وهكذا أيضاً توسطهم في الأولياء والصالحين، وذلك أن هناك، طائفتين متطرفتين في أمر الأولياء طائفة قد غلت، وطائفة قد جفت. فالطائفة الذين غلوا هم الذين يعبدون الأولياء. فالولي عندهم هو الرجل الصالح الذي قد حصل له من القرب ومن الصلاح ما جعله محبوباً عند الله وأنه ولي من أولياء الله يجري الله على يديه من خوارق العادات ما لم يجره على يدي غيره. فقالوا: هذا الولي يستحق منا أن نقدسه، فصاروا في حياته يغلون فيه، فيتمسحون به وبثيابه ويتبركون بما مسه بالنعل وبغيره، وساروا بعد موته يعكفون عند قبره، ويتمسحون بقبره، ويصلون عنده، ويعتقدون أن للصلاة عنده مزية وفضيلة، وأنه يشفع لهم في تكفير سيئاتهم وفي قبول صلواتهم وفي مضاعفة حسناتهم فيعملون عند قبره من الأعمال ما لا يصلح أن تكون إلا لله وحده. فهؤلاء قد غلوا وتجاوزوا حدهم وطورهم.(62/11)
والطائفة الثانية هم الذين لا يرون لعباد الله الصالحين قدرا، ولا يقيمون لهم وزنا، فلا يحبونهم، ولا يتبعونهم، ولا يقتدون بهم، ولا يتبعون سيرتهم، ويحقرون شأنهم، ويحتقرونهم في أعمالهم، ويعتقدون أنهم -كما يعبرون- أهل تشدد أو أهل جمود، أو أهل رجعية أو تقهقر، أو ما أشبه ذلك من عباراتهم السيئة، فهؤلاء قد فرطوا، وأولئك قد أفرطوا وزادوا، فجاء أهل السنة فتوسطوا في باب أمر أولياء الله تعالى، فقالوا: نحن نحبهم، لأن الله تعالى يحبهم، بل ونحب كل من يحبه الله من الصالحين والمؤمنين والأتقياء، ولكن محبتنا لهم لا تصل إلى أن نتمسح بتربتهم، ولا تصل المحبة إلى أن نصرف لهم شيئاً من حق الله، أو أن نذبح لهم أو أن نطوف بأضرحتهم، أو ندعوهم مع الله أو دون الله. بل محبتنا لهم تستدعي أن نبحث عن سيرتهم وسنتهم فنعمل بها، حتى نكون مثلهم، فإذا رأينا أنهم يتهجدون بالليل تهجدنا، وإذا ذُكِرَ لنا أنهم يكثرون من القراءة والخشوع أكثرنا من ذلك، وإذا كان من سيرتهم أنهم يدعون الله ويرغبون إليه دعونا الله كذلك، وإذا كانوا يذكرون الله على كل حال ذكرنا الله كذلك، حتى نكون أولياء كما كانوا أولياء، فإنهم بشر كما نحن بشر، فكيف نسمح لأنفسنا أن نكون دونهم، بل نحبهم وتحملنا محبتهم على أن نعمل بعملهم، وأن نصلح من أعمالنا ما أصلحوه، فكلهم نحبهم وتحملنا محبتهم على أن نقتدي بأفعالهم. فإذا كنا كذلك فإننا متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء، لا إفراط ولا تفريط. فهكذا جاء دين الإسلام فالذين غلوا وزادوا وقعوا في الشرك، وذلك لأنهم عظموا هؤلاء المحبوبين، وجعلوا لهم شيئاً من حق الله أو صرفوا لهم ما لا يصلح إلا لله. فإن التعظيم عبادة والعبادة لله وحده، لأن العبادة هي التذلل، فإذا كانوا يتذللون عند تلك الأضرحة ويخضعون ويخشعون، فذلك عبادة. وإذا كانوا يذبحون لها وينذرون فذلك تعظيم وعبادة، وإذا كانوا يدعونهم ويهتفون بأسمائهم فإن الدعاء مخ(62/12)
العبادة. وإذا كانوا يتمسحون ويطوفون بقبورهم ويطيلون الإقامة فإن ذلك تعظيم وذلك حقيقة العبادة. فهؤلاء: الذين غلوا قد أصبحوا بغلوهم مشركين حيث أشركوهم مع الله، مع أنهم لا يرضون أن يشرك بهم. فالمسيح عليه السلام بريء من شرك من أشرك به، وهكذا كل من عبد من دون الله، وهو لا يرضى بريء من شرك من أشرك به، وفي يوم القيامة لا بد أن يتبرؤوا منهم، ويقولون: نحن برآء من أفعالهم، كما قال تعالى عن الملائكة: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا سبحانك، أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن، أكثرهم بهم مؤمنون) . فأخبروا بأنهم -ولو كانوا عبدوا الملائكة - ما رضوا بذلك منهم ولا أحبوا ذلك. وإنما الشياطين والجن هي التي سولت لهم وزينت لهم أن يعظموهم وأن يعبدوهم وأن يؤمنوا بهم. وإلا فأنبياء الله ورسله وأولياؤه والصالحون من عباده بريئون من شرك من أشركهم مع الله سبحانه وتعالى.
وبالجملة فإن المسلمين أهل العقيدة السلفية قد توسطوا في أولياء الله فأحبوهم محبة قلبية، وحملتهم محبتهم على أن تتبعوا أخبارهم ودونوا سيرتهم ونظروا في الأشياء التي كانوا يعملونها، فعرفوا أنهم ما صاروا صالحين إلا بسبب زهدهم في الحرام وبعدهم عنه، وتقربهم إلى الله بأنواع القربات، فقالوا: هذا هو سبب صلاحهم فلماذا لا نفعل كفعلهم حتى نكون مثلهم؟ حتى نصلح كما صلحوا، حتى نكون أولياء الله كما كانوا أولياء الله يحبهم الله تعالى ويوفقهم ويعينهم، فنفعل الأفعال التي أحبهم الله من أجلها حتى يحبنا كما أحبهم، وحتى يعيننا كما أعانهم ويهدينا كما هداهم. هذه عقيدة السنة.
أمثلة من الوسط في الأعمال والعبادات(62/13)
هذا كله فيما يتعلق بالعقيدة وبعد ذلك لا بد أن نذكر أمثلة من الأعمال. وذلك لأن هناك أيضاً أعمالاً من الشريعة الإسلامية جاء الإسلام فيها بطريقة حسنة فأدخل الشيطان على بعض الناس الغلو والإفراط والزيادة، وأدخل على بعضهم التقصير والتفريط والنقصان. وذلك كله وسوسة من الشيطان وتسويل لهم، حتى لا يفعلوا الدين كما جاء.
ونبدأ بمبادئ العبادة. فنبدأ مثلاً بالطهارة. فإن الطهارة عبادة شرعية، أمر الله بها ولكن يفعلها عباد الله فعلا متوسطاً، لا إفراط ولا تفريط. وهناك طائفتان في الطهارة متطرفتان، إحداهما قد غلت، والأخرى قد جفت. فالذين غلوا هم الذين زادوا في الطهارة ما ليس منها وتشددوا فيها تشددا زائدا، حتى زهدوا فيما نقل لهم من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن كيفية تطهره ووضوئه واغتساله وغير ذلك، واعتقدوا أن ذلك لا يطهر فزادوا وغلوا. فجاء الإسلام بالأمر الوسط. لا إفراط هؤلاء الذين غلوا في الطهارة، ولا جفاء أولئك الذين لا يبالغون ولا يسبغون الطهارة ولا يتمونها. كلا الطائفتين منحرفتان. الطائفة الذين غلوا ترى أحدهم يتوضأ بصاع أو بصاعين، وترى أحدهم يغسل وجهه خمسا أو عشرا ويرى أنه ما طهر، ويغسل يديه مرارا قد تتجاوز العشر. وكذلك الاغتسال، ربما يغتسل نصف ساعة، وربما ساعة، وربما ساعتين، كما حدثني بعضهم أنه يقيم في مزاولة الاغتسال ساعتين. وكذلك في الوضوء مدة طويلة.
