وَرَوَاهُ عَمْرو عَن أبي عَاصِم مُرْسلا.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر واه عَن عَائِشَة: " عَن أبي عوَانَة عَن مُغيرَة عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة ".
وَقيل: عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة.
وَالْمَحْفُوظ: عَن الْمُغيرَة عَن سماك عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، هَكَذَا رَوَاهُ جرير عَن مُغيرَة مرسلاَ.
قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " كلا الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي عوَانَة خطأ، وَالْمَحْفُوظ حَدِيث جرير ".
قَالَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عمار: سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن مهْدي يَقُول فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - " لَا بَأْس أَن(3/191)
يتَزَوَّج الْمحرم ": " لَيْسَ يحدث بِهِ عَن جرير إِلَّا من يُرِيد شين جرير، إِنَّمَا هُوَ قَول إِبْرَاهِيم "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (42) :
ويستلم الرُّكْن الْيَمَانِيّ، وَلَا يقبله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " (لَا يستلمه) ".
دليلنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - " مَا تركت (استلام) هذَيْن الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيّ وَالْحجر فِي شدَّة، وَلَا رخاء مُنْذُ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يستلمهما ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " لم أر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسْتَلم غير الرُّكْنَيْنِ اليمانيين ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. وَالله أعلم.(3/192)
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يدع أَن يسْتَلم الرُّكْن الْيَمَانِيّ، وَالْحجر فِي كل طَوَافه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (43) :
وَلَا يَصح الطّواف إِلَّا بِمَا تصح بِهِ الصَّلَاة من الطَّهَارَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن طَاف بِغَيْر طَهَارَة أَجزَأَهُ، وَيجْبر بِدَم ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن مُوسَى بن أعين عَن عَطاء بن السَّائِب عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة، وَلَكِن الله تَعَالَى أحل لكم فِيهِ الْمنطق، فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير ".
تَابعه الثَّوْريّ، وَجَرِير بن عبد الْمجِيد، والفضيل بن عِيَاض، وَغَيرهم عَن عَطاء بن السَّائِب مُسْندًا مُتَّصِلا.(3/193)
وَرَوَاهُ عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَوْقُوفا. وروى عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ مَوْقُوفا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن عُرْوَة حَدِيث فِيهِ: " وأخبرتني عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن أول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم مَكَّة أَن تَوَضَّأ، ثمَّ طَاف بِالْبَيْتِ " يَعْنِي رَسُول الله / - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(3/194)
روى أَبُو دَاوُد عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ _: " رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْمِي على رَاحِلَته يَوْم النَّحْر، يَقُول لنا: خُذُوا عني مَنَاسِككُم؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لعَلي لَا أحج بعد حجتي هَذِه ".
أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح بِنَحْوِهِ.
وَعند البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - " قدمت وَأَنا حَائِض، فشكوت ذَلِك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: افعلي كَمَا يفعل الْحَاج، غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ حَتَّى تطهري ".
وَالله - (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) - أعلم. (وَله الْحَمد وَالنعْمَة، وَبِه التَّوْفِيق والعصمة) ,
مَسْأَلَة (44) :
وَبَعض الطّواف لَا يقوم مقَام جَمِيعه، وَلَا يُجزئهُ، كَانَ الْمَفْعُول أَكثر أَو الْمَتْرُوك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يُجزئ وَالْمَفْعُول أَكثر من الْمَتْرُوك مَعَ دم ". وَهَكَذَا الْخلاف فِيمَن طَاف بِالْبَيْتِ فسلك الْحجر، وَلم يطف من وَرَائه، فعندنا لَا يُجزئهُ، وَعِنْدهم بجزئه.(3/195)
دليلنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا، وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ خرج إِلَى الصَّفَا ". و (قَالَ) : " قَالَ الله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} . أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَعَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الِاسْتِجْمَار تو، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة تو، وَالطّواف تو، وَإِذا استجمر أحدكُم فليستجمر بتو ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَفِيه دَلِيل على أَنه إِذا طَاف أَرْبعا لَا يُجزئهُ.
روى الرّبيع: " أخبرنَا الشَّافِعِي: أخبرنَا سُفْيَان: حَدثنَا هِشَام عَن طَاوُوس - فِيمَا أَحسب أَنه قَالَ: عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: الْحجر من الْبَيْت، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} ، وَقد طَاف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وَرَاء الْحجر ".
وَعند البُخَارِيّ عَن أبي السّفر عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله(3/196)
عَنْهُمَا - قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، اسمعوا مَا أَقُول لكم، وأسمعوني مَا تَقولُونَ، وَلَا تَقولُوا: قَالَ ابْن عَبَّاس: من طَاف بِالْبَيْتِ فليطف بِالْحجرِ؛ فَإِن الْحجر من الْبَيْت، وَإِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَاف من وَرَائه، وَلَا يَقُولَن أحدكُم: الْحطيم ".
وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان أَن الْحجر من الْبَيْت، وَالسَّبَب فِي تَركه خَارج الْبَيْت ". وَالله أعلم.(3/197)
مَسْأَلَة (45) :
لَا دم على من طَاف رَاكِبًا ركب مُخْتَارًا أَو مَعْذُورًا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن كَانَ مُخْتَارًا فَعَلَيهِ دم ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَاف فِي حجَّة الْوَدَاع على بعيره، يسْتَلم الرُّكْن بمحجن ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله عَنهُ.
وروى يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم مَكَّة، وَهُوَ يشتكي، فَطَافَ على رَاحِلَته ". وَهَذِه الزِّيَادَة لم يُتَابع عَلَيْهَا.
وَقد أخرج البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح من حَدِيث خَالِد الْحذاء عَن(3/198)
عِكْرِمَة، دون هَذِه الزِّيَادَة، وَيزِيد بن أبي زِيَاد غير مُحْتَج بِهِ.
وَقد بَين جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - السَّبَب فِي طوافة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع على راحتله بِالْبَيْتِ، وبالصفا والمروة: ليراه النَّاس، وليشرف، وليسألوه، فَإِن النَّاس غشوه. أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأخرج أَيْضا عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " طَاف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع حول الْكَعْبَة على بعيره، يسْتَلم الرُّكْن؛ كَرَاهِيَة أَن يصرف عَنهُ النَّاس ".
وروى هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: " قَالَت أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي لم أطف طواف الْخُرُوج، فَقَالَ: إِذا أَقمت الصَّلَاة فطوفي من وَرَاء النَّاس على بعيرك ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (46) :
وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة فِي الْحَج وَالْعمْرَة ركن مَفْرُوض لَا(3/199)
يَنُوب عَنهُ الدَّم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " إِنَّه وَاجِب، وينوب عَنهُ الدَّم ".
لنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه كَانَ إِذا طَاف فِي الْحَج وَالْعمْرَة أول مَا يقدم سعى ثَلَاثَة أطواف، وَمَشى أَرْبعا، ثمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ، وَيَطوف بَين الصَّفَا والمروة ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَقد روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لِتَأْخُذُوا عني مَنَاسِككُم ".
وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ حِين ذكرت فِيهِ نزُول الْآيَة، ثمَّ قَالَت: " قد سنّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الطّواف بَينهمَا، وَلَيْسَ لأحد أَن يتْرك الطّواف بَينهمَا ".
كَذَا فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة. وَفِي رِوَايَة هِشَام عَن أَبِيه قَالَت: " مَا أتم الله حج امْرِئ، وَلَا عمرته لم يطف بَين الصَّفَا والمروة ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.(3/200)
وَعَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: " سَأَلنَا ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رجل قدم بِعُمْرَة فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَلم يطف بَين الصَّفَا والمروة أياتي امْرَأَته؟ فَقَالَ: قدم / النَّبِي -
- فَطَافَ فِي بِالْبَيْتِ سبعا، وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ، وَطَاف بالصفا والمروة سبعا، وَقَالَ: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة (حَسَنَة} } ، قَالَ عَمْرو: فسألنا جَابِرا - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: لَا تَقربهَا حَتَّى تَطوف بَين الصَّفَا والمروة ". رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن الْحميدِي، وَغَيره، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
وروى الشَّافِعِي عَن عبد الله بن المؤمل عَن عمر عَن عبد الرَّحْمَن عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت:(3/201)
أَخْبَرتنِي بنت أبي تجراة، إِحْدَى نسَاء بني عبد الدَّار، قَالَت: دخلت مَعَ نسْوَة من قُرَيْش دَار أبي حُسَيْن نَنْظُر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة، فرأيته يسْعَى وَأَن (مِئْزَره) ليدور من شدَّة السَّعْي، حَتَّى لَا أَقُول إِنِّي لأرى ركبته، وسمعته يَقُول: اسْعوا، فَإِن الله - عز وَجل - كتب عَلَيْكُم السَّعْي ".
وَرَوَاهُ يُونُس بن مُحَمَّد، و (معَاذ) بن هَانِئ، عَن ابْن المؤمل فِي هَذَا الحَدِيث قَالَ: " حَسَنَة بنت أبي تجراة ".
مَسْأَلَة (47) :
الْقَارِن يَكْفِيهِ طواف وَاحِد، وسعي وَاحِد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة -(3/202)
رَحمَه الله: " إِنَّه يطوف طوافين، وَيسْعَى سعيين ".
لنا حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام حجَّة الْوَدَاع "، فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِي آخِره: " قَالَت: وَأما الَّذين كَانُوا جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند مُسلم عَنْهَا - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا حَاضَت بسرف، وطهرت بِعَرَفَة، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُجزئ عَنْك طوافك بالصفا والمروة عَن حجك وعمرتك ".
عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " طوافك بِالْبَيْتِ، وَبَين الصَّفَا والمروة يَكْفِيك لحجك وعمرتك ". قَالَ الشَّافِعِي: " وَكَانَ سُفْيَان رُبمَا قَالَ: عَن عَطاء عَن عَائِشَة، وَرُبمَا قَالَ: عَن عَطاء أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لعَائِشَة ".
وروى الثِّقَات عَن الثَّوْريّ عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَكْفِيك طواف وَاحِد بعد الْمُعَرّف لحجك وعمرتك ".
وَفِي حَدِيث " ابْن عمر حِين خرج إِلَى الْحَج عَام) نزل الْحجَّاج بِابْن الزبير قَالَ: " ثمَّ انْطلق يهل بهما جَمِيعًا، حَتَّى قدم(3/203)
مَكَّة فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَبَين الصَّفَا والمروة، وَلم يزدْ على ذَلِك، وَلم ينْحَر، وَلم يحلق، وَلم يقصر، وَلم يحلل من شَيْء حرم مِنْهُ، حَتَّى كَانَ يَوْم النَّحْر، فَنحر وَحلق، وَرَأى أَنه قد قضى طواف الْحَج وَالْعمْرَة بطوافه الأول، وَقَالَ ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: هَذَا من فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى الثِّقَات عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أهل بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة كَفاهُ لَهما طواف وَاحِد، لَا يحل حَتَّى يحل مِنْهُمَا ".
وَعَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " لم يطف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا أَصْحَابه بَين الصَّفَا والمروة إِلَّا طَوافا وَاحِدًا، طَوَافه الأول ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
استدلوا بِمَا روى الْحسن بن عمَارَة عَن الحكم عَن مُجَاهِد قَالَ: " خرج ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - يهل بِعُمْرَة، وَهُوَ يتخوف أَيَّام نجدة أَن يحبس عَن الْبَيْت، فَلَمَّا سَار أَيَّامًا قَالَ: مَا الْحصْر فِي الْعمرَة والحصر فِي الْحَج إِلَّا وَاحِد، فضم إِلَيْهَا حجَّة، فَلَمَّا قدم طَاف طوافين، طَوافا لعمرته، وطوافاً لحجته، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " لم يروه عَن الحكم غير الْحسن بن(3/204)
عمَارَة هُوَ مَتْرُوك ".
وَالْحسن بن عمَارَة مِمَّن أجمع أَئِمَّة أهل النَّقْل على ترك حَدِيثه؛ لِكَثْرَة الْمَنَاكِير فِي رواياته، وَكَيف يَصح مثل هَذَا عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَقد ثَبت عَنهُ أَنه طَاف لَهما طَوافا وَاحِدًا؟ - كَمَا سبق - وَالله أعلم.
وروى حَفْص بن أبي دَاوُد عَن ابْن أبي ليلى عَن الحكم عَن ابْن أبي ليلى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَطَافَ لَهما طوافين، وسعى لَهما سعيين، (ثمَّ قَالَ ابْن عمر) هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " حَفْص بن أبي دَاوُد ضَعِيف، وَابْن أبي ليلى ردئ الْحِفْظ كثير الْوَهم ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر، وَلَا يَصح؛ لِأَن رَاوِيه الْحسن بن عمَارَة.
وَرَوَاهُ عِيسَى بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمر بن عَليّ: حَدثنِي أبي عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا، فَطَافَ طوافين، وسعى سعيين ".
قَالَ على بن عمر: " عِيسَى بن عبد الله يُقَال لَهُ: مبارك، وَهُوَ(3/205)
مَتْرُوك الحَدِيث ". وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " إِنَّه روى عَن أَبِيه عَن آبَائِهِ أَحَادِيث مَوْضُوعَة ". وروى بِإِسْنَاد فِيهِ مَجْهُول يُقَال لَهُ حَمَّاد بن عبد الرَّحْمَن عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ: " طفت مَعَ أبي، وَقد جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة، فَطَافَ لَهما طوافين، وسعى لَهما سعيين، / وحَدثني أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - فعل ذَلِك، وحدثه عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل ذَلِك ". وَمثل ذَلِك لَا يَصح.
وروى عَليّ بن عمر عَن ابْن صاعد عَن ابْن زنبور عَن(3/206)
فُضَيْل عَن مَنْصُور عَن مَالك بن الْحَارِث عَن (أبي نصر) قَالَ: لقِيت عليا - رَضِي الله عَنهُ -، فَذكر حَدِيثا فِيهِ: " ثمَّ يطوف لَهما طوافين، وَيسْعَى لَهما سعيين ".
وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَن مَنْصُور، فَلم يذكر فِيهِ السَّعْي، وَكَذَلِكَ شُعْبَة، وَابْن عُيَيْنَة.
وَأَبُو نصر هَذَا مَجْهُول، فَإِن صَحَّ فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ طواف الْقدوم وَطواف الزِّيَارَة، وَأَرَادَ سعياً وَاحِدًا، على مَا رَوَاهُ الثَّوْريّ وصاحباه، فَلَا يكون مُخَالفا لما رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن ابْن أبي يحيى عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ قَالَ فِي الْقَارِن: " يطوف طوافين، وَيسْعَى سعياً ". يَعْنِي طواف الْقدوم والزيارة.
وَقد روينَا عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بِخِلَافِهِ: عَن ابْن(3/207)
سمْعَان عَن مُحَمَّد بن عَليّ عَن أَبِيه عَن جده عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه أهل بِحجَّة وَعمرَة مَعًا، فَطَافَ لَهما طوفاً وَاحِدًا، وسعى لَهما سعياً وَاحِدًا.
وروى عَليّ بن عمر: " عَن ابْن صاعد عَن مُحَمَّد بن يحيى الْأَزْدِيّ، حَدثنَا عبد الله بن دَاوُد عَن شُعْبَة عَن حميد عَن مطرف عَن عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَاف طوافين، وسعى قَالَ وسعى سعيين ". قَالَ لنا ابْن صاعد: خَالف مُحَمَّد بن يحيى غَيره فِي هَذِه الرِّوَايَة، قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن: يُقَال: إِن مُحَمَّد بن يحيى حدث بِهَذَا من حفظه، فَوَهم فِي مَتنه، وَالصَّوَاب بِهَذَا الْإِسْنَاد: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرن الْحَج وَالْعمْرَة "، وَلَيْسَ فِيهِ (ذكر) الطّواف، وَلَا السَّعْي. وَقد حدث بِهِ مُحَمَّد بن يحيى على الصَّوَاب مرَارًا، وَيُقَال: إِنَّه رَجَعَ عَن ذكر الطّواف وَالسَّعْي إِلَى الصَّوَاب، وَالله أعلم ".
وروى أَبُو بردة عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن(3/208)
عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " طَاف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمرته وحجته طوافين، وسعى سعيين، وَأَبُو بكر، وَعمر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنْهُم ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " أَبُو بردة هَذَا عَمْرو بن يزِيد ضَعِيف، وَمن دونه فِي الْإِسْنَاد ضعفاء ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (48) :
المؤذنون بِعَرَفَة يُؤذنُونَ فِي حَال مَا يخْطب الإِمَام الْخطْبَة الثَّانِيَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله _: " قبل الْخطْبَة الأولى ".
وَلنَا حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - الطَّوِيل فِي صفه الْحَج عِنْد مُسلم، وَفِيه: " فَركب - يَعْنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَنى نزل بطن الْوَادي، فَخَطب النَّاس، فَقَالَ: إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ عَلَيْكُم(3/209)
حرَام. . " فَذكر حطبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثمَّ أذن بِلَال، ثمَّ أَقَامَ، فصلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ، فصلى الْعَصْر، وَلم يصل بَينهمَا شَيْئا ".
وروى الشَّافِعِي: " أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد وَغَيره عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر فِي حجَّة الْإِسْلَام قَالَ: فراح النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْموقف بِعَرَفَة فَخَطب النَّاس الْخطْبَة الأولى، ثمَّ أذن بِلَال، ثمَّ أَخذ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخطْبَة الثَّانِيَة، ففرغ من الْخطْبَة، وبلال من الْأَذَان، ثمَّ أَقَامَ بِلَال فصلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعَصْر ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (49) :
وَتُؤَدِّي صَلَاة الْجمع بِالْمُزْدَلِفَةِ بِأَذَان وَإِقَامَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " بِأَذَان وَإِقَامَة ".
وَلنَا مَا فِي حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " حَتَّى أَتَى الْمزْدَلِفَة فَجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ، وَلم يسبح بَينهمَا شَيْئا ". وَهُوَ عِنْد مُسلم. وَعِنْدَهُمَا عَن أُسَامَة - رَضِي الله عَن -: " دفع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عَرَفَة، حَتَّى إِذا كَانَ بِالشعبِ نزل، فَبَال، ثمَّ تَوَضَّأ، وَلم يسبغ(3/210)
الْوضُوء، فَقلت لَهُ: الصَّلَاة؟ قَالَ: الصَّلَاة أمامك، فَركب، فَلَمَّا جَاءَ الْمزْدَلِفَة نزل فَتَوَضَّأ فأسبغ الْوضُوء، ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فصلى الْمغرب، ثمَّ أَنَاخَ كل إِنْسَان بعيره فِي منزله، ثمَّ أُقِيمَت الْعشَاء فصلاهما، وَلم يصل بَينهمَا شَيْئا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (50) :
لَا يجوز الرَّمْي إِلَّا بِمَا كَانَ من جنس الْحجر ز وَقَالَ أَبُو حنيفَة: " جَازَ بِكُل مَا كَانَ من طَبَقَات الأَرْض كالكحل، والنورة، والجص، والمدر ".
لنا حَدِيث الْفضل بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي صَحِيح مُسلم، وَفِيه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " عَلَيْكُم بحصى الْخذف الَّذِي يرْمى بِهِ الْجَمْرَة ".
وَرُوِيَ عَن أبي الْعَالِيَة قَالَ " قَالَ لي ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - غَدَاة الْعقبَة: هَات القط لي / حَصَيَات من حَصى الْخذف، فَلَمَّا وضعن فِي يَده قَالَ: بأمثال هَؤُلَاءِ بأمثال هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُم والغلو فِي الدّين، فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بالغلو فِي الدّين ".(3/211)
قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
فَالْوَاجِب أَن يُؤْتى بِمَا أَتَى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا مَا قَامَ دَلِيله.
وَلَهُم فِي ذَلِك أثر عَن سُفْيَان بن حَرْب، قَالَ: رَأَيْت سكينَة بنت الْحسن ترمي الْجَمْرَة، وَرجل يناولها حَصَاة حَصَاة، كلما رمت بحصاة كَبرت، ورمت بست، وَسَقَطت وَاحِدَة، فرمت بخاتمها ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (51) :
وَرمي جَمْرَة الْعقبَة جَائِز فِي النّصْف الْأَخير من لَيْلَة النَّحْر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز قبل طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أَسمَاء - رَضِي الله عَنْهَا - فِي(3/212)
الصَّحِيحَيْنِ، عَن عبد الله مَوْلَاهَا قَالَ: " قَالَت " لي أَسمَاء، وَهِي بِمُزْدَلِفَة: هَل غَابَ الْقَمَر؟ قلت: لَا، فصلت سَاعَة، ثمَّ قَالَت: يَا بني، هَل غَابَ الْقَمَر؟ قلت: نعم، قَالَت: ارحل بِي فارتحلنا حَتَّى رمت الْجَمْرَة، ثمَّ صلت فِي منزلهَا، فَقلت لَهَا: لقد غلسنا، قَالَت: كلا إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن للظعن " - لفظ حَدِيث مُسلم.
وَرُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " أرسل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأم سَلمَة لَيْلَة النَّحْر فرمت الْجَمْرَة قبل الْفجْر، ثمَّ مَضَت فأفاضت، وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم الَّذِي يكون عِنْدهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب السّنَن بِمَعْنَاهُ.
وَرُوِيَ عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهَا أَن توافي مَعَه صَلَاة الصُّبْح يَوْم النَّحْر بِمَكَّة ".
رُوَاته ثِقَات. رَوَاهُ جُمُعَة عَن أبي مُعَاوِيَة هَكَذَا. وَقَالَ بَعضهم: " توافيه ".
وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، وَغَيره عَن هِشَام عَن أَبِيه مُرْسلا، وَقَالُوا فِي الحَدِيث: " توافي ".
وَهَذَا اللَّفْظ هُوَ الصَّحِيح، فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن مَعهَا بِمَكَّة(3/213)
وَقت صَلَاة الصُّبْح يَوْم النَّحْر، وَإِنَّمَا أَفَاضَ (بعد ذَلِك، ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى، فصلى بهَا الظّهْر فِي رِوَايَة ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَفِي حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - مَا يدل على أَنه أَفَاضَ) يَوْم النَّحْر، ثمَّ رَجَعَ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أم سَلمَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُمَا. وكل ذَلِك أصح من راية من روى تَأْخِيره الطّواف إِلَى اللَّيْل.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " حملنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أغيلمة عبد الْمطلب على حمرات، ثمَّ جعل يلطح أفخاذنا وَيَقُول: " أبيني، لَا ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس " - اللطح الضَّرْب اللين.(3/214)
وَهَذَا الحَدِيث وَمَا فِي مَعْنَاهُ ورد فِي وَقت الِاخْتِيَار، بِدَلِيل جَوَازه بِالْإِجْمَاع قبل طُلُوع الشَّمْس.
وروى كريب عَن ابْن عَبَّاس (أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَأْمر نِسَاءَهُ وَثقله من صَبِيحَة جمع أَن يفيضوا مَعَ أول الْفجْر بسواد، وَأَن لَا يرموا الْجَمْرَة إِلَّا مصلين ". رُوَاته ثِقَات.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: " رمى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر ضحى، وَأما بعد فَإِذا زَالَت الشَّمْس ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (52) :
وَمن حلق قبل أَن ينْحَر لم يكن عَلَيْهِ دم. وَقَالَ أَبُو(3/215)
حنيفَة - رَحمَه الله - " عَلَيْهِ ".
دليلنا حَدِيث عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " وقف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنى للنَّاس يسألونه، فجَاء رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لم أشعر فحلقت قبل أَن أنحر، قَالَ: اذْبَحْ، وَلَا حرج، ثمَّ جَاءَهُ آخر فَقَالَ: لم أشعر فنحرت قبل أَن أرمي، قَالَ: ارْمِ، وَلَا حرج، فَمَا سُئِلَ رَسُول الله -
- عَن شَيْء قدم، وَلَا أخر إِلَّا قَالَ: " افْعَل وَلَا حرج ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعِنْدَهُمَا عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قيل لَهُ فِي الذّبْح، وَالْحلق، وَالرَّمْي، والتقديم وَالتَّأْخِير، قَالَ: لَا حرج ".
وَعند البُخَارِيّ عَنهُ أَيْضا: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يسْأَل بمنى، فَيَقُول: " لَا حرج) ، فَسَأَلَهُ رجل فَقَالَ: إِنِّي حلقت قبل أَن أذبح فَقَالَ: اذْبَحْ، وَلَا حرج، قَالَ أَنِّي أمسيت وَلم أرم، قَالَ: ارْمِ، وَلَا حرج. وَالله أعلم.(3/216)
مَسْأَلَة (53) :
وَلَا تقطع التَّلْبِيَة حَتَّى رمى الْجَمْرَة بِأول حَصَاة
وَلنَا حَدِيث الْفضل بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، (وَكَانَ رَدِيف النَّبِي) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من جمع إِلَى منى، " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة "، اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم على صِحَّته.
وَرُوِيَ عَن أبي قلَابَة أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ يكبر حَتَّى يصل إِلَى الْبَيْت. وَالله أعلم.(3/217)
مَسْأَلَة / (54) :
وَلَا يحل الطّيب بِالْحلِّ الأول فِي أحد الْقَوْلَيْنِ، وَالظَّاهِر من الْمَذْهَب أَنه يحل. وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، رَحمَه الله.
فَوجه قَوْلنَا: " لَا يحل " مَا روى مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - خطب النَّاس بِعَرَفَة يعلمهُمْ أَمر الْحَج، وَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُم: " إِذا جئْتُمْ منى فَمن رمى الْجَمْرَة فقد حل لَهُ مَا حرم عَلَيْهِ إِلَّا الطّيب وَالنِّسَاء، لَا يمس أحد نسَاء، وَلَا طيبا حَتَّى يطوف بِالْبَيْتِ ".
قَالَ مَالك: " وحَدثني عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - ... . فَذكر مَعْنَاهُ.
وروى مَالك عَن ابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُمَا - ذكر الْحَج، وَقَالَ: " فَإِذا رمى الْجَمْرَة الْكُبْرَى حل لَهُ كل شَيْء حرم عَلَيْهِ إِلَّا النِّسَاء وَالطّيب، حَتَّى يزور الْبَيْت ". قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وروى عَنهُ بِخِلَافِهِ، أَنه قَالَ: إِذا رميت الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر فقد حل لَك مَا وَرَاء النِّسَاء ".
وَجه قَوْلنَا: " يحل " - وَهُوَ الصَّحِيح - مَا اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم(3/218)
على صِحَّته عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " كنت أطيب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لإحرامة قبل أَن يحرم، ولحلة قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ ".
وَسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَق أَن تتبع وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (55) :
ويخطب يَوْم النَّحْر بعد الظّهْر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " لَا خطْبَة يَوْم النَّحْر ".
دليلنا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينا هُوَ يخْطب يَوْم النَّحْر فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ: كنت أَحسب - يَا رَسُول الله - أَن كَذَا وَكَذَا قبل كَذَا وَكَذَا، ثمَّ قَالَ آخر فَقَالَ: كنت أَحسب - يَا رَسُول الله - أَن كَذَا وَكَذَا لهَؤُلَاء الثَّلَاث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " افْعَل، وَلَا حرج ".
اتفقَا على صِحَّته، وَصِحَّة حَدِيث أبي بكرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم النَّحْر، فَقَالَ: أَي يَوْم هَذَا؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم، فَسكت حَتَّى ظننا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر؟ قُلْنَا: بلَى " ... وَذكر بَاقِي الحَدِيث. وَالله أعلم.(3/219)
مَسْأَلَة (56) :
يَوْم النَّفر الأول يَوْم خطْبَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا خطْبَة فِيهِ ".
روى أَبُو دَاوُد: مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن ابْن الْمُبَارك عَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَن ابْن أبي نجيح عَن أَبِيه عَن رجلَيْنِ من بني بكر قَالَا: " رَأينَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب بَين أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق، وَنحن عِنْد رَاحِلَته، وَهِي خطْبَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّتِي خطب بمنى ".
مَسْأَلَة (57) :
لَا يجوز الرَّمْي فِي أَيَّام التَّشْرِيق إِلَّا بعد الزَّوَال. وَقَالَ أَبُو(3/220)
حنيفَة - رَحمَه الله: " إِذا رمى فِي الْيَوْم الثَّالِث قبل الزَّوَال أجزاه 7 اسْتِحْسَانًا ".
لنا حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - فِي صَحِيح مُسلم: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رمى جَمْرَة الْعقبَة أول يَوْم ضحى، وَأما بعد ذَلِك فَبعد الزَّوَال ".
وروى طَلْحَة بن عَمْرو عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " إِذا انتضح النَّهَار من يَوْم النَّفر الآخر فقد حل الرَّمْي والصدر ".
وَطَلْحَة بن عَمْرو ضَعِيف. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (58) :
للصَّبِيّ حج. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " لَا حج للصَّبِيّ ".(3/221)
لنا حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا: " ... . فَرفعت إِلَيْهِ امْرَأَة صَبيا لَهَا فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: نعم، وَلَك أجر ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرُوِيَ عَنهُ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " حجَجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومعنا النِّسَاء وَالصبيان، فلبينا عَن الصّبيان، ورمينا عَنْهُم ".
وَعند البُخَارِيّ عَن السَّائِب بن يزِيد - رَضِي الله عَنهُ: " حج بِي فِي ثقل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا غُلَام ".
وَفِي رِوَايَة عِنْده عَنهُ: " حج بِي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي(3/222)
حجَّة الْوَدَاع وَأَنا ابْن سبع سِنِين ".
وَحج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَبْد الله بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قبل بُلُوغه؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ - رَضِي الله عَنْهُمَا - " جِئْت رَاكِبًا على أتان، وَقد ناهزت الْحلم، فَإِذا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بمنى " ... الحَدِيث.
وَعند البُخَارِيّ عَنهُ: " بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ الثّقل من جمع بلَيْل، فصلينا ورمينا قبل أَن يَأْتِي النَّاس ".
وروى الشَّافِعِي عَن سعيد بن سَالم عَن مَالك بن مغول عَن أبي السّفر قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَيهَا النَّاس أسمعوني مَا تَقولُونَ، وافهموا مَا أَقُول لكم: أَيّمَا مَمْلُوك حج بِهِ أَهله فَمَاتَ قبل أَن يعْتق فقد قضى حجه، وَإِن عتق قبل أَن يَمُوت فليحجج، وَأَيّمَا غُلَام حج بِهِ أَهله فَمَاتَ قبل أَن يدْرك فقد قضى عَنهُ حجه، وَإِن بلغ فليحجج ".
وَقد رُوِيَ مَرْفُوعا فِي حَدِيث مُحَمَّد بن الْمنْهَال / عَن يزِيد بن(3/223)
زُرَيْع عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا حج الصَّبِي فَهِيَ لَهُ حجَّة حَتَّى يعقل، وَإِذا عقل فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى " قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: وأظن أَن شَيخنَا حمل حَدِيث عَفَّان وَغَيره على حَدِيث يزِيد، فَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا رَوَاهُ أَصْحَاب شُعْبَة عَنهُ مَوْقُوفا، سوى ابْن زُرَيْع، فَإِن مُحَمَّد بن الْمنْهَال ينْفَرد بِرَفْعِهِ عَنهُ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (59) :
وَإِذا جَامع الْمحرم قبل الْحل الأول، فسد حجه، وَعَلِيهِ بَدَنَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - إِذا كَانَ قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة، فسد حجه، وَعَلِيهِ شَاة، وَإِن كَانَ بعد الْوُقُوف لم يفْسد حجه، وَعَلِيهِ بَدَنَة.
قَالَ الله تَعَالَى: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} .
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " الرَّفَث: الْجِمَاع، والفسوق: السباب، والجدال: أَن تُمَارِي صَاحبك حَتَّى تغضبه ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " الرَّفَث: الْجِمَاع، والفسوق: مَا أُصِيب من معاصي الله تَعَالَى، والجدال: السباب والمنازعة ".(3/224)
حَدِيث يزِيد بن نعيم الْأَسْلَمِيّ أَن رجلا من جذام جَامع امْرَأَته وهما محرمان، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقضيا نسككما، واهديا هَديا "، فِي هَذَا الحَدِيث " وعليكما حجَّة أُخْرَى ".
وَهَذَا يتَأَكَّد بآثار الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم - كَمَا سنذكرها عقيب هَذَا الْمُرْسل.
روى الثِّقَات عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه أَن رجلا أَتَى عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - يسْأَله عَن محرم وَقع بامرأته، فَأَشَارَ إِلَى عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَقَالَ: " اذْهَبْ إِلَى ذَلِك، فَاسْأَلْهُ:، قَالَ شُعَيْب: " فَلم يعرفهُ الرجل، فَذَهَبت مَعَه، فَسَأَلَ ابْن عمر "، فَقَالَ " بَطل حجك "، فَقَالَ الرجل / فَمَا أصنع؟ " اخْرُج مَعَ النَّاس، واصنع مَا يصنعون، فَإِذا أدْركْت قَابل، فحج، وأهد "، فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو وَأَنا مَعَه، فَأخْبرهُ، فَقَالَ: ط اذْهَبْ إِلَى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَاسْأَلْهُ "، قَالَ شُعَيْب: " فَذَهَبت مَعَه إِلَى ابْن(3/225)
عَبَّاس، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْن عمر، فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو، وَأَنا مَعَه، فَأخْبرهُ بِمَا قَالَ ابْن عَبَّاس "، ثمَّ قَالَ: مَا تَقول أَنْت؟ فَقَالَ: " قولي مثل مَا قَالَا ". وَفِيه دَلِيل على صِحَة سَماع شُعَيْب بن مُحَمَّد من جده عبد الله بن عَمْرو. وَقَالَ مَالك - رَحمَه الله - إِنَّه بلغه أَن عمر بن الْخطاب، (وَعلي بن أبي طَالب، وَأَبا هُرَيْرَة) - رَضِي الله عَنْهُم - سئلوا عَن رجل أصَاب أَهله وَهُوَ محرم، فَقَالُوا: " ينفذان لوجههما حَتَّى يقضيا حجهما، وَعَلَيْهِمَا الْحَج من قَابل وَالْهَدْي ".
وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ -: " وَإِذا أَهلا بِالْحَجِّ عَام قَابل، تفَرقا حَتَّى يقضيا حجهما ".
وَرُوِيَ نَحْو ذَلِك فِي التَّفَرُّق عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَيْضا، وَقيل عَنهُ: " من حَيْثُ وَاقعهَا " وَالله أعلم.
. وَالله
مَسْأَلَة (60) :
وَمن فَاتَهُ الْحَج فِي سنة عقده، لزمَه دم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا دم بالفوت ".(3/226)
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن ابْن أبي ليلى عَن عَطاء أَن نَبِي الله -
- قَالَ: " من لم يدْرك الْحَج، فَعَلَيهِ دم، ويجعلها عمْرَة، وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل ".
وَعنهُ عَن نَافِع عَن ابْن عمر مثله.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد، أَخْبرنِي سُلَيْمَان بن يسَار أَن أَبَا أَيُّوب خرج حَاجا، حَتَّى إِذا كَانَ بالنازية من طَرِيق مَكَّة أضلّ رواحله، وَأَنه قدم على عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - يَوْم النَّحْر، فَذكر ذَلِك، فَقَالَ: " اصْنَع كَمَا يصنع الْمُعْتَمِر، ثمَّ قد حللت، فَإِذا أدْركْت الْحَج، قَابل حج، وأهد مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي ".
وروى الشَّافِعِي، وَابْن بكير، وَاللَّفْظ لَهُ - عَن مَالك عَن نَافِع(3/227)
عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن هَبَّار بن الْأسود جَاءَ يَوْم النَّحْر وَعمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - ينْحَر هَدْيه، فَقَالَ: يَا (أَمِير) الْمُؤمنِينَ، أَخْطَأنَا الْعدَد، كُنَّا نظن هَذَا الْيَوْم يَوْم عَرَفَة، فَقَالَ لَهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " اذْهَبْ إِلَى مَكَّة، فَطُفْ أَنْت وَمن مَعَك، وانحر، وأهد إِن كَانَ مَعَك، ثمَّ احْلقُوا أَو اقصروا، فَإِذا كَانَ عَام قَابل، فحجوا وأهدوا، فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ ".
وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن سُلَيْمَان عَن هَبَّار أَنه حَدثهُ أَنه فَاتَهُ الْحَج، فَذكره مَوْصُولا بِمَعْنَاهُ. وَعَن نَافِع ابْن عمر عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مثل ذَلِك، فَصَارَ حَدِيثهمَا مَوْصُولا من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا أنس بن عِيَاض عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " من أدْرك لَيْلَة النَّحْر من الْحَاج، فَوقف بجبل عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر، فقد أدْرك الْحَج، وَمن لم يدْرك عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر،(3/228)
فقد فَاتَهُ الْحَج، فليأت الْبَيْت، فليطف بِهِ سبعا، وَيَطوف بَين الصَّفَا والمروة سبعا، ثمَّ ليحلق، أَو / يقصر إِن شَاءَ الله، وَإِن كَانَ مَعَه هدي فلينحره قبل أَن يحلق، فَإِذا فرغ من طَوَافه وسعيه، فليحلق أَو يقصر، ثمَّ ليرْجع إِلَى أَهله، فَإِن أدْرك الْحَج قَابل، فليحج إِن اسْتَطَاعَ، وليهد، فَإِن لم يجد هَديا، فليصم عَنهُ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله ".
وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود، قَالَ: سَأَلت عمر - رَضِي الله عَنهُ - عَن رجل فَاتَهُ الْحَج، قَالَ: " يهل بِعُمْرَة، وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل، ثمَّ خرجت الْعَام الْمقبل، فَلَقِيت زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - فَسَأَلته عَن رجل فَاتَهُ الْحَج، قَالَ: " يهل بِعُمْرَة، وَعَلِيهِ الْحَج من عَام قَابل ".
وَزَاد فِيهِ بعض الروَاة " وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدي "، (وَقَالَ: " فَلَقِيت زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - بعد عشْرين سنة، فَقَالَ مثل قَول عمر رَضِي الله عَنْهُمَا ".
فَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: " وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدي " زِيَادَة من بعض الروَاة ظنا مِنْهُ.
فقد روينَا عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه أَمر بِالْهَدْي، وَهُوَ الزَّائِد وَهُوَ أولى.(3/229)
وَيحْتَمل قَوْله: " وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدي " - إِن كَانَ ثَابتا - أَن يكون المُرَاد بِهِ أَن لَا يتضيق عَلَيْهِ وَقت إراقته، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ - وَالله أعلم - سنة الْفَوات.
فقد روينَا عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - " وأهد مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (61) :(3/230)
وَالْإِحْرَام لمورد الْحرم غير وَاجِب، على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجب احرام بِحَجّ أَو عمْرَة ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل مَكَّة عَام الْفَتْح، وعَلى رَأسه مغفر ".
وَعند مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل يَوْم فتح مَكَّة، وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوَاء بِغَيْر إِحْرَام ".
وروى مَالك عَن نَافِع أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -(3/231)
أقبل من مَكَّة، حَتَّى إِذا كَانَ بِقديد جَاءَهُ خبر من الْمَدِينَة، فَرجع فَدخل مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام.
(وَعَن ابْن شهَاب أَنه سُئِلَ عَن الرجل يدْخل مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام) ، فَقَالَ: " لَا أرى بذلك بَأْسا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - بِخِلَافِهِ.
رُوِيَ الشَّافِعِي عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن أبي الشعْثَاء أَنه رأى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يرد من جَاوز الْمَوَاقِيت غير محرم. وَثَبت عَنهُ أَنه قَالَ: " مَا يدْخل مَكَّة أحد من أَهلهَا، وَلَا من غير أَهلهَا إِلَّا بِإِحْرَام ".(3/232)
وروى خصيف عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تجوز الْمَوَاقِيت إِلَّا بِإِحْرَام ". . خصيف لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وروى إِسْمَاعِيل بن مُسلم عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " فوَاللَّه مَا دَخلهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا حَاجا أَو مُعْتَمِرًا " وَإِسْمَاعِيل بن مُسلم هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيّ: كَيفَ وَقد صَحَّ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه -
- دَخلهَا بِغَيْر إِحْرَام. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (62) :
وَإِذا قُلْنَا: " إِنَّه يلْزمه دُخُولهَا بنسك "، فَلم يفعل فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ الْقَضَاء "، فَيحْتَاج أَن يدخلهَا بِحَجّ أَو عمْرَة، إِلَّا أَن يحجّ من سنته، فَيدْخل الْقَضَاء فِي حجَّة الْإِسْلَام.
(لنا) حَدِيث الْأَقْرَع بن حَابِس. وَالله أعلم.(3/233)
مَسْأَلَة (63) :
إِذا بلغ الصَّبِي قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة، أَو فِي حَال وُقُوفه بهَا انْقَلب حجه فرضا، وَيجزئهُ عَن حجَّة الْإِسْلَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِحْرَامه لَا يَصح، فَيحْتَاج إِلَى أَن يسْتَأْنف الْإِحْرَام، وَإِلَّا فَلَا يدْرك بِهِ حج الْفَرْض ".
روى عبد الرَّحْمَن بن يعمر: شهِدت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " الْحَج عَرَفَة، من أدْرك عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد أدْرك الْحَج، وَتمّ حجه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (64) :
وَمَا لَهُ مثل من النعم من الصَّيْد، يجزى بِمثلِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " بِقِيمَتِه ".(3/234)
دليلنا قَوْله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} .
رُوِيَ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الضبع يُصِيبهُ الْمحرم كَبْشًا نجدياً، وَجعله من الصَّيْد ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: أخبرنَا مَالك، وسُفْيَان عَن أبي الزبير عَن جَابر أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - " قضى فِي الأرنب بعناق، وَقضى فِي الغزال بعنز، وَفِي اليربوع بجفرة ".
وروى الْأَجْلَح ذَلِك مُسْندًا عَن جَابر مَرْفُوعا، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْد أهل الحَدِيث.
وَالصَّوَاب: أَنه من قَول عمر مَوْقُوفا.
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: أخبرنَا سعيد بن سَالم عَن ابْن(3/235)
جريج عَن عَطاء، أَن عُثْمَان بن عبد الله بن حميد، قتل ابْن لَهُ حمامة، فجَاء ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، فَقَالَ ذَلِك لَهُ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: " يذبح شَاة؛ فَيتَصَدَّق بهَا ".
قَالَ ابْن جريج فَقلت لعطاء: " أَمن حمام مَكَّة؟ " قَالَ: " نعم ".
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا سُفْيَان، أخبرنَا مُخَارق عَن طَارق بن شهَاب، قَالَ: " خرجنَا حجاجاً (فأوطأ) رجل منا - يُقَال لَهُ أَرْبَد - ضباً (ففزر) ظَهره، فقدمنا على عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَسَأَلَهُ أَرْبَد، فَقَالَ لَهُ عمر: " احكم يَا أَرْبَد فِيهِ "، فَقَالَ: أَنْت خير مني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ (وَأعلم) ، فَقَالَ عمر: إِنَّمَا أَمرتك أَن تحكم فِيهِ، وَلم آمُرك أَن تزكيني "، فَقَالَ أَرْبَد: أرى فِيهِ جدياً قد جمع المَاء وَالشَّجر، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: فَذَاك فِيهِ ".
قَالَ مَالك - رَحمَه الله - عَن عبد الْملك بن قرير عَن(3/236)
مُحَمَّد بن سِيرِين أَن رجلا جَاءَ إِلَى عمر، فَقَالَ /: " إِنِّي أجريت أَنا وصاحبي فرسين لنا إِلَى ثغرة ثنية، فأصبنا ظَبْيًا وَنحن محرمان فَمَا ترى؟ فَقَالَ عمر لرجل إِلَى جنبه: تعال، حَتَّى أحكم أَنا وَأَنت "، قَالَ: فحكما عَلَيْهِ بعنز. وَالرجل عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " إِذا قتل الْمحرم شَيْئا من الصَّيْد، حكم عَلَيْهِ "، وَذكر فِي الظبي شَاة، وَفِي الْإِبِل بقرة، وَفِي النعامة وحمار الْوَحْش بَدَنَة.
وَفِي هَذَا إرْسَال بَين ابْن أبي طَلْحَة، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا،(3/237)
فَإِن ثَبت فَنَقُول بقوله بِوُجُوب الْمثل، ونخالفه فِي كَيْفيَّة التَّعْدِيل بِظَاهِر الْكتاب وَقَول غَيره.
وَرُوِيَ عَنهُ أَن فِي الأرنب عنَاقًا.
وَرُوِيَ عَن عَطاء عَن عمر، وَعُثْمَان، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي حمام مَكَّة شَاة.
وَرُوِيَ عَنهُ بِإِسْنَاد مَجْهُول عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي الطير، والعصفور: يهريق دَمًا، وَالدَّم شَاة.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَوْف، وَابْن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا حكما فِي ظَبْي بتيس الْمعز.
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن حبشِي قَالَ: " مَرَرْت بِالْمَسْجِدِ، فدعاني عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا -، فَقَالَ: مَا تَقول فِي ولد أرنب أَصَابَهُ الْمحرم؟ فَقلت: أَنْت أعلم بذلك، فَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ بِي عناء، وَلَكِن قَول الله - عز وَجل - {يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم} ،(3/238)
قلت: ولد شَاة، قَالَ: صدقت ".
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي الضبع: " إِذا عدا على الْمحرم، فليقتله، فَإِن قَتله من قبل أَن يعدو عَلَيْهِ فَعَلَيهِ شَاة مُسِنَّة ".
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة أَن مَرْوَان سَأَلَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: أَرَأَيْت مَا أصبْنَا من الصَّيْد، لم نجد لَهُ فدَاء من النعم؟ قَالَ: " قيمَة ذَلِك طَعَاما لأهل مَكَّة ".
وروى مُحَمَّد بن أَشْرَس - وَكَانَ يضع الحَدِيث - عَن جَابر حَدِيثا مَرْفُوعا: " من أَشَارَ إِلَى حرَام بصيد فَعَلَيهِ صِيَام، أَو إطْعَام وَإِن كَانَ المشير حَلَالا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (65) :
وَلَا يحل للْمحرمِ لحم مَا يصطاد لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يحل ".
دليلنا مَا رُوِيَ عَن جَابر - رَحمَه الله - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لحم صيد الْبر لكم حَلَال مَا لم تصيدوه، أَو يصاد لكم ".(3/239)
قَالَ لنا أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَفِي حَدِيث أبي قَتَادَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: خرجت زمن الْحُدَيْبِيَة، فَأحْرم أَصْحَابِي، وَلم أحرم، فَرَأَيْت حمارا، فَحملت عَلَيْهِ فاصطدته، فَذكرت شَأْنه لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَذكرت أَنِّي لم أكن أَحرمت، وَأَنِّي إِنَّمَا اصطدته لَك، فَأمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه، فَأَكَلُوا، وَلم يَأْكُل مِنْهُ حِين أخْبرته أَنِّي اصطدته لَهُ ".
قَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي، قَوْله: " اصطدته لَك "، وَقَوله: " وَلم يَأْكُل مِنْهُ " لَا أعلم أحدا ذكر فِي هَذَا الحَدِيث غير معمر، وَهُوَ(3/240)
مُوَافق لما رُوِيَ عَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: أخبرنَا مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عبد الله بن عَامر، قَالَ: رَأَيْت عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - بالعرج فِي يَوْم صَائِف وَهُوَ محرم، وَقد غطى وَجهه بقطيفة أرجوان، ثمَّ أَتَى بِلَحْم صيد، فَقَالَ لأَصْحَابه: " كلوا "، قَالُوا: أَلا تَأْكُل أَنْت؟ قَالَ: " إِنِّي لست كهيئتكم، إِنَّمَا صيد من أَجلي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (66) :
وَإِذا دلّ الْمحرم على صيد فَقتله مَحل، أَو محرم فَلَا ضَمَان على الدَّال، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا دله دلَالَة باطنة، أَو أعَار سِلَاحا لَا يَسْتَغْنِي عَنهُ لزمَه الضَّمَان ".
لَهُم حَدِيث أَشْرَس الَّذِي تقدم، وَكَانَ يضع الحَدِيث. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (67) :
وللصوم مدْخل فِي ضَمَان صيد الْمحرم. وَالله أعلم.(3/241)
مَسْأَلَة (68) :
وَشَجر الْحرم مَضْمُون على الْمحل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الشّجر الَّذِي ينبته الآدميون فِي الْعَادة لَا ضَمَان فِيهِ بِحَال، وَكَذَلِكَ مَا ينبته الله فِي الْحل فَأدْخلهُ فِي الْحرم فأنبته ".
رُوِيَ عَن عَطاء فِي الرجل يقطع من الْحرم قَالَ: " فِي الْقَضِيب دِرْهَم، وَفِي الدوحة بقرة ".
وروينا عَن الْحَارِث وَحَمَّاد قَالَا: " عَلَيْهِ قِيمَته ".
وَعَن عبيد بن عُمَيْر أَن عمر بن الْخطاب كَانَ يخْطب بمنى فَرَأى رجلا على جبل يعضد شَجرا، فَدَعَاهُ فَقَالَ: أما علمت أَن مَكَّة لَا يعضد شَجَرهَا، وَلَا يخْتَلى خَلاهَا؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِن حَملَنِي على ذَلِك بعير لي نضو، قَالَ: فَحَمله على بعير، وَقَالَ لَهُ: " لَا تعد "، وَلم يَجْعَل عَلَيْهِ شَيْئا. وَالله أعلم.(3/242)
مَسْأَلَة (69) :
وَيجوز الرَّعْي فِي الْحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ". وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (70) :
وَالْجَمَاعَة إِذا اشْتَركُوا فِي قتل صَيْده فَعَلَيْهِم جَزَاء وَاحِد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " على كل وَاحِد مِنْهُم جَزَاء كَامِل ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا مَالك عَن عبد الْملك بن قرير عَن ابْن سِيرِين أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قضى هُوَ وَرجل آخر من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مَالك: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله عَنهُ - على رجلَيْنِ أوطياً / ظَبْيًا فقتلاه بِشَاة ".(3/243)
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي قوم أَصَابُوا ضبعاً قَالَ: " عَلَيْهِم كَبْش يتخارجونه بَينهم ".
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أَخْبرنِي الثِّقَة عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن زِيَاد مولى بني مَخْزُوم - وَكَانَ ثِقَة: " أَن قوما أَصَابُوا صيدا، فَقَالَ لَهُم ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " عَلَيْكُم جَزَاء "، قَالُوا: " على كل وَاحِد منا أَو علينا كلنا جَزَاء وَاحِد؟ فَقَالَ ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " إِنَّه لمعوز بكم، بل كلكُمْ جَزَاء وَاحِد ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (71) :
وَمَا لَا يُؤْكَل فَلَا جَزَاء عَلَيْهِ على من قَتله فِي إِحْرَام أَو حرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " فِي الْأسد، والفهد، والنمر، وسباع الطير الْجَزَاء ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خمس من الدَّوَابّ لَيْسَ على الْمحرم فِي قتلهن جنَاح: الْغُرَاب، والحدأة، وَالْعَقْرَب، والفأرة، وَالْكَلب الْعَقُور ".(3/244)
وَرَوَاهُ اللَّيْث، وَأَيوب عَن نَافِع، وَزَاد فِيهِ: " قَالَ نَافِع: والحية لَا يخْتَلف فِيهَا ".
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خمس من الدَّوَابّ، كلهَا فَاسق، يقتلن فِي الْحرم: الْغُرَاب، والحدأة، وَالْكَلب الْعَقُور، وَالْعَقْرَب، والفأرة " - أخرجه من حَدِيث عُرْوَة.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن الْمسيب عَنْهَا، وَقَالَ فِيهِ: " الْحَيَّة "، بدل الْعَقْرَب، وَمن حَدِيث الْقَاسِم عَنْهَا: " أَربع فواسق "، فَلم يذكر الْحَيَّة، وَلَا الْعَقْرَب.
وَرَوَاهُ أَبُو صَالح عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن(3/245)
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر الْحَيَّة بدل الْغُرَاب.
وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن حَنْبَل: أخبر هشيم: أخبرنَا يزِيد بن أبي زِيَاد: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي نعيم البَجلِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّا يقتل الْمحرم، قَالَ: " الْحَيَّة، وَالْعَقْرَب، والفويسقة، وَيَرْمِي الْغُرَاب، وَلَا يقْتله، وَالْكَلب الْعَقُور، والحدأة، والسبع العادي ". وَالله أعلم.؟
مَسْأَلَة (72) :
وَقتل صيد الْمَدِينَة، وَقطع شَجَرهَا محرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يحرم ".(3/246)
وَدَلِيلنَا حَدِيث عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمَدِينَة حرَام مَا بَين عير إِلَى ثَوْر، فَمن أحدث فِيهَا حَدثا، أَو آوى مُحدثا فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، لَا يقبل مِنْهُ عدل، وَلَا صرف ". الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند أبي دَاوُد عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي هَذِه الْقِصَّة، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا يخْتَلى خَلاهَا، وَلَا ينفر صيدها، وَلَا يلتقط لقطتهَا إِلَّا لمن أَشَارَ بهَا، وَلَا يصلح لرجل أَن يحمل فِيهَا السِّلَاح لقِتَال، وَلَا يصلح لرجل أَن يقطع مِنْهَا شَجَرَة إِلَّا أَن يعلف رجل بعيره ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - 0 طلع لَهُ أحد، فَقَالَ لَهُ: هَذَا جبل يحبنا ونحبه، اللَّهُمَّ إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة، وَإِنِّي أحرمك مَا بَين لابتيها ".(3/247)
وَعند مُسلم عَن يزِيد بن هَارُون: أخبرنَا عَاصِم، قَالَ: سَأَلت أنسا - رَضِي الله عَنهُ - أحرم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة؟ قَالَ: " نعم، هِيَ حرَام حرمهَا الله وَرَسُوله، لَا يخْتَلى خَلاهَا، فَمن (فعل ذَلِك) فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ ".
وَعَن عبد الله بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة، وَحرمت الْمَدِينَة كَمَا حرم إِبْرَاهِيم مَكَّة، ودعوت لَهَا فِي مدها، وصاعها، مثل مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيم لمَكَّة ".
أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم. (وَأَخْرَجَا) أَيْضا من حَدِيث مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ - وَاللَّفْظ لمُسلم: أَنه كَانَ يَقُول: " لَو رَأَيْت الظباء ترتع بِالْمَدِينَةِ مَا ذعرتها، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا بَين لابتيها حرَام ".
وَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك فَقَالَ فِيهِ: " لَو رَأَيْت الظباء بِالْمَدِينَةِ مَا ذعرتها؛ إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا بَين لابتيها حرَام ".(3/248)
قَالَ مَالك: " حرم الْمَدِينَة بريد فِي بريد، واللابتان هما الحرتان ".
وَعند مُسلم فِي الصَّحِيح حَدِيث، فِيهِ أَن رَافع بن خديج - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " وَقد حرم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا بَين لابتيها ".
وَذَلِكَ عندنَا فِي أَدِيم حولاني.
وَعِنْده أَيْضا عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِنِّي قد حرمت مَا بَين لابتي الْمَدِينَة، كَمَا حرم إِبْرَاهِيم "، ثمَّ كَانَ أَبُو سعيد يجد أَحَدنَا فِي يَده الطير قد أَخذه، فيفكه من يَده فيرسله.
وَعِنْده أَيْضا عَن سهل بن حنيف - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ:(3/249)
" أَهْوى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَة، فَقَالَ: إِنَّهَا حرم آمن ".
وَعِنْده أَيْضا عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة مَا بَين لابتيها، لَا يقطع عضاهها، وَلَا يصاد صيدها ".
وَعِنْده أَيْضا عَن سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنِّي أحرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أَن يقطع عضاهها، أَو يقتل صيدها ".
وروى فِي تَحْرِيم الْمَدِينَة عَن زيد بن ثَابت، وَأبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَفِي ذَلِك إبِْطَال قَول من زعم أَن ذَلِك لَيْسَ بعام. فقد روينَاهُ عَن أحد عشر نفسا، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَعند مُسلم أَن سَعْدا - رَضِي الله عَنهُ - ركب إِلَى قصره(3/250)
بالعقيق، فَوجدَ عبدا يقطع شَجرا فاستلبه، فَلَمَّا رَجَعَ جَاءَهُ أهل العَبْد يسألونه أَن يرد عَلَيْهِم مَا أَخذ من عبدهم، فَقَالَ: " معَاذ الله أَن أرد شَيْئا نفلنيه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلم يرد إِلَيْهِم شَيْئا ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كَانَ ابْن لأم سليم - رَضِي الله عَنْهَا - يُقَال لَهُ " أَبُو عُمَيْر "، كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُبمَا يمازحه إِذا جَاءَ، فَدخل يَوْمًا فَوَجَدَهُ حَزينًا، فَقَالَ: مَا لي أرى أَبَا عُمَيْر حَزينًا؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، مَاتَ نغيره الَّذِي كَانَ يلْعَب بِهِ، فَجعل يُنَادِيه: يَا أَبَا عُمَيْر، مَا فعل النغير؟ ".
قَالَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ: " فِيهِ غير شَيْء من الْعلم، فِيهِ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مازح صَبيا، وَفِيه أَنه لم ينْه عَن لعب(3/251)
الصَّبِي بالطير، وَفِيه أَنه كنى من لم يُولد لَهُ، وَفِيه أَنه لم ينْه عَن صيد وجد بِالْمَدِينَةِ - قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " يَعْنِي إِذا كَانَ قد أدخلهُ من الْحل فِي حرم الْمَدِينَة " - وَفِيه أَنه صغر طيراً، وَهُوَ خلق من خلق الله تَعَالَى ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله: " هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنه صيد بِالْمَدِينَةِ.
وَهُوَ دَلِيل لنا عَلَيْهِم فِي مَسْأَلَة أُخْرَى، وَهِي أَن الصَّيْد الْمَمْلُوك الَّذِي يدْخلهُ الْحَلَال فِي الْحرم يبْقى على ملكه، وَجَوَاز تصرفه فِيهِ، وَيحل ذبحه لَهُ، وَلغيره، وَلَا جَزَاء عَلَيْهِ فِي ذبحه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يلْزمه رفع الْيَد عَنهُ، فَإِن قَتله جزأه ".
وَهَذَا خلاف مَا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَذَلِكَ أَنه لم يَأْمُرهُ بِرَفْع الْيَد عَنهُ، وَحين مَاتَ لم يُوجب فِيهِ الْجَزَاء.
وَقد دللنا على أَن حرم الْمَدِينَة كحرم مَكَّة، وَأما تَحْرِيم وَج من الطَّائِف فَمَا روى فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عَن الزبير بن الْعَوام -(3/252)
رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أَقبلنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من لية - قَالَ الْحميدِي: مَكَان بِالطَّائِف - حَتَّى إِذا كُنَّا عِنْد السِّدْرَة وقف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طرف الْقرن الْأسود حذوها، فَاسْتقْبل نخباً - قَالَ الْحميدِي: مَكَان يُقَال لَهُ " نخب " - يبصره، ثمَّ وقف حَتَّى أوقف النَّاس، ثمَّ قَالَ: " إِن صيد وَج، وعضاه حرم محرم لله، عز وَجل، وَذَلِكَ قبل نُزُوله الطَّائِف، وحصاره ثقيفاً " ... وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (73) :
وَيحل الْمحصر فِي الْحل، مَحل دم إحصاره. وَقَالَ أَبُو(3/253)
حنيفَة - رَحمَه الله -: " يَسُوق دم إحصاره إِلَى الْحرم على يَد غَيره، ويواعده يَوْمًا لنحره، ثمَّ لَا يحل هُوَ قبل يَوْم مواعدته ".
فِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ: " نحرنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (بِالْحُدَيْبِية) الْبَقَرَة عَن سَبْعَة، والبدنة عَن سَبْعَة.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن الزُّهْرِيّ (عَن عُرْوَة) عَن الْمسور، ومروان - يصدق حَدِيث كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه - قَالَا: " خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زمن الْحُدَيْبِيَة "، فَذكر الحَدِيث فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة، وَفِيه: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نحر بهَا هَدْيه، وَأَن أَصْحَابه لما رَأَوْهُ نحر، قَامُوا فنحروا.
وَفِي ذَلِك دَلِيل على أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نحر هَدْيه بِالْحُدَيْبِية وَهِي من الْحل خلاف مَا زَعَمُوا أَنه بعث بهديه مَعَ جُنْدُب هَذِه السّنة حَتَّى نَحره فِي الْحرم.
وَإسْنَاد حَدِيث جُنْدُب لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَلَعَلَّه كَانَ فِي وَقت آخر إِن صَحَّ، رَوَوْهُ عَن نَاجِية بن جُنْدُب الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَأَبُو دَاوُد يَقُول: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير، أخبرنَا سُفْيَان عَن هِشَام(3/254)
عَن أَبِيه عَن نَاجِية الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث مَعَه بِهَدي، فَقَالَ: " إِن عطب فانحره، ثمَّ أصبغ نَعله فِي دَمه، ثمَّ خل بَينه وَبَين النَّاس "، وَلَيْسَ لَهُم حجَّة فِيهِ.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سِتّ عشرَة بَدَنَة / مَعَ رجل وَأمره، قَالَ: مضى ثمَّ رَجَعَ، قَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ أصنع بِمَا أبدع (عَليّ) مِنْهَا؟ قَالَ: " انحرها، ثمَّ اصبغ نعلها فِي دَمهَا، ثمَّ اجْعَلْهَا فِي صفحتها، وَلَا تَأْكُل مِنْهَا أَنْت، وَلَا أحد من أهل رفقتك ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَالْحُدَيْبِيَة مَوضِع من الأَرْض مِنْهُ مَا هُوَ فِي الْحل، وَمِنْه مَا هُوَ فِي الْحرم، وَإِنَّمَا نحر الْهَدْي - عندنَا - فِي الْحل، وَفِيه منحر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي بُويِعَ فِيهِ تَحت الشَّجَرَة ".
قَالَ: " وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَنه نحر فِي الْحل؛ لِأَن الله - تَعَالَى - يَقُول: {هم الَّذين كفرُوا وصدوكم عَن الْمَسْجِد الْحَرَام وَالْهَدْي معكوفاً أَن يبلغ مَحَله} ، وَالْحرم كُله مَحَله عِنْد أهل الْعلم ".(3/255)
قَالَ أَبُو عبيد فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - فِي الَّذِي لدغ وَهُوَ محرم بِالْعُمْرَةِ، فأحصر، فَقَالَ عبد الله: " ابْعَثُوا بِالْهَدْي، وَاجْعَلُوا بَيْنكُم وَبَينه يَوْم أمار، فَإِذا ذبح الْهَدْي بِمَكَّة، حل ": " حدّثنَاهُ عباد بن الْعَوام عَن أبان بن تغلب عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه عَن عبد الله، قَالَ الْكسَائي: الأمارة: الْعَلامَة الَّتِي يعرف بهَا الشَّيْء، يَقُول: اجعلوا بَيْنكُم يَوْمًا تعرفونه؛ لكيلا تختلفوا ".(3/256)
مَسْأَلَة (74) :
وَلَيْسَ للْمحرمِ أَن يتَحَلَّل من إِحْرَامه بمرضه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ ذَلِك ".
وَدَلِيلنَا مَا روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " لَا حصر إِلَّا حصر الْعَدو "، فَزَاد أَحدهمَا: " ذهب الْحصْر الْآن ".
وَعَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار " أَن ابْن عمر، وَابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُمَا -، ومروان أفتوا ابْن حزابة المَخْزُومِي - وَأَنه صرع بِبَعْض طَرِيق مَكَّة وَهُوَ محرم - أَن يتداوى بِمَا لَا بُد (لَهُ) مِنْهُ ويفتدي، فَإِذا صَحَّ اعْتَمر، فَحل من إِحْرَامه، وَكَانَ عَلَيْهِ أَن يحجّ عَاما قَابلا وَيهْدِي ".
وروى مَالك - رَحمَه الله - عَن يحيى بن سعيد " أَنه بلغه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَت تَقول: الْمحرم لَا يحله إِلَّا الْبَيْت ".(3/257)
وَعَن أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة عَن رجل من أهل الْبَصْرَة، أَنه قَالَ: " خرجت إِلَى مَكَّة حَتَّى إِذا كُنَّا بِبَعْض الطَّرِيق، كسرت فَخذي، فَأرْسلت إِلَى مَكَّة، وَبهَا عبد الله بن مَسْعُود، وَعبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُم -، وَالنَّاس، فَلم يرخص لي أحد فِي أَن أحل، فأقمت على ذَلِك المَاء سَبْعَة أشهر، ثمَّ حللت بِعُمْرَة.
وَرُبمَا اسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِمَا حدثت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -، قَالَت: " دخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ضباعة بنت الزبير، فَقَالَ لَهَا: أردْت الْحَج؟ قَالَت: وَالله مَا أجدني إِلَّا وجعة، فَقَالَ لَهَا: " حجي، واشترطي، وَقَوْلِي: اللَّهُمَّ محلي حَيْثُ حبستني، وَكَانَت تَحت الْمِقْدَاد "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَمر ضباعة بنت الزبير) أَن تشْتَرط فِي الْحَج،(3/258)
فَفعلت ذَاك عَن أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرُوِيَ الِاشْتِرَاط فِي الْحَج عَن ابْن عمر، وَابْن مَسْعُود، وَعَائِشَة، وَأم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهُم - من قَوْلهم: " وَلَو كَانَ يحل بِالْمرضِ، لم يكن للاشتراط معنى. وَالله أعلم.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: من كسر أَو عرج فقد حل، وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى ". قَالَ عِكْرِمَة: " سَأَلت ابْن عَبَّاس، وَأَبا هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنْهُم - عَمَّا قَالَ، فَقَالَا: صدق "، وَلَيْسَ بمخرج فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن الْمسيب، أَن معبد بن حزابة خرج حَاجا، فَوَقَعت رجله فِي بِئْر، فانفسخت، فَسَأَلَ ابْن الزبير - رَضِي الله عَنهُ -، ومروان بن الحكم، وَغَيرهم، كلهم يَقُول لَهُ:(3/259)
" تداوى بِمَا يصلحك من الطّيب، وافسخ حجك إِلَى عمْرَة، ثمَّ عَلَيْك الْحَج من قَابل، وأهرق لذَلِك دَمًا ".
وبإسناده عَن يحيى بن سعيد عَن مربع الْأَسدي عَن أبي ذَر - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ: " لم يكن لأحد أَن يفْسخ حجَّة إِلَى عمْرَة إِلَّا للركب من أَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَاصَّة ".
وَفِي هَذَا الحَدِيث دلَالَة عَن أبي ذَر - رَضِي الله عَنهُ - على أَن فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة لَا يجوز لأحد بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يجوز للْمَرِيض فسخ الْحَج بِالْعُمْرَةِ، وَلَكِن يصبر حَتَّى يبرأ فيحج، أَو يفوتهُ الْحَج فيتحلل بِعَمَل عمْرَة.
وَهَذَا هُوَ المُرَاد بفتوى ابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيره، وَذَلِكَ فِي رِوَايَة مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (75) :
وَإِذا أَحرمت الْمَرْأَة لحج / إسْلَامهَا دون إِذن (زَوجهَا، كَانَ) للزَّوْج أَن يمْنَعهَا من الْمُضِيّ فِيهِ على أحد الْقَوْلَيْنِ(3/260)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك ".
رُوِيَ عَن حسان بن إِبْرَاهِيم فِي امْرَأَة - لَهَا مَال، تستأذن زَوجهَا فِي الْحَج، فَلَا يَأْذَن لَهَا: قَالَ إِبْرَاهِيم الصَّائِغ: قَالَ نَافِع: قَالَ عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - 0 قَالَ: " لَيْسَ لَهَا أَن تَنْطَلِق إِلَّا بِإِذن زَوجهَا، وَلَا يحل للْمَرْأَة أَن تُسَافِر ثَلَاث لَيَال إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم تحرم عَلَيْهِ ".
وَرُوِيَ عَن حسان بالْقَوْل الثَّانِي، احْتج بِمَا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تمنعوا إِمَاء الله مَسَاجِد الله "، فَحَمله الشَّافِعِي على هَذَا القَوْل، على الْمَسْجِد الْحَرَام خَاصَّة، دون سَائِر الْمَسَاجِد.
وَمن قَالَ بِالْأولِ، حمله على الِاسْتِحْبَاب فِي جَمِيع الْمَسَاجِد.
وَالله أعلم.(3/261)
مَسْأَلَة (76) :
الْأَيَّام المعلومات عشر ذِي الْحجَّة، آخرهَا يَوْم النَّحْر، وَالْأَيَّام(3/262)
المعدودات ثَلَاثَة أَيَّام التَّشْرِيق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " المعلومات ثَلَاثَة: يَوْم عَرَفَة، وَيَوْم النَّحْر، وَالْأول من أَيَّام التَّشْرِيق والمعدودات: ثَلَاثَة أَيَّام التَّشْرِيق رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " الْأَيَّام المعلومات أَيَّام الْعشْر، والمعدودات أَيَّام التَّشْرِيق ".
وَكَذَا قَالَه مُجَاهِد، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (77) :
وَمن نذر هَديا مُطلقًا من غير تَسْمِيَة شَيْء، وَلَا نِيَّة شَيْء، خرج من وَاجِب نَذره بِقدر مَا يتَصَدَّق بِهِ عَن كل مَا يتمول، على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا تُجزئه من غير النعم "، وَهُوَ القَوْل الآخر.(3/263)
فِي صَحِيح مُسلم، حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - يبلغ بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة، كَانَ على كل بَاب من أَبْوَاب الْمَسْجِد مَلَائِكَة، يَكْتُبُونَ النَّاس الأول فَالْأول، فالمهجر إِلَى الصَّلَاة كالمهدي كَبْشًا، حَتَّى ذكر الدَّجَاجَة والبيضة، فَإِذا جلس الإِمَام طَوَوْا الصُّحُف، واجتمعوا للخطبة ".
وَعِنْدهَا عَنهُ فِيهِ: " فَمثل المهجر يهدي بَدَنَة، ثمَّ كَالَّذي يهدي بقرة، ثمَّ كَالَّذي يهدي الْكَبْش، ثمَّ كَالَّذي يهدي الدَّجَاجَة، ثمَّ كَالَّذي يهدي الْبَيْضَة ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (78) :
إشعاره الْبَدنَة مسنون. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه مَكْرُوه ".
لنا حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " فتلت قلائد هدي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيَدي، ثمَّ أشعرها وقلدها، ثمَّ بعث بهَا إِلَى الْبَيْت، وَأقَام بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حرم عَلَيْهِ شَيْء كَانَ حل لَهُ ".(3/264)
وَفِي رِوَايَة: " فتلت قلائد بدن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيح.
وَعند البُخَارِيّ عَن الْمسور بن مخرمَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج عَام الْحُدَيْبِيَة فِي بضع عشرَة مائَة من أَصْحَابه، فَلَمَّا كَانَ بِذِي الحليفة، قلد الْهَدْي، وَأَشْعرهُ وَأحرم مِنْهَا.
وَعند مُسلم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أَتَى ذَا الحليفة، أشعر بدنته من جَانب سنامها الْأَيْمن، ثمَّ سلت عَنْهَا الدَّم ".
وَفِي رِوَايَة " ثمَّ أماط عَنْهَا الدَّم، وَأهل بِالْحَجِّ ".
وروى مَالك عَن نَافِع أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - " كَانَ يشْعر بدنه من الشق الْأَيْسَر إِلَّا أَن تكون صعاباً تنفر بِهِ، فَإِذا لم يسْتَطع أَن يدْخل بَينهَا، أشعر من الشق الْأَيْمن، وَإِذا أَرَادَ أَن يشعرها، وَجههَا إِلَى الْقبْلَة، وَإِذا أشعرها، قَالَ: بِسم الله، وَالله أكبر، وَأَنه كَانَ يشعرها بِيَدِهِ قيَاما ".(3/265)
وبإسناده أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " الْهَدْي مَا قلد، وأشعر، ووقف بِهِ بِعَرَفَة ".
مَسْأَلَة (79) :
وَإِن كَانَ الْهَدْي شَاة، قَلّدهُ بِحَرب الْقرْبَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " لَا تَقْلِيد فِي الْغنم ".
دليلنا مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " كنت أفتل قلائد الْغنم لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فيبعث بهَا، ثمَّ يمْكث حَلَالا ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَنْهَا قَالَت: " أهْدى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرّة غنما فقلدها ".
وعنها أَيْضا قَالَت: " كُنَّا نقلد الشَّاة، وَنُرْسِل بهَا وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَلَال، لم يحرم مِنْهُ شَيْء ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (80) :
إِذا نذر هَديا بِعَيْنِه، لم يكن لَهُ أَن يصرفهُ إِلَى غَيره، أَو يعْطى قِيمَته. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله، فِيمَا حكى عَنهُ: " إِن لَهُ ذَلِك ".(3/266)
وروى أَبُو دَاوُد عَن سَالم عَن أَبِيه، قَالَ: " أهْدى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - نجيباً، فَأعْطى بهَا ثَلَاث مائَة دِينَار، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي أهديت نجيباً، فَأعْطيت بهَا ثَلَاث مائَة دِينَار، أَفَأَبِيعهَا، وأشتري بِثمنِهَا بَدَنَة؟ قَالَ: لَا، انحرها إِيَّاهَا.
وَالله - (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أعلم، وَله الْحَمد والْمنَّة، وَمِنْه التَّوْفِيق والعصمة) . آخر كتاب الْعِبَادَات.(3/267)
صفحة فارغة.(3/268)
كتاب الْبيُوع.
ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة - رحمهمَا الله تَعَالَى - من كتاب الْبيُوع مِمَّا ورد فِيهِ خبر أَو أثر
مَسْأَلَة (81) :
بيع الْعين الغائبة لَا يجوز على أحد الْقَوْلَيْنِ / وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه يجوز ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْحَصَاة، وَعَن بيع الْغرَر ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن أبي دَاوُد عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا -، قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يحل بيع، وَلَا سلف، وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع، وَلَا ربح مَا لم يضمن، وَلَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك ".(3/269)
وروى عَن ابْن لَهِيعَة عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْغَائِب كُله، من كل شَيْء يديره النَّاس بَينهم ".
وروى الشَّافِعِي عَن الثِّقَة - قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَحْسبهُ إِسْمَاعِيل بن علية - عَن أَيُّوب عَن يُوسُف بن مَاهك عَن حَكِيم بن حزَام، قَالَ: " نهاني رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْدِي ".
وَرُبمَا استدلوا بِمَا روى (عمر بن) إِبْرَاهِيم - بأسانيد لَهُ - عَن مُحَمَّد ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " من اشْترى شَيْئا لم يره فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا رَآهُ ".
وَهَذَا بَاطِل لَا يَصح، لم يروه غَيره.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " عمر بن إِبْرَاهِيم - يُقَال لَهُ: الْكرْدِي -، كَانَ يضع الحَدِيث، وَإِنَّمَا يروي عَن ابْن سِيرِين من قَوْله ".
وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن أبي بكر بن أبي مَرْيَم عَن مَكْحُول يرفع الحَدِيث إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(3/270)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا مُرْسل، وَأَبُو بكر بن أبي مَرْيَم ضَعِيف. وَقد سبق ذكره فِي كتاب الطَّهَارَة.
وَرُوِيَ فِي جَوَاز بيع خِيَار الرُّؤْيَة عَن عُثْمَان، وَطَلْحَة، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَجبير بن مطعم - رَضِي الله عَنْهُم - وَذكرنَا قصتهم فِي كتاب السّنَن. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (82) :
وَخيَار الْمجْلس عندنَا ثَابت فِي البيع بِالشَّرْعِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه لَا يثبت ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمُتَبَايعَانِ كل وَاحِد مِنْهُم بِالْخِيَارِ على صَاحبه مَا لم يَتَفَرَّقَا إِلَّا بيع الْخِيَار ". أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، وَمُسلم، وَاللَّفْظ لَهُ.(3/271)
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا بِمَعْنَاهُ، وَزَاد: " وَكَانَ ابْن عمر إِذا اشْترى شَيْئا ً يُعجبهُ، فَارق صَاحبه.
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا (عَنهُ) عَن رَسُول الله -
- قَالَ: " إِذا تبَايع الرّجلَانِ فَكل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، مَا لم يفترقا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَو يُخَيّر أَحدهمَا الآخر، فتبايعا على ذَلِك، فقد وَجب البيع، وَإِن تفَرقا بعد أَن تبَايعا، وَلم يتْرك وَاحِد مِنْهُمَا البيع، فقد وَجب البيع.
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا عَن حَكِيم بن حزَام - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله -
- قَالَ: " الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، فَإِن صدقا وَبينا بورك لَهما فِي بيعهمَا، وَإِن كتما وكذبا، محقت الْبركَة من بيعهمَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله -
- " من اشْترى بيعا فَوَجَبَ لَهُ هُوَ بِالْخِيَارِ مَا لم يُفَارِقهُ صَاحبه، فَإِن فَارقه فَلَا خِيَار لَهُ ".
قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَرُوِيَ فِي ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة، وَسمرَة بن جُنْدُب، وَجَابِر،(3/272)
وَجَرِير بن عبد الله، وَعُثْمَان بن عَفَّان، وَعبد الله بن عَمْرو، رَضِي الله عَنْهُم، وَقَالَ فِي حَدِيثه: " وَلَا يحل لَهُ أَن يُفَارق صَاحبه بنية أَن يستقيله، ثمَّ عَن شُرَيْح، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح.
وَرُوِيَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: قَالَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - البيع صَفْقَة، أَو خِيَار ".
قَالَ أَبُو عوَانَة: الصَّفْقَة: أَن يضْرب بِيَدِهِ على يَده، وَالْخيَار: أَن يَقُول اختر ".
هَذَا مُنْقَطع لَا تقوم بِهِ حجَّة.
ثمن مَعْنَاهُ عِنْد الشَّافِعِي - رَحمَه الله - البيع صَفْقَة، بعْدهَا تفرق أَو خِيَار، فَمن الْمحَال تعلق وجوب البيع بِالْخِيَارِ دون الصَّفْقَة.
وَكَذَلِكَ لَا تتَعَلَّق الصَّفْقَة دون الْخِيَار والتفرق. وَالله أعلم.(3/273)
مَسْأَلَة (83) :
وَشرط الْخِيَار أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام، يبطل البيع، وَلَا يَصح بِإِسْقَاط الزِّيَادَة على الثَّلَاث.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن أسقطا الزِّيَادَة على الثَّلَاث فِي الثَّلَاث صَحَّ البيع، وَإِن سكتا حَتَّى مضى الثَّلَاث بَطل ".
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد - رحمهمَا الله -: " يجوز شَرط الْخِيَار أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه نهى عَن بيع الْغرَر ".
وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قصَّة بَرِيرَة: " مَا كَانَ من شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل، وَإِن كَانَ مائَة شَرط ". اتفقَا على صِحَّته.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وأصل البيع على الْخِيَار، لَوْلَا الْخَبَر كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون فَاسِدا، فَلَمَّا اشْترط رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي(3/274)
الْمُصراة خِيَار ثَلَاثَة بعد البيع، وَرُوِيَ أَنه جعل لحبان بن منقذ - رَضِي الله عَنهُ - خِيَار ثَلَاثَة فِيمَا ابْتَاعَ انتهينا إِلَى مَا أَمر بِهِ رَسُول الله / - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم نجاوزه ".
أما حَدِيث الْمُصراة فَهُوَ فِي مَسْأَلَة بيعهَا.
وَأما حَدِيث حبَان بن منقذ - رَضِي الله عَنهُ - فغروي عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -، قَالَ: " كَانَ حبَان بن منقذ رجلا ضَعِيفا، وَكَانَ قد سفع فِي رَأسه مأمومة؛ فَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ الْخِيَار فِيمَا اشْترى ثَلَاثًا، وَكَانَ قد ثقل لِسَانه، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعْ، وَقل: لَا خلابة، وَكنت أسمعهُ يَقُول: لَا (خذابة) ، فَكَانَ يَشْتَرِي الشَّيْء ويجئ بِهِ أَهله، فَيَقُولُونَ: هَذَا غال، فَيَقُول: إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خيرني فِي بيعي "، رُوَاته ثِقَات.(3/275)
وَمَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " الْمُسلمُونَ على شروطهم، وَالصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين "، فقد رُوِيَ فِي بعض طرقه: " فِيمَا وَافق الْحق "، وَشرط الْخِيَار أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام يُخَالف مَا سبق ذكره من الْأَحَادِيث؛ فَلَا يَصح. وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (84) :
وَخيَار الثَّلَاث عِنْدَمَا يُورث. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يُورث ".
قَالَ الله تَعَالَى {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم}
عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من مَاتَ وَترك عَلَيْهِ دينا، فدينه على الله وَرَسُوله، وَمن مَاتَ وَترك شَيْئا، فَهُوَ للْوَارِث ". وَالله أعلم.(3/276)
مَسْأَلَة (85) :
والتفرق (عَن) بيع الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ، أَو الشّعير بِالشَّعِيرِ قبل الْقَبْض يبطل البيع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يبطل ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن مَالك بن أَوْس بن الْحدثَان، أَنه التمس صرفا بِمِائَة دِينَار، قَالَ: " فدعاني طَلْحَة بن عبيد الله، فتراوضنا حَتَّى اصطرف مني، وَأخذ الذَّهَب يقلبها فِي يَده، ثمَّ قَالَ حَتَّى يَأْتِي خازني، أَو يَأْتِي خازني من الغابة - أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث مَالك، قَالَ الشَّافِعِي: أَنا شَككت - وَعمر - رَضِي الله عَنهُ - يسمع، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: وَالله لَا تُفَارِقهُ حَتَّى تَأْخُذ مِنْهُ، ثمَّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الذَّهَب بالورق رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء، (وَالْبر بِالْبرِّ رَبًّا، إِلَّا هَاء وهاء، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ رَبًّا إِلَّا(3/277)
هَاء وهاء) ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء ".
وَعنهُ عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب عَن مَالك بن أَوْس عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مثل حَدِيث مَالك، وَقَالَ: " حَتَّى (يَأْتِي خازني) من الغابة "، أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث مَالك) .
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن أبي قلَابَة، قَالَ " كنت بِالشَّام فِي حَلقَة فِيهَا مُسلم بن يسَار، فجَاء أَبُو الْأَشْعَث قَالَ: قَالُوا: أَبُو الْأَشْعَث، فَجَلَسَ، فَقلت لَهُ: حدث أخانا حَدِيث(3/278)
عبَادَة بن الصَّامِت، - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: نعم، غزونا غزَاة، وعَلى النَّاس مُعَاوِيَة - رَضِي الله عَنهُ - فغنمنا غَنَائِم كَثِيرَة فَكَانَ فِيمَا غنمنا آنِية من فضَّة، فَأمر مُعَاوِيَة رجلا أَن يَبِيعهَا فِي أعطيات النَّاس، فَتسَارع النَّاس فِي ذَلِك، فَبلغ ذَلِك عبَادَة بن الصَّامِت، فَقَامَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينْهَى عَن بيع الذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْملح بالملح إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء، عينا بِعَين، فَمن زَاد أَو ازْدَادَ، فقد أربى، فَرد النَّاس مَا أخذُوا "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن عبَادَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْملح بالملح مثلا بِمثل، فَإِذا اخْتلفت هَذِه الْأَصْنَاف، فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد "، أخرجه مُسلم.
وَعَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْر(3/279)
بِالتَّمْرِ، وَالْملح بالملح مثلا بِمثل، يدا بيد، فَمن زَاد أَو ازْدَادَ، فقد أربى، الْآخِذ والمعطي فِيهِ سَوَاء "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعِنْده عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: التَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالْملح بالملح مثلاًُ بِمثل، يدا بيد، فَمن زَاد، أَو اسْتَزَادَ، فقد أربى إِلَّا مَا اخْتلفت ألوانه ".
قَوْله: " إِلَّا مَا اخْتلفت ألوانه "، أَرَادَ بِهِ فِي جَوَاز التَّفَاضُل، لَا فِي التَّفَرُّق عَن الْمجْلس قبل التَّقَابُض، بَيَانه فِي حَدِيث عبَادَة، رَضِي الله عَنهُ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (86) :(3/280)
صفحة فارغة.(3/281)
صفحة فارغة.(3/282)
صفحة فارغة.(3/283)
صفحة فارغة.(3/284)
وَعلة الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الطّعْم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الْكَيْل ".
فِي صَحِيح مُسلم عَن معمر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ 0، قَالَ: كنت أسمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " الطَّعَام بِالطَّعَامِ مثلا بِمثل ":
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنه لعن آكل الرِّبَا، وموكله ".
وَقد روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / أَنه قَالَ: " وَالْملح بالملح مثلا بِمثل، يدا بيد.(3/285)
وَأما الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن (عبد الْمجِيد) عَن سعيد بن الْمسيب أَن أَبَا هُرَيْرَة، وَأَبا سعيد - رَضِي الله عَنْهُمَا - حَدَّثَاهُ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث أَخا بني عدي الْأنْصَارِيّ، فَاسْتَعْملهُ على خَيْبَر، فَقدم بِتَمْر جنيب، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل تمر خَيْبَر هَكَذَا؟ ، قَالَ: لَا وَالله، يَا رَسُول الله، إِنَّا لنشتري الصَّاع بالصاعين من الْجمع، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تَفعلُوا، وَلَكِن مثلا بِمثل، أَو تَبِيعُوا هَذَا، وتشتروا بِثمنِهِ من هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَان "، رَوَاهُ مُسلم، وَالْبُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَأخرجه من حَدِيث مَالك دون قَوْله: " وَكَذَلِكَ الْمِيزَان ". وَالْأَشْبَه أَن يكون ذَلِك من قَول أبي سعيد لما خَالفه فِيهِ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - من بيع الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ على مَا رُوِيَ فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّاع بالصاعين.
وَكَذَلِكَ مَا فِي حَدِيث حبَان بن عبد الله، إِن صَحَّ ذَلِك من تِلْكَ الْجِهَة. الَّذِي يدل على ذَلِك من قَول أبي سعيد حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد فِي احتجاجه على ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - بِقصَّة التَّمْر، قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أربيت إِذا أردْت ذَلِك فبع تمرك بسلعة، ثمَّ اشْتَرِ بسلعتك أَي تمر شِئْت "،(3/286)
قَالَ أَبُو سعيد: " فالتمر بِالتَّمْرِ أَحَق أَن يكون رَبًّا، أَو الْفضة بِالْفِضَّةِ؟ ".
فَكَانَ هَذَا قِيَاسا من أبي سعيد لِلْفِضَّةِ على التَّمْر الَّذِي روى فِيهِ قصَّته إِلَّا أَن بعض الروَاة رَوَاهُ مُفَسرًا مَفْصُولًا، وَبَعْضهمْ مُجملا مَوْصُولا، وَالله أعلم.
وروى حبَان بن عبد الله أَبُو زُهَيْر الْعَدوي عَن لَاحق بن حميد أبي مجلز: أَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ لَا يرى بِالصرْفِ بَأْسا، وَأَن أَبَا سعيد أنكر ذَلِك عَلَيْهِ، وَاسْتدلَّ بِأَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - بعثت بصاعين من تمر عَتيق، فَأتيت بدلهما بِصَاع عَجْوَة، وَأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ردُّوهُ، ردُّوهُ التَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، يدا بيد، مثلا بِمثل / لَيْسَ فِيهِ زِيَادَة، وَلَا نُقْصَان، فَمن زَاد، أَو نقص، فقد أربى فِي كل مَا يُكَال، أَو يُوزن ".(3/287)
وقصة أبي سعيد مَعَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - مخرجه فِي الصَّحِيح من غير هَذِه الرِّوَايَة، وَلَيْسَ فِيهِ: " وكل مَا يُكَال ويوزن "، وَإِنَّمَا انْفَرد بِهِ حبَان بن عبيد الله هَذَا من هَذِه الرِّوَايَة، وحبان لم يحْتَج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَلَا لَهُ ذكر فِي كتابهما، وَهُوَ مُخَالف للروايات عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الرِّبَا.
وَرُوِيَ فِي حَدِيث عبَادَة، وَأنس بن مَالك - وَلَا يَصح - رَوَاهُ أَبُو بكر ابْن عَيَّاش عَن الرّبيع بن صبيح عَن الْحسن عَن عبَادَة، وَأنس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَا وزن مثل بِمثل إِذا كَانَ نوعا وَاحِدًا، وَمَا كيل فَمثل ذَلِك، وَإِذا اخْتلف النوعان فَلَا بَأْس ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " لم يروه غير أبي بكر عَن الرّبيع هَكَذَا، وَخَالفهُ جمَاعَة، فَرَوَوْه عَن الرّبيع عَن ابْن سِيرِين عَن عبَادَة، وَأنس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَفْظ غير هَذَا اللَّفْظ ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن يعلى الْكُوفِي عَن الرّبيع عَن ابْن سِيرِين عَن ابْن الصَّامِت، وَعَن أنس رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَرق بِالذَّهَب، وَالذَّهَب بالورق، وَاحِد بِاثْنَيْنِ، لَا بَأْس بِهِ التَّمْر بالملح، وَالْملح بِالتَّمْرِ وَاحِد بِاثْنَيْنِ يدا بيد، لَا بَأْس بِهِ، وَإِذا اخْتلف النوعان فَلَا بَأْس بِهِ اثْنَان بِوَاحِد يدا بيد، على أَلا تفارق صَاحبك حَتَّى تَأْخُذهُ.(3/288)
وَعَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن ابْن سِيرِين عَن عبَادَة، وَأنس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوَرق بالورق، وَالذَّهَب بِالذَّهَب، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالْملح بالملح، عينا بِعَين "، أَو قَالَ: " وزنا بِوَزْن ".
وَقَالَ أَحدهمَا، وَلم يقلهُ الآخر: " وَلَا بَأْس بالدينار بالورق اثْنَيْنِ بِوَاحِد يدا بيد، وَلَا بَأْس بِالْبرِّ بِالشَّعِيرِ اثْنَيْنِ بِوَاحِد، وَلَا بَأْس بالملح بِالشَّعِيرِ اثْنَيْنِ بِوَاحِد يدا بيد ".
هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ من حَدِيث الرّبيع بن صبيح، وعَلى الْأَحْوَال كلهَا الرّبيع غير مُحْتَج بِهِ، وَقد سبق ذكري لَهُ.
وَقَوله: " أَو قَالَ: وزنا بِوَزْن " لَيْسَ (بِشَيْء) ، وَالْمَحْفُوظ من حَدِيث عبَادَة " كَيْلا بكيل "، يدل على صِحَة ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدِهِ عَن عباد / - رَضِي الله عَنهُ -، أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَالَ: " الذَّهَب بِالذَّهَب، تبرها وعينها، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، تبرها وعينها، وَالْبر بِالْبرِّ مد بِمد، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ مد بِمد، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ مد بِمد، وَالْملح بالملح مد بِمد، فَمن زَاد أَو ازْدَادَ فقد أربى، وَلَا بَأْس بِبيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّة أكثرهما يدا بيد، وَأما النَّسِيئَة فَلَا "(3/289)
وَرُوِيَ غير مَرْفُوع.
وروى مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن أبي الزِّنَاد أَنه سمع سعيد بن الْمسيب يَقُول: " لَا رَبًّا إِلَّا فِي ذهب، أَو فضَّة، أَو مَا يُكَال، أَو يُوزن مِمَّا يُؤْكَل أَو يشرب ".
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمسيب عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ وهم، وَالصَّوَاب أَنه من قَول ابْن الْمسيب مَعَ أَنه لَا حجَّة لَهُم (فِيهِ) . وَالله أعلم.(3/290)
مَسْأَلَة (87) :
والنسأ جَائِز فِي الْجِنْس الْوَاحِد مِمَّا لَا رَبًّا فِيهِ كَالثَّوْبِ فِي الثَّوْب، وَالْبَعِير فِي الْبَعِير، وَغير ذَلِك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره أَن يُجهز جَيْشًا، فنفذت الْإِبِل، فَأمره أَن يَأْخُذ فِي قلاص الصَّدَقَة، فَكَانَ يَأْخُذ الْبَعِير بالبعيرين إِلَى إبل الصَّدَقَة ".
وَله شَاهد صَحِيح عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا نَحوه، ذَكرْنَاهُ فِي كتاب السّنَن.
روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن صَالح عَن الْحسن بن مُحَمَّد ابْن عَليّ عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ -: " أَنه بَاعَ(3/291)
جملا لَهُ - يدعى عصيفيراً - بِعشْرين بَعِيرًا إِلَى أجل ".
وَعنهُ عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَنه اشْترى رَاحِلَة بأَرْبعَة أبعر مَضْمُونَة عَلَيْهِ يوفيها صَاحبهَا بالربذة ".
وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " لَيْسَ فِي الْحَيَوَان رَبًّا "، وَالْمَحْفُوظ أَنه عَن ابْن الْمسيب من قَوْله. وَالله أعلم.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة ".
هَذَا حَدِيث رُوَاته ثِقَات إِلَّا أَن أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ اخْتلفُوا فِي(3/292)
سَماع الْحسن من سَمُرَة، قَالَ يحيى بن معِين، قَالَ أَبُو النَّضر عَن شُعْبَة، قَالَ: " لم يسمع الْحسن من سَمُرَة ". قَالَ يحيى: " لم يسمع الْحسن من سَمُرَة شَيْئا ".
وَأما عَليّ بن الْمَدِينِيّ فَكَانَ يثبت سَمَاعه مِنْهُ، وَيَقُول: " الْحسن قد سمع من سَمُرَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي عهد عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - ابْن أَربع عشرَة سنة وَأشهر، وَمَات سَمُرَة فِي عهد زِيَاد "، وَلم يخرج البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح عَن الْحسن عَن سَمُرَة شَيْئا.
مِمَّا (يرْوى) عَنهُ لما فِيهِ الِاخْتِلَاف إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا، بَين الْحسن فِيهِ سَمَاعه مِنْهُ، فَروِيَ عَن حبيب بن الشَّهِيد، قَالَ: " قَالَ لي مُحَمَّد بن سِيرِين: سُئِلَ الْحسن مِمَّن سمع حَدِيث الْعَقِيقَة؟ ، (قَالَ: فَسَأَلته، فَقَالَ: من سَمُرَة بن جُنْدُب ".
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة ".
كل من روى هَذَا الحَدِيث عَن الثَّوْريّ، وَذكر ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - فِي إِسْنَاده، فقد وهم، وَذَلِكَ لِأَن الثَّوْريّ إِنَّمَا رَوَاهُ مُرْسلا، وَذكره من حَدِيث الْفرْيَابِيّ عَنهُ، مُرْسلا، وَقَالَ: وَهُوَ(3/293)
الصَّوَاب. وَهَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق، وَعبد الْأَعْلَى عَن معمر مُرْسلا.
وَرَوَاهُ عَليّ ابْن الْمُبَارك عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا.
قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: " سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ - رَحمَه الله - عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: قد روى دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْعَطَّار عَن معمر، وَقَالَ: عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ النَّاس: عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، فوهن مُحَمَّد هَذَا الحَدِيث.
وَقد رُوِيَ عَن دَاوُد مُسْندًا مَرْفُوعا: نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نساً ".(3/294)
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَأما قَوْله: نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، فَهَذَا غير ثَابت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقَالَ أَبُو بكر بن خُزَيْمَة: " الصَّحِيح عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ هَذَا الْخَبَر مُرْسل، لَيْسَ مُتَّصِل "
وروى مُحَمَّد بن دينارعن يُونُس بن عبيد عَن زِيَاد بن جُبَير عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة "، تفرد بِهِ مُحَمَّد بن دِينَار، إِنَّمَا يرويهِ النَّاس عَن زِيَاد (بن جُبَير) عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا.
قَالَ أَحْمد بن زُهَيْر: " سُئِلَ يحيى بن معِين عَن مُحَمَّد بن دِينَار الطَّاحِي، فَقَالَ: ضَعِيف "(3/295)
وَرَوَاهُ يزِيد بن مَرْوَان عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن سهل بن سعد - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ عُثْمَان بن سعيد: سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول: يزِيد بن مَرْوَان الْخلال كَذَّاب، قَالَ أَبُو سعيد: وَقد أدْركْت أَبَا يزِيد هَذَا، وَهُوَ ضَعِيف، قريب مِمَّا قَالَ يحيى.
وَقد رُوِيَ عَنهُ أَيْضا عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن سهل: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ "، وَهَذَا أَيْضا بَاطِل، إِنَّمَا رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن زيد بن أسلم عَن سعيد بن الْمسيب عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا فِي النَّهْي عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ.
وروى إِسْحَاق الْحَنْظَلِي عَن مُحَمَّد بن بكر البرْسَانِي عَن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة، قَالَ: " سَأَلت ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن شَاة بشاتين إِلَى الحبال، فَقَالَ: سَأَلَ رجل عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -، فَقَالَ عمر: إِن (من) آخر مَا أنزل الله الرِّبَا، وَإِن(3/296)
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبض قبل أَن يُفَسِّرهَا لنا، فدعوا الرِّبَا والريبة ".
وروى بَحر بن كثير السقا عَن أبي الزبير عَن جَابر: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْحَيَوَان اثْنَيْنِ (بِوَاحِد) نَسِيئَة، وَلم ير بِهِ بَأْسا يدا بيد ". تفرد بِهِ بَحر وَهُوَ ضَعِيف. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (88) :
وَلَا يجوز أَن يَبِيع مَا يجْرِي فِيهِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ وَمَعَ أَحدهمَا شَيْء آخر، فَلَا يجوز أَن يَبِيع مد عَجْوَة ودرهماً بمدي عَجْوَة، وَلَا بيع دِينَار وثوب بدينارين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث فضَالة بن عبيد، قَالَ: " أُتِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام خَيْبَر بقلادة فِيهَا خرز معلقَة بِذَهَب، ابتاعها(3/297)
رجل بسبعة دَنَانِير أَو تِسْعَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا، حَتَّى يُمَيّز بَينه وَبَينهَا، قَالَ: إِنَّمَا أردْت الْحِجَارَة، قَالَ: لَا، (حَتَّى) يُمَيّز بَينهمَا، قَالَ: فَرده حَتَّى ميز بَينهمَا "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأما الَّذِي رَوَاهُ اللَّيْث عَن سعيد بِهَذَا الْإِسْنَاد عَن فضَالة أَنه اشْترى يَوْم خَيْبَر قلادة بِاثْنَيْ عشر دِينَارا، فِيهَا ذهب وخرز، (وَفِي رِوَايَة أُخْرَى بِاثْنَيْ عشر دِينَارا فِيهَا ذهب وخرز) ، (ففصلها) ، فَوجدت فِيهَا أَكثر من (اثْنَي عشر دِينَارا) ، فَذكرت ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَا تبَاع حَتَّى تفصل "، فَإِنَّهُ قصَّة أُخْرَى.
أَلا ترى أَن فِي الحَدِيث الأول: " عَن فضَالة أَو رجلا " ابْتَاعَ، وَفِي هَذَا الحَدِيث: " عَن فضَالة، أَنه اشْترى "، وَفِي الحَدِيث: " أَنه ابتاعها بسبعة دَنَانِير أَو تِسْعَة "، وَفِي هَذَا: " بِاثْنَيْ عشر دِينَارا "، فَأجَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا: برد البيع حَتَّى يفصل الذَّهَب، وَنحن نقُول بهما جَمِيعًا. وَالله أعلم.(3/298)
مَسْأَلَة (89) :
وَلَا يجوز بيع الرطب بِالتَّمْرِ كَيْلا بكيل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن ذَلِك يجوز ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه، وَلَا تَبِيعُوا الثَّمر بِالتَّمْرِ "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعند مُسلم عَنهُ: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع التَّمْر بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَعَن بيع الْعِنَب بالزبيب كَيْلا، وَعَن بيع الزَّرْع بِالْحِنْطَةِ كَيْلا ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن عبد الله بن يزِيد:(3/299)
" أَن زيدا أَبَا عَيَّاش أخبرهُ أَنه سَأَلَ سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - عَن الْبَيْضَاء بالسلت، فَقَالَ لَهُ سعد: أَيَّتهمَا أفضل؟ قَالَ: الْبَيْضَاء، فَنهى عَن ذَلِك، وَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن شِرَاء التَّمْر بالرطب، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أينقص الرطب إِذا يبس؟ ، قَالُوا: نعم؛ فَنهى عَن ذَلِك "، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَرَوَاهُ يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن يزِيد: " أَن أَبَا عَيَّاش أخبرهُ أَنه سمع سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ نَسِيئَة ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: خَالفه مَالك، وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة، وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان، وَأُسَامَة بن زيد، وَرَوَوْهُ عَن عبد الله بن يزِيد وَلم يَقُولُوا:(3/300)
فِيهِ نَسِيئَة، وَإِجْمَاع هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة على خلاف مَا رَوَاهُ يحيى يدل على ضبطهم للْحَدِيث، وَفِيهِمْ إِمَام حَافظ مَالك بن أنس رَحمَه الله تَعَالَى.
وَشهد لحَدِيث زيد أبي عَيَّاش مُرْسل جيد عَن عبد الله بن أبي سَلمَة " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن رطب بِتَمْر، فَقَالَ: أينقص الرطب؟ ، فَقَالُوا: نعم، فَقَالَ: لَا يُبَاع رطب بيابس ".
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يُبَاع رطب بيابس ".
وَعَن سَالم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -، قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن التَّمْر الجاف بالرطب ".
وَعَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -، قَالَت: " سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الخمير والخميرة يقرضها الْجِيرَان، فَردُّوا أَكثر وَأَقل، فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، إِنَّمَا هَذِه مرافق من النَّاس، لَا يُرَاد فِيهَا الْفضل ".(3/301)
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْوَلِيد - رَحمَه الله تَعَالَى -: " يدل هَذَا على أَن مَا يُرَاد بِهِ الْفضل فَهُوَ محرم:. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (90) :
وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير يتعينان فِي العقد بِالتَّعْيِينِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يتعينان ".
فِي صَحِيح مُسلم عَن عبَادَة بن الصَّامِت، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب، وَلَا الْفضة بِالْفِضَّةِ، وَلَا الْبر بِالْبرِّ، وَلَا الشّعير بِالشَّعِيرِ، وَلَا الْملح بالملح، وَلَا التَّمْر بِالتَّمْرِ، إِلَّا مثلا بِمثل، سَوَاء بِسَوَاء، عينا بِعَين ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن سماك بن حَرْب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -، قَالَ: " كنت أبيع الْإِبِل بِالبَقِيعِ، فأبيع بِالدَّنَانِيرِ، وآخذ الدَّرَاهِم، وأبيع بِالدَّرَاهِمِ، وآخذ الدَّنَانِير، فَوَقع فِي(3/302)
نَفسِي من ذَلِك، فَأتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي بَيت حَفْصَة، أَو قَالَ: حِين خرج من بَيت حَفْصَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، رويدك، أَسأَلك، إِنِّي أبيع الْإِبِل بِالبَقِيعِ، فأبيع بِالدَّنَانِيرِ، وآخذ الدَّرَاهِم، وأبيع بِالدَّرَاهِمِ، وآخذ الدَّنَانِير، فَقَالَ: لَا بَأْس أَن تأخذهما بِسعْر يَوْمهَا مَا لم تفترقا، وبينكما شَيْء:.
وَعنهُ عَن سعيد عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن اشْتِرَاء الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّة بِالذَّهَب فَقَالَ: إِذا أخذت أَحدهمَا (بِالْآخرِ) فَلَا يفارقك صَاحبك، وَبَيْنك وَبَينه لبس ".
هَذَا الحَدِيث بعض من الأول، وَفِيه دَلِيل لقَوْل أَصْحَابنَا إِنَّه كَانَ يجدد العقد، فَيقبض وَيَشْتَرِي الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، أَو الْفضة بِالذَّهَب. وَالله أعلم.
وَعنهُ بِالْإِسْنَادِ قَالَ: " كنت أبيع الْإِبِل بِالبَقِيعِ فيجتمع عِنْدِي من الدَّرَاهِم، فأبيعها من الرجل بِالدَّنَانِيرِ، ويعطينيها الْغَد، فَأتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِذا بَايَعت الرجل بِالذَّهَب(3/303)
وَالْفِضَّة (فَلَا تُفَارِقهُ) وبينكما لبس ".
وَفِي هَذَا دلَالَة على أَنَّهُمَا كَانَا يحددان العقد على الدَّرَاهِم بِالدَّنَانِيرِ حَتَّى اعْتبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ حكم الصّرْف، فَلم يجز العقد إِلَّا بعد التَّقَابُض فِي الْمجْلس.
وَهَذِه الْأَحَادِيث وَردت فِي بيع الْإِبِل بِالدَّرَاهِمِ أَو الدَّنَانِير فِي الذِّمَّة، وَلذَلِك) جَازَ أَخذ الْعِوَض عَنْهَا؛ لاستقرارها فِي الذِّمَّة.
والْحَدِيث مَشْكُوك فِي رَفعه رَوَاهُ جمَاعَة غير سماك مَوْقُوفا على ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (91) :
وَبيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ غير جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز ".
دليلنا مَا رُوِيَ عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع شَاة بِاللَّحْمِ ".(3/304)
قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَشَاهده مُرْسل ".
وَرَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن زيد بن أسلم عَن سعيد بن الْمسيب: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ ".
وَرَوَاهُ يزِيد بن مَرْوَان عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن سهل بن سعد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ بَاطِل؛ إِنَّمَا هُوَ عَن مَالك عَن زيد عَن سعيد مُرْسلا.
وروى مَالك عَن دَاوُد بن الْحصين أَنه سمع سعيد بن الْمسيب يَقُول: " كَانَ من ميسر أهل الْجَاهِلِيَّة بيع اللَّحْم بِالشَّاة والشاتين ".
قَالَ أَبُو الزِّنَاد: " وَكَانَ / من أدْركْت من النَّاس ينهون عَن بيع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ، وَكَانَ ذَاك يكْتب فِي عهد الْعمَّال فِي زمَان أبان بن عُثْمَان وَهِشَام بن إِسْمَاعِيل، ينهون عَنهُ ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مُسلم عَن ابْن جريج عَن الْقَاسِم بن أبي بزَّة قَالَ: " قدمت الْمَدِينَة فَوجدت جزوراً قد(3/305)
جزرت، فجزيت أَرْبَعَة أَجزَاء كل جُزْء مِنْهَا يُضَاف، فَأَرَدْت أَن ابْتَاعَ مِنْهَا جُزْءا، فَقَالَ لي رجل من أهل الْمَدِينَة إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يُبَاع حَيّ بميت، قَالَ: فَسَأَلت عَن ذَلِك الرجل فَأخْبرت عَنهُ خيرا ".
وَعَن ابْن أبي يحيى عَن صَالح مولى التَّوْأَمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - " أَنه كره بيع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (92) :
وَإِذا اشْترى نخيلاً مثمرة، وَلم تكن مؤبرة كَانَ الثَّمر للْمُشْتَرِي بِغَيْر شَرط. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الثَّمَرَة(3/306)
للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع ".
دليلنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من بَاعَ نخلا قد أبرت فثمرتها للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع "، اتفقَا على صِحَّته.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فَإِذا جعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الإبار حدا لملك البَائِع، فقد جعل مَا قبله حدا لملك المُشْتَرِي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (93) :
وَبيع الثِّمَار قبل بَدو صَلَاحهَا غير جَائِز إِلَّا بِشَرْط الْقطع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يَصح مُطلقًا، ثمَّ يُؤْخَذ للْمُشْتَرِي بِالْقطعِ ".
عِنْد البُخَارِيّ، وَمُسلم - وَاللَّفْظ لَهُ - عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، نهى البَائِع والمبتاع ".
وَعِنْدَهُمَا عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الثِّمَار حَتَّى تزهى، فَقيل: يَا رَسُول الله، وَمَا تزهى؟ قَالَ:(3/307)
حَتَّى تحمر، وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَأَيْت إِذا منع الله الثَّمَرَة فَبِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه؟ "
وَعند البُخَارِيّ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تبَاع الثَّمَرَة حَتَّى تشقح، قيل: وَمَا تشقح؟ قَالَ: تحمار، أَو تصفار، ويؤكل مِنْهَا ".
وَعند مُسلم عَنهُ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْمُزَابَنَة، والمحاقلة، وَالْمُخَابَرَة، وَعَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى تشقح ".
وَعِنْدهَا - وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ - عَن شُعْبَة، قَالَ: " عَمْرو أَخْبرنِي عَن أبي البخْترِي، قَالَ: سَأَلت ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن السّلم فِي النّخل، قَالَ: نهى عَن بيع النّخل حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، قَالَ: فَسَأَلت ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، فَقَالَ: نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع النّخل حَتَّى يَأْكُل مِنْهُ، أَو يُؤْكَل، وَحَتَّى يُوزن، قَالَ شُعْبَة: فَقلت لرجل فِي الْحلقَة مَا يُوزن؟ قَالَ: يحزر ".
قَول ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " نهى "، يَعْنِي بِهِ عمر - رَضِي الله عَنهُ - فقد بَينه غَيره.
وَعند مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ، قَالَ:(3/308)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الثِّمَار حَتَّى تبدو صَلَاحهَا ".
وَرُوِيَ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الْحبّ حَتَّى تشتد، وَعَن بيع الْعِنَب حَتَّى يسود، وَعَن بيع التَّمْر حَتَّى يحمر ويصفر "، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن عَمْرو عَن طَاوس: سمع ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - يَقُول: " لَا يُبَاع الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا "، وَسَمعنَا ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يَقُول: " لَا يُبَاع الثَّمر حَتَّى يطعم ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (94) :
وَلَا بجوز بيع الْحِنْطَة فِي سنبلها بِالشَّعِيرِ، وَلَا بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِير فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن(3/309)
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الْغرَر، وَعَن بيع الْحَصَاة "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى الثِّقَات عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن تبَاع الثَّمَرَة حَتَّى يتَبَيَّن صَلَاحهَا، تصفر، أَو تحمر، وَعَن بيع الْعِنَب حَتَّى يسود، وَعَن بيع الْحبّ حَتَّى يفرك ".
قَالَ الرّبيع: " قلت للشَّافِعِيّ - رَحمَه الله - إِن عَليّ بن معبد أخبرنَا بِإِسْنَاد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّه أجَاز بيع الْقَمْح فِي سنبله إِذا أَبيض "، فَقَالَ: " أما هَذَا فغرر؛ لِأَنَّهُ يحول دونه، فَلَا يرى، فَإِن ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْنَا بِهِ، وَكَانَ خَاصّا مستخرجاً من عَام، كَمَا أجزنا بيع الصُّبْرَة بَعْضهَا فَوق بعض "، يَعْنِي وَهِي غرر، فَلَمَّا أجازها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجزناها كَمَا أجازها، وَكَانَ خَاصّا مستخرجاً من عَام؛ لِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الْغرَر، وَأَجَازَ هَذَا، وَكَذَلِكَ أجَاز بيع الشّقص من الدَّار، وَجعل لصَاحِبهَا الشُّفْعَة، وَأَن كَانَ الأساس فِيهَا مغيباً، وخشباً فِي الْحَائِط لَا يرى، فَلَمَّا أجَاز ذَلِك أجزناه كَمَا أجَازه، وَإِن كَانَ فِيهِ غرر، وَكَانَ خَاصّا مستخرجاً من عَام ".
روى أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله(3/310)
عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع النّخل حَتَّى تزهو، وَعَن السنبل حَتَّى يبيض، ويأمن العاهة "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح عَن عَليّ بن حجر عَن ابْن علية عَنهُ.
ذكر السنبل فِي هَذَا الحَدِيث مِمَّا تفرد بِهِ أَيُّوب؛ فقد رَوَاهُ كَافَّة أَصْحَاب نَافِع عَنهُ دونه، وَرَوَاهُ سَالم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - دونه.
وروى حَدِيث النَّهْي عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا جمَاعَة من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سوى ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - لم يذكر أحد مِنْهُم مَا روى أَيُّوب إِلَّا مَا روينَا عَن عباد بن سَلمَة عَن حميد عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النَّهْي عَن بيع الْحبّ حَنى يشْتَد، وَفِي رِوَايَة حَتَّى يفرك، فَإِن كَانَ بخفض الرَّاء فَهُوَ كَقَوْلِه " حَتَّى: تشتد "، وَيكون مُوَافقا لرِوَايَة أَيُّوب، وَإِن كَانَ (يفرك) بِنصب الرَّاء اقْتضى تنقيته عَن السنبل، وَالْأَشْبَه أَن يكون بالخفض؛ لرِوَايَة من رَوَاهُ " حَتَّى يشْتَد ".
وَرَوَاهُ أَيْضا أبان بن أبي عَيَّاش عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ، وَأَبَان مَتْرُوك، وَرُوِيَ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - مَوْقُوفا عَلَيْهِ من رِوَايَة ابْن أبي شيبَة. وَالله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أعلم.(3/311)
مَسْأَلَة (95) :
لم يذكرهَا الإِمَام - وَإِذا بَاعَ ثَمَرَة بعد بَدو الصّلاح فِيهَا، فأصابتها جَائِحَة بعد التَّسْلِيم، فقد قَالَ - فِي الْقَدِيم - تُوضَع الْجَائِحَة، وَأَشَارَ - فِي الْجَدِيد - إِلَى قَوْلَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا تُوضَع، وَتَكون من مَال المُشْتَرِي.
فَوجه قَوْلنَا " تُوضَع، وَتَكون من مَال البَائِع " حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَو بِعْت من أَخِيك تمراًُ، فأصابته جَائِحَة، فَلَا تحل لَك أَن تَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا، بِمَ تَأْخُذ مَال أَخِيك بِغَيْر حق؟ " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن حميد عَن سُلَيْمَان عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع السنين، وَأمر بِوَضْع الْجَائِحَة "، أخرج مُسلم نَهْيه عَن بيع السنين.(3/312)
(عَن ابْن أبي شيبَة وَغَيره عَن سُفْيَان: وَأمره بِوَضْع الجوائح ") ، عَن بشر بن الحكم عَن سُفْيَان.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " سَمِعت سُفْيَان يحدث هَذَا الحَدِيث كثيرا مَا لَا أحصي من كثرته، لَا يذكر فِيهِ: (أَمر بِوَضْع الجوائح) ، ثمَّ زَاد بعد ذَلِك (وَأمر بِوَضْع الجوائح) ".
قَالَ سُفْيَان: " وَكَانَ حميد يذكر بعد مَعَ (السنين) كلَاما قبل (وضع الجوائح) ، لَا أحفظه، وَكنت أكف (عَن وضع الجوائح) ، لِأَنِّي لَا أَدْرِي كَيفَ كَانَ الْكَلَام؟ ، وَفِي الحَدِيث أَمر بِوَضْع الجوائح ".
قَالَ الشَّافِعِي: " أخبرنَا سُفْيَان عَن أبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثله ".
وَوجه قَوْلنَا: " لَا تُوضَع الْجَائِحَة وَتَكون من مَال المُشْتَرِي " حَدِيث أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أُصِيب رجل فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثمار ابتاعها؛ فَكثر دينه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تصدقوا عَلَيْهِ، فتصدقوا عَلَيْهِ، فَلم يبلغ ذَلِك وَفَاء دينه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُذُوا مَا وجدْتُم، وَلَيْسَ لكم إِلَّا(3/313)
ذَلِك "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح، وَلَو كَانَت الْجَائِحَة مَوْضُوعَة لما كَانَ لِلْأَمْرِ بالتصدق عَلَيْهِ، وَصَرفه ذَلِك فِيهِ معنى. وَيحْتَمل غير ذَلِك، وَهُوَ جَوَاز كَون الدُّيُون عَلَيْهِ من غير جِهَة مَا ابتاعه. وَحَدِيث أبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - صَرِيح فِي وضع الْجَائِحَة، وَالله أعلم.
روى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن أبي الرِّجَال عَن أمه عمْرَة أَنه سَمعهَا تَقول: " ابْتَاعَ رجل ثَمَر حَائِط فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعالجه، وَأقَام عَلَيْهِ حَتَّى تبين لَهُ النُّقْصَان، فَسَأَلَ رب الْحَائِط أَن يضع، فَحلف أَلا يفعل، فَذَهَبت أم المُشْتَرِي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(3/314)
فَذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تألى أَن لَا يفعل خيرا، فَسمع بذلك رب المَال، فَأتى إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله هُوَ لَهُ ".
هَذَا مُرْسل، وَقد أسْندهُ ابْن أبي الرِّجَال - وَلَا أَحْسبهُ إِلَّا حَارِثَة بن أبي الرِّجَال - عَن أَبِيه عَن أمه عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وحارثة ضَعِيف الحَدِيث.
وأسنده يحيى بن سعيد عَن أبي الرِّجَال إِلَّا أَنه مُخْتَصر، لَيْسَ فِيهِ ذكر الثَّمر، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح عَن ابْن أبي أويس عَن(3/315)
أَخِيه عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى عَن أبي الرِّجَال عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وَأخرجه مُسلم (أَيْضا) ، فَقَالَ: " حَدثنِي غير وَاحِد من أَصْحَابنَا، قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس - بِالْإِسْنَادِ - عَنْهَا، سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَوت خصوم بِالْبَابِ، عالية أَصْوَاتهم، وَإِذا أحدهم يستوضع الآخر، ويسترفقه فِي شَيْء، وَهُوَ يَقُول: وَالله لَا أفعل، فَخرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: أَيْن المتألي على الله، لَا يفعل الْمَعْرُوف؟ فَقَالَ: (أَنا) يَا رَسُول الله، فَلهُ (أَي ذَلِك) أحب وَالله أعلم. /
مَسْأَلَة (96) :
وَيجوز بيع الْعرية بِخرْصِهَا تَمرا فِي دون خَمْسَة أوسق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
لنا حَدِيث ابْن عمر عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنْهُم -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص لصَاحب الْعرية أَن يَبِيعهَا (بِخرْصِهَا من التَّمْر "، كَذَا عِنْد مُسلم، وَعند البُخَارِيّ - رَحمَه الله -: " رخص(3/316)
لصَاحب الْعرية أَن يَبِيعهَا) بِخرْصِهَا "، وَفِي رِوَايَة: " رخص رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تبَاع الْعَرَايَا بِخرْصِهَا تَمرا ".
وروى الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى تبدو صَلَاحه، وَلَا تَبِيعُوا التَّمْر بِالتَّمْرِ ".
وَعنهُ عَن أَبِيه عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه رخص بعد ذَلِك فِي الْعرية بالرطب، أَو التَّمْر، وَلم يرخص فِي غير ذَلِك "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَفِيه الْبَيَان الْوَاضِح أَن الرُّخْصَة فِي بيع الْعَرَايَا كَانَت بعد تَحْرِيم الرِّبَا، وَيدل على ذَلِك حَدِيث سهل بن أبي خَيْثَمَة - رَضِي الله عَنهُ - فِي الصَّحِيح أَيْضا عِنْدهمَا: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع التَّمْر بِالتَّمْرِ، إِلَّا أَنه رخص فِي الْعرية أَن تبَاع بِخرْصِهَا تَمرا يأكلها أَهلهَا رطبا ".(3/317)
وَفِي رِوَايَة عَن مُسلم: " أَن رَسُول الله - 0 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يُبَاع التَّمْر بِالتَّمْرِ، قَالَ: ذَلِك الرِّبَا، ذَلِك الْمُزَابَنَة إِلَّا أَنه أرخص فِي بيع الْعرية النَّخْلَة، والنخلتين يَأْخُذهَا أهل الْبَيْت بِخرْصِهَا تَمرا يأكلونها رطبا ".
وَعِنْدَهُمَا عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الْمُزَابَنَة - والمزابنة: التَّمْر بِالتَّمْرِ - إِلَّا أَنه رخص فِي الْعَرَايَا ".
وَعِنْدَهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي الْعَرَايَا مَا دون خَمْسَة أوسق، أَو فِي خَمْسَة أوسق "، شكّ دَاوُد بن الْحصين.
وروى (عَن) مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنْهُم -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرخص فِي الْعَرَايَا أَن تبَاع بِخرْصِهَا كَيْلا "، قَالَ مُوسَى: " الْعَرَايَا: نخلات مَعْلُومَات تأتيها فتشتريها "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وروى يحيى بن سعيد عَن نَافِع عَن عبد الله عَن زيد -(3/318)
رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرخص فِي الْعَرَايَا بِخرْصِهَا تَمرا ".
قَالَ يحيى: " الْعرية: أَن يَشْتَرِي الرجل تَمرا لنخلات لطعام أَهله رطبا بِخرْصِهَا (تَمرا) ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (97) :
وَبيع الْعقار قبل الْقَبْض غير جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه جَائِز ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن حَكِيم بن حزَام - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أَشْتَرِي بيوعاً، فَمَا يحل لي مِمَّا يحرم عَليّ؟ ، فَقَالَ: إِذا بِعْت بيعا فَلَا تبعه حَتَّى تقبضه ".
وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله إِنِّي أَشْتَرِي هَذِه الْبيُوع فَمَا يحل لي مِنْهَا؟ ، وَمَا يحرم عَليّ؟ "، قَالَ: " يَا ابْن أخي، إِذا اشْتريت بيعا، فَلَا تبعه حَتَّى تقبضه ".
وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث(3/319)
عتاب بن أسيد، فَنهى عَن شرطين، وَعَن سلف وَبيع، وَعَن بيع مَا لَيْسَ عنْدك، وَعَن ربح مَا لم يضمن ".
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعتاب بن أسيد: " إِنِّي بَعَثْتُك إِلَى أهل الله، وَأهل مَكَّة، فانههم عَن بيع مَا لم يقبضوا، أَو ربح مَا لم يضمنوا، وَعَن قرض وَبيع، وَعَن شرطين فِي بيع، وَعَن بيع وَسلف "، تفرد بِهِ يحيى بن صَالح.
وروى الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " أما الَّذِي فَقَالَ: " أما الَّذِي نهى عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ الطَّعَام أَن يُبَاع حَتَّى يَسْتَوْفِي ". وَقَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا، بِرَأْيهِ -: " وَلَا أَحسب كل شَيْء إِلَّا مثله "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح. وَالله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أعلم.
مَسْأَلَة (98) :
والتخلية فِيمَا ينْقل ويحول لَيْسَ بِقَبض، يَصح بهَا بيع المُشْتَرِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " إِنَّهَا قبض ".(3/320)
لنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِيعهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند مُسلم عَنهُ، قَالَ: " كُنَّا فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نبتاع طَعَاما، فيبعث علينا من يَأْمُرنَا بانتقاله من الْمَكَان الَّذِي ابتعناه إِلَى مَكَان سواهُ قبل أَن نبيعه ".
وَعِنْدَهُمَا: " أَنهم كَانُوا يضْربُونَ على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا اشْتَروا الطَّعَام (جزَافا) أَن يبيعوه فِي مَكَانَهُ حَتَّى يحولوه ".
وَعند أبي دَاوُد عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من ابْتَاعَ (طَعَاما) فَلَا يَبِيعهُ حَتَّى يكتاله "، قلت لِابْنِ عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - لم؟ قَالَ: أَلا ترى أَنهم يبتاعون بِالذَّهَب، وَالطَّعَام (مزجا) ".
وروى سُلَيْمَان بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ لمروان: " أحللت بيع الصكاك، وَقد نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / عَن بيع(3/321)
الطَّعَام قبل أَن يسْتَوْفى؟ ، قَالَ: فَخَطب مَرْوَان، فَنهى عَن بَيْعه، فَرَأَيْت الحرس يأخذونه من أَيدي النَّاس "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعِنْده عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِذا ابتعت طَعَاما فَلَا تبيعه حَتَّى تستوفيه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (99) :
وَمن اشْترى شَاة، فَوَجَدَهَا مصراة، كَانَ لَهُ ردهَا بعد مَا حلبها، وَبرد مَعهَا صَاعا من تمر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يرجع بِأَرْش عيب التصرية، وَلَا يرد ".
لنا حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يتلَقَّى الركْبَان للْبيع، وَلَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض، وَلَا تناجشوا، وَلَا يبع حَاضر لباد، وَلَا تصروا الْإِبِل وَالْغنم، فَمن ابتاعها بعد ذَلِك، فَهُوَ بِخَير النظرين بعد أَن يحلبها، فَإِن رضيها أمْسكهَا، وَإِن سخطها ردهَا وصاعاً من تمر "، أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم حَدِيث التصرية، وَلم يخرجَا مَا قبله فِيهِ.(3/322)
وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - من قَوْله، وَلَا يعلم لَهُ مُخَالفا من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، قَالَ: " من اشْترى محفلة فَردهَا، فليرد مَعهَا صَاعا، "، قَالَ: " وَنهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن تلقي الركْبَان "، أَو كَمَا قَالَ، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، وَقد رُوِيَ مَرْفُوعا، وَالصَّحِيح أَنه هَكَذَا.
وَرُوِيَ فِي ذَلِك أَحَادِيث، وَفِي بَعْضهَا قَالَ: " ردهَا مَعهَا مثل، أَو مثلي لَبنهَا قمحاً ".
وَمن روى التَّمْر أَكثر وأحفظ، فَهُوَ أولى، على أَن من أَصْحَابنَا من حمله على مَوضِع لَا يُوجد فِيهِ التَّمْر؛ فَيرد حِينَئِذٍ الْقَمْح. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (100) :
وَإِن اشْترى مَاشِيَة فنتجت فِي يَده، أَو أشجاراً فأثمرت، ثمَّ ظهر مِنْهَا على عيب، فَلهُ أَن يردهَا بِالْعَيْبِ، وَيكون النِّتَاج، وَالثَّمَرَة لَهُ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ أرش الْعَيْب، وَلَيْسَ لَهُ الرَّد ".(3/323)
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى ابْن أبي ذِئْب عَن مخلد بن خفاف الْغِفَارِيّ، قَالَ: " خَاصَمت إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز فِي عبد دلّس لنا، فأصبنا من غَلَّته، وَعِنْده عُرْوَة بن الزبير، فحدثه عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى أَن الْخراج بِالضَّمَانِ ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أَخْبرنِي من لَا أتهم عَن ابْن أبي ذِئْب، قَالَ: أَخْبرنِي مخلد بن خفاف، قَالَ: ابتعت غُلَاما فاستعملته، ثمَّ ظَهرت مِنْهُ على عيب، فخاصمت فِيهِ إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز،(3/324)
فَقضى لي برده وَقضى علتي برد غَلَّته، فَأتيت عُرْوَة، فَأَخْبَرته، فَقَالَ: أروح إِلَيْهِ العشية، فَأخْبرهُ أَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَخْبَرتنِي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِي مثل هَذَا أَن الْخراج بِالضَّمَانِ، فعجلت إِلَى عمر، فَأَخْبَرته مَا أَخْبرنِي عُرْوَة عَن عَائِشَة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عمر: فَمَا أيسر عَليّ من قَضَاء قَضيته، الله يعلم أَنِّي لم أرد فِيهِ إِلَّا بِالْحَقِّ، فبلغني فِيهِ سنة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فأرد قَضَاء عمر، أنفذ سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فراح إِلَيْهِ عُرْوَة، فَقضى لي أَن آخذ الْخراج من الَّذِي قضى بِهِ عَليّ لَهُ ".
وَرَوَاهُ يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن ابْن أبي ذِئْب مُخْتَصرا، وَقد سرني ذَلِك حِين وجدته؛ لِأَن يحيى بن سعيد الإِمَام - رَحمَه الله تَعَالَى - لَا يروي إِلَّا حَدِيث الثِّقَات، وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْريّ، وَابْن الْمُبَارك، وَجَمَاعَة عَن ابْن أبي ذِئْب.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا مُسلم بن خَالِد عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْخراج بِالضَّمَانِ ".
وَرُوِيَ عَن مُسلم بن خَالِد عَن هِشَام عَن أَبِيه: " أَن رجلا اشْترى من رجل غُلَاما فِي زمَان النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ (عِنْده) مَا شَاءَ الله، ثمَّ رده من عيب وجد بِهِ، فَقَالَ الرجل حِين رد عَلَيْهِ الْغُلَام: يَا رَسُول الله إِنَّه (كَانَ) استغل غلامي مُنْذُ كَانَ عِنْده، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخراج(3/325)
بِالضَّمَانِ ". وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ إِلَّا أَنه قَالَ: " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْغلَّة بِالضَّمَانِ ".
قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ". قَالَ الدَّارمِيّ: " قلت ليحيى بن معِين فالزنجي؟ - يَعْنِي مُسلم بن خَالِد - فَقَالَ: ثِقَة ".
وَقد رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ عَن أبي سَلمَة يحيى بن خلف الْبَصْرِيّ عَن عمر بن عَليّ الْمقدمِي عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخراج بِالضَّمَانِ "، وَعمر بن عَليّ ثِقَة لَا شكّ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَن مُصعب بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " أَن رَسُول الله / - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى أَن الْخراج بِالضَّمَانِ ".(3/326)
قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " مُصعب هَذَا من أهل الرقة، لم يحدث بِهِ عَن ابْن جريج غَيره، وَلَا يعرف هَذَا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، وَإِنَّمَا يرويهِ عَن عُرْوَة مخلد بن خفاف وَهِشَام بن عُرْوَة من رِوَايَة مُسلم بن خَالِد الزنْجِي، وَعمر بن عَليّ الْمقدمِي، وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَب عَن شُرَيْح القَاضِي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (101) :
وَإِذا اشْترى أمة ثَيِّبًا وَوَطئهَا، ثمَّ وجد بهَا عَيْبا، كَانَ لَهُ أَن يردهَا بِالْعَيْبِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَيْسَ لَهُ ردهَا ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على الْمعَانِي، وعَلى أَن فسخ البيع قطع لَهُ من وقته، وَلَيْسَ بِرَفْع لَهُ من أَصله، وَمَا استدللنا بِهِ فِي الْمَسْأَلَة الأولى دَلِيل على أَنه قطع لَهُ من وقته.
وَرُوِيَ عَن يحيى بن سعيد عَن جَعْفَر: حَدثنِي أبي عَن عَليّ بن حُسَيْن عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: فِي رجل اشْترى جَارِيَة،(3/327)
فَوَطِئَهَا، فَوجدَ بهَا عَيْبا، قَالَ: " لَزِمته، وَيرد البَائِع مَا بَين الصِّحَّة والداء، وَإِن لم يكن وَطئهَا ردهَا ".
كَذَا رَوَاهُ سُلَيْمَان الثَّوْريّ، وَحَفْص بن غياث عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، وَهُوَ مُرْسل؛ فَإِن عَليّ بن حُسَيْن لم يدْرك جده عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، وَقد وَصله مُسلم بن خَالِد الزنْجِي عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن الْحُسَيْن بن عَليّ عَن أَبِيه، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَإِن كُنَّا نروي حَدِيثه على طَرِيق الاستشهاد، فَهُوَ بَين قبُول ورد، قبله بعض الْمُحدثين، ورده بَعضهم، وَالله أعلم.
وَرَوَاهُ جُوَيْبِر - وَهُوَ ضَعِيف - عَن الضَّحَّاك عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ مُرْسل، وَلَيْسَ فِي وَاحِد مِنْهُمَا ذكر الثّيّب، والبكارة، وَإِنَّمَا هُوَ مُطلق، فافهمه.
وَرُوِيَ عَن شريك عَن جَابر عَن عَامر عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي رجل اشْترى جَارِيَة، فيطؤها، ثمَّ يظْهر مِنْهَا على عيب، قَالَ: " إِن كَانَت ثَيِّبًا، رد مَعهَا نصف الْعشْر، وَإِن كَانَت بكرا رد الْعشْر ".(3/328)
قَالَ عَليّ بن عمر: " هَذَا مُرْسل، عَامر لم يدْرك عمر، رَضِي الله عَنهُ، هَذَا لَا يثبت؛ فَإِن الشّعبِيّ عَن عمر مُرْسل، وَجَابِر الْجعْفِيّ ضَعِيف. وَمَا قَالَ إِن كَانَ قد قَالَه فِي رد الثّيّب يُوَافق قَوْلنَا، وَيُخَالف فِي (رد نصف الْعشْر؛ لما روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: الْخراج بِالضَّمَانِ، وَيُخَالف فِي) الْبكر بِالْإِجْمَاع، وَبِمَا روينَا عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ ".
وَقَول عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - عندنَا هُوَ فِي الْبكر؛ لِئَلَّا يكون مُخَالفا لما روينَا من السّنة، وافتضاض الْبكر نُقْصَان أدخلهُ فِيمَا اشْتَرَاهُ؛ فيمنعه ذَلِك من الرَّد بِالْعَيْبِ، فَيرجع بِأَرْش الْعَيْب، وَوَطْء الثّيّب لَيْسَ بِنُقْصَان، إِنَّمَا هُوَ أَخذ مَنْفَعَة، فَهُوَ كاستخدام، فيردها بِالْعَيْبِ، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (102) :
وَيملك العَبْد بالتمليك على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه لَا يملك "، وَهُوَ ظَاهر الْمَذْهَب.
فِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن(3/329)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من بَاعَ عبدا، وَله مَال، فَمَاله للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع ".
وَفِي حَدِيث سلمَان رَضِي الله عَنهُ - " أَنه جَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - برطب، أَو تمر، فَلم يَأْكُل حِين أخبرهُ أَنه صدقه، وَحين أخْبرته أَنه هَدِيَّة قبل ".
قَالَ أَبُو عبد الله: " إِنَّه حَدِيث صَحِيح، وَفِيه أَنه سَأَلَهُ لمن هُوَ، قَالَ: لقوم، فَأمره أَن يطْلب إِلَيْهِم أَن يكاتبوه ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَنه زوج عبدا لَهُ وليدة لَهُ، فَطلقهَا، فَقَالَ: ارْجع، فَأبى، فَقَالَ: هِيَ لَك، طَأْهَا بِملك الْيَمين ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: ط لَيْسَ فِي مَال العَبْد زَكَاة حَتَّى يعْتق ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (103) :
وَإِذا بَاعَ حَيَوَانا بِشَرْط الْبَرَاءَة برِئ من كل عيب لم يُعلمهُ، وَلَا يبرأ من عيب علمه وَلم يسمه لَهُ، على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو(3/330)
حنيفَة - رَحمَه الله -: " برِئ من كل عيب كَانَ مَوْجُودا عِنْد العقد، علم بِهِ، أَو لم يعلم ".
وَدَلِيلنَا مَا روى (مَالك عَن يحيى عَن سَالم) " أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - بَاعَ غُلَاما لَهُ بثمان مائَة دِرْهَم، وَبَاعه بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابتاعه لعبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا،: بالغلام دَاء لم تسمه؛ فاختصما إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَ الرجل: بَاعَنِي عبدا، وَبِه دَاء، وَلم يسمه لي، فَقَالَ عبد الله بن عمر: بِعته بِالْبَرَاءَةِ، فَقضى عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - على عبد الله بن عمر بِالْيَمِينِ أَن يحلف لَهُ، لقد بَاعه الْغُلَام وَمَا بِهِ دَاء يُعلمهُ، فَأبى عبد الله أَن يحلف لَهُ، وارتجع العَبْد، فَبَاعَهُ عبد الله بن عمر بعد ذَلِك بِأَلف وَخمْس مائَة دِرْهَم ".
قَالَ مَالك - رَحمَه الله تَعَالَى -: " الْأَمر الْمُجْتَمع عَلَيْهِ عندنَا أَن من بَاعَ عبدا، أَو وليدة، أَو حَيَوَانا بِالْبَرَاءَةِ، فقد برِئ من كل عيب إِلَّا أَن يكون علم فِي ذَلِك عَيْبا، فَإِن كَانَ علم عَيْبا، فكتمه، لم يَنْفَعهُ تبرئته، وَكَانَ مَا بَاعَ مردوداً عَلَيْهِ ".
وروى شريك عَن عَاصِم عَن عبيد الله عَن عبد الله بن عَامر: " أَن(3/331)
زيد بن ثَابت و (عبد الله) بن عمر كَانَا يريان / الْبَرَاءَة من كل عيب جَائِزَة ". وَهَذَا حَدِيث قد أنكرهُ عبد الله بن الْمُبَارك، وَيحيى بن معِين على شريك، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن عقبَة بن عَامر، قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: الْمُسلم أَخُو الْمُسلم، وَلَا يحل لمُسلم إِن بَاعَ من أَخِيه بيعا فِيهِ عيب أَن لَا يُبينهُ لَهُ "، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَرُوِيَ عَن وائلة بن الْأَسْقَع - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا يحل لأحد يَبِيع شَيْئا إِلَّا بَين مَا فِيهِ، وَلَا يحل لمن علم ذَلِك أَلا يُبينهُ ".
وَفِي هَذَا تَنْبِيه على وُقُوع الْبَرَاءَة من عيب علمه فبينه، أَو لم يُعلمهُ، دون عيب علمه فَلم يُبينهُ، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (104) :
وَإِذا بَاعَ سلْعَة بِثمن مَعْلُوم إِلَى أجل، ثمَّ اشْتَرَاهَا من المُشْتَرِي بِأَقَلّ مِنْهُ نَقْدا جَازَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".(3/332)
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - " من بَاعَ سلْعَة من السّلع إِلَى أجل من الْآجَال، وَقَبضهَا المُشْتَرِي، فَلَا بَأْس أَن يَبِيعهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا بِأَقَلّ من الثّمن، أَو أَكثر وَدين، أَو نَقْدا، لِأَنَّهَا بيعَة غير الْبيعَة الأولى.
وَقَالَ بعض النَّاس: " لَا يَشْتَرِيهَا البَائِع بِأَقَلّ من الثّمن، وَزعم أَن الْقيَاس بِأَن ذَلِك جَائِز، وَلكنه زعم تتبع الْأَثر، ومحمود مِنْهُ أَن يتتبع الْأَثر الصَّحِيح، فَلَمَّا سُئِلَ عَن الْأَثر إِذا هُوَ أَبُو إِسْحَاق عَن امْرَأَته غَالِيَة بنت أَيفع، أَنَّهَا دخلت مَعَ امْرَأَة أبي السّفر على عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَذكرت لعَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن زيد بن أَرقم بَاعَ شَيْئا إِلَى الْعَطاء، ثمَّ اشْتَرَاهُ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعه، فَقَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا: أَخْبِرِي زيد بن أَرقم أَن الله قد أبطل جهاده مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا أَن يَتُوب "، فَقيل لَهُ: أثبت هَذَا الحَدِيث عَن عَائِشَة فَقَالَ: أَبُو إِسْحَاق: رَوَاهُ عَن امْرَأَته، قيل: فتعرف امْرَأَته بِشَيْء يثبت بِهِ حَدِيثهَا. فَمَا عَلمته قَالَ شَيْئا. فَقلت لَهُ: ترد حَدِيث بسرة بنت صَفْوَان مهاجرة مَعْرُوفَة بِالْفَضْلِ أَن تَقول: حَدِيث امْرَأَة، وتحتج بِحَدِيث امْرَأَة لَيست عنْدك مِنْهَا معرفَة أَكثر من أَن زَوجهَا روى عَنْهَا؟ ".
قَالَ الرّبيع: " أخبرنَا مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن الْقَاسِم - يَعْنِي ابْن مُحَمَّد - قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -(3/333)
وَرجل يسْأَله عَن رجل سلف فِي سبايب - قَالَ الرّبيع: سبائك، فَأَرَادَ أَن يَبِيعهَا قبل أَن يقبضهَا، قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: تِلْكَ الْوَرق بالورق، وَكره ذَلِك ".
وَقَالَ مَالك - رَحمَه الله -: " وَذَلِكَ فِيمَا نرى - أَنه أَرَادَ أَن يَبِيعهَا من صَاحبهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ من الثّمن الَّذِي ابتاعها بِهِ، وَلَو بَاعهَا من غير الَّذِي اشْتَرَاهَا مِنْهُ، لم يكن بِبيعِهِ بَأْس ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " إِنَّمَا أخرجت هَذَا؛ لأَنهم يَرْوُونَهُ على مَا يريدونه، وَإِنَّمَا يرْوى هَكَذَا، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ قبل الْقَبْض، وَذَلِكَ لَا يجوز، لَا من الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ، وَلَا من غَيره ".
وروى سُفْيَان الثَّوْريّ عَن هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَنه سُئِلَ عَن بيع الْحَرِير، قَالَ: " وَإِيَّاك أَن تكون دَرَاهِم بِدَرَاهِم بَينهمَا حَرِير "، وَقَالَ سُفْيَان: " يَعْنِي أَن يَبِيع عشْرين دِينَارا وحريرة ثمن نصف دِينَار بِأَرْبَع وَعشْرين دِينَارا، أَو أَكثر ".
وَهَذَا البيع على مَا فسره سُفْيَان غير جَائِز عندنَا؛ فَإِنَّهُ بيع ذهب وَغَيره بِذَهَب، وَذَلِكَ لَا يجوز عندنَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (105) :
وَإِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ، والسلعة قد تلفت فِي يَد المُشْتَرِي،(3/334)
تحَالفا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَأَبُو يُوسُف - رحمهمَا الله -: " سقط التَّحَالُف، وَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي ".
لنا مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ على الْمُدعى عَلَيْهِ "، اتفقَا على صِحَّته.
وَرُوِيَ عَن أبي العميس عَن عبد الرَّحْمَن بن قيس بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث بن قيس عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " اشْترى(3/335)
الْأَشْعَث بن قيس رَقِيقا من الرَّقِيق الْخمس من عبد الله بِعشْرين ألفا، فَأرْسل إِلَيْهِ عبد الله فِي ثمنهم، فَقَالَ: إِنَّمَا أخذتهم بِعشْرَة آلَاف، فَقَالَ عبد الله: فاختر رجلا يكون بيني وَبَيْنك، فَقَالَ الْأَشْعَث: أَنْت بيني وَبَين نَفسك، قَالَ عبد الله: فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: إِذا اخْتلف البيعان، وَلَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة، فَهُوَ مَا يَقُول رب السّلْعَة، أَو يتتاركان "، أخرجه أَبُو دَاوُد فِي كتاب السّنَن.
وَقَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا (حَدِيث) صَحِيح الأسناد ".
وروى الشَّافِعِي عَن سعيد بن سَالم عَن ابْن جريج أَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة أخبرهُ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ: " حضرت أَبَا عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود، وَأَتَاهُ رجلَانِ تبَايعا سلْعَة، (فَقَالَ أَحدهمَا: أخذت بِكَذَا وَكَذَا، وَقَالَ الآخر: بِعْت بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: (أَتَى) عبد الله بن مَسْعُود فِي مثل هَذَا) ، قَالَ حضرت(3/336)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مثل هَذَا فَأمر للْبَائِع / أَن يسْتَخْلف ثمَّ يُخَيّر الْمُبْتَاع، إِن شَاءَ أَخذ، وَإِن شَاءَ ترك "، رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل عَنهُ.
حَدِيث أبي عُبَيْدَة هَذَا إِن كَانَ سعيد بن سَالم حفظ عبد الْملك بن عُمَيْر فِي إِسْنَاده، فَهُوَ أَيْضا جيد، لَا بَأْس بِهِ، إِلَّا أَنه مُرْسل؛ أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه شَيْئا.
رَوَاهُ ابْن عجلَان عَن عون بن عبد الله عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - نَحْو رِوَايَة أبي عُبَيْدَة، وَهُوَ أَيْضا جيد، إِلَّا أَنه مُرْسل " عون بن عبد الله لم يسمع من ابْن مَسْعُود شَيْئا ً.
وَحَدِيث المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله(3/337)
ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " بَايع (عبد الله بن الْأَشْعَث) برقيق من رَقِيق الأمارة، فَذكر الحَدِيث بِمَعْنى حَدِيث أبي العميس، فَقَالَ عبد الله: أما وَالله لأقضين بيني وَبَيْنك بِقَضَاء سمعته من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا اخْتلف البيعان، وَلم يكن بَينهمَا بَيِّنَة فَهُوَ بِمَا يَقُول رب السّلْعَة، أَو يتتاركان ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ معن بن عبد الرَّحْمَن المَسْعُودِيّ عَن أَخِيه الْقَاسِم وَهُوَ مُرْسل؛ الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن لم يدْرك جده.
وَقد رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن عقبَة عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عبد الله قَالَ، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ فِي البيع، والسلعة كَمَا هِيَ بِعَينهَا، لم تستهلك، فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع، أَو يترادان البيع ".
وروى عَنهُ أَيْضا بِالْإِسْنَادِ نَحْو رِوَايَة النَّاس عَن عبد الله: " إِذا اخْتلف البيعان اسْتحْلف البَائِع، وَكَانَ الْمُبْتَاع بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ، وَإِن شَاءَ ترك ".(3/338)
وَرَوَاهُ هشيم عَن ابْن أبي ليلى عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه فَذكر قصَّة الْأَشْعَث وَعبد الله، فَقَالَ عبد الله: " إِن شِئْت حدثتك بِحَدِيث سمعته من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قَالَ وهب: قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) يَقُول: إِذا اخْتلف البيعان، وَالْبيع قَائِم بِعَيْنِه، وَلَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة، فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع، أَو يترادان البيع "، كَذَا قَالَ: " وَالْبيع قَائِم "، وَلم يقل: " وَالْمَبِيع ".
وَرَوَاهُ الْحسن بن عمَارَة عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عبد الله قَالَ، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اخْتلف البيعان، فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع، فَإِذا اسْتهْلك، فَالْقَوْل قَول مَا قَالَ المُشْتَرِي ".
وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَابْن أبي ليلى، وَالْحسن بن عمَارَة كلهم ضعفاء، قد سبق ذكرهم. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (106) :
وَإِذا اشْترى عبدا بِشَرْط أَن يعتقهُ صَحَّ الشِّرَاء على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يَصح ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث بَرِيرَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ.(3/339)
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - فِي قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اشترطي: (لَهُم الْوَلَاء، مَعْنَاهُ: اشترطي) عَلَيْهِم الْوَلَاء ".
قَالَ الله عز وَجل: {أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة} ، يَعْنِي: عَلَيْهِ اللَّعْنَة، واستقصينا هَذِه الْمَسْأَلَة فِي الْوَلَاء وَالْعِتْق. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (107) :
وَلَا يجوز بيع مَال الْغَيْر دون إِذْنه، مَوْقُوفا على إِجَازَته. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " إِنَّه يجوز "، ووافقنا فِي الشِّرَاء للْغَيْر أَنه لَا يجوز بِغَيْر إِذْنه.
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الْغرَر "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِيعهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه، قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: وأحسب أَن كل شَيْء مثله "، اتفقَا على صِحَّته.(3/340)
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عبد الله بن عَمْرو قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسمع مِنْك أَشْيَاء، أَخَاف أَن أَنْسَاهَا فتأذن لي أَن أَكتبهَا؟ ، قَالَ: نعم، فَكَانَ فِيمَا كتبت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه لما بعث عتاب بن أسيد إِلَى أهل مَكَّة، قَالَ: أخْبرهُم أَنه لَا يجوز بيعان فِي بيع، وَلَا تبع مَا لم تملك، وَلَا سلف وَبيع، وَلَا شرطين فِي بيع ".
وَأما الحَدِيث الَّذِي يروي عَن عُرْوَة الْبَارِقي: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطَاهُ دِينَارا؛ ليَشْتَرِي بِهِ شَاة لأضحية، فَاشْترى شَاتين، فَبَاعَ إِحْدَاهمَا بِدِينَار، وأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَاة، ودينار، فَدَعَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ بِالْبركَةِ فِي بَيْعه، وَكَانَ لَو اشْترى التُّرَاب ربح فِيهِ ".
قَالَ سُفْيَان: " كَانَ الْحسن بن عمَارَة جَاءَنَا بِهَذَا الحَدِيث عَنهُ، قَالَ: سَمعه شبيب من عُرْوَة، فَأَتَيْته فَقَالَ شبيب: إِنِّي لم أسمعهُ(3/341)
من عُرْوَة، سَمِعت الْحَيّ يخبرونه عَنهُ، وَلَكِن سمعته يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: الْخَيْر مَعْقُود بنواصي الْخَيل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
والْحَدِيث / الَّذِي رُوِيَ عَن أبي الْحصين عَن شيخ من أهل الْمَدِينَة عَن حَكِيم بن حزَام: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث مَعَه بِدِينَار يَشْتَرِي لَهُ أضْحِية، فاشتراها بِدِينَار، وباعها بدينارين، فَرجع فَاشْترى أضْحِية بِدِينَار إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتصدق بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ودعا لَهُ أَن يُبَارك لَهُ فِي تِجَارَته "، فالحي الَّذين أخبروا شبيب بن غرقدة عَن عُرْوَة الْبَارِقي لَا نعرفهم، وَالشَّيْخ الَّذِي أخبر أَبَا حُصَيْن (عَن حَكِيم) لَا نعرفه، وَلَيْسَ هَذَا من شَرط أَصْحَاب الحَدِيث فِي قبُول الْأَخْبَار. (وَالله أعلم) .
مَسْأَلَة (108) :
وقرض الْحَيَوَان جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " غير جَائِز إِلَّا أَن يستقرضه للْمَسَاكِين ".
عَن أبي رَافع - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(3/342)
استسلف من رجل بكرا، فَقدمت على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إبل، قَالَ أَبُو رَافع: فَأمرنِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن أَقْْضِي الرجل بكرَة، فأبغيت فِي الْإِبِل، فَلم أجد فِيهَا إِلَّا جملاُ رباعياً، فَذكرت ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: أعْطه إِيَّاه، فَإِن خير عباد الله أحْسنهم قَضَاء "، مخرج فِي صَحِيح مُسلم.
وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ: قَالَ " كَانَ لرجل على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سنّ من الْإِبِل؛ فجَاء يتقاضاه، فَقَالَ: أَعْطوهُ، فَلم يَجدوا إِلَّا سنا فَوق سنه، فَقَالَ: أَعْطوهُ، فَقَالَ أوفيتني، أوفاك الله، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن خياركم أحسنكم قَضَاء "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعنهُ: " أَن رجلا تقاضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَغْلَظ لَهُ، فهم أَصْحَابه بِهِ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دَعوه؛ فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا، فاشتروا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعْطوهُ إِيَّاه، قَالُوا: لَا نجد إِلَّا أفضل من(3/343)
سنة، قَالَ: اشتروه، فَأَعْطوهُ إِيَّاه؛ فَإِن خياركم أحسنكم قَضَاء "، اتفقَا على صِحَّته. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (109) :(3/344)
صفحة فارغة.(3/345)
رباع (مَكَّة) مَمْلُوكَة، يَصح بيعهَا، وَالتَّصَرُّف فِيهَا كَغَيْرِهَا من الْأَرَاضِي. وَعَن أبي حنيفَة - رَحمَه الله - فِيهَا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: مثل قَوْلنَا.
وَالْأُخْرَى: أَنَّهَا لَيست مَمْلُوكَة؛ فَلَا يجوز إِجَارَتهَا، وَلَا بيعهَا.
عَن ابْن شهَاب عَن عَليّ بن حُسَيْن عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن أُسَامَة بن يزِيد أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، أتنزل فِي دَارك بِمَكَّة؟ قَالَ: وَهل ترك لنا عقيل من رباع، أَو دور ".
وَكَانَ عقيل ورث أَبَا طَالب هُوَ وطالب، وَلم يَرِثهُ جَعْفَر، وَلَا عَليّ، رَضِي الله عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسلمين، وَكَانَ عقيل، وطالب كَافِرين؛ فَكَانَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - من أجل ذَلِك(3/346)
بقول: " لَا يَرث الْمُؤمن الْكَافِر "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْفَتْح جَاءَهُ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بِأبي سُفْيَان ابْن حَرْب، فَأسلم بمر الظهْرَان، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله، إِن أَبَا سُفْيَان رجل يحب هَذَا الْفَخر، فَلَو جعلت لَهُ شَيْئا، قَالَ: نعم، من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن، وَمن أغلق بَابه فَهُوَ آمن "، فنسب الديار إِلَى أَرْبَابهَا ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله: " وَقد اشْترى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - دَار الحجامين، وسكنها، يَعْنِي بِمَكَّة (حرسها الله تَعَالَى) .
رُوِيَ عَن عَلْقَمَة بن نَضْلَة الْكِنَانِي، قَالَ: كَانَت دور مَكَّة على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأبي بكر، وَعمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - تدعى السوايب، من احْتَاجَ سكن، وَمن اسْتغنى أسكن، لَا يُبَاع وَلَا يُورث ".(3/347)
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا: " مَكَّة حرَام، وَحرَام بيع رباعها، وَحرَام أجر بيوتها "، قَالَ عَليّ بن عمر: " هَذَا وهم، وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف ".
وَعنهُ أَنه قَالَ: " إِن الَّذِي يَأْكُل كراً بيُوت مَكَّة، إِنَّمَا يَأْكُل فِي بَطْنه نَارا ". وَعنهُ مَرْفُوعا: " مَكَّة مناخ لَا يُبَاع رباعها، وَلَا يُؤَاجر بيوتها ". وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَة (110) :
السرجين نجس الْعين، لَا يجوز بَيْعه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز بَيْعه ".(3/348)
رُوِيَ عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيّ - رَضِي الله عَنهُ - صَاحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: " ذاكرت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشْيَاء، فَقَالَ: " كَذَا وَكَذَا حَلَال، وَكَذَا وَكَذَا حرَام، ثمَّ قَالَ: مَا حل لَك أكله وشربه، حل لَك بَيْعه وشراؤه، وَمَا حرم عَلَيْك أكله وشربه، حرم عَلَيْك بَيْعه وشراؤه ".
وَفِي مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسا عِنْد الرُّكْن "، فَذكر الحَدِيث / ذَكرْنَاهُ فِي غير مَوضِع فِي السّنَن.
وَكَذَلِكَ قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " لَا تحل التِّجَارَة فِي شَيْء لَا يحل أكله وشربه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (111) :
وَلَا يجوز بيع الْكَلْب، وَلَا تجب قِيمَته على قَاتله. وَقَالَ(3/349)
أَبُو حنيفَة رَحمَه الله -: " يجوز بَيْعه، وَتجب قِيمَته على قَاتله:.
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن ثمن الْكَلْب، وَمهر الْبَغي، وحلوان الكاهن "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعَن عون بن أبي جُحَيْفَة، قَالَ: " اشْترى أبي عبدا حجاماً، فَأمر بمحاجمه فَكسرت، وَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن ثمن الْكَلْب، وَكسب الْبَغي، وَثمن الدَّم، وَلعن الواشمة، والمستوشمة، وآكل الرِّبَا، وموكله، وَلعن المصور "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعَن رَافع بن خديج - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كسب الْحجام خَبِيث، وَكسب الْبَغي خَبِيث، وَثمن الْكَلْب خَبِيث "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.(3/350)
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ثمن الْكَلْب، وَإِن جَاءَ يطْلب ثمن الْكَلْب فاملأ كَفه تُرَابا ".
وَعِنْده عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يحل ثمن الْكَلْب، وَلَا حلوان الكاهن، وَلَا مهر الْبَغي ".
وَرُوِيَ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ثمن الْكَلْب، والسنور ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لعن الله الْيَهُود، حرمت عَلَيْهِم الشحوم، فجملوها، فَبَاعُوهَا ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - 0 جَالِسا عِنْد الرُّكْن، قَالَ: فَرفع بَصَره إِلَى السَّمَاء، فَضَحِك، فَقَالَ: لعن الله الْيَهُود ثَلَاثًا؛ إِن الله حرم عَلَيْهِم الشحوم، فَبَاعُوهَا، وأكلوا أثمانها، وَإِن الله عز وَجل إِذا حرم على قوم أكل شَيْء حرم عَلَيْهِم ثمنه ".(3/351)
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن الْهَيْثَم بن جميل عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عباد بن الْعَوام عَن الْحسن بن أبي جَعْفَر - كِلَاهُمَا عَن أبي الزبير. عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ثمن الْكَلْب، والهر، إِلَّا الْكَلْب الْمعلم ".
وَرَوَاهُ عبد الله بن مُوسَى عَن حَمَّاد بِالشَّكِّ فِي رَفعه، وَرَوَاهُ سُوَيْد بن عَمْرو عَن حَمَّاد مَوْقُوفا على جَابر، رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ الصَّوَاب.
وَفِي الْجُمْلَة، لَا يُعَارض بِهَذِهِ الرِّوَايَة مَا روينَا من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي اتّفق عُلَمَاء أهل الحَدِيث على إخْرَاجهَا فِي المسانيد الصَّحِيحَة، وَالْحكم بثبوتها.
وروى الْمثنى بن الصَّباح عَن عَطاء، قَالَ: " سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة -(3/352)
رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاث كُلهنَّ سحت، كسب الْحجام سحت، وَمهر الزَّانِيَة سحت، وَثمن الْكَلْب سحت، إِلَّا كَلْبا ضارياً "، وَتَابعه الْوَلِيد بن عبد الله بن أبي رَبَاح عَن عَمه عَطاء، وهما ضعيفان.
وَرُوِيَ عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قيس عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " نهى عَن مهر الْبَغي، وعسب الْفَحْل، وَعَن ثمن السنور، وَعَن الْكَلْب إِلَّا كلب صيد ".
وَرِوَايَة حَمَّاد عَن قيس بن سعد فِيهَا نظر، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاء غير مَحْفُوظ فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح فِي النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب، وَإِنَّمَا هُوَ فِيهَا فِي النَّهْي عَن اقتناء الْكَلْب، وَكَأَنَّهُ شبه على بَعضهم مِمَّن دون التَّابِعين، فَذكره فِي حَدِيث النَّهْي عَن ثمنه. وَالله أعلم.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن أبي إِسْحَاق عَن عمرَان بن أبي أنس: " أَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أغرم رجلا ثمن كلب قَتله عشْرين بَعِيرًا ".(3/353)
وَهَذَا إِن ثَبت عَن ابْن إِسْحَاق فَهُوَ لم يقل: " أخبرنَا عمرَان "، وَلَكِن قَالَ: " عَن عمرَان "، وَهُوَ مَشْهُور بالتدليس، ثمَّ عمرَان لم يدْرك عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فَهُوَ مُنْقَطع.
وروى عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَنه ذكره عَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ (وَهَذِه) الرِّوَايَة أَيْضا مُنْقَطِعَة.
ثمَّ الثَّابِت عَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - بِخِلَافِهِ؛ فَإِنَّهُ خطب، فَأمر بقتل الْكلاب، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله -: " فَكيف يَأْمر بقتل مَا يغرم من قَتله قِيمَته ".
وَرُوِيَ عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو: " أَنه قضى فِي كلب صيد قَتله رجل بِأَرْبَعِينَ درهما، وَقضى فِي كلب مَاشِيَة بكبش ". وَهَذَا مُرْسل، مَوْقُوف، وَابْن جريج لم يسمع من عَمْرو بن شُعَيْب، كَذَا قَالَ البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى.(3/354)
وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن جساس عَن عبد الله بن عَمْرو، وَزَاد: " فِي كلب الزَّرْع بفرق من طَعَام، وَفِي كلب الْحَرْث فرق من تُرَاب، وَحقّ على الَّذِي قَتله أَن يُعْطي، وَحقّ على صَاحب الْكَلْب أَن يَأْخُذ مَعَ مَا نقص من الْأجر ".
" وَإِسْمَاعِيل بن جساس لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ، وفال البُخَارِيّ: " لم يُتَابع عَلَيْهِ ". ثمَّ هَذَا مُقَابل بِمَا رَوَاهُ هَيْثَم عَن حُصَيْن عَن مُجَاهِد عَن / عبد الله بن عَمْرو " قَالَ نهى عَن ثمن الْكَلْب، وَمهر الْبَغي "، وَذكر الحَدِيث. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (112) :
وَيجوز السّلم فِيمَا يكون عَام الْوُجُود فِي مَحَله، وَإِن لم يكن مَوْجُودا فِي وَقت عقده، وَفِيمَا بعده إِلَى مَحَله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " لَا يجوز ".
لنا مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة وهم يسلفون فِي التَّمْر السّنة، والسنتين، وَالثَّلَاث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أسلف فليسلف فِي كيل(3/355)
مَعْلُوم، وَوزن مَعْلُوم، إِلَى أجل مَعْلُوم "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعنهُ: " قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة وهم يسلفون فِي الثِّمَار السنتين، وَالثَّلَاث، فَقَالَ رَسُول الله -: أَسْلمُوا فِي الثِّمَار فِي كيل مَعْلُوم، إِلَى أجل مَعْلُوم "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعَن مُحَمَّد بن أبي مجَالد، قَالَ: " اخْتلف أَبُو بَرزَة، وَعبد الله بن شَدَّاد فِي السّلم، فأرسلوني إِلَى ابْن أبي أوفى(3/356)
رَضِي الله عَنْهُم - فَسَأَلته فَقَالَ: كُنَّا نسلم على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبر، وَالشعِير، وَالزَّبِيب، وَالتَّمْر إِلَى قوم مَا هُوَ عِنْدهم، قَالَ: وَسَأَلنَا ابْن أَبْزَى، فَقَالَ: مثل ذَلِك "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
استدلوا بِحَدِيث حَكِيم بن حزَام: " لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك "، وَإِنَّمَا ورد ذَلِك فِي بيع الْأَعْيَان، وَقد أخرجته فِي هَذَا الْكتاب.
وَرُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق عَن رجل نجراني عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَن رجلا أسلف فِي نخل، فَلم تخرج تِلْكَ السّنة شَيْئا؛ فاختصما إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " بِمَ تستحل مَاله؟ أردد عَلَيْهِ مَاله "، ثمَّ قَالَ: " لَا تسلفوا فِي النّخل حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه ".
وَهَذَا إِن سلم من الرجل النجراني، فَإِنَّمَا ورد فِي ثَمَرَة نخل(3/357)
بِعَينهَا، فَالْمُرَاد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيع الْأَعْيَان، وَالله أعلم، وَعبر بالسلف، أَو السّلم عَن البيع، وَبيع عين الثَّمَرَة قبل ظُهُورهَا لَا تجوز، وَالسّلم الْمُتَعَلّق بِالْعينِ لَا يجوز بِالْإِجْمَاع. وَالله أعلم.
وَعَن أبي البخْترِي قَالَ: " سَأَلت ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن السّلم فِي النّخل، فَقَالَ: نهى عمر - رَضِي الله عَنهُ - عَن بيع التَّمْر حَتَّى يصلح، وَنهى عَن (الْوَرق بِالذَّهَب نساً) بناجز "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ بيع الْعين. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (113) :
وَيصِح السّلم حَالا، كَمَا يَصح مُؤَجّلا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه لَا يَصح ".
رُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْتَاعَ من أَعْرَابِي جزوراً بِتَمْر، وَكَانَ يرى أَن التَّمْر عِنْده، فَإِذا بعضه عِنْده، وَبَعضه لَيْسَ عِنْده، فَقَالَ لَهُ: هَل لَك أَن تَأْخُذ بعض(3/358)
تمرك، وَبَعضه إِلَى الْجذاذ، فَأبى، فاستلف لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تمره، فَدفعهُ إِلَيْهِ "، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وروى هَذَا الحَدِيث الإِمَام أَبُو سهل مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الصعلوكي بِإِسْنَادِهِ عَنْهَا قَالَت: " ابْتَاعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جزوراً من أَعْرَابِي بوسق من تمر الذَّخِيرَة، وَهِي الْعَجْوَة، قَالَت فجَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى منزله، فالتمس التَّمْر فَلم يجده، فَقَالَ للأعرابي: لتفقه يَا عبد الله، إِنَّا ابتعنا مِنْك جزوراً بوسق من تمر الذَّخِيرَة، فالتمسناه، فَلم نجده، قَالَ الْأَعرَابِي: واغدراه، قَالَت: فوجزه النَّاس، وَقَالُوا: تَقول هَذَا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: دَعوه؛ فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا، قَالَت: فَلَمَّا لم يفهم عَنهُ أرسل إِلَى خَوْلَة بنت حَكِيم أَن أقرضينا من تمر الذَّخِيرَة حَتَّى يكون عندنَا؛ فنقضيك، فَقَالَت: نعم، فَأرْسل رَسُولا يَأْخُذهُ، وَقَالَ للأعرابي: انْطلق مَعَه حَتَّى يؤتيك، فَانْطَلق الْأَعرَابِي، فَأخذ التَّمْر، ثمَّ مر برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ(3/359)
جَالس بَين أَصْحَابه، فَقَالَ: جَزَاك الله خيرا، وَبَارك عَلَيْك، فقد أوفيت، وأطبت، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُولَئِكَ خِيَار عباد الله يَوْم الْقِيَامَة، الموفون الطيبون ".
قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل - رَحمَه الله -: " هَذَا الحَدِيث يجمع فنوناً من الْأَحْكَام، وعيوناً من آدَاب الْإِسْلَام: مِنْهَا جَوَاز ابتياع الشريف من المشروف / والمتبوع من التَّابِع، وَمِنْهَا حسن التِّجَارَة، وارتفاع قدرهَا، وعلو أمرهَا. وَمِنْهَا أَن الإِمَام يَلِي البيع وَالشِّرَاء بِنَفسِهِ، وَلَا يكون ذَلِك وَاضِعا من قدره، وَمِنْهَا صِحَة ابتياع الْحَيَوَان بالمصوق من التَّمْر غير الْمُؤَجل، وَهَذَا أصل فِي جَوَاز السّلم الْحَال خلافًا على الْعِرَاقِيّ حِين أَبَاهُ محتجاً بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أسلم فليسلم فِي كيل مَعْلُوم، وَأجل مَعْلُوم.
وَالْحَدِيثَانِ متفقان، وعَلى مَذْهَب التَّأْلِيف متسقان، وَلَكِن الحَدِيث الَّذِي رَوَوْهُ، الْغَرَض مِنْهُ أَن يكون الْأَجَل مَعْلُوما؛ إِذْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورد الْمَدِينَة وهم يسلفون إِلَى آجال مُتَفَاوِتَة، وأوقات غير مَعْلُومَة؛ فنهاهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، وعرفهم أَن الْأَجَل الَّذِي يَصح بِهِ هَذَا العقد على حكم الدّين والشريعة، وَهُوَ الْأَجَل الْمَعْلُوم دون أَن يقْصد قصد إبِْطَال مَا هُوَ أعرف من الْأَجَل الْمَعْلُوم الْمُقْتَضى حَقه فِي فَور العقد مَعَ امْتنَاع التَّأْخِير والبعد.
وَالْأَصْل فِي البيع كُله الْحُلُول والنقد، وَالْأَجَل ترخيص وترفيه، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن لَا بيع يمْتَنع عَن جَوَازه لكَونه نَقْدا، وبيوع كَثِيرَة تمْتَنع عَن الصِّحَّة للأجل.(3/360)
وَمِمَّا يقرب الْأَمر فِيهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي كيل مَعْلُوم " قصدا مِنْهُ إِلَى أَن يكون الْمِقْدَار، والمخبر عَن الكمية مَعْلُوما، لَا على وَجه إِفْرَاد الْكَيْل بِالْجَوَازِ دون الْوَزْن، وكل مَكِيل بِالْوَزْنِ جَائِز اتِّفَاقًا، وإجماعاً؛ لِأَن الْوَزْن أحْصر، وبالكمية أخبر، فَلهَذَا أجَاز جَوَازه، كَذَلِك الْحُلُول.
فَإِن قيل: مَا أمكن فِيهِ الْأَجَل، فشرطه التَّأْجِيل، قلت: وَمَا أمكن فِيهِ الْكَيْل، فشرطه الْكَيْل، فَإِن قَالَ: الْوَزْن يحل مَحَله، وَيفْعل فعله، وَيزِيد عَلَيْهِ فِي الْحصْر، والإنباء عَن الْقدر، قلت: كَذَلِك الْحَال يحل مَحل الْأَجَل، ويربي عَلَيْهِ؛ إِذْ غَايَته مفضي إِلَيْهِ.
فَإِن قيل: فالكتابة، قلت لَهُ: أَنْت تجوزها حَالَة، وَأما نَحن فَإنَّا خصصنا الْبيُوع الْمُمْتَنع كثير مِنْهَا عَن الْأَجَل؛ لجوازه حَالا مَا جَازَ مِنْهُ مُؤَجّلا، فَأَما الْكِتَابَة فالغرض فِيهِ الْعتْق، وَالْعَمَل فِيهِ على الرِّفْق المخلص من الرّقّ؛ إِذْ هُوَ يُعَامل مَاله بِمَالِه، وَيَأْخُذ عَن عَبده كسب يَده. وَلَوْلَا مَا أحذره من الإملال الْجَارِي بالإقلال لملأت الأطباق فِي هَذَا الْمَعْنى بِتَوْفِيق الله، وَمِنْه.
وَمِنْهَا جَوَاز تَسْمِيَة الطَّعَام بإسمين: أَحدهمَا أشهر من الآخر، وَإِذا خَافَ الْحَكِيم ذهَاب الْمخبر عَن مقْصده بالإسم الْغَرِيب عرفه بالإسم الْمَشْهُور، وَذَلِكَ قَول عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " تمر الذَّخِيرَة وَهِي الْعَجْوَة ".
وَمِنْهَا حسن ابتياع الشَّيْء بالواقع فِي الذِّمَّة على حسن الظَّن(3/361)
بالموجود عِنْده؛ ليقضى مِنْهُ مَا فِي ذمَّته، وَهَذَا رَسُول الله رب الْعَالمين يبْتَاع بِتَمْر الذَّخِيرَة، وَيَأْتِي الْأَعرَابِي إِلَى منزله؛ ليوفيه.
(وَمِنْهَا اسْتِصْحَاب الْغَرِيم لقَضَاء الدّين وَالْغُرْم كاستصحاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَعرَابِي إِلَى منزله للوفاء.
وَمِنْهَا) الرئيس الْكَرِيم الْكَبِير، والجليل الخطير يلْتَمس فِي منزله مَا خَلفه فِيهِ، فَإِن لم يجده، لم يعقبه بعتب، أَلا ترى إِلَى عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - تَقول: " فالتمس التَّمْر، فَلم يجده ".
وَمِنْهَا أَن لَا عتب على الْإِنْسَان فِي إخلاف الظَّن، ووجودج الْأَمر بِغَيْر التَّقْدِير الَّذِي فِي نَفسه.
وَمِنْهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعْصم فِي أَمر الدّين، والإخبار عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأَما فِي أَمر الدُّنْيَا فَإِنَّهُ بشر، كَمَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " (" إِنَّمَا أَنا بشر أغضب كَمَا تغضبون ") وكما قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما نَهَاهُم عَن التابير، فشاصت النخيل، فشكوا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " مَا كَانَ من أَمر دينكُمْ فَإلَى، وَمَا كَانَ من أَمر دنياكم فإليكم "، أَو كَمَا قَالَه. وَمِنْهَا أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى بدر أَرَادَ أَن ينزل(3/362)
منزلا، فَقَالُوا لَهُ: " يَا رَسُول الله، إِن كَانَ هَذَا عَن وَحي فالسمع، وَالطَّاعَة، / وَلَا اخْتِيَار على أَمر الله، وَإِن كَانَ هَذَا عَن رَأْي فَمَا هَذَا منزل مكيدة، فطوى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَمِنْهَا أَن الْمُبْتَاع يعرض لبَائِعه بالاستقالة وَالْإِقَالَة إِذا لم يجد قَضَاء، وَهُوَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا عبد الله أَنا ابتعنا مِنْك جزوراً بوسق من تمر الذَّخِيرَة، وَنحن نرى أَنه عندنَا، فالتمسناه، فَلم نجده ".
وَمِنْهَا جَوَاز تَسْمِيَة من لم يعرف اسْمه، وكنيته بِعَبْد الله؛ إِذْ الْخلق عبيد الله، وَبِهَذَا يعلم صِحَة المعاقدة، وَتحمل الشَّهَادَة على الْأَعْيَان للمشاهدة مَعَ الِاسْتِغْنَاء عَن الْأَنْسَاب، والكنى، والألقاب خلاف هاجس الهوس الشايع فِي هَذَا الزَّمَان العجيب أمره من طلب أثر بعد عين.
وَمِنْهَا استغاثة الملهوف، وندبة المضعوف وَهُوَ قَول الْأَعرَابِي: " واغدراه " حِين تصور الْأَمر بِغَيْر صورته، وَقدر غدراً وَاقعا بِهِ، ومكراً جَامعا لَهُ.(3/363)
وَمِنْهَا أَن اتِّبَاع الرئيس، وَأَصْحَاب الإِمَام إِذا رَأَوْا مُنْكرا غاضاً عَن مَحَله بَادرُوا الغاض بالفض، والغض، وَهُوَ قَول أم الْمُؤمنِينَ - رَضِي الله عَنْهَا -: " فزجره النَّاس ".
وَمِنْهَا لطف الإِمَام فِي كف أَتْبَاعه عَن المتألم، ورد أنصاره عَن رد المتظلم حَتَّى يَتَّضِح سَبيله، وَلَا يقر بالظلم قبله، وَقَالَ: " دَعوه ". ثمَّ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا "، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " (لصَاحب الْحق يَد) ، ولسان "، فيده تنَاول مَاله مِمَّن يحتجبه، وَأخذ مثله مَعَ فَوت عينه. وَلَا يذهب بك عَن الصَّوَاب قَول من يَقُول: " رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: أد إِلَى من ائتمنك، وَلَا تخن من خانك "، إِذْ معنى هَذَا القَوْل أَلا يُقَابل الْأَخْذ بِمثلِهِ بعد وُصُوله إِلَى حَقه، وَتَنَاول مَاله من تَحت يَده، فيده فِي الْعَدْوى عَلَيْهِ، والتزامه لِلْخُرُوجِ من حَقه إِذْ الْيَد يعبر بهَا عَن الْقُدْرَة، وَالْقُوَّة، والبسط، والجارحة، وَالنعْمَة، وَالصّفة الْمَخْصُوصَة، وَهَذَا أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأعرابي على تَقْدِيره فِيهِ حِين وضع الْأَمر أَنه يمْنَع مَاله عَن بَيْعه.(3/364)
ثمَّ قَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لتفقه، يَا عبد الله "، هَذَا يدل على حسن التّكْرَار، وصواب التَّقْدِير، وَمحل التَّحْرِير بترديد الْكَلَام، وإعادة النظام لتَفَاوت النَّاس فِي الأفهام، فَمن بَين يدْرك اللحظة من اللَّفْظَة من بَين قوم لَا يعْرفُونَ (لَا) إِلَّا ب (لَا) .
سَمِعت الشَّيْخ أَبَا الْفضل مُحَمَّد بن عبد الله - رَحمَه الله تَعَالَى - فِي مجَالِس نظرة يَوْم الْخَمِيس، وَقد ألح عَلَيْهِ ملح، فَقَالَ: إِن هَهُنَا أَقْوَامًا لَا يعْرفُونَ " لَا " إِلَّا ب " لَا "، فَهَذَا رَسُول رب الْعِزَّة يُكَرر على الْأَعرَابِي القَوْل؛ ليفقه الْعلم؛ إِذْ لَيْسَ كل من يسمع يفقه، وَهَذَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " نضر الله أمرا سمع منا مقَالا، فوعاه، فأداه كَمَا سَمعه، فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ "، فَقَالَ الْأَعرَابِي ثَانِيًا: " واغدراه " فزجره النَّاس "، وَهَذَا يدل على أَن الاستكفاف على الْحَالة لَا توجب كفا على التَّأْبِيد، وَأَن الْمُسِيء إِذا عَاد إِلَى سوء القَوْل قوبل بِالرَّدِّ من الْفِعْل، أَلا ترى أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُم: " دَعوه " فَلَمَّا عَاد إِلَى قَوْله، عَادوا إِلَى زَجره، وَلم يكن النَّهْي الأول ناهياً عَن هَذِه الْحَالة، لِأَنَّهُ لَو نَهَاهُم عَنْهَا لكانوا عصاة بارتكاب النَّهْي، وحاشاهم أَن يَكُونُوا بِهَذِهِ الصّفة، وَلَو كَانُوا للحقتهم الموعظة، والمزجرة ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " وروينا حَدِيث طَارق بن عبد الله فِي ابتياع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جملا بِكَذَا وَكَذَا، صَاعا من تمر خَارج(3/365)
الْمَدِينَة وَأَخذه الْجمل، ورجوعه إِلَى الْمَدِينَة، ثمَّ إِنْفَاذه بِالتَّمْرِ. وَهُوَ مَذْهَب عَطاء بن أبي رَبَاح الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ آخرا فِي جَوَاز السّلم فِي الْحَال ".
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْمَدِينَة، وهم يسلفون السنتين، وَالثَّلَاث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) /: من سلف فِي تمر، فليسلف فِي كيل مَعْلُوم، وَوزن مَعْلُوم، إِلَى أجل مَعْلُوم ".
(وَقَوله: " إِلَى أجل مَعْلُوم "، أَي: إِذا (كَانَ مُؤَجّلا يجب أَن) يكون الْأَجَل مَعْلُوما غير مَجْهُول، وَلَيْسَ فِيهِ نفي الْحَال، يُوضحهُ الْجمع بَين الْكَيْل، وَالْوَزْن فِي هَذَا الحَدِيث، وبالإجماع لَا يلْزم اجْتِمَاعهمَا، إِنَّمَا يلْزم أَحدهمَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (114) :
وَالسّلم فِي الْحَيَوَان جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه لَا يجوز ".(3/366)
وَدَلِيلنَا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقد سبق ذكرنَا لَهُ فِي مَسْأَلَة بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، وَذكرنَا أَيْضا حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيرهم لَهُم، وأجبنا (عَنهُ) بِمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْكتاب.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تباشر الْمَرْأَة الْمَرْأَة فِي ثوب وَاحِد؛ لأجل أَن تصفها لزَوجهَا حَتَّى كَأَنَّهُ ينظر إِلَيْهَا، وَنهى إِذا كُنَّا ثَلَاثَة أَن يَتَنَاجَى اثْنَان دون وَاحِد أجل أَن يحزنهُ حَتَّى يخْتَلط بِالنَّاسِ ".
وَفِيه دَلِيل على أَن الْحَيَوَان يضْبط بِالصّفةِ خلاف مَا زعم أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - من أَنه لَا يضْبط بِالصّفةِ.
وَرُوِيَ عَن أبي الحسان الْأَعْرَج، قَالَ: " سَأَلت ابْن عمر، وَابْن(3/367)
عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم - عَن السّلم فِي الْحَيَوَان، فَقَالَ: إِذا سمي الْأَسْنَان، والآجال، فَلَا بَأْس ".
وَعَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: " أسلم عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - فِي وصف "، قَالَ: " وَكَانَ الشّعبِيّ لَا يرى بَأْسا بالسلم فِي الْحَيَوَان ".
وَعَن يُونُس عَن الْحسن: " أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا فِي السّلف فِي الْحَيَوَان إِذا كَانَ شَيْئا مَعْلُوما إِلَى أجل مَعْلُوم "، وَقد مضى سَائِر الْآثَار فِيهَا فِي أول كتاب الْبيُوع.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عمار الذَّهَبِيّ، قَالَ: " رَأَيْت سعيد بن جُبَير بِمَكَّة ينْهَى عَن السّلم فِي الْحَيَوَان، فَقلت: أَلَيْسَ كنت(3/368)
بِأَذربِيجَان سنتَيْن؟ يعْملُونَ بذلك، لَا تنه عَنهُ، فَقَالَ: نهى عَنهُ حُذَيْفَة ". (سعيد لم يدْرك حُذَيْفَة بن سعيد.
وروى عَنهُ، وَعَن إِبْرَاهِيم، عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَنه كره السّلف) فِي الْحَيَوَان ". وَسَعِيد، وَإِبْرَاهِيم لم يدركا ابْن مَسْعُود.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَيَزْعُم الشّعبِيّ الَّذِي هُوَ أكبر سنا من الَّذِي روى عَنهُ - يَعْنِي عَن ابْن مَسْعُود - الْكَرَاهَة؛ أَنه إِنَّمَا أسلف لَهُ فِي لقاح إبل بِعَيْنِه، وَهَذَا مكروة عندنَا، وَعند كل أحد، هَذَا بيع الملاقيح، والمضامين، أَو هما ". قَالَ الشَّافِعِي - رَحْمَة الله عَلَيْهِ، فِي الْقَدِيم -: وَقد يكون ابْن مَسْعُود كرهه تنزهاً عَن التِّجَارَة فِيهِ، لَا على تَحْرِيمه "، ثمَّ قد روينَا عَن الْقَاسِم، قَالَ: أسلم عبد الله فِي وصفاء ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه(3/369)
ذكر فِي أَبْوَاب الرِّبَا: " أَن يسلم فِي سنّ "، رُوِيَ ذَلِك عَن المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن عمر، وَهَذَا إِسْنَاد مُنْقَطع. وَالله أعلم.(3/370)
ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي، وَأَبُو حنيفَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - من كتاب الرَّهْن، والتفليس، وَالْحجر، وَالصُّلْح، وَالْحوالَة، وَالضَّمان، وَالشَّرِكَة، وَالْوكَالَة، وَالْإِقْرَار، وَالْعَارِية، وَالْغَصْب، وَالْمُسَاقَاة، وإحياء الْموَات، وَالْوَقْف، وَالْهِبَة، واللقطة مِمَّا ورد فِيهِ خبر، أَو أثر
مَسْأَلَة (115) :
تَخْلِيل الْخمر لَا يجوز، وَلَا يحل تنَاوله، فَإِن صَار بِنَفسِهِ خلا، حِينَئِذٍ حل تنَاوله فِي ظَاهر الْمَذْهَب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " تَخْلِيل الْخمر جَائِز، والخل الْمُتَّخذ مِنْهُ حَلَال تنَاوله ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْخمر تتَّخذ خلا، قَالَ: لَا ".(3/371)
رُوِيَ عَن أسلم مولى عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن عمر أَتَى بالطلاء، وَهُوَ بالجابية، وَهُوَ يَوْمئِذٍ يطْبخ، وَهُوَ كعقيد الرب، فَقَالَ: إِن فِي هَذَا لشراباً مَا انتهينا إِلَيْهِ، وَلَا تشرب خل خمر أفسدت حَتَّى يُبْدِي الله فَسَادهَا، فَعِنْدَ ذَلِك يطيب الْخلّ، وَلَا باس على امْرِئ إِن ابْتَاعَ خلا وَحده مَعَ أهل الْكتاب مَا لم يعلم أَنهم تعمدوا إفسادها بعد مَا عَادَتْ خمرًا ".
قَوْله: " أفسدت " يَعْنِي، عولجت، وَلَا نعلم أحدا من الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم - خَالفه.
استدلوا بِمَا روى الْفرج بن فضَالة عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة عَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا: _ " أَنَّهَا كَانَت لَهَا شَاة تحلبها، ففقدها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: مَا فعلت شاتكم؟ فَقلت: مَاتَت، قَالَ: أَفلا انتفعتم بإهابها؟ قلت: إِنَّهَا ميتَة، قَالَ: فَإِن دباغها يحل كَمَا يحل الْخلّ الْخمر "، / قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " تفرد بِهِ الْفرج بن فضَالة عَن يحيى، والفرج مِمَّن لَا يحْتَج بحَديثه، وَلم يَصح تَحْلِيل خل الْخمر من وَجه ".
وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن بكار عَن الْفرج بِهَذَا الحَدِيث، قَالَ(3/372)
فرج: " يَعْنِي أَن الْخمر إِذا تَغَيَّرت، فَصَارَت خلا حلت "، فعلى هَذَا التَّفْسِير الَّذِي فسره - وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث - يرْتَفع الْخلاف، ونقول بِهِ.
قَالَ عَمْرو بن عَليّ: " كَانَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي لَا يحدث عَن فرج بن فضَالة، وَيَقُول: حدث عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَحَادِيث مُنكرَة مَقْلُوبَة؛ فَقَالَ البُخَارِيّ: الْفرج بن فضَالة، أَبُو فضَالة مُنكر الحَدِيث ".
وَرُوِيَ عَن الْمُغيرَة بن زِيَاد عَن أبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أفقر بَيت من أَدَم فِيهِ خل، وَخير خلكم خل خمركم ".(3/373)
قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث واه شَاذ، لَا أعلم أَنا كتبناه إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد، والمغيرة بن زِيَاد الْموصِلِي يُقَال لَهُ: أَبُو هِشَام المكفوف صَاحب الْمَنَاكِير، وَيُقَال إِنَّه حدث عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، وَأبي الزبير بجملة من الْمَنَاكِير، وَقد حدث عَن عبَادَة بن نسي بِحَدِيث مَوْضُوع، فَكيف يُعَارض بِمثل هَذِه الرِّوَايَة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المحفوظة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النَّهْي عَن تَخْلِيل الْخمر؟ وَلم يزل أهل حرم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُنكرُونَ ذكر خل الْخمر، سَمِعت أَبَا الْحسن على بن عِيسَى الْحِيرِي يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْحَاق: أخبرنَا الْعَبَّاس يَقُول: سَمِعت قُتَيْبَة بن سعيد يَقُول: قدمت الْمَدِينَة أَيَّام مَالك، فتقدمت (الى فامي) ، فَقلت:
عنْدك خل خمر؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ الله فِي حرم رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ثمَّ قدمت بعد موت مَالك، فَذكرت لَهُم، فَلم يُنكر عَليّ ".
وَرُوِيَ عَن أم حِرَاش قَالَت: " أتيت عليا - رَضِي الله عَنهُ - يصطبغ فِي خل خمر "، هَذَا وَإِن ثَبت فهم يسمون الْخلّ الْمُتَّخذ من الْعِنَب خل خمر، وَذَلِكَ شَائِع بَينهم.
وَرُوِيَ عَن مسربل الْعَبْدي عَن أمه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " لَا بَأْس بخل الْخمر "، وَإِسْنَاده مَجْهُول مظلم. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (116) :
وزيادات الرَّهْن الْمُنْفَصِلَة الْحَادِثَة بعد عقد الرَّهْن تخلص(3/374)
للرَّاهِن. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا دَاخِلَة فِي عقد الرَّهْن ".
(عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يغلق الرَّهْن لَهُ غنمه، وَعَلِيهِ غرمه "، قَالَ عَليّ بن عمر: " هَذَا إِسْنَاد حسن مُتَّصِل " وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ") .
وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الرَّهْن يركب ويحلب بعلفه "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَأخرج أَيْضا فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لبن الدّرّ يحلب بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُونا، وَالظّهْر يركب إِذا كَانَ مَرْهُونا، وعَلى الَّذِي يركب ويحلب النَّفَقَة، كَذَلِك رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك، وَيحيى الْقطَّان عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ عَنهُ.
وَرَوَاهُ هشيم، وسُفْيَان (بن حبيب) عَن زَكَرِيَّا، وَزَاد فِي مَتنه " الْمُرْتَهن "، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ لوجوه.(3/375)
أَحدهَا: أَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي رَوَاهُ عَن هشيم، وَلَفظ الحَدِيث: " إِذا كَانَت الدَّابَّة مَرْهُونَة فعلى الَّذِي رهن عَلفهَا، وَلبن الدّرّ يشرب، وعَلى الَّذِي يشرب نَفَقَته، ويركب "، وَلم يذكر الْمُرْتَهن فِيهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْحفاظ كَابْن الْمُبَارك، وَأبي نعيم، وَيحيى الْقطَّان لم يذكرُوا هَذِه اللَّفْظَة، فتصويبهم أولى.
الثَّالِث: أَن الشّعبِيّ رَاوِي الحَدِيث، وَقد أفتى بِخِلَاف مذهبكم، حَيْثُ قَالَ: " لَا ينْتَفع من الرَّهْن بِشَيْء "، فِيمَا يرويهِ الثَّوْريّ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَنهُ، وَفِيمَا يرويهِ الثَّوْريّ أَيْضا عَن زَكَرِيَّا عَنهُ أَنه قَالَ فِي رجل ارْتهن جَارِيَة، فأرضعت لَهُ، قَالَ: " يغرم لصَاحب الْجَارِيَة قيمَة (الرَّضَاع للبن) ".(3/376)
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرَّهْن مركوب ومحلوب "، قَالَ أَبُو عبد الله _ هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، كَذَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة، / وَأَبُو عوَانَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ. وَرَوَاهُ وَكِيع عَنهُ، فَوَقفهُ على أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: " كَانَ معَاذ بن جبل - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول فِي النّخل إِذا رَهنه، فَتخرج فِيهِ ثَمَرَة، فَهُوَ من الرَّهْن "، وَهَذَا مُنْقَطع بَين عَمْرو، ومعاذ، ثمَّ قد رُوِيَ عَن معمر عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه أَن معَاذ بن جبل - رَضِي الله عَنهُ - قضى فِيمَن ارْتهن نخلا مثمراً، فليحتسب الْمُرْتَهن ثَمَرَتهَا من رَأس المَال "، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مطرف بن مَازِن عَن معمر. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (117) :
وَالرَّهْن أَمَانَة فِي يَد الْمُرْتَهن إِذا تلف لم يكن عَلَيْهِ ضَمَان , وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه مَضْمُون بِالدّينِ بِقدر قِيمَته ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يغلق الرَّهْن من صَاحبه الَّذِي رَهنه، لَهُ غنمه، وَعَلِيهِ غرمه "، قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " غنمه: زِيَادَته، وغرمه: هَلَاكه ونقصانه ".(3/377)
رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن شَبابَة، وَعبد الحميد بن سُلَيْمَان أخي فليح، وَأبي قَتَادَة عبد الله بن وَافد الْحَرَّانِي، وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن ابْن أبي ذيب يذكر أَبَا هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
وروى الشَّافِعِي عَن الثِّقَة عَن يحيى بن أبي أنيسَة - عَن ابْن شهَاب عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ 0 عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثله، أَو مثل مَعْنَاهُ. وَقد روينَا من حَدِيث زِيَاد بن سعد عَن الزُّهْرِيّ مُتَّصِلا، وَهَذَا حَدِيث حسن، وَرُوِيَ عَن مَالك مَرْفُوعا مُتَّصِلا، وَالْمَحْفُوظ عَنهُ مَا فِي الْمُوَطَّأ.(3/378)
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الرَّهْن بِمَا فِيهِ "، قَالَ أَبُو حَازِم الْحَافِظ: " تفرد بِهِ حسان بن إِبْرَاهِيم الْكرْمَانِي "، قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " وَهُوَ مُنْقَطع بَين عَمْرو بن دِينَار، وَأبي هُرَيْرَة ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن حميد عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا (بِمثلِهِ) ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " لَا يثبت هَذَا عَن حميد، وكل من بَينه وَبَين شَيخنَا ضعفاء، وهم أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب عَن عبد الْكَرِيم بن روح عَن هِشَام بن زِيَاد.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر واه عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أُميَّة عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ. قَالَ عَليّ ابْن عمر: " إِسْمَاعِيل بن أبي أُميَّة هَذَا يصنع الحَدِيث، وَهَذَا بَاطِل عَن قَتَادَة عَن حَمَّاد. وَالله أعلم.
وأصل هَذِه الْمَسْأَلَة لَهُم حَدِيث مُرْسل، وَفِيه من الوهن مَا فِيهِ، رُوِيَ عَن مُصعب بن ثَابت قَالَ: " سَمِعت عَطاء يحدث أَن رجلا(3/379)
رهن فرسا، فنفق فِي يَده، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للْمُرْتَهن: ذهب حَقك "، هَكَذَا رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَنهُ مرّة، وَقيل عَنهُ عَن عَطاء عَن الْحسن عَن النَّبِي -.
(ومرسلات الْحسن ضَعِيفَة، وصحيح عَن عَطاء) أَنه قَالَ فِيمَا ظهر هَلَاكه أَمَانَة، وَهُوَ لَا يُخَالف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا يكون مثبتاً عِنْده، وَقيل عَن عَطاء: " يترادان الْفضل "، وكل ذَلِك يُخَالف مَا رُوِيَ عَنهُ فِي حَدِيث الْفرس (وَقد يكون الْفرس أقل قيمَة من الْحق، وَأكْثر مِنْهُ، وَمثله، وَلم يرو أَنه سَأَلَ عَن قيمَة الْفرس) . وَرُوِيَ فِي هَذِه الْقِصَّة أَنه قَالَ: " الرَّهْن بِمَا فِيهِ "، وهم يخالفون إِذا كَانَ فضل فِي الدّين على مَال الرَّهْن، فَلَا يجعلونه سَاقِطا.
وَرُوِيَ عَن أبي الْعَوام (عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن عبيد بن(3/380)
عُمَيْر أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -) قَالَ فِي الرجل يرتهن الرَّهْن فيضيع، قَالَ: " إِن كَانَ أقل مِمَّا فِيهِ رد عَلَيْهِ تَمام حَقه، وَإِن كَانَ أَكثر فَهُوَ أَمِين "، وَأَبُو الْعَوام هُوَ عمرَان بن دَاوُد، وَهُوَ مُنْفَرد بِهِ، وَأكْثر أَصْحَاب الحَدِيث لَا يحتجون بِهِ، لسوء حفظه.
وَرُوِيَ عَن الثَّوْريّ عَن لَيْث، أَو مَنْصُور عَن الحكم عَن عَليّ أَنه قَالَ فِي الرَّهْن: " يترادان الْفضل "، وَهَذَا مُرْسل مَوْقُوف، وَرُوِيَ ذَلِك عَنهُ من وُجُوه أخر، وَرُوِيَ عَنهُ: " إِذا كَانَ فِي الرَّهْن فضل فَإِن أَصَابَته جَائِحَة، فالرهن بِمَا فِيهِ، وَإِن لم تصبه جَائِحَة، فَإِنَّهُ يرد الْفضل ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (118) :
وَإِذا أفلس المُشْتَرِي بِالثّمن، وَوجد البَائِع / عين مَاله فِي يَده، كَانَ أَحَق بِهِ من سَائِر غُرَمَائه، وَله أَن يرتجعه، وينقض البيع فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " البَائِع أُسْوَة الْغُرَمَاء، لَيْسَ لَهُ نقض البيع، وَلَا ارتجاع الْمَبِيع ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أدْرك مَاله بِعَيْنِه عِنْد رجل قد أفلس، أَو(3/381)
إِنْسَان قد أفلس، فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره " اتفقَا على صِحَّته.
وَفِي رِوَايَة عِنْد مُسلم عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا أفلس الرجل، فَوجدَ غَرِيمه مَتَاعه بِعَيْنِه، فَهُوَ أَحَق بِهِ من سَائِر الْغُرَمَاء ".
وَفِي أُخْرَى عِنْده أَيْضا عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الرجل الَّذِي يعْدم إِذا وجد عِنْده الْمَتَاع، وَلم يفرقه: " أَنه لصَاحبه الَّذِي بَايعه ".
وَفِي أُخْرَى عِنْده أَيْضا عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا أفلس الرجل، فَوجدَ الرجل عِنْده سلْعَته بِعَينهَا، فَهُوَ أَحَق بهَا ".
وَرُوِيَ عَن أبي الْمُعْتَمِر عَن عَمْرو بن خلدَة الزرقي. وَكَانَ قَاضِي الْمَدِينَة حينا - قَالَ: " جِئْنَا أَبَا هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - فِي صَاحب لنا قد أفلس فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قضى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا رجل مَاتَ، أَو أفلس فَصَاحب الْمَتَاع أَحَق بمتاعه إِذا وجده بِعَيْنِه "، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح "، وروى سعيد بن الْمسيب عَن عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قضى بذلك.(3/382)
وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَيْضا، قَالَ: " لَا نعلم أحدا من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَالف عُثْمَان، وعلياً - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي ذَلِك ".
وروى إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن ابْن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيّمَا رجل بَاعَ سلْعَة، فَأدْرك سلْعَته بِعَينهَا عِنْد رجل قد أفلس، وَلم يقبض من ثمنهَا شَيْئا، فَهِيَ لَهُ، فَإِن كَانَ قَضَاهُ من ثمنهَا شَيْئا، فَمَا بقى فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء "، تفرد بوصله إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، قَالَ عَليّ بن عمر: " إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش مُضْطَرب الحَدِيث، وَلَا يثبت هَذَا عَن الزُّهْرِيّ مُسْندًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُرْسل ".
وَرَوَاهُ الْيَمَان بن عدي عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا، واليمان ضَعِيف الحَدِيث جدا.
وَرُوِيَ عَن خلاس عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " هُوَ أُسْوَة(3/383)
الْغُرَمَاء "، خلاس عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - لَيْسَ بِسَمَاع، وَإِنَّمَا أَخذه من صحيفَة، فَهُوَ مُنْقَطع.
وَلَا حَاصِل لقَوْل من يَقُول " لِتَفَرُّد أبي هُرَيْرَة بروايته " لَا أَقُول بِهِ، فكم من حكم فِي الشَّرْع لم يثبت إِلَّا بروايته، وقبلوه مِنْهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا، وَلَا خَالَتهَا "، فأخذنا جَمِيعًا بِهِ، وَلم يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رِوَايَة غَيره. وَلَا يَصح قَوْلهم: " إِنَّا بِالْإِجْمَاع فِي النِّكَاح بِهَذَا الحكم "، بل هُوَ وَاجِب بِالْحجَّةِ عَلَيْهِم، أَن يجْتَمع النَّاس على حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَحده، وَلَا يذهبون فِيهِ إِلَى توهِينه بِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} إِلَى قَوْله {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} ، وَنِكَاح الْمَرْأَة على الْعمة، وَالْخَالَة مِمَّا وَرَاء ذَلِك، هَذَا معنى كَلَام الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَبَعض لَفظه. وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (119) :
وَإِذا امْتنع الْمُوسر من قَضَاء مَا عَلَيْهِ من الدُّيُون فللحاكم أَن يَبِيع(3/384)
من مَاله مَا يقدر عَلَيْهِ، وَيَقْضِي من ثمنه دُيُون غُرَمَائه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَيْسَ للْحَاكِم أَن يَبِيع عَلَيْهِ عروضه، وعقاره، وَلكنه يحْبسهُ حَتَّى يَبِيع بِنَفسِهِ ".
رُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك عَن أَبِيه، قَالَ: حجر رَسُول الله -
- على معَاذ بن جبل - رَضِي الله عَنهُ - مَاله، وَبَاعه فِي دين كَانَ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَة قَالَ: " كَانَ معَاذ بن جبل - رَضِي الله عَنهُ - شَابًّا، حَلِيمًا، سَمحا، من أفضل / شباب قومه، وَلم يكن يمسك شَيْئا، فَلم يزل يدان حَتَّى أغرقه مَاله كُله فِي الدّين، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكلم غرماءه، فَلَو تركُوا أحدا من أجل أحد لتركوا معَاذًا من أجل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَاعَ لَهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يَعْنِي مَاله - حَتَّى قَامَ معَاذ بِغَيْر شَيْء ".
وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن كَعْب مُرْسلا دون ذكر أَبِيه، وانضم إِلَيْهِ مُرْسل أبي مجلز " أَن غلامين من جُهَيْنَة كَانَ بَينهمَا غُلَام، فَأعتق(3/385)
أَحدهمَا نصِيبه، فحبسه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بَاعَ فِيهِ غنيمَة لَهُ ".
وروى مَالك عَن عمر بن عبد الرَّحْمَن (بن دلاف) عَن أَبِيه " أَن رجلا من جُهَيْنَة كَانَ يَشْتَرِي الرَّوَاحِل، فيغال بهَا، ثمَّ يسْرع السّير، فَيَسْبق الْحَاج، فأفلس، فَرفع أمره إِلَى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " أما بعد، أَيهَا النَّاس، فَإِن الأسيفع أسيفع جُهَيْنَة رَضِي من دينة، وأمانته أَن يُقَال: سبق الْحَاج، إِلَّا أَنه قد دَان معرضًا فَأصْبح قد دين بِهِ، فَمن كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دين، فليأتنا بِالْغَدَاةِ، نقسم مَاله بَين غُرَمَائه، وَإِيَّاكُم وَالدّين، فَإِن أَوله هم، وَآخره حَرْب ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (120) :
يجوز الْحجر على الْبَالِغ الْعَاقِل بالسفه، وبالدين مَعَ التَّفْلِيس(3/386)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما} ، وَقَالَ: {وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح فَإِن أنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} ، وَقَالَ: {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا أَو لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ فليملل وليه بِالْعَدْلِ}
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى: {وابتلوا الْيَتَامَى} يَعْنِي: اختبروهم، وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن أنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} يَعْنِي إِن ءانستم مِنْهُم إصلاحاً فِي أَمْوَالهم فادفعوها إِلَيْهِم، قَالَ: " يَقُول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: اختبروا الْيَتَامَى عِنْد الْحلم، فَإِن عَرَفْتُمْ مِنْهُم الرشد فِي حَالهم، والإصلاح فِي أَمْوَالهم فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم، وَأشْهدُوا عَلَيْهِم ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن يزِيد بن هُرْمُز أَن نجدة كتب إِلَى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يسْأَله عَن خلال، فَذكر الحَدِيث، قَالَ: " وكتبت مَتى يَنْقَضِي يتم الْيَتِيم، ولعمري، إِن الرجل لتشيب لحيته، وَإنَّهُ لضعيف الْأَخْذ، ضَعِيف الأعطاء، فَإِذا أَخذ لنَفسِهِ من صَالح مَا يَأْخُذ النَّاس فقد ذهب عَنهُ اسْم الْيَتِيم ".(3/387)
وَعَن الْمُغيرَة قَالَ: " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن الله تبَارك وَتَعَالَى حرم عَلَيْكُم عقوق الْأُمَّهَات، ووأد الْبَنَات، ومنعاً وهات، وَكره لكم قيل وَقَالَ، وَكَثْرَة السُّؤَال، وإضاعة المَال "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعَن كَعْب بن مَالك "، أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجر على معَاذ - رَضِي الله عَنهُ - مَاله، وَبَاعه فِي دين عَلَيْهِ "، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَافِظ: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن ابْن الزبير قَالَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " لأحجرن عَلَيْهَا "، الحَدِيث بِطُولِهِ فِي هجرها إِيَّاه لذَلِك، ثمَّ رِضَاهَا عَنهُ.
وروى أَبُو يُوسُف القَاضِي عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه أَن عبد الله بن جَعْفَر أَتَى الزبير - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " إِنِّي اشْتريت بيع كَذَا وَكَذَا، (وَإِن عليا - رَضِي الله عَنهُ - يُرِيد أَن يَأْتِي أَمِير الْمُؤمنِينَ، فيسأله أَن يحْجر عَليّ فِيهِ "، فَقَالَ الزبير: " أَنا شريكك فِي البيع "، وأتى على عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: إِن ابْن جَعْفَر اشْترى بيع كَذَا وَكَذَا) فاحجر عَلَيْهِ "، فَقَالَ الزبير: " وَأَنا شَرِيكه فِي البيع "، فَقَالَ عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -: " كَيفَ أحجر على رجل فِي بيع شَرِيكه فِيهِ الزبير؟ "، قيل: تفرد بِهِ أَبُو يُوسُف القَاضِي، وَقد تَابعه أَبُو الزبير(3/388)
الْمَدِينِيّ قاضيهم عَن هِشَام بِبَعْض مَعْنَاهُ.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - /: " فعلي - رَضِي الله عَنهُ - لَو كَانَ الْحجر بَاطِلا قَالَ: لَا يحْجر على بَالغ حر، وَكَذَلِكَ عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - لَا يطْلب الْحجر إِلَّا وَهُوَ يرَاهُ، وَالزُّبَيْر رَضِي الله عَنهُ - بل كلهم يعرف الْحجر فِي حَدِيث صَاحبك ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَا عَائِشَة، وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، كَمَا سبق ذكره. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (121) :
سنّ الْبلُوغ خمس عشرَة سنة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " فِي الْغُلَام سبع عشرَة، وَفِي الْجَارِيَة ثَمَانِي عشرَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى نَافِع، قَالَ: " حَدثنِي ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عرضه يَوْم أحد لِلْقِتَالِ، قَالَ: وَأَنا ابْن أَربع عشرَة سنة، فَلم يجزني، ثمَّ قَالَ: عرضني يَوْم الخَنْدَق، وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة، فأجازني، قَالَ نَافِع: " فَقدمت على عمر بن عبد الْعَزِيز وَهُوَ إِذْ ذَاك خَليفَة، فَحَدَّثته هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِن هَذَا الْحَد بَين الصَّغِير وَالْكَبِير، ثمَّ كتب إِلَى عماله أَن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرَة سنة، وَمَا كَانَ دون ذَلِك أَن يَجْعَلُوهُ مَعَ الْعِيَال "، اتفقَا على صِحَّته.(3/389)
وَلَا يجوز رد حَدِيث ابْن عمر بِأَن يُقَال: إِن بَين أحد وَالْخَنْدَق أَكثر من سنة وَاحِدَة، فَكيف يَصح أَن يَقُول ابْن عمر مَا رويتم؟ فَإِن أهل الْمَغَازِي اخْتلفُوا فِي قدر مَا بَينهمَا، فَقَوْل عُرْوَة بن الزبير، وَالزهْرِيّ فِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة عَنهُ، وَمَالك بن أنس يدل على أَن غَزْوَة الخَنْدَق كَانَت سنة أَربع، فَيكون بَينهَا وَبَين أحد سنة وَاحِدَة كَمَا روينَا، فبالإجماع كَانَت غَزْوَة أحد سنة ثَلَاث، وَإِن أَخذنَا بقول من يَقُول إِن غَزْوَة الخَنْدَق كَانَت سنة خمس، فَمَعْنَى قَول ابْن عمر: " عرضت يَوْم أحد، وَأَنا ابْن أَربع عشرَة سنة "، أَي طعنت فِيهَا، وَيَوْم الخَنْدَق عرضت عَلَيْهِ، وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة، أَي: استكملتها، وزدت عَلَيْهَا، غير أَنه لم ينْقل الزِّيَادَة لعلمه بتعلق الحكم بالخمس عشرَة دون مَا زَاد عَلَيْهِ، وَهَذَا جَائِز فِي الْعرف أَن يعبر عَنهُ بِهِ، فَلَا حَاجَة لرد الحَدِيث بأمثاله، وَهُوَ مستقصى فِي السّنَن.
وَمَا رُوِيَ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - مرفوعأً: " الصَّبِي يكْتب لَهُ حَسَنَاته، وَلَا يكْتب عَلَيْهِ سيآته، حَتَّى إِذا بلغ ثَلَاث عشرَة سنة كتب لَهُ وَعَلِيهِ، فَإِذا بلغ خمس عشرَة أُقِيمَت عَلَيْهِ الْحُدُود، أَو أخذت مِنْهُ الْحُدُود "، فإسناده ضَعِيف، لَا يثبت مثله.
وَمَا روى عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا: " يثغر الصَّبِي فِي سبع سِنِين، ويحتلم لخمس عشرَة، وَيتم طوله فِي إِحْدَى(3/390)
وَعشْرين سنة، وَيتم عقله فِي ثَمَان وَعشْرين، ثمَّ التجارب "، فَلَيْسَ بِثَابِت، وَإِن ثَبت فكلامنا فِي غير الِاحْتِلَام.
وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْقَاسِم الطابكاني بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة عَن الْغُلَام حَتَّى يَحْتَلِم، فَإِن لم يَحْتَلِم حَتَّى يكون ابْن ثَمَان عشرَة، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَإِن يَعْنِي طلق فِي مَنَامه لم يَقع الطَّلَاق، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يَصح، قيل: وَمن الْمَجْنُون؟ قَالَ: من أبلى شبابه فِي مَعْصِيّة الله "، فَإِنَّهُ مَوْضُوع، فَإِن مُحَمَّد بن الْقَاسِم هَذَا كَانَ يضع الحَدِيث.
ثمَّ ثَمَانِيَة عشرَة حَدهمْ فِي (الْجَارِيَة، لَا) الْغُلَام، فَلَا يَقُولُونَ بِهِ. وَرُوِيَ عَن عمر، وَعُثْمَان - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا اعتبرا الإنبات فِي إِقَامَة الْحُدُود. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (122) :
والإنبات عَلامَة على الْبلُوغ فِي الْكفَّار، أَو هُوَ بُلُوغ(3/391)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَيْسَ ببلوغ ".
وَدَلِيلنَا مَا روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - " أَن أهل قُرَيْظَة لما نزلُوا على حكم سعد أرسل إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فجَاء على حمَار، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قومُوا إِلَى سيدكم، أَو قَالَ: خَيركُمْ، قَالَ: إِن هَؤُلَاءِ قد نزلُوا على حكمك، قَالَ: إِنِّي أحكم أَن يقتل مُقَاتلَتهمْ، وتسبى ذَرَارِيهمْ، قَالَ: لقد حكمت فيهم بِحكم الْملك "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعند أبي دَاوُد عَن عَطِيَّة الْقرظِيّ، قَالَ: " كنت من سبي قُرَيْظَة، فَكَانُوا ينظرُونَ، فَمن أنبت الشّعْر قتل، وَمن لم ينْبت لم يقتل، فَكنت فِيمَن لم ينْبت "، وَفِي رِوَايَة بِهَذَا الحَدِيث قَالَ: " فكشفوا عانتي، فوجدوها لم تنْبت، فجعلوني فِي السَّبي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (123) :
وَالصُّلْح على الْإِنْكَار غير جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه جَائِز ".(3/392)
روى / أَبُو دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصُّلْح بَين الْمُسلمين جَائِز، إِلَّا صلحا حرم حَلَالا، أَو أحل حَرَامًا ".
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُسلمُونَ على شروطهم ".
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث عَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا -، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ.(3/393)
وروى عبد الحميد بن الْحسن الْهِلَالِي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل مَعْرُوف صَدَقَة، وَمَا أنْفق الرجل على أَهله وَنَفسه كتب لَهُ صَدَقَة، وَمَا وقى بِهِ الْمَرْء عرضه كتب لَهُ بِهِ صدقه، وَمَا أنْفق الْمُؤمن من نَفَقَة فَإِن خلفهَا على الله - وَالله ضَامِن - إِلَّا مَا كَانَ فِي بُنيان، أَو مَعْصِيّة "، فَقلت لمُحَمد بن الْمُنْكَدر: " وَمَا وقى بِهِ الرجل عرضه؟ " قَالَ: " مَا يُعْطي الشَّاعِر، وَذَا الْبَيَان المتقي ".
وَعبد الحميد هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَرَوَاهُ الْمسور بن الصَّلْت عَن ابْن الْمُنْكَدر أَيْضا، وَهُوَ ضَعِيف، ضعفه أجمد، وَالْبُخَارِيّ، وَالنَّسَائِيّ.
وَرَوَاهُ أَبُو عصمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن بديل عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخْتَصرا، وَأَبُو عصمَة مَتْرُوك.
وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " ردوا الْخُصُوم،(3/394)
لَعَلَّهُم أَن يصطلحوا، فَإِنَّهُ أَبْرَأ للصدق، وَأَقل للخباث ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (124) :
وَإِذا تداعى رجلَانِ جداراً بَين داريهما، لأَحَدهمَا عَلَيْهِ جُذُوع، لم يحكم بالجدار لصَاحب الْجُذُوع. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن كَانَت جذوعه عَلَيْهِ أَكثر من ثَلَاثَة حكم لَهُ بالجدار ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث ابْن جريج عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي "، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مُسلم بن خَالِد عَنهُ.
وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يمْنَع أحدكُم جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَحَدِيث سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه عَن أبي مُوسَى -(3/395)
رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " اخْتصم رجلَانِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شَيْء لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، فَقضى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ "، وَفِي رِوَايَة خلاس عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا بِمَعْنَاهُ، وَقد ذَكرنَاهَا فِي السّنَن.
وروى دهثم بن قرَان - بأسانيد مُخْتَلفَة - " أَن قوما اخْتَصَمُوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حظار بَينهم، فَأرْسل حُذَيْفَة - رَضِي الله عَنهُ - يقْضِي بَينهم، فَقضى للَّذي وجد معاقد القمط تليه، ثمَّ رَجَعَ، فَأخْبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أصبت، أَو قَالَ: أَحْسَنت "، قَالَ على بن عمر: لم يروه غير دهثم، وَهُوَ ضَعِيف. سُئِلَ يحيى بن معِين عَن حَدِيثه، فَقَالَ: " دهثم كَانَ كوفياً، لَا يكْتب حَدِيثه ".(3/396)
وَرُوِيَ عَن سماك عَن رجل من أهل الْبَصْرَة " أَن قوما اخْتَصَمُوا فِي خص لَهُم إِلَى عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فَقضى بَينهم أَن ينظر أَيهمْ كَانَ أقرب من القماط، فَهُوَ أَحَق بِهِ "، وَهَذَا مُنْقَطع، وَقد رَوَاهُ الْوَلِيد بن أبي ثَوْر عَن منهال عَن الْحسن عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (125) :
الْمحَال عَلَيْهِ إِذا مَاتَ مُفلسًا، أَو جحد الْحق، وَلم يكن للمحتال بَيِّنَة، لم يكن لَهُ أَن يرجع على الْمُحِيل بِحقِّهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَضِي الله عَنهُ -: " لَهُ أَن يرجع عَلَيْهِ ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مطل الْغَنِيّ ظلم، وَإِذا أُتبع أحدكُم على مليءٍ، فَليتبعْ، اتفقَا على صِحَّته.(3/397)
استدلوا بِحَدِيث خُلَيْد بن جَعْفَر: سَمِعت أَبَا إِيَاس عَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لَيْسَ على مَال الْمُسلم توى "، يَعْنِي حِوَالَة، وروى مُطلقًا لَيْسَ فِيهِ - يَعْنِي - حِوَالَة، وَذكره مُحَمَّد بن الْحسن، وَقَالَ: " فِي حِوَالَة وكفالة ".
وخليد بن جَعْفَر بَصرِي، لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ جدا، وَلِهَذَا لم يحْتَج بِهِ البُخَارِيّ، وَلَا مُسلم، وَلَكِن قرنه مُسلم مَعَ غَيره فِي مَوضِع، وَاسْتشْهدَ بِهِ أَيْضا.
(وَإيَاس هُوَ أَبُو مُعَاوِيَة) ، وَأَبُو إِيَاس هُوَ مُعَاوِيَة بن قُرَّة الْمُزنِيّ، من الطَّبَقَة الثَّالِثَة من تَابِعِيّ أهل الْبَصْرَة، فَهُوَ لم يدْرك عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَلَا كَانَ فِي زَمَانه / وَلَو كَانَ ثَابتا عَن عُثْمَان، لم يكن فِيهِ حجَّة، لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أقَال فِي الْحِوَالَة، أَو الْكفَالَة، أَو(3/398)
غَيرهمَا، وَغلط بعض الْمُحدثين، وَقَالَ: " خُلَيْد بن دعْلج "، وَهُوَ وهم. وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَة (126) :
الضَّمَان عَن الْمَيِّت صَحِيح خلف وَفَاء، أَو لم يخلف. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - وَحده: " إِن لم يخلف وَفَاء لم يَصح ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أَتَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِجنَازَة رجل من الْأَنْصَار؛ ليُصَلِّي عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا لَا، قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: لَا، فصلى عَلَيْهِ، وَأتي بِجنَازَة، فَقَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: صلوا على صَاحبكُم، قَالَ أَبُو قَتَادَة: هُوَ عَليّ يَا رَسُول الله "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَحَدِيث سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى على(3/399)
جَنَازَة، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: أههنا من آل فلَان أحد؟ ، فَقَالَ ذَاك مرَارًا، فَقَامَ رجل يجر إزَاره (من مُؤخر النَّاس) ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أما إِنِّي لم أنوه بِاسْمِك إِلَّا لخير، إِن فلَانا لرجل مِنْهُم مأسور بِدِينِهِ، فَلَو رَأَيْت أَهله، وَمن يتحرون بأَمْره قَامُوا، فقضوا عَنهُ ".
وَفِي هذَيْن الْحَدِيثين بَيَان جَوَاز إنْشَاء الضَّمَان على الْمَيِّت بعد مَوته، وَإِن لم يضمنهُ الضَّامِن عَنهُ فِي حَال حَيَاته، بِخِلَاف مَذْهَب الْعِرَاقِيّين. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَة (127) :
شركَة الْمُفَاوضَة بَاطِلَة - وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا جَائِزَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي حَدِيث بَرِيرَة - الْمُتَّفق على صِحَّته - عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " ثمَّ قَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النَّاس، فَحَمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله، مَا كَانَ من شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل، وَإِن كَانَ مائَة شَرط ".(3/400)
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - بِإِسْنَادِهِ حَدِيث أبي رمثة حِين دخل مَعَ أَبِيه على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من هَذَا مَعَك؟ " قَالَ: " ابْني "، قَالَ: " أما إِنَّه لَا يجني عَلَيْك، وَلَا تجني عَلَيْهِ "، وَرُوِيَ من وَجه آخر، وَفِيه: " وَقَرَأَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} ، وهم فِي شركَة الْمُفَاوضَة يؤاخذون الشَّرِيك بِجِنَايَة شَرِيكه.
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله قَالَ: " اشتركت أَنا وعمار وَسعد فِيمَا نصيب يَوْم بدر، قَالَ: فجَاء سعد بأسيرين، وَلم أجئ أَنا وعمار بِشَيْء ".
هَذَا مُرْسل؛ أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه إِلَّا أَنه حسن، وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة لمن أجَاز شركَة الْأَبدَان؛ لِأَن الْغَنِيمَة شركَة لمن شهد الْوَقْعَة وَأهل الْخمس، دون عقد الشّركَة، وَلَا تَأْثِير للْعقد فِي كَون الْغَنِيمَة بَينهمَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (128) :
وَالْكَفَالَة ببدن من عَلَيْهِ المَال صَحِيحَة فِي أحد الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، رَحمَه الله، وباطلة فِي القَوْل الآخر،(3/401)
وَهُوَ الْقيَاس. وَأما فِي الْحُدُود فَلَا تجوز بِالْإِجْمَاع.
وَالْأَحَادِيث فِيهَا وَردت، فَلَا معنى فِي مَوْضُوع الْخلاف، إِلَّا أَنَّهَا تدل على اشتهار الْكفَالَة بِالْبدنِ فِيمَا بَينهم.
وَرُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق عَن حَارِثَة بن مصرف فَذكر قصَّة فِي عبد الله بن النواحة، وَأَصْحَابه أَصْحَاب مُسَيْلمَة الْكذَّاب، وَأَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَمر بِابْن النواحة، فَضرب رَأسه، ثمَّ إِن ابْن مَسْعُود اسْتَشَارَ النَّاس فِي أُولَئِكَ النَّفر، فَقَامَ عدي بن حَاتِم، فَقَالَ: قولا، ثمَّ قَامَ جرير، والأشعث، فقلا: بل استتبهم، وكفلهم عَشَائِرهمْ، فاستتابهم، فتابوا، فكفلهم عَشَائِرهمْ ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (129) :
التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ صَحِيح دون رضى الْخصم بِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - وَحده: " رضى الْخصم شَرط فِي صِحَة التَّوْكِيل مَعَ حُضُور الْمُوكل وسلامته ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر عَن أبي ذَر - رَضِي الله عَنهُ قَالَ:(3/402)
" سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَي الْعَمَل أفضل، فَقَالَ: إِيمَان بِاللَّه، وَجِهَاد فِي سَبيله، قلت: أَي الرّقاب أفضل، قَالَ: أغلاها ثمنا، وأنفسها عِنْد أَهلهَا، قَالَ: قلت: فَإِن لم أفعل، قَالَ: تعين صانعا، أَو تصنع لأخرق قَالَ: قلت: فَإِن لم أفعل، قَالَ: تدع النَّاس من الشَّرّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَة، تصدق بهَا على نَفسك "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - /: انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، هَذَا ينصره مَظْلُوما، كَيفَ ينصره ظَالِما، قَالَ: يَأْخُذ فَوق يَدَيْهِ "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعَن سهل بن أبي خَيْثَمَة، وَرَافِع بن خديج - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن عبد الله بن سهل (ومحيصة بن مَسْعُود أَتَيَا خَيْبَر فِي حَاجَة، فتفرقا فِي النّخل، فَقتل عبد الله بن سهل، فجَاء أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن بن سهل) ، وَأَبْنَاء عَمه محيصة، وحويصة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(3/403)
فذكرا أَمر صَاحبهمَا، فَبَدَأَ عبد الرَّحْمَن فَتكلم، وَكَانَ أقرب، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْكبر، فتكلما فِي أَمر صَاحبهمَا " وَذكر الحَدِيث، اتفقَا على صِحَّته.
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن جهم بن أبي جهم عَن عبد الله بن جَعْفَر، قَالَ: " كَانَ عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - يكره الْخُصُومَة، وَكَانَ إِذا كَانَت الْخُصُومَة وكل فِيهَا) عقيل بن أبي طَالب، فَلَمَّا كبر وكلني "، وَالله أعلم.(3/404)
مَسْأَلَة (130) :
وَإِقْرَار الْمَرِيض لوَارِثه بِالدّينِ فِي مرض مَوته فِي ظَاهر الْمَذْهَب. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه مَرْدُود ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على الْمعَانِي، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق وليتق الله ربه وَلَا يبخس مِنْهُ شَيْئا} ، فَأمر الله تَعَالَى الْإِقْرَار، وَنهى عَن الكتمان، وَلم يخص.
وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إيَّاكُمْ وَالظَّن؛ فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث، وَلَا تجسسوا، وَلَا تحسسوا، وَلَا تناجشوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تباغضوا، وَلَا تدابروا، وَكُونُوا عبدا الله إخْوَانًا " - اتفقَا على صِحَّته عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى نوح بن دراج عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله
" لَا وَصِيَّة لوَارث، وَلَا إِقْرَار بدين ".(3/405)
وَهَذَا مُرْسل، ونوح بن دراج ضَعِيف الحَدِيث جدا، قَالَ يحيى بن معِين: " نوح بن دراج كَذَّاب خَبِيث، لم يكن يدْرِي مَا الحَدِيث، كَانَ يقْضِي وَهُوَ أعمى ثَلَاث سِنِين، وَلَا يخبر النَّاس أَنه أعمى، من خبثه ".
وَرَوَاهُ نوح مرّة، فَزَاد فِيهِ: " عَن جَابر ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (131) :
وَإِذا أقرّ جَمِيع الْوَرَثَة بوارث ثَبت نسبه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يشاركهم فِي الْمِيرَاث، وَلَا يثبت نسبه ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن عبد بن زَمعَة وسعداً - رَضِي الله عَنْهُمَا - اخْتَصمَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ابْن أمة زَمعَة، فَقَالَ سعد: " يَا رَسُول الله، أَوْصَانِي أخي: إِذا قدمت مَكَّة أَن أنظر إِلَى ابْن أمة زَمعَة فاقبضه، فَإِنَّهُ ابْني "، فَقَالَ عبد بن زَمعَة: " أخي، وَابْن أمة أبي، ولد على فرَاش أبي "، فَرَأى شبهاًَ بَينا بِعتبَة، فَقَالَ: " هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة، الْوَلَد للْفراش، واحتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة " - اتفقَا على صِحَّته.(3/406)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - بِمَعْنَاهُ، وَزَاد فَقَالَ: " هُوَ أَخُوك يَا عبد ".
ومسدد حَافظ ثِقَة، وَالزِّيَادَة من مثله مَقْبُولَة.
وَرَوَاهُ يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، وَفِيه: " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هُوَ لَك، وَهُوَ أَخُوك، يَا عبد بن زَمعَة "، وَفِيه: ثمَّ قَالَ: واحتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة لما رأى من شبه عتبَة بن أبي وَقاص "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح فَقَالَ: " وَقَالَ لَيْث: حَدثنِي يُونُس "، فَذكر مَعْنَاهُ، فَذكر هَذِه اللَّفْظَة.
استدلوا بِمَا روى جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن يُوسُف بن الزبير مولى الزبير عَن عبد الله بن الزبير - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " كَانَت لزمعة جَارِيَة يَطَؤُهَا، وَكَانَت تظن بِرَجُل آخر أَنه يَقع عَلَيْهَا، فَمَاتَ زَمعَة وَهِي حُبْلَى، فَولدت غُلَاما يسبه الرجل الَّذِي كَانَت تظن بِهِ، فَذَكرته سَوْدَة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أما الْمِيرَاث فَلهُ، وَأما أَنْت فاحتجبي مِنْهُ ".(3/407)
هَذَا حَدِيث فِي رُوَاته من نسب فِي آخر عمره إِلَى سوء الْحِفْظ، وَهُوَ جرير ابْن عبد الحميد، وَفِيهِمْ من لَا يعرف بِمَا يثبت بِهِ حَدِيثه، وَهُوَ يُوسُف بن الزبير، أَو الزبير بن يُوسُف، مولى لآل الزبير، وَعبد الله بن الزبير - رَضِي الله عَنهُ - كَأَنَّهُ لم يشْهد الْقِصَّة لصغره. وَأما حديثنا فرواته مَشْهُورُونَ بِالْحِفْظِ وَالْفِقْه وَالْأَمَانَة. وَعَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - تخبر عَن الْقِصَّة كَأَنَّهَا شهدتها.
ثمَّ إِن ثَبت يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله: لَيْسَ لَك بِأَخ شبها، وَإِن كَانَ لَك بِحكم الْفراش أَخا؛ فَلَا يكون لقَوْله: " هُوَ أَخُوك يَا عبد (بن زَمعَة) " مُخَالفا، فقد ألحقهُ بالفراش، حَتَّى حكم لَهُ بِالْمِيرَاثِ. (وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ) .
مَسْأَلَة (132) :
الْعَارِية مَضْمُونَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا أَمَانَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا عِنْد / أبي دَاوُد عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " على الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤدِّي "، ثمَّ إِن(3/408)
الْحسن نسى فَقَالَ: " هُوَ أمينك لَا ضَمَان عَلَيْهِ ".
وَرُوِيَ عَن أُميَّة بن صَفْوَان بن أُميَّة عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتعَار مِنْهُ أدراعاً يَوْم حنين، فَقَالَ: " أغصب يَا مُحَمَّد؟ " قَالَ: لَا، بل عَارِية مَضْمُونَة ".
وَكَذَا رَوَاهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن صَفْوَان بن أُميَّة أعَار ...
وَرَوَاهُ عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة عَن عبد الرَّحْمَن بن جَابر عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكرْنَاهُ فِي السّنَن بِالْإِسْنَادِ.(3/409)
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن ابْن رفيع عَن أنَاس من آل عبد الله بن صَفْوَان أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا صَفْوَان، هَل عنْدك سلَاح؟ " قَالَ: " عَارِية أم غصبا؟ " قل: " لَا، بل عَارِية "، فأعاره بَين الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعين درعاً، وغزا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حنيناً. فَلَمَّا هزم الله الْمُشْركين جمعت دروع صَفْوَان ففقد مِنْهَا أدراعاً، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِصَفْوَان: " إِنَّا قد فَقدنَا من أدراعك أدراعاً، فَهَل نغرم لَك؟ " قَالَ: " لَا، يَا رَسُول الله، لِأَن فِي قلبِي الْيَوْم مَا لم يَك يَوْمئِذٍ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن رفيع عَن عَطاء عَن أنَاس من آل صَفْوَان، فَذكره بِمَعْنَاهُ.(3/410)
وَرُوِيَ عَن سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز الدِّمَشْقِي عَن حميد عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن بعض أهل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتعَار قَصْعَة فَضَاعَت فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يغرموها، وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتعَار قَصْعَة فَضَاعَت، فضمنها لَهُم.
سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز رُبمَا يهم فِي الشَّيْء، وَمَا سبق أصح. وَالصَّحِيح رِوَايَة يحيى ين سعيد، وَابْن عَلَيْهِ عَن حميد، أخرجهَا البُخَارِيّ - رَحمَه الله - وفيهَا بَيَان أَن الْقِصَّة فِي غير الْعَارِية.
وَرُوِيَ ضَمَان الْعَارِية عَن ابْن عَبَّاس، وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم.
وَعَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: " كَانَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يضمن الْعَارِية، وَكتب إِلَيّ أَن أضمنها
وَقُرِئَ على الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عبد الرَّحْمَن - قَالَ الطَّحَاوِيّ: هُوَ ابْن السَّائِب: أَن رجلا اسْتعَار بَعِيرًا من رجل فَعَطب، فَأتى بِهِ مَرْوَان بن الحكم، فَأرْسل مَرْوَان إِلَى أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - فأوقفوه بَين السماطين فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: " يغرم ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن عبد الْجَبَّار عَن عُبَيْدَة بن(3/411)
حسان عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ على المستعبر غير الْمغل ضَمَان، وَلَا على الْمُسْتَوْدع غير الْمغل ضَمَان ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " عَمْرو، وَعبيدَة ضعيفان. وَإِنَّمَا يروي ذَلِك عَن شُرَيْح القَاضِي غير مَرْفُوع. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (133) :
وَالْقطع وَالضَّمان يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا قطع السَّارِق لم يضمن، وَإِذا ضمن أَولا لم يقطع ".
قَالَ الله - عز وَجل: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالاً من الله وَالله عَزِيز حَكِيم} . وَقَالَ الله - عز وَجل: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} .
فالقطع حق الله عز وَجل، والاعتداء عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم حق الْمَسْرُوق مِنْهُ.(3/412)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - حَدِيث المخزومية الَّتِي سرقت، وكلم فِيهَا أُسَامَة - رَضِي الله عَنهُ - رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا أُسَامَة، تشفع فِي حد من حُدُود الله "، ثمَّ قَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطِيبًا فَقَالَ: " إِنَّمَا أهلك الَّذين من قبلكُمْ أَنهم كَانُوا إِذا سرق فيهم الشريف تَرَكُوهُ، وَإِذا سرق فيهم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد، وأيم الله، لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا ".
فَلَو كَانَ رد الْمَسْرُوق أَو تَضْمِينه يُوجب سُقُوط الْقطع عَن السَّارِق لضمنوه؛ لِئَلَّا يقطعهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَكنهُمْ لما لم يَجدوا لَهَا عَنهُ محيصاً بتشفيع أُسَامَة / بن زيد، فَلم يَنْفَعهُمْ ذَلِك أَيْضا.
وروى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن صَفْوَان بن عبد الله أَن صَفْوَان بن أُميَّة - رَضِي الله عَنهُ - قيل لَهُ: " من لم يُهَاجر هلك "، فَقدم صَفْوَان الْمَدِينَة، فَنَامَ فِي الْمَسْجِد، فتوسد رِدَاءَهُ، فجَاء سَارِق فَأخذ رِدَاءَهُ من تَحت رَأسه، فَأخذ صَفْوَان السَّارِق فجَاء بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقطع يَده، فَقَالَ صَفْوَان: " إِنِّي لم أرد هَذَا، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَة "، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَهَلا قبل أَن تَأتِينِي بِهِ ". ثمَّ قَالَ: " وَحدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو عَن طَاوُوس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل حَدِيث مَالك ".(3/413)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يقطع الْيَد فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
وروى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب أَن رَقِيقا ً لحاطب سرقوا نَاقَة لرجل من مزينة وانتحروها، فَرفع ذَلِك إِلَى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فَأمر كثير بن الصَّلْت أَن يقطع أَيْديهم، (ثمَّ قَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " إِنِّي أَرَاك تجيعهم، وَالله لأغرمنك غرماً يشق عَلَيْك) ، ثمَّ قَالَ للمزني: " كم ثمن نَاقَتك؟ " قَالَ: " أَربع مائَة دِرْهَم "، قَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " أعْطه ثَمَان مائَة دِرْهَم ".
وَرُوِيَ عَن هشيم عَن أبي حنيفَة عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ يَقُول: " يضمن السّرقَة استهلكها أَو لم يستهلكها، وَعَلِيهِ الْقطع ".(3/414)
استدلوا بِمَا روى الْمفضل بن فضَالة عَن يُونُس بن يزِيد عَن سعيد بن إِبْرَاهِيم عَن أَخِيه الْمسور عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا غرم على السَّارِق إِذا أقيم عَلَيْهِ الْحَد ".
قَالَ: هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ الْمفضل، وَهُوَ مُرْسل؛ الْمسور أَخُو سعيد بن إِبْرَاهِيم لم يدْرك جده عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. قَالَ أَبُو صَالح عبد الْغفار بن دَاوُد: " قلت للمفضل: يَا أَبَا مُعَاوِيَة، إِنَّمَا هُوَ(3/415)
سعد بن إِبْرَاهِيم "، فَقَالَ " هَكَذَا فِي كتابي "، أَو " هَكَذَا "، الشَّك مَعَ أبي صَالح.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى: " وَإِن كَانَ هَذَا سعيد بن إِبْرَاهِيم - كَمَا فِي كتاب الْمفضل - فَهُوَ مَجْهُول، وَأَخُوهُ الْمسور مَجْهُول. وَإِن كَانَ (سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن) بن عَوْف فقد قَالَ أهل الْعلم بالتواريخ: لَا نَعْرِف لسعد أَخا مَعْرُوفا بالرواية يُقَال لَهُ الْمسور. وَقد رَأَيْت حَدِيثا لسَعِيد بن مُحَمَّد بن الْمسور بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن، كَانَ فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب صَبيا صَغِيرا، وَمَات أَبوهُ فِي خلَافَة عُثْمَان، فَكَانَ إِدْرَاك أَوْلَاده بعد موت أَبِيه، وَإِنَّمَا رِوَايَة ابنيه المعروفين صَالح وَسعد عَن أَبِيهِمَا إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّحْمَن. فَهَذَا الَّذِي عَرفْنَاهُ بحفيديه، وَفِيه نظر، لَا يعر لَهُ رُؤْيَة، وَلَا رِوَايَة عَن جده، وَلَا عَن غَيره من الصَّحَابَة، فَهُوَ مَعَ الْجَهَالَة مُنْقَطع. وبمثل هَذِه الرِّوَايَة لَا تتْرك أَمْوَال الْمُسلمين تذْهب بَاطِلا ".(3/416)
قَالَ أَبُو بكر بن الْمُنْذر: " لَا يثبت خبر عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي هَذَا الْبَاب ". وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (134) :
والأراضي عندنَا تضمن بِالْغَصْبِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا لَا تضمن، وَلَا يتَصَوَّر فِيهَا الْغَصْب ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَنه دخل على عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - وَهُوَ يُخَاصم فِي أَرض، فَقَالَت: " يَا أَبَا سَلمَة، اجْتنب الأَرْض، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: من ظلم قيد شبر من أَرض طوقه يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين "، اتفقَا على صِحَّته ".
وَعَن عُرْوَة بن الزبير أَن أروى ادَّعَت على سعد بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - أَنه أَخذ شَيْئا من أرْضهَا فَخَاصَمته إِلَى مَرْوَان، فَقَالَ سعيد: " أَنا كنت آخذ من أرْضهَا شَيْئا بعد الَّذِي سَمِعت من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، فَقَالَ: " وماذا سَمِعت من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / يَقُول: من أَخذ شبْرًا من الأَرْض طوقه إِلَى سبع أَرضين "، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: " لَا أَسأَلك بَيِّنَة بعد هَذَا "، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِن كَانَت كَاذِبَة فأعم بصرها، واقتلها فِي أرْضهَا "، فَمَا مَاتَت حَتَّى ذهب بصرها، فَبَيْنَمَا هِيَ تمشي فِي أرْضهَا إِذْ وَقعت فِي حُفْرَة(3/417)
فَمَاتَتْ. اتفقَا على صِحَّته. وَقَوله فِي هَذِه الرِّوَايَة: " من أَخذ شبْرًا من الأَرْض " صَرِيح فِي الْمَسْأَلَة.
وَكَذَلِكَ (فِي صَحِيح) حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عِنْد مُسلم، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أَخذ شبْرًا من الأَرْض بِغَيْر حَقه طوقه من سبع أَرضين ".
وَفِي الْبَاب عَن سعيد بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - أَيْضا مَرْفُوعا، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا -: " لعن الله من غير منار الأَرْض ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (135) :
وَإِذا غصب ساحة (من الأَرْض) (فَبنى عَلَيْهَا) أَخذ بِنَقْض(3/418)
الْبناء ورد مَا غصب. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يلْزمه قيمَة الساحة، وَلَا يلْزمه ردهَا ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يحل لامرئ أَن يَأْخُذ عَصا أَخِيه بِغَيْر طيب نَفسه. وَذَلِكَ لشدَّة مَا حرم الله - عز وَجل - مَال الْمُسلم على الْمُسلم ". وَهُوَ فِي السّنَن أتم.
وَفِي حَدِيث عبد الله بن السَّائِب بن يزِيد عَن أَبِيه عَن جده - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَإِذا أَخذ أحدكُم عَصا أَخِيه فليردها إِلَيْهِ ". وَهُوَ فِي السّنَن، و (إِسْنَاده) حسن إِلَيْهِ.(3/419)
وَحَدِيث عَم أبي حرَّة الرقاشِي - رَضِي الله عَنهُ -: " لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا بِطيب نفس مِنْهُ "، يضم إِلَيْهِ حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، وخطبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رِوَايَة عَمْرو بن يثربي، فيقوى.
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أَن مَالِكًا - رَحمَه الله - أخبرهُ عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني عَن أَبِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا ضَرَر، وَلَا ضرار ".(3/420)
وَرُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا ضَرَر، وَلَا ضرار؛ من ضار ضره الله، وَمن شاق شقّ الله عَلَيْهِ "، ثمَّ يَقُول: " الْمَغْصُوب مِنْهُ يستضر بذلك، وَهُوَ أولى بِأَن ينظر لَهُ ".
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لعرق ظَالِم حق ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث سعيد بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق ".
قَالَ مَالك بن أنس - رَحمَه الله -: " الْعرق الظَّالِم (كل مَا) أَخذ واحتفر وغرس بِغَيْر حق ".(3/421)
وَعِنْده عَن يحيى بن عُرْوَة عَن أَبِيه، فَذكر مَعْنَاهُ، وَقَالَ: " فَلَقَد خبرني ... . ".
مَسْأَلَة (136) :
وَإِذا غصب جَارِيَة فَزعم أَنَّهَا مَاتَت فَقضى بِقِيمَة الْجَارِيَة الْميتَة، ثمَّ وجدهَا صَاحبهَا فَهِيَ لَهُ، وَترد الْقيمَة، وَلَا تكون الْقيمَة ثمنا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن أَخذ الْقيمَة الَّذِي ادَّعَاهَا الْمَغْصُوب مِنْهُ لم ترد، وَصَارَت الْجَارِيَة ملكا للْغَاصِب لأَخذه الْقيمَة ".
وَفِي هَذَا احتيال لمن أَرَادَ جَارِيَة رجل لَا يَبِيعهَا، فيغصبها، ويعتل بِأَنَّهَا مَاتَت، حَتَّى يَأْخُذ رَبهَا قيمتهَا، فينسب للْغَاصِب جَارِيَة غيرَة.
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمْوَالكُم عَلَيْكُم حرَام، وَلكُل غادر لِوَاء يَوْم(3/422)
الْقِيَامَة "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا.
واتفقا على حَدِيث أبي بكرَة فِي خطة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنى، وفيهَا: " فَإِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ وأنسابكم عَلَيْكُم حرَام، كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا، (فِي شهركم) هَذَا، فِي بلدكم هَذَا، أَلا هَل بلغت؟ " قُلْنَا " نعم "، قَالَ: " اللَّهُمَّ أشهد، فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، فَإِنَّهُ رب مبلغ يبلغهُ من هُوَ أوعى لَهُ ".
واتفقا على حَدِيث أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا أَنا بشر، (وَإِنَّكُمْ) تختصمون إِلَيّ وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض فأقضي لَهُ / على نَحْو مَا أسمع مِنْهُ، فَمن قضيت لَهُ من حق أَخِيه بِشَيْء فَلَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا، فَإِنَّمَا هِيَ لَهُ قِطْعَة من نَار ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (137) :
من أراق على ذمِّي خمرًا لم يكن عَلَيْهِ ضَمَان، وَلَا يجوز لمُسلم(3/423)
تَوْكِيل الذِّمِّيّ فِي بيع الْخمر. وَقَالَ بعض الْعِرَاقِيّين: " عَلَيْهِ الضَّمَان، وَيجوز تَوْكِيل الذِّمِّيّ فِي بَيْعه ".
وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " لما نزلت الْآيَات الْأَوَاخِر من سُورَة الْبَقَرَة خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقرأهن علينا وَقَالَ: حرمت التِّجَارَة فِي الْخمر) ، اتفقَا على صِحَّته.
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْخمر: " إِن الَّذِي حرم شربهَا حرم بيعهَا ".
وروينا فِي مَسْأَلَة تَخْلِيل الْخمر عَن أنس بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر بإراقة خمر الْيَتَامَى، وَلم يَأْذَن فِي تخليلها، وَلَو كَانَ إِلَى بيعهَا سَبِيل بِوَجْه لم يَأْمر بإهلاك مَال الْيَتِيم.
وَإِذا لم يجز بيعهَا لم يجز تضمينها.
وَأما مَا رُوِيَ عَن سُفْيَان عَمَّن سمع ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يَقُول: " دخلت على عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ يقلب يَده، فَقلت لَهُ: مَا لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: عويمل لنا بالعراق خلط(3/424)
فِي الْمُسلمين أَثمَان الْخمر وأثمان الْخَنَازِير، ألم يعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لعن الله الْيَهُود؛ حرمت عَلَيْهِم الشحوم أَن يأكلوها، فجملوها فَبَاعُوهَا، فَأَكَلُوا أثمانها ". قَالَ سُفْيَان: " يَقُول: لَا تَأْخُذ فِي ضريبتهم الْخمر وَلَا الْخِنْزِير، وَلَكِن خلوا بَينهم وَبَين بيعهَا، فَخُذُوا أثمانها فِي جزيتهم ".
فَهَذَا حَدِيث مُنْقَطع، وَلَيْسَ فِيهِ - إِن كَانَ ثَابتا - أَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - ولأهم بيعهَا، بَعْدَمَا دخلت فِي يَده، وَإِنَّمَا فِيهِ قَول سُفْيَان: " خلوا بَينهم وَبَين بيعهَا "، يَعْنِي: لَا يتَعَرَّض الْمُسلمُونَ لَهُم فِيمَا يَعْتَقِدُونَ جَوَاز بَيْعه، فَإِذا باعوها بِأَنْفسِهِم أخذُوا مِنْهُم حِينَئِذٍ مَا كَانَ للْمُسلمين عَلَيْهِم. وَنحن نقُول بِجَمِيعِ ذَلِك. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (138) :
إِذا غصب شَيْئا فَغَيره، أَو طَعَاما فَأَكله لم يملكهُ، وَعَلِيهِ رد مَا بقى مِنْهُ نَاقِصا، وَيغرم قيمَة النُّقْصَان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " (يملكهُ) - على تَفْصِيل يذكرهُ فِي مذْهبه - وَيغرم قِيمَته ".(3/425)
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب النَّاس فِي حجَّة الْوَدَاع، وَذكر الحَدِيث، وَفِيه: " وَلَا يحل لامرئ من مَال أَخِيه إِلَّا مَا أعطَاهُ عَن طيب نفس، وَلَا تظالموا، وَلَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض ".
وروينا فِي حَدِيث عَمْرو بن يثربي - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " شهِدت خطْبَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنى، وَكَانَ فِيمَا خطب بِهِ أَن قَالَ: وَلَا يحل لأحد من مَال أَخِيه إِلَّا مَا طابت بِهِ نَفسه "، وَذكر الحَدِيث.
وَذكر حَدِيثا عَن رجل من مزينة قَالَ: " صنعت امْرَأَة(3/426)
لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَعَاما، فدعته وَأَصْحَابه، قَالَ: فَذهب بِي أبي مَعَه، فَلم يَأْكُلُوا حَتَّى رَأَوْا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل، فَلَمَّا أَخذ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - 0 لقمته رمى بهَا، ثمَّ قَالَ: إِنِّي لأجد طعم لحم شَاة ذبحت بِغَيْر إِذن صَاحبهَا، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، أخي، وَأَنا من أعز النَّاس عَلَيْهِ، وَلَو كَانَ خيرا مِنْهَا لم يُغير عَليّ، وَعلي أَن أرضيه بِأَفْضَل مِنْهَا، فَأبى أَن يَأْكُل مِنْهَا، وَأمر بِالطَّعَامِ للأسارى ".
فَهَذِهِ الْمَرْأَة ذبحتها، وشوت لَحمهَا، فَلَو كَانَت ملكتها بِالذبْحِ والشي لم يمْتَنع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أكل مَا قَدمته إِلَيْهِ بعد مَا ملكته، وَإِنَّمَا أَمر بِهِ للأسارى لغيبة صَاحبه، وَخَوف الْفساد عَلَيْهِ بالإمساك على صَاحبه، ثمَّ يغرمه لَهُ، كَمَا يغرم أَمْثَال ذَلِك لأربابه. وَالله أعلم.
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عِنْد البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " كَانَ لأبي غُلَام يخرج لَهُ الْخراج، وَكَانَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - يَأْكُل من خراجه، فجَاء يَوْمًا بِشَيْء فَأكل مِنْهُ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ لَهُ الْغُلَام: تَدْرِي مَا هَذَا؟ قَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: مَا هُوَ؟ قَالَ كنت تكهنت لإِنْسَان فِي الْجَاهِلِيَّة - وَمَا أحسن الكهانة إِلَّا أَنِّي خدعته - فَلَقِيت فَأَعْطَانِي بذلك، فَهَذَا الَّذِي أكلت مِنْهُ، فَأدْخل أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - يَده فقاء كل شَيْء فِي بَطْنه ".(3/427)
مَسْأَلَة (139) :
وَفِي معنى هَذِه الْمَسْأَلَة - لَا يملك الْغَاصِب الْمَغْصُوب / بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، سَوَاء بلغ أرش الْجِنَايَة قِيمَته أَو لم يبلغ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا بلغ أرش الْجِنَايَة قِيمَته فصاحبه بِالْخِيَارِ بَين أَن يَأْخُذ الْمَغْصُوب بِلَا أرش، أَو يَأْخُذ الْأَرْش دون الْمَغْصُوب "
وروينا نَحْو مَذْهَبنَا عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين من أهل الْمَدِينَة، فِيمَا يرويهِ ابْن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه عَنْهُم.
مَسْأَلَة (140) :
وَعِنْدنَا إِذا غصب دَابَّة ففقأ عينهَا وَجب عَلَيْهِ أَرْشهَا، وَهُوَ مَا نقص من قيمتهَا. وَقَالَ بعض الْعِرَاقِيّين: " يضمن ربع قِيمَته ".(3/428)
وروينا نَحْو مَذْهَبنَا عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين.
وَالَّذِي رُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي تضمينها بِربع ثمنهَا إِنَّمَا رُوِيَ بأسانيد مَرَاسِيل وضعيفة. فَمِنْهَا رِوَايَة النَّخعِيّ وَأبي قلَابَة عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَكِلَاهُمَا مُنْقَطع.
وَمِنْهَا رِوَايَة جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ عَن شُرَيْح عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، والجعفي ضَعِيف، وَرِوَايَة مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ ومجالد غير مُحْتَج بِهِ، وَالشعْبِيّ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - مُنْقَطع. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (141) :(3/429)
صفحة فارغة.(3/430)
الشُّفْعَة لَا تثبت بالجوار. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا تثبت بالجوار ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " إِنَّمَا جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشُّفْعَة فِي كل مَا لم يقسم، فَإِذا وَقعت الْحُدُود، (وطرقت) الطّرق فَلَا شُفْعَة "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَأخرج مُسلم عَنهُ قَالَ: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالشُّفْعَة فِي كل شرك لم يقسم ربعَة، أَو حَائِط (فَلَا) يحل لَهُ أَن يَبِيع حَتَّى يُؤذن شَرِيكه، فَإِن شَاءَ أَخذ، وَإِن شَاءَ ترك. فَإِن بَاعَ وَلم يُؤذنهُ فَهُوَ أَحَق ".(3/431)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يقل: " يقسم " فِي هَذَا الحَدِيث إِلَّا ابْن إِدْرِيس، وَهُوَ من الثِّقَات الْحفاظ ".
وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَب عَن عمر، وَعُثْمَان، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث عمر بن الشريد، قَالَ: " وقف على سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - فجَاء الْمسور بن مخرمَة - رَضِي الله عَنهُ - فَوضع يَده على أحد مَنْكِبي، إِذْ جَاءَ أَبُو رَافع - رَضِي الله عَنهُ - مولى (رَسُول الله) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا سعد، ابتع مني بَيْتِي فِي دَارك. فَقَالَ سعد: وَالله، لَا ابتاعهما. فَقَالَ الْمسور: وَالله، لتبتاعنهما، فَقَالَ سعد: (لَا أَزِيد) على أَرْبَعَة آلَاف منجمة، أَو (قَالَ) : مقطعَة، فَقَالَ أَبُو رَافع: وَالله، لقد أَعْطَيْت بهَا خَمْسمِائَة دِينَار، وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعت (رَسُول الله) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " الْجَار أَحَق بصقبه " مَا أعطيتكها(3/432)
بأَرْبعَة آلَاف، وَأَنا أعْطى بهَا خمس مائَة دِينَار، فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعند أبي دَاوُد عَن الْحسن عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " جَار الدَّار أَحَق بدار الْجَار (أَو الأَرْض) ".
وَالْمرَاد - وَالله أعلم بذلك - أَن الْجَار الشَّرِيك الَّذِي لم يقاسم؛ بِدَلِيل حَدِيث أبي سَلمَة، وَأبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - فَإِنَّهُ جمع فِي حَدِيثه بَين من يسْتَحق الشُّفْعَة، وَمن لَا يَسْتَحِقهَا، فَهُوَ أولى بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ.
وَعند أبي دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل: حَدثنَا هشيم: أخبرنَا عبد الْملك - هُوَ ابْن أبي سُلَيْمَان - عَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْجَار أَحَق بشفعة جَاره، ينْتَظر بهَا وَإِن كَانَ غَائِبا، إِذا كَانَ طريقهما وَاحِدًا ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: لَا أعلم أحد رَوَاهُ عَن عَطاء غير عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان، وَهُوَ حَدِيث عبد الْملك الَّذِي تفرد بِهِ. ويروى عَن جَابر - رَضِي الله(3/433)
عَنهُ - خلاف هَذَا "، قَالَ أَبُو عِيسَى: " وَإِنَّمَا ترك شُعْبَة حَدِيث عبد الْملك لحَال هَذَا الحَدِيث ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " الخليط أَحَق من الشَّفِيع، وَالشَّفِيع أَحَق من غَيره ".
ويروى حَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كَون حق الشُّفْعَة على الْفَوْر، وَلَيْسَ بِثَابِت.
وَرُوِيَ عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن أَبِيه عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا: " لَا شُفْعَة لِشَرِيك على شَرِيكه إِذا سبقه بِالشِّرَاءِ، وَالشُّفْعَة كحل العقال ". وَابْن الْبَيْلَمَانِي ضَعِيف جدا، وَلَيْسَ هَذَا بِثَابِت.
وَرُوِيَ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " الصَّبِي على شفعته حَتَّى يدْرك، فَإِذا أدْرك فَإِن شَاءَ أَخذ، وَإِن شَاءَ ترك ". وَالله أعلم.(3/434)
مَسْأَلَة (142) :
كل عَرصَة لَا تحْتَمل الْقِسْمَة الشَّرْعِيَّة فَلَا شُفْعَة فِيهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " فِيهَا الشُّفْعَة ".
وروى أَبُو عبيد / عَن عبد الله بن إِدْرِيس عَن مُحَمَّد بن عمَارَة عَن أبي بكر بن حزم (أَو عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم) - الشَّك من أبي عبيد - عَن أبان بن عُثْمَان عَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لَا شُفْعَة فِي بِئْر، وَلَا (فَحل) ، والأرف تقطع كل شُفْعَة ".
قَالَ ابْن إِدْرِيس: " الأرف: المعالم " وَقَالَ الْأَصْمَعِي: " هِيَ المعالم وَالْحُدُود، هَذَا كَلَام أهل الْحجاز، يُقَال مِنْهُ: أرفت الدَّار وَالْأَرْض تأريفاً، إِذا قسمتهَا وحددتها ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (143) :
الْمُسَاقَاة جَائِزَة على النّخل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -(3/435)
وَحده: " إِنَّهَا غير جَائِزَة ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث نَافِع عَن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامل أهل خَيْبَر على شطر مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر وَزرع "، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دفع إِلَى يهود خَيْبَر نخل خَيْبَر وأرضها على أَن يعتملوها من أَمْوَالهم، وَأَن لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شطر ثَمَرهَا ".
وَعِنْده أَيْضا عَنهُ، قَالَ: " لما فتحت خَيْبَر سَأَلت يهود رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يقرهم فِيهَا، على أَن يعملوا على النّصْف مِمَّا خرج مِنْهَا من الثَّمر وَالزَّرْع، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نقركم فِيهَا على ذَلِك مَا شِئْنَا. فَكَانُوا فِيهَا كَذَلِك على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَطَائِفَة من إِمَارَة عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَكَانَ التَّمْر يقسم على السهْمَان بِالنِّصْفِ، وَيَأْخُذ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخمس ". (وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أعلم) .(3/436)
مَسْأَلَة (144) :
وَفِي تضمين الْأَجِير الْمُشْتَرك مَا تلف فِي يَده من غير تَعديَة قَولَانِ. وَقَالَ (أَبُو حنيفَة) - رَحمَه الله -: " مَا تلف بِفِعْلِهِ ضمنه وَإِن لم يكن مفرطاً فِيهِ، وَمَا تلف بِغَيْر فعله فَلَا يضمنهُ ".
رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يضمن الصناع، وَقَالَ: " لَا يصلح النَّاس إِلَّا ذَاك ".
وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي عَنهُ - تضمين بعض الصناع، من وَجه فِيهِ نظر.
وَقضى شُرَيْح على قصار أَو صباغ بِالضَّمَانِ.
وَعَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: " الغسال، والصواغ، والخياط، وَأَصْحَاب الصناعات كلهم ضامنون لكل مَا وَقع إِلَيْهِم ".
وَمِمَّنْ قَالَ: " لَا يضمن " عَطاء بن أبي رَبَاح، قَالَ: " لَا ضَمَان على صانع، وَلَا على أجِير "، ذَكرْنَاهُ فِي السّنَن.
وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ، من وَجه لَا يثبت مثله - أَنه كَانَ لَا يضمن أحدا من الأجراء، ذَكرْنَاهُ فِي السّنَن.(3/437)
وروى حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان عَن النَّخعِيّ أَنه قَالَ: " لَا يضمن ".
وَقَالَ سُلَيْمَان بن مهْرَان: " سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن الْقصار فَقَالَ: يضمن ".
فَهَذِهِ أخبارهم فِي الضَّمَان، وَلم يحك عَن أحد مِنْهُم التَّفْصِيل بَين مَا يكون بِفِعْلِهِ وَغَيره، وَمَا ثَبت فِيهِ الْأَثر، فَهُوَ أولى الْقَوْلَيْنِ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (145) :
دفع الْأجر بِدفع الشَّيْء فِيهِ الْمَنْفَعَة إِذا لم يشترطا فِي الْأُجْرَة أَََجَلًا. وَعند أبي حنيفَة - رَحمَه الله - يجب بِقدر مَا يمْضِي.
احْتج الشَّافِعِي - رَحمَه الله - فِي ذَلِك بِجَوَاز أَخذهَا من جِهَة الصّرْف، قَالَ: " وهم يَرْوُونَهُ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يكاري من رجل بِالْمَدِينَةِ، ثمَّ صارفه قبل أَن يركب "، قَالَ(3/438)
" وَإِن كَانَ ثَابتا فَهُوَ مُوَافق لنا وَحجَّة عَلَيْهِم ".
رُوِيَ عَن سَالم عَن أَبِيه أَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " أَيّمَا رجل أكرى كِرَاء فجاوز صَاحبه ذَا الحليفة قد وَجب (كراؤه، وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، يَعْنِي - وَالله أعلم - قبض الْمُكْتَرِي مَا اكترى، وَجَاوَزَ ذَا الحليفة فقد وَجب) عَلَيْهِ جَمِيع الْكِرَاء إِذا لم يشْتَرط فِي الْأُجْرَة أَََجَلًا، وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إِذا لم يَتَعَدَّ ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (146) :
إِذا أَحييت أَرض ميتَة مرّة، ثمَّ ذهبت آثَار الْإِحْيَاء، وأحياها آخر لم يملكهَا. وَقَالَ بعض الْعِرَاقِيّين: " يملكهَا ".
عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من عمر أَرضًا لَيست لأحد فَهُوَ أَحَق بهَا ". قَالَ عُرْوَة: " قضى بذلك عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فِي خِلَافَته "، رَوَاهُ البُخَارِيّ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (147) :
وَمن أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، أذن لَهُ الإِمَام فِي إحيائها أَو لم يَأْذَن. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يملكهَا إِلَّا بِإِذن الإِمَام ".(3/439)
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن سعيد بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / قَالَ: " من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق ".
وَعَن عُرْوَة قَالَ: " أشهد أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى أَن الأَرْض أَرض الله، وَأَن الْعباد عباد الله، وَمن أَحْيَا مواتاً فَهُوَ أَحَق بهَا، جَاءَنَا بِهَذَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذين جاؤونا بالصلوات عَنهُ ".
وروى عَنهُ عَن عَائِشَة مَرْفُوعا.
وَعند أبي دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن عَن سَمُرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أحَاط على أَرض فَهِيَ لَهُ ".
وَرُوِيَ عَن الشَّافِعِي عَن مَالك (عَن هِشَام) عَن أَبِيه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق ".
قَالَ: " وَأخْبرنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه أَن عمر -(3/440)
رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ ".
وَرُوِيَ عَن أبي خرَاش عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " غزوت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سبع غزوات، أَو ثَلَاث غزوات، فَسَمعته يَقُول: الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاث، فِي المَاء، والكلأ، وَالنَّار ".
فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل النَّاس شُرَكَاء فِيمَا لم يكن ملكا لأحد، وَلم يشْتَرط فِي الِانْتِفَاع بهَا إِذن السُّلْطَان، وَكَذَلِكَ إحْيَاء الْموَات الَّذِي لَيْسَ بِملك لأحد يجوز (دون) إِذن السُّلْطَان، إِذْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَالله أعلم. .
مَسْأَلَة (148) :
لَيْسَ للذِّمِّيّ أَن يحيي الْموَات فِي دَار الْإِسْلَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ ذَلِك إِذا أذن لَهُ الإِمَام ".
" (موتان) الأَرْض لله، وَلِرَسُولِهِ، ثمَّ لكم من بعد ". وَالله تَعَالَى أعلم.(3/441)
مَسْأَلَة (149) :
وَلَيْسَ للسُّلْطَان أَن يحمي، فِي أحد الْقَوْلَيْنِ، وَله أَن يحمي لغيره فِي القَوْل الثَّانِي.
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن الصعب بن جثامة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا حمى إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ "، قَالَ - يَعْنِي ابْن شهَاب -: " وبلغنا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمى البقيع، وَأَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - حمى سرف،(3/442)
والربذة "، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ: " سَمِعت عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَاسْتعْمل مولى لَهُ على الْحمى يُقَال لَهُ: هنى، أَو هنى، فَقَالَ: ياهنى، ضم جناحيك عَن النَّاس، وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم؛ فَإِن دَعْوَة الْمَظْلُوم مجابة، أَدخل رب الصريمة وَالْغنيمَة، وَدعنِي من نعم ابْن عَفَّان، وَابْن عَوْف، فَإِنَّهُمَا إِن تهْلك ماشيتهما يرجعان إِلَى نخل وَزرع، وَإِن هَذَا الْمِسْكِين إِن تهْلك مَاشِيَته جَاءَنِي يَصِيح: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فالماء والكلأ أَهْون عَليّ من أَن أغرم لَهُم ذَهَبا وورقاً، وَالله إِنَّهَا لبلادهم الَّتِي قَاتلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأَسْلمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَام، وَلَوْلَا مَا أحمل عَلَيْهِ من هَذِه النعم فِي سَبِيل الله مَا حميت (من بِلَاد الْمُسلمين شَيْئا) ، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.(3/443)
وَفِي حمى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - مِمَّا حماه لمنافع الْمُسلمين، وسكوت الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - عَن الْإِنْكَار عَلَيْهِ كالإجماع مِنْهُم على جَوَازه على مثل مَا حماه. وَفِي ذَلِك كالدلالة على أَن معنى قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا حمى إِلَّا لله (وَلِرَسُولِهِ) " أَي على مثل مَا حمى عَلَيْهِ رَسُوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (150) :
وَيتم الْحَبْس فِي الْمشَاع والمقسوم والمنقولات، وَإِن لم يقبض. وَعند مُحَمَّد بن الْحسن وَحده لَا يتم فِيمَا يجوز فِيهِ الْوَقْف عِنْده، وَهُوَ الْعقار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الْوَقْف لَا يلْزم، وَإِن قبض ".
دليلنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " أصَاب عمر أَرضًا بِخَيْبَر، فَأتى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت أَرضًا بِخَيْبَر لم أصب مَالا قطّ أنفس مِنْهُ، فَكيف تَأمر (ني) بِهِ؟ قَالَ: إِن شِئْت حبست أَصْلهَا وتصدقت بهَا، فَتصدق بهَا عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَن لَا يُبَاع أَصْلهَا، وَلَا يُوهب، وَلَا يُورث، فِي الْفُقَرَاء والقربى والرقاب (وَفِي سَبِيل الله، والضيف) وَابْن السَّبِيل، لَا جنَاح على من(3/444)
وَليهَا أَن يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ / (أَو) يطعم صديقا، غير مُتَمَوّل فِيهِ، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن ابْن عمر (أَن عمر) - رَضِي الله عَنْهُمَا - اسْتَشَارَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَن يتَصَدَّق بِمَالِه الَّذِي بثمغ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تصدق بثمره، واحبس أَصله، لَا يُبَاع، وَلَا يُورث ".
وَفِي رِوَايَة أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - تصدق بِمَال لَهُ على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تصدق بِأَصْلِهِ لَا يُبَاع، (وَلَا يُورث، وَلَا يُوهب) ، وَلَكِن ينْفق ثمره "، وَمن ذَلِك الْوَجْه أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ عَنهُ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت مَالا لم أصب قطّ مثله، تخلصت الْمِائَة الَّتِي بِخَيْبَر، وَإِنِّي قد أردْت أَن أَتَقَرَّب بهَا إِلَى الله "، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حبس الأَصْل، وسبل الثَّمَرَة ".(3/445)
وَفِي هَذَا الْخَبَر دلَالَة على وقف الْمشَاع.
قَالَ أَبُو يحيى السَّاجِي: " وَرُوِيَ أَن (الْحُسَيْن وَالْحسن) رَضِي الله عَنْهُمَا - وقف أَحدهمَا أشقاصاً من دوره، فَأجَاز ذَلِك الْعلمَاء ".
وَتصدق ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - بِالسَّهْمِ بِالْغَابَةِ الَّتِي وهبت لَهُ حَفْصَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد عَن صَدَقَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: نسخهَا لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، هَذَا مَا كتب عبد الله بن عمر (بن الْخطاب) فِي ثمغ) أَنه إِلَى حَفْصَة مَا عاشت(3/446)
تنْفق ثمره حَيْثُ أَرَاهَا الله، فَإِن توفيت فَإِنَّهُ إِلَى ذِي الرَّأْي من أَهلهَا لَا يَشْتَرِي أَصله أبدا، وَلَا يُوهب. وَمن وليه فَلَا حرج عَلَيْهِ فِي ثمره إِن أكل، أَو آكل صديقا غير متأثل مَالا، فَمَا عَفا عَنهُ من ثمره فَهُوَ للسَّائِل، والمحروم، والضيف، وَذَوي الْقُرْبَى، وَابْن السَّبِيل، وَفِي سَبِيل الله، تنفقه حَيْثُ أَرَاهَا الله من ذَلِك. فَإِن توفيت فَإلَى ذِي الرَّأْي من وَلَدي.
وَالْمِائَة الوسق الَّذِي أَطْعمنِي مُحَمَّد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالواد بيَدي لم أهلكها فَإِنَّهُ مَعَ ثمغ، على سنته الَّتِي أمرت بهَا. وَإِن شَاءَ ولي ثمغ اشْترى من ثمره رَقِيقا لعمله.
كتب معيقيب، وَشهد عبد الله بن الأرقم: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، هَذَا مَا أوصى بِهِ عبد الله عمر، أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أحدث بِهِ، حدث أَن ثمغ، وصرمة ابْن الْأَكْوَع، وَالْعَبْد الَّذِي فِيهِ و (الْمِائَة السهْم) الَّذِي بِخَيْبَر، ورقيقه الَّذِي فِيهِ، وَالْمِائَة الوسق الَّذِي أطْعمهُ مُحَمَّد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تليه مَا عاشت - يَعْنِي حَفْصَة - ثمَّ يَلِيهِ ذَوُو الرَّأْي من أَهلهَا، لَا يُبَاع، وَلَا يشترى، يُنْفِقهُ حَيْثُ رأى، من السَّائِل والمحروم، وَذَوي الْقُرْبَى، وَلَا حرج على من وليه إِن(3/447)
أكل، أَو آكل، أَو اشْترى بِهِ رَقِيقا مِنْهُ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة - ر ضي الله عَنهُ - قَالَ: " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - على الصَّدَقَة، وَذكر الحَدِيث ... " وَأما خَالِد فَإِنَّكُم تظْلمُونَ خَالِدا، وَقد احْتبسَ أدراعه، وأعتده فِي سَبِيل الله ".
وَفِي هَذَا دلَالَة على جَوَاز وقف المنقولات، خلاف قَول مُحَمَّد بن الْحسن إِنَّه لَا يجوز.
