الأولى
روى عَن يُونُس بن عبيد انه كَانَ بزازا وانه طلب مِنْهُ خَز للشراء فَأخْرج غُلَامه سقط الْخَزّ فنشره وَنظر اليه وَقَالَ اللَّهُمَّ ارزقنا الْجنَّة فَقَالَ لغلامه رده إِلَى مَوضِع وَلم يَبِعْهُ وَخَافَ أَن يكون ذَلِك تعريضا بالثناء على السّلْعَة قَالَ الْغَزالِيّ فَهَؤُلَاءِ تحروا فِي الدُّنْيَا وَلم يضيعوا دينهم بل علمُوا أَن ربح الاخرة اولى من ربح الدُّنْيَا
الْحِكَايَة الثَّانِيَة
نقل عَن بعض السّلف أَن رجلا جَاءَ يطْلب مِنْهُ خرقَة ليشتريها فَأمر العَبْد فأخرجها لَهُ فَلَمَّا أخرجهَا ضرب عَلَيْهَا بِيَدِهِ فَقَالَ لَهُ سَيّده ردهَا وَقَالَ للْمُشْتَرِي لَا ابيعك اشيئا قَالَ وَلم قَالَ لِأَن العَبْد ضرب بِيَدِهِ عَلَيْهَا حِين اخرجها لَك وَذَلِكَ يحسنها فِي عَيْنك قَالَ ابْن الْحَاج فَهَكَذَا كَانَ فعل السّلف فِي تصرفهم فعلى منوالهم فَإِنَّهَا فِي أَن كنت محبا لَهُم وَألا فَلَا تدع مَا لَيْسَ فِيك(2/412)
الْمِثَال الثَّانِي
كتم عُيُوب الْمَبِيع خفيها وجليها قَالَ فِي الرسَالَة عاطفا على بعض مَا لَا يجوز فِي البيع وَلَا أَن يكتم من أَمر سلْعَته مَا إِذا ذكره كرهه الْمُبْتَاع أَو كَانَ ذكره ابخص لَهُ فِي الثّمن قَالَ بعض شراحها يُرِيد كرهها للْمُبْتَاع وَلَا ينتقص ذَلِك من الثّمن وَلَا يشينها عِنْد بعض النَّاس دون بعض بِدلَالَة قَوْله أَو كَانَ ذكره ابخس لَهُ فِي الثّمن
قلت وَيدل عَلَيْهِ وَجْهَان
أَحدهمَا انه غشر والغش حرَام بِدَلِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَشنَا لَيْسَ منا
وَالثَّانِي انه خلاف النصح الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ دين الْإِسْلَام لما ورد أَن جَرِيرًا رَضِي الله عَنهُ كَانَ إِذا قَامَ إِلَى السّلْعَة يَبِيعهَا نَص على عيوبها ثمَّ خير وَقَالَ أَن شِئْت فَخذ وان شِئْت فاترك فَقيل لَهُ انك إِذا فعلت هَذَا لم ينْفد لَك بيع فَقَالَ انا بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النصح لكل مُسلم
اعلام قرر الْغَزالِيّ أَن هَذَا النصح لمشقته لَا يَتَيَسَّر إِلَّا باعتقاد امرين
أَحدهمَا أَن اخفاء الْعُيُوب لَا يزِيد فِي الرزق بل يمحقه وَيذْهب ببركته لما ورد فِي الحَدِيث البائعان إِذا صدقا وَنصحا بورك لَهما فِي بيعهمَا وان كذبا نزعت بركَة بيعهمَا
الثَّانِي أَن ربح الاخرة خير من ربح الدُّنْيَا والعاقل لَا يسْتَبْدل(2/413)
الَّذِي هُوَ ادنى بِالَّذِي هُوَ خير وَالْخَيْر كُله فِي سَلامَة الدّين
تَنْزِيل
ذكرُوا هُنَا نَوَادِر من الْعُيُوب الْوَاجِبَة الْبَيَان فِي الْمَبِيع كدراهم الكيمياء وثوب الْمَيِّت وخصوصا ميت الوباء وَالثَّوْب المنسوج من شعر الْميتَة وَالثَّوْب النَّجس إِذْ كَانَ جَدِيدا وشؤم الدَّار وَالْفرس وَتَحْقِيق مَا ينقص مِنْهُ الثّمن وَمَا لَا ينقص لَهُ مَوضِع آخر
تَنْبِيه
قَالَ الْغَزالِيّ الْغِشّ حرَام فِي الْبيُوع والصنائع جَمِيعًا لَا يَنْبَغِي أَن يتهاون الصَّانِع بِعَمَلِهِ على وَجه لَو عَامله بِهِ غَيره لما ارْتَضَاهُ لنَفسِهِ بل يَنْبَغِي أَن يحسن الصَّنْعَة ويحكمها ثمَّ يبين غشها أَن كَانَ فِيهَا فبه يتَخَلَّص
قلت قَالَ ابْن الْحَاج كل مَا يرى أهل الصَّنْعَة انه غش أَو مَكْرُوه فَهِيَ يتجنبه وَلَا يقربهُ
الْمِثَال الثَّالِث
تطفيف الْمِكْيَال وَالْمِيزَان قَالَ تَعَالَى {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذين إِذا اكتالوا على النَّاس يستوفون وَإِذا كالوهم أَو وزنوهم يخسرون}
قَالَ الْغَزالِيّ لَا مخلص من هَذَا إِلَّا بِأَن يرجح إِذا اعطى وَينْقص إِذا(2/414)
أَخذ إِذْ الْعدْل الْحَقِيقِيّ قَلما يتَصَوَّر وَمن استقصى حَقه بِكَمَالِهِ يُوشك أَن يتعداه
قلت هَذَا من حَيْثُ الِاحْتِيَاط واما مَا يَقْتَضِيهِ لِسَان الْعلم فاعتدال لِسَان الْمِيزَان فِي قُبَّته وامتلاء الْمِكْيَال ثمَّ يُرْسل يَده هَذَا هُوَ الْوَاجِب فَقَط نَص عَلَيْهِ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى فِي سَماع اشهب قَائِلا فَإِن سَأَلَهُ أَن يميله يَعْنِي لِسَان الْمِيزَان لم أر أَن ذَلِك من وَجه الْمَسْأَلَة قَالُوا وَكَذَلِكَ يسْأَله أَن يَكِيل الْكَيْل الْمُعْتَاد كَمَا فِي سُؤال السَّمْح لبَعض الثنم بِغَيْر تكلّف إِذْ هُوَ من الْمُسَامحَة
تَعْمِيم قَالَ مَالك رَحمَه الله يُقَال لكل شَيْء وَفَاء وتطفيف
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ كَمَا أَن السّرقَة فِي كل شَيْء واسوأها الَّذِي يسرق صلَاته فَلَا يتم ركوعها وَلَا سجودها
قلت وَقد قَالُوا الصَّلَاة مكيال فَمن وفا وَفِي لَهُ وَمن طفف طفف لَهُ
الْمِثَال الرَّابِع الْخُرُوج عَن سعر الْوَقْت كذبا وتلبيسا وَذَلِكَ فِي مَوَاضِع يَكْفِي مِنْهَا اثْنَان
أَحدهمَا تلقي الركْبَان قَالَ ابْن عَرَفَة إِلَّا وَشر التلقي تلقي الركْبَان للسلع الْوَارِدَة بِمحل بيعهَا لقرية قبل وُرُودهَا إِيَّاهَا منهى عَنهُ ثمَّ اسْتدلَّ بِحَدِيث البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن(2/415)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تتلقوا الركْبَان وَلَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض وَلَا تناجشوا وَلَا يَبِيع حَاضر لباد وَلَا تصروا الْغنم وَمن ابتاعها فَهُوَ بِخَير النظرين بعد أَن يحلبها أَن رضيها امسكها وان سخطها ردهَا وصاعا من تمر
تَخْفيف
يجوز لمن بقرية على نَحْو سِتَّة اميال من الْمصر المجلوب اليه السّلع شِرَاء مَا يحْتَاج اليه من ذَلِك وَلَو للتِّجَارَة قَالَه فِي سَماع ابْن الْقَاسِم قَالَ ابْن عَرَفَة وَربح التلقي قَالَ مُحَمَّد لَا يطيب لَهُ وَفِي سَماع ابْن الْقَاسِم التَّصَدُّق بِهِ قَالَ لَيْسَ بِحرَام وَلَو فعله احْتِيَاطًا فَلَا بَأْس بِهِ
وَالثَّانِي النجش لما سبق من النَّهْي عَنهُ فسره مَالك بِأَن يُعْطِيهِ فِي سلْعَته اكثر من ثمنهَا وَلَيْسَ فِي نَفسه شراؤها ليقتدي بِهِ غَيره
وَقَالَ الْمَازرِيّ وَغَيره الناجش الَّذِي يزِيد فِي السّلْعَة ليقتدي بِهِ غَيره قَالَ ابْن عَرَفَة وَهُوَ اعْلَم من قَول مَالك لدُخُول اعطائه مثل ثمنهَا أَو اقل فِي قَول الْمَازرِيّ وَخُرُوجه عَن قَول مَالك ثمَّ نقل تَفْسِير ابْن الْعَرَبِيّ وَفِيه تَصْرِيح باستحسان الناجش قيمتهَا لدفع الْغبن عَن صَاحبهَا
تَخْرِيج وَاقع
قَالَ كَانَ بعض من كَانَ مَشْهُورا بِالْخَيرِ وَالصَّلَاح وَمَعْرِفَة صالحي الشُّيُوخ وَكَانَت لَهُ شهرة تجر فِي الْكتب إِذا حضر سوق الْكتب فيستفتح للدلالين فِي الْكتب مَا يبنون عَلَيْهِ الدّلَالَة وَلَا غَرَض لَهُ فِي شِرَاء الْكتاب(2/416)
الَّذِي يستفتح ثمنه قَالَ وَهُوَ جَائِز على ظَاهر تَفْسِير مَالك وَاخْتِيَار ابْن الْعَرَبِيّ لَا على ظَاهر تَفْسِير الْمَازرِيّ
قَالَ الْبُرْزُليّ لَعَلَّ هَذَا مَا اشْتهر عَنهُ فِي سوق الكبيين انه يستفتح وَلَا إِرَادَة لَهُ فَيعلم بذلك المزايدون فَيجوز مُطلقًا على كل قَول
قلت وَلأبي وَلَيْسَ من النجش مَا يتَّفق عَلَيْهِ أَن يَأْتِي الدَّلال بالسلعة لمن يعرف قيمتهَا فيستفتح مَا يُنَادي بِهِ وَهُوَ لَا يُرِيد شراءها لِأَنَّهُ وان كَانَ لَا يَشْتَرِيهَا فَهُوَ لَا يَفْعَله ليغر بِهِ غَيره
فَائِدَة فِي نَوَازِل ابْن الْحَاج والنجش الْمُوجب للخيار مَا تواطأ عَلَيْهِ الناجش وَالْبَائِع أَو كَانَ من ناحيته وَلَو انْفَرد بِهِ الناجش اثم وَلَا شَيْء على البَائِع
رخصَة يجوز لمن حضر سوم سلْعَة يُرِيد شراءها أَن يَقُول لرجل كف عني وَلَا تزد عَليّ قَالَه مَالك فِي سَماع الْقرَوِيين قَالَ وَلَا احب الْأَمر الْعَام أَن يتواطأ النَّاس بِهَذَا فَسدتْ الْبيُوع
تَشْدِيد
لَا يجوز تواطؤ جمَاعَة يحْضرُون بيع سلْعَة على أَن لَا يزِيدُوا على كَذَا وَكَذَا نَص عَلَيْهِ فِي سَماع الْقرَوِيين قَائِلا وَالله مَا هَذَا بِحسن قَالَ ابْن رشد لِأَنَّهُ فَسَاد على البَائِع وضرر بِهِ ثمَّ ذكر حكمه بعد الْوُقُوع وَلَا يسع نَقله
حِكَايَة
روى عَن بعض الصَّالِحين التَّابِعين انه كَانَ بِالْبَصْرَةِ وَله غُلَام بالسوس يُجهز اليه السكر فَكتب اليه غُلَامه أَن قصب السكر قد اصابته آفَة فِي هَذِه السّنة فاشتر سكرا كثيرا فَلَمَّا جَاءَ وقته ربح فِيهِ ثَلَاثِينَ الْفَا(2/417)
وَانْصَرف إِلَى منزله ففكر ليلته فَقَالَ ربحت ثَلَاثِينَ ألفا وخسرت نصح رجل من الْمُسلمين فَلَمَّا اصبح غَدا إِلَى بَائِع السكر فَدفع اليه ثَلَاثِينَ الْفَا فَقَالَ بَارك الله لَك فِيهَا فَقَالَ وَمن ايْنَ صَارَت لي فَقَالَ أَنِّي كتمتك حَقِيقَة الْحَال وَكَانَ السكر قد غلا فِي ذَلِك الْوَقْت فَقَالَ رَحِمك الله قد اعلمتني الْآن وَقد طيبتها لَك قَالَ فَرجع بهَا إِلَى منزله وتفكر وَبَات ساهرا
وَقَالَ مَا نَصَحته لَعَلَّه استحيا مني فبكر اليه من الْغَد وَقَالَ عافاك الله خُذ مَالك اليك فَهُوَ اطيب لقلبي فَأخذ مِنْهُ ثَلَاثِينَ ألفا
قَالَ الْغَزالِيّ وَهَذِه الْحِكَايَة تدل على انه لَيْسَ لَهُ أَن يغتنم غَفلَة صَاحب الْمَتَاع ويخفي عَن البَائِع غلاء السّعر وَعَن المُشْتَرِي تراجع الاسعار وَألا كَانَ ظَالِما تَارِكًا للنصح وَالْعدْل للْمُسلمين
اللامع الثَّانِي
أَن الاحسان فِي الْمُعَامَلَة باحراز مَا يتكفل بنيل السَّعَادَة قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ يجْرِي من التِّجَارَة مجْرى الرِّبْح كَمَا أَن الْعدْل سَبَب النجَاة فَقَط
قَالَ وَلَا يعد من الْعُقَلَاء من قنع فِي مُعَاملَة الدُّنْيَا بِرَأْس مَاله وَكَذَا فِي معاملات الاخرة وَلَا يَنْبَغِي للمتدين أَن يقْتَصر على(2/418)
الْعدْل ويدع ابواب الاحسان وَقد قَالَ تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} ونعني بالاحسان فعل مَا يتنفع بِهِ المعامل وَهُوَ غير الْوَاجِب لدُخُوله فِي بعض الْعدْل لكنه تفضل وتكرم
قلت وَتقدم أَن أَفْرَاده لَيست فِي الطّلب على حد وَاحِد بل هِيَ مُتَفَاوِتَة بِحَسب رتبته فِي الْمَعْنى الَّذِي يطْلب لأَجله
ارشاد
يُقَال تنَال رُتْبَة الاحسان فِيمَا قرر من هَذَا الْمقَام بِوَاحِد من امور سِتَّة
الْأَمر الأول اجْتِنَاب مغابنة المعامل بِمَا لَا يتَغَابَن بِهِ عَادَة لَا مُطلقًا لمشروعية اصلها ضَرُورَة أَن البيع لَا يَنْفَكّ عَنْهَا فِي الْجُمْلَة فَمَتَى بذل المُشْتَرِي زِيَادَة على مُعْتَاد الرِّبْح لشدَّة رغبته أَو اجاته ندب ترك الْقُبُور إِذْ هُوَ احسان كَأَن لم يكن اخذ الزِّيَادَة ظلما
حِكَايَة يروي انه كَانَ عِنْد يُونُس بن عبيد حلل مُخْتَلفَة الاثمان فَمر إِلَى الصَّلَاة وَخلف ابْن اخته فِي الدّكان فجَاء اعرابي وَطلب حلَّة بِأَرْبَع مائَة فَعرض عَلَيْهِ من حلل الْمِائَتَيْنِ فاستحسنها فاشتراها مِنْهُ فَمشى بهَا وَهِي على يَده فَاسْتَقْبلهُ يُونُس فَعرف حلته وَقَالَ لَهُ بكم اشْتَرَيْتهَا(2/419)
فَقَالَ بأربعمائة فَقَالَ لَهُ لَا تَسَاوِي اكثر من مِائَتَيْنِ فَارْجِع حَتَّى تردها فَقَالَ هَذِه تَسَاوِي ببلدنا خَمْسمِائَة وَقد رضيتها فَقَالَ لَهُ انْصَرف فَإِن النصح فِي الدّين خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثمَّ رده إِلَى الدّكان ورد عَلَيْهِ مِائَتَيْنِ دِرْهَم وخاسم ابْن اخته وَقَالَ لَهُ إِمَّا استحيت تربح مثل الثّمن وتترك النصح للْمُسلمين قَالَ وَالله مَا أَخذهَا إِلَّا وَقد رضى قَالَ فَهَل رضيت لنَفسك مَا رضيت لَهُ
فَائِدَة هِيَ لِسَلَامَةِ هَذِه المغابنة من الظُّلم الْوَاجِب الاجتناب حَتَّى عِنْد التوقي مِنْهَا احسانا كَانَ الرَّد بهَا إِذا زَادَت على الثُّلُث فِي بيع المكايسة غير مَأْخُوذ بِهِ فِي الْمَشْهُور وَهُوَ ظَاهر الْمَذْهَب عِنْد ابْن رشد نعم إِذا كَانَ البيع استرسالا فالغبن فِيهِ ظلم واذ ذَاك فاجتنابه وَاجِب لَا احسان الحَدِيث غبن المسترسل ظلم
الْأَمر الثَّانِي احْتِمَال الْغبن للْمُشْتَرِي أَن كَانَ فَقِيرا احسانا اليه بالتساهل ودخولا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رحم الله سهل البيع سهل الشِّرَاء فَإِن كَانَ غَنِيا طَالبا بتجره مزِيد الرِّبْح فاحتمال الْغبن لَهُ غير مَحْمُود لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا انه تَضْييع مَال من غير اجْرِ وَلَا حمد فقد ورد المغبون لَا مَحْمُود وَلَا مأجور