وهكذا أيضا في باب النجاسة، في باب إزالة النجاسة، فترى أحدهم إذا وقعت عليه نجاسة لا يكتفي بغسلها مرتين أو ثلاثا مع زوالها، بل ربما غسلها عشرا، أو أكثر من عشر وربما حك جلده حتى يخرج الدم.(62/14)
وهكذا في باب الاستنجاء الذي هو غسل أثر البول والغائط، وأكثر ما قيل إنه يغسل سبع مرات وفي حديث ضعيف مذكور في شرح الزركشي عن ابن عمر: أمرنا بغسل الأنجاس سبعا. ولكن تجد أحدهم يغسله عشرات المرات، ويصب على فرجه عددا من الغرفات وكل ذلك من الغلو والزيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان. ولا شك أيضاً أنها وسوسة من الشيطان ليمل العبد من العبادة. وذلك لأنه متى دام على هذا التطهر الشديد برهة من الزمان، كسنة أو سنتين، مل وضجر واستثقل العبادة، وربما ترك الصلاة لاستثقال الطهارة، كما حدثني أناس وقع بهم ذلك الفعل أنهم لما كان أحدهم لا يتوضأ إلا في ساعتين قال: كيف أصلي هذه الصلوات، فصار يجمع الصلوات الخمس في وضوء واحد، يتوضأ بعد صلاة العشاء فيصلي الصوات الخمس فيكون قد أفرط حيث ترك الصلوات في مواقيتها، لان الشيطان قد ثقّل عليه هذه الطهارة التي لا تستغرق إلا خمس دقائق، أو نحوها، ثقلها عليه حتى يضيع العبادة عليه.
وكذلك في باب إزالة النجاسة، فقد يوسوس إليه الشيطان أنه انتقض وضوؤه في الصلاة حتى يقطع الصلاة، أو أن في ثوبه نجاسة ولو قليلا، حتى يترك الصلاة، وحتى يمل منها. وكثير تركوا الصلاة لأجل هذه الوسوسة، لما أن الشيطان ثقل عليهم الطهارة صارت الصلاة ثقيلة عليهم، وشاقة أيما مشقة، فعند ذلك يتركون الصلاة من أجل هذه المشقة. ولو رجع إلى تعاليم الإسلام وإلى ما شرعه لعلم أن هذا ليس من الدين في شيء وأن الإسلام جاء بالسهولة وباليسر، وبالسماحة، وبالبعد عن كل المشقات وكل الصعوبات.(62/15)
وأما الذين فرّطوا فإنهم أيضا كثير. وسبب تفريطهم أيضاً وسوسة من الشيطان حتى يبطل بذلك عملهم، فترى أحدهم إذا غسل وجهه لا يبالغ ولا يسبغ الوضوء فيبقى في وجهه أشياء لم يأت عليها ماء، وإذا غسل يديه أو رجليه غسل بسرعة ومسح مسحا، ولا يبالي، فكثيرا ما يبقى في بدنه بقع، في رجليه، وفي عقبيه، لا يسبغ ذلك ولا يتعاهد. فهؤلاء ممن فرطوا وجفوا وقصروا في باب الطهارة، وكثيراً ما ننصح هؤلاء أن يسبغوا الوضوء ويتعاهدوه، حيث إن الشرع قد ورد بالأمر بالإسباغ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لما عدد الخصال التي يرفع الله بها الدرجات ويمحو بها الخطايا قال: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط" رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة. وهكذا أيضاً حثنا أن نتعاهد ما قد ينبو عنه الماء من الجسد ومن القدمين خاصة، في قوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار". وفي رواية "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار" متفق عليه. فالذين يغسلون غسلا خفيفا ولا يتعاهدون أقدامهم كثيراً ما يكون في مؤخر أقدامهم بقعة لم يمسها الماء، فتبطل بذلك الطهارة. فهؤلاء مفرطون، حيث إنهم نقصوا في الطهارة. أولئك زادوا وغلوا وتجاوزوا، وهؤلاء نقصو وقصروا. ودين الإسلام جاء بالوسط، وهو أن الإنسان يتوضأ وضوءا مسبغا فيكتفي بغسلة واحدة مسبغة كافية للعضو، وإذا زاد غسلة ثانية فهي أفضل، وإذا زاد غسلة ثالثة فهي أفضل منهما. ولا يجوز الزيادة على الثلاث. بل الزيادة على الثلاث تعتبر إسرافا وإفساداً وغلوا، فكيف بالذين يغسلون العشرات، هذا هو التوسط في هذا الباب.(62/16)
وهكذا نقول في الغسل فإن الاغتسال أيضاً طهارة شرعية أمر الله الإنسان بعد الجنابة أو نحوها أن يغتسل، كما في قوله تعالى: (ولا جنبا إلا عابري سبيل، حتى تغتسلوا) ، وقوله: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) . فالاغتسال هو تعميم البدن بالماء أي غسل البدن كله بالماء، وفيه أيضاً إفراط وتفريط. وفيه غلو وجفاء على حد ما ذكرنا في الوضوء. فإن هناك من يقيم في الاغتسال ساعة أو أكثر. وربما دلك جسده وبالغ في دلكه، حتى أخبرني بعضهم أنه يدلك جسده ويحكه بأظفاره، ويعتقد أن الماء يزل عليه ولا يتبلغه، حتى يخرج الدم من حكه بأظفاره ومبالغته في حك جسده، وهذا بلا شك غلو وإفراط وزيادة ما أنزل الله بها من سلطان. ولا شك أن الشيطان هدفه وقصده أن يمله من هذه العبادة، حتى يضجر ويتركها.
وهكذا الذين يكتفون بالمسح، إذا اغتسل أحدهم لا يدلك جسده، بل يمر الماء عليه، ولا يبالي، وهذا أيضاً عليه خلل. وقد عرفنا أن السبب الموقع في هذا هو الشيطان الرجيم الذي هو عدو الإنسان والحريص على أن يبطل عليه أعماله كما يبطل عقيدته، فالشيطان يرى أو يشم قلب الإنسان، فإن رأى تصلباً، ورأى فيه تشددا جاءه من باب الزيادة، وقال له: أنت لا يكفيك مثل ما يكفي غيرك، بل عليك أن تزيد وتبالغ، فإذا توضأ الناس بالمد، فلا تكتف به، بل توضأ بالصاع، أو الآصع، وإذا غسل الناس أيديهم ثلاثا فلا تكتف بسبع ولا بعشر، بل زد عليهم حتى تكون أكثر، ويزين له أن الأجر على قدر النصب وأنه كلما كثر العمل كان الأجر عليه أضعافا مضاعفة. وهذا وسوسة من الشيطان. فالاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وبسنته هو الواجب علينا، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما زاد على ذلك هو محدث، وشر الأمور محدثاتها.(62/17)
فالذي لا يقنعه ما قنع به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد يعتقد أن الدين الإسلامي ناقص، وأن الرسول ما بلغ البلاغ المبين، وأنه قصر في التعليم، حيث اقتصر على بعض الشرائع، أو على بعض الطهارة أو نحوها. وإذا اعتقد هذا الاعتقاد السيئ وقع -والعياذ بالله- في الانحراف وفي الضلال، فإن اتهام النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحد من الأنبياء بإخفاء شيء من الرسالة، أو بالنقص والتغيير في شيء من أمر الشريعة اعتقاد باطل وضال ومضل يوقع في الخروج -والعياذ باله- من دائرة الإسلام.
وقد أوقع الشيطان أيضاً كثيراً من الناس في الوسوسة في الأعمال الأخرى سواء كانت أفعالاً أو طرقاً، فمن ذلك مثلاً الوسوسة في النية في الصلاة فإن الشيطان يغالي عند بعضهم فيقول إنك ما نويت، أو أنت نيتك ليست سليمة أو صحيحة، أو أنت ما استحضرت النية، فلا يزال يوسوس له بأنه ما أتى بالنية المشترطة للعبادة من طهارة أو من صلاة حتى تفوت عليه الأوقات فتنقص عبادته، أو تفوته الصلاة أو تفوته فضيلة الوقت. وهذا بلا شك زيادة على ما حده الله تعالى.