قَالَ أَبُو بكر عبد الله بن الزبير الْحميدِي: " وَتصدق أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - بداره بِمَكَّة على وَلَده، فَهِيَ إِلَى الْيَوْم، (وَتصدق عمر (بن الْخطاب) - رَضِي الله عَنهُ - بربعه عِنْد الْمَرْوَة وبالثنية على وَلَده فَهِيَ إِلَى الْيَوْم) ، وَتصدق عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - بأرضه وداره بِمصْر وبأمواله بِالْمَدِينَةِ على وَلَده فَذَلِك إِلَى الْيَوْم(3/448)
وَتصدق سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - بداره بِالْمَدِينَةِ وَبِدَارِهِ بِمصْر على وَلَده فَذَلِك إِلَى الْيَوْم، وَعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - برومة فَهِيَ إِلَى (الْيَوْم) ، / وَعَمْرو بن الْعَاصِ - رَضِي الله عَنهُ - بالوهط من الطَّائِف وداره بِمَكَّة على وَلَده فَذَلِك إِلَى الْيَوْم، وَحَكِيم بن حزَام بداره بِمَكَّة وَالْمَدينَة على وَلَده (فَذَلِك إِلَى الْيَوْم) " قَالَ: " وَمَا لَا يحضرني ذكره كثير، يجْرِي مِنْهُ أقل مِمَّا ذكرت من صدقَات من تصدق بداره بِمَكَّة، وَحجَّة لأهل مَكَّة فِي ملك بيوتها، وَكَذَلِكَ منازلها، لِأَنَّهُ لَا يعمد أَبُو بكر، وَعمر، وَالزُّبَيْر، وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَحَكِيم بن حزَام - رَضِي الله عَنْهُم - إِلَى شَيْء النَّاس فِيهِ شرع سَوَاء، فيتصدقون بِهِ على أَوْلَادهم دون مالكيه مَعَهم ".
وَرُوِيَ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه تصدق بِأَرْض لَهُ بينبع على الْفُقَرَاء، وَالْمَسَاكِين، وَفِي سَبِيل الله، وَابْن السَّبِيل، للقريب والبعيد، وَفِي السّلم وَفِي الْحَرْب، ليَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه ليصرف الله بهَا وَجْهي عَن النَّار، وَيصرف النَّار عَن وَجْهي ".
وَرُوِيَ عَنهُ أَن عمر وعلياً - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَقفا أَرضًا لَهما (بتابتلا) ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أَخْبرنِي مُحَمَّد بن شَافِع: أَخْبرنِي(3/449)
عبد الله بن حسن عَن غير وَاحِد من أهل بَيته - وَأَحْسبهُ قَالَ: زيد بن عَليّ - أَن فَاطِمَة بنت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، رَضِي الله عَنْهَا، تَصَدَّقت بمالها على بني هَاشم وَبني الْمطلب، وَأَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - تصدق عَلَيْهِم، وَأدْخل مَعَهم غَيرهم ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي بكر بن حزم أَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن حائطي هَذَا صَدَقَة، وَهُوَ إِلَى الله، وَإِلَى رَسُوله فجَاء أَبَوَاهُ فَقَالَا: يَا رَسُول الله، كَانَ قوام عيشنا فَرده رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِمَا، فورثه ابنهما بعدهمَا ".(3/450)
وَعنهُ عَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه - وَهُوَ الَّذِي أرِي النداء _ أَنه الَّذِي تصدق على أَبَوَيْهِ ثمَّ توفيا، فَرده رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِيرَاثا.
قَالَ على بن عمر: " هَذَا مُرْسل؛ لِأَن عبد الله بن زيد عبد ربه توفّي فِي خلَافَة عُثْمَان، وَلم يُدْرِكهُ أَبُو بكر بن حزم ".
وَرَوَاهُ بشير بن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد، وَهَذَا أَيْضا مُرْسل؛ بشير لم يدْرك جده عبد الله بن زيد، قَالَه لي أَبُو عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ بن عمر الْحَافِظ.
وَرَوَاهُ عَمْرو بن سليم عَن عبد الله بن زيد، وَهُوَ أَيْضا مُرْسل، قَالَه لي عَنهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو أُميَّة بن يعلى عَن مُوسَى بن عقبَة عَن إِسْحَاق بن يحيى عَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - أَن عبد الله بن فلَان. . وَهُوَ أَيْضا مُرْسل؛ إِسْحَاق بن يحيى ضَعِيف، وَلم يدْرك عبَادَة، وَأَبُو أُميَّة مَتْرُوك، قَالَه لي عَنهُ.(3/451)
ثمَّ إِن صَحَّ شَيْء من ذَلِك فَإِنَّمَا ورد فِي الصَّدَقَة غير الْمُحرمَة، وَنحن نقُول بذلك.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَاحْتج مُحْتَج بِحَدِيث شُرَيْح أَن مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَاءَ بِإِطْلَاق الْحَبْس "، (قَالَ مَالك) : " الَّذِي جَاءَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِطْلَاقِهِ هُوَ الَّذِي فِي كتاب الله - عز وَجل - {مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا حام} ".(3/452)
قَالَ ابْن عبد الحكم: " كلم بِهِ مَالك أَبَا يُوسُف عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ، فاحتج مُحْتَج بقول شُرَيْح (لَا حبس عَن فَرَائض الله) ، فَكَذَلِك من مَاله، فَلَيْسَ بِحَبْس عَن فَرَائض الله ".
ويروون هَذَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يَصح. قَالَ عَليّ بن عمر: " لم يسْندهُ غير ابْن لَهِيعَة عَن أَخِيه، وهما ضعيفان ".
وَالْمَشْهُور عَن شُرَيْح قَوْله: " لَا حبس عَن فَرَائض الله ". فَإِن استدلوا بِهِ من وَجه آخر، وَقَالُوا: حكم شُرَيْح فِيمَا بَين الصَّحَابَة وسكوتهم على ذَلِك دَلِيل على موافقتهم إِيَّاه على ذَلِك، قُلْنَا: إِنَّمَا حمله عَطاء بن السَّائِب مستفتياً فِي زمن بشر بن مَرْوَان، حِين لم يبْق من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين أحد، وَلَو ظهر قَوْله لمن بَقِي من الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - لم يعجز عَن منكرين إِيَّاه، وعملهم بالتحبيس وَاحِد بعد آخر، كَمَا / حَكَاهُ الشَّافِعِي، رَحمَه الله.
وَعنهُ: يُؤَدِّي معنى الْإِنْكَار إِلَى من غفل عَنْهُم وَخلف هَوَاهُ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، (وَهُوَ) أعلم بِالصَّوَابِ.(3/453)
مَسْأَلَة (151) :
وَيجوز وقف الْحَيَوَان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ". وَقَالَ مُحَمَّد: " يجوز وقف الْخَيل دون غَيرهَا ". وَالله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) - أعلم.
مَسْأَلَة (152) :
وَحكم الرقبى حكم الْعُمْرَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -:(3/454)
الرقبى لَا تلْزم، فللمرقب الرُّجُوع فِيهَا مَتى شَاءَ ".
روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تعمروا، وَلَا ترقبوا، فَمن أعمر شَيْئا أَو أرقبه فَهُوَ فِي سَبِيل الْمِيرَاث ".
وروى أَبُو دَاوُد بِسَنَدِهِ عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أعمر شَيْئا فَهُوَ لمعمره محياه ومماته، وَلَا ترقبوا، فَمن أرقب شَيْئا فَهُوَ (سَبِيل الْمِيرَاث)
"
وَرُوِيَ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعُمْرَى جَائِزَة لمن أعمرها، والرقبى جَائِزَة لمن أرقبها ".
وَالله تَعَالَى (أعلم) .
مَسْأَلَة (153) :
وَلَيْسَ لأحد أَن يرجع فِيمَا وهب (وأقبضه إِلَّا الْوَالِد) فِيمَا(3/455)
وهب من وَلَده. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز إِلَّا للوالد فِيمَا وهب لوَلَده وكل ذِي رحم محرم ".
وَدَلِيلنَا مَا أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد، وَذكر إِسْنَاده عَن عَامر، قَالَ: " سَمِعت النُّعْمَان بن بشير - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول - وَهُوَ على الْمِنْبَر - أَعْطَانِي أبي عَطِيَّة فَقَالَت لَهُ عمْرَة بنت رَوَاحَة؛ لَا أرْضى حَتَّى تشهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْت (ابْن عمْرَة) بنت رَوَاحَة عَطِيَّة وأمرتني أَن أشهدك، يَا رَسُول الله، قَالَ أَعْطَيْت سَائِر ولدك مثل هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاتَّقُوا الله، واعدلوا بَين أَوْلَادكُم. وَقَالَ: فَرجع فَرد عطيته "، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، وَمُحَمّد بن النُّعْمَان بن بشير عَنهُ(3/456)
أَن أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنِّي نحلت ابْني هَذَا غُلَاما كَانَ لي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أكل ولدك نحلته مثل هَذَا؟ " فَقَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فارجعه ". اتفقَا على صِحَّته.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى -: " حَدِيث النُّعْمَان حَدِيث ثَابت، وَبِه نَأْخُذ، وَفِيه دلَالَة على أُمُور، مِنْهَا: حسن الْأَدَب فِي أَن لَا يفضل رجل أحدا من وَلَده على أحد فِي نحل، فَيعرض فِي قلب الْمفضل عَلَيْهِ شَيْء يمنعهُ من بره، لِأَن كثيرا من قُلُوب الْآدَمِيّين جبل على الإقصار عَن بعض الْبر إِذا أوثر عَلَيْهِ، وَدلَالَة على أَن نحل الْوَالِد بعض وَلَده دون بعض جَائِز؛ من قبل أَنه لَو كَانَ لَا يجوز - فَذكر كلَاما لَا أثْبته، مَعْنَاهُ: لما قَالَ: ارجعه، ثمَّ أثْبته - وَقَالَ: وَقَوله: (فارجعه) دَلِيل على أَن للوالد رد مَا أعْطى الْوَلَد، وَأَنه لَا يخرج بارتجاعه ".
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " أشهد غَيْرِي "، وَهَذَا يدل على أَنه اخْتِيَار ".
وروى عَن النَّبِي عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَا: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَنْبَغِي - وَفِي رِوَايَة: لَا يحل لأحد أَن يُعْطي عَطِيَّة فَيرجع فِيهَا إِلَّا(3/457)
الْوَالِد فِيمَا يُعْطي وَلَده، وَمثل الَّذِي يُعْطي الْعَطِيَّة، ثمَّ يرجع فِيهَا كَالْكَلْبِ يَأْكُل، حَتَّى إِذا شبع تقيأ، ثمَّ عَاد فَرجع فِي قيئه ".
وَرُوِيَ عَن أبي قلَابَة قَالَ: " كتب عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - بِقَبض الرجل من وَلَده مَا أعطَاهُ مَا لم يمت، أَو يستهلكه، أَو يَقع فِيهِ دين ".
وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ولد الرجل من كَسبه "، وَقَالَ: " أَنْت وَمَالك لأَبِيك "، فَهُوَ من عُمُومه إِلَّا مَا قَامَ دَلِيله.
وَعند أبي دَاوُد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، إِن لي مَالا وَولدا وَإِن وَالِدي يحْتَاج مَالِي "، قَالَ: " أَنْت وَمَالك لوالدك؛ إِن أَوْلَادكُم من أطيب كسبكم، فَكُلُوا من كسب أَوْلَادكُم ".(3/458)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / قَالَ: " الْعَائِد فِي هِبته كالعائد فِي قيئه ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد لَا تقوم بِهِ حجَّة عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا قَالَ: " إِذا كَانَت الْهِبَة لذِي رحم محرم لم يرجع فِيهَا ".
وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " من وهب هبة لوجه الله فَذَلِك لَهُ، وَمن وهب هبة يُرِيد ثَوَابهَا فَإِنَّهُ يرجع فِيهَا (إِن لم يرض مِنْهَا) "، وَالصَّوَاب فِيهِ: عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - مَوْقُوفا، وَمن أسْندهُ فقد وهم.
وَرُوِيَ بِأَلْفَاظ أخر.
وَالْمَقْصُود مِمَّا عساه يَصح مِنْهُ جَوَاز الرُّجُوع فِيمَا وهب للثَّواب، فَأَما إِذا كَانَت هِبته لصلة رحم أَو نَحوه فَإِنَّهُ لَا يقْصد بهَا ثَوابًا من(3/459)
الْمَوْهُوب لَهُ، فَلَا يرجع فِيهَا، إِلَّا من اسْتَثْنَاهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الحَدِيث الَّذِي قدمنَا ذكره، وَهُوَ الْوَالِد وَمن فِي مَعْنَاهُ.
وروى جَابر الْجعْفِيّ - وَهُوَ مَتْرُوك - عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " من وهب هبة لغير ذِي رحم فَلم يثب فِيهَا فَهُوَ أَحَق بهَا ".
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ أعلم بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَة (154) :
وَيصِح هبة الْمشَاع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يَصح هبة مَا يَنْقَسِم ... . ".
عَن حابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ لي: صله، أَو صل رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَكَانَ لي عَلَيْهِ دين فقضاني وَزَادَنِي "، رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وَأَخْرَجَا عَنهُ قَالَ: " بِعْت بَعِيرًا من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَأمر بِلَالًا أَن يزِيد لَهُ) ، فوزن فأرجح، فَمَا زَالَ بعض تِلْكَ الدَّرَاهِم معي حَتَّى أصبت يَوْم الْحرَّة ".(3/460)
وروى مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن عِيسَى بن طَلْحَة عَن عُمَيْر بن سَلمَة الضمرِي (أَنه أخبر) عَن الْبَهْزِي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج يُرِيد مَكَّة، وَهُوَ محرم، حَتَّى إِذا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ إِذا حمَار وَحشِي عقير، فَذكر لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " دَعوه، فَإِنَّهُ يُوشك أَن يَأْتِي صَاحبه "، فجَاء الْبَهْزِي - وَهُوَ صَاحبه - إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُول الله شَأْنكُمْ بِهَذَا الْحمار "، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بكر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَسمهُ بَين الرفاق، ثمَّ مضى، حَتَّى إِذا كَانَ بالأثاية بَين الرُّوَيْثَة وَالْعَرج إِذا(3/461)
ظَبْي حَاقِف فِي ظلّ، وَفِيه سهم، فَزعم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر رجلا يثبت عِنْده، لَا يرِيبهُ أحد من النَّاس حَتَّى يُجَاوِزهُ.
وروى مُسلم البطين أَن حُسَيْن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - ورث مَوَارِيث فَتصدق بهَا قبل أَن يقسم، فأجيزت.
وروى عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس قَالَ: " نَحَلَنِي أنس نصف دَاره، فَقَالَ أَبُو بردة: إِن سرك يجوز لَك، فاقبضه، فَإِن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - قضى فِي الأنحال أَن مَا قبض مِنْهُ فَهُوَ جَائِز، وَمَا لم يقبض مِنْهُ فَهُوَ مِيرَاث "، قَالَ: فدعوت يزِيد الرشك فَقَسمهَا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (155) :
للغني أكل اللّقطَة بعد حول التَّعْرِيف. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ:(3/462)
" لَيْسَ لَهُ أكلهَا، وَعَلِيهِ أَن يتَصَدَّق بهَا ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسْأَله عَن اللّقطَة، فَقَالَ: أعرف عفاصها ووكاءها، ثمَّ عرفهَا سنة، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فشأنك بهَا "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعنهُ قَالَ: " سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن اللّقطَة، فَقَالَ: عرفهَا سنة فَإِن لم تعترف فاعرف عفاصها ووكاءها، ثمَّ كلهَا، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فارددها إِلَيْهِ. أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأَخْرَجَا حَدِيث سُوَيْد بن غَفلَة عَن أبي بن كَعْب: " وجدت صرة على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا مائَة دِينَار فَأتيت بهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ لي: عرفهَا ... " وَذكر الحَدِيث.(3/463)
وَقَالَ فِي آخِره - فِي رِوَايَة البُخَارِيّ -: " احفظ وعاءها، وعددها، ووكاءها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فاستمتع بهَا ".
وَفِي رِوَايَة مُسلم زَاد: " فاستمتعت بهَا ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: " اعرف عَددهَا، ووكاءها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَعرف عَددهَا ووكاءها فادفعها إِلَيْهِ ".
وَمن حَدِيثه أَيْضا عَن عبد الله بن عَمْرو عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَعْنى حَدِيث زيد / ابْن خَالِد، وَزَاد فِيهِ: " فَإِن جَاءَ باغيها فَعرف عفاصها، وعددها فادفعها إِلَيْهِ ". قَالَ أَبُو دَاوُد: " هَذِه الزِّيَادَة الَّتِي زَاد حَمَّاد لَيست بمحفوظة ".
وَعند أبي دَاوُد عَن بِلَال بن يحيى الْعَبْسِي عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ 0 أَنه الْتقط ديناراًُ فَاشْترى بِهِ دَقِيقًا، فَعرفهُ صَاحب(3/464)
الدَّقِيق، فَرد عَلَيْهِ الدِّينَار، فَقطع مِنْهُ قيراطين، فَاشْترى بِهِ لَحْمًا.
(وَعِنْده) عَن ابْن مقسم عَن رجل عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - وجد دِينَارا، فَأتى فَاطِمَة - رَضِي الله عَنْهَا - فَسَأَلَ عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هُوَ رزق الله؛ فَأكل مِنْهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأكل عَليّ وَفَاطِمَة، رَضِي الله عَنْهُمَا - فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك أَتَت امْرَأَة تنشد الدِّينَار، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا عَليّ، أد الدِّينَار ".
وَرُوِيَ عَن عَطاء بن يسَار أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - وجد دِينَارا فَأمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يعرفهُ، فَعرفهُ فَلم يجد لَهُ بَاغِيا، فأنفقه، ثمَّ وجد باغيه، فغرمه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليا، رَضِي الله عَنهُ ".
فأمير الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - مِمَّن لَا تحل لَهُ الصَّدَقَة، لِأَنَّهُ من صليبة بني هَاشم، فحين وجد لقطَة أمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بتعريفها، ثمَّ إِنَّه احْتَاجَ إِلَيْهَا، فلشدة حَاجته إِلَيْهَا أمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بإنفاقها، فَاشْترى بِهِ دَقِيقًا، فحين عرف صَاحب الدَّقِيق عليا - رَضِي الله عَنهُ - رد عَلَيْهِ الدِّينَار، فَاشْترى عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بِبَعْضِه لَحْمًا، وَلَعَلَّه أنْفق الْبَاقِي أَيْضا لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ باغيه غرمه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بدله، وَإِنَّمَا أذن لَهُ فِي إِنْفَاقه قبل مُضِيّ سنة التَّعْرِيف لشدَّة حَاجته إِلَيْهِ، مَعَ أَنه يحْتَمل أَن يكون(3/465)
عرفه سنة، فَلم ينْقل الرَّاوِي، أَو مَا كَانَ شرع تَعْرِيف السّنة جَاءَ بعد. وَالله أعلم.
وروى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن أَيُّوب بن مُوسَى عَن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن بدر أَن أَبَاهُ أخبرهُ أَنه نزل منزلا بطرِيق الشَّام، فَوجدَ صرة فِيهَا ثَمَانُون دِينَارا، فَذكر ذَلِك لعمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ لَهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " عرفهَا على أَبْوَاب الْمَسَاجِد واذكرها لمن تقدم من الشَّام سنة، فَإِذا مَضَت السّنة فشأنك بهَا ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - حِكَايَة عَن رجل عَن شُعْبَة عَن أبي قيس قَالَ: " سَمِعت هزيلاً يَقُول: " رَأَيْت عبد الله - يَعْنِي ابْن(3/466)
مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ - أَتَاهُ رجل بصرة مختومة، فَقَالَ: قد عرفتها وَلم أجد من يعرفهَا، قَالَ: استمتع بهَا ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَهَكَذَا السّنة الثَّابِتَة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِن عارضوا بروايتهم عَن عَامر عَن أَبِيه عَن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - أَنه اشْترى جَارِيَة فَذهب صَاحبهَا، فَتصدق بِثمنِهَا وَقَالَ: " اللَّهُمَّ، عَن صَاحبهَا، فَإِن كره فلي، وَعلي الْغرم "، ثمَّ قَالَ: " هَكَذَا نَفْعل باللقطة "، قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فخالفوا السّنة فِي اللّقطَة الَّتِي لَا حجَّة مَعهَا، وخالفوا حَدِيث عبد الله الَّذِي يُوَافق السّنة، وَهُوَ عِنْدهم ثَابت، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيث، وهم يخالفونه فِيمَا هُوَ فِيهِ بِعَيْنِه، لأَنهم لَا يَقُولُونَ كَمَا رووا عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - من قَوْله أَن المُشْتَرِي يتَصَدَّق بِثمن الْمَبِيع إِذا فقد البَائِع ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى يُوسُف بن خَالِد السَّمْتِي عَن زِيَاد عَن سمي عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسُئِلَ عَن اللّقطَة، قَالَ: " لَا تحل اللّقطَة، من الْتقط شَيْئا فليعرفه سنة، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فليردها إِلَيْهِ، وَإِن لم يَأْتِ صَاحبهَا فليتصدق بهَا، وَإِن جَاءَ فليخيره بَين الْأجر وَبَين الَّذِي لَهُ ".(3/467)
قَالَ يحيى بن معِين: " كَانَ يُوسُف السَّمْتِي يكذب ".
وَرُوِيَ ذَلِك من حَدِيث مَالك عَن سمي، وَهُوَ خطأ؛ وَالصَّحِيح من حَدِيث مَالك مَا رُوِيَ عَنهُ عَن ربيعَة عَن يزِيد عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، الحَدِيث الَّذِي تقدم، الْمُتَّفق على صِحَّته، / وَالْحمل فِي هَذَا الحَدِيث على مُحَمَّد بن مَعْرُوف بن مُوسَى الْأَبْهَرِيّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْرُوف.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه أفتى بذلك، وَعَاصِم ضَعِيف.
وَقد روينَا جَوَاز الْأكل عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا، ومذهبه أَيْضا، وبأسانيد صِحَاح مَوْصُولَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَسنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولى بالاتباع، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.(3/468)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع أَن رجلا وجد لقطَة فجَاء إِلَى عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " إِنِّي وجدت لقطَة فَمَاذَا ترى؟ " فَقَالَ لَهُ ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " عرفهَا "، قَالَ: " قد فعلت "، قَالَ " زد "، قَالَ: " قد فعلت "، قَالَ: " لَا آمُرك أَن تأكلها، وَلَو شِئْت لم تأخذها ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى -: " ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - لم يُوَقت فِي التَّعْرِيف وقتا، وَأَنْتُم توقتون، وَابْن عمر كره أكلهَا غَنِيا كَانَ أَو فَقِيرا، وَأَنْتُم لَيْسَ هَكَذَا تَقولُونَ، وَابْن عمر يكره لَهُ أَخذهَا، وَيكرهُ لَهُ أَن يتَصَدَّق بهَا، وَأَنْتُم لَا تَكْرَهُونَ، بل تستحبون، وتقولون: لَو تَركهَا ضَاعَت. وَلَعَلَّ ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - لم يسمع الحَدِيث فِي اللّقطَة ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (156) :
وَلَيْسَ لَهُ أَخذ الْإِبِل فِي الصَّحرَاء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ ذَلِك ".
لنا حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ - رَضِي الله عَنهُ -: " ... . وَسَأَلَهُ عَن ضَالَّة الْإِبِل، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَك وَلها؟ دعها، فَإِن مَعهَا حذاءها(3/469)
وسقاءها، ترد المَاء وتأكل الشّجر؛ حَتَّى يجِئ رَبهَا، وَسَأَلَهُ عَن الشَّاة، فَقَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَو لأخيك أَو للذئب "، اتفقَا على صِحَّته.
وَفِي رِوَايَة عِنْدهمَا فِي الصَّحِيح أَيْضا عَنهُ الحَدِيث، وَفِيه: " قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُول الله، فضَالة الْإِبِل؟ فَغَضب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه، أَو احمر وَجهه، وَقَالَ: مَا لَك وَلها؟ مَعهَا حذاؤها وسقاؤها حَتَّى يَأْتِيهَا رَبهَا ".
وَعند أبي دَاوُد عَن الْمُنْذر بن جرير، (قلا " كنت مَعَ جرير بالبوازيج، فجَاء الرَّاعِي بالبقر، وفيهَا بقرة لَيست مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ جرير) : مَا هَذِه؟ قَالَ: لحقت بالبقر، لَا يدْرِي لمن هِيَ، فَقَالَ جرير: أخرجوها، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا يأوي الضَّالة إِلَّا الضال ".(3/470)
وَرُوِيَ عَن الْجَارُود بن الْمُعَلَّى أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنَّا نصيب فِي أسفارنا إبِلا هوامل، فَهَل علينا بَأْس أَن نركبها، وننتفع بهَا؟ " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إياك وضالة الْمُسلم، فَإِنَّهَا حرق النَّار ".
مَسْأَلَة (157) :
وَلَا يسْتَحق الْجعل فِي رد الْآبِق من العبيد وَالْإِمَاء، والضوال من الْبَهَائِم إِلَّا بِالشّرطِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن رد العَبْد من مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَكَانَت قِيمَته أَرْبَعِينَ أَو اكثر اسْتحق أَرْبَعِينَ ".
رُوِيَ عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي جعل الْآبِق دِينَار قَرِيبا أَخذ أَو بَعيدا.
وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب أَن سعيد بن الْمسيب كَانَ يَقُول ذَلِك.
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يَقُول: " إِذا خرج من الْمصر فَجعله أَرْبَعُونَ درهما ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي العَبْد الْآبِق يُؤْخَذ فِي الْحرم بِعشْرَة دَرَاهِم ".(3/471)
وَلَا حجَّة لَهُم فِيمَا روينَا عَن عَليّ، (وَابْن عمر) - رَضِي الله عَنْهُم - لِأَن مَذْهَبهم بِخِلَاف ذَلِك.
وَلَا نقُول بِهِ؛ لضعف بعض رُوَاة الْحَدِيثين. وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - فَإِنَّهُ مُنْقَطع من هَذَا الْوَجْه، وأمثل مَا رُوِيَ فِيهِ عَن ابْن مَسْعُود (مَا روينَا فِيهِ عَن أبي عمر الشَّيْبَانِيّ، قَالَ: " أصبت غلماناً إباقاً بالغين، فَأتيت ابْن مَسْعُود) فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: الْأجر وَالْغنيمَة. قلت: هَذَا الْأجر، فَمَا الْغَنِيمَة؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ درهما من كل رَأس ".
وَلَعَلَّ ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - عرف شَرط مالكهم لمن ردهم، فَأخْبرهُ بذلك. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (158) :(3/472)
(صفحة فارغة)(3/473)
(صفحة فارغة)(3/474)
لَا يَصح إِسْلَام الصَّبِي بِنَفسِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يَصح إِذا كَانَ مُمَيّزا ".
رُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم، وَعَن الْمَعْتُوه حَتَّى يفِيق، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ ".
ورويناه عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".(3/475)
استدلوا بِحَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن غُلَاما / من الْيَهُود كَانَ يخْدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَرض، فَأَتَاهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعودهُ، فَقعدَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد رَأسه، (فَقَالَ أسلم) ، فَنظر الْغُلَام إِلَى أَبِيه (- وَهُوَ عِنْده -) ، فَقَالَ أطع أَبَا الْقَاسِم، فَأسلم، فَخرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَقُول: " الْحَمد لله الَّذِي أنقذه (بِي من النَّار) ، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
قُلْنَا: يحْتَمل أَنه كَانَ بَالغا، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ غُلَاما لعدم نَبَات لحيته، وَيحْتَمل أَن تكون صِحَة إِسْلَامه لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاطبه بِالْإِسْلَامِ. أَلا ترى أَن أَبَاهُ قَالَ: أطع أَبَا الْقَاسِم؟ وَإِذا كَانَ مَخْصُوصًا بِالْإِسْلَامِ كَانَ مَخْصُوصًا بِصِحَّتِهِ، نَحْو مَا نقُول فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فَإِن احْتج مُحْتَج بِأَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - أسلم فِي حَال من لم يبلغ، فعد ذَلِك إسلاماً، وَقيل: " كَانَ أول من أسلم "، فَقَالَ: " إِنَّمَا قَالَ النَّاس: أول من صلى عَليّ، رَضِي الله عَنهُ "، رُوِيَ ذَلِك عَن زيد بن أَرقم.
فَإِن قيل: " إِذا كَانَ هُوَ أول من صلى دلّ ذَلِك على صِحَة(3/476)
إِسْلَامه حِينَئِذٍ " فَجَوَابه مَا ذكره الشَّافِعِي - رَحمَه الله - من أَن الصَّلَاة قد تكون من الصَّغِير، وَالْحج. وَقد أشرفت امْرَأَة إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بصبي من هودج، فَقَالَت: " أَلِهَذَا حج؟ " قَالَ: " نعم، وَلَك أجر ".
وَقد رَأينَا الصَّغِير يرى الصَّلَاة فَيصَلي، وَهُوَ غير عَالم بِأَن الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَهُوَ غير عَارِف بِالْإِيمَان، فعلى ذَلِك كَانَ أَمر عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ أول من صلى، وَذَلِكَ أَنه رأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخَدِيجَة - رَضِي الله عَنْهَا - يصليان، فَفعل فعلهمَا، كَمَا يرى الصَّبِي أَبَوَيْهِ يصليان فَيصَلي بصلاتهما، وَلَيْسَ مِمَّن يعقل تَكْلِيف الصَّلَاة، وَلَا الْإِيمَان.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد اخْتلف النَّاس فِي سنّ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - يَوْم أسلم، فَذهب مُجَاهِد وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن يسَار إِلَى أَنه أسلم وَهُوَ ابْن عشر سِنِين، وَذهب شريك القَاضِي إِلَى أَنه أسلم وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة، (وَذهب أَبُو الْأسود وَغَيره إِلَى أَنه أسلم وَهُوَ ابْن ثِنْتَيْ عشرَة سنة) ، وَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَجَمَاعَة إِلَى أَنه أسلم وَهُوَ ابْن خمس عشرَة أَو سِتّ عشرَة.
وَهَذَا الَّذِي قَالَه الْحسن وَغَيره فِي سنّ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -(3/477)
صَحِيح على قَول من زعم أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مكث بِمَكَّة خمس عشرَة سنة، وَأَن عليا - رَضِي الله عَنهُ قتل وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ (سنة) .
روى ذَلِك مُسلم فِي الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " أَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّة خمس عشرَة سنة يسمع الصَّوْت. وَيرى الضَّوْء سبع سِنِين، وَلَا يرى شَيْئا، وثمان سِنِين يُوحى إِلَيْهِ، وَأقَام بِالْمَدِينَةِ عشرا ".
فعلى هَذَا التَّفْصِيل يكون إِسْلَام عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بعد السنين السَّبع، وَهُوَ بعد مَا أُوحِي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيكون مقَامه بِمَكَّة بعد الْوَحْي ثَمَان سِنِين، فَيكون عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي قَول من قَالَ: " قتل وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة " على رَأس أَرْبَعِينَ من مهَاجر النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقد رُوِيَ تَارِيخ قَتله - رَضِي الله عَنهُ - هَكَذَا عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى.
فَإِن كَانَ الصَّحِيح من هَذِه الرِّوَايَات قَول من زعم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أسلم وَهُوَ صبي لم يَحْتَلِم فقد قَالَ(3/478)
أَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ - رَحمَه الله -: " لما أمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاة فَهُوَ أحد شَيْئَيْنِ:
إِمَّا أَن يكون خصّه بِالْخِطَابِ لما صَار من أهل التَّمْيِيز والمعرفة دون سَائِر الصغار، ليَكُون ذَلِك كَرَامَة لَهُ ومنقبة، فَلَمَّا توجه عَلَيْهِ الْخطاب والدعوة صحت مِنْهُ الْإِجَابَة، وَسَائِر الصغار لَا يتَوَجَّه عَلَيْهِم الْخطاب والدعوة فَلَا يَصح مِنْهُم الْإِسْلَام.
اَوْ يكون خطاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام وَالصَّلَاة يَوْمئِذٍ على أَنه بَالغ عِنْده؛ لِأَن الْبلُوغ بِالسِّنِينَ لَيْسَ مِمَّا شرع فِي أول الْإِسْلَام، بل لَيْسَ يحفظ قبل قصَّة ابْن عمر فِي أحد وَالْخَنْدَق فِي ذَلِك شَيْء، فَالظَّاهِر أَن النَّاس كَانُوا يجرونَ فِي ذَلِك على رَأْيهمْ وَمَا تعارفوه من أَن الصَّبِي من لَا يُمكن أَن يُولد لَهُ، وَالرجل من يُمكن أَن يُولد لَهُ، وَكَانَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - ابْن عشر سِنِين لما أسلم، وَظَاهر من يُقَال إِنَّه ابْن عشر أَنه اسْتكْمل عشرا، أَو دخل فِي الْحَادِي عشر. وَمن بلغ هَذِه السن فقد يُمكن من أَن يُولد بِهِ. فَلَمَّا شرع الْبلُوغ بعد ذَلِك السنين، وَنظر إِلَى السن الَّتِي كل من بلغَهَا جَازَ أَن يُولد لَهُ دون السن الَّتِي ينْدر مِمَّن بلغَهَا الإيلاد، وَكَانَ من قصرت سنوه عَن ذَلِك الْحَد صَغِيرا فِي الحكم، وَلم يجز أَن يَصح إِسْلَامه، وَالله أعلم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: فعلى قَول من قَالَ: " أسلم عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة " صَحَّ إِسْلَامه. (وعَلى قَول من زعم أَنه أسلم وسنه دون ذَلِك صَحَّ إِسْلَامه) أَيْضا على الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا الْحَلِيمِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى.(3/479)
وَصَحَّ أَيْضا على قَول من زعم أَن إِسْلَام الصَّبِي مَوْقُوف على بُلُوغه، ومكثه عَلَيْهِ، فقد بلغ، وَمكث عَلَيْهِ، رضوَان الله عَلَيْهِ وَسَلَامه. وَهَذِه طَريقَة بعض أَصْحَابنَا.
فَإِن رجحوا قَول من قَالَ: " أسلم وَهُوَ صَغِير غير بَالغ " بِمَا نروي عَنهُ - رَضِي الله عَنهُ - من قَوْله: " سبقتهم إِلَى الْإِسْلَام قدما ً غُلَاما مَا بلغت أَوَان حلمي "، فَهَذَا وَإِن كَانَ شَائِعا بَين النَّاس، إِلَّا أَنه لم يَقع إِلَيْنَا بِإِسْنَاد إِلَيْهِ - رَضِي الله عَنهُ - يحْتَج بِمثلِهِ، ثمَّ يحْتَمل أَن يكون قد بلغ الْحلم؛ قَوْله: " مَا بلغت أَوَان حلمي " أَي: أَوَان احْتِلَام أمثالي، أَو كَانَ قد بلغ بِالسِّنِّ، على مَا قَالَه الْحسن وَغَيره، دون الِاحْتِلَام، وَالله أعلم.
وَأما الزبير بن الْعَوام - رَضِي الله عَنهُ - فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن عُرْوَة فِي مبلغ سنه يَوْم أسلم؛ فَروِيَ عَن أبي الْأسود عَنهُ قَالَ: " أسلم الزبير وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين ".
وَرُوِيَ عَن هِشَام ابْنه عَنهُ أَن الزبير - رَضِي الله عَنهُ - أسلم يَوْم أسلم وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة، فَمَا تخلف عَن غَزْوَة غَزَاهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطّ، وَقتل وَهُوَ ابْن بضع وَسِتِّينَ سنة ".
وَهَذِه الرِّوَايَة أولى؛ فولد الرجل أعرف بِهِ. وَالله أعلم.(3/480)
كتاب الْفَرَائِض
رُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أرْحم أمتِي بأمتي أَبُو بكر، وأشدهم فِي دين الله عمر، وأصدقهم حَيَاء عُثْمَان، وأعلمهم بالحلال وَالْحرَام معَاذ بن جبل، وأعلمهم بِمَا أنزل الله عَليّ أبي بن كَعْب، وأفرضهم زيد بن ثَابت، وَأمين هَذِه الْأمة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح " وَالله الْمُوفق.
مَسْأَلَة (159)
ذَوُو الْأَرْحَام لَا يَرِثُونَ إِرْث ذَوي النّسَب. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: (إِنَّهُم يَرِثُونَ) .(4/5)
قَالَ الله عز وَجل: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، الْآيَات فِي الْمِيرَاث.
وَقَالَ: {يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة} إِلَى آخر الْآيَة.
وَاتفقَ البُخَارِيّ وَمُسلم على صِحَة مَا رُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: عادني رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر فِي بني سَلمَة، فوجدني لَا أَعقل، فَدَعَا بِمَاء، فَتَوَضَّأ، فرش عَليّ مِنْهُ، فَأَفَقْت، فَقلت: كَيفَ أصنع فِي مَالِي يَا رَسُول الله؟ فَنزلت: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
وَفِي رِوَايَة عِنْدهمَا أَيْضا عَنهُ: " دخل عَليّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا مَرِيض، فَتَوَضَّأ، ونضح 0 عَليّ من وضوئِهِ، فَقلت: يَا رَسُول الله إِنَّمَا يَرِثنِي كَلَالَة، فَكيف الْمِيرَاث؟ فَنزلت اية الْفَرْض ".
فجابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن كَيْفيَّة الْمِيرَاث، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَات فِيهِ، وَبَين حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُم فَلَا(4/6)
يُزَاد عَلَيْهِ، وَلم يذكر الْخَال، وَغَيره من ذَوي الْأَرْحَام، فَلَا يَرِثُونَ، لقَوْل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حَقه ". وَلَا نجد لَهُم فِي الْكتاب الْعَزِيز حَقًا مَذْكُورا.
وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ كتب كتابا فِي شَأْن الْعمة؛ ليسأل عَنْهَا ويستخبر، ثمَّ محاه بِالْمَاءِ، وَقَالَ: " لَو رضيك الله لأقرك، وَإنَّهُ كَانَ يَقُول للعمة تورث، وَلَا تَرث ".
وَرُوِيَ عَنهُ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَذْكُور فِي آخر هَذِه الْمَسْأَلَة، وَمَا روينَا هَهُنَا رِوَايَة الْمَدَنِيين، وهم أعرف بمذهبه من غير أهل بَلَده.
وَرُوِيَ أَن شريحا قضى بميراث أم ولد أخي شُرَيْح بن الْحَارِث لِابْنِ ابْنَتهَا دون شُرَيْح بن الْحَارِث، وَقَالَ: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} فَأخْبر ابْن الزبير(4/7)
بذلك، فَكتب إِلَيْهِ، " أَن ميسرَة بن يزِيد ذكر لي كَذَا وَكَذَا، وَأَنَّك قلت عِنْد ذَلِك: {وأؤلوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} وَإِنَّمَا كَانَت تِلْكَ الْآيَة فِي شَأْن الْعصبَة، كَانَ الرجل يعاقد الرجل، فَيَقُول: ترثني، وأرثك، فَلَمَّا نزلت ترك ذَاك "، فَأبى شُرَيْح أَن يرد قَضَاءَهُ، وَقَالَ: " فَإِنَّهُ إِنَّمَا أعْتقهَا حسان بَطنهَا ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا {وَالَّذين عقدت أَيْمَانكُم فأتوهم نصِيبهم} ، كَانَ الرجل يحالف الرجل لَيْسَ بَينهمَا نسب، فيرث أَحدهمَا الآخر، فنسخ ذَلِك الْأَفْعَال، فَقَالَ: {وأؤلوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} .
وَعنهُ أَيْضا: {وَالَّذين ءامنوا وَهَاجرُوا} ، {وَالَّذين ءامنوا وَلم يهاجروا} كَانَ الْأَعرَابِي لَا يَرث المُهَاجر، وَلَا يَرِثهُ المُهَاجر، فنسخها {وأؤلوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} .(4/8)
وَإِلَى هَذَا ذهب الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ: (فَنزل قَوْله: {وأؤلوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} على معنى مَا فرض الله، وَسن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَا مُطلقًا هَكَذَا، أَلا ترى أَن الزَّوْج يَرث أَكثر مِمَّا يَرث ذَوُو الْأَرْحَام، وَلَا رحم لَهُ؟ أَولا ترى أَن ابْن الْعم الْبعيد يَرث المَال كُله، وَلَا يَرث الْخَال، وَالْخَال أقرب رحما مِنْهُ؟) .
وَذكر أَيْضا تَوْرِيث الموَالِي دون ذَوي الْأَرْحَام، وَلَا رحم لَهُم، قَالَ: (فَإِنَّمَا مَعْنَاهَا على مَا وصفت لَك من أَنَّهَا على مَا فرض الله، وَسن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) .
وَمَا رُوِيَ عَن الْمِقْدَام الْكِنْدِيّ رَضِي الله عَنهُ، عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث فِيهِ (وَالْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ، يَرث مَاله، وَيعْقل عَنهُ) فَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، رَوَاهُ رَاشد بن سعد، وَأَبُو عَامر عبد الله بن لحي الْهَوْزَنِي وهما مِمَّن لم يحْتَج بهما الشَّيْخَانِ، رحمهمَا الله، وَهُوَ حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ، رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَإِسْنَاده ضَعِيف، غير مُحْتَج بِهِ، وَكَانَ يحيى بن معِين يبطل هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: (لَيْسَ فِيهِ حَدِيث قوي) .(4/9)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَإِن صَحَّ حَدِيث الْمِقْدَام فَإِنَّمَا ورث فِيهِ خالا يعقل عَنهُ، وَالْخَال الَّذِي يعقل عَنهُ هُوَ أَن يكون ابْن عَم لَهُ، أَو معتقا، أَو سُلْطَانا، فَأَما الْخَال الَّذِي يورثونه بالرحم فَإِنَّهُ لَا يعقل عَنهُ فَكَذَلِك لَا يَرِثهُ، وَالله أعلم ".
وَرُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بن الْحَارِث بن عَيَّاش بن أبي ربيعَة عَن حَكِيم (بن حَكِيم) بن عباد بن حنيف عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف، فَذكر حَدِيثا فِيهِ " فَكتب عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُول: الله وَرَسُوله مولى من لَا مولى لَهُ، وَالْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ " وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، وَحَكِيم بن حَكِيم غير مُحْتَج بهما فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن مُسلم عَن طَاوس عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: (الله وَرَسُوله مولى من لَا مولى لَهُ، وَالْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ) رَفعه (وهم، وَالصَّوَاب مَوْقُوف، كَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن(4/10)
ابْن جريج مَوْقُوفا، وَكَانَ) أَحْمد بن حَنْبَل، وَيحيى بن معِين يَقُولَانِ: (عَمْرو بن مُسلم صَاحب طَاوس لَيْسَ بِالْقَوِيّ) .
وَرُوِيَ عَن ابْن طَاوس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا.
وَرُوِيَ عَن شريك عَن لَيْث عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (ورث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخَال) .
وَفِي رِوَايَة (الْخَال وَارِث) .
وَشريك غير مُحْتَج بِهِ، وَلَيْث بن أبي سليم ضَعِيف فِي الحَدِيث، قد سبق ذكره، وَلم يرو هَذَا الحَدِيث من وَجه يَصح، وَقد رُوِيَ بِخِلَافِهِ مُرْسلا عَن عَطاء بن يسَار عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن جَعْفَر الْمدنِي عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: (أقبل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على حمَار، فَلَقِيَهُ رجل، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، رجل ترك عمته وخالته، لَا وَارِث لَهُ غَيرهمَا، قَالَ: فَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ: اللَّهُمَّ رجل ترك عمته وخالته، لَا وَارِث لَهُ غَيرهمَا، ثمَّ قَالَ: أَيْن السَّائِل؟ قَالَ هَا أَنا، قَالَ: لَا مِيرَاث لَهما) ، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: (هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد فَإِن عبد الله بن جَعْفَر لَيْسَ مِمَّن يتْرك حَدِيثه، وَله شَاهد،(4/11)
وَذكر حَدِيثا عَن الْحَارِث بن عبد الله عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَعْنَاهُ ".
وَعَن عَطاء بن يسَار عَن أَبى سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ كَذَلِك.
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن الزُّهْرِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْعمة بِمَنْزِلَة الْأَب إِذا لم يكن بَينهمَا أَب، وَالْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم إِذا لم يكن بَينهمَا أم " وَعَن قيس بن الرّبيع عَن عَيَّاش بن عَمْرو عَن عبد الله بن شَدَّاد، قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْخَالَة وَالِدَة "، مرسلان، وإسنادهما ضَعِيف.
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن عقبَة عَن(4/12)
مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان عَن عَمه وَاسع بن حبَان رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه سَأَلَ عَاصِم بن عدي عَن ثَابت بن الدحداح - وَتُوفِّي -: هَل تعلمُونَ لَهُ نسبا، فِيكُم؟ فَقَالُوا: لَا، إِنَّمَا هُوَ أَنِّي، قَالَ: فَقضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بميراثه لِابْنِ أُخْته " هَذَا مُنْقَطع.
وَقد أجَاب الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى - فِي الْقَدِيم، فَقَالَ: ثَابت بن الدحداح قتل يَوْم أحد قبل أَن تنزل الْفَرَائِض " قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " قَتله يَوْم أحد فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب فِي قصَّة ذكرهَا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَإِنَّمَا نزلت آيَة الْفَرَائِض فِيمَا يثبت أَصْحَابنَا فِي بَنَات مَحْمُود بن مسلمة، وَقتل يَوْم خَيْبَر، وَقد قيل: نزلت بعد أحد فِي بَنَات سعد بن الرّبيع، وَهَذَا كُله بعد أَمر(4/13)
ثَابت بن الدحداح، وَقد ذكرنَا أَسَانِيد مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - فِي كتاب السّنَن.
وَفِي سُؤال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن وَارثه، (وجوابهم لَهُ) دلَالَة على أَنه لم يكن لَهُ وَارِث، وَأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا دفع الْمِيرَاث لِابْنِ أُخْته على طَرِيق الْمصلحَة.
كَمَا رُوِيَ عَن بُرَيْدَة رَضِي الله عَنهُ وَغَيره " أَن رجلا توفّي من خُزَاعَة، فَأتي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بميراثه، فَقَالَ: انْظُرُوا هَل من وَارِث فالتمسوه، فَلم يَجدوا لَهُ وَارِثا، فَأخْبر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادفعوه إِلَى أكبر خُزَاعَة ".
وَهَذَا إِنَّمَا دَفعه إِلَيْهِ على طَرِيق الْمصلحَة، لَا بالتوريث، فَكَذَلِك فِي قصَّة ابْن الدحداح إِن كَانَ صَحِيحا، وَالله أعلم.
وَلَا حجَّة لَهُم فِي حَدِيث سعد بن أبي وَقاص بقوله: " وَلَا يَرِثنِي إِلَّا ابْنة لي "، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَن يتَصَدَّق بِأَكْثَرَ مَاله، إِذْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا ابْنة وَاحِدَة، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَن ابْنَته تَرث جَمِيع مَاله، فقد كَانَ لسعد بَنو أعمام من بني زهرَة يَرِثُونَ بَقِيَّة مَاله بِالْإِجْمَاع، فَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على جَوَاز رده على الْبِنْت.(4/14)
وتوريث ذَوي الْأَرْحَام خلاف فِي الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم وَمن قَالَ بتوريثهم قدموهم على الموَالِي، إِلَّا فِي رِوَايَة ضَعِيفَة عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ.
والعراقيون يقدمُونَ الموَالِي على ذَوي الْأَرْحَام، وَلَيْسَ لَهُم أثر صَحِيح فِي ذَلِك. وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ عَن خَارِجَة بن زيد قَالَ: " رَأَيْت أبي يَجْعَل فضول المَال فِي بَيت المَال، وَلَا يرد على وَارِث شَيْئا ".
وَعَن سُوَيْد بن غَفلَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " أَنه سُئِلَ عَن امْرَأَة تركت زَوجهَا وَأمّهَا، فَجعل لزَوجهَا النّصْف، ولأمها الثُّلُث، ثمَّ رد مَا بَقِي على أمهَا.
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يرد على كل وَارِث الْفضل بِحِصَّة مَا يُورث غير " الْمَرْأَة وَالزَّوْج ".(4/15)
وَعَن مَسْرُوق قَالَ: " أُتِي عبد الله فِي إخْوَة لأم وَأم، فَأعْطى الْإِخْوَة من الْأُم الثُّلُث، وَأعْطى الْأُم سَائِر المَال، وَقَالَ: الْأُم عصبَة
من لَا عصبَة لَهُ. وَكَانَ لَا يرد على الْإِخْوَة لأم مَعَ أم، وَلَا على ابْنة ابْن مَعَ بنت الصلب، وَلَا على أُخْت لأَب مَعَ أُخْت لأَب وَأم، وَلَا على امْرَأَة، وَلَا على جدة، وَلَا على زوج ".
وَعَن جَابر بن زيد " أَن امْرَأَة هَلَكت / وَلم يعلم لَهَا وَارِث، وَلَا عصبَة، وَلها زوج، فَقضى عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن لزَوجهَا مَالهَا ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " أُتِي زِيَاد فِي رجل ترك عمته وخالته، قَالَ: هَل تَدْرُونَ كَيفَ قضى عمر فِيهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: وَالله إِنِّي لأعْلم النَّاس بِقَضَاء عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِيهَا، جعل الْعمة بِمَنْزِلَة الْأَخ، وَالْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُخْت، فَأعْطى الْعمة الثُّلثَيْنِ، وَالْخَالَة الثُّلُث ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحسن، وَجَابِر بن زيد، وَبكر بن عبد الله الْمُزنِيّ: " أَن عمر رَضِي الله عَنهُ جعل للعمة الثُّلثَيْنِ، وللخالة الثُّلُث ".(4/16)
وَقد روينَا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف هَذَا فِي رِوَايَة الْمَدَنِيين عَنهُ، وَهِي أصح، فهم أهل بلدته، وَأعرف بقضاياه من غَيرهم.
وَرُوِيَ عَن مَسْرُوق عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم، والعمة بِمَنْزِلَة الْأَب، وَابْنَة الْأَخ بِمَنْزِلَة الْأَخ، وكل ذِي رحم بِمَنْزِلَة الرَّحِم الَّذِي يَلِيهِ إِذا لم يكن وَارِث ذُو قرَابَة ".
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيمَا بلغه عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: " كَانَ عمر وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا يورثان الْأَرْحَام دون الموَالِي "، قَالَ: " وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَشَّدهم فِي ذَلِك "، قَالَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى: " وَلَيْسوا يَقُولُونَ بِهَذَا إِذا لم يكن أهل فَرَائض مُسَمَّاة، وَلَا عصبَة ورثنا الموَالِي ".
وَرُوِيَ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن حَيَّان الْجعْفِيّ، قَالَ: " كنت عِنْد سُوَيْد بن غَفلَة، فَأتي فِي ابْنة، وَامْرَأَة، وَمولى، فَقَالَ: كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يُعْطي الِابْنَة النّصْف، وَالْمَرْأَة الثّمن، وَيرد مَا بَقِي على الْبِنْت ".
فَهَذِهِ رِوَايَة مَوْصُولَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف مَا قَالُوا، وَإِنَّمَا رُوِيَ مثل مَذْهَبهم عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ من رِوَايَة قطر،(4/17)
وَالْحسن بن عمَارَة عَن الحكم بن عُيَيْنَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مُنْقَطِعًا. وَعَن مُحَمَّد بن سَالم عَن الشّعبِيّ مُنْقَطِعًا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ. وَعَن سَلمَة بن كهيل قَالَ: " رَأَيْت الْمَرْأَة الَّتِي ورثهَا عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَأعْطى الْبِنْت النّصْف، والموالي النّصْف "، وَهَذِه الْمَرْأَة مَجْهُولَة.
وَالرِّوَايَة الموصولة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك. وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ بزعمهم أعرف بِمذهب عَليّ، وَعبد الله رَضِي الله عَنهُ من غَيره، وَقد روى عَنْهُمَا تقديمهما الرَّد، وتوريث ذَوي الْأَرْحَام على الموَالِي.
والعراقيون يخالفونهما فِي ذَلِك، ويخالفون زيدا وَعمر بن الْخطاب رَضِي رَضِي الله عَنْهُمَا فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن - عمر رَضِي الله عَنْهُمَا - وَهِي(4/18)
رِوَايَة الْمَدَنِيين. وَالله أعلم. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ أعلم بِالصَّوَابِ، لَا إِلَه إِلَّا هُوَ.
مَسْأَلَة (160) :
وَلَا يَرث من قبل الْأَب إِلَّا جدة وَاحِدَة على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَهِي أم الْأَب، وأمهاتها. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " تَرث أم أَب لأَب أَيْضا، وَهُوَ القَوْل الآخر، وَهُوَ الصَّحِيح ".
روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُثْمَان بن إِسْحَاق عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب قَالَ: " جَاءَت الْجدّة إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ تسأله مِيرَاثهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: مَا لَك فِي كتاب الله شَيْء، وَمَا علمت لَك فِي سنة نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا، فارجعي، حَتَّى أسأَل النَّاس، فَسَأَلَ النَّاس، فَقَالَ لَهُ الْمُغيرَة بن(4/19)
شُعْبَة: حضرت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهَا السُّدس، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: هَل مَعَك غَيْرك؟ فَقَامَ مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ مثل مَا قَالَ الْمُغيرَة، فأنفذ لَهَا أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ جَاءَت الْجدّة الْأُخْرَى إِلَى عمر - رَضِي الله عَنهُ - تسأله (مِيرَاثهَا) ، فَقَالَ: مَا لَك فِي كتاب الله شَيْء، وَمَا كَانَ الْقَضَاء الَّذِي قضي بِهِ إِلَّا لغيرك، وَمَا أَنا فِي الْفَرَائِض بزائد شَيْئا، وَلَكِن هُوَ ذَلِك السُّدس، فَإِن اجتمعتما فِيهِ فَهُوَ بَيْنكُمَا، وأيتكما خلت فَهُوَ لَهَا ".
وروى مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: " أَتَت الجدتان إِلَى أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - فَأَرَادَ أَن يَجْعَل السُّدس للَّتِي من قبل الْأُم، فَقَالَ لَهُ رجل / من الْأَنْصَار: أما أَنَّك لتترك الَّتِي لَو ماتتا، وَهُوَ حَيّ كَانَ إِيَّاهَا يَرث، فَجعل أَبُو بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - السُّدس بَينهمَا "، تَابعه سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد، وَقَالَ فِيهِ: " فَقل لَهُ عبد الرَّحْمَن بن سهل بن حَارِثَة - وَقد كَانَ شهد بَدْرًا وَقَالَ مرّة رجل من بني حَارِثَة -: يَا أَبَا بكر، يَا خَليفَة رَسُول الله، أَعْطَيْت الَّتِي لَو أَنَّهَا مَاتَت لم يَرِثهَا، فَجعله بَينهمَا ".(4/20)
فَمن قَالَ بالْقَوْل الأول زعم أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا ورث جدتين، وَكَذَلِكَ عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَا يُورث أَكثر مِنْهُمَا.
وروى مَالك عَن عبد الله " أَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام كَانَ لَا يفْرض إِلَّا لجدتين ".
وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: " لَا نعلمهُ ورث فِي الْإِسْلَام إِلَّا جدتين "، وَهَذَا قَول ربيعَة أَيْضا.
وَرُوِيَ عَن سعد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَنْتُم الَّذين تفرضون لثلاث جدات "، كَأَنَّهُ يُنكر ذَلِك.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " ورث حَوَّاء من بَينهَا "، وَإِسْنَاده لَيْسَ بذلك.
قَالَ مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي رَحمَه الله تَعَالَى: " جَاءَت(4/21)
الْأَخْبَار عَن جمَاعَة من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَمَاعَة من التَّابِعين رَضِي الله عَنْهُم أَنهم ورثوا ثَلَاث جدات، مَعَ الحَدِيث الْمُنْقَطع الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَنه ورث ثَلَاث جدات، وَلَا نعلم عَن أحد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خلاف ذَلِك، إِلَّا مَا روينَا عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ مِمَّا لَا يثبت عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ إِسْنَاده ".
وَهَذَا الحَدِيث الْمُنْقَطع رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم، وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد، وفسراه بأنهن ثِنْتَيْنِ من قبل الْأَب، وَوَاحِدَة من قبل الْأُم.
وَرُوِيَ أَيْضا عَن الْحسن " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورث ثَلَاث جدات ".
وَعَن مُحَمَّد فِي الْجدَّات الْأَرْبَع " أَن عمر رَضِي الله عَنهُ اطمعهن السُّدس ".
وَرَوَاهُ خَارِجَة بن زيد بن ثَابت عَن أَبِيه " أَنه كَانَ يُورث ثَلَاث جدات إِذا استوين ثِنْتَيْنِ من قبل الْأَب، وَوَاحِدَة من قبل الْأُم ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " كَانَ عَليّ، وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا يعطيان الْجدّة، أَو اثْنَتَيْنِ، أَو الثَّلَاث السُّدس، لَا ينقصن مِنْهُ، وَلَا يزدن عَلَيْهِ إِذا كَانَت قراباتهن إِلَى الْمَيِّت سَوَاء، فَإِن كَانَت إِحْدَاهُنَّ أقرب فالسدس(4/22)
لَهَا دونهن ".
وَكَانَ عبد الله يُشْرك بَين أقربهن وأبعدهن فِي السُّدس.
وَعنهُ " أَن زيد بن ثَابت وعليا رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا يورثان ثَلَاث جدات: ثِنْتَيْنِ من قبل الْأَب، وَوَاحِدَة من قبل الْأُم ".
وَعَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " تَرث الْجدَّات الْأَرْبَع جمع "، وَهُوَ قَول مَسْرُوق، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَالشعْبِيّ، وَغَيرهم من التَّابِعين، رَضِي الله عَنْهُم.
مَسْأَلَة (161) :
الْقُرْبَى من قبل الْأُم تحجب البعدى من قبل الْأَب، والقربى من قبل الْأَب لَا تحجب البعدى من جِهَة الْأُم فِي الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَهُوَ أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله عَنهُ.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْقُرْبَى من الْجدَّات تحجب البعدى سَوَاء كَانَ من قبل الْأَب، أَو من قبل الْأُم ".(4/23)
رُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب عَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا اجْتمعت جدتان، فبينهما السُّدس، وَإِذا كَانَت الَّتِي من قبل الْأُم أقرب من الْأُخْرَى فالسدس لَهَا، وَإِذا كَانَت الَّتِي من قبل الْأَب أقرب فَهُوَ بَينهم ". وَبِمَعْنَاهُ رُوِيَ عَن خَارِجَة بن زيد عَن أَبِيه.
وَعَن عَمْرو بن وهيب عَن أَبِيه عَن زيد أَنه كَانَ يَقُول: " إِذا كَانَت الْجدّة من قبل الْأُم أقعد من الْجدّة من قبل الْأَب، فَهِيَ أَحَق بالسدس، فَإِذا كَانَت الْجدّة من الْأَب أقعد، (أشركت بَينهمَا) وَبَين جدة الْأُم ".
قيل: وَكَيف صَارَت الْجدّة مَعَ الْأُم بِهَذِهِ الْمنزلَة؟ قَالَ: لِأَن الْجدَّات إِنَّمَا أطعمن السُّدس من قبل سدس الْأُم.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ " أَن عليا وزيدا كَانَا يورثان الْقُرْبَى من الْجدَّات ".
وَفِي رِوَايَة: " كَانَ عَليّ وَزيد يورثان من الْجدَّات الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب ".
وَعَن الشّعبِيّ " فِي رجل ترك جدتيه: أم أَبِيه، وَأم أمه، وَجدّة الْأَب، قَالَ عَليّ وَزيد: لأم الْأُم السُّدس، وَكَانَا يَقُولَانِ: السُّدس لأَقْرَب الْجدَّات ".
وَقَالَ عبد الله: " السُّدس بَينهمَا سَوَاء، فَإِن كَانَت أم الْأُم،(4/24)
وجدتي الْأَب أشرك بَينهُنَّ فِي السُّدس، إِذا كَانَتَا الجدتين من قبل الْأَب نسبتهما سَوَاء، فَإِن كَانَت إِحْدَاهمَا أقرب من الْأُخْرَى أشرك بَين الدُّنْيَا، وَأم الْأُم، وَسَقَطت القصوى ".
فَمن قَالَ بتوريث الْقُرْبَى من الْجدَّات دون البعدى سَوَاء كَانَت الْقُرْبَى من قبل الْأُم والبعدى من قبل الْأَب، أَو البعدى من قبل الْأَب، والقربى من قبل الْأُم، احْتج بِرِوَايَة الشّعبِيّ عَن عَليّ وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا وَهَذِه رِوَايَة مُطلقَة، وَرِوَايَة الْمَدَنِيين عَن زيد مفسرة، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالطلقة، مَا فسره أهل الْمَدِينَة عَنهُ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (162) :
وَالإِخْوَة وَالْأَخَوَات للْأَب وَالأُم، وَللْأَب يقاسمون الْجد مَا دَامَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من الثُّلُث، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْجد أولى بِالْمِيرَاثِ مِنْهُم.
رُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله، وَسَعِيد بن الْمسيب وَقبيصَة قَالُوا: " قضى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَن الْجد يقاسم الْإِخْوَة للْأَب وَالأُم، وَالإِخْوَة للْأَب مَا كَانَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من ثلث المَال، وَإِن كثرت الْإِخْوَة أعطَاهُ الثُّلُث، وَكَانَ للإخوة مَا بَقِي {فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، وَقضى أَن بني الْأَب وَالأُم هم أولى(4/25)
بذلك من بني الْأَب: ذكرهم، وَنِسَاؤُهُمْ، غير أَن بني الْأَب يقاسمون بالجد لبني الْأَب وَالأُم، ثمَّ يردون عَلَيْهِم، وَلَا يكون لبني الْأَب شَيْء مَعَ بني الْأَب وَالأُم، وَبَنُو الْأَب يردون على بَنَات الْأَب وَالأُم، وَإِن بَقِي شَيْء بعد فَرَائض بَنَات الْأَب وَالأُم فَهُوَ للإخوة للْأَب {فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
وَرُوِيَ عَن سعيد بن سُلَيْمَان بن زيد بن ثَابت عَن أَبِيه عَن جده " أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ اسْتَأْذن عَليّ يَوْمًا، فَأذن لَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَو أرْسلت إِلَيّ جئْتُك، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: إِنَّمَا الْحَاجة لي، إِنِّي جئْتُك لتنظر فِي أَمر الْجد، فَقَالَ زيد رَضِي الله عَنهُ: لَا وَالله، مَا تَقول فِيهِ، فَقَالَ عمر: لَيْسَ هُوَ بِوَحْي حَتَّى تزيد فِيهِ، وتنقص مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ شَيْء ترَاهُ، فَإِن رَأَيْته واقفني تَبعته، وَإِلَّا لم يكن عَلَيْك فِيهِ شَيْء، فَأبى زيد، فَخرج مغضبا، ثمَّ أَتَاهُ مرّة أُخْرَى، فَلم يزل بِهِ حَتَّى قَالَ: فسأكتب لَك فِيهِ، فَكَتبهُ فِي قِطْعَة قتب، وَضرب لَهُ مثلا إِنَّمَا مثله مثل شَجَرَة تنْبت على سَاق وَاحِد، فَخرج فِيهَا غُصْن، ثمَّ خرج فِي غُصْن غُصْن آخر، والساق يسْقِي الْغُصْن، فَإِن قطعت الْغُصْن الأول رَجَعَ المَاء إِلَى الْغُصْن، وَإِن قطعت الثَّانِي رَجَعَ المَاء إِلَى الأول فَأتي بِهِ، فَخَطب النَّاس عمر رَضِي الله عَنهُ ثمَّ قَرَأَ قِطْعَة القتب عَلَيْهِم، ثمَّ قَالَ: إِن زيد بن ثَابت قد قَالَ(4/26)
فِي الْجد قولا، وَقد أمضيته، قَالَ: وَكَانَ أول جد كَانَ، فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ المَال كُله، مَال ابْن ابْنه دون إخْوَته، فَقَسمهُ بعد ذَلِك عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " كَانَ رَأْي أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن يجعلا الْجد أولى من الْأَخ ".
وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يكره الْكَلَام فِيهِ، فَلَمَّا صَار عمر رَضِي الله عَنهُ جدا، قَالَ: هَذَا أَمر قد وَقع لَا بُد للنَّاس من مَعْرفَته، فَأرْسل إِلَى زيد، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَا تجْعَل شَجَرَة نَبتَت، فانشعب مِنْهَا غُصْن، فانشعب فِي الْغُصْن غُصْن فَمَا يَجْعَل الْغُصْن الأول أولى من الْغُصْن الثَّانِي، وَقد خرج الْغُصْن من الْغُصْن، قَالَ: فَأرْسل إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ كَمَا قَالَ زيد إِلَّا أَنه جعله سَبِيلا سَالَ، فانشعب مِنْهُ شُعْبَة، ثمَّ انشعبت مِنْهُ شعبتان، فَقَالَ: أَرَأَيْت لَو أَن هَذِه الشعبة الْوُسْطَى رَجَعَ أَلَيْسَ إِلَى الشعبتين جَمِيعًا؟ فَقَامَ عمر رَضِي الله عَنهُ فَخَطب النَّاس، فَذكر الحَدِيث بِمَعْنى مَا مضى ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: أول جد ورث فِي الْإِسْلَام عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، مَاتَ ابْن فلَان بن عمر، فَأَرَادَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَن يَأْخُذ المَال دون إخْوَته، فَقَالَ لَهُ عَليّ وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا لَيْسَ لَك ذَلِك، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: لَوْلَا أَن رأيكما اجْتمع لم أر أَن يكون(4/27)
ابْني، وَلَا أكون أَبَاهُ، هَذَا مُرْسل جيد ".
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد قَالَ: " أَخذ / أَبُو الزِّنَاد هَذِه الرسَالَة من خَارِجَة بن زيد بن ثَابت، وَمن كَبِير آل زيد:
" بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، لعبد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ (من زيد بن ثَابت ... .) فَذكر الرسَالَة بِطُولِهَا، وفيهَا: " لقد كنت كلمت أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي شَأْن الْجد وَالإِخْوَة من الْأَب كلَاما شَدِيدا، وَأَنا يَوْمئِذٍ أَحسب أَن الْإِخْوَة أقرب حَقًا فِي أخيهم من الْجد، وَيرى يَوْمئِذٍ هُوَ أَن الْجد أقرب من الْإِخْوَة "، فَذكر محاورتهما فِي ذَلِك، ثمَّ اجْتِمَاعهمَا على قسْمَة المَال بَينهم على التَّرْتِيب الَّذِي نَقَلْنَاهُ فِي كتاب السّنَن.
ثمَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يُشْرك بَين الْجد، وَالإِخْوَة، وَالْأَخَوَات لأَب وَأم، أَو لأَب، وَكَيْفِيَّة تشريكهم بَينهم مَذْكُور فِي كتاب السّنَن.
استدلوا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " جعله الَّذِي قَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَو كنت متخذا خَلِيلًا لاتخذته يَعْنِي أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ - جعل الْجد أَبَا "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.(4/28)
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ " أَن أَبَا بكر، وَابْن عَبَّاس، وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، كَانُوا يجْعَلُونَ الْجد أَبَا يَرث مَا يَرث، ويحجب مَا يحجب ".
وَعَن طَاوس " أَن عُثْمَان، وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، كَانَا يجعلان الْجد أَبَا " وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (163) :
وَمَال الْمُرْتَد إِذا مَاتَ على ردته، أَو قتل فَيْء للْمُسلمين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " مَا كَانَ لَهُ قبل ردته فَهُوَ لوَرثَته الْمُسلمين ".
فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أُسَامَة بن زيد رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر، وَلَا الْكَافِر الْمُسلم ". وَهُوَ عِنْد مُسلم أَيْضا بِمَعْنَاهُ.
وَعند أبي دَاوُد عَن يزِيد بن الْبَراء عَن أَبِيه قَالَ: " لقِيت عمي وَمَعَهُ راية، فَقلت: أَيْن تُرِيدُ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رجل نكح امْرَأَة أَبِيه، فَأمرنِي أَن أضْرب عُنُقه، وآخذ مَاله ". وَالْمرَاد بِهَذَا(4/29)
النِّكَاح الْوَطْء، وَقد رُوِيَ " إِلَى رجل عرس بِامْرَأَة أَبِيه ".
وَقد حمل بعض أَصْحَابنَا على أَنه نَكَحَهَا مُعْتَقدًا الْإِبَاحَة، فَصَارَ بِهِ مُرْتَدا، أوجب قَتله، وَأخذ مَاله، فبالإجماع لَا يُؤْخَذ مَاله بِمُجَرَّد الزِّنَا دون اعْتِقَاد إِبَاحَته.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَقد رُوِيَ أَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى ابْن عَبَّاس، وَزيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُمَا يسألهما عَن مِيرَاث الْمُرْتَد، فَقَالَا: لبيت المَال "، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى " يعنيان أَنه فَيْء ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ " أَنه أُتِي بمستورد الْعجلِيّ، وَقد ارْتَدَّ، فَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام، فَأبى، قَالَ: " فَقتله، وَجعل مِيرَاثه بَين ورثته الْمُسلمين ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله -: " يزْعم بعض أهل الحَدِيث مِنْكُم أَنه غلط، وَأَن الْحفاظ لم يحفظوا عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، " فقسم مَاله(4/30)
بَين ورثته الْمُسلمين "، وَيخَاف أَن يكون الَّذِي أَرَادَ هَذَا غلط ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " قد رَوَاهُ الشّعبِيّ، وَعبد الْملك بن عُمَيْر عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ دون ذكر المَال، وَبَلغنِي عَن أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ فِي مَا رَوَاهُ عَنهُ أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن هَانِئ، أَنه ضعف الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن مِيرَاث الْمُرْتَد لوَرثَته من الْمُسلمين ".
ثمَّ قد جعله الشَّافِعِي رَحمَه الله لخصمه ثَابتا، وَاعْتذر فِي تَركه قَوْله بِظَاهِر قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر ".
كَمَا تركُوا بِهِ قَول معَاذ، وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا، وَغَيرهمَا فِي تَوْرِيث الْمُسلم من الْيَهُودِيّ - يَعْنِي أَنهم مَعنا - لم يخصوا خبر أُسَامَة بقول معَاذ وَغَيره، فَكَذَلِك وَجب أَن لَا يخصوه بقول عَليّ رَضِي الله عَنهُ حَتَّى يحملوا الْخَبَر على الْكَافِر الْحَرْبِيّ دون الْمُرْتَد، كَمَا لم يحملوه على الْكَافِر الْحَرْبِيّ دون الذِّمِّيّ بقول معَاذ رَضِي الله عَنهُ وَغَيره.
وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن الحكم " أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قضى فِي مِيرَاث الْمُرْتَد أَنه لأَهله من الْمُسلمين "، وَهَذَا مُنْقَطع، وَالْحجاج غير مُحْتَج بِهِ.
وَرَوَاهُ شريك عَن الْمُغيرَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ أَيْضا(4/31)
مُنْقَطع.
وَعَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله " أَنه جعل مِيرَاث الْمُرْتَد لوَرثَته من الْمُسلمين "، وَهَذَا أَيْضا مُنْقَطع، الْقَاسِم لم يدْرك جده.
ثمَّ قد رُوِيَ عَن زيد بن ثَابت، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا نَحْو مَذْهَبنَا، وقولهما يُوَافق حَدِيث أُسَامَة بن زيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَهُوَ أولى. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (164) :
وَالإِخْوَة وَالْأَخَوَات للْأَب وَالأُم يشاركون الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات للْأُم فِي ثلثهم فِي مَسْأَلَة المشركة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهُم لَا يشاركونهم ".
رُوِيَ عَن وهب بن مُنَبّه عَن مَسْعُود بن الحكم الثَّقَفِيّ، قَالَ: " أُتِي عمر ابْن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي امْرَأَة تركت زَوجهَا وَأمّهَا، وإخوتها لأمها، وإخوتها لأَبِيهَا (وَأمّهَا) ، فشرك بَين الْإِخْوَة للْأُم، وَبَين الْإِخْوَة للْأُم وَالْأَب بِالثُّلثِ، فَقَالَ لَهُ رجل: إِنَّك لم تشرك بَينهم عَام أول كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: تِلْكَ على مَا قضينا يَوْمئِذٍ، وَهَذِه على(4/32)
مَا قضينا الْيَوْم ". قَالَ عبد الرَّزَّاق: " قَالَ الثَّوْريّ: لَو لم أستفد فِي سفرتي هَذِه غير هَذَا الحَدِيث لظَنَنْت أَنِّي قد اسْتَفَدْت فِيهِ خيرا "، وَكَذَلِكَ قَالَه ابْن عُيَيْنَة عَن معمر.
وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان: " هَذَا خطأ؛ إِنَّمَا هُوَ الحكم بن مَسْعُود، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ البُخَارِيّ.
وَرُوِيَ عَن قَتَادَة عَن ابْن الْمسيب " أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أشرك بَين الْإِخْوَة من الْأَب وَالأُم، وَبَين الْإِخْوَة من الْأُم فِي الثُّلُث ".
وَرُوِيَ عَن وهب عَن زيد بن ثَابت فِي المشركة، قَالَ: " هبوا أباهم كَانَ حمارا مَا زادهم الْأَب إِلَّا قربا، وأشرك بَينهم فِي الثُّلُث ".
و (عَن أبي مجلز) أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ (شرك بَين الْإِخْوَة من الْأُم، وَالإِخْوَة من الْأَب وَالأُم فِي الثُّلُث، وَأَن عليا رَضِي الله عَنهُ لم يُشْرك بَينهم ".
وَعَن الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر، وَعبد الله، وَزيد، رَضِي الله عَنْهُم، أَنهم قَالُوا: " للزَّوْج النّصْف، وَللْأُمّ السُّدس، وأشركوا بَين الْإِخْوَة من الْأَب وَالأُم، وَالإِخْوَة من الْأُم فِي الثُّلُث،(4/33)
وَقَالُوا: مَا زادهم الْأَب إِلَّا قربا ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " قَالَ عمر، وَعبد الله، فَذكر بِمَعْنَاهُ وَزَاد ذكرهم، وأنثاهم فِيهِ سَوَاء.
وَقَالَ عَليّ، وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا: " هم عصبَة إِن فضل شَيْء كَانَ لَهُم، وَإِن لم يفضل لم يكن لَهُم شَيْء ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " الْمَشْهُور عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه لم يُشْرك. وَالصَّحِيح عَن زيد رَضِي الله عَنهُ أَنه شرك. وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِيهِ عَن عبد الله، فَقيل عَنهُ أَنه لم يُشْرك، وَقيل: إِنَّه شرك. وَهَذَا فِي رِوَايَة الشّعبِيّ، وَإِبْرَاهِيم عَنهُ - وهما أعرف بمذهبه من غَيرهمَا - فَيحْتَمل أَن تكون فِي الِابْتِدَاء لم يُشْرك، ثمَّ رَجَعَ إِلَى التَّشْرِيك، كَمَا روينَا عَن عمر، رَضِي الله عَنْهُم. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (165) :
وَإِذا مَاتَ ولد الْمُلَاعنَة، وَلَا وَارِث لَهُ إِلَّا عصبَة أمه، فَمَاله لبيت مَال الْمُسلمين. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " مَاله لعصبة أمه بالتعصب فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ".(4/34)
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجل ذكر "، فَجعل مَا فضل لعصبة الْمُتَوفَّى دون عصبَة أمه، وَولد الْمُلَاعنَة لَا عصبَة لَهُ من قبل أَبِيه، فالمسلمون لَهُ عصبَة.
وَعِنْدَهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث قَالَ فِيهِ: " فليؤثر بِمَالِه عصبته من كَانَ ".
وَفِي رِوَايَة: " وَأَيكُمْ مَا ترك مَالا فَإلَى الْعصبَة من كَانَ ".
وَعند البُخَارِيّ حَدِيث المتلاعنين عَن سهل بن سعد فِيهِ: " وَكَانَت حَامِلا، فَأنْكر حملهَا، فَكَانَ ابْنهَا يدعى إِلَيْهَا، ثمَّ جرت السّنة فِي الْمِيرَاث أَن يَرِثهَا، وترث مِنْهُ مَا فرض الله وَعز وَجل لَهَا "، وَفِي هَذَا الحَدِيث دلَالَة على أَنه لَا يرد على أمه، وَلَا على إخْوَته لأمه مَا فضل عَن فريضتهم.
استدلوا بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن وَاثِلَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَرْأَة تحرز ثَلَاث مَوَارِيث: عتيقها، ولقطتها، وَوَلدهَا الَّذِي لاعنت(4/35)
عَلَيْهِ " رِوَايَة عَمْرو بن روبة التغلبي، وَلم يحْتَج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَلَا لَهُ ذكر فِي كتابهما، فَالله اعْلَم، وَقد قَالَ البُخَارِيّ: " عَمْرو بن روبة فِيهِ نظر ".
وروى أَيْضا مَكْحُول قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِيرَاث ابْن الْمُلَاعنَة لأمه، ولورثتها من بعْدهَا "، وَهَذَا مُرْسل، وَرَوَاهُ من حَدِيث عِيسَى بن مُوسَى أبي مُحَمَّد الْقرشِي، وَفِيه نظر، وَلم يثبت من عَدَالَته مَا يُوجب قبُول خَبره عَن الْعَلَاء عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده.(4/36)
وَرُوِيَ عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، قَالَ: " حَدثنِي عبد الله بن عبيد الْأنْصَارِيّ، قَالَ: كتبت إِلَى أَخ لي من بني رُزَيْق لمن قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِولد الْمُلَاعنَة، قَالَ: قضى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأمه، قَالَ: هِيَ بِمَنْزِلَة أَبِيه وَأمه ".
وَقيل: " عَن دَاوُد عَن عبد الله عَن رجل من أهل الشَّام "، وَكِلَاهُمَا مُنْقَطع، لَا تقوم الْحجَّة بمثلهما، ثمَّ حمله الْأُسْتَاذ أَبُو الْوَلِيد يرحمه الله على مَا لَو كَانَت أمه مولاة بعتاقه، فَيكون مواليها عصبتها، وعصبة ابْنهَا.
وَيحْتَمل أَن يكون ابْن الْمُلَاعنَة مَمْلُوكا ملكته أمه بعد أَن صَارَت حرَّة، فَعتق عَلَيْهَا، فَتكون مولاة، فترث مَا بَقِي بِالْوَلَاءِ إِن كَانَت حَيَّة، ويرثه عصبتها إِن كَانَت ميتَة بِالْوَلَاءِ.
وَرُوِيَ جعلهَا عصبَة عَن عَليّ وَعبد الله، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَرُوِيَ بِخِلَافِهِ عَن عَليّ وَزيد، رَضِي الله عَنْهُمَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " فَالرِّوَايَة فِيهِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مُخْتَلفَة، وَقَوله مَعَ زيد بن ثَابت أشبه بِمَا ذكرنَا من السّنة، وَنحن إِنَّمَا نَأْخُذ بقول زيد بن ثَابت لما روينَاهُ من حَدِيث سهل بن سعد(4/37)
السَّاعِدِيّ فِي ابْن المتلاعنين أَن السّنة جرت أَنه يَرِثهَا، وترث مِنْهُ مَا فرض الله لَهَا (وَالله تَعَالَى إِنَّمَا فرض) لَهَا الثُّلُث، أَو السُّدس، فَلَا تجوز الزِّيَادَة على ذَلِك، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق ".
وروى مَالك " أَنه بلغه عَن عُرْوَة بن الزبير، وَسليمَان بن يسَار أَنَّهُمَا سئلا عَن ولد الْمُلَاعنَة، وَولد الزِّنَا من يَرِثهُ؟ فَقَالَا: تَرثه أمه حَقّهَا، وَإِخْوَته من أمه حُقُوقهم، وَيَرِث مَا بَقِي من مَاله موَالِي أمه إِن كَانَت مولاة، وَإِن كَانَت عَرَبِيَّة ورثت حَقّهَا، وَورث إخْوَته من أمه حُقُوقهم، وَورث مَا بَقِي من مَاله الْمُسلمُونَ، قَالَ مَالك: وَذَلِكَ الْأَمر عندنَا، وَالَّذِي أدْركْت عَلَيْهِ أهل الْعلم ببلدنا " وَالله أعلم.(4/38)
كتاب الْوَصَايَا
مَسْأَلَة (166) :
إِذا أوصى لِذَوي قرَابَته دخل فِيهِ من كَانَ فصيلته مِمَّن يَقع عَلَيْهِ اسْم الْقَرَابَة، من بني الْأَعْمَام وَغَيرهم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يخْتَص بهَا كل ذِي رحم محرم من قرَابَته ".
لنا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين أنزل الله تَعَالَى: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} ، قَالَ: يَا معشر قُرَيْش، اشْتَروا أَنفسكُم من الله، لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا بني عبد منَاف، لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا عَبَّاس بن عبد الْمطلب، لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، يَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، يَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سليني مَا شِئْت، لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، فَثَبت(4/39)
بذلك دُخُولهمْ فِي الِاسْم، فَوَجَبَ أَن يشاركوهم فِي الِاسْتِحْقَاق بِالِاسْمِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر أَبَا طَلْحَة أَن يَجْعَل الأَرْض الَّتِي جعلهَا لله فِي قرَابَته فَقَسمهَا بَين حسان بن ثَابت، وَأبي بن كَعْب ". من حَدِيث أنس بن مَالك، قَالَ أَبُو دَاوُد: " وَبَلغنِي عَن الْأنْصَارِيّ مُحَمَّد بن عبيد الله، قَالَ: أَبُو طَلْحَة يزِيد بن سهل بن الْأسود بن حرَام بن عَمْرو بن زيد بن مَنَاة بن عدي بن عَمْرو بن مَالك بن النجار، وَحسان بن ثَابت بن الْمُنْذر بن حرَام يَجْتَمِعَانِ إِلَى حرَام، وَهُوَ الْأَب الثَّالِث، وَأبي بن كَعْب بن قيس بن عتِيك بن زيد بن مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن مَالك النجار فعمرو يجمع حسانا، وَأَبا طَلْحَة، وأبيا. قَالَ الْأنْصَارِيّ بَين أبي، وَأبي طَلْحَة(4/40)
سِتَّة آبَاء، فَيثبت بِهَذَا وَمَا قبله دُخُول بني الْأَعْمَام فِي الْأَقْرَبين. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (167) :
الْوَصِيَّة للْقَاتِل جَائِزَة فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْوَصِيَّة للْقَاتِل غير جَائِزَة ".
قَالَ الله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين} ، وَلم يفرق بَين الْقَاتِل وَغَيره.
وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الثُّلُث، وَالثلث كثير "، وَلم يفرق بَين أَن يُوصي بِهِ لقاتله، أَو غَيره.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ /: " مَا حق امْرِئ مُسلم لَهُ شَيْء يُوصي فِيهِ، يبيت لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّة مَكْتُوبَة عِنْده ".
وروى مُبشر بن عبيد بِسَنَد لَهُ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا:(4/41)
" لَيْسَ لقَاتل وَصِيَّة ". قَالَ عَليّ بن عمر: " مُبشر مَتْرُوك يضع الحَدِيث ". وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: " أَحَادِيثه أَحَادِيث مَوْضُوعَة كذب ". وَقَالَ البُخَارِيّ: " مُبشر مُنكر الحَدِيث "، وَنسبه أَبُو حَاتِم إِلَى وضع الحَدِيث. نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان والحرمان، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (168) :
إِذا أوصى لجيرانه، فحد الْجوَار عِنْد الشَّافِعِي أَرْبَعُونَ دَارا من جَمِيع الجوانب، يصرف إِلَيْهِم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " الْجَار الملاصق ". وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله: " أهل الْبَلَد "، وَقَالَ مُحَمَّد: " أهل الْمحلة ".
رُوِيَ بِإِسْنَاد - فِيهِ ضعف - عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوْصَانِي جِبْرِيل بالجار إِلَى أَرْبَعِينَ دَارا، عشرَة من هَهُنَا، وَعشرَة من هَهُنَا، وَعشرَة من هَهُنَا، وَعشرَة من هَهُنَا "، وَإِنَّمَا يعرف من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا: " أَرْبَعِينَ دَارا جَار "، قيل لِابْنِ شهَاب، " وَكَيف أَرْبَعِينَ دَارا "؟ قَالَ: " أَرْبَعِينَ عَن يَمِينه، وَعَن يسَاره، وَخَلفه، وَبَين يَدَيْهِ "، وَهُوَ فِي مَرَاسِيل أبي دَاوُد. وَالله أعلم.(4/42)
مَسْأَلَة (169) :
تصح وَصِيَّة الْمُرَاهق على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَهُوَ قَول مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تصح " وَهُوَ القَوْل الآخر.
روى مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر عَن أَبِيه أَن عَمْرو بن سليم الزرقي أخبرهُ أَنه قيل لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: إِن هَهُنَا غُلَاما يفاعا لم يَحْتَلِم فِي عنسان، ووارثه بِالشَّام، وَهُوَ ذُو مَال، وَلَيْسَ لَهُ هَهُنَا إِلَّا ابْنة عَم لَهُ، فَقَالَ عمر بن الْخطاب: " فليوص لَهَا "، فأوصى لَهَا بِمَال. يُقَال لَهُ بيرجم، قَالَ عَمْرو بن سليم فَبعث ذَلِك من المَال ثَلَاثِينَ ألفا، وَابْنَة عَمه الَّتِي أوصى لَهَا هِيَ أم عَمْرو بن سليم.
فعلق الشَّافِعِي رَحمَه الله جَوَاز وَصِيَّة الْغُلَام وتدبيره، على ثُبُوت الْخَبَر فِيهَا عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، وَالْخَبَر مُنْقَطع عَمْرو بن سليم لم يدْرك عمر بن الْخطاب، رَضِي الله نه) غير أَنه ذكر فِي الْخَبَر انتساب عَمْرو إِلَى الْمُوصى لَهَا، فَيكون أعرف(4/43)
بالقصة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (170) :
وَإِذا قَالَ: أوصيت لفُلَان بِسَهْم من مَالِي " لم يقتدر ذَلِك بِشَيْء، وَالْخيَار إِلَى الْوَرَثَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يدْفع إِلَيْهِ سهم أقلهم إِلَّا أَن يزِيد على السُّدس، فَيكون لَهُ السُّدس ". وَقَالَ أَبُو يُوسُف، وَمُحَمّد رحمهمَا الله: " مَا لم يزدْ على الثُّلُث ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (171) :
وَوَصِيَّة من لَا وَارِث لَهُ بِعَيْنِه، فِيمَا زَاد على الثُّلُث سَاقِطَة، غير قَابِلَة للإجازة على أحد المذهبين. وَفِيه وَجه آخر أَن الإِمَام لَو أجازها جَازَت. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا جَائِزَة ".
لنا حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنهُ " الثُّلُث، وَالثلث كثير ".(4/44)
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " إِن الله أَعْطَاكُم ثلث أَمْوَالكُم، عِنْد وفاتكم زِيَادَة فِي أَعمالكُم ".
وَله شَاهد عَن معَاذ مَرْفُوعا: " إِن الله قد تصدق عَلَيْكُم بِثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة فِي حسناتكم، ليجعلها لكم زَكَاة فِي أَعمالكُم ".
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا سُئِلَ عَن الْوَصِيَّة، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: " الثُّلُث، وسط من المَال، لَا بخس، وَلَا شطط ".
وَرُوِيَ عَن عبد الله، رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ " أَيّمَا رجل توفّي، وَلَيْسَت لَهُ عصبَة، فَإِن مَاله وَصِيَّة كُله ". وَقَالَ: إِنَّمَا بَدَأَ بشأن الْوَصِيَّة من أجل سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنهُ، وَالله أعلم.(4/45)
كتاب قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة
من كتاب (قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة) .
مسالة (172) :
السَّلب للْقَاتِل دون شَرط الإِمَام. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن ذَلِك بِشَرْط الإِمَام ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث أبي قَتَادَة فِي قَتله الرجل يَوْم حنين، وَأخذ غَيره سلبه، وَقَول أبي بكر رَضِي الله عَنهُ: " لَا هَا الله إِذن لَا نعمد إِلَى أَسد من أَسد الله يُقَاتل عَن الله عز وَجل، وَعَن رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فيعطيك سلبه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صدق فأعطه إِيَّاه "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف من الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا فِي قصَّة قتل أبي جهل، ثمَّ قَالَ: " وَقضى بسلبه لِمعَاذ بن عَمْرو ".(4/46)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " إِنَّمَا قضى بسلبه لأَحَدهمَا دون الآخر؛ لِأَنَّهُ علم أَن أَحدهمَا أثخنه،، وَالْآخر أجهز عَلَيْهِ، فَقضى بسلبه لمن أخنه، وَالله أعلم.
على أَن غنيمَة بدر كَانَت للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِدلَالَة قَوْله عز وَجل: {يسئلونك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} ، فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعْطي مِنْهَا من رأى، ثمَّ نزلت قسْمَة الْغَنِيمَة، وأحكامها بعد ذَلِك.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِي الله عَنهُ قصَّة الرجل الْعين، وَقَتله إِيَّاه، فَسَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن صَاحبه، فَقيل: ابْن الْأَكْوَع، قَالَ: " لَهُ سلبه أجمع ".
والقصة عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا عَنهُ، وَقَالَ فِيهَا: " ثمَّ قَتله "، قَالَ " فنفله رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سلبه ".
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه ".
وَفِي رِوَايَة قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم حنين: " من تفرد بِدَم رجل فَلهُ سلبه، فجَاء أَبُو طَلْحَة بسلب أحد وَعشْرين رجلا ".(4/47)
وَحَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم فِي صَحِيح مُسلم عَن صَفْوَان بن عَمْرو عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير عَن أَبِيه عَن عَوْف يُؤَكد هَذَا ويقويه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَكَانَ مَعْرُوفا فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا بَين أَصْحَابه أَن السَّلب يكون للْقَاتِل فِي كل غَزْوَة غَزَاهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد بدر، وَذكر قصَّة عَن حَاطِب بن أبي بلتعه فِي قتل عتبَة بن أبي وَقاص، وَأَخذه سلبه بِأَمْر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وقصة صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب، رَضِي الله عَنْهَا، وقتلها الْيَهُودِيّ، وَقَوْلها لحسان: " اسلبه، فاستلبه، وَأَنه لم يَمْنعنِي أَن أستلبه إِلَّا أَنه رجل ".
وقصة قتل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ عَمْرو بن ود، ثمَّ أقبل عَليّ رَضِي الله عَنهُ نَحْو رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَجهه يَتَهَلَّل، فَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: " هلا استلبته درعه؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ للْعَرَب درع خير مِنْهَا، فَقَالَ: ضَربته، فاتقاني بسواده، فَاسْتَحْيَيْت ابْن عمي أَن أستلبه ".(4/48)
وقصة قتل خَالِد بن الْوَلِيد هُرْمُز، فنقله أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ سلبه، فبلغت قلنسوته مائَة ألف دِرْهَم.
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " بارز الْبَراء مرزبان الرادة، فَقتله، فَنزل، فَأخذ منطقته وسواريه، فقوما بِثَلَاثِينَ ألفا، فَذكر ذَلِك لعمر، رَضِي الله عَنهُ، فَأتي أَبَا طَلْحَة، فَقَالَ: إِنَّا لَا نُخَمِّسُ سلبا، وَإِن سلب الْبَراء قد بِيعَتْ مَالا، وَلَا أَرَانِي إِلَّا خَامِسَة ".
وَفِي رِوَايَة عَنهُ أَن الْبَراء قتل رجلا من فَارس، فَبلغ سلبه أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم، فَكتب عمر أَن يُخَمّس سلبه، ثمَّ يدْفع سائره كُله إِلَى الْبَراء.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَرُوِيَ أَن بشر بن عَلْقَمَة، قَالَ: " بارزت رجلا يَوْم الْقَادِسِيَّة، فَبلغ اثْنَي عشر ألفا، فنفلنيه سعد ". رَوَاهُ الثَّوْريّ، وَابْن عُيَيْنَة عَن الْأسود بن قيس (عَن) بشر بن عَلْقَمَة، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن ابْن عُيَيْنَة.
وَفِي الصَّحِيح عِنْد مُسلم منع خَالِد بن الْوَلِيد رجلا من الْمُسلمين سلب رجل من الْعَدو قَتله، وَأَن عَوْف بن مَالك أخبر بذلك(4/49)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا خَالِد، مَا مَنعك أَن تعطيه سلبه؟ قَالَ: استكثرته يَا رَسُول الله، قَالَ: ادفعه "، وَقَالَ فِيهِ: " إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن يُخَمّس السَّلب ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " السَّلب من النَّفْل، وَالنَّفْل من الْخمس "، وَهَذَا مَذْهَب لِابْنِ عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " إِذا ثَبت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأبي هُوَ وَأمي شَيْء لم يجز تَركه "، قَالَ: " وَلم يسْتَثْن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَلِيل السَّلب، وَلَا كَثِيره ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (173) :
والأراضي المغنومة مقسومة بَين الْغَانِمين، لَيْسَ للْإِمَام أَن يردهَا على الْمُشْركين. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الإِمَام بِالْخِيَارِ بَين أَن يقسمها، أَو يردهَا عَلَيْهِم بِضَرْب الْخراج عَلَيْهَا ".
وَهَذَا خلاف كتاب الله عز وَجل، وَسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ الله عز وَجل: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شئ فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة.(4/50)
وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة.
وَقسم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْبَر بَين أَصْحَابه، فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أسلم، أَنه سمع عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " أما وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَن أترك آخر النَّاس ببانا لَيْسَ لَهُم شَيْء مَا فتحت عَليّ قَرْيَة إِلَّا قسمتهَا، كَمَا قسم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْبَر، وَلَكِن أتركها لَهُم خزانَة.
وَعِنْده أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ افتتحنا خَيْبَر، فَلم نغنم ذَهَبا، وَلَا فضَّة، إِنَّمَا غنمنا الْإِبِل، وَالْبَقر، وَالْمَتَاع، والحوائط ".
والحوائط الَّتِي قسمهَا (رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) بَين الْغَانِمين، هِيَ مَا فتحهَا عنْوَة، دون مَا فتح صلحا بِدَلِيل مَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ وَغَيره، قَالُوا: " بقيت بَقِيَّة من أهل خَيْبَر يحصوا، فسألوا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يحقن دِمَاءَهُمْ، ويسيرهم فَفعل، فَسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذَلِك، وَكَانَت لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَالِصَة؛ لِأَنَّهُ لم يوجف عَلَيْهَا بخيل، وَلَا ركاب ".
وَعمر رَضِي الله عَنهُ حِين رأى وقف السوَاد استطاب أنفس الْغَانِمين، كَمَا استطاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنفس الْغَانِمين بحنين فِي رد(4/51)
النِّسَاء، والذراري، وَإِن الحكم اللَّازِم فِي الْأَرَاضِي المغنومة مَا ذكرنَا.
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيّمَا قَرْيَة أتيتموها، فأقمتم فِيهَا، فسهمكم فِيهَا، وَأَيّمَا قَرْيَة عَصَتْ الله وَرَسُوله، فَإِن خمسها لله وَلِرَسُولِهِ، ثمَّ هِيَ لكم "، رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن رَافع وَغَيره عَن عبد الرَّزَّاق وَقَالَ: " سهمك فِيهَا ".
فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ مَا يكون فَيْئا، فَيكون فِيهِ حَقهم من سهم الْمصَالح، ثمَّ ذكر مَا فتح عنْوَة، وَجعل مَا زَاد على الْخمس للغانمين، فَقَالَ: " ثمَّ هِيَ لكم "، وَلم يفرق بَين الْأَرَاضِي وَغَيرهَا، وَالله تَعَالَى اعْلَم.
مَسْأَلَة (174) :
إِذا شَرط الإِمَام قبل الْقِتَال، من أَخذ شَيْئا فَهُوَ لَهُ، فَمن أَخذ شَيْئا يكون غنيمَة. وَفِيه قَول آخر: " إِنَّه جَائِز "، وَهُوَ قَول ابي حنيفَة، رَحمَه الله.(4/52)
رُوِيَ عَن ابْن إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن سُلَيْمَان الْأَشْدَق عَن مَكْحُول عَن أبي أُمَامَة عَن عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله عَنْهُم: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين التقى النَّاس ببدر نفل كل امْرِئ مَا أصَاب ". وَذكر بَاقِي الحَدِيث فِي اخْتلَافهمْ، ونزول الْآيَة فِي الْأَنْفَال.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: " وَقد رُوِيَ فِي حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي شَرط النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يُخَالف حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، فَقيل عَنهُ: قَالَ النَّبِي - يَعْنِي يَوْم بدر - من فعل كَذَا، أَو كَذَا فَلهُ كَذَا وَكَذَا ". وَقيل عَنهُ: " من قتل قَتِيلا فَلهُ كَذَا وَكَذَا، وَمن أسر أَسِيرًا فَلهُ كَذَا وَكَذَا "، وَمن أَتَى مَكَان كَذَا وَكَذَا فَلهُ كَذَا وَكَذَا ".
وَهَذَا لَا يدل على أَنه جعل لَهُ جَمِيع مَا أَخذه، وَإِنَّمَا يدل على أَنه يُعْطِيهِ شَيْئا على طَرِيق النَّفْل، ثمَّ قد بَين عبَادَة، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم، أَن ذَلِك كَانَ قبل نزُول الْآيَة فِي قسْمَة الْغَنِيمَة، وَأَن الْأَمر بعد نُزُولهَا صَار إِلَيْهِ.(4/53)
وَكَذَا فِيمَا رُوِيَ عَن زِيَاد بن علاقَة عَن سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنهُ: " لما قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة بعثنَا فِي ركب "، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: " قَالَ: وَكَانَ الْفَيْء إِذْ ذَاك من أَخذ شَيْئا فَهُوَ لَهُ "، ثمَّ ذكر الحَدِيث فِي بَعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِم (عبد الله) بن جحش قَالَ: وَكَانَ أول أَمِير أَمر فِي الْإِسْلَام ".
(وَفِي هَذَا أَيْضا دلَالَة على أَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْإِسْلَام قبل وقْعَة بدر، ونزول الْآيَة فِي الْغَنَائِم كَانَ بعد وقْعَة بدر، فَصَارَ الْأَمر إِلَى مَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة، ثمَّ سيره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد ذَلِك فِي مغازيه وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (175) :
وَللْإِمَام أَن يمن على الْبَالِغين من الأسرى، وَأَن يفاديهم بأسرى الْمُسلمين. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك ".
وَهَذَا أَيْضا خلاف الْكتاب وَالسّنة.(4/54)
قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب حَتَّى إِذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا} .
رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " يُوشك أَن ينزل عِيسَى ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِ السَّلَام، إِمَامًا مهديا، وَحكما عادلا، فَيقْتل الْخِنْزِير، وَيكسر الصَّلِيب، وَيَضَع الْجِزْيَة، وتضع الْحَرْب أَوزَارهَا ".
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: " حَتَّى تضع الْحَرْب اوزارها - يَعْنِي نزُول عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام ". وَعنهُ قَالَ: " فَيسلم كل يَهُودِيّ، وَنَصْرَانِي، وَصَاحب مِلَّة، وتأمن الشَّاة الذِّئْب، وَلَا تقْرض فَأْرَة جرابا ". وَتذهب الْعَدَاوَة من الْأَشْيَاء كلهَا، وَذَلِكَ ظُهُور الْإِسْلَام على الدّين كُله.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ: " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خيلا قبل نجد، فَجَاءَت بِرَجُل من بني حنيفَة، يُقَال لَهُ ثُمَامَة بن أَثَال، فربطوه بِسَارِيَة من سواري الْمَسْجِد، فَخرج إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: مَا عنْدك يَا ثُمَامَة؟ قَالَ: عِنْدِي - يَا مُحَمَّد -(4/55)
خير: إِن تقتل تقتل ذَا دم، وَإِن تنعم تنعم على شَاكر، وَإِن كنت تُرِيدُ المَال فسل، تعط مِنْهُ مَا شِئْت ". وَذكر بَاقِي الحَدِيث فِي تَكْرِير هَذَا القَوْل، وَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِطْلَاقِهِ، ثمَّ إِسْلَامه.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن جُبَير بن مطعم رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لأسرى بدر: " لَو كَانَ مطعم حَيا ثمَّ كلمني فِي هَؤُلَاءِ النتنى لخليتهم لَهُ ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أنس رَضِي الله عَنهُ " أَن ثَمَانِينَ رجلا من أهل مَكَّة هَبَطُوا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه من جبال التَّنْعِيم عِنْد صَلَاة الْفجْر، ليقتلوهم، فَأَخذهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأعْتقهُمْ، فَأنْزل الله. جلّ ثَنَاؤُهُ -: {وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة (من بعد أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم} } ، إِلَى آخر الْآيَة.
وَفِيه أَيْضا عَن عمرَان، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " أسر أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلا من بني عقيل، وَكَانَت ثَقِيف قد أسرت رجلَيْنِ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَفَدَاهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرجلَيْنِ اللَّذين أسرتهمَا ثَقِيف ".(4/56)
وَفِيه أَيْضا حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة الَّتِي نفله إِيَّاهَا أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ استوهبها مِنْهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَبعث بهَا إِلَى أهل مَكَّة، ففادى بهَا أَسِيرًا كَانَ فِي أَيْديهم.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ " فِي الرجل الَّذِي اخْتَرَطَ سيف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ نَائِم، فَاسْتَيْقَظَ، وَهُوَ فِي يَده صَلتا، فَقَالَ: من يمنعك مني؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الله، فَشَام السَّيْف فَجَلَسَ، فَلم يُعَاقِبهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد فعل ذَلِك ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن عُبَيْدَة عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الاسارى يَوْم بدر: إِن شِئْتُم قَتَلْتُمُوهُمْ، وَإِن شِئْتُم فَادَيْتُمُوهُمْ، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِالْفِدَاءِ، وَاسْتشْهدَ مِنْكُم بِعدَّتِهِمْ ".
وَعَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: " وَكَانَ مِمَّن ترك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أُسَارَى بدر بعد فدَاء الْمطلب بن حنْطَب المَخْزُومِي، وَكَانَ مُحْتَاجا فَلم يفاد، فَمن عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَبُو عزة عمر بن عبد الله(4/57)
الجُمَحِي، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، بَنَاتِي، فرحمه، فَمن عَلَيْهِ، وصفي بن عَابِد المَخْزُومِي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (176) :
الْمُسْتَحبّ أَن يقسم الْغَنَائِم فِي دَار الْحَرْب، مَا لم يكن عذر يمْنَع من ذَلِك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يكره ذَلِك ".
رُوِيَ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم غَنَائِم بدر بشعب من شعاب الصَّفْرَاء، قريب من بدر، وَقسم غَنَائِم بني المصطلق على مِيَاههمْ، وَغَنَائِم هوَازن فِي دِيَارهمْ، وَغَنَائِم خَيْبَر بِخَيْبَر "، وَذَلِكَ فِي مغازي ابْن إِسْحَاق مَذْكُور، روينَاهُ فِي كتاب السّنَن.
وَقد أعَاد الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى هَذِه الْمَسْأَلَة فِي كتاب السّير، وسنستقصي بَيَانهَا هُنَالك، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالله أعلم.(4/58)
مَسْأَلَة (177) :
للفارس ثَلَاثَة أسْهم: سَهْمَان لفرسه، وَسَهْم لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " للفارس سَهْمَان: سهم لَهُ وَسَهْم لفرسه ".
وَدَلِيلنَا مَا عِنْد مُسلم فِي الصَّحِيح عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه قسم للْفرس سَهْمَيْنِ، وللراجل سهم ".
وَعند البُخَارِيّ عَنهُ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: " قسم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم خَيْبَر للفارس سَهْمَيْنِ، وللرجل سَهْما "، قَالَ فسره نَافِع، فَقَالَ: " إِذا كَانَ مَعَ الرجل فرس فَلهُ ثَلَاثَة أسْهم، إِن لم يكن لَهُ فرس فَلهُ سهم ".
وَعند أبي دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن أبي مُعَاوِيَة عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا بِنَحْوِ حَدِيث " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسْهم للرجل ولفرسه ثَلَاثَة أسْهم: سَهْما لَهُ، وسهمين لفرسه ". فقد شفى أَبُو مُعَاوِيَة بروايته هَذِه عَن عبيد الله، وَهُوَ حَافظ، ثِقَة، حجَّة.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ الإِمَام عَنهُ، وَقد وهم بعض الروَاة لهَذَا الحَدِيث، فروه بِخِلَاف هَذِه الرِّوَايَة الصَّحِيحَة.(4/59)
رَوَاهُ أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا أَحْمد بن مَنْصُور، حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، حَدثنَا أَبُو أُسَامَة، وَابْن نمير قَالَا: " حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسْهم للرجل ولفرسه ثلَاثه أسْهم، سَهْما لَهُ، وسهمين لفرسه "، جعل للفارس سَهْمَيْنِ، وللراجل سَهْما ".
قَالَ الرَّمَادِي: " كَذَا يَقُول ابْن نمير: قَالَ لنا النَّيْسَابُورِي: هَذَا عِنْدِي وهم من ابْن أبي شيبَة، أَو من الرَّمَادِي، لِأَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَعبد الرَّحْمَن بن بشر وَغَيرهمَا رَوَوْهُ عَن ابْن نمير خلاف هَذَا ".
قَالَ: " وَرَوَاهُ ابْن كَرَامَة وَغَيره عَن أبي أُسَامَة خلاف هَذَا، وروى كَذَلِك عَن نعيم بن حَمَّاد عَن ابْن الْمُبَارك عَن عبيد الله، قَالَ(4/60)
النَّيْسَابُورِي: " لَعَلَّ الْوَهم من نعيم؛ لِأَن ابْن الْمُبَارك من اثْبتْ النَّاس ".
وَرَوَاهُ حجاج بن منهال وَغَيره عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عبيد الله كَذَلِك، وَخَالفهُم النَّضر بن مُحَمَّد اليمامي عَن حَمَّاد، فَقَالَ: " أسْهم للفارس سَهْما وللفرس سَهْمَيْنِ ".
وَرَوَاهُ كَذَلِك أَيْضا يُونُس بن بكير عَن عبيد الله (بن عَمْرو بن حُصَيْن) عَن نَافِع " للفارس سَهْمَيْنِ، وللراجل سمهما " وَتَابعه ابْن وهب، وَابْن أبي مَرْيَم، وخَالِد بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله الْعمريّ.(4/61)
وَرَوَاهُ القعْنبِي عَنهُ بِالشَّكِّ فِي الْفَارِس، أَو الْفرس، والعمري كثير الْوَهم غير مُحْتَج بِهِ، وَكَانَ يحيى بن سعيد الْقطَّان لَا يحدث عَنهُ.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " كَأَنَّهُ سمع نَافِعًا يَقُول: للْفرس سَهْمَيْنِ، وللراجل سَهْما، فَقَالَ للفارس سَهْمَيْنِ، وللراجل سهم، وَلَيْسَ يشك، أحد من أهل الْعلم فِي تقدمه عبيد الله على أَخِيه فِي الْحِفْظ ".
وَرُوِيَ عَن يُونُس بن بكير عَن عبد الرَّحْمَن بن أَمِين عَن نَافِع عَنهُ، وَقَالَ: " للفارس سَهْمَيْنِ، وللراجل سَهْما "، وَعبد الرَّحْمَن لَيْسَ بِشَيْء، غير مُحْتَج بِهِ، وَيُونُس بن بكير رُبمَا يهم فِي الشَّيْء.(4/62)
قَالُوا: " إِن خَيْبَر قسمت على ثَمَانِيَة عشر سَهْما على أهل الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَ الْجَيْش ألفا وَخمْس مائَة، مِنْهُم ثَلَاث مائَة فَارس، فَأعْطى الْفَارِس سَهْمَيْنِ، والراجل سَهْما ".
وذكروه فِيمَا روى مجمع بن يَعْقُوب عَن أَبِيه عَن عَمه عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن عَمه مجمع بن جَارِيَة. قيل هَذِه الرِّوَايَة لَا تعَارض بهَا الرِّوَايَات الثَّابِتَة الصَّحِيحَة بِمَا قدمنَا ذكره عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَذَلِكَ لِأَن مجمع بن يَعْقُوب بن مجمع بن يزِيد غير مُحْتَج بِهِ، وَلَا بِأَبِيهِ، ثمَّ فِيهِ نظر.
من وَجه آخر، وَهُوَ مَا صَحَّ عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم عَن جَابر، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كُنَّا يَوْم الْحُدَيْبِيَة ألفا وَأَرْبَعمِائَة "، وَرُوِيَ " أَربع(4/63)
عشرَة مائَة ". وعَلى ذَلِك أهل الْمَغَازِي، وَأَنه قسم يَوْم خَيْبَر لمائتي فَارس.
وَعند أبي دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن عبد الله بن يزِيد عَن المَسْعُودِيّ عَن أبي عمْرَة عَن أَبِيه، قَالَ: " أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعَة نفر، ومعنا فرس، فَأعْطى كل إِنْسَان منا سَهْما، وَأعْطى الْفرس سَهْمَيْنِ ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي حَازِم مولى أبي رهم عَن أبي رهم، قَالَ: " حضرت انا وَأخي حنينا، ومعنا فرسَان، فَأَسْهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لنا أَرْبَعَة أسْهم: لي ولأخي سَهْمَيْنِ، فبعنا سهمينا من حنين ببكرين ".
وَرُوِيَ بأسانيد أخر عَنهُ انه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطاهما سِتَّة أسْهم: أَرْبَعَة لفرسيهما، وسهمان لَهما. وَرُوِيَ فِي الثَّلَاثَة الأسهم للْفرس وَصَاحبه عَن عمر وَعلي، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَالله أعلم.(4/64)
مَسْأَلَة (178) :
وَسَهْم ذَوي الْقُرْبَى ثَابت لبني هَاشم، وَبني عبد الْمطلب، على غناهم وفقرهم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّمَا يُعْطون بالفقر ".
وَهَذَا خلاف الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ ولذى الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} .
وَقَالَ: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ ولذى الْقُرْبَى} الْآيَة.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن جُبَير بن مطعم، قَالَ: " مشيت أَنا وَعُثْمَان بن عَفَّان إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله أَعْطَيْت بني عبد الْمطلب وَتَرَكتنَا، وَإِنَّمَا نَحن وهم بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّمَا بَنو هَاشم، وَبَنُو عبد الْمطلب شَيْء وَاحِد، وَلم يقسم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبني عبد شمس، وَلَا لبني عبد نَوْفَل ".
وروى هَذَا الحَدِيث بَعضهم، فأدرج فِيهِ " أَن ابا بكر لم يكن يُعْطي قربى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعطيهم، وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يعطيهم مِنْهُ، وَعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بعده ". وَرَوَاهُ(4/65)
غَيره، فميز ذَلِك عَن الحَدِيث، وَجعله من قَول الزُّهْرِيّ، فَصَارَت الرِّوَايَة لَهُم بذلك مُنْقَطِعَة، وَنحن نروي عَنْهُمَا مَوْصُولا غير مُنْقَطع مثل مَذْهَبنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمَا رُوِيَ فِي صَحِيح مُسلم من مسَائِل نجدة الحروري لِابْنِ عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَجَوَابه، وَفِيه " سَأَلت عَن ذِي الْقُرْبَى من هم، فزعمنا أَنا نَحن هم، فَأبى ذَلِك علينا قَومنَا ".
فقد قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله (فِيهِ: " يجوز أَن يكون ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ) عَنى بقوله: وَأبي ذَلِك علينا قَومنَا غير أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَأَهله ".
وَعند أبي دَاوُد أَن نجدة حِين حج فِي فتْنَة ابْن الزبير أرسل إِلَى ابْن عَبَّاس يسْأَله عَن سهم ذِي الْقُرْبَى، وَيَقُول: لمن ترَاهُ؟ قَالَ ابْن(4/66)
عَبَّاس: " لقربى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قسمه لَهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ عرض علينا من ذَلِك عرضا رَأَيْنَاهُ دون حَقنا، فرددناه عَلَيْهِ، وأبينا أَن نقبله ".
وَعِنْده أَيْضا عَن ابْن أبي ليلى، قَالَ: " سَمِعت عليا رَضِي الله عَنهُ يَقُول: اجْتمعت أَنا وَالْعَبَّاس، وَفَاطِمَة، وَزيد بن حَارِثَة عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِن رَأَيْت توليني حَقنا من هَذَا الْخمس فِي كتاب الله، فأقسمه حياتك حَتَّى لَا يُنَازعنِي أحد بعْدك، فافعل، قَالَ: فَفعل ذَلِك، قَالَ: فقسمته حَيَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ ولانية أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ، حَتَّى كَانَت آخر سنة من سني عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَإِنَّهُ أَتَاهُ مَال كثير، فعزل حَقنا، ثمَّ أرسل إِلَيّ، فَقلت: بِنَا عَنهُ الْعَام غنى، وبالمسلمين إِلَيْهِ حَاجَة، فاردده عَلَيْهِم، فَرده عَلَيْهِم، ثمَّ لم يدعني إِلَيْهِ أحد بعد عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَلَقِيت الْعَبَّاس بَعْدَمَا خرجت من عِنْد عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَ: يَا عَليّ: حرمتنا الْغَدَاة شَيْئا لَا يرد علينا أبدا ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " فِي هَذَا دلَالَة على أَن أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا أقرا عليا، رَضِي الله عَنهُ، على مَا ولاه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قسْمَة سهم ذِي الْقُرْبَى بَينهم.
وَيدل على اسْتِحْقَاق ذَوي الْقُرْبَى هَذَا السهْم بِنَصّ كتاب الله(4/67)
لَهُم مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " عَن عبد الله ابْن بُرَيْدَة " عَن بُرَيْدَة قَالَ: " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليا رَضِي الله عَنهُ إِلَى خَالِد بن الْوَلِيد لقبض الْخمس، فَأخذ مِنْهُ جَارِيَة، فَأصْبح وَرَأسه يقطر، قَالَ خَالِد لبريدة: ترى مَا يصنع هَذَا؟ قَالَ: وَكنت أبْغض عليا، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: يَا بُرَيْدَة، أتبغض عليا؟ قَالَ: قلت: نعم، قَالَ: فَأَحبهُ، فَإِن لَهُ فِي الْخمس أَكثر من ذَلِك ".
فَفِي هَذَا دلَالَة على صِحَة مَا روينَا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي تَوْلِيَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه حَقهم من الْخمس، وَفِيه دلَالَة على أَن الله تَعَالَى جعل لَهُم هَذَا السهْم على جِهَة الِاسْتِحْقَاق، وَكَانَ ذَلِك موكولا إِلَى رَأْي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يُعْطِيهِ من شَاءَ من قرَابَته، ثمَّ سقط (حكمه بِمَوْتِهِ مَا سقط) حكم سهم الصفي، (كَمَا ذهب) إِلَيْهِ بعض من يُسَوِّي الْأَخْبَار على مذْهبه وَلما اسْتحلَّ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَخذ جَارِيَة مِنْهُ، والوقوع عَلَيْهَا، وَلما عذره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك وَلما احْتج لَهُ بَان لَهُ فِي الْخمس أَكثر من ذَلِك، وَالْعجب أَن هَذَا الْقَائِل اسْتدلَّ، فَقَالَ: " لَو كَانَ هَذَا السهْم لَهُم على جِهَة الِاسْتِحْقَاق مَا جَازَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يُعْطي بَعْضًا دون بعض، وَلم يفكر فِي نَفسه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا بعث مُبينًا لأمته مَا أَرَادَ الله تَعَالَى بكتابه عَاما، أَو خَاصّا، وَلَيْسَ هَذَا أول عُمُوم ورد فِي الْكتاب، فَبين رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه خَاص دون عَام، ثمَّ لم يقْتَصر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي هَذَا الحكم على مُجَرّد الْبَيَان، حَتَّى ذكر علته،(4/68)
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا روينَا عَنهُ فِي الْأَخْبَار الثَّابِتَة أَنهم لم يفارقوه فِي جَاهِلِيَّة، وَلَا إِسْلَام ". وَقد أعْطى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمِيع من أخبر عَن الله تَعَالَى أَنهم مرادون بِذِي الْقُرْبَى، وهم بَنو هَاشم، وَبَنُو عبد الْمطلب، لَا نعلم حرم مِنْهُم أحدا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَقد نقلنا فِي الْمَبْسُوط من كَلَام الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى الْقَدِيم والجديد تشبيهه قَول من زعم أَن هَذَا السهْم سقط بِمَوْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَا حجَّة، بقول من زعم أَن فرض الزَّكَاة رفع بِرَفْع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يكون جَوَابا عَن جَمِيع أسئلتهم، من أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَإِن شَاءَ الله تَعَالَى ". وَالله أعلم.
مسالة (197) :
وَفِي سهم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد وَفَاته قَولَانِ:
أَحدهمَا: إِنَّه مَرْدُود على الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي الْآيَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: " إِنَّه يصرف فِي الْمصَالح. وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله مذهبا لنَفسِهِ.
رُوِيَ عَن عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " أَخذ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم خَيْبَر وبرة من جنب بعير، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، أَنه لَا يحل لي مِمَّا افاء الله عَلَيْكُم قدر هَذِه إِلَّا الْخمس، وَالْخمس مَرْدُود عَلَيْكُم ".(4/69)
وروى الْوَلِيد بن جَمِيع عَن أبي الطُّفَيْل، قَالَ: " جَاءَت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا إِلَى أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَت: يَا خَليفَة رَسُول الله، أَنْت ورثت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أم أَهله، قَالَ: لَا، بل أَهله، قَالَت: فَمَا بَال الْخمس؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: إِذا أطْعم الله نَبيا طعمه، ثمَّ قَبضه، كَانَت للَّذي يَلِي بعده، فَلَمَّا وليت رَأَيْت أَن أرده على الْمُسلمين، قَالَت: أَنْت وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم، ثمَّ رجعت ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " هَكَذَا رَوَاهُ الْوَلِيد بن جَمِيع، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَإِنَّمَا احْتج أَبُو بكر بِمَا رَوَاهُ وَغَيره عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة "، فَإِن كَانَ حفظ هَذَا اللَّفْظ الْوَلِيد فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ أَن ولَايَته إِلَى الَّذِي يَلِي الْأَمر بعده ". وَالله اعْلَم.(4/70)
كتاب قسم الصَّدقَات
وَمن كتاب قسم الصَّدقَات:
مَسْأَلَة (180) :
وَلَا تحل الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لمن لَهُ كسب بِقدر كِفَايَته. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا تحل لَهُ ".
وَدَلِيلنَا مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ، وَلَا لذِي مرّة قوي ".
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مثله، وَقَالَ: " وَلَا لذِي مرّة سوي ".
وَرُوِيَ عَن عبيد الله بن عدي بن الْخِيَار عَن رجلَيْنِ، قَالَا: أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يقسم نعم الصَّدَقَة، فَسَأَلْنَاهُ، فَصَعدَ فِينَا الْبَصَر،(4/71)
وَصوب فَقَالَ: (مَا شئتما، فَلَا حق) فِيهَا (لَغَنِيّ، وَلَا) لقوي مكتسب ".
وَفِي رِوَايَة قَالَ: " أَخْبرنِي رجلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع، وَقَالَ: فرآنا جلدين، فَقَالَ: إِن شئتما "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (181) :
لَا يجوز صرف شَيْء من الصَّدقَات الْوَاجِبَة إِلَى الْكفَّار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يجوز صرف صَدَقَة الْفطر وَالْكَفَّارَات إِلَى فُقَرَاء أهل الذِّمَّة ".
لنا حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي وَصِيَّة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمعَاذ رَضِي الله عَنهُ لما بَعثه إِلَى الْيمن، وفيهَا: " فَإِذا صلوا فَأخْبرهُم أَن الله تَعَالَى قد افْترض عَلَيْهِم زَكَاة فِي أَمْوَالهم، تُؤْخَذ من غنيهم، فَترد على فقيرهم، فَإِذا أقرُّوا بذلك، فَخذ مِنْهُم، وتوق كرائم أَمْوَالهم "، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح، فَأخْبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الصَّدَقَة الْوَاجِبَة عَلَيْهِم مَرْدُودَة على فقرائهم، فَخص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُسلمين من الْفُقَرَاء بذلك.
وَرُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الْحسن وَقَتَادَة عَن الزُّهْرِيّ أَنهم كَانُوا(4/72)
يَقُولُونَ: " لَا يطعم الْكَافِر من الْكَفَّارَات شَيْئا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (182) :
يجوز للرجل أَن يتَوَلَّى دفع صَدَقَة الْأَمْوَال الظَّاهِرَة، وتفريقها بِنَفسِهِ فِي قَوْله الْجَدِيد. وَقَالَ فِي الْقَدِيم: " لَا يجوز ". وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله.
قَالَ الله عز وَجل: {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هى وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم} .
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا غُلَام بني عبد الْمطلب، فَقَالَ: وَعَلَيْك، قَالَ: إِنِّي رجل من أخوالك، من ولد بني سعد بن بكر، وَإِنِّي رَسُول قومِي إِلَيْك ووافدهم "، فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: " فَإنَّا قد وجدنَا فِي كتابك، وأمرتنا رسلك أَن نَأْخُذ من حَوَاشِي أَمْوَالنَا، فنضعه فِي فقرائنا، وأنشدك الله، أهوَ أَمرك بذلك؟ فَقَالَ: نعم ".(4/73)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " هَذِه اللَّفْظَة إِن كَانَت مَحْفُوظَة دلّت على جَوَاز تَفْرِيق رب المَال زَكَاة مَاله بِنَفسِهِ. وَحَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ فِي هَذِه الْقِصَّة " آللَّهُ أَمرك أَن تَأْخُذ هَذِه الصَّدَقَة من أغنيائنا، فتقسمها على فقرائنا " إِسْنَاده أصح، وَهُوَ دَلِيل القَوْل الثَّانِي، وَهُوَ الْقَدِيم، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (183) :
وَيُعْطى سهم الغارمين لمن تحمل حمالَة مَعَ غناهُ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَا يعْطى إِلَّا بفقره وَحَاجته ".
رُوِيَ عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، وَالثَّوْري عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تحل صَدَقَة لَغَنِيّ إِلَّا لخمسة: لعامل عَلَيْهَا، أَو مِسْكين تصدق عَلَيْهِ مِنْهُ، فأهداها لَغَنِيّ، أَو لرجل اشْتَرَاهَا بِمَالِه، أَو غَارِم، أَو غاز فِي سَبِيل الله عز وَجل "، وَرُوِيَ عَنهُ عَن معمر عَن زيد بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ.
وَرَوَاهُ القعْنبِي عَن مَالك عَن زيد عَن عَطاء، أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تحل الصَّدَقَة إِلَّا لخمسة "، فَذكر الحَدِيث مُرْسلا، وَتَابعه ابْن عُيَيْنَة عَن زيد مُرْسلا. وأسنده معمر، وَهُوَ ثِقَة، حجَّة، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة.(4/74)
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن قبيصَة بن مُخَارق الْهِلَالِي قَالَ: " تحملت حمالَة فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أقِم يَا قبيصَة، حَتَّى تَأْتِينَا الصَّدَقَة، فنأمر لَك بهَا، ثمَّ قَالَ:: يَا قبيصَة، إِن الْمَسْأَلَة لَا تحل إِلَّا لأحد ثَلَاثَة: رجل تحمل حمالَة فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيبهَا، ثمَّ يمسك، وَرجل أَصَابَته جَائِحَة، فاجتاحت مَاله، فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيب قواما من عَيْش - اَوْ قَالَ: سدادا من عَيْش - وَرجل أَصَابَته فاقة، حَتَّى يَقُول ثَلَاثَة من ذَوي الحجى من قومه قد أَصَابَت فلَانا الْفَاقَة، فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيب قواما من عَيْش، أَو سدادا من عَيْش، ثمَّ يمسك، وَمَا سواهن من الْمَسْأَلَة، - يَا قبيصَة - سحت، يأكلها صَاحبهَا سحتا "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (184) :
وَلَا يجوز صرف الصَّدقَات إِلَى صنف وَاحِد من جملَة الْأَصْنَاف الثَّمَانِية مَعَ وجودهم. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن ذَلِك جَائِز ".
وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} الْآيَة
روى أَبُو دَاوُد عَن زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي، قَالَ: " أتيت(4/75)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايَعته "، فَذكر حَدِيثا طَويلا، " فَأَتَاهُ رجل، فَقَالَ: أَعْطِنِي من الصَّدَقَة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن الله عز وَجل لم يرض بِحكم نَبِي، وَلَا غَيره فِي الصَّدقَات، حَتَّى يحكم فِيهَا هُوَ، فجزأها ثَمَانِيَة أَجزَاء، فَإِن كنت من تِلْكَ الْأَجْزَاء أَعطيتك حَقك ".
وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن منهال عَن زر عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ مثل مَذْهَبهم، وَالْحجاج غير مُحْتَج بِهِ. وَالله اعْلَم.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن: " فَإِذا صلوا فَأخْبرهُم أَن الله قد افْترض عَلَيْهِم زَكَاة فِي أَمْوَالهم تُؤْخَذ من غنيهم، فَترد على فقيرهم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " يشبه أَن يكون الْمَقْصُود من هَذَا الْخَبَر تَفْرِقَة الصَّدقَات فِي الْموضع الَّذِي تُؤْخَذ فِيهِ دون نقلهَا إِلَى غَيره، وَاقْتصر على ذكر صنف وَاحِد من الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة، وَالْمرَاد بِهِ جَمِيعهم ".
وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالفقراء، أهل الْحَاجة، وَأكْثر أهل الصَّدقَات أهل حَاجَة بمعان مُخْتَلفَة ".
استدلوا بِمَا روى الْحسن بن عمَارَة عَن وَاصل، وَحَكِيم عَن سُفْيَان، قَالَ: " أُتِي عمر رَضِي الله عَنهُ بِصَدقَة زَكَاة، فَأَعْطَاهَا أهل بَيت كَمَا هِيَ ".(4/76)
وَعَن الحكم عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ، وَعَن منهال عَن زر عَن حُذَيْفَة انهما لم يَكُونَا يريان بِهَذَا بَأْسا.
وَرَوَاهُ لَيْث بن أبي سليم عَن عَطاء عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَالْحسن بن عمَارَة مَتْرُوك، وَلَيْث بن ابي سليم لَيْسَ بِقَوي، وَعَطَاء عَن عمر رَضِي الله عَنهُ مُرْسل.
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا رَوَاهُ يُوسُف بن يَعْقُوب عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن وهيب عَن عَطاء عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهَذَا الْإِسْنَاد صَحِيح، غير أَنه قد خُولِفَ فِيهِ، فَرَوَاهُ الثَّوْريّ، وَحَمَّاد بن سَلمَة، وَيحيى بن عُثْمَان عَن عَطاء عَن سعيد من قَوْله: " وروى لنا عِكْرِمَة من قَوْله "، وَاحْتج بِالْآيَةِ الَّتِي احْتج بهَا الشَّافِعِي، رَحمَه الله.
وروى أَبُو أَحْمد بن عدي - بِسَنَدِهِ - عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، قَالَ: " قَالَ شُعْبَة: أَلا تعْجبُونَ من جرير بن حَازِم، هَذَا الْمَجْنُون أَتَانِي(4/77)
هُوَ، وَحَمَّاد بن زيد، فكلماني أَن أكف عَن الْحسن بن عمَارَة، أما أكف عَن ذكره، لَا وَالله لَا اكف عَن ذكره، أما وَالله سَأَلت الحكم عَن الصَّدَقَة تجْعَل فِي صنف وَاحِد مِمَّا سمى الله، فَقَالَ: لَا بَأْس، قلت: مِمَّن سَمِعت؟ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم يَقُوله ".
وَهَذَا الْحسن يحدث عَن الحكم عَن يحيى بن الجرار عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَعَن الحكم عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعَن الحكم عَن حُذَيْفَة، قَالَ: لَا بَأْس أَن يَجْعَل الرجل صدقته فِي صنف وَاحِد "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (185) :
الْفَقِير الْمَذْكُور فِي آيَة الصَّدقَات أمس حَاجَة من الْمِسْكِين الْمَذْكُور فِيهَا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " بل الْمِسْكِين أمس حَاجَة من الْفَقِير ".
وَدَلِيلنَا قَول الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} الْآيَة، فَقدم ذكر الْفُقَرَاء على الْمَسَاكِين، وَمن عَادَة الْعَرَب أَنَّهَا إِذا ذكرت صنفين قد اجْتمعَا فِي صفة بدأت بأهمهما أمرا، وأشدهما حَالا.(4/78)
وَقَول الله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا} الْآيَة.
وَقَالَ الله عز وَجل: {أما السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين يعْملُونَ فِي الْبَحْر} الْآيَة.
وَوجه الدَّلِيل مِنْهُ أَن من حصر عَن الضَّرْب فِي الأَرْض لفقره أَشد حَالا مِمَّن لم تحبسه المسكنة عَن الضَّرْب فِي الْبَحْر، وَله أَيْضا ملك السَّفِينَة.
وَمن الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَ الْمِسْكِين بِهَذَا الطّواف الَّذِي يطوف على النَّاس، فَتَردهُ اللُّقْمَة وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَة وَالتَّمْرَتَانِ، قَالُوا: فَمن الْمِسْكِين يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الَّذِي لَا يجد غنى يُغْنِيه، وَلَا يفْطن لَهُ، فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ، وَلَا يسْأَل النَّاس شَيْئا "، لفظ حَدِيث مُسلم، وَعند البُخَارِيّ " وَلَا يقوم فَيسْأَل النَّاس ".
وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ وَالله أعلم " لَيْسَ الْمِسْكِين بِهَذَا الطّواف " يَعْنِي: لَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْفَقِير الَّذِي لَا شَيْء لَهُ، وَلَا يجد بدا من السُّؤَال حَتَّى يحصل لَهُ لقْمَة، أَو لقمتان، وَإِنَّمَا الْمِسْكِين الَّذِي لَا يجد مَا يُغْنِيه، يَعْنِي تَمام مَا يَكْفِيهِ وَله مِقْدَار مَا يتعفف بِهِ عَن السُّؤَال، فيكتفي بِهِ، وَلَا يسْأَل، وَلَا يفْطن لَهُ؛ فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ بِمَا يَكْفِيهِ.
وَأما من يتعفف وَلَيْسَ لَهُ بعض الْكِفَايَة كَانَ قَاتل نَفسه، فَلَا(4/79)
يسْتَحق هَذَا الثَّنَاء، بل هُوَ ملوم، فَدلَّ أَن المُرَاد مِنْهُ مَا ذكرنَا.
وَفِي هَذَا الْإِيضَاح، وسوق جَمِيع الْخَبَر على وَجهه جَوَاب عَن احتجاج أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْمِسْكِين أمس حَاجَة من الْفَقِير، حَيْثُ إِنَّه نفى المتكفف أَن يكون مِسْكينا، وَجعل الْمِسْكِين الَّذِي لَا يجد مَا يُغْنِيه، أَي: لَا يجد شَيْئا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من رِوَايَة أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَ الْمِسْكِين الَّذِي ترده التمرة وَالتَّمْرَتَانِ، واللقمة وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِين الَّذِي يتعفف، اقرؤوا إِن شِئْتُم {لَا يسئلون النَّاس إلحافا} . وَمن يتعفف، وَلَيْسَ لَهُ بعض كِفَايَة كَانَ قَاتل نَفسه، كَمَا ذكرنَا.
قيل: دلّ على أَن الْمِسْكِين هُوَ الَّذِي لَهُ بعض الْغنى، وَلَا يكون لَهُ تَمام مَا يُغْنِيه، وَالْفَقِير: من لَا مَال لَهُ، وَلَا حِرْفَة تقع مِنْهُ موقعا، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ " أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ تعوذ من الْفقر ".
وَرُوِيَ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انه كَانَ يَقُول: " اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا، وتوفني(4/80)
مِسْكينا، واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين ". قَالَ أَصْحَابنَا: " فقد استعاذ من الْفقر، وَسَأَلَ المسكنة، وَقد كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعض الْكِفَايَة، فَدلَّ على أَن الْمِسْكِين من لَهُ بعض الْكِفَايَة ".
استدلوا بقوله جلّ جَلَاله: {أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة (16) } ، قَالُوا: " وَصفه بِشدَّة الْحَال، والالتزاق بِالتُّرَابِ من الْبُؤْس والفاقة "، قُلْنَا: " لم يقْتَصر فِيهِ على اسْم الْمِسْكِين، حَتَّى قرنه بِمَا دلّ على شدَّة حَاجته "، وَنحن لَا ننكر وُقُوع اسْم أَحدهمَا على الآخر بِقَرِينَة، فاستدلوا بِمَا اسْتدلَّ بِهِ أَبُو عبيد من الحَدِيث، وَمَا سبق من تَفْسِيره جَوَاب عَنهُ.