وَالثَّانِي انه من شَأْن المخدوع فِي عقله وَلذَلِك كَانَ خِيَار السّلف يستقصون فِي الشِّرَاء ثمَّ يهبون مَعَ ذَلِك الجزيل قيل لبَعْضهِم تستقصي فِي شرائك على الْيَسِير ثمَّ تهب الْكثير وَلَا تبالي فَقَالَ أَن الْوَاهِب(2/420)
يُعْطي فَضله والمغبون عقله
الْأَمر الثَّالِث اسْتِيفَاء الْحق على مُقْتَضى التخلق بِهِ وَمن ذَلِك أحد وَجْهَيْن
أَحدهمَا الِاقْتِضَاء بالسمح والمساهلة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رحم الله بعدا سَمحا إِذا بَاعَ سَمحا إِذا اشْترى سَمحا إِذا اقْتضى اخرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ
الثَّانِي انظار الْمُعسر بِالْحَقِّ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ من يسر على مُعسر فِي الدُّنْيَا يسر الله عَلَيْهِ فِي الاخرة رَوَاهُ مُسلم
حِكَايَة
روى أَن الْحسن بَاعَ بغلة لَهُ بأربعمائة دِرْهَم فَلَمَّا اسْتوْجبَ المَال قَالَ لَهُ المُشْتَرِي اتسمح يَا أَبَا سعيد فَقَالَ لَهُ قد وهبت لَك مائَة دِرْهَم فَقَالَ لَهُ فَأحْسن يَا أَبَا سعيد فَقَالَ لَهُ قد وهبت لَك مائَة دِرْهَم أُخْرَى فَقبض من حَقه مِائَتَيْنِ دِرْهَم فَقيل لَهُ هَذَا نصف الثّمن فَقَالَ هَكَذَا الاحسان وَألا فَلَا
الْأَمر الرَّابِع تَوْفِيَة الدّين على وَجه الاحسان فِيهِ اقتفاء لفضله فَفِي الصَّحِيح عَن أبي رَافع مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ(2/421)
استسلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكرا فَجَاءَتْهُ ابل الصَّدَقَة قَالَ أَبُو رَافع فَأمر فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن اقضى الرجل بكرته فَقلت لَا اجد فِي الابل إِلَّا جملا خيارا ورباعيا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعطيه اياه فَإِن خِيَار النَّاس احسنهم قَضَاء
فَائِدَة
مِمَّا يلْتَمس بِهِ احراز هَذَا الاحسان امران
أَحدهمَا البدار اليه وان عجز نوى الْقَضَاء مَتى مَا قدر فَعَن الْقَاسِم مولى مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ انه بلغه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من تداين بدين وَهُوَ يُرِيد أَن يَقْضِيه حَرِيص على أَن يُؤَدِّيه فَمَاتَ وَلم يقْض دينه فَإِن الله قَادر على أَن يُرْضِي غَرِيمه بِمَا شَاءَ من عِنْده وَيغْفر للمتوفي وَمن تداين بدين وَهُوَ يُرِيد أَن لَا يَقْضِيه فَمَاتَ على ذَلِك لم يقْض دينه فَإِنَّهُ يُقَال لَهُ ظَنَنْت أَن لن توفى فلَانا حَقه مِنْك فَيُؤْخَذ من حَسَنَاته فَيجْعَل حَسَنَات لرب الدّين فَإِن لم تكن لَهُ حَسَنَات اخذ من سيئات رب الدّين وَجعلت فِي سيئات الْمَطْلُوب رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
الثَّانِي احْتِمَال كَلَام صَاحب الْحق فَفِي الحَدِيث أَن صَاحب دين جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد حُلُول اجله وَلم يتَّفق قَضَاؤُهُ لجعل يشدد الْكَلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم بِهِ اصحابه فَقَالَ دَعوه فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا
الْأَمر الْخَامِس اقالة المستقيل قَالَ الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ لَا يستقيل إِلَّا متندم مستضر بِالْبيعِ فَلَا يَنْبَغِي أَن يُرْضِي لنَفسِهِ أَن يكون سَبَب استضرار اخيه
قلت روى أَبُو دَاوُود فِي مراسيله عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ(2/422)
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اقال نَادِما اقاله الله نَفسه يَوْم الْقِيَامَة
الْأَمر السَّادِس قصد مُعَاملَة الْفَقِير بِالنَّسِيئَةِ نَاوِيا فِي الْحَال إِلَّا يُطَالِبهُ مَا لم يظْهر لَهُ ميسرَة توسعة عَلَيْهِ وتيسير النّيل مَا يعجز عَنهُ لَوْلَا الاحسان اليه فَهَذَا الْقَصْد الحميد
قَالَ الْغَزالِيّ وَقد كَانَ فِي صَالح السّلف من لَهُ دفتران للحسنات أَحدهمَا تَرْجَمته مَجْهُولَة فِيهَا أَسمَاء من لَا يعرف من الضُّعَفَاء كَأَنَّهُ يَقُول خُذ مَا تُرِيدُ فَإِن يسر لَك فَاقْض وَألا فَأَنت فِي حل وسعة
فَائِدَة
الْحق ابْن الْحَاج بِقصد مبايعة الْفَقِير بِالدّينِ مَعُونَة أهل الْخَيْر وَالدّين كَمَا ينْدب السَّمْح لَهُم فِي بيع النَّقْد مَا لم يضر بِحَالهِ قَائِلا يَنْبَغِي لمن لَهُ جدة أَن يَبِيع بِالدّينِ لمن اتّصف بذلك ويصبر عَلَيْهِ حَتَّى يفتح الله لَهُ
انعطاف
قَالَ الْغَزالِيّ مُشِيرا لهَذِهِ الْأُمُور السّنة فَهَذِهِ تِجَارَات السّلف وَقد اندرست والقائم بهَا محيي لسنتها قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ التِّجَارَة محك الرِّجَال وَبهَا يمْتَحن دين الرجل وورعه(2/423)
وَلذَلِك قيل (لَا يغرنك من المر ... ء قَمِيص رقعه)
(أَو ازار فَوق كَعْب السَّاق مِنْهُ رَفعه ... )
(ولدى الدِّرْهَم فَانْظُر ... غيه أَو ورعه)
اللامع الثَّالِث أَن شَفَقَة التَّاجِر على دينه يحفظه من ايثار الدُّنْيَا عَلَيْهِ اغْتِرَارًا بهَا وغفلة عَن الْمعَاد وَقد قَالَ تَعَالَى {بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة خير وَأبقى} وَمَا هُوَ كَذَلِك لَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يشْغلهُ عَنهُ مَا هُوَ بالضد مِنْهُ فيفوته الرِّبْح الْعَظِيم والسعادة الَّتِي لَا نفاد لَهَا
توضيح
الشَّفَقَة الحافظة لدين الَّذِي هُوَ رَأس مَال الْمُؤمن وغنيمة عمره مُتعَدِّدَة الْجِهَات وَالْمَذْكُور من امهاتها خمس
الشَّفَقَة الأولى أَن يدْخل بنية الاستعفاف فِي التِّجَارَة عَن السُّؤَال وكف الطمع عَن النَّاس اكْتِفَاء فِي الْقيام على نَفسه وَمن يعود لَهُ بِمَا يعود عَلَيْهِ الدُّخُول فِي هَذَا السَّبَب إِلَى غير ذَلِك من النيات الَّتِي لَا حصر لَهَا كنية الْقيام بِفَرْض الْكِفَايَة أَن كَانَ سَببه كَذَلِك ونصح الْمُسلمين ومعاملتهم بِالْعَدْلِ والاحسان وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَشبه ذَلِك مِمَّا لَا يخفي على ملتقط منثور نفائسها من مَوَاضِع تقريرها(2/424)
ثَمَرَة
قَالَ الْغَزالِيّ وَإِذا اضمر هَذِه النيات كَانَ عَاملا فِي طَرِيق الاخرة فَإِن اسْتَفَادَ مَالا فَهُوَ مزِيد وان خسر فِي الدُّنْيَا ربح فِي الاخرة
قلت وَتَكون نفس تِجَارَته لَا فرق بَينهَا وَبَين الصَّلَاة وَنَحْوهَا بِحَيْثُ لَو فاجأه الْمَوْت وجده على افضل الاحوال فِي الْجُمْلَة كَمَا قَرَّرَهُ ابْن الْحَاج فِي ذَلِك وَهُوَ ظَاهر
الشَّفَقَة الثَّانِيَة أَن لَا يمنعهُ سوق الدُّنْيَا عَن سوق الاخرة وَهِي الْمَسَاجِد قَالَ تَعَالَى رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله واقام الصَّلَاة وايتاء الزَّكَاة
قلت وأهم مَا يربح فِيهَا أَدَاء الصَّلَاة فِي وَقتهَا جمَاعَة قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين لانه أَن ضيعها اشتغالا بِنَفسِهِ اسْتوْجبَ المقت من ربه وَرفعت الْبركَة من كَسبه
قَالَ ويستحيي أَن يرَاهُ الْحق سُبْحَانَهُ مشتغلا بحظوظ نَفسه عَن حُقُوق ربه
تبصرة
من وُجُوه التَّجر فِي سوق الاخرة عملان أَحدهمَا جعل أول النَّهَار للُزُوم الْمَسْجِد اشتغالا بأوراده كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول(2/425)
للتجار اجعلوا أول نهاركم لآخرتكم وَمَا بعده لدنياكم وَكَانَ السّلف الصَّالح يجْعَلُونَ أول النَّهَار وَآخره للاخرة وَالْوسط للتِّجَارَة فَلم يكن بيع الهريسة والرؤوس إِلَّا للصبيان واهل الذِّمَّة لانهم كَانُوا من بعد فِي الْمَسَاجِد
الثَّانِي مبادرة الْقيام إِلَى الصَّلَاة عِنْد النداء اليها قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكون فِي بَيته يخصف النَّعْل ويعين الْخَادِم حَتَّى إِذا نُودي للصَّلَاة قَامَ كَأَنَّهُ لَا يعرفنا
اتِّبَاع
كَانَ السّلف لذَلِك يبتدرون عِنْد الاذات ويتركون الاسواق للصبيان وَأهل الذِّمَّة ويتسأجرون بالقراريط لحفظ الحوانيت وَكَانَ ذَلِك معيشة لَهُم
قَالَ الْغَزالِيّ وَجَاء فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله} انهم كَانُوا حدادين وخرازين فَكَانَ أحدهم إِذا رفع المطرقة وغرز الاشفا وَسمع الاذان لم يخرج الاشفا من المغرز وَلم يرفع المطرقة وَرمى بهَا وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة(2/426)
تذكرة
قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين وليذكر إِذا سمع الْمُؤَذّن قَوْله تَعَالَى {يَا قَومنَا أجِيبُوا دَاعِي الله} وَقَوله {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} وَقَوله {اسْتجِيبُوا لربكم}
قلت وَقد تقدم أَن افضل الذّكر ذكر الله عِنْد امْرَهْ وَنَهْيه
الشَّفَقَة الثَّالِثَة إِلَّا يكون شَدِيد الْحِرْص على السُّوق للتِّجَارَة وَذَلِكَ بِأَن يكون أول دَاخل وَآخر خَارج وَذَلِكَ لأمرين أَحدهمَا أَن الاسواق عش الشَّيْطَان وَمَوْضِع توليده كَانَ عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي رَضِي الله عَنهُ يَقُول لَا تكن أول من يدْخل السُّوق وَلَا آخر خَارج مِنْهَا فَإِن بهَا باض الشَّيْطَان
الثَّانِي أَن الشَّيْطَان الْمُوكل بالاسواق مصاحب لمن كَانَ كَذَلِك وَمن ثمَّ هُوَ شَرّ أَهلهَا فقد روى أَن ابليس يَقُول لوَلَده سر بكتائبك فأت صَاحب الاسواق وزين الْكَذِب وَالْحلف والخديعة وَالْمَكْر والخيانة وَكن مَعَ أول دَاخل وَآخر خَارج مِنْهُ وَفِي الْخَبَر سرع الْبِقَاع الاسواق وَشر أَهلهَا اولهم دُخُولا وَآخرهمْ خُرُوجًا
تَعْلِيم
قَالَ الْغَزالِيّ وَتَمام هَذَا الِاحْتِرَاز أَن يراقب وَقت كِفَايَته فَإِذا حصلت انْصَرف واشتغل بِتِجَارَة الاخرة فقد كَانَ من السّلف من إِذا ربح(2/427)
دانقا انْصَرف قناعة بِهِ وَكَانَ فيهم من ينْصَرف بعد الظّهْر وَبعد الْعَصْر وَمن لَا يعْمل فِي الاسبوع إِلَّا يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ اكْتِفَاء بذلك
الشَّفَقَة الرَّابِعَة أَن لَا يَكْتَفِي بتوقي لِلْحَرَامِ بل يحذر مثار الشُّبْهَة ومظان الرِّيبَة
قَالَ الْغَزالِيّ وَلَا ينظر إِلَى الفتاوي بل يستفتي قلبه فَمَا وجد فِيهِ حزازة اجتنبه
قلت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك فَإِن الصدْق طمأنينة وَالْكذب رِيبَة وَفِي الصَّحِيح عَن النواس بن سمْعَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْبر والاثم فَقَالَ الْبر حسن الْخلق والاثم مَا حاك فِي صدرك وكرهت أَن يطلع النَّاس عَلَيْهِ وَتَحْقِيق ذَلِك بِصَرْف الِاسْتِنَاد اليه والى النّظر فِي تَحْقِيق منَاط الحكم لَا فِي النّظر فِي دَلِيله لانحصار مداركه فِيمَا لَا مدْخل فِيهِ لما يَقع فِي الْقُلُوب وَبسطه خَارج عَن الْقَصْد فَلَا نطيل بِهِ والاشارة اليه كَافِيَة
انعطاف
قَالَ الْغَزالِيّ مُبينًا لمظان الشُّبْهَة عِنْد الْمُعَامَلَة وانما الْوَاجِب أَن ينظر التَّاجِر إِلَى من يعامله فَكل مَنْسُوب إِلَى ظلم أَو خِيَانَة أَو سَرقَة أَو رَبًّا فَلَا يعامله وَكَذَلِكَ الاجناد والظلمة واعوانهم لانه معِين بذلك على الظُّلم(2/428)
قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَيَنْبَغِي أَن يقسم النَّاس عِنْده إِلَى من يُعَامل وَمن لَا يُعَامل وَليكن من يعامله اكثر فِي هَذَا الزَّمَان
قلت وَمَا يلْزم عَن هَذَا من ضيق مجَال الْمُعَامَلَة يوسعه لمن أَخذ فِيهِ بالعزيمة مَدْلُول قَوْله تَعَالَى {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} على أَن فِي الْمَسْأَلَة نظرا لَهُ مَحل آخر
الشَّفَقَة الْخَامِسَة أَن يراقب جَمِيع معاملاته مَعَ كل وَاحِد مِمَّن عَامله وَذَلِكَ لامرين
أَحدهمَا انه يُحَاسب فِي الْجُمْلَة كَغَيْرِهِ فليعد الْجَواب ليَوْم السُّؤَال والحساب
وَالثَّانِي انه يُقَال يُوقف التَّاجِر يَوْم الْقِيَامَة مَعَ كل من بَاعَ مِنْهُ شَيْئا وَقْفَة وَيُحَاسب عَن كل وَاحِد محاسبة على عدد من عاملهم قَالَ بَعضهم رَأَيْت بعض التُّجَّار فِي النّوم فَقلت مَا فعل الله بك قَالَ نشر على خمسين ألف صحيفَة فَقل اهذه كلهَا ذنُوب فَقَالَ هَذِه معاملات النَّاس عدد من كنت تعامله فِي الدُّنْيَا لكل انسان صحيفَة مُفْردَة فِيمَا بَيْنك وَبَين هـ من أول الْمُعَامَلَة إِلَى آخرهَا