وهناك من لا يبالي فيصلي أو يتوضأ بدون قصد صالح، وبدون نية حسنة، ويعتبر هذا أيضاً مقصرا ومخلا بعمل من الأعمال المطلوبة. والوسط في ذلك هو أن ينوي الإنسان بقلبه الطهارة أو الدخول في الصلاة أو نحو ذلك فإذا فعل ذلك فإنه قد نوى، واعتبرت نيته صالحة كافية.(62/18)
ومما أوقع الشيطان فيه كثيرا من الناس الغلو في القراءة في الصلاة. وأوقع أخرين في الجفاء، فأفرط في القراءة ناس، وفرط في ذلك أناس أخرون. وكذلك في الأذكار وغيرها. فهناك أنا وسوس لهم الشيطان بأنكم لا تحققون القراءة والحروف إلا إذا نطقتم بها على هذا الكيفية، فإذا لم تفعلوا فقد اختلت قراءتكم واختلت أذكاركم وما إلى ذلك. فقد ذكروا أن بعضا منهم يتكلف في النطق بالقراءة حتى إذا أراد أن ينطق بالضاد ونحوها أخرج بصاقه من شدة تكلفه وتشدده، عندما يقول: ولا الضالين، أو المغضوب، يكلف نفسه حتى يخرج لعابه وبصاقه من شدة تكلفه. ولا شك أن هذا ما أنزل الله به من سلطان. وهكذا أيضاً تكلفهم في النطق بالتكبير ونحو ذلك. حتى ربما يخرج الكلمة عن وضعها وما وضعت عليه، فيكرر الكاف ويشددها. فيقول: (الله أكبّر) ، وما أشبه ذلك. وعند قراءة التشهد والتحيات يشدد التاء فيقول: الت الت التحيات، أو نحو ذلك، حتى تخرج الكلمة من وضعها وماهيتها التي وضعت عليها. ولا شك أن هذا تغيير الكلام عن وضعه وعن ماهيته وعما هو عليه.(62/19)
ولا شك أن الذين يفْرطون في ذلك أيضاً يقصرون. وذلك أن هناك من لا يأتون بالتكبير كما ينبغي فيأتي أحدهم بالكلمة دون أن يحقق حروفها، وكذلك في القراءة، دون أن يحقق حروفها وتشديدها. أما الدين الوسط فهو التوسط في القراءة والتكبير وفي التشهد، وفي سائر أركان الصلاة، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا تقصير. وهو أن تأتي بالقراءة بحروف بارزة ظاهرة يقرؤها اللسان دون تكلف في التشديد، ودون تكلف في المدّ، ودون تقعر وتشدق في تكلف الفصاحة، ودون تساهل في إتمام كثير من الحروف البارزة أو عجلة أو سرعة يختفي معها كثير من الحروف التي حقها الإبراز. بل لا إفراط ولا تفريط. فإذا قرأها قراءة مفهومة مسموعة حروفها ظاهرُ شَدُّها ومَدُّها على ما ينبغي كان ذلك متوسطا لا إلى الجفاء ولا إلى الغلو الذي قد يمل من العبادة ويوقع في تغيير الكلم وتحريفه عن وضعه.(62/20)
وهكذا أيضاً في العبادات. فالصلاة مثلا إذا نظرنا إلى بعض الأئمة الذين قد يزيدون في الصلاة ويطيلونها إطالة في الأفعال، قد تكون مملة في الأفعال أو في القراءة أو ما أشبه ذلك. فيملون ويضجرون من معهم من المأمومين، ويستثقلون صلاتهم وينفرون منهم. فهؤلاء في طرف، هؤلاء أهل إفراط وغلو وزيادة. وهناك طرف ثان يقصرون ويخلون، وينقرون الصلاة نقراً، ولا يطمئنون في حركاتهم ولا في أفعالها كما ينبغي، فلا تنعقد صلاتهم ولا تكون مجزئة فيكونون سببا في إبطال صلاة من صلى معهم، ولو كثر الذين يرغبون الصلاة معهم. فهؤلاء في طرف وهؤلاء في طرف، ودين الله وسط، والصلاة المعتدلة متوسطة بين هؤلاء وهؤلاء. فالإمام يراعي حال المأمومين، فلا يطيل إطالة تملهم وتضجرهم، ولا يخفف تخفيفاً يخل بالعبادة فلا يأتي بأركانها ولا بواجباتها المطلوبة، ولا يطمئن فيها الطمأنينة الشرعية. بل الواجب أن يحرص على الاقتداء بالصلاة النبوية في القراءة وفي الأذكار وغيرها. وبذلك يكون متوسطاً بين الغالي والجافي. فهذا مما انقسم فيه الناس فصار أكثرهم في طرفي نقيض، وتوسط دين الحق بين ذينك الطرفين.
وهكذا لو تتبعنا كثيراً من الأعمال لوجدناها كذلك. لوجدنا مثلاً أن كثيراً من الناس قد يشقون على أنفسهم ويضجرونها في تحمل كثير من التطوعات التي بها يحرمون الأنفس لذاتها وراحتها التي أبيحت لها وآخرون يقصرون فلا يأتون بشيء منها أصلاً. ودين الله وسط بين ذلك.
مثال واقعي(62/21)
فنذكر من ذلك قصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه التي في الصحيح فإنه كان في أول شبابه كثير العبادة، فشق على نفسه، فكان يصوم الشهر كله، فيصوم الدهر، وكان يصلي الليل كله، ويختم القرآن في كل ليلة، في تهجده، وهذا فيه غلو، ومشقة وفيه تعب، يؤدي إلى أنه يفوت عليه حقوقاً واجبة. فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا غلو، وقال: إن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. وهذا لا شك أنه زيادة تُمِل الإنسان من العبادة وتضجره وهناك آخرون لا يعرفون مثل هذه العبادات ولو كانت نوافل. فلا يصلي أحدهم نافلة أصلا، ولا يصوم إلا ما فرض عليه، ولا يأتي بشيء من النوافل، ولا يتقرب بشيء من القربات، وكأنه غافل أو مستغن عن هذه العبادات ونحوها. فلا شك أن هذا في طرف، وذاك في طرف، فالذي كلف نفسه مشقة متطرف شديد التطرف. والذي تساهل في العبادات ولم يأت بشيء من العبادات المسنونة، ولم يتقرب بشيء من نوافلها، أيضاً متطرف غاية التطرف. ودين الإسلام وسط، وهو أن تتقرب إلى الله بقربات لا تكلف بها نفسك ولا تضرها بها ولا تحرمها من حقها، ومن الحقوق الواجبة عليك، وما أشبه ذلك. ولا تنس عبادة الله، ولا تشتغل بالملذات والشهوات عن حق الله، ولا تعط نفسك كل ما تشتهيه من لذة ونوم وشهوة بطن وشهوة فرج، كمأكل ومشرب وملبس، ونحو ذلك، فهذا أيضاً إفراط وتفريط.
التوسط في أمور العادات
أولاً:-(62/22)
لك أن تقيس أيها الأخ ذلك في كل شيء، حتى في الأمور العادية، كأمور المأكل والمشرب والملبس وما أشبه ذلك. فإن الإسلام جاء فيها بالوسط. فمثلاً اللباس الذي هو زينة للناس أنزله الله وامتن به على عباده بقوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشا) . وهذا اللباس انقسم فيه الناس ثلاثة أقسام: طرفان ووسط. فتجد الطرف الأول وهم أهل البذخ والإفساد والإسراف قد يكون لباس أحدهم يتكلف بمئات. أو يبلغ الألف أو الألوف من ذكر أو أنثى، وهذا بلا شك إفساد وإسراف، وتبذير للمال في غير حق، ويعتبر إفراطاً وغلوا وزيادة، ولو أنه اقتصد واستعمل ما يكفيه وتصدق بهذا الزائد أو أنفقه في وجه من وجوه الخير لكان خيرا له. بينما هناك طرف آخر قد أنعم الله عليه ورزقه. ولكنه قَصَّر على نفسه. روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه ثياب وسخة، أي بذلة وهوان، فسأله: أليس قد رزقك الله مالاً؟ فقال: بلى. قال: من أي أنواع المال؟ قال: من كل أنواع المال، من الإبل والبقر والغنم والخيل والرقيق. فقال فإذا آتاك الله مالا فلير نعمة الله عليك وكرامته رواه أحمد والنسائي عن أبي الأحوص عن أبيه وسنده صحيح. فكون الإنسان واجدا، وكون الإنسان غنيا ومع ذلك يقصر على نفسه، فيقتصر على ثياب دنسة وسخة متمزقة، قد تبدو منها عورته، يعتبر ذلك تقصيرا وإخلالا. وخير الأمور أوسطها. وهو أن لا يسرف الإنسان في اللباس وأن لا يقصر في اللباس. بل الوسط بين ذلك، لا إفراط ولا تفريط.
ثانياً:-(62/23)
ونقول مثل ذلك أيضاً في المآكل. فتجد كثيراً من الناس يسرفون في الطعام، فيحشدون عند الطعام أصنافاً وأنواعاً من الأطعمة وكلها تذهب ولا تؤكل أو لا يؤكل منها إلا نزر قليل. وآخرين عندهم أموال، ولكن يدفعهم البخل والشح على أن يقصروا على أنفسهم وعلى أولادهم فيبيتون جياعاً، أو لا يأكلون إلا الدنيء الرخيص من الطعام ويحرم أحدهم أهله التلذذ بما أبيح من المأكول والفواكه والأطعمة المتوفرة بخلا وشحا، والأموال عندهم يكدسونها، والوسط الخيار. الدين وسط بين هذا وذاك لا إسراف ولا تقتير، كما في قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) .