وَاحْتج القتيبي فِي الْفَقِير بِأَنَّهُ أوسع حَالا من الْمِسْكِين بقول الشَّاعِر:
(أما الْفَقِير الَّذِي كَانَت حلوبته ... وفْق الْعِيَال فَلم يتْرك لَهُ الدَّهْر من سبد)
وَقَالُوا: " الْفَقِير الَّذِي لَهُ حلوبة يحلبها، وَهِي قدر قوته، وقوت عِيَاله، والمسكين: لَا شَيْء لَهُ ".(4/81)
وَجَوَابه أَن نقُول: أما الْبَيْت فحجة عَلَيْكُم، لِأَن مَعْنَاهُ أَن الَّذِي كَانَت حلوبته وفْق قوت عِيَاله لَهُ قبل الْفقر، وَقد صَار بِحَيْثُ لَا سبد لَهُ وَلَا لبد، ثمَّ نقُول: اخْتلف أهل الْمعرفَة فِيهِ، فَمنهمْ من قَالَ مَا ذكرْتُمْ مستدلين بِمَا نقلتم وَبِغَيْرِهِ، وَمِنْهُم من جعل الْفَقِير أَشد حَالا من الْمِسْكِين، لما ذكرنَا من الْأَدِلَّة ولأمثالها.
وَقد ذكر أَبُو مَنْصُور الْأَزْهَرِي رَحمَه الله تَعَالَى اخْتِلَاف أهل اللُّغَة فِيهِ، واحتجاج كل فريق مِنْهُم لما ذهب إِلَيْهِ بحجته، ثمَّ قَالَ: " وَالَّذِي عِنْدِي فيهمَا أَن الْفَقِير والمسكين يجمعهما الْحَاجة، وَإِن كَانَ لَهما مَا يتقوتانه، إِمَّا لِكَثْرَة الْعِيَال أَو قلَّة مَا بأيديهما، وَالْفَقِير أشدهما حَالا؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الْفقر، وَهُوَ كسر الفقار، وَهُوَ فعيل بِمَعْنى مفعول، فَكَأَن الْفَقِير لَا يَنْفَكّ عَن زَمَانه أقعدته عَن التَّصَرُّف مَعَ حَاجته، وَبهَا سمي فَقِيرا؛ لِأَن غَايَة الْحَاجة أَن لَا يكون لَهُ مَال، وَلَا يكون لَهُ سوى الْجَوَارِح مكتسبا، وَالْعرب تَقول للداهية الشَّدِيدَة: فاقرة، وَجَمعهَا فواقر، وَهِي الَّتِي تكسر الفقار، قَالَ الله تَعَالَى: {تظن أَن يفعل بهَا فاقرة (25) } .
وَذكر الْأَهْوَازِي فِي (شرح) احتجاج من جعل الْفَقِير أمس حَاجَة بقوله عز وَجل: {أما السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين يعْملُونَ فِي الْبَحْر} ، سماهم مَسَاكِين، وَلَهُم سفينة لَهَا قيمَة، قَالَ: " وأنشدني (أَحْمد بن يحيى قَالَ) : أَنْشدني ابْن الْأَعرَابِي:(4/82)
(هَل لَك فِي أجر عَظِيم تؤجره ... تغيث مِسْكينا قَلِيلا عسكره)
(عشر شِيَاه سَمعه وبصره ... قد حدث النَّفس بِمصْر يمصره)
(يخَاف أَن يلقاه نسر فينسره ... )
قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: عسكره: جمَاعَة مَاله، فَسمى نَفسه مِسْكينا، وَله بلغَة، وَهِي الشياه الْعشْر "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (186) :
وَلَا يجوز نقل صَدَقَة بلد إِلَى بلد آخر مَعَ وجود / أَهلهَا على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه جَائِز ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن، وَمِنْه: " فَإِذا فعلوا فَأخْبرهُم أَن الله قد فرض عَلَيْهِم زَكَاة، تُؤْخَذ من أغنيائهم، فَترد على فقرائهم. وَعِنْدَهُمَا فِي رِوَايَة: " فَأخْبرهُم أَن عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم، فَترد على فقرائهم ".
وَعند أبي دَاوُد حَدثنَا نصر بن عَليّ، أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن عَطاء(4/83)
مولى عمرَان بن حُصَيْن (عَن أَبِيه أَن زيادا، أَو بعض الْأُمَرَاء " بعث عمرَان بن حُصَيْن) على الصَّدَقَة، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ لعمران: أَيْن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ووضعناها حَيْثُ كُنَّا نضعها على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
استدلوا بِحَدِيث عدي بن حَاتِم، وَقَوله عمر رَضِي الله عَنهُ، وَقَول لَهُ فِيهِ: " وَإِن أول صَدَقَة بيضت وَجه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ووجوه أَصْحَابه صَدَقَة طَيء جِئْت بهَا "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي عوَانَة عَن الْمُغيرَة عَن عَامر عَن الشّعبِيّ عَنهُ.
وَرُوِيَ عَن هشيم بن مجَالد عَن الشّعبِيّ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنه قَالَ: " وَإِن أول صَدَقَة بيضت وُجُوه أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَقَة طَيء، جِئْت بهَا إِلَى أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، فَقلت: أما إِنِّي أتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعام أول، كَمَا أَتَيْتُك بهَا ".(4/84)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ حَدِيث فِي فضل بني تَمِيم، فِيهِ: " وَجَاءَت صَدَقَاتهمْ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَذِه صدقَات قَومنَا ".
وإتيان عدي بن حَاتِم، والزبرقان بن بدر، وَغَيرهمَا بالصدقات إِلَى الْمَدِينَة مَحْمُول على مَا فضل عَن أَهَالِيهمْ فِي مَوضِع الصَّدَقَة، وَيحْتَمل أَن يكون من حَولهمْ لم يسلمُوا بعد، أَو ارْتَدُّوا فِي زمَان أبي بكر، وَكَانَت الْمَدِينَة أقرب دَارا، أَو نسبا إِلَى الْيمن من طَيء وَمُضر. وَيحْتَمل أَن يكون أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَمر بردهَا بعد وصولها إِلَيْهِ إِلَى أَرْبَابهَا، حَيْثُ نقل مِنْهَا، والحكاية حِكَايَة الْحَال، وكل مُحْتَمل، وَالله أعلم.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عُيَيْنَة عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن طَاوس، قَالَ: " قَالَ معَاذ بِالْيمن: ائْتُونِي بخميس، أَو لبيس، آخذه مِنْكُم مَكَان الصَّدَقَة، فَإِنَّهُ أَهْون عَلَيْكُم، وَخير للمهاجرين بِالْمَدِينَةِ "، كَذَا قَالَ. وَخَالفهُ من هُوَ أوثق مِنْهُ عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوس، فَقَالَ: " قَالَ معَاذ بِالْيمن: ائْتُونِي بِعرْض ثِيَاب آخذه مِنْكُم مَكَان الذّرة(4/85)
وَالشعِير ".
قَالَ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " حَدِيث طَاوس عَن معَاذ إِن كَانَ مُرْسلا فَلَا حجَّة فِيهِ ". وَقد قَالَ فِيهِ بَعضهم: " من الْجِزْيَة " مَكَان " الصَّدَقَة ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَهَذَا الْأَلْيَق بمعاذ، رَضِي الله عَنهُ وَالْأَشْبَه بِمَا أمره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ من أَخذ الْجِنْس فِي الصَّدقَات، وَأخذ الدِّينَار، أَو عدله معافر ثِيَاب الْيمن فِي الْجِزْيَة، وَأَن يرد الصَّدقَات على فقرائهم، لَا أَن ينقلها إِلَى الْمُهَاجِرين بِالْمَدِينَةِ الَّذين أَكْثَرهم أهل فَيْء، لَا أهل صَدَقَة "، وَالله أعلم.
فَإِن قيل: كَيفَ يجوز حمله على الْجِزْيَة وَقد روينَا أَنه قَالَ: " آخذه مِنْكُم مَكَان الذّرة وَالشعِير "، وَفِي رِوَايَة مَكَان الصَّدَقَة قُلْنَا: أما قَوْله: " مَكَان الصَّدَقَة "، فَلم يحفظه ابْن ميسرَة، وَخَالفهُ من هُوَ أحفظ مِنْهُ، وَإِن ثَبت فَمَحْمُول على معنى مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم باسم الصَّدَقَة، كبني تغلب، فَإِنَّهُم كَانُوا يُعْطون الْجِزْيَة باسم الصَّدقَات.
وَأما قَوْله: " مَكَان الذّرة وَالشعِير " فَلَعَلَّ معَاذًا رَضِي الله عَنهُ لَو(4/86)
أعسروا بِالدَّنَانِيرِ أَخذ مِنْهُم الشّعير وَالْحِنْطَة، لِأَنَّهُ أَكثر مَا عِنْدهم، وَإِذا جَازَ أَن يتْرك الدِّينَار لعرض، وَهُوَ الْمعَافِرِي فَلَعَلَّهُ جَازَ عِنْده أَن يَأْخُذ مِنْهُم طَعَاما فِي الْجِزْيَة، ثمَّ يَقُول: الثِّيَاب خير للمهاجرين بِالْمَدِينَةِ، وأهون عَلَيْكُم؛ لِأَنَّهُ لَا مُؤنَة كَبِيرَة فِي حمل الثِّيَاب إِلَى الْمَدِينَة، وَالثيَاب بهَا أغْلى مِنْهَا بِالْيمن "، والحكاية حِكَايَة حَال.
يُوضح مَا ذكرنَا أَن رِوَايَة حديثنا وحديثكم عَن معَاذ بن جبل من حَدِيث طَاوس، وَلَو ثَبت عَن معَاذ لطاووس أَنه قضى فِي نقل الصَّدقَات نَحْو مذهبكم لما خَالفه طَاوس، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَمَعْلُوم من مَذْهَب طَاوس رَحمَه الله تَعَالَى أَنه كَانَ لَا يُجِيز بيع الصَّدقَات، وَيحلف أَنه لَا يحل، لَا قبل الْقَبْض، وَلَا بعده.
وَلَو صَحَّ مَا رويتم عَن معَاذ رَضِي الله عَنهُ من أَخذه الثِّيَاب بدل الْحِنْطَة وَالشعِير فِي الصَّدَقَة كَانَ بيع الصَّدَقَة قبل أَن يقبض، ثمَّ قد روينَا قَضَاء معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ فِي الْعشْر وَالصَّدَََقَة من طَرِيق (مطرف بن مَازِن، والاعتماد لنا على مَا سبق من الْأَدِلَّة، وَالله أعلم.
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مطرف بن مَازِن عَن معمر عَن عبد الله ابْن طَاوس عَن أَبِيه أَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قضى: " أَيّمَا رجل انْتقل من مخلاف عشيرته إِلَى غير مخلاف عشيرته فعشره وصدقته إِلَى مخلاف عشيرته إِلَى غير مخلاف عشيرته معشره وصدقته إِلَى مخلاف عشيرته "، فتعارضا، على أَن الْحَدِيثين(4/87)
منقطعان، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " طَاوس لم يدْرك معَاذًا، رَضِي الله عَنهُ ".
(استدلوا) أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يحمل على إبل كَثِيرَة إِلَى الشَّام وَالْعراق.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قلت: لَيست من نعم الصَّدَقَة، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يحمل على مَا يحْتَمل، وَأكْثر فَرَائض الْإِبِل، لَا تحمل أحدا.
وَبَيَانه فِيمَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أخبرنَا بعض أَصْحَابنَا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن مَالك الدَّار عَن يحيى بن عبد الله بن مَالك عَن أَبِيه، أَنه سَأَلَهُ أرايت الْإِبِل الَّتِي كَانَ يحمل عَلَيْهَا عمر رَضِي الله عَنهُ الْغُزَاة، وَعُثْمَان بعده، قَالَ: أَخْبرنِي أَنَّهَا إبل الْجِزْيَة الَّتِي كَانَ يبْعَث بهَا مُعَاوِيَة، وَعَمْرو، رَضِي الله عَنْهُمَا، قلت: وَمِمَّنْ كَانَ يُؤْخَذ؟ قَالَ: من جِزْيَة أهل الذِّمَّة، وَيُؤْخَذ من صدقَات بني تغلب فَرَائض على وجوهها، فتبعث، فيبتاع بهَا إبل جله، فيبعث بهَا إِلَى(4/88)
عمر، رَضِي الله عَنهُ فَيحمل عَلَيْهَا ".
وَالَّذِي يُوضح أَنَّهَا من الْجِزْيَة كَانَ يحمل عَلَيْهَا عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا لَا غير إِنْفَاذ عبد الْملك بن مَرْوَان مِنْهُ إِلَى أهل الْمَدِينَة ألف ألف دِرْهَم من الصَّدَقَة الْمَأْخُوذَة من الْيَمَامَة لما تَأَخّر عَنْهُم حَقهم من الْجِزْيَة، وامتناعهم عَن الْقبُول. وَقَالُوا: " أتطعمنا أوساخ النَّاس، وَمَا لَا يصلح لنا؟ وَكَانَ أَوَّلهمْ سعيد بن الْمسيب، وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن، وخارجة بن زيد، وَابْن عتبَة، وَقد ذَكرْنَاهُ بِتَمَامِهِ فِي كتاب الْمعرفَة.
وَفِيه بَيَان أَيْضا أَن مَا بَعثه معَاذ وَغَيره إِلَى الْمَدِينَة كَانَ من الْجِزْيَة، فَإِن استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، أَنه كَانَ يُؤْتى بنعم من نعم الصَّدَقَة، فَهُوَ مَحْمُول على أَنه إِنَّمَا أُتِي بهَا من أَطْرَاف الْمَدِينَة، ولعلهم استغنوا، فنقلها إِلَى أقرب النَّاس بهم دَارا ونسبا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (187) :
وللفقير أَن يَأْخُذ من الزَّكَاة مَا يقوم بكفايته على الدَّوَام، وَإِن زَاد على مِائَتي دِرْهَم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " الْغنى مِائَتَا دِرْهَم،(4/89)
أَو قيمتهَا ".
دليلنا فِي الْمَسْأَلَة الحَدِيث الصَّحِيح عَن قبيصَة بن مُخَارق رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا تحل الصَّدَقَة إِلَّا لأحد ثَلَاثَة فَذكر الرجل الَّذِي يحمل حمالَة، وَرجل أَصَابَته جَائِحَة، فاجتاحت مَاله، فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة، حَتَّى يُصِيب قواما من عَيْش، أَو قَالَ: سدادا من عَيْش، ثمَّ يمسك، وَمَا سواهن من الْمَسْأَلَة - يَا قبيصَة - سحت "، وَقد تقدم قبل.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَهَذَا فِي رجل عرف بالغني، فأصابته جَائِحَة، فَلَا يعْطى حَتَّى يشْتَهر بِأَن قد أَصَابَته مَا يَدعِي من الْجَائِحَة والفاقة، ثمَّ لم يُوَقت فِيمَا يعْطى قدر النّصاب، وَأحل لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُعْطي مَا يقوم بكفايته، وَتَكون سدا لِحَاجَتِهِ ".
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى فرض على الْأَغْنِيَاء فِي أَمْوَالهم بِقدر مَا يَكْفِي فقراءهم ".
وَرُوِيَ عَن عبد الله قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من سَأَلَ وَله مَا يُغْنِيه جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة خموش، أَو خدوش، أَو كدوح فِي وَجهه، فَقيل: يَا رَسُول الله، وَمَا الْغنى؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب ".(4/90)
وَهَذَا الحَدِيث إِن ثَبت دلّ على أَن الِاعْتِبَار فِي قدر مَا يعْطى بِمَا يقوم بكفايته، وَيكون فِيهِ - عَادَة - سَوَاء من نقص عَن قدر النّصاب، أَو زَاد عَلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الْمَعْنى مَا روينَا عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن رجل من بني أَسد أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من سَأَلَ مِنْكُم، وَله أُوقِيَّة، أَو عدلها فقد سَأَلَ إلحافا ".
وروينا عَن سهل بن حنظلية عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قيل: " مَا الْغَنِيّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي مَعَه الْمَسْأَلَة؟ قَالَ: أَن يكون لَهُ شبع يَوْم وَلَيْلَة ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " وَلَيْسَ شَيْء من هَذِه الْأَحَادِيث يخْتَلف، وَكَأن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم مَا يُغني كل وَاحِد مِنْهُم، فَجعل غناهُ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَن النَّاس يَخْتَلِفُونَ فِي قدر كفايتهم، فَمنهمْ من يُغْنِيه خَمْسُونَ درهما، لَا يُغْنِيه أقل، (وَمِنْهُم من يُغْنِيه أَرْبَعُونَ درهما، لَا يُغْنِيه أقل مِنْهَا، وَمِنْهُم من لَهُ كسب يدر عَلَيْهِ كل يَوْم مَا يغديه ويعشيه، وَلَا عِيَال لَهُ،(4/91)
فَهُوَ مستغن بِهِ، فَإِن لم تقع لَهُ الْكِفَايَة إِلَّا بألوف أعطي قدر أقل الْكِفَايَة بِدَلِيل حَدِيث قبيصَة بن مُخَارق، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (188) :
يجوز للْمَرْأَة أَن تصرف زَكَاتهَا إِلَى زَوجهَا إِذا كَانَ مُحْتَاجا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يجوز ".
لنا حَدِيث زَيْنَب امْرَأَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم فِي سؤالها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَك أجر الصَّدَقَة، وَأجر الصِّلَة، مخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (189) :
إِذا دفع رب المَال الصَّدَقَة إِلَى من ظَاهره الْفقر، ثمَّ بَان أَنه كَانَ غَنِيا لَزِمته الْإِعَادَة، فِي أصح الْقَوْلَيْنِ. وَفِيه قَول آخر: " إِنَّه لَا إِعَادَة عَلَيْهِ ". وَهُوَ قَول أبي حنيفَة.
روى عَن عبيد الله بن عدي بن الْخِيَار عَن رجلَيْنِ قَالَا: " أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يقسم نعم الصَّدَقَة، فَسَأَلْنَاهُ، فَصَعدَ فِينَا الْبَصَر،(4/92)
وَصوب، وَقَالَ: مَا شئتما، وَلَا حق فِيهَا لَغَنِيّ، وَلَا لقوي مكتسب ".
والْحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ " لَا تصلح الصَّدَقَة لَغَنِيّ، وَلَا لذِي مرّة سوي ".
وَلَهُم حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذكر رجلا قَالَ: لأتصدقن، اللَّيْلَة بِصَدقَة فَخرج، فَوضع صدقته فِي يَد غَنِي " الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: " فَقيل لَهُ: أما صدقتك فقد قبلت، وَلَعَلَّ الْغَنِيّ يعْتَبر، فينفق مِمَّا أعطَاهُ الله عز وَجل "، مخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَحَدِيث معن بن يزِيد " كَانَ أبي خرج بِدَنَانِير يتَصَدَّق بهَا، فوضعها عِنْد رجل فِي الْمَسْجِد، فَجئْت فأخذتها، فَأَتَيْته، فَقَالَ: وَالله مَا إياك أردْت بهَا، فَخَاصَمته إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: لَك مَا نَوَيْت يَا يزِيد، وَلَك يَا معن مَا أخذت "، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
ومعن كَانَ مستغنيا بِأَبِيهِ، و (كَانَ) حِين أعطي من صَدَقَة أَبِيه بِجَهَالَة، ثمَّ بَان ذَلِك وَقعت موقعها.(4/93)
وَمن قَالَ بِالْأولِ أجَاب عَن هَذَا، فَقَالَ: هَذِه حِكَايَة حَال، فَيحْتَمل أَن تكون وَارِدَة فِي صَدَقَة التَّطَوُّع دون الْفَرْض، وَقد روينَا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لَيْسَ لولد، وَلَا لوالد حق فِي صَدَقَة مَفْرُوضَة، وروينا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَا دلّ على ذَلِك، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (190) :
يجوز للْإِمَام أَن يسم بنعم الْجِزْيَة وإبل الصَّدَقَة. ويحكى عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه كره ذَلِك.
لنا حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: " دخلت على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأخي، ليحنكه، فرأيته يسم شَاة ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَنهُ، قَالَ: " رَأَيْت فِي يَد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الميسم، وَهُوَ يسم إبل الصَّدَقَة ".
وَعند مُسلم فِي الصَّحِيح عَن ناعم أبي عبد الله مولى أم سَلمَة، أَنه سمع ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول: " رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمارا مَوْسُوم الْوَجْه، فَأنْكر ذَلِك، قَالَ: فوَاللَّه لَا أُسَمِّهِ إِلَّا بأقصى شَيْء من(4/94)
الْوَجْه، فَأمر بِحِمَار لَهُ، فكوى فِي جَاعِرَتَيْهِ فَهُوَ أول من كوى الْجَاعِرَتَيْنِ ".
وَلَيْسَ فِيهِ من الْقَائِل وَهُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وَبَيَانه فِي رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الْملك عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَالله أعلم.(4/95)
(صفحة فارغة)(4/96)
كتاب النِّكَاح
ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة رحمهمَا الله تَعَالَى من كتاب النِّكَاح:
مَسْأَلَة (191) :
الْمَرْأَة لَا تلِي عقد النِّكَاح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " انها تلِي عقد النِّكَاح على نَفسهَا، وعَلى غَيرهَا ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث معقل بن يسَار رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ، قَالَ: " كَانَت لي أُخْت فَخطبت إِلَيّ، فَكنت أمنعها النَّاس فَأَتَانِي ابْن عَم لي فَخَطَبَهَا فأنكحتها إِيَّاه فاصطحبا مَا شَاءَ الله، ثمَّ طَلقهَا طَلَاقا يملك الرّجْعَة، ثمَّ تَركهَا حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا، فَلَمَّا خطبت إِلَيّ أَتَانِي فَخَطَبَهَا مَعَ الْخطاب، فَقلت: منعتها النَّاس وآثرتك، ثمَّ طَلقتهَا طَلَاقا تملك الرّجْعَة، ثمَّ تركتهَا حَتَّى(4/97)
انْقَضتْ عدتهَا، فَلَمَّا خطبت إِلَيّ أتيتني مَعَ الْخطاب! لَا أزَوجك أبدا، فَأنْزل الله عز وَجل: {وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} فكفرت عَن يَمِيني، وأنكحتها إِيَّاه ".
وروى إِسْرَائِيل بن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن أَبِيه قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
كَذَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي الإِمَام، ووكيع، وَيحيى بن آدم، وهَاشِم بن الْقَاسِم، وَعبيد الله بن مُوسَى، وَعبد الله بن رَجَاء عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس، وَهُوَ ثِقَة مُتَّفق على عَدَالَته، وَقد حكمُوا لحديثه هَذَا بِالصِّحَّةِ:
عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن مهْدي يَقُول: " كَانَ(4/98)
إِسْرَائِيل يحفظ حَدِيث أبي إِسْحَاق، كَمَا يحفظ الْحَمد ".
وَعَن أبي مُوسَى: كَانَ عبد الرَّحْمَن يثبت حَدِيث إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق، يَعْنِي فِي النِّكَاح بِغَيْر ولي.
وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم: سَمِعت عَليّ بن الْمَدِينِيّ يَقُول: حَدِيث إِسْرَائِيل صَحِيح فِي " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
هَذَا، وَقد تَابع إِسْرَائِيل على رِوَايَته مَوْصُولا عَن أبي إِسْحَاق يُونُس بن أبي إِسْحَاق، وَزُهَيْر، وَأَبُو عوَانَة، وَشريك، وَقيس بن الرّبيع، وَغَيرهم.
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق الإِمَام: " سَأَلت مُحَمَّد بن يحيى عَن هَذَا الْبَاب، فَقَالَ: حَدِيث إِسْرَائِيل صَحِيح عِنْدِي، فَقلت (لَهُ: وَرَوَاهُ) شُعْبَة، وَالثَّوْري عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالَ: نعم، هَكَذَا روياه، وَلَكنهُمْ كَانُوا يحدثُونَ الحَدِيث فيرسلونه، فَإِذا قيل لَهُم: عَمَّن؟ فيسندونه ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَقد أسنداه فِي رِوَايَة النُّعْمَان بن عبد السَّلَام، وَغَيره عَنْهُمَا، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَافِظ: " النُّعْمَان بن(4/99)
عبد السَّلَام ثِقَة مَأْمُون ".
وَقد روى عَن يُونُس بن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ أَبُو عبد الله الْحَافِظ: لَا أعلم خلافًا بَين أَئِمَّة هَذَا الْعلم فِي عَدَالَة يُونُس بن أبي إِسْحَاق، وَأَن سَمَاعه من أبي بردة مَعَ أَبِيه صَحِيح، ثمَّ لم يخْتَلف عَن يُونُس فِي وصل هَذَا الْإِسْنَاد؛ فَفِيهِ الدَّلِيل الْوَاضِح أَن الْخلاف الَّذِي وَقع على أَبِيه فِيهِ من جِهَة أَصْحَابه، لَا من جِهَة أبي إِسْحَاق ". وَالله أعلم.
وَقد أوردهُ أَبُو دَاوُد فِي السّنَن من حَدِيث يُونُس، وَفِي بعض النّسخ: " قَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ يُونُس بن أبي كثير ". قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ متابع لأبي إِسْحَاق فِي الْوَصْل، وَلَا أرَاهُ مَحْفُوظًا، فقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر الإِمَام، وَأَبُو الْعَبَّاس السراج،(4/100)
فَقَالَا: " عَن أَحْمد بن منيع عَن أبي عُبَيْدَة عَن يُونُس بن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقد وصل هَذَا الحَدِيث عَن أبي بردة نَفسه أَبُو حُصَيْن عُثْمَان بن عَاصِم الثَّقَفِيّ.
وَرُوِيَ عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج أَن سُلَيْمَان بن مُوسَى أخبرهُ أَن ابْن شهَاب أخبرهُ أَن عُرْوَة بن الزبير أخبرهُ أَن عَائِشَة(4/101)
رَضِي الله عَنْهَا أخْبرته، قَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن مواليها فنكاحها بَاطِل، فنكاحها بَاطِل فنكاحها بَاطِل، وَلها الْمهْر بِمَا أَصَابَهَا، فَإِن اشتجروا فالسلطان ولي من لَا ولي لَهُ ".
تَابعه أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد على ذكر سَماع ابْن جريج من سُلَيْمَان وَسَمَاع سُلَيْمَان من الزُّهْرِيّ.
وَرَوَاهُ حجاج بن مُحَمَّد، وَيحيى بن أَيُّوب عَن ابْن جريج، إِلَّا انهما قَالَا: " أَيّمَا / امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا "، وَكَذَا قَالَه عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، وَمُسلم (بن خَالِد) .(4/102)
رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن جريج بِالْإِسْنَادِ عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا (فنكاحها بَاطِل) ثَلَاثًا ".
وَرَوَاهُ ابْن وهب عَن ابْن جريج، وَقَالَ فِيهِ: " لَا تنْكح امْرَأَة بِغَيْر أَمر وَليهَا فَإِن نكحت فنكاحها بَاطِل، ثَلَاث مَرَّات، فَإِن أَصَابَهَا فلهَا مهر مثلهَا بِمَا أصَاب مِنْهَا، فَإِن اشتجروا فالسلطان ولي من لَا ولي لَهُ ".
رُوِيَ عَن أبي حَاتِم الرَّازِيّ قَالَ: " سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل وَذكر عِنْده أَن ابْن عَلَيْهِ يذكر حَدِيث ابْن جريج: (لَا نِكَاح إِلَّا بولِي) ، قَالَ ابْن جريج: فَلَقِيت الزُّهْرِيّ فَسَأَلته عَنهُ فَلم يعرفهُ، وَأثْنى على سُلَيْمَان بن مُوسَى، فَقَالَ أَحْمد: إِن ابْن جريج لَهُ كتب مدونة، وَلَيْسَ هَذَا من كتبه "، يَعْنِي حِكَايَة ابْن علية عَن ابْن جريج.
وَرُوِيَ عَن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد: سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول فِي(4/103)
حَدِيث: (لَا نِكَاح إِلَّا بولِي) الَّذِي يرويهِ ابْن جريج، فَقلت لَهُ: " إِن ابْن علية يَقُول: قَالَ ابْن جريج: فَسَأَلت عَنهُ الزُّهْرِيّ فَقَالَ: لست احفظه "، قَالَ يحيى بن معِين: " لَيْسَ يَقُول هَذَا إِلَّا ابْن علية، وَإِنَّمَا عرض ابْن علية كتب ابْن جريج على عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد فأصلحها لَهُ "، فَقلت ليحيى: " مَا كنت أَظن أَن (عبد الْمجِيد) هَكَذَا! " فَقَالَ: " كَانَ أعلم النَّاس بِحَدِيث ابْن جريج، وَلَكِن لم يبْذل نَفسه للْحَدِيث ".
سُلَيْمَان بن مُوسَى ثِقَة، وَقد احْتج بِهِ مُسلم فِي الصَّحِيح، وَقد رَوَاهُ - كَمَا تقدم - فَوَجَبَ قبُوله، كَيفَ وَقد تَابع على ذَلِك جَعْفَر بن ربيعَة عَن الزُّهْرِيّ.
وَرَوَاهُ الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن الزُّهْرِيّ.
وَله شَاهد غَرِيب تفرد بِهِ بكر بن الشرود الصَّنْعَانِيّ عَن سُفْيَان(4/104)
الثَّوْريّ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَادِي عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
وَرُوِيَ عَن الْحسن بن سُفْيَان: حَدثنَا مُسلم الحرمي حَدثنَا مخلد بن حُسَيْن عَن هِشَام بن حسان عَن ابْن سِيرِين عَن(4/105)
أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزوج الْمَرْأَة المراة، وَلَا تزوج الْمَرْأَة نَفسهَا، إِن البغية الَّتِي تزوج نَفسهَا ". قَالَ الْحسن: " وَسَأَلت يحيى بن معِين عَن رِوَايَة مخلد عَن هِشَام، فَقَالَ: ثِقَة. فَذكرت لَهُ هَذَا الحَدِيث، قَالَ: نعم، قد كَانَ عندنَا شيخ يرفعهُ عَن مخلد، تَابعه عبد السَّلَام بن حَرْب، وَمُحَمّد بن مَرْوَان الْعقيلِيّ عَن هِشَام مَرْفُوعا، وَكَذَلِكَ رَفعه الْمُغيرَة بن مُوسَى، وَغَيره.
وَرُوِيَ عَن أبي عَامر الخزاز عَن ابْن سِيرِين مَرْفُوعا.(4/106)
روى الشَّافِعِي عَن مُسلم، وَسَعِيد عَن ابْن جريج عَن عِكْرِمَة بن خَالِد قَالَ: " سَمِعت فِي الطَّرِيق رفْقَة فيهم امْرَأَة ثيب، فَوَلَّتْ رجلا مِنْهُم أمرهَا، فَزَوجهَا رجلا، فجلد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ الناكح، والمنكح، ورد نِكَاحهَا ".
وَرَوَاهُ الزَّعْفَرَانِي عَن الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم عَن ابْن جريج عَن عبد الحميد بن جُبَير عَن عِكْرِمَة، وَهُوَ أصح.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ روح بن عبَادَة عَن ابْن جريج.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عبد الرَّحْمَن بن معبد بن عُمَيْر " أَن عمر رَضِي الله عَنهُ رد نِكَاح امْرَأَة نكحت بِغَيْر ولي ".
وَعَن مَالك رَحمَه الله أَنه بلغه أَن ابْن الْمسيب كَانَ يَقُول: " قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: " لَا تنْكح الْمَرْأَة إِلَّا بِإِذن وَليهَا، أَو ذِي الرَّأْي من أَهلهَا، أَو السُّلْطَان ".(4/107)
ورويناه مَوْصُولا عَن ابْن الْمسيب فِي كتاب السّنَن.
وَرُوِيَ عَن أبي رَافع أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا يجوز نِكَاح إِلَّا بولِي، أَو إِذْنه، وَلَا يجوز (أَن يشْهد إِلَّا كَمَا) أَمركُم الله ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد صَحِيح - وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد - عَن سُوَيْد بن مقرن عَن عَليّ، رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل، لَا نِكَاح إِلَّا بِإِذن ولي ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ قَالَ: " قَالَ عَليّ، وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا: لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، مَا كَانَ أحد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشد فِي النِّكَاح بِغَيْر ولي من عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يضْرب فِيهِ ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُسلم (عَن ابْن خَيْثَم) عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد، وشاهدي عدل ".
وَرُوِيَ عَن شَيبَان عَن قَتَادَة عَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: (قد علمنَا مَا(4/108)
فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم} . قَالَ: " الَّذِي فرض عَلَيْهِم أَن لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدين وَمهر "، قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " لم يحدث بِهِ عَن شَيبَان غير سُورَة بن حَكِيم، وَسورَة صَدُوق ".
وَرُوِيَ عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ (قَالَ) : " كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْمَرْأَة الَّتِي تزوج نَفسهَا هِيَ الزَّانِيَة ".
وَعَن الْقَاسِم عَن أَبِيه كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تخْطب إِلَيْهَا الْمَرْأَة من أَهلهَا، فَإِذا بقيت عقدَة النِّكَاح قَالَت لبَعض أَهلهَا: " زوج، فَإِن الْمَرْأَة لَا تلِي عقد النِّكَاح ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن النِّكَاح كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة على أَرْبَعَة أنحاء " ... الحَدِيث بِطُولِهِ.
وروى مَالك بن سُلَيْمَان الْهَرَوِيّ حَدِيثا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي النِّكَاح رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَيْمُونَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَمَالك بن سُلَيْمَان مَتْرُوك.(4/109)
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " البغايا اللَّاتِي يزوجن أَنْفسهنَّ، يَعْنِي بِغَيْر ولي، وَلَا يجوز نِكَاح إِلَّا بولِي، وشاهدين، وَمهر مِمَّا قل أَو كثر ".
وَعَن أبي الزِّنَاد قَالَ: " كَانَ من أدْركْت من فقهائنا الَّذين ينتهى إِلَى قَوْلهم - مِنْهُم سعيد بن الْمسيب، وَعُرْوَة بن الزبير، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن، وخارجة بن زيد، وَعبيد الله بن عبد الله، وَسليمَان بن يسَار، فِي مشيخة جلة سواهُم من نظرائهم، أهل فقه وَفضل - كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا تعقد امْرَأَة عقد نِكَاح فِي نَفسهَا، وَلَا فِي غَيرهَا ".
وَرُوِيَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: أخبرنَا مُسلم، وَعبد الْمجِيد عَن ابْن جريج قَالَ: " قَالَ عَمْرو بن دِينَار: نكحت امْرَأَة من بني بكر بن(4/110)
كنَانَة، فَكتب عَلْقَمَة إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله إِذْ هُوَ وَال بِالْمَدِينَةِ: إِنِّي وَليهَا، وَإِنَّهَا نكحت بِغَيْر أَمْرِي، فَرده عمر، وَقد أَصَابَهَا ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا، وإذنها فِي صماتها ".
إِنَّمَا جعلهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَق بِنَفسِهَا فِي الْإِذْن، حَتَّى لَا تكره على النِّكَاح، وَهِي مُخَالفَة للبكر؛ بِدَلِيل مَا عِنْده فِي الصَّحِيح أَيْضا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لتستأمر النِّسَاء فِي أبضعهن "، قَالَت: " قلت: يَا رَسُول الله إنَّهُنَّ يستحيين، قَالَ: الأيم أَحَق بِنَفسِهَا، وَالْبكْر تستأمر، وسكاتها إِقْرَارهَا ".
وَرُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ (أجَاز نِكَاح امْرَأَة زوجتها أمهَا، وأبوها غَائِب. وَقد روينَا عَنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه) قَالَ " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ". فَإِن صَحَّ هَذَا فَكَأَن السُّلْطَان زَوجهَا بِمَسْأَلَة أمهَا، وأبوها(4/111)
غَائِب، وَذَلِكَ جَائِز عندنَا.
وَرُوِيَ ابْن لَهِيعَة عَن عبد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " إِذا كَانَ الْوَلِيّ قصارا فَوَلَّتْ رجلا فَأَنْكحهَا فنكاحها جَائِز ". وَابْن لَهِيعَة لَا يحْتَج بِهِ.
وَرُوِيَ مَالك عَن عبد الرَّحْمَن (بن الْقَاسِم) عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا زوجت حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن من الْمُنْذر بن الزبير، وَعبد الرَّحْمَن غَائِب بِالشَّام، فَلَمَّا قدم عبد الرَّحْمَن قَالَ: " (مثلي يصنع هَذَا بِهِ) ، ويفتات عَلَيْهِ! " فكلمت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الْمُنْذر بن الزبير، فَقَالَ الْمُنْذر: " فَإِن ذَلِك بيد عبد الرَّحْمَن "، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: " مَا كنت لأرد أمرا(4/112)
قضيتيه "، فقرت حَفْصَة عِنْد الْمُنْذر، وَلم يكن ذَلِك طَلَاقا ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (192) :
للْأَب ان يُزَوّج ابْنَته الْبَالِغ دون رِضَاهَا إِذا كَانَت بكرا، كَمَا (لَهُ ذَلِك إِذا) كَانَت صَغِيرَة، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِك إِذا كَانَت ثَيِّبًا، صَغِيرَة كَانَت أَو بَالغا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك " بَالِغَة، وَله ذَلِك " إِذا كَانَت بكرا إِذا كَانَت ثَيِّبًا صَغِيرَة ".
فعندنا الِاعْتِبَار فِيهِ بالبكارة والتثييب، وَعِنْده الِاعْتِبَار بالصغر وَالْبُلُوغ.
فِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا، وإذنها صماتها ".
وَرَوَاهُ بَعضهم فَقَالَ: " وَالْبكْر تستأذن أَبوهَا "، قَالَ أَبُو دَاوُد: " (أَبوهَا: لَيْسَ بِمَحْفُوظ ".(4/113)
وروى أَبُو دَاوُد) عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ للْوَلِيّ مَعَ الثّيّب أَمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إِقْرَارهَا. رُوَاته ثِقَات.
وَفِي هَذَا الْخَبَر دَلِيل على أَن المُرَاد بالبكر الَّتِي تستأذن الْيَتِيمَة يُزَوّجهَا غير الْأَب وَالْجد، بعد بُلُوغهَا بِإِذْنِهَا، ويقنع مِنْهَا بِالسُّكُوتِ حِينَئِذٍ فِي الْإِذْن فِي ظَاهر الْمَذْهَب.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تنْكح الثّيّب حَتَّى تستأمر، وَلَا الْبكر حَتَّى تستأذن ". قيل: يَا رَسُول الله، كَيفَ إِذْنهَا؟ قَالَ: " إِذا سكتت فَهُوَ رِضَاهَا ".
وَالْمرَاد فِيهِ بالبكر الْيَتِيمَة بِدَلِيل رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تستأمر الْيَتِيمَة فِي نَفسهَا، فَإِن سكتت فَهُوَ إِذْنهَا، وَإِن أَبَت فَلَا جَوَاز عَلَيْهَا ".
وَرُوِيَ عَن أبي بردة عَن أَبِيه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْيَتِيمَة بِنَحْوِ مَعْنَاهُ.(4/114)
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن خنساء بنت خدام رَضِي الله عَنْهَا " أَن أَبَاهَا زَوجهَا وَهِي بنت، فَكرِهت ذَلِك، فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرد نِكَاحهَا ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تستأمر النِّسَاء فِي أبضاعهن "، فَقيل: " إِن الْبكر تستحيي " قَالَ: " إِذْنهَا سكُوتهَا "، أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيح من حَدِيث ابْن جريج، وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَنهُ، وَقَالَ فِيهِ: " تستأمر الْيَتِيمَة ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " تزَوجنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا ابْنة سبع، وَبنى بِي وَأَنا ابْنة تسع ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَلَو كَانَت إِذا بلغت أَحَق بِنَفسِهَا أشبه أَن لَا يجوز ذَلِك عَلَيْهَا قبل بُلُوغهَا، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَوْلُود يقتل أَبوهُ يحبس قَاتله حَتَّى يبلغ، فيقيد، أَو يعْفُو ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن جرير (عَن أَيُّوب) عَن عِكْرِمَة عَن ابْن(4/115)
عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن جَارِيَة بكرا أَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكرت لَهُ أَن أَبَاهَا زَوجهَا وَهِي كارهة، فَخَيرهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
يُقَال: إِن هَذَا الْخَبَر فِي الأَصْل مُرْسل، وكل من ذكر فِي الْإِسْنَاد ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فقد وهم، قَالُوا: وَهَذَا مِمَّا أَخطَأ فِيهِ جرير على أَيُّوب، وَالْمَحْفُوظ: عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة مُرْسلا.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب مُرْسلا، وَقَالَ: " هَذَا رَوَاهُ النَّاس مُرْسلا مَعْرُوفا ".
وَرُوِيَ من وَجه آخر عبد الْملك الذمارِي: حَدثنَا سُفْيَان عَن هِشَام عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رد نِكَاح بكر وثيب أنكحهما أَبوهُمَا وهما كارهتان ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " هَذَا وهم، وَالصَّوَاب: عَن يحيى عَن المُهَاجر عَن عِكْرِمَة، مُرْسل: وهم فِيهِ الذمارِي على الثَّوْريّ، وَلَيْسَ بِقَوي (مُتَّصِل) ".(4/116)
وَهُوَ فِي جَامع الثَّوْريّ كَمَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ رَحمَه الله تَعَالَى، مُرْسلا. (وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَامَّة أَصْحَابه عَنهُ) ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم (عَن هِشَام) مُرْسلا، (قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظ) .
وَرُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ " أَن رجلا زوج ابْنَته - وَهِي بكر - من غير أمرهَا، فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَفرق بَينهمَا ".
يُقَال: إِن هَذَا وهم، وَالصَّوَاب: عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مرّة عَن عَطاء عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، كَذَا رَوَاهُ عبد الله بن الْمُبَارك الإِمَام، وَعِيسَى بن يُونُس، وَغَيرهمَا عَن الْأَوْزَاعِيّ.
قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " لم يسمعهُ الْأَوْزَاعِيّ من عَطاء، والْحَدِيث فِي الأَصْل مُرْسل لعطاء، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الثِّقَات عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مرّة عَن عَطاء عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " الصَّحِيح مُرْسل، وَقَول شُعَيْب وهم؛ حَدثنَا دعْلج حَدثنَا الْخضر بن دَاوُد حَدثنَا الْأَثْرَم قَالَ: " ذكرت لأبي عبد الله يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل، رَحمَه الله حَدِيث شُعَيْب بن إِسْحَاق عَن(4/117)
الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء (عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: حدّثنَاهُ أَبُو الْمُغيرَة عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء) مُرْسلا، مثل هَذَا عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ كالمنكر أَن يكون ".
وروى عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ حَدِيثا مَرْفُوعا فِي رد نِكَاح امْرَأتَيْنِ بكر وثيب زَوجهمَا أَبوهُمَا بكره مِنْهُمَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن رجلا زوج ابْنَته بكرا وكرهت ذَلِك، فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرد نِكَاحهَا ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لَا يثبت هَذَا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع، (وَالصَّوَاب حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن عمر بن حُسَيْن "، يَعْنِي عَن نَافِع) حَدِيث ابْنة عُثْمَان بن مَظْعُون، وَهُوَ مخرج بعد هَذَا، وَارِد(4/118)
فِي الْوَلِيّ غير الْأَب وَالْجد.
وروى سعيد بن إِسْرَائِيل الْقطعِي بِإِسْنَاد لَهُ عَن خنساء بنت خذام رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " أنكحني أبي وَأَنا كارهة، وَأَنا بكر، فشكوت ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَا تنكحها وَهِي كارهة ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " عِنْدِي أَن هَذَا وهم من الْقطعِي، أَو غَيره، وَالصَّوَاب: عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عبد الرَّحْمَن، وَمجمع ابْني يزِيد بن جَارِيَة عَن خنساء بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ "، ثمَّ ذكر حَدِيث مَالك عَنهُ، الْمخْرج فِي صَحِيح البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: " هَذَا هُوَ الصَّوَاب ".
وَالله أعلم.(4/119)
مَسْأَلَة (193)
- لم يذكرهَا الإِمَام - النِّكَاح لَا يقف على الْإِجَازَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه يقف على الْإِجَازَة ".
وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى بِحَدِيث خنساء رَضِي الله عَنْهَا فَقَالَ: " وَفِي تَركه أَن يَقُول لخنساء: " إِلَّا أَن تشائي أَن تجيزي مَا فعل أَبوك " دلَالَة أَنَّهَا لَو أجازته مَا جَازَ " وَقد سبق ذكرنَا لَهُ.
وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا أَيْضا بِحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تنْكح امْرَأَة بِغَيْر أَمر وَليهَا، فَإِن نكحت فنكاحها بَاطِل "، وَقد سبق ذكرنَا لَهُ أَيْضا.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا نكح العَبْد بِغَيْر إِذن مَوْلَاهُ فنكاحه بَاطِل ".
وَرُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذا تزوج العَبْد بِغَيْر إِذن سَيّده كَانَ عاهرا ".(4/120)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُرْوَة عَن أم حَبِيبَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا كَانَت تَحت عبيد الله بن جحش، فَمَاتَ بِالْحَبَشَةِ، فَزَوجهَا النَّجَاشِيّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَمْهَرهَا عَنهُ أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، وَبعث بهَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ شُرَحْبِيل بن حَسَنَة ... ".
قَالُوا: " كَانَ مَوْقُوفا على قبُول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قُلْنَا: بل كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث عَمْرو بن أُميَّة وَكيلا لقبُول العقد، رُوِيَ ذَلِك عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن(4/121)
الْحُسَيْن.
وَأما مَا رُوِيَ عَن ابْن بُرَيْدَة: " جَاءَت فتاة إِلَى عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَقَالَت: إِن أبي زَوجنِي ابْن أَخِيه، ليرْفَع خسيسته، وَإِنِّي كرهت ذَلِك، فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: اقعدي حَتَّى يَأْتِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاذكري ذَلِك لَهُ، فجَاء نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَأرْسل إِلَى أَبِيهَا، فَلَمَّا جَاءَ أَبوهَا جعل أمرهَا إِلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَن الْأَمر قد جعل إِلَيْهَا قَالَت: إِنِّي قد أجزت مَا صنع وَالِدي، وَإِنَّمَا أردْت أَن أعلم هَل للنِّسَاء من الْأَمر شَيْء أم لَا "، فَهُوَ مُرْسل؛ ابْن بُرَيْدَة لم يسمع من عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ.(4/122)
ثمَّ نقُول: إِن ثَبت هَذَا كَانَ العقد منعقدا، ولكنت كَانَ لَهَا ولَايَة الْفَسْخ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (194) :
وَلَا يَصح النِّكَاح بِشَهَادَة فاسقين، وَلَا شَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يَصح "، وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة.
قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذا بلغن أَجلهنَّ فأمسكوهن بِمَعْرُوف أَو فارقوهن بِمَعْرُوف واشهدوا ذَوي عدل مِنْكُم وَأقِيمُوا الشَّهَادَة لله} .
رُوِيَ عَن ابْن جريج عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا وشاهدي عدل فنكاحها بَاطِل " ... الحَدِيث.
وَفِي رِوَايَة قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " تَابعه - يَعْنِي سُلَيْمَان بن عمر - عبد الرَّحْمَن بن يُونُس(4/123)
عَن عِيسَى بن يُونُس ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سعيد بن خَالِد بن عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان، وَيزِيد بن سِنَان، ونوح بن دراج، وَعبد الله بن حَكِيم، عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالُوا فِيهِ: " وشاهدي عدل ".
(وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل، فَمن تزوج بِغَيْر إِذن ولي فقد بَطل نِكَاحه "، وَالصَّحِيح: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَوْقُوفا، وَقد أخرجناه فِي مَوْضِعه فِي الْمَسْأَلَة بعْدهَا.(4/124)
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل ".
وَرُوِيَ عَن الْحسن أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يحل نِكَاح إِلَّا بولِي، وصداق، وشاهدي عدل ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " هَذَا وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا دون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِن أَكثر أهل الْعلم يَقُول بِهِ، ونقول: الْفرق بَين النِّكَاح والسفاح: الشُّهُود. وَهُوَ ثَابت عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيره من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرَوَاهُ عبد الله بن مُحَرر عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن عمرَان بن الْحصين رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل، وَابْن مُحَرر مَتْرُوك.(4/125)
وَرُوِيَ عَن الْمُغيرَة بن مُوسَى عَن هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وخاطب وشاهدي عدل ".
قَالَ ابْن عدي: " الْمُغيرَة بن مُوسَى فِي نَفسه ثِقَة ".
وَرُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب، وَالْحسن أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل " إِسْنَاده صَحِيح، وَابْن الْمسيب رَحمَه الله راوية عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ ابْن عمر يسْأَله عَن شَأْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن منْدَل عَن أبي النَّضر عَن الْحسن قَالَ:(4/126)
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشهود ".
قَالُوا: " رجل وَامْرَأَتَانِ شُهُود "، وَهَذَا لَا يَصح، ومندل بن عَليّ ضَعِيف.
وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن عَطاء عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أجَاز رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ فِي النِّكَاح "، وَهَذَا لَا يثبت، وَالْحجاج بن أَرْطَأَة لَا يحْتَج بِهِ، وَهُوَ مُرْسل؛ عَطاء لم يسمع من عمر رَضِي الله عَنهُ شَيْئا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (195) :
الْفَاسِق الْمُعْلن لَا يكون وليا فِي التَّزْوِيج فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يكون وليا، وَيصِح تَزْوِيجه ".
روى الطَّبَرَانِيّ عَن أَحْمد بن الْقَاسِم عَن القواريري عَن(4/127)
الْحَرْبِيّ، وَعَن بشر، وَابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن ابْن خثيم عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بِإِذن ولي مرشد، أَو سُلْطَان ".
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَن ابْن حَنْبَل وَمُحَمّد بن عَبدُوس السراج عَن القواريري، قَالَ الطَّبَرَانِيّ: " لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان مَرْفُوعا إِلَّا بشر، وَابْن مهْدي، وَالْحَرْبِيّ، تفرد بِهِ القواريري ": (عبيد الله) بن عمر القواريري ثِقَة، مُتَّفق على عَدَالَته، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن معَاذ بن الْمثنى عَن القواريري عَن عبد الله بن دَاوُد عَن سُفْيَان.
وَرَوَاهُ عدي بن الْفضل عَن ابْن خثيم عَن سعيد بن جُبَير عَن(4/128)
ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وشاهدي عدل، فَإِن أنْكحهَا ولي مسخوط عَلَيْهِ فنكاحها بَاطِل ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُسلم بن خَالِد، وَسَعِيد بن سَالم عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم عَن سعيد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا نِكَاح إِلَّا بشاهدي عدل، وَولي مرشد "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (196) :
وَلَا يُزَوّج الْبكر الصَّغِيرَة إِلَّا أَبوهَا، أَو جدها، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يُزَوّجهَا الْأَخ، وَابْن الْأَخ، وَالْعم وَابْن الْعم، وَمن هُوَ ولي تَزْوِيجهَا بعد بُلُوغهَا "، وَكَذَا عِنْده الثّيّب الصَّغِيرَة، وَعِنْدنَا(4/129)
لَا يُزَوّجهَا وَاحِد مِنْهُم قبل بُلُوغهَا إِلَّا الْأَب، وَلَا غَيره.
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا ".
وَقَوله: " تستأمر الْيَتِيمَة فِي نَفسهَا ".
وَقَوله: " لَا تنْكح الثّيّب حَتَّى تستأمر، وَلَا الْبكر حَتَّى تستأذن ". وكل ذَلِك قد ذَكرْنَاهُ، فأغنى عَن إِعَادَته.
وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن إِسْحَاق، حَدثنِي عمر بن حُسَيْن مولى آل حَاطِب عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: " توفّي عُثْمَان بن مَظْعُون، وَترك ابْنة لَهُ من خَوْلَة بنت حَكِيم بن أُميَّة، وَأوصى إِلَى أَخِيه قدامَة بن مَظْعُون، وهما خالاي، فَخطبت إِلَى قدامَة ابْنة عُثْمَان، فزوجنيها، فَدخل الْمُغيرَة إِلَى أمهَا فأرغبها فِي المَال، فحطت إِلَيْهِ، وحطت الْجَارِيَة إِلَى هوى أمهَا حَتَّى ارْتَفع أَمرهم إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ قدامَة: " يَا رَسُول الله، ابْنة أخي، وَأوصى(4/130)
بهَا إِلَيّ، فزوجتها ابْن عمر، وَلم أقصر بالصلاح والكفاءة، وَلكنهَا امْرَأَة، وَأَنَّهَا حطت إِلَى هوى أمهَا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هِيَ يتيمة، وَلَا تنْكح إِلَّا بأذنها، فانتزعت مني وَالله بَعْدَمَا ملكتها، فزوجوها الْمُغيرَة ". تَابعه ابْن أبي ذِئْب عَن عمر بن حُسَيْن مُخْتَصرا، ورويناه بِإِسْنَادِهِ فِي السّنَن الْكُبْرَى.
وَلنَا أَيْضا حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَحَدِيث أبي بردة عَن أَبِيه رَضِي الله عَنْهُم قَالَا: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تستأمر الْيَتِيمَة فِي نَفسهَا " الحَدِيث، وَقد رويناهما بإسنادهما فِي مَسْأَلَة " إِجْبَار الْبكر " قبل هَذَا، فَشرط إِذْنهَا، وَأمر أَن تستأمر، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى قبل بُلُوغهَا، فَدلَّ على أَنه يجب لَهُ انْتِظَار بُلُوغهَا بإنكاحها.
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ " إِذا بلغ النِّسَاء نَص الْحَقَائِق فالعصبة أولى "، فَجعل رَضِي الله عَنهُ الْعصبَة أولى بِالتَّزْوِيجِ عِنْد بُلُوغهَا، فَدلَّ على أَنه لَيْسَ لَهُم ذَلِك قبله.
قَالَ أَبُو عبيد: " بَعضهم يَقُول: " الحقاق، وَهُوَ من المحاقة - يَعْنِي الْمُخَاصمَة - أَن تحاق الْأُم الْعصبَة فِيهِنَّ، فَهِيَ نَص الحقاق، إِنَّمَا هُوَ الْإِدْرَاك، لِأَنَّهُ مُنْتَهى الصغر، فَإِذا بلغ النِّسَاء ذَلِك فالعصبة أولى بِالْمَرْأَةِ من أمهَا إِذا كَانُوا محرما، وبتزويجها أَيْضا إِن أَرَادوا ". قَالَ: " وَهَذَا يبين لَك أَن الْعصبَة، والأولياء غير الْآبَاء لَيْسَ لَهُم أَن يزوجوا(4/131)
الْيَتِيمَة حَتَّى تدْرك، وَلَو كَانَ لَهُم ذَلِك لم ينتظروا بهَا نَص الحقاق ". قَالَ: " وَمن رَوَاهُ نَص الْحَقَائِق فَإِنَّمَا جمع حَقِيقَة ".
استدلوا بِحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي تَفْسِير قَول الله عز وَجل: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} الْمخْرج فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عُرْوَة عَنْهَا.
(قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " الْقَصْد من هَذِه الْآيَة، وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا) النَّهْي عَن نِكَاحهنَّ دون إِكْمَال صداقهن، ثمَّ مَتى ينكحهن وَمن ينكحهن فَهُوَ مُسْتَفَاد من مَوضِع آخر، وَلَيْسَ فِي الْآيَة نَص على تزويجهن قبل الْبلُوغ.
استدلوا أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن عمَارَة بنت حَمْزَة بن عبد الْمطلب كَانَت بِمَكَّة، فَلَمَّا قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يَعْنِي فِي عمْرَة الْقَضِيَّة خرج بهَا عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تزَوجهَا "، فَقَالَ: " ابْنة أخي من الرضَاعَة "، فَزَوجهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلمَة بن أبي سَلمَة، فَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " هَل(4/132)
جزيت سَلمَة ".
قُلْنَا: هَذَا إِسْنَاد فِيهِ ضعف، ثمَّ إِن صَحَّ فَإِنَّمَا زَوجهَا بِمَالِه من عُمُوم الْولَايَة، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم، يُوضح صِحَة مَا ذكرنَا أَن الْعَبَّاس رَضِي اله عَنهُ وَهُوَ أقرب إِلَيْهَا نسبا من حَيْثُ الْقَرَابَة والتعصيب، وَلم يوله تَزْوِيجهَا، فَدلَّ أَنه إِن فعل إِنَّمَا فعل لما ذكرنَا؛ على أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث، إِنَّهَا كَانَت صَغِيرَة، فتثبتوا ذَلِك حَتَّى يكون لكم فِيهِ حجَّة "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (197) :
وَإِذا كَانَ ولي الْمَرْأَة ابْن عَمها، فَأَرَادَ أَن يتَزَوَّج بهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَن يتَوَلَّى طرفِي العقد بِنَفسِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يجوز ".
لنا حَدِيث الْمُغيرَة بن مُوسَى عَن هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وخاطب، وشاهدي عدل ".
رَوَاهُ بَعضهم من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا أَيْضا: " لَا يحل نِكَاح إِلَّا بأَرْبعَة: ولي، ومنكح، وخاطب، وشاهدين " بِإِسْنَاد ضَعِيف.(4/133)
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من قَوْله: " لَا نِكَاح إِلَّا بأَرْبعَة، ولي، وشاهدين، وخاطب ".
وَرَوَاهُ مُعَاوِيَة بن هِشَام عَن سُفْيَان عَن أبي يحيى عَن رجل يُقَال لَهُ الحكم بن هِشَام عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " ادنى مَا يكون فِي النِّكَاح أَرْبَعَة: الَّذِي تزوج، وَالَّذِي يُزَوّج، وشاهدان ". وَله شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن قَتَادَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَإِن لم يُدْرِكهُ قَتَادَة، روينَاهُ فِي السّنَن الْكُبْرَى.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر أَن الْمُغيرَة أَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة هُوَ وَليهَا، فَجعل أمرهَا إِلَى رجل الْمُغيرَة أولى بهَا مِنْهُ، فَزَوجهُ. قُلْنَا: " هَذَا مُرْسل، وَإِن صَحَّ فَفِيهِ كالدلالة على أَن الْوَلِيّ لَا يتَوَلَّى طرفِي العقد بِنَفسِهِ "، وَالله أعلم.(4/134)
مَسْأَلَة (198) :
وَلَا يُزَوّج الابْن أمه بِحَق الْبُنُوَّة، وَلَا يكون وليا لَهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يُزَوّجهَا ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على الْمعَانِي.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن ابْن عمر ابْن أبي سَلمَة عَن أَبِيه عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أَصَابَته مُصِيبَة فَلْيقل: {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} ، اللَّهُمَّ عنْدك أحتسب مصيبتي، فأجرني فِيهَا، وأبدلني بهَا خيرا مِنْهَا، قلت فِي نَفسِي: وَمن خير من أبي سَلمَة! ثمَّ قلتهَا، فَلَمَّا انْقَضتْ عدتهَا بعث إِلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يخطبها عَلَيْهِ، فَقَالَت لابنها: يَا عمر، قُم، فزوج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَزَوجهُ ".
قَالَ أَصْحَابنَا: " نِكَاح النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجوز خلْوَة عَن الْوَلِيّ، وَعمر بن أبي سَلمَة، كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت صَغِيرا، وَلَا يكون للصغار ولَايَة، أَو كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا يَجْعَل ولايتها إِلَيْهِ، فَزَوجهَا مِنْهُ هَذَا، وَعمر بن أبي سَلمَة كَانَ ابْن عَمها من الْبعد، وَكَانَ عصبَة لَهَا؛(4/135)
وَذَلِكَ لِأَن أم سَلمَة هِنْد بنت أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر ابْن مَخْزُوم ". (وَسَلَمَة بن عبد الله بن عبد الْأسد بن هِلَال بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم) .
وَذكر أَبُو نصر الكلاباذي الْحَافِظ رَحمَه الله تَعَالَى أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تزوج أم سَلمَة بعد وقْعَة بدر، وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توفّي، وَعمر بن أبي سَلمَة ابْن تسع سِنِين، وَمَات فِي خلَافَة عبد الْملك بن مَرْوَان، رَضِي الله عَنهُ ".
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا طَلْحَة خطب أم سليم، فَقَالَت: " يَا أَبَا طَلْحَة أَلَسْت تعلم أَن الرجل الَّذِي تعبد خَشَبَة تنْبت من الأَرْض ينجرها حبشِي بني فلَان؟ إِن أَنْت أسلمت لم أرد مِنْك من الصَدَاق غَيره، فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، قَالَت: يَا أنس، زوج أَبَا طَلْحَة "، وَأنس ابْنهَا وعصبتها، فَإِنَّهُ أنس بن مَالك بن النَّضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حرَام ". وَأم سليم هِيَ ابْنة ملْحَان بن خَالِد بن زيد بن حرَام، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (199) :
وَلَا يُزَوّج الْأَب ابْنَته الصَّغِيرَة من عبد، وَلَا مَجْنُون، وَلَا من بِهِ أحد الْعُيُوب الْأَرْبَعَة، وَلَا غير كُفْء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله:(4/136)
" لَهُ أَن يُزَوّجهَا من هَؤُلَاءِ كلهم ".
لنا مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تخَيرُوا لنُطَفِكُمْ، وَأنْكحُوا الْأَكفاء، وَأنْكحُوا إِلَيْهِم "، وَالله اعْلَم.
مَسْأَلَة (200) :
وَلَا يعْقد النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة، وَالْبيع، وَمَا أشبههما من أَلْفَاظ عُقُود التَّمْلِيك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " ينْعَقد ".
لنا من الْكتاب الْعَزِيز قَول الله عز وَجل: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن اراد النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} .
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فأبان - جلّ ثَنَاؤُهُ - أَن الْهِبَة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دون الْمُؤمنِينَ، على أَن لَا يجوز نِكَاح إِلَّا باسم النِّكَاح، أَو التَّزْوِيج ".
وَفِي صَحِيح مُسلم حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة حجَّة الْوَدَاع عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَاتَّقُوا الله فِي النِّسَاء، فَإِنَّكُم(4/137)
أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله ". وَفِيه الدَّلِيل على أَن الْفرج لَا يستباح إِلَّا بِكَلِمَة الله: النِّكَاح، أَو التَّزْوِيج، وهما اللَّذَان قد ورد بهما الْقُرْآن.
استدلوا بِحَدِيث سهل بن سعد، رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة الَّتِي جَاءَت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَوهبت نَفسهَا لَهُ، الْمُتَّفق على صِحَّته.
وَفِيه فِي رِوَايَة قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن، وَعبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ للرجل الَّذِي زوجه بهَا: " اذْهَبْ، فقد زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن "، (أَخْرجَاهُ عَنهُ، وَأَخْرَجَا الحَدِيث من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن أبي حَازِم، وَفِيه قَالَ: " اذْهَبْ فقد زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن ".
وَرَوَاهُ فُضَيْل بن سُلَيْمَان عَن أبي حَازِم، فَقَالَ: " اذْهَبْ فقد زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن ".(4/138)
وَرَوَاهُ عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي عَن أبي حَازِم، قَالَ: " فقد زَوجتك على مَا عنْدك من الْقُرْآن ".
وَرَوَاهُ زَائِدَة عَن أبي حَاتِم، قَالَ: " انْطلق، فقد زوجتكها بِمَا تعلمهَا من الْقُرْآن ".
وَلم ينْقل فِي هَذَا الحَدِيث ثِقَة عَن أبي حَازِم عَن سهل رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قد ملكتكها " إِلَّا ويروي عَن ذَلِك الثِّقَة من وَجه آخر " قد ملكتها " بكاف وَاحِد، وَالله أعلم.
وبالإجماع لَا ينْعَقد النِّكَاح بقوله: " ملكتها "، فَدلَّ أَن قَوْله: " ملكتها " أَو " ملكتكها " إِن كَانَ مَحْفُوظًا صدر بعد لفظ التَّزْوِيج خَبرا عَن ملكه بضعهَا بِالتَّزْوِيجِ، على أَن رِوَايَة الْجُمْهُور التَّزْوِيج أَو الْإِنْكَاح، وَالْجَمَاعَة أولى بِالْحِفْظِ من الْوَاحِد، وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (201) :
وَالزِّنَا لَا يحرم الْحَلَال، وَلَا يُوقع تَحْرِيم الْمُصَاهَرَة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه يُوقع تَحْرِيم الْمُصَاهَرَة ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على كتاب الله تَعَالَى، والمعاني، وَقد صَحَّ ذَلِك عَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَا يَصح عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، خلاف قَوْله، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنهُ، وَعَن(4/139)
ابْن الْمسيب، وَيحيى بن يعمر، وَعُرْوَة بن الزبير، وَمُجاهد، وَالْحسن، وَالزهْرِيّ. وَرُوِيَ ذَلِك عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وَجه لَيْسَ بساقط، عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يحرم الْحَرَام الْحَلَال ". وَله شَاهد من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا بِمثلِهِ.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا ينظر الله عز وَجل إِلَى رجل إِلَى رجل نظر إِلَى فرج امْرَأَة وابنتها "، قَالَ عَليّ: مَوْقُوف، فِيهِ لَيْث وَحَمَّاد ضعيفان، ثمَّ يَقُول: " هُوَ مَحْمُول على مَا إِذا جَمعهمَا نِكَاحه، أَو زِنَاهُ ".
وَاسْتشْهدَ بَعضهم بِمَا حكى الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى أَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: " مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة مَلْعُون من نظر إِلَى فرج امْرَأَة وابنتها "، (ثمَّ أجَاب الشَّافِعِي: رَحمَه الله فَقَالَ: " لَا أدفَع هَذَا؛ وأصغر ذَنبا من الزَّانِي بِالْمَرْأَةِ وابنتها) ، (وَالْمَرْأَة بِلَا ابْنة) مَلْعُون، قد لعنت الْوَاصِلَة، والموصولة، والمختنية، وَالزِّنَا أعظم من هَذَا كُله، وَلَو كنت حرمته لقَوْله: " مَلْعُون " لزمك مَكَان هَذَا فِي آكل الرِّبَا وموكله وَأَنت لَا تمنع من الرِّبَا إِذا اشْترى بِمَا يحل، وَلَا إِذا اختنى قبرا أَن يحل حفر غَيره، يَعْنِي لغَرَض مُبَاح، (وَلَا أَن) يحْفر مختن مَا نبشه(4/140)
مرّة إِذا ذهب الْمَيِّت بالبلى، فَقل هَهُنَا أَيْضا: " الْحَرَام لَا يمْنَع الْحَلَال ".
وروى جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: " مَا اجْتمع الْحَرَام والحلال إِلَّا غلب الْحَرَام الْحَلَال ". وَجَابِر ضَعِيف، لَا يحْتَج بِهِ، ثمَّ هُوَ معَارض بِحَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَا يحرم الْحَرَام الْحَلَال ".
وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن ابْن هَانِئ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذا نظر الرجل إِلَى فرج الْمَرْأَة حرمت عَلَيْهِ أمهَا وابنتها ".
وَرِوَايَته فِي مَوضِع آخر عَن أم هَانِئ، وَهَذَا مُنْقَطع بَين الْحجَّاج وَأم هَانِئ، أَو بَين (ابْن هاني) ، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْحجاج لَا يقبل مِنْهُ مَا يتفرد بِهِ مِمَّا يسْندهُ، فَكيف يقبل مِنْهُ مَا يُرْسِلهُ! وَالله أعلم.(4/141)
مَسْأَلَة (202) :
وَمن وجد طول حرَّة لم يجز لَهُ نِكَاح أمة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يجوز ".
وَهَذَا خلاف ظَاهر الْقُرْآن، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِك لمن خشى الْعَنَت مِنْكُم وَأَن تصبروا خير لكم وَالله غَفُور رَحِيم} ، فأباح نِكَاح الْأمة بِشَرْطَيْنِ: بِعَدَمِ الطول، وخشية الْعَنَت، فَلَا يُبَاح حَتَّى يُوجد الشرطان جَمِيعًا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة قَالَ: " يَقُول: من لم يكن لَهُ سَعَة أَن ينْكح الْحَرَائِر فَلْيَنْكِح من إِمَاء الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ لمن خشِي الْعَنَت، وَهُوَ الْفُجُور، فَلَيْسَ لأحد من الْأَحْرَار أَن ينْكح إِلَّا أَن لَا يقدر على حرَّة، وَهُوَ يخْشَى الْعَنَت، وَأَن تصبروا عَن نِكَاح الْإِمَاء فَهُوَ خير لكم ".
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: " الطول الْغنى إِذا لم يجد مَا ينْكح بِهِ الْحرَّة تزوج أمة، وَأَن تصبروا خير لكم "، قَالَ عَن نِكَاح الْإِمَاء.(4/142)
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " من ملك ثَلَاثمِائَة دِرْهَم وَجب عَلَيْهِ الْحَج، وَحرم عَلَيْهِ نِكَاح الْإِمَاء ".
وَعَن جَابر بن عبد الله، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " من وجد صدَاق حرَّة فَلَا ينْكح أمة ".
وَرُوِيَ عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن أبي الشعْثَاء قَالَ: " لَا يصلح نِكَاح الْإِمَاء الْيَوْم؛ لِأَنَّهُ يجد طولا إِلَى حرَّة ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ قَالَ: " هِيَ بِمَنْزِلَة الْميتَة يضْطَر إِلَيْهَا، فَإِذا أَغْنَاك الله عَنْهَا فاستغنه ".
وَعَن طَاوُوس قَالَ: " لَا يحل للْحرّ أَن ينْكح الْأمة، وَهُوَ يجد طولا لحرة ".
وَقد روينَا أَيْضا عَن الْحسن نَحْو مَذْهَبنَا فِي كتاب السّنَن.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَلَا يجوز عندنَا للْمُسلمِ نِكَاح أمة كِتَابِيَّة بِحَال؛ لِأَن الله تَعَالَى شَرط فِي إِبَاحَة نِكَاح الْإِمَاء أَن يكن مؤمنات، وَالْإِيمَان شَرط ثَالِث، فَأَما نسَاء أهل الْكتاب فداخلات فِي عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} غير خارجات(4/143)
مِنْهُ بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} ، فالمحصنات هَهُنَا الْحَرَائِر، وَبِه قَالَ مُجَاهِد، فَقَالَ: " لَا يصلح نِكَاح إِمَاء أهل الْكتاب، لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} ، وَكَذَا قَالَ الْحسن، وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَاد عَن فُقَهَاء التَّابِعين من أهل الْمَدِينَة، وَعند أبي حنيفَة يجوز ذَلِك، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (203) :
وَإِذا أسلم، وَتَحْته أَكثر من أَربع، نكحهن فِي عقد وَاحِد فَلهُ أَن يخْتَار مِنْهُنَّ أَرْبعا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " بَطل نِكَاحهنَّ جَمِيعًا ".
وَإِذا تزوج بِهن فِي عُقُود مُتَفَرِّقَة فعندنا يخْتَار مِنْهُنَّ أَرْبعا. وَعند أبي حنيفَة رَحمَه الله ثَبت نِكَاح أَربع من الْأَوَائِل، وَبَطل نِكَاح من نكحهن بعدهن.
وَدَلِيلنَا مَا رُوِيَ عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه أَن غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ أسلم، وَعِنْده عشر نسْوَة، فَقَالَ لَهُ(4/144)
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمسك أَرْبعا، وَفَارق سائرهن "، رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله، عَن الثِّقَة، قَالَ الرّبيع: " أَحْسبهُ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَنهُ ".
وَرُوِيَ عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَنهُ، وتابعهما على رِوَايَته عَن معمر من الْبَصرِيين يزِيد بن زُرَيْع، وَمُحَمّد بن جَعْفَر غنْدر، وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة من الْأَئِمَّة الْحفاظ (من أهل الْبَصْرَة) ". وَقد حكم الإِمَام مُسلم بن الْحجَّاج رَحمَه الله تَعَالَى أَن هَذَا الحَدِيث مِمَّا رَوَاهُ معمر بِالْبَصْرَةِ هَكَذَا، وَقَالَ: " فَإِن رَوَاهُ عَنهُ ثِقَة خَارج الْبَصرِيين حكمنَا لَهُ بِالصِّحَّةِ "، أَو قَالَ: " صَار الحَدِيث حَدِيثا، وَإِلَّا فالإرسال أولى، فَوَجَدنَا سُفْيَان بن سعيد الثَّوْريّ، وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمحَاربي، وَعِيسَى بن(4/145)
يُونُس، وثلاثتهم كوفيون حدثونا بِهِ عَن معمر مُتَّصِلا ".
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن يحيى بن أبي كثير، وَهُوَ يماني، عَن الْفضل بن مُوسَى، وَهُوَ خراساني عَن معمر مُتَّصِلا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصح الحَدِيث بذلك ".
وَقد رُوِيَ عَن أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ عَن نَافِع وَسَالم عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مُتَّصِلا، رَوَاهُ عَنهُ سرار بن مجشر، قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " تفرد بِهِ سرار، وَهُوَ بَصرِي ثِقَة "، قَالَ أَبُو عبد الله: " رُوَاة هَذَا الحَدِيث كلهم ثِقَات، تقوم الْحجَّة بروايتهم ".
وَعند أبي دَاوُد عَن فَيْرُوز الديلمي قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله إِنِّي أسلمت، وتحتي أختَان، قَالَ: طلق أَيَّتهمَا شِئْت ".(4/146)
وَذهب الطَّحَاوِيّ إِلَى أَن التَّخْيِير إِنَّمَا كَانَ؛ لِأَن عقودهم كَانَت فِي الْوَقْت الَّذِي يجوز الْجمع من أَكثر من أَرْبَعَة نسْوَة، قَالَ: " وعقود الْمُشْركين الْآن كلهَا بعد وُرُود الشَّرْع بِالتَّحْرِيمِ "، قُلْنَا: هَذَا فرار من الحَدِيث، وقولكم ينْتَقض بالولي، وَالشُّهُود، والخلو من الْعدة؛ فَإِن جَمِيع ذَلِك وَجب بِالشَّرْعِ، وعقود الْمُشْركين قد تَخْلُو من هَذِه الْأَشْيَاء الْآن بعد وُجُوبهَا، وَلَا يحكم ببطلانها إِذا أَسْلمُوا، ثمَّ نقُول لم يبلغنَا إِبَاحَة الْجمع بَين أَكثر من أَربع نسْوَة ثَابِتَة فِي ابْتِدَاء شرعنا، ثمَّ لَو كَانَت فَلم يبلغنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استفسر واستفصل حَال عقودهم كَانَت قبل التَّحْرِيم أَو بعده "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (204) :
وَإِذا أسلم أَحدهمَا بعد الدُّخُول توقف النِّكَاح على انْقِضَاء الْعدة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا اخْتلف بَينهمَا الدّين وَالدَّار انْقَطع النِّكَاح بَينهمَا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فَإِن قَالَ قَائِل مَا دلّ على ذَلِك؟ قيل لَهُ: أسلم أَبُو سُفْيَان بن حَرْب رَضِي الله عَنهُ بمر الظهْرَان، وَهِي دَار(4/147)
خُزَاعَة، وخزاعة مُسلمُونَ قبل الْفَتْح فِي دَار الْإِسْلَام، وَرجع إِلَى مَكَّة، وَهِنْد بنت عتبَة مُقِيمَة (على غير الْإِسْلَام، وَأخذت بلحيته، وَقَالَت: اقْتُلُوا الشَّيْخ الضال، ثمَّ أسلمت هِنْد بعد إِسْلَام أبي سُفْيَان بأيام كَثِيرَة، وَقد كَانَت كَافِرَة مُقِيمَة) بدار لَيست بدار الْإِسْلَام يَوْمئِذٍ، وَزوجهَا مُسلم فِي دَار الْإِسْلَام، وَهِي فِي دَار الْحَرْب، ثمَّ صَارَت مَكَّة دَار الْإِسْلَام، وَأَبُو سُفْيَان بهَا مُسلم، وَهِنْد كَافِرَة، ثمَّ أسلمت قبل انْقِضَاء الْعدة، وَاسْتقر على النِّكَاح؛ لِأَن عدتهَا لم تنقض حَتَّى أسلمت.
وَكَانَ كَذَلِك حَكِيم بن حزَام وإسلامه، وَأسْلمت امْرَأَة صَفْوَان بن أُميَّة، وَامْرَأَة عِكْرِمَة بن أبي جهل بِمَكَّة، وَصَارَت دارهما دَار الْإِسْلَام، وَظهر حكم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّة، وهرب عِكْرِمَة إِلَى الْيمن، وَهِي دَار حَرْب، وَصَفوَان يُرِيد الْيمن، وَهِي دَار حَرْب، ثمَّ رَجَعَ(4/148)
صَفْوَان إِلَى مَكَّة، وَهِي دَار الْإِسْلَام، وَشهد حنينا، وَهُوَ كَافِر، ثمَّ أسلم، فاستقرت عِنْده امْرَأَته بِالنِّكَاحِ الأول، وَذَلِكَ أَنه لم تنقض، يَعْنِي عدتهما، فَقلت لَهُ: " مَا وصفت لَك أَمر مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم بالمغازي من أَمر صَفْوَان، وَحَكِيم، وَابْن صَفْوَان، وَعِكْرِمَة ".
وَقد حفظ أهل الْمَغَازِي أَن امْرَأَة من الْأَنْصَار كَانَت عِنْد رجل بِمَكَّة، فَأسْلمت، ثمَّ هَاجَرت إِلَى الْمَدِينَة، فَقدم زَوجهَا، وَهِي فِي الْعدة، فاستقرا على النِّكَاح.
جَمِيع مَا ذكره رَحمَه الله من أمرخزاعة وَأمر أبي سُفْيَان، وَحَكِيم مَذْكُور فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب أَن صَفْوَان بن أُميَّة هرب من الْإِسْلَام، ثمَّ جَاءَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشهد حنينا، والطائف مُشْركًا، وَامْرَأَته مسلمة، واستقرا على النِّكَاح، يَعْنِي حِين أسلم صَفْوَان. (قَالَ ابْن شهَاب: " وَكَانَ بَين إِسْلَام صَفْوَان) وَامْرَأَته نَحوا من شهر ".
وروى مَالك رَحمَه الله عَنهُ أَن أم حَكِيم بنت الْحَارِث بن هِشَام، وَكَانَت تَحت عِكْرِمَة بن أبي جهل، فَأسْلمت يَوْم الْفَتْح بِمَكَّة، وهرب زَوجهَا عِكْرِمَة من الْإِسْلَام حَتَّى قدم الْيمن، فارتحلت أم حَكِيم حَتَّى قدمت عَلَيْهِ بِالْيمن، ودعته إِلَى الْإِسْلَام، فَأسلم، وَقدم على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْفَتْح، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وثب إِلَيْهِ فَرحا، وَمَا عَلَيْهِ رِدَاؤُهُ حَتَّى بَايعه، فثبتا على نِكَاحهمَا ذَلِك.(4/149)
وَعنهُ قَالَ: " لم يبلغنِي أَن امْرَأَة هَاجَرت إِلَى الله وَرَسُوله، وَزوجهَا كَافِر مُقيم بدار الْكفْر، إِلَّا فرقت هجرتهَا بَينهَا وَبَين زَوجهَا إِلَّا أَن يقدم زَوجهَا مُهَاجرا قبل أَن تَنْقَضِي عدتهَا، وَأَنه لم يبلغنَا أَن امْرَأَة فرق بَينهَا وَبَين زَوجهَا إِذا قدم، وَهِي فِي عدتهَا ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ رَحمَه الله عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ الْمُشْركُونَ على منزلتين من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْمُؤمنِينَ، (كَانُوا مُشْركي) أهل حَرْب يقاتلهم، ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لَا يقاتلهم، وَلَا يقاتلونه، فَكَانَ إِذا هَاجَرت امْرَأَة من الْحَرْب لم تخْطب حَتَّى تحيض وتطهر، فَإِذا طهرت حل لَهَا النِّكَاح، فَإِن هَاجر زَوجهَا قبل أَن تنْكح ردَّتْ إِلَيْهِ "، وَهَذَا يدل على أَن الدَّار لم يُمكن أَن تفرق بَينهمَا.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " رد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَيْنَب ابْنَته على أبي الْعَاصِ بن الرّبيع بِالنِّكَاحِ الأول، وَلم يحدث شَيْئا بعد سِتّ سِنِين ".(4/150)
فَدلَّ هَذَا على أَن اخْتِلَاف الدَّار لَا يضر قبل انْقِضَاء الْعدة، وَلَا معنى لقَوْل من أنكرهُ، واستبعد بَقَاء الْعدة سِتّ سِنِين، وَذَلِكَ لِأَن ابْتِدَاء مُدَّة عدتهَا لم يكن من وَقت إسْلَامهَا وهجرتها، وَلَكِن من وَقت / نزُول آيَة التَّحْرِيم المسلمات على الْمُشْركين، وَهُوَ بعد صلح الْحُدَيْبِيَة، ثمَّ (لم يلبث) أَبُو الْعَاصِ بعد ذَلِك إِلَّا يَسِيرا حَتَّى أَخذه أَبُو بَصِير، أَو غَيره، وأجارته زَيْنَب، ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة، ورد مَا كَانَ عِنْده من الودائع، وَأظْهر إِسْلَامه، فَلم يكن بَين توقف نِكَاحهَا على انْقِضَاء الْعدة وَبَين إِسْلَامه إِلَّا الْيَسِير.
وَأما مَا روى حجاج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رد ابْنَته إِلَى أبي الْعَاصِ بِمهْر جَدِيد، وَنِكَاح جَدِيد، فقد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَحمَه الله: " هَذَا لَا يثبت، وحجاج لَا يحْتَج بِهِ، وَالصَّوَاب حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَبَلغنِي عَن أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ: سَأَلت عَنهُ البُخَارِيّ فَقَالَ: حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الْبَاب أصح من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه، وَبَيَان هَذَا كُله مَرْوِيّ فِي كتاب الْمعرفَة ".
وَحكى أَبُو عبيد عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان أَن حجاج يَعْنِي ابْن أَرْطَأَة - لم يسمع من عَمْرو بن شُعَيْب، وَأَنه من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله العورني عَن عَمْرو، فَهَذَا وَجه لَا يعبأ بِهِ أحد يدْرِي مَا الحَدِيث.(4/151)
وَالَّذِي ذكره بعض أكابرهم فِي الْجمع بَين حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس فِي رد ابْنَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أبي الْعَاصِ بِأَن قَالَ علم عبد الله بن عَمْرو بِتَحْرِيم الله - جلّ جَلَاله - رُجُوع الْمُؤْمِنَات إِلَى الْكفَّار، فَلم يكن ذَلِك عِنْده أَلا بِنِكَاح جَدِيد.
أما ابْن عَبَّاس فَلم يعلم بِتَحْرِيم الله الْمُؤْمِنَات إِلَى الْكفَّار حِين علم برد زَيْنَب على أبي الْعَاصِ، رضوَان الله عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: ردهَا بِالنِّكَاحِ الأول؛ لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده بَينهمَا فسخ نِكَاح، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجمع صَحِيح، وَمَا هُوَ إِلَّا سوء ظن بالصحابة، رَضِي الله عَنْهُم، حَيْثُ نسبهم إِلَى أَنهم، يتجاوزون فِي رِوَايَة الحَدِيث على مَا وَقع لَهُم من غير سَماع.
ثمَّ يَقُول أما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَلم يُثبتهُ الْحفاظ على مَا قدمنَا ذكره، وَلَو كَانَ ثَبت فالظن بِهِ رَضِي الله عَنهُ أَنه لَا يروي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عقد نِكَاح لم يحضرهُ، وَلم يُثبتهُ بِشُهُود
من يَثِق بِهِ، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لَا يَقُول ردهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الأول، وَلم يحدث شَيْئا لَا بعد إحاطة الْعلم بِهِ بِنَفسِهِ، أَو عَن من يَثِق بِهِ بكيفية الرَّد، وَكَيف يشْتَبه على مثله نزُول الْآيَة قبل رد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْنَته على أبي الْعَاصِ. وَإِن اشْتبهَ ذَلِك عَلَيْهِ فِي وَقت نُزُولهَا، أفيشتبه ذَلِك عَلَيْهِ حَيْثُ روى هَذَا الْخَبَر بعد وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقد علم منَازِل الْقُرْآن وتأويله؟ هَذَا بعيد، لَا يجوز حمله عَلَيْهِ، وَالله أعلم.(4/152)
مَسْأَلَة (205) :(4/153)
نِكَاح الشّغَار بَاطِل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه جَائِز ".
دليلنا حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الشّغَار، والشغار أَن يُزَوّج الرجل ابْنَته على أَن يُزَوجهُ ابْنَته، وَلَيْسَ بَينهمَا صدَاق ".
وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن جَابر، وَعَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُمَا.(4/154)
وَعند أبي دَاوُد عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز أَن الْعَبَّاس بن عبد الله بن الْعَبَّاس أنكح عبد الرَّحْمَن بن الحكم ابْنَته، وأنكحه عبد الرَّحْمَن ابْنَته، وَكَانَا جعلا صَدَاقا، فَكتب مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ إِلَى مَرْوَان يَأْمُرهُ بِالتَّفْرِيقِ بَينهمَا، وَقَالَ فِي كِتَابه: " هَذَا الشّغَار الَّذِي نهى عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد رُوَاته ثِقَات، عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا شغار فِي الْإِسْلَام "، وَهُوَ غَرِيب بِهَذَا الْإِسْنَاد.
وَرُوِيَ فِي حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فِي حَدِيث وَائِل بن حجر، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (206) :
والمنكوحة ترد بالعيوب الْخَمْسَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة(4/155)
رَحمَه الله: " لَا ترد ".
وَدَلِيلنَا مَا روى مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: " قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: أَيّمَا رجل نكح امْرَأَة، وَبهَا جُنُون، أَو جذام، أَو برص، فمسها، فلهَا صَدَاقهَا، وَذَلِكَ لزَوجهَا غرم على وَليهَا ".
وَرُوِيَ عَن جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: " أَربع لَا يجزن فِي بيع، وَلَا نِكَاح: الْمَجْنُونَة، والمجذومة، والبرصاء، والعفلاء "، رُوَاته ثِقَات، وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله إِنَّمَا ذكره من قَول أبي الشعْثَاء جَابر بن زيد، وَهُوَ صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس، وَلَا يَصح عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم خلاف ذَلِك.
فَإِن تعلقوا بِمَا رُوِيَ عَن مُسلم بن جُنَادَة عَن وَكِيع عَن ابْن أبي خَالِد عَن عَامر قَالَ: " قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: أَيّمَا رجل تزوج امْرَأَة مَجْنُونَة، أَو جذماء، أَو بهَا برص، أَو بهَا قرن فَهِيَ امْرَأَته إِن(4/156)
شَاءَ أمسك، وَإِن شَاءَ طلق "، قُلْنَا: هَذَا مُخْتَصر، وَرَوَاهُ غَيره عَن وَكِيع إِذا لم يدْخل بهَا فرق بَينهمَا ".
وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ فِي الْجَامِع عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا تزوج الْمَرْأَة فَوجدَ بهَا جنونا أَو برصا، أَو جذاما، أَو قرنا فَدخل بهَا فَهِيَ امْرَأَته إِن شَاءَ أمسك، وَإِن شَاءَ طلق "، فَكَأَنَّهُ أبطل خِيَاره بِالدُّخُولِ بعد الْعلم بعيبها، وَفِيه دَلِيل على أَنه إِن لم يدْخل بهَا وَاخْتَارَ الْفَسْخ كَانَ لَهُ ذَلِك؛ لشرطه فِي امْتنَاع خِيَار الْفَسْخ وجود مَا يدل على رِضَاهُ بذلك من دُخُول، أَو غَيره، وَالله أعلم.
وَالَّذِي يدل على صِحَة مَا ذكرنَا من حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا روى أَبُو حَامِد الشاركي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزيَادي عَن عَفَّان عَن همام عَن قَتَادَة عَن خلاس أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَا يُجِيز جنونا، وَلَا برصاء، وَلَا جذاما، وَلَا عفلاء، قَالَ: " وَأخْبرنَا يحيى بن أبي طَالب عَن مُعلى عَن حَمَّاد عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا تزوج الرجل الْمَجْنُونَة، والمجذومة، والعفلاء فَإِن لم يكن دخل بهَا، فرق بَينهمَا، وَإِن دخل بهَا حازت عَلَيْهِ ".(4/157)
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن الزبير عَن أَبِيه، قَالَ " كَانَ فِي وَفد ثَقِيف مجذوم، فَأرْسل إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنا قد بايعناك فَارْجِع "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأخرجه البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا عدوى، وَلَا هَامة، وَلَا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الْأسد "، أَو قَالَ: " من الْأسود ".
فَأمر فِي هذَيْن الْحَدِيثين بالتباعد من المجذوم.
وَقَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُورد ممرض على مصح ".
وَفِي ذَلِك دلَالَة على أَن قَوْله: " لَا عدوى " أَرَادَ بِهِ على الْوَجْه(4/158)
الَّذِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة من إِضَافَة الْفِعْل إِلَى غير الله تَعَالَى، أَلا ترَاهُ حِين عورض بالمخالطة قَالَ: " فَمن أعدى الأول؟ "، ثمَّ قد تكون المخالطة سَببا للعدوى بِإِذن الله عز وَجل.
وَإِذا كَانَ الْأَمر على هَذَا فَفِي نِكَاح من بِهِ أحد هَذِه الْعُيُوب ضَرَر كَبِير، وَلَا يكون مَعَ الْجُنُون تأدية حق، وَالنِّكَاح للألفة، وَالْعشرَة، وَهَذِه الْعُيُوب مَانِعَة من الْمَقْصُود بِالنِّكَاحِ، فَثَبت الْخِيَار بوجودها، أَو وجود بَعْضهَا.
وَرُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذ بيد مجذوم، فوضعها فِي قَصْعَة، فَقَالَ: " كل بِسم الله، وتوكلا عَلَيْهِ ". فَفِيهِ بَيَان توهم لُحُوق ضَرَر بمخالطته، لكنه احتمله ثِقَة بِاللَّه، وتوكلا عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
مَسْأَلته (207) :
وَإِذا أعتقت الْأمة تَحت حر فَلَا خِيَار لَهَا فِي فسخ النِّكَاح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَهَا خِيَار الْفَسْخ ".
فِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا اشترت بَرِيرَة من أنَاس من الْأَنْصَار، واشترطوا الْوَلَاء، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْوَلَاء لمن ولي النِّعْمَة، وَخَيرهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ زَوجهَا عبدا ".(4/159)
وَعِنْده أَيْضا عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا، فَخَيرهَا رَسُول الله
. وَلَو كَانَ حرا، مَا خَيرهَا.
وَعند أبي دَاوُد عَنْهَا أَن بَرِيرَة عتقت، وَهِي عِنْد مغيث عبد لآل أبي أَحْمد، فَخَيرهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَو كَانَ حرا مَا خَيرهَا، وَقَالَ: " إِن قربك فَلَا خِيَار لَك ".
وَرُوِيَ حَدِيث بَرِيرَة عَن الْأسود عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَفِيه: " وخيرت من زَوجهَا "، قَالَ: " وَكَانَ زَوجهَا حرا ".
أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح دون هَذِه اللَّفْظَة: " وَكَانَ زَوجهَا حرا ".
وَيُقَال: إِن هَذِه اللَّفْظَة لَيست من قَول عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، إِنَّمَا من قَول الْأسود بن يزِيد، فقد صَحَّ عَنْهَا، وَثَبت من حَدِيث عُرْوَة وَهُوَ ابْن أُخْتهَا - وَمن حَدِيث الْقَاسِم - هُوَ ابْن أَخِيهَا - وَغَيرهمَا أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا حِين عتقت، وروايتهما مَعَ غَيرهمَا أولى لقربهما مِنْهَا وسماعهما شفاها دَاخل السّتْر، وَلِأَن أَبَا عوَانَة، وَجَرِير بن عبد الحميد - وهما ثقتان - رويا هَذَا الحَدِيث عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَبينا أَن هَذِه اللَّفْظَة من قَول(4/160)
الْأسود، فَقَالَا فِيهِ: " قَالَ الْأسود "، وَذَلِكَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ، وَقَالَ البُخَارِيّ: " قَول الْأسود مُنْقَطع، وَقَول ابْن عَبَّاس: " رَأَيْته عبدا " أصح ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَقد رُوِيَ عَن أبي حُذَيْفَة عَن الثَّوْريّ عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا حِين أعتقت ". " وَرَوَاهُ ابْن أبي بكير عَن أبي جَعْفَر عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا نَحوه ".
فقد تقابلت الرِّوَايَة عَن الثَّوْريّ، وَالْأَعْمَش بِحَدِيث الْأسود، وَقد بقيت لنا رِوَايَة الْقَاسِم، وَعُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَعَ قربهما مِنْهَا، وأنهما من أهل الْحجاز.
وَرُوِيَ عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنه كَانَ لَهَا غُلَام، وَجَارِيَة زوج، فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " يَا رَسُول الله إِنِّي أُرِيد أَن أعتقهما، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن أعتقتهما فابدئي بِالرجلِ قبل الْمَرْأَة "، يشبه أَن يكون إِنَّمَا أَرَادَ بالبداءة(4/161)
بِالرجلِ؛ لِئَلَّا يكون لَهَا الْخِيَار إِذا عتقت، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب، وَسليمَان بن يسَار، وَالْحسن، وَعِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالُوا: " لَا خِيَار لَهَا على الْحر ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا تخير إِذا أعتقت إِلَّا أَن يكون زَوجهَا عبدا "، وَالله أعلم.(4/162)
كتاب الصَدَاق
وَمن كتاب الصَدَاق
مَسْأَلَة (208) :
أقل الْمهْر لَا يتَقَدَّر بِالْعشرَةِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه مُقَدّر بِالْعشرَةِ ".
لنا حَدِيث انس رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِه أثر صفرَة، فَسَأَلَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأخْبرهُ أَنه تزوج امْرَأَة من الْأَنْصَار، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كم سقت إِلَيْهَا؟ "، قَالَ: " زنة نواة من ذهب "، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أولم وَلَو بِشَاة ".
قَالَ أَبُو عبيد: " قَوْله نواة يَعْنِي خَمْسَة دَرَاهِم تسمى نواة ذهب، كَمَا تسمى الْأَرْبَعُونَ أُوقِيَّة، وكما تسمى الْعشْرُونَ نشا "، قَالَ أَبُو عبيد: " حَدَّثَنِيهِ يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد قَالَ: " الْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ، والنش عشرُون، والنواة خَمْسَة ".(4/163)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث سهل بن سعد فِي الْمَرْأَة الَّتِي وهبت نَفسهَا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَوجهَا من الرجل الَّذِي خطبهَا مِنْهُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قد زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن "، بعد ان قَالَ لَهُ: " التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد "؛ لتصدقها إِيَّاه ".
وَعند أبي دَاوُد عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أعْطى فِي صدَاق امْرَأَة ملْء كفيه سويقا، أَو تَمرا فقد اسْتحلَّ ".
فَإِن اعْترض معترض بِأَن هَذَا ورد فِي نِكَاح الْمُتْعَة، وَهُوَ مَنْسُوخ بِدَلِيل حَدِيث جَابر فِي صَحِيح مُسلم " كُنَّا نستمتع بالقبضة من التَّمْر والدقيق الْأَيَّام على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأبي بكر رَضِي الله عَنهُ حَتَّى نَهَانَا عمر رَضِي الله عَنهُ فِي شَأْن عَمْرو بن حُرَيْث "، فقد مَضَت الدّلَالَة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه حرم نِكَاح الْمُتْعَة بعد الرُّخْصَة، وَالْفَسْخ إِنَّمَا ورد بِإِبْطَال الْأَجَل، لَا قدر مَا كَانُوا ينْكحُونَ بِهِ من الصَدَاق، وَالله أعلم.(4/164)
وَفِيه أَخْبَار أخر تركناها للمعارضة.
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " هَذَا شَيْء خالفتم فِيهِ السّنة، وَالْعَمَل، والْآثَار بِالْمَدِينَةِ، وَلم يقلهُ أحد قبلكُمْ بِالْمَدِينَةِ علمناه، عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " فِي ثَلَاث قبضات زبيب مهر ". وَسَعِيد بن الْمسيب يَقُول: " لَو أصدقهَا سَوْطًا فَمَا فَوْقهَا جَازَ ". وَرَبِيعَة يُجِيز النِّكَاح على نصف دِرْهَم وَأَقل "، وَذكر بَاقِي الْحِكَايَة.
وَرُوِيَ عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: لَو أَن رجلا تزوج امْرَأَة على سواك لَكَانَ ذَلِك مهْرا ".
استدلوا بِمَا روى مُبشر بن عبيد عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن عَطاء، وَعَمْرو بن جَابر رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " لَا تنْكِحُوا النِّسَاء إِلَّا الْأَكفاء، وَلَا يزوجهن إِلَّا الْأَوْلِيَاء، وَلَا مهر دون عشرَة دَرَاهِم "، هَذَا حَدِيث مُنكر، مُبشر بن عبيد مِمَّن أَجمعُوا على ترك حَدِيثه، وَالْحجاج بن أَرْطَأَة أَيْضا لَا يحْتَج بِهِ.
قَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي: " هَذَا الحَدِيث مَعَ اخْتِلَاف أَلْفَاظه فِي(4/165)
الْمُتُون، دون اخْتِلَاف إِسْنَاده بَاطِل كُله، لَا يرويهِ غير مُبشر بن عبيد. قَالَ احْمَد بن حَنْبَل: " مُبشر بن عبيد يضع الحَدِيث ".
ثمَّ هُوَ مُقَابل بِمَا هُوَ أصح مِنْهُ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَأَلنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن صدَاق النِّسَاء، فَقَالَ: هُوَ مَا اصْطلحَ عَلَيْهِ أهلوهم ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى دَاوُد بن يزِيد الأودي عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ " لَا صدَاق دون عشرَة دَرَاهِم "، دَاوُد بن يزِيد ضَعِيف فِي الحَدِيث، وَهَذَا مِمَّا أنكر عَلَيْهِ، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: " لقن غياث بن إِبْرَاهِيم دَاوُد بن يزِيد الأودي عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ " لَا(4/166)
يكون مهر أقل من عشرَة دَرَاهِم "، فَصَارَ حَدِيثا، قَالَ ابْن معِين: " غياث كَذَّاب، لَيْسَ بِثِقَة، وَلَا مَأْمُون، دَاوُد الأودي لَيْسَ بِشَيْء "، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَيْضا بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن الضَّحَّاك عَنهُ، وَالضَّحَّاك لم يُدْرِكهُ، فَهُوَ مَعَ ضعفه مُنْقَطع.
وَرُوِيَ عَن الْحسن بن دِينَار عَن عبد الله الداناج عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا مهر أقل من خَمْسَة دَرَاهِم "، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، الْحسن بن دِينَار ضَعِيف الحَدِيث، قد سبق ذكره. وَقد رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك كُله، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الصَدَاق مَا ترْضى بِهِ الزَّوْجَات "، وَهَذَا مَعَ إرْسَاله أمثل هَذِه الرِّوَايَات عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ.
وَرُوِيَ عَن الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب قَالَ: " زَوجنِي(4/167)
سعيد بن الْمسيب ابْنَته بِصَدَاق دِرْهَمَيْنِ، لَيْسَ لَهَا صدَاق غَيره "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (209) :
وَيجوز أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْخَيْر، وَذَلِكَ مثل تَعْلِيم الْقُرْآن، وَأَن يَجْعَل مهْرا، وَكَذَلِكَ يجوز أَخذ الْأُجْرَة على الْأَذَان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " غير جَائِز ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي الَّذِي رقى السَّلِيم بِأم الْكتاب على شَاءَ، فَأتى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأخْبرهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن احق مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أجرا كتاب الله عز وَجل ".(4/168)
وَحَدِيث سهل بن سعد رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة الَّتِي زَوجهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرجل على مَا مَعَه من الْقُرْآن فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَفِي رِوَايَة عِنْد مُسلم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " انْطلق فقد زوجتكها بِمَا تعلمهَا من الْقُرْآن ".
وَفِي أُخْرَى عِنْد أبي دَاوُد بعض حَدِيث سهل عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ وَفِيه فَقَالَ " مَا تحفظ من الْقُرْآن؟ " قَالَ: " سُورَة الْبَقَرَة، وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَ: " قُم، فعلمها عشْرين آيَة، وَهِي امْرَأَتك ".
استدلوا بِمَا روى عتبَة بن السكن عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن ابْن أبي طَلْحَة عَن زِيَادَة بن سَخْبَرَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن امْرَأَة أَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: " يَا رَسُول الله، رأ فِي رَأْيك " الحَدِيث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قد أنكحتكها على أَن تقرئها وتعلمها، فَإِذا رزقك الله عوضهَا، فَتَزَوجهَا الرجل على ذَلِك "، قَالَ الدراقطني: " تفرد بِهِ عتبَة، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث "، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " عتبَة بن السكن مَنْسُوب إِلَى وضع الحَدِيث، وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث بِشَيْء ".
وروري عَن مُغيرَة بن زِيَاد عَن عبَادَة عَن الْأسود بن ثَعْلَبَة عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " علمت نَاسا من أهل الصّفة الْكِتَابَة وَالْقُرْآن، فأهدى إِلَيّ رجل مِنْهُم قوسا، فَقلت: لَيست بِمَال، وأرمي عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، لَآتِيَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلأسألنه، فَأَتَيْته، فَقلت: يَا رَسُول الله، رجل أهْدى إِلَيّ قوسا مِمَّن كنت أعلمهُ الْكتاب(4/169)
وَالْقُرْآن، وَلَيْسَت بِمَال، وأرمي عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، قَالَ: إِن كنت تحب أَن تطوق طوقا من نَار فاقبلها "، مُغيرَة بن زِيَاد تكلمُوا فِيهِ، وَلَيْسَ بمحتج بِهِ فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ نَحوه، وَالْأول أتم فَقلت: " مَا ترى فِيهَا يَا رَسُول الله؟ " فَقَالَ: " جَمْرَة بَين كفيك، تقلد بهَا، أَو تعلقهَا ".
ثمَّ هَذَا مَتْرُوك الظَّاهِر فَلَيْسَ فِيهِ أَنه علمه بِشَرْط الْأُجْرَة، وَمن علم غَيره الْقُرْآن، فأهدى المتعلم لَهُ شَيْئا جَازَ لَهُ قبُوله بِالْإِجْمَاع، على أَن ابْن الْمَدِينِيّ ضعفه، فَإِن صَحَّ فَيُشبه أَن يكون مَنْسُوخا بِمَا روينَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَأبي سعيد رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن أَحَق مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أجرا كتاب الله عز وَجل "؛ وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من أَوَاخِر من حمل الحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَذَا أَبُو سعيد، رَضِي الله عَنهُ.
وَمِمَّا يدل على جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْقُرْآن مَا رُوِيَ عَن وَكِيع عَن صَدَقَة بن مُوسَى عَن الْوَضِين بن عَطاء قَالَ: " ثَلَاثَة(4/170)
معلمين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ يعلمُونَ الصّبيان، وَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يرْزق كل وَاحِد مِنْهُم خَمْسَة عشر درهما كل شهر ".
وَعَن خلف بن هِشَام عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى بعض عماله أَن أعْط النَّاس على تَعْلِيم الْقُرْآن.
وَرُوِيَ عَن أَبى الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: " من أَخذ على تَعْلِيم الْقُرْآن قوسا قَلّدهُ الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة قوسا من نَار "، قَالَ الدَّارمِيّ: " قَالَ دُحَيْم حَدِيث أبي الدَّرْدَاء فِي هَذَا لَيْسَ لَهُ(4/171)
أصل ". قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " ثمَّ إِن صَحَّ شَيْء من هَذَا الْجِنْس فَهُوَ مَحْمُول عندنَا على مَا لَو تعين عَلَيْهِ تَعْلِيمه بِأَن لَا يجد المتعلم غَيره ".
وَرُوِيَ عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، اجْعَلنِي إِمَام قومِي، قَالَ: أَنْت إمَامهمْ، واقتد بأضعفهم، وَاتخذ مُؤذنًا لَا يَأْخُذ على أَذَانه أجرا ".
وَهَذَا هُوَ الأولى أَن لَا يتَّخذ مُؤذنًا يَأْخُذ على أَذَانه أجرا إِذا وجد من يتَطَوَّع بِهِ، فَإِن لم يجد فَيجوز. قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قد رزقهم - يَعْنِي المؤذنين - إِمَام هدى عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ ". وَاحْتج الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْخَيْر بِحَدِيث التَّزْوِيج على تَعْلِيم الْقُرْآن.
وروى أَبُو عصمَة عَن يُونُس عَن الْحسن عَن شُعْبَة كلهم يحدثونه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ: " وَنهى عَن التَّعْلِيم بِالْأَجْرِ، وَنهى عَن الْأَذَان بِالْأَجْرِ، وَنهى عَن الْإِمَامَة بِالْأُجْرَةِ "، وَهَذَا مُنْقَطع،(4/172)
وَأَبُو عصمَة مَتْرُوك.
قَالَ البُخَارِيّ رَحمَه الله فِي التَّرْجَمَة: " وَقَالَ الحكم: لم أسمع أحدا كره أجر الْمعلم "، قَالَ: " وَلم ير ابْن سِيرِين بِأَجْر الْمعلم بَأْسا ".
وروينا عَن عَطاء، وَأبي قلَابَة أَنَّهُمَا كَانَا لَا يريان بتعليم الغلمان بِالْأَجْرِ بَأْسا.
وَعَن الْحسن قَالَ: " إِذا قَاطع، وَلم يعدل كتب من الظلمَة ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لم يكن لِأُنَاس من أُسَارَى بدر فدَاء، فَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فداءهم أَن يعملوا أَوْلَاد الْأَنْصَار الْكِتَابَة، قَالَ: فجَاء غُلَام من الْأَنْصَار يبكي (يَوْمًا إِلَى أَبِيه) فَقَالَ لَهُ ابوه: مَا شَأْنك؟ قَالَ: ضَرَبَنِي معلمي، قَالَ: الْخَبيث يطْلب بدحل بدر، وَالله لَا تأتينه أبدا "، وَهَذَا يعلم الْخَيْر، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (210) :
وَإِن مَاتَ زوج المفوضة قبل فرض مهرهَا، وَالدُّخُول بهَا لم(4/173)
يجب لَهَا مهر الْمثل مَعَ الْمِيرَاث فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَهَا مهر الْمثل وَالْمِيرَاث ".
دليلنا مَا روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع أَن ابْنة عبد الله بن عمر وَأمّهَا بنت زيد بن الْخطاب كَانَت (تَحت ابْن) لِعبيد الله بن عمر فَمَاتَ، وَلم يدْخل بهَا، وَلم يسم لَهَا صَدَاقا، فابتغت أمهَا صَدَاقا، فَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " لَيْسَ لَهَا صدَاق، وَلَو كَانَ لَهَا صدَاق لم نمنعكموه، وَلم نظلمها "، فَأَبت أَن تقبل ذَلِك، فَجعلُوا بَينهم زيد بن ثَابت، فَقضى أَن لَا صدَاق لَهَا، وَلها الْمِيرَاث.
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَطاء بن السَّائِب عَن عبد خير عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الرجل يتَزَوَّج الْمَرْأَة، ثمَّ يَمُوت، وَلم يدْخل بهَا وَلم يفْرض لَهَا صَدَاقا: " إِن لَهَا الْمِيرَاث وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلَا صدَاق لَهَا ".
وروى سُفْيَان الثورى عَن عبد الْملك بن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مثل ذَلِك.(4/174)
وَدَلِيل القَوْل الثَّانِي مَا عِنْد أبي دَاوُد عَن الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ فِي رجل تزوج امْرَأَة، فَمَاتَ عَنْهَا، وَلم يدْخل بهَا، وَلم يفْرض لَهَا، فَقَالَ: " لَهَا الصَدَاق كَامِلا، وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلها الْمِيرَاث "، فَقَالَ معقل بن سِنَان: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِي بروع بنت واشق ".
وَرُوِيَ عَن عَلْقَمَة، قَالَ: " أَتَى عبد الله فِي امْرَأَة توفّي عَنْهَا زَوجهَا "، وَلم يفْرض لَهَا صَدَاقا وَلم يدْخل بهَا، فترددوا إِلَيْهِ، وَلم يزَالُوا بِهِ، حَتَّى قَالَ: " إِنِّي سأقول برأيي: لَهَا صدَاق نسائها، لَا وكس، وَلَا شطط، وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلها الْمِيرَاث "، فَقَامَ معقل بن سِنَان، فَشهد أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِي بروع بنت واشق الأشجعية بِمثل مَا قضيت، ففرح عبد الله "، إِسْنَاده صَحِيح، وَرُوَاته ثِقَات، وَمَعْقِل بن سِنَان صَحَابِيّ مَعْرُوف، وَقد قيل فِي هَذَا الحَدِيث: " معقل بن يسَار "، و " ابْن سِنَان "، أصح، وَقيل ذَلِك عَن نَاس من أَشْجَع.(4/175)
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأبي وَأمي، أَنه قضى فِي بروع بنت واشق، ونكحت بِغَيْر مهر، فَمَاتَ زَوجهَا، فَقضى لَهَا بِمهْر نسائها، وَقضى لَهَا بِالْمِيرَاثِ، فَإِن كَانَ يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ أولى الْأُمُور بِنَا، وَلَا حجَّة فِي قَول أحد دون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا فِي الْقيَاس، وَلَا فِي شَيْء فِي قَوْله إِلَّا طَاعَة الله بِالتَّسْلِيمِ لَهُ، وَإِن كَانَ لَا يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لم يكن لأحد أَن يثبت عَنهُ مَا لم يثبت، وَلم احفظه من وَجه يثبت مثله، وَهُوَ مرّة يُقَال: عَن معقل بن يسَار، (وَمرَّة عَن معقل بن سِنَان) وَمرَّة عَن بعض أَشْجَع لَا يُسمى ".
وَقَالَ رَحمَه الله: " أَن صَحَّ حَدِيث بروع بنت واشق قلت بِهِ ".
قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " لَو حضرت الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى لقمت إِلَيْهِ على رُؤُوس أَصْحَابه، وَقلت: قد صَحَّ الحَدِيث فَقل بِهِ، قَالَ: (فالشافعي رَحمَه الله) إِنَّمَا قَالَ: لَو صَحَّ الحَدِيث؛ لِأَن هَذِه الرِّوَايَة وَإِن كَانَت صَحِيحَة فَإِن الْفَتْوَى لعبد الله بن مَسْعُود، وَسَنَد الحَدِيث لنفر من أَشْجَع ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَشَيخنَا أَبُو عبد الله إِنَّمَا حكم بِصِحَّة الحَدِيث؛ لِأَن الثِّقَة قد سمى فِيهِ رجلا من الصَّحَابَة، وَهُوَ معقل بن سِنَان الْأَشْجَعِيّ، وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي تَسْمِيَة من روى قصَّة(4/176)
بروع بنت واشق عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يوهن الحَدِيث؛ فَإِن أَسَانِيد هَذِه الرِّوَايَات صَحِيحَة، وَفِي بَعْضهَا إِن جمَاعَة من أَشْجَع شهدُوا بذلك، فبعضهم سمى هَذَا، وَبَعْضهمْ سمى آخر، وَكلهمْ ثِقَة، وَلَوْلَا الثِّقَة بِمن رَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما كَانَ عبد الله يفرح بروايته "، وَالله أعلم.
مسأله (211) :
وَالَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الْأَب، على قَوْله فِي الْقَدِيم، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " هُوَ الزَّوْج ".
فَوجه قَوْله الْقَدِيم من طَرِيق الْأَثر مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الَّذِي ذكر الله {أَو يعفوا الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} قَالَ: " ذَلِك أَبوهَا ".
وَعَن الْحسن، قَالَ: " هُوَ الْوَلِيّ ".
وَعَن عَلْقَمَة: " الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الْوَلِيّ ".
وَعَن الزُّهْرِيّ قَالَ: " إِن كَانَت الْمَرْأَة مالكة أمرهَا فَهِيَ تَعْفُو، وَإِن(4/177)
كَانَت بكرا فَالَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح أَبوهَا يعْفُو ".
وَعَن مَالك قَالَ: " قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه: {إِلَّا أَن يعفون} الْآيَة، فهن النِّسَاء اللَّاتِي قد دخل بِهن، قَالَ: {أَو يعفوا الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} ، وَهُوَ الْأَب فِي ابْنَته الْبكر، أَو السَّيِّد فِي أمته، قَالَ: وَذَلِكَ الَّذِي سَمِعت، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَمر عندنَا ".
وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الْوَلِيّ ".
وَوجه قَوْله فِي الْجَدِيد من طَرِيق الْأَثر مَا رُوِيَ عَن شُرَيْح قَالَ: " سَأَلَني عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَن الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح، قَالَ: قلت: هُوَ الْوَلِيّ، قَالَ: لَا بل هُوَ الزَّوْج ".
وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من طَرِيق فِيهِ عَليّ بن زيد، وَالرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة عَنهُ أصح؛ فَإِن عَليّ بن زيد غير مُحْتَج بِهِ.
وَرُوِيَ عَن أبي سَلمَة رَضِي الله عَنهُ أَن جُبَير بن مطعم تزوج امْرَأَة من بني نظر، فَسمى لَهَا صَدَاقهَا، ثمَّ طَلقهَا من قبل أَن يدْخل بهَا، فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة {إِلَّا أَن يعفون أَو يعفوا الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} ، قَالَ: " أَنا أَحَق بِالْعَفو مِنْهَا، فَسلم إِلَيْهَا صَدَاقهَا ".(4/178)
وَتَابعه مُحَمَّد بن جُبَير عَن أَبِيه، وَعَن ابْن الْمسيب قَالَ: " الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الزَّوْج ".
وَعَن الْمُغيرَة عَن الشّعبِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا أَن يعفون} الْآيَة. قَالَ: " يَعْنِي الْمَرْأَة، وَالَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الزَّوْج "، قَالَ: " وَهُوَ قَول شُرَيْح ".
وَعَن ابْن سِيرِين قَالَ: " الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الزَّوْج ".
وَعَن سعيد بن جُبَير مثله.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: " {إِلَّا أَن تَعْفُو} الْمَرْأَة، فتدع نصف صَدَاقهَا، أَو يعْفُو الزَّوْج، فيكمل لَهَا صَدَاقهَا ". وَرُوِيَ ذَلِك عَن طَاوس، وَنَافِع بن جُبَير، وَمُجاهد، وَمُحَمّد بن كَعْب.
وروى ابْن لَهِيعَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ولي عقدَة النِّكَاح الزَّوْج "، وَابْن لَهِيعَة ضَعِيف، لَا يحْتَج بِهِ، وَالله أعلم.(4/179)
مَسْأَلَة (212) :
وَالْخلْوَة الخالية عَن الْوَطْء لَا تقرر الْمهْر، وَلَا توجب الْعدة على أصح الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وصاحباه رَحِمهم الله: " إِنَّهَا تقرر الْمهْر، وتوجب الْعدة ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على الْكتاب والمعاني، قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرضتم} .
وَقَالَ جلّ جَلَاله، وَتَعَالَى علاؤه وشأنه: {يَا أَيهَا الَّذين ءامنوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن من قبل ان تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها} والمسيس الْجِمَاع.
روى الثِّقَات عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " اللَّمْس، والمس، والمباشرة جماع، وَلَكِن الله عز وَجل يكني بِمَا شَاءَ عَمَّا شَاءَ ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " نصف الصَدَاق، وَإِن جلس بَين رِجْلَيْهَا "، فِيهِ انْقِطَاع بَينهمَا.
وَعنهُ عَن شُرَيْح أَن رجلا تزوج امْرَأَة، وأغلق عَلَيْهَا الْبَاب، وأرخى السّتْر، ثمَّ طَلقهَا، وَلم يَمَسهَا، فَقضى لَهَا شُرَيْح بِنصْف الصَدَاق.(4/180)
استدلوا بِمَا روى عبد الله بن صَالح الْعجلِيّ بِسَنَد لَهُ - عَن ابْن لَهِيعَة عَن مُحَمَّد بن ثَوْبَان أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من كشف امْرَأَة فَنظر إِلَى عورتها، فقد وَجب الصَدَاق "، زَاد ابْن لَهِيعَة: " دخل بهَا، أَو لم يدْخل ". وَابْن صَالح، وَابْن لَهِيعَة لَا يحْتَج بحديثهما، فَإِن سلم مِنْهُمَا فَهُوَ مُرْسل.
وروى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن ابْن سعيد عَن ابْن الْمسيب أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قضى فِي الْمَرْأَة يَتَزَوَّجهَا الرجل أَنه إِذا أرخيت الستور فقد وَجب الصَدَاق.
(وَعنهُ عَن الزُّهْرِيّ أَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا دخل الرجل بامرأته، فأرخيت عَلَيْهِمَا الستور فقد وَجب(4/181)
الصَدَاق ".
قَالَ الشَّافِعِي: " لَيْسَ إرخاء الستور يُوجب الصَدَاق عِنْدِي؛ لقَوْل الله عز وَجل: {إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتوهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ} ، فَلَا يُوجب الصَدَاق إِلَّا بالمسيس "، قَالَ: " وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس ".
وَظَاهر مَا رُوِيَ عَن زيد رَضِي الله عَنهُ أَنه لم يُوجِبهُ بِنَفس الْخلْوَة، وَلَكِن إِذا ادَّعَت الْمَسِيس؛ فقد رُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَنهُ فِي الرجل يَخْلُو بِالْمَرْأَةِ فَيَقُول: لم أَمسهَا، فَتَقول: قد مسني قَالَ: القَوْل قَوْلهَا ".
وَرُوِيَ عَن عمر، وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا: " إِذا أغلق بَابا، وأرخى سترا فقد وَجب الصَدَاق كَامِلا، وَعَلَيْهَا الْعدة ". وَرُوِيَ عَن زُرَارَة بن أوفى قَالَ: " قَضَاء الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين أَنه من أغلق بَابا، وأرخي سترا فقد وَجب الصَدَاق(4/182)
وَالْعدة، هَذَا مُرْسل زُرَارَة (بن أوفى) لم يدركهم "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (213) :(4/183)
(صفحة فارغه)(4/184)
وللتي طَلقهَا زَوجهَا بعد الدُّخُول بهَا الْمُتْعَة على أحد الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَا مُتْعَة لَهَا ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ} الْآيَة، فَعم، وَلم يخص.(4/185)
روى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: " لكل مُطلقَة مُتْعَة إِلَّا الَّتِي فرض لَهَا الصَدَاق، وَلم يدْخل بهَا، فحسبها نصف الْمهْر ".
وروى مَالك عَن نَافِع أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول: " لكل مُطلقَة مُتْعَة إِلَّا الَّتِي تطلق، وَقد فرض لَهَا صدَاق، وَلم يَمَسهَا، فحسبها نصف مَا فرض لَهَا ".
وَعنهُ عَن ابْن شهَاب أَنه كَانَ يَقُول: " لكل مُطلقَة مُتْعَة ".
وَرُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لما طلق حَفْص بن الْمُغيرَة امْرَأَته فَاطِمَة أَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ لزَوجهَا: مَتعهَا، قَالَ: لَا أجد مَا أمتعها، قَالَ: فَإِنَّهُ لَا بُد من الْمَتَاع، قَالَ: مَتعهَا، وَلَو نصف صَاع من تمر "، وَفَاطِمَة هَذِه هِيَ بنت قيس، وقصتها مَشْهُورَة فِي(4/186)
الْعدة دَالَّة على أَنَّهَا كَانَت مَدْخُولا بهَا، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن سُوَيْد بن غَفلَة قصَّة طَلَاق الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ الخثعمية، وفيهَا: " فَبعث إِلَيْهَا الْحسن بِبَقِيَّة من صَدَاقهَا، وبمتعة عشْرين ألف دِرْهَم، فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُول، وَرَأَتْ المَال، قَالَت: مَتَاع قَلِيل من خَلِيل مفارق ".
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: " لكل مُطلقَة مُتْعَة، {وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ} ".
وروري عَن حميد الْأَعْرَج، وَابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: " لكل مُطلقَة مُتْعَة إِلَّا الَّتِي تطلق قبل أَن يدْخل بهَا، وَقد فرض لَهَا، فَلَا مُتْعَة لَهَا إِلَّا نصف صَدَاقهَا "، وَالله أعلم.(4/187)
(صفحه فارغة)(4/188)
كتاب الْقسم
وَمن كتاب الْقسم:
مَسْأَلَة (214) :
وَيُقِيم الزَّوْج فِي ابْتِدَاء الزفاف عِنْد الْبكر سبعا، وَعند الثّيّب ثَلَاثًا، ثمَّ لَا يقْضِي قدره لسَائِر نِسَائِهِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه يقْضِي ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " من السّنة إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا (سبعا، وَإِذا تزوج الثّيّب على الْبكر أَقَامَ عِنْدهَا) ثَلَاثًا "، قَالَ خَالِد: " وَلَو قلت: إِنَّه رَفعه لصدقت ".
وَعِنْده مُسلم عَن أم سَلمَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما تزوج أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: لَيْسَ بك على أهلك هوان، إِن شِئْت سبعت لَك، وَإِن سبعت لَك سبعت لنسائي ".(4/189)
وَعِنْده أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين تزوج أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا، واصبحت عِنْده قَالَ: " أما لَيْسَ بك على أهلك هوان، إِن شِئْت سبعت عنْدك، وسبعت عِنْدهن وَإِن شِئْت ثلثت عنْدك، وَدرت، فَقَالَت: ثلث ".
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: للبكر سبع، وللثيب ثَلَاث ".
وَذَلِكَ إِضَافَة إِلَيْهَا بلام التَّمْلِيك، وَفصل بَين الْبكر وَالثَّيِّب. فَلَو كَانَ يقْضِي كَمَا زَعَمُوا لم يكن ذَلِك لَهَا، وَلَا للْفرق بَين الْبكر وَالثَّيِّب معنى، وَلما اخْتَارَتْ أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا حَقّهَا حَيْثُ قَالَت: " ثلث "، (ولكان) قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي التَّثْلِيث كَقَوْلِه فِي التسبيع. (فَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التسبيع) : " ثمَّ سبعت عِنْدهن "، وَقَالَ فِي التَّثْلِيث: " ثمَّ ردَّتْ "، واختارت هِيَ التَّثْلِيث علمنَا أَن التَّثْلِيث حَقّهَا من غير قَضَاء للبواقي. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (215) :
وَلَيْسَ للزَّوْج أَن يخرج بِوَاحِدَة من نِسَائِهِ إِلَى سَفَره بِغَيْر الْقرعَة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَهُ أَن يخرج بِمن شَاءَ مِنْهُنَّ بِغَيْر(4/190)
قرعَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا أَرَادَ سفرا اقرع بَين نِسَائِهِ، وأيتهن خرج سهمها خرج بهَا ". وَالله أعلم.(4/191)
(صفحه فارغة)(4/192)
كتاب الْخلْع
وَمن كتاب الْخلْع:
مَسْأَلَة (216) :
الْخلْع فسخ على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه طَلَاق بَائِن ".
روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي امْرَأَة طَلقهَا زَوجهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، ثمَّ اخْتلعت مِنْهُ أيتزوجها؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: " ذكر الله الطَّلَاق فِي أول الْآيَة وَآخِرهَا، وَالْخلْع بَين ذَلِك، فَلَيْسَ الْخلْع بِطَلَاق، ينْكِحهَا "، وروى الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بِمَعْنَاهُ.
وَعَن سُفْيَان عَن عَمْرو عَن عِكْرِمَة قَالَ: " كل شَيْء اجازه المَال، (فَلَيْسَ بِطَلَاق) ".
وَرُوِيَ عَن لَيْث عَن طَاوُوس أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا جمع بَين رجل وَامْرَأَته بعد طَلْقَتَيْنِ وخلع.(4/193)
وَأما القَوْل الثَّانِي فروى إِبْرَاهِيم بن يزِيد الْمَكِّيّ عَن دَاوُد عَن ابْن الْمسيب قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخلْع تَطْلِيقَة "، هَذَا مُنْقَطع، وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد لَيْسَ بِقَوي.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن جهمان مولى الأسلميين عَن أم بكرَة الأسْلَمِيَّة أَنَّهَا اخْتلعت من زَوجهَا عبد الله بن أسيد، ثمَّ أَتَيَا عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: " هِيَ تَطْلِيقَة إِلَّا أَن تكون سميت شَيْئا، فَهُوَ على مَا سميت ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَلَا أعرف جهمان، وَلَا أم بكرَة بِشَيْء يثبت بِهِ خبرهما، وَلَا يردهُ ".(4/194)
قَالَ أَبُو دَاوُد: " قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ الْخلْع تطليقه، قَالَ: لَا يَصح، فَقَالَ: مَا أَدْرِي جهمان، لَا أعرفهُ ".
قَالَ ابْن الْمُنْذر: " وَرُوِيَ عَن عُثْمَان، وَعلي، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم الْخلْع تطليقه بَائِنَة، وَحَدِيث عَليّ، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا فِي إسنادهما مقَال، وَلَيْسَ فِي الْبَاب أصح من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا " يُرِيد رَحمَه الله حَدِيث طَاوُوس ".
وروى عباد بن كثير عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل الْخلْع تطليقه بَائِنَة ".
وَعباد لَا يحْتَج بِهِ، وَكَيف يَصح هَذَا، وَمذهب عِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس خِلَافه؟ وَإِن يثبت فَأَرَادَ بِهِ إِذا نوى طَلَاقا أَو ذكره، وَالْقَصْد مِنْهُ قطع الرّجْعَة. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (217) :
المختلعة لَا يلْحقهَا الطَّلَاق. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يلْحقهَا صَرِيح الطَّلَاق دون كنايته ".(4/195)
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله " لم يَقع على المختلعة طَلَاق؛ لِأَنَّهَا لَيست بِزَوْجَة، وَلَا فِي مَعَاني الْأزْوَاج "، وَاحْتج بِانْقِطَاع الرّجْعَة، وَالْإِيلَاء، وَالظِّهَار، وَاللّعان، وَالْمِيرَاث بَين الزَّوْجَيْنِ، وَفِي مَوضِع آخر أَنه لَو مَاتَ لم تنْتَقل إِلَى عدَّة الْوَفَاة.
قَالَ: " أخبرنَا مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُم أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْمُخْتَلفَة يطلقهَا زَوجهَا، قَالَا: " لَا يلْزمهَا طَلَاق؛ لِأَنَّهُ طلق مَا لَا يملك ".
كَذَلِك رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا سئلا عَن امْرَأَة اخْتلعت، ثمَّ طَلقهَا زَوجهَا فِي الْعدة، قَالَا: " طلق مَا لم يملك "، فَهَذَا عَنْهُمَا صَحِيح، وَلَا يَصح عَن أحد من الصَّحَابَة خِلَافه.
استدلوا بِمَا روى الْفرج بن فضَالة بِسَنَدِهِ عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " للمختلعة طَلَاق مَا كَانَت فِي الْعدة "، وَهَذَا عَن أبي الدَّرْدَاء مَوْقُوف وَضَعِيف؛ فَإِن الْفرج بن فضَالة لَيْسَ بِقَوي.(4/196)
وَرُوِيَ عَن أبي سَلمَة، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن أَنَّهُمَا قَالَا: " إِذا خالعت، ثمَّ طَلقهَا لزمَه مَا دَامَت فِي مَجْلِسه ".
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " يجْرِي الطَّلَاق على الَّتِي تَفْتَدِي من زَوجهَا مَا كَانَت فِي الْعدة "، وَهَذَا بَاطِل؛ فَإِنَّهُ عَن رجل مَجْهُول عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم، وَهُوَ غير مُحْتَج بِهِ، وَلم يدْرك ابْن مَسْعُود، وَلَا قاربه، فَهُوَ مُنْقَطع، وَضَعِيف، ومجهول، وَإِسْنَاده إِلَى عِيسَى الْعَسْقَلَانِي مظلم. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (218) :
عقد الطَّلَاق قبل عقد النِّكَاح لَا ينْعَقد بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ. وَقَالَ(4/197)
الْعِرَاقِيُّونَ: " انْعَقَد، وَوَقع فِيهِ ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا طَلَاق من قبل نِكَاح ".
وَرُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا طَلَاق لمن لَا يملك، وَلَا عتاق لمن لم يملك ". قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ " رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا طَلَاق إِلَّا بعد نِكَاح ". قَالَ ابْن صاعد: " هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا أعرف لَهُ عِلّة ".
وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن أبي بكر الصّديق، وَعلي بن أبي طَالب، وَابْن عَبَّاس، ومعاذ، وَزيد، وَأبي سعيد، وَعمْرَان، وَأبي مُوسَى، وَأبي هُرَيْرَة، والمسور، وَعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَأَصَح حَدِيث فِيهِ وأشهره حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده الَّذِي تقدم ذكره،(4/198)
وَحَدِيث حَمَّاد بن خَالِد عَن هِشَام بن سعد عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَه البُخَارِيّ.
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " مَا قَالَهَا ابْن مَسْعُود، و (إِن يكن) قَالَهَا فزلة من عَالم فِي الرجل يَقُول: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين ءامنوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن} ، وَلم يقل: إِذا طلّقْتُم الْمُؤْمِنَات، ثمَّ نكحتموهن ". قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ".
وَرُوِيَ فِي ذَلِك عَن ابْن الْمسيب، وَأبي سَلمَة وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، وَعبيد الله بن عتبَة، وطاووس، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، ووهب بن مُنَبّه، وَعلي بن الْحُسَيْن، وَالْحسن، وَعِكْرِمَة، وَابْن جُبَير، وَأبي الشعْثَاء، وَنَافِع بن جُبَير، والقرطبي، وَمُجاهد.(4/199)
وَهَذَا يدل على أَن عوام أهل الْعلم من الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ ذَهَبُوا إِلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وفهموا من الْأَخْبَار مَا فهمناه من أَن الطَّلَاق وَالْعتاق قبل الْملك لَا يعْمل بعد وُقُوع الْملك، وَأَن الَّذِي حمل من خَالَفنَا الْخَبَر عَلَيْهِ من عدم وُقُوعه قبل الْملك، ووقوعه بعده لَا معنى لَهُ، فَكل أحد يعلم أَن الطَّلَاق وَالْعتاق قبل الْملك لَا يَقع، وَإِنَّمَا قصد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَذَا النَّفْي عدم وُقُوعه بعد الْملك، حَتَّى يُفِيد الْخَبَر. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.(4/200)
كتاب الطَّلَاق وَالرَّجْعَة وَالْإِيلَاء
وَمن كتاب الطَّلَاق وَالرَّجْعَة وَالْإِيلَاء.
مَسْأَلَة (219) :
السّنة والبدعة فِي وَقت الطَّلَاق دون عدده. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " فِي وقته وعدده ".
لنا حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ طلقت امْرَأَتي، وَهِي حَائِض، قَالَ: " فَذكر ذَلِك عمر رَضِي الله عَنهُ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَقَالَ: ليراجعها، فَإِذا طهرت فَلْيُطَلِّقهَا "، قَالَ يَعْنِي ابْن سِيرِين: " فَقلت لَهُ يَعْنِي ابْن عمر يحْتَسب بهَا؟ قَالَ فَمه؟ ".
وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا من حَدِيث يُونُس بن جُبَير عَن ابْن عمر بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: " فَقلت لِابْنِ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: فاحتسب بهَا؟ قَالَ: فَمَا يمنعهُ، أَرَأَيْت إِن عجز واستحمق؟ ".(4/201)
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي الزبير، قَالَ: " سَمِعت عبد الرَّحْمَن ابْن أَيمن يسْأَل عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رجل طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَقَالَ: إِن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض فَسَأَلَ عمر رَضِي الله عَنهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، فَقَالَ: مره فَلْيُرَاجِعهَا، فَإِذا طهرت فَلْيُطَلِّقهَا، أَو يمسك، قَالَ: " وَقَرَأَ {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لقبل عدتهن} ". وَكَانَ مُجَاهِد يقْرؤهَا هَكَذَا.(4/202)
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا عَنهُ انه طلق امْرَأَته، وَهِي حَائِض، فَذكر ذَلِك عمر لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتغيظ فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ليراجعها، ثمَّ يمْسِكهَا، حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض فَتطهر، فَإِن بدا لَهُ أَن يطلقهَا فَلْيُطَلِّقهَا طَاهِرا قبل أَن يَمَسهَا، فَتلك الْعدة، كَمَا أَمر الله عز وَجل ".
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عِنْدهمَا عَن نَافِع عَنهُ بِمَعْنَاهُ، وَزَاد " فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تطلق لَهَا النِّسَاء "، وَكَانَ ابْن عمر إِذا سُئِلَ عَن ذَلِك قَالَ لأَحَدهم: " إِن كنت طَلقتهَا ثَلَاثًا فقد حرمت عَلَيْك حَتَّى تنْكح زوجا غَيْرك، وعصيت الله فِيمَا أَمرك من طَلَاق امْرَأَتك ".