جَامع إِشَارَة
قَالَ الْغَزالِيّ مُشِيرا لجَمِيع مَا لخصناه فِي هَذَا المطلع فَهَذَا مَا على المكتسب فِي مُعَامَلَته من الْعدْل والاحسان والشفقة على الدّين
قَالَ فَإِن اقْتصر على الْعدْل كَانَ من الصَّالِحين وان اضاف اليه الاحسان كَانَ من المقربين فَإِن راعي مَعَ ذَلِك وظائف الدّين يَعْنِي بالشفقة عَلَيْهِ كَانَ من الصديقين(2/429)
السياسة الثَّانِيَة
سياسة النَّاس
وَقبل التَّلْخِيص لَهَا فَهُنَا مُقَدمَات
الْمُقدمَة الأولى
قَالَ الْغَزالِيّ الالفة ثَمَرَة حسن الْخلق والتفرق ثَمَرَة سوء الْخلق فَحسن الْخلق يُوجب التحبب والتآلف والتوافق وَسُوء الْخلق يُثمر التباغض والتحاسد والتناكر
قلت مِمَّا يدل على حمد الثَّمَرَة الأولى تَعْظِيم الْمِنَّة بهَا على الْخلق فِي قَوْله تَعَالَى لَو انفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم فأصبحتم بنعمته اخوانا وعَلى سوء مغبة الثَّانِيَة صَرِيح الزّجر عَنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} والشواهد على الْأَمريْنِ من السّنة الْكَرِيمَة لَا تَنْحَصِر
الْمُقدمَة الثَّانِيَة الاستكثار من الاصدقاء مَذْمُوم لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا ندور من يصلح مِنْهُم للحصبة المعتد بهَا وَحِينَئِذٍ فالتوسع فِيهَا خلاف التوقي والحذر فَفِي الحَدِيث تَجِدُونَ النَّاس كإبل مائَة لَيْسَ فِيهَا رَاحِلَة قَالَ الْخطابِيّ الرَّاحِلَة الْبَعِير الذلول الَّذِي يركب عَلَيْهِ(2/430)
ويرحل عَلَيْهِ فَاعل بِمَعْنى مفعول كَقَوْلِهِم سر كاتم أَي مَكْتُوم وَمَاء دافق أَي مدفوق وَالَّذِي يُرِيد وَالله اعْلَم أَن الْوَاحِد من الْمِائَة من النَّاس لَا يصلح أَن يصحب كَمَا أَن الْوَاحِد من الْمِائَة من النَّاس لَا يصلح أَن يصحب كَمَا أَن الاحد من الْمِائَة من الابل لَا يصلح أَن يركب يُشِير بِهِ إِلَى الاقلال من صُحْبَة النَّاس والحذر مِنْهُم وَالثَّانِي اداؤه إِلَى الْعَدَاوَة آخر الْأَمر فَعَن بَعضهم انه قَالَ الاستكثار من الاخوان وَسِيلَة الهجران قَالَ الْخطابِيّ يُرِيد انهم إِذا كَثُرُوا كثرت حُقُوقهم فَلم يسعهم برك وان تَأَخَّرت حُقُوقهم عَنْهُم استبطئوك فهجروك وعادوك لَهُ وَمَا احسن مَا عبر ابْن الرُّومِي عَن هَذَا حِين قَالَ
(عَدوك من صديقك مُسْتَفَاد ... فَلَا تستكثرن من الصحاب)
(فَإِن الدَّاء اكثر مَا ترَاهُ ... يكون من الطَّعَام أَو الشَّرَاب)
الْمُقدمَة الثَّالِثَة
الْوَصِيَّة من التحذير من قرناء السوء متكررة الْوُرُود وَيَكْفِي مِنْهَا اثْنَتَانِ
أَحدهَا مَا فِي الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَرْء على دين خَلِيله فَلْينْظر الْمَرْء من يخالل
قَالَ الْخطابِيّ مَعْنَاهُ لَا تخالل إِلَّا من رضيت دينه وأمانته فَإنَّك إِذا خاللته قادك إِلَى دينه ومذهبه فَلَا تغرر بِدينِك وَلَا تخاطر بِنَفْسِك فتخالل(2/431)
من لَيْسَ يُرْضِي فِي دينه ومذهبه قَالَ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث انْظُر إِلَى سُلَيْمَان بن عبد الْملك صَحبه رَجَاء بن حَيْوَة فقومه وسدده انْظُر إِلَى فِرْعَوْن مَعَه هامان انْظُر إِلَى الْحجَّاج مَعَه يزِيد بن أبي مُسلم شَرّ مِنْهُ
الثَّانِيَة مَا روى عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ عَلَيْك باخوان الصدْق تعش فِي اكنافهم فَإِنَّهُم زِينَة فِي الرخَاء وعدة فِي الشدَّة وَالْبَلَاء وضع أَمر اخيك على احسنه حَتَّى يجبك مَا يعلمك مِنْهُ وَاعْتَزل عَدوك واحضر صديقك إِلَّا الامين الامين من خشِي الله وَلَا تصْحَب الْفَاجِر فَتَتَعَلَّمُ من فجوره وَلَا تطلعه على سرك وَاسْتَشِرْ فِي امرك الَّذين يَخْشونَ الله
قلت قد سبق فِي الرُّكْن الرَّابِع عشر من اركان الْملك شَيْء من هَذَا الْمَعْنى وَمن المروى فِيهِ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ منظوما قَوْله
(وَلَا تصْحَب اخا الْجَهْل ... واياك واياه)
(فكم من جَاهِل اردى ... حكيما حِين آخاه)
(يُقَاس الْمَرْء بِالْمَرْءِ ... إِذا مَا هُوَ مَا شاه)
(وللشيء على الشَّيْء ... مقاييس واشباه)
(وللقلب على الْقلب ... دَلِيل حِين تَلقاهُ)
الْمُقدمَة الرَّابِعَة التَّحَرُّز من عوام النَّاس مَطْلُوب من جِهَات واهمها اثْنَتَانِ(2/432)
أَحدهمَا اساءة الظَّن بهم فَعَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ احترسوا من النَّاس بِسوء الظَّن وَعَن حُصَيْن الرقاشِي وَقد سُئِلَ مَا بَقِي من رَأْيك فَقَالَ سوء الظَّن
الثَّانِيَة قلَّة الثِّقَة بهم وقديما وَردت الْوَصِيَّة بذلك فقد رى أَن عبد الْملك بن مَرْوَان وجد حجرا فِيهِ مَكْتُوب بالعبرانية فَبعث إِلَى وهب بن مُنَبّه فَإِذا فِيهِ مَكْتُوب إِذا كَانَ الْغدر فِي النَّاس طباعا فالثقة بِكُل أحد عجز وَقد قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ لمُحَمد بن كَعْب الْقرظِيّ أَي خِصَال الرجل اوضع لَهُ قَالَ كَثْرَة كَلَامه وافشاء سره والثقة بِكُل وَاحِد
تَنْبِيه
تقدم فِي الْقَاعِدَة الْخَامِسَة عشر من قَوَاعِد الْملك أَن اساءة الظَّن إِنَّمَا هِيَ حَيْثُ يُؤَدِّي تحسينه إِلَى مفْسدَة راجحة على مصْلحَته وَمَتى رجحت مصْلحَته فَهِيَ الْمُعْتَبرَة فِي النَّهْي عَن هَذِه الاساءة لقَوْله تَعَالَى اجتنوا كثيرا من الظَّن وَمن ثمَّ قَالَ ابْن قيم الجوزية الْفرق بَين الِاحْتِرَاز وَسُوء الظَّن أَن المحترز كَرجل خرج مُسَافِرًا بِمَالِه ومركوبه فَهُوَ يحْتَرز جهده من مَكْرُوه مَا يتَوَقَّع فِي السّفر والسيء الظَّن ممتليء الْقلب بالظنون السَّيئَة بِالنَّاسِ حَتَّى يظْهر على لِسَانه وجوارحه فيبغضهم ويبغضونه ويحذر مِنْهُم ويحذرونه(2/433)
قَالَ فَالْأول يخالطهم ويحترز مِنْهُم وَالثَّانِي يتجنبهم ويلحقه اذاهم الأول فيهم دَاخل بِالنَّصِيحَةِ والاحسان مَعَ الِاحْتِرَاز وَالثَّانِي خَارج مِنْهُم مَعَ الْغِشّ والدغل والبغض انْتهى مُلَخصا
قلت وَقد ذكر الْخطابِيّ أَن اكثر مَا يعرض هَذَا لمن يحس من نَفسه بتهمة وَيعرف عِنْد النَّاس بريبة كوصف الْمُنَافِقين بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {يحسبون كل صَيْحَة عَلَيْهِم} قَالَ وَمَا احسن قَول المتنبي فِي أهل هَذِه الصّفة حَيْثُ يَقُول
(إِذا سَاءَ فعل الْمَرْء ساءت ظنونه ... وَصدق مَا يعتاده من توهم)
(وعادى محبيه بقول عداته ... واصبح فِي ليل من الشَّك مظلم)
الْمُقدمَة الْخَامِس ترك الِاعْتِدَاد بالعوام وَقلة الاكتراث بهم مَطْلُوب من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن رضاهم كَمَا قيل غَايَة لَا تدْرك روى اكثر من صَيْفِي قَائِلا بعده وَلَا يكره سخط من رِضَاهُ الْجور وَعَن يُونُس بن عبد الاعلى قَالَ لي الشَّافِعِي يَا أَبَا مُوسَى رضَا النَّاس غَايَة لَا(2/434)
تدْرك لَيْسَ إِلَى السَّلامَة من النَّاس سَبِيل فَانْظُر مَا فِيهِ اصلاح نفس فالزمه ودع النَّاس وَمَا هم فِيهِ انْتهى وَفِي مَعْنَاهُ انشد أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب
(دع النَّاس مَا شاؤوا يَقُولُونَ فإنني ... لأكْثر مَا يَحْكِي عَليّ حمول)
(فَمَا كل من اغضبته انا معتب ... وَمَا كل مَا يرْوى عَليّ اقول)
الثَّانِي أَن الاغترار رُبمَا يصدر مِنْهُم فَمَا الشَّأْن أَن يعْتَبر مِمَّن سواهُم منَاف لكَمَال البصيرة بهم قَالَ الْخطابِيّ الْوَاجِب على الْعَاقِل أَن لَا يغتر بِكَلَام الْعَوام وثنائهم وان لَا يَثِق بعهودهم واخائهم فانهم يقبلُونَ مَعَ الطمع ويدبرون مَعَ الْغنى ويطيرون مَعَ كل ناعق كَانَ الْحسن يَقُول إِذا رَآهُمْ هَؤُلَاءِ قتلة الْأَنْبِيَاء
وَكَانَ بَعضهم يَقُول إِذا رَآهُمْ قَاتل الله هَذِه الْوُجُوه الَّتِي لَا ترى إِلَّا عِنْد الشَّرّ
وَقَالَ آخر إِذا اجْتَمعُوا غلبوا وَإِذا تفَرقُوا لم يعرفوا وَقيل إِذا اجْتَمعُوا ضروا وَإِذا تفَرقُوا نفعوا قَالَ يُرِيد انهم إِذا تفَرقُوا رَجَعَ كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى صناعته فيخرز الاسكاف ويخصف الْحذاء وينسج الحائك ويخيط الخائط فينتفع النَّاس بهم انْتهى
ثمَّ انشد لِابْنِ عَائِشَة(2/435)
(جربت النَّاس واخراقهم ... فصرت استأنس بالوحدة)
(مَا اكثر النَّاس لعمري وَمَا ... اقلهم فِي ملتقى الْعدة)
فَائِدَة
يُطلق الغوغاء على هَؤُلَاءِ الَّذين لَا عِبْرَة بهم قَالَ الاصمعي والغوغاء الْجَرَاد إِذا ماج بعضه فِي بعض قَالَ وَبِه سمي الغوغاء من النَّاس
قلت وَمن علاماتهم مَا تضمنته الْخطابِيّ عَن أبي عَاصِم النَّبِيل وَذَلِكَ أَن رجلا أَتَاهُ فَقَالَ أَن امْرَأَتي قَالَت لي يَا غوغاء فَقلت لَهَا أَن كنت غوغاء فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا فَقَالَ لَهُ أَبُو عَاصِم هَل أَنْت مِمَّن يحضر المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك فَقَالَ لَا فَقَالَ لَهُ فَهَل أَنْت مِمَّن يحضر يَوْم يعرض السُّلْطَان أهل السجون يَقُول فلَان اجلد من فلَان فَقَالَ لَا فَقَالَ هَل أَنْت الرجل الَّذِي إِذا خرج الْأَمِير يَوْم الْجُمُعَة جَلَست على ظهر الطَّرِيق حَتَّى يمر ثمَّ تقيم بمكانك حَتَّى يُصَلِّي وينصرف فَقَالَ لَا قَالَ أَبُو عَاصِم لست بغوغاء إِنَّمَا الغوغاء من يفعل هَذَا(2/436)
الْمُقدمَة السَّادِسَة
من اخلاق الْعَامَّة الْمُوجبَة لندور السَّلامَة مِنْهُم مَا ركب فيهم من الْخلاف الْمُقْتَضِي لذَلِك طبعا بِإِذن الله ومشيئة وَمرَاده وَيدل على امران
أَحدهمَا ورد الْخَبَر بِهِ فَفِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ جَالِسا ذَات يَوْم وقدامه قوم يصنعون شَيْئا كرهه من كَلَامهم وَلَفْظهمْ فَقيل يَا رَسُول الله إِلَّا تنهاهم فَقَالَ لَو نهيتم عَن الْحجُون لَا وَشك بَعضهم أَن يَأْتِيهِ وَلَيْسَ لَهُ حَاجَة قَالَ الْخطابِيّ قد اخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا القَوْل أَن الشَّرّ طباع فِي النَّاس وان الْخلاف عَادَة لَهُم وحض بذلك على شدَّة الحذر مِنْهُم وَقلة الثِّقَة بهم
الثَّانِي وجود ذَلِك بالعيان قَالَ بعض الْعلمَاء أَن من النَّاس من يولع بِالْخِلَافِ أبدا حَتَّى يرى انه افضل الْأُمُور وان لَا يُوَافق احدا وَلَا يجمع مَعَه على أَمر وَرَأى وَلَا يواتيه على صُحْبَة وَمن كَانَ هَذِه عَادَته فَإِنَّهُ لَا ينصر الْحق وَلَا يَعْتَقِدهُ دينا ومذهبا إِنَّمَا يتعصب لرأيه وينتقم لنَفسِهِ وَيسْعَى فِي مرضاتها حَتَّى انك أَن رمت تترضاه وتوخيت أَن توافقه على الرَّأْي الَّذِي يَدْعُوك اليه تعمد إِلَى خِلافك فِيهِ وَلَا يرضى حَتَّى ينْتَقل لنقيض قَوْلك وَقَوله الأول
فَإِن عدت فِي ذَلِك إِلَى وفاقه عَاد فِيهِ إِلَى خِلافك قَالَ الْخطابِيّ فَمن كَانَ فِي هَذِه الْحَال فَعَلَيْك بمباعدته والنفار عَن قربه فَإِن رِضَاهُ غَايَة لَا تدْرك ومدى شأوه لَا يلْحق(2/437)
حِكَايَة قَالَ الزّجاج كُنَّا عِنْد الْمبرد فَوقف علينا رجل فَقَالَ أَسأَلك عَن مَسْأَلَة من النَّحْو قَالَ لَا فَقَالَ اخطأت فَقَالَ يَا هَذَا كَيفَ اكون مخطئا أَو مصيبا وَلم اجبك عَن الْمَسْأَلَة فَأقبل عَلَيْهِ اصحابه يعنفونه فَقَالَ لَهُم خلوا سَبيله وَلَا تعرضوا لَهُ انا اخبركم بِقِصَّتِهِ هَذَا الرجل وَهُوَ انه يحب الْخلاف وَخرج من بَيته وقصدني على أَن يخالفني فِي كل شَيْء اقوله ويخطئني فَسبق لِسَانه بِمَا كَانَ فِي ضَمِيره
عاطفة
من اثر الشَّرّ الطبيعي فِي النَّاس تعدِي الظُّلم بِهِ والاذاية إِلَى الابرياء وَذَوي الْحُقُوق عَلَيْهِم
قَالَ بعض الْحُكَمَاء الشَّرّ فِي النَّاس طباع وَحب الْخلاف لَهُم عَادَة والجور فيهم سنة وَلذَلِك تراهم يُؤْذونَ من لَا يؤذيهم ويظلمون من لَا يظلمهم ويخالفون من ينصحهم
وَقَالَ الاصمعي قيل لرجل لم توذي جيرانك قَالَ فَمن اوذي أَو اوذي من لَا اعرف وانشد الْخطابِيّ لبَعْضهِم
(وَمَا أَنْت إِلَّا ظَالِم وَابْن ظَالِم ... لانك من اولاد حوا وآدَم)
(فَلَو كنت مثل الْقدح الفيت قَائِلا ... أَلا مَا لهَذَا الْقدح لَيْسَ بقائم)
(وَلَو كنت مثل النصل الفيت قَائِلا ... إِلَّا مَا لهَذَا النصل لَيْسَ بصارم)