ثالثاً:-(62/24)
وهكذا في الإقبال على الدنيا انقسموا إلى ثلاث طوائف، فقسم أكبوا على الدنيا وعظموا شأنها وركنوا إليها وأحبوها، وجعلوا دنياهم أكبر همهم ومبلغ علمهم وشغلوا بها أوقاتهم كلها وغلوا في حبها والتعلق بها وكأنهم قد نسوا الآخرة، بينما هناك آخرون قد زهدوا فيها وانقطعوا عن الاشتغال بأمر هذه الحياة، ولكن زهادتهم أوقعتهم في أنهم تركوا مصالح أنفسهم وانعزلوا عن الناس وعما الناس فيها وأضاعوا من تحت أيديهم، فلم يكتسبوا ما يغنون به أنفسهم وأضاعوا أولادهم دون أن يعطوهم ويكسوهم أو يرزقوهم، وما أشبه ذلك. فهؤلاء أيضا مخلون مقصرون. والأمر وسط بين ذلك. وهو أن الإنسان يطلب من الدنيا الكفاف والقوت، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا" أي لا إفراط ولا تفريط. فلا ينقطع عن الدنيا انقطاعاً كلياً بحيث يضيع نفسه، ويعرض نفسه للحاجة والتكفف وسؤال الناس، ويعرض أهله للجوع والضنك وضيق المعيشة. ولا يجعل همه كله مكباً على الدنيا صارفا فيها هواه وأوقاته وحياته وناسيا آخرته وناسياً الأعمال التي تقربه إلى الله. لا هذا ولا ذاك. بل يشتغل لدنياه بقدر. ويشتغل لآخرته بقدر. ولا يبالغ في محبة الدنيا، المحبة التي تنسيه الآخرة، ولا يبالغ في التقصير فيها، التقصير الذي ينسيه حظ نفسه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لنفسه حقا. فهذا أيضاً مثلٌ للغلو والجفاء، والإفراط والتفريط.
رابعاً:-(62/25)
ومن الأمثلة من هذا القبيل في كثر من المعاملات أن كثيراً من الناس يتعاملون ويتوسعون في بعض المعاملات لا يبالي أحدهم بأية معاملة، سواء كان غشا، أم ربا، أم زيادة على غيره ما أنزل الله بها من سلطان، فمثل هؤلاء قد زادوا وتوسعوا في بعض المعاملات، فأفرطوا وتوسعوا بحيث يظن أنهم لا يعتقدون أن هناك معاملة حراماً، فعندهم الغش، والزيادة على المسلم وإيقاعه فيما يكتسبون من ورائه مالاً كل ذلك جائز ومباح لهم، يبيحون لأنفسهم ما لم يبح لهم الشرع، بينما هناك من تشدد في باب المعاملات فامتنعوا عن أشياء أباحها الله، فامتنعوا عن البيع الذي أباحه الله، وامتنعوا عن الإجارة التي أباحها الله وامتنعوا عن التكسب والعمل الذي أباحه الله، واعتقدوا أن ذلك ممنوع، فوقعوا في التقصير والنقص، وأولئك وقعوا في الزيادة والغلو، والإفراط، وخير الأمور أوسطها، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
الخاتمة
وبالجملة نعرف أن السبب الذي أوقع هؤلاء وأولئك في الإفراط والتفريط كما ذكرنا وكررنا هو الشيطان ووسوسته يخرج هؤلاء وهؤلاء من العبادة، وحتى يملهم ويصرفهم عن كثير من العبادات ويثقلها عليهم، ويثقل عليهم المكاسب ونحوها. ويوقع هؤلاء في المحرمات، أو في المشتبهات التي تجر إلى المحرمات، فيحصل أنه أضل خلقاً كثيراً ليصدق على الناس ظنه، كما قال الله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين) .(62/26)
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بالحق الذي هو دين الحق، والذي اختاره الله للأمة ديناً حقاً. نسأل الله سبحانه أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل. ونسأله أن يعيذنا من نزغات الشيطان وأوهامه ووساوسه، وأن يجعلنا ممن أنار قلوبهم بطاعته وبصرهم بالحق ودلهم عليه ورزقهم الهدى والاستقامة والسلوك إلى الصراط السوي الذي يؤدي بهم إلى النجاة في الآخرة، والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(62/27)
كتاب الإرشاد
مقدمة معد الكتاب
إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذا شرح نفيس ميسر لكتاب لمعة الاعتقاد للإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله ابن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله، شرحه فضيلة شيخنا العلامة الدكتور: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله تعالى وأمد في عمره، أقدمه لطلاب العلم بعد أن تمت مراجعته من قبل شيخنا -حفظه الله تعالى- فصححه ونقحه وأضاف إليه ما يحتاج من زيادات فخرج بهذه الصورة التي آمل أن يجد فيها قارئه ما يفيده، وكان هذا الكتاب في الأصل عبارة عن دروس ألقاها فضيلة الشيخ في الدورة العلمية لعام 1415هـ بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقمت بتفريغ الأشرطة وكتابتها، ومن ثم عرضتها على فضيلته وقرأتها عليه فشجعني على تقديمها لإخواني طلاب العلم للاستفادة منها.
أسأل الله أن يوفقني لما فيه الخير والصواب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عملي في الكتاب:
1- فرغت الأشرطة التي تم تسجيل الدروس عليها وكتبتها بخط اليد وذلك بمساعدة بعض الإخوان فجزاهم الله خيراً.
2- قمت بقراءة جميع الشرح على فضيلة الشيخ بمنزله العامر بالرياض، كما قرأ -وفقه الله- الصورة النهائية التي اعتمدت في الكتاب والتي بين أيدينا نسختها الآن.
3- في الطباعة وضعت المتن بعد كلمة (قوله) والشرح بعد كلمة (شرح) لأسهل على القارئ الكريم التفريق بين المتن والشرح.
4- رقمت الآيات فوضعت بجانب كل آية اسم السورة ورقم الآية.(63/1)
5- إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإنني أقتصر في التخريج على ذلك، أما إذا لم يكن موجوداً فيهما أو في أحدهما فإنني أبحث عنه في سنن أبي داود والترمذي، ثم بعد ذلك فيما يتيسر من كتب الحديث أو غيرها.
6- وضعت مقدمة للكتاب كما وضعت خاتمة له.
7- قمت بفهرسة الموضوعات فقط ولم أقم بفهرسة الآيات والأحاديث والآثار والأسماء والكنى لعدم الإطالة وتضخيم الكتاب أكثر مما يجب.
8- اعتمدت في الطباعة بالنسبة للمتن (لمعة الاعتقاد) على الطبعات الآتية وهي:
أ- طبعة دار الهدى بالرياض بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.
ب- طبعة مكتبة ابن تيمية بالقاهرة ومكتبة العلم بجدة بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.
ج- طبعة دار الصميعي بالرياض (تعليقات على لمعة الاعتقاد) وهي عبارة عن أسئلة وأجوبة على اللمعة لفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن جبرين وفقه الله.
وما عملت في هذا الكتاب فهو جهد المقل وعمل العاجز، وما ورد فيه من تمام فمن توفيق الله، وما فيه من تقصير فمن نفسي وأستغفر الله منه.
أسأل الله الكريم العظيم أن ينفع بشرح هذا الكتاب كما نفع بأصله وأن يجزي شيخنا الكريم عني خير الجزاء وأن يجعل عملي فيه وفي غيره رفعة في الدرجات في جنات عدن، إنه القدير على ذلك سبحانه وتعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
كتبه الشيخ: محمد بن حمد المنيع
مقدمة الشرح
لفضيلة الشيخ/ د. عبد الله بن جبرين حفظه الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد ...(63/2)
لا شك أن أمر العقيدة الإسلامية من أهم الأمور، وأن شأنها عظيم، والاهتمام بأمرها أكيد؛ لأجل ذلك أهتم بها العلماء قديماً وحديثاً، وألفوا المؤلفات التي ضمَّنوها المعتقد المأخوذ من الكتاب والسنة، والذي درج عليه سلف الأمة، وبسطوا في ذلك، واختصروا، وكتبوا، ودرَّسُوا، وقرروا، وكل ذلك نصحاً منهم للأمة حتى تثبت على عقيدة صحيحة ترسخ هذه العقيدة في قلوبها.
وفي هذه المقدمة نحب أن نتكلم عن مبدأ العقيدة، وتطوراتها إلى زماننا هذا، مع الإشارة إلى بعض ما كتب في العقيدة، فنقول: العقيدة التي منها هذه الرسالة (لمعة الاعتقاد) ، ومنها (العقيدة الواسطية) وغيرها؛ مشتقة من العقد، وذلك أن العقد هو ربط الشيء بعضه ببعض، تقول: عقدت الحبل ببعضه أي وثقته وربطته، وسميت بذلك لأن القلب يعقد عليها عقداً محكماً مبرماً لا سبيل إلى انفكاكه، وذلك لأن أدلتها جلية صحيحة واضحة لا يعتريها شك ولا تغيّر، وأدلتها نصوص قطعية الثبوت، وقطعية الدلالة؛ فلأجل ذلك يعقد عليها القلب، ولا يمكن أن يتزعزع هذا الاعتقاد من القلب إلا إذا كان العقد غير محكم وغير قوي، فإنه عرضة للتزعزع.