وَفِي أُخْرَى عِنْد مُسلم أَن ابْن عمر طلق امْرَأَته تَطْلِيقَتَيْنِ، وَهِي حَائِض، فَذكره.
قَالَ: " وَكَانَ ابْن عمر إِذا سُئِلَ عَن الرجل يُطلق امْرَأَته، وَهِي حَائِض، يَقُول: أما أَنْت طَلقتهَا وَاحِدَة، أَو ثِنْتَيْنِ فَإِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره أَن يُرَاجِعهَا، ثمَّ يُمْهِلهَا حَتَّى تحيض حَيْضَة أُخْرَى، ثمَّ يُمْهِلهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ يطلقهَا قبل أَن يَمَسهَا. وَأما أَنْت طَلقتهَا ثَلَاثًا فقد(4/203)
عصيت الله فِيمَا أَمرك بِهِ من طَلَاق امْرَأَتك، وَبَانَتْ مِنْك ".
وَأكْثر الرِّوَايَات عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره أَن يُرَاجِعهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ إِن شَاءَ طلق، وَإِن شَاءَ أمسك. فَإِن كَانَت الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن سَالم ثمَّ عَن نَافِع، وَابْن دِينَار فِي أمره بِأَن يُرَاجِعهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض، ثمَّ تطهر مَحْفُوظَة.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " هَذَا يحْتَمل أَن يكون إِنَّمَا أَرَادَ بذلك الِاسْتِبْرَاء أَن يكون يَسْتَبْرِئهَا بعد الْحَيْضَة الَّتِي طَلقهَا فِيهَا بطهر تَامّ، ثمَّ حيض تَامّ؛ ليَكُون تطليقها، وَهِي تعلم عدتهَا: آلحمل هِيَ، أم الْحيض، وليكون تطليقها بعد علمه بِحمْل، وَهُوَ غير جَاهِل مَا يصنع، أَو يرغب، فَيمسك للْحَمْل، وليكون إِن كَانَت سَأَلت الطَّلَاق غير حَامِل أَن يكف عَنهُ حَامِلا ".
وَرَوَاهُ عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن الْحسن عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِيه زِيَادَة، وَاخْتِلَاف لفظ، وَعَطَاء تكلمُوا فِيهِ، وَالْحسن قيل: إِنَّه لم يسمع من ابْن عمر.(4/204)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث عُوَيْمِر الْعجْلَاني حِين لَاعن امْرَأَته، وَقَالَ: " فَطلقهَا ثَلَاثًا قبل أَن يَأْمُرهُ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَفِيهِمَا أَيْضا حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا جَاءَت امْرَأَة رِفَاعَة إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: " إِنِّي كنت عِنْد رِفَاعَة، فطلقني، فَبت طَلَاقي " الحَدِيث.
وَفِيهِمَا أَيْضا عَنْهَا أَن رجلا طلق امْرَأَته، فَتزوّجت، فَطلقهَا قبل أَن يَمَسهَا، فَسئلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتحل للْأولِ؟ قَالَ: " لَا حَتَّى يَذُوق عسيلتها، كَمَا ذاق الأول ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عُرْوَة عَن فَاطِمَة بنت قيس قَالَت: " يَا رَسُول الله، زَوجي طَلقنِي ثَلَاثًا " الحَدِيث، فقد ذكر عِنْده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَلَاق الثَّلَاث، وَأخْبر بِمن فعله، فَلم يُنكر ذَلِك، وَلَو كَانَ مَحْظُورًا لبينه بِصَرِيح، أَو نبه عَلَيْهِ بتعريض؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث مُبينًا، فَلَمَّا لم يفعل ثَبت بذلك أَنه مُبَاح، وَلَيْسَ بِحرَام.(4/205)
وَقد رُوِيَ أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ طلق امْرَأَته الْبَتَّةَ، وَهُوَ مَرِيض، فَورثَهَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مِنْهُ بعد انْقِضَاء عدتهَا، فقد فعله مثل عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَبلغ ذَلِك عُثْمَان، واشتهر بَين الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَلم ينْقل عَن أحد مِنْهُم أَنه أنكرهُ، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي توريثها مِنْهُ. وَزَاد بَعضهم فِي هَذِه الرِّوَايَة، قَالَ عبد الرَّحْمَن: " مَا فَرَرْت من كتاب الله ".
وَقد استفتي ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَابْن عمر، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم فِي مسَائِل، وَأَجَابُوا عَنْهَا، وفيهَا ذكر الثَّلَاث، فَلم يعيبوا ذَلِك.
وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ للَّذي زعم أَنه طلق امْرَأَته ألفا: " إِنَّمَا يَكْفِيك من ذَلِك ثَلَاث، وضربه بِالدرةِ ".
وَمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لرجل قَالَ لَهُ إِنَّه طلق امْرَأَته ثَلَاثًا: " عصيت رَبك، وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتك، وَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن فِي قبل عدتهن} ، فَيحْتَمل أَنه إِنَّمَا سُئِلَ عَمَّن طلق امْرَأَته، وَهِي(4/206)
حَائِض "، فقد رُوِيَ عَنهُ بِخِلَافِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن عمرَان بن حُصَيْن، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " طَلَاق السّنة أَن يطلقهَا طَاهِرا من غير جماع ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (220) :
لم يذكرهَا، وَإِذا قَالَ لامْرَأَته الْمَدْخُول بهَا: " أَنْت بتة، أَو بتلة، أَو خلية، أَو بَريَّة، أَو بَائِن، أَو حرَام "، وَأَرَادَ بِهِ الطَّلَاق، كَانَ رَجْعِيًا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " تكون بَائِنا ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن عَمه مُحَمَّد بن عَليّ بن شَافِع عَن عبد الله بن عَليّ بن السَّائِب عَن نَافِع بن عجير بن عبد يزِيد أَن(4/207)
ركَانَة بن عبد يزِيد طلق امْرَأَته سهيمة المزنية الْبَتَّةَ، ثمَّ أَتَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنِّي طلقت امْرَأَتي سهيمة الْبَتَّةَ، وَوَاللَّه مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة "، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لركانة: " وَالله مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة؟ " فَقَالَ ركَانَة: " وَالله مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة "، فَردهَا إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَطلقهَا الثَّانِيَة فِي زمَان عمر، وَالثَّالِثَة فِي زمَان عُثْمَان، رَضِي الله عَنْهُم.
وَعند أبي دَاوُد (عَن مُحَمَّد بن يُونُس عَن عبد الله بن الزبير عَن الشَّافِعِي) بِنَحْوِهِ ".
وروى سُفْيَان عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول فِي الخلية، والبرية، والبتة، والبائنة: " وَاحِدَة،(4/208)
وَهُوَ أَحَق بهَا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (221) :
وَإِذا قَالَ: " أَنْت بَائِن "، وَنوى بِهِ طَلْقَتَيْنِ وقعتا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " تقع وَاحِدَة ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى ". وَحَدِيث ركَانَة الَّذِي تقدم.
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلَاث جدهن جد، وهزلهن جد: النِّكَاح، وَالطَّلَاق، وَالرَّجْعَة "، وَهَذَا قد نوى طَلْقَتَيْنِ، فَلَا يلغى أَحدهمَا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (222) :
لم يذكرهَا، وَإِذا قَالَ لَهَا: " اخْتَارِي نَفسك "، وَنوى بِهِ طَلْقَة،(4/209)
فَاخْتَارَتْ نَفسهَا، ونوت بِهِ طَلْقَة، وَقعت طَلْقَة رَجْعِيَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " طَلْقَة بَائِنَة ".
رُوِيَ عَن عمر، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: " إِذا خَيرهَا، فَاخْتَارَتْ نَفسهَا فَهِيَ وَاحِدَة، وَهُوَ أَحَق بهَا، فَإِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَا شَيْء ". وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مثله.
وَعَن خَارِجَة عَن أَبِيه زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة أَنه كَانَ يَجْعَلهَا ثَلَاثًا، عَن إِبْرَاهِيم عَن زيد.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن سعيد بن سُلَيْمَان بن زيد عَن خَارِجَة بن زيد أَنه كَانَ جَالِسا عِنْد زيد فَأتى مُحَمَّد بن أبي عَتيق، وَعَيناهُ تدمعان، فَقَالَ لَهُ: " مَا شَأْنك؟ " فَقَالَ: " ملكت امْرَأَتي أمرهَا، ففارقتني "، فَقَالَ لَهُ زيد: " مَا حملك على ذَلِك؟ "، فَقَالَ لَهُ: " الْقدر "، فَقَالَ لَهُ زيد: " ارتجعها إِن شِئْت، فَإِنَّمَا هِيَ وَاحِدَة، وَأَنت أملك بهَا ".(4/210)
وَعنهُ عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول: " إِذا ملك الرجل امْرَأَته فالقضاء مَا قَضَت إِلَّا أَن يناكرها الرجل، فَيَقُول: لم أرد إِلَّا تطليقه وَاحِدَة، فَيحلف على ذَلِك، وَيكون أملك بهَا مَا دَامَت فِي عدتهَا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ مَا يُوَافق قَوْلنَا، وَهُوَ مُوَافقَة السّنة الثَّابِتَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " خيرنا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاخترناه، فَلم يكن ذَلِك طَلَاقا.
وَرُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: " دخلت أَنا وَأَبُو السّفر على أبي جَعْفَر، فَسَأَلته عَن التَّخْيِير: عَن رجل خير امْرَأَته فَاخْتَارَتْ نَفسهَا. قَالَ: فَلَيْسَتْ بِشَيْء، قُلْنَا: فَإِن أُنَاسًا يروون عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فتطليقة، وَزوجهَا أَحَق برجعتها، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فتطليقة بَائِنَة، وَهِي أملك بِنَفسِهَا، قَالَ: هَذَا وجدوه فِي الصُّحُف ".
وَرُوِيَ عَن مَسْرُوق عَن عبد الله أَنه قَالَ: " إِذا قَالَ الرجل لامْرَأَته(4/211)
استفلحي بِأَمْرك، أَو أَمرك لَك، أَو وَهبهَا لأَهْلهَا، فَهِيَ تَطْلِيقَة بَائِنَة ".
وَرُوِيَ عَن مَسْرُوق: " إِذا قَالَ الرجل لامْرَأَته: استفلحي أَمرك، أَو اخْتَارِي، أَو وَهبهَا لأَهْلهَا، فَهِيَ وَاحِدَة بَائِنَة ". قَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: " وَسَأَلت سُفْيَان، فَقَالَ: هُوَ عَن مَسْرُوق، يَعْنِي أَنه لم يقل: عَن عبد الله ".
(وَقد رُوِيَ عَن شريك عَن أبي حُصَيْن فِي الْهِبَة، فقبلوها، فَهِيَ تَطْلِيقَة، وَهُوَ أَحَق بهَا) ".
وَرُوِيَ عَن عمر، وَعبد الله، وَزيد فِيمَن جعل أَمر امْرَأَته بِيَدِهَا، فَطلقت نَفسهَا ثَلَاثًا، أَنَّهَا وَاحِدَة، وَهُوَ أَحَق بهَا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (223) :
وَقَول الرجل لامْرَأَته: " أَنْت عَليّ حرَام "، صَرِيح فِي التَّحْرِيم،(4/212)
على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَالْكَفَّارَة فِيهِ تجب بِنَفس اللَّفْظ، كَمَا لَو نوى بِهِ التَّحْرِيم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه يَمِين بِلَفْظِهِ دون الْإِرَادَة، وَالْكَفَّارَة فِيهِ تجب بِالْحلف فِيهَا ".
قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} الْآيَتَيْنِ.
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله عز وَجل: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} أَمر الله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْمُؤمنِينَ إِذا حرمُوا شَيْئا مِمَّا أحل الله تَعَالَى أَن يكفروا عَن أَيْمَانهم بإطعام عشرَة مَسَاكِين، أَو كسوتهم، أَو تَحْرِير رَقَبَة، وَلَيْسَ فِي ذَلِك الطَّلَاق ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ قَالَ " إِذا حرم الرجل عَلَيْهِ امْرَأَته فَهِيَ يَمِين يكفرهَا، وَقَالَ: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} ".
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَالله أعلم أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حرم على نَفسه جَارِيَته، فَنزل {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} ، فَأخْبر أَنَّهَا لَا تحرم عَلَيْهِ بذلك، وَأمر بكفارة الْيَمين، دون شَرط الْحلف.
فعبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " فَهِيَ يَمِين يكفرهَا "،(4/213)
أَي هِيَ كاليمين فِي امْتنَاع وُقُوع تَحْرِيم الْفرج بذلك، وَفِي وجوب الْكَفَّارَة، (لَا أَن) الْكَفَّارَة تجب فِيهَا بِالْحلف؛ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لبينه، وَيدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ. وَهَكَذَا معنى قَول غَيره: " إِنَّهَا يَمِين يكفرهَا "، وَالله أعلم.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة، وَالَّتِي تَلِيهَا لم اخْرُج فِيهَا جَمِيع مَا نقل إِلَيّ عَن الصَّحَابَة وَالسَّلَف الصَّالِحين رَضِي الله عَنْهُم لكثرته، وهأنا أستخير الله تَعَالَى فِيهِ لاختيار أقرب الْأَقْوَال فِيهَا إِلَى الصَّوَاب، وَالله الْمُوفق لذَلِك برحمته.
رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " فِي الْحَرَام يَمِين ".
وَعَن ابْن عمر، وَزيد فِيمَن قَالَ لامْرَأَته: " أَنْت عَليّ حرَام "، قَالَا: " كَفَّارَة يَمِين "، وَالله أعلم.
وَعَن عَامر فِي الرجل يَجْعَل امْرَأَته عَلَيْهِ حَرَامًا، قَالَ: " يَقُولُونَ: إِن عليا جعلهَا ثَلَاثًا ".(4/214)
قَالَ عَامر: " مَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ هَذَا، إِنَّمَا قَالَ: لَا أحلهَا، وَلَا أحرمهَا عَلَيْهِ "، وَالله أعلم.
مسالة (224) :
وَإِذا حرم على نَفسه الطَّعَام وَالشرَاب لم يلْزمه كَفَّارَة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يلْزمه كَفَّارَة الْيَمين ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على سَبَب نزُول آيَة التَّحْرِيم، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَروِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت لَهُ أمة يَطَؤُهَا، فَلم تزل بِهِ حَفْصَة حَتَّى جعلهَا على نَفسه حَرَامًا، فَأنْزل الله عز وَجل هَذِه الْآيَة: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك} الْآيَة، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح "، فالآية فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين نزلت فِي تَحْرِيم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَارِيَة الْقبْطِيَّة،(4/215)
فَكَانَ ذَلِك تَحْرِيم فرج، فقاس عَلَيْهِ الشَّافِعِي تَحْرِيم الرجل عَلَيْهِ فرج امْرَأَته فِي تعلق الْكَفَّارَة بِهِ.
فَأَما الطَّعَام فَإِنَّهُ يُفَارق تَحْرِيم الْفرج، فَلم يتَعَلَّق بِتَحْرِيمِهِ وجوب الْكَفَّارَة، على أَن مَسْرُوق بن الأجدع ذهب إِلَى أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آلى وَحرم، فوجوب الْكَفَّارَة تعلق بالإيلاء، لَا بِالتَّحْرِيمِ. وَرُوِيَ ذَلِك عَنهُ عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، والمرسل أصح.
وَإِلَى مثل ذَلِك ذهب قَتَادَة، وَهُوَ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لحفصة: " اسكتي، فوَاللَّه لَا أقربها، وَهِي عَليّ حرَام ".
وَكَذَلِكَ قَالَ زيد بن أسلم أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حرم أم إِبْرَاهِيم، قَالَ: " أَنْت عَليّ حرَام، وَالله لَا أمسك، فَأنْزل الله عز وَجل فِي ذَلِك مَا أنزل ".
وَأما حَدِيث عَائِشَة فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يمْكث عِنْد زَيْنَب، وَيشْرب عِنْدهَا عسلا الحَدِيث، وَفِيه قَالَ: " شربت عسلا(4/216)
عِنْد زَيْنَب، وَلنْ أَعُود لَهُ، فَنزلت: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك ... إِلَى ... إِن تَتُوبَا إِلَى الله} لعَائِشَة وَحَفْصَة (وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا " لقَوْله: " بل شربت عسلا ".
وَفِي رِوَايَة لهَذَا الحَدِيث عِنْد البُخَارِيّ قَالَ: " وَلنْ أَعُود لَهُ، وَقد حَلَفت، فَلَا تُخْبِرِي بذلك أحدا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشرب من شراب عِنْد سَوْدَة من الْعَسَل، فَدخل على عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَقَالَت: إِنِّي أجد مِنْك ريحًا، (ثمَّ دخل على حَفْصَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَقَالَت: إِنِّي أجد مِنْك ريحًا "، فَقَالَ: إِنِّي أرَاهُ من شراب شربته عِنْد سَوْدَة، وَالله لَا أشربه، فَنزلت هَذِه الْآيَة (يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك (، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَإِن كَانَ يُخَالف الأول فِي اسْم من كَانَ يشرب عِنْدهَا، فَفِيهِ زِيَادَة مَحْفُوظَة، وَهِي قَوْله: " وَالله لَا أشْرب "، فَحلف بقوله: " وَالله "، فَلذَلِك تعلّقت بِهِ الْكَفَّارَة، إِن كَانَت الْآيَة نزلت فِيهِ، وَالله أعلم.(4/217)
وَرُوِيَ عَن مَسْرُوق قَالَ: " أُتِي عبد الله بضرع، فَقَالَ للْقَوْم: ادْنُوا، فَأخذُوا يطعمونه، فَكَانَ رجل مِنْهُم نَاحيَة، فَقَالَ عبد الله: ادن، فَقَالَ: إِنِّي لَا أريده، فَقَالَ: لم؟ ، قَالَ: لِأَنِّي حرمت الضَّرع، فَقَالَ عبد الله: هَذَا من خطوَات الشَّيْطَان، فَقَالَ عبد الله: {يَا أَيهَا الَّذين ءامنوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} ، ادن، فَكل، وَكفر عَن يَمِينك؛ فَإِن هَذَا من خطوَات الشَّيْطَان. قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " لَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة إِيجَاب الْكَفَّارَة بِالتَّحْرِيمِ، وَيُشبه أَن يكون الرجل حرمه على نَفسه، وَحلف أَن لَا يعود إِلَى أكله، فَلذَلِك أمره ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ بِالْكَفَّارَةِ، أَلا ترَاهُ قَالَ: وَكفر عَن يَمِينك، فعلق وجوب الْكَفَّارَة بِالْيَمِينِ، لَا بِالتَّحْرِيمِ "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (225) :
وَلَا يَقع طَلَاق الْمُكْره إِلَّا أَن يُرِيد وُقُوعه. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه وَاقع ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قَالَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ وتقدست أسماؤه: {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} ، وللكفر أَحْكَام، فَلَمَّا وضع الله تَعَالَى عَنهُ سَقَطت أَحْكَام الْإِكْرَاه عَن(4/218)
القَوْل كُله؛ لِأَن الْأَعْظَم إِذا سقط عَن النَّاس سقط مَا هُوَ أَصْغَر مِنْهُ "، وَبسط الْكَلَام فِي بَيَان الْإِكْرَاه، ثمَّ قَالَ: " فَإِذا خَافَ هَذَا سقط عَنهُ حكم مَا أكره عَلَيْهِ من قَول مَا كَانَ القَوْل "، فَذكر البيع، وَالنِّكَاح، وَالطَّلَاق، وَالْعتاق، وَالْإِقْرَار.
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تجَاوز الله عَن أمتِي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ "، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَرُوِيَ عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " غن الله تجَاوز عَن أمتِي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ ".
وَفِي رِوَايَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وضع عَن أمتِي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ "، قَالَ أَبُو عبد الله: " تفرد بِهِ الْوَلِيد بن مُسلم عَن مَالك، وَهُوَ غَرِيب، صَحِيح ".
وَرُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا طَلَاق،(4/219)
وَلَا عتاق فِي إغلاق "، قَالَ الْخطابِيّ: " معنى الإغلاق الْإِكْرَاه ".
وروى مَالك عَن ثَابت بن الْأَحْنَف أَنه تزوج أم ولد لعبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب قَالَ: " فدعاني عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، فَجِئْته فَدخلت عَلَيْهِ، فَإِذا بسياط مَوْضُوعَة، (وَإِذا قيدان) من حَدِيد، (وعبدان) لَهُ قد أجلسهما، فَقَالَ: " طَلقهَا، وَإِلَّا - وَالَّذِي يحلف بِهِ - فعلت بك كَذَا وَكَذَا " فَقلت: " هِيَ الطَّلَاق ألفا "، قَالَ: " فَخرجت من عِنْده، فأدركت عبد الله بن عمر بطرِيق مَكَّة، فَأَخْبَرته بِالَّذِي كَانَ من شأني، فتغيظ عبد الله، وَقَالَ: " لَيْسَ ذَلِك بِطَلَاق، وَإِنَّهَا لم تحرم عَلَيْك، فَارْجِع إِلَى أهلك "، قَالَ: " فَلم تقر نَفسِي حَتَّى أتيت عبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ بِمَكَّة، فَأَخْبَرته بِالَّذِي كَانَ من شأني، وَالَّذِي قَالَ لي عبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ لي عبد الله بن الزبير: " لم تحرم عَلَيْك،(4/220)
فَارْجِع إِلَى أهلك "، قَالَ: " وَكتب إِلَى جَابر بن الْأسود الزُّهْرِيّ، وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة يؤمئذ، فَأمره أَن يُعَاقب عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، وَأَن يخلي بيني وَبَين أَهلِي ".
وَرُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لم يجز طَلَاق الْمُكْره.
وَعَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء، وَعبد الله بن عبيد أَنَّهُمَا ألغيا طَلَاق الْمُكْره.
وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَن اللَّيْث عَن عَطاء وَطَاوُس قَالَا: " طَلَاق المستكره لَيْسَ بِشَيْء ".
وَعَن سماك عَن الْحسن قَالَ: " لَيْسَ بِشَيْء ". ورويناه عَن جَابر بن زيد، وَعِكْرِمَة، وَعمر بن عبد الْعَزِيز.
وَرُوِيَ عَن الْحسن عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " طَلَاق(4/221)
الْمُكْره لَيْسَ بِطَلَاق ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى عَطاء بن عجلَان عَن عِكْرِمَة بن خَالِد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " كل الطَّلَاق جَائِز إِلَّا طَلَاق الْمَعْتُوه، والمغلوب على عقله "، تفرد بِهِ عَطاء، وَعِكْرِمَة بن خَالِد لم يدْرك أَبَا هُرَيْرَة، وَقد روى عَنهُ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَكَيف مَا رَوَاهُ فَهُوَ مَتْرُوك مَنْسُوب إِلَى الْوَضع، يَعْنِي عَطاء بن عجلَان، وَقد روينَاهُ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ لَا يُجِيز طَلَاق الْمُكْره.
وَإِنَّمَا الرِّوَايَة فِيهِ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ. وَقد روينَا فِيهِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه لَا يَقع، فَيحْتَمل أَنه رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ طَلَاق الْمَعْتُوه وَمن فِي مَعْنَاهُ.
وَرُوِيَ عَن عبد الْملك بن قدامَة عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن(4/222)
حَاطِب الجُمَحِي عَن أَبِيه أَن رجلا تدلى يشتار عسلا فِي زمَان عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَته، فوقفت على الْحَبل، فَحَلَفت لتقطعنه، أَو لتطلقني ثَلَاثًا، فَذكرهَا الله وَالْإِسْلَام، فَأَبت إِلَّا ذَلِك، فَطلقهَا ثَلَاثًا، فَلَمَّا ظهر أَتَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَذكر لَهُ مَا كَانَ مِنْهَا إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: " ارْجع إِلَى أهلك، فَلَيْسَ هَذَا بِطَلَاق "، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ.
وَرَوَاهُ (أَبُو عبيد) عَن قدامَة بِهَذِهِ الْقِصَّة، قَالَ: " فَرفع إِلَى عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَأَبَانَهَا مِنْهُ " ثمَّ قَالَ أَبُو عبيد: " وَقد رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ بِخِلَافِهِ ". قَالَ: " ويروى عَن عَليّ، وَابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَابْن الزبير، وَعَطَاء، وَعبد الله بن عبيد بن عُمَيْر رَضِي الله عَنْهُم أَنهم كَانُوا يرَوْنَ طَلَاقه غير جَائِز "، وَكَأن أَبَا عبيد تنبه لخطأ وَقع فِي رِوَايَته فَقَالَ ذَلِك، والْحَدِيث مُنْقَطع.(4/223)
وَلَا حجَّة لَهُم فِيمَا استدلوا بِهِ من حَدِيث حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَابْنه رَضِي الله عَنْهُمَا حِين أَخذ عَلَيْهِمَا الْمُشْركُونَ عهد الله أَن ينصرفا إِلَى الْمَدِينَة، وَلَا يقاتلا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلَيْسَ فِيهِ أَن الْمُشْركين أكرهوهما على الْيَمين والعهد، (وَكَانَ) هَذَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام قبل ثُبُوت الْأَحْكَام، وَالْيَوْم فَلَو حلف على ترك قتال الْمُشْركين، فَإنَّا نأمره بِأَن يَحْنَث نَفسه، وَيُقَاتل الْمُشْركين، فَإِن قِتَالهمْ خير مِمَّا حلف عَلَيْهِ من تَركه.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاث جدهن جد، وهزهن جد: الطَّلَاق، وَالنِّكَاح، وَالرَّجْعَة، قُلْنَا: " هَذَا لَيْسَ من الْإِكْرَاه فِي شَيْء؛ لِأَن الْمُكْره لَيْسَ بجاد، وَلَا هازل "، وَالله أعلم.
مسالة (226) :(4/224)
(صفحه فارغة)(4/225)
(صفحه فارغة)(4/226)
وَطَلَاق السَّكْرَان لَا يَقع على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا القَوْل الَّذِي تفرد الْمُزنِيّ رَحمَه الله بنقله واختياره. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا كَانَ يُمَيّز بَين الْأَجْنَبِيّ وَامْرَأَته يَقع طَلَاقه ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن بُرَيْدَة رَضِي الله عَنهُ حَدِيث مَاعِز: أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فيمَ أطهرك؟ " فَقَالَ: " من الزِّنَا "، فَسَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أبه جُنُون؟ فَأخْبر أَنه لَيْسَ بمجنون، فَقَالَ: " أشربت خمرًا؟ " فَقَامَ رجل فاستنكهه فَلم يجد مِنْهُ ريح خمر ".
قَالَ أَصْحَابنَا: " إِنَّمَا سَأَلَهُ عَن شربه الْخمر لكَي يبطل إِقْرَاره بِالزِّنَا إِن كَانَ سكرانا، وَإِذا كَانَ إِقْرَاره بِالزِّنَا سَاقِطا كَانَ طَلَاقه هدرا ".(4/227)
ودوي عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا طَلَاق للسكران، وَلَا للمعتوه ".
وَعَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ: " قرئَ علينا كتاب عمر بن عبد الْعَزِيز بِالْمَدِينَةِ يذكر فِيهِ السّنة، فَذكر فِيمَا يذكر: وَأَن طَلَاق السَّكْرَان لَيْسَ بجائز ".
وَعنهُ قَالَ: " سَمِعت أبان بن عُثْمَان وَهُوَ أَمِير علينا بِالْمَدِينَةِ سُئِلَ عَن طَلَاق السَّكْرَان فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْء ".
وَعَن رَجَاء بن حَيْوَة: " قَرَأَ علينا عبد الْملك بن مَرْوَان كتاب مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي اله عَنْهُمَا فِيهِ السّنَن: أَن كل وَاحِد طلق امْرَأَته جَائِز أَلا الْمَجْنُون ".(4/228)
رُوِيَ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز إِنَّمَا ذهب إِلَى ذَلِك لِأَن أبان بن عُثْمَان أخبرهُ عَن أَبِيه أَنه قَالَه.
وَاسْتَدَلُّوا بقول عَليّ لعمر حِين استشارهم فِي الْخمر يرى أَن يجلده ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ إِذا شرب سكر، وَإِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى، أَو كَمَا قَالَ، رَوَاهُ مَالك عَن ثَوْر بن يزِيد.
قَالُوا: " فقد جعل لقذفه حكم ". قَالَ أَصْحَابنَا: " هَذَا دليلنا؛ لِأَنَّهُ جعل قَوْله هذيانا، وَإِنَّمَا جلده ثَمَانِينَ للشُّرْب، لَا للقذف؛ إِذْ لَو كَانَ للقذف لأضاف إِلَيْهِ حد الشّرْب، وَقَوله رَضِي الله عَنهُ يدل على أَنه للشُّرْب ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ قَالَ: " مَا من رجل أَقمت عَلَيْهِ حدا فَمَاتَ(4/229)
فأجده فِي نَفسِي إِلَّا الْخمر؛ فَإِنَّهُ إِن مَاتَ وديته؛ لِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلد فِي الْخمر بِالْجَرِيدِ وَالنعال ثمَّ جلد أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ ودنا النَّاس (من الرِّيف والقرى) فَقَالَ: " إِن النَّاس قد دنوا من الرِّيف فَمَا ترَوْنَ فِي حد الْخمر؟ " فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ: " أرى أَن تجعلها كأخف الْحُدُود "، (فجلد فِيهِ ثَمَانِينَ)
".
وَقَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلَاث جدهن جد، وهزلهن جد "، وَمن زَالَ عقله بسكر أَو غَيره لم يكن لَهُ جد، وَلَا هزل، فَلَا يَقع طَلَاقه، كَالْمَجْنُونِ.
وَكَذَلِكَ قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " كل الطَّلَاق جَائِز إِلَّا طَلَاق(4/230)
الْمَعْتُوه "، وَهَذَا لَا يُخَالف قَول عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ؛ فالمعتوه إِنَّمَا لم يَقع طَلَاقه لزوَال عقله، والسكران فِي مَعْنَاهُ.
وَهَكَذَا الْجَواب عَمَّا رُوِيَ عَن كتاب مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " إِن طَلَاق السَّكْرَان يَقع، فزوال عقله كَانَ بِمَعْصِيَة، فَلم يكن سَببا مَانِعا من وُقُوع طَلَاقه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (227) :
والمبتوتة فِي مرض الْمَوْت لَا تَرث على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا تَرث ".
رُوِيَ عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: " سَأَلت عبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنهُ عَن رجل يُطلق امْرَأَته فِي مَرضه فيبتها، قَالَ: أما عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فيورثها، وَأما أَنا فَلَا أرى أَن أورثها ببينونته إِيَّاهَا ".
وَفِي رِوَايَة عَنهُ: " أطلق عبد الرَّحْمَن بن عَوْف تماضر بنت الإصبغ الْكَلْبِيَّة فبتها، ثمَّ مَاتَ وَهِي فِي عدتهَا، فَورثَهَا عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَأما أَنا فَلَا أرى أَن تَرث مبتوتة ".(4/231)
وَعبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنهُ قد عاصر الصَّحَابَة الْمُتَقَدِّمين، وَصَارَ من فقهائهم، وَالرِّوَايَة عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مُخْتَلفَة.
فَروِيَ عَنهُ أَنه ورثهَا فِي الْعدة، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه ورثهَا بعد انْقِضَاء الْعدة وهم لَا يَقُولُونَ بِهِ. رَوَاهُ مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف، وَقَالَ: " وَكَانَ أعلمهم بذلك ".
وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَرُوِيَ عَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَيْضا " أَنه ورث أم حَكِيم بنت قارظ بن عبد الله بن مكمل بعد مَا (حلت) ".
وروى مَالك عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن: " بَلغنِي أَن امْرَأَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف سَأَلته أَن يطلقهَا، فَقَالَ لَهَا: إِذا حِضْت ثمَّ طهرت فآذنيني فَلم تَحض حَتَّى مرض عبد الرَّحْمَن، فَلَمَّا طهرت آذنته، فَطلقهَا الْبَتَّةَ، أَو تَطْلِيقَة لم يكن بَقِي لَهُ عَلَيْهَا من الطَّلَاق غَيرهَا، وَعبد الرَّحْمَن يَوْمئِذٍ مَرِيض، فَورثَهَا عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ بعد انْقِضَاء عدتهَا ".
وَهَذَا يُؤَكد مَا مضى لنا، وَفِيه أَنَّهَا سَأَلت الطَّلَاق، وَعِنْدهم إِذا سَأَلته لم تَرث، فقد خالفوا عُثْمَان فِي هَذِه الْقَضِيَّة. وَنحن وَإِن قُلْنَا بتوريث المبتوتة فَلَا نخالفه فِي توريثها بعد انْقِضَاء الْعدة.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَالَّذِي أخْتَار إِن ورثت بعد مُضِيّ الْعدة(4/232)
أَن تَرث مَا لم تزوج، فَإِن تزوجت فَلَا تَرثه؛ فترث زَوْجَيْنِ، وَتَكون كالتاركة لحقها بِالتَّزْوِيجِ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " حَيْثُ لَا تَرث المبتوتة أتبع فِي ذَلِك من الصَّحَابَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَعبد الله بن الزبير. وَفِي القَوْل الآخر أخْتَار أَن ورثت مِنْهُ (أَن تَرث) مَا لم تتَزَوَّج "، وَتبع فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَمَا رُوِيَ عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ فِي توريثها بعد انْقِضَاء الْعدة مَا لم تتَزَوَّج.
والعراقيون قد خالفوا الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَقَالَ غَيرهم يَعْنِي غير الصَّحَابَة من أهل الْحجاز، (وهم الْعِرَاقِيُّونَ) تَرثه مَا لم تنقض الْعدة ".
وَرَوَاهُ عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بِإِسْنَاد لَا يثبت مثله عِنْد أهل الحَدِيث، رُوِيَ عَن الْمُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر: " تَرثه فِي الْعدة، وَلَا يَرِثهَا ". وَهَذَا مُنْقَطع، وَلم يسمعهُ مُغيرَة من إِبْرَاهِيم. ,
إِنَّمَا رَوَاهُ عُبَيْدَة الضَّبِّيّ، وَالرِّوَايَة عَنهُ فِيهِ مُخْتَلفَة، مَعَ أَنه(4/233)
غير مُحْتَج بِهِ عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ. قَالَ يحيى بن سعيد: " كَانَ ثِقَة، يرْوى حَدِيث الْمُغيرَة عَن عُبَيْدَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر فِي الَّذِي يُطلق امْرَأَته وَهُوَ مَرِيض، وَكَانَ هشيم يَقُول: " ذكر عُبَيْدَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر "، قَالَ يحيى بن سعيد: " فَسَأَلت عُبَيْدَة عَنهُ فحدثنا عَن إِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ أَن ابْن هُبَيْرَة كتب إِلَى شُرَيْح، وَلَيْسَ عَن عمر ".
وَفِي رِوَايَة عَن مُغيرَة عَنهُ عَن إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ فِي هَذَا الْكتاب يَعْنِي عُرْوَة الْبَارِقي، وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كتب إِلَى شُرَيْح بِخمْس جَاءَ بِهن، يَعْنِي عُرْوَة: " وَإِذا طلق الرجل امْرَأَته ثَلَاثًا وَهُوَ مَرِيض تَرثه مَا دَامَت فِي عدتهَا ".
فَالرِّوَايَة لهَذَا الحَدِيث كَمَا ترى.
وَأما حَدِيث أَشْعَث عَن الشّعبِيّ " أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ طلق امْرَأَته وَهُوَ مَحْصُور ثَلَاثًا، فَورثَهَا عَليّ، رَضِي الله عَنهُ "، فَإِنَّهُ مُنْقَطع، وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة؛ فعثمان رَضِي الله عَنهُ طَلقهَا ثَلَاثًا وَهُوَ صَحِيح، وكلامنا فِيمَن طلق فِي مرض مَوته. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (228) :
وَإِذا طلق امْرَأَته طَلْقَة أَو طَلْقَتَيْنِ ثمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بعد مَا (أَصَابَت(4/234)
زوجا) . عَادَتْ بِمَا بَقِي من عدد الطَّلَاق. قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " عَادَتْ إِلَيْهِ بِالثلَاثِ ".
دليلنا من طَرِيق الْأَثر مَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَأَلت عمر رَضِي الله عَنهُ عَن رجل من أهل الْبَحْرين طلق امْرَأَته تَطْلِيقَة أَو ثِنْتَيْنِ، فنكحت زوجا، ثمَّ مَاتَ عَنْهَا أَو طَلقهَا فَرَجَعت إِلَى الأول على كم هِيَ عِنْده؟ قَالَ: هِيَ عِنْده على مَا بَقِي ".
رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد وَعبيد الله وَسليمَان بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ بِمَعْنَاهُ.
وروى شُعْبَة عَن الحكم عَن بُرَيْدَة عَن أَبِيه أَنه سمع عليا(4/235)
رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " هِيَ على مَا بَقِي "، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عَنهُ، رَضِي الله عَنهُ.
وَالَّذِي روى عبد الْأَعْلَى عَن ابْن الحنيفة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك لَا يَصح، فَأهل الْعلم بِالْحَدِيثِ يضعفون رِوَايَة عبد الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيّ عَن ابْن الْحَنَفِيَّة.
وَرُوِيَ عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا يهدم الثَّلَاث ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم: " يهدم النِّكَاح الطَّلَاق ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " رَجَعَ الطَّلَاق جَدِيدا ".(4/236)
وَمن قُلْنَا بقوله أَكثر عددا، وأكبر سنا، وَفِيهِمْ إِمَامًا هدى عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا فمتابعتهم أولى.
وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنْهُم، ثمَّ قَالَ: " رُوِيَ ذَلِك عَن زيد، ومعاذ، وَعبد الله بن عَمْرو، رَضِي الله عَنْهُم، وَبِه قَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَالْحسن الْبَصْرِيّ ... ".
مَسْأَلَة (229) :
وَاعْتِبَار عدد الطَّلَاق برق الزَّوْج وحريته، وَاعْتِبَار قدر الْعدة برق الْمَرْأَة وحريتها. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " برق الزَّوْجَة وحريتها فيهمَا جَمِيعًا ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن(4/237)
مولى آل طَلْحَة عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عبد الله بن عتبَة عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " ينْكح العَبْد امْرَأتَيْنِ، وَيُطلق تَطْلِيقَتَيْنِ ".
وَعَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن نفيعا، مكَاتبا لأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو عبد مكَاتب تَحْتَهُ امْرَأَة حرَّة فَطلقهَا اثْنَتَيْنِ، ثمَّ أَرَادَ أَن يُرَاجِعهَا فَأمره أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يَأْتِي عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ يسْأَله عَن ذَلِك، فَذهب إِلَيْهِ فَلَقِيَهُ عِنْد الدرج آخِذا بيد زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلَهُمَا فابتدراه جَمِيعًا(4/238)
فَقَالَا: " حرمت عَلَيْك، حرمت عَلَيْك ".
وَعَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن ابْن الْمسيب عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بذلك فِي نفيع مكَاتب لأم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وَعَن مَالك عَن عبد ربه بن سعيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن زيد بن ثَابت فِي نفيع أَيْضا.
وَرُوِيَ عَن زيد: " الطَّلَاق بِالرِّجَالِ، وَالْعدة بِالنسَاء ".
وَعَن عَطاء عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الطَّلَاق - أرَاهُ قَالَ - بِالرِّجَالِ، وَالْعدة بِالنسَاء ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن مظَاهر بن أسلم عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد(4/239)
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَرْفُوعا: " تطلق الْأمة تَطْلِيقَتَيْنِ، وقرؤها حيضتين. . ".
هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ مظَاهر بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ أَبُو دَاوُد: " مظَاهر رجل مَجْهُول، وَالْأَمر على غير هَذَا، وَهَذَا مُنكر ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " حَدثنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ: سَمِعت أَبَا عَاصِم يَقُول: لَيْسَ بِالْبَصْرَةِ حَدِيث أنكر، يَعْنِي من حَدِيث مظَاهر هَذَا، قَالَ النَّيْسَابُورِي: وَالصَّحِيح عَن الْقَاسِم خلاف هَذَا ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد أَوْهَى من هَذَا عَن عمر بن شبيب الْمسلي عَن(4/240)
عبد الله بن عِيسَى عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا: " طَلَاق الْأمة ثِنْتَانِ، وعدتها حيضتان ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " تفرد بِهِ عمر بن شبيب مَرْفُوعا، وَكَانَ ضَعِيفا، وَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ سَالم وَنَافِع من قَوْله "، يَعْنِي أَيهمَا رق نقض الطَّلَاق برقه، كَذَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه (مَوْقُوفا) . وَرَوَاهُ عبد الله، وَاللَّيْث، وَابْن جريج، وَغَيرهم عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا (مَوْقُوفا) .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " مُنكر غير ثَابت من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن عَطِيَّة ضَعِيف، وَسَالم وَنَافِع أصح رِوَايَة.
وَالْآخر: أَن عمر بن شبيب ضَعِيف لَا يحْتَج بروايته، وَالله أعلم ".
وَقَالَ ابْن معِين: " عمر بن شبيب لم يكن بِشَيْء، وَقد رَأَيْته ".(4/241)
ثمَّ يُعَارضهُ حَدِيث: " إِنَّمَا الطَّلَاق بيد من أَخذ بالساق "، رُوِيَ عَن عصمَة بن مَالك الخطمي مَرْفُوعا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَيْضا مَرْفُوعا: " أَلا إِنَّمَا يملك الطَّلَاق من أَخذ بالساق ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس نَحْو مَذْهَبنَا ومذهبهم. وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا مَا لَا يَقُول بِهِ أحد من الْفُقَهَاء فِي مَمْلُوك كَانَت تَحْتَهُ مَمْلُوكَة فَطلقهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، ثمَّ أعتقا بعد ذَلِك، هَل يصلح لَهُ أَن يخطبها؟ قَالَ: " نعم ". فِي إِسْنَاده مَجْهُول. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (230) :
والرجعية مُحرمَة الْوَطْء، وَإِذا وَطئهَا فالرجعة لَا تحصل بِالْوَطْءِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا مُبَاح الْوَطْء، وَإِذا وَطئهَا حصلت(4/242)
الرّجْعَة بذلك ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه طلق امْرَأَته وَهِي فِي مسكن حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا وَكَانَت طَرِيقه إِلَى الْمَسْجِد، وَكَانَ يسْلك الطَّرِيق الآخر من أدبار الْبيُوت كَرَاهِيَة أَن يسْتَأْذن عَلَيْهَا حَتَّى (رَاجعهَا) .
وروى عبيد الله عَن نَافِع قَالَ: " طلق ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا امْرَأَته صَفِيَّة بنت أبي عبيد تَطْلِيقَة أَو تَطْلِيقَتَيْنِ، فَكَانَ لَا يدْخل عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذن، فَلَمَّا رَاجعهَا أشهد على رَجعتهَا، وَدخل عَلَيْهَا ".
ورويناه عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، (و) عَمْرو بن دِينَار قَالَا: " لَا يحل لَهُ مِنْهَا شَيْء مَا لم يُرَاجِعهَا ".
وَالله أعلم.(4/243)
مَسْأَلَة (231) :
وبمضي مُدَّة الْإِيلَاء لَا يَقع الطَّلَاق، لَكِن يُوقف حَتَّى يفِيء أَو يُطلق. قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " تقع طَلْقَة بَائِنَة ".
دليلنا من طَرِيق الْأَثر مَا روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار قَالَ: " أدْركْت بضعَة عشر من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلهم يَقُول: يُوقف الْمولي ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فَأَقل بضعَة عشر أَن يَكُونُوا ثَلَاثَة عشر، وَهُوَ يَقُول: من الْأَنْصَار ".
وَرُوِيَ عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه قَالَ: " سَأَلت اثْنَي(4/244)
عشر من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الرجل يولي، قَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء حَتَّى تمْضِي أَرْبَعَة أشهر فَيُوقف، فَإِن فَاء، وَإِلَّا طلق ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن مسعر عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن طَاوُوس " أَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُوقف الْمولي ".
روى الْقَاسِم بن مُحَمَّد " أَن عُثْمَان (بن عَفَّان) رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَا يرى الْإِيلَاء شَيْئا، وَإِن مَضَت الْأَرْبَعَة الْأَشْهر، حَتَّى يُوقف ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ(4/245)
عَن الشّعبِيّ عَن عَمْرو بن سَلمَة قَالَ: " شهِدت عليا رَضِي الله عَنهُ أوقف الْمولي ".
وَعَن مَالك عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُوقف الْمولي.
وَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " يُوقف بعد الْأَرْبَعَة فإمَّا أَن يفِيء، وَإِمَّا أَن يُطلق ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: " كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِذا ذكر لَهَا الرجل يحلف أَن لَا يَأْتِي امْرَأَته فيدعها خَمْسَة أشهر لَا ترى ذَلِك شَيْئا حَتَّى يُوقف، وَتقول: كَيفَ قَالَ الله عز وَجل: {فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا " إِذا آلى الرجل من امْرَأَته لم يَقع عَلَيْهَا طَلَاق وَإِن مَضَت أَرْبَعَة أشهر حَتَّى يُوقف، (فإمَّا أَن يُطلق، وَإِمَّا أَن يفِيء) ".
وَرُوِيَ إيقافه عِنْد انْقِضَاء الْعدة، فإمَّا أَن يُطلق وَإِمَّا أَن يفِيء عَن(4/246)
أبي ذَر، وَأبي الدَّرْدَاء، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَرُوِيَ عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن أبي سَلمَة عَن عُثْمَان، وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا: " إِذا مَضَت الْأَرْبَعَة أشهر فَهِيَ تَطْلِيقَة بَائِنَة ". وَقد روينَا عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنْهَا خلاف هَذَا، وَهُوَ أصح، فعطاء الْخُرَاسَانِي رُبمَا يهم فِي الشَّيْء.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن النَّيْسَابُورِي عَن الْمَيْمُونِيّ: " ذكرت لِأَحْمَد بن حَنْبَل حَدِيث عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن أبي سَلمَة عَن عُثْمَان، قَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ، رُوِيَ عَن عُثْمَان خِلَافه، قيل لَهُ: من رَوَاهُ؟ قَالَ: حبيب بن أبي ثَابت عَن طَاوُوس عَن عُثْمَان: يُوقف ".
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: " الْإِيلَاء تَطْلِيقَة بَائِنَة، ثمَّ تَعْتَد بعد ذَلِك (بِثَلَاثَة) قُرُوء ".
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " إِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر فَهِيَ تَطْلِيقَة بَائِنَة ".
وَرُوِيَ عَنهُ كَمَا قُلْنَا. وَقد رجح الشَّافِعِي رَحمَه الله قَوْله فِي(4/247)
الْوَقْف بعد انْقِضَاء أَرْبَعَة أشهر بِأَن أَكثر الصَّحَابَة قَالُوا بوقف الْمولي، فَقَوْلهم أولى من قَول وَاحِد أَو اثْنَيْنِ. وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي الْإِيلَاء: {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر فَإِن فاءو فَإِن الله غَفُور رَحِيم (226) وَإِن عزموا الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم (227) } ، قَالَ: " فَظَاهر كتاب الله عز وَجل يدل على أَن لَهُ أَرْبَعَة أشهر، وَمن وَكَانَت لَهُ أَرْبَعَة أشهر أَََجَلًا لَهُ فَلَا سَبِيل عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى تَنْقَضِي، كَمَا لَو أجلتني لم يكن لَك أَخذ حَقك مني حَتَّى تَنْقَضِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهر، وَدلّ على أَن عَلَيْهِ إِذا مَضَت الْأَرْبَعَة أشهر وَاحِدًا من حكمين: إِمَّا أَن يفِيء، وَإِمَّا أَن يُطلق. فَقُلْنَا بِهَذَا، وَقُلْنَا: لَا يلْزمه طَلَاق بِمُضِيِّ أَرْبَعَة أشهر، حَتَّى يحدث فيئة أَو طَلَاقا ".
قَالَ: " والفيئة الْجِمَاع من عذر، وَقد (بَيناهُ) ".
وَقَالَ: " أَنْتُم تخالفون ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْإِيلَاء؛ فَإِن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول: الْمولي الَّذِي يحلف: لَا يقرب امْرَأَته أبدا. . "، يَعْنِي: وَأَنْتُم تَقولُونَ: إِذا حلف: لَا يقرب امْرَأَته أَرْبَعَة أشهر يكون موليا.
وَالله أعلم.(4/248)
كتاب الظِّهَار
من كتاب الظِّهَار:
مَسْأَلَة (232) :
لَو ظَاهر من أَربع نسْوَة بِكَلِمَة وَاحِدَة يَكْفِيهِ كَفَّارَة وَاحِدَة على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " عَلَيْهِ فِي كل وَاحِدَة كَفَّارَة ".
رُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس عَن عمر رَضِي الله عَنْهُم فِي رجل ظَاهر من أَربع نسْوَة قَالَ: " كَفَّارَة وَاحِدَة ".
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمسيب عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ صَحِيح عَنهُ. وَبِه قَالَ عُرْوَة بن الزبير، وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن. وَالله أعلم.(4/249)
مَسْأَلَة (233) :
إِذا أمْسكهَا سَاعَة يُمكنهُ فِيهَا طَلاقهَا بعد كلمة الظِّهَار فقد حصل عَائِدًا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْعود هُوَ الْعَزْم على الْوَطْء ".
فِي رِوَايَة فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن الله تجَاوز لأمتي مَا لم تعْمل أَو تَتَكَلَّم بِهِ مِمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا ". وَهَذَا دَلِيل على أَن لَا اعْتِبَار بالعزم على الْوَطْء.
وَذكر حَدِيث خُوَيْلَة وَأَوْس، واستفتائها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن أبي(4/250)
حَمْزَة الثمالِي عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقَالَ: " وَأَبُو حَمْزَة ثَابت بن أبي صَفِيَّة لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث ".
وَفِيه أَنه لما ظَاهر مِنْهَا قَالَ لَهَا: " مَا أَرَاك إِلَّا قد حرمت عَليّ "، قَالَت لَهُ مثل ذَلِك، قَالَ: " فانطلقي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاسأليه ... " الحَدِيث.
وَذكر حَدِيثا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رجلا ظَاهر من امْرَأَته، فَرَأى خلْخَالهَا فِي الْقَمَر فَأَعْجَبتهُ، فَوَقع عَلَيْهَا، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: " فقد كَانَ ذَلِك "، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمسك حَتَّى تكفر ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ. وَالله أعلم.(4/251)
مَسْأَلَة (234) :
واعتاق الْكَافِر فِي كَفَّارَة الظِّهَار غير جَائِز. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يجوز إِعْتَاق الذِّمِّيّ ".
قَالَ الله تَعَالَى فِي كَفَّارَة الظِّهَار: {فَتَحْرِير رَقَبَة} ، وَقَالَ فِي كَفَّارَة الْقَتْل: {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} ، فحملنا الْمُطلق على الْمُقَيد.
رُوِيَ عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك عَن هِلَال بن أُسَامَة عَن عَطاء بن يسَار عَن مُعَاوِيَة بن الحكم قَالَ: " أتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَقلت: يَا رَسُول الله) ، أَن جَارِيَة لي كَانَت ترعى غنما لي، ففقدت شَاة من الْغنم فسألتها عَنْهَا فَقَالَت: أكلهَا الذِّئْب، فأسفت عَلَيْهَا، وَكنت من بني آدم، فلطمت وَجههَا، وَعلي رَقَبَة، أفأعتقها؟ فَقَالَ لَهَا(4/252)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيْن الله؟ فَقَالَت: فِي السَّمَاء، فَقَالَ: من أَنا؟ فَقَالَت: أَنْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: أعْتقهَا فَإِنَّهَا مُؤمنَة ".
كَذَا أَتَى بِهِ يحيى بن يحيى من هَذَا الرِّوَايَة عَنهُ مجودا، وَالنَّاس يَرْوُونَهُ عَن مَالك وَيَقُولُونَ فِيهِ: " عَمْرو بن الحكم "، وَالصَّوَاب: " مُعَاوِيَة بن الحكم ".
فَفِيهِ دلَالَة على أَن الرَّقَبَة الَّتِي تجب فِي الْكَفَّارَة تكون مُؤمنَة، حَيْثُ قَالَ: " وَعلي رَقَبَة "، وَلم يستفسر مِنْهُ سَبَب وُجُوبهَا عَلَيْهِ، وَلم يَأْذَن لَهُ فِي عتقهَا إِلَّا بعد أَن علم أَنَّهَا مُؤمنَة.
وَقَوْلها: " فِي السَّمَاء "؛ لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن الْأَوْثَان آلِهَة فِي الأَرْض، فَلَمَّا قَالَت: " فِي السَّمَاء " عرف أَنَّهَا بريئة من الْأَوْثَان مُؤمنَة بِاللَّه الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه، لَا أَنه مَحْصُور فِي جِهَة، تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا.(4/253)
(صفحه فارغة) ... ... ... ... ... ... ... ... . .(4/254)
(صفحه فارغة) ... ... ... ... ... ... ... ... . .(4/255)
وَقد رُوِيَ من وَجه آخر عَن الشريد بن سُوَيْد قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي أوصت أَن أعتق عَنْهَا رَقَبَة (مُؤمنَة) ، وَأَن عِنْدِي جَارِيَة سَوْدَاء نوبية، فَقَالَ: ادْع بهَا، فَقَالَ: من رَبك؟ قَالَت: الله، قَالَ: فَمن أَنا؟ قَالَت: رَسُول الله، قَالَ: أعْتقهَا فَإِنَّهَا مُؤمنَة ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (235) :
وَلَو دفع طَعَام سِتِّينَ مِسْكينا إِلَى مِسْكين وَاحِد لم يجزه ذَلِك. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا دَفعه إِلَيْهِ فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَجزَأَهُ ".(4/256)
وَذكر حَدِيثا عَن سَلمَة بن صَخْر الْأنْصَارِيّ فِي أَنه ظَاهر من امْرَأَته، وَذكر قصَّة فِيهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: " فأطعم وسْقا من تمر بَين سِتِّينَ مِسْكينا ".
وَالله أعلم
مَسْأَلَة (236) :
وَقدر مَا يُؤَدِّي الْوَاحِد من الْمَسَاكِين من طَعَام الْكَفَّارَة مد. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " نصف صَاع من بر، أَو صَاع من شعير أَو تمر ".
روى الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، هَلَكت، قَالَ: وَيحك! وَمَا ذَاك؟ قَالَ: وَقعت على أَهلِي فِي يَوْم من شهر رَمَضَان ... " فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: " فَأتي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعرق فِيهِ تمر خَمْسَة عشر صَاعا، قَالَ: خُذْهُ فَتصدق بِهِ ".
كَذَا رَوَاهُ شَيخنَا عَن الشَّيْخ أبي الْوَلِيد الْفَقِيه عَن الْحسن بن(4/257)
سُفْيَان وَرَوَاهُ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْحسن بن سُفْيَان، وَجعل التَّقْدِير من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب.
وَقد رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم عَن الهقل، وَغَيرهمَا عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَلم يذكرُوا عَمْرو بن شُعَيْب، وَذكروا هَذَا التَّقْدِير. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ غير وَاحِد عَن الزُّهْرِيّ. وَذكره عَن مَنْصُور، وَعَن هِشَام بن سعد عَنهُ. وَفِي رِوَايَة: هِشَام أَبُو سَلمَة. وَالصَّوَاب حميد، وفيهَا: " بعرق فِيهِ تمر قدر خَمْسَة عشر صَاعا ".
وَعند أبي دَاوُد عَن سُلَيْمَان بن يسَار (عَن) سَلمَة بن صَخْر (قَالَ ابْن الْعَلَاء) البياضي فِي مظاهرته من امْرَأَته، قَالَ: " فَأتي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَمْر فَأعْطَاهُ إِيَّاه، وَهُوَ قريب من خَمْسَة عشر صَاعا، قَالَ: تصدق بِهَذَا ".
وَرُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ إِذا كفر يَمِينه أطْعم عشرَة مَسَاكِين، لكل مِسْكين مد، وَهُوَ بِالْمدِّ الأول.
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لكل مِسْكين مد، وَمَعَهُ إدامه ".
وَرُوِيَ عَن أبي سَلمَة عَن زيد قَالَ فِي كَفَّارَة الْيَمين قَالَ: " مد(4/258)
(من حِنْطَة) لكل مِسْكين ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن خُوَيْلَة بنت مَالك بن ثَعْلَبَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " ظَاهر مني زَوجي ... " الحَدِيث، قَالَ: " فَإِنِّي سأعينه بعرق من تمر "، قَالَت: " يَا رَسُول الله، وَإِنِّي أعينه بعرق آخر "، قَالَ: " قد أَحْسَنت، اذهبي فأطعمي بهَا عَنهُ سِتِّينَ مِسْكينا، وارجعي إِلَى ابْن عمك "، قَالَ: " والعرق سِتُّونَ صَاعا ".
وَرَوَاهُ بِإِسْنَاد آخر نَحوه، إِلَّا أَنه قَالَ: " والعرق مَكِيل يسع ثَلَاثِينَ صَاعا ".
وَرُوِيَ أَيْضا بِإِسْنَاد آخر عَن أَوْس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطَاهُ خَمْسَة عشر صَاعا من شعير إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا ".
وَهَذَا حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ، فَتَارَة يَقُول: " سِتُّونَ صَاعا "، وَتارَة يَقُول: " ثَلَاثُونَ صَاعا "، وَتارَة: " خَمْسَة عشر صَاعا "، وأسانيدها لَيست بالقوية، وَلَا تقاوم حَدِيث المجامع فِي شهر رَمَضَان فِي الصِّحَّة، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالأخذ بالأصح اولى.
هَذَا، وَقد روينَا فِي حَدِيث (ابْن صَخْر) : " خَمْسَة عشر(4/259)
صَاعا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (237) :
وَإِذا دفع إِلَى من ظَنّه فَقِيرا ثمَّ بَان أَنه كَانَ غَنِيا لم يُجزئهُ ذَلِك على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه يُجزئهُ ".
وَهَذِه الْمَسْأَلَة موضعهَا فِي كتاب قسم الصَّدقَات، ذَكرنَاهَا هُنَالك أتم. واستدللنا بالمعمومات الَّتِي وَردت فِي أَن الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لَا تحل لَغَنِيّ، وَلَا لمكتسب.
وَلَهُم بِحَدِيث معن بن يزِيد رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ، وَهُوَ حِكَايَة حَال يحْتَمل أَن تكون فِي صَدَقَة التَّطَوُّع.
وَالله أعلم.(4/260)
كتاب اللّعان
من كتاب اللّعان:
مَسْأَلَة (238) :
مُوجب قذف الزَّوْج لزوجته المحصنة الْحَد، وَله دَرْء الْحَد عَن نَفسه بِاللّعانِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " مُوجبَة اللّعان ".
فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشريك بن سَحْمَاء، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَة (وَإِلَّا) حد فِي ظهرك ". . وَذكر بَاقِي الحَدِيث(4/261)
فِي نزُول الْآيَة ولعانهما.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (239) :
وللذمي، وَالْعَبْد، والمحدود فِي الْقَذْف أَن يُلَاعن على قذف امْرَأَته. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَيْسَ لَهُم ذَلِك ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} الْآيَة.
وَسَماهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمِينا، فَقَالَ: " لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن ". وَقَالَ لهِلَال بن أُميَّة رَضِي الله عَنهُ: " احْلِف بِاللَّه "، وَلَا فرق بَين الْحر وَالْعَبْد، وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ فِي الْيَمين.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: " أَرْبَعَة لَيْسَ بَينهم لعان، لَيْسَ بَين الْحر وَالْأمة لعان، (وَلَيْسَ بَين الْحرَّة وَالْعَبْد لعان) ، وَلَيْسَ بَين الْمُسلم واليهودية لعان، وَلَيْسَ بَين الْمُسلم والنصرانية لعان ".(4/262)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " عُثْمَان هُوَ الوقاصي، مَتْرُوك الحَدِيث ".
تَابعه عُثْمَان بن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن عَمْرو، وعمار بن مطر عَن حَمَّاد بن عَمْرو عَن زيد بن رفيع عَن عَمْرو بن شُعَيْب هَكَذَا مَرْفُوعا، وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة كلهم ضعفاء، لَا يجوز الِاحْتِجَاج برواياتهم.
وَقد رَوَاهُ ابْن جريج، وَالْأَوْزَاعِيّ وهما إمامان عَن عَمْرو بن شُعَيْب (عَن أَبِيه) عَن جده مَوْقُوفا، إِلَّا أَن رَاوِيه عَنْهُمَا عمر بن(4/263)
هَارُون، وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف. وَفِي صِحَّته عَن ابْن عَمْرو من قَوْله نظر أَيْضا.
وَرَوَاهُ يحيى بن أبي أنيسَة عَن أَبِيه عَن جده، وَيحيى ضَعِيف أَيْضا.
وَقد قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب فِي اللّعان إِنَّه لَا يثبت عَن عَمْرو بن شُعَيْب، فَأَشَارَ إِلَى ضعف كل من رَوَاهُ عَن عَمْرو، كَمَا بَينا، وسمينا من رَوَاهُ من الضُّعَفَاء. ثمَّ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَعَمْرو بن شُعَيْب قد روى لنا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحكاما توَافق أقاويلنا وتخالف أقاويلكم، يَرْوِيهَا عَنهُ الثِّقَات، ويسندها إِلَى النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فرددتموها علينا، ورددتم رِوَايَته، ونسبتموه إِلَى الْغَلَط، فَأنْتم محجوجون؛ إِن كَانَ مِمَّا يثبت حَدِيثه بأحاديثه الَّتِي وَافَقْنَاهَا، وخالفتمونا، فِي نَحْو ثَلَاثِينَ حكما عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالفتم أَكْثَرهَا فَأنْتم غير منصفين إِن احتججتم بروايته، وَهُوَ مِمَّن لَا يثبت رِوَايَته ".
قَالَ: " وَلما ذكر الله تَعَالَى اللّعان على كل زوج جَازَ طَلَاقه وَلَزِمَه الْفَرْض، وَكَذَلِكَ زَوْجَة لَزِمَهَا الْفَرْض ".(4/264)
وَرُوِيَ عَن الْحسن قَالَ: " يُلَاعن كل زوج ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى يحيى بن صَالح الإيلي عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا عتاب بن أسيد، إِنِّي قد بَعَثْتُك إِلَى أهل مَكَّة ... "، فَذكر الحَدِيث، فِيهِ: " أَرْبَعَة لَيْسَ بَينهم ملاعنة: الْيَهُودِيَّة، والنصرانية تَحت الْمُسلم، وَالْعَبْد عِنْد الْحرَّة، وَالْحر عِنْد الْأمة ".
وَهَذَا الْإِسْنَاد بِهَذَا الحَدِيث بَاطِل، وَيحيى الإيلي (أَحَادِيثه) غير مَحْفُوظَة، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (240) :
والفرقة تقع بِلعان الزَّوْج دون تَفْرِيق القَاضِي، وَالتَّحْرِيم الْوَاقِع بِهِ لَا يرْتَفع بتكذيب الزَّوْج الْملَاعن نَفسه. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْفرْقَة لَا تقع إِلَّا بلعانها وتفريق القَاضِي، وَإِذا كذب الْملَاعن نَفسه ارْتَفع التَّحْرِيم الْوَاقِع بِاللّعانِ ".(4/265)
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ حَدِيث عُوَيْمِر الْعجْلَاني وَامْرَأَته وملاعنتهما، وَفِيه أَنه قَالَ لما فرغا: " كذبت عَلَيْهَا يَا رَسُول الله، إِن أَمْسَكتهَا "، فَطلقهَا ثَلَاثًا قبل أَن يَأْمُرهُ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ ابْن شهَاب: " فَكَانَت تِلْكَ سنة المتلاعنين "، كَذَا فِي رِوَايَة مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ.
وَرُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ فِي قصَّة المتلاعنين قَالَ: " فَتَلَاعَنا، فَفرق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا، وَقَالَ: لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا ".
وَعَن أبي دَاوُد: " حَدثنَا أَحْمد بن عمر حَدثنَا ابْن وهب عَن عِيَاض بن عبد الله وَغَيره عَن ابْن شهَاب عَن سهل بن سعد فِي المتلاعنين قَالَ: " فَطلقهَا "، قَالَ سهل: " حضرت هَذَا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمضت السّنة بعده فِي المتلاعنين "، قَالَ: " أَن يفرق بَينهمَا، ثمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " فرق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين المتلاعنين فَقَالَ: حسابكما على الله عز وَجل أَحَدكُمَا كَاذِب لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا. قَالَ: يَا رَسُول الله، مَالِي؟ قَالَ: لَا مَال لَك، إِن كنت صدقت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا استحللت من فرجهَا، وَإِن(4/266)
كنت كذبت عَلَيْهَا فَذَاك أبعد لَك مِنْهَا ".
وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة عَن مُحَمَّد بن يزِيد عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " المتلاعنان إِذا تفَرقا لَا يَجْتَمِعَانِ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَإِذا أكمل الزَّوْج الشَّهَادَة والالتعان فقد زَالَ فرَاش امْرَأَته، وَلَا تحل لَهُ أبدا بِحَال، وَإِن أكذب نَفسه لم تعد إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا قلت هَذَا لِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوَلَد للْفراش "، وَكَانَت فراشا فَلم يجز أَن يَنْفِي الْوَلَد عَن الْفراش إِلَّا بِأَن يَزُول الْفراش، فَلَا يكون فراشا أبدا ".
قَالَ: " وَكَانَ معقولا فِي حكم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا ألحق الْوَلَد بِأُمِّهِ أَنه نَفَاهُ عَن أَبِيه، وَإِن نَفْيه عَن أَبِيه بِيَمِينِهِ والتعانه، لَا بِيَمِين أمه على كذبه يَنْفِيه. وَلما قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا " استدللنا على أَن المتلاعنين لَا يتناكحان أبدا، إِذْ لم يقل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِلَّا أَن تكذب نَفسك، أَو تفعل كَذَا "، كَمَا قَالَ الله عز وَجل فِي الْمُطلق الثَّالِثَة: {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} ، وَبسط الْكَلَام فِيهِ.(4/267)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن رجلا لَاعن امْرَأَته فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وانتفى من وَلَدهَا، فَفرق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا، وَألْحق الْوَلَد بِالْأُمِّ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " يحْتَمل طَلَاقه ثَلَاثًا يَعْنِي فِي حَدِيث سهل أَن يكون بِمَا وجد فِي نَفسه بِعِلْمِهِ بصدقه وكذبها، وجرأتها على الْيَمين، طَلقهَا ثَلَاثًا جَاهِلا بِأَن اللّعان فرقه، فَكَانَ كمن طلق من طلق عَلَيْهِ بِغَيْر طَلَاقه، وَكَمن شَرط الْعهْدَة فِي البيع، وَالضَّمان فِي السّلف، وَهُوَ يلْزمه ". وَزَاد ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه فرق بَين المتلاعنين، وتفريق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غير فرقة الزَّوْج، إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيق حكم ".
رُوِيَ عَن عَليّ، وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: " مَضَت السّنة بَين المتلاعنين أَن لَا يجتمعا أبدا ".
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ فِي المتلاعنين إِذا تلاعنا قَالَ: " يفرق بَينهمَا، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أبدا ".
وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " إِذا أكذب نَفسه بعد اللّعان ضرب الْحَد، وألزق بِهِ الْوَلَد، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أبدا ".
وَالله أعلم.(4/268)
مَسْأَلَة (241) :
وَإِذا التعن الزَّوْج وأبت الْمَرْأَة أَن تلتعن فَإِنَّهَا تحد حد الزِّنَا وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " تحبس حَتَّى تلتعن ".
دليلنا قَول الله عز وَجل: {ويدرؤا عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه} ... الْآيَة.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَالْعَذَاب الْحَد ".
وَالَّذِي يدل على صِحَة قَوْله مَا روينَا فِي حَدِيث عباد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي المتلاعينين، وَهَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي خرجناها فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَالَّتِي قبلهَا مستعملة فِي مسَائِل أخر من كتاب اللّعان، فاقتصرت على رِوَايَتهَا، دون ذكر تراجمها، طلبا للاختصار، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
مَسْأَلَة (242) :
شَهَادَة الزَّوْج لَا تقبل على امْرَأَته بِالزِّنَا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا مَقْبُولَة ".
روى سعيد عَن قَتَادَة عَن جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي أَرْبَعَة شهدُوا على امْرَأَة بِالزِّنَا أحدهم زَوجهَا قَالَ: " يُلَاعن الزَّوْج وَيحد الثَّلَاثَة ".(4/269)
قَالَ يحيى بن سعيد: " هَذَا من صَحِيح حَدِيث سعيد، وَمن عَتيق حَدِيثه ".
مَسْأَلَة (243) :
وَنسب ولد الْأمة لَاحق إِذا أقرّ بِوَطْئِهَا دون الدعْوَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يلْحق نسبه إِلَّا بِالْإِقْرَارِ ".
رُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه لما ولد إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مَارِيَة، جَارِيَته كَاد يَقع فِي نفس النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُ، حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: " السَّلَام عَلَيْك (يَا أَبَا إِبْرَاهِيم) ".
فِي هَذَا إِن يثبت دلَالَة على ثُبُوت النّسَب بفراش الْأمة.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوَلَد للْفراش، وللعاهر الْحجر ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " اخْتصم سعد وَعبد بن زَمعَة رَضِي الله عَنْهُمَا فِي غُلَام، فَقَالَ سعد: هَذَا، يَا رَسُول الله، ابْن أخي عتبَة، عهد إِلَيّ أَنه ابْنه، انْظُر إِلَى شبهه! وَقَالَ عبد بن زَمعَة: أخي، يَا رَسُول الله، ولد على فرَاش أبي، وَمن وليدته. فَنظر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى شبهه فَرَأى شبها بَينا بِعتبَة، فَقَالَ: هُوَ لَك يَا عبد، الْوَلَد للْفراش، وللعاهر الْحجر، احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة بنت زَمعَة،(4/270)
قَالَت: فَلم ير سَوْدَة قطّ ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " مَا بَال رجال يطؤون ولائدهم، ثمَّ يعزلونهن! لَا تَأتِينِي وليدة يعْتَرف سَيِّدهَا أَن قد ألم بهَا إِلَّا ألحقت بِهِ وَلَدهَا، فاعزلوا بعد أَو اتْرُكُوا ".
وَعَن مَالك عَن نَافِع عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد عَن عمر رَضِي الله عَنهُ فِي إرْسَال الولائد يوطأن بِمثل معنى حَدِيث ابْن شهَاب.
وَلَهُم مَا روى الرّبيع قَالَ: " قلت للشَّافِعِيّ: فَهَل خالفك فِي هَذَا غَيرنَا؟ قَالَ: نعم، بعض المشرقيين. قلت: فَمَا كَانَ حجتهم؟ قَالَ: كَانَ حجتهم أَن قَالُوا: انْتَفَى عمر رَضِي الله عَنهُ من ولد جَارِيَة لَهُ، (وانتفى زيد رَضِي الله عَنهُ من ولد جَارِيَة لَهُ، وانتفى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من ولد جَارِيَة لَهُ) . قلت: فَمَا كَانَ حجتك عَلَيْهِم؟ قَالَ: فَأَما عمر رَضِي الله عَنهُ فَروِيَ أَنه أنكر حمل جَارِيَة أقرَّت بالمكروه. وَأما زيد بن ثَابت، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم فَإِنَّهُمَا أنكرا (إِن كَانَا فعلا) ولد جاريتين عرفا أَن لَيْسَ مِنْهُمَا، فحلال لَهما، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهما فِي الْأمة، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لزوج الْحرَّة إِذا علم أَنَّهَا حبلت من زنا أَن يدْفع وَلَدهَا، وَلَا يلْحق بِنَفسِهِ من لَيْسَ مِنْهُ. وَإِنَّمَا قلت هَذَا(4/271)
فِيمَا بَينه وَبَين الله، كَمَا تعلم الْمَرْأَة أَن زَوجهَا طَلقهَا ثَلَاثًا، فَلَا يَنْبَغِي لَهَا إِلَّا الِامْتِنَاع مِنْهُ بجهدها، وعَلى الإِمَام أَن يحلفهُ، ثمَّ يردهَا، فَالْحكم غير مَا بَين العَبْد وَبَين الله، عز وَجل ".
ذكرنَا هَذِه الْمَسْأَلَة بِتَمَامِهَا فِي كتاب الْإِقْرَار. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (244) :
وَإِذا غَابَ الرجل عَن امْرَأَته فبلغتها وَفَاته فاعتدت، ثمَّ نكحت فَولدت أَوْلَادًا، ثمَّ قدم فرق بَينهَا وَبَين زَوجهَا الآخر، وَألْحق الْوَلَد بِالْآخرِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْوَلَد يلْحق بِالْأولِ ".
وَدَلِيلنَا مَا رُوِيَ عَن عمرَان بن كثير النَّخعِيّ أَن عبيد الله بن الْحر تزوج جَارِيَة من قومه يُقَال لَهَا الدَّرْدَاء زَوجهَا إِيَّاه أَبوهَا، فَانْطَلق عبيد الله فلحق بِمُعَاوِيَة فَأطَال الْغَيْبَة عَن أَهله، وَمَات أَبُو(4/272)
الْجَارِيَة فَزَوجهَا أَهلهَا من رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ عِكْرِمَة، فَبلغ ذَلِك عبيد الله فَقدم فخاصمهم إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَرد عَلَيْهِ الْمَرْأَة، وَكَانَت حَامِلا من عِكْرِمَة، فوضعها على يَدي عدل، فَقَالَت الْمَرْأَة لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " أَنا أَحَق بِمَالي أَو عبيد الله بن الْحر؟ " قَالَ: " بل أَنْت أَحَق بذلك "، قَالَت: " فاشهد أَن كل مَا كَانَ لي على عِكْرِمَة من شَيْء من صَدَاقي فَهُوَ لَهُ ". فَلَمَّا وضعت مَا فِي بَطنهَا ردهَا إِلَى عبيد الله، وَألْحق الْوَلَد بِأَبِيهِ.
وَالله أعلم.(4/273)
كتاب الْعدَد
من كتاب الْعدَد:
مَسْأَلَة (245) :
الْأَقْرَاء الْمُحْتَسب بهَا هِيَ الْأَطْهَار. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا الْحيض ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض على عهد رَسُول الله فَسَأَلَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مره فَلْيُرَاجِعهَا، ثمَّ ليمسكها حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض، ثمَّ تطهر، ثمَّ إِن شَاءَ أمسك بعد، وَإِن شَاءَ طلق قبل أَن يمس، فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تطلق لَهَا النِّسَاء ".(4/274)
وَقد روينَا (هـ) فِي كتاب الطَّلَاق من حَدِيث أبي الزبير عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " وَقَرَأَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لقبل عدتهن} ... ".
(قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " فَأخْبر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلّ ثَنَاؤُهُ أَن الْعدة الطُّهْر دون الْحيض، وَقَرَأَ: فطلقوهن لقبل عدتهن "، وَهُوَ أَن تطلق طَاهِرا: لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تسْتَقْبل عدتهَا، وَلَو طلقت حَائِضًا لم (تكن مُسْتَقْبلَة) عدتهَا إِلَّا بعد الْحيض ".
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ رَحمَه الله تَعَالَى " قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تطلق لَهَا النِّسَاء "، أَي: فِيهَا، كَقَوْلِهِم: كتبت هَذَا الْكتاب لخمس خلون من الشَّهْر، أَي: فِي وَقت خلا فِيهِ من(4/275)
الشَّهْر خمس لَيَال. وَإِذا كَانَ وَقت الطَّلَاق الطُّهْر ثَبت أَنه مَحل الْعدة ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " وَاللِّسَان يدل على هَذَا؛ لِأَن الْقُرْء اسْم وضع لِمَعْنى، فَلَمَّا كَانَ الْحيض دَمًا يرخيه الرَّحِم فَيخرج، وَالطُّهْر دَمًا يحتبس فَلَا يخرج كَانَ مَعْرُوفا من لِسَان الْعَرَب أَن الْقُرْء الْحَبْس، تَقول الْعَرَب: هُوَ يقري المَاء فِي حَوْضه، وَفِي سقائه. وَتقول الْعَرَب: يقري الطَّعَام فِي شدقه، يَعْنِي يحبس الطَّعَام فِي شدقه ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا انتفلت حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن حِين دخلت فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة. قَالَ ابْن شهَاب: " فَذكرت ذَلِك لعمرة بنت عبد الرَّحْمَن، قَالَت: (صدق عُرْوَة، وَقد جادلها فِي ذَلِك نَاس، وَقَالُوا: إِن الله عز وَجل يَقُول: {ثَلَاثَة قُرُوء} ، فَقَالَت) عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: صَدقْتُمْ، وَهل تَدْرُونَ مَا الْأَقْرَاء؟ الْأَقْرَاء الْأَطْهَار ".(4/276)
وَعَن مَالك رَحمَه الله عَنهُ قَالَ: " سَمِعت أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن يَقُول: مَا أدْركْت أحدا من فقهائنا إِلَّا وَهُوَ يَقُول هَذَا، يُرِيد: الَّذِي قَالَت عَائِشَة ".
وَعَن مَالك عَن نَافِع، وَزيد بن أسلم عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن الْأَحْوَص هلك بِالشَّام حِين دخلت امْرَأَته فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة، وَقد كَانَ طَلقهَا، فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُمَا يسْأَله عَن ذَلِك، فَكتب إِلَيْهِ زيد رَضِي الله عَنهُ أَنَّهَا إِذا دخلت فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة فقد بَرِئت مِنْهُ وبرىء مِنْهَا، وَلَا تَرثه، وَلَا يَرِثهَا ".
وَعنهُ عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " إِذا طلق الرجل امْرَأَته فَدخلت فِي الدَّم " ... فَذكر مثله سَوَاء.
وَرُوِيَ عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ: " إِذا دخلت فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة فَلَا رَجْعَة لَهُ عَلَيْهَا ".
وَنقل مَالك نَحْو مَذْهَب زيد، وَابْن عمر، وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، وَسَالم بن عبد الله، وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، وَسليمَان بن يسَار، وَابْن شهَاب، وَقَالَ: " وَذَلِكَ الَّذِي أدْركْت عَلَيْهِ أهل الْعلم ببلدنا، رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا(4/277)
سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فشكت إِلَيْهِ الدَّم، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا ذَلِك عرق، فانظري، إِذا أَتَى قرؤك فَلَا تصلي، فَإِذا مر قرؤك فتطهري، ثمَّ صلي مَا بَين الْقُرْء إِلَى الْقُرْء ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " وَرَوَاهُ قَتَادَة عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أم سَلمَة أَن أم حَبِيبَة بنت جحش استحيضت، فَأمرهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تدع الصَّلَاة أَيَّام أقرائها "، وَهَذَا وهم من ابْن عُيَيْنَة، لَيْسَ هَذَا فِي حَدِيث الْحفاظ عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ أَبُو دَاوُد: " لم يسمع قَتَادَة عَن عُرْوَة شَيْئا "، وَذكر رِوَايَات فِي مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَحَاضَة، فَقَالَ: " وَرَوَاهُ ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَشَيْء من هَذِه الرِّوَايَات بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ غير مخرج فِي الصَّحِيح؛ لِأَن بَعْضهَا مَرَاسِيل، وَبَعضهَا وهم فِيهِ بعض الروَاة. وَالصَّحِيح حَدِيث عرَاك بن مَالك عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لأم حَبِيبَة: " امكثي قدر مَا كَانَت تحبسك حيضتك، ثمَّ اغْتَسِلِي ". وَقد تَابعه على ذَلِك جمَاعَة، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْأَقْرَاء. وَرَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح، وَهَكَذَا فِي سَائِر الرِّوَايَات الصَّحِيحَة، لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا أَنه عبر بِالْأَقْرَاءِ عَن الْحيض. وَالَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِك خَارج الصَّحِيح فَإِنَّمَا هُوَ من جِهَة الروَاة، عبر كل وَاحِد(4/278)
مِنْهُم عَنهُ بِمَا وَقع لَهُ ".
ثمَّ قَالَ: " قد قَالَ أَبُو عبيد: " يُقَال: قد أَقرَأت الْمَرْأَة: إِذا دنا حَيْضهَا، وأقرأت الْمَرْأَة: إِذا دنا طهرهَا، زعم ذَلِك أَبُو عُبَيْدَة، والأصمعي، وَغَيرهمَا ". قَالَ: " وَقد ذكر ذَلِك الْأَعْشَى فِي شعر يمدح بِهِ رجلا غزا غَزْوَة غنم فِيهَا وظفر، فَقَالَ:
(مورثة عزا وَفِي الْحَيّ رفْعَة ... لما ضَاعَ فِيهَا من قُرُوء نسائكا)
فَمَعْنَى الْقُرْء هَا هُنَا الْأَطْهَار؛ لِأَنَّهُ ضيع أطهارهن فِي غَزَوَاته، وآثرها عَلَيْهِنَّ، وشغل بهَا عَنْهُن ".
فَذهب أَبُو عبيد إِلَى أَن اسْم الْقُرْء وَاقع عَلَيْهِمَا. وَكَأَنَّهُ فِي الطُّهْر أظهر؛ لما ذكر الشَّافِعِي رَحمَه الله من حكم الِاشْتِقَاق، وَلِأَن(4/279)
الاحتساب بِالطُّهْرِ فِي الْعدة أسبق إِلَى وجودهَا مِمَّا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْأَقْرَاء، فَوَجَبَ أَن يحكم بِانْقِضَاء عدتهَا، فَمن زعم أَنه يجب عَلَيْهَا الزِّيَادَة على مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم ثَلَاثَة أَقراء فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى دَلِيل.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب أَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا طلق الرجل امْرَأَته فَهُوَ أَحَق برجعتها حَتَّى تَغْتَسِل من الْحَيْضَة الثَّالِثَة، فِي الْوَاحِدَة والاثنتين ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عمر، وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا. وَرُوِيَ عَن الْحسن عَنْهُمَا، وَعَن أبي مُوسَى، رَضِي الله عَنْهُم، وَالْحسن لم يسمع مِنْهُم.
وَرُوِيَ فِي ثَلَاثَة قُرُوء عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " ثَلَاث حيض ".
وروى عِيسَى الْخياط وَهُوَ ضَعِيف حَدِيثا مُنْكرا لم يقبله مِنْهُ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، عَن الشّعبِيّ عَن ثَلَاثَة عشر من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنهم قَالُوا: " هُوَ أَحَق بهَا مَا لم تَغْتَسِل من الْحَيْضَة الثَّالِثَة ".
وَذهب الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي الْقَدِيم إِلَى أَن الْعِرَاقِيّين خالفوا الْإِجْمَاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة؛ لِأَن الَّذين قَالُوا إِن الْأَقْرَاء الْحيض زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَبرأ حَتَّى تَغْتَسِل من الْحَيْضَة الثَّالِثَة وَيحل لَهَا الصَّلَاة، وهم(4/280)
يَقُولُونَ: إِذا فرطت فِي الْغسْل حَتَّى يذهب وَقت الصَّلَاة فقد حلت، وَهِي لم تَغْتَسِل وَلم يحل لَهَا الصَّلَاة، وَبسط الْكَلَام فِيهِ، إِلَى أَن قَالَ: " وَلَا يعدو أَن يكون الْأَقْرَاء الْأَطْهَار كَمَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَالنِّسَاء بِهَذَا أعلم؛ لِأَنَّهُ فِيهِنَّ، لَا فِي الرِّجَال، أَبُو يكون الْحيض، فَإِذا جَاءَت بِثَلَاث حيض حلت، وَلَا نجد فِي كتاب الله تَعَالَى للْغسْل معنى يدل عَلَيْهِ، ولستم تَقولُونَ بِوَاحِد من الْقَوْلَيْنِ.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (246) :
وعدة من تبَاعد حَيْضهَا تَنْقَضِي بِالْأَشْهرِ قبل بُلُوغ سنّ الْإِيَاس، على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تَنْقَضِي مَا لم تبلغ سنّ الْإِيَاس "، وَهُوَ القَوْل الآخر، وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
فَوجه قَوْله الأول مَا رُوِيَ عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد، وَزيد بن عبد الله عَن ابْن الْمسيب عَن عمر رَضِي الله عَنهُ: " أَيّمَا امْرَأَة طلقت فَحَاضَت حَيْضَة أَو حيضتين، ثمَّ رفعتها حَيْضَة فَإِنَّهَا تنْتَظر تِسْعَة أشهر، فَإِن بَان حمل فَذَاك، وَإِلَّا اعْتدت بعد التِّسْعَة ثَلَاث أشهر، ثمَّ حلت ".
وَوجه قَوْله فِي الصَّحِيح من طَرِيق الْأَثر مَا رُوِيَ عَن مَالك عَن(4/281)
مُحَمَّد بن يحيى بن حَيَّان أَنه كَانَ عِنْد (جده) هاشمية وأنصارية، فَطلق الْأَنْصَارِيَّة، وَهِي ترْضع، فمرت بهَا سنة، ثمَّ هلك، وَلم تَحض، فَقَالَت: " (أرثه) ، لم أحض "، فاختصموا إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَقضى للأنصارية بِالْمِيرَاثِ، فلامت الهاشمية عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَ: " هَذَا عمل ابْن عمك. هُوَ أَشَارَ علينا بِهَذَا، يَعْنِي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ.
رَوَاهُ بِنَحْوِ مِنْهُ ابْن بكير عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن حَيَّان.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سعيد بن سَالم عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي بكر أَن رجلا من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ حبَان بن منقذ طلق امْرَأَته وَهُوَ صَحِيح، وَهِي ترْضع ابْنَته، فَمَكثت سَبْعَة عشر شهرا لَا تحيض، يمْنَعهَا الرَّضَاع أَن تحيض، ثمَّ مرض حبَان بعد أَن طَلقهَا بسبعة أشهر أَو ثَمَانِيَة، فَقيل لَهُ: " إِن امْرَأَتك تُرِيدُ أَن تَرث "، فَقَالَ لأَهله: " احْمِلُونِي إِلَى عُثْمَان "، فَحَمَلُوهُ، فَذكر لَهُ شَأْن امْرَأَته، وَعِنْده عَليّ بن أبي طَالب، وَزيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُم فَقَالَ لَهما عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ: " مَا تربان؟ " فَقَالَا: " نرى أَنَّهَا تَرثه إِن مَاتَ، ويرثها إِن مَاتَت؛ فَإِنَّهَا لَيست من الْقَوَاعِد اللَّاتِي قد يئسن من الْمَحِيض، وَلَيْسَت من الْأَبْكَار اللآتي لم يبلغن الْمَحِيض، ثمَّ هِيَ على عدَّة حَيْضَتهَا مَا كَانَ من قَلِيل أَو كثير ". فَرجع حبَان إِلَى أَهله، وَأخذ(4/282)
ابْنَته، فَلَمَّا فقدت الرَّضَاع حَاضَت حَيْضَة، ثمَّ حَاضَت حَيْضَة أُخْرَى، ثمَّ توفّي حبَان قبل أَن تحيض الثَّالِثَة، فاعتدت عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا، وورثته ".
وَهَذَا إِنَّمَا ورد فِيمَن تَأَخّر حَيْضهَا بِعَارِض، فَهِيَ تنْتَظر رُؤْيَة الدَّم، وَلَا تنْتَقل إِلَى الْأَشْهر بِلَا خلاف.
وروى سُفْيَان عَن حَمَّاد وَالْأَعْمَش، وَمَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة بن قيس أَنه طلق امْرَأَته تَطْلِيقَة وتطليقتين، ثمَّ حَاضَت حَيْضَة أَو حيضتين، ثمَّ ارْتَفع حَيْضهَا سَبْعَة عشر شهرا أَو ثَمَانِيَة، ثمَّ مَاتَت، فجَاء إِلَى ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: " حبس الله عَلَيْك مِيرَاثهَا، فورثه مِنْهَا ".
وَالله أعلم
مَسْأَلَة (247) :
وَالْحَامِل تحيض على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تحيض ".
روى عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ: حَدثنَا عَمْرو بن مُحَمَّد(4/283)
حَدثنَا أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى التَّيْمِيّ حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كنت قَاعِدَة أغزل، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخصف نَعله، فَجعل جَبينه يعرق، وَجعل عرقه يتَوَلَّد نورا، فبهت، فَنظر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: (مَا بالك) يَا عَائِشَة؟ بهت؟ قلت: جعل جبينك يعرق، وَجعل عرقك يتَوَلَّد نورا، وَلَو رآك أَبُو كَبِير الْهُذلِيّ لعلم أَنَّك أَحَق بِشعرِهِ، قَالَ: وَمَا يَقُول أَبُو كَبِير؟ قلت يَقُول:
(ومبرا من كل غبر حَيْضَة ... وَفَسَاد مَوْضِعه وداء مغيل)
(وَإِذا نظرة إِلَى أسرة وَجهه ... برقتْ كبرق الْعَارِض المتهلل)
قَالَت: فَقَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقبل بَين عَيْني، وَقَالَ: جَزَاك الله، يَا(4/284)
عَائِشَة، خيرا، مَا سررت مني كسروري بك ".
فَفِي هَذَا الْخَبَر كالدلالة على أَن ابْتِدَاء الْحمل قد يكون على حَال الْحيض، وَأَن الْحيض وَالْحمل يجوز اجْتِمَاعهمَا، حَيْثُ قَالَ: ومبرأ من كل غبر حَيْضَة ... ... ... ... . .
وَلم يُنكر النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلم يقل: إِن " غبر " هَذَا لَا يكون.
وَرُوِيَ عَن اللَّيْث عَن بكر بن عبد الله عَن أم عَلْقَمَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا زوج النَّبِي أَنَّهَا سُئِلت عَن الْحَامِل ترى الدَّم أَتُصَلِّي؟ فَقَالَت: لَا تصلي حَتَّى يذهب عَنْهَا (الدَّم) ".
وَرُوِيَ عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " إِذا رَأَتْ الْحَامِل الدَّم تكف عَن الصَّلَاة ".
وَعنهُ قَالَ: " لَا يخْتَلف عندنَا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي أَن الْحَامِل إِذا رَأَتْ الدَّم أَنَّهَا تمسك عَن الصَّلَاة حَتَّى تطهر "، قَوْله: " عندنَا "، أَي عِنْد أهل الْمَدِينَة، كَذَا قَالَ.(4/285)
وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بِخِلَافِهِ، احْتَجُّوا (بِأَنَّهَا) قَالَت: " أَن الحبلى لَا تحيض "، وأمرتها بِالْغسْلِ وَالصَّلَاة، كَذَا رَوَاهُ مطر بن طهْمَان، وَسليمَان بن مُوسَى عَن عَطاء عَنْهَا.
وَقد ضعف أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ عَن عَطاء، ذكر ابْن عدي عَن أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث همام عَن مطر عَن عَطاء عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " الْحَامِل لَا تحيض "، قَالَ: " كَانَ يحيى يَعْنِي الْقطَّان يضعف ابْن أبي ليلى، ومطر عَن عَطاء ".
وروى عَن إِسْحَاق الْحَنْظَلِي: قَالَ لي أَحْمد بن حَنْبَل: " مَا تَقول فِي الْحَامِل ترى الدَّم؟ " فَقلت: " تصلي "، واحتججت بِخَبَر عَطاء عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا. قَالَ: فَقَالَ لي: " أَيْن أَنْت عَن خبر الْمَدَنِيين، خبر أم عَلْقَمَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا؟ فَإِنَّهُ أصح "، قَالَ: " فَرَجَعت إِلَى قَول أَحْمد ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَأما رِوَايَة سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن عَطاء فَإِن مُحَمَّد بن رَاشد ينْفَرد بهَا عَن سُلَيْمَان، وَمُحَمّد بن رَاشد ضَعِيف ".
وَرَوَاهُ ابْن جريج من عَطاء عَن قَوْله فِي الْحَامِل ترى الدَّم، قَالَ: " هِيَ بِمَنْزِلَة الْمُسْتَحَاضَة ".
وَرُوِيَ عَن حجاج عَن عَطاء قَالَ: " إِذا رَأَتْ الْحَامِل الدَّم فَإِنَّهَا تتوضأ، وَتصلي، وَلَا تَغْتَسِل.(4/286)
قَالَ أَبُو بكر بن إِسْحَاق: " فَدلَّ هَذَا على وَهن خبر عَطاء الْمُتَقَدّم فِي الْغسْل؛ لِأَن الْخَبَر لَو كَانَ عِنْده صَحِيحا لما خَالفه " يَعْنِي فِي الْغسْل "
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (248) :
وَتعْتَد الْأمة الصَّغِيرَة والآيسة بشهرين على أصح الْقَوْلَيْنِ، أَو بِثَلَاثَة أشهر على القَوْل الثَّانِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " تَعْتَد بِشَهْر وَنصف ".
رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " عدَّة الْأمة إِذا لم تَحض شَهْرَان كعدتها إِذا حَاضَت (حيضتان)
. ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله: أخبرنَا سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن مولى طَلْحَة عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عبد الله بن عتبَة عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " ينْكح العَبْد امْرَأتَيْنِ، وَيُطلق تَطْلِيقَتَيْنِ، وَتعْتَد الْأمة حيضتين، فَإِن لم تكن تحيض فشهرين، أَو شهرا وَنصفا ". قَالَ سُفْيَان وَكَانَ ثِقَة: " وَرووا عَن الْحسن عَن(4/287)
عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " عدَّة الْأمة حيضتان، فَإِن لم تكن تحيض فشهر وَنصف ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (249) :
وَله فِي سُكْنى المتوفي عَنْهَا زَوجهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن لَا سُكْنى لَهَا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، رَحمَه الله. وَالثَّانِي: أَن لَهَا السُّكْنَى.
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن سعد بن إِسْحَاق بن كَعْب بن عجْرَة عَن عمته زَيْنَب بنت كَعْب أَن الفريعة بنت مَالك رَضِي الله عَنْهَا أخْبرتهَا أَنَّهَا جَاءَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تسأله أَن ترجع(4/288)
إِلَى أَهلهَا فِي بني خدرة: " فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن أرجع إِلَى أَهلِي؛ فَإِن زَوجي لم يتركني فِي مسكن يملكهُ، قَالَت: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نعم، فَانْصَرَفت، حَتَّى إِذا كنت فِي الْحُجْرَة، أَو فِي الْمَسْجِد دَعَاني، أَو أَمر بِي فَدُعِيت إِلَيْهِ، قَالَ: فَكيف قلت؟ : فَرددت عَلَيْهِ الْقِصَّة؛ فَقَالَ: امكثي فِي بَيْتك حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله. قَالَت: فاعتددت فِيهِ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا. فَلَمَّا كَانَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أرسل إِلَيّ فَسَأَلَنِي عَن ذَلِك، فَأَخْبَرته فَاتبعهُ، وَقضى بِهِ ".
وَرُوِيَ عَن يحيى بن سعيد عَن سعد بن إِبْرَاهِيم بِمَعْنَاهُ وَزِيَادَة أَلْفَاظ: وَقَالَت: " لم يدع لي نَفَقَة، وَلَا مَالا، وَلَيْسَ الْمسكن لي ". قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد من الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ".
وَقَالَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، مَحْفُوظ، وهما اثْنَان، سعد بن إِسْحَاق، وَهُوَ أشهرهما، وَإِسْحَاق بن سعد بن كَعْب. وَقد روى عَنْهُمَا جَمِيعًا يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، فقد ارْتَفَعت عَنْهُمَا الْجَهَالَة ".(4/289)
وروى ابْن بكير عَن مَالك عَن حميد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن سعيد بن الْمسيب أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كَانَ يرد الْمُتَوفَّى عَنْهُن أَزوَاجهنَّ من الْبَيْدَاء، يمنعهن من الْحَج ".
وَعنهُ عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا تبيت الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا، وَلَا المبتوتة إِلَّا فِي بَيتهَا ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " نسخت هَذِه، عدتهَا فِي أَهلهَا، فَتعْتَد حَيْثُ شَاءَت، لقَوْل الله عز وَجل: {غير إِخْرَاج} . . ".
وَعِنْده أَيْضا عَن عَطاء: قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " نسخت هَذِه الْآيَة عدتهَا عِنْد أَهلهَا، فَتعْتَد حَيْثُ شَاءَت، وَهُوَ قَول الله تبَارك وَتَعَالَى: {غير إِخْرَاج} ، قَالَ عَطاء: " إِن شَاءَت اعْتدت عِنْد أَهلهَا، وسكنت فِي وصيتها، وَإِن شَاءَت خرجت، لقَوْل الله تَعَالَى: {فَإِن خرجن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن} "، قَالَ عَطاء: " ثمَّ جَاءَ الْمِيرَاث فنسخ مِنْهُ السُّكْنَى، تَعْتَد حَيْثُ شَاءَت، وَلَا سُكْنى لَهَا ".(4/290)
وَرُوِيَ عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يَصح، روى عَن مَحْبُوب بن مُحرز التَّمِيمِي عَن أبي مَالك النَّخعِيّ عَن عَطاء عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " أَمر الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا أَن تَعْتَد فِي غير بَيتهَا إِن شَاءَت ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يسْندهُ غير أبي مَالك النَّخعِيّ، وَهُوَ ضَعِيف، ومحبوب هَذَا ضَعِيف أَيْضا ".
وَعند البُخَارِيّ عَن مُجَاهِد: " وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} : قَالَ: كَانَت هَذِه الْعدة تَعْتَد عِنْد أهل زَوجهَا، وَاجِب ذَلِك عَلَيْهَا، قَالَ: فَأنْزل الله عز وَجل {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج فَإِن خرجن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ من مَعْرُوف وَالله عَزِيز حَكِيم} ، قَالَ: جعل الله عز وَجل(4/291)
لَهَا سَبْعَة أشهر وَعشْرين لَيْلَة وَصِيَّة، إِن شَاءَت سكنت فِي وصيتها، وَإِن شَاءَت خرجت، وَهُوَ قَول الله تَعَالَى: {غير إِخْرَاج فَإِن خرجن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن} ، فالعدة كَمَا هِيَ، وَاجِب (ة) عَلَيْهَا، زعم ذَلِك مُجَاهِد، وَقَالَ عَطاء: عَن ابْن عَبَّاس ... . . " الحَدِيث.
وروى عَن الشّعبِيّ قَالَ: " نقل عَليّ رَضِي الله عَنهُ أم كُلْثُوم بعد قتل عمر رَضِي الله عَنهُ لسبع لَيَال ". وَرَوَاهُ سُفْيَان فِي جَامعه، وَقَالَ: " لِأَنَّهَا كَانَت فِي دَار الْإِمَارَة ".
وَرُوِيَ عَن عَطاء أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أحجت بأختها فِي عدتهَا ". وَعَن سُفْيَان عَن ابْن الْقَاسِم عَن أَبِيه قَالَ: " كَانَت الْفِتْنَة وخوفها، يَعْنِي: حِين أحجت أُخْتهَا فِي عدتهَا ".
وَالله أعلم.(4/292)
مَسْأَلَة (250) :
وَلَا إحداد على المبتوتة فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " عَلَيْهَا أَن تحد ".
رُوِيَ عَن أم عَطِيَّة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تحد الْمَرْأَة فَوق ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا على زَوجهَا، فَإِنَّهَا تحد عَلَيْهِ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا ".
فخض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا بِأَنَّهَا تحد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (251) :
وعَلى الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا الْإِحْدَاد، وَإِن كَانَت ذِمِّيَّة أَو صَغِيرَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا إحداد عَلَيْهِمَا ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم حَبِيبَة رَضِي الله عَنْهَا: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت فَوق ثَلَاث لَيَال إِلَّا على زوج أَرْبَعَة أشهرا وَعشرا ".(4/293)
وَعَن زَيْنَب بنت جحش رَضِي الله عَنْهَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمثلِهِ سَوَاء.
وَالصَّغِيرَة دَاخِلَة فِيهِ؛ لِأَنَّهَا مُؤمنَة بِاللَّه تَعَالَى وباليوم الآخر.
وَرُوِيَ عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا لَا تلبس المعصفر من الثِّيَاب وَلَا الممشق وَلَا الْحلِيّ، وَلَا تختضب وَلَا تكتحل " وَلَيْسَ فِيهِ تَفْصِيل بَين مسلمة، وذمية، وصغيرة.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا لَا تكتحل، وَلَا تتطيب، وَلَا تختضب، وَلَا تلبس ثوبا مصبوغا إِلَّا الْبرد الْقصب، وَلَا تبت عَن بَيت زَوجهَا، وَلَكِن تزور بِالنَّهَارِ ".(4/294)
وَهُوَ على إِطْلَاقه من غير تَخْصِيص. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (252) :
والعدتان من رجلَيْنِ لَا يتداخلان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يتداخلان ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن ابْن الْمسيب، وَسليمَان بن يسَار أَن طليحة كَانَت تَحت رشيد الثَّقَفِيّ فَطلقهَا الْبَتَّةَ، فنكحت فِي عدتهَا، فضربها عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَضرب زَوجهَا بالمخفقة ضربات وَفرق بَينهمَا، ثمَّ قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت فِي عدتهَا فَإِن كَانَ زَوجهَا الَّذِي تزَوجهَا لم يدْخل بهَا فرق بَينهمَا، ثمَّ اعْتدت بَقِيَّة عدتهَا من زَوجهَا الأول، (وَكَانَ خاطبا من الْخطاب، وَإِن كَانَ دخل بهَا فرق بَينهمَا، ثمَّ اعْتدت بَقِيَّة عدتهَا من زَوجهَا الأول) ثمَّ اعْتدت من الآخر، ثمَّ لم ينْكِحهَا أبدا "، قَالَ(4/295)
سعيد: " وَلها مهرهَا بِمَا اسْتحلَّ مِنْهَا ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: وَكَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول: " صَدَاقهَا فِي بَيت المَال، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ، وَقَالَ: " لَهَا صَدَاقهَا "، وَكَانَ يَقُول: " لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا "، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ. قَالَه مَسْرُوق، وَغَيره. وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ.
رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن (يحيى) بن حسان عَن عَطاء بن السَّائِب عَن زَاذَان عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قضى فِي الَّتِي تزوج فِي عدتهَا أَنه يفرق بَينهمَا، وَلها الصَدَاق بِمَا اسْتحلَّ من فرجهَا، وتكمل مَا أفسدت من عدَّة الأول، وَتعْتَد من الآخر. تَابعه(4/296)
ابْن جريج عَن عَطاء عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ.
وَرَوَاهُ الشّعبِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَجعل لَهَا الصَدَاق بِمَا اسْتحلَّ من فرجهَا، وَقَالَ: " إِذا انْقَضتْ عدتهَا فَإِن شَاءَت تزوجته فعلت ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (253) :
لم يذكرهَا، وَأكْثر مُدَّة الْحمل أَربع سِنِين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " سنتَانِ ".(4/297)
رُوِيَ عَن الْمُبَارك بن مُجَاهِد قَالَ: " مَشْهُور عندنَا امْرَأَة مُحَمَّد بن عجلَان تحمل وتضع فِي أَربع سِنِين، وَكَانَت تسمى حاملة الْفِيل ".
وَعَن الْوَلِيد بن مُسلم: قلت لمَالِك بن أنس رَحمَه الله تَعَالَى: " أَي حَدِيث عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " لَا تزيد الْمَرْأَة فِي حملهَا على سنيتن قدر ظلّ المغزل "، فَقَالَ: " سُبْحَانَ الله {من يَقُول (بِهَذَا) } هَذِه جارتنا امْرَأَة مُحَمَّد بن عجلَان امْرَأَة صدق، وَزوجهَا رجل صدق، حملت ثَلَاث أبطن فِي اثْنَتَيْ عشرَة سنة، تحمل كل بطن أَربع سِنِين ".
وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود: " تربص أَربع سِنِين " يشبه أَن يكون إِنَّمَا قَالَه لبَقَاء الْحمل أَربع سِنِين.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (254) :
لم يذكرهَا، وَامْرَأَة الْمَفْقُود لَا تَعْتَد، وَلَا تنْكح أبدا، حَتَّى يَأْتِيهَا يَقِين وَفَاته. وَحكي عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه قَالَ: " إِذا بلغ مائَة وَعشْرين سنة وَجب على امْرَأَته الْعدة، وَفرق بَينهمَا ".(4/298)
رُوِيَ عَن عباد بن عبد الله الْأَسدي عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود: " إِنَّهَا لَا تتَزَوَّج ". رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن يحيى بن حسان عَن أبي عوَانَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن الْمنْهَال بن عَمْرو عَن عباد بِهِ، قَالَ: " وَأخْبرنَا يحيى عَن هِشَام بن بشير (عَن أبي عوَانَة) عَن سيار ابي الحكم عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود إِذا قدم، وَقد تزوجت امْرَأَته: " هِيَ امْرَأَته إِن شَاءَ طلق، وَإِن شَاءَ أمسك ".
وروى سوار بن مُصعب الْكُوفِي وَلَيْسَ بِثِقَة عَن مُحَمَّد بن شُرَحْبِيل عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة مَرْفُوعا: " امْرَأَة الْمَفْقُود امْرَأَته حَتَّى يَأْتِيهَا الْبَيَان ".
وَالله أعلم.(4/299)
مَسْأَلَة (255) :
وَأم الْوَلَد إِذا مَاتَ سَيِّدهَا، أَو أعتقت تستبرأ بِحَيْضَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " بِثَلَاث حيض ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ فِي أم الْوَلَد يتوفى عَنْهَا سَيِّدهَا قَالَ: " تَعْتَد بِحَيْضَة ".
وَقد روينَاهُ عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه عَنْهُم.
وَمَا رُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن رَجَاء بن حَيْوَة عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب عَن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا تلبسوا علينا سنة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أم الْوَلَد إِذا توفّي عَنْهَا سَيِّدهَا عدتهَا أَرْبَعَة أشهر وَعشرا "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ قبيصَة لم يسمع من عَمْرو، وَالصَّوَاب: " لَا تلبسوا علينا ... " مَوْقُوفا ".(4/300)
ثمَّ يعارضهم بِمَا رُوِيَ عَن مطر الْوراق عَن رَجَاء بن حَيْوَة عَن قبيصَة عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا تلبسوا علينا سنة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عدَّة أم الْوَلَد حَيْضَة ".
وَرُوِيَ عَن سُوَيْد عَن عبد الْعَزِيز وَهُوَ غير قوي عَن سعيد عَن عَطاء: أَن مَارِيَة رَضِي الله عَنْهَا اعْتدت بِثَلَاث حيض "، وَهُوَ مُرْسل، وسُويد غير قوي. وَالله أعلم.
وَرِوَايَة الْجَمَاعَة عَن عَطاء مذْهبه، دون الرِّوَايَة.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد فِيهِ ضعف عَن نَافِع قَالَ: " سُئِلَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن عدَّة أم الْوَلَد، فَقَالَ: حَيْضَة، فَقَالَ رجل: إِن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول بِثَلَاثَة قُرُوء، فَقَالَ: عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ خيرنا وَأَعْلَمنَا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (256) :
وتزويج الْأمة الَّتِي يَطَؤُهَا لَا يَصح إِلَّا بِأَن يَسْتَبْرِئهَا بِحَيْضَة. وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه قَالَ: " يَصح ".(4/301)
عِنْد أبي دَاوُد عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ رَفعه أَنه قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاس: " لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا ذَات غير حمل حَتَّى تحيض حَيْضَة ".
وَرُوِيَ عَن رويفع بن ثَابت الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يحل لأحد يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، أَو من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر (فَلَا يسْقِي مَاءَهُ ولد غَيره ".
وَفِي رِوَايَة: " لَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر) أَن يسْقِي مَاءَهُ زرع غَيره، وَلَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يَقع على امْرَأَة من السَّبي حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا ". وَالله أعلم.(4/302)
كتاب الرَّضَاع
وَمن كتاب الرَّضَاع:
مَسْأَلَة (257) :
لَا يحرم اقل من خمس رَضعَات. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " الرضعة الْوَاحِدَة تحرم ".
دليلنا مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَ فِيمَا أنزل من الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات يحرمن، ثمَّ نسخن بِخمْس مَعْلُومَات، فَتوفي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهن مِمَّا يقْرَأ من الْقُرْآن ".
وَعِنْده أَيْضا عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تحرم المصة، وَلَا المصتان "، وَزَاد فِي رِوَايَة: " من الرضَاعَة ". وَقَالَ فِي أُخْرَى: " لَا تحرم الإملاجة، وَلَا الإملاجتان "، عَن أم الْفضل رَضِي الله عَنْهَا عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(4/303)
وعنها عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تحرم المصة، وَلَا المصتان، أَو الرضعة، أَو الرضعتان ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَن أَبَا حُذَيْفَة بن عتبَة كَانَ قد تبنى سالما، وأنكحه بنت أَخِيه، وَهُوَ مولى لامْرَأَة من الْأَنْصَار، كَمَا تبنى رَسُول الله زيدا، فَجَاءَت سهلة بنت سُهَيْل رَضِي الله عَنْهَا امْرَأَة أبي حُذَيْفَة فَقَالَت: " يَا رَسُول الله، إِنَّا كُنَّا نرى سالما ولدا، وَقد يأوي معي، وَمَعَ أبي حُذَيْفَة فِي بَيت وَاحِد، ويراني فضلا، وَقد انْزِلْ الله فيهم مَا قد علمت، فَكيف ترى فِيهِ؟ " فَقَالَ لَهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارضعيه "، فأرضعته خمس رَضعَات، فَكَانَ بِمَنْزِلَة وَلَدهَا من الرضَاعَة. فبذلك كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تامر بَنَات أخواتها، وَبَنَات إخوتها أَن يرضعن من أحبت عَائِشَة أَن يَرَاهَا وَيدخل عَلَيْهَا وَإِن كَانَ كَبِيرا خمس رَضعَات، ثمَّ يدْخل عَلَيْهَا. وأبت ذَلِك أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا وَسَائِر أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقلن لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَمَا نَدْرِي لَعَلَّهَا كَانَت رخصَة من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لسالم دون النَّاس ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّمَا الرضَاعَة من(4/304)
المجاعة ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: " لَا رضَاع إِلَّا مَا شدّ الْعظم وَأنْبت اللَّحْم ". وَفِي رِوَايَة مَرْفُوعا بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: " أنشز الْعظم ".
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن الزبير، وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُم مَرْفُوعا: " لَا رضَاع إِلَّا مَا فتق الأمعاء ". وَالصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوف.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " قَلِيل الرضَاعَة وكثيرها يحرم فِي المهد ". قَالَ ابْن شهَاب: " يَقُول: لَا رضَاع بعد حَوْلَيْنِ(4/305)
كَامِلين ". رُوَاته ثِقَات.
وَرُوِيَ (بِإِسْنَاد) صَحِيح عَن عَمْرو بن دِينَار أَنه سمع ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا سَأَلَهُ رجل: أتحرم رضعة ورضعتان؟ فَقَالَ: " مَا نعلم الْأُخْت من الرضَاعَة إِلَّا حَرَامًا "، فَقَالَ الرجل: " إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يُرِيد ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا زعم أَنه لَا تحرم رضعة "، فَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " قَضَاء الله خير من قضائك وَقَضَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ ".
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن عَليّ، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: " يحرم من الرضَاعَة قَلِيله وَكَثِيره ".
إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ، فَإِن لم يرو مُتَّصِلا بِإِسْنَاد آخر فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، فَروِيَ عَن قَتَادَة قَالَ: " كتبنَا إِلَى إِبْرَاهِيم فِي الرَّضَاع، فَكتب إِلَيْنَا أَن شريحا حدث أَن عليا، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: يحرم من الرَّضَاع قَلِيله وَكَثِيره ". قَالَ: " وَكَانَ فِي كِتَابه أَن أَبَا الشعْثَاء الْمحَاربي حدث أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: لَا تحرم الْخَطفَة، (وَلَا) الخطفتان ".
وَهَذَا أَيْضا مُنْقَطع؛ فَإِنَّهُ كتاب، وَأَيْضًا (فَإِن) إِبْرَاهِيم يَقُول: " حَدِيث شُرَيْح "، وَهُوَ إرْسَال.(4/306)
وَرَوَاهُ ابْن لَهِيعَة عَن أبي الزبير عَن جَابر، وَابْن لَهِيعَة لَا يحْتَج بِهِ.
وَأما حَدِيث الدَّاجِن الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا أكلت الصَّحِيفَة الَّتِي فِيهَا آيَة الرَّجْم ورضاعة الْكَبِير عشرا يرْوى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَإِنَّهُ إِخْبَار عَن أَمر رفع، دون تَعْلِيق حكم بِهِ.
وَقد كَانَت آيَة الرَّجْم مَعْلُومَة عِنْد الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَعَلمُوا نسخ تلاوتها دون حكمهَا، وَذَلِكَ حِين رَاجع عمر رَضِي الله عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كتبهَا، فَلم يَأْذَن لَهُ فِيهَا.
وَأما رضاعة الْكَبِير فهى عِنْد (غير) عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا(4/307)
مَنْسُوخَة، أَو كَانَت رخصَة لسالم وَحده، فَلذَلِك لم يثبتوها.
وَأما رضاعته عشرا فقد أخْبرت أَنَّهَا صَارَت مَنْسُوخَة بِخمْس يحرمن، فَكَانَ نسخ تلاوتها وَحكمهَا مَعْلُوما عِنْد الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم؛ لأجل ذَلِك لم يثبتوها، لَا لأجل أكل الدَّاجِن صحيفتها، وَهَذَا وَاضح بَين بِحَمْد الله تَعَالَى وَمِنْه.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد أَن حَفْصَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا أرْسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إِلَى أُخْتهَا فَاطِمَة بنت عمر ترْضِعه عشر رَضعَات ليدْخل عَلَيْهَا، وَهُوَ صَغِير يرضع، فَفعلت، فَكَانَ يدْخل عَلَيْهَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (258) :
لَا رضَاع بعد الْحَوْلَيْنِ، خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله حَيْثُ قدر مُدَّة الرَّضَاع بِثَلَاثِينَ شهرا.
دليلنا قَول الله عز وَجل: {وفصاله فِي عَاميْنِ} ، وَقَالَ جلّ جَلَاله: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة} ، وَمَا رُوِيَ(4/308)
عَن عمر رَضِي الله عَنهُ: " لَا رضَاع إِلَّا فِي الْحَوْلَيْنِ فِي الصغر ".
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ بِمَعْنَاهُ، وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَرُوِيَ التَّحْدِيد بالحولين عَن ابْن الْمسيب، وَعُرْوَة، وَالشعْبِيّ، رَضِي الله عَنْهُم، وَالله تَعَالَى أعلم.(4/309)
(صفحه فارغة)(4/310)
كتاب النَّفَقَات
وَمن كتاب النَّفَقَات:
مَسْأَلَة (259) :
وَنَفَقَة الصَّغِيرَة تجب على زَوجهَا فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تجب ".
رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حث على الصَّدَقَة، فجَاء رجل فَقَالَ: " عِنْدِي دِينَار "، قَالَ: " أنفقهُ على نَفسك "، قَالَ: " عِنْدِي آخر "، قَالَ: " أنفقهُ على ولدك "، قَالَ: " عِنْدِي آخر "، قَالَ: " أنفقهُ على زَوجتك "، قَالَ: " عِنْدِي آخر "، قَالَ: " أنفقهُ على خادمك "، قَالَ: " عِنْدِي آخر "، قَالَ: " أَنْت أبْصر "، رُوَاته ثِقَات.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (260) :
والإعسار بِنَفَقَة الزَّوْجَة يُوجب لَهَا خِيَار الْفَسْخ للنِّكَاح. وَقَالَ(4/311)
أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَيْسَ خِيَار الْفَسْخ بذلك ".
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى، وَالْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى، وابدأ بِمن تعول "، قَالَ: " وَمن أعول؟ يَا رَسُول الله "، قَالَ: " امْرَأَتك، تَقول: أَطْعمنِي وَإِلَّا فارقني، خادمك، يَقُول: أَطْعمنِي واستعملني، ولدك، يَقُول: إِلَى من تتركني "، وَفِي رِوَايَة جعل آخِره من قَول أبي هُرَيْرَة. أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد قَالَ: " سَأَلت سعيد بن الْمسيب عَن الرجل لَا يجد مَا ينْفق على امْرَأَته "، قَالَ: " يفرق بَينهمَا "، (قلت: " سنة؟ "، قَالَ: " سنة ".
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا فِي الرجل لَا يجد مَا ينْفق على امْرَأَته، قَالَ: " يفرق بَينهمَا ") .(4/312)
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُسلم بن خَالِد عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد فِي رجال غَابُوا عَن نِسَائِهِم يَأْمُرهُم أَن يأخذوهم بِأَن ينفقوا أَو يطلقوا فَإِن طلقوا بعثوا بِنَفَقَة مَا حبسوا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (261) :
وَلَا نَفَقَة للمبتوته الْحَائِل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَهَا النَّفَقَة ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ} ، فدلت على أَن النَّفَقَة للحامل دون غَيرهَا.
وَفِي صَحِيح مُسلم حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس، وَفِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " لَا نَفَقَة لَك، إِلَّا أَن تَكُونِي حَامِلا ".(4/313)
وَالَّذِي أنكر عَلَيْهَا هُوَ ترك السُّكْنَى، لَا النَّفَقَة، فقد رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " قلت: يَا رَسُول الله، زَوجي طَلقنِي ثَلَاثًا، فَأَخَاف أَن يقتحم عَليّ "، فَيحْتَمل أَنه إِنَّمَا نقلهَا لذَلِك.
يُؤَكد ذَلِك مَا جَاءَ عِنْد أبي دَاوُد عَن عُرْوَة قَالَ: " لقد عابت ذَلِك عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَشد الْعَيْب يَعْنِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس وَقَالَت: إِن فَاطِمَة كَانَت بمَكَان وَحش، فخيف على ناحيتها، فَلذَلِك أرخص لَهَا رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمسيب أَنه إِنَّمَا نقلهَا أَنَّهَا استطالت على أحمائها بلسانها.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن الْقَاسِم، وَسليمَان أَن يحيى بن سعيد بن الْعَاصِ طلق ابْنة عبد الرَّحْمَن بن الحكم أَلْبَتَّة، فأنقلها عبد الرَّحْمَن، فَأرْسلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِلَى مَرْوَان وَهُوَ امير الْمَدِينَة فَقَالَت: " اتَّقِ الله يَا مَرْوَان، واردد (الْمَرْأَة) إِلَى بَيتهَا "، فَقَالَ مَرْوَان فِي حَدِيث سُلَيْمَان: " إِن عبد الرَّحْمَن غلبني "، وَقَالَ فِي حَدِيث الْقَاسِم: " أَو مَا بلغك شَأْن فَاطِمَة؟ " فَقَالَت عَائِشَة: " لَا عَلَيْك أَن لَا(4/314)
يذكر من شَأْن فَاطِمَة "، فَقَالَ: " إِن كَانَ إِنَّمَا بك الشَّرّ فحسبك مَا بَين هذَيْن من الشَّرّ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَذكر مناظرة جرت بَينه وَبَين بعض النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَذكر حَدِيث فَاطِمَة قَالَ: فَقَالَ: " إِنَّكُم تركْتُم حَدِيث فَاطِمَة، هِيَ قَالَت: قَالَ لي (النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) : لَا سُكْنى لَك وَلَا نَفَقَة " , فَقلت لَهُ: " مَا تركنَا من حَدِيث فَاطِمَة حرفا، وَلَو كَانَ مَا حدثتم عَنْهَا كَمَا حدثتم كَانَ على مَا قُلْنَا، وعَلى خلاف مَا قُلْتُمْ "، قَالَ: " وَكَيف قلت؟ " قلت: " أما حديثنا (فَصَحِيح) على وَجهه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا نَفَقَة لَك عَلَيْهِم، وأمرها أَن تَعْتَد فِي بَيت ابْن أم مَكْتُوم، وَلَو كَانَ فِي حَدِيثهَا إحلاله لَهَا أَن تَعْتَد حَيْثُ شَاءَت لم يحظر عَلَيْهَا أَن تَعْتَد حَيْثُ شَاءَت ".
قَالَ: " كَيفَ أخرجوها من بَيت زَوجهَا وأمرها أَن تَعْتَد فِي بَيت غَيره؟ " قلت: " لعِلَّة لم تذكرها فَاطِمَة، كَأَنَّهَا استحيت من ذكرهَا، وَقد ذكرهَا غَيرهَا ". قَالَ: " وَمَا هِيَ؟ " قلت: " كَانَ فِي لسانها ذرب، فاستطالت على أحمائها "، استطالت: تفاحشت.
قَالَ: " فَهَل من دَلِيل على مَا قلت؟ " قلت: " نعم، فِي الْخَبَر عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَيره من أهل الْعلم ". قَالَ: " فاذكرها ". قلت: " قَالَ الله عز وَجل: {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ} الْآيَة، وَأخْبرنَا عبد الْعَزِيز(4/315)
الدَّرَاورْدِي عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَول الله عز وَجل: {وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} قَالَ: " أَن تبذو على أهل زَوجهَا، فَإِذا بذت فقد حل إخْرَاجهَا ".
فَقَالَ: " هَذَا تَأْوِيل، وَقد يحْتَمل مَا قَالَ، وَيحْتَمل غَيره، أَن تكون الْفَاحِشَة خُرُوجهَا، وَأَن تكون الْفَاحِشَة أَن تخرج للحد ". قلت: " فَإِذا احتملت الْآيَة مَا وصفت فَأَي الْمعَانِي أولى بهَا؟ " قَالَ: " معنى مَا وافقته السّنة ". فَقلت: " فقد ذكرت فِي ذَلِك السّنة فِي فَاطِمَة ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن حبلة عَن أبي أَحْمد الزبيرِي عَن(4/316)
عمار بن زُرَيْق عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود: " أَتَت فَاطِمَة بنت قيس رَضِي الله عَنْهَا عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي حفظت أم لَا ".
وَرَوَاهُ يحيى بن آدم، وَغَيره عَن (عمار) ، وَلم يذكر فِيهِ: " وَسنة نَبينَا ".(4/317)
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَلم يذكر فِيهِ: " وَسنة نَبينَا "، وَإِنَّمَا ذكره الزبيرِي عَن عمار، وَحَمَّاد بن إِبْرَاهِيم، وَالْحسن بن عمَارَة عَن ابْن كهيل عَن عبد الله بن الْخَلِيل عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَيحيى بن آدم أحفظ من أبي أَحْمد وَأثبت مِنْهُ، وَقد تَابعه قبيصَة بن عقبَة، وَغَيره.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " وَأما ابْن عمَارَة فمتروك، وَأَشْعَث بن سوار ضَعِيف، وَرِوَايَة الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم أصح؛ لِأَنَّهُ أثبت، وأحفظ من أَشْعَث، وَالله أعلم ".
رُوِيَ عَن أبي دَاوُد قَالَ: " سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل، رَحمَه الله، وَذكر لَهُ قَول عمر رَضِي الله عَنهُ: " لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا "،(4/318)
قلت: يَصح هَذَا عَن عمر؟ قَالَ: لَا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْقَدِيم: " قَالَ قَائِل فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ اتهمَ حَدِيث فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا وَقَالَ: لَا نَدع كتاب رَبنَا لقَوْل امْرَأَة،، قُلْنَا: لَا نَعْرِف أَن عمر رَضِي الله عَنهُ اتهمها، وَمَا كَانَ فِي حَدِيثهَا مَا يتهم لَهُ، مَا حدثت إِلَّا بِمَا لَا تحب، وَهِي امْرَأَة من الْمُهَاجِرين، لَهَا شرف وعقل وَفضل، وَلَو رد شَيْء من حَدِيثهَا كَانَ إِنَّمَا يرد مِنْهُ أَنه أمرهَا بِالْخرُوجِ من بَيت زَوجهَا، فَلم تذكر هِيَ: لم أمرت بذلك، وَإِنَّمَا أمرت بِهِ لِأَنَّهَا استطالت على أحمائها، فَأمرت بالتحول عَنْهُم للشر بَينهَا وَبينهمْ، وَلم تُؤمر أَن تَعْتَد فِي بَيت ابْن أم مَكْتُوم؛ لِأَن من حق الزَّوْج أَن يحصن لَهُ حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة، فَلَمَّا جَاءَ عذر حصنت فِي غير بَيته، فكأنهم أَحبُّوا لَهَا ذكر السَّبَب الَّذِي لَهُ أخرجت؛ لِئَلَّا يذهب ذَاهِب إِلَى (أَن) النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى أَن تَعْتَد المبتوتة حَيْثُ شَاءَت فِي غير بَيت زَوجهَا ".
ثمَّ سَاق الْكَلَام، إِلَى أَن قَالَ: " وَمَا يعلم فِي كتاب الله ذكر نَفَقَة، إِنَّمَا فِي كتاب الله (ذكر) السُّكْنَى ". ثمَّ ذكر حَدِيث ابْن الْمسيب، وَقَول مَرْوَان لعَائِشَة، وَقد تقدم.
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن عبد الْمجِيد عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَيْسَ للمتوفى عَنْهَا زَوجهَا نَفَقَة، حسبها الْمِيرَاث ".
وَبِه عَنهُ: " نَفَقَة الْمُطلقَة مَا لم تحرم، فَإِذا حرمت فمتاع(4/319)
بِالْمَعْرُوفِ ".
وَرُوِيَ عَنهُ مَرْفُوعا: " الْمُطلقَة ثَلَاثًا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفقَة ". وَعنهُ فِي الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنْهَا: " لَا نَفَقَة لَهَا ". وَكِلَاهُمَا خطأ.
وَرُوِيَ عَن عَطاء أَنه ذهب أَن لَا نَفَقَة للمبتوتة إِلَّا الْحَامِل.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن لَا نَفَقَة للمطلقة ثَلَاثًا، وَأَن لَا نَفَقَة للحامل المتوفي عَنْهَا زَوجهَا، وَأَن أَبَا الزبير كَانَ يقْضِي بِخِلَافِهِ فِي المتوفي عَنْهَا، ثمَّ عَاد إِلَى قَوْله حِين بلغه.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " الْمُطلقَة ثَلَاثًا لَا تنْتَقل، وَهِي فِي ذَلِك لَا نَفَقَة لَهَا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (262) :
وَيُخَير الْوَلَد بَين أَبَوَيْهِ إِذا بلغ سبع سِنِين أَو ثَمَان. وَقَالَ أَبُو(4/320)
حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يُخَيّر أصلا ".
وَحكى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن بعض النَّاس أَنهم قَالُوا: " الْأُم أَحَق بالغلام حَتَّى يَأْكُل وَحده ويلبس وَحده، ثمَّ الْأَب أَحَق بِهِ، ثمَّ الْأُم أَحَق بالجارية حَتَّى تحيض ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ بَيَان أَنَّهَا كَانَت مُطلقَة، وَأَنه اخْتَار أمه.
وَعند أبي دَاوُد عَن رَافع بن سِنَان رَضِي الله عَنهُ أَنه أسلم، وأبت امْرَأَته أَن تسلم، فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: " ابْنَتي، وَهِي فطيم "، وَقَالَ رَافع: " ابْنَتي "، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لرافع: " اقعد نَاحيَة "، وَقَالَ لامْرَأَته: " أقعدي نَاحيَة "، وأقعد الصبية بَينهمَا، ثمَّ قَالَ: " ادعواها "، فمالت الصبية إِلَى أمهَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ اهدها "، فمالت إِلَى أَبِيهَا، فَأَخذهَا.
قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ".
وَفِي هَذَا إِثْبَات التَّخْيِير بَين الْأَبَوَيْنِ، وَإِن كَانَ أَحدهمَا غير مُسلم، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو سعيد الْإِصْطَخْرِي من أَصْحَابنَا. وَقد ألزمهم الشَّافِعِي(4/321)
رَحمَه الله روايتهم هَذَا الحَدِيث فِي التَّخْيِير لإنكارهم التَّخْيِير أصلا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَنْت أَحَق بِهِ مَا لم تنكحي "، فَجَعلهَا أَحَق بِهِ مَا لم تنْكح، وَلم يعْتَبر مَا اعتبروه.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان بِسَنَدِهِ أَن عمر خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه.
وَعنهُ عَن يُونُس بن عبد الله عَن عمَارَة الْجرْمِي قَالَ: " خيرني عَليّ رَضِي الله عَنهُ بَين أُمِّي وَعمي، ثمَّ قَالَ لأخ لي أَصْغَر مني: وَهَذَا أَيْضا لَو قد بلغ مبلغ هَذَا لخيرته ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قَالَ إِبْرَاهِيم: عَن يُونُس عَن عمَارَة عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ فِي الحَدِيث: " وَكنت ابْن سبع أَو ثَمَان سِنِين ".
وَالله أعلم.(4/322)
كتاب الْجراح
ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة رحمهمَا الله من كتاب الْجراح مِمَّا ورد فِيهِ خبر أَو أثر.
مَسْأَلَة (263) :
لَا يقتل الْمُسلم بالذمي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يقتل ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أبي جُحَيْفَة قَالَ: " " قلت لعَلي رَضِي الله عَنهُ: هَل عنْدكُمْ من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْء سوى الْقُرْآن؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة، إِلَّا أَن يُعْطي الله عبدا فهما فِي كِتَابه، أَو مَا فِي الصَّحِيفَة، قلت: وَمَا فِي الصَّحِيفَة؟ قَالَ: الْعقل، وفكاك الْأَسير، وَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر ".
عَن قيس بن عباد قَالَ: " انْطَلَقت أَنا وَالْأَشْتَر إِلَى عَليّ(4/323)
رَضِي الله عَنهُ فَقُلْنَا: هَل عهد إِلَيْك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عهدا لم يعهده إِلَى النَّاس (عَامَّة) ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا مَا فِي كتابي هَذَا، فَأخْرج كتابا، فَإِذا فِيهِ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، وهم يَد على من سواهُم، وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم، أَلا لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده ... . الحَدِيث ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " يشبه أَن يكون لما أعلمهم أَنه لَا قَود بَينهم وَبَين الْكفَّار أعلمهم أَن دِمَاء أهل الْعَهْد مُحرمَة عَلَيْهِم، فَقَالَ: لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر، وَلَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده ".
احْتج أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ رحمنا الله وإياه على صِحَة مَا تأولوا عَلَيْهِ الْخَبَر من أَن المُرَاد بِهِ: لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر حَرْبِيّ، وَلَا يقتل بِهِ ذُو عهد بِأَن رَاوِيه عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ أعلم بتأويله، وَقد أَشَارَ الْمُهَاجِرُونَ على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بقتل عبيد الله بن عمر حِين قتل الهرمزان وجهينة، وهما ذميان، وَكَانَ فيهم عَليّ،(4/324)
رَضِي الله عَنهُ، فَثَبت بزعم هَذَا أَن معنى الْخَبَر مَا ذكره.
وَهَذَا سَاقِط من أوجه:
أَحدهَا: أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ فِي هَذَا الْبَاب أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أَشَارَ بذلك، فإدخاله فِي جملَة من أَشَارَ بِهِ على عُثْمَان دون رِوَايَة مَوْصُولَة محَال.
وَالثَّانِي: أَن فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَنه قتل ابْنة لأبي لؤلؤة صَغِيرَة كَانَت تَدعِي الْإِسْلَام، وَإِذا وَجب الْقَتْل بِوَاحِد من قتلاه وَجب أَن يشيروا عَلَيْهِ بِالْقصاصِ.
الثَّالِث: أَن الهرمزان (وَإِن) أقرّ بِالْإِسْلَامِ حَالَة مَسّه السَّيْف فِي الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فَكَانَ قد أسلم قبل ذَلِك، وَهُوَ مَعْرُوف مَشْهُور بَين أهل الْمَغَازِي، وَإِنَّمَا قَالَ: " لَا إِلَه إِلَّا الله " حِين مَسّه السَّيْف تَعَجبا، أَو تبعيدا لما اتهمه بِهِ عبيد الله.
وَمن الدَّلِيل على إِسْلَامه قبل ذَلِك، وَذكر أَسَانِيد فِي إِسْلَامه، وَأَن عمر رَضِي الله عَنهُ فرض لَهُ، عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ وَغَيره، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن الثَّقَفِيّ عَن حميد عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ.(4/325)
وَلَو اقْتصر هَذَا الشَّيْخ على مَا احْتج بِهِ مشايخه لم يَقع لَهُ هَذَا الْخَطَأ الْفَاحِش، لكنه يعرف ويخطئ، وَلَا يستوحش من رد الْأَخْبَار الصَّحِيحَة ومعارضتها بأمثال هَذَا، وَالله الْمُسْتَعَان.
ورويناه فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، وَمَعْقِل بن يسَار، وَعبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَحَدِيث عمرَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَذكر رجلا: " لَو قتلت مُؤمنا بِكَافِر لقتلته " ".
وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن عبيد الله بن عبد الْمجِيد عَن ابْن وهب عَن مَالك عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن عمْرَة(4/326)
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " وجد فِي قَائِم سيف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كِتَابَانِ "، فَذكر أَحدهمَا، قَالَ: " وَفِي الآخر: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم لَا يقتل مُسلم بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده ".