قَالَ وَسُئِلَ بَعضهم مَتى يسلم الانسان من النَّاس قَالَ إِذا لم يكن فِي خير وَلَا شَرّ قيل وَمَتى يكون كَذَلِك قَالَ إِذا مَاتَ قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَهُوَ حَيّ إِمَّا أَن يكون خيرا فالاشرار يعادونه واما أَن يكون شريرا(2/438)
فالاخيار يمقتونه والمثل فِي قديم الدَّهْر مَا لَقِي النَّاس من النَّاس
(وَمن ذَا الَّذِي ينجو من النَّاس سالما ... وَلِلنَّاسِ قيل بالظنون وَقَالَ)
قلت وَمن ثمَّ تعد السَّلامَة مِنْهُم أَن امكنت على اغرب نَادِر سَعَادَة مُعجلَة فقد رُوِيَ عَن حسان انه قَالَ احْفَظُوا عني هَذَا الْبَيْت
(وان امرء امسى واصبح سالما ... من النَّاس إِلَّا مَا جنى لسَعِيد)
الْمُقدمَة السَّابِعَة
فَسَاد الزَّمَان واهله مشهود بِهِ من جِهَتَيْنِ
الْجِهَة الأولى مَجِيء الاعلام بِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ
أَحدهمَا الْأَخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الصَّادِق المصدوق كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذهب الصالحون الأول فَالْأول وَتبقى حثالة كحثالة الشّعير لَا يُبَالِي الله بهم
قَالَ الْخطابِيّ حثالة الشّعير رذالته وَمَا لَا خير فِيهِ مِنْهُ يَقُول كَمَا لَا يُؤْكَل مَا يبْقى من حثالة الشّعير كَذَلِك لَا يصحب من يبْقى من النَّاس فِي آخر الزَّمَان
وَالثَّانِي آثَار عَن السّلف الْكَرِيم كَقَوْل أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ ذهب النَّاس وَبَقِي النسناس فَقيل لَهُ وَمَا النسناس قَالَ يشبهون بِالنَّاسِ وَلَيْسوا بناس وكتمثيل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بقول لبيد(2/439)
(ذهب الَّذين يعاش فِي اكنافهم ... بقيت فِي خلف كَجلْد الاجرب)
(يتحدثون مجانة وملاذة ... ويعاب قَائِلهمْ وان لم يشغب)
ثمَّ تَقول وَيْح لبيد لَو اِدَّرَكَ هَذَا الزَّمَان وَكَذَا قَالَ الرَّاوِي عَنْهَا ثمَّ كَذَلِك مسلسلا
حِكَايَة
التشكي من ذَلِك روى الْخطابِيّ عَن أبي داحة قَالَ خرج الينا يَعْقُوب بن دَاوُود وَزِير الْمهْدي وَنحن على بَابه فَقَالَ مَا صدر هَذَا الْبَيْت
(ومحترس من مثله وَهُوَ حارس ... )
فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ سَأَلَ عَنهُ فَلم يكن عِنْد وَاحِد منا جَوَاب قَالَ قلت انا اخبرك بِهِ قَالَ ابْن داحة
(اقلي على اللوم يَا أم مَالك ... وذمي زَمَانا سَاد فِيهِ الفلافس)
(وساع مَعَ السُّلْطَان لَيْسَ بناصح ... ومحترس من مثله وَهُوَ حارس)
قَالَ والفلافس رجل من أهل الْكُوفَة من بني نهشل بن دارم وَكَانَ على شَرط القباع بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ فِيهِ الاشهب بن رميلة النَّهْشَلِي(2/440)
(يَا جَارة يَا ابْن أبي ربيعَة انه ... يَخْلُو إِذا اخْتَلَط الظلام وَيشْرب)
(جعل الفلافس حاجبين لبابه ... سُبْحَانَ من جعل الفلافس يحجب)
الْجِهَة الثَّانِيَة
وُقُوع اثره وجودا من ابلغ مَا يعرف بِهِ وصفان
الْوَصْف الأول قَالَ الْخطابِيّ قَرَأت لمنصور بن عمار فِي صفة الزَّمَان قَالَ تغير الزَّمَان حَتَّى كل عَن وَصفه اللِّسَان وامسى خربا بعد حداثته شرسا بعد لينه يَابِس الضَّرع بعد غزارته ذابل الفرغ بعد نضارته ناحل الْعود بعد رطوبته بشع المذاق بعد عذوبته فَلَا تكَاد ترى لبيبا إِلَّا ذَا كمد وَلَا ظريفا واثقا بِأحد وَلَا أصبح لَهُ حليفا إِلَّا جَاهِل وَلَا امسى بِهِ قرير الْعين إِلَّا غافل فَمَا بَقِي من الْخَيْر إِلَّا الِاسْم وَلَا من الدّين إِلَّا الرَّسْم وَلَا من التَّوَاضُع إِلَّا المخادعة وَلَا من الزهادة إِلَّا الانتحال وَلَا من الْمُرُوءَة إِلَّا غرور اللِّسَان وَلَا من الْأَمر بالمعورف وَالنَّهْي عَن الْمُنكر إِلَّا حمية النَّفس وَالْغَضَب لَهَا فَيطلع الْكبر مِنْهَا وَلَا من الاستفادة إِلَّا التعزز والتبجيل والتحلي وَلَا من الافادة إِلَّا الترأس والتجلل فالمغرور المائق والمذموم عِنْد الْخَلَائق والنادم من العواقب(2/441)
المحطوط عَن الْمَرَاتِب من اغْترَّ بِالنَّاسِ وَلم يحسم رجاؤه باليأس وَلم يطْلب قلبه بِشدَّة الاحتراس فالحذر الحذر من النَّاس فقد اقل النَّاس وَبَقِي النسناس ذئاب عَلَيْهِم ثِيَاب أَن استردفتهم حرموك وان استنصرتهم خذلوك وان استنصحتهم غشوك وان عاملتهم غبنوك وان غبت عَنْهُم اغتابوك أَن كنت شريفا حسدوك وان كنت وضيعا حقروك وان كنت عَالما ضللوك وبدعوك وان كنت جَاهِلا عيروك وَلم يرشدوك وان نطقت قَالُوا مهذار حَدِيد وان سكت قَالُوا عيي بطيء بليد وان تعقت قَالُوا متكلف متعمق وان تغافلت قَالُوا جَاهِل احمق فمعاشرتهم دَاء وشقاء ومزايلتهم دَوَاء وشفاء وَلَا بُد أَن يكون فِي الدَّوَاء كَرَاهَة ومرارة فاختر الدَّوَاء بمرارته وكراهته على الدَّاء بغائلته وآفاته وَالله الْمُسْتَعَان
الْوَصْف الثَّانِي
روى الْخطابِيّ عَن الْحسن انه قَالَ اعلموا أَن النَّاس شَجَرَة لظى وفراش نَار ودبان طمع أَن الدُّنْيَا فتحت على أَهلهَا كلبوا وَالله عَلَيْهَا اسوا الْكَلْب حَتَّى عدا بَعضهم على بعض بِالسُّيُوفِ واستحل بَعضهم حُرْمَة بعض تخالفوا على شجنه كسببوها من كل(2/442)
حرَام وانفقوها فِي كل شَرّ وطبقوا الأَرْض ظلما قَاتلهم الله وَهُوَ قَاتلهم اتَّخذُوا عباد الله خولا وَاتَّخذُوا هَذَا المَال دولا سُبْحَانَ الله مَا لقِيت هَذِه الْأمة من مُنَافِق قهرهم واستأثر عَلَيْهِم وَمن صَاحب بِدعَة خرج عَلَيْهِم بِسَيْفِهِ صنفان حثيثان قد عَمَّا على كل مُؤمن من اعلاج عجم واعرابي لَا فقه لَهُ وَلَا دين ومنافق مكذب وامير مترف نعق بهم ناعق وَخَرجُوا يسعون مَعَه فرَاش نَار وذبان طمع يَبِيع اقوام دينهم بِثمن بخس من مَاتَ إِلَى النَّار وَمن عَاشَ عَاشَ فِي شَرّ ظهر الْجفَاء وَقل الْعلمَاء وَذهب الْحيَاء وفشت النكراء ذهب الصالحون وَبَقِي خشارة كخشارة الشّعير لَا يُبَالِي الله بهم باله انْتهى
الْمُقدمَة الثَّامِنَة
اخْتِلَاف طَبَقَات النَّاس فِي الْخلق والسجايا ناشيء عَن مُقْتَضى مَا خلقُوا مِنْهُ ونسبوا اليه وَيدل عَلَيْهِ خبران
أَحدهمَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض مِنْهُم الاحمر والاسود والابيض والسهل والحزن والخبيث وَالطّيب(2/443)
قَالَ الْخطابِيّ قد بَين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا القَوْل أَن النَّاس اصناف وطبقات وانهم إِلَى تفَاوت فِي الطباع والاخلاق فيهم الْخَيْر الْفَاضِل الَّذِي ينْتَفع بِصِحَّتِهِ وَمِنْهُم الرَّدِيء النَّاقِص الَّذِي يتَضَرَّر بِقُرْبِهِ وعشرته كَمَا أَن الأَرْض مُخْتَلفَة الْأَجْزَاء وَالتُّرَاب فَمِنْهَا العذاة الطّيبَة الَّتِي يطيب نباتها ويزكو ربيعها وَمِنْهَا السباخ الخبيثة الَّتِي تضيع بذرها ويبيد زرعه وَمَا بَين ذَلِك حسب مَا يُوجد مِنْهَا حسا ويشاهد عيَانًا
الثَّانِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس معادن قَالَ(2/444)
الْخطابِيّ وَفِي هَذَا القَوْل أَيْضا بَيَان أَن اخلاق النَّاس غرائز فيهم كَمَا أَن الْمَعَادِن ودائع مركوزة فِي الأَرْض فَمِنْهَا الْجَوْهَر النفيس وَمِنْهَا الفلز الخسيس كَذَلِك ظواهر النَّاس وطباعهم مِنْهَا الزكي الرضى وَمِنْهَا النَّاقِص الدني وَإِذا كَانُوا كَذَلِك كَانَ الْأَمر فِي العيان مِنْهُم مُشكلا اَوْ اسْتِبْرَاء الْعَيْب فيهم متعذرا فالحزم إِذا الامساك عَنْهَا والتوقف عَن مداخلتهم إِلَى أَن تنكشف المحنة أَن اسرارهم وبواطن امورهم فَيكون عِنْد ذَلِك اقدام على خبْرَة وماحجام عَن بَصِيرَة
قَالَ ولعلك إِذا خبرتهم قليتهم وَإِذا عرفتهم انكرتهم إِلَّا من يخصهم الثَّنَاء وَقَلِيل مَا هم
استظهار
أورد هُنَا اسْتِدْلَالا على مَا ذكر مَا روى بِسَنَدِهِ إِلَى أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخبر تقله(2/445)
وثق النَّاس رويدا ثمَّ قَالَ سَمِعت شَيخنَا أَبَا بكر الْقفال يَقُول لَوْلَا انه قد قيل اخبر تقله لَقلت انا اقله تخبر
تَفْرِيع
ترَتّب على هَذِه الْمُقدمَة مَا سبقت الاشارة اليه فِي صُورَة الْبَاب الأول من الْكتاب الثَّانِي أَن الَّذِي تسهل بِهِ صُحْبَة الْخلق انزالهم منزلَة الْحَيَوَان الْمُشبه بهم فِي الْخلق ليحلق بِهِ الْمُعَامَلَة وان اصل التَّنْبِيه على ذَلِك لِسُفْيَان ابْن عُيَيْنَة فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} كَمَا يشْهد لَهُ الخبران المتقدمان(2/446)
قَالَ عَنهُ الْخطابِيّ مَا فِي الأَرْض آدَمِيّ إِلَّا وَفِيه شبه من شبه الْبَهَائِم فَمنهمْ من يهتصر اهتصار الاسد وَمِنْهُم من يعدو عَدو الذِّئْب وَمِنْهُم من ينبح نباح الْكلاب وَمِنْهُم من يتطوس كَفعل الطاووس وَمِنْهُم من يشبه الْخَنَازِير الَّتِي لَو القى اليها الطَّعَام الطّيب عافته فَإِذا قَامَ الرجل عَن رجيعه ولغت فِيهِ وَكَذَلِكَ تَجِد الادميين من لَو سمع خمسين كلمة لم يحفظ وَاحِدَة مِنْهَا وان اخطأ رجل عَن نَفسه أَو حكى خطأ غَيره ترواه وَحفظه
تَسْلِيم
قَالَ الْخطابِيّ مَا احسن مَا تَأَول أَبُو مُحَمَّد هَذِه الاية واستنبط مِنْهَا هَذِه الْحِكْمَة
قَالَ وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَاعْلَم يَا اخي انك إِنَّمَا تعاشر الْبَهَائِم وَالسِّبَاع فَلْيَكُن حذرك مِنْهُم ومباعدتك اياهم على حسب ذَلِك
قَالَ وَلأَجل ذَلِك رأى الْحُكَمَاء أَن السَّلامَة من آفَات السبَاع الضارية والخلاص مِنْهَا اسهل من السَّلامَة من شَرّ النَّاس ثمَّ انشد للشَّافِعِيّ رَحمَه الله(2/447)
(لَيْت الْكلاب لنا كَانَت مجاورة ... واننا لَا نرى مِمَّن نرى احدا)
(أَن الْكلاب لتهدي فِي مواطنها ... وَالنَّاس لَيْسَ بهاد شرهم أبدا)
(فاحتل لنَفسك فِي تغريدها أبدا ... تعش سعيدا إِذا مَا كنت مُنْفَردا)
قَالَ وَنَحْو هَذَا قَوْله
(شَرّ السبَاع الضواري دونه وزر ... وَالنَّاس شرهم مَا دونه وزر)
(كم معشر سلمُوا لم يؤذهم سبع ... وَلم نرا بشرا لم يوذه بشر)(2/448)
قَالَ روينَا عَن الشَّافِعِي انه قَالَ مَا اشبه هَذَا الزَّمَان إِلَّا بِمَا قَالَ تأبط شرا
(عوى الذِّئْب فاستأنست بالذئب إِذْ عوى ... وَصَوت انسان فكدت مِنْهُ اطير)
فَائِدَة
قَالَ وسأفيدك يَا أخي فَائِدَة يجل نَفعهَا وتعظم عائدتها وَمَا اقولها إِلَّا عَن ودك وشفقة عَلَيْك فَإِن الْبلوى ف يمعاشرة أهل زَمَانك عَظِيمَة فَاسْتَعِنْ بِاللَّه على مَا يلقاك من اذاهم فَإنَّك لن تَخْلُو من قَلِيله وان سلمت من كَثِيره وَذَلِكَ انك قد ترى الْوَاحِد بعد الوماحد مِنْهُم يتكالب على النَّاس ويتسفه على اعراضهم وينبح فيهم نباح الْكلاب فيهمك من شَأْنه مَا يهمك وتود مِنْهُ أَن لَا يكون رجلا فَاضلا يُرْجَى خَيره ويؤمن شَره فَيطول فِي امْرَهْ فكرك ويدوم بِهِ شغل قَلْبك فازح هَذَا الْعَارِض عَن نَفسك بِأَن تعده على الْحَقِيقَة كَلْبا خلقَة وجهلة وزد بِهِ فِي عدد الْكلاب وَاحِدًا أَو لَعَلَّك قد مَرَرْت مرّة من(2/449)
المرات بكلب من الْكلاب ينبح ويعوي وَرُبمَا كَانَ أَيْضا قد تساور وتقهقر فَلم تحدث نَفسك فِي امْرَهْ أَن يعود انسانا ينْطق وينبح وَلم تتأسف لَهُ أَن لَا يكون دَابَّة تركب أَو شَاة تحلب فَاجْعَلْ هَذَا المتكلب كَلْبا مثله واسترح من شغله وارح مئونة الْفِكر فِيهِ وَكَذَلِكَ فَلْيَكُن عنْدك بِمَنْزِلَة من جهل حَقك وَكفر مَعْرُوفك فاحسبه حمارا أَو زد بِهِ فِي عدد الْحمير وَاحِدًا فبمثل هَذَا تتخلص من آفَة هَذَا الْبَاب وغائلته وَكَثْرَة الْمَلَامَة وَالله الْمُسْتَعَان
الْمُقدمَة التَّاسِعَة
فَسَاد الْخَاصَّة من النَّاس وَاقع بِحَسب الانذار بِهِ لَا محَالة وَذَلِكَ فِي صنفين
الصِّنْف الأول الْعلمَاء المسممون لاستحكام فسادهم بعلماء السوء وَمن الْوَارِد بذلك مِنْهُم خبران
أَحدهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيح أَن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه من النَّاس وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء فَإِذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس رؤوسا جُهَّالًا فسئلوا فافتوا بِغَيْر علم فضلوا واضلوا(2/450)
قَالَ الْخطابِيّ قد اعْلَم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن آفَة الْعلم ذهَاب اهله وانتحال الْجُهَّال لَهُ وترؤسهم على النَّاس باسمه وحذر النَّاس أَن يقتدوا بِمن كَانَ من أهل هَذِه الصّفة وَاخْبَرْ انهم ضلال مضلون