ولأجل ذلك كان العلماء، والمسلمون عموماً، يربون أولادهم على العقيدة منذ الطفولة ويلقنونهم كيف عرفوا ربهم، وبأي شيء عرفوه، ولأي شيء خُلقوا، وبأي شيء أُمروا، وأول ما فرض عليهم، وأهم الفرائض، وما إلى ذلك؛ حتى إذا تلقاها الطفل في صغره، وتربى عليها نبت لحمه وعظمه، وعصبه وعقله على هذه العقيدة، فأصبحت راسخة لا تتزعزع، بحيث لو عرضت عليه بعد ذلك شبهات، أو أتى بما يزعزع وبما يفتن، بل لو فتن وحبس وضرب وأوذي فلن يتغير اعتقاده، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: أنه تربى عليها عند أبويه، وتلقاها وهو طفل.
ثانياً: أنه ألفى عليها أبويه، وأبواه أنصح الخلق له، وهما يحبان له أن يتربى على الخير.(63/3)
ثالثاً: أن الأدلة التي تؤيد هذا الاعتقاد أدلة جلية، واضحة في ظهور معناها، صحيحة قطعية الثبوت لا يمكن أن يعتريها شك، أو تغير، فهذا ونحوه مما يبين أهمية هذه العقيدة.
بعد ذلك نقول في تطور أمر هذه العقيدة قبل أن نبدأ في شيء من تفاصيلها: معروف أن الرسل كلهم بدأوا رسالتهم بأمر العقيدة التي هي عبادة الله لقوله تعالى: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (الأعراف:59) تقريراً للإلهية بأن الله تعالى هو الإله، بحيث يعترفون أن لهم رباً، وأن ربهم هو الله، وأنه الذي له الإلهية وحده، ولا تصلح الإلهية إلا له سبحانه وتعالى.
وهذا مبدأ العقيدة وأساسها كما سيأتي، فالرسل بدأوا بأمر العقيدة، ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدأ بأمر العقيدة، فبقي عشر سنين بمكة بعد أن أوحي إليه لم يدع إلا إلى العقيدة، وهي معرفة الله وعبادته وأداء حقه، وترك عبادة ما سواه، وإقامة الأدلة التي تثبت لله وحده العبودية وتنفي عن ما سواه أن يكون معبوداً أو إلهاً.
وتطول الأدلة والبراهين على ذلك، ففي كثير من السور المكية يذكر الله عز وجل ما يدل على أنه سبحانه هو الرب، وهو الإله، وهو المعبود وحده، ويقيم على ذلك الأدلة الواضحة التي يراها الإنسان عياناً، ويذكرها ولا يستطيع أن يجحدها أو ينكرها.
فنجد مثلاً في سورة الإنسان قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سمعياً بصيراً * إنا هديناه السبيل) (الإنسان:1-3) ، أليس هذا تقريراً للإلهية، وأن الذي خلق الإنسان بعد أن كان معدوماً هو الخالق المنفرد بالخلق؛ تقريراً لأنه هو الخالق وحده، وأنه هو الذي يستحق أن يعبد، ولا يجحده إلا معاند.(63/4)
ثم السورة التي بعدها فيها أيضاً تقرير ذلك مثل قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياءً وأمواتاً) (المرسلات:25-26) إلى آخر الآيات؛ يذكر الله آيات ودلالات على أنه هو المنفرد بالإلهية، وأنه هو المتصرف بالربوبية وحده؛ لأن هذا تصرفه هو وحده الذي انفرد به، فهو أهل أن يكون معبوداً وحده دون ما سواه.
كذلك السورة التي بعدها: (ألم نجعل الأرض مهاداً * والجبال أوتاداً) (النبأ:6-7) إلى آخر الآيات تقرير للألوهية، وعرض المعجزات والبراهين التي من تأملها وتعقلها رسخت العقيدة في قلبه؛ بحيث يعرف أن الذي أوجد هذه الكائنات على هذا الإحكام؛ غاية الأحكام أنه أهل أن يعظم، وأهل أن يعبد وحده، وأن يشكر ويذكر، وأن تكون الطاعة له دون ما سواه، وأهل أن يطاع رسله الذين أرسلهم وحمَّلهم رسالته.
وفي السورة التي بعدها يقول تعالى: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها) (النازعات:27-28) إلى آخر الآيات، يحتج عليهم بهذا الخلق المحكم العظيم الذي لا يستطيع أي مخلوق أن يغيره عن وضعه. فالذي أوجد هذه المخلوقات هو الإله، وهو الرب، وهو المعبود وحده.
وفي السورة التي بعدها يقول تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صباً * ثم شققنا الأرض شقاً) (عبس:24-26) إلى آخر الآيات، وفي هذا يذكر الإنسان بأن الذي فعل هذا هو الله وحده، ولا يستطيع مخلوق مهما كانت قدرته أن يأتي بمثل هذا الأمر الذي يأتي به الله سبحانه.
إذن فهذا يبين أن العقيدة هي أول ما بدأ به نبينا صلى الله عليه وسلم في دعوته، ولما بينه للصحابة اعتقدوا ما اعتقدوه في أمر الإله وحده سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته، ومن براهينه وآياته، ومن نعمه وآلائه على خلقه، واعتقدوا أنه أهل أن يعبد وحده، وأن يشكر، وأن يثنى عليه.(63/5)
اعتقدوا ذلك ولم ينكروا شيئاً من أمر هذا الاعتقاد، اعتقدوا أن الله ربهم وخالقهم ومدبرهم، اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى فوق عباده، وأنه على عرشه مستو عليه كما يشاء، اعتقدوا أن له الأسماء الحسنى، والصفات العلى إلى آخر أمر العقيدة.
ولم يظهر فيما بين الصحابة من ينكر شيئاً من أمر الاعتقاد، ولا ظهر فيما بينهم من يرد شيئاً من دلالة النصوص، وهذا من تزكية الله تعالى لصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لما زكاهم الله تعالى وفضلهم على غيرهم ظهر أثر ذلك، فلم يظهر فيهم، والحمد لله مبتدع، ولا خارجي، ولا قدري، ولا رافضي، ولا معتزلي، ولا أشعري، ولا جبري، ولا مرجئي، ولا صوفي؛ لم يظهر فيهم شيء من هذه البدع، بل كلهم على عقيدة واحدة هي عقيدة أهل السنة، هذا هو ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم.
وبعدما دخل في الإسلام بعض المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم بدأ ظهور البدع، ولما ظهرت اهتم الصحابة بإظهار السنن، وأوضحوها بالأدلة القاطعة.
فأول البدع: بدعة الخوارج الذين خرجوا عن الطاعة، وكفروا الصحابة، وكفروا المسلمين، وقتلوا الأبرياء.
وقد كثرت الأحاديث التي تبين شأنهم، ومبدأ أمرهم وصفاتهم، وهي أحاديث صحيحة مخرجة في الصحيحين وفي غيرهما.
لقد أنكر عليهم الصحابة، وبينوا خطأ طريقتهم، ولما كتب المؤلفون فيما بعد كتبوا في الرد عليهم ما يبيَّن خطأهم، وضمنوا ذلك كتب العقيدة.(63/6)
وبعد ذلك: خرجت القدرية في آخر عهد الصحابة، وقد أدركهم بعض الصحابة كعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وغيرهم من الذين تأخر موتهم ومن رؤوس القدرية غيلان القدري ومعبد الجهني؛ خرجوا في آخر عهد الصحابة، وأنكروا علم الله السابق للأشياء قبل وجودها، وقالوا إنما يعلم الأشياء عندما تحدث، وهذا هو معنى قولهم: (إن الأمر أُنف) فشنع عليهم الصحابة، واحتجوا عليهم بالأدلة وبالآيات والأحاديث، وحذروا من طرقهم ومن شأنهم، وقد كانوا قلة مغمورين لا يتفطن لهم ولا يؤبه لهم، وإنما الغلبة لأهل السنة والظهور لهم، والكثرة لهم والحمد لله، بينما هم أفراد لا يسمع لهم إلا من هو ضعيف الإدراك، وضعيف العقل.