وَذكرنَا فِيهِ ابْن وهب، هُوَ عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن وهب، وَمَالك هُوَ ابْن أبي الرِّجَال. وَأَبُو الرِّجَال هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ، الَّذِي روى عَنهُ ابْنه مَالك.
وَحَدِيث معقل رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده، والمسلمون يَد على من سواهُم، وتتكافأ دِمَاؤُهُمْ ".
وَحَدِيث عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " خطب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْفَتْح "، فَذكر الْخطْبَة، فِيهَا: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ فِي كَلَام غَيره، من غير ذكر خطْبَة، وَفِيه: " وَلَا ذُو عهد فِي عَهده ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله حَدِيثا مُرْسلا عَن عَطاء وطاووس(4/327)
احسبه قَالَ: وَمُجاهد وَالْحسن أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْم الْفَتْح: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر "، وَقَالَ: " وَهَذَا عَام عِنْد أهل الْمَغَازِي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تكلم بِهِ فِي خطبَته يَوْم الْفَتْح ".
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْندًا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، وَحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى عمار بن مطر عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأَسْلَمِيّ عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل مُسلما بمعاهد، وَقَالَ: " أَنا أكْرم من وفى بِذِمَّتِهِ ".
أَخطَأ عمار فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: فِي قَوْله: " عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن "، وَإِنَّمَا يرويهِ إِبْرَاهِيم عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عبد الرَّحْمَن.
وَالْآخر: فِي ذكر ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِيهِ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بِهَذَا الْإِسْنَاد مُرْسلا. دون ذكر ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ فِيهِ.
وَهُوَ غير مستبدع من عمار بن مطر الرهاوي، فقد كَانَ(4/328)
يقلب الْأَسَانِيد، وَيسْرق الْأَحَادِيث، حَتَّى كثر ذَلِك فِي رِوَايَته، وَسقط عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ.
رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُحَمَّد بن الْحسن عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي أَن رجلا من الْمُسلمين قتل رجلا من أهل الذِّمَّة فَرفع ذَلِك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أَنا أَحَق من أوفى بِذِمَّتِهِ ". ثمَّ أَمر بِهِ فَقتل.
كَذَا رَوَاهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن سَلام، وَغَيره عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي يحيى مُرْسلا. وَرَوَاهُ الثَّوْريّ، وَغَيره عَن ربيعَة عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا. قَالَ أَبُو عبيد: " بَلغنِي عَن ابْن أبي يحيى أَنه قَالَ: مَا حَدِيث ربيعَة بِهَذَا الحَدِيث فَالْحَدِيث يَدُور عَلَيْهِ، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث لَا يحل الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ، وَابْن الْبَيْلَمَانِي تكلمُوا فِيهِ، وَقد قيل: إِنَّه قريب من ابْنه مُحَمَّد فِي الضعْف ".
قَالَ صَالح بن مُحَمَّد الْحَافِظ: " عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد(4/329)
الْبَيْلَمَانِي حَدِيثه مُنكر، روى عَن ربيعَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل مُسلما بمعاهد، وَهُوَ مُرْسل مُنكر ".
وَقَالَ (ابْن الْمَدِينِيّ: " حَدِيث ") ابْن الْبَيْلَمَانِي أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل (مُسلما بمعاهد) إِنَّمَا يَدُور على ابْن أبي يحيى، لَيْسَ لَهُ وَجه حجاج، وَإِنَّمَا أَخذه عَنهُ ".
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " ابْن الْبَيْلَمَانِي لَا تقوم بِهِ حجَّة إِذا وصل، فَكيف بِمَا يُرْسِلهُ! وَالله أعلم ".
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قَالَ قَائِل: فقد روينَا من حَدِيث ابْن الْبَيْلَمَانِي أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل مُؤمنا بِكَافِر قُلْنَا: أفرايت لَو كُنَّا نَحن وَأَنت نثبت الْمُنْقَطع لحسن الظَّن بِمن روى، فَروِيَ حديثان أَحدهمَا(4/330)
مُنْقَطع، وَالْآخر مُتَّصِل بِخِلَافِهِ، أَيهمَا كَانَ أولى بِنَا أَن نثبته؟ الَّذِي ثبتناه، وَقد عرفنَا من رَوَاهُ بِالصّدقِ؟ أَو الَّذِي ثبتناه بِالظَّنِّ؟ قَالَ: بل الَّذِي ثبتناه مُتَّصِلا.
قُلْنَا: فحديثنا مُتَّصِل، وَحَدِيث ابْن الْبَيْلَمَانِي مُنْقَطع خطأ، وَإِنَّمَا روى ابْن الْبَيْلَمَانِي فِيمَا بَلغنِي أَن عَمْرو بن أُميَّة قتل كَافِرًا لَهُ عهد إِلَى مُدَّة، وَكَانَ الْمَقْتُول رَسُولا فَقتله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ "، فَلَو كَانَ ثَابتا كنت أَنْت قد خَالَفت الْحَدِيثين، حديثنا وَحَدِيث ابْن الْبَيْلَمَانِي.
قَالَ: " وَالَّذِي قَتله عَمْرو بن أُميَّة قبل بني النظير، وَقبل الْفَتْح بِزَمَان، وخطبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر عَام الْفَتْح، فَلَو كَانَ كَمَا يَقُول كَانَ مَنْسُوخا. قَالَ: فَلم لم تقل بِهِ، وَتقول: هُوَ مَنْسُوخ؟ قلت هَذَا خطأ، قلت: عَاشَ عَمْرو بن أُميَّة بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دهرا، وَأَنت إِنَّمَا تَأْخُذ الْعلم من بعد، لَيْسَ لَك بِهِ مثل معرفَة أَصْحَابنَا، وَعَمْرو قتل اثْنَيْنِ وداهما النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يزدْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمرا على أَن قَالَ: " قتلت رجلَيْنِ لَهما مني عهد لأدينهما ".(4/331)
وَرُوِيَ عَن أبي الْجنُوب الْأَسدي أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أَمر بقتل مُسلم قتل ذِمِّيا. وَأَبُو الْجنُوب ضَعِيف، وَعلي رَضِي الله عَنهُ لَا يروي عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا ثمَّ يُخَالِفهُ.
وَرُوِيَ بِسَنَد ضَعِيف عَن الشّعبِيّ قَالَ: " قتل رجل من الْمُسلمين رجلا من أهل الْحيرَة نَصْرَانِيّا فَقتله بِهِ عمر، رَضِي الله عَنهُ ". وَهَذَا مَعَ ضعف رُوَاته مُنْقَطع.
وَرَوَاهُ النَّخعِيّ، وَزَاد فِيهِ: " فَكتب عمر رَضِي الله عَنهُ بعد ذَلِك: إِن كَانَ الرجل يقتل فَلَا تقتلوه "، فزادا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ أَن يرضيهم من الدِّيَة.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ أولى بِهِ، وَلَعَلَّه أَرَادَ أَن يخيفه بِالْقَتْلِ، وَلَا يقْتله، وَهُوَ مُنْقَطع ضَعِيف ".
وروى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رجلا مُسلما قتل رجلا من أهل الذِّمَّة عمدا، وَرفع إِلَى (عمر) رَضِي الله عَنهُ فَلم يقْتله، وَغلظ عَلَيْهِ الدِّيَة ".(4/332)
وَرُوِيَ أَنه أَرَادَ أَن يقْتَصّ فِي شجه فَقَالَ لَهُ زيد رَضِي الله عَنهُ: " أتقيد عَبدك من أَخِيك "، وَأَنه أَرَادَ قَتله بِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَة رَضِي الله عَنهُ: " لَيْسَ ذَلِك لَك، أَرَأَيْت لَو قتل عبدا لَهُ أَكنت قَاتله بِهِ؟ ".
وَرُوِيَ عَن ابْن شهَاب قَالَ: " كَانَ عُثْمَان، وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا لَا يقيدان الْمُشرك من الْمُسلم ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن أخبرنَا مُحَمَّد بن يزِيد أخبرنَا سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ أَن ابْن سَاس الخزامي قتل رجلا من أَنْبَاط الشَّام، فَرفع إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَأمر بقتْله، فَكَلمهُ الزبير، وناس من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ونهوه عَن قَتله، فَجعل دِيَته ألف دِينَار ".
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قلت: هَذَا من حَدِيث من يجهل، فَإِن كَانَ غير ثَابت فدع الِاحْتِجَاج بِهِ، وَإِن كَانَ ثَابتا فقد زعمت أَنه أَرَادَ قَتله، فَمَنعه أنَاس من أَصْحَاب رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَهَذَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وأناس من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مجمعون: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر، فَكيف خالفتهم ". وَالله أعلم.(4/333)
مَسْأَلَة (264) :
لَا يقتل حر بِعَبْد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يقتل ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة على الْكتاب وَالنَّظَر، قَالَ الله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ} ، فَأدْخل فِيهِ لَام الْمعرفَة، فَوَجَبَ قصر الحكم عَلَيْهِ، وَنفي مَا عداهُ على طَريقَة أَصْحَابنَا، وَهُوَ قَول بفحوى الْكَلَام.
وَنَظِيره قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاء لمن أعتق "، أَي: لَا وَلَاء لمن لم يعْتق. وَكَذَلِكَ قَوْله: " الْحر بِالْحرِّ "، وَلَا يقتل بِالْعَبدِ. قَالَه لي الْأُسْتَاذ أَبُو طَاهِر الريادي.
وَرُوِيَ الثَّوْريّ عَن يُونُس عَن الْحسن قَالَ: " لَا يقتل الْحر بالمملوك ".
وَعَن ابْن جريج قَالَ: " لَا يقتل بِهِ "، رَوَاهُ مَالك عَن الزُّهْرِيّ.(4/334)
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يقتل حر بِعَبْد "، وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر. وَالله أعلم
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " من السّنة أَن لَا يقتل مُسلم بِكَافِر، وَلَا حر بِعَبْد "، رَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ، فَإِن سلم مِنْهُ فسائر رُوَاته ثِقَات.
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا لَا يقتلان الْحر بقتل العَبْد.
وَفِيمَا تقدم من قَول أبي عُبَيْدَة وَزيد لعمر رَضِي الله عَنْهُم وموافقته لَهما عَلَيْهِ، فَنزل قتل الْمُسلم بالذمي هُوَ يعرض أَن ينْقض الْعَهْد فَيلْحق بدار الْحَرْب فيسترق.
وَرُوِيَ عَن الحكم قَالَ: " قَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم: " إِذا قتل الْحر العَبْد مُتَعَمدا فَهُوَ قَود ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " لَا تقوم بِهِ حجَّة؛ لِأَنَّهُ مُرْسل ".
وَمَا رُوِيَ عَن الْحسن عَن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " من قتل(4/335)
عَبده قَتَلْنَاهُ، وَمن جدعه جدعناه، وَمن خصاه خصيناه " فمنسوخ إِجْمَاعًا.
وَقد روى أَبُو دَاوُد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام عَن قَتَادَة عَن الْحسن قَالَ: " لَا يُقَاد الْحر بِالْعَبدِ "، فِيهِ دلَالَة على نسخ مَا رَوَاهُ (سَمُرَة) أَو ضعف الرِّوَايَة عَنهُ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (265) :
الْقصاص يجْرِي فِيمَا بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَبَين العبيد فِي النَّفس، وَفِيمَا دون النَّفس. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يجْرِي بَينهم الْقصاص فِيمَا دون النَّفس ".
لنا مَا قَالَ البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة، فَقَالَ: " وَيذكر عَن عمر رَضِي الله عَنهُ: تقاد الْمَرْأَة من الرجل فِي كل عمد يبلغ نفس فَمَا دونهَا من الْجراح "، قَالَ: " وَبِه قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز، وَإِبْرَاهِيم،(4/336)
وَأَبُو الزِّنَاد عَن أَصْحَابه "، قَالَ: " وجرحت أُخْت الرّبيع إنْسَانا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْقصاص ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ فِيهِ عَن ابْن عَبَّاس، وَزيد بن ثَابت، رَضِي الله عَنْهُم، وَالرِّوَايَة من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة مِنْهُم.
ورويناه عَن الزُّهْرِيّ، وَغَيره، وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " الْقصاص بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْعمد "، وَعَن جَابر عَن الشّعبِيّ مثله.
وَأما مَا روى أَبُو دَاوُد عَن عمرَان رَضِي الله عَنهُ أَن غُلَاما لِأُنَاس فُقَرَاء قطع أذن غُلَام لِأُنَاس أَغْنِيَاء فَأتى أَهله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: " يَا رَسُول الله، إِنَّا أنَاس فُقَرَاء، فَلم يَجْعَل عَلَيْهِ شَيْئا "، فَإِن كَانَ المُرَاد بالغلام الْمَذْكُور فِيهِ الْمَمْلُوك فإجماع أهل الْعلم على أَن جِنَايَة العَبْد فِي رقبته تدل وَالله أعلم على أَن الْجِنَايَة كَانَت خطأ، وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا لم يَجْعَل عَلَيْهِ شَيْئا لِأَنَّهُ الْتزم أرش جِنَايَته، فَأعْطَاهُ من عِنْده مُتَبَرعا.
وَقد حمله الْخطابِيّ على أَن الْجَانِي كَانَ حرا، وَكَانَت الْجِنَايَة خطأ، وَكَانَت عَاقِلَته فُقَرَاء، فَلم يَجْعَل عَلَيْهِم شَيْئا، إِمَّا لفقرهم، وَإِمَّا لأَنهم لَا يعْقلُونَ الْجِنَايَة الْوَاقِعَة على العَبْد إِن كَانَ الْمَجْنِي عَلَيْهِ مَمْلُوكا، وَالله أعلم.(4/337)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَقد يكون الْجَانِي غُلَاما حرا غير بَالغ، وَكَانَت الْجِنَايَة عمدا، فَلم يَجْعَل أَرْشهَا على عَاقِلَته، وَكَانَ فَقِيرا، فَلم يَجعله فِي الْحَال عَلَيْهِ، أَو رَآهُ على عَاقِلَته فَوَجَدَهُمْ فُقَرَاء فَلم يَجعله عَلَيْهِم لكَون جِنَايَته فِي حكم الْخَطَأ، وَلَا عَلَيْهِم لكَوْنهم فُقَرَاء، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (266) :
وَإِذا قطع اثْنَان يَد إِنْسَان دَفعه وَاحِدَة عمدا وَجب عَلَيْهِمَا الْقصاص. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يجب ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " عَن سُفْيَان عَن مطرف عَن الشّعبِيّ أَن رجلَيْنِ لقيا عليا رَضِي الله عَنهُ فشهدا على رجل أَنه سرق، فَقطع عَليّ رَضِي الله عَنهُ يَده ثمَّ اتياه بآخر فَقَالَا: " هَذَا الَّذِي سرق، وأخطأنا على الأول "، فَلم يجز شَهَادَتهمَا على الآخر، وغرمهما دِيَة الأول، وَقَالَ: " لَو أعلمكما تعمدتما لقطعتكما "، أخرجه البُخَارِيّ فِي تَرْجَمَة الْبَاب. وَالله تَعَالَى أعلم.(4/338)
مَسْأَلَة (267) :
وَالْقَتْل بالخشب وَالْحجر الَّذِي يقتل مثله لَا محَالة قتل عمد مُوجب للْقصَاص. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله وَحده: " هُوَ شبه عمد لَا قصاص فِيهِ ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أنيس رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي شَأْن الْجَارِيَة الَّتِي رض يَهُودِيّ رَأسهَا بَين حجرين، فَأمر بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يرض رَأسه.
وَرُوِيَ عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ: " بَيْنَمَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقسم شَيْئا أقبل رجل فأكب عَلَيْهِ، فطعنه بعرجون كَانَ مَعَه، فجرح الرجل، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تعال فاستقد "، فَقَالَ: " بل عَفَوْت يَا رَسُول الله ".
وَعَن زِيَاد بن علاقَة عَن مرداس بن عُرْوَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " رمى رجل من الْحَيّ أَخا لي فَقتله، ففر فوجدناه، فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأقاد مِنْهُ ".(4/339)
وَفِي رِوَايَة عَنهُ قَالَ: " طردت إبل لأخي فاتبعهم فلحقهم، فَرَمَوْهُ بِحجر فَقَتَلُوهُ، فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأقادهم بِهِ ".
وَرُوِيَ عَن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من عرض عرضنَا لَهُ، وَمن حرق حرقناه، وَمن غرق غرقناه ".
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا يضْرب أحدكُم أَخَاهُ (بآكلة لحم) ثمَّ يَقُول: " وَالله، مَا أردْت نَفسه، وَرب الْكَعْبَة، لأقيدن مِنْهَا، قَالَ أَبُو عبيد عَن الْحجَّاج: " آكِلَة اللَّحْم يَعْنِي عَصا محددة ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن جدعَان عَن الْقَاسِم بن ربيعَة عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن(4/340)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلا إِن فِي قَتِيل الْعمد الْخَطَأ بِالسَّوْطِ والعصا مائَة من الْإِبِل مُغَلّظَة، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا ".
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَر أَن كل قَتِيل حصل بِالسَّوْطِ والعصا (يكون قتل عمد خطأ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَن الْقَتْل بِالسَّوْطِ والعصا إِذا) كَانَ عمد خطأ تكون فِيهِ الدِّيَة الَّتِي ذكرهَا. وَقد يكون الْقَتْل بِالسَّوْطِ والعصا عمدا مَحْضا بإن يوالي عَلَيْهِ بِالسَّوْطِ والعصا حَتَّى يَمُوت، فَهَذَا عمد مَحْض، لَيْسَ فِيهِ خطأ بِحَال.
وروى جَابر الْجَعْفَرِي عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " كل شَيْء خطأ إِلَّا السَّيْف، وَلكُل خطأ أرش ". وَعَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ أَيْضا مَرْفُوعا: " الْقود بِالسَّيْفِ، وَالْخَطَأ على الْعَاقِلَة "، وَرُوِيَ من طَرِيق ومداره عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّن لَا يحْتَج بِهِ، وَقد سبق ذكره.(4/341)
وَرُوِيَ عَن قيس بن الرّبيع عَن النُّعْمَان رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " كل شَيْء سوى الْحَدِيد خطأ "، وَقيس ضَعِيف فِي الحَدِيث، لَيْسَ بِحجَّة.
وَرُبمَا استدلوا بِمَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ: فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " اقْتتلَتْ امْرَأَتَانِ من هُذَيْل، فرمت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بِحجر فقتلتها وَمَا فِي بَطنهَا، فاختصموا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن دِيَة جَنِينهَا غرَّة عبدا أَو وليدة، وَقضى بدية الْمَرْأَة على عاقلتها ". وَذكر بَقِيَّته فِي قَول حمل ابْن النَّابِغَة، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا هَذَا من إخْوَان الْكُهَّان "؛ من أجل سجعه.
قُلْنَا: هَذَا الْقَتْل كَانَ خطأ، أَلا ترى أَنه جعل الدِّيَة على الْعَاقِلَة.
ثمَّ قد روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس عَن عمر رَضِي الله عَنْهُم أَنه سَأَلَ عَن قَضِيَّة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك، فَقَامَ حمل بن النَّابِغَة رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: " كنت بَين امْرَأتَيْنِ فَضربت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بمسطح فقتلتها(4/342)
وجنينها، فَقضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بغرة وَأَن تقتل ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (268) :
وَالْوَاجِب بقتل الْعمد الْقصاص أَو الدِّيَة، فَيُخَير بَينهمَا ولي الدَّم فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " الْقصاص وَحده، وَالدية تجب بِالصُّلْحِ بتراضيهما ".
قَالَ الله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى} ... إِلَى قَوْله: {فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شئ فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان} .
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل الْقصاص، وَلم يكن فيهم الدِّيَة فَقَالَ الله عز وَجل لهَذِهِ الْأمة: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شئ} : قَالَ الْعَفو أَن يقبل الدِّيَة فِي الْعمد {فاتباع} ، {وَأَدَاء} {بِإِحْسَان} ، {ذَلِك تَخْفيف من ربكُم} مِمَّا كتب على من كَانَ قبلكُمْ، {فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم} ... ".
وَفِي صَحِيح مُسلم وَالْبُخَارِيّ وَاللَّفْظ لمُسلم عَن أبي هُرَيْرَة(4/343)
رَضِي الله عَنهُ خطْبَة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْفَتْح فِيهَا: " وَمن قتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين إِمَّا أَن يُعْطي الدِّيَة، وَأما أَن يُقَاد أهل الْقَتِيل ".
وَعند البُخَارِيّ: " إِمَّا أَن يُؤَدِّي، وَأما أَن يُقَاد ".
وَرُوِيَ عَن عَلْقَمَة بن وَائِل الْحَضْرَمِيّ عَن أَبِيه قَالَ: " جِيءَ بالقاتل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَاءَ بِهِ ولي الْمَقْتُول فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أتعفو؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أتأخذ الدِّيَة؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أتقتل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَاذْهَبْ، فَلَمَّا ذهب دَعَاهُ فَقَالَ: أما إِنَّك إِن عَفَوْت عَنهُ فَإِنَّهُ يبوء بإثمك وإثمه وإثم صَاحبك، فَعَفَا عَنهُ، فَأرْسلهُ، فرأيته وَهُوَ يجر نسعه ... ".
استدلوا بِحَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ قَالَ: " لطمت الرّبيع بنت النَّضر رَضِي الله عَنْهَا جَارِيَة فَكسرت ثنيتها، فطلبوا إِلَيْهِم الْعَفو (فَأَبَوا) وعرضوا الْأَرْش عَلَيْهِم فَأَبَوا، فَأتوا(4/344)
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأمر بِالْقصاصِ فَقَالَ أنس بن النَّضر رَضِي الله عَنهُ: يَا رَسُول الله، أتكسر ثنية الرّبيع؟ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ، لَا تكسر ثنيتها، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا أنس، كتاب الله الْقصاص، فَرضِي الْقَوْم فعفوا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن من عباد الله من لَو أقسم على الله لَأَبَره ".
وَهَذَا لَا يُخَالف مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي شُرَيْح الكعبي رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن الله حرم مَكَّة. . " فَذكر الحَدِيث، إِلَى أَن قَالَ: " من قتل قَتِيلا فأهله بَين خيرتين، إِن أَحبُّوا اقتادوا، وَإِن أَحبُّوا أخذُوا الْعقل "، تَابعه يحيى الْقطَّان وَجَمَاعَة عَن ابْن أبي ذِئْب.(4/345)
وَرُوِيَ عَن أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: من أُصِيب بِدَم أَو خبل فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَين إِحْدَى ثَلَاث، فَإِن أَرَادَ الرَّابِعَة فَخُذُوا على يَدَيْهِ، بَين أَن يقْتَصّ أَو يعْفُو أَو يَأْخُذ الْعقل. فَإِن قبل من ذَلِك شَيْئا ثمَّ عدا بعد ذَلِك فَلهُ النَّار ".
وَذَاكَ لِأَن كتاب الله الْقصاص (إِلَّا أَن يعْفُو عَنهُ ولي الدَّم، وَلَيْسَ إِذا لم ينْقل فِي هَذَا الحَدِيث التَّخْيِير بَين الدِّيَة وَالْقصاص " يدل على أَنه لَا يُخَيّر.
وَقد بَين الشَّافِعِي رَحمَه الله ثُبُوت الْخِيَار بقوله عز وَجل: {فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ} ... الْآيَة؛ لِأَنَّهُ لَو لم يجب بِالْعَفو عَن الْقصاص مَال لم يكن للعافي شَيْء يتبعهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا على الْقَاتِل شَيْء يُؤَدِّيه بِإِحْسَان.
فَإِن قَالَ المحتج بِهَذَا الْخَبَر: " لم يقْض لَهُم بِالدِّيَةِ حِين عَفا الْقَوْم " قُلْنَا: هَذَا مِنْك غَفلَة؛ فَفِي الحَدِيث أَنهم عرضوا الْأَرْش عَلَيْهِم فَأَبَوا، ثمَّ قَالَ فِي الحَدِيث: وَرَضي الْقَوْم فعفوا، فَالظَّاهِر مِنْهُم أَنهم رَضوا بِأخذ الْأَرْش وعفوا عَن الْقصاص. ثمَّ هُوَ بَين فِي حَدِيث الْمُعْتَمِر عَن حمد عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: فرضوا بِأَرْش أَخَذُوهُ ".(4/346)
وَفِي الحَدِيث الثَّابِت عَن ثَابت عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن أُخْت الرّبيع أم حَارِثَة رَضِي الله عَنْهُمَا جرحت إنْسَانا فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْقصاص "، وَفِيه قَالَ: " فَمَا زَالَت حَتَّى قبلوا الدِّيَة ".
وروى إِسْمَاعِيل بن مُسلم وَهُوَ ضَعِيف عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا قَالَ: " الْعمد قَود إِلَّا أَن يعْفُو ولي الْمَقْتُول ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (269) :
وعَلى شريك الْأَب الْقصاص فِي قتل الْوَلَد عمدا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه لَا قصاص عَلَيْهِ ".
روى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن (يحيى عَن ابْن الْمسيب) أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قتل نَفرا خَمْسَة، أَو سَبْعَة بِرَجُل قَتَلُوهُ قتل غيلَة وَقَالَ: " لَو تمالأ عَلَيْهِ أهل صنعاء لقتلهم جَمِيعًا ".(4/347)
فَبِهَذَا وَمَا يُشبههُ وَجب الْقصاص فِي قتل الْعمد على القاتلين من كَانُوا، فورد الدَّلِيل بتخصيص الْأَب بِسُقُوط الْقصاص عَنهُ وَبَقِي وُجُوبه على سَائِرهمْ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (270) :
ولولي الدَّم الْقصاص بِمثل مَا قتل بِهِ والعدول عَنهُ إِلَى ضرب الرَّقَبَة إِن شَاءَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يقْتَصّ مِنْهُ إِلَّا بِضَرْب الرَّقَبَة ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر برض رَأس الْيَهُودِيّ الَّذِي رض رَأس الْجَارِيَة.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أنس رَضِي الله عَنهُ حَدِيث العكليين الَّذين(4/348)
سمل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعينهم.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا سمل أعين أُولَئِكَ لأَنهم سملوا أعين الرُّعَاة.
وروى الثَّوْريّ عَن أَشْعَث عَن الشّعبِيّ قَالَ: " إِذا مثل بِهِ ثمَّ قَتله مثل بِهِ ثمَّ قتل ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن مبارك بن فضَالة عَن الْحسن عَن أبي بكرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا قَالَ: " لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ ". وَفِي رِوَايَة عَن الْحسن عَن النُّعْمَان بن بشير، رَضِي الله عَنهُ.
وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِالْقَوِيّ، ومبارك بن فضَالة غير مُحْتَج بِهِ، تَركه ابْن سعد، وَابْن مهْدي فَمن بعدهمَا.
وَرُوِيَ عَن جَابر الْجعْفِيّ من حَدِيث النُّعْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ: " إِلَّا بحديدة ".
وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن أَرقم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله(4/349)
عَنهُ: " لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ "، وَمن حَدِيث عبد الله رَضِي الله عَنهُ: " لَا قَود إِلَّا بسلاح ".
قَالَ يحيى بن معِين: " سُلَيْمَان بن أَرقم أَبُو معَاذ لَيْسَ يُسَاوِي فلسًا ".
وَرَوَاهُ مُعلى بن هِلَال الطَّحَّان من حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " لَا قَود إِلَّا بحديدة ".
وَمعلى كذبه ابْن عُيَيْنَة وَغَيره، فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عِكْرِمَة أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أُتِي بِقوم (من الزَّنَادِقَة) فحرقهم، فَبلغ ذَلِك ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: " أما أَنا لَو كنت لقتلتهم؛ لقَوْل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تعذبوا بِعَذَاب الله ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ، وَزَاد: " فَبلغ ذَلِك عليا، فَقَالَ: " وَيْح أم ابْن عَبَّاس ".(4/350)
وَنحن نقُول بِهَذَا الحَدِيث فِي قتل الْمُرْتَدين، فَأَما مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فَإِن كتاب الله الْقصاص، وَالْقصاص هُوَ أَن يفعل بالفاعل مثل مَا فعل، وَلم تقم دلَالَة على الْمَنْع بِعَيْنِه. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (271) :
وَأما قطع مَا فِيهِ الْقصاص فللمقطوع طلب الْقصاص فِيهِ قبل الِانْدِمَال. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك ".
وَدَلِيلنَا قَول الله تَعَالَى: {والحرمات قصاص فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} .
رُوِيَ عَن يَعْقُوب بن حميد عَن عبد الله عَن يَعْقُوب بن عَطاء، وَابْن جريج، وَعُثْمَان بن الْأسود عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا جرح رجلا فَأَرَادَ أَن يستقيد مِنْهُ، فَنهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يمتثل من الْجَارِح حَتَّى يبرأ الْمَجْرُوح.(4/351)
تفرد بِهِ هَكَذَا عبد الله بن عبد الله الْأمَوِي هَذَا. وَيَعْقُوب.
وَرُوِيَ عَن ابْن لَهِيعَة عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا " تقاس الْجِرَاحَات ثمَّ يستأنى بهَا سنة، ثمَّ يقْضى فِيهَا بِقدر مَا انْتَهَت إِلَيْهِ "، وَابْن لَهِيعَة ضَعِيف.
وَرَوَاهُ يزِيد بن عِيَاض عَن أبي الزبير فِي هَذَا الحَدِيث قَالَ: " يستأنى بالجراحات سنة "، وَيزِيد بن عِيَاض ضَعِيف مَتْرُوك.
وَرَوَاهُ يحيى بن أبي أنيسَة عَن أبي الزبير نَحوه: " سنة "، وَقد قَالَ أَخُوهُ زيد: " لَا تكْتبُوا عَن أخي؛ فَإِنَّهُ كَذَّاب "، وَقَالَ ابْن حَنْبَل: " إِنَّه مَتْرُوك الحَدِيث ".
وروى ابْنا أبي شيبَة عَن ابْن علية عَن أَيُّوب عَن عَمْرو بن دِينَار(4/352)
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا طعن رجلا بقرن فِي ركبته، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يستقيد، فَقيل لَهُ: " حَتَّى تَبرأ "، فَأبى وَعجل، فاستقاد، قَالَ: " فعنتت رجله، وبرئت رجل المستقاد مِنْهُ، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ لَك شَيْء؛ أَنْت أَبيت ".
قَالَ أَبُو احْمَد بن عَبدُوس: " مَا جَاءَ بِهَذَا إِلَّا أَبُو بكر، وَعُثْمَان "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " أَخطَأ فِيهِ ابْنا أبي شيبَة، وَخَالَفَهُمَا أَحْمد بن حَنْبَل، وَغَيره فَرَوَوْه عَن ابْن علية مُرْسلا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَاب عَمْرو (عَنهُ، وَهُوَ الْمَحْفُوظ مُرْسلا ".
وَرُوِيَ عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن عَمْرو بن دِينَار عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثله.
وَعَن مُعْتَمر عَن أَيُّوب عَم عَمْرو بن شُعَيْب قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبعدك الله! أَنْت عجلت ".
وروى مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن(4/353)
أَبِيه عَن جده قَالَ: " نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يقص من الْمَجْرُوح حَتَّى يَنْتَهِي "، كَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن حمدَان عَن ابْن جريج، ذَكرْنَاهُ فِي السّنَن الْكَبِير.
وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " وجأ رجل فَخذ رجل فجَاء إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، أقدني مِنْهُ "، قَالَ: " حَتَّى تَبرأ "، ثمَّ جَاءَ فَقَالَ: " أقدني، يَا رَسُول الله "، فأقاده، فجَاء بعد إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " شلت رجْلي "، قَالَ: " أخذت حَقك ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (272) :(4/354)
(صفحة فارغه)(4/355)
لم يذكرهَا: وَقَاتل الْعمد إِذا التجأ إِلَى الْحرم جَازَ ان يسْتَوْفى مِنْهُ(4/356)
الْقصاص فِي الْحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يضْطَر إِلَى الْخُرُوج مِنْهُ، وَلَا يسْتَوْفى فِي الْحرم ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله: " حَدثنَا أَبُو حنيفَة عَن سماك بن الْفضل حَدثنِي ابْن أبي ذِئْب عَن المَقْبُري عَن أبي شُرَيْح الكعبي رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عَام الْفَتْح: " من قتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين إِن أحب أَخذ الْعقل، وَإِن أحب فَلهُ الْقود ".
استدلوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي شُرَيْح الْعَدوي أَنه قَالَ لعَمْرو بن أسيد وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث إِلَى مَكَّة: " ائْذَنْ لي أَيهَا الْأَمِير (أحَدثك) قولا قَامَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْغَد من يَوْم الْفَتْح، سمعته أذناي، ووعاه قلبِي، وأبصرته عَيْنَايَ حِين تكلم بِهِ، إِنَّه حمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن مَكَّة حرمهَا الله وَلم يحرمها النَّاس، فَلَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا دَمًا، وَلَا يعضد بهَا شَجَرَة ... " الحَدِيث، وَفِيه أَن عمرا قَالَ لَهُ: " أَنا أعلم بذلك مِنْك، يَا أَبَا شُرَيْح، إِن الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا، وَلَا فَارًّا بِدَم، وَلَا فَارًّا بخربة ".
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده حَدِيثا فِيهَا: " فَبلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَامَ خَطِيبًا وَهُوَ مُسْند ظَهره إِلَى الْكَعْبَة فَقَالَ: " إِن(4/357)
أعدى النَّاس على الله تَعَالَى من عدا فِي الْحرم، وَمن قتل غير قَاتله، وَمن قتل بدحول الْجَاهِلِيَّة ".
أجَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله عَمَّا أوردوا فَقَالَ: " معنى ذَلِك وَالله أعلم أَنه لم يحلل ان ينصب عَلَيْهَا الْحَرْب حَتَّى تكون كَغَيْرِهَا، فَإِن قيل مَا دلّ على مَا وصفت؟ قيل: أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَمَا قتل عَاصِم بن ثَابت، وخبيب رَضِي الله عَنْهُمَا بقتل أبي سُفْيَان فِي دَاره بِمَكَّة غيلَة إِن قدر عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَت مُحرمَة، فَدلَّ على أَنَّهَا لَا تمنع أحدا من شَيْء وَجب عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يمْنَع من أَن ينصب عَلَيْهَا الْحَرْب كَمَا ينصب على غَيرهَا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " إِذا دخل الْحرم لم يؤو، وَلم يُبَايع، وَلم يسق، وَلم يُجَالس حَتَّى يخرج "، يَعْنِي الْقَاتِل.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " هَكَذَا ورد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهُوَ محجوج بِمَا ورد من الظَّوَاهِر فِي إِقَامَة الْحُدُود من غير اسْتثِْنَاء وَلَا تَخْصِيص. وَالله أعلم.(4/358)
مَسْأَلَة (237) :
وَفِي السن السَّوْدَاء من أصل الْخلقَة مَا فِي الْبَيْضَاء. وَقَالَ (أَبُو حنيفَة) رَحمَه الله: " إِن فِيهَا حُكُومَة ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قضى فِي الْعين العوراء الْقَائِمَة إِذا خسفت، وَفِي السن السَّوْدَاء (إِذا انْكَسَرت) ، وَفِي الْيَد الشلاء إِذا قطعت ثلث دِيَتهَا ".
يحْتَمل أَن تكون إِذا اسودت وضعفت من جِنَايَة وَقعت عَلَيْهَا، أما إِذا كَانَت سَوْدَاء من أصل خلقتها فَفِيهَا مَا حكم بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقوله: " فِي كل سنّ خمس من الْإِبِل، وَلم يفرق بَين سَوْدَاء وبيضاء. وَالله أعلم.(4/359)
(صفحة فارغه)(4/360)
كتاب الدِّيات
من كتاب الدِّيات:
مَسْأَلَة (274) :
وَخمْس دِيَة الْخَطَأ والعمد بَنو اللَّبُون. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِن أحد أخماسها بَنو الْمَخَاض ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث سهل بن أبي خَيْثَمَة رَضِي الله عَنهُ فِي شَأْن الَّذِي قتل بِخَيْبَر، وَفِيه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وداه بِمِائَة من إبل الصَّدَقَة "، وَلَا مدْخل لبني الْمَخَاض فِي فَرَائض الصَّدقَات.
وَإِنَّمَا وداه بدية الْخَطَأ، حَيْثُ لم يثبت الْعمد، أَلا ترى أَن دِيَة(4/361)
الْعمد بَعْضهَا يكون ثنايا، وَلَا مدْخل للثنايا فِي فَرَائض الصَّدقَات.
وَرُوِيَ عَن أبي عُبَيْدَة أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " دِيَة الْخَطَأ خَمْسَة أَخْمَاس: عشرُون حقة، وَعِشْرُونَ جدعة، وَعِشْرُونَ بَنَات مَخَاض، وَعِشْرُونَ بَنَات لبون، وَعِشْرُونَ بَنو لبون ذُكُور ". قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا إِسْنَاد حسن، وَرُوَاته ثِقَات، وَقد رُوِيَ عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ نَحْو هَذَا ".
كَذَا رَوَاهُ، رَحمَه الله تَعَالَى، وَهُوَ الأوحد فِي عصره فِي هَذَا الشَّأْن، وَهُوَ واهم فِيهِ، والجواد رُبمَا يعثر؛ فَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ وَكِيع فِي مصنفاته عَن الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عبد الله، وَعَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله، وَقَالَ فِيهِ: " وَعِشْرُونَ بَنو مَخَاض "، وَلم يقل: " بَنو لبون ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الثَّوْريّ فِي الْجَامِع عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْرَائِيل عَن إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله: " بَنو مَخَاض ".(4/362)
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يزِيد بن هَارُون عَن التَّيْمِيّ عَن أبي مجلز عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله: " خمس بَنو مَخَاض ".
والعجيب أَنِّي رايته فِي كتاب ابْن خُزَيْمَة وَهُوَ إِمَام فِي الْفِقْه والْحَدِيث عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عبد الله، وَعَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن (عبد الله: " عشرُون بَنو لبون "، وَعَن أبي عُبَيْدَة عَنهُ كَذَلِك. وَرَوَاهُ بعد حَدِيث خشف بن مَالك عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ) بِمثل حَدِيث خشف، وَفِيه: " عشرُون بَنو مَخَاض "، بدل " بني لبون "، ثمَّ قَالَ: " يزِيد عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ " (قَوْله بِمثلِهِ، لَا عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فوددنا أَن لَو كَانَ مَا روياه عَن ابْن مَسْعُود) من بني اللَّبُون كَمَا روياه غير ان مَذْهَب ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك مَشْهُور فِي بني الْمَخَاض، وَقد حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي الخلافيات عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ كَذَلِك. وَالله أعلم.
وَرُوِيَ بَنو اللَّبُون الذُّكُور عَن أبي الزِّنَاد عَن فُقَهَاء الْمَدِينَة: ابْن الْمسيب، وَعُرْوَة، وَالقَاسِم، وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، وخارجة بن زيد، وَعبيد الله بن عتبَة، وَسليمَان بن يسَار، فِي مشيخة(4/363)
جلة سواهُم من نظرائهم.
وَرَوَاهُ مَالك عَن ابْن شهَاب، وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن.
استدلوا بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد عَن الْحجَّاج عَن زيد بن جُبَير عَن خشف بن مَالك الطَّائِي عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي دِيَة الْخَطَأ عشرُون حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة، (وَعِشْرُونَ ابْنة مَخَاض) ، وَعِشْرُونَ ابْنة لبون، وَعِشْرُونَ ابْن مَخَاض ذكر) . تَابعه عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عَن حجاج بن أَرْطَأَة.
وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث بِثَابِت، وَقد كفانا إمامنا أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ(4/364)
مُؤنَة اسْتِخْرَاج علع هَذَا الحَدِيث، قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: " هَذَا حَدِيث ضَعِيف غير ثَابت عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ من وُجُوه: أَحدهَا ... . "، وَذكر مُخَالفَته لما رَوَاهُ عَن أبي عُبَيْدَة، وَأبي الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله أَن تكون تِلْكَ عِلّة؛ لما بَينه آنِفا من رِوَايَة الثَّوْريّ وَغَيره، وحكاية ابْن الْمُنْذر من مَذْهَب ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " وَهُوَ الْمُقدم الثِّقَة فِيمَا يحكيه من مَذَاهِب الْعلمَاء ".
قَالَ: وَزعم أَن الشَّافِعِي رَحمَه الله إِنَّمَا اخْتَار قَول أهل الْمَدِينَة فِي دِيَة الْخَطَأ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْده أقل مَا قيل فِي أسنانها، (فَلم يُوجب أكبر مِنْهَا، وَلم يبلغهُ قَول عبد الله رَضِي الله عَنهُ فِي بني الْمَخَاض، فَلذَلِك لم يرجع إِلَيْهِ، وَلَو بلغه لرجع إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله لِأَنَّهَا أقل من بني لبون، وَاسم الْإِبِل وَاقع " عَلَيْهَا، وَهُوَ قَول صَحَابِيّ، فاتباعه فِي ذَلِك أولى. وَالله أعلم.
وَهَذَا معنى قَوْله رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ: " وَمن يرغب عَن قَوْله اسْتدلَّ بِحَدِيث سهل بن أبي خثمة، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَذكرنَا وَجه الِاسْتِدْلَال مِنْهُ.
وَاسْتشْهدَ الدَّارَقُطْنِيّ على حَدِيث أبي عُبَيْدَة بِمَا رَوَاهُ من حَدِيث ابراهيم عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: " فَهَذِهِ الرِّوَايَة وَإِن كَانَ فِيهَا إرْسَال فإبراهيم هُوَ من أعلم النَّاس بِعَبْد الله بِرَأْيهِ وفتياه، وَقد أَخذ ذَلِك عَن أَخْوَاله: " عَن عَلْقَمَة، وَالْأسود وَعبد الرَّحْمَن ابْني يزِيد، وَغَيرهم من أكبر أَصْحَاب (عبد الله) ، وَهُوَ الْقَائِل: " إِذا قلت(4/365)
لكم: قَالَ عبد الله فَهُوَ عَن جمَاعَة (من أَصْحَابه) ، وَإِذا سمعته من وَاحِد سميته لكم ".
وَوجه آخر وَهُوَ أَن الْخَبَر الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ ذكر بني الْمَخَاض لَا نعلمهُ رَوَاهُ إِلَّا خشف بن مَالك عَن ابْن مَسْعُود، وَهُوَ رجل مَجْهُول لم يرو عَنهُ إِلَّا زيد بن جُبَير بن حَرْمَلَة الْجُشَمِي، وَأهل الْعلم (بِالْحَدِيثِ) لَا يحتجون (بِمَا يتفرد بروايته) رجل غير مَعْرُوف، وَإِنَّمَا يثبت الْعلم عِنْدهم بالْخبر إِذا كَانَ رَاوِيه عدلا مَشْهُورا، أَو رجلا قد ارْتَفع عَنهُ اسْم الْجَهَالَة، وارتفاع اسْم الْجَهَالَة عَنهُ أَن يروي عَنهُ رجلَانِ فَصَاعِدا.
وَوجه آخر، وَهُوَ لَا نعلم أحدا رَوَاهُ عَن زيد الا حجاج بن أَرْطَأَة، وَالْحجاج رجل مَشْهُور بالتدليس، وَبِأَنَّهُ يحدث عَمَّن لم يلقه وَلم يسمع مِنْهُ، ترك الرِّوَايَة عَنهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَيحيى بن سعيد، وَعِيسَى بن يُونُس بعد أَن جالسوه وخبروه.
وَوجه آخر، وَهُوَ أَن جمَاعَة من الثِّقَات رووا هَذَا الحَدِيث عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِيهِ، فَرَوَاهُ عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عَن حجاج على اللَّفْظ الَّذِي ذكرنَا، وَوَافَقَهُ عبد الْوَاحِد بن زِيَاد.
وَخَالَفَهُمَا يحيى بن سعيد الْأمَوِي وَهُوَ من الثِّقَات فَرَوَاهُ عَن الْحجَّاج: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَطَأ أَخْمَاسًا: عشرُون جذاع، وَعِشْرُونَ بَنَات لبون، وَعِشْرُونَ بني لبون، وَعِشْرُونَ بَنَات مَخَاض،(4/366)
وَعِشْرُونَ بني مَخَاض ذُكُورا "، فَجعل مَكَان الحقاق بني لبون.
وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن الْحجَّاج: " خمْسا جذاع، وخمسا حقاق، وخمسا بَنَات لبون، وخمسا بَنَات مَخَاض، وخمسا بني لبون ذُكُور ".
وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، وَحَفْص بن غياث وَعَمْرو بن هَاشم أَبُو مَالك الْجَنبي، وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن الْحجَّاج بِهَذَا الْإِسْنَاد قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاسًا "، لم يزِيدُوا على هَذَا.
وَرَوَاهُ يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن حجاج، وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ شُرَيْح بن يُونُس بموافقة عبد الرَّحِيم وَعبد الْوَاحِد. وَخَالفهُ أَبُو هِشَام الرِّفَاعِي فَرَوَاهُ عَنهُ بموافقة أبي مُعَاوِيَة وَمن تَابعه، (لم يُفَسِّرهَا) .
فَيُشبه أَن يكون الصَّحِيح ان النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاسًا(4/367)
لَيْسَ فِيهِ تَفْسِير الْأَخْمَاس لاتفاقهم على ذَلِك، وَكَثْرَة عَددهمْ وَكلهمْ ثِقَات، وَيُشبه أَن يكون الْحجَّاج رُبمَا كَانَ يُفَسر الْأَخْمَاس بِرَأْيهِ، فَتوهم السَّامع أَن ذَلِك من حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَيُقَوِّي هَذَا أَيْضا اخْتِلَاف عبد الْوَاحِد، وَعبد الرَّحِيم، والأموي عَنهُ.
وَوجه آخر، وَهُوَ أَنه قد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي دِيَة الْخَطَأ أقاويل مُخْتَلفَة لَا نعلم رُوِيَ عَن أحد مِنْهُم فِي ذَلِك ذكر بني الْمَخَاض إِلَّا فِي حَدِيث خشف هَذَا، فروى إِسْحَاق بن يحيى عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي دِيَة الْخَطَأ: " ثَلَاثِينَ حقة، وَثَلَاثِينَ جَذَعَة، وَعشْرين بَنَات لبون، وَعشْرين بني لبون ذُكُور "، وَهَذَا مُرْسل؛ إِسْحَاق لم يسمع من عبَادَة.
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن رَاشد عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من قتل خطأ فديته مائَة من الْإِبِل: وَثَلَاثُونَ بَنَات مَخَاض، وَثَلَاثُونَ بَنَات لبون، وَثَلَاثُونَ حقة، وَعِشْرُونَ بَنو لبون ذُكُور ". وَهَذَا أَيْضا فِيهِ مقَال من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن عَمْرو بن شُعَيْب لم يخبر فِيهِ بِسَمَاع أَبِيه من جده،
وَالثَّانِي: أَن مُحَمَّد بن رَاشد ضَعِيف.
وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ مثل مَا روى إِسْحَاق عَن عبَادَة، رَضِي الله عَنهُ.(4/368)
وَرُوِيَ عَن عُثْمَان، وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: " فِي دِيَة الْخَطَأ ثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ (بَنَات لبون، وَعِشْرُونَ بَنَات مَخَاض، وَعِشْرُونَ بَنو لبون ذُكُور ".
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: " الدِّيَة فِي الْخَطَأ أَربَاع: خمس وَعِشْرُونَ حقة، وَخمْس وَعِشْرُونَ جَذَعَة، وَخمْس وَعِشْرُونَ ابْنة لبون، وَخمْس وَعِشْرُونَ ابْنة مَخَاض ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: وَعلل الرِّوَايَات الثَّلَاث عَن عبد الله بِأَنَّهَا كلهَا مَرَاسِيل؛ فَأَما رِوَايَة إِبْرَاهِيم عَن عبد الله فَلَا شكّ فِي انقطاعها، وَأما رِوَايَة أبي إِسْحَاق فَإِنَّهَا أَيْضا مُنْقَطِعَة؛ لِأَن أَبَا إِسْحَاق لم يسمع من عَلْقَمَة شَيْئا، وَأما رِوَايَة أبي عُبَيْدَة فَإِنَّهَا أَيْضا مُنْقَطِعَة، أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه شَيْئا.
رُوِيَ عَن عَمْرو بن مرّة: سَأَلت أَبَا عُبَيْدَة: " تحفظ من أَبِيك شَيْئا؟ " قَالَ: " لَا ". وَعَن شُعْبَة: " كنت عِنْد أبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي فَقيل لَهُ: إِن شُعْبَة يَقُول: إِنَّك لم تسمع من عَلْقَمَة شَيْئا، قَالَ: صدق ".
وَقَالَ ابْن معِين: " أَبُو إِسْحَاق قد رأى عَلْقَمَة، وَلم يسمع مِنْهُ ".
وَالله أعلم.(4/369)
مَسْأَلَة (275) :
ودية الْعمد وَعمد الْخَطَأ أَثلَاث: مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة، وَثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ جَذَعَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " أَربَاع بَنَات الْمَخَاض، وَبَنَات لبون، والحقاق، والجذاع ".
روى أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب يَوْم الْفَتْح بِمَكَّة، فَكبر ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: " لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده، صدق وعده، وَنصر عَبده، وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده " الحَدِيث، وَفِيه: " أَلا إِن دِيَة شبه الْخَطَأ شبه الْعمد مَا كَانَ بِالسَّوْطِ والعصا مائَة من الْإِبِل: مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بطونها أَوْلَادهَا ".
وَقَول زيد وَأبي مُوسَى مثل حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُجَاهِد قَالَ: " قضى عمر رَضِي الله عَنهُ فِي شبه الْعمد ثَلَاثِينَ حقة، وَثَلَاثِينَ جَذَعَة، وَأَرْبَعين خلفة مَا بَين ثنية إِلَى بازل عامها ".
وَعَن أبي عِيَاض عَن عُثْمَان بن عَفَّان (وَزيد بن ثَابت) رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْمُغَلَّظَة أَرْبَعُونَ جَذَعَة خلفة، وَثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ بَنَات لبون كَذَا قَالَ عَن زيد.(4/370)
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ رَحمَه الله عَن زيد رَضِي الله عَنهُ فِي شبه الْعمد ثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ جَذَعَة، واربعون مَا بَين ثنية إِلَى بازل عامها كلهَا خلفة.
وَعَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة، وَأبي مُوسَى رَضِي الله عَنْهُمَا مثل قَول عمر رَضِي الله عَنهُ سَوَاء.
وَرُوِيَ عَن عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " شبه الْعمد أَثلَاثًا: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ جَذَعَة، وَأَرْبع وَثَلَاثُونَ ثنية إِلَى بازل عامها كلهَا خلفة ".
وَنقل الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ شبه الْعمد مثل قَوْلنَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن عبد الله، وَإِذا اخْتلف الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي ذَلِك هَذَا الِاخْتِلَاف فَقَوْل من يُوَافق قَوْله قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولى. وَالله ولي التَّوْفِيق، وَهُوَ أعلم.
مَسْأَلَة (276) :
دِيَة قتل الْخَطَأ فِي الْحرم، وَالْأَشْهر الْحرم، وَلِذِي الرَّحِم الْمحرم(4/371)
مُغَلّظَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " مُخَفّفَة ".
رُوِيَ عَن ابْن أبي نجيح عَن أَبِيه أَن امْرَأَة قتلت بِمَكَّة، فَقضى فِيهَا عمر بِسِتَّة آلَاف دِيَتهَا، وألفين تَغْلِيظًا للحرم، سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا طَاهِر الزيَادي يَقُول: " إِذا قُلْنَا الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير أصلا الدِّيَة، فيتغلظان فِي الدِّيَة الْمُغَلَّظَة، فَيبلغ بهَا دِيَة وَثلث ".
وَاسْتدلَّ بِقَضَاء عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَجعله مَسْأَلَة خلاف بَيْننَا وَبَين أبي حنيفَة رَحمَه الله، فَسمِعت الْفَقِيه أَبَا الْفَتْح نَاصِر بن الْحسن أيده الله، وَمن حضر من الْفُقَهَاء يبحثون فِي ذَلِك يَقُولُونَ: " لم نسْمع بِهِ إِلَّا من الْأُسْتَاذ ".
وروى الشَّافِعِي (رَحمَه الله) عَن مَالك عَن يحيى عَن عَمْرو بن شُعَيْب " أَن رجلا " حذف ابْنه بِسيف، فَأصَاب سَاقه فبترها فَمَاتَ الْقِصَّة ... "، وفيهَا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَخذ ثَلَاثِينَ حقة، وَثَلَاثِينَ جَذَعَة، وَأَرْبَعين خلفة، ثمَّ قَالَ لِابْنِ أَخ الْمَقْتُول: " خُذْهَا؛ فَإِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ لقَاتل شَيْء ".
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قضى فِيمَن قتل فِي الْحرم، أَو فِي الشَّهْر الْحَرَام، أَو هُوَ محرم بِالدِّيَةِ وَثلث الدِّيَة.(4/372)
روينَا فِيهِ عَن نَافِع عَن ابْن جُبَير أَنه قَالَ: " يُزَاد فِي دِيَة الْمَقْتُول فِي الشَّهْر الْحَرَام أَرْبَعَة آلَاف، وَفِي دِيَة الْمَقْتُول فِي الْحرم ".
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر بن زيد عَن عَطاء: فِي دِيَة الْمحرم وَالَّذِي يقتل فِي الْحرم دِيَة وَثلث.
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد، وَعَطَاء، وَابْن جُبَير فِي الَّذِي يقتل فِي الْحرم دِيَة وَثلث.
وَرُوِيَ عَن إِسْحَاق بن يحيى بن الْوَلِيد بن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِن فِي قَضَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الدِّيَة بِمِائَة من الْإِبِل " فَذكر الحَدِيث، ثمَّ ذكر تَقْوِيم عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ الدِّيَة بِاثْنَيْ عشر ألف دِرْهَم، ثمَّ قَالَ: " وَيُزَاد ثلث الدِّيَة فِي الشَّهْر الْحَرَام "، وَفِيه انْقِطَاع بَين إِسْحَاق وَعبادَة وَلكنه إِذا انْضَمَّ إِلَى رِوَايَة مُجَاهِد عَن عمر فِيمَا اتفقَا عَلَيْهِ من التَّغْلِيظ بالشهر الْحَرَام تأكدت إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى وقويتا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (277) :
وَالْأَصْل فِي الدِّيَة الْإِبِل وَحدهَا وَلَا يجوز الْعُدُول عَنْهَا مَعَ وجودهَا إِلَى غَيرهَا على قَوْله فِي الْجَدِيد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة(4/373)
رَحمَه الله: " الْإِبِل وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير أصُول فِيهَا ".
ذكر أَحَادِيث فِي الدِّيات (لَيْسَ ذكر فِيهَا إِلَّا الْإِبِل) .
ثمَّ روى عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: " كَانَت الدِّيَة على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة بعير، لكل بعير أُوقِيَّة، فَذَلِك أَرْبَعَة آلَاف، فَلَمَّا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ غلت الْإِبِل، ورخصت الْوَرق، فَجعل عمر أوقيتين أوقيتين، فَلذَلِك ثَمَانِيَة آلَاف، ثمَّ لم تزل الْإِبِل تغلو وترخص الْوَرق حَتَّى جعلهَا اثْنَي عشر ألفا من الْوَرق وَألف دِينَار وَمن الْبَقر مِائَتي بقرة، وَمن الشَّاة ألفي شَاة ".
وَعنهُ عَن مَكْحُول وَعَطَاء، قَالُوا: " أدركنا النَّاس على أَن دِيَة الْحر الْمُسلم على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة من الْإِبِل، فقوم عمر رَضِي الله عَنهُ تِلْكَ الدِّيَة على أهل الْقرى ألف دِينَار أَو اثْنَي عشر الف دِرْهَم، ودية الْحرَّة الْمسلمَة إِذا كَانَت من أهل الْقرى خَمْسمِائَة دِينَار، أَو سِتَّة آلَاف دِرْهَم، لَا يُكَلف الْأَعرَابِي الذَّهَب وَالْوَرق ".
وَعَن الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُسلم بن جريج عَن عَمْرو بن(4/374)
شُعَيْب قَالَ: " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقيم الْإِبِل على أهل الْقرى أَرْبَعمِائَة دِينَار، أَو عدلها من الْوَرق، ويقسمها على أَثمَان الْإِبِل، فَإِذا غلت رفع فِي قيمتهَا، وَإِذا هَانَتْ نقص من ثمنهَا على أهل الْقرى الثّمن مَا كَانَ.
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن رَاشد عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده مَوْصُولا.
وروى أَبُو دَاوُد عَن يحي بن حَكِيم عَن عبد الرَّحْمَن عَن حُسَيْن الْمعلم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " كَانَت قيمَة الدِّيَة على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَان مائَة دِينَار، ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم، ودية أهل الْكتاب يَوْمئِذٍ النّصْف من دِيَة الْمُسلمين، قَالَ: فَكَانَ كَذَلِك حَتَّى اسْتخْلف عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِن الْإِبِل قد غلت، قَالَ: ففرضها عمر رَضِي الله عَنهُ على أهل الذَّهَب ألف دِينَار، وعَلى أهل الْوَرق اثْنَي عشر ألفا، وعَلى أهل الْبَقر مِائَتي بقرة، وعَلى أهل الشَّاة ألفي شَاة، وعَلى أهل الْحلَل مِائَتي حلَّة، قَالَ: وَترك دِيَة أهل الذِّمَّة، لم يرفعها فِيمَا رفع من الدِّيَة ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " قَرَأت على سعيد بن يَعْقُوب حَدثنَا أَبُو ثَقيلَة حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ: " ذكر عَطاء عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: فرض رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أهل الْإِبِل مائَة من الْإِبِل، وعَلى أهل الْبَقر مِائَتي بقرة، وعَلى أهل الشَّاة ألفي شَاة، وعَلى أهل الْحلَل مِائَتي حلَّة، وعَلى أهل الطَّعَام شَيْئا لَا أحفظه "، وَالله سُبْحَانَهُ الْمُوفق والملهم للصَّوَاب.(4/375)
مَسْأَلَة (278) :(4/376)
فَإِن جعلنَا الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير أصلين فِي الدِّيَة على القَوْل الثَّانِي فقدره ألف دِينَار، أَو اثْنَا عشر ألف دِرْهَم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " عشرَة آلَاف دِرْهَم ".
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل الدِّيَة اثْنَي عشر ألفا.
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لِأَن أَجْلِس مَعَ قوم يذكرُونَ الله تَعَالَى بعد صَلَاة الصُّبْح إِلَى أَن تطلع الشَّمْس أحب إِلَيّ مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس) ، وَلِأَن أَجْلِس مَعَ قوم يذكرُونَ الله تَعَالَى بعد الْعَصْر إِلَى أَن تغيب الشَّمْس أحب إِلَيّ من أَن أعتق ثَمَانِيَة من ولد إِسْمَاعِيل لِأَن دِيَة كل رجل مِنْهُم اثْنَا عشر ألفا ".(4/377)
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بَيْنَمَا هِيَ مرّة تصلي إِذا بحية قريبَة مِنْهَا، قَالَ: " فَأمرت بهَا فقتلت، فَأتيت فِي منامها: أقتلت رجلا مُسلما جَاءَ يسمع الْقُرْآن؟ فديَة. قَالَ: فأخرجت دِيَته اثْنَي عشر ألف دِرْهَم ".
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِنِّي لأسبح كل يَوْم قدر ديتي اثْنَي عشر ألفا ".
وروينا فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا من أوجه عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قضى بِالدِّيَةِ على أهل الْوَرق اثْنَي عشر ألفا.
وَرُوِيَ عَن الْحسن أَن عليا رَضِي الله عَنْهُمَا قضى بِالدِّيَةِ اثْنَي عشر ألفا.
وَرُوِيَ عَن أبي الزِّنَاد قَالَ: " كَانَ من أدْركْت من فقهائنا الَّذين ينتهى إِلَى قَوْلهم، وعد ابْن الْمسيب، وَعُرْوَة، وَالقَاسِم، وَأَبا بكر، وخارجة، وَعبيد الله، وَسليمَان فِي مشيخة جلة سواهُم من نظرائهم، وَذكر أحكاما مِنْهَا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الدِّيَة على أهل الذَّهَب ألف دِينَار، وعَلى أهل الْوَرق اثْنَا عشر ألف دِرْهَم، وعَلى أهل الْإِبِل مائَة بعير، وعَلى أهل الْبَقر مِائَتَا بقرة، وعَلى أهل الشَّاة ألفا شَاة ". وَفِي رِوَايَة: " ألف شَاة ".(4/378)
قَالَ: " وَقد كَانُوا يَقُولُونَ: يكون على أهل الْحلَل مِائَتَا حلَّة ".
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: بلغنَا عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه فرض على أهل الذَّهَب ألف دِينَار، وعَلى أهل الْوَرق عشرَة آلَاف دِرْهَم، حَدثنَا بذلك أَبُو حنيفَة رَحمَه الله عَن الْهَيْثَم عَن الشّعبِيّ ".
قَالَ مُحَمَّد: " وَقَالَ أهل الْمَدِينَة أَن عمر رَضِي الله عَنهُ فرض الدِّيَة على أهل الْوَرق اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَنحن فِيمَا نظن أعلم بفريضة عمر حِين فرض الدِّيَة دَرَاهِم من أهل الْمَدِينَة؛ لِأَن الدَّرَاهِم على أهل الْعرَاق وَإِنَّمَا كَانَ يُؤَدِّي الدِّيَة دَرَاهِم أهل الْعرَاق، وَقد صدق أهل الْمَدِينَة أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فرض الدِّيَة اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَلكنه فَرضهَا اثْنَي عشر ألف دِرْهَم وزن سِتَّة؛ أخبرنَا الثَّوْريّ عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " كَانَت الدِّيَة الْإِبِل، فَجعلت الْإِبِل الصَّغِير وَالْكَبِير كل بعير مائَة وَعِشْرُونَ درهما وزن سِتَّة، فَذَلِك عشرَة آلَاف دِرْهَم ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " روى عَطاء وَمَكْحُول وَعَمْرو بن شُعَيْب، وَعدد من الحجازين أَن عمر رَضِي الله عَنهُ فرض الدِّيَة اثْنَي(4/379)
عشر ألف دِرْهَم، وَلم أعلم بالحجاز أحدا خَالف فِيهِ، وَلَا عَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَمِمَّنْ قَالَ: الدِّيَة اثْنَا عشر ألف دِرْهَم ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَلَا أعلم أحدا بالحجاز خَالف فِي ذَلِك ".
وَقد رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قضى بِالدِّيَةِ اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَزعم أَنه نزل فِيهِ: {وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله} .
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فَقلت لمُحَمد: أفتقول: إِن الدِّيَة اثْنَا عشر ألف دِرْهَم وزن سِتَّة؟ قَالَ: لَا، قلت: فَمن أَيْن زعمت؟ إِذْ كنت أعلم بِالدِّيَةِ فِيمَا زعمت من أهل الْحجاز؛ لِأَنَّك من أهل الْعرَاق، وَأَنَّك عَن عمر قبلتها؛ لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ قضى فِيهَا بِشَيْء لَا تقضي بِهِ، قَالَ: لم يَكُونُوا يحسبون، قلت: أفتروي شَيْئا تَجْعَلهُ أصلا فِي الحكم، وَأَنت تزْعم أَن من يروي عَنهُ لَا يعرف بِمَا قضى بِهِ؟ " وَبسط الْكَلَام فِي هَذَا، وَفِي الْجَواب عَمَّا احْتج بِهِ مُحَمَّد.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فَادّعى على أهل الْحجاز أَنه أعلم بِالدِّيَةِ مِنْهُم، وَإِنَّمَا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قبل الدِّيَة من الْوَرق، وَلم يَجْعَل لَهُم أَنهم أعلم بِالدِّيَةِ مِنْهُ؛ إِذْ كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ مِنْهُم، فَمن الْحَاكِم مِنْهُ أولى بالمعرفة مِمَّن الدَّرَاهِم مِنْهُ؛ إِذْ كَانَ(4/380)
الحكم إِنَّمَا وَقع، إِنَّمَا بالحاكم ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ (رَحمَه الله) : " رواياته عَن عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا مُنْقَطِعَة، وَالرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى مُنْقَطِعَة، إِلَّا أَن أهل الْحجاز أعرف بِمذهب عمر من غَيرهم، وَقد رويناها مَوْصُولَة فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (279) :(4/381)
(صفحه فارغه)(4/382)
(صفحه فارغه)(4/383)
ودية الذِّمِّيّ ثلث دِيَة الْمُسلم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " مثل دِيَة الْمُسلم ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن فُضَيْل بن عِيَاض عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن ثَابت بن الْحداد عَن ابْن الْمسيب أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قضى فِي دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ بأَرْبعَة آلَاف، وَفِي دِيَة الْمَجُوس(4/384)
بثمان مائَة دِرْهَم، تَابعه قَتَادَة عَن ابْن الْمسيب.
وروى عَن ابْن عُيَيْنَة عَن صَدَقَة بن يسَار قَالَ: " أرسلنَا إِلَى سعيد بن الْمسيب نَسْأَلهُ عَن دِيَة الْمعَاهد، فَقَالَ: قضى فِيهِ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بأَرْبعَة آلَاف، قَالَ: قُلْنَا: فَمن قبله فحصبنا " قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله هم الَّذين سَأَلُوهُ آخرا " وَإِنَّمَا عَنى الشَّافِعِي بقوله هَذَا أَنه رُوِيَ عَنهُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا آخر مَا قضى بِهِ، فالأخذ بِهِ أولى.
وَرُوِيَ عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا فِي دِيَة الْمَجُوس ثَمَانمِائَة دِرْهَم.
وَرُوِيَ عَن أبي صَالح كَاتب اللَّيْث عَن ابْن لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن أبي الْخَيْر عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا دِيَة الْمَجُوس ثَمَانمِائَة دِرْهَم، تفرد بِهِ أَبُو صَالح.(4/385)
وروينا عَن أَيُّوب بن مُوسَى عَن ابْن شهَاب، وَمَكْحُول عَن عَطاء قَالُوا: " أدركنا النَّاس على أَن دِيَة الرجل الْمُسلم الْحر على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة من الْإِبِل ". وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن الدِّيَة كَانَت تخْتَلف حَيْثُ قيدوه بِالرجلِ الْمُسلم الْحر، وَلَو كَانَت دِيَة غَيره كديته لم يكن لتقييدهم فَائِدَة، وَالله أعلم.
وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن إِسْحَاق عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " دِيَة الْمعَاهد نصف دِيَة الْحر ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " يحْتَمل أَن يكون هَذَا إِخْبَارًا عَن دِيَة الْمعَاهد حِين كَانَت قيمَة دِيَة الْمُسلم (ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم، فَلَمَّا غلت الْإِبِل رفع أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر رَضِي الله عَنهُ قيمَة دِيَة الْمُسلم "، وَلم يرفع دِيَة الْمعَاهد فِيمَا رفع علما مِنْهُ بِأَنَّهَا فِي أهل الذِّمَّة تَوْقِيت.
وَالَّذِي يدل على هَذَا مَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض على كل مُسلم حر قتل رجلا من أهل الْكتاب أَرْبَعَة آلَاف.(4/386)
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم رَحمَه الله أحكاما رَوَاهَا عَمْرو بن شُعَيْب هم - يَعْنِي الْعِرَاقِيّين - لَا يَقُولُونَ بهَا، وَنحن نقُول بهَا، فَذكر مِنْهَا مَا رَوَاهُ فِي عقل أهل الْكتاب أَنه نصف عقل الْمُسلم، فَفِيهِ إِشَارَة أَنه كَانَ يَقُول بذلك، ثمَّ رغب عَنهُ، وَالله أعلم، لما ذكرنَا من الِاحْتِمَال، وَالله أعلم.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن الزُّهْرِيّ عَن عَليّ بن حُسَيْن عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن أُسَامَة بن زيد رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل دِيَة الْمعَاهد كدية الْمُسلم "، قَالَ عَليّ (بن عمر: " عُثْمَان هُوَ الوقاصي مَتْرُوك الحَدِيث ".
وَرُوِيَ عَن أبي سعد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَة الْعَامِرِيين دِيَة الْحر الْمُسلم، وَكَانَ لَهما عهد ". أَبُو سعد هَذَا سعيد بن الْمَرْزُبَان الْبَقَّال ضَعِيف الحَدِيث، وَلَيْسَ هَذَا بِثَابِت.
وروى أَبُو كرز عبد الله بن عبد الْملك الفِهري عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنه ودى ذِمِّيا دِيَة مُسلم ".(4/387)
قَالَ عَليّ: " أَبُو كرز هَذَا مَتْرُوك الحَدِيث، وَلم يروه عَن نَافِع غَيره ".
وروى بركَة بن مُحَمَّد الْحلَبِي بِسَنَد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن الدِّيَة كَانَت على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي رَضِي الله عَنْهُم دِيَة الْمُسلم واليهودي وَالنَّصْرَانِيّ سَوَاء، فَلَمَّا اسْتخْلف مُعَاوِيَة صَار دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ على النّصْف من دِيَة الْمُسلم، فَلَمَّا اسْتخْلف عمر بن عبد الْعَزِيز رد الْأَمر إِلَى الْقَضَاء الأول. هَذَا بَاطِل بِهَذَا الْإِسْنَاد، فبركة بن مُحَمَّد كَذَّاب.
وروى الْحسن بن عمَارَة عَن الحكم عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " ودى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلَيْنِ من الْمُشْركين وَكَانَا مِنْهُ فِي عهد دِيَة الحرين الْمُسلمين ". وَابْن عمَارَة مَتْرُوك الحَدِيث لَا يحْتَج بِهِ.
وَرُوِيَ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " من كَانَ لَهُ عهد أَو ذمَّة فديته دِيَة مُسلم "، قُلْنَا: " هَذَا مُنْقَطع ".
وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ بقريب من معنى مَا روى بركَة بن مُحَمَّد،(4/388)
ورده الشَّافِعِي (رَحمَه الله) بِكَوْنِهِ مُرْسلا، وَبِأَن الزُّهْرِيّ قَبِيح الْمَرَاسِيل، وَأَنا روينَا عَن عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا مَا هُوَ أصح مِنْهُ، وَالله أعلم.
قيل للشَّافِعِيّ (رَحمَه الله) : " سعيد بن الْمسيب عَن عمر رَضِي الله عَنهُ مُنْقَطع " قَالَ: " إِنَّه يزْعم أَنه حفظ عَنهُ، ثمَّ تزعمونه أَنْتُم خَاصَّة وَهُوَ عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ غير مُنْقَطع ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَضِي الله عَنهُ: أَظُنهُ أَرَادَ مَا أخبرنَا، وَذكر إِسْنَادًا عَن إِيَاس بن مُعَاوِيَة قَالَ: " قَالَ سعيد بن الْمسيب مِمَّن أَنْت؟ قلت: من مزينة قَالَ: إِنِّي لأذكر يَوْم نعى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ النُّعْمَان بن المقرن الْمُزنِيّ على الْمِنْبَر ". روينَا عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَن ابْن الْمسيب كَانَ يُسمى راوية عمر؛ لِأَنَّهُ كَانَ أحفظ النَّاس لأحكامه.
وَقَالَ مَالك: " بَلغنِي أَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ يُرْسل إِلَى ابْن الْمسيب يسْأَله عَن بعض شَأْن عمر وَأمره، رَضِي الله عَنهُ " وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (280) :
وَقِيمَة العَبْد على الْقَاتِل، لَا تحملهَا الْعَاقِلَة فِي أحد(4/389)
الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ ابو حنيفَة رَحمَه الله: " تحملهَا الْعَاقِلَة ".
رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ الْعمد وَالْعَبْد وَالصُّلْح وَالِاعْتِرَاف لَا تعقله الْعَاقِلَة.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب أَنه قَالَ: " عقل العَبْد فِي ثمنه كجراح الْحر فِي دِيَته ".
قَالَ ابْن شهَاب: " وَكَانَ رجال سواهُ. يَقُولُونَ: يقوم سلْعَة (إِذا قوم سلْعَة كَانَ كَغَيْرِهِ من السّلع، لَا شَيْء على الْعَاقِلَة، وَإِذا كَانَ كَالْحرِّ فِي جراحه لَا يكون مثله فِي تحمل الْعَاقِلَة، وَإِذن لَا يُقَاس على الدِّيَة مَا يكون قيمَة كَسَائِر المتقومات) ، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (281) :
وَأَبُو الْقَاتِل وجده وَابْنه وَابْن ابْنه لَيْسُوا من جملَة الْعَاقِلَة الَّذين يتحملون الدِّيَة، وَكَذَلِكَ الْقَاتِل لَا يحمل شَيْئا من دِيَة قتيلة خطأ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّهُم من جُمْلَتهمْ، وَعَلَيْهِم مَا على الْإِخْوَة وَغَيرهم ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جَنِين امْرَأَة من بني لحيان سقط مَيتا بغرة عبد أَو(4/390)
وليدة. ثمَّ إِن الْمَرْأَة الَّتِي قضى عَلَيْهَا بالغرة توفيت، فَقضى رَسُول الله أَن مِيرَاثهَا لبنيها وَزوجهَا، وَأَن الْعقل على عصبتها ".
وَعند أبي دَاوُد عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن امْرَأتَيْنِ من هُذَيْل قتلت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، وَلكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا زوج وَولد، قَالَ: " فَجعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَة الْمَقْتُول على عَاقِلَة القاتلة، وبرأ زَوجهَا، قَالَ: فَقَالَ عَاقِلَة الْمَقْتُول مِيرَاثهَا لنا. قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا مِيرَاثهَا لزَوجهَا وَوَلدهَا ".
وَعند مُسلم عَن الْمُغيرَة أَن امْرَأَة قتلت ضَرَّتهَا بعمود منسطاطا، فَأتي فِيهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقضى فِيهِ على عاقلتها بِالدِّيَةِ، وَكَانَت حَامِلا فَقضى فِي الْجَنِين بغرة، فَقَالَ بعض عصبتها: أندي من لَا طعم " الحَدِيث.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَلم أعلم مُخَالفا فِي أَن الْعَاقِلَة الْعصبَة، وهم الْقَرَابَة من قبل الْأَب ".
قَالَ رَحمَه الله: " وَقد قضى عمر على عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا بِأَن يعقل عَن موَالِي صَفِيَّة، وَقضى للزبير بميراثهم؛ لِأَنَّهُ ابْنهَا ".
وروى أَبُو الزِّنَاد عَن فُقَهَاء التَّابِعين من أهل الْمَدِينَة ابْن الْمسيب وَغَيره كَانُوا يَقُولُونَ: " إِذا ولدت الْمَرْأَة فِي غير قَومهَا فبنوها يرثونها،(4/391)
وقومها يعْقلُونَ عَنْهَا، ومولاها بِتِلْكَ الْمنزلَة "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (282) :
وَمن فِي الدِّيوَان وَمن لَيْسَ فِيهِ من الْعَاقِلَة سَوَاء فِي تحمل الْعقل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يخْتَص بحملها من فِي الدِّيوَان من الْعَاقِلَة) ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْعَاقِلَة، وَلَا ديوَان حَتَّى كَانَ الدِّيوَان فِي زمَان عمر رَضِي الله عَنهُ حِين كثر المَال، وَقد مضى الحَدِيث فِي قَضَاء رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا أول من دون الدَّوَاوِين عمر، رَضِي الله عَنهُ.
مَسْأَلَة (283) :
والبداية فِي الْقسَامَة مَعَ اللوث بأيمان المدعين. وَقَالَ أَبُو(4/392)
حنيفَة رَحمَه الله: " من قبل الْمُدعى عَلَيْهِم، لَا من قبل المدعين ".
لنا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سهل بن أبي حثْمَة رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث حويصة ومحيصة، وَفِيه: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُم حِين أنْكرت يهود قتل عبد الله بن سهل: تحلفون وتستحقون دم صَاحبكُم؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَيحلف يهود، قَالُوا: لَيْسُوا بمسلمين، فوداه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عِنْده ".
وَفِي رِوَايَة عِنْدهمَا عَنهُ، وَعَن رَافع بن خديج رَضِي الله عَنهُ الْقِصَّة فِي قَتله، قَالَ: " فتكلما فِي أَمر صَاحبهمَا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استحقوا صَاحبكُم، أَو قَالَ: قتيلكم بأيمان خمسين مِنْكُم، قَالُوا: أَمر لم نشهده، فَقَالَ: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين مِنْهُم، قَالُوا: قوم كفار، فوداه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قبله ".
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عِنْدهمَا أَيْضا عَن سهل رَضِي الله عَنهُ قَالَ يحيى: " وحسبته قَالَ: وَعَن رَافع أَنَّهُمَا قَالَا "، فَذكر قصَّة فِي قَتله إِلَى أَن قَالَ: " فَذكرُوا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مقتل عبد الله، فَقَالَ لَهُم: تحلفون خمسين يَمِينا فتستحقون صَاحبكُم أَو قاتلكم؟ قَالُوا: كَيفَ نحلف وَلم نشْهد؟ قَالَ: فتبرئكم الْيَهُود بِخَمْسِينَ يَمِينا، قَالُوا: وَكَيف نقبل أَيْمَان قوم كفار؟ فَلَمَّا رأى ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعْطى عقله ".(4/393)
وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن ذكر الْخمسين يرجع إِلَى الْأَيْمَان، لَا إِلَى عدد الَّذين يحلفُونَ. وَهَكَذَا رِوَايَة الْجَمَاعَة عَن يحيى بن سعيد.
كَذَلِك رَوَاهُ بشر بن الْمفضل وَسليمَان بن بِلَال وَعبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن يحيى بن سعيد زَاد بَعضهم عَن عبد الْوَهَّاب: " وتستحقون دم قاتلكم ". وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد.
وَرَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى فَلم يتقن إتقان هَؤُلَاءِ فِي الْبدَاءَة بأيمان الْأَنْصَار، وَالْجَمَاعَة بِالْحِفْظِ أولى؛ وَلذَلِك أحَال مُسلم رِوَايَة سُفْيَان على رِوَايَة الْجَمَاعَة وَلم يسق مَتنه، وَكَذَلِكَ لم يسق متن رِوَايَة سعيد بن عبيد الطَّائِي؛ لمُخَالفَته رِوَايَة يحيى، وَقَالَ: " إِنَّهَا غلط، وَيحيى احفظ مِنْهُ ".
وساقها البُخَارِيّ، وفيهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُم: " تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ على من قتل؟ قَالُوا: مَا لنا بَيِّنَة، قَالَ: فَيحلفُونَ لكم "، وَلم يسم أحدا مِنْهُم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَهَذَا يحْتَمل أَن لَا يُخَالف رِوَايَة يحيى، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَيِّنَةِ إِيمَان المدعين مَعَ اللوث، كَمَا فسره(4/394)
يحيى بن سعيد، أَو طالبهم بِالْبَيِّنَةِ كَمَا فِي هَذِه الرِّوَايَة، فَلَمَّا لم يكن عِنْدهم بَيِّنَة عرض عَلَيْهِم الْأَيْمَان كَمَا فِي رِوَايَة يحيى بن سعيد، فَلَمَّا لم يحلفوا ردهَا على الْيَهُود كَمَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا وَالله أعلم يُؤَكد كَذَلِك مَا أخبرنَا ".
وَذكر خَبرا مُرْسلا عَن سُلَيْمَان بن يسَار فِيهِ: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طالبهم بِالْبَيِّنَةِ، فَلم يكن لَهُم بَيِّنَة، فَقَالَ: استحقوا بِخَمْسِينَ قسَامَة "، وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب أَيْضا بِمَعْنى ذَلِك.
وروى ابْن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّحْمَن بن بجيد قَالَ: " وَالله مَا هَكَذَا كَانَ الشَّأْن، وَلَكِن سهلا أوهم مَا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " احلفوا على مَا لَا علم لكم بِهِ ". وَلَيْسَ هَذَا القَوْل بمقبول من قَائِله؛ فَإِن سهلا قصّ الْقِصَّة من أَولهَا إِلَى آخرهَا، وَتَابعه(4/395)
على ذَلِك رَافع ابْن خديج. وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " لَا اعْلَم ابْن بجيد سمع من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وروى أَبُو دَاوُد خَبرا مُنْقَطِعًا عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة وَسليمَان بن يسَار، وَرِجَال من الْأَنْصَار أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ للْيَهُود وَبَدَأَ بهم: " يحلف مِنْكُم خَمْسُونَ رجلا، فَأَبَوا " وخولف فِيهِ.
فَرَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح عَنهُ عَنْهُمَا عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْأَنْصَار أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقرّ الْقسَامَة على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقضى بهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين نَاس من الْأَنْصَار فِي قَتِيل ادعوهُ على الْيَهُود. وَرُوِيَ بِأَلْفَاظ أخر، فَالرِّوَايَة عَنهُ مُخْتَلفَة مِنْهَا الْمُنْقَطع، والمجمل، والمفسر، وَحَدِيث سهل صَحِيح مُتَّصِل مُفَسّر،(4/396)
فالأخذ بِهِ أولى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ رَحمَه الله أَن قَتِيلا بَين وَادعَة وشاكر، فقاسوا مَا بَين القريتين، فوجدوه أقرب إِلَى وَادعَة، فحلفهم عمر خمسين يَمِينا مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا علمنَا لَهُ قَاتلا، وغرمهم الدِّيَة.
وَفِي رِوَايَة أَن الْحَارِث بن الأزمع قَالَ: " لَا أَمْوَالنَا دفعت عَن أَيْمَاننَا، وَلَا أَيْمَاننَا دفعت عَن أَمْوَالنَا "، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: " كَذَلِك الْحق ". وَهَذَا مُرْسل، وَهُوَ الْمَحْفُوظ.
وَرُوِيَ عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق: " أَن قَتِيلا وجد بَين قريتين ... . "، ومجالد غير مُحْتَج بِهِ.(4/397)
وَرُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث بن الأزمع قَالَ: " قتل قَتِيل بِالْيمن فذكروه "، وَلم يسْندهُ.
وَعنهُ أَن قَتِيلا وجد بَين وَادعَة وخيوان، قَالَ شُعْبَة: قلت لأبي إِسْحَاق: من حَدثَك؟ : قَالَ: " مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن الْحَارِث "، فَعَاد الحَدِيث إِلَى مجَالد ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " سَافَرت إِلَى خيوان ووادعة كَذَا وَكَذَا سفرة أسألهم عَن حكم عمر فِي الْقَتِيل، وأحكي لَهُم مَا رُوِيَ عَنهُ، فَقَالُوا: إِن هَذَا الشَّيْء مَا كَانَ ببلدنا "، قَالَ: " وَالْعرب أحفظ شَيْء لأمر كَانَ ".
وَرُوِيَ عَن عمر بن صبيح من حَدِيث ابْن الْمسيب أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما حج غودر رجل من الْمُسلمين قَتِيلا ببني وَادعَة، فَذكر الْقِصَّة بِمَعْنَاهُ وَزِيَادَة، وَفِيه: " أَنه أَخذ دِيَته دَنَانِير دِيَة وَثلث دِيَة ". قَالَ عَليّ: " عمر ابْن صبيح مَتْرُوك الحَدِيث ".
وروى أَبُو إِسْرَائِيل الْملَائي عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن أبي سعيد أَن قَتِيلا وجد بَين حيين، فَذكر الحَدِيث مَرْفُوعا مَعْنَاهُ أَن دِيَته ألقيت إِلَى أقربهما إِلَيْهِ بشبر، وعطية والملائي غير مُحْتَج بهما.(4/398)
وروى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " وجد رجل من الْأَنْصَار قَتِيلا فِي دالية نَاس من الْيَهُود "، فَذكر الحَدِيث مَرْفُوعا مَعْنَاهُ أَن الدِّيَة جعلت عَلَيْهِم بعد يَمِين خمسين مِنْهُم، والكلبي مَتْرُوك، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (284) :
قتل الْعمد يُوجب الْكَفَّارَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يُوجب ".
رُوِيَ عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نفر من بني سليم، فَقَالُوا: إِن صاحبا لنا أوجب، قَالَ: فليعتق رَقَبَة يقد الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا مِنْهُ من النَّار ".
وَفِي رِوَايَة: " فِي صَاحب لنا قد أوجب النَّار بِالْقَتْلِ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (285) :
وَنَفس السحر لَيْسَ بِكفْر، وَلَا يقتل مَا لم يقتل سحره عمدا.(4/399)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " نفس السحر كفر يقتل بِهِ، وَإِن لم يقتل ".
وَلنَا حَدِيث: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله " الحَدِيث
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِمَا عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يحل دم امْرِئ مُسلم يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: الثّيّب الزَّانِي، وَالنَّفس بِالنَّفسِ، والتارك لدينِهِ المفارق للْجَمَاعَة ".
وَفِيهِمَا حَدِيث أُسَامَة رَضِي الله عَنهُ بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّة إِلَى الحرقات، (فغدروا بِنَا) ، فَهَرَبُوا، فَأَدْرَكنَا رجلا مِنْهُم، فَلَمَّا غشيناه قَالَ: " لَا إِلَه إِلَّا الله، فضربناه حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَعرض فِي نَفسِي شَيْء من ذَلِك، فَذَكرته لرَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: من لَك ب " لَا إِلَه إِلَّا الله " يَوْم الْقِيَامَة؟ ! فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا قَالَهَا مَخَافَة السِّلَاح وَالْقَتْل، قَالَ / أَفلا شققت عَن قلبه حَتَّى تعلم قَالَهَا من أجل ذَلِك أم لَا؟ من لَك ب " لَا إِلَه إِلَّا الله " يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُول، حَتَّى وددت أَنِّي لم أسلم إِلَّا يَوْمئِذٍ ".(4/400)
وَفِي هَذَا الْخَبَر دَلِيل على أَن السَّاحر لَا يقتل بِنَفس السحر، وَأَن تَوْبَته مَقْبُولَة خلافًا لما زَعَمُوا أَن تَوْبَته غير مَقْبُولَة.
وَمَا رُوِيَ عَن حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قتلت جَارِيَة لَهَا سحرتها، فَمَحْمُول على سَاحِرَة جمعت الْكفْر إِلَى سحرها وَهُوَ دَلِيل على قتل الْمُرْتَدَّة، وَالله أعلم.
(وَأما حَدِيث بجالة فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن كتاب عمر رَضِي الله عَنهُ اقْتُلُوا كل سَاحر وساحرة) ، (فَقَالَ) الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " وَأمر عمر رَضِي الله عَنهُ أَن يقتل السحار وَالله أعلم إِن كَانَ السحر كَمَا وَصفنَا شركا، وَكَذَلِكَ أَمر حَفْصَة، رَضِي الله عَنْهَا. وَأما بيع عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الْجَارِيَة الَّتِي سحرتها، وَلم تَأمر بقتلها فَيُشبه أَن يكون لم تعرف مَا السحر فباعتها؛ لِأَن لَهَا بيعهَا عندنَا، وَإِن لم(4/401)
تسحرها، وَلَو أقرَّت عِنْد عَائِشَة أَن السحر شرك مَا تركت قَتلهَا إِن لم تتب، أَو دفعتها إِلَى الإِمَام ليقتلها، إِن شَاءَ الله ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أحد هَذِه الْمعَانِي، وَهُوَ حَدِيثهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طب ... الحَدِيث "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (286) :
وَإِذا انهزم الْبَاغِي حَقِيقَة لم يجز اتِّبَاع مدبرهم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِن كَانَ لَهُم فِئَة يرجعُونَ إِلَيْهَا جَازَ اتِّبَاع مدبرهم ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ: دخلت على مَرْوَان بن الحكم فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحدا أكْرم عَليّ من أَبِيك، مَا هُوَ إِلَّا أَن وليناه يَوْم الْجمل، فَنَادَى مناديه: لَا يقتل مُدبر، وَلَا يذفف على جريح ".(4/402)
وروى عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " شهِدت صفّين، فَكَانُوا لَا يجيزون على جريح، وَلَا يقتلُون موليا، وَلَا يسلبون قَتِيلا "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (287) :
لَا يحل قتل أَسِير أهل الْبَغي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يحل مَا دَامَ لَهُم فِئَة يرجعُونَ إِلَيْهَا، روى فِي ذَلِك حَدِيثا مُسْندًا بِإِسْنَاد ضَعِيف.
رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا فِيمَن بغى من هَذِه الْأمة لَا يتبع مدبرهم، وَلَا يقتل أسيرهم، وَلَا يذفف على جريحهم.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن أبي فَاخِتَة أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أُتِي بأسير يَوْم صفّين، فَقَالَ: " لَا تقتلني(4/403)
صبرا "، فَقَالَ عَليّ: " إِنِّي لَا أَقْتلك صبرا، إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين "، فخلى سَبيله.
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ: " وَالْحَرب يَوْم صفّين قَائِمَة، وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ يُقَاتل جادا فِي أَيَّامه كلهَا منتصفا أَو مستعليا، وَعلي رَضِي الله عَنهُ يَقُول لأسير من أَصْحَاب مُعَاوِيَة: لَا أَقْتلك صبرا، إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين، وَأَنت تَأمر بقتْله "، يَقُول ذَلِك للَّذي كَلمه فِي الْمَسْأَلَة وعنى بقوله " منتصفا أَو مستعليا " أَي يُسَاوِيه مرّة فِي الْغَلَبَة فِي الْحَرْب، ويعلوه أُخْرَى، وَقيل: منتصفا عِنْد نَفسه فِي طلب دم عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ومستعليا عِنْد غَيره لما علم من بَرَاءَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ من قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا، وَالْأول أصح، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (288) :
وَيقتل الْمُرْتَد الْمصر على ردته، وَلَا يهمل أَكثر من أَن يناظر، ويكشف عَمَّا اشْتبهَ عَلَيْهِ على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يُمْهل ثَلَاثَة أَيَّام ".
فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ فِي بعث(4/404)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه إِلَى الْيمن، وَفِيه: " ثمَّ أتبعه معَاذًا، رَضِي الله عَنهُ، فَلَمَّا قدم قَالَ لَهُ: " إنزل وَأُلْقِي لَهُ وسَادَة، فَإِذا عِنْده رجل موثق قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: " كَانَ يَهُودِيّا، فَأسلم ثمَّ رَاجع دينه دين السوء، فتهود قَالَ: لَا أَجْلِس حَتَّى يقتل قَضَاء الله وَرَسُوله، قَالَ: نعم، إجلس، ثَلَاث مَرَّات، فَأمر بِهِ فَقتل ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " وَاحْتج لقَوْله الْجَدِيد بالثابت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: كفر بعد إِيمَان "، وَلم يَأْمر بأناة ".
وَضعف رَحمَه الله تَعَالَى مَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: " الَّذِي رُوِيَ عَن عمر: " لَو حبستموه ثَلَاثًا " لَيْسَ بِثَابِت؛ لِأَنَّهُ لَا نعلمهُ مُتَّصِلا، وَإِن كَانَ ثَابتا كَانَ لم يَجْعَل على قَاتله قبل ثَلَاث شَيْئا، وَالله أعلم.(4/405)
وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن الْعَلَاء عَن حَفْص عَن الشَّيْبَانِيّ عَن أبي بردة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " فَأتي أَبُو مُوسَى بِرَجُل ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام فَدَعَاهُ عشْرين لَيْلَة أَو قَرِيبا مِنْهَا، فجَاء معَاذ فَدَعَاهُ، فَأبى فَضرب عُنُقه ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " رَوَاهُ عبد الْملك بن عُمَيْر عَن أبي بردة رَضِي الله عَنهُ لم يذكر الاستتابة. وَرَوَاهُ ابْن فُضَيْل عَن الشَّيْبَانِيّ عَن سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه عَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ لم يذكر الاستتابة، حَدثنَا ابْن معَاذ حَدثنَا أبي حَدثنَا المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم بِهَذِهِ الصّفة، قَالَ: " فَلم ينزل حَتَّى ضرب عُنُقه وَمَا استتابه "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (289) :
الْمُرْتَدَّة تقتل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تقتل ".
لنا عُمُوم الْخَبَر الصَّحِيح " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا خبر فِي أعمى(4/406)
كَانَت لَهُ أم ولد تَشْتُم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَتلهَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلا اشْهَدُوا أَن دَمهَا هدر ".
وَرُوِيَ أَن امْرَأَة سبت النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَتلهَا خَالِد بن الْوَلِيد.
وَقَالَ ابْن عمر، وَالزهْرِيّ، وَإِبْرَاهِيم: " تقتل الْمُرْتَدَّة ".
وَرُوِيَ من وَجه لَيْسَ بِالْقَوِيّ من حَدِيث ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر خبر مَرْفُوع فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ أَيْضا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَقد روى بَعضهم عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَنه قتل نسْوَة ارتددن عَن الْإِسْلَام، فَكيف لم تصر إِلَيْهِ. قَالَ ابْن وهب: قَالَ اللَّيْث: وَذَلِكَ الَّذِي سمعنَا وَهُوَ رَأْي، يَعْنِي فِي قتل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ مرتدة، قَالَ: " وَقَالَ لي مَالك مثل ذَلِك ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن امْرَأَة وجدت(4/407)
فِي بعض مغازي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مقتولة، فَأنْكر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل النِّسَاء وَالصبيان ". وَهَذَا إِنَّمَا ورد فِي الْكَافِرَة الْأَصْلِيَّة.
وَرُوِيَ عَن سُفْيَان عَن أبي حنيفَة عَن عَاصِم عَن أبي رزين عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْمُرْتَدَّة قَالَ: " تحبس وَلَا تقتل ".
رُوِيَ عَن ابْن الْمَدِينِيّ عَن ابْن سعيد سَأَلت سُفْيَان عَن حَدِيث عَاصِم قَول ابْن عَبَّاس فِي الْمُرْتَدَّة فَأنكرهُ، وَقَالَ: " لَيْسَ من حَدِيثي ".
وَعَن ابْن حَنْبَل عَن ابْن مهْدي سَأَلت سُفْيَان عَن حَدِيث عَاصِم فِي الْمُرْتَدَّة، فَقَالَ: " قَالَ ابْن معِين: كَانَ الثَّوْريّ يعيب على أبي حنيفَة حَدِيثا كَانَ يرويهِ عَن عَاصِم عَن أبي رزين ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَقد حدث بِهِ سُفْيَان بِالْيمن، والْحَدِيث كَانَ يرويهِ أَبُو حنيفَة عَن عَاصِم عَن أبي رزين) عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة إِذا ارْتَدَّت، فَقَالَ: " تحبس وَلَا تقتل ".
وَقد رَوَاهُ أَبُو مَالك النَّخعِيّ عَن عَاصِم بن أبي النجُود مثل رِوَايَة أبي حنيفَة عَنهُ إِلَّا أَنه ضَعِيف الحَدِيث.
وَرَوَاهُ عبد الله بن عِيسَى عَن عَفَّان عَن شُعْبَة عَن عَاصِم مَرْفُوعا مَوْصُولا: " لَا تقتل الْمَرْأَة إِذا ارْتَدَّت "، قَالَ عَليّ: " عبد الله كَذَّاب(4/408)
يضع الحَدِيث، وَهَذَا لَا يَصح عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا رَوَاهُ شُعْبَة ".
وَرُوِيَ عَن جلاس عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ ": الْمُرْتَدَّة تستأنى وَلَا تقتل ". قَالَ لي شُعْبَة: " قَالَ لي أَيُّوب: لَا ترو عَن خلاس شَيْئا ". قَالَ عَليّ بن عمر: " خلاس عَن عَليّ لَا يحْتَج بِهِ لضَعْفه "، وَقد رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَافِهِ.
وروى ابْن عدي عَن عَليّ بن الْعَبَّاس عَن عمر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن حَفْص بن سُلَيْمَان عَن مُوسَى بن أبي كثير عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ " أَن امْرَأَة ارْتَدَّت على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي: فَلم تقتل "، ثمَّ قَالَ ابْن عدي: " هَذَا حَدِيث مُنكر بِهَذَا الْإِسْنَاد "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (290) :
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " لَا يسبى للمرتدين ذُرِّيَّة امْتَنعُوا أَو لم يمتنعوا، أَو لَحِقُوا بدار الْحَرْب، أَو أَقَامُوا؛ لِأَن حُرْمَة الْإِسْلَام قد ثبتَتْ للذرية بِحكم الْإِسْلَام، وَلَا ذَنْب لَهُم فِي تَبْدِيل آبَائِهِم ".
وَحكى فِي رِوَايَة أبي عبد الرَّحْمَن الْبَغْدَادِيّ عَنهُ عَن بعض(4/409)
الْعِرَاقِيّين أَن حكمهم حكم أهل الْأَوْثَان إِذا حَاربُوا وَلَحِقُوا بدار من دور الْمُشْركين.
وَذكر الشَّافِعِي رَحمَه الله احتجاجهم بِمَا فعل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي بني نَاجِية حِين قَاتلهم، والْحَدِيث كَمَا رُوِيَ أَنهم كَانُوا ثَلَاث فرق، فرقة قَالُوا: " كُنَّا نَصَارَى فأسلمنا فثبتنا على إسْلَامنَا، وَقَالَت الْأُخْرَى: " نَحن قوم كُنَّا نَصَارَى، يَعْنِي فثبتنا على نصرانيتنا "، وَقَالَت الْأُخْرَى: " نَحن كُنَّا نَصَارَى، فأسلمنا فرجعنا، فَلم نر دينا أفضل من ديننَا فتنصرنا "، فَقَالُوا لَهُم: " أَسْلمُوا " فَأَبَوا، فَقَالَ الْأَمِير لأَصْحَابه " إِذا مسحت رَأْسِي ثَلَاث مَرَّات فشدوا عَلَيْهِم " فَفَعَلُوا، فَقتلُوا الْمُقَاتلَة وَسبوا الذَّرَارِي، وَجِيء بِالذَّرَارِيِّ إِلَى عَليّ، رَضِي الله عَنهُ ".
أجَاب الشَّافِعِي عَنهُ فَقَالَ: " قَاتل من لم يزل على النَّصْرَانِيَّة وَمن ارْتَدَّ، فقد يجوز أَن يكون سبى من لم يكن ارْتَدَّ، وَقد كَانَت الرِّدَّة فِي عهد أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، فَلم يبلغنَا أَن أَبَا بكر خمس شَيْئا من ذَلِك، يَعْنِي الذَّرَارِي "، وَالله أعلم.(4/410)
كتاب الْحُدُود
وَمن كتاب الْحُدُود.
مَسْأَلَة (291) :(4/411)
الْإِسْلَام لَيْسَ بِشَرْط فِي وجوب الرَّجْم فِي الزِّنَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " هُوَ شَرط ".
دليلنا من الْخَبَر حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قصَّة(4/412)
الْيَهُودِيّ واليهودية اللَّذين زَنَيَا، فَأمر بهما رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرُجِمَا، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند مُسلم قصَّة أُخْرَى عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِي الله عَنهُ فِي يَهُودِيّ زنى، وفيهَا فَأمر يَعْنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ فرجم.
وَعِنْده أَيْضا عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا رجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلا من أسلم، ورجلا من الْيَهُود وَامْرَأَة.
وَرُوِيَ عَن جَابر بن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجم يَهُودِيّا وَيَهُودِيَّة.
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قصَّة لَهُم، وفيهَا: " وَقد أحصنا ".
وَكَذَلِكَ فِي قصَّة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ لِلْيَهُودِيَّةِ، وفيهَا: " قد أحصن ".
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " آيتان نسختا من هَذِه(4/413)
السُّورَة - يَعْنِي الْمَائِدَة - آيَة القلائد، وَقَوله: {فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم} . قَالَ: " وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخَيّرا، ثمَّ نزلت: {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم} فَأمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يحكم بَينهم بِمَا فِي كتَابنَا ".
وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا حكم عَلَيْهِمَا بِالرَّجمِ بِحكم الْإِسْلَام، وَأَنه لم يَجْعَل الْإِسْلَام من شَرَائِط الْإِحْصَان خلاف قَول من زعم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا حكم عَلَيْهِم بحكمهم.
وروى عَن عفيف بن سَالم عَن الثَّوْريّ عَن ابْن عقبَة عَن نَافِع(4/414)
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا لَا يحصن الْمُشرك بِاللَّه شَيْئا، قَالَ عَليّ بن عمر: " وهم عفيف فِي رَفعه، وَالصَّوَاب أَنه مَوْقُوف ".
ثمَّ رَوَاهُ عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ مَوْقُوفا على ابْن عمر من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن ".
وَقَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي: " وَرُوِيَ عَن أَحْمد بن أبي نَافِع عَن معافى بن عمرَان عَن الثَّوْريّ، وَهُوَ مُنكر من حَدِيث الثَّوْريّ عَن مُوسَى بن عقبَة بِهَذَا الْإِسْنَاد ".
وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن عبيد الله عَن نَافِع مُسْندًا، وَيُقَال: " إِنَّه رَجَعَ عَنهُ ".
وَرُوِيَ من حَدِيث جُورِيَةُ عَن نَافِع مَوْقُوفا.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَصْحَاب نَافِع عَن نَافِع، وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِحْصَان العفائف فِي حد الْقَذْف دون الْإِحْصَان الَّذِي هُوَ من شَرَائِط الرَّجْم. فقد روى رجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْيَهُودِيين، وَهُوَ لَا يُخَالف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا روى عَنهُ.(4/415)
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن عَليّ بن طَلْحَة عَن كَعْب بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَنه أَرَادَ أَن يتَزَوَّج يَهُودِيَّة أَو نَصْرَانِيَّة، فَسَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك فَنَهَاهُ، وَقَالَ: " إِنَّهَا لَا تحصنك "، قَالَ عَليّ: " أَبُو بكر بن أبي مَرْيَم ضَعِيف، وَعلي بن أبي طَلْحَة لم يدْرك كَعْبًا، وَرَوَاهُ بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن بعض مشائخه المجهولين ".
أخبرنَا أَبُو سبأ عتبَة بن تَمِيم عَن عَليّ عَن كَعْب. وروى إِبْرَاهِيم بن أبي حَيَّة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن الله عز وَجل أخر حد المماليك وَأهل الذِّمَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". تفرد بِهِ إِبْرَاهِيم، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، فَإِن صَحَّ فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ مَا يجب لَهُم من الْحَد عَمَّن قذفهم، فبالإجماع يحد الْمَمْلُوك فِيمَا تجب بِهِ الْحُدُود، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة (292) :)
وَلَيْسَ على شُهُود الزِّنَا أَن يحضروا رجم الْمَشْهُود عَلَيْهِ، وَلَا(4/416)
على الإِمَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " عَلَيْهِم أَن يحضروا، ويبتدئوا بِالرَّجمِ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - برجم مَاعِز، وَلم يحضرهُ، وَأمر أنيسا أَن يَأْتِي امْرَأَة، فَإِن اعْترفت رجمهما "، وَلم يقل أعلمني لأحضرها، وَلم أعلمهُ أَمر برجم أحد، فحضره، وَلَو كَانَ حُضُور الإِمَام حَقًا حضر رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَقد أَمر عمر رَضِي الله عَنهُ أَبَا وَاقد اللَّيْثِيّ أَن يَأْتِي امْرَأَة، فَإِن اعْترفت رَجمهَا، وَلم يقل أعلمني أحضرها. وَلَقَد أَمر عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ برجم امْرَأَة، وَمَا حضرها ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ رَحمَه الله عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة امْرَأَة فجرت أَنه جلدهَا، ثمَّ رَجمهَا، وَأَنه قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نعى عَلَيْهَا وَلَدهَا، أَو كَانَ اعْتِرَاف، فالإمام أول من يرْجم، (ثمَّ النَّاس، فَإِن نعتها) الشُّهُود فالشهود أول من يرْجم، ثمَّ الإِمَام، ثمَّ النَّاس "، وَهَذَا قَول ذهب إِلَيْهِ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِيمَا رَوَاهُ الشّعبِيّ عَنهُ، وَيحْتَمل أَن يكون الشّعبِيّ أَخذه من الْحَارِث الْأَعْوَر، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا دلّ على أَن حُضُور الإِمَام لَيْسَ بِشَرْط، وَذكر أَنه(4/417)
جلد مَعَ الرَّجْم، وَقد ذكرنَا أَن الْجلد على الثّيّب صَار مَنْسُوخا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (293) :
وتجلد الْبكر وتنفى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تنفى ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمر فِيمَن زنى، وَلم يحصن بجلد مائَة وتغريب عَام "، زَاد البُخَارِيّ قَالَ ابْن شهَاب: " وَأَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير أَن عمر رَضِي الله عَنهُ غرب، ثمَّ لم تزل تِلْكَ السّنة ".
وَعند البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ فِيمَن زنى، وَلم يحصن: " ينفى عَاما من الْمَدِينَة مَعَ إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ ".
قَالَ ابْن شهَاب: " وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَنْفِي من الْمَدِينَة إِلَى الْبَصْرَة، وَإِلَى خَيْبَر ".
وَعِنْدَهُمَا عَنْهُمَا قصَّة الرجلَيْن اللَّذين زنى ابْن أَحدهمَا بِامْرَأَة الآخر، وفيهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلد الَّذِي زنى مائَة، وغربه عَاما ".(4/418)
وَعند مُسلم عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالْبكْر جلد مائَة وَنفي سنة.
وروى مَالك عَن نَافِع عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أُتِي بِرَجُل وَقع على جَارِيَة بكر فأحبلها، وَلم يكن أحصن، فَأمر بِهِ أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ فجلد الْحَد، ثمَّ نفي إِلَى فدك.
وَرُوِيَ عَن ابْن إِدْرِيس عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضرب وَغرب، وَأَن أَبَا بكر ضرب وَغرب، وَأَن عمر ضرب وَغرب.
هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو كريب، وَمن تَابعه عَن عبد الله بن إِدْرِيس، وَرَوَاهُ غَيره، فَلم يذكر فِيهِ النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والتغريب عَنهُ صَحِيح فِي سَائِر الرِّوَايَات، وَعَن أبي بكر، وَعمر صَحِيح، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة وَغَيرهَا. وَرُوِيَ الْجلد والتغريب عَن عَليّ، وَعَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله عَنْهُمَا.(4/419)
وَأما نفي المماليك فللشافعي رَحمَه الله فِيهِ قَولَانِ.
وَرُوِيَ عَن مَالك عَن نَافِع أَن عبدا كَانَ يقوم على رَقِيق الْخمس، وَأَنه استكره جَارِيَة من ذَلِك الرَّقِيق، فَوَقع بهَا، فجلده عمر، ونفاه، وَلم يجلد الوليدة؛ لِأَنَّهُ استكرهها، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأ عَنهُ، وَهَذَا وَإِن كَانَ مُرْسلا فنافع كَانَ مَشْهُورا بالرواية عَن الثِّقَات، وبالعناية بأخبار آل عمر. وَرَوَاهُ اللَّيْث عَن نَافِع عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد عَن عمر.
وروى ابْن الْمُنْذر صَاحب الخلافيات عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه جلد مَمْلُوكه فِي الزِّنَا، ونفاها إِلَى فدك. وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَفِي إِسْنَاده نظر.
وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ فِي أم ولد بَغت: " تضرب، وَلَا نفي عَلَيْهَا ".(4/420)
وَأَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " تضرب، وتنفى ".
وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِيهِ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَالَّذِي يخالفنا يحْتَج بمراسيل إِبْرَاهِيم عَن عبد الله.
وَأبي رَضِي الله عَنهُ حكم بِنَفْي البكرين، وَلم يفرق بَين الْحر والمملوك.
وَمن قَالَ بترك نفيهما احْتج بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن الْأمة إِذا زنت، وَلم تحصن، قَالَ: " إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ بيعوها وَلَو بضفير "، قَالَ ابْن شهَاب: " لَا أَدْرِي أبعد الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة ".
وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف قَالَ: " أَتَت امْرَأَة إِلَى النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهِي حُبْلَى، فَقَالَت: " إِن فلَانا أحبلها، فَأرْسل إِلَيْهِ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأتي بِهِ يحمل وَهُوَ ضَرِير مقْعد، فاعترف، فَضَربهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعثكول فِيهَا مائَة شِمْرَاخ الْحَد ضَرْبَة وَاحِدَة، وَكَانَ بكرا ". وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة عَن أَبِيه بِبَعْض مَعْنَاهُ مُخْتَصرا. وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة عَن أبي سعيد، وَالصَّوَاب مُرْسل. وَرُوِيَ عَنهُ عَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(4/421)
وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة عَن سعيد بن سعد بن عبَادَة فِي رجل مُخْدج ضَعِيف بِلَفْظ آخر فِيهِ " فَخُذُوا لَهُ عثْكَالًا فِيهِ مائَة شِمْرَاخ فَاضْرِبُوهُ وَاحِدَة ".
وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه الْأَحَادِيث حَيْثُ لم يذكر فِيهَا النَّفْي؛ فَإِن الْمَقْصُود من حَدِيث الْأمة أَمر السادات بِضَرْب الْإِمَاء فِي الزِّنَا، بِخِلَاف مَا يَقُولُونَ: " إِنَّه لَيْسَ لَهُم ضربهن فِي الْحَد "، وَأَن ذَلِك للْإِمَام، وَالْمَقْصُود بِالْحَدِيثِ الثَّانِي جَوَاز الِاقْتِصَار فِي حد المضرور فِي خلقته على ضربه بِمِائَة شِمْرَاخ ضَرْبَة وَاحِدَة خلاف مَا يَقُولُونَ. وكما لم يذكر النَّفْي فِي حَدِيث الْأمة لم يذكر أَيْضا عدد الْحَد، وَكِلَاهُمَا مُسْتَفَاد من غير هَذَا الحَدِيث، ونفيها لَا يمْنَع من بيعهَا منفية إِلَى مَوضِع مَعْرُوف، ثمَّ الحَدِيث ورد فِي الْأمة، وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي أحد قوليه: " إِنَّهَا لَا تنفى ".
وَحَدِيث المقعد إِنَّمَا سيق لبَيَان كَيْفيَّة ضربه، وَالنَّفْي مُسْتَفَاد من غَيره، وَمَا حُكيَ عَن الطَّحَاوِيّ أَنه قَالَ: " أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الِابْتِدَاء بجلد الثّيّب مَعَ الرَّجْم، فاستدللنا بسكوته (عَن الْحَد فِي حَدِيث أنس على نسخ الْجلد، كَذَلِك استدللنا بسكوته) عَن النَّفْي فِي حَدِيث الْأمة على نسخ النَّفْي "، قُلْنَا تَركه فِي حَدِيث الْأمة ذكره لَا يدل على النّسخ لأمور:(4/422)
أَحدهَا: أَن الْقَصْد من الحَدِيث الْإِذْن للسادات بجلد الأماء، أَلا ترَاهُ لم يذكر عدد الْحَد، كَمَا لم يذكر النَّفْي.
وَمِنْهَا: أَنه لَيْسَ فِي شَيْء من الْأَحَادِيث مَا يدل على أَن حَدِيث الْأمة كَانَ بعد حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي النَّفْي حَتَّى يكون نَاسِخا لَهُ، وَفِي حَدِيث أنيس أَنه أمره بِالرَّجمِ دون الْجلد، وَأَنه رَجمهَا وَلم يجلدها، وَكَانَ ذَلِك بعد حَدِيث الْجلد مَعَ الرَّجْم، فَدلَّ على نسخه.
وَمِنْهَا: أَنه يجوز أَن يعبر فِي الْكَلَام بِبَعْض الشَّيْء عَن جملَته، ويكتفى فِي بَاقِيَة بِمَا سبق مِنْهُ فِيهِ، وَلَا يجوز أَن يقْتَصر فِي الْعقل على بعض الشَّيْء إِلَّا بعد جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَيْهِ. وأنيس لما اقْتصر على الرَّجْم علمنَا أَن الْجلد مَرْفُوع، واقتصار رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأمة على ذكر الْجلد يشبه أَن يكون اكْتفى بِمَا سبق مِنْهُ من ذكره، وَالله أعلم.
وَالْعجب أَن قَائِل هَذَا يَدعِي الْمعرفَة بالآثار، ثمَّ يَجْعَل تَركه القَوْل فِيمَا تقدم من الْأَخْبَار نفي الْبكر كتركنا جَمِيعًا القَوْل بِحَدِيث رَوَاهُ مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الوَاسِطِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رجلا قتل عَبده عمدا، فجلده النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة، ونفاه سنة، ومحى سَهْمه من الْمُسلمين، وَأمره أَن يعْتق رَقَبَة.
وَنحن لَا نَدْرِي لأي معنى تَركه، فَهُوَ يحْتَج بِمَا هُوَ أَضْعَف من(4/423)
هَذَا الْإِسْنَاد فِيمَا يُوَافق هَوَاهُ. فَأَما نَحن فَإِنَّمَا تَرَكْنَاهُ لضعف إِسْنَاده، وَهَذَا حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ على إِسْمَاعِيل، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (294) :
إِذا أقرّ بِالزِّنَا مرّة وَاحِدَة حد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يحد حَتَّى يقر أَربع مَرَّات ".
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَزيد بن خَالِد رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " واغد يَا أنيس على امْرَأَة هَذَا، فَإِن اعْترفت فارجمها، فغدا عَلَيْهَا، فَاعْترفت، فَأمر بهَا رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فرجمت ".
وَعِنْدَهُمَا فِي الصَّحِيح أَيْضا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عمر رَضِي الله عَنْهُم " إِنِّي أَخَاف أَن يطول بِالنَّاسِ زمَان حَتَّى يَقُول الْقَائِل لَا نجد الرَّجْم فِي كتاب الله، فيضلوا بترك فَرِيضَة أنزلهَا الله، أَلا وَإِن الرَّجْم حق على من زنى، إِذا أحصن، إِذا قَامَت الْبَيِّنَة، أَو كَانَ الْحمل، أَو الِاعْتِرَاف ". وَهَذَا، وَمَا قبله يدل على أَن الْحَد يتَعَلَّق بالاعتراف دون الْعدَد.
وَأما حَدِيث مَاعِز، وَمَا فِي مَعْنَاهُ من إعراضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنهُ حَتَّى أقرّ أَربع مَرَّات فَلِأَنَّهُ لم يتَبَيَّن لَهُ صِحَة إِقْرَاره بِصَرِيح الزِّنَا، أَلا ترَاهُ استفسر مِنْهُ صَرِيح الزِّنَا بعد وجود الْعدَد فِي إِقْرَاره، وَحين فسر إِقْرَاره نظر هَل بِهِ جنَّة، أَو سكر، فَلَمَّا تبين لَهُ صِحَة إِقْرَاره أَمر برجمه، فَإِذا(4/424)
تبين لغيره من الْأَئِمَّة صِحَة إِقْرَار الْمُعْتَرف بِالزِّنَا وَجب إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ مَا لم يرجع، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (295) :
واللواط كَالزِّنَا فِي الْأَقْوَال. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يُعَزّر ".
روى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل، وَالْمَفْعُول بِهِ ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن جريج عَن ابْن جشم عَن سعيد بن جُبَير، وَمُجاهد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْبكر يُؤَاخذ على اللوطية، قَالَ: " يرْجم ".(4/425)
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " من عمل عمل قوم لوط فارجموه ".
وَعَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا إِذا أَتَى الرجل الرجل فهما زانيان، وَإِذا أَتَت الْمَرْأَة الْمَرْأَة فهما زانيان.
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَوْقُوفا أَنه رجم لوطيا.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَبِهَذَا نَأْخُذ برجم اللوطي مُحصنا كَانَ، أَو غير مُحصن، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ ".
(وَقَالَ: " قَالَ سعيد بن الْمسيب: السّنة أَنه يرْجم اللوطي أحصن، أَو لم يحصن. وَعِكْرِمَة يرويهِ عَن ابْن عَبَّاس) رَضِي الله عَنْهُمَا. عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يَعْنِي مَا تقدم.
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمُنْكَدر، وَصَفوَان بن سليم قصَّة فِي شَأْن رجل ينْكح، كَمَا تنْكح الْمَرْأَة أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ جمع النَّاس، فَسَأَلَهُمْ عَن ذَلِك، فَكَانَ من أَشَّدهم قولا يَوْمئِذٍ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " يرى أَن نحرقه بالنَّار، فَاجْتمع رَأْي أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أَن يحرقه بالنَّار.(4/426)
وَكتب أَبُو بكر إِلَى خَالِد بن الْوَلِيد يَأْمُرهُ أَن يحرقه بالنَّار، وَهَذَا مُرْسل.
وَرُوِيَ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي غير هَذِه الْقِصَّة، قَالَ: " يرْجم، وَيحرق بالنَّار ".
وَيذكر عَن ابْن أبي ليلى عَن رجل من هَمدَان أَن عليا رجم رجلا مُحصنا فِي عمل قوم لوط، كَذَا ذكره الثَّوْريّ عَنهُ مُقَيّدا، وَهِشَام مُطلقًا.
وَرُوِيَ عَن عَطاء قَالَ: " شهِدت ابْن الزبير، وأتى بسبعة، أخذُوا فِي لواط، أَرْبَعَة مِنْهُم قد أحصنوا، فَأمر بالأربعة، فأخرجوا من الْمَسْجِد، فرضخوا بِالْحِجَارَةِ، وَأمر بِالثَّلَاثَةِ، فَضربُوا الْحُدُود، وَابْن عمر، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم فِي الْمَسْجِد ".
وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " حد اللواطي حد الزَّانِي، إِن كَانَ مُحصنا رجم، وَإِلَّا جلد ". وَإِلَى هَذَا رَجَعَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيمَا زعم الرّبيع.
وَأما إتْيَان الْبَهِيمَة فقد روى أَبُو دَاوُد عَن عِكْرِمَة عَن(4/427)
ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أَتَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ، واقتلوها مَعَه "، قَالَ: " قلت لَهُ: مَا شَأْن الْبَهِيمَة؟ قَالَ: " مَا أرَاهُ قَالَ ذَلِك إِلَّا أَنه كره أَن يُؤْكَل لَحمهَا، وَقد عمل بهَا ذَلِك الْعَمَل ".
استدلوا بِمَا روى أَبُو حنيفَة رَحمَه الله عَن عَاصِم عَن أبي رزين عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَيْسَ على من أَتَى بَهِيمَة حد ". وحديثنا قد رُوِيَ من أوجه عَن عِكْرِمَة، وَبَعْضهمْ لَا يقصر عَن عَاصِم فِي الْحِفْظ والإتقان. وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا أَيْضا.(4/428)
وَرُوِيَ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجم رجلا أَتَى بَهِيمَة ".
ويرجح مَذْهَبنَا فِي اتيان الْبَهَائِم بقول الْحسن بن عَليّ، وَجَابِر بن زيد، وَالْحكم، وَالْحسن، وَعَطَاء، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (296) :
وَمن نكح ذَات محرم لَهُ، وَوَطئهَا عَالما حد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يحد ". وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة.
وَلنَا عُمُوم الْخَبَر فِي وجوب الْحَد على الزَّانِي مُطلقًا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من وَقع على ذَات محرم فَاقْتُلُوهُ ".
وَعَن أبي الجهم مولى الْبَراء (عَن الْبَراء) رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِنِّي لأَطُوف فِي تِلْكَ الْأَحْيَاء على إبل ضلت فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ جَاءَ ركب، أَو فوارس مَعَهم، فَجعل الْأَعْرَاب يلوذون بِي لمنزلتي(4/429)
من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَانْتَهوا إِلَيْنَا، فاطافوا بقبة، فَاسْتَخْرَجُوا رجلا، فَضربُوا عُنُقه، فَسَأَلت عَن قصَّته، فَقيل: وجد يعرس بِامْرَأَة أَبِيه ".
إِسْنَاده صَحِيح، وَجَاء من يَدعِي تَسْوِيَة الْأَخْبَار على مذْهبه، وَحمل ذَلِك على أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا بقتْله؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد استحله، فَصَارَ بِهِ مُرْتَدا، وَاحْتج بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لقِيت عمي، وَمَعَهُ راية، فَقلت: أَيْن تُرِيدُ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رجل نكح امْرَأَة أَبِيه، فَأمرنِي أَن أضْرب عُنُقه، وآخذ مَاله ".
وَبِحَدِيث مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أَبِيه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث جد مُعَاوِيَة إِلَى رجل عرس بِامْرَأَة أَبِيه أَن يضْرب عُنُقه، ويخمس مَاله. وَقَالَ فَدلَّ على انه كَانَ مُرْتَدا مُحَاربًا؛ لِأَن الْمُرْتَد الَّذِي لم يحارب لَا يُخَمّس مَاله، وَهَذَا الَّذِي ذكره لَيْسَ بِشَيْء مِنْهُ فِي الحَدِيث، لَا لاستحلال وَلَا الْمُحَاربَة، وَلَو جَازَ دَعْوَى الاستحلال فِي هَذَا لجَاز مثله فِي زنا من رجمه؛ لِأَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يسْتَحلُّونَ الزِّنَا.(4/430)
وَفِي حَدِيث أبي الجهم عَن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ أَنهم أطافوا بقبة، فَاسْتَخْرَجُوا رجلا فَأَيْنَ الْمُحَاربَة، هَهُنَا؟
ثمَّ إِن كَانَ الْأَمر على مَا ذكره من الاستحلال فَهُوَ حجَّة عَلَيْهِ فِي أَن مَال الْمُرْتَد لَا يكون لوَرثَته، وتخميسه لَا يُنَافِي ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي، رَحمَه الله، فَإِنَّهُ يُوجب الْخمس فِيمَا أوجف عَلَيْهِ فِي الْغَنِيمَة، وَفِيمَا لم يوجف عَلَيْهِ من أَمْوَال الْفَيْء - قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " الْخمس ثَابت لأَهله فِي كل مَا أَخذ من مُشْرك غنيمَة كَانَ، أَو فَيْئا ".
قَالَ: " والفيء مَا رده الله على أهل دينه من مَال من خَالف دينه، وَإِن فعله على غير وَجه الاستحلال، فَهُوَ حجتنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، أَن الْحَد وَاجِب عَلَيْهِ ".
استدلوا بِمَا روى يزِيد بن زِيَاد الشَّامي عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادرؤوا الْحُدُود مَا اسْتَطَعْتُم عَن الْمُسلمين فَإِن وجدْتُم للْمُسلمِ مخرجا فَخلوا سَبيله، فَإِن الإِمَام لِأَن يُخطئ فِي الْعَفو خير لَهُ من أَن يُخطئ فِي الْعقُوبَة ".(4/431)
وَهَذَا الحَدِيث مَشْهُور بَين الْفُقَهَاء، وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَيزِيد هَذَا غير مُحْتَج بِهِ، وَقد تفرد بِهِ وَرَوَاهُ، وَكِيع عَن يزِيد مَوْقُوفا وروى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِسْنَاد شبه لَا شَيْء.
وَرُوِيَ عَن عبد الله، ومعاذ، وَعقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنْهُم مَوْقُوفا، كَمَا ذكرنَا إسنادها فِي السّنَن، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (297) :
وَيحد الرجل أمته إِذا زنت. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك إِلَّا أَن يكون سُلْطَانا ".
لنا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِذا زنت أمة أحدكُم فَتبين زنَاهَا (فليجلدها الْحَد، وَلَا يثرب عَلَيْهَا، ثمَّ أَن زنت فليجلدها الْحَد، وَلَا يثرب عَلَيْهَا، ثمَّ إِن زنت الثَّالِثَة، فَتبين زنَاهَا) فليبعها، وَلَو بِحَبل من شعر ".
وَعند مُسلم عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، قَالَ: " خطب عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، أقِيمُوا الْحَد على أرقائكم، من أحصن مِنْهُم، وَمن لم يحصن، فَإِن أمة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زنت، فَأمرنِي أَن أجلدها، فأتيتها، فَإِذا هِيَ حَدِيث عهد بالنفاس، فَخَشِيت إِن أَنا(4/432)
جلدتها أَن تَمُوت، فَأتيت النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَخْبَرته، فَقَالَ: أَحْسَنت ".
وَرُوِيَ عَن أبي جميلَة عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقيما الْحُدُود على مَا ملكت أَيْمَانكُم "
وَعَن عبد خير عَنهُ قَالَ: " قَالَ " قَالَ رَسُول الله
: إِذا زنت إماؤكم، فأقيموا عَلَيْهِنَّ الْحُدُود، أحصن، أَو لم يحصن "
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وهم يخالفون هَذَا إِلَى غير فعل أحد عَلمته من أَصْحَاب النَّبِي، وَنحن نقُول بِهِ ".
أخبرنَا سُفْيَان عَن عَمْرو عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا بنت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حدت جَارِيَة لَهَا زنت ".
وَرُوِيَ عَن أبان قَالَ: " قلت لأنس رَضِي الله عَنهُ أجلد أمتِي إِذا زنت؟ قَالَ: نعم، قلت: لَا أرفعها إِلَى السُّلْطَان، قَالَ: أَنْت سلطانها ".(4/433)
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع أَن عبدا لِابْنِ عمر سرق، وَهُوَ آبق، فَأرْسل بِهِ عبد الله إِلَى سعد بن الْعَاصِ، وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة؛ ليقطع يَده، فأبي أَن يقطع يَده، وَقَالَ: " لَا تقطع يَد الْآبِق إِذا سرق "، فَقَالَ لَهُ ابْن عمر: " فِي أَي كتاب الله وجدت هَذَا؟ "، فَأمر بِهِ ابْن عمر، فَقطعت يَده.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي ليلى أدْركْت بقايا الْأَنْصَار، وهم يضْربُونَ الوليدة من ولائدهم فِي مجَالِسهمْ إِذا زنت.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يَأْمر بِهِ، وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ حد وليدته ".
وروى الْبَيْهَقِيّ ذَلِك بِإِسْنَادَيْنِ إِلَيْهِمَا.
وَعَن أبي الزِّنَاد عَن الْفُقَهَاء الَّذين ينتهى إِلَى قَوْلهم من أهل الْمَدِينَة كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يُقيم شَيْئا من الْحُدُود دون السُّلْطَان إِلَّا أَن للرجل أَن يُقيم حد الزِّنَا على عَبده وَأمته ".
وَاسْتَدَلُّوا بِأَن قَالُوا: " روينَا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَا يشبه قَوْلنَا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أَو فِي أحد مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجَّة؟ قَالَ: لَا، قُلْنَا: فَلم يحْتَج بِهِ؟ وَلَيْسَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بِمَعْرُوف أَيْضا ".(4/434)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " لم نجده عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي شَيْء من كتب الحَدِيث "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (298) :
وَيقطع السَّارِق فِي ربع دِينَار، أَو مَا قِيمَته ربع دِينَار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يقطع إِلَّا فِي عشرَة دَرَاهِم، أَو دِينَار ".
دليلنا الْخَبَر الْمُتَّفق على صِحَّته عَن الزُّهْرِيّ عَن عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
وَفِي رِوَايَة: " تقطع يَد السَّارِق فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ". وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْحَاق الْحَنْظَلِي عَنهُ فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ من مُسْنده. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر عَن مُحَمَّد بن عبيد بن حسان عَن ابْن عُيَيْنَة. وَبِمَعْنَاهُ رِوَايَة الْحجَّاج بن منهال، والْحميدِي فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَرَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح عَن يحيى بن يحيى عَن ابْن عُيَيْنَة،(4/435)
فَقَالَ فِيهِ: " إِن رَسُول الله كَانَ يقطع السَّارِق فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
فجَاء الطَّحَاوِيّ فَرَوَاهُ عَن مُوسَى بن عُيَيْنَة بِهَذَا اللَّفْظ، وَتعلق بِهِ، وَزعم أَنَّهَا رَضِي الله عَنْهَا أخْبرت عَمَّا قطع فِيهِ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك لِأَنَّهَا قومت مَا قطع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ، فَكَانَت قِيمَته عِنْدهَا ربع دِينَار، فَجعلت ذَلِك مِقْدَار مَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقطع فِيهِ، وَقِيمَته عِنْد غَيرهَا أَكثر من ربع دِينَار ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَلَو كَانَ أصل الحَدِيث على هَذَا اللَّفْظ، فعائشة رَضِي الله عَنْهَا عِنْد أهل الْعلم بِحَالِهَا كَانَت أعلم بِاللَّه، وأفقه فِي دين الله، وأخوف من الله، وَأَشد إتقانا فِي الرِّوَايَة، أَن تقطع على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَنَّهُ كَانَ يقطع السَّارِق فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا فِيمَا لم تحط بِهِ علما، أَو تطلق مثل هَذَا التَّقْدِير فِيمَا تقومه بِالظَّنِّ والتخمين، ثمَّ تُفْتِي بذلك الْمُسلمين، نَحن لَا نظن بعائشة رَضِي الله عَنْهَا مثل هَذَا ".
وَالْبُخَارِيّ رَحمَه الله لم يخرج حَدِيث ابْن عُيَيْنَة هَذَا فِي الصَّحِيح، وَأَظنهُ إِنَّمَا تَركه لمُخَالفَته سَائِر الروَاة فِي لَفظه وَلَا ضطرابه فِيهِ، وَقد أخرجناه من حَدِيث يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ مَنْقُولًا عَن لفظ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(4/436)
فَرجع الطَّحَاوِيّ إِلَى تَرْجِيح رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة بِأَن قَالَ: " يُونُس بن يزِيد عنْدكُمْ لَا يُقَارب ابْن عُيَيْنَة "، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن ينظر فِي تواريخ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ ويبصر مدارج الروَاة ومنازلهم فِي الرِّوَايَة، ثمَّ يلْزمهُم مَا وقف عَلَيْهِ من أقاويلهم لَو قَالَ ابْن عُيَيْنَة لَا يُقَارب يُونُس فِي الزُّهْرِيّ لَكَانَ أقرب إِلَى أقاويل أهل الْعلم.
قَالَ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ رَحمَه الله: " سَمِعت يحيى بن معِين عَن أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، فَذكر مَالِكًا، وَيُونُس بن يزِيد، ومعمرا، وعقيلا، وَغَيرهم، وَذكر مَنَازِلهمْ، قلت: فَابْن عُيَيْنَة أحب، أَو معمر؟ فَقَالَ: معمر، فَقلت لَهُ: إِن بعض النَّاس يَقُولُونَ: سُفْيَان بن عُيَيْنَة أثبت النَّاس فِي الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَقُول: من سمع مِنْهُ، وَأي شَيْء كَانَ سُفْيَان؟ إِنَّمَا كَانَ غليم يَعْنِي أَيَّام الزُّهْرِيّ ".
قَالَ الدَّارمِيّ: " سَمِعت أَحْمد بن صَالح يَقُول: لَا يقدم فِي الزُّهْرِيّ على يُونُس أحد ".
قَالَ أَحْمد بن صَالح: " سَمِعت أَحَادِيث يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، فَوجدت الحَدِيث الْوَاحِد رُبمَا سَمعه الزُّهْرِيّ مرَارًا، وَكَانَ الزُّهْرِيّ إِذا قدم أَيْلَة نزل على يُونُس بن يزِيد، وَإِذا سَار إِلَى الْمَدِينَة زامله يُونُس ".(4/437)
وروى صَدَقَة بن الْمُنْتَصر عَن يُونُس قَالَ: " صَحِبت الزُّهْرِيّ أَربع عشرَة سنة ".
وَأما ابْن عُيَيْنَة فَإِنَّهُ قَالَ: " ولدت سنة سبع وَمِائَة، وجالست الزُّهْرِيّ وَأَنا ابْن سِتّ عشرَة وشهرين وَنصف، قدم علينا الزُّهْرِيّ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، وَخرج إِلَى الشَّام وَمَات ".
روى ذَلِك عَنهُ البُخَارِيّ عَن ابْن الْمَدِينِيّ، وَكَانَ الزُّهْرِيّ يَقُول: " مَا رَأَيْت عَالما بِالْعلمِ أَصْغَر مِنْهُ وَكَانَ يجلس على فَخذه ويحدثه، فكم بَين سَماع هَذَا، وَسَمَاع من صحب الزُّهْرِيّ أَربع عشرَة سنة؟ فَسَمعهُ يُبْدِي الحَدِيث، ويعيده، وينسبه، ويكرره ".
والعجيب أَن هَذَا الشَّيْخ أوهم من نظر فِي كِتَابه أَنه لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ غير ابْن عُيَيْنَة وَيُونُس. ثمَّ رَوَاهُ فِي آخر الْبَاب من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ، والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث إِبْرَاهِيم، وَسليمَان بِمَ كثير. وَعند مُسلم من حَدِيث معمر أَيْضا كلهم عَن الزُّهْرِيّ مَنْقُولًا عَن لفظ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا رَوَاهُ عَن يُونُس. وَكلهمْ حفاظ ثِقَات، وَفِي ذَلِك دلَالَة على أَن أصل الحَدِيث عَن لفظ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي وَغَيره عَن ابْن عُيَيْنَة.
وَأما من رَوَاهُ عَنهُ عَن فعل رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَيحْتَمل أَن يَكُونَا محفوظين بِأَن يقطع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ربع دِينَار، وَيَقُول: " الْقطع فِي ربع دِينَار(4/438)
فَصَاعِدا "، فيؤديه ابْن عُيَيْنَة مرّة بِالْفِعْلِ دون القَوْل، وَمرَّة بالْقَوْل دون الْفِعْل.