الثَّانِي قَول ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ كَيفَ بكم إِذا البستكم فتْنَة يَرْبُو فِيهَا الصَّغِير ويهرم فِيهَا الْكَبِير وتتخذ سنة فَإِن غيرت يَوْمًا قلت هَذَا مُنكر قَالُوا وَمَتى ذَلِك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن قَالَ ذَلِك إِذا قلت امناؤكم وَكثر امراؤكم وَقلت فقهاؤكم وتفقه لغير الدّين والتمست الدُّنْيَا بِعَمَل الاخرة
تَعْرِيف روى عَن الْحسن انه قَالَ طلاب هَذَا الْعلم ثَلَاثَة اصناف من النَّاس فاعرفوهم بصفاتهم فصنف تعلموه للمراء والجدل وصنف تعلموه للاستطالة والختل وصنف تعلموه للتفقه وَالْعقل فَصَاحب المراء والجدال متعرض لِلْقِتَالِ فِي اندية الرِّجَال يذاكر الْعلم بخفة الْحلم قد تسربل الجشع وتبرأ من الْوَرع فدق الله من هَذَا خيشومه وَقطع مِنْهُ الحزم حيزومه وَصَاحب الاستطالة والختل ذُو خب وملق(2/451)
يستطيل على اشباهه من امثاله فيختلهم بخلع حليته فَهُوَ لحلوانهم هاضم ولدينه حاطم فاعمى الله عَن هَذَا خَبره وَقطع من آثَار الْعلمَاء اثره وَصَاحب التفقه وَالْعقل ذُو كآبة وحزن قد تنحى عَن فرشه وَقَامَ اللَّيْل فِي حندسه يعْمل ويخشع قد ازكتاه يَدَاهُ واعمرتاه رِجْلَاهُ فَهُوَ مقبل على شَأْنه عَارِف بِأَهْل زَمَانه قد استوحش من كل ثِقَة من اقرانه فَشد الله من هَذَا اركانه واعطاه يَوْم الْقِيَامَة امانه
الصِّنْف الثَّانِي الامراء الموصوفون لتحَقّق فسادهم بأمراء الْجور وَمن الانذار بذلك خبران
أَحدهمَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيح انكم سَتَرَوْنَ بعد اثره وامورا تنكرونها قَالُوا فَمَا تَأْمُرنَا بِهِ يَا رَسُول الله قَالَ ادوا اليهم حَقهم واسألوا الله حقكم
الثَّانِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكعب بن عجْرَة اعاذك الله من امارة السُّفَهَاء فَقَالَ وَمَا امارة السُّفَهَاء قَالَ امراء يكونُونَ من بعدِي لَا يَهْتَدُونَ بهديي وَلَا يستنون بِسنتي فَمن صدقهم بكذبهم واعانهم على ظلمهم فَأُولَئِك لَيْسُوا مني وَلست مِنْهُم وَلَا يردون على حَوْضِي وَمن لم(2/452)
يُصدقهُمْ وَلم يُعِنْهُمْ على ظلمهم فولئك مني وَأَنا مِنْهُم وسيردون على حَوْضِي يَا كَعْب بن عجْرَة النَّاس غاديان فمبتاع نَفسه فمعتقها وبائع نَفسه فموبقها رَوَاهُ الْأَمَام احْمَد وَاللَّفْظ لَهُ
اعلام
فَسَاد اخذ هذَيْن الصِّنْفَيْنِ ملازم فِي الْوُجُود لفساد الصِّنْف الآخر غَالِبا وَمن ثمَّ يتضاعف بهما محنة النَّاس وافاتهم فَمن كَلَام أبي مَرْوَان بن حَيَّان فِي ذَلِك وَلم تزل آفَة النَّاس مُنْذُ خلقُوا فِي صنفين مِنْهُم هم كالملح فيهم الامراء وَالْفُقَهَاء قَلما تتنافر فِي اشكالهم بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يردون
قَالَ فقد خص الله سُبْحَانَهُ هَذَا الْقرن الَّذِي نَحن فِيهِ من اعوجاج هذَيْن الصِّنْفَيْنِ لدينا بِمَا لَا كفاء لَهُ وَلَا مخلص مِنْهُ فالامراء القاسطون قد نكبوا بهم عَن نهج الطَّرِيق ذيادا عَن الْجَمَاعَة وجريا إِلَى الْفرْقَة وَالْفُقَهَاء ائمتهم صموت وصرفوا عَمَّا اكده الله عَلَيْهِم من التَّبْيِين لَهُم قد اصبحوا بَين آكل من حلوائهم وخابط فِي اهوائهم وَبَين مستشعر مخافتهم اخذا بالتقية فِي صدقهم
قَالَ فَمَا القَوْل فِي ارْض فسد ملحها الَّذِي هُوَ المصلح لجَمِيع اغذيتها هَل هِيَ إِلَّا مشفية على بوارها واستئصالها
قلت قَالَ الْغَزالِيّ مُشِيرا إِلَى مَا ينظر إِلَى هَذَا الْمَعْنى وَلذَلِك قيل مَا(2/453)
فَسدتْ الرّعية إِلَّا بِفساد الْمُلُوك وَلَا فَسدتْ الْمُلُوك إِلَّا بِفساد الْعلمَاء
الْمُقدمَة الْعَاشِرَة
الْقَصْد فِي المخالطة وَالْعُزْلَة هُوَ الْمَحْمُود فِي الْجُمْلَة وَفِيه عِبَارَات تحوم على لُزُوم التَّوَسُّط بِهِ بَين طرفِي افراط ذَلِك وتفريطه
أَحدهمَا قَول اكثم بن صَيْفِي الانقباض عَن النَّاس مكسبة للعداوة ومعرفتهم مكسبة لقرين السوء فَكُن للنَّاس بَين المنقبض والمقارب فَإِن خِيَار الْأُمُور اوسطها
الثَّانِيَة قَول وهب بن مُنَبّه لَو هيب بن الْورْد وَقد قَالَ لَهُ أَنِّي أُرِيد أَن اعتزل النَّاس فَقَالَ لَهُ لَا بُد لَك من النَّاس وَلَا بُد للنَّاس مِنْك لَك اليهم حوائج وَلَهُم اليك حوائج وَلَكِن كن فيهم اصم سميعا اعمى بَصيرًا سكُوتًا ونطوقا
الثَّالِثَة قَول ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ خالط النَّاس وزايلهم وَدينك لَا تكلمنه
قَالَ الْخطابِيّ يُرِيد خالطهم ببدنك وزايلهم بقلبك
قَالَ وَلَيْسَ هَذَا من بَاب النِّفَاق بل من بَاب المدارات وَهِي صَدَقَة كَمَا فِي الحَدِيث(2/454)
الرَّابِعَة قَول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَضِي الله عَنهُ من لم يعاشر بِالْمَعْرُوفِ من لَا يجد لَهُ من معاشرته بدا يَجْعَل الله لَهُ فرجا ومخرجا
قلت فِي مَعْنَاهُ قَالَ المتنبي
وَمن نكد الدُّنْيَا على الْحر أَن يرى ... عدوا لَهُ مَا من صداقته بُد
الْخَامِسَة
قَالَ الْخطابِيّ الطَّرِيقَة المثلى فِي هَذَا الْبَاب أَن لَا تمْتَنع من حق يلزمك للنَّاس وان لم يطالبوك بِهِ وان لَا تنهمك لَهُم فِي بَاطِل لَا يجب عَلَيْك وان دعوك اليه وان من اشْتغل بِمَا لَا يعنيه فَاتَهُ مَا يعنيه وَمن انحل فِي الْبَاطِل جمد عَن الْحق وَكن مَعَ النَّاس فِي الْخَيْر وَكن بمعزل عَنْهُم فِي الشَّرّ وتوخ أَن تكون فيهم شَاهدا كغائب وعالما كجاهل
قَالَ وانشد أَبُو زيد فِي الْمَعْنى
(إِذا مَا عممت النَّاس بالانس لم تزل ... لصَاحب سوء مستفيدا وكاسبا)
(وان تقصهم يرموك عَن سهم بغضة ... فَكُن خالطا أَن شِئْت أَو كن مجانبا)
(فَلَا تدنون مِنْهُم وملا تقصينهم ... وَلَكِن امرا بَين ذَاك مقاربا)
عاطفة رُجُوع
إِذا تقررت هَذِه الْمُقدمَات فَقَالُوا مَنْفَعَة هَذِه السياسة فِي امرين
أَحدهمَا السَّلامَة من النَّاس والاخرة اسْتِخْرَاج الْمَنَافِع مِنْهُم وجوامع مَا يحصل بِهِ ذَلِك ملخص فِي مسَائِل(2/455)
الْمَسْأَلَة الأولى
فِي ملك اللِّسَان وملاكه عَن خطرين قَاتل كَمَا قيل اللِّسَان كالسبع أَن لم توثقه عدا عَلَيْك وَقَالَ
(واحفظ لسَانك ايها الانسان ... لَا يلدغنك انه ثعبان)
(كم فِي الْمَقَابِر من قَتِيل لِسَانه ... كَانَت تهاب لقاءه الشجعان)
ومفسدكما قيل لَا تفسدن لسَانك فَيفْسد عَلَيْك شَأْنك
وَقَالَ
0 - احفظ لسَانك أَن تَقول فتبتلي ... أَن الْبلَاء مُوكل بالْمَنْطق)
الْخطر الأول الْقَاتِل واسرعه بذلك امران كَلَام فِي الشَّرْع بِمَا يُخَالِفهُ وخوض فِي السُّلْطَان بِمَا يغضبه
الْأَمر الأول الْكَلَام فِي الشَّرْع وَذَلِكَ باحدى مَحْظُورَات أَحدهَا مُخَالفَة السّنة اعتقادا أَو عملا على وَجه قريب أَو بعيد
قلت إِمَّا الْقَرِيب وخصوصا فِي القطعيات فَظَاهر والنظريات قد يَنْتَهِي بشؤم الانحراف فِيهَا عَن نهج الطّرق السّنيَّة إِلَى توقع ذَلِك الْمَحْظُور وَفِي الْوَاقِع من ذَلِك مَا فِيهِ عِبْرَة الثَّانِي دَقِيق الْكَلَام فِي تَفْسِير قُرْآن أَو حَدِيث وخصوصا أَن كَانَ مذهبا لِذَوي ضَلَالَة(2/456)
قلت وَلَيْسَ هَذَا لأجل السَّلامَة من النَّاس فَقَط بل ولمفسدة الْكَلَام مَعَهم بِمَا لَا يفهمون وَالنَّهْي عَنهُ مُقَرر فِي موَاضعه واقل مَا فِيهِ حَدِيث السَّلامَة من الْقدح فِي الدّيانَة مَا اشار اليه ابْن الرُّومِي فِي قَوْله
(غموض الْأَمر حِين يذب عَنهُ ... يقلل نَاظر القَوْل المحق)
(تجل عَن الدَّقِيق عقول قوم ... فَيَقْضِي للمجل من المدق)
الثَّالِث ذكر أَسمَاء الفلاسفة فضلا عَن الْخَوْض فِي شَيْء فِي علومهم فِي مَلأ من النَّاس أَو مَعَ وَاحِد مِنْهُم
قلت وَلَا يفهم من هَذَا التحفظ انه لمُجَرّد سد بَاب التُّهْمَة خَاصَّة بل الْحق أَن الفلسفة مَعَ مضرتها بِالدّينِ بَاطِلَة فِي نَفسهَا لما تقرر إِنَّهَا غير وافية بِالْقَصْدِ الْمُدَّعِي فِيهَا وَلَا كَافِيَة فِي معرفَة السَّعَادَة الْمَوْعُود بهَا بعد الْمَوْت والناظر فِيهَا بِشَرْطِهِ لَهُ غَرَض آخر غير مَا يظنّ من حسن فِيهَا الِاعْتِقَاد وضل بهَا عَن سَوَاء السَّبِيل وَبسط ذَلِك لَا يَلِيق بالموضع
الْأَمر الثَّانِي الْخَوْض فِي السُّلْطَان وَذَلِكَ بِأحد اسباب مهلكة(2/457)
أَحدهَا ذكره بِسوء فِي نَفسه أَو فِيمَا هُوَ من سَببه أَن كَانَ حَقًا وَمن مُبَالغَة التحفظ فِي ذَلِك أَن يعلم مِنْك انك لَا تَأْخُذ فِي شَيْء من ذمه كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي طباعك إِلَّا مَعَ ثِقَة وَقَلِيل مَا هم الثَّانِي مُشَاهدَة المواطن الْمَذْكُور فِيهَا بِمَا يكره وَمن الْوَاجِب فِي ذَلِك أَن يبعد فِي الْهَرَب والبعد على الْمُشَاركَة طلبا للسلامة
الثَّالِث مصاحبة الْمُتَّهم عِنْده باضمار الانحراف عَنهُ أَو يتَوَقَّع مصيره إِلَى ذَلِك خوف أَن يظنّ بِهِ مثل ذَلِك إِذْ الْمَرْء على دين خَلِيله
الْخطر الثَّانِي الْمُفْسد وَذَلِكَ امران أَحدهَا وَهُوَ اشهدهما سبّ النَّاس والتعرض لَهُم فَإِنَّهُ جالب عدواتهم ومثير مطالبتهم بالمعارضة عَلَيْهَا
قلت وَمن كَلَام مَالك رَحمَه الله ادركت اقواما كَانَت لَهُم عُيُوب فَسَكَتُوا عَن عُيُوب النَّاس فَسكت النَّاس عَن عيوبهم وادركت اقواما لم تكن لَهُم عُيُوب فتكلموا فِي النَّاس فأحدث النَّاس لَهُم عيوبا
وَصِيَّة
قَالُوا وَلَا تقارض عَلَيْهِ من واجهه بِهِ فالدنيا احقر والعمر اقصر من اشْتِغَال رفيع الهمة بعداوة من السب ارْفَعْ مِنْهُ بعداوة من واجهه بِمَا يكره
قلت وَقد سبق فِي الْمُقدمَة الثَّامِنَة مَا قرر الْخطابِيّ فِي ذَلِك
الثَّانِي كلمة سخيفة يسْقط بهَا قَائِلهَا وان لم يعد على أحد والسلامة مِنْهَا وَمن كل كَلَام ضار إِنَّمَا هُوَ بأمرين قِرَاءَة الاداب الدَّالَّة على فرق مَا(2/457)
بَين الْكَلَام الغث والسمين وتعود ترك الْكَلَام إِلَّا بعد التروي فِيمَا يَلِيق أَن يتَكَلَّم بِهِ أَو يمسك عَنهُ
فَائِدَة
مِمَّا يستعان بِهِ على السَّلامَة من اللِّسَان طلبا للسلامة من النَّاس مُلَاحظَة امرين أَحدهمَا النجَاة من ملك مَا يتَكَلَّم بِهِ فَعَن الشَّافِعِي انه قَالَ للربيع من اصحابه يَا ربيع لَا تَتَكَلَّم فِيمَا لَا يَعْنِيك فَإنَّك إِذا تَكَلَّمت بالكلة مَلكتك وَلم تَملكهَا
الثَّانِي ستر الْعُيُوب عَنْهُم بِالصَّمْتِ قَالَ النَّوَوِيّ بلغنَا أَن قس بن سَاعِدَة واكثم بن سَاعِدَة واكثم بن صَيْفِي اجْتمعَا فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه كم وجدت فِي ابْن آدم من الْعُيُوب قَالَ هِيَ اكثر من أَن تحصى وَالَّذِي احصيته ثَمَانِيَة الاف عيب وَوجدت خصْلَة وَاحِدَة أَن استعملها سترت الْعُيُوب كلهَا قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ حفظ اللِّسَان
قلت وَفِي مَعْنَاهُ قَالَ ابْن الجزار
(اياك من زلل اللِّسَان فَإِنَّمَا ... عقل الْفَتى من لَفظه المسموع)
(فالمرء يختبر الاناء بنقره ... فَيرى الصَّحِيح بِهِ من المصدوع)
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة
فِي ملك الْحَواس واهمها العينان لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا اسْتِدْلَال النَّاس خَاصَّة وَعَامة على مُضْمر النَّاظر بهما كنظره إِلَى الْوُجُوه الحسان من ذكر أَو أُنْثَى وَلَو كالتفاتة لحظ(2/459)
الثَّانِي وَهُوَ سَبَب عَن ذَلِك حكمهم عَلَيْهِ بِمَا كَانَ فِي غنى عَنهُ ومستورا فِيمَا ينطوي عَلَيْهِ جنانه
قلت وَاقْتصر هُنَا على ملك هَذِه الحاسة دون اخواتها لَان غَرَض هَذِه السياسة إِنَّمَا هُوَ اصلاح الظَّاهِر فَقَط ومدركات بَاقِي الْحَواس لَا يكون بِحَضْرَة النَّاس فَلَا جرم لم تقع بِهِ عناية فِي الْموضع
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة
فِي صُورَة الانسان بَاطِنا وظاهرا وَالْمرَاد بذلك رِعَايَة امور
أَحدهَا ملك قواه النفسانية فالغضبية عَن الحدة والحرج وَالْكبر وَجب الاستعلاء وَظُهُور الْحَسَد والعداوة والمضرة وَشبه ذَلِك والشهوانية عَن السَّبق والاستهتار واطلاق الْحَواس فِي الملاذ وترديد خسائس الشَّهَوَات على اللِّسَان وَنَحْو ذَلِك
الثَّانِي تَحْسِين مُعَامَلَته بِالْعَدْلِ والانصاف وَترك اسْتِعْمَال الْخبث وفرط الدهاء إِلَّا لحَاجَة وَاجْتنَاب الْكَذِب والمرآء والجدال والمزاح المفرط وَنَحْو ذَلِك