ثم ظهرت المعتزلة في أول القرن الثاني، اعتزلوا مجلس الحسن البصري، وكان رئيسهم الذي يقال له واصل بن عطاء يجلس يقرر مذهبه، وأخذ يشير لهم الحسن ويقول: هؤلاء المعتزلة اعتزلوا مع واصل، فمن ثم اشتهر هذا المذهب الذي هو مذهب الاعتزال بهذا الاسم.
ولعله تأتي بعض الإشارات إليه فيما بعد، ومع ذلك فإن أهله قلة، ومنهم عمرو ابن عبيد الذي وجد في وسط القرن الثاني وكان يظهر التنسك، ولكنه مبتدع منحرف في باب الاعتقاد.
ثم ظهرت أيضاً: بدعة التعطيل، وما أدراك ما هذه البدعة الشنيعة العظيمة المنكرة؛ إنها بدعة الجهمية الذين أنكروا صفات الله تعالى، وتأولوا نصوصها، وبالغوا في إنكارها، وكان أول من أنكر بعضها (الجعد بن درهم) ، وهو الذي قتله خالد القسري في يوم عيد الأضحى، وقصته مشهورة.(63/7)
ثم إنه تلقاها عنه -أي بدعة التعطيل- الجهم بن صفوان السمر قندي، وهو الذي نشرها ونسبت إليه، وكثر الذين تلقوها عنه، وإن كانوا قلة في ذلك الزمان، ولكن ظهر لهم بعد ذلك أنصار وأعوان، فمنهم بشر المريسي الذي أعلن هذه البدعة؛ بدعة إنكار الصفات، ومنها صفة العلو لله تعالى، وإنكار أن الله متكلم، وأن القرآن ليس كلامه، ونحو ذلك من التعطيل.
ولما كان في آخر القرن الثاني، وأول القرن الثالث، كان وزراء الملوك أغلبهم من اليونان، ومن الترك، وكانوا غالباً من المجوس في عقيدتهم، ومن النصارى، وعندهم من كتب النصارى وكتب الفلاسفة بقايا، فزينوا للخلفاء أن يترجموها إلى اللغة العربية، فترجموا كتباً كثيرة من كتب الفلاسفة والملاحدة، ومن كتب اليونان من نصارى ومجوس ونحوهم.
ولما انتشرت تلك الكتب كان في طياتها التشكيك في الخالق، وفي مبدأ الخلق وفي منتهاه، مما كان سبباً في كثرة الزندقة، فظهر في ذلك الوقت مذهب الزندقة، وهو الذي يسمى بمبدأ الشيوعية فتمكنت الشيوعية وظهرت.
ولكن فطن لهم الخليفة المهدي رحمه الله، فقتل منهم خلقاً كثيراً، فكل من اتهم بأنه زنديق منكر للخلق والخالق، أو يذهب مذاهب الفلاسفة في إنكار بدء الخلق وإعادته، ويدعي أن الأمر مسند إلى الطبائع ونحو ذلك؛ أخذه وقتله، ولم يكن يستتيبهم لعلمه أنهم منافقون يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وأنهم أظهروا الإسلام وقصدوا من إظهاره إفساد العقائد، حتى يثق الناس بهم ويأخذوا منهم، فإذا أخذوا منهم أعطوهم ما يريدون من التشكيك، ومن الارتباك في أمر العقيدة، حتى يزعزعوا عقيدة الكثير من الناس، هذا هو السبب في فشو هذا المذهب الشيوعي.(63/8)
ذكر المترجمون للمهدي: أنه أحضر أحدهم لما ثبت عنده أنه زنديق وحكم بقتله، فقال ذلك الزنديق: كيف تفعل بأربعة آلاف حديث كذبتها وبثثتها في المسلمين، فقال المهدي: تعيش لها نقادها، أي أن الله تعالى قد قيض لها علماء ينقحون الأحاديث ويبينون زيفها، ويظهرون ما هو مكذوب ودخيل على السنة، يعني أمثال الأئمة الذين كتبوا في الأحاديث، وبينوا عللها، وبينوا المكذوب منها والموضوع والصحيح والضعيف.
وبكل حال فهذا الوقت انتشر فيه هذا المذهب الشيوعي الخبيث بسبب تعريب هذه الكتب، ومن أثر انتشارها كثرة الخوض في علوم جديدة سماها السلف رحمهم الله (علم الكلام) ، هكذا أطلقوا عليه، وقصدوا به العلم الذي يخوض في الأمور الخفية؛ في الجواهر والأعراض والأبعاض، والافتراضات، وما أشبه ذلك.
وهذا الكلام هو الذي شغل كثيراً من أهل القرون المتأخرة، بحيث إنهم كرسوا جهودهم في هذا الكلام، وأخذوا يفترضون افتراضات؛ إن كان كذا، فماذا يكون كذا؟، وما هو جوابه، حتى ملؤوا صدور الناس بمالا فائدة فيه، وملؤوا الكتب بما لا أهمية له، فكان ذلك مما حمل العلماء على التحذير من علم الكلام، كقول الشافعي رحمه الله: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك القرآن، وأقبل على الكلام) ، وغيره كثير من الذين حذروا من علم الكلام.
ومع الأسف فقد انتشر علم الكلام هذا في كتب الأشاعرة، وفي كتب المعتزلة؛ فحشدوا الكثير منه في كتب التفسير، وفي كتب العقائد، وفي كتب الأصول وما أشبهها، وافترضوا افتراضات لا دليل عليها.(63/9)
فإذن لا شك أن هذا مما حمل السلف رحمهم الله على أن ينقحوا العقيدة، لما رأوا في القرن الثاني وفي القرن الثالث وما بعده تغير الناس في باب الاعتقاد، لم يكن بدٌ من أن يكتبوا في ذلك، ويقرروا، ويُبدؤا ويعيدوا، ويظهروا المذهب الصحيح والعقيدة السلفية السليمة ويبينوها علناً، حتى لا يقع في خلافها من قصده الحق.
فكتُب السلف في العقيدة كثيرة وشهيرة: منها ما سمي بكتاب الإيمان، متقدماً ومتأخراً ومختصراً ومبسوطاً مثل كتاب الإيمان لابن أبي شيبة، وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب الإيمان لابن منده في ثلاثة أجزاء وكلها مطبوعة.
ومنها ما سموه بكتب السنة؛ كالسنة للإمام أحمد، والسنة لابنه عبد الله، والسنة للخلال، والسنة لابن أبي عاصم، وغيرها.
ومنها ما سموه بالتوحيد ككتاب التوحيد لابن خزيمة، والتوحيد لابن منده.
ومنها ما سمي بأسماء أخرى، كالرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن للإمام أحمد، والرد على الجهمية لعثمان ابن سعيد الدارمي، والرد على بشر المريسي للدارمي أيضاً، ومنها ما له أسماء خاصة كالشريعة للآجري، والإبانة لابن بطة (الإبانة الصغرى، والإبانة الكبرى) ، وشرح اعتقاد أهل السنة الذي هو من أوسعها للالكائي.
هذه كتب ضمنها مؤلفوها العقيدة، وأرادوا بذلك أن يخلصوا أمر المعتقد حتى لا تضمحل عقيدة أهل السنة.(63/10)
ومع كثرة هذه الكتب مما ذكرنا، وغيرها كثير، لما انقضى القرن الثالث آخر القرون المفضلة أميتت هذه الكتب مع الأسف، وأصبحت مخزونة لا يعترف بها ولا تُقرأ، ولا تُدرَّس إلا نادراً وبصفة خفية، وتمكن مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة أيما تمكن، وانتشر الإكباب عليه، وكثرت الدروس والكتب التي تؤلف فيما يتعلق بهذه العقائد؛ عقيدة الأشعرية وعقيدة المعتزلة، وكادت السنة وكتبها أن لا يكون لها ذكر، بل كاد مذهب الإمام أحمد أن يضمحل، ولم يبق أحد عليه إلا قلة.
وفي آخر القرن الرابع وأول القرن الخامس بدأ يظهر مذهب الإمام بسبب القاضي أبي يعلى رحمه الله، فإنه لما اعتنق هذا المذهب وتولى القضاء، وكان عالما جليلا، وكان من أبرز أهل زمانه، ولم يوجد للقضاء من يتولاه مثله أظهر هذا المذهب.