هَذَا، وَقد رَوَاهُ سُلَيْمَان بن يسَار، وَأَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ أَيْضا عَن عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل معنى رِوَايَة الْجَمَاعَة، وَكلهَا مخرج فِي الصَّحِيح، رِوَايَة سُلَيْمَان، وَأبي بكر عِنْد مُسلم، وَالْأُخْرَى عِنْد البُخَارِيّ، وأظنها لم تقع للطحاوي، وَلَو وَقعت لَهُ، فَمَا أَدْرِي بِمَا كَانَ يعللها، فَإِنَّهُ علل حَدِيث سُلَيْمَان بِأَن مخرمَة بن بكير بن الْأَشَج الَّذِي رَوَاهُ عَن أَبِيه عَن سُلَيْمَان لم يسمع من أَبِيه شَيْئا، وَاحْتج بِمَا حُكيَ عَنهُ من إِنْكَاره سَماع كتب أَبِيه.
وَقد رُوِيَ عَن ابْن أبي أويس قَالَ: " قَرَأت فِي كتاب مَالك بِخَط مَالك قُمْت إِلَى جنب مخرمَة فِي الرَّوْضَة، فَقلت لَهُ: " إِن النَّاس يَقُولُونَ: إِنَّك لم تسمع هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي تروي عَن أَبِيك، من أَبِيك، قَالَ: " وَرب هَذَا الْمِنْبَر والقبر لقد سَمعتهَا من أبي، وَكرر هَذَا القَوْل عَنهُ ثَلَاثًا "، وَقد اعْتَمدهُ مَالك فِي مَا أرْسلهُ فِي الْمُوَطَّأ عَن أَبِيه بكير، وَإِنَّمَا أَخذه عَن مخرمَة، وَاعْتَمدهُ مُسلم، وَأخرج أَحَادِيثه فِي الصَّحِيح، وَوَثَّقَهُ أَحْمد بن حَنْبَل، وَعلي بن الْمَدِينِيّ، وَعلل حَدِيث أبي بكر بن حزم بِأَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وَيحيى بن سعيد، وَعبد ربه بن سعيد، ورزين بن حَكِيم رووا هَذَا الحَدِيث عَن عمْرَة عَن عَائِشَة مَوْقُوفا، وَأخذ فِي كَلَام يُوهم أَن أَبَا بكر بن حزم ينْفَرد بِهَذَا(4/439)
الحَدِيث، وَأَن الَّذين خالفوه أَكثر عددا، وَأَشد إتقانا وحفظا وَلم يعلم حَال أبي بكر بن حزم فِي علمه بِالْقضَاءِ، وَالسّنَن، واجتهاده فِي الْعِبَادَة.
رُوِيَ عَن مَالك أَنه قَالَ: " لم يكن عِنْد أحد بِالْمَدِينَةِ من علم الْقَضَاء مَا كَانَ عِنْد أبي بكر بن حزم، وَذكر أَن عمر بن عبد الْعَزِيز أمره أَن يكْتب لَهُ الْعلم من عِنْد عمْرَة وَالقَاسِم، وَذكر غَيره أَن سجدته كَانَت أخذت جَبهته، فَإِذا كَانَ عمر يعتمده فِي الْقَضَاء، وَفِي كِتَابَة الْعلم عَن عمْرَة، وَالقَاسِم، وَغَيرهمَا أَفلا نعتمده نَحن فِيمَا يروي عَنْهَا، وَقد تَابعه أحفظ النَّاس فِي دهره ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وتابعهما سُلَيْمَان بن يسَار، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ، وَغَيرهمَا عَن عمْرَة ".
وَقد رَوَاهُ مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " مَا طَال عَليّ، وَمَا نسيت الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، وَفِي ذَلِك مَا يُوهم الْإِشَارَة إِلَى الرّفْع.
وَرَوَاهُ ابْن أبي عرُوبَة عَن يحيى مَرْفُوعا، وأسنده أَيْضا أبان بن يزِيد عَن يحيى، وَبدل بن المحبر عَن شُعْبَة عَن يحيى، وَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تُفْتِي بذلك، وترويه عَن رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَيقْتَصر الروَاة تَارَة على فتواها، وَمرَّة على رِوَايَتهَا.
وَأما رِوَايَة عبد الله بن أبي بكر فَإِنَّهُ روى عَن عمْرَة قصَّة المولاتين اللَّتَيْنِ خرجتا مَعَ عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَالْعَبْد الَّذِي سرق(4/440)
مِنْهَا، وَأَنَّهَا أمرت بِهِ، فَقطعت يَده وَقَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، فروت قَضَاهَا وفتواها دون رِوَايَتهَا، وَفِي غَيره دون رِوَايَتهَا. فَلَا تعلل حَدِيث الْحفاظ بِمثل هَذَا.
وَقد رُوِيَ من حَدِيث يُونُس بن يزِيد عَن الزُّهْرِيّ عَن عمْرَة، وَعمرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروى همام عَن قَتَادَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: السَّارِق يقطع فِي ربع دِينَار "، رَوَاهُ عَنهُ أَبُو عمر الحوضي، وَتَابعه على رَفعه عَن همام عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، وَإِسْحَاق بن إِدْرِيس، وهدبة بن خَالِد فِي بعض الرِّوَايَات عَنهُ.
وَرُوِيَ مَوْقُوفا، وَهَذَا لَا يُخَالف رِوَايَة هشان بن عرُوبَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " لم يقطع سَارِق فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أقل من ثمن الْمِجَن جحفة، أَو ترس، وَكِلَاهُمَا ذُو ثمن ".
فهشام إِنَّمَا رَوَاهُ فِي رجل سرق قدحا، فَأتى بِهِ عمر بن عبد الْعَزِيز، فَقَالَ: " قَالَ أبي: إِنَّه لَا تقطع الْيَد فِي الشَّيْء التافه ".(4/441)
وَقَالَ: " أَخْبَرتنِي عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنه لم يكن تقطع الْيَد فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أدنى من ثمن مجن حجفة، أَو ترس ". رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح، ثمَّ قيمَة الْمِجَن غير مَذْكُورَة فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَقد ذكرتها عمْرَة عَن عَائِشَة فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق عَن يزِيد بن حبيب عَن بكير الْأَشَج عَن ابْن يسَار عَن عمْرَة قَالَت: " قيل لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَا ثمن الْمِجَن؟ قَالَت: ربع دِينَار ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطع سَارِقا فِي مجن قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم ".
وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث ابْن جريج عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة أَن نَافِعًا حَدثهُ أَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا حَدثهمْ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطع رجلا سرق ترسا من صفة النِّسَاء ثمنه ثَلَاثَة دَرَاهِم.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " حَدِيث ابْن عمر مُوَافق لحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُم؛ لِأَن ثَلَاثَة دَرَاهِم فِي عهد النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمن بعده ربع دِينَار ".
وَاحْتج بِمَا تقدم عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَغَيره فِي تَقْوِيم الْإِبِل فِي الدِّيات بِأَلف دِينَار، أَو اثْنَي عشر ألف دِرْهَم.(4/442)
وبقصة الأترجة رَوَاهَا عَن مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عَن أَبِيه عَن عمْرَة أَن سَارِقا سرق أترجة فِي عهد عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فَأمر بهَا عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فقومت ثَلَاثَة دَرَاهِم من صرف اثْنَي عشر درهما بِدِينَار، فَقطع يَده، قَالَ مَالك: " وَهِي الأترجة الَّتِي يأكلها النَّاس ".
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قطع أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فِي شَيْء لَا يسرني أَنه لي بِثَلَاثَة دَرَاهِم.
وَرُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قطع فِي بَيْضَة من حَدِيد ثمن ربع دِينَار.
وروى فتواه بِهِ الشَّافِعِي عَن غير وَاحِد عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَنهُ.
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة، وَأبي سعيد رَضِي الله عَنْهُمَا الْقطع فِي أَرْبَعَة دَرَاهِم فَصَاعِدا.(4/443)
وروى أَبُو الزِّنَاد عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا قطع إِلَّا فِيمَا بلغت قِيمَته ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
استدلوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن يَد السَّارِق لم تقطع فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فِي أدنى من ثمن جحفة، أَو ترس، وكل وَاحِد مِنْهُمَا يَوْمئِذٍ ذُو ثمن.
زَاد مُسلم وَأَن يَد السَّارِق لم تقطع فِي عهد رَسُول) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّيْء التافه.
وَرُوِيَ عَن أَحْمد بن خَالِد الْوَهْبِي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أَيُّوب بن مُوسَى عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ ثمن الْمِجَن فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقوم عشرَة دَرَاهِم ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن نمير عَن ابْن إِسْحَاق فَقَالَ: " قطع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَد رجل فِي مجن قِيمَته دِينَار، أَو عشرَة دَرَاهِم ". وَهَذِه حِكَايَة فعل لَا يدل على ترك الْقطع فِيمَا دون ذَلِك، ثمَّ قد خُولِفَ فِي هَذَا الْإِسْنَاد، فَرَوَاهُ النَّاس عَن عَطاء عَن أَيمن (قَالَ عَليّ بن عمر: " خَالفه مَنْصُور، فَرَوَاهُ عَن عَطاء عَن أَيمن) ، وأيمن لَا صُحْبَة لَهُ ".
رُوِيَ عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد، وَعَطَاء، أَو عَن عَطاء(4/444)
عَن أَيمن الحبشي قَالَ: " لم يقطع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا فِي ثمن الْمِجَن، وَكَانَ ثمن الْمِجَن يَوْمئِذٍ دِينَارا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة عَن حميد الطَّوِيل، قَالَ: سَمِعت قَتَادَة يسْأَل أنس بن مَالك عَن الْقطع، فَقَالَ: حضرت أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ قطع سَارِقا فِي شَيْء مَا يسوى ثَلَاثَة دَرَاهِم، أَو مَا يسرني أَنه لي بِثَلَاثَة دَرَاهِم ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قلت لبَعض النَّاس هَذِه سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، قلت: " لَا يقطع الْيَد إِلَّا فِي عشرَة دَرَاهِم، وَمَا حجتك فِي ذَلِك؟ " قَالَ: " قد روينَا عَن شريك عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن أَيمن عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبِيها بقولنَا "، قلت: " أتعرف أَيمن، أما أَيمن الَّذِي روى عَنهُ عَطاء فَرجل حدث، لَعَلَّه أَصْغَر من عَطاء، روى عَنهُ عَطاء حَدِيثا عَن ربيع ابْن امْرَأَة كَعْب عَن كَعْب يَعْنِي فِي الْوضُوء "، قَالَ الشَّافِعِي: " فَهَذَا مُنْقَطع ".
قَالَ: " فقد روينَا عَن شريك عَن مُجَاهِد عَن أَيمن ابْن أم أَيمن(4/445)
أخي أُسَامَة لأمه "، لَا علم لَك بأصحابنا، أَيمن أَخُو أُسَامَة، قتل مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم حنين قبل مولد مُجَاهِد ".
قَالَ: " فقد روينَا عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطع فِي ثمن الْمِجَن، قَالَ عبد الله: " وَكَانَ ثمن الْمِجَن على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِينَارا ". قلت: " هَذَا رَأْي من عبد الله بن عَمْرو فِي رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب، والمجان قَدِيما وحديثا تبلغ ثَمَانِي عشرَة وَمِائَة ودرهمين، فَإِذا قطع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ربع دِينَار قطع فِي أَكثر مِنْهُ، وَأَنت تزْعم أَن عَمْرو بن شُعَيْب لَيْسَ مِمَّن تقبل رِوَايَته وَتقول غلط، فَكيف ترد رِوَايَته مرّة، ثمَّ تحتج بِهِ على أهل الْحِفْظ والصدق؟ ".
قَالَ " فقد روينَا قَوْلنَا عَن عَليّ "، قلت: " رَوَاهُ الزعافري عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَقد أخبرنَا أَصْحَاب جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، وَحَدِيث جَعْفَر عَن عَليّ أولى من أَن يثبت من حَدِيث الزعافري، فَقَالَ: " فقد روينَا عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: " لَا تقطع الْيَد إِلَّا فِي عشرَة دَرَاهِم "، قُلْنَا: " فقد رُوِيَ الثَّوْريّ عَن(4/446)
عِيسَى بن أبي عزة عَن الشّعبِيّ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطع سَارِقا فِي خَمْسَة دَرَاهِم "، وَهَذَا أقرب أَن يكون صَحِيحا عَن عبد الله فِي حَدِيث المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم عَن عبد الله "، قَالَ: " وَكَيف لم يَأْخُذ بِهَذَا؟ " قُلْنَا: " هَذَا حَدِيث لَا يُخَالف حديثنا، إِذا قطع فِي ثَلَاثَة دَرَاهِم، قطع فِي خَمْسَة "، قَالَ: " فقد روينَا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه لم يقطع فِي ثَمَانِيَة "، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " رِوَايَته عَن عمر غير صَحِيحَة، وَقد روى معمر عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، فَلم نر أَن نحتج بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِت، وَلَيْسَ لأحد مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجَّة، وعَلى الْمُسلمين اتِّبَاع أمره، فَلَا إِلَى حَدِيث صَحِيح ذهب من خَالَفنَا، وَلَا إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ من ترك الحَدِيث، وَاسْتعْمل ظَاهر الْقُرْآن ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " أما حَدِيث عمر الَّذِي احْتج بِهِ مُحَمَّد إِنَّمَا رَوَاهُ الثَّوْريّ عَن عَطِيَّة الثَّقَفِيّ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن عمر، وَهُوَ مُرْسل ".(4/447)
وَقد روى قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب عَن عمر رَضِي الله عَنهُ لَا يقطع الْخمس إِلَّا فِي خمس ".
وَأما حَدِيث عَليّ فقد ذكرنَا بِإِسْنَاد أَطَم مِمَّا ذكره الشَّافِعِي رَحمَه الله، وأوهى عَن مُحَمَّد بن مَرْوَان عَن عَاصِم عَن إِسْمَاعِيل بن اليسع عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن النزال عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَا يقطع الْيَد إِلَّا فِي عشرَة دَرَاهِم، وَلَا يكون الْمهْر أقل من عشرَة دَرَاهِم "، جُوَيْبِر، وَإِسْمَاعِيل، وَابْن مراون لَيْسُوا بأقوياء، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء.
وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَرَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن ابْن مَسْعُود، وَخَالفهُ المَسْعُودِيّ فَرَوَاهُ عَن الْقَاسِم عَن ابْن مَسْعُود ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَالْأَصْل فِي نِصَاب السّرقَة عندنَا ربع دِينَار، فَكل من قومه بِأَكْثَرَ من ثَلَاثَة دَرَاهِم يحْتَمل أَن يكون قومه بذلك حِين تغير صرف الدِّينَار، فَكَانَت قِيمَته ربع دِينَار أَكثر من ثَلَاثَة دَرَاهِم، وعَلى هَذَا يحمل مَا رُوِيَ إِن صَحَّ حَتَّى لَا يتناقض "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (299) :
وَلَا فرق بَين الطَّعَام الرطب واليابس فِي وجوب الْقطع إِذا أَواه الجرين، وَبلغ قِيمَته ربع دِينَار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله:(4/448)
" لَا تقطع فِي الْأَشْيَاء الرّطبَة ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعن الله السَّارِق يسرق الْحَبل فتقطع يَده، وَيسْرق الْبَيْضَة فتقطع يَده ".
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن عبد الله بن عَمْرو أَن رجلا من مزينة أَتَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، كَيفَ ترى فِي التَّمْر الْمُعَلق؟ قَالَ: " هُوَ وَمثله مَعَه، والنكال، وَلَيْسَ فِي شَيْء من التَّمْر الْمُعَلق قطع إِلَّا مَا آواه الجرين، فَمَا أَخذ من الجرين، فَبلغ ثمن الْمِجَن، فَفِيهِ الْقطع، وَمَا لم يبلغ ثمن الْمِجَن فَفِيهِ غَرَامَة مثلَيْهِ، وجلدات نكال ".
وَرُوِيَ عَن إِسْحَاق بن سعيد عَن أَبِيه قَالَ: " سُئِلَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ عَن سَارِق الثِّمَار، قَالَ: الْقطع من الثِّمَار فِيمَا أحرز الجرين، وَالْقطع من الْمَاشِيَة فِيمَا آوى المراح ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن رَافع بن خديج عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا قطع فِي ثَمَر، وَلَا كثر ".(4/449)
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث بعض النَّاس، وَقَالَ: فَمن هَهُنَا لَا يقطع فِي التَّمْر الرطب ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " التَّمْر اسْم جَامع (للرطب من التَّمْر) الزَّبِيب وَغَيره، أفسقط الْقطع عَمَّن سرق تَمرا فِي بَيت؟ وَإِنَّمَا أجَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين قَالَ: " لَا قطع فِي تمر، وَلَا كثر "، على مثل مَا سُئِلَ عَنهُ، وَكَانَ حيطان الْمَدِينَة لَيْسَ عَلَيْهَا حيطان، وَلِأَنَّهُ يَقُول: " فَإِذا آواه الجرين والمراح فَفِيهِ الْقطع "، وَاحْتج بِحَدِيث عُثْمَان فِي الأترجة، وَقد مضى، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (300) :
وَلَو وهبت مِنْهُ السّرقَة لم يدرء عَنهُ بذلك الْحَد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " سقط الْقطع ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن قُريْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْن المخزومية الَّتِي سرقت، فَقَالُوا: " من يكلم فِيهَا رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالُوا: " وَمن يجتري عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَة بن زيد حب رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَكَلمهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا أهلك الَّذين من قبلكُمْ، أَنهم كَانُوا إِذا سرق فيهم الشريف تَرَكُوهُ، وَإِذا سرق فيهم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ(4/450)
الْحَد، وأيم الله لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا، ثمَّ أَمر بِتِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي سرقت، فَقطعت يَدهَا ".
قد كَانَ طَلَبهمْ من الْمَسْرُوق مِنْهُ، وإرضاه بعوض أيسر لَو كَانَ الْقطع يسْقط بِالْهبةِ إِن شَاءَ الله، فَلَمَّا لم يَفْعَلُوا، وتشفعوا دلّ على أَنه لَا يسْقط بعد رَفعه إِلَى الإِمَام.
وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أقيلوا ذَوي الهيئات عثراتهم إِلَّا الْحُدُود ".
وروى مَالك عَن ابْن شهَاب عَن صَفْوَان بن عبد الله بن صَفْوَان أَن صَفْوَان بن أُميَّة رَضِي الله عَنهُ قيل لَهُ: " من لم يُهَاجر هلك، فَقدم الْمَدِينَة، فَنَامَ فِي الْمَسْجِد، وتوسد رِدَاءَهُ، فجَاء سَارِق، فَأخذ رِدَاءَهُ، فَأخذ صَفْوَان السَّارِق، فجَاء بِهِ إِلَى رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تقطع يَده، فَقَالَ صَفْوَان: إِنِّي لم أرد هَذَا، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَلا قبل أَن تَأتِينِي بِهِ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث سماك بن حَرْب عَن حميد ابْن أُخْت صَفْوَان عَن صَفْوَان قَالَ: " كنت نَائِما فِي الْمَسْجِد على خميصة لي (ثمن ثَلَاثِينَ درهما) ، فجَاء رجل، فاختلسها مني، فَأخذ الرجل،(4/451)
فَأتى بِهِ النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأمر بِهِ ليقطع، فَأَتَيْته، فَقلت: (أتقطعه من أجل ثَلَاثِينَ درهما) ، أَنا أبيعه، وأنسئه، ثمنهَا، قَالَ: فَهَلا كَانَ هَذَا قبل أَن تَأتِينِي بِهِ ".
وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تعافوا الْحُدُود فِيمَا بَيْنكُم، فَمَا بَلغنِي من حد، فقد وَجب "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (301) :
وَيقطع النباش إِذا أخرج من الْكَفَن، وَبَلغت قِيمَته نِصَابا.(4/452)
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " لِأَنَّهُ حرز مثله ". وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يقطع ".
روى أَبُو دَاوُد عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا أَبَا ذَر، قلت: لبيْك يَا رَسُول الله وَسَعْديك، قَالَ: كَيفَ أَنْت إِذا أصَاب النَّاس موت يكون الْبَيْت فِيهِ بالوصيف، يَعْنِي الْقَبْر؟ قلت: الله وَرَسُوله أعلم، أَو مَا خار الله لي وَرَسُوله، قَالَ: عَلَيْك بِالصبرِ، أَو قَالَ: تصبر "، قَالَ أَبُو دَاوُد: " قَالَ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان يقطع النباش؛ لِأَنَّهُ دخل على الْمَيِّت بَيته " وَرُوِيَ عَن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَمن نبش قطعناه ".
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " سَارِق أمواتنا كسارق أحيائنا ".
وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل: " قَالَ هِشَام: " حَدثنَا سُهَيْل قَالَ: شهِدت الزبير قطع نباشا ".(4/453)
وروى عَن الشّعبِيّ قَالَ: " النباش سَارِق ". وَعَن الْحسن، وَإِبْرَاهِيم مثله.
وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز: " لعمري بِحَسب سَارِق الْأَمْوَات أَن يُعَاقب بِمَا يُعَاقب بِهِ سَارِق الْأَحْيَاء ".
وَعَن ابْن الْمسيب فِي أَن النباش يقطع، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (302) :(4/454)
(صفحة فارغة)(4/455)
وَإِذا سرق قطعت يَده، وَإِذا سرق الثَّانِيَة قطعت رجله الْيُسْرَى، فَإِذا سرق الثَّالِثَة قطعت يَده الْيُسْرَى، فَإِذا سرق الرَّابِعَة قطعت رجله الْيُمْنَى. وَقَالَ ابو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يقطع فِي الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة، بل يُعَزّر ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " اخبرني الثِّقَة من أَصْحَابنَا عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن عَن(4/456)
أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي السَّارِق: غن سرق فَاقْطَعُوا يَده، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا يَده، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله ".
وَفِي رِوَايَة حَرْمَلَة، والمزني عَنهُ قَالَ: " أَخْبرنِي عبد الله بن نَافِع عَن مُحَمَّد بن أبي حميد عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثله ".
وروى أَبُو دَاوُد فِي حَدِيث ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ جِيءَ بسارق إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " اقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا سرق، فَقَالَ: اقطعوه، فَقطع، وَذكر مثل ذَلِك إِلَى الرَّابِعَة، فَأتي بِهِ الْخَامِسَة، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فقتلناه ". وَالْقَتْل مَنْسُوخ، كَهُوَ فِي حد الشّرْب، وَالْقطع ثَابت.
وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن الْحَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة، قَالَ: " أُتِي بالسارق، وَقَالُوا: يَا رَسُول الله، هَذَا غُلَام لأيتام، وَالله مَا نعلم لَهُم مَالا غَيره، فَتَركه، وَذكر تَركه إِلَى الرَّابِعَة، ثمَّ أُتِي بِهِ(4/457)
الْخَامِسَة، فَقطع يَده، ثمَّ اتي بِهِ السَّادِسَة، فَقطع رجله، ثمَّ أُتِي بِهِ السَّابِعَة، فَقطع يَده، ثمَّ اتي بِهِ الثَّامِنَة، فَقطع رجله "، وَهُوَ مُرْسل حسن، بِإِسْنَاد صَحِيح، أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم ير بُلُوغه فِي المرات الْأَرْبَع، أَو لم ير سَرقته بلغت مَا يُوجب الْقطع، ثمَّ رأى ذَلِك فِي المرات الْأُخَر، فَقطع، وَهَذَا مُرْسل يُقَوي الْمُرْسل قبله، وَيُقَوِّي قَول من وَافقه من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم.
وَرُوِيَ عَن معَاذ بن عبد الله الْجُهَنِيّ رَضِي الله عَنهُ صَاحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من سرق فَاقْطَعُوا يَده ". الحَدِيث، بِنَحْوِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه أَن رجلا من أهل الْيمن أقطع الْيَد وَالرجل قدم على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَشَكا إِلَيْهِ أَن عَامل الْيمن ظلمه، وَكَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل، فَيَقُول أَبُو بكر: " وَأَبِيك مَا ليلك، ليل سَارِق، ثمَّ إِنَّهُم افتقدوا حليا(4/458)
لأسماء بنت عُمَيْس امْرَأَة أبي بكر، فَجعل الرجل يطوف مَعَهم، وَيَقُول: اللَّهُمَّ عَلَيْك بِمن بَيت أهل هَذَا الْبَيْت الصَّالح، فوجدوا الْحلِيّ عِنْد صائغ، وَأَن الأقطع جَاءَ بِهِ، واعترف الأقطع، أَو شهد عَلَيْهِ، فَأمر بِهِ أَبُو بكر فَقطعت يَده الْيُسْرَى، وَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لدعاؤه على نَفسه أَشد عَليّ من سَرقته ".
وَعَن الْقَاسِم أَن أَبَا بكر أَرَادَ أَن يقطع رجلا بعد الْيَد وَالرجل، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ " السّنة الْيَد "، يشبه أَن يكون أَرَادَ سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَعَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد أَن رجلا سرق مَقْطُوعَة يَده وَرجله، فَأَرَادَ أَبُو بكر أَن يقطع رجله، ويدع يَده، ينْتَفع بهَا، فَقَالَ عمر: " لَا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، فَأمر بِهِ أَبُو بكر، فَقطعت يَده ".
وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا شهِدت عمر قطع يدا بعد يَد وَرجل.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن عَائِذ قَالَ: " أُتِي بِرَجُل(4/459)
أقطع الْيَد وَالرجل، قد سرق فَأمر بِهِ عمر أَن يقطع رجله، فَقَالَ عَليّ: إِنَّمَا قَالَ الله عز وَجل: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} الْآيَة، فقد قطعت يَد هَذَا وَرجله، فَلَا يَنْبَغِي أَن يقطع رجله، فتدعه لَيْسَ لَهُ قَائِمَة يمشي عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَن تعزره، وَإِمَّا أَن تستودعه السجْن، قَالَ: فاستودعه السجْن ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " الرِّوَايَة الأولى عَن عمر أولى أَن تكون صَحِيحَة، وَكَيف يَصح هَذَا؟ وَقد أنكر فِي الرِّوَايَة الأولى قطع الرجل بعد الْيَد وَالرجل، وَأَشَارَ بِالْيَدِ. وَرِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ مَوْصُولَة تشهد، وَكَذَلِكَ رِوَايَة صَفِيَّة.
وَأما مَا رَوَاهُ فِي ذَلِك عَن عبد الله بن سَلمَة عَن عَليّ فِي غير هَذِه الرِّوَايَة من تَضْمِينه السجْن فِي الثَّالِثَة فقد قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قد رويتم فِي الْقطع أَشْيَاء مستنكرة تَرَكْتُمُوهَا عَلَيْهِ: مِنْهَا أَنه قطع بطُون أنامل صبي وَمِنْهَا أَنه قطع الْقدَم من نصف الْقدَم، وَكلما رويتم عَن عَليّ فِي الْقطع غير ثَابت عندنَا عَنهُ "، وَبسط الْكَلَام فِيهِ، قَالَ: " وَقد روينَا مَا قُلْنَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر فِي دَار الْهِجْرَة، وَعمر يرَاهُ وَيُشِير بِهِ ".
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قطع أَيْضا، وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى، فَإِن عبد الله بن سَلمَة غير مُحْتَج بِهِ، وَالله أعلم.(4/460)
أما مسالة اجْتِمَاع الْقطع مَعَ الْغرم فقد مَضَت فِي كتاب الْغَصْب (وَالله أعلم) .
مَسْأَلَة (303) :
وَآيَة الْمُحَاربين نزلت فِي الْمُسلمين، وترتيبه على مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِلَّا فِي موضِعين:
أَحدهمَا: أَنه قَالَ: " يقتل الردء "، وَعِنْدنَا لَا يقتل.
وَالْآخر: أَنه إِن جمع بَين أَخذ المَال وَالْقَتْل، قَالَ: " الإِمَام بِالْخِيَارِ بَين الْقطع وَالْقَتْل، أَو الصلب وَالْقَتْل "، وَعِنْدنَا قتلوا وصلبوا.
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ(4/461)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يحل دم رجل يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَنِّي رَسُول الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثَة نفر: النَّفس بِالنَّفسِ، وَالثَّيِّب الزَّانِي، والتارك لدينِهِ، المفارق للْجَمَاعَة ". والردء لم يقتل، وَلم يزن، وَلم يكفر.(4/462)
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن إِبْرَاهِيم عَن صَالح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قطاع الطَّرِيق: " إِذا قتلوا وَأخذُوا المَال قتلوا وصلبوا، وَإِذا قتلوا وَلم يَأْخُذُوا المَال قتلوا وَلم يصلبوا، وَإِذا أخذُوا المَال وَلم يقتلُوا قطعت أَيْديهم وأرجلهم من خلاف، وَإِذا أخافوا السَّبِيل، وَلم يَأْخُذُوا مَالا نفوا من الأَرْض ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَبِهَذَا نقُول، وَهُوَ مُوَافق معنى كتاب الله عز وَجل، وَذَلِكَ أَن الْحُدُود إِنَّمَا نزلت فِيمَن أسلم، فَأَما أهل الشّرك فَلَا حُدُود عَلَيْهِم إِلَّا الْقَتْل، أَو السَّبي، أَو الْجِزْيَة، وَاخْتِلَاف حدودهم باخْتلَاف أَحْوَالهم على مَا قَالَ ابْن عَبَّاس إِن شَاءَ الله، فَمن تَابَ قبل أَن يقدر عَلَيْهِ سقط حد الله، وَأخذ بِحُقُوق بني آدم، وَلَا يقطع من قطاع الطَّرِيق إِلَّا من أَخذ قيمَة ربع دِينَار فَصَاعِدا، قباسا على السّنة فِي السَّارِق ".
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن عبد الرَّزَّاق، وَإِبْرَاهِيم عَن دَاوُد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَّا انه لم يذكر الصلب مَعَ الْقَتْل، وَلَا إخافة السَّبِيل، وَقَالَ فِي أَخّرهُ: " فَإِن هرب، وأعجزهم فَذَلِك نَفْيه ".
وَرُوِيَ عَن عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " إِن أَخذ وَقد أصَاب المَال، وَلم يصب الدَّم قطعت يَده وَرجله من خلاف، وَإِن وجد، وَقد أصَاب الدَّم قتل وصلب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... تمّ بِحَمْد الله(4/463)
(كتاب الاشربة)
وَمن كتاب الْأَشْرِبَة:
(مَسْأَلَة) (305)
:
مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام، من أَي الْأَجْنَاس كَانَ: من مطبوخ ونيّ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " النيُّ من التَّمْر، وَالزَّبِيب، وَالْعِنَب محرم، وَمن غَيرهَا مُبَاح، وَأما الْمَطْبُوخ فَمن الْأَجْنَاس كلهَا حَلَال ".
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن أبي رَجَاء عَن ابْن سعيد عَن أبي حَيَّان عَن عَامر عَن ابْن عمر عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - أَنه قَامَ خطيباُ على مِنْبَر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: " أما بعد، فَإِن الْخمر نزل تَحْرِيمهَا، وَهِي من خَمْسَة: من الْعِنَب، وَالتَّمْر، وَالْبر، وَالشعِير، وَالْعَسَل، وَالْخمر مَا خامر الْعقل، وَثَلَاث وددت أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يفارقنا حَتَّى يعْهَد إِلَيْنَا فِيهَا عهدا يَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجد، والكلالة، وأبواب من أَبْوَاب الرِّبَا "، فَقلت: " مَا ترى فِي السَّادِسَة(5/5)
يصنع بالسند يدعى الْجَاهِل يشرب مِنْهُ الشربة، فتصرعه، يصنع من الْأرز؟ قَالَ: " لم يكن هَذَا على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَو كَانَ لنهى عَنهُ، أَلا ترى أَنه قد عَم الْأَشْرِبَة كلهَا، فَقَالَ: الْخمر مَا خامر الْعقل ".
قَالَ البُخَارِيّ: " وَقَالَ حجاج عَن حَمَّاد أبي حسان مَكَان " الْعِنَب " " الزَّبِيب ". وَقَوله: " الْخمر مَا خامر الْعقل " فِي آخر الحَدِيث مُسْند فافهمه.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ -: كنت قَائِما على الْحَيّ (أسقيهم) على عمومتي، وَأَنا أَصْغَرهم سنا، من فضيخ لَهُم، قَالَ: " فجَاء رجل فَقَالَ: " إِن الْخمر قد حرمت "، فَقَالُوا: " أكفئها يَا أنس "، قَالَ: " فكفأتها "، فَقيل لأنس: " فَمَا كَانَ شرابهم؟ " قَالَ: " رطب وَبسر "، قَالَ أَبُو بكر بن أنس: - وَأنس شَاهد -: " وَكَانَت خمرهم يَوْمئِذٍ "، فَلم يُنكر ذَلِك أنس، قَالَ: " وحَدثني بعض أَصْحَابِي أَنه سمع أنسا يَقُول: " كَانَت خمرهم يَوْمئِذٍ ".
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا عَن قَتَادَة عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " إِنِّي(5/6)
لأسقي أَبَا طَلْحَة، وَأَبا دُجَانَة، وَسُهيْل بن بَيْضَاء من خليط بسر وتمر إِذْ حرمت الْخمر، فدفعتها، وَأَنا ساقيهم، وأصغرهم، وَإِنَّا نعدها يَوْمئِذٍ الْخمر ".
وَعند البُخَارِيّ عَن ثَابت عَنهُ حرمت الْخمر حِين حرمت، وَمَا نجد خمور الأعناب إِلَّا الْقَلِيل، وَعَامة خمرهم الْبر وَالتَّمْر ".
وَعِنْده عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " نزل تَحْرِيم الْخمر، وَإِن بِالْمَدِينَةِ يَوْمئِذٍ لخمسة أشربة مَا فِيهَا شراب الْعِنَب ".
واتفقا على صِحَة حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن البتع، فَقَالَ: " كل شراب أسكر فَهُوَ حرَام "، زَاد مُسلم فِي رِوَايَة: " والبتع نَبِيذ الْعَسَل ".
وَفِي أُخْرَى عِنْد البُخَارِيّ سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن البتع، وَهُوَ نَبِيذ(5/7)
الْعَسَل، كَانَ أهل الْيمن يشربونه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل شراب أسكر فَهُوَ حرَام ".
(اتفقَا على صِحَة حَدِيث أبي مُوسَى: فَقلت: يَا رَسُول الله، يصنع عندنَا شراب من الْعَسَل، يُقَال لَهُ: البتع، وشراب من الشّعير يُقَال المزر، وهما يسكران، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل شراب يسكر حرَام ") .
وَعند مُسلم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كل مُسكر خمر، وكل مُسكر حرَام ".
وَعند أبي دَاوُد عَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام ".
وَله شَوَاهِد مِنْهَا مَا رُوِيَ عَن عَامر بن سعد عَن أَبِيه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أنهى عَن قَلِيل مَا أسكر كَثِيره "، رُوَاته ثِقَات.
وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(5/8)
يَقُول: كل مُسكر حرَام، وَمَا أسكر مِنْهُ الْفرق، فملء الْكَفّ مِنْهُ حرَام ". وَفِي رِوَايَة: " فالحسوة مِنْهُ حرَام ".
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كل مُسكر خمر، وَمَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام ". وَرُوِيَ فِي ذَلِك عَن عبد الرَّحْمَن بن حجيرة، وَعَن عبد الله بن عَمْرو.
وَعند أبي دَاوُد عَن دَيْلَم الْحِمْيَرِي، قَالَ: " سَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا بِأَرْض بَارِدَة، نعالج فِيهَا عملاُ شَدِيدا، وَإِنَّا نتَّخذ شرابًا من هَذَا الْقَمْح نتقوى بِهِ، قَالَ: هَل يسكر؟ قلت: نعم، قَالَ: فَاجْتَنبُوهُ، قلت: فَإِن النَّاس غير تاركيه، قَالَ: فَإِن لم يَتْرُكُوهُ فقاتلوهم ". وَعند مُسلم فِي الصَّحِيح عَن أبي عمر البهراني، قَالَ: " سُئِلَ ابْن عَبَّاس(5/9)
- رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن الطِّلا، فَقَالَ: إِن النَّار لَا تحل شَيْئا، وَلَا تحرمه ".
وَعند البُخَارِيّ عَن أبي الجويرة قَالَ: " سَأَلت ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن الباذق، فَقَالَ: " سبق مُحَمَّد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الباذق مَا أسكر فَهُوَ حرَام، قَالَ: الشَّرَاب الطّيب، لَا الْحَرَام الْخَبيث ".
وَعند أبي دَاوُد عَن مَالك بن أبي مَرْيَم قَالَ: " دخل علينا عبد الرَّحْمَن ابْن غنيم فتذاكرنا الطلاء، فَقَالَ: حَدثنِي أَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: ليشربن نَاس من أمتِي الْخمر يسمونها بِغَيْر اسْمهَا ".
وَقد ثَبت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " الْخمر من هَاتين الشجرتين "، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى هِيَ خَمْسَة، لم يفرق بَين الْمَطْبُوخ والنيِّ ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِنَّمَا الْخمر من هَاتين الشجرتين: النَّخْلَة والعنبة ".
وَعند أبي دَاوُد عَن النُّعْمَان بن بشير - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ:(5/10)
" سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: إِن الْخمر من الْعصير، وَالزَّبِيب، وَالتَّمْر، وَالْحِنْطَة، وَالشعِير، والذرة، وَإِنِّي أنهاكم عَن كل مُسكر "، وَهَذَانِ الحديثان لَا يتنافيان.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " مَعْنَاهُ: أَن مُعظم مَا يتَّخذ من الْخمر إِنَّمَا هُوَ من النَّخْلَة والعنبة، وَإِن كَانَت قد تتَّخذ أَيْضا من غَيرهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب التَّأْكِيد لتحريمه لضراوته، وَشدَّة سورته، كَمَا يُقَال: الشِّبَع من اللَّحْم، والدفء من الْوَبر، وَلَيْسَ فِيهِ نفي الشِّبَع عَن غير اللَّحْم، وَنفي الدفء عَن غير الْوَبر ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن السَّائِب عَن يزِيد أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - خرج عَلَيْهِم، فَقَالَ: " إِنِّي وجدت من فلَان ريح شراب، فَزعم أَنه شراب الطِّلاء، وَأَنا سَائل عَمَّا شرب، فَإِن كَانَ يسكر جلدته، فجلده الْحَد تَاما ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا إِبْرَاهِيم عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لَا أُوتى بِرَجُل شرب خمرًا، وَلَا نبيذاً مُسكرا إِلَّا جلدته الْحَد ".(5/11)
وَرُوِيَ عَن مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج قَالَ: " قلت لعطاء: أتجلد فِي ريح الشَّرَاب؟ قَالَ: إِن الرّيح ليَكُون من الشَّرَاب الَّذِي لَيْسَ بِهِ بَأْس، فَإِذا اجْتَمعُوا جَمِيعًا على شراب وَاحِد، فيسكر أحدهم جلدُوا جَمِيعًا الْحَد تَاما ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أَرَأَيْت إِن شرب عشرَة، وَلم يسكروا؟ "، فَإِن قَالَ: " حَلَال "، قيل: " افرأيت إِن خرج، فأصابته الرّيح فَسَكِرَ؟ "، فَإِن قَالَ: " حَرَامًا "، قيل لَهُ: " أَرَأَيْت شَيْئا قطّ يشربه، وَصَارَ إِلَى جَوْفه حَلَالا، ثمَّ صيرته الرّيح حَرَامًا؟ ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - لقد سقيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقدحي هَذَا الشَّرَاب كُله الْعَسَل، والنبيذ، وَالْمَاء، وَاللَّبن ".
وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ، وَصفَة النَّبِيذ الَّذِي كَانَ يشربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منقولة إِلَيْنَا فِي صَحِيح مُسلم أَيْضا عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - كُنَّا ننبذ لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سقا، يوكى أَعْلَاهُ، وَله عزلا، ننبذ غدْوَة، فيشربه عشَاء، وننبذه عشَاء، فيشربه غدْوَة ".
عِنْده عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - جَاءَهُ قوم، فَسَأَلُوهُ عَن بيع الْخمر، واشترائه، وَالتِّجَارَة فِيهِ، قَالَ: " لَا يصلح بيعهَا، وَلَا اشتراؤها، وَلَا التِّجَارَة فِيهِ لمُسلم "، ثمَّ سَأَلُوهُ عَن الطلاء، فَقَالَ:(5/12)
" وَمَا طلاؤكم هَذَا؟ " قَالُوا: هُوَ الْعِنَب يعصر، ثمَّ يطْبخ، وَيجْعَل فِي الدنان، قَالَ: " وَمَا الدنان؟ "، قَالُوا: دنان مقيرة، قَالَ: " أيسكر؟ "، قَالُوا: إِذا أَكثر مِنْهُ أسكر، قَالَ: " فَكل مُسكر حرَام "، ثمَّ سَأَلُوهُ عَن النَّبِيذ، فَقَالَ: " خرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سفر، فَرجع من سَفَره، وناس من أَصْحَابه قد انتبذوا نبيذاً لَهُم فِي نقيرة، وحناتم، ودباء، فَأمر بهَا، فأهرقت، فَأمر بسقا، فَجعل فِيهِ زبيب وَمَاء، فَكَانَ ينْبذ لَهُ من اللَّيْل، فَيُصْبِح فيشربه يَوْمه ذَلِك وَلَيْلَته الَّتِي يسْتَقْبل، وَمن الْغَد حَتَّى يُمْسِي، فَإِذا أَمْسَى شرب وَسَقَى، فَإِذا أصبح فِيهِ شَيْء أَمر بِهِ فأهريق ".
وَعند أبي دَاوُد عَن عبد الله الديلمي عَن أَبِيه قَالَ: " أَتَيْنَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، قد علمت من نَحن؟ وَمن أَيْن نَحن؟ فَإلَى أَيْن نَحن؟ ، قَالَ: إِلَى الله عز وَجل، وَإِلَى رَسُوله، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِن لنا أعناباً، مَا نصْنَع بهَا؟ قَالَ: زببوها، قُلْنَا: مَا نصْنَع بالزبيب؟ قَالَ: انبذوه على غدائكم، واشربوه على عشائكم، وانبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم، وانبذوه فِي الشنان، وَلَا تنبذوه فِي القلل؛ فَإِنَّهُ إِذا تَأَخّر عَن عصره صَار خلا ".
وَعِنْده أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " علمت أَن(5/13)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَصُوم، فتحينت قَطْرَة نَبِيذ صَنعته فِي دباء، ثمَّ أَتَيْته بِهِ، فَإِذا هُوَ ينشى فَقَالَ: اضْرِب بِهَذَا الْحَائِط، فَإِن هَذَا شراب من لَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن سَلام عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي بردة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اشربوا، وَلَا تسكروا "، وَفِيه وهمان:
أَحدهمَا: فِي إِسْنَاده، حَيْثُ قَالَ: " عَن أبي بردة "، وَإِنَّمَا يرويهِ سماك عَن الْقَاسِم عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، كَذَا رَوَاهُ يحيى بن يحيى عَن مُحَمَّد بن جرير عَن سماك.
وَالْآخر: فِي مَتنه، حَيْثُ قَالَ: " اشربوا، وَلَا تسكروا "، وَإِنَّمَا يرويهِ النَّاس " وَلَا تشْربُوا مُسكرا "، يدل على صِحَة ذَلِك مَا روى مُسلم فِي الصَّحِيح عَن محَارب بن دثار عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كنت نَهَيْتُكُمْ عَن الْأَشْرِبَة فِي ظروف الْأدم، فَاشْرَبُوا فِي كل وعَاء غير أَن لَا تشْربُوا مُسكرا ".
وَفِي رِوَايَة: " فَاشْرَبُوا فِي الأسقية كلهَا، وَلَا تشْربُوا مُسكرا ".(5/14)
وَبَلغنِي عَن أبي عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ أَنه قَالَ: " هَذَا حَدِيث مُنكر، غلط فِيهِ أَبُو الْأَحْوَص سَلام بن سليم، لَا نعلم أَن أحدا تَابعه عَلَيْهِ من أَصْحَاب سماك "، قَالَ النَّسَائِيّ: " قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أَبُو الْأَحْوَص يُخطئ فِي هَذَا الحَدِيث "، قَالَ النَّسَائِيّ: " وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة عَن سماك عَن مرصافة امْرَأَة مِنْهُنَّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " اشربوا وَلَا تسكروا "، وَهَذَا أَيْضا غير ثَابت، ومرصافة هَذِه لَا أَدْرِي من هِيَ، وَالْمَشْهُور عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - خلاف ذَلِك. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " وهم أَبُو الْأَحْوَص فِي إِسْنَاده وَمَتنه، وَقَالَ عَنهُ عَن سماك عَن الْقَاسِم عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه وَلَا تشْربُوا مُسكرا ". وروى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَلَا يَصح.
رُوِيَ عَن فرقد السبحي عَن جَابر بن يزِيد عَن مَسْرُوق عَن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " بَيْنَمَا نَحن نزُول مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْأَبْطح "، فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: " فَاشْرَبُوا، وَلَا تسكروا "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " فرقد، وَجَابِر ضعيفان، وَلَا يَصح ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " حرمت الْخمر بِعَينهَا الْقَلِيل مِنْهَا وَالْكثير، وَالسكر من كل شراب "، نَحن نقُوله(5/15)
بِظَاهِر الْخَبَر، وَهُوَ السُّكُوت فِيهِ، وَهُوَ الْقَلِيل مَأْخُوذ حكمه مِمَّا روينَاهُ، ثمَّ إِنَّهُم يروون هَذَا الحَدِيث على نَحْو مَا يذهبون إِلَيْهِ من تَحْرِيم الْمُسكر من كل شراب سوى الأعناب، والْحَدِيث عِنْد الْحفاظ " السكر من كل شراب " بِفَتْح السِّين وَالْكَاف، قَالَ صَاحب الغريبين: " السكر خمر الأعجام، وَيُقَال لما يسكر السكر ".
وَالَّذِي يدل على أَن المُرَاد بِهِ ذَلِك رِوَايَة إِمَام أهل الحَدِيث أَحْمد بن حَنْبَل عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن مسعر عَن أبي عون عَن ابْن شَدَّاد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - حرمت الْخمر بِعَينهَا، قليلها وكثيرها، والمسكر من كل شراب. كَذَا رُوِيَ عَن ابْنه عبد الله عَنهُ، وَهَكَذَا رَوَاهُ مُوسَى ابْن هَارُون عَن أَحْمد، والمسكر من كل شراب. قَالَ مُوسَى: " وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهَا - لِأَنَّهُ قد روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل مُسكر حرَام ". وروى عَنهُ عَطاء، وَطَاوُس، وَمُجاهد: مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن(5/16)
أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة.
استدلوا بقول الله عز وَجل: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} ، قَالُوا: " أخرجه مخرج الْمِنَّة، فَتَنَاول كَثِيرَة وقليله، فأخرجنا مِنْهُ إِذا أَكثر مِنْهُ، وَبَقِي مَا دونه على التَّحْلِيل. رُوِيَ عَن عَمْرو بن سُفْيَان عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " السكر مَا حرم من ثَمَرَتهَا، والرزق الْحسن مَا حل من ثَمَرَتهَا ". وَعَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ فِي قَوْله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} ، فَحرم الله بعد ذَلِك السكر مَعَ تَحْرِيم الْخمر؛ لِأَنَّهَا مِنْهَا، قَالَ: {وَرِزْقاً حَسَناً} فَهُوَ حَلَال من الْخلّ، والرُّبِّ، والنبيذ، وَأَشْبَاه ذَلِك، فأقره الله، وَجعله حَلَالا للْمُسلمين.
وَقد روينَا عَن أبي عبيد أَنه قَالَ: " السكر نَقِيع التَّمْر ". وَعَلِيهِ تدل رِوَايَة ابْن أبي طَلْحَة مَعَ الدّلَالَة على دُخُوله فِي التَّحْرِيم حِين حرمت الْخمر؛ لِأَنَّهُ مِنْهَا.
وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم، وَالشعْبِيّ، وَأبي رزين قَالُوا فِي هَذِه الْآيَة(5/17)
{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} " هِيَ مَنْسُوخَة ".
وَرُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز بن أبان عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن خَالِد عَن أبي مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سُئِلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن النَّبِيذ حَلَال، أَو حرَام؟ فَقَالَ: حَلَال ". قَالَ عَليّ بن عمر: " عبد الْعَزِيز بن أبان مَتْرُوك الحَدِيث ". وَرُوِيَ عَن يحيى بن يمَان الْعجلِيّ عَن سُفْيَان بِالْإِسْنَادِ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عطس، وَهُوَ يطوف، فَأتي بنبيذ من السِّقَايَة فقطب، فَقَالَ لَهُ رجل: " أحرام هُوَ، يَا رَسُول الله؟ قَالَ: " لَا، عليّ بذنوب من مَاء زَمْزَم، فصب عَلَيْهِ، ثمَّ شرب، وَهُوَ يطوف بِالْبَيْتِ ". كَذَا رَوَاهُ اليسع بن إِسْمَاعِيل عَن زيد بن الْخَبَّاب عَن سُفْيَان، وَالْيَسع ضَعِيف الحَدِيث. قَالَه عَليّ بن عمر، والْحَدِيث مَعْرُوف بِيَحْيَى بن يمَان، وَيُقَال: " إِنَّه انْقَلب عَلَيْهِ الْإِسْنَاد، وَاخْتَلَطَ بِحَدِيث الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن الْمطلب بن أبي ودَاعَة هَذَا الْمَتْن، والكلبي مَتْرُوك الحَدِيث، لَا يعرفهُ، وَأَبُو صَالح بادان مولى أم هَانِئ ضَعِيف الحَدِيث، وَابْن يمَان كثير الْخَطَأ، يتَجَنَّب مَا ينْفَرد بِهِ. قَالَ يحيى بن معِين: " رُبمَا عارضت بِأَحَادِيث يحيى بن يمَان أَحَادِيث النَّاس فَمَا خَالف فِيهَا النَّاس ضربت عَلَيْهِ، وَقد ذكرت لوكيع شَيْئا من حَدِيثه عَن سُفْيَان، فَقَالَ وَكِيع: لَيْسَ هَذَا سُفْيَان الَّذِي سمعنَا نَحن مِنْهُ ".
قَالَ ابْن عدي: " سَمِعت عَبْدَانِ يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير يَقُول: ابْن يمَان سريع النسْيَان، وَحَدِيثه خطأ عَن(5/18)
الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن خَالِد ابْن سعد عَن أبي مَسْعُود، إِنَّمَا هُوَ عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن الْمطلب ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " فقد سَرقه عبد الْعَزِيز بن أبان، فَرَوَاهُ عَن سُفْيَان، وَسَرَقَهُ اليسع بن إِسْمَاعِيل، فَرَوَاهُ عَن زيد بن الْحباب عَن سُفْيَان، وَعبد الْعَزِيز مَتْرُوك، وَالْيَسع ضَعِيف الحَدِيث، أخبرنَا بذلك السّلمِيّ عَن الدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ ابْن عدي: " حَدثنَا الجندي، قَالَ: قَالَ البُخَارِيّ - رَحمَه الله - فِي حَدِيث يحيى بن الْيَمَان: هَذَا لم يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقَالَ الْأَشْجَعِيّ، وَعَبدَة عَن سُفْيَان الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن الْمطلب. وَرُوِيَ عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَذكر قصَّة فِيهَا طواف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ودعاؤه بشراب، قَالَ: " فَأتي بشراب، فَشرب مِنْهُ، ثمَّ دَعَا بِالْمَاءِ، فَصَبَّهُ فِيهِ، فَشرب، ثمَّ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، فدعاء بِمَاء، فصب فِيهِ، (فَشرب، ثمَّ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاء، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ) ، ثمَّ شرب مرَّتَيْنِ، أَو ثَلَاثَة، ثمَّ قَالَ: إِذا اشْتَدَّ عَلَيْكُم فَاقْتُلُوهُ بِالْمَاءِ "، وَيزِيد بن أبي زِيَاد ضَعِيف، لم يحْتَج بِهِ لسوء حفظه، وَقد روى خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَقد روى خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن(5/19)
عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قصَّة طواف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وشربه، لم يذكر مَا ذكره يزِيد، وَإِنَّمَا تعرف هَذِه الزِّيَادَة من رِوَايَة الْكَلْبِيّ، كَمَا مضى، وَزَاد يزِيد " شربه مِنْهُ قبل خلطه بِالْمَاءِ "، وَهُوَ بِخِلَاف سَائِر الروَاة.
وروى عَن الشَّيْبَانِيّ عَن عبد الْملك بن نَافِع بن أخي الْقَعْقَاع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَذكر حَدِيثا طَويلا فِي نَبِيذ لَهُ ريح شَدِيدَة، قَالَ: " فَدَعَا بِمَاء، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، ثمَّ شرب، ثمَّ قَالَ: إِذا اعتملت الأسقية، فاكسروها بِالْمَاءِ ".
وَفِي رِوَايَة عَن مَالك بن الْقَعْقَاع، (قَالَ: " سَأَلت ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِيذ الشَّديد، فَذكره بِمَعْنَاهُ "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " كَذَا قَالَ مَالك بن الْقَعْقَاع، وَقَالَ غَيره عَن عبد الْملك بن نَافِع بن أخي الْقَعْقَاع) ، وَهُوَ رجل مَجْهُول ضَعِيف ". وَالصَّحِيح عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام ". وَهَذَا حَدِيث يعرف بِعَبْد الْملك بن نَافِع، وَهُوَ رجل مَجْهُول، وَاخْتلفُوا فِي اسْمه، وَاسم أَبِيه، فَقيل: هَكَذَا، وَقيل: " عبد الْملك بن الْقَعْقَاع "، وَقيل: " ابْن أخي الْقَعْقَاع "، وَقيل: " مَالك بن الْقَعْقَاع ".
وروى ابْن عدي عَن ابْن أبي مَرْيَم قلت ليحيى: " أَرَأَيْت حَدِيث عبد الْملك بن نَافِع الَّذِي يرويهِ إِسْمَاعِيل فِي النَّبِيذ؟ "، قَالَ: " هم يضعفونه "، قَالَ ابْن عدي: " سَمِعت ابْن حَمَّاد يَقُول: " قَالَ البُخَارِيّ:(5/20)
قَالَ عبد الْملك ابْن نَافِع بن أخي الْقَعْقَاع بن ثَوْر عَن ابْن عمر فِي النَّبِيذ لم يُتَابع عَلَيْهِ "، قَالَ النَّسَائِيّ: " عبد الْملك بن نَافِع لَيْسَ بِمَشْهُور، وَلَا يحْتَج بحَديثه، وَالْمَشْهُور عَن ابْن عمر خلاف حكايته ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي حَدِيث وَفد عبد الْقَيْس، وَفِيه قَالُوا: " يَا رَسُول الله، فَإِن اشْتَدَّ فِي الأسقية "، قَالَ: " فصبوا عَلَيْهِ المَاء "، قَالُوا: " يَا رَسُول الله "، فَقَالَ لَهُم فِي الثَّالِثَة، أَو الرَّابِعَة: " أهريقوه "، ثمَّ قَالَ: " إِن الله - جلّ ثَنَاؤُهُ - حرم عَليّ، أَو حرم الْخمر وَالْميسر والكوبة "، قَالَ: " وكل مُسكر حرَام ". وَحَدِيث وَفد عبد الْقَيْس الْمَعْرُوف الْمَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَلَيْسَ فِيهِ الْأَمر بِالْكَسْرِ، ثمَّ المُرَاد بِهِ - إِن صَحَّ - كَسره بِالْمَاءِ إِذا خَافَ شدته قبل الاشتداد، فقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: لوفد عبد الْقَيْس: " لَا تشْربُوا فِي نقير، وَلَا مقير، وَلَا دباء، وَلَا حنتم، وَلَا مزادة وَلَكِن اشربوا فِي سقاء أحدكُم غير مُسكر، فَإِن خشِي شدته، فليصب عَلَيْهِ المَاء ".(5/21)
فَأَما إِذا اشْتَدَّ، وَبلغ حد الْإِسْكَار فقد روينَا قبل هَذَا عَن أبي مُوسَى، وَأبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أَمر فِيهِ بإراقته، وَلَو كَانَ إِلَى إِصْلَاحه بِالْمَاءِ سَبِيل لما أَمر بإراقته، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد لَا يحْتَج بِهِ عَن أبي سعيد مَرْفُوعا " لينبذ أحدكُم فِي سقائه، فَإِن خشِي سكره فليكسره بِالْمَاءِ "، وَرَأَيْت فِي حَدِيث يحيى بن أبي كثير عَن ثُمَامَة بن كلاب عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مَرْفُوعا " لَا تنبذوا فِي الدُّبَّاء، والمزفت، وَلَا النقير، وَلَا الحنتمة، وَلَا تنبذوا الرطب والبسر جَمِيعًا، وَلَا التَّمْر وَالزَّبِيب جَمِيعًا، وَمَا كَانَ سوى ذَلِك فَاشْتَدَّ عَلَيْكُم فاكسروه بِالْمَاءِ ". وثمامة مَجْهُول، وَالثَّابِت عَن ابْن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي قَتَادَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّهْي عَن الخليطين " دون هَذِه اللَّفْظَة.
ورأيته أَيْضا فِي حَدِيث عِكْرِمَة ابْن عمار عَن أبي كثير السحمي عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا إِلَّا أَنه قَالَ: " إِذا أَرَابَك فِي(5/22)
شرابك ريب فسن عَلَيْهِ المَاء، أمط عَنْك حرَامه، واشرب حَلَاله "، وَهَذَا أَيْضا ضَعِيف، عِكْرِمَة بن عمار اخْتَلَط فِي آخر عمره، وساء حفظه، فروى مَا لم يُتَابع عَلَيْهِ. وَقد رَوَاهُ عبد الله بن يزِيد المَقْبُري عَن عِكْرِمَة بن عمار، وَقَالَ قَوْله: إِذا أَرَابَك ... " قَالَه أَبُو هُرَيْرَة، ذكره إِسْحَاق الْحَنْظَلِي فِي مُسْنده.
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا دخل أحدكُم على أَخِيه الْمُسلم، فأطعمه، فَليَأْكُل من طَعَامه، وَلَا يسْأَله، وَإِن سقَاهُ شرابًا، فليشرب من شرابه، وَلَا يسْأَله عَنهُ، وَإِن خشِي مِنْهُ فليكسره بِالْمَاءِ ".
المُرَاد - وَالله أعلم - إِذا خشِي أَن يبلغ حد الْإِسْكَار فليكسره بِالْمَاءِ حَتَّى لَا يشْتَد ويبلغ حد الْإِسْكَار بِدَلِيل مَا سبق ذكره، وَالله أعلم. وَرُبمَا استدلوا بِمَا روى عمار بن مطر عَن جرير عَن الْحجَّاج عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُم - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كل مُسكر حرَام "، قَالَ عبد الله: " هِيَ الشربة الَّتِي أسكرتك ".
وَعَن شريك عَن أبي حَمْزَة عَن إِبْرَاهِيم قَوْله: " كل مُسكر حرَام " هِيَ الشربة الَّتِي أسكرتك. قَالَ عَليّ بن عمر: " وَهَذَا أصح من الَّذِي(5/23)
قبله، وَلم يسْندهُ غير الْحجَّاج، وَاخْتلف عَنهُ، وعمار بن مطر ضَعِيف، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
حَدثنَا أَبُو سعيد، وَذكر إِسْنَادًا عَن سُفْيَان بن عبد الْملك أَنه ذكر عِنْده - يَعْنِي عِنْد ابْن الْمُبَارك - حَدِيث ابْن مَسْعُود هِيَ الشربة الَّتِي أسكرتك؟ فَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك - رَحمَه الله -: " هَذَا حَدِيث بَاطِل ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى: " وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم بِخِلَافِهِ، قَالَ البُخَارِيّ: زَكَرِيَّا بن عدي لما قدم ابْن الْمُبَارك - رَحمَه الله تَعَالَى - الْكُوفَة كَانَت بِهِ عِلّة، فَأَتَاهُ وَكِيع، وأصحابنا الْكُوفِيُّونَ، فتذاكروا عِنْده، حَتَّى بلغُوا الشَّرَاب، فَجعل ابْن الْمُبَارك يحْتَج بِأَحَادِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والمهاجرين، وَالْأَنْصَار من أهل الْمَدِينَة، فَقَالُوا: " لَا، وَلَكِن من حديثنا "، فَقَالَ ابْن الْمُبَارك: " أخبرنَا الْحسن بن عَمْرو عَن فُضَيْل بن عَمْرو عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه سكر من شراب لم يحل لَهُ أَن يعود فِيهِ أبدا، فنكسوا رؤوسهم، فَقَالَ للَّذي يَلِيهِ: أَرَأَيْت أعجب من هَؤُلَاءِ؟ أحدثهم عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعَن أَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ، فَلم يعبؤا بِهِ، وأذكر عَن إِبْرَاهِيم، فنكسوا رؤوسهم ".
وروى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كل مُسكر حرَام، فَقَالَ رجل، أَو رجلَانِ: يَا ابْن عَبَّاس، إِن هَذَا الشَّرَاب الَّذِي نشربه إِذا أكثرنا سكرنا، قَالَ: لَيْسَ هَكَذَا، إِذا شربت تِسْعَة، فَلم يسكرك، فَلَا بَأْس، فَإِذا شربت الْعَاشِر، فأسكرك فَهُوَ حرَام "، وَهَذَا بَاطِل، الْكَلْبِيّ مَتْرُوك.(5/24)
وَرُوِيَ عَن شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن عَمْرو بن مَيْمُون، قَالَ: " قَالَ عمر: إِنِّي لأشرب هَذَا النَّبِيذ الشَّديد ليقتطع مَا فِي بطوننا من لُحُوم الْإِبِل "، رَوَاهُ إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق، وَلم يذكر " الشَّديد "، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو خَيْثَمَة عَن أبي إِسْحَاق عَن عَمْرو عَن عمر إِنَّا لنشرب من النَّبِيذ نبيذاً يقطع لُحُوم الْإِبِل فِي بطوننا من أَن يؤذينا. ونبيذهم الَّذِي كَانُوا يشربونه على الصّفة الَّتِي روينَا عَن ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة، وَغَيرهمَا - رَضِي الله عَنْهُم - لم يبلغ حد الْإِسْكَار.
وروى عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه كَانَ النَّبِيذ الَّذِي يشربه عمر كَانَ ينقع لَهُ الزَّبِيب غدْوَة، فيشربه عَشِيَّة، وينقع لَهُ عَشِيَّة، فيشربه غدْوَة، وَلَا يَجْعَل فِيهِ دردي.
وَرُوِيَ عَن وَكِيع عَن شريك عَن فراس عَن الشّعبِيّ أَن رجلا شرب من إداوة على نَبِيذ نِصْفَيْنِ، فَسَكِرَ، فَضَربهُ عَليّ الْحَد.
وَعَن سُفْيَان عَن إِسْحَاق عَن أبي عَامر أَن أَعْرَابِيًا شرب من أداوة عمر - رَضِي الله عَنهُ - نبيذاً، فَسَكِرَ، فَضَربهُ عمر الْحَد. قَالَ عَليّ بن عمر: " هَذَا مُرْسل، وَلَا يثبت، إِنَّمَا رَوَاهُ عَن سعيد بن ذِي(5/25)
لعوة، وَسَعِيد ضَعِيف، ضعفه يحيى وَغَيره ".
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمسيب قَالَ: " تلقت ثَقِيف عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - بنبيذ، فَوَجَدَهُ شَدِيدا، فَدَعَا بِمَاء، فصب عَلَيْهِ "، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا كَانَ اشتداده - وَالله أعلم - بالحموضة، أَو الْحَلَاوَة، فقد رُوِيَ عَن نَافِع مولى ابْن عمر أَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ لي: " اذْهَبْ إِلَى إِخْوَاننَا فالتمس عِنْدهم شرابًا، فَأَتَاهُم، فَقَالُوا: مَا عندنَا إِلَّا هَذِه الأداوة، وَقد تَغَيَّرت، فَدَعَا بهَا عمر، فذاقها، فَقبض وَجهه، ثمَّ دُعَاء بِمَاء، فصب عَلَيْهِ، ثمَّ شرب ". قَالَ نَافِع: " وَالله مَا قبض وَجهه إِلَّا أَنَّهَا تخللت ".
وروينا عَن ابْن الْمسيب بِنَحْوِ من رِوَايَة نَافِع، وَيذكر عَن زيد بن أسلم أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا حمض عَلَيْهِم النَّبِيذ، كسروه بِالْمَاءِ؛ لما روى عبد الله بن الْمُبَارك قَالَ: " قَالَ عبيد الله بن عمر لأبي حنيفَة فِي النَّبِيذ، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: أخذناه من قبل أَبِيك، قَالَ: أَي شَيْء هُوَ؟ قَالَ: إِذا رابكم فاكسروه بِالْمَاءِ، قَالَ عبد الله الْعمريّ: إِذا تيقنت بِهِ، وَلم ترَتّب، كَيفَ تصنع؟ فَسكت أَبُو حنيفَة ".(5/26)
وَقد أَشَارَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - إِلَى تَضْعِيف الرِّوَايَة السَّابِقَة عَن عَليّ وَعمر فِي جلدهما اللَّذين شربا من أدواتهما؛ لِأَنَّهُ أعَاد الْحَدِيثين هَهُنَا، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: " رويتموه عَن رجل مَجْهُول عنْدكُمْ، لَا تكون رِوَايَته حجَّة ".
قَالَ البُخَارِيّ - رَحمَه الله -: " سعيد بن ذِي لعوة عَن عمر فِي النَّبِيذ يُخَالف النَّاس فِي حَدِيثه لَا يعرف ". وَقَالَ بَعضهم: " سعيد بن ذِي حدان وَهُوَ وهم ".
وَالْأَحَادِيث الَّتِي لنا، واحتججنا بهَا أَحَادِيث قد أجمع أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ على صِحَّتهَا، وَالْأَحَادِيث الَّتِي رويت فِي الْكسر بِالْمَاءِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أسانيدها غير قَوِيَّة، فإجراء مَا روينَا على ظَاهرهَا، وَحمل مَا رووا على الْأَمر بِالْكَسْرِ بِالْمَاءِ إِذا خشِي شدته قبل أَن يشْتَد على تَخْفيف حموضته، أَو حارته كَمَا حمله المتقدمون عَلَيْهِ أولى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ: " فِي شربة من نَبِيذ مَا يخاطر الرجل بِدِينِهِ ". وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (306)
:
وحد الشّرْب أَرْبَعُونَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -:(5/27)
" ثَمَانُون ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِي بِرَجُل شرب الْخمر، فَضَربهُ بجريدتين نَحوا من أَرْبَعِينَ، ثمَّ صنع أَبُو بكر مثل ذَلِك، فَلَمَّا كَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - اسْتَشَارَ النَّاس فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: " أخف الْحُدُود ثَمَانُون، فَفعل ".
قَوْله: " فَضَربهُ بجريدتين نَحوا من أَرْبَعِينَ " أَرَادَ بِهِ أَن بهما صَار الْعدَد أَرْبَعِينَ، وَبَيَان ذَلِك فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى عِنْد مُسلم فِي الصَّحِيح عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يضْرب فِي الْخمر بِالْجَرِيدِ وَالنعال أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بكر ضرب أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا ولي عمر، سُئِلَ عَن ذَلِك، فشاورهم، فَقَالَ ابْن عَوْف: " أرى أَن تضربه ثَمَانُون "، فَضَربهُ ثَمَانِينَ. وَلَوْلَا ذَلِك لما كَانَ بَين مَا نَقله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأبي بكر وَعمر، وَبَين مَا أَشَارَ بِهِ عبد الرَّحْمَن خلاف.
وروى البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح عَن السَّائِب بن يزِيد قَالَ: " كُنَّا نؤتي بالشارب فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَفِي إمرة أبي بكر، وصدراً من إمرة عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فجلد أَرْبَعِينَ حَتَّى إِذا عتوا فِيهِ، وفسقوا جلد ثَمَانِينَ ".
وَعند مُسلم عَن حُصَيْن قَالَ: " حضرت عُثْمَان، وَأتي بالوليد بن عقبَة، قد شرب الْخمر، فَقَالَ عُثْمَان لعَلي: أقِم عَلَيْهِ الْحَد، وَأمر عَليّ(5/28)
عبد الله بن جَعْفَر ذَا الجناحين أَن يجلده، فَأخذ فِي جلد، وَعلي يعد، حَتَّى بلغ جد أَرْبَعِينَ، ثمَّ قَالَ لَهُ: أمسك، جلد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعِينَ، وَجلد أَبُو بكر أَرْبَعِينَ، وَجلد عمر ثَمَانِينَ، وكل سنة، وَهَذَا أحب إِلَيّ ".
وَعِنْده فِي رِوَايَة بِبَعْض مَعْنَاهُ عَنهُ، وَقَالَ فِيهِ: " ضرب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر وَعمر صَدرا من خِلَافَته أَرْبَعِينَ، ثمَّ أتمهَا عمر ثَمَانِينَ، وكل سنة ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن الشُّرَّاب كَانُوا يضْربُونَ على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي بِالْأَيْدِي، وَالنعال، والعصي، قَالُوا: " وَكَانُوا فِي خلَافَة أبي بكر أَكثر مِنْهُ فِي عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: لَو فَرضنَا لَهُم حدا فتوخى نَحوا مِمَّا كَانُوا يضْربُونَ فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ يجلدهم أَرْبَعِينَ حَتَّى توفّي، ثمَّ كَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - من بعده، فجلدهم كَذَلِك أَرْبَعِينَ، حَتَّى أُتِي بِرَجُل "، فَذكر قصَّة، ثمَّ قَالَ: " قَالَ عمر: فَمَاذَا ترَوْنَ؟ قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، إِنَّه إِذا شرب سكر، وَإِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى، وعَلى المفتري ثَمَانُون جلدَة، فَأمر عمر - رَضِي الله عَنهُ - فجلد ثَمَانِينَ ".(5/29)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " مَا من صَاحب حد أقيم عَلَيْهِ، فأجد فِي نَفسِي عَلَيْهِ شَيْئا إِلَّا صَاحب الْخمر لَو مَاتَ لوديته؛ لِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه ".
وَإِنَّمَا أَرَادَ لم يسن مَا وَرَاء الْأَرْبَعين إِلَى الثَّمَانِينَ، وَهُوَ مَا زادوا على حَده على وَجه التَّعْزِير، فَأَما الْأَرْبَعُونَ بِالْجَرِيدِ وَالنعال وأطراف الثِّيَاب فَهُوَ حد ثَابت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ عَن أبي بكر، ثمَّ عَن عمر، وَإِنَّمَا أَرَادوا الزِّيَادَة على الْأَرْبَعين على وَجه التَّعْزِير، وحد ثَبت فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ فِي عهد أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، وتوخيه فِي ذَلِك، فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يتَغَيَّر بِمَا رَوَاهُ من الزِّيَادَة عَلَيْهِ على وَجه التَّعْزِير، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ أعلم بِالصَّوَابِ.
(مَسْأَلَة) (307)
:
وَمن تطلع من صير بَاب، فَرمى صَاحب الدَّار بِمَا يدْفع بَصَره، فأعمي عينه كَانَ هدرا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يكون على صَاحب الدَّار ضَمَان عينه ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ - رَضِي الله عَنهُ - اطلع رجل من جُحر فِي حجرَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهُ(5/30)
مِدْرى يحك بهَا رَأسه، فَقَالَ: " إِنِّي لَو أعلم أَنَّك تنظر لطعنت بِهِ فِي عَيْنك، إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان من أجل النّظر "، كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَو بِمَعْنَاهُ.
وَعند مُسلم أَيْضا عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن رجلا اطلع من بعض حجر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَامَ إِلَيْهِ بمشقص، أَو بمشاقص قَالَ: " فَكَأَنِّي انْظُر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخبأه؛ ليطعنه ".
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا فِي الصَّحِيح، عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - يبلغ بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَو أَن امْرأ اطلع عَلَيْك بِغَيْر إِذن، فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، مَا كَانَ عَلَيْك جنَاح ".
وَعند مُسلم عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من اطلع فِي بَيت قوم بِغَيْر إذْنهمْ فقد حل لَهُم أَن يفقؤا عينه ".
وروى بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من اطلع على قوم بِغَيْر إذْنهمْ، فَرَمَوْهُ، وَأَصَابُوا(5/31)
عينه، فَلَا دِيَة لَهُ، وَلَا قصاص ".
وروى ابْن الْمُنْذر عَن عمر من اطلع على جَاره فأصابته جِرَاحَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (308)
:
وَإِذا عزّر السُّلْطَان إنْسَانا، فَتلف من التَّعْزِير ضمنه الإِمَام، إِمَّا فِي مَال نَفسه أَو فِي بَيت المَال على اخْتِلَاف الْقَوْلَيْنِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا ضَمَان عَلَيْهِ ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ قَول عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا من رجل أَقمت عَلَيْهِ حدا، فَمَاتَ فأجد فِي نَفسِي إِلَّا الْخمر، فَإِنَّهُ إِن مَاتَ وديته؛ إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه "، (وَإِنَّمَا أَرَادَ - وَالله أعلم - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه) زِيَادَة على الْأَرْبَعين، أَو لم يسنه بالسياط، وَقد سنه بالنعال وأطراف الثِّيَاب مِقْدَار أَرْبَعِينَ، وَالله أعلم.
وَقد روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن عَليّ بن يحيى عَن الْحسن أَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " مَا أحد يَمُوت فِي حد من الْحُدُود، فأجد فِي نَفسِي مِنْهُ(5/32)
شَيْئا إِلَّا الَّذِي يَمُوت فِي حد الْخمر، فَإِنَّهُ شَيْء أحدثناه بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَمن مَاتَ مِنْهُ، وديته إِمَّا قَالَ: " فِي بَيت المَال "، وَإِمَّا قَالَ: " على عَاقِلَة الإِمَام " أَشك - يَعْنِي الشَّافِعِي، وَإِنَّمَا أَرَادَ - وَالله أعلم - " إِذا مَاتَ فِيمَا أحدثوه من الزِّيَادَة على الْأَرْبَعين على وَجه التَّعْزِير ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وبلغنا أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أرسل إِلَى امْرَأَة، فَفَزِعت، فأجهزت ذَا بَطنهَا، فَاسْتَشَارَ عليا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يَدَيْهِ ". قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَقد كَانَ لعمر - رَضِي الله عَنهُ - أَن يبْعَث، وَللْإِمَام أَن يحد فِي الْخمر عِنْد الْعَامَّة، فَلَمَّا كَانَ فِي الْبعْثَة تلف على الْمَبْعُوث إِلَيْهَا، أَو على ذِي بَطنهَا، فَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " إِن عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك الدِّيَة كَانَ الَّذِي يراهم، ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَنه وَإِن كَانَت لَهُ الرسَالَة فَعَلَيهِ أَن لَا يتْلف بِهِ أحد، فَإِن تلف ضمن، وَكَانَ المأثم - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - مَرْفُوعا ".
(مَسْأَلَة) (309)
:
الْخِتَان وَاجِب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " سنة ".
دليلنا مَا اتفقنا على صِحَّته عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اختتن إِبْرَاهِيم النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - وَهُوَ ابْن(5/33)
ثَمَانِينَ سنة بالقدوم ".
وَقد قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} وَالْأَمر على الْوُجُوب بِظَاهِرِهِ.
وروى ابْن عدي - بِسَنَدِهِ - عَن ابْن جريج قَالَ: " أخْبرت عَن عُثيم بن كُلَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَنه جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأسلم، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ألق عَنْك شعر الْكفْر واختتن ". قَالَ ابْن عدي: " هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن جريج إِنَّمَا حَدثهُ إِبْرَاهِيم بن يحيى، فكنى عَن اسْمه ".
وَعَن أبي دَاوُد عَن أم عَطِيَّة الْأَنْصَارِيَّة أَن امْرَأَة كَانَت تختن بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تنهكي؛ فَإِن ذَلِك أحظى للْمَرْأَة، وَأحب للبعل ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " لَا تقبل صَلَاة(5/34)
رجل لم يختتن "، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يُوجِبهُ.
وَرُوِيَ عَن أبي بَرزَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا فِي الأقلف يحجّ بَيت الله، قَالَ: " لَا، حَتَّى يختتن ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " الْخِتَان سنة للرجل، ومكرمة للنِّسَاء "، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ شَيْئا سنه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأمر بِهِ، فَيكون وَاجِبا بِدَلِيل مَا مضى. وَقد رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا، وَلَا يَصح رَفعه. وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة من حَدِيث أُسَامَة، وَأبي أَيُّوب مَرْفُوعا، وَالْحجاج، لَا يحْتَج بِهِ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (310)
:(5/35)
(صفحة فارغة)(5/36)
وَمَا أفسدت الْبَهَائِم من الزَّرْع بِاللَّيْلِ ضمنه أَهلهَا، وَمَا أفسدت بِالنَّهَارِ، وَلم يكن مَعهَا صَاحبهَا فَهدر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا ضَمَان على صَاحبهَا ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى أَبُو دَاوُد عَن الْبَراء - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كَانَت لَهُ نَاقَة ضارية، فأفسدت ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " فَذكر بِنَحْوِ مِمَّا سبق، وَقيل ذَلِك مَا مَعْنَاهُ: أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى على أهل الحوائط حفظهَا بِالنَّهَارِ، وعَلى أهل الْمَاشِيَة مَا أفسدت ماشيتهم بِاللَّيْلِ ".
وروى قَتَادَة عَن الشّعبِيّ أَن شريحاً رفعت إِلَيْهِ شَاة أَصَابَت غزلاً، فَقَالَ: " إِن كَانَ بلَيْل فقد ضمنته، وَإِن كَانَ بنهار فَلَا ضَمَان عَلَيْكُم ".(5/37)
وَقَالَ: " النفش بِاللَّيْلِ، والهمل بِالنَّهَارِ ".
استدلوا بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جرح العجماء جَبَّار، والبئر جَبَّار، والمعدن جَبَّار، وَفِي الرِّكَاز الْخمس "، اتفقَا على صِحَّته، قَالُوا: " فَهَذَا يدل على أَن حَدِيث الْبَراء صَار مَنْسُوخا ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فأخذنا بِهِ - يَعْنِي بِحَدِيث الْبَراء أَيْضا - لثُبُوته واتصاله، وَمَعْرِفَة رِجَاله، وَلَا يُخَالف هَذَا الحَدِيث حَدِيث (العجماء جرحها جَبَّار) ، وَلَكِن " العجماء جرحها جَبَّار " جملَة من الْكَلَام الْعَام الْمخْرج الَّذِي يُرَاد بِهِ الْخَاص، فَلَمَّا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (العجماء جرحها جَبَّار) ، وَقضى فِيمَا أفسدت العجماء بِشَيْء فِي حَال دون حَال دلّ ذَلِك على أَن مَا أَصَابَت العجماء من جرح وَغَيره فِي حَال جَبَّار، وَفِي حَال غير جَبَّار "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (311)
:
وَلَو وطِئت دَابَّته، وَهُوَ راكبها إنْسَانا برجلها كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانه؛ لِأَن عَلَيْهِ منعهَا فِي تِلْكَ الْحَال من كل مَا يتْلف بِهِ أحدا، احْتج(5/38)
الشَّافِعِي - رَحمَه الله - فِي ذَلِك بِحَدِيث الْبَراء - رَضِي الله عَنهُ - وَقد سبق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا ضَمَان عَلَيْهِ ".
وَاسْتدلَّ بِمَا لَا يُثبتهُ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا روى سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " الرجل جَبَّار "، فَذكر الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أَنه غلط؛ لِأَن الْحفاظ لم يحفظوا هَكَذَا، وَالله أعلم. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يُتَابع سُفْيَان بن حُسَيْن على قَوْله: " الرجل جَبَّار "، وَهُوَ وهم؛ لِأَن الثِّقَات خالفوه، وَلم يذكرُوا ذَلِك، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو صَالح السمان، وَعبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَمُحَمّد بن زِيَاد، وَغَيرهم عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - لم يذكرُوا فِيهِ: وَالرجل جَبَّار ".
وَهُوَ الْمَحْفُوظ عَن أبي هُرَيْرَة مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح من حَدِيث اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة، وَابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " العجماء جرحها جَبَّار "(5/39)
(الحَدِيث، لَيْسَ فِي " الرجل جَبَّار ") ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
كَذَلِك رَوَاهُ مَالك الإِمَام، وَابْن جريج، وَمعمر، وَعقيل، وَابْن عُيَيْنَة، وَغَيرهم عَن الزُّهْرِيّ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُس بن يزِيد عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الزبيدِيّ، وَابْن برْقَان عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْأسود بن الْعَلَاء عَن أبي سَلمَة، رَضِي الله عَنْهُم.
فَأَما حَدِيث سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ فَإِنَّهُ وهم، قَالَ الدَّارمِيّ: " سَأَلت يحيى بن معِين عَن سُفْيَان بن حُسَيْن فَقَالَ: ثِقَة، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ ".
وَرَوَاهُ آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد، وَفِيه عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - وَزَاد " وَالرجل جَبَّار "، وَلم يُتَابع عَلَيْهِ، وَقد رَوَاهُ غنْدر - وَهُوَ الحكم من حَدِيث شُعْبَة - ومعاذ الْعَنْبَري، وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَأَبُو عَمْرو، وَغَيرهم عَن شُعْبَة دون هَذِه الزِّيَادَة.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الرّبيع بن مُسلم عَن مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هُوَ وهم لم يُتَابع عَلَيْهِ أحد عَن شُعْبَة، وَرُوِيَ عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي ليلى عَن ابْن قيس عَن هُذَيْل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرجل جَبَّار "،(5/40)
هَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْريّ عَن ابْن قيس مُرْسلا، وَوَصله قيس بن الرّبيع، وَهُوَ ضَعِيف يذكر عبد الله فِيهِ، ونعارضهم بِمَا رُوِيَ عَن النُّعْمَان بن بشير مَرْفُوعا من ربط دَابَّة فِي طَرِيق الْمُسلمين، فأصابت أحدا فَهُوَ ضَامِن، وَالله أعلم.(5/41)
(فارغة)(5/42)
(كتاب السّير)
وَمن كتاب السّير:
(مَسْأَلَة) (312)
:
فَإِن أدْرك أهل الْحَرْب الْمُسلمين المنصرفين بالغلبة وَالْغنيمَة، فخاف الْمُسلمُونَ ارتجاع الْغَنَائِم لم يحل لَهُم ذبح الْحَيَوَان، وإتلافه لغير مأكله.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَهُم أَن يذبحوا مَا لم يُمكنهُم إِخْرَاجه من دَار الْحَرْب، وَأَن يحرقوه بعد الذّبْح بالنَّار ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن دِينَار عَن صُهَيْب عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُم - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من قتل عصفوراً فَمَا فَوْقهَا بِغَيْر حَقّهَا سَأَلَهُ الله عز وَجل - عَن قَتله قيل: يَا رَسُول الله، وَمَا حَقّهَا؟ قَالَ: أَن يذبحها، فيأكلها، وَلَا يقطع رَأسهَا، فَيَرْمِي بهَا ".(5/43)
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَنهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن المصبورة ".
وَفِي حَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ - نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تصبر الْبَهَائِم، أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيح.
وَفِي وَصِيَّة أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - لما بعث الجيوش أَن قَالَ: " وَلَا يعقرن شَاة، وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لمأكله ".
وَقيل لِمعَاذ - رَضِي الله عَنهُ -: " إِن الرّوم يَأْخُذُونَ مَا حسر من خَيْلنَا فيستعجلونها، ويقاتلون عَلَيْهَا، فنعقر مَا حسر من خَيْلنَا "، قَالَ: " لَا، لَيْسُوا بِأَهْل أَن ينتفعوا مِنْكُم، إِنَّمَا هم غَدا رقيقكم، أَو أهل ذمتكم ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وبلغنا أَن أَبَا أُمَامَة - رَضِي الله عَنهُ - أوصى ابْنه أَن لَا يعقرن جسداً ".
وَنهى عمر بن عبد الْعَزِيز - رَحمَه الله - عَن عقر الدَّابَّة إِذا هِيَ قَامَت.
وَحَدِيث جَعْفَر، وعقره فرسه - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ أَبُو دَاوُد:(5/44)
هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي، وَقد جَاءَ فِيهِ: " نهى كثير من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " لَا أعلمهُ مِمَّا يثبت عِنْد الْإِفْرَاد، وَلَا أعلمهُ مَشْهُورا عِنْد عوام أهل الْعلم بالمغازي ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " الْحفاظ يتوقون مَا ينْفَرد بِهِ ابْن إِسْحَاق، وَإِن صَحَّ، فَلَعَلَّ جعفراً - رَضِي الله عَنهُ - لم يبلغهُ النَّهْي "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (313)
:
وَالْغنيمَة لمن شهد الْوَقْعَة، أَو كَانَ ردأ لَهُم، فَأَما من لم يحضرها، وَلم يكن ردأ لَهُم فَلَا حق لَهُ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الْغَنِيمَة لكل من دخل دَار الْحَرْب قبل قسمتهَا ".
روى طَارق بن شهَاب الأحمس قَالَ: " غزت بَنو عُطَارِد مَاء الْبَصْرَة "، فَذكر قصَّة، وَقَالَ فِيهَا: " فَكتب فِي ذَلِك إِلَى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَكتب أَن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة ".(5/45)
وروى أَبُو دَاوُد أخبرنَا سعيد، حَدثنَا إِسْمَاعِيل عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ أَن عَنْبَسَة بن سعيد أخبرهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - يحدث سعيد بن الْعَاصِ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث أبان بن سعيد على سَرِيَّة من الْمَدِينَة قبل نجد، فَقدم أبان بن سعيد وَأَصْحَابه على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بخييبر بعد أَن فتحهَا، وَإِن حزم خيلهم لِيف، فَقَالَ أبان: " اقْسمْ لنا يَا رَسُول الله "، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: " فَقلت لَا تقسم لَهُم يَا رَسُول الله، فَقَالَ أبان: " أَنْت بهَا يَا وبر، تحدد علينا من رَأس ضال "، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اجْلِسْ يَا أبان، وَلم يقسم لَهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ البُخَارِيّ: " وَيذكر عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ "، فَذكر هَذَا الحَدِيث.
وَعِنْده فِي الصَّحِيح عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قصَّة هجرتهم، وَقَالَ: " فِي بضع وَخمسين رجلا من قومِي "، إِمَّا قَالَ اثْنَيْنِ وَخمسين، أَو ثَلَاثَة وَخمسين، وَنحن ثَلَاثَة إخْوَة: أَبُو مُوسَى، وَأَبُو رهم، وَأَبُو بردة، فأخرجتنا سَفِينَتنَا إِلَى النَّجَاشِيّ بِأَرْض الْحَبَشَة، وَعِنْده جَعْفَر بن أبي طَالب وَأَصْحَابه، فأقبلنا جَمِيعًا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين(5/46)
افْتتح خَيْبَر، فَأَسْهم لنا، أَو قَالَ: فأعطانا مِنْهَا، وَمَا قسم لأحد غَابَ عَن فتح خَيْبَر مِنْهَا شَيْء إِلَّا لمن شهد الْوَقْعَة، إِلَّا لجَعْفَر وَأَصْحَاب السَّفِينَة، قسم لَهُم، وَقَالَ: لكم الْهِجْرَة مرَّتَيْنِ: هاجرتم إِلَى النَّجَاشِيّ، وهاجرتم إِلَيّ ".
وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (314)
:
وَيقتل الشُّيُوخ والرهبان فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يقتلُون ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لما فرغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حنين بعث أَبَا عَامر على جَيش أَوْطَاس، فلقي دُرَيْد بن الصمَّة، فَقتل دُرَيْد، وَهزمَ الله تَعَالَى أَصْحَابه ". وَذكر بَاقِي مَا فِي الحَدِيث، وَفِي آخِره " فَلَمَّا رجعت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(5/47)
دخلت عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَيت على سَرِير مرمل، وَعَلِيهِ فرَاش، وَقد أثر رمال السرير بِظهْر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجنبيه، فَأَخْبَرته خبرنَا، وَخبر أبي عَامر ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين، واستبقوا شرخهم ".
وَعَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " انْطَلقُوا بِسم الله وَبِاللَّهِ، وعَلى مِلَّة رَسُول الله، وَلَا تقتلُوا شَيخا فانياً، وَلَا طفْلا، وَلَا صَغِيرا، وَلَا امْرَأَة، وَلَا تغلوا، وضموا غنائمكم، وَأَصْلحُوا وأحسنوا، إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ ".
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا بعث جيوشه قَالَ: " اخْرُجُوا بِسم الله تقاتلون فِي سَبِيل الله من كفر بِاللَّه، لَا تغدروا، وَلَا تمثلوا، وَلَا تغلوا، وَلَا تقتلُوا وليداً، وَلَا أَصْحَاب الصوامع ".(5/48)
وَفِي وَصِيَّة أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - يزِيد بن أبي سُفْيَان لما بَعثه إِلَى الشَّام فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق عَن صَالح بن كيسَان: " وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قد حبسوا أنفسهم فِي هَذِه الصوامع فاتركوهم، وَمَا حبسوا لَهُ أنفسهم، وستجدون أَقْوَامًا قد اتخذ الشَّيْطَان على رؤوسهم مقاعد - يَعْنِي الشمامسة - فاضربوا تِلْكَ الْأَعْنَاق، وَلَا تقتلُوا كَبِيرا، هرماً، وَلَا امْرَأَة، وَلَا وليداً، وَلَا تخربوا عمراناً، وَلَا تقطعوا شَجَرَة إِلَّا لنفع، وَلَا تعقرن بَهِيمَة إِلَّا لنفع، وَلَا تحرقن نخلا، وَلَا تعرقنه، وَلَا تغدر، وَلَا تمثل، وَلَا تجبن، وَلَا تغلل ".
قَالَ ابْن إِسْحَاق: " حَدثنِي مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير، فَقَالَ لي: " هَل تَدْرِي لم فرق أَبُو بكر، فَأمر بقتل الشماسة، وَنهى عَن قتل الرهبان؟ فَقلت: لَا أرَاهُ إِلَّا لحبس هَؤُلَاءِ أنفسهم، فَقَالَ: أجل، وَلَكِن الشمامسة يلقون الْقِتَال فيقاتلون، وَإِن الرهبان رَأْيهمْ أَن لَا يقاتلوا "، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (315)
:
وأمان العَبْد الْمُسلم جَائِز، قَاتل أَو لم يُقَاتل. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ:(5/49)
" إِذا لم يَأْذَن لَهُ سَيّده فِي الْقِتَال لم يَصح أَمَانه ".
رُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا يجير على الْمُسلمين أَدْنَاهُم، وَيرد على الْمُسلمين أَقْصَاهُم.
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا العَبْد لَا يعْطى من الْغَنِيمَة شَيْئا، وَيُعْطى من جزئي الْمَتَاع، وأمانه جَائِز، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (316)
:
وَإِذا زنى مُسلم فِي دَار الْحَرْب لزمَه الْحَد، وَكَذَلِكَ إِذا سرق فِيهَا مَال مُسلم لزمَه الْقطع. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَا يلْزمه الْحَد ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن بسر بن أبي أَرْطَأَة مَرْفُوعا لَا تقطع الْأَيْدِي فِي السّفر، إِسْنَاده شَامي، وَكَانَ يحيى بن معِين يَقُول: " أهل الْمَدِينَة يُنكرُونَ أَن يكون بسر بن أَرْطَأَة سمع من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَحَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أقِيمُوا الْحُدُود فِي الْحَضَر وَالسّفر، وعَلى الْقَرِيب والبعيد، وَلَا تبالوا فِي الله لومة لائم "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل من حَدِيث مَكْحُول عَن عبَادَة، رَضِي الله عَنهُ، وَالله أعلم.(5/50)
(مَسْأَلَة) (317)
:
وَلَا يملك الْمُشْركُونَ مَا أحرزه الْمُسلمُونَ من أَمْوَالهم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يملكُونَ ".
عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن قوما أَغَارُوا، فَأَصَابُوا امْرَأَة من الْأَنْصَار وناقة للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ انفلتت الْمَرْأَة، فركبت النَّاقة، فَأَتَت الْمَدِينَة، فَعرفت نَاقَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَت: " إِنِّي نذرت إِن أنجاني الله عَلَيْهَا لأنحرنها، فمنعوها أَن تنحرها حَتَّى يذكرُوا ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: بئْسَمَا جزيتهَا أَن أنجاك الله عَلَيْهَا، لَا نذر فِي مَعْصِيّة الله، وَلَا فِيمَا لَا يملك ابْن آدم "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند البُخَارِيّ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " ذهب فرس لَهُ، فَأَخذه الْعَدو، فَظهر عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ فَرد عَلَيْهِ، فِي زمن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأبق عبد لَهُ فلحق بالروم، فَظهر عَلَيْهِ(5/51)
الْمُسلمُونَ، فَرده عَلَيْهِ خَالِد بن الْوَلِيد، يَعْنِي بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَعند أبي دَاوُد عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن غُلَاما لِابْنِ عمر أبق إِلَى الْعَدو، فَظهر عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ، فَرده رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى ابْن عمر، وَلم يقسم.
استدلوا بِمَا روى مسلمة بن عَليّ عَن عبد الْملك بن ميسرَة عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " وجد رجل من الْمُسلمين بَعِيرًا لَهُ فِي الْمغنم قد أَصَابَهُ الْمُشْركُونَ، فَأتى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن وجدته فِي الْمغنم فَخذه، وَإِن وجدته قد قسم فَأَنت أَحَق بِهِ بِالثّمن إِن أردته، تَابعه الْحسن بن عمَارَة عَن عبد الْملك بِمَعْنَاهُ، وَالْحسن بن عمَارَة مَتْرُوك الحَدِيث، ومسلمة بن عَليّ الْخُشَنِي ضَعِيف الحَدِيث، قَالَ ابْن معِين: " لَيْسَ بِشَيْء ".
وَرَوَاهُ الْحسن بن عَطاء عَن عبد الْملك.
وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن أبي فَرْوَة من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا من وجد مَاله فِي الْفَيْء، قبل أَن يقسم فَهُوَ لَهُ، وَمن وجده بعد مَا قسم، فَلَيْسَ لَهُ شَيْء. وَإِسْحَاق قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: " لَا تحل الْكِتَابَة عَنهُ ".(5/52)
وَرَوَاهُ ياسين بن معَاذ من أدْرك مَاله فَذكر مَعْنَاهُ، وَقَالَ فِي آخِره: " فَهُوَ أَحَق بِهِ بِالثّمن "، وَيَاسِين ضَعِيف.
وَرُوِيَ عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - من قَوْله نَحْو مَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقبيصَة لم يدْرك عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (318)
:(5/53)
(فارغة)(5/54)
وَمَكَّة فتحت صلحا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " فتحت عنْوَة ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن الْعَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن، وَمن أغلق عَلَيْهِ دَاره فَهُوَ آمن، وَمن دخل الْمَسْجِد فَهُوَ آمن ". قَالَ: " فافترق النَّاس إِلَى دُورهمْ، وَإِلَى الْمَسْجِد ".
وَعِنْده عَن وهب قَالَ: " سَأَلت جَابِرا، هَل غنموا يَوْم الْفَتْح شَيْئا؟ قَالَ: لَا ".(5/55)
وَعِنْده - وَهُوَ مخرج فِي كتاب مُسلم - عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما دخل مَكَّة سرح الزبير بن الْعَوام، وَأَبا عُبَيْدَة بن الْجراح، وخَالِد بن الْوَلِيد على الْخَيل، وَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَة، اهتف بالأنصار، قَالَ: اسلكوا هَذَا الطَّرِيق، فَلَا يشرفن لكم أحد إِلَّا أمنتموه، فَنَادَى مُنَاد لَا قُرَيْش بعد الْيَوْم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من دخل دَارا فَهُوَ آمن، وَمن ألْقى السِّلَاح فَهُوَ آمن، وَعمد صَنَادِيد قُرَيْش، فَدَخَلُوا الْكَعْبَة، فغص بهم، وَطَاف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصلى خلف الْمقَام، ثمَّ أَخذ بجنبتي الْبَاب، فَخَرجُوا، فَبَايعُوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْإِسْلَام "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (319)
:
وَمن سبي مِنْهُم من الْحَرَائِر فقد رقت، وَبَانَتْ من الزَّوْج، كَانَ مَعهَا، أَو لم يكن. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا سبيا مَعًا بقيا على النِّكَاح ".
وَدَلِيلنَا مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث يَوْم حنين جَيْشًا إِلَى أَوْطَاس، فَلَقوا عدوا، فقاتلوهم، وظهروا عَلَيْهِم، فَأَصَابُوا لَهُم سَبَايَا، فَكَأَن أُنَاسًا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تحرجوا من غشيانهم من أجل أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين،(5/56)
فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} ، أَي: فهن لَهُم حَلَال إِذا انْقَضتْ عدتهن ".
وَقد روينَا فِيمَا تقدم (عَن الوداك) عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا حَائِل حَتَّى تحيض حَيْضَة.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن صاعد عَن الغامدي عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن مُسلم عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، أَو حَائِل حَتَّى تحيض ".
قَالَ لنا ابْن صاعد: " وَمَا قَالَ لنا فِي هَذَا الْإِسْنَاد أحد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - إِلَّا الغامدي "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (320)
:
والتفريق بَين الْأمة وَوَلدهَا قبل سنّ التَّمْيِيز فِي الْملك بِالْبيعِ وَالْقِسْمَة بَاطِل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا فرق بَينهمَا فِي(5/57)
البيع كره، وَصَحَّ البيع ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه فرق بَين جَارِيَة وَوَلدهَا، فَنَهَاهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، ورد البيع، وَالله أعلم.(5/58)
(كتاب الْجِزْيَة)
وَمن كتاب الْجِزْيَة:
(مَسْأَلَة) (321)
:
وَلَا تقبل الْجِزْيَة من أهل الْأَوْثَان، وَإِنَّمَا تقبل مِمَّن لَهُ كتاب، أَو شُبْهَة كتاب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " تُؤْخَذ من أهل الْأَوْثَان ". وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع.
قَالَ الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} . وَقَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} .
وَاسْتثنى أهل الْكتاب إِذا أعْطوا الْجِزْيَة، فَقَالَ فِي آيتها: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ}
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله الحَدِيث.(5/59)
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن بجالة بن عَبدة كتب كتابا لجزئ بن مُعَاوِيَة، فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: " وَلم يكن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس حَتَّى شهد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذهَا من مجوس هجر ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن أبي سعيد بن المرباز عَن نصر بن عَاصِم فَذكر قصَّة فِيهَا عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنا أعلم النَّاس بالمجوس، كَانَ لَهُم علم يعلمونه، وَكتاب يدرسونه، وَإِن ملكهم سكر، فَوَقع على ابْنَته، أَو أُخْته، فَاطلع عَلَيْهِ بعض أهل مَمْلَكَته، فَلَمَّا صَحا جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَد، فَامْتنعَ مِنْهُم، فَدَعَا أهل مَمْلَكَته، فَقَالَ: " تعلمُونَ دينا خير من دين آدم، قد كَانَ آدم ينْكح بنيه من بَنَاته، فَأَنا على دين آدم مَا يرغب بكم عَن دينه، فَبَايعُوهُ وقاتلوا الَّذين خالفوهم حَتَّى قتلوهم فَأَصْبحُوا، وَقد أسرى على كِتَابهمْ، فَرفع من بَين أظهرهم، وَذهب الْعلم والآي من صُدُورهمْ، قَالَ: " وهم أهل كتاب، وَقد أَخذ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَبُو بكر، وَعمر - رَضِي الله عَنْهُم - مِنْهُم الْجِزْيَة ".
فَأَما حَدِيث بُرَيْدَة - رَضِي الله عَنهُ - فِي صَحِيح مُسلم قَالَ: " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا بعث أَمِيرا على سَرِيَّة، أَو جَيش أوصاه بتقوى الله، وَقَالَ: " إِذا لقِيت عَدوك من الْمُشْركين، فادعهم إِلَى(5/60)
إِحْدَى ثَلَاث خِصَال، أَو خلال فأيتهن أجابوك إِلَيْهَا فاقبل " ... الحَدِيث، وَفِيه: " فَإِن هم أَبَوا فادعهم إِلَى إِعْطَاء الْجِزْيَة، فَإِن أجابوك فاقبل مِنْهُم، وكف عَنْهُم ".
قَالَ أَصْحَابنَا: " هَذَا ورد فِي أهل الْكتاب (فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَاتل كفار قُرَيْش بِنَفسِهِ، وَيُقَاتل أهل الْكتاب) بِنَفسِهِ وبأصحابه، وَمَا بلغنَا أَنه دَعَا كفار قُرَيْش إِلَى إِعْطَاء الْجِزْيَة "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (322)
:
وَأَقل الْجِزْيَة دِينَار، والغني وَالْفَقِير فِيهِ سَوَاء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " هِيَ على ثَلَاث مَرَاتِب على الْفَقِير دِينَار، وعَلى الْمُتَوَسّط دِينَارَانِ، وعَلى الْغَنِيّ أَرْبَعَة دَنَانِير ".
وروى فِي ذَلِك خبر مُرْسل عَن إِبْرَاهِيم عَن مَسْرُوق قَالَا: " قَالَ معَاذ: بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْيمن، فَأمرنِي أَن آخذ من كل أَرْبَعِينَ بقرة ثنية، وَمن كل ثَلَاثِينَ (تبيعاً) ، أَو تبيعة، وَمن(5/61)
كل حالم دِينَار أَو عدله معافر ".
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله: " سَأَلت مُحَمَّد بن خَالِد، وَعبد الله بن عَمْرو بن مُسلم - وعدداً من عُلَمَاء أهل الْيمن، فكلهم حكى لي عَن عدد مضوا، كلهم ثِقَة - أَن صلح النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لأهل ذمَّة الْيمن على دِينَار كل سنة ".
وروى مَالك عَن نَافِع عَن سَالم مولى عمر أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - ضرب الْجِزْيَة على أهل الذَّهَب أَرْبَعَة دَنَانِير، وعَلى أهل الْوَرق أَرْبَعِينَ درهما، وَمَعَ ذَلِك أرزاق الْمُسلمين، وضيافة ثَلَاثَة أَيَّام، وَالله أعلم.(5/62)
(مَسْأَلَة) (323)
:
وَمن دخل من أهل الْحَرْب دَار الْإِسْلَام للتِّجَارَة فللإمام أَن يضع عَلَيْهِ شَيْئا يَأْخُذهُ من أَمْوَال تِجَارَته على مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاده. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن كَانُوا هم يعشرُونَ أَمْوَال الْمُسلمين إِذا دخلُوا دَارهم أَخذ الإِمَام مِنْهُم ذَلِك، وَإِن كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ شَيْئا فَلَا يَأْخُذ مِنْهُم شَيْئا ". وَالله أعلم.(5/63)
(كتاب الصَّيْد والذبائح)
وَمن كتاب الصَّيْد والذبائح:
(مَسْأَلَة) (324)
:
وَالْكَلب الْمعلم إِذا أكل مِمَّا اصطاد شَيْئا فَلَا يحرمه فِي أحدة الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " يحرمه "، وَهُوَ القَوْل الآخر.
وَجه قَوْلنَا: " لَا يحرمه " من طَرِيق الْخَبَر مَا روى أَبُو دَاوُد عَن أبي ثَعْلَبَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صيد الْكَلْب: " إِذا أرْسلت كلبك، وَذكرت اسْم الله عَلَيْهِ، فَكل وَإِن أكل مِنْهُ، وكل مَا ردَّتْ يدك ".
وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن أَعْرَابِيًا - يُقَال(5/64)
لَهُ: أَبُو ثَعْلَبَة - قَالَ: " يَا رَسُول الله، إنّ لي كلاباً مكلبة، فأفتني فِي صيدها، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن كَانَ لَك كلاب مكلبة، فَكل مَا أمسكن عَلَيْك، قَالَ: وَإِن أكل مِنْهُ، قَالَ: وَإِن أكل مِنْهُ ".
وَقَالَ مَالك: " حَدثنِي من سمع نَافِعًا يَقُول: قَالَ عبد الله - رَضِي الله عَنهُ -: وَإِن أكل (أَو لم يَأْكُل) ".
وَعَن مَالك أَنه بلغه أَن سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - سُئِلَ عَن الْكَلْب الْمعلم إِذا أَخذ ثمَّ أكل، فَقَالَ سعد: وَإِن لم يبقَ إِلَّا بضعَة وَاحِدَة. كَذَا رَوَاهُ الثَّوْريّ عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: " إِذا أكل فَكل ".
وَعَن ابْن أبي ذِئْب عَن بكر بن عبيد الله عَن رجل - يُقَال لَهُ حميد بن مَالك - قَالَ: " سَأَلت سعيداً "، فَذكره بِمَعْنَاهُ.
وَوجه قَوْلنَا يحرم من طَرِيق الْخَبَر مَا روى الشّعبِيّ عَن عدي بن حَاتِم - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْكَلْب، فَقَالَ: " إِذا أرْسلت كلبك، فَذكرت اسْم الله فَكل، وَإِن أكل مِنْهُ فَلَا تَأْكُل؛(5/65)
فَإِنَّهُ إِنَّمَا أمسك على نَفسه "، اتفقَا على صِحَّته بِهَذَا اللَّفْظ أَو بِمَعْنَاهُ.
وَعِنْدَهُمَا عَنهُ أَيْضا سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (عَن الْكَلْب) قلت: إِنَّا قوم نصيد بِهَذِهِ الْكلاب، فَقَالَ: إِذا أرْسلت كلابك المعلمة فَذكرت اسْم الله عَلَيْهَا، فَكل مِمَّا أمسكن عَلَيْك وَإِن قتلن، إِلَّا أَن يَأْكُل الْكَلْب، فَإِن أكل فَلَا تَأْكُل، فَإِنِّي أَخَاف أَن يكون إِنَّمَا أمسك على نَفسه، وَإِن خالطها كلاب من غَيرهَا فَلَا تَأْكُل ".
وَعند أبي دَاوُد عَن عدي - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا علمت من كلب أَو باز، ثمَّ أَرْسلتهُ، وَذكرت اسْم الله عَلَيْهِ فَكل مِمَّا أمسك عَلَيْك، قلت: وَإِن قتل قَالَ: إِذا قَتله وَلم يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا؛ فَإِنَّمَا أمْسكهُ عَلَيْك "، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " إِذا أكل الْكَلْب من الصَّيْد فَلَا تَأْكُل "، وَالله أعلم.(5/66)
(مَسْأَلَة) (325)
:
لَو ذبح مُسلم وَلم يسم حلت ذَبِيحَته. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن ترك التَّسْمِيَة عمدا لم تحل ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - (أَن قوما قَالُوا: " يَا رَسُول الله، إنّ قوما يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أذكروا اسْم الله أم لَا؟ " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سموا الله عَلَيْهِ وكلوا "، كَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أبي أَشْعَث عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: " وَتَابعه الدَّرَاورْدِي عَن هِشَام، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو خَالِد الْأَحْمَر، ومحاضر، ومسلمة بن قعنب، وَيُونُس، وحاتم، وَعبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان، وَأُسَامَة بن حَفْص عَن هِشَام ".
وَرَوَاهُ مَالك وَحَمَّاد عَنهُ بِمَعْنَاهُ، وَلم يذكرَا عَائِشَة، وَهُوَ الْمَحْفُوظ من حَدِيث مَالك مُرْسل.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: وَقد أخبرنَا أَبُو عبد الله، وَأَبُو بكر، وَعبيد بن مُحَمَّد قَالُوا: أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب، حَدِيثا يحيى بن أبي طَالب، أخبرنَا عبد الْوَهَّاب، أخبرنَا مَالك بن أنس عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(5/67)
فَقَالُوا: " يَا رَسُول الله إنّ أُنَاسًا من أهل الْبَادِيَة يأتوننا بأجبان وَإِنَّا لَا نَدْرِي أسموا الله عَلَيْهَا؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سموا عَلَيْهَا، ثمَّ كلوا ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " كَذَا وجدته فِي كتابي فِي الثَّانِي من الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْفَوَائِد الْكَبِير ".
وَرُوِيَ عَن أبي العشراء الدَّارمِيّ - واسْمه أُسَامَة بن مَالك بن فهطم، وَقَالَ بَعضهم: عُطَارِد بن برز - عَن أَبِيه أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، أما يكون الذَّكَاة إِلَّا فِي الْحلق واللبة؟ فَقَالَ: " لَو طعنت فِي فَخذهَا لأجزأ عَنْك "، وَهَذَا ورد فِي المتوحش والمتردي، وَلم يشْتَرط التَّسْمِيَة.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا: قَالَ: " جَاءَت الْيَهُود إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: تَأْكُل مِمَّا قتلنَا، وَلَا تَأْكُل مِمَّا قتل الله فَأنْزل الله -(5/68)
عز وجلّ - {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} الْآيَة ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عدي بن حَاتِم - رَضِي الله عَنهُ - سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن المعراض، فَقَالَ: " إِذا أصبت بحده، وَذكرت اسْم الله فَكل، وَإِذا أصبت بعرضه فَإِنَّهُ وقيذ، فَلَا تَأْكُل، قلت: يَا رَسُول الله، أرسل كَلْبِي وَأَجد مَعَه كَلْبا آخر قد أَخذ، لَا أَدْرِي أَيهمَا أَخذ؟ قَالَ: فَلَا تَأْكُل، فَإِنَّمَا سميت على كلبك، وَلم تسم على غَيره ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا اصطاد كلبك المكلب، فَكل مِمَّا أمسك عَلَيْك، وَاذْكُر اسْم الله، وَأما مَا اصطاد كلبك الَّذِي لَيْسَ بمكلب، فأدركت ذَكَاته، فَكل مِنْهُ، وَمَا لم تدْرك ذَكَاته، فَلَا تَأْكُل مِنْهُ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (326)
:
وَإِذا رمى بِسَهْم إِلَى صيد، وَأرْسل كَلْبا على صيد فغابا عَنهُ، ثمَّ وجده مقتولاً لم يحل أكله على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَحل فِي القَوْل الثَّانِي، وَإِن لم يكن مقتفياً أَثَره. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن(5/69)
كَانَ يقفو أَثَره حل أكله، وَإِن لم يكن مقتفياً أَثَره تَابعا لَهُ إِلَى أَن وجده لم يحل أكله اسْتِحْسَانًا ".
رُوِيَ عَن ابْن جُبَير عَن عدي - رَضِي الله عَنهُ - قلت: " يَا رَسُول الله، أرمي الصَّيْد، فأجده من الْغَد فِيهِ سهمي؟ قَالَ: إِذا وجدت فِيهِ سهمك، وَعلمت أَنه قَتله، وَلم تره فِيهِ أثر سبع فكله ".
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن أَبِيه أنّ أَعْرَابِيًا أَتَى إِلَى عبد الله بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَقَالَ: " إِنِّي أرمي الصَّيْد، فأصمي وأنمي "، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: " كل مَا أصميت، ودع مَا أنميت، والإصماء أَن يقبضهُ، والإنماء أَن يسْتَقلّ بسهمه حَتَّى يغيب عَنهُ، فَوَجَدَهُ بعد ذَلِك بِيَوْم، أَو نَحْو ذَلِك ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: لَا أَدْرِي هَذَا التَّفْسِير من قَول من.
وَقد روى هَذَا الحَدِيث عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن الحكم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل(5/70)
مَا أصميت، ودع مَا أنميت "، إِلَّا أَن عُثْمَان الْوَقَّاصِ ضَعِيف الحَدِيث، فَلَا يحْتَج بروايته، وَالْمَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوف.
وروى سُفْيَان عَن ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ: " إِذا غَابَ عَن مصارعه فَلَا تَأْكُله ".
وَعند أبي دَاوُد حَدثنَا الْحُسَيْن حَدثنَا عبد الْأَعْلَى حَدثنَا دَاوُد عَن عَامر عَن عدي - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، أَحَدنَا يَرْمِي الصَّيْد، فيقتفي أَثَره الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة، ثمَّ يجده مَيتا وَفِيه سَهْمه، أيأكل؟ قَالَ: نعم إِن شَاءَ، أَو قَالَ: يَأْكُل إِن شَاءَ ".
قَالَ البُخَارِيّ: " وَقَالَ عبد الْأَعْلَى عَن دَاوُد فَذكره ".
وَعند مُسلم فِي الصَّحِيح عَن عدي - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَإِن رميت بسهمك، فاذكر اسْم الله، وَإِن غَابَ عَنْك يَوْمًا، فَلم تَجِد فِيهِ إِلَّا أثر سهمك فَكل إِن شِئْت، وَإِن وجدته غريقاً فِي المَاء فَلَا تَأْكُل ".
قَالَ أَصْحَابنَا: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِذا أصَاب السهْم مَقْتَله بمرأى مِنْهُ، ثمَّ غَابَ عَنهُ، وَذَلِكَ يحل أكله.
وَقد رَوَاهُ عباد بن عباد عَن عَاصِم عَن الشّعبِيّ أنّ عدي بن حَاتِم(5/71)
- رَضِي الله عَنهُ -: " سَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أرمي بسهمي فأصيب، فَلَا اقدر عَلَيْهِ إلاّ بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ "، قَالَ: " إِن قدرت عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِهِ أثر، وَلَا خدش إِلَّا رميتك فَكل، (وَإِن وجدت بِهِ أثرا غير رميتك فَلَا تَأْكُل "، أَو قَالَ: " فَلَا تطعمه ".
وَعند مُسلم عَن أبي ثَعْلَبَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا رميت الصَّيْد فَأَدْرَكته بعد ثَلَاث لَيَال، وسهمك فِيهِ فَكل) مَا لم ينتن ".
(مَسْأَلَة) (327)
:
وَإِذا ضرب الصَّيْد فَقَطعه قطعتين أكل، وَإِن كَانَت إِحْدَى القطعتين أقل من الْأُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن أبان مِنْهُ الرَّأْس أكل الْجَمِيع، وَإِن أبان مِنْهُ يدا أَو رجلا فَلَا يُؤْكَل المبان مِنْهُ، وَيَأْكُل الَّذِي فِيهِ الرَّأْس ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا أَبَا ثَعْلَبَة، كل مَا ردَّتْ عَلَيْك قوسُك وكلبُك الْمعلم ويدُك فكُلْ، ذكيّ وَغير ذكي ".(5/72)
وَمَا رُوِيَ عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ - رَضِي الله عَنهُ -: " قدم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة وَالنَّاس يحتون أسنام الْإِبِل ويقطعون أليات الْغنم، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا قطع من الْبَهِيمَة، وَهِي حَيَّة فَهُوَ ميتَة ". فَنحْن نقُول بِهِ، والخلال لم يَقع فِيهِ. وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (328)
:
وَلَا تقع الذَّكَاة بِالسِّنِّ وَالظفر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " تقع بهما الذَّكَاة إِذا كَانَا منفصلين ".
دليلنا مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ: عَن رَافع بن خديج - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا نلقى الْعَدو غَدا، وَلَيْسَ مَعنا مدى، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَرِنْ أَو أَعْجِلْ، مَا(5/73)
أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَكُلُوا (مَا لم يكن) سنّ أَو ظفر، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَن ذَلِك، أما السن فَعظم، وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة " ... الحَدِيث.
واتفقا على صِحَة حَدِيث رَافع بن خديج، وَأَنه قَالَ لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّا نرجو أَو نخشى أَن نلقى الْعَدو، وَلَيْسَ مَعنا مدى أفنذبح بالقصب؟ " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أنهر الدَّم، وَذكر اسْم الله فَكُلُوا إِلَّا السن وَالظفر ". وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (329)
:
وَيجوز أكل السّمك الطافي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
وَلنَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَحْر هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ، والحل ميتَته.(5/74)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - غزونا وأميرنا أَبُو عُبَيْدَة، فجعنا جوعا شَدِيدا، فَألْقى الْبَحْر حوتاً لم نرَ مثله، فأكلنا مِنْهُ نصف شهر.
وَفِي رِوَايَة: " فال أَبُو عُبَيْدَة - رَضِي الله عَنهُ -: كلوا، فَلَمَّا قدمنَا ذكرنَا ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: رزق أخرجه الله، أطعمونا إِن كَانَ مَعكُمْ، فَأَتَاهُ بعضو فَأَكله ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنْهُم - عَنهُ قَالَ: " كلِ السمكةَ الطافية ".
وَرُوِيَ عَن زيد بن أسلم عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " السّمك ذكي، وَالْجَرَاد ذكي كُله ".(5/75)
وَرُوِيَ أَيْضا فِي حل الطافية عَن أبي أَيُّوب وَأبي طَلْحَة، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ: الْجَرَاد وَالْحِيتَان، والكبد وَالطحَال ". وَإِذا قَالَ الصَّحَابِيّ: " أحل لنا، أَو حرم علينا " كَانَ ذَلِك مُسْندًا؛ إِذْ لَيْسَ أحد يُؤْخَذ عَنهُ ذَلِك إِلَّا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقد قيل عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رِوَايَة ضَعِيفَة عَن زيد بن أسلم روى ذَلِك بِمَعْنَاهُ الشَّافِعِي عَن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعبد الرَّحْمَن بن زيد مَتْرُوك الحَدِيث.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي أويس عَن عبد الرَّحْمَن، وَأُسَامَة، وَعبد الله بن زيد بن أسلم عَن أَبِيهِم مُسْندًا أَيْضا.
وروى أَبُو أَحْمد الزبيرِي عَن الثَّوْريّ عَن أبي الزبير عَن جَابر -(5/76)
رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " إِذا طفا السّمك على المَاء (فَلَا تَأْكُله) ، وَإِذا جزر عَنهُ الْبَحْر فكله، وَمَا كَانَ على حافتيه فكله ".
قَالَ سُلَيْمَان بن أَحْمد: " لم يرفع هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان إِلَّا أَبُو أَحْمد "، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يسْندهُ عَن الثَّوْريّ غير أبي أَحْمد، وَخَالفهُ وَكِيع، والعدوي، وَعبد الرَّزَّاق، مؤئل، وَأَبُو عَاصِم، وَغَيرهم عَن الثَّوْريّ، فَرَوَوْه مَوْقُوفا وَهُوَ الصَّوَاب ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَعبيد الله بن عمر، وَابْن جريج، وَزُهَيْر، وَحَمَّاد بن سَلمَة، وَغَيرهم عَن أبي الزبير مَوْقُوفا.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي ذِئْب، وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن أبي الزبير مَرْفُوعا، وَلَا يَصح رَفعه، عَن يحيى بن سليم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة مَعْنَاهُ، وَوَقفه غَيره عَن إِسْمَاعِيل وَهُوَ الصَّوَاب.
وَرَوَاهُ يحيى بن أبي أنيسَة عَن أبي الزبير مَوْقُوفا، وَيحيى مَتْرُوك الحَدِيث.
وَرُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز بن عبيد الله عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا. قَالَ عَليّ بن عمر: " تفرد بِهِ عَن وهب، وَعبد الْعَزِيز ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ ".(5/77)
وَرُوِيَ عَن بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن أبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " ودعوا مَا طفا "، وَبَقِيَّة فِيهِ نظر، ثمَّ يُعَارضهُ حَدِيثه يرْوى عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " كل مَا طفا على الْبَحْر ". وَالله اعْلَم.(5/78)
(كتاب الضَّحَايَا)
من كتاب الضَّحَايَا:
(مَسْأَلَة) (330)
:
الْأُضْحِية غير وَاجِبَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " هِيَ وَاجِبَة على المقيمين ".
لنا حَدِيث أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا دخل الْعشْر، فَأَرَادَ أحدكُم أَن يُضحي فَلَا يمس من شعره، وَلَا بشره شَيْئا "، أخرج مَعْنَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلَاث هن عليّ فَرَائض، وهنّ عَلَيْكُم تطوع: النَّحْر، وَالْوتر، وركعتا الْفجْر ".(5/79)
وَعَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلّى للنَّاس يَوْم النَّحْر، فَلَمَّا فرغ من خطبَته وَصلَاته دَعَا بكبش فذبحه هُوَ بِنَفسِهِ، وَقَالَ: " بِسم الله وَالله أكبر، اللهمّ عني وَعَمن لم يضح من أمّتي ".
وَعَن أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ - رَضِي الله عَنهُ -: " إِنِّي لأترك الْأَضْحَى، وَإِنِّي مُوسر كَرَاهَة أَن يرى جيراني وَأهل أَنه عَليّ حتم ".
وَعَن أبي سريحَة قَالَ: " أدْركْت أَبَا بكر وَعمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَكَانَا لي جارين، وَكَانَا لَا يضحيان ".
وَعَن حُذَيْفَة بن أسيد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لقد رَأَيْت أَبَا بكر وَعمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - يحجان وَمَا يضحيان - أَرَادَ أَن يستنّ بهما - ثمَّ أتيتكم فحملتموني على الجفا بَعْدَمَا فقهت السّنة ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " لم تكْتب الْأَضْحَى عَلَيْكُم، فَمن شَاءَ فليضح ".(5/80)
وَعَن عِكْرِمَة أنّ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ إِذا حضر الْأَضْحَى أعْطى مولى لَهُ دِرْهَمَيْنِ، " اشْتَرِ بهما لَحْمًا، وَأخْبر النَّاس أَنه أضحى ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن يزِيد، وَعَن حميد بن بشر عَن عبد الله بن عون عَن عَامر بن أبي رَملَة قَالَ: " أَنبأَنَا مخْنَف بن سليم قَالَ: " وَنحن وقُوف مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إنّ على أهل كل بَيت فِي كل عَام أضْحِية وعتيرة، أَتَدْرُونَ مَا العتيرة؟ هَذِه الَّتِي يَقُول النَّاس الرجبية ".
وَرُوِيَ عَن (عبد الله) بن شُرَيْح عَن عبد الله الْقِتْبَانِي عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " من وجد سَعَة فَلم يذبح فَلَا يقربن مصلانا "، تَابعه زيد بن الْحباب عَن الْقِتْبَانِي.
وَرَوَاهُ جَعْفَر بن ربيعَة وَغَيره عَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج عَن أبي(5/81)
هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَوْقُوفا، وَهُوَ الصَّوَاب.
وَرَوَاهُ يحيى (بن سعيد الْعَطَّار عَن الْقِتْبَانِي مَرْفُوعا: " من قدر على سَعَة فَلم يضح ... "، وَيحيى دمشقي ضَعِيف، وَالله أعلم) .
(مَسْأَلَة) (331)
:
وَلَا وَقت للذبح يَوْم الْأَضْحَى إِلَّا فِي قدر صَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَذَلِكَ حِين حلت الصَّلَاة، وَقدر خطبتين خفيفتين إِذا كَانَ هَذَا فقد حلّ الذّبْح لكل أحد حَيْثُ كَانَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يعْتَبر فعل الصَّلَاة ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تذبحوا إِلَّا مُسِنَّة إِلَّا أَن يعسر عَلَيْكُم، فتذبحوا جَذَعَة من الضَّأْن ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن الْبَراء - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنّ أول مَا نبدأ بِهِ فِي يَوْمنَا هَذَا أَن نصلي، ثمَّ ترجع،(5/82)
فننحر، فَمن فعل ذَلِك فقد أصَاب سنتنا، وَمن نحر قبل الصَّلَاة فَإِنَّمَا هُوَ لحم قدم لأَهله، لَيْسَ من النّسك فِي شَيْء ".
وَعند البُخَارِيّ عَن جُنْدُب بن سُفْيَان البَجلِيّ شهِدت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم النَّحْر يَقُول: " من ذبح قبل أَن يُصَلِّي فليعد مَكَانهَا، وَمن لم يذبح فليذبح ".
وَعند مُسلم عَنهُ شهِدت الْأَضْحَى مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَقَامَ رجل فَقَالَ: إِن نَاسا ذَبَحُوا قبل الصَّلَاة) فَقَالَ: " من ذبح مِنْكُم قبل الصَّلَاة فليعد ذَبِيحَته، وَمن لَا فلذبح على اسْم الله "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (332)
:
وَإِذا قطع الْحُلْقُوم والمرئ فقد حل لَهُ، وَإِن لم يقطع الودجين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ قطع الثَّلَاث من الْأَرْبَع من الْحُلْقُوم والمريء والودجين ".
لنا مَا اتفقَا على صِحَّته عَن رَافع بن خديج - رَضِي الله عَنهُ - قُلْنَا: " يَا رَسُول الله، إِنَّا لاقو الْعَدو غَدا، وَلَيْسَ مَعنا مدى، قَالَ:(5/83)
مَا أنهر الدَّم، وَذكر اسْم الله فَكل، لَيْسَ السن وَالظفر ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " الذَّكَاة فِي الْحلق واللبة، وَلَا تعجلوا الْأَنْفس أَن تزهق "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (333)
:
ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه، إِذا وجد مَيتا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يحل إِلَّا بالذكاة كالأم ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه ".
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْجَنِين، فَقَالَ: كلوه إِن شِئْتُم ".
وَفِي رِوَايَة: قُلْنَا: " يَا رَسُول الله، نَنْحَر النَّاقة، ونذبح الْبَقَرَة وَالشَّاة فنجد فِي بَطنهَا الْجَنِين، أنلقيه أم نأكله؟ " قَالَ: " كلوه إِن شِئْتُم، فَإِن ذَكَاته ذَكَاة أمه ".(5/84)
وروى مَالك عَن نَافِع أنّ عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - كَانَ يَقُول: " إِذا نحرت النَّاقة فذكاة مَا فِي بَطنهَا بذكاتها إِذا كَانَ قد تمّ خلقه، وَتمّ شعره، فَإِذا خرج من بَطنهَا - يَعْنِي حَيا - ذبح حَتَّى يخرج الدَّم من جَوْفه ".
وَكَذَا رَوَاهُ مَالك عَن يزِيد بن عبد الله بن قسيط عَن سعيد بن الْمسيب أَنه كَانَ يَقُول: " ذَكَاة مَا فِي بطن الذَّبِيحَة فِي ذَكَاة أمه، إِذا كَانَ قد نبت شعره، وتّم خلقه ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا فِي الْجَنِين: " ذَكَاته ذَكَاة أمه، أشعر أَو لم يشْعر "، وَمَا مضى أصح مِنْهُ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (334)
:
وَلحم الضبع والثعلب حَلَال يُؤْكَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يُؤْكَل ".
رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمَارَة قلت لجَابِر: " آكل الضبع؟ "، قَالَ: " نعم "، قلت: " أصيد هِيَ؟ "، قَالَ: " نعم "، قلت:(5/85)
" أسمعت ذَلِك من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ " قَالَ: " نعم " قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: " سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: " هُوَ حَدِيث صَحِيح ".
وَعَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الضبع صيد، فَإِذا أَصَابَهُ الْمحرم فَفِيهِ جَزَاء كَبْش مسن ويؤكل ". قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " هَذَا الحَدِيث صَحِيح ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع ".
(وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن كل ذِي نَاب من السبَاع) ، وكل ذِي مخلب من الطير.(5/86)
وروى ابْن عدي بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - النَّهْي عَن الضَّب والضبع، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (335)
:
وَأكل الضَّب مُبَاح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: إِنَّه مَكْرُوه ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أَن خَالِدا بن الْوَلِيد دخل مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيت مَيْمُونَة زوج النَّبِي ّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأتي بضب محنوذ فَأَهوى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَده، فَقَالَ بعض النسْوَة اللَّاتِي فِي بَيت مَيْمُونَة زوج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخبروا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا يُرِيد أَن يَأْكُل، فَقَالُوا: هُوَ ضَب، فَرفع يَده، فَقلت: أحرام هُوَ؟ قَالَ: لَا وَلكنه لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافُه قَالَ: فاجتررته، فأكلته وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينظر "، وَعند مُسلم " فَلم ينهني ".
وَعِنْدَهُمَا عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ نَاس من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيهم سعد، فَذَهَبُوا يَأْكُلُون من لحم، فنادتهم امْرَأَة من بعض أَزوَاج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه لحم ضَب فأمسكوا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كلوا وأطعموا فَإِنَّهُ حَلَال " أَو قَالَ: " لَا بَأْس بِهِ، وَلكنه لَيْسَ من طَعَام قومِي ".(5/87)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَهْدَت أم جُنَيْد خَالَة ابْن عَبَّاس إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقطا وَسمنًا وأضبا، فَأكل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الأقط وَالسمن، وَترك الأضب تقذراً، وَأكل على مائدة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَو كَانَ حَرَامًا مَا أكل على مائدته.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - سُئِلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الضَّب، فَقَالَ: " لست بآكله، وَلَا محرمه ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، إِنَّا بِأَرْض مضبة، فَمَا تَأْمُرنَا، أَو فَمَا تفتينا؟ قَالَ: " ذكر لي أنّ أمة من بني إِسْرَائِيل مسخت، فَلم يَأْمر، وَلم ينْه "، قَالَ أَبُو سعيد: " فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك قَالَ عمر: إنّ الله لينفع بِهِ غير وَاحِد، وَإنَّهُ لطعام عَامَّة هَذِه الرعاء، وَلَو كَانَ عِنْدِي لطعمته، إِنَّمَا عافه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وروى إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن ضَمْضَم عَن شُرَيْح عَن أبي رَاشد عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن أكل لحم الضَّب "، وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم،(5/88)
وَلَا بِعَارِض بِهَذِهِ الرِّوَايَة رِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (336)
:
لحم الْفرس مَأْكُول مُبَاح من غير كَرَاهِيَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " إِنَّه مَكْرُوه فِي رِوَايَة، وَحرَام فِي رِوَايَة ".
دليلنا مَا فِي الصَّحِيح عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعند مُسلم أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى يَوْم خَيْبَر عَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَأذن فِي لُحُوم الْخَيل ".
وَفِي صَحِيح مُسلم أكلنَا زمن خَيْبَر الْخَيل وحمر الْوَحْش، وَنهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْحمار الأهلي.
وَعِنْده عَن أَسمَاء بنت أبي بكر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَت: " أكلنَا لحم فرس على عهد النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَعند البُخَارِيّ عَنْهَا قَالَت: " نحرنا فرسا على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأكلناه ".(5/89)
وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود أنّه أكل لحم الْفرس، وروينا عَن الْحسن وَغَيره.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن بَقِيَّة عَن ثَوْر بن يزِيد عَن صَالح بن يحيى بن الْمِقْدَام. ابْن معدي كرب عَن أَبِيه عَن جده عَن خَالِد - رَضِي الله عَنهُ - " أَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن أكل لُحُوم الْخَيل ".
كَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن عمر الواقداني عَن ثَوْر إِلَّا أَنه قَالَ: " نهى يَوْم خَيْبَر عَن أكل لُحُوم الْخَيل ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " حَدثنَا أَبُو سهل قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن هَارُون يَقُول: لَا يعرف صَالح بن يحيى، وَلَا أَخُوهُ إِلَّا بجده، وَهَذَا ضَعِيف.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن هَارُون الْبَلْخِي عَن ثَوْر عَن يحيى بن الْمِقْدَام عَن أَبِيه عَن خَالِد "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا إِسْنَاد مُضْطَرب "، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: " لَا يَصح هَذَا؛ لِأَن خَالِدا أسلم بعد فتح خَيْبَر ".(5/90)
وَقد رُوِيَ بِإِسْنَاد آخر عَن الْعِرْبَاض - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى يَوْم خَيْبَر عَن كل ذِي نَاب من السبَاع، وَعَن كل ذِي مخلب من الطير، وَعَن الْمُجثمَة، وَعَن لُحُوم الْخَيل، وَعَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَأَن تُوطأ الحبالى حَتَّى يَضعن مَا فِي بطونهن "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (337)
:
لَا يجوز بيع الزَّيْت النَّجس. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن مَيْمُونَة - رَضِي الله عَنْهَا - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن وَمَاتَتْ فِيهِ، فَقَالَ: " ألقوها وَمَا حولهَا، وكلوه ".(5/91)
وَعند أبي دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذا وَقعت الْفَأْرَة فِي السّمن، فَإِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا فِي السّمن الْمَائِع والودك قَالَ: " فانتفعوا بِهِ، وَلَا تأكلوه ".
وَعَن أبي مُوسَى - رَضِي الله عَنهُ - فِي الْفَأْرَة تقع فِي السّمن، فَقَالَ: " بيعوا وبينوا، وَلَا تَبِيعُوا من مُسلم ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " استصبحوا بِهِ، وادهنوا بِهِ أدمكم "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (338)
:
وَمن اضطرّ إِلَى الْميتَة حل لَهُ أَن يتَنَاوَل مِنْهَا مِقْدَار الشِّبَع فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْمُزنِيّ وَأَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يحل لَهُ مِنْهَا إِلَّا قدر مَا يسد الرمق ".