الثَّالِث ضبط حركاته عَمَّا يشين كالاشارة بِالْيَدِ أَو الرَّأْس أَو غير ذَلِك عِنْد الْكَلَام والعبث بنتف اللِّحْيَة وفتلها وتنقية الانف وَقتل مَا يخرج مِنْهُ بَين الاصابع وَشبه ذَلِك
الرَّابِع توسطه فِي احوال نَفسه وبدنه بَين طرفِي الافراط والتفريط باتيان الاقتصاد والميل إِلَى التستر وكتم سره والترسل فِي الْكَلَام باعتدال وَاجْتنَاب الحشو فِيهِ كسمعت وَنَحْو ذَلِك من الْكَلِمَات الْمعينَة والهذي فِي الحركات وَالْوَقار والتؤدة واتقاء مَوَاضِع الريب وتقليل الْكَلَام وَتَقْدِيره فِي كل(2/460)
مقَام بِمَا يَلِيق بِهِ واعتدال حَرَكَة الْعين والجوارح بَين الحدة والخمود وَنَحْو ذَلِك
الْخَامِس تَزْيِين ظَاهره بِمَا يدل على المرؤة وَشرف النَّفس كنظافة الْجِسْم والاطراف والفم وقص الشَّارِب وَالظفر وَشبه ذَلِك
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة
فِي احواله الْخَارِجَة عَنهُ وَالْمَذْكُور من ذَلِك سيرة اللبَاس والاولى مِنْهُ فِي اعْتِدَال التحسين لَهُ مَا جمع امور
أَحدهَا تَخْصِيص الدرجَة بِهِ أَو ترفيع الْقدر خُصُوصا أَن ترفع بِنَفسِهِ أَو كَانَ فِي دَار غربَة فَإِن الْغَرِيب ابْن ثَوْبه
الثَّانِي عدم اخلاله بمقدرة مَا لَهُ لَيْلًا يعاب من حَيْثُ قصد الْجمال فِي اعين النَّاس وتوهم السَّلامَة مِنْهُم
وَالثَّالِث توسطه فِي مرتبَة مثله وجريه على مُعْتَاد الزَّمَان وَالْمَكَان فَإِن الْخُرُوج عَن المألوف منفر وَأَيْضًا من شَأْن الْعَامَّة أَن لَا تفضل من الموجودات إِلَّا الْأَجْسَام الدُّنْيَوِيَّة والسائس يترفع فيهم بِمَا هُوَ رفيع عِنْدهم عَظِيم الْمحل فِي اعينهم فيفوز مِنْهُم بالكرامة وَقَضَاء الْحَوَائِج مَعَ السَّلامَة مِنْهُم إِذْ الضَّرُورَة دافعته اليهم
قلت وَمن المنظوم فِي الحض على استجادة الثِّيَاب فِي الْجُمْلَة قَوْله(2/461)
(اجد الثِّيَاب إِذا اكتسيت فَإِنَّهَا ... زين الرِّجَال بهَا تهاب وتكرم)
(ودع التَّوَاضُع فِي اللبَاس تحريا ... فَالله يعلم مَا تكن وتكتم)
(فدنى ثَوْبك لَا يزيدك زلفة ... عِنْد الْإِلَه وانت عبد مجرم)
(وبهاء ثَوْبك لَا يَضرك بعد أَن ... تخشى الْإِلَه وتتقي مَا يحرم)
جَامع بَيَان
قَالُوا وقطب هَذَا الْمدَار معوله مِنْك النَّفس واعتياد التروي فِي الْأَقْوَال والافعال فَمَا وَجب اطلاقه أَو صرفه عمل عَلَيْهِ وقانون ذَلِك اطلاق الحركات لمَنْفَعَة أَو رَاحَة لَا تعقب الما أَو تستلزمه فاللذة راجحة عَلَيْهِ
قلت وعَلى شَرط مُوَافقَة الشَّرْع بِبَرَاءَة الذِّمَّة من تَبعته
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة
فِي الاخوان وَالصديق مِنْهُم بِاعْتِبَار مَا لاجله الصداقة ثَلَاثَة صديق التَّعْلِيم والراحة وَالْمَنْفَعَة
الصّديق الأول صديق التَّعْلِيم وَشَرطه جودة الْفَهم معلما أَو مرافقا أَو متعلما والسلامة من الْحَسَد وَحب الْغَلَبَة وخبث الطباع والغدر والتلون والملق
قلت وَقد مر فِي رَوْضَة الاعلام من آدَاب هَذِه الصداقة مَا فِيهِ بَلَاغ واطناب بَيَان
الصّديق الثَّانِي صديق الرَّاحَة وَيَنْبَغِي فِيهِ الظّرْف وخفة الرّوح وسلامة الْجِهَة وكتم الاسرار والمحبة ولبراءة من الْحَسَد والمساعدة وَحسن الْخلق(2/462)
قلت وَيجب على المتدين تَقْيِيد الرَّاحَة وطريقها بِمُقْتَضى مَا تبيحه الشَّرِيعَة وتطلقه وَلَا اعْتِبَار هُنَا بِكَلَام من لَا يَنْضَبِط بدي فليحذر مِنْهُ وَنحن نستعيذ بِاللَّه تَعَالَى أَن نزيد ذَلِك بتصريح أَو تلويح
الصّديق الثَّالِث صديق الْمَنْفَعَة وَيطْلب فِيهِ الْأَمَانَة والنصيحة وَالِاجْتِهَاد والمعرفة بالمنتفع بِهِ فِيهِ وَلَا احْتِيَاج إِلَى مَا وَرَاء ذَلِك مَتى احرزه وَجمعه
قلت وَتقدم أَن الخديم المستكفي بِهِ مَعَ الوثوق بغنائه كالمفقود وان المستكفي وان كَانَ غير مَأْمُون ارجح من عَكسه
تَعْمِيم الْقدر الْمُحْتَاج اليه فِي الْجَمِيع اطراح الْحَسَد والخبث والعداوة وَسُوء النِّيَّة وَالظَّن وَحب الاضرار وَالْغَلَبَة والغبن والمكالبة والاستنقاص وأصل ذَلِك كُله خبث لانفس واخفها سوء الظَّن والجميع لَهَا سم قَاتل لَا تفي بِهِ الصداقة بالعداوة وَلَا الْمَنْفَعَة بالمضرة
تَخْصِيص وَقع للخطابي فِيمَا يرجع لمعاني الصداقة الأولى تحذير بَالغ من الاغترار فِيهَا بِصُحْبَة شرار المتعلمين
ولخصه الغزال بِمَا نَصه دع الراغبين فِي صحبتك والتعليم مِنْك فَلَيْسَ لَك مِنْهُم مَال وَلَا جمال اخوان الْعَلَانِيَة اعداء السريرة إِذا لقوك تملقوك وَإِذا غبت عَنْهُم سفهوك وَمن اتاك مِنْهُم كَانَ عَلَيْك رقيبا وَإِذا(2/463)
خرج عَلَيْك كَانَ خَطِيبًا أهل نفاق ونميمية وغل وخديعة وَلَا تغتر بإجتماعهم عَلَيْك فَمَا غرضهم الْعلم بل المَال والجاه أَن يتخذوك سلما إِلَى اوطارهم وَحِمَارًا فِي حوائجهم وان قصرت فِي غَرَض من اغراضهم كَانُوا اشد اعدائك ثمَّ يعدون ترددهم اليك دَالَّة عَلَيْك ويرونه حَقًا وَاجِبا لديك ويفرضون عَلَيْك أَن تبذل عرضك وجاهك وَدينك لَهُم فتعادي عدوهم وَتَنصر قريبهم وخادمهم ووليهم وتنتهض لَهُم سَفِيها وَقد كنت فَقِيها وَتَكون لَهُم تَابعا خسيسا بعد أَن كنت متبوعا رَئِيسا وَلذَلِك قيل اعتزال الْعَامَّة مرؤة تَامَّة
قَالَ الْغَزالِيّ وَصدق فَإنَّك ترى المدرسين فِي رق دَائِم وَتَحْت حق لَازم مِمَّن تردد إِلَيْهِم كَأَنَّهُ يرى حَقه وَاجِبا عَلَيْهِم ثمَّ مضى فِي تَقْرِير ذَلِك بِمَا فِيهِ بَلَاغ فَرَاجعه من هُنَاكَ
ارشاد الْمُسْتَعْمل مَعَ الاخوان عملان تفصيلي واجمالي
الْعَمَل التفصيلي بِحَسب طَبَقَات الصداقة فَمَعَ صديق التَّعْلِيم اسْتِعْمَال حركات س حَرَكَة الْمعلم ج // س المعلمين من غير انبساط وَلَا ميل كثير عَمَّا يلم بِهِ من ذَلِك أَن(2/464)
سلمت طباعه وان كَانَ ساذجا سلك سَبيله فِي وقاره وَملك نَفسه عَن سَائِر قوى النَّفس وَمَعَ صديق الرَّاحَة اسْتِعْمَال مَا لَا يُبَالِي بِهِ أَن نقل عَنْك وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا مَعَ التحفظ ومزجه بحركات الشَّرْع
قلت وعَلى شطر مَا تقدم من التَّقْيِيد بِمُقْتَضى الشَّرْع واذ ذَاك يكون المزح بِهِ حَقِيقَة لَا لمُجَرّد التَّحَرُّز خَاصَّة وَمَعَ صديق الْمَنْفَعَة اسْتِعْمَال صُورَة الْوَقار مَعَه مَعَ اطراح قوى النَّفس ومشاركته مَا يُشَارك فِيهِ من غير مزِيد عَلَيْهِ
الْعَمَل الثَّانِي الاجمالي بإعتبار الْجَمِيع وَذَلِكَ تَحْسِين النِّيَّة فِي الْمُعَامَلَة وتوسط الظَّن وَالْمَنْفَعَة بِمِقْدَار التَّوَسُّع وَالْوَفَاء واللقاء بِالْبرِّ والبشاشة وَقَضَاء الحومائج وَحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ فِي الْغَيْب وَالشَّهَادَة ومشاهدة فَرَحهمْ وَلُزُوم التَّوَسُّط فِي النَّفَقَة مَعَ الْكَرم والبراءة من التملق بذلك وَاجْتنَاب الْكبر وَالْكذب والترأس واظهار انه افضل وافهم وَاعْلَم وَالسُّكُوت عَن عيب هُوَ فِيهِ فَلَا يذكرهُ لَهُ وَلَا لغيره وَاحْتِمَال سَائِر الْعُيُوب مَتى صفي مِنْهُ الْأَكْثَر وتمهيد يذكرهُ لَهُ وَلَا لغيره وَالِاحْتِمَال خُصُوصا مَتى كَانَت عوارض زائلة وَالِاعْتِبَار بهَا عَمَّا لَا يرضاه مِنْك أَو سيقبلها أَن صحت الصداقة(2/465)
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة
فِي المعارف وهم صنفان
أَحدهمَا المطبوع على غائلة الشَّرّ وخبث النَّفس وفسادها وعلاجه مداراته بِالسَّلَامِ والبعد من خلطته ومعاملته بالوقار والسكون مَتى تسور عَلَيْهَا حَتَّى يثقل عَلَيْهِ وَالثنَاء عَلَيْهِ بالجميل والتحيل فِي عدم لِقَائِه حَتَّى ينساك ويشتغل بغيرك
الثَّانِي سَائِر من لَا يَنْتَهِي إِلَى ذَلِك ومعاملتهم بِالسَّلَامِ عَلَيْهِم وَالسُّؤَال عَن حَالهم والبشاشة عِنْد اللِّقَاء وَترك الانبساط وَالْكَلَام مَعَهم وتقليل خلطهم إِلَّا بعد التجربة الطَّوِيلَة أحد الْمَقَاصِد الْمُتَقَدّمَة
تَكْمِلَة بَيَان ذكر الْغَزالِيّ فِي تَقْرِير هَذَا الْبَاب جملتين لكثير من آدَاب الْمَعيشَة والمعاشرة نذكرها تَمامًا لهَذَا الْغَرَض
الْجُمْلَة الأولى قَالَ وَهِي الجامعة أَن لَا تصغر مِنْهُم احدا حَيا أَو مَيتا فتهلك إِذْ لَا تَدْرِي لَعَلَّه خير مِنْك للختم لَهُ بالصلاح وان كَانَ فَاسِقًا وَلَا تنظر إِلَيْهِم بالتعظيم لَهُم فِي حَال دنياهم فَإِن الدُّنْيَا صَغِيرَة عِنْد الله تَعَالَى صَغِير مَا فِيهَا وَمهما عظم أهل الدُّنْيَا فِي نَفسك فقد عظمت الدُّنْيَا فَتسقط عِنْد الله تَعَالَى وَلَا تبذل لَهُم دينك لتنال من دنياهم فتصغر فِي اعينهم ثمَّ تحرم دنياهم فَإِن لم تحرم كنت قد استبدلت الَّذِي هُوَ ادنى بِالَّذِي هُوَ خير وَلَا تعاديهم(2/466)
بِحَيْثُ تظهر العداولة فَيطول الْأَمر عَلَيْك فِي المعاداة وَيذْهب دينك ودنياك فيهم وَيذْهب دينهم فِيك إِلَّا إِذا رَأَيْت مُنْكرا فِي الدّين فتعادي افعالهم القبيحة وَتنظر إِلَيْهِم بِعَين الرَّحْمَة لتعرضهم لمقت الله تَعَالَى وعقوبته بعصيانهم فحسبهم جَهَنَّم يصلونها فَإنَّك تحقد عَلَيْهِم وَلَا تستكن إِلَيْهِم فِي مودته لَك وثنائهم عَلَيْك فِي وَجهك وَحسن بشرهم لَك فَإنَّك أَن طلبت حَقِيقَة ذَلِك لم تَجِد فِي الْمِائَة إِلَّا وماحدا وَرُبمَا لم تَجدهُ وَلَا تشك إِلَيْهِم احوالك فيكللك الله إِلَيْهِم وَلَا تطمع أَن يَكُونُوا لَك فِي الْغَيْب والسر كَمَا فِي الْعَلَانِيَة فَذَلِك طمع كَاذِب وأنى تظفر بِهِ وَلَا تطمع بِمَا فِي ايديهم فتستعجل الذل وَلَا تنَال الْغَرَض وَلَا تعل عَلَيْهِم تكبرا لاستغنائك عَنْهُم فَإِن الله تَعَالَى يلجئك إِلَيْهِم عُقُوبَة على التكبر بِإِظْهَار الِاسْتِغْنَاء وَإِذا سَأَلت اخاص مِنْهُم حَاجَة فقضاها فَهُوَ أَخ مُسْتَفَاد فَإِن لم يقضها فَلَا تعاتبه فَيصير عدوا تطول عَلَيْك مقاساته وَلَا تشتغل بوعظ من لَا ترى فِيهِ مخائل الْقبُول فَلَا يسمع مِنْك ويعاديك وَليكن وعظك عرضا وارسالا من غير تنصيص على الشَّخْص وَمهما رَأَيْت مِنْهُم كَرَامَة فاشكر الله تَعَالَى الَّذِي سخرهم لَك واستعذ بِاللَّه أَن يكلك إِلَيْهِم وان بلغك مِنْهُم غيبَة وَرَأَيْت مِنْهُم شرا أَو اصابك مِنْهُم مَا يسوءك فَكل أَمرهم إِلَى الله تَعَالَى واستعذ بِاللَّه من شرهم وَلَا تشغل نَفسك بالمكافأة فيزيد الضَّرَر بِعَمَلِهِ ويضيع الْعُمر بشغله وَلَا تقل لَهُم لم تعرفوا حَقي أَو موضعي
واعتقد انك لَو استحققت ذَلِك لجعل الله تَعَالَى لَك موضعا فِي قروبهم فَالله تَعَالَى هُوَ المحبب والمبغض إِلَى الْقُلُوب وَكن فيهم سميعا لحقهم اصم عَن باطلهم نطوقا بحقهم صموتا عَن باطلهم وَاحْذَرْ صُحْبَة اكثر النَّاس فَإِنَّهُم لَا يقيلون عَثْرَة وَلَا يغفرون زلَّة وَلَا يسترون عَورَة ويحاسبون على(2/467)
النقير والقطمير ويحسدون على الْقَلِيل وَالْكثير ينتصفون وَلَا ينصفون وَيَأْخُذُونَ على الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَلَا يعفون يعيرون الاخوان بالنميمية والبهتان فصحبة أَكْثَرهم خسران وقطيعتهم رُجْحَان أَن رَضوا فظاهرهم الملق ومان سخطوا فباطنهم الحنق لَا يُؤمنُونَ فِي حنقهم أَو لَا يرحمون فِي قلقهم ظَاهِرهمْ ثِيَاب وَبَاطِنهمْ ذياب يقطعون بالظنون ويتغامزون بالعيون ويتربصون بصديقهم ريب الْمنون يُحصونَ عَلَيْك العثرات فِي صحبتهم ليواجهونه بهَا فِي غضبهم وَلَا تعول على مَوَدَّة من لم تختبره كل الْخِبْرَة فَإِن صحبته مُدَّة فِي دَار أَو مَوضِع فتجربه فِي عَزله وولايته وغناه وَفَقره أَو تُسَافِر مَعَه أَو تعامله فِي الدِّينَار وَالدِّرْهَم أَو تقع فِي شدَّة فتحتاج إِلَيْهِ فَإِن رضيته فِي هَذِه الْأَحْوَال فتخذه أَبَا لَك أَن كَانَ كَبِيرا أَو ابْنا لَك أَن كَانَ صَغِيرا أَو أَخا لَك أَن كَانَ مثيلا
الْجُمْلَة الثَّانِيَة قَالَ وَهِي مِمَّا حفظ من كَلَام بعض الْحُكَمَاء قَالَ أَن اردت حسن الْمَعيشَة والمجالسة فالق صديقك وعدوك بالرضى من غير ذَلِك لَهُم وَلَا هَيْبَة مِنْهُم وتوقر فِي غير كبر وتواضع فِي غير ذلة وَكن فِي جَمِيع امورك فِي اوسطها فكلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم وَلَا تنظر فِي عقبك وَلَا تكْثر الِالْتِفَات وَلَا تقف على الْجَمَاعَات وَإِذا جَلَست فَلَا تستوفز وَتحفظ عَن شبيك اصابعك والعبث بلحيتك وتخليل اسنانك(2/468)