ومع ذلك فإنه هو وأساتذته الذين قرأ عليهم في بعض الكلام قد تأثروا بشبه المتكلمين، ولكن لما كان على مذهب الإمام أحمد لم يرد ما روى عنه، فألف رسالة فيما يتعلق بصفة العلو وأملاها على تلامذته، ولما كتبها وأملاها قامت الدنيا، وأنكر عليه أهل زمانه، وقالوا: القاضي أبو يعلى ممثلٌ، القاضي مشبه، وكادوا يسعون في إبعاده وعزله، فاعتذر أنه إنما نقل كلام غيره، والرد لا يكون عليه بل يكون على غيره، على الذين نقل عنهم؛ وأما هو فإنه ناقل.(63/11)
ولا شك أن هذا دليل على غربة السنة في تلك القرون؛ القرن الرابع والقرن الخامس وما بعدهما. وبالتتبع لهذه القرون: الرابع والخامس والسادس وأغلب السابع لا تجد فيها من هو على مذهب السنة إلا من هو مستخفٍ، ولو كان حنبلياً، وما ذاك إلا أنهم قرؤوا على مشايخ لهم، وأولئك المشايخ قرؤوا علم الكلام على علمائهم، ولما قرأوه تمكن من نفوسهم، وتمكنت هذه الشبهة التي هي إنكار صفة العلو، وإنكار الصفات الذاتية، وإنكار الكثير من الصفات الفعلية، فتمكنت من النفوس، فصار ذلك سبباً في انحرافهم عن عقيدة أهل السنة، وهم السلف والأئمة الأربعة الذين يقتدى بهم في الفروع فإنهم كلهم والحمد لله على معتقد واحد في الأصول.
ومع ذلك يفتخر كثير منهم بانتمائهم إليهم ويخالفونهم في أصل الأصول الذي هو باب العقيدة، فتجدهم يقولون: نحن على مذهب الشافعي، ولكن في باب العقيدة على مذهب الأشعري، ولا يتمسكون بمذهب الأشعري الصحيح، ولا بمذهب غيره من السلف، وإنما بالمذاهب التي تلقوها من مشايخهم المتأخرين، الذين تلقوا هذه العلوم من المتكلمين.
ولا شك أن أولئك لما كثر الخوض منهم في علم الكلام، وفي التدقيق في تلك المسائل الخفية كانت لها نتيجة سيئة، وهي أنها أوقعت كثيراً منهم في الحيرة، تحيروا ماذا يعتقدون؟، وما هي العقيدة التي تنجيهم؟
ذكر شيخ الإسلام في أول الحموية، وابن أبي العز في شرح الطحاوية قصصاً لبعض أولئك الحيارى المتهوكين؛ منها قصة الرازي من علماء المتكلمين وهو أبو عبد الله، ويقال له: ابن الخطيب صاحب التفسير الكبير، وصاحب تأسيس التقديس الذي رد عليه شيخ الإسلام بكتابه (نقض التأسيس) ذكر أنه إما أنشأ أبياتاً، وإما استشهد بها، وهي التي يقول فيها:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال(63/12)
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم يقول: (لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (طه:5) ، (إليه يصعد الكلم الطيب) (فاطر:10) ، واقرأ في النقى (ليس كمثله شيء) ، (ولا يحيطون به علماً) (طه:110) . ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) اهـ.
فنحن نقول: ليته بقي على هذا، وليته كتب في هذا، ولكنه أضل بكثير من مؤلفاته مع سعة ما فتح عليه من العلوم.
ومنهم الجويني الذي يقال له: إمام الحرمين، له كتاب مطبوع مشهور في علم الكلام اسمه (الإرشاد) وله كتب غيره؛ ذكروا أنه لما حضره الموت تأسف على حياته، وقال: (لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم تدركني رحمة ربي فالويل لابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور) .
تمنى في آخر حياته أنه ما خاض في هذه العلوم أصلاً، وكذلك الشهرستاني صاحب الملل والنحل ذكروا عنه أنه يقول: (أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام) .
وغيرهم كثير؛ هذه نهاية أولئك المتكلمين، ونهاية معلوماتهم.
ومع ذلك وللأسف فالبعض متمسكون بهذه العقائد، ويؤلفون فيها المؤلفات، ويسمونها بمؤلفات التوحيد نظماً ونثراً، مثل العقائد النسفية على مذهب الأشاعرة، ومثل نظم الجوهرة، ومنظومة الشيباني -وإن كانت أخف- ولكن فيها بعض الانحراف القليل. ومثل بدء الأمالي ... إلخ.(63/13)
وهذه العقائد -من عقائد الأشاعرة- مطبوعة في مجموع المتون، ولها شروح مشهورة، هذه العقائد اعتقدوها، وألفوا فيها، واشتهرت بينهم وبين تلامذتهم، ومن كان منهم من أهل الحديث ألف في العقيدة، ولكن لا يجرؤ أن يصرح بمذهب السلف، ويفصح بما عليه الأئمة، ومن أقربهم وأحسنهم الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، وكان شافعياً ثم تحول حنفياً وتعصب للمذهب الحنفي، وألف (العقيدة الطحاوية) ، وذكر فهيا بعض العبارات المنكرة التي اشتهرت في زمانه عن المتكلمين، مثل قوله: إن الله منزه عن الحدود والغايات، والأبعاض، والأعراض، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
والشارح رحمه الله الذي شرحها (ابن أبي العز) كان من أهل السنة، ولكن شرحها كثير من الأشاعرة وسلكوا فيها مسلك المعتزلة أو مسلك الأشاعرة، وحمَّلوها ما لا تطيق، وصرفوا مدلولاتها.
وهكذا الرسالة التي كتبت عن الإمام أبي حنيفة، يمكن أنه أملى بعضها، وأخذها بعض تلامذته وتسمى (الفقه الأكبر) ، نقل منها شيخ الإسلام بعض النقول في الحموية، وكذلك ابن أبي العز في شرح الطحاوية.
ولكن يظهر أنه قد دخلها التغيير من بعض المتأخرين الذين انحرفوا في بعض الاعتقاد؛ فأدخلوا فيها كثيراً من التأويلات، وشرحها كثير ممن هو على مذهب الأشاعرة أو مذهب منكري الصفات، وأنكروا ما كان عليه السلف رحمهم الله، ولا شك أن سبب ذلك كثرة ما تلقوه عن مشايخهم الذين كانوا على هذا المذهب الذي هو تأويل وتحريف الصفات وما أشبهها.(63/14)
وهكذا بقيَّةُ هذه العصور، وهذه القرون؛ كان السائد فيها والمنتشر هو المذهب الأشعري، ومعروف أن الأشعري هو أبو الحسن من ذرية أبي موسى؛ عالم مشهور ظهر في القرن الثالث، كان في أول أمره معتزلياً على طريقة أبي هاشم الجبائي وأبي الهذيل العلاف، ونحوهما من المعتزلة، ثم نزل عن هذه العقيدة لما ظهر له تهافتها، وانتحل مذهب الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان ابن كلاب هذا عالماً جدلياً؛ سمي بذلك لأنه إذا احتج كانت حجته قوية بمنزلة كلاب الصناع الحدادين التي تمسك الحديد، أي إنه في قوة جدله واحتجاجه منزلة هذا الكلاب.
ومع ذلك فإنه قد تأول كثيراً من الصفات ولم يثبت إلا بعضها، فانتحل أبو الحسن الأشعري عقيدته في الإقرار بسبع صفات، وإنكار ما سواها، وألف كتباً كثيرة على هذا المذهب، وقضى عليها أكثر عمره، أي نحو أربعين سنة، وهو يؤلف على هذا المذهب، حتى اشتهرت كتبه وتلقاها الجم الكثير والجمع الغفير.
وفي آخر حياة أبي الحسن مَنّ الله عليه، وقرأ بعض كتب السلف، فرجع عما كان يعتقده إلى مذهب السلف، وألف رسالته المطبوعة التي سماها (الإبانة في أصول الديانة) رسالة مختصرة ألفها على مذهب السلف، وألف أيضاً كتابه (مقالات الإسلاميين) الذي جعله في الفرق.
ولما أتى على مذهب أهل السنة ذكره صريحاً، وذكر عقيدتهم التي يمكن القول أنه نقلها عن كتب الإمام أحمد أو غيره، مما يدل على أنه انتحل عقيدة أهل السنة أخبرا فمقالته عن أهل السنة تدل على أنه منهم بدرجة أنه صرح بقوله: وبما قاله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل نضر الله وجهه وجملة مقالنا أنا نقول كذا وكذا، وقد نقله أيضاً ابن القيم في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي بعض كتبه.
وبكل حال؛ هذا المذهب الذي عليه الآن الأشاعرة ليس هو حقاً مذهب الأشعري؛ لأن الأشعري قد رجع عنه، إنما هو مذهب الكلابية.(63/15)
هذا بعض ما كان عليه هذا المعتقد في هذه الأزمنة، والحنابلة طوال هذه الأزمنة الغالب أنهم يتتلمذون على أشاعرة، ومنهم الإمام ابن قدامة حيث نجد أن تلامذته ومشايخه وزملاءه في العقيدة من شافعية، ومن حنفية، ومن مالكية على المذهب الأشعري.