رُوِيَ عَن جَابر بن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أنّ رجلا كَانَت لَهُ(5/92)
نَاقَة بِالْحرَّةِ، فَدَفعهَا إِلَى رجل، وَقد كَانَت مَرضت، فَلَمَّا أَرَادَت أَن تَمُوت، قَالَت لَهُ امْرَأَته: لَو نحرتها، فأكلنا مِنْهَا، فَأبى وأتى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: أعندكم مَا يغنيكم قَالَ: لَا قَالَ: فكلوها، وَكَانَت قد مَاتَت قَالَ: فأكلنا من ودكها ولحمها وشحمها نَحوا من عشْرين يَوْمًا، ثمَّ لَقِي صَاحبهَا، فَقَالَ لَهُ: أَلا كنت نحرتها، قَالَ: إِنِّي كنت استحييت مِنْك ".
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شريك عَن سماك عَن جَابر.
رُوِيَ عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رجلا قَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنَّا نَكُون بِالْأَرْضِ فتصيبنا بهَا المخمصة، فَمَتَى تحل لنا الْميتَة؟ فَقَالَ: مَا لم تصطبحوا، أَو تغتبقوا، أَو تحتبئوا بهَا بقلا، فشأنكم بهَا "، رَوَاهُ أَبُو عبيد عَن مُحَمَّد بن كثير عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن حسان بن عَطِيَّة عَنهُ، وَالله أعلم.(5/93)
(فارغة)(5/94)
(كتاب السَّبق وَالرَّمْي)
من كتاب السَّبق وَالرَّمْي:
(مَسْأَلَة) (339)
:
والمسابقة جَائِزَة على شَرط المَال على التَّفْصِيل الَّذِي ذكره فِي الْمَذْهَب. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا غير جَائِزَة على شَرط المَال بِحَال ".
روى الشَّافِعِي عَن ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع بن أبي نَافِع عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا سبق إِلَّا فِي نصل أَو حافر أَو خف ".(5/95)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَابق بَين الْخَيل الَّتِي قد أضمرت من الحفياء، وَكَانَ أمدها ثنية الْوَدَاع، وسابق بَين الْخَيل الَّتِي لم تضمر من الثَّنية إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق (وأنّ عبد الله بن عمر فِيمَن سَابق بهَا) .
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " من أَدخل فرسا بَين فرسين وَلَا يَأْمَن أَن يسْبق فَلَيْسَ بقمار، وَمن أَدخل فرسا بَين فرسين وَقد أَمن أَن يسْبق فَهُوَ قمار "، قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ".
وَرُوِيَ عَن أبي الْوَلِيد قَالَ: " أرسل الْحَاكِم بن أَيُّوب الْخَيل يَوْمًا، فَقُلْنَا: لَو أَتَيْنَا أنس بن مَالك، فأتيناه فَسَأَلْنَاهُ أَكُنْتُم تراهنون على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ فَقَالَ: نعم، لقد رَاهن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فرس لَهُ يُقَال لَهَا سبخَة - فَجَاءَت سَابِقَة، فهش لذَلِك أعجبه ".(5/96)
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَدِهِ عَن أبي الْوَلِيد لمازة بن زبار فَذكر قصَّة، وَقَالَ: " قُلْنَا: يَا أَبَا حَمْزَة، أَكُنْتُم تراهنون، أَو كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالَ: نعم، وَالله لقد رَاهن على فرس لَهُ يُقَال لَهَا سبخَة، فَجَاءَت سَابِقَة، فبهش لذَلِك وَأَعْجَبهُ "، وَالله أعلم.(5/97)
(فارغة)(5/98)
(كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور)
وَمن كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور:
(مَسْأَلَة) (340)
:
وَلَا كَفَّارَة على من حلف باليهودية، أَو بالنصرانية، أَو بِالْبَرَاءَةِ من الله، أَو من الْإِسْلَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ الْكَفَّارَة ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ثَابت بن الضَّحَّاك - رَضِي الله عَنهُ - عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من حلف بِملَّة غير الْإِسْلَام كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمن قتل نَفسه بِشَيْء عذب بِهِ يَوْم الْقِيَامَة فِي نَار جَهَنَّم، وَلعن الْمُؤمن كقتله، وَمن رمى مُؤمنا بِكفْر فَهُوَ كقتله ".(5/99)
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من حلف بِاللات والعزى فَلْيقل: لَا إِلَه إلاّ الله "، وَلم ينْسبهُ إِلَى الْكفْر، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (341)
:
وَالْكَفَّارَة وَاجِبَة فِي يَمِين الْغمُوس. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا كَفَّارَة ".
قَالَ الله - عزّ وجلّ: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن(5/100)
يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الْآيَة.
وَعند أبي دَاوُد عَن عَطاء اللَّغْو فِي الْيَمين، قَالَ: " قَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هُوَ كَلَام الرجل فِي بَيته: كلا وَالله، بل وَالله ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " لَغْو الْيَمين قَول الْإِنْسَان: لَا وَالله، وبلى وَالله "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح من حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه عَنْهَا فِي هَذِه الْآيَة قَالَت: " هُوَ قَول الرجل: لَا وَالله، وبلى وَالله ".
وَرُوِيَ عَن عَبْثَر عَن لَيْث عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن(5/101)
عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْأَيْمَان أَرْبَعَة: يمينان يكفران، ويمينان لَا يكفران، الرجل يحلف وَالله لَا يفعل كَذَا وَكَذَا فيفعل، وَالرجل يَقُول: وَالله أفعل فَلَا يفعل، وَأما اليمينان اللَّتَان لَا يكفران فَإِن الرجل يحلف مَا فعلت كَذَا وَكَذَا، وَقد فعله، وَالرجل يحلف لقد فعلت كَذَا وَكَذَا، وَلم يَفْعَله ".
وَخَالفهُ سُفْيَان فَرَوَاهُ عَن لَيْث - هُوَ ابْن أبي سليم - عَن زِيَاد بن كُلَيْب عَن إِبْرَاهِيم من قَوْله، وَلَيْث وَحَمَّاد غير مُحْتَج بهما فِي الصَّحِيح.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن فراس عَن الشّعبِيّ (عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي ّ فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَا الْكَبَائِر؟ قَالَ: الْإِشْرَاك بِاللَّه، قَالَ: ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثمَّ الْيَمين الْغمُوس، قَالَ: قلت لعامر: يَعْنِي الشّعبِيّ) - مَا الْيَمين الْغمُوس؟ قَالَ: الَّذِي يقتطع مَال امْرِئ مُسلم بِيَمِين وَهُوَ فِيهَا كَاذِب "، والمحتج بِهَذَا اللَّفْظ وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الطَّالِب الْبَيِّنَة، فَلم تكن لَهُ بَيِّنَة، فاستحلف الْمَطْلُوب، فَحلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، فَقَالَ(5/102)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بلَى قد فعلت، وَلَكِن غفر لَك بإخلاص قَول لَا إِلَه إلاّ الله ".
وروى أَبُو حنيفَة عَن يحيى بن أبي كثير عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَ شَيْء أطيع الله فِيهِ أعجل ثَوابًا من صلَة الرَّحِم، وَلَيْسَ شَيْء أعجل عقَابا من الْبَغي وَقَطِيعَة الرَّحِم وَالْيَمِين الْفَاجِرَة تدع الديار بَلَاقِع ". وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (342)
:
وَكَفَّارَة الْيَمين قبل الْحِنْث جَائِزَة وَاقعَة موقعها. وَقَالَ أَبُو(5/103)
حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا تُجزئه ".
وَدَلِيلنَا من الْخَبَر مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نفر من الْأَشْعَرِيين أستحمله فَقَالَ: وَالله لَا أحملكم "، فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: " فأتينا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكرنَا ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: مَا أَنا حملتكم، بل الله حملكم، إِنِّي وَالله - إِن شَاءَ الله - لَا أَحْلف على يَمِين فَأرى خيرا مِنْهَا إِلَّا كفرت عَن يَمِيني، وأتيت الَّذِي هُوَ خير ".
وَعند مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من حلف على يَمِين، فَرَأى خيرا مِنْهَا فليكفر عَن يَمِينه وليفعل ".
وَعِنْده عَن عدي بن حَاتِم - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا حلف أحدكُم على يَمِين، فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفرها، وليأتِ الَّذِي هُوَ خير ".
وَعِنْدَهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا عبد الرَّحْمَن، لَا تسْأَل الْإِمَارَة؛ فَإنَّك إِن أعطيتهَا عَن مَسْأَلَة وكلت إِلَيْهَا، وَإِن أعطيتهَا عَن غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا، وَإِذا(5/104)
حَلَفت على يَمِين فَرَأَيْت غَيرهَا خيرا مِنْهَا فَكفر عَن يَمِينك، وائتِ الَّذِي هُوَ خير ".
وَعند مُسلم عَنهُ أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: " يَا عبد الرَّحْمَن، إِذا حَلَفت على يَمِين، فَرَأَيْت غَيرهَا خيرا مِنْهَا فَكفر عَن يَمِينك، ثمَّ ائتِ الَّذِي هُوَ خير ".
وَعند البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَ كَانَ أَبُو بكر إِذا حلف لَا يَحْنَث، حَتَّى نزلت الْكَفَّارَة، قَالَت: " فَقَالَ أَبُو بكر: لَا أَحْلف على يَمِين فَأرى خيرا مِنْهَا إِلَّا كفّرت عَن يَمِيني، وأتيت الَّذِي هُوَ خير ".
وَرُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّه كَانَ رُبمَا كفر يَمِينه قبل أَن يَحْنَث، وَرُبمَا كفر بَعْدَمَا يَحْنَث ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: أَحَادِيث أبي مُوسَى، وعدي، وَأبي هُرَيْرَة وَأَظنهُ قَالَ: وَعبد الرَّحْمَن روى حَدِيث كل وَاحِد مِنْهُم مَا دلّ على الْحِنْث قبل الْكَفَّارَة، وَبَعضهَا مَا دلّ على الْكَفَّارَة قبل الْحِنْث، وَأَكْثَرهم قَالُوا: " فليكفر يَمِينه، وليأت الَّذِي هُوَ خير "، وَالله أعلم.(5/105)
(مَسْأَلَة) (343)
:
وَلَو حلف: " ليقضينه حَقه إِلَى حِين " فَلَيْسَ بِمَعْلُوم؛ لِأَنَّهُ يَقع على مُدَّة الدُّنْيَا وَيَوْم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الْحِين سِتَّة أشهر ".
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " الْحِين قد يكون غدْوَة وَعَشِيَّة ".(5/106)
وَعَن قَتَادَة فِي قَوْله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} قَالَ: " بعد الْمَوْت "، وَقَالَ: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِين] } ثَلَاثَة أَيَّام، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} ، قَالَ: " كل سِتَّة أشهر ".
وَعَن ابْن الْمسيب أَنه قَالَ: " نرى الْحِين شَهْرَيْن ".
وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: " سِتَّة أشهر "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (344)
:
وَإِذا حلف لَا يَأْكُل خبْزًا بأدم، فَأَكله مَعَ التَّمْر حنث. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " لَا يَحْنَث ".
رُوِيَ عَن يُوسُف بن عبد الله بن سَلام - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " رَأَيْت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذ كسرة من خبز شعير، فَوضع عَلَيْهَا تَمْرَة، وَقَالَ: هَذِه أدام هَذِه فَأكلهَا ".(5/107)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب السّنَن بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنه لم يقل: " فَأكلهَا ". وَالله أعلم.
(مسالة) (345)
:
وَلَو حلف ليضربن عَبده مائَة سَوط، فجمعها فَضَربهُ بِحَيْثُ يمسهُ الْجَمِيع بر فِي يَمِينه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يبر ".
وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة، قَالَ الله - عزّ وجلّ: {وخُذْ بِيَدِكَ ضَغْثاً فَاضْرِبْ وَلاَ تَحْنُثْ} وَضرب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأثكال النّخل فِي الزِّنَا.
وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف عَن أَبِيه قَالَ: " أَخذ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مقْعدا زنا، فَضَربهُ بأثكال النّخل ".
وَعند أبي دَاوُد عَنهُ عَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْأَنْصَار أَنه اشْتَكَى رجل مِنْهُم حَتَّى أضنى، فَذكر قصَّة فِي زِنَاهُ، قَالَ: " فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يَأْخُذُوا لَهُ مائَة شِمْرَاخ، فَيَضْرِبُونَهُ بهَا ضَرْبَة وَاحِدَة "، وَالله أعلم.(5/108)
(مَسْأَلَة) (346)
:
وَإِن قَالَ: " إِن كلمت فلَانا فَمَالِي فِي سَبِيل الله، أَو صَدَقَة، أَو لله عَليّ أَن أحج، وَمَا أشبه ذَلِك " فَعَلَيهِ كَفَّارَة يَمِين فِي ظَاهر الْمَذْهَب، وَقد قيل: " إِنَّه بَينهمَا يُخَيّر، وكل وَاحِد مِنْهُمَا كَاف مكفر ". وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ الْوَفَاء بِمَا قَالَ ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن عقبَة بن عَامر - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كَفَّارَة النّذر كَفَّارَة يَمِين ".
وَعند أبي دَاوُد عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كَفَّارَة يَمِين، وَمن نذر نذرا لَا يطيقه فكفارته كَفَّارَة يَمِين ".
وَعِنْده عَن ابْن الْمسيب أَن أَخَوَيْنِ من الْأَنْصَار كَانَ بَينهمَا مِيرَاث، فَسَأَلَ أَحدهمَا صَاحبه الْقِسْمَة، (فَقَالَ " إِن عدت تَسْأَلنِي الْقِسْمَة) فَكل مَالِي فِي رتاج الْكَعْبَة "، فَقَالَ لَهُ عمر - رَضِي الله(5/109)
عَنهُ: " إنّ الْكَعْبَة غنية عَن مَالك؛ كفر عَن يَمِينك، وكلم أَخَاك، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " لَا يَمِين عَلَيْك، وَلَا نذر فِي مَعْصِيّة الرب، وَلَا فِي قطيعة الرَّحِم، وَلَا فِيمَا لَا تملك ". وروى الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَدِهِ عَن أبي رَافع أنّ مولاته أَرَادَت أَن تفرق بَينه وَبَين امْرَأَته، فَقَالَت: " هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّة، وَهِي يَوْمًا نَصْرَانِيَّة، وكل مَمْلُوك لَهَا حر، وكل مَال لَهَا فِي سَبِيل الله، وَعَلَيْهَا الْمَشْي إِلَى بَيت الله إِن لم تفرق بَينهمَا "، فَسَأَلت عَائِشَة، وَابْن عمر، وَابْن عَبَّاس، وَحَفْصَة، وَأم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهُم، فكلهم قَالَ لَهَا: " أَتُرِيدِينَ أَن تكون مثل هاروت وماروت، وأمروها أَن تكفر يَمِينهَا، وتخلي بَينهمَا ".
وَرُوِيَ عَن عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تذر فِي مَعْصِيّة الله، وكفارته كَفَّارَة يَمِين " وَالله أعلم.(5/110)
(مَسْأَلَة) (347)
:
وَلَو قَالَ: " إِن شفا الله مريضي فَللَّه عليَّ أَن أنحر وَلَدي " لم ينْعَقد نَذره. وَقد حكى لي الْفَقِيه أَبُو الْفَتْح - رَحمَه الله - عَن الرّبيع أنّه حكى هَذِه الْمَسْأَلَة، ثمَّ قَالَ: " وَفِيه قَول آخر: إِنَّه (يلْزمه) كَفَّارَة يَمِين ". قَالَ الْفَقِيه: " وَقد رضيه صَاحب التَّقْرِيب ". قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " والْآثَار تدل على ذَلِك ". وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد - رحمهمَا الله -: " يلْزمه ذبح شَاة ".(5/111)
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن طَلْحَة عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه، وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ "، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح عَن أبي عَاصِم وَأبي نعيم عَن مَالك بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد عَن أبي أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أبي الْمُهلب عَن عمرَان بن حصن عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا وَفَاء لنذر فِي مَعْصِيّة الله، وَلَا وَفَاء لنذر فِيمَا لَا يملك العَبْد، أَو قَالَ: ابْن آدم "، رَوَاهُ (البُخَارِيّ وَمُسلم) فِي الصَّحِيح عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ.
وروى مَالك عَن يحيى بن سعيد قَالَ: " سَمِعت الْقَاسِم بن مُحَمَّد يَقُول: أَنْت امْرَأَة إِلَى عبد الله بن عَبَّاس، فَقَالَت: إِنِّي نذرت أَن أنحر ابْني، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تنحري ابْنك، وكفري عَن يَمِينك، فَقَالَ شيخ عَنهُ ابْن عَبَّاس جَالس، وَكَيف يكون فِي هَذَا كَفَّارَة؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِن الله - عزّ وَجل - يَقُول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسائِهِمْ} ، ثمَّ جعل فِيهِ من الْكَفَّارَة مَا قد رَأَيْت ".(5/112)
وروينا فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - أَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نذر فِي مَعْصِيّة الله، وكفارته كَفَّارَة يَمِين "، وَهُوَ مُوَافق لفتوى ابْن عَبَّاس.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّه قَالَ لرجل نذر أَن ينْحَر نَفسه، وهمّ يفعل ذَلِك وَيحل: " لقد أردْت أَن تحل ثَلَاث خِصَال: أَن تحل بَلَدا حَرَامًا، وَأَن تقطع رحما حَرَامًا نَفسك أقرب الْأَرْحَام إِلَيْك، وَأَن تسفك دَمًا حَرَامًا، أتجد مائَة من الْإِبِل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَاذْهَبْ فانحر فِي كل عَام ثَلَاثًا لَا يفْسد اللَّحْم ".
وروى سُفْيَان عَن عبد الْملك بن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رجلا أَتَاهُ فَقَالَ: " إِنِّي نذرت أَن أنحر نَفسِي "، فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وَأمره بكبش، فَسئلَ عَطاء أَيْن يذبح الْكَبْش؟ قَالَ: " بِمَكَّة "، وَالله أعلم.(5/113)
مَسْأَلَة (348)(5/114)
وَمن نذر أَن يمشي إِلَى بَيت الله الْحَرَام لزمَه إِن قدر على الْمَشْي فِي أحد الْقَوْلَيْنِ، وَإِن لم يقدر ركب وأهرق دَمًا احْتِيَاطًا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ أَن يركب، وَإِن قدر على الْمَشْي ويهريق دَمًا ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى رجلا يهادي بَين ابنيه، فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا: " نذر أَن يمشي، فَقَالَ: إنّ الله - عزّ وجلّ - لَغَنِيّ عَن تَعْذِيب هَذَا نَفسه، وَأمره أَن يركب ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن عقبَة بن عَامر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نذرت أُخْتِي أَن تمشي إِلَى بَيت الله، فأمرتني أَن أستفتي لَهَا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فاستفتيت النَّبِي ّ، فَقَالَ: لتمش ولتركب ".(5/115)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أنّ أُخْت عقبَة ابْن عَامر - رَضِي الله عَنْهُمَا - نذرت أَن تمشي إِلَى الْبَيْت، فَأمرهَا النبيّ أَن تركب وتهدي هَديا ".
وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - فليهد هَديا وليركب، رَوَاهُ الْحسن عَنهُ فِي حَدِيث عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ: " فَإِذا نذر أحدكُم أَن يحجّ مَاشِيا فليهد هَديا وليركب ". وَفِي هَذَا نظر، فالمحدثون يَقُولُونَ: " الْحسن لم يسمع من عمرَان ". فَهُوَ مُرْسل.
وَرُوِيَ عَن جَعْفَر بن عون عَن يحيى بن سعيد عَن عبيد الله بن زحر عَن أبي سعيد الرعيني عَن عبد الله بن مَالك عَن عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نذرت أُخْتِي أَن تحج مَاشِيَة غير مختمرة قَالَ: فَذكرت لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: مر أختك، فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثَلَاثَة أَيَّام "، وَتَابعه يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَذكر سَماع كل وَاحِد من الروَاة عَن(5/116)
صَاحبه إِلَى عقبَة. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن جريج قَالَ: " كتب إِلَى يحيى بن سعيد فَذكره ".
وروى ابْن وهب عَن مَالك، وَعبد الله بن عمر عَن عُرْوَة بن أذينة قَالَ: " خرجت مَعَ جدة لي عَلَيْهَا مشي حَتَّى إِذا كُنَّا بِبَعْض الطَّرِيق عجزت، فَأرْسلت مولاة لَهَا إِلَى عبد الله بن عمر تسأله، فَخرجت مَعهَا، فَسَأَلت ابْن عمر فَقَالَ: مرها لتركب، ثمَّ لتمشي من حَيْثُ عجزت ".
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك بِنَحْوِهِ، وَقَالَ: " عَلَيْهَا مشي إِلَى بَيت الله الْحَرَام حَتَّى إِذا كَانَت بِبَعْض الطَّرِيق عجزت، فَسَأَلت عبد الله ابْن عمر ".
وروى ابْن وهب عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ عَن عبد الله بن عَبَّاس مثل قَول ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " وينحر بَدَنَة ".
وَعَن ابْن وهب عَن يزِيد بن هَارُون عَن إِسْمَاعِيل عَن عَامر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سُئِلَ عَن رجل نذر أَن يمشي إِلَى الْكَعْبَة، فَمشى(5/117)
نصف الطَّرِيق ثمَّ ركب، قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: إِذا كَانَ عَام قَابل فليركب مَا مَشى، وَيَمْشي مَا ركب، وينحر بَدَنَة "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (349)
:
لَو نذر الْمَشْي إِلَى مَسْجِد الْمَدِينَة، أَو بَيت الْمُقَدّس لزمَه الْوَفَاء بِمَا نذر فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يلْزمه ".
لنا حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ، بلغ بِهِ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تشدوا الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْمَسْجِد الْحَرَام، ومسجدي هَذَا، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ.
وَرُوِيَ عَن طلق بن حبيب أنّ فرعة قَالَ لِابْنِ عمر: إِنِّي نذرت أَن أخرج إِلَى بَيت الْمُقَدّس، قَالَ: " إِنَّمَا تشد الرّحال إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، وَالْمَسْجِد الْحَرَام، وَمَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَهَذَا من ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - اسْتِدْلَال بالْخبر فِي انْعِقَاد(5/118)
تنذر بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ، كَمَا لَو نذر الْخُرُوج إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رجلا قَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت زمَان الْفَتْح إِن فتح الله عَلَيْك أَن أُصَلِّي فِي بَيت الْمُقَدّس "، قَالَ: " صلّ هَهُنَا "، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَأْنك إِذن ".
وَرُوِيَ نَحوه عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالله أعلم.(5/119)
(فارغة)(5/120)
(كتاب القَاضِي)
وَمن كتاب القَاضِي:
(مَسْأَلَة) (350)
:(5/121)
(فارغة)(5/122)
يكره الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يكره " فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ.
قَالَ الله - عزّ وجلّ -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ}
رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من سمع رجلا ينشد ضَالَّة فِي الْمَسْجِد فَلْيقل: لَا ردهَا الله عَلَيْك؛ فَإِن الْمَسَاجِد لم تبن لهَذَا ".(5/123)
وَرَوَاهُ ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " إِنَّمَا بنيت الْمَسَاجِد لما بنيت لَهُ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى الْمَسْجِد فَبَال فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ أَصْحَاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَه، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزرموه "، فَلَمَّا فرغ دَعَا بِهِ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إنّ هَذِه الْمَسَاجِد لم تتَّخذ لهَذَا الْخَلَاء وَالْبَوْل والقذر، إِنَّمَا تتَّخذ لقِرَاءَة الْقُرْآن وَلذكر الله، ثمَّ أَمر بعض أَصْحَابه بذنوب أَو بِدَلْو من مَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ".
رُوِيَ عَن مَكْحُول عَن أبي الدَّرْدَاء عَن وَاثِلَة، وَعَن أبي أُمَامَة كلهم يَقُول: " سمعنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ (على الْمِنْبَر) يَقُول: " جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ وَخُصُومَاتكُمْ وَرفع أَصْوَاتكُم، وسل سُيُوفكُمْ وَإِقَامَة حُدُودكُمْ، واعمروها فِي الْجمع، وَاتَّخذُوا على أَبْوَاب مَسَاجِدكُمْ مطاهر "، وَالله أعلم.(5/124)
(مَسْأَلَة) (351)
:(5/125)
وَلَا يجوز الحكم بالتقليد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " يجوز ". وَهَذَا بِخِلَاف الْكتاب والسنّة.
قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ} ، وَقَالَ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} ، وَقَالَ: {وَمَنْ لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقٌونَ} ، وَقَالَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} ؛ فَمَا ذكر الحكم فِي مَوضِع إِلَّا وقرنه بِالْعلمِ.
وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد "، فقرنه بِالِاجْتِهَادِ.
وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عَن أبي عون الثَّقَفِيّ قَالَ: " سَمِعت الْحَارِث بن عمر يحدث عَن أَصْحَاب معَاذ من أهل حمص(5/126)
قَالَ: وَقَالَ مرّة عَن معَاذ أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن قَالَ لَهُ: " كَيفَ تقضي إِذا عرض لَك قَضَاء؟ " قَالَ: " أَقْْضِي بِكِتَاب الله، قَالَ: فَإِن لم تَجدهُ فِي كتاب الله؟ " قَالَ: " أَقْْضِي بِسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، قَالَ: " فَإِن لم تَجدهُ فِي سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أجتهد رَأْيِي وَلَا آلو "، قَالَ: " فَضرب بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما يرضى رَسُول الله "، تَابعه يحيى بن سعيد الْقطَّان الإِمَام عَن شُعْبَة، وَقَالَ: عَن نَاس من أَصْحَاب معَاذ عَن معَاذ.
وروى أَبُو دَاوُد السّخْتِيَانِيّ عَن عَمْرو بن عون عَن شريك عَن سماك عَن حسن عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْيمن قَاضِيا، فَقلت: يَا رَسُول الله، ترسلني وَأَنا حَدِيث السن، وَلَا علم لي بِالْقضَاءِ، فَقَالَ: إنّ الله - جلّ ثَنَاؤُهُ - سيهدي قَلْبك، وَيثبت لسَانك، فَإِذا جلس بَين يَديك الخصمان فَلَا تقضين حَتَّى تسمع من الآخر كَمَا سَمِعت من الأول، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يتَبَيَّن لَك الْقَضَاء، قَالَ: فَمَا زلت قَاضِيا، وَمَا شَككت فِي قَضَاء بعد ". وَلَو جَازَ الحكم بالتقليد لأخبره بذلك، وإحالته إِيَّاه على اجْتِهَاده دون تَقْلِيد غَيره(5/127)
فِيمَا أشكل عَلَيْهِ دَلِيل على امْتنَاع جَوَاز الحكم بالتقليد وَالله أعلم.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَمْرو بن الْعَاصِ أنّه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر ".
وَعَن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم: " هَكَذَا حَدثنِي أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْقُضَاة ثَلَاثَة، وَاحِد فِي الْجنَّة، وَاثْنَانِ فِي النَّار، فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق فَقضى بِهِ، وَرجل عرف الْحق وجار فِي الحكم، وَرجل قضى للنَّاس على جهل فهما فِي النَّار ".
وَرُوِيَ عَن مُعَاوِيَة بن صَالح عَن أَشْيَاخهم أنّ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - رأى رجلا فَقيل: " هَذَا قَاضِي كَذَا وَكَذَا "، قَالَ: " هَذَا "، قَالُوا: " نعم "، قَالَ: " كَيفَ تقضي؟ " قَالَ: " أَقْْضِي بِمَا أعلم، وأسأل عَمَّا جهلت "، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " أَنْت قَاض "، وَالله أعلم.(5/128)
(مَسْأَلَة) (352)
:
وَلَا يجوز أَن يكون الْفَاسِق أَو الْمَرْأَة قَاضِيا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " يجوز ".
فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن الْحسن عَن أبي بكرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لقد نَفَعَنِي الله بِكَلِمَة سَمعتهَا من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد مَا كدت أَن ألحق بأصحاب الْجمل وأقاتل مَعَهم، قَالَ: بلغ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنّ أهل فَارس قد ملكوا عَلَيْهِم بنت كسْرَى، فَقَالَ: لن يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عمر - وَهُوَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ - عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - وَهَذَا لفظ ابْن عمر - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا معشر النِّسَاء، أكثرن الاسْتِغْفَار، فَإِنِّي رأيتكن أَكثر أهل النَّار، فَقَالَت امْرَأَة مِنْهُنَّ، وَمَا لنا يَا رَسُول الله أَكثر أهل النَّار، قَالَ: تكثرن اللَّعْن، وتكفرن العشير، وَمَا من ناقصات عقل وَدين أغلب لذِي اللب مِنْكُن، قَالَت: يَا رَسُول الله، وَمَا نُقْصَان الْعقل وَالدّين؟ قَالَ: أما نُقْصَان الْعقل فشهادة امْرَأتَيْنِ تعدل شَهَادَة رجل، فَهَذَا من نُقْصَان(5/129)
الْعقل، وتمكث اللَّيَالِي لَا تصلي وتفطر فِي رَمَضَان، فَهَذَا نُقْصَان الدّين "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (353)
:(5/130)
(فارغة)(5/131)
وَالْقَضَاء على الْغَائِب جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن هنداً قَالَت للنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح، أعليّ جنَاح أَن آخذ من مَاله؟ قَالَ: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ ".
وَحَدِيث أبي قلَابَة عِنْد عمر بن عبد الْعَزِيز فِي شَأْن الْقسَامَة، وَقَالَ: " حَدثنَا أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ "، وَذكر حَدِيث (الْقَوْم من عكل) وعرينة فِي صَحِيح مُسلم، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا، وَقَالَ:(5/132)
" عَن أبي قلَابَة بِحَدِيث العرينيين، وَحَدِيث عمر فِي أسيفع جُهَيْنَة "، وَقد سبق فِي كتاب الْحَج ذكره.
وَأما حَدِيث عَليّ الَّذِي تقدّم فِي مَسْأَلَة الحكم بالتقليد فَإِنَّمَا ورد فِي الْخَصْمَيْنِ الْحَاضِرين، وكلامنا لم يَقع فِي ذَلِك.
(مَسْأَلَة) (354)
:(5/133)
(فارغة)(5/134)
(فارغة)(5/135)
(فارغة)(5/136)
وللحاكم أَن يحكم بِعِلْمِهِ فِي ظَاهر الْمَذْهَب إِلَّا فِي الْحُدُود، سَوَاء أحَاط علمه بذلك قبل أَن ولي الْقَضَاء أَو بعده، وَسَوَاء أحَاط علمه بِهِ فِي بلد ولَايَته، أَو فِي غير بلد ولَايَته، وَقد قيل: " إِنَّه فِي الْحُدُود بمثابته "، وَفِيه قَول آخر: " إِنَّه لَا يحكم بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُود وَلَا فِي غَيره ".
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ أَن يحكم بِعِلْمِهِ فِي غير الْحُدُود إِذا علمه فِي ولَايَته وبلد ولَايَته ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلب خصم عِنْد بَابهَا، فَخرج عَلَيْهِم فَقَالَ: إِنَّكُم تختصمون إِلَيّ، وَإِنَّمَا أَنا بشر، وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أعلم بحجته من بعض، فأقضي لَهُ بِمَا أسمع وَأَظنهُ صَادِقا، فَمن قضيت لَهُ بِشَيْء من حقّ أَخِيه فَإِنَّهَا قِطْعَة من النَّار، فليأخذها أَو ليذرها ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن الْأَشْعَث بن قيس قَالَ: كَانَ بيني وَبَين رجل خُصُومَة فِي بِئْر فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " شَاهِدَاك أَو(5/137)
يَمِينه "، فَقلت: إنّه إِذا يحلف وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من حلف على يَمِين ليستحقّ بهَا مَالا هُوَ فِيهَا فَاجر لَقِي الله تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان، فَأنْزل الله تَعَالَى تَصْدِيق ذَلِك، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إِلَى آخر الْآيَة.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن زيد بن أَرقم - لما قَالَ عبد الله بن أبي: {لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُوا} ، وَقَالَ أَيْضا: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} أخْبرت بذلك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلامتني الْأَنْصَار، وَحلف عبد الله بن أبي مَا قَالَ ذَلِك، فرجعنا إِلَى الْمنزل، فَنمت (فدعاني) رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَيْته، فَقَالَ: " إنّ الله صدقك وعذرك، وَنزل {هُمُ الَّذِينَ يَقُولونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُوا} الْآيَة ".
واتفقا على حَدِيث جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - فِي هَذَا الْبَاب، وَفِيه: فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْكَافِر الْمُنَافِق "، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دَعه، لَا يتحدث النَّاس أنّ مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه ".(5/138)
وَحَدِيث اللّعان قد ذَكرْنَاهُ فِي كِتَابه.
وَرُوِيَ عَن عمَارَة بن خُزَيْمَة أنّ عَمه أخبرهُ - وَكَانَ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْتَاعَ فرسا من رجل من الْأَعْرَاب، واستتبعه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ليَقْضِ ثمن فرسه، فأسرع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) الْمَشْي وَأَبْطَأ الْأَعرَابِي، فَطَفِقَ رجال يعترضون الْأَعرَابِي ويساومونه الْفرس، وَلَا يَشْعُرُونَ أَن رَسُول الله قد ابْتَاعَ حَتَّى زَاد بَعضهم الْأَعرَابِي فِي السّوم، فَلَمَّا زادوا نَادَى الْأَعرَابِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن كنت مبتاعاً هَذَا الْفرس فابتعه وَإِلَّا بِعته "، فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين سمع نِدَاء الْأَعرَابِي حَتَّى أَتَى الْأَعرَابِي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَو لَيْسَ قد ابتعت مِنْك؟ " قَالَ: " لَا، وَالله مَا بعتكه "، قَالَ: " بلَى ابتعته مِنْك "، فَطَفِقَ النَّاس يلوذون برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبالأعرابي، وهما يتراجعان، فَطَفِقَ الْأَعرَابِي يَقُول: " هَلُمَّ شَهِيدا أَنِّي بَايَعْتُك "، فَقَالَ خُزَيْمَة: " أَنا أشهد أَنَّك بايعته، فَأقبل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على خُزَيْمَة، فَقَالَ: " بِمَ تشهد؟ " فَقَالَ: " بتصديقك "، فَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَهَادَة خُزَيْمَة بِشَهَادَة رجلَيْنِ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أنّ فَاطِمَة بنت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرْسلت إِلَى أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - تسأله(5/139)
مِيرَاثهَا من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وفدك وَمَا بَقِي من خمس خَيْبَر، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - إنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة، إِنَّمَا يَأْكُل آل مُحَمَّد فِي هَذَا المَال، فَإِنِّي وَالله لَا أغير شَيْئا من صَدَقَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن حَالهَا الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولأعملن فِيهَا بِمَا عمل بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، وَذكر بَاقِي الحَدِيث، وَالله أعلم.(5/140)
(كتاب الشَّهَادَات)
وَمن كتاب الشَّهَادَات:
(مَسْأَلَة) (355)
:
وَلَا يحِيل حكم الْحَاكِم الْأُمُور عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " مَا للْحَاكِم إنشاؤه من الْعُقُود (وحله) نفذ ظَاهرا وَبَاطنا ".
وَفِي هَذَا حِيلَة لمن عشق امْرَأَة رجل، وأتى بِشَاهِدين يَشْهَدَانِ أنّ زَوجهَا طَلقهَا ثَلَاثًا، وَأَنه تزوج بهَا فَحكم الْحَاكِم بِالتَّفْرِيقِ بَينهَا وَبَين(5/141)
الأول، وَحكم بِأَنَّهَا زَوْجَة الآخر، ثمَّ بانا شَاهِدي زور، فتطيب لَهُ أَن يَطَأهَا، وَلَا سَبِيل للْأولِ عَلَيْهَا.
فَأجَاز مثل هَذَا الخداع بَين الْمُسلمين، وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لكل غادر لِوَاء يَوْم الْقِيَامَة يعرف بِهِ "، وَقَالَ: " وَلَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل ". وَقَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل ". وَقَالَ: " من فعل فِي أمرنَا مَا لَا يجوز فَهُوَ رد ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ، وأنكم تختصمون إليّ، فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَلحن بحجته من بعض، فأقضي لَهُ على نَحْو مَا أسمع مِنْهُ، فَمن قضيت لَهُ بِشَيْء من حق أَخِيه، فَلَا يَأْخُذ مِنْهُ، فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " كَانَ عتبَة بن أبي وَقاص عهد إِلَى أَخِيه سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن يقبض إِلَيْهِ ابْن وليدة زَمعَة، فَأقبل بِهِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأقبل مَعَه عبد بن زَمعَة، فَقَالَ سعد: يَا رَسُول الله، هَذَا ابْن أخي عهد إِلَيّ أنّه ابْنه، قَالَ عبد: يَا رَسُول الله: هَذَا أخي ابْن زَمعَة، وَولد على فرَاشه، فَنظر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى ابْن وليدة زَمعَة، فَإِذا هُوَ أشبه النَّاس(5/142)
بِعتبَة بن أبي وَقاص، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة من أجل أَنه ولد على فرَاش أَبِيه "، وَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة بنت زَمعَة؛ لما رأى من شبهه بِعتبَة ابْن أبي وَقاص، وَسَوْدَة بنت زَمعَة زوج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أحدث فِي أمرنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد ".
(وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من فعل فِي أمرنَا مَا لَا يجوز فَهُوَ رد ".
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن سُلَيْمَان النعماني حَدثنَا عبد الله بن عبد الصَّمد بن أبي خِدَاش حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس حَدثنَا عبيد الله ابْن أبي حميد عَن أبي الْمليح الْهُذلِيّ قَالَ: " كتب عمر - رَضِي الله عَنهُ - أما بعد:(5/143)
فَإِن الْقَضَاء فَرِيضَة محكمَة، وَسنة متبعة، فَافْهَم إِذا أدلي إِلَيْك (بِحجَّة وأنفذ الْحق إِذا وضح) ، فَإِنَّهُ لَا ينفع تكلم بِحَق لَا نَفاذ لَهُ، وآس بَين النَّاس فِي وَجهك ومجلسك وعدلك؛ حَتَّى لَا ييأس الضَّعِيف من عدلك، وَلَا يطْمع الشريف فِي حيفك، الْبَيِّنَة على من ادّعى، وَالْيَمِين على من أنكر، وَالصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا من أحل حَرَامًا، أَو حرّم حَلَالا، لَا يمنعك قَضَاء قَضيته بالْأَمْس، راجعت فِيهِ نَفسك، وهديت فِيهِ لرشدك، أَن تراجع الْحق، فَإِن الْحق قديم، ومراجعة الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل، الْفَهم الْفَهم فِيمَا يلجلج فِي صدرك مِمَّا لم يبلغك فِي الْكتاب أَو السنّة، اعرف الْأَمْثَال والأشباه، ثمَّ قس الْأُمُور عِنْد ذَلِك، فاعمد إِلَى أحبها إِلَى الله وأشبهها(5/144)
بِالْحَقِّ فِيمَا ترى، اجْعَل للْمُدَّعِي بيّنة أمداً يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِن أحضر بيّنته أخذت بِحقِّهِ، وَإِلَّا وجهت الْقَضَاء عَلَيْهِ، فَإِن ذَلِك أجلى للعمى، وأبلغ فِي الْعذر، الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم على بعض إِلَّا (مجلوداً فِي حد، أَو مجرباً فِي شَهَادَة زور، أَو ظنيناً فِي وَلَاء، أَو قرَابَة) ، إنّ الله تولى مِنْكُم السرائر وَدَرَأَ عَنْكُم - (يَعْنِي الْحُدُود) - إلاّ بِالْبَيِّنَاتِ و (الْأَيْمَان) ، وَإِيَّاك والقلق والضجر، والتأذي بِالنَّاسِ، والتنكر للخصوم فِي مَوَاطِن الحقّ الَّتِي يُوجب الله بهَا الْأجر، وَيحسن بهَا الذخر، فَإِنَّهُ من يصلح نيّته فِيمَا بَينه وَبَين الله وَلَو على نَفسه يكفه الله مَا بَينه وَبَين النَّاس، وَمن تزين النَّاس بِمَا يعلم الله مِنْهُ غير ذَلِك يشنه الله، فَمَا ظَنك بِثَوَاب عِنْد الله فِي عَاجل رزقه وخزائن رَحمته، وَالسَّلَام عَلَيْك ".(5/145)
وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن إِدْرِيس الأودي عَن سعيد بن أبي بردة وَأخرج الْكتاب، فَقَالَ: " هَذَا كتاب عمر - رَضِي الله عَنهُ - بِمَعْنَاهُ أَو قريب " مِنْهُ، وَالله أعلم.(5/146)
(مَسْأَلَة) (356)
:
وَشَهَادَة الْوَاحِدَة غير مَقْبُولَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا مَقْبُولَة على الْولادَة ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " يَا معشر النِّسَاء تصدقن، وأكثرن من الاسْتِغْفَار، فَإِنِّي رأيتكن أَكثر أهل النَّار، فَقَالَت امْرَأَة مِنْهُنَّ جزلة: وَمَا لنا يَا رَسُول الله أَكثر أهل النَّار؟ قَالَ: تكثرن اللَّعْن، وتكفرن العشير، مَا رَأَيْت من ناقصات عقل وَدين، أغلب لذِي لب مِنْكُن؟ قَالَ: يَا رَسُول الله، وَمَا نُقْصَان الْعقل وَالدّين؟ قَالَ: أما نُقْصَان الْعقل فشهادة امْرَأتَيْنِ تعدل شَهَادَة رجل، فَهَذَا نُقْصَان الْعقل، وتمكث اللَّيَالِي مَا تصلي، وتفطر فِي رَمَضَان، فَهَذَا نُقْصَان الدّين ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَطاء أَنه قَالَ: " لَا تجوز شَهَادَة النِّسَاء لَا رجل مَعَهُنَّ فِي أَمر النِّسَاء أقل من أَربع عدُول ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك عَن أبي عبد الرَّحْمَن المدايني عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة - رَضِي الله عَنهُ - " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجَاز شَهَادَة الْقَابِلَة "، قَالَ عَليّ بن(5/147)
عمر: " أَبُو عبد الرَّحْمَن المدايني رجل مَجْهُول ".
وروى جَابر الْجعْفِيّ عَن عبد الله بن يحيى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " شَهَادَة الْقَابِلَة جَائِزَة على الاستهلال "، كَذَا رَوَاهُ أبان بن ثَعْلَب عَن جَابر ".
وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَن جَابر بن عبد الله بن يحيى: " أنّ عليا - رَضِي الله عَنهُ - أجَاز شَهَادَة الْقَابِلَة وَحدهَا فِي الاستهلال "، وَجَابِر الْجعْفِيّ مَتْرُوك الحَدِيث - قد سبق ذكري لَهُ - وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (357)
:
وَشَهَادَة الْمَحْدُود فِي الْقَذْف مَقْبُولَة إِذا تَابَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا تقبل ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .(5/148)
وَرُوِيَ عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ ".
وَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - لأبي بكرَة: " تب تقبل شهادتك ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن عُيَيْنَة قَالَ: " سَمِعت الزُّهْرِيّ يَقُول: زعم أهل الْعرَاق أنّ شَهَادَة الْقَاذِف لَا تجوز، فَأشْهد لأخبرني سعيد بن الْمسيب أنّ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ لأبي بكرَة: تب تقبل شهادتك، أَو إِن تبت قبلت شهادتك ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَأَخْبرنِي من أَثِق بِهِ من أهل الْمَدِينَة عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب أنّ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - لما جلد الثَّلَاثَة استتابهم، فَرجع اثْنَان، فَقبل شَهَادَتهمَا، وأبى أَبُو بكرَة أَن يرجع فَرد شَهَادَته ".
وَرُوِيَ عَن آدم بن فائد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " قَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تجوز شَهَادَة خائن، وَلَا خَائِنَة، وَلَا مَحْدُود فِي الْإِسْلَام، وَلَا محدودة، وَلَا ذِي غمر على أَخِيه "، رَوَاهُ(5/149)
الْمثنى بن الصَّباح عَن عَمْرو، وَقَالَ فِيهِ: " وَلَا مَوْقُوف على حد "، وَرَوَاهُ سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن عَمْرو وَلم يذكر المحدودة فِي مثل هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ ثِقَة من جملَة من روى هَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو فَلَا يلْزمنَا قبُول خلاف من خَالفه. وَرَوَاهُ يزِيد الْقرشِي عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا ترفعه.
وَرَوَاهُ عبد الْأَعْلَى بن مُحَمَّد عَن يحيى بن سعيد عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيزِيد ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ، وَيحيى بن سعيد هَذَا هُوَ الْفَارِسِي مَتْرُوك، وَعبد الْأَعْلَى ضَعِيف، قَالَ ذَلِك الدَّارَقُطْنِيّ رَحمَه الله، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (358)
:
وَشَهَادَة الْكَافِر عندنَا مَرْدُودَة فِي جَمِيع الْأَحْوَال. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " شَهَادَة أهل الذِّمَّة فِيمَا بَينهم مَقْبُولَة ".(5/150)
قَالَ الله تَعَالَى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبَعَ دَينَكُمْ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
وَقَالَ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} .
وَقَالَ تَعَالَى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُوا قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} ، وَاسم الْفَاسِق يتَنَاوَل الْكَافِر وَغَيره بِدلَالَة قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} ، وَقَوله تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} الْآيَة.
وروى الدوري عَن شَاذان قَالَ " كنت عِنْد سُفْيَان الثَّوْريّ فَسمِعت شَيخا يحدث عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا(5/151)
يتوارث أهل ملتين شَتَّى، وَلَا تجوز شَهَادَة مِلَّة على مِلَّة إِلَّا مِلَّة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنَّهَا تجوز على غَيرهم ". قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن شَاذان: " فَسَأَلت عَن هَذَا الشَّيْخ بعد أَصْحَابنَا فَزعم أنّه عمر بن رَاشد الْحَنَفِيّ، تَابعه الْحسن بن مُوسَى عَن عمر بن رَاشد، وَرَوَاهُ عَليّ بن الْجَعْدِي عَن عمر بن رَاشد إِلَّا أَنه قَالَ: " وحدثه عَن أبي هُرَيْرَة أَحْسبهُ ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " خرج رجل من بني جهم مَعَ تَمِيم الدَّارِيّ وعدي بن بداء، فَمَاتَ السَّهْمِي بِأَرْض لَيْسَ بهَا مُسلم، فَلَمَّا قدمُوا بِتركَتِهِ فقدوا جَاما من فضَّة مخوصاً من ذهب) فَأَحْلفهُمَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ وجد الْجَام بِمَكَّة، (فَقَالَا: اشْتَرَيْنَاهُ من تَمِيم وعدي) ، فَقَامَ رجلَانِ من أَوْلِيَاء السَّهْمِي، فَحَلفا لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا، وأنّ الْجَام لصَاحِبِهِمْ،(5/152)
قَالَ: وَفِيهِمْ نزلت هَذِه الْآيَة {يَأَيُّهاَ الَّذَينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} .
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ قَالَ: " توفّي رجل من خثعم فَلم يشْهد مَوته إلاّ رجلَانِ نصرانيان، فأشهدهما على وَصيته، فَلَمَّا قدما الْكُوفَة حلفهما أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي مَسْجِد الْكُوفَة بعد الْعَصْر بِاللَّه مَا خَانا، وَلَا كتما، وَلَا بَدَلا، وَأَن هَذِه وَصيته، فَأجَاز شَهَادَتهمَا "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (359)
:(5/153)
(فارغة)(5/154)
وَيجوز الْقَضَاء بِشَاهِد وَيَمِين فِي الْأَمْوَال وَمَا يجْرِي مجْراهَا.(5/155)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
دليلنا مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن نمير عَن زيد بن الْحباب عَن سيف بن سُلَيْمَان عَن قيس بن سعد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " إنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِشَاهِد وَيَمِين ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله - رَحمَه الله تَعَالَى -: " وَقد تعرض لهَذَا الحَدِيث بعض الْمُخَالفين مِمَّن لَيْسَ من صناعته معرفَة الصَّحِيح من السقيم، وَاحْتج فِيهِ بِمَا رُوِيَ عَن يحيى بن معِين سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس يَقُول: سَمِعت الْعَبَّاس الدوري يَقُول قَالَ يحيى بن معِين: حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قضى بِشَاهِد وَيَمِين " لَيْسَ بِمَحْفُوظ ".
قَالَ أَبُو عبد الله - رَحمَه الله تَعَالَى -: فَنَقُول - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق -: إنّ شَيخنَا أَبَا زَكَرِيَّا - رَضِي الله عَنهُ - لم يُطلق هَذَا القَوْل على حَدِيث سيف بن سُلَيْمَان عَن قيس بن سعد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس، وَإِنَّمَا أَرَادَ الحَدِيث الْخَطَأ الَّذِي رُوِيَ عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس، أَو الحَدِيث الَّذِي تفرّد بِهِ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي يحيى،(5/156)
فَأَما حَدِيث سيف بن سُلَيْمَان فَلَيْسَ فِي إِسْنَاده من يجرح، وَلم نعلم لَهُ أَيْضا عِلّة نعلل بِهِ الحَدِيث، وَالْإِمَام أَبُو زَكَرِيَّا - رَحمَه الله تَعَالَى - أعرف بِهَذَا الشَّأْن من أَن يظنّ بِهِ أَن يوهن حَدِيثا يرويهِ الثِّقَات الْأَثْبَات ".
وَعلل الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث بأنّه (لَا يعلم قيسا يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار بِشَيْء) ، وَلَيْسَ مَا لَا يُعلمهُ الطَّحَاوِيّ لَا يُعلمهُ غَيره.
وَقد أخبرنَا الْحسن بن أبي عبد الله الْفَارِسِي أخبرنَا أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن أبي حَامِد الْعدْل أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مخلد الدوري حَدثنَا يحيى بن مُسلم بن عبد الله الرَّازِيّ حَدثنَا وهب بن جرير حَدثنَا أبي قَالَ: " سَمِعت قيس ابْن سعد يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رجلا وقصته نَاقَته وَهُوَ محرم فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اغسلوه بِمَاء وَسدر، وَلَا تخمروا رَأسه؛ فَإِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ يُلَبِّي ". وَلَا يبعد أَن يكون لَهُ عَن عَمْرو غير هَذَا، وَلَيْسَ من شَرط قبُول الْأَخْبَار كَثْرَة رِوَايَة الرَّاوِي عَمَّن روى عَنهُ، وَإِذا روى الثِّقَة عَمَّن لَا يُنكر سَمَاعه مِنْهُ حَدِيثا وَاحِدًا ... وَجب قبُوله، وَإِن لم يرو عَنهُ غَيره، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.(5/157)
وَقد روى هَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن مُسلم الطايفي عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
وَرَوَاهُ كَذَلِك عَنهُ أَبُو حُذَيْفَة، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب السّنَن من حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن مُحَمَّد بن مُسلم بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ، وَخَالَفَهُمَا خَالِد بن يزِيد الْعمريّ (عَن مُحَمَّد بن مُسلم، فَرَوَاهُ عَنهُ عَن عَمْرو عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس) ، وَتَابعه على ذَلِك عبد الله بن مُحَمَّد بن ربيعَة العدامي، وعصام بن يُوسُف الْبَلْخِي، وخَالِد والعدامي وعصام لَيْسُوا بأقوياء.
وَعبد الرَّزَّاق ثِقَة حجَّة، وَتَابعه (مُحَمَّد بن مُسلم فَرَوَاهُ عَنهُ عَن عَمْرو عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس وَتَابعه) أَبُو خَليفَة فروياه كَمَا ذكرنَا، فَلَا يعلله رِوَايَة من لَا يُبَالِي بِهِ، وَرُوِيَ بِإِسْنَاد واهٍ عَن عَمْرو عَن جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ، فَسمِعت الْحَاكِم أَبَا عبد الله - رَحمَه الله - يَقُول: " إنّ هَذَا الْخلاف لَا يُعلل هَذَا الحَدِيث من أوجه مِنْهَا:
- إنّ عَمْرو بن دِينَار قد سمع من ابْن عَبَّاس، فَلَا يُنكر أَن يسمع حَدِيثا مِنْهُ وَمن أَصْحَابه.(5/158)
- وَأَيْضًا فَإِن سيف بن سُلَيْمَان ثِقَة مَأْمُون، وَقد حكم مُسلم بن الْحجَّاج - رَحمَه الله - لروايته بِالصِّحَّةِ، فَلَا يُقَابل بِمثل الْعمريّ والعذرمي والبلخي وَالْحكم لروايته بِالصِّحَّةِ، وَالله أعلم ".
روى الشَّافِعِي عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد "، قَالَ عبد الْعَزِيز: " فَذكرت ذَلِك لسهيل قَالَ: " أَخْبرنِي ربيعَة - وَهُوَ عِنْدِي ثِقَة - أَنِّي حدثته إِيَّاه، وَلَا أحفظه "، قَالَ عبد الْعَزِيز: " وَقد أصَاب سهيلاً عِلّة أذهبت بعض عقله وَنسي بعض حَدِيثه، وَكَانَ سُهَيْل يحدث عَن ربيعَة عَنهُ عَن أَبِيه ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن دَاوُد الإسْكَنْدراني: حَدثنَا زِيَاد بن يُونُس حَدثنِي سُلَيْمَان بن بِلَال عَن ربيعَة بِهَذَا الحَدِيث، قَالَ سُلَيْمَان: " فَلَقِيت سهيلاً فَسَأَلته عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: مَا أعرفهُ، فَقلت لَهُ:(5/159)
إنّ ربيعَة أَخْبِرِينِي بِهِ عَنْك، قَالَ: فَإِن كَانَ ربيعَة أخْبرك عني فَحدث بِهِ عَن ربيعَة عني ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله - رَحمَه الله -: " هَذَا الحَدِيث عندنَا مَحْفُوظ من حَدِيث سُهَيْل بن أبي صَالح؛ إِذْ حفظ عَنهُ إِمَام حَافظ متقن مثل ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، وَقد يحدث الْمُحدث الثبت بِالْحَدِيثِ ثمَّ ينساه، وَقد روينَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن العامري، وَمُحَمّد بن زيد الْمَكِّيّ عَن سُهَيْل بن أبي صَالح مثل رِوَايَة ربيعَة عَنهُ ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن الْمُبَارك عَن الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد ".
وَعَن عبد الله بن نَافِع عَن الْمُغيرَة بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " فَحَدثني مُحَمَّد بن يَعْقُوب أخبرنَا أَبُو الجهم حَدثنَا أَحْمد بن أبي الْحوَاري قَالَ: " سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول: مُحَمَّد بن مبارك رجل أهل الشَّام بعد أبي مسْهر لقد حفظ الْإِسْنَاد ".(5/160)
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فَقلت لَهُ - يَعْنِي بعض من ناظره - روى الثَّقَفِيّ - وَهُوَ ثِقَة - عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد ".
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا يُوسُف بن يَعْقُوب حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ فَذكره بِإِسْنَادِهِ نَحوه.
أخبرنَا الإِمَام أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن رزمونة حَدثنَا أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن مُحَمَّد بن غَالب النسوي حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي، فَذكره بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه سَوَاء، وَزَاد قَالَ أبي: " وَقضى بِهِ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بالعراق "، قَالَ لنا أَبُو عبد الله - رَحمَه الله -: " عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ - كَمَا ذكره الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى - لَا يحْتَج بحَديثه ".
وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن حميد الْأسود الْمَكِّيّ، وَعبد الله بن عمر بن حَفْص الْعمريّ، وَهِشَام بن سعد الْمدنِي، وسابق بن عبد الله الرقي، وَإِبْرَاهِيم بن أبي حَيَّة، وَغَيرهم عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر. وَرُوِيَ عَن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُم - " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِشَاهِد وَيَمِين "، كَذَا(5/161)
روى عَن الثَّوْريّ، وَعَن ابْن جرير وَغَيره عَن جَعْفَر.
وروى عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنْهُم - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِشَهَادَة رجل وَاحِد مَعَ يَمِين صَاحب الْحق، وَقضى بِهِ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بالعراق.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حُسَيْن بن زيد عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، وخَالِد بن أبي كَرِيمَة(5/162)
عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، وَكَأَنَّهُ رَوَاهُ مرّة مُتَّصِلا وَمرَّة مُرْسلا، وَالله أعلم.
وروى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا أَحْمد بن عَبده حَدثنَا عمار بن شُعَيْب بن عبد الله بن الزَّبِيب الْعَنْبَري حَدثنَا أبي، قَالَ: " سَمِعت جدي الزَّبِيب يَقُول: بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بني العنبر، فَأَخَذُوهُمْ بركبة من نَاحيَة الطَّائِف، فاستاقوهم إِلَى نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فركبت فسبقتهم إِلَى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: السَّلَام عَلَيْك يَا نَبِي الله وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، أَتَانَا جندك فأخذونا، وَقد كُنَّا أسلمنَا، وخضرمنا آذان النِّعم، فَلَمَّا قدم بالعنبر قَالَ لي نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَل لكم بَيِّنَة على أَنكُمْ أسلمتم قبل أَن تؤخذوا فِي هَذِه الْأَيَّام؟ قلت: نعم، قَالَ من بينتك؟ قلت: سَمُرَة رجل من بني العنبر، وَرجل آخر سَمَّاهُ لَهُ، (فَشهد الرجل وأبى سَمُرَة أَن يشْهد، فَقَالَ نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قد أَبى أَن يشْهد لَك، فتحلف مَعَ(5/163)
شاهدك الآخر؟ قلت: نعم) ، فاستحلفني فَحَلَفت بِاللَّه لقد أسلمنَا يَوْم كَذَا وَكَذَا، وخضرمنا آذان النعم، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اذْهَبُوا فقاسموهم أَنْصَاف الْأَمْوَال، وَلَا تمسوا ذَرَارِيهمْ، لَوْلَا أنّ الله - عزّ وجلّ - لَا يحب ضَلَالَة الْعَمَل مَا ذريناكم عقَالًا، قَالَ الزَّبِيب: فدعتني أُمِّي، فَقَالَت: هَذَا الرجل أَخذ زريبتي، فَانْصَرَفت إِلَى نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي - فَأَخْبَرته، فَقَالَ لي: احبسه، فَأَخَذته بتلابيبه وَقمت مَعَه مَكَانا، ثمَّ نظر إِلَيْنَا نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قَائِمين، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ بأسيرك؟ فأرسلته من يَدي، فَقَامَ نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) ، فَقَالَ للرجل: رد على هَذَا زريبة أمه الَّتِي أخذت مِنْهَا، فَقَالَ: يَا نَبِي الله، إِنَّهَا خرجت من يَدي، فاختلع نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سيف الرجل فأعطانيه، وَقَالَ للرجل: اذْهَبْ فزده آصعاً من طَعَام، قَالَ: فزادني آصعاً من شعير ".
وَرُوِيَ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس حَدثنِي أبي عَن ربيعَة عَن سعيد بن عَمْرو بن شُرَحْبِيل - يَعْنِي ابْن سعيد بن سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ - عَن أَبِيه عَن جده " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد فِي الْحُقُوق ".(5/164)
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن أبي عبيد الدَّرَاورْدِي، وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن سعيد بن عَمْرو بن شُرَحْبِيل بن سعيد ابْن سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ ثمَّ السَّاعِدِيّ عَن أَبِيه عَن جده - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " وجد فِي كتاب سعد أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد ".
(وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن ربيعَة عَن إِسْمَاعِيل بن عَمْرو بن قيس بن سعد بن عبَادَة عَن أَبِيه أنّهم وجدوا فِي كتاب سعد أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد) .
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله أخبرنَا مُسلم بن خَالِد حَدثنِي جَعْفَر بن مُحَمَّد قَالَ: " سَمِعت الحكم بن عتبَة يسْأَل أبي، وَقد وضع يَده على جِدَار الْقَبْر ليقوم، أقضى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد؟ قَالَ: نعم، وَقضى بِهِ عَليّ بَين أظْهركُم "، قَالَ مُسلم: " قَالَ جَعْفَر: فِي الدّين ".
وَرُوِيَ عَن كُلْثُوم بن زِيَاد قَالَ: " أدْركْت سُلَيْمَان بن حبيب وَالزهْرِيّ يقضيان بذلك "، قَالَ كُلْثُوم: " وَكَانَ أَبُو ثَابت بن سُلَيْمَان بن(5/165)
حبيب قَاضِي الْمَدِينَة ثَلَاثِينَ سنة، يقْضِي بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد ".
وَعَن حَمَّاد بن خَالِد الْخياط عَن ابْن أبي ذيب عَن الزُّهْرِيّ فِي الْيَمين مَعَ الشَّاهِد قَالَ: " أول من صنعه مُعَاوِيَة "، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عَن الزُّهْرِيّ وَالَّذِي رُوِيَ من إِنْكَاره فَنحْن لَا نعرفه.
وروى مَالك عَن أبي الزِّنَاد أنّ عمر بن عبد الْعَزِيز كتب إِلَى أبي عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن الْخطاب - وَهُوَ عَامل لَهُ على الْكُوفَة - أَن اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
وَقَالَ البُخَارِيّ - رَحمَه الله - فِي كِتَابه: " قَالَ لي قُتَيْبَة حَدثنَا سُفْيَان بن شبْرمَة قَالَ: كلمني أَبُو الزِّنَاد فِي شَهَادَة الشَّاهِد وَيَمِين الْمُدَّعِي فَقلت: قَالَ الله - عزّ وجلّ -: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} . (قلت: إِذا كَانَ يَكْتَفِي بِشَهَادَة شَاهد وَيَمِين الْمُدَّعِي فَمَا يحْتَاج أَن تذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى مَا كَانَ يصنع بِذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى؟) ، فَأَشَارَ البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة إِلَى قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَاهِدَاك أَو يَمِينه ".
أخبرنَا أَبُو عَمْرو الأديب أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو بكر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم(5/166)
الْإِسْمَاعِيلِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى - عِنْد ذكر البُخَارِيّ هَذِه الْحِكَايَة لَيْسَ فِيمَا ذكره ابْن شبْرمَة معنى.
فَإِن قَالَ: " الْحَاجة إِلَى إذكار إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى إِذا شهدتا، فَإِذا لم تَكُونَا قَامَت مقامهما يَمِين الطَّالِب الَّتِي لَو انْفَرَدت مِمَّن هِيَ عَلَيْهِ حلت مَحل الْبَيِّنَة فِي الْأَدَاء أَو الْإِبْرَاء فَحلت هَهُنَا مَحل الْمَرْأَتَيْنِ فِي الِاسْتِحْقَاق بهما مُضَافَة للشَّاهِد الْوَاحِد، وَلَو وَجب إِسْقَاط الْبَيِّنَة الثَّابِتَة فِي الشَّاهِد وَالْيَمِين؛ لما ذكر ابْن شبْرمَة لسقط الشَّاهِد، والمرأتان لقَوْل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَاهِدَاك أَو يَمِينه "، فنقله عَن الشَّاهِدين إِلَى يَمِين خَصمه بِلَا ذكر رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَالله أعلم.(5/167)
(مَسْأَلَة) (360)
:
وتؤكد الْيَمين بِالْمَكَانِ وَالزَّمَان. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَا تؤكد بالمساجد ".
روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن هِشَام بن هَاشم بن عتبَة بن أبي وَقاص عَن عبد الله بن نسطاس عَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من حلف على منبري هَذَا بِيَمِين آثمة تبوأ مَقْعَده من النَّار ".
وَعَن مَالك - رَحمَه الله - عَن دَاوُد بن الْحصين أنّه سمع أَبَا غطفان بن طريف المري قَالَ: " اخْتصم زيد بن ثَابت وَابْن مُطِيع إِلَى مَرْوَان بن الحكم فِي دَار، فَقضى بِالْيَمِينِ على زيد بن ثَابت على الْمِنْبَر، فَقَالَ زيد: أَحْلف لَهُ مَكَاني، قَالَ لَهُ مَرْوَان: وَالله إِلَّا عِنْد مقاطع الْحُقُوق، فَجعل زيد يحلف أَن (حَقه لحق) ، ويأبى أَن يحلف على الْمِنْبَر، فَجعل مَرْوَان يعجب من ذَلِك "، قَالَ مَالك: " كره زيد - رَضِي الله عَنهُ - صَبر الْيَمين ".(5/168)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم: رجل حلف على سلْعَته لقد أعطي بهَا أَكثر مِمَّا أعطي وَهُوَ كَاذِب، وَرجل حلف على يَمِين كَاذِبَة بعد الْعَصْر؛ ليقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم، وَرجل منع فضل مَاء، فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُ: الْيَوْم أمنعك فضلي كَمَا منعت فضل مَا لم تعْمل يداك ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن عبد الله بن مُؤَمل عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: " كتبت إِلَى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - من الطَّائِف فِي جاريتين ضربت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى وَلَا شَاهد عَلَيْهِمَا، فَكتب إِلَى أَن أحبسهما بعد الْعَصْر، ثمَّ أَقرَأ عَلَيْهِمَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فَفعلت فَاعْترفت "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (361)
:(5/169)
(فارغة)(5/170)
(فارغة)(5/171)
وَالْيَمِين ترد على الْمُدَّعِي بنكول الْمُدَّعِي عَلَيْهِ، وَلَا يحكم بِمُجَرَّد النّكُول. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يحكم بِالنّكُولِ "، وَلَا ترد الْيَمين على الْمُدَّعِي ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن بشر بن يسَار عَن سهل بن أبي حيثمة قَالَ: " انْطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مَسْعُود بن زيد إِلَى خَيْبَر - وَهِي يومئذٍ صلح - فتفرقا فِي حوائجهما، فَأتى محيصة على عبد الله بن سهل، وَهُوَ يشحط فِي دَمه قَتِيلا فدفنه، ثمَّ قدم الْمَدِينَة، فَانْطَلق عبد الرَّحْمَن بن سهل ومحيصة وحويصة ابْنا مَسْعُود إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذهب عبد الرَّحْمَن يتَكَلَّم فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كبر الْكبر، وَهُوَ أحدث الْقَوْم، فَسكت فتكلما، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:(5/172)
" أتحلفون خمسين يَمِينا وتستحقون دم قاتلكم أَو صَاحبكُم؟ " فَقَالُوا: " يَا رَسُول الله كَيفَ نحلف وَلم نشْهد وَلم نَر؟ " قَالَ: " فتبرئكم يهود بِخَمْسِينَ "، فَقَالُوا: " يَا رَسُول الله كَيفَ نَأْخُذ يَمِين قوم كفار؟ " قَالَ: فعقله رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروى مُسلم فِي الصَّحِيح عَن عَمْرو النَّاقِد عَن سُفْيَان عَن يحيى بن سعيد بشير بن يسَار عَن سهل بن أبي حيثمة فَذكر هَذِه الْقِصَّة، قَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أفتبرئكم يهود بِخَمْسِينَ يَمِينا؟ يحلفُونَ أَنهم لم يقتلوه "، " وَكَيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون؟ "، قَالَ: " فَيقسم مِنْكُم خَمْسُونَ أَنهم قَتَلُوهُ "، قَالُوا: " كَيفَ نقسم على مَا لم نره؟ " قَالَ: " فوداه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عِنْده "، كَذَا رَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد، فَيبْدَأ بقوله: " فتبرئكم يهود "، وَالْجَمَاعَة عَن يحيى بن سعيد بدؤوا بقوله: " تحلفون خمسين يَمِينا " للأنصاريين كَمَا سبق ذكرنَا لَهُ، وَالله أعلم.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، والثقفي عَن يحيى بن سعيد عَن بشير بن يسَار عَن سهل بن أبي حيثمة - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَدَأَ بالأنصاريين، فَلَمَّا لم يحلفوا رد الْأَيْمَان على الْيَهُود.
قَالَ: " وَأخْبرنَا مَالك عَن يحيى بن بشير بن يسَار - رَضِي الله عَنهُ(5/173)
- عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمثلِهِ "، كَذَا يرويهِ الإِمَام الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن عُيَيْنَة، وَهُوَ الصَّوَاب، وَحَدِيث اللّعان دَلِيل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَقد سبق ذكره فِي كتاب اللّعان.
وَرُوِيَ عَن اللَّيْث بن سعد عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رد الْيَمين على طَالب الْحق.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا مَالك بن أنس عَن ابْن شهَاب عَن سُلَيْمَان بن يسَار أنّ رجلا من بني سعد بن لَيْث أجْرى فرسا، فوطئ على إِصْبَع رجل من جُهَيْنَة (فَنزل فِيهَا) فَمَاتَ، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - للَّذين ادّعى عَلَيْهِم: " تحلفون خمسين يَمِينا مَا مَاتَ مِنْهَا "، فَأَبَوا وتحرجوا من الْأَيْمَان، فَقَالَ للآخرين: " احلفوا أَنْتُم " فَأَبَوا.
وروى إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى وَغَيره عَن حُسَيْن بن عبد الله بن ضميرَة عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْمُدعى(5/174)
عَلَيْهِ أولى بِالْيَمِينِ، فَإِن نكل أَحْلف صَاحب الْحق وَأخذ "، وَلَيْسَ هَذَا بمعتمد.
وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي عوَانَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عَلْقَمَة بن وَائِل عَن أَبِيه قَالَ: " كنت عِنْد النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَتَاهُ خصمان، فَقَالَ أَحدهمَا - وَهُوَ ابْن الْقَيْس بن عَابس الْكِنْدِيّ، وخصمه ربيعَة -: يَا رَسُول الله: إنّ هَذَا أجر على أرضي فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ: هِيَ أرضي أزرعها، فَقَالَ: لَك بَيِّنَة، قَالَ: لَا، قَالَ: لَك يَمِينه، قَالَ: إنّه لَيْسَ يُبَالِي مَا حلف عَلَيْهِ، قَالَ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إِلَّا ذَلِك، قَالَ: فَلَمَّا ذهب ليحلف، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أما إِنَّه إِن حلف على مَاله ظلما لَقِي الله تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو الْأَحْوَص عَن سماك بن حَرْب عَن عَلْقَمَة بن وَائِل قَالَ فِيهِ: " فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للحضرمي: أَلَك بَيِّنَة؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فلك يَمِينه، قَالَ: فَقَالَ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إِلَّا ذَلِك ".(5/175)
وَفِي حَدِيث الْأَشْعَث بن قيس قَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَاهِدَاك أَو يَمِينه "، كَمَا سبق ذكرنَا لَهُ. وَلَيْسَ فِيهِ: " لَيْسَ لَك إِلَّا ذَلِك "، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيث وَائِل، وَقَالَ فِيهِ: " أَلَك بَيِّنَة؟ وَلم يقل: " شَاهِدَاك " فافهمه.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَو يعْطى النَّاس بدعاواهم لادّعى أنَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ، وَلَكِن الْيَمين على الْمُدعى (عَلَيْهِ) ".
وروى الدَّارَقُطْنِيّ: أخبرنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا عَمْرو بن أبي سَلمَة عَن زُهَيْر بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا ادّعت الْمَرْأَة طَلَاق زَوجهَا، فَجَاءَت على ذَلِك بِشَاهِد عدل (اسْتحْلف زَوجهَا فَإِن) حلف بطلت شَهَادَة الشَّاهِد، وَإِن نكل فنكوله بِمَنْزِلَة شَاهد آخر، وَجَاز طَلَاقه ". وَالله أعلم.
(362) :
وَشَهَادَة الْعَدو على الْعَدو غير مَقْبُولَة. وَحكي عَن أبي(5/176)
حنيفَة - رَحمَه الله - أنّه قَالَ: " هِيَ مَقْبُولَة ".
روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ردّ شَهَادَة والخائنة، وَذي الْغمر على أَخِيه، وردّ شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت، وأجازها لغَيرهم.
وَعنهُ قَالَ: " قَالَ: رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا زَان وَلَا زَانِيَة، وَلَا ذِي غمر على أَخِيه "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (363)
:
وَإِذا شهد الشُّهُود بِمُوجب قتل، فَقتل الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِم، ثمَّ رجعُوا عَن الشَّهَادَة، وَقَالُوا: " تعمدنا " وَجب عَلَيْهِم الْقصاص. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا قصاص عَلَيْهِم ".
روى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي روق حَدثنَا أَحْمد بن روح حَدثنَا سُفْيَان عَن مطرف عَن الشّعبِيّ قَالَ: " جَاءَ رجلَانِ بِرَجُل إِلَى عَليّ رَضِي الله(5/177)
عَنهُ، فشهدا عَلَيْهِ بِالسَّرقَةِ فَقَطعه، ثمَّ جَاءَا بآخر بعد ذَلِك، فَقَالَا: هُوَ هَذَا، غلطنا بِالْأولِ، فَلم يقبل شَهَادَتهمَا على الآخر، وغرمهما دِيَة الأول، وَقَالَ: " لَو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما "، تَابعه سُفْيَان بن سعيد الثَّوْريّ عَن مطرف - وَهُوَ صَحِيح - عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَلَا نَعْرِف أحدا خَالفه من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (364)
:
وحد الزِّنَا لَا يُقَام على الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِشُهُود الزوايا، وَهُوَ أَن يشْهد كل وَاحِد مِنْهُم أَنه زنى بهَا فِي زَاوِيَة أُخْرَى من زَوَايَا الْبَيْت.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يُقَام عَلَيْهِ الْحَد اسْتِحْسَانًا ". وَالله أعلم.(5/178)
(كتاب الدَّعْوَى)
من كتاب الدَّعْوَى.
(مَسْأَلَة) (365)
:
الْبَيِّنَتَانِ إِذا تَعَارَضَتَا وَالشَّيْء فِي يَد ثَالِث لم يقسم بَينهمَا فِي أحد الْأَقْوَال: وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يقسم بَينهمَا ".
روى عَن شبعة عَن قَتَادَة عَن سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه عَن جده: " أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدين، فَقضى بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث همام عَن قَتَادَة بِمَعْنى إِسْنَاده: " أَن رجلَيْنِ ادّعَيَا بَعِيرًا على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبعث كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدين، فَقَسمهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ ".(5/179)
(خالفهما سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة فِي مَتنه، فَقَالَ فِيهِ: " اخْتصم رجلَانِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعير لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، فقضي بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ ".
وَرُوِيَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن حجاج بن الْمنْهَال حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة فِي مَتنه، فَقَالَ فِيهِ: " اخْتصم رجلَانِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعير لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، فقضي بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ ". رَوَاهُ سعيد بن بشر عَن قَتَادَة بِسَنَدِهِ وَمَعْنَاهُ.
وَرُوِيَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن حجاج بن الْمنْهَال: حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن خلاس عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا فِي مَتَاع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اسْتهمَا) على الْيَمين (مَا كَانَ أحبّا ذَلِك أَو كرها) ". كَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
فَأَما حَدِيث سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه عَن أبي مُوسَى فمقال فِيهِ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن مَتنه مُخْتَلف فِيهِ، كَمَا سبق ذكرنَا لَهُ، والْحَدِيث حَدِيث وَاحِد.(5/180)
وَالْآخر: أَن فِيهِ إرْسَالًا؛ يُقَال: " إِن أَبَا بردة لم يسمع هَذَا الحَدِيث من أبي مُوسَى، رَضِي الله عَنهُ "، قَالَ حَمَّاد بن سَلمَة: " قَالَ سماك بن حَرْب أَنا حدثت أَبَا بردة بِهَذَا الحَدِيث "؛ ولهذه الْعلَّة لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ - رحمهمَا الله تَعَالَى - فِي الصَّحِيح "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (366)
:
وَيرجع فِي تَمْيِيز الْأَنْسَاب إِذا اشتبهت إِلَى قَول الْقَافة. وَقَالَ أَبُو حنفية - رَحمَه الله -: " لَا يرجع إِلَى الْقَافة، وَلَكِن يلْحق بِجَمِيعِ من ادَّعَاهُ ".
فَفِي الصَّحِيح عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " دخل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمًا مَسْرُورا، وأسارير وَجهه تبرق، فَقَالَ: ألم تسمعي مَا قَالَ مجزز المدلجي؟ وَرَأى زيدا وَأُسَامَة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض ".
وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل عَلَيْهَا وَهُوَ مسرور تبرق أسارير وَجهه، فَقَالَ: " ألم تسمعي مَا قَالَ مجزز المدلجي، وَرَأى أُسَامَة وزيداً نائمين، وَقد خرجت أقدامهما "، فَذكر مثله، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.(5/181)
وَأخرجه مُسلم عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - بِمَعْنَاهُ من حَدِيث ابْن شهَاب، وَفِيه: " وَكَانَ مجزز قائفاً ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " وَكَانَ أُسَامَة أسود، وَكَانَ زيد أَبيض ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا أنس بن عِيَاض عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب أَن رجلَيْنِ تداعيا ولدا، فَدَعَا لَهُ عمر الْقَافة فَقَالُوا: " قد اشْتَركَا فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: وَآل أَيهمَا شِئْت "، قَالَ أخبرنَا مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن عمر - (رَضِي الله عَنهُ - مثل مَعْنَاهُ.
وروى ابْن بكير عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن عمر) بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ يليط أَوْلَاد الْجَاهِلِيَّة مِمَّن دعاهم فِي الْإِسْلَام، قَالَ سُلَيْمَان: " فَأتى رجلَانِ كِلَاهُمَا يَدعِي ولد امْرَأَة، فَدَعَا عمر - رَضِي الله عَنهُ - قائفاً، فَنظر إِلَيْهِمَا، فَقَالَ الْقَائِف: " لقد اشْتَركَا فِيهِ، فَضَربهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ - بِالدرةِ، (وَقَالَ: مَا يدْريك؟) ، ثمَّ قَالَ للْمَرْأَة: أَخْبِرِينِي خبرك، فَقَالَت: كَانَ هَذَا لأحد الرجلَيْن يَأْتِيهَا، وَهِي فِي إبل لأَهْلهَا، فَلَا يفارقها حَتَّى يظنّ أَن قد اسْتمرّ بهَا حملا، ثمَّ انْصَرف عَنْهَا، فأهريقت دَمًا، ثمَّ خلف هَذَا - يَعْنِي الآخر - فَلَا أَدْرِي من أَيهمَا(5/182)
هُوَ، فَكبر الْقَائِف، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - للغلام: وَال أَيهمَا شِئْت ".
وَعَن مَالك عَن يزِيد بن عبد الله بن الْهَاد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عبد الله بن عبد الله بن أُميَّة أَن امْرَأَة هلك عَنْهَا زَوجهَا، فاعتدت أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، ثمَّ تزوجت حِين حلّت، فَمَكثت عِنْد زَوجهَا أَرْبَعَة أشهر (وَنصفا) ، ثمَّ ولدت ولدا تَاما، فجَاء زَوجهَا إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، فَذكر لَهُ ذَلِك، فَدَعَا عمر - رَضِي الله عَنهُ - نسْوَة من نسَاء الْجَاهِلِيَّة قدماء، فسألهن عَن ذَلِك، فَقَالَت امْرَأَة مِنْهُنَّ: " أَنا أخْبرك عَن هَذِه الْمَرْأَة، هلك عَنْهَا زَوجهَا حِين حملت، فأهريقت عَلَيْهِ الدِّمَاء، فَحُشَّ وَلَدهَا فِي بَطنهَا، فَلَمَّا أَصَابَهَا زَوجهَا الَّذِي نكحت، وَأصَاب الولدَ الماءُ تحرّك الْوَلَد فِي بَطنهَا وَكبر "، فصدقها عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَفرق بَينهمَا، وَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " أما إِنَّه لم يبلغنِي عنكما إِلَّا خير، وَألْحق الْوَلَد بِالْأولِ ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن علية عَن حميد عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَنه شكّ فِي ابْن لَهُ، فَدَعَا لَهُ الْقَافة.(5/183)
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " حَدثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ الصَّادِق المصدوق: أَن أحدكُم يجمع خلقه فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ يكون علقَة مثل ذَلِك، ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك، ثمَّ يبْعَث الله الْملك فينفخ فِيهِ الرّوح، ثمَّ يُؤمر بِأَرْبَع كَلِمَات، يكْتب رزقه وَعَمله وأجله وشقي هُوَ أم سعيد، فوالذي لَا إِلَه غَيره، إِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فيختم لَهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة فيدخلها. وَإِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فيختم لَهُ بِعَمَل أهل النَّار فيدخلها ".
وروى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا يحيى عَن الْأَجْلَح عَن الشّعبِيّ عَن عبد الله بن الْجَلِيل عَن زيد بن الأرقم - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كنت جَالِسا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فجَاء رجل من الْيمن، فَقَالَ: إِن ثَلَاث نفر من أهل الْيمن أَتَوا عليا يختصمون إِلَيْهِ فِي ولد، وَقد وَقَعُوا على امْرَأَة فِي طهر وَاحِد، فَقَالَ لاثْنَيْنِ: طيبا بِالْوَلَدِ لهَذَا (فغلبا) ، ثمَّ قَالَ لاثْنَيْنِ: طيبا بِالْوَلَدِ لهَذَا (فغلبا) ، ثمَّ قَالَ لاثْنَيْنِ: طيبا بِالْوَلَدِ لهَذَا فغلبا. ثمَّ قَالَ: أَنْتُم شُرَكَاء متشاكسون، إِنِّي مقرع بَيْنكُم، فَمن قرع فَلهُ الْوَلَد، وَعَلِيهِ لصاحبيه ثلثا الدِّيَة، فأقرع بَينهم، فَجعله لمن قرع، فَضَحِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بَدَت أَضْرَاسه أَو نَوَاجِذه ".(5/184)
وَرَوَاهُ سَلمَة بن كهيل عَن الشّعبِيّ عَن الْخَلِيل، أَو ابْن الْخَلِيل قَالَ: " أَتَى عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - فِي امْرَأَة ولدت من ثَلَاث " بِمَعْنَاهُ، وَلم يذكر الْيمن، وَلَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا قَوْله: " طيبا ".
وَرُوِيَ عَن قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب أَن رجلَيْنِ اشْتَركَا فِي طهر امْرَأَة، فَحملت مِنْهُمَا (فَولدت ولدا) ، فارتفعا إِلَى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَدَعَا ثَلَاثَة من الْقَافة، فدعوا بِتُرَاب، فوطئ فِيهِ الرّجلَانِ والغلام، ثمَّ قَالَ لأَحَدهمَا: " انْظُر "، فَنظر، فَاسْتقْبل واستعرض واستدبر، فَقَالَ: " أسر أم أعلن؟ " فَقَالَ: " بل أسر "، فَقَالَ: " لقد أَخذ الشّبَه مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَمَا أَدْرِي من أَيهمَا هُوَ " وَذكروا عَن الآخرين بِمَعْنى ذَلِك، فَقَالَ عمر: " إِنَّا نقوف الْآثَار " ثَلَاثًا يَقُولهَا، وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - قائفاً، فَجعله لَهما يرثانه ويرثهما، فَقَالَ سعيد: " أَتَدْرِي من عصبته؟ " قلت: " لَا "، قَالَ: " الْبَاقِي مِنْهُمَا ".
وَرُوِيَ عَن سماك عَن أنَاس من أهل الْمَدِينَة أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - قضى فِي نخاسين وَقع أَحدهمَا على جَارِيَة، ثمَّ بَاعهَا من آخر فَوَقع عَلَيْهَا، فَولدت، فَقَالَت: " لَا أَدْرِي من أَيهمَا هُوَ؟ " فقضي بَينهمَا يرثهما ويرثانه، وَالَّذِي يبْقى مِنْهُمَا، هُوَ منزلَة أَبِيه، وَالله أعلم.(5/185)
(فارغة)(5/186)
(كتاب الْعتْق وَالْوَلَاء وَالْمُدبر وَالْكِتَابَة)
وَمن كتاب الْعتْق وَالْوَلَاء وَالْمُدبر والكابة.
(مَسْأَلَة) (367)
:
إِذا أعتق من عَبده جُزْءا عتق كُله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " هُوَ بِالْخِيَارِ بَين أَن يعْتق بَاقِيَة وَبَين أَن يستسعى ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا عِنْد أبي دَاوُد من حَدِيث قَتَادَة عَن أبي الْمليح عَن أَبِيه أَن رجلا أعتق شقيصاً لَهُ من غُلَام، فَذكر ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " لَيْسَ لله شريك، فَأجَاز النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عتقه "، وَالله أعلم.(5/187)
(مَسْأَلَة) (368)
:
وَإِذا أعتق أحد الشَّرِيكَيْنِ نصِيبه - وَهُوَ مُوسر - سرى إِلَى شَرِيكه وَضمن لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " شَرِيكه هُوَ بِالْخِيَارِ بَين أَن يعتقهُ، أَو يكاتبه، أَو يستسعيه، أَو يغرم قيمَة نصِيبه وشريكه ".
دليلنا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم عَلَيْهِ قيمَة عدل، فَأعْطِي شركاؤه حصصهم، وَعتق عَلَيْهِ العَبْد، وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أعتق شركا لَهُ فِي مَمْلُوك فَعَلَيهِ عتقه كُله إِن كَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمنه، وَإِن لم يكن لَهُ مَال عتق مِنْهُ مَا عتق ".
وَعند البُخَارِيّ أَيْضا قَالَ: " وَرَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب ".
وَأخرجه مُسلم مُسْندًا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أعتق شِقْصا لَهُ فِي مَمْلُوك، فَكَانَ للَّذي يعْتق مِنْهُمَا نصِيبه مبلغ ثمنه من عتق كلّه ".
وَرَوَاهُ أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن(5/188)
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أعتق نَصِيبا لَهُ فِي مَمْلُوك، أَو شركا من عبد فَكَانَ لَهُ من المَال مَا يبلغ قيمَة بَقِيَّة العَبْد فقد عتق "، قَالَ نَافِع: " وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق ". قَالَ أَيُّوب: " لَا أَدْرِي أَشَيْء قَالَه نَافِع، أَو هُوَ فِي الحَدِيث؟ ".
وَفِي رِوَايَة بِمَعْنَاهُ، إِلَّا أَنه قَالَ: " فَهُوَ عَتيق " بدل قَوْله: " فقد عتق "، أخرج البُخَارِيّ الأول، وَمُسلم الثَّانِي فِي الصَّحِيح. وَهَذَا شكّ وَقع لأيوب) ، وَقد حفظه عبيد الله بن عمر، وَمَالك بن أنس، وَجَرِير بن حَازِم عَن نَافِع فِي الحَدِيث، (وَمَالك وَعبيد الله أثبت فِي) نَافِع من أَيُّوب.
(وَكَذَلِكَ قَالَ جرير بن حَازِم عَن نَافِع) كَمَا قَالَا، أخرجه مُسلم من حَدِيثه عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أعتق نَصِيبا لَهُ فِي عبد، فَكَانَ لَهُ من المَال قدر مَا يبلغ قِيمَته قوم عَلَيْهِ قيمَة عدل، وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق ".
وَعند البُخَارِيّ من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر(5/189)
- رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ يُفْتِي فِي العَبْد أَو الْأمة يكون بَين شُرَكَاء فَيعتق أحدهم نصِيبه مِنْهُ يَقُول: " قد وَجب عَلَيْهِ عتقه كُله إِذا كَانَ لَهُ من المَال مَا يبلغ يقوم من مَاله قيمَة الْعدْل، وَيدْفَع إِلَى الشُّرَكَاء، أنصباؤهم، ويخلي سَبِيل الْمُعْتق "، يخبر ذَلِك ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
واتفقا على حَدِيث سَالم عَن أَبِيه - يبلغ بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا كَانَ العَبْد بَين اثْنَيْنِ، فَأعتق أَحدهمَا نصِيبه، فَإِن كَانَ مُوسِرًا تقوم عَلَيْهِ قيمَة، وَلَا وكس، وَلَا شطط، ثمَّ يعْتق ".
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير بن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فِي الْمَمْلُوك بَين الرجلَيْن، فَيعتق أَحدهمَا نصِيبه، قَالَ: " يضمن ".
وَعِنْده أَيْضا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) من أعتق شقيصاً من مَمْلُوك فَهُوَ حر من مَاله.
وَرُوِيَ عَن الْحسن بن عمَارَة عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " كَانَ رجلَانِ من جُهَيْنَة بَينهمَا غُلَام، فَأعتق أَحدهمَا، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فضمنه إِيَّاه، وَكَانَ لَهُ قَرِيبا من مِائَتي شَاة، فَبَاعَهَا فَأَعْطَاهَا صَاحبه ". تفرد بِهِ(5/190)
الْحسن بن عمَارَة، وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَن ابْن أبي ليلى عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي مجلز عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير بن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أعتق شِقْصا أَو نَصِيبا فِي مَمْلُوك فخلاصة عَلَيْهِ فِي مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال، وَإِلَّا قوم عَلَيْهِ واستسعى بِهِ غير مشقوق عَلَيْهِ ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ جرير بن حَازِم، وَأَبَان بن يزِيد الْقطَّان، ومُوسَى بن خلف الْعَمى عَن قَتَادَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَذكروا فِيهِ السّعَايَة.
وَرَوَاهُ عبد الله بن يزِيد الْمقري - وَهُوَ ثِقَة - عَن همام عَن قَتَادَة فَجعل ذكر السّعَايَة من قَول قَتَادَة، وَلم يدرجه فِي الحَدِيث، وَذكره عَنهُ أَن رجلا أعتق شِقْصا لَهُ فِي مَمْلُوكه، فغرمه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَقِيَّة ثمنه، قَالَ: " وَكَانَ قَتَادَة يَقُول: إِن لم يكن لَهُ مَال استسعى العَبْد ".(5/191)
قَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: " أَحَادِيث همام عَن قَتَادَة أصح من حَدِيث غَيره؛ لِأَنَّهُ كتبهَا إملاء ". وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: " سَمِعت يحيى بن سعيد يَقُول: شُعْبَة أعلم النَّاس بِحَدِيث قَتَادَة مَا سمع مِنْهُ وَمَا لم يسمع، وَهِشَام أحفظ وَسَعِيد أكبر ".
وروى الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: " كَانَ ثَلَاثُونَ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُونَ: إِذا أعتق الرجل العَبْد بَينه وَبَين الرجل فَهُوَ ضَامِن إِن كَانَ مُوسِرًا، وَإِن كَانَ مُعسرا سعى بِالْعَبدِ صَاحبه فِي نصف قِيمَته غير مشقوق عَلَيْهِ ". وَهَذَا لَا يَصح، وراوية الْحجَّاج، وَلَا يعرف بِهِ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (369)
:
من أعتق سِتَّة أعبد لَهُ فِي مرض مَوته، وَلَا مَال لَهُ غَيرهم أَقرع بَينهم، فَيحكم بِعِتْق اثْنَيْنِ، ورق أَرْبَعَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يعْتق من كل وَاحِد ثلثه وَلَا يقرع ".
وَدَلِيلنَا مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي الْمُهلب عَن عمرَان بن الْحصين أَن رجلا من الْأَنْصَار أوصى عِنْد مَوته، فَأعتق سِتَّة مماليك لَيْسَ لَهُ مَال غَيرهم، أَو قَالَ أعتق عِنْد مَوته سِتَّة مماليك لَهُ، وَلَيْسَ(5/192)
لَهُ شَيْء غَيرهم، فَبلغ ذَلِك النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ فِيهِ قولا شَدِيدا، ثمَّ دعاهم فجزأهم ثَلَاثَة أَجزَاء، فأقرع بَينهم، فَأعتق اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة.
وَعِنْده أَيْضا عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن رجلا كَانَ لَهُ سِتَّة أعبد، وَلم يكن لَهُ مَال غَيرهم، فَأعْتقهُمْ عِنْد مَوته، فَرفع ذَلِك إِلَى النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فكره ذَلِك، ثمَّ جزأهم، فأقرع بَينهم، فَأعتق اثْنَيْنِ، وأرق أَرْبَعَة.
وَرُوِيَ من حَدِيث الْحسن عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن رجلا من الْأَنْصَار أعتق سِتَّة أعبد لَهُ عِنْد الْمَوْت، فأقرع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهم، فَأعتق ثلثهم، وأرق ثلثيهم، وَقَالَ: " لَو علمنَا مَا صلينَا عَلَيْهِ، أَو مَا دفن فِي مقابرنا "، حَدِيث ابْن سِيرِين، وَأبي الْمُهلب عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو مُتَّصِل، حكم مُسلم وَغَيره من أَئِمَّة أهل الحَدِيث بِصِحَّتِهِ.
فَأَما حَدِيث الْحسن عَن عمرَان بن حُصَيْن فالمحدثون يَقُولُونَ: " إِنَّه مُرْسل، الْحسن لم يسمع من عمرَان "، وَالله أعلم.
وروى الشَّافِعِي عَن عبد الْمجِيد عَن ابْن جريج قَالَ: " أَخْبرنِي قيس بن سعد أَنه سمع مَكْحُولًا يَقُول: سَمِعت سعيد بن الْمسيب يَقُول: أعتقت امْرَأَة أَو رجل سِتَّة أعبد لَهَا، وَلم يكن لَهَا مَال غَيرهم، فَأتي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك، فأقرع بَينهم، فَأعتق ثلثهم ". قَالَ الشَّافِعِي(5/193)
- رَحمَه الله -: " كَانَ ذَلِك فِي مرض الْمُعْتق الَّذِي مَاتَ فِيهِ ".
وروى مَالك عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن أَن رجلا فِي زمن أبان بن عُثْمَان أعتق رَقِيقا لَهُ جَمِيعًا، فَأمر أبان بذلك الرَّقِيق، فقسموا ثَلَاثًا ثمَّ أسْهم على أَيهمْ يخرج سهم الْمَيِّت فيعتقهم، فَخرج سهم الْمَيِّت على أحد الأثلاث، فعتقوا، وَقَالَ مَالك: " وَذَلِكَ أحسن مَا سَمِعت ".
وَرُوِيَ عَن أبي قلَابَة، أَن رجلا من بني عذرة أعتق مَمْلُوكا لَهُ عِنْد مَوته، وَلَيْسَ لَهُ مَال غَيره، فَأعتق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثلثه، وَأمر أَن يسْعَى فِي الثُّلثَيْنِ، وَهَذَا مُرْسل، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (370)
:
وَلَا يعْتق عَلَيْهِ أَخُوهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يعْتق ". ووافقنا فِي بني الْأَعْمَام أَنهم يعتقون عَلَيْهِ بِحَق الْملك.
فبناء الْمَسْأَلَة لنا على الْمعَانِي.
وَرُبمَا اسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سعد بن مرْجَانَة صَاحب عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ: " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيّمَا امْرِئ مُسلم أعتق امْرَءًا مُسلما استنقذ الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا من النَّار ".(5/194)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر ".
يُقَال فِي هَذَا الحَدِيث من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن حَمَّاد بن سَلمَة تفرد بِهِ هَكَذَا، وَخَالفهُ سعيد بن أبي عرُوبَة، فَرَوَاهُ عَن قَتَادَة عَن الْحسن من قَوْله: " عَن قَتَادَة عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَا: " حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقَالَ مُوسَى فِي مَوضِع آخر: " عَن سَمُرَة فِيمَا يحْسب حَمَّاد قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر ".
وَقَالَ أَبُو عِيسَى: " سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَلم يعرفهُ عَن الْحسن عَن سَمُرَة إِلَّا من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة ".
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " والْحَدِيث تفرد بِهِ حَمَّاد بن سَلمَة وَخَالفهُ غَيره، ثمَّ شكّ هُوَ أَيْضا فِيهِ، فَالصَّوَاب لمن راقب فِي(5/195)
دينه أَن يتَوَقَّف فِيهِ، وَلَا يحْتَج بِهِ ".
وَالْوَجْه الآخر: إِن أَكثر الْمُحدثين يُنكرُونَ سَماع الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب غير حَدِيث الْعَقِيقَة وَيَقُولُونَ: إِنَّه كتاب، وَالله أعلم.
وروى ضَمرَة بن ربيعَة عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر ". لَو كَانَ هَذَا الحَدِيث عَن سعيد الثَّوْريّ عَن عبد الله بن دِينَار عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - صَحِيحا لَكَانَ كالأخذ بِالْيَدِ، وَلما خَفِي على الْمُتَقَدِّمين من أَصْحَاب سُفْيَان الَّذين هُوَ حفاظ حَدِيثه، لكنه تفرد بِهِ ضَمرَة بن ربيعَة عَن سُفْيَان، وضمرة غير مُحْتَج بِهِ.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر ضَعِيف، أخبرنَا أَبُو الفوارس الْحسن بن أَحْمد أبي الفوارس حَدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن سهل حَدثنَا مُحَمَّد بن صَالح الْكلابِي حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَقْدِسِي حَدثنَا(5/196)
مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر ".
وروى الْعَرْزَمِي عَن أبي النَّضر عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " جَاءَ رجل - يُقَال لَهُ صَالح - بأَخيه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُرِيد أَن أعتق أخي هَذَا، فَقَالَ: إِن الله أعْتقهُ حِين ملكته ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " الْعَرْزَمِي تَركه ابْن الْمُبَارك، وَيحيى الْقطَّان، وَابْن مهْدي، وَأَبُو النَّضر هُوَ مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ مَتْرُوك أَيْضا، وَهُوَ الْقَائِل: " كَمَا حدثت عَن أبي صَالح كذب ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " الْعَرْزَمِي والكلبي وَأَبُو صَالح بِأَذَان ضعفاء لَا يحل الِاحْتِجَاج بروايتهم، وَقد سبق ذكرنَا لَهُم "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (371)
:
وَلَا وَلَاء بِغَيْر جِهَة الْإِعْتَاق، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -:(5/197)
" إِذا أسلم على يَدَيْهِ وأولاه ثَبت وَلَاؤُه، يَرِثهُ وَيعْقل عَنهُ، إِلَّا أَن يكون لَهُ وَارِث ".
وَدَلِيلنَا من الْخَبَر مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق ".
وَعِنْده أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي قَوْله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: " كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِين قدمُوا الْمَدِينَة يَرث المُهَاجر الْأنْصَارِيّ، دون ذِي رَحمَه للأخوّة الَّتِي آخى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهم، فَلَمَّا نزلت الْآيَة {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ} قَالَ: " نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} {من النَّصْر والرفادة والنصيحة، ويوصي لَهُ، وَقد ذهب الْمِيرَاث} ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: " حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن إِسْحَاق عَن دَاوُد بن الْحصين قَالَ: كنت أَقرَأ على أم سعد بنت الرّبيع، وَكَانَت يتيمة فِي حجر أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ فَقَرَأت {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ} فَقَالَ: " لَا تقْرَأ (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ(5/198)
أَيْمَانُكُمْ} ، إِنَّمَا نزلت فِي أبي بكر وَابْنه عبد الرَّحْمَن حِين أَبى الْإِسْلَام، فَحلف أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَلا يورثه، فَلَمَّا أسلم أمره نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يؤتيه نصِيبه "، زَاد فِي رِوَايَة غير أَحْمد " فَمَا أسلم حَتَّى حمل على الْإِسْلَام بِالسَّيْفِ ".
وَرُوِيَ عَن تَمِيم الدَّارِيّ قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الرجل يسلم على يَدي الرجل ثمَّ يَمُوت، وَلَيْسَ لَهُ وَارِث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هُوَ أولى النَّاس بمحياه ومماته ".
وروى مُعَاوِيَة بن يحيى الصَّدَفِي عَن الْقَاسِم الشَّامي عَن أبي أُمَامَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أسلم على يَدَيْهِ رجل فَلهُ وَلَاؤُه "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " الصَّدَفِي ضَعِيف ".
وَقَالَ الدَّارمِيّ: " قلت ليحيى بن معِين: مُعَاوِيَة بن يحيى الصَّدَفِي قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن مصرف عَن مُعَاوِيَة بن إِسْحَاق(5/199)
قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِن فلَانا أسلم على يَدي، قَالَ هُوَ مَوْلَاك، فَإِذا مت فأوص لَهُ "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (372)
:
وَبيع الْمُدبر جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر بن عبد الله دبر رجل من الْأَنْصَار عبدا لَهُ لم يكن لَهُ مَال غَيره، فَبَاعَهُ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ جَابر: " اشْتَرَاهُ ابْن النحام عبدا قبطياً مَاتَ عَام (أول فِي إِمَارَة ابْن الزبير) ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن عَمْرو بن دِينَار عَنهُ أَن رجلا من الْأَنْصَار أعتق غُلَاما لَهُ عَن دبر، وَلم يكن لَهُ مَال غَيره، فَبلغ ذَلِك النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " من يَشْتَرِيهِ مني؟ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله بثمان مائَة دِرْهَم، فَدَفعهَا إِلَيْهِ، قَالَ: سَمِعت جَابر بن(5/200)
عبد الله يَقُول: عبدا قبطياً مَاتَ عَام أول ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أَن رجلا أعتق غُلَاما لَهُ عَن دبر، فَاحْتَاجَ فَأَخذه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " من يَشْتَرِيهِ مني؟ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ نعيم بن عبد الله بثمان مائَة دِرْهَم فَدفع إِلَيْهِ ثمنه ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ أَن رجلا من الْأَنْصَار أعتق غُلَاما عَن دبر، وَكَانَ مُحْتَاجا، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدَعَاهُ فَقَالَ: " أعتقت غلامك؟ " فَقَالَ: " نعم " فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنْت أحْوج إِلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: " من يَشْتَرِيهِ؟ "، فَقَالَ نعيم بن عبد الله: " أَنا "، فَاشْتَرَاهُ، فَأخذ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمنه، فَدفعهُ إِلَى صَاحبه.
وَعند مُسلم أَيْضا عَنهُ قَالَ: " اعْتِقْ رجل من بني عذرة عبدا لَهُ عَن دبر، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " أَلَك مَال غَيره؟ "، فَقَالَ: " لَا "، فَقَالَ: " من يشتره مني؟ "، فَاشْتَرَاهُ نعيم بن النحام الْعَدوي بثمان مائَة دِرْهَم، فجَاء بهَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدَفعهَا إِلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: " ابدأ بِنَفْسِك، فَتصدق عَلَيْهَا، فَإِن فضل شَيْء فلأهلك، فَإِن فضل عَن أهلك شَيْء فلذي قرابتك، فَإِن فضل عَن ذِي قرابتك فَهَكَذَا وَهَكَذَا يَقُول، فَبين يَديك، وَعَن(5/201)
يَمِينك، وَعَن شمالك ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار، وَعَن أبي الزبير سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقُول: " دبر رجل منا غُلَاما لَهُ، لَيْسَ لَهُ مَال غَيره، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من يَشْتَرِيهِ؟ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن النحام، قَالَ عَمْرو: سَمِعت جَابِرا يَقُول: عبدا قبطياً مَاتَ عَام أول فِي أَمارَة ابْن الزبير، زَاد أَبُو الزبير يُقَال لَهُ: يَعْقُوب ".
وروى الدَّارَقُطْنِيّ أخبرنَا أَبُو عَمْرو يُوسُف بن يَعْقُوب حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَزِيز الْمُقَوّم حَدثنَا سَالم بن قُتَيْبَة حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبيع الْمُدبر ".
وروى أَبُو أَحْمد بن عدي الْحَافِظ حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف بن عَاصِم حَدثنَا يُوسُف بن مُوسَى حَدثنَا جرير عَن عبد الْغفار بن الْقَاسِم عَن أبي جَعْفَر قَالَ: " ذكر عِنْده الَّذِي كَانَ عَطاء وطاووس يَقُولُونَ عَن جَابر بن عبد الله فِي الَّذِي أعْتقهُ مَوْلَاهُ فِي عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ(5/202)
أعْتقهُ عَن دبر فَأمر أَن يَبِيعهُ وَيَقْضِي دينه، فَبَاعَهُ بثمان مائَة دِرْهَم "، قَالَ أَبُو جَعْفَر: " شهِدت هَذَا الحَدِيث من جَابر، فَقَالَ: إِنَّمَا يَأْذَن فِي بيع خدمته ".
قَالَ ابْن عدي: " حَدثنَا مُحَمَّد بن خلف حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس الْقرشِي، قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: أَبُو مَرْيَم الْحَنَفِيّ اسْمه عبد الْغفار بن الْقَاسِم، وَكَانَ يضع الحَدِيث ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله - أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْحَافِظ أخبرنَا عبد الصَّمد بن عَليّ بن مكرم حَدثنَا أسلم بن سهل الوَاسِطِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن أبان حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي شيبَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان عَن عُثْمَان بن عُمَيْر عَن عُمَيْر أخبرنَا عَطاء بن أبي رَبَاح حَدثنَا جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (بَاعَ مُدبرا، فَأتيت أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ، فَقلت لَهُ: إِن عَطاء بن أبي رَبَاح حَدثنَا عَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) بَاعَ خدمَة الْمُدبر ". كَذَا رُوِيَ عَن عبد الْغفار بن الْقَاسِم عَن أبي جَعْفَر عَن جَابر وَهُوَ وهم، وَأَبُو شيبَة ضَعِيف الحَدِيث، قد سبق ذكري لَهُ، وَعبد الْغفار أَيْضا ضَعِيف قَالَه لي أَبُو عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ بن عمر الْحَافِظ، وَالصَّوَاب عَن أبي جَعْفَر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، أخبرناه أَبُو(5/203)
عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ أخبرنَا عَليّ بن عمر الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا يزِيد بن هَارُون حَدثنَا عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن أبي جَعْفَر قَالَ: " بَاعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خدمَة الْمُدبر ". قَالَ أَبُو بكر: " لم أجد فِيهِ حَدِيثا غير هَذَا، وَأَبُو جَعْفَر وَإِن كَانَ من الثِّقَات فَإِن حَدِيثه مُرْسل ".
أَخْبرنِي أَبُو عبد الرَّحْمَن أخبرنَا عَليّ بن عمر حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد بن صاعد حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، قَالَ: " سَمِعت يحيى بن سعيد يَقُول: أَخْبرنِي أَبُو عمْرَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن حَارِثَة - وَهُوَ أَبُو الرِّجَال - عَن عمْرَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَصَابَهَا مرض، وَإِن بعض بني أَخِيهَا ذكرُوا شكواها لرجل من الزط يتطبب، وَأَنه قَالَ لَهُم: إِنَّكُم لتذكرون امْرَأَة مسحورة، سحرتها جَارِيَة لَهَا فِي حجر الْجَارِيَة الْآن صبي قد بَال فِي حجرها، فَذكرُوا ذَلِك لعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَقَالَت: ادعوا لي فُلَانَة لجارية لَهَا، فَقَالُوا فِي حجرها فلَان صبي لَهُم، قد بَال فِي حجرها، فَقَالَت: ايتوني بهَا، فَقَالَت: سحرتيني؟ قَالَت: نعم، قَالَت: لمه؟ قَالَت: أردْت أَن أعتق، وَكَانَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أعتقتها عَن دبر مِنْهَا، فَقَالَت: إِن لله عَليّ أَن لَا تعتقين أبدا، انْظُرُوا أَسْوَأ الْعَرَب ملكة، فبيعوها مِنْهُم، واشترت بِثمنِهَا جَارِيَة فأعتقتها ".(5/204)
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " جَابر بن عبد الله، وَعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَابْن الْمُنْكَدر، وَغَيرهم يَبِيعهُ بِالْمَدِينَةِ، وَعَطَاء، وَطَاوُس، وَمُجاهد، وَغَيرهم من المكيين، وعندك بالعراق من يَبِيعهُ، يَعْنِي الْمُدبر ".
وروى عُبَيْدَة بن حسان عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمُدبر لَا يُبَاع، وَلَا يُوهب، وَهُوَ حر من الثُّلُث ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يسْندهُ غير عُبَيْدَة بن حسان وَهُوَ ضَعِيف، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ابْن عمر مَوْقُوف من قَوْله "، حَدثنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه كره بيع الْمُدبر. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا هُوَ الصَّحِيح مَوْقُوف وَمَا قبله لَا يثبت مَرْفُوعا. وَرُوَاته ضعفاء "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (373)
: وَلَا تجوز الْكِتَابَة على أقل من نجمين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة -(5/205)
رَحمَه الله -: " تصح حَالَة ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرا} {النُّور: 33} .
وَالْكِتَابَة من الْكتب، وَمَا لم يكن مُؤَجّلا فَلَا معنى للكتب، وَلَو جَازَ غير مُؤَجل لم يكن لتسميته بِالْكِتَابَةِ معنى، فتسميته بِالْكِتَابَةِ دَلِيل شَرط الْأَجَل فِيهِ.
وَقد نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْغرَر، وَلَيْسَ الْغرَر بِأَكْثَرَ من بيع مَاله بِمَالِه، لَكِن الله تَعَالَى جوزه بِهَذِهِ الْآيَة، ووردت الْأَخْبَار والْآثَار بذلك، وَلم يسمع أَن أحدا من السّلف كَاتب عَبده كِتَابَة حَالَة، وَإِنَّمَا كاتبوهم بِذكر الْأَجَل فِيهِ، فَصَارَ إِجْمَاعهم على ذَلِك بَيَانا لِلْآيَةِ، فَلَا يجوز حَالا، وَالله أعلم.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " جَاءَتْنِي بَرِيرَة، فَقَالَت: إِنِّي كاتبت أَهلِي على تسع أَوَاقٍ فِي كل عَام (أُوقِيَّة فأعينيني) "، وَذكر الحَدِيث عَنهُ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، (اتفقنا على(5/206)
صِحَّته، وَالله أعلم) .
(مَسْأَلَة) (374)
:
وَلَا يعْتق الْمكَاتب مَا لم يقل سَيّده فِي عقد كِتَابَته، فَإِذا أدّيت إِلَيّ فَأَنت حر. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يعْتق بأَدَاء نُجُوم الْكِتَابَة، وَإِن لم يقل إِن أدّيت ".
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ أَخْبرنِي أَبُو الْقَاسِم عبد الله بن الْحسن القَاضِي بهمذان حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن حَدثنَا عَفَّان بن مُسلم حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَاصِم بن سُلَيْمَان، وَعلي بن زيد عَن عُثْمَان النَّهْدِيّ عَن سلمَان، قَالَ: " كاتبت أَهلِي على أَن أغرس لَهُم خَمْسمِائَة فسيلة، فَإِذا علقت فَأَنا حر، فَأتيت النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: اغرس، وَاشْترط لَهُم، فَإِذا أردْت أَن تغرس فَآذِنِّي، فآذنته فجَاء، فَجعل يغْرس إِلَّا وَاحِدَة غرستها بيَدي، فعلقن جَمِيعًا إِلَّا الْوَاحِدَة "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (375)
:
وَإِذا مَاتَ الْمكَاتب، وَقد بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من مَال الْكِتَابَة، مَاتَ(5/207)
رَقِيقا، وانفسخت كِتَابَته بِمَوْتِهِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا خلف وَفَاء بِمَال كِتَابَته أدّى عَنهُ، وَعتق حكما قبل مَوته (بِغَيْر فصل) ". أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب حَدثنَا يحيى بن أبي طَالب أخبرنَا يزِيد بن هَارُون أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم ".
وبإسناده إِلَى يزِيد أخبرنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عبد الله أبي نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ: " كَانَ زيد - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم من مُكَاتبَته ".
وبإسناده إِلَى يزِيد حَدثنَا ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن معبد الْجُهَنِيّ عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم ".
وبإسناده عَن قَتَادَة قَالَ: " قَالَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -: إِذا مَاتَ الْمكَاتب وَترك مَالا فَهُوَ لمواليه، وَلَيْسَ لوَرثَته شَيْء ".(5/208)
وبإسناده أخبرنَا يزِيد أخبرنَا مُحَمَّد بن سَالم عَن الشّعبِيّ قَالَ: " كَانَ زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول -: الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم، لَا يَرث وَلَا يُورث ".
وَكَانَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: " إِذا مَاتَ الْمكَاتب وَترك مَالا قسم مَا ترك على مَا أدّى، وعَلى مَا بَقِي، فَمَا أصَاب مَا أدّى فللورثة، وَمَا بَقِي فلمواليه ".
وَكَانَ عبد الله يَقُول: " يُؤَدِّي إِلَى موَالِيه مَا بَقِي عَلَيْهِ من مُكَاتبَته، ولورثته مَا بَقِي.
أخبرنَا أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي، وَأَبُو الْحُسَيْن بن بَشرَان قَالَ: " أخبرنَا إِسْمَاعِيل الصفار حَدثنَا سَعْدَان بن نصر حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة(5/209)
مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير عَن عَمْرو بن مَيْمُون بن مهْرَان عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَ: " اسْتَأْذَنت عَلَيْهَا، فَقَالَت: من هَذَا؟ فَقلت سُلَيْمَان، قَالَت: كم بَقِي عَلَيْك من مُكَاتَبَتك؟ قَالَ: قلت: عشرَة أَوَاقٍ، قَالَت: ادخل فَإنَّك عبد مَا بَقِي عَلَيْك دِرْهَم "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (376)
:
وإيتاء الْمكَاتب بعض مَال الْكِتَابَة، أَو الْحَط لبَعض مَال الْكِتَابَة وَاجِب على السَّيِّد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه غير وَاجِب ".(5/210)
وَدَلِيلنَا قَوْله عز وَجل: {وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِيءَاتَاكُمْ} .
أخبرنَا الإِمَام أَبُو طَاهِر الزيَادي أخبرنَا أَبُو بكر الْقطَّان حَدثنَا أَبُو الْأَزْهَر حَدثنَا روح حَدثنَا ابْن جريج، وَهِشَام بن أبي عبد الله قَالَا(5/211)
" أخبرنَا عَطاء بن السَّائِب عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي قَوْله: {وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِيءَاتَاكُمْ} . قَالَ: " ربع الْكِتَابَة "، وَرُوِيَ بِمَعْنَاهُ مَرْفُوعا.
وَأخْبرنَا أَبُو طَاهِر أخبرنَا أَبُو بكر الْقطَّان حَدثنَا أَبُو الْأَزْهَر حَدثنَا روح حَدثنَا حَمَّاد عَن الْجريرِي عَن أبي بصرة عَن أبي سعيد مولى آل أسيد أَنه كَاتب مولى لَهُ على ألف دِرْهَم (ومائتي دِرْهَم) ، قَالَ: " فَأَتَيْته بمكاتبتي، فَرد عَليّ مِائَتي دِرْهَم ".
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب حَدثنَا أَحْمد بن عبد الْجَبَّار حَدثنَا وَكِيع عَن أبي شبيب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - كَاتب عبدا لَهُ يكنى بِأبي أُميَّة فَجَاءَهُ بنجمه حِين حل، فَقَالَ: " اذْهَبْ واستعن بِهِ فِي مُكَاتَبَتك "، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَو تركته حَتَّى يكون آخر نجم، قَالَ: " إِنِّي أَخَاف أَن لَا أدْرك ذَلِك، ثمَّ قَرَأَ {وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِيءَاتَاكُمْ} . قَالَ عِكْرِمَة: " فَكَانَ أول نجم أُدي فِي الْإِسْلَام ".
أخبرنَا أَبُو عبد الله حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس حَدثنَا يحيى بن أبي طَالب أخبرنَا يزِيد بن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن(5/212)
عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يُؤَدِّي الْمكَاتب بِحِصَّة مَا أدّى دِيَة حر، وَمَا بَقِي دِيَة عبد ".
وَبِه عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا أصَاب الْمكَاتب حدا أَو مِيرَاثا ورث بِحِسَاب مَا أعتق مِنْهُ، وأقيم عَلَيْهِ الْحَد بِحِسَاب مَا عتق مِنْهُ ".
أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن بن الْفضل الْقطَّان أخبرنَا أَبُو سُهَيْل بن زِيَاد حَدثنَا إِسْحَاق بن الْحسن حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا وهيب حَدثنَا أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يُؤَدِّي الْمكَاتب بِقدر مَا أدّى "، رِوَايَة عِكْرِمَة عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - مُرْسل، وَالله تَعَالَى أعلم.
تمّ الْكتاب، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد، وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ، وَسلم.(5/213)
(فارغة)(5/214)
الخاتمة
الْحَمد لله الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات، أَحْمَده - سُبْحَانَهُ - حمد الشَّاكِرِينَ، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ولي الصَّالِحين، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْأمين، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ.
أما بعد ...
فقد احتوى هَذَا الْكتاب الْقيم على مِائَتَيْنِ وَثَلَاث وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَة فِي الْقسم الأول وعَلى (376) ثَلَاثمِائَة وست وَسبعين مَسْأَلَة فِي هَذَا الْقسم، وَكلهَا منحصرة فِيمَا للإمامين أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، أَو أَحدهمَا قَول فِي الْمسَائِل الخلافية بَينهمَا، وَهِي عُمْدَة الْخلاف بَين المذهبين، ونحوي جلّ الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِيهَا بَين الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَكَذَلِكَ كثيرا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الإمامان أَحْمد وَمَالك مَعَ الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة، أَو أَحدهمَا، أَو مَا اخْتلف فِيهِ مَالك وَأحمد، رحم الله الْجَمِيع.
وَلَقَد استخلصت من خلال تحقيقي لهَذَا الْقسم النتائج التالية:
1 - سَعَة أفق الشَّرِيعَة الإسلامية وشمولها لمختلف الأفهام، حَيْثُ إِن الْخلاف ناجم عَن ذَلِك، وَعَن ثُبُوت الدَّلِيل وَفهم الدّلَالَة مِنْهُ، وَهَذِه الشَّرِيعَة صَالِحَة لكل زمَان وَمَكَان، فقد أَتَت بسعادة البشرية، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْء لَا حكم لَهُ فِي الشَّرْع قطّ، وَلَكِن تخْتَلف الْقُدْرَة عَن الْعلمَاء فِي استنباط الْأَحْكَام وإيضاحها للنَّاس.
2 - أَن هَذَا الْخلاف لم يكن فِي يَوْم من الْأَيَّام سَببا للعداوة والبغضاء بَين الْأَئِمَّة المعتبرين؛ لِأَن قصدهم الْحق والتقريب إِلَى الله(5/215)
تَعَالَى ببيانه للنَّاس والصدع بِهِ. وَقد كَانَ هَذَا الْخلاف علما لَهُ أُصُوله وقواعده، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة يدرسون أَسبَابه ويلتمسون الْأَعْذَار لمن خالفهم فِي حكم مَسْأَلَة؛ لعلمهم أَن كل مُجْتَهد اتَّقى الله مَا اسْتَطَاعَ، فَهُوَ مُطِيع لله سُبْحَانَهُ، لَيْسَ بآثم، وَلَا مَذْمُوم، الْمُصِيب مِنْهُم وَاحِد وَله أَجْرَانِ، والمخطئ لَهُ أجر، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر "، مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم - يعلمُونَ أَن الْمُصِيب وَاحِد. قَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية: " قَالَ ابْن مَسْعُود لما سُئِلَ عَن مَسْأَلَة: أَقُول فِيهَا برأيي، فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله، وَإِن يكن خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان، وَالله وَرَسُوله بريئان مِنْهُ ".
قَالَ ابْن تَيْمِية: " وَلَا يُمكن لوَاحِد أَن يُحِيط بِجَمِيعِ سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَا وَلَا يَدعِي ذَلِك. وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن أَبَا بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ الَّذِي لَا يُفَارق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حضرا وَلَا سفرا سَأَلَ عَن مِيرَاث الْجدّة فَأخْبرهُ الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَمُحَمّد بن مسلمة بِقَضَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَكَذَلِكَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - خفيت عَلَيْهِ أَحْكَام، مِنْهَا حكم الْمَجُوس فِي الْجِزْيَة حَتَّى أخبرهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سنوا بهم سنة أهل الْكتاب ".
وَكَذَلِكَ عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - لم يكن يعلم أَن المتوفي عَنْهَا زَوجهَا تَعْتَد فِي بَيت الْمَوْت، حَتَّى أخْبرته الفريعة بنت مَالك بذلك.(5/216)
وَأفْتى عَليّ، وَزيد، وَابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - بِأَن المفوضة إِذا مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا فَلَا مهر لَهَا، وَلم يبلغهم حَدِيث بروع بنت واشق.
وَلَيْسَ تدوين كتب السّنة دَلِيلا على انحصار حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا، ثمَّ لَو فرض فَلَيْسَ كل مَا فِي الْكتب يُعلمهُ عَالم، بل الَّذين كَانُوا قبل جمع هَذِه الدَّوَاوِين أعلم بِالسنةِ من الْمُتَأَخِّرين؛ لِأَن كثيرا مِمَّا بَلغهُمْ وَصَحَّ عِنْدهم قد لَا يبلغنَا إِلَّا عَن مَجْهُول، أَو بِإِسْنَاد مُنْقَطع، أَو لَا يبلغنَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَت دواوينهم فِي صُدُورهمْ الَّتِي تحوي أَضْعَاف مَا فِي الدَّوَاوِين ... " اه.
وَقد بلغ من شدَّة اعتناء الْعلمَاء بِالْخِلَافِ أَن بَعضهم ذكر أَن خلاف الصَّحَابَة لَا ينسخه إِجْمَاع يحصل بعده.
وصنفت المصنفات الْكَثِيرَة فِي علم الْخلاف، فَمِنْهَا رِسَالَة " رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام " لِابْنِ تَيْمِية، رَحمَه الله، وَكتاب صِحَة أصُول مَذْهَب أهل الْمَدِينَة لِابْنِ تَيْمِية، قَالَ عَنْهَا: " وَالْمَقْصُود هُنَا أَن عمل أهل الْمَدِينَة الَّذِي يجْرِي النَّقْل حجَّة بِاتِّفَاق الْمُسلمين، كَمَا قَالَ مَالك لأبي يُوسُف - لما سَأَلَهُ عَن الصَّاع وَالْمدّ وَأمر أهل الْمَدِينَة بإحضار صيعانهم وَذكروا لَهُ أَن إسنادها عَن أسلافهم -: " أَتَرَى هَؤُلَاءِ - يَا أَبَا يُوسُف - يكذبُون؟ " قَالَ: " لَا وَالله، مَا يكذبُون "، قَالَ: " فَأَنا حررت هَذِه الصيعان فَوَجَدتهَا خَمْسَة أَرْطَال وَثلثا بأرطالكم، يَا أهل الْعرَاق " فَقَالَ: " رجعت إِلَى قَوْلك، يَا أَبَا عبد الله، وَلَو رأى صاحبى مَا رَأَيْت لرجع كَمَا رجعت ".(5/217)
وَمِنْهَا كتاب " الْإِنْصَاف " للبطليوسي، وَفِيه قَالَ: " إِن الْخلاف عرض لأهل ملتنا - أهل السّنة وَالْجَمَاعَة - من ثَمَانِيَة أوجه، كل ضرب من الْخلاف متولد مِنْهَا متفرع عَنْهَا. الأول مِنْهَا: اشْتِرَاك الْأَلْفَاظ والمعاني، وَالثَّانِي: الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، وَالثَّالِث: الْإِفْرَاد والتركيب، وَالرَّابِع: الْخُصُوص والعموم، وَالْخَامِس، الرِّوَايَة وَالنَّقْل، وَالسَّادِس: الِاجْتِهَاد فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَالسَّابِع: النَّاسِخ والمنسوخ، وَالثَّامِن: الْإِبَاحَة والتوسع ".
وَمِنْهَا كتاب " الْكَوْكَب الدُّرِّي فِيمَا يتَخَرَّج على الْأُصُول النحوية من الْفُرُوع الْفِقْهِيَّة، لجمال الدّين الأسنوي، وَقد ذكر فِيهِ أَن علم الْحَلَال وَالْحرَام مستمد من علم أصُول الْفِقْه والعربية؛ لِأَن أدلته عَرَبِيَّة فَيتَوَقَّف فهم تِلْكَ الْأَدِلَّة على فهمها.
وَمِنْهَا كتاب " الِاتِّبَاع " للْقَاضِي ابْن أبي الْعِزّ الْحَنَفِيّ، بَين فِيهِ وجوب اتِّبَاع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَن التعصب والتقليد قد يكون من عوامل الِاخْتِلَاف عِنْد بعض النَّاس.
وَمِنْهَا " أَسبَاب اخْتِلَاف الْفُقَهَاء " للدكتور عبد المحسن التركي، وَذكر فِيهِ من أَسبَاب اخْتِلَاف الْفُقَهَاء الْقِرَاءَة الشاذة. وَمِنْهَا " الْخلاف بَين الْعلمَاء وموقفنا مِنْهُ " للشَّيْخ مُحَمَّد بن صَالح العثيمين، وَبَين فِيهِ أَن الْخلاف بَين الْأمة لم يكن فِي أصُول دينهَا ومصادره الْأَصْلِيَّة، وَإِنَّمَا كَانَ فِي أَشْيَاء لَا تمس وحدة الْمُسلمين الْحَقِيقِيَّة، وَهُوَ أَمر لَا بُد أَن يكون.(5/218)
وثمت كتب اعتنت بِذكر الْمسَائِل الخلافية بَين الْعلمَاء مُقَارنَة بَين أَقْوَالهم وحججهم، فَكَانَت ثروة مباركة، وَمِنْهَا الإفصاح لِابْنِ هُبَيْرَة، وَالْمُغني لِابْنِ قدامَة، والخلافيات للبيهقي، أصل هَذَا الْمُخْتَصر، وَشرح الْمُهَذّب للنووي، والاستذكار لمذاهب فُقَهَاء الْأَمْصَار وعلماء الأقطار لِابْنِ عبد الْبر، ومجموع فتاوي ابْن تَيْمِية، وَغَيرهَا كثير.
لقد كَانَ الْعلمَاء السَّابِقُونَ - رَحِمهم الله تَعَالَى - يعْرفُونَ لأهل الْعلم فَضلهمْ، ويعذرونهم فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ، ويلتمسون الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة للْأَحْكَام ودلالتها، وكل مِنْهُم يرجع إِلَى كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يَقُولُونَ على الله - سُبْحَانَهُ - بِلَا علم، فَكَانَ مِنْهُم مُجْتَهد لَهُ مَأْخَذ شَرْعِي فِيمَا يَعْتَقِدهُ، وَلَا يحل لأحد أَن يتَصَدَّى للْفَتْوَى إِلَّا أَن يكون بَصيرًا بِخِلَاف الْعلمَاء، وَقد تحققت فِيهِ شُرُوط الْفَتْوَى، مِنْهَا الْأَمَانَة وَالتَّقوى وَالْعلم وَالْعَدَالَة. وَقد كَانَ السّلف يتدافعون الْفَتْوَى من شدَّة الْوَرع، رَحِمهم الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة.
وَالْيَوْم تَجِد جمَاعَة من الْبشر لَا خلاق لَهُم يتعرضون لعلماء الْمُسلمين ودعاتهم بالذم ويسعرون نَار الْبغضَاء فِي قُلُوب الغافلين من الْمُسلمين لعلمائهم ودعاتهم؛ ليحققوا مآربهم الدُّنْيَوِيَّة فِي إِثْبَات أنفسهم، وإظهارهم بمظهر الْعلم، {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ... .} {فاطر: 8} . فَهَؤُلَاءِ حسابهم عِنْد الله عسير؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
3 - أَن هَذَا الْكتاب الْقيم يمثل حَقِيقَة هَامة، وَهِي أَن بضَاعَة(5/219)
الْأَئِمَّة الْفُقَهَاء من الحَدِيث صَحِيحَة غزيرة؛ لِأَن الْفِقْه الإسلامي يعْتَمد على الْكتاب وَالسّنة، وَمَا فهمه صحابة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رضوَان الله عَلَيْهِم؛ لأَنهم أعلم بالتنزيل، ثمَّ مَا قَرَّرَهُ عُلَمَاء الْأمة من التَّابِعين وَمن تَبِعَهُمْ من سلف صَالح الْمُؤمنِينَ، يحملهُ من كل خلف عدوله، ينفون عَنهُ تَحْرِيف الْجَاهِلين وَتَأْويل المبطلين وتنطع الهالكين، وَهَذَا الْكتاب يمثل أنموذجاً صَادِقا لهَذِهِ الْحَقِيقَة.
4 - أَن الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله - إِمَام بارز فِي الحَدِيث وَالْفِقْه، شَافِعِيّ الْمَذْهَب، بل من أَئِمَّة الْمَذْهَب، وَله اختيارات يخْتَلف فِيهَا مَعَ إِمَام الْمَذْهَب الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى - ويستقل فِيهَا بِرَأْيهِ الَّذِي أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده.
5 - يَتَّصِف الْبَيْهَقِيّ بالمنهجية العلمية، فَهُوَ يذكر أَدِلَّة خَصمه وَيرد عَلَيْهَا، وَرُبمَا تَركهَا فِي بعض المواطن، وَلَعَلَّ عذره أَنَّهَا تعليلات عقلية، مثل مَسْأَلَة 244، ص 273 ج 4، وَإِن كَانَ - رَحمَه الله - من المتساهلين فِي الرِّجَال، كَمَا قَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ، فَهُوَ يحْتَج بِحَدِيث رَوَاهُ ضَعِيف مثل ابْن لَهِيعَة أَو الْحجَّاج بن أَرْطَأَة، وَيَردهُ إِن ورد عِنْد الْمُخَالف، مثل مَسْأَلَة 244 ص 373 ج 4، وَمَسْأَلَة 247 ص 284 ج 4، وَمَسْأَلَة 255 ص 300 ج 4، وَمَسْأَلَة 277 ص 374 ج 4، وَمَسْأَلَة 269 ص 346 ج 4.
6 - أَن سَنَد الْبَيْهَقِيّ يَتَّصِف بالعلو، فَهُوَ يروي الحَدِيث وَهُوَ إِمَام يروي عَن أَئِمَّة تقدّمت وفاتهم وَتقدم سَمَاعه عَنْهُم بِإِسْنَاد مُتَّصِل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو الصَّحَابِيّ؛ رَضِي الله عَنهُ.
7 - أَن هَذَا الْكتاب ذُو قيمَة علمية كَبِيرَة، حَيْثُ إِنَّه يخْتَص بالمسائل الخلافية بَين الْإِمَامَيْنِ، فَهُوَ يخْتَلف عَن الْمسَائِل الْمُخْتَلف(5/220)
فِيهَا بَين المذهبين، وَلذَلِك لم يذكر الْمسَائِل الَّتِي لَيْسَ للإمامين أَو أَحدهمَا قَول فِيهَا، مثل سَرقَة الْمُصحف، فَهَذِهِ مَسْأَلَة اخْتلف الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - فِيهَا على قَوْلَيْنِ:
القَوْل الأول: إِنَّه لَا يقطع بِسَرِقَة الْمُصحف، وَبِهَذَا قَالَ الأحناف، وَبَعض الْحَنَابِلَة.
القَوْل الثَّانِي: إِنَّه يجب الْقطع بِسَرِقَة الْمُصحف، وَبِه قَالَ الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْحَنَابِلَة، وَهُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة.
وَحجَّة الْقَائِلين بِالْقطعِ عُمُوم أَدِلَّة قطع السَّارِق، وَحجَّة الْقَائِلين بِعَدَمِ الْقطع أَن الْآخِذ يتَأَوَّل فِي أَخذه الْقِرَاءَة وَالنَّظَر فِيهِ فَلَا يقطع لذَلِك، وَأَن الْمُصحف لَا مَالِيَّة لَهُ؛ لِأَن الْمُعْتَبر تِلَاوَته، وَأَن الْمَقْصُود من الْمُصحف كَلَام الله - عز وَجل - وَهُوَ مِمَّا لَا يجوز أَخذ الْعِوَض عَنهُ، فَلَا يقطع بسرقته.
8 - أَن الْمُخْتَصر تحلى بالأمانة العلمية، حَيْثُ كَانَ اختصاره جيدا، فقد قرب الْكتاب بَين يَدي الْقَارئ وَأبقى كَلَام الْبَيْهَقِيّ فِي رجال الحَدِيث، وَحذف بعض الْأَسَانِيد المكررة، وَاقْتصر على مَوضِع(5/221)
الشَّاهِد من الْأَحَادِيث الطَّوِيلَة، وأحال على بعض الْأَحَادِيث المكررة فِي أصل الْكتاب وَلم يكررها كثيرا، رَحمَه الله تَعَالَى.
9 - أَن الْمُخْتَصر من الْعلمَاء المعروفين، وَمن أهل الشان فِي الْفِقْه والْحَدِيث، قَالَ الذَّهَبِيّ: " عني بِهَذَا الشَّأْن، ثمَّ أقبل على تَقْيِيد الْأَلْفَاظ، وَفهم الْمُتُون ومذاهب الْعلمَاء ". وعده السخاوي مِمَّن يعْتد بقوله فِي الرِّجَال، وَقد ظَهرت خبرته فِي هَذَا الْمُخْتَصر، كَمَا فِي مَسْأَلَة 272 ص 347 ج 4، وَمَسْأَلَة 109 ص 346 ج 3.
وَبعد ...
فَهَذَا جهد الْمقل، وحسبي أَنِّي بذلت جهداً وحرصت على إِظْهَار هَذَا السّفر النفيس. وأشكر الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وأحمده على جزيل إنعامه، وأشكره على توفيقه وامتنانه.
وأسأل الله - جلت قدرته - أَن يَرْزُقنِي الْإِخْلَاص فِي القَوْل وَالْعَمَل، وَأَن يَجْعَل هَذَا الْعَمَل خَالِصا لوجهه الْكَرِيم.
وَصلى الله وَسلم على نَبينَا مُحَمَّد بن عبد الله، وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ. وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين.(5/222)