وادخال اصبعك فِي انْفَكَّ وَكَثْرَة بصاقك وتنحمك وطرد الذُّبَاب عَن وَجهك وَكَثْرَة التمطي والتثاوب ف يوجوه النَّاس وَفِي الصَّلَاة وَغَيرهَا وَليكن مجلسك هاديا وحديثك منظوما مُرَتبا واصغ إِلَى الْكَلَام الْحسن مِمَّن حَدثَك من غير اظهار عجب مفرط وَلَا تسأله اعادته واسكت عَن المضاحك فِي الحكايات وَلَا تحدث عَن عجائب ولدك أَو جاريتك أَو شعرك أَو صنيفك سَائِر مَا يخصك وَلَا تتصنع تصنع الْمَرْأَة فِي التزين وَلَا تتبذل تبذل العَبْد وتوق كَثْرَة الْكحل والاسلاف فِي الدّهن وَلَا تلح فِي الْحَاجَات وَلَا تشجع احدا على الظُّلم وَلَا تعلم اهلك وولدك فضلا عَن غَيرهم مِقْدَار مَالك فَإِنَّهُم أَن رَأَوْهُ قَلِيلا هنت عَلَيْهِم وان كَانَ كثيرا لم تبلغ قطّ رضاهم واخفهم من غير عنف وَلنْ لَهُم من غير ضعف وَلَا تهازل عَبدك وَلَا امتك فَيسْقط وقارك وَإِذا خَاصَمت فتوقر وَتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر فِي حجتك وَلَا تكْثر الاشارة بِيَدِك وَلَا تكْثر الِالْتِفَات لمن وَرَاءَك وَلَا تجث على ركبتيك وَإِذا هدأ غضبك فَتكلم
وَإِذا قربك السُّلْطَان فَكُن مِنْهُ على مثل حد السنان وان استرسل اليك فَلَا تأمن انقلابه عَلَيْك وارفق بِهِ رفقك بِالصَّبِيِّ وَكَلمه بِمَا يشتهيه وَلَا يحملك لطفه بك أَن تدخل بَينه وَبَين اهله وَولده وحشمه وان كنت لذَلِك مُسْتَحقّا عِنْده فَإِن سقطة الدَّاخِل بَين الْملك واهله سقطة لَا تنعش وزلة لَا تقال
واياك وصديق الْعَافِيَة فَإِنَّهُ أعدى الاعداء وَلَا تجْعَل مَالك اكرم(2/469)
من عرضك وَإِذا دخلت مَجْلِسا فالادب فِيهِ الْبِدَايَة بِالتَّسْلِيمِ وَترك التخطي لمن سبق وَالْجُلُوس حَيْثُ اتَّسع وَحَيْثُ تكون اقْربْ إِلَى التَّوَاضُع أَن تحيي بِالسَّلَامِ من قرب مِنْك عِنْد الْجُلُوس
وَلَا تجْلِس عِنْد الطَّرِيق فَإِن جَلَست فأدبه غض الطّرف وَنصر الْمَظْلُوم واغاثة الملهوف وَعون الضَّعِيف وارشاد الضال ورد السَّلَام واعطاء السَّائِل وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والارتياد لموْضِع البصاق فَلَا تبصقن فِي جِهَة الْقبْلَة وَلَا عَن يَمِينك وَلَكِن عَن يسارك أَو تَحت قدمك الْيُسْرَى
وَلَا تجَالس الْمُلُوك فَإِن فعلت فأدبه ترك الْغَيْبَة ومجانبة الْكَذِب وصيانة السِّرّ وَقلة الْحَوَائِج وتهذيب الالفاظ والاعراب فِي الْخطاب والمذاكرة بأخلاق الْمُلُوك وَقلة المداعبة وَكَثْرَة الحذر مِنْهُم وان ظَهرت الْمَوَدَّة وَلَا تتجشأ بمحضره وَلَا تتخلل بعد الاكل عِنْده وعَلى الْملك أَن يحْتَمل كل شَيْء إِلَّا افشاء السِّرّ والقدح فِي الْملك والتعرض للحرم
وَلَا تجَالس الْعَامَّة فَإِن فعلت فأدبه ترك الْخَوْض فِي حَدِيثهمْ وَترك الاصغاء إِلَى اراجيفهم والتغافل عَمَّا يجْرِي من سوء الفاظهم وَقلة اللِّقَاء لَهُم مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِم واياك أَن تمازح لبيبا أَو غير لَبِيب فَإِن اللبيب يحقد عَلَيْك وَالسَّفِيه يتجرأ عَلَيْك لِأَن المزح يخرق الهيبة وَيسْقط مَاء الْوَجْه وَيذْهب بحلاوة الود ويشين فقه الْفَقِيه ويجريء السَّفِيه وَيسْقط الْمنزلَة عِنْد الحكم وتمقته النُّفُوس وَيُمِيت الْقلب ويباعد عَن الرب تَعَالَى ويكسب الْغَفْلَة وَيُورث الذلة وَبِه تظلم السرائر وَتَمُوت الخواطر وَبِه تكْثر الْعُيُوب وَتبين الذُّنُوب وَقد قيل لَا يكون المزاح إِلَّا من سخف أَو بطر وَمن بلَى فِي مجْلِس بمزاح أَو لغط فليذكر الله تَعَالَى عِنْد قِيَامه ثمَّ ذكر حَدِيث كَفَّارَة الْمجْلس(2/470)
مسكة الختام
تقدم أَن احدا لم يلغ فِي كَمَال الِاعْتِدَال فِي اصول الاخلاق وفروعها مبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمُقْتَضى ذَلِك مَعَ طلب الِاقْتِدَاء بِهِ أَن سيرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سياسة الدّين وَالدُّنْيَا هِيَ السِّيرَة الجامعة لمحاسن الشيم وَمَكَارِم الاخلاق
وَقبل الْخَتْم بتلخيص ذَلِك تبركا فَهُنَا مَسْأَلَتَانِ
الْمَسْأَلَة الأولى
فِي فَوَائِد الْوُقُوف عَلَيْهِ وَهِي جملَة
الْفَائِدَة الأولى دلَالَته على صدق نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن بعد الْعلم بِجَوَاز النُّبُوَّة فِي الْجُمْلَة على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن التلمساني وان كَانَ الجاحظ اعتبرها على الاطلاق وَتَبعهُ الْغَزالِيّ فِي المنقذ من الضلاة والامام فَخر الدّين فِي المعالم وملخصها من تَقْرِير الْغَزالِيّ أَن من شَاهد احواله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو بلغه مستفيض خَبَرهَا الْمُشْتَمل على اخلاقه واقوال وافعاله وسياسته لاصناف الْخلق بالهداية والتآلف والانقياد مُنْضَمًّا إِلَى مَا خص بِهِ من عجائب الاجوبة فِي مضائق الاسئلة وترافع التَّدْبِير ومحاسن الاشارة لتفاصيل الْأَحْكَام الَّتِي يعجز نحارير الْفُقَهَاء عَن ادراك اوائلها لم يبْق لَهُ ريب فِي أَن ذَلِك لَا قدرَة للبشر على اكتسابه بحيلة وانما يتَصَوَّر بتأييد سماوي وَقُوَّة الهية لَا سِيمَا وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امي لم يقْرَأ كتابا وَلم تلمذ لاستاذ وَلَا رَحل فِي طلب الْعلم واذ ذَاك فَهُوَ قَاطع بصدقه وبصحة مَا أَتَى بِهِ وَمن ثمَّ كَانَ الْعَرَبِيّ القح يَقُول عِنْد رُؤْيَته ص وَمَا هَذَا وَجه كَذَّاب(2/471)
الْفَائِدَة الثَّانِيَة
شَهَادَته بإنه اكرم الْخلق على الله تَعَالَى وارفعهم لَدَيْهِ مقَاما وَتَقْرِيره على طَريقَة الْأَمَام الْفَخر انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلغ لهَذَا الْكَمَال الْعَظِيم فِي انْتِفَاع الْخلق بِهِ فِي الدعْوَة إِلَى التَّوْحِيد اولا والحث على مَكَارِم الاخلاق ثَانِيًا مبلغا لم يبلغهُ أحد من اكابر الْأَنْبِيَاء وَالرسل لانه عِنْد ظُهُوره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلب الدُّنْيَا من الْبَاطِل إِلَى الْحق وَمن الظلمَة إِلَى النُّور فِي اكثر بِلَاد الْمَعْمُور حَتَّى اطلق الالسنة بِالتَّوْحِيدِ وطهر النُّفُوس من خبائث الاخلاق وَرجع الْخلق من حب الدُّنْيَا إِلَى حب الْمولى بِحَسب الْإِمْكَان وَعند ذَلِك فَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اكرم الْخلق على الله تَعَالَى وافضل رَسُول بَعثه
قَالَ ابْن التلمساني لَا شكّ فِي فَضله من هَذَا الْوَجْه مَعَ مَاله من الْفَضَائِل
الْفَائِدَة الثَّالِثَة
اقتضاؤه بِهَذِهِ الدّلَالَة وَالشَّهَادَة اقْتِدَاء الْخلق بِهِ فِي سياسة الدّين وَالدُّنْيَا لامرين
أَحدهمَا وُرُود الْأَمر بذلك كتابا وَسنة بقوله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ} الاية قَالَ عِيَاض عَن التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم الاسوة فِي الرَّسُول الِاقْتِدَاء بِهِ والاتباع لسنته وَترك مُخَالفَته فِي قَول أَو فعل وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن احسن الحَدِيث كتاب الله وَخير الْهدى هدى مُحَمَّد وَشر الْأُمُور محدثاتها(2/472)
الثَّانِي حصر السَّعَادَة فِي مُتَابَعَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَّا فِي الدّين فَظَاهر واما فِي الدُّنْيَا فَلَمَّا تقرر وَقد تقدم أَن مصالحها إِنَّمَا تعْتَبر برعاية الشَّرْع لَهَا تحصيلا وجلبا وَمن ثمَّ اعْرِض الموفقون عَن اعْتِبَار سياسة الدُّنْيَا بِمَا يفهم مِنْهُ الاستبداد بِهِ لآراء الفلاسفة
حِكَايَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ كَانَ الْبَاجِيّ ينْتَظر يَوْمًا اذن احْمَد بن هود فجالسه ابْنه الملقب بالمؤتمن وَكَانَ يفلسف وجاذبه ذيل الحَدِيث فَقَالَ لَهُ هَل قَرَأت ادب النَّفس لافلاطون فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا قَرَأت أدب النَّفس لمُحَمد بن عبد الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وعني بذلك مَا تضمنته الشَّرِيعَة من قُرْآن وَسنة فِي هِدَايَة الْبشر وايضاح السّنَن
الْفَائِدَة الرَّابِعَة
اعلامه بِأَن أدب هَذَا الِاقْتِدَاء فِي الظَّاهِر عنوان مثله فِي الْبَاطِن لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَن سرائر الْقُلُوب منابع الاعمال ومغارس بذرها فَمَتَى عذب موردها واينع روضها دلّ على أَن الْقلب صَالح السريرة لَا محَالة
الثَّانِي أَن انوار السرائر إِذا اشرقت على الظَّوَاهِر زينتها بدلت مساويها محَاسِن(2/473)
قَالَ الْغَزالِيّ وَمن لم يكن صَدره مشكاة الانوار الإلهية لم يفض على ظَاهره جمال الاداب النَّبَوِيَّة انْتهى
الْفَائِدَة الْخَامِسَة
احالته فِي هَذَا الِاقْتِدَاء على الْقُرْآن الَّذِي كَانَ خلقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاصل تهذيبه وتكميله
قَالَ الْغَزالِيّ وَمِنْه يشرق النُّور على كَافَّة الْخلق
قلت وَعند ذَلِك فَمن اقْتدى بِغَيْرِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضل وَمن استضاء بسواه بَقِي فِي الْعَمى وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة
فِي سِيَاق مَا يدل من الْأَخْبَار على فَضله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ الاشارة إِلَى جمل من اوصافه الظَّاهِرَة واخلاقه الْبَاطِنَة الشَّاهِد ذَلِك كُله بِاسْتِحْقَاق ذَلِك الْفضل الْعَظِيم وَالْمَذْكُور من ذَلِك خبران
الْخَبَر الأول يرْوى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ سمع بعد وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول وَهُوَ يبكي بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد كَانَ لَك جذع تخْطب النَّاس عَلَيْهِ فَمَا كثر النَّاس اتَّخذت منبرا لتسمعهم فحن الْجذع لفراقك حَتَّى جعلت يدك عَلَيْهِ فسكن فأمتك اولى بالحنين عَلَيْك حِين فَارَقْتهمْ بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد بلغ من فضلك عِنْد رَبك أَن جعل طَاعَتك طَاعَته فَقَالَ من يطع الرَّسُول فقد اطاع الله بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد بلغ من فضيلتك عِنْد أَن اخبرك بِالْعَفو(2/474)
عَنْك قبل أَن يُخْبِرك بذنبك فَقَالَ عَفا الله عَنْك لم اذنت لَهُم بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد بلغ من فضيلتك عِنْده أَن بَعثك آخر الْأَنْبِيَاء وذكرك فِي اولهم فَقَالَ تَعَالَى وَإِذا اخذنا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وابراهيم ومُوسَى وَعِيسَى بن مَرْيَم لقد بلغ من فضيلتك عِنْده أَن أهل النَّار يودون لَو يَكُونُوا اطاعوك وهم بَين اطباقها يُعَذبُونَ {يَقُولُونَ يَا ليتنا أَطعْنَا الله وأطعنا الرَّسُول} بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لَئِن كَانَ مُوسَى بن عمرَان اعطاه الله حجرا يتفجر مِنْهُ الانهار فَمَا ذَاك بِأَعْجَب من اصابعك حِين نبع مِنْهَا المَاء صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لَئِن كَانَ سُلَيْمَان بن دَاوُود اعطاه الله الرحي غدوها شهر ورواحها شهر فَمَا ذَاك بِأَعْجَب من الْبَراء حِين سرت عَلَيْهِ إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة ثمَّ صليت الصُّبْح من ليلتك بالابطح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لَئِن كَانَ عِيسَى بن مَرْيَم اعطاه الله احياء الْمَوْتَى فَمَا ذَاك بِأَعْجَب من الشَّاة المسمومة حِين كلمتك وَهِي مَسْمُومَة فَقَالَت لَا تأكلني فَإِن مَسْمُومَة بِأبي أَنْت أُمِّي يَا رَسُول الله لقد دَعَا نوح على قومه فَقَالَ رَبِّي لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا وَلَو دعون علينا مثلهَا لهلكنا عَن آخِرنَا فَلَقَد وطأ ظهرك وادمى وَجهك وَكسرت رباعيتك فأبيت أَن تَقول إِلَّا خيرا فَقلت اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد ابتعك فِي قلَّة سنيك وَقصر عمرك مَا لم يتبع نوحًا فِي كَثْرَة سنه وَطول عمره فَلَقَد آمن بك الْكثير وَمَا آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل بِأبي أَنْت وَأمي يَا(2/475)