ولكن لأبد أنه وصلت إليه كتب الإمام أحمد، وكذلك كتب السلف، فلم يوافق أهل زمانه بل وافق شيخه، ووافق مذهبه الذي هو مذهب الإمام أحمد، فألف كتباً كثرة فيما يتعلق بالعقيدة، منها رسالته التي في إثبات صفة العلو؛ صريحة في أنه يرى إثبات هذه الصفة لله تعالى، ولو أنكرها من أنكرها.
ومنها رسالة في ذم التأويل الذي ابتلي به زملاؤه وأساتذته من الأشاعرة ونحوهم.
ومنها هذه الرسالة التي نحن بصددها: (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد) سماها لمعة لأنها ذات أدلة صحيحة صريحة مضيئة تلمع لمعاناً كلمعان السرج القوية، وكلمعان النجوم في الليلة المظلمة، يعني أنها ذات أدلة واضحة وذات دلالة لا خفاء فيها في الاعتقاد.
(لمعة الاعتقاد) أي أدلة الاعتقاد التي هي صحيحة ذات لمعان وضياء لا يحتمل الخفاء، ولا يجوز أن يخفي أو تخفى دلالته إلا على عُمي البصائر.
فهذا هو قصده، ولكن إذا قرأتها تجد أنه رحمه الله لم يجرؤ أن يفصح بموجب الأدلة وبدلالتها بل هو يذكر الأدلة، ويورد بعض المعاني، حيث إن أهل زمانه لا يحتملون الإفصاح، وإلا فهو قد أفصح في كتابه (العلو) بإثبات صفة العلو ونحو ذلك، ولكن يخشى أن يشنع عليه أهل زمانه بأنه مشبه، وبأنه ممثل، فألفها واقتصر على ذكر الأدلة، ولكنه مع ذلك ذكر أدلة صريحة واضحة الدلالة لا تحتمل تأويلاً، وقد أبطل التأويل في رسالته الأخرى، وكذلك أيضاً تتبع عقيدة أهل السنة في الصفات، والإيمان، والقدر، والصحابة، وفي إثبات الرؤية. وغير ذلك مما هو من أصل العقيدة، مما يدل على أنه رحمه الله استوفى عقيدة أهل السنة.(63/16)
وقد شُرحت هذه العقيدة من بعض المشايخ المتأخرين، وقد كَتْبتُ عليها شرحاً مختصراً، وهو التعليقات التي كتبناها عليها، وكنت أمليتها في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف على طلاب معهد إمام الدعوة لما قمت بتدريسها في تلك السنة وفي السنة التي قبلها، وكانوا من طلاب المتوسطة، والغالب أنهم لا يتحملون الإطالة، فأمليتها عليهم كمرجع لهم ليكون موضحاً لدلالتها ونحو ذلك، ثم لم يقدر لي أن أراجعها طوال هذه السنين، وأخذها بعض الأخوة وطبعها ووقع فيها بعض الأخطاء، وبعض ما يحتاج إلى تنبيه.
وقد صححنا بعض المسائل في بعض النسخ، وعلى الذين أخذوها من المكتبات أن يصححوا النقص الذي فيها، أما بقية العلماء، فما أذكر أنها شرحت إلا شرح الشيخ ابن عثيمين متأخراً، وما أذكر أن أحداً اعتنى بها ولا شرحها، ولعل السبب أن علماء الحنابلة رحمهم الله كان جل عملهم واشتغالهم بالمسائل الفقهية. وما اشتغل بالعقائد إلا القلة منهم، ثم في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لمَّا أن الله وهبه علماً وقوة وجراءة وحفظاً وذكاءً وقوة أسلوب، ووهبه أيضاً شهرة بين الناس، ومحبةً اشتهر بها في القاصي والداني بما معه من المعلومات - لم يبال بأهل زمانه ولا بمن خالفه بل أفصح بما يعتقده، وجدد عقيدة السلف، وكتب فيها المؤلفات التي لا يستطيع أحد أن يعارضه فيها، وبين فيها ما هو أجلى من الشمس، كما هو مبسوط أو مختصر في مؤلفاته الكبيرة المبسوطة مثل: (منهاج السنة النبوية) . فإن نحو ثلثه الأول مناقشة في العقيدة، وفي الأسماء والصفات؛ لأن الرافضي الذي رد عليه بدأها بالرد على أهل السنة أنهم مجسمة، وأنهم مشبهة.
كذلك كتابه (العقل والنقل) الذي طبع في نحو أحد عشر مجلداً، وهو أوضحها وأدلها.
كذلك (نقص التأسيس) والذي طبع بعضه ولعله أن تُطبع بقيته.(63/17)
كذلك رسائله الكثيرة في المجموع نحو أربعة مجلدات، كلها في الأسماء والصفات، من الثالث إلى السادس، وهكذا غيرها؛ لا شك أنه ما أفصح بذلك إلا لأن الله تعالى وهبه علماً وقدرة على البيان، فلم يستطع أهل زمانه أن يقاوموه، فهو الذي جدد مذهب أهل السنة، فرحمه الله وأكرم مثواه.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله:
الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير (فا طر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) ، له الأسماء الحسنى والصفات العلى (الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (طه:5-7) .
شرح:
نبدأ في شرح هذه المقدمة ثم ما بعدها، فقد ذكرنا في مقدمة الشرح سبب تأليفه لها، وهو أنه فقيه أشغل وقته في الفقه، ويظهر ذلك في مؤلفاته، ولكن لم يمنعه أشتغاله بالفقه أن يكتب في العقيدة، فألف فيها عدة مؤلفات، ولكنها نبذ صغيرة، وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله، صاحب المؤلفات في الفقه؛ كالمغني، والكافي، والمقنع، والعمدة، والروضة، وغيرها من المؤلفات.
يقول في هذه المقدمة: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن) .(63/18)
أولاً: ابتدأ كغيره بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، حيث بدأ بالبسملة، وبدأ بالحمد لله وعملاً بالحديث المشهور: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله) ، وفي رواية: (بالحمد لله) (فهو أبتر) ، أو (أقطع) ، أو (أجذم) ، والمعنى أنه ناقص البركة.
يذكر المؤلفون هذا الحديث في مقدمات شروحهم كما ذكره البهوتي في مقدمة شرحه على زاد المستقنع، وشرحه على الإقناع، وشرحه على المنتهى، وغيره. ثم بعد ذلك ابتدأ بالحمد لله.
والحمد في اللغة: الثناء على الإنسان، كالثناء عليه بخصاله الحميدة، وبعقله، وبديانته، وبأمانته، وبكرمه، وبجوده، وبحلمه، وبصفحه، وبصدقه، يعني بالخصال التي يحمد عليها، التي يبالغ في الثناء عليه لأجلها، فهذا الثناء يسمى حمداً.
فإذا أثنى عليه بأشياء لا صنع له فيها كما لو أثنى عليه بأنه جميل، أو طويل، أو قصير، أو لجمال صورته، وطول قامته، وفصاحته، وذكائه ونحو ذلك، فهذا الثناء يسمى مدحاً.
والفرق بين المدح والحمد:
الحمد: الثناء بالصفات التي تخلق بها، كالصدق، والأمانة، والعلم، والحلم، وما أشبهها.
وأما المدح: فهو الثناء عليه بالصفات التي جبل عليها، ولا صنع له فيها كالجمال، والطول، والخلقة، وما أشبه ذلك.
فالله تعالى يثنى عليه بكل الصفات، فيثنى عليه بصفات الكمال، وبصفات الجمال، وبصفات الأفعال. فيستحق أن يثنى عليه بكل الصفات، فهو أهل للحمد، وهو المستحق له، ولأجل ذلك حمد نفسه في كثير من السور كالفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وسورة فاطر، ابتدأها الله بالحمد لله رب العالمين.(63/19)
وكذلك أخبر بأنه المستحق للحمد، وبأنه يُثنى عليه بالحمد في قوله تعالى: (وقيل الحمد لله رب العالمين) (الزمر:75) ، (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) (يونس:10) ، وغير ذلك، وكثرة ذكر الحمد دليل على أنه ذكرٌ يذكر به الله، ويمدح به، ويثنى عليه به، وأنه يحبه ويحب من يحمده، ويحب من يثني عليه ويثيبهم على ذلك، وأنه أهل للحمد وأهل للثناء.
أما تعريف الحمد في الاصطلاح: فذُكر له تعريفان:
التعريف الأول: إن الحمد فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد وغيره، وهذا كأنه يختص بحمد المنعم يعني لا يحمد إلا بسبب كونه منعماً، وأن الحمد فعلٌ ينبئ عن تعظيمه.