رَسُول الله لَو لم تجَالس الاكفؤا مَا جالستنا وَلَو لم تنْكح الاكفؤا مَا انكحت إِلَيْنَا وَلَو لم تؤاكل إِلَّا كُفؤًا مَا واكلتنا لبست الصَّيف وَركبت الْحمار وَوضعت طَعَامك على الأَرْض ولعقت اصابعك تواضعا مِنْك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ الرشاطي قد جمع هَذَا الْخَبَر كثيرا من آيَاته ومعجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَسْلِيمًا
الْخَبَر الثَّانِي روى عَن ابْن أبي هَالة التَّمِيمِي عَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَأَلت خَالِي هِنْد بن أبي هَالة وَكَانَ وصافا عَن حلية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا اشتهي أَن يصف لي مِنْهَا شَيْئا اتعلق بِهِ
قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فخما مفخما يتلألأ وَجهه تلألؤ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر اطول من المربوع واقصر من المذب عَظِيم الهامة رجل الشّعْر أَن انفرقت عقيقته فرقها وَألا فَلَا يُجَاوز شعره شحمة اذنيه إِذا هُوَ وفره ازهر اللَّوْن وَاسع الجبين ازج الحواجب سوابغ فِي غير قرن بَينهمَا عرق يدره الْغَضَب اقنى الْعرنِين لَهُ نور يعلوه يحسبه من(2/476)
لم يتأمله اشم كث اللِّحْيَة سهل الْخَدين ضليع الْفَم مُفْلِح مشذب الاسنان دَقِيق المسربة كَأَن عُنُقه جيد دمية فِي صفاء الْفضة معتدل الْخلق بادن متماسك سَوَاء الْبَطن عريض الصَّدْر بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ ضخم الكراديس انور المتجرد مَوْصُول مَا بَين اللبة والسرة بِشعر يجْرِي كالخط عَار يالثديين والبطن مَا سوى ذَلِك اشعر الذراعين والمنكبين واعال يالصدر طَوِيل الزندين رحب الرَّاحَة شتن الْكَفَّيْنِ والقدمين شائل الاطراف خمصان الاخمصين مسبج الْقَدَمَيْنِ ينبو عَنْهُمَا المَاء إِذا زَالَ زَالَ قلعا يخطو تكفيا وَيَمْشي هونا ذريع المشية إِذا مَشى كَأَنَّمَا ينحط من صبب وَإِذا الْتفت الْتفت جَمِيعًا خافض الطّرف نظره إِلَى الأَرْض اطول من نظره إِلَى السَّمَاء جلّ نظره الملاحظة يَسُوق اصحابه ويبدر من لقِيه بِالسَّلَامِ
قَالَ قلت صف لي مَنْطِقه قَالَ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متواصل الاحزان دَائِم الْفِكر لَيست لَهُ رَاحَة طَوِيل السُّكُوت يفْتَتح الْكَلَام ويختمه باشراقة وَيتَكَلَّم بجوامع الْكَلم فصل لَا فضول وَلَا تَقْصِير دمث لَيْسَ بالجافي وَلَا المهين يعظم النِّعْمَة وان قلت لَا يذم مِنْهَا شَيْئا لَا يذيم ذواقا وَلَا يمدحه وَلَا تغضبه الدُّنْيَا وَمَا كَانَ لَهَا فَإِذا تعدى الْحق لم يعرفهُ أحد وَلم يقم لغضبه شَيْء حَتَّى ينتصر لَهُ وَلَا يغْضب لنَفسِهِ وَلَا ينتصر لَهَا(2/477)
إِذا أَشَارَ أَشَارَ بكفه كلهَا وَإِذا تعجب قَلبهَا وَإِذا تحدث اتَّصل بهَا فَضرب براحته الْيُمْنَى بطن ابهامه الْيُسْرَى وَإِذا غضب اعْرِض واشاح وَإِذا فَرح غض طرفه جلّ ضحكة التبسم ويفتر عَن مثل حب الْغَمَام
قَالَ فكتمتها عَن الْحسن زَمَانا ثمَّ حدثته فوجته قد سبقني إِلَيْهِ فَسَأَلَ عَمَّا سَأَلت عَنهُ وَوَجَدته قد سَأَلَ اباه عَن مدخله ومخرجه ومجلسه وشكله فَلم يدع مِنْهُ شَيْئا قَالَ الْحسن سَأَلت أبي رَحمَه الله تَعَالَى عَن دُخُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَانَ دُخُوله لنَفسِهِ مَأْذُونا لَهُ فِي ذَلِك فَكَانَ إِذا آوى إِلَى منزله جزأ دُخُوله ثَلَاثَة اجزاء جزأ لله تَعَالَى وجزأ لأَهله ثمَّ جُزْء بَينه وَبَين النَّاس فَيرد ذَلِك على الْعَامَّة والخاصة وَلَا يُؤَخر عَنْهُم شَيْئا أَو قَالَ يدّخر فَكَانَ من سيرته فِي جُزْء الْأمة ايثار أهل الْفضل بِإِذْنِهِ وقسمه على قدر فَضلهمْ فِي الدّين فَمنهمْ ذُو الْحَاجة مِنْهُم ذُو الحاجتين وَمِنْهُم ذُو الْحَوَائِج فيتشاغل بهم ويشغلهم فِيمَا يصلحهم والامة من مسألتهم عَنهُ واخبارهم بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُم وَيَقُول ليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب وابلغوني حَاجَة من لَا يَسْتَطِيع ابلاغها فَإِنَّهُ من ابلغ سُلْطَانا حَاجَة من لَا يَسْتَطِيع ابلاغها ثَبت الله قَدَمَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة لَا يذكر عِنْده إِلَّا ذَلِك وَلَا يقبل من أحد غَيره يدْخلُونَ رَوَّادًا وَلَا يتفرقون إِلَّا عَن ذواق وَيخرجُونَ أَدِلَّة(2/478)
قَالَ فَسَأَلته عَن مخرجه كَيفَ كَانَ يصنع فِيهِ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخزن لِسَانه إِلَّا فِيمَا يعنيه ويؤلفهم وَلَا ينفرهُمْ ويكمر كل كريم قوم ويوليه عَلَيْهِم ويحذر النَّاس ويحترس مِنْهُم من غير أَن يطوي عَن أحد مِنْهُم بشره وَلَا خلقه ويتفقد اصحابه ويسألأ النَّاس عَمَّا فِي النَّاس وَيحسن الْحسن ويقويه ويقبح الْقَبِيح ويوهيه معتدل الْأَمر غير مُخْتَلف لَا يغْفل مَخَافَة أَن يغفلا أَو يميلوا لكل حَال عِنْده عتاد لَا يقصر عَن الْحق وَلَا يجوزه الَّذين يلونه من النَّاس خيارهم افضلهم عِنْده اعمهم نصيحة واعظمهم عِنْده منزلَة احسنهم مواساة ومومازرة
قَالَ فَسَأَلته عَن مَجْلِسه فَقَالَ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقوم وَلَا يجلس إِلَّا على ذكر وَلَا يوطن الاماكن وَينْهى عَن اياطنها وَإِذا انْتهى إِلَى قوم جلس حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس وَيَأْمُر بذلك وَيُعْطِي كل جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ لَا يحْسب جليسه أَن احدا اكرم عَلَيْهِ مِنْهُ من جالسه أَو فاوضه فِي حَاجَة صابرة حَتَّى يكون هُوَ المنصرف عَنهُ وَمن سَأَلَهُ حَاجَة لم يردهُ إِلَّا بهَا أَو بميسور من القَوْل قد وسع النَّاس مِنْهُ بَسطه وخلقه فَصَارَ لَهُم ابا وصاروا عِنْده فِي الْحق سَوَاء مَجْلِسه(2/479)
مجْلِس علم وحياء وامانة لَا ترفع فِيهِ الاصوات وَلَا تؤبن فِيهِ الْحرم وَلَا تنثى فلتاته متعادلين يتفاضلون فِيهِ بالتقوى متواضعين يوقرون فِيهِ الْكَبِير ويرحمون الصَّغِير ويؤثرون ذَا الْحَاجة أَو قَالَ ويحفظون الْغَرِيب
قَالَ كَيفَ كَانَت سيرته فِي جُلَسَائِهِ قَالَ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَائِم الْبشر سهل الْخلق لين الْجَانِب لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخاب وَلَا عياب وَلَا مزاح يتغافل عَمَّا لَا يَشْتَهِي وَلَا يويس مِنْهُ وَلَا يُجيب فِيهِ قد ترك نَفسه من ثَلَاث المراء والاكثار وَمَا لَا يعنيه وَترك النَّاس نم ثَلَاث كَانَ لَا يذم احدا وَلَا يعيره وَلَا يطْلب عَوْرَته وَلَا تكمل إِلَّا فِيمَا رجا ثَوَابه إِذا تكلم اطرق جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا على رؤوسهم الطير فَإِذا اسْكُتْ تكلمُوا وَلَا يتنازعون عِنْده من تكلم انصتوا لَهُ حَتَّى يفرغ حَدِيثهمْ عِنْده حَدِيث اولهم يضْحك مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ويتعجب مِمَّا يتعجبون مِنْهُ ويصبر للغريب لعى الجفوة فِي منْطقَة ومسألته حَتَّى أَن كَانَ اصحابه ليستجلونه وَيَقُول إِذا رَأَيْتُمْ صَاحب الْحَاجة يطْلبهَا فارفدوه وَلَا يطْلب الثَّنَاء إِلَى فِي من مكافئ وَلَا يقطع على أحد حَدِيث حَتَّى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أَو قيام(2/480)
قَالَ قلت كَيفَ كَانَ سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ على ارْبَعْ عَن الْحلم والحذر وَالتَّقْدِير والتفكر فَأَما تَقْدِيره فَفِي تَسْوِيَة النّظر وَالِاسْتِمَاع من النَّاس واما تذكره قَالَ أَو تكفره فَفِيمَا يَنْبَغِي وَيَعْنِي وَجمع لَهُ الحكم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّبْر فَكَانَ لَا يغضبه شَيْء وَلَا يستفزعه وَجمع لَهُ فِي الحذر ارْبَعْ اخذه بالْحسنِ ليقتدي بِهِ وَتَركه الْقَبِيح لينتهي عَنهُ واجتهاد الرَّأْي فِيمَا يصلح امته وَالْقِيَام لَهُم بِمَا جمع لَهُم أَمر الدُّنْيَا والاخرة انْتهى
انجاز موعد
إِذا تقرر هَذَا فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَائِدا على مَا تقدم لَهُ من اوصاف جَلَاله وكماله وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ اعْلَم النَّاس واشجعهم واعدلهم واعفهم واصدقهم واوفاهم والينهم عَرِيكَة فِي الْأمة واكرمهم عشرَة من رَآهُ هابه وَمن عاشره احبه يخصف النَّعْل ويرقع الثَّوْب يخْدم فِي مهنة اهله يُجيب دَعْوَة الْمَمْلُوك يمشي وَحده وَتارَة حافيا يردف خَلفه يقبل الْهَدِيَّة ويكافئ عَلَيْهَا لَا يقبل الصَّدَقَة يعصب عَن بَطْنه الْحجر من الْجُوع
قَالَ البلالي قيل الْحجر تَصْحِيف وَلَا يَصح الصاقه الْبَطن الْكَرِيم بالحصباء فِي حَدِيث لحكمة دفع حرارة الْجُوع لَهُ فَتَأَمّله قَالَ وللتأسي بِهِ وتظاهره بالبشرية كَيْلا يتغالى فِيهِ وَمن ثمَّ وقيت امته مَحْذُور المغالاة انْتهى يَأْكُل مِمَّا حضر وَمِمَّا يَلِيهِ احب اللَّحْم إِلَيْهِ كتف(2/481)
الشَّاة وَمن الْبُقُول الدُّبَّاء وَمن لاصباغ الْخلّ وَمن التَّمْر الْعَجْوَة يلبس مَا وجد ركب مرّة بَعِيرًا وَأُخْرَى حمارا يحب الطّيب وَيكرهُ الرَّائِحَة الكريهة يكتحل بالاثمد ويجيب الْوَلِيمَة وَيكثر دهن رَأسه ولحيته يلبس خَاتمًا فضَّة يلازم السِّوَاك يحتجم عِنْد الْحَاجة يباسط أَهله يُطِيل الصَّلَاة يقصر الْخطْبَة يعود الْمَرِيض يشْهد الْجَنَائِز يُجَالس الْفُقَرَاء يؤاكل الْمَسَاكِين يقبل المعذرة لَا يمازح فِي حق يصل الرَّحِم من غير ايثار على من هُوَ افل مِنْهُم لَا يهوله شَيْء من أَمر الدُّنْيَا لَا يحقر مِسْكينا لَا يهاب ملكا مَا لعن قطّ امْرَأَة وَلَا خَادِمًا قَالَ البلالي إِلَّا أَصْحَاب الْمعاصِي بِلَا تعين مَا ضربت يَده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا فِي سَبِيل الله مَا انتقم لنَفسِهِ قطّ مَا اخْتَار إِلَّا ايسر الْأَمريْنِ ابعد النَّاس عَن المآثم يصابر ذَا الْحَاجة حَتَّى ينْصَرف وَلَا يُرْسل يَده حَتَّى يرسلها الآخر لَا يواجه احدا بِمَا يكره يتحدث مَعَ اصحابه إِذا ذكرُوا أَمر الدُّنْيَا أَو أَمر الْجَاهِلِيَّة يضْحك ويبتسم لَا يمْضِي لَهُ وَقت فِي غير عمل لمعاده أَو ضَرُورِيّ لمعاشه يخرج إِلَى بساتين اصحابه يكرم الدَّاخِل عَلَيْهِ ويؤثره بالوسادة يجلس مُسْتَقْبل الْقبْلَة إِذا جلس إِلَيْهِ أحد وَهُوَ يُصَلِّي خفض صلَاته يَدْعُو اصحابه بكناهم ارأف النَّاس بِكُل مُؤمن خير النَّاس للنَّاس جهير الصَّوْت حسن النغمة يعرض عَن الْجَاهِل يكنى عَن الْمَكْرُوه عِنْد الِاضْطِرَار إِلَيْهِ إِذا نزل بِهِ الْأَمر فوض الْمخْرج فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى احب الطَّعَام إِلَيْهِ مَا كثرت عَلَيْهِ الْأَيْدِي لَا يَأْكُل الثوم وَلَا البصل وَلَا الكراث(2/482)
لَا يتنفس فِي الْإِنَاء لَا يسْأَل أَهله طَعَاما وَلَا سحرة عَلَيْهِم يُعجبهُ الثِّيَاب الْخضر اكثر لِبَاسه الْبيَاض إِذا لبس جَدِيدا على خلق ثِيَابه اعطاه مِسْكينا لَا يجزيء بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو ويصفح رَقِيق الْبشرَة يعرف فِي وَجهه رِضَاهُ ومغضبه اجود النَّاس كفا واوسعهم صَدرا واصدقهم لهجة قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ ناعتا لَهُ لم ار قبله وَلَا بعده مثله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِلَى هُنَا انْتهى تَمام الْقَصْد وكماله وتحققت فِي انجاز مواعده بتميهد قَوَاعِده مطامعه وآماله
فنحمد الله تَعَالَى على مَا يسر من مرامه ونشكره على المعونة فِي عقده وانبرامه وَنَسْتَغْفِرهُ من خطأ مَا خطه البنان وزلل مَا طَغى بِهِ الْقَلَم وجمح بِهِ الْعَنَان وَنُصَلِّي ونسلم على سيد ولد آدم عربا وعجما وافضل من ورد اسْمه فِي الْكتب السوالف بِالسنةِ الْخَوَالِف مترجما سيدنَا ومولانا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي اوقف عَلَيْهِ وصف الْكَمَال وقصره وايده الْمقَام الصعب بالقاء الرعب وَنَصره صَلَاة تتيمن بهَا فتحا وختما ونؤدي من فَرضهَا اللَّازِم بِمُقْتَضى أمرهَا الْجَازِم حتما وعَلى آله الْأَبْرَار وَأَصْحَابه الناصحين لَهُ فِي الإعلان والاسرار مَا تعاقب الزَّمَان يَوْمًا وَغدا وَرَاح إِلَيْهِ مشتاق الْوُصُول وَغدا بِمُقْتَضى امرها الْجَازِم حتما وعَلى آله الابرار واصحابه الناصحين لَهُ فِي الاعلان والاسرار مَا تعاقب الزَّمَان يَوْمًا وَغدا وَرَاح إِلَيْهِ مشتاق الْوُصُول وَغدا(2/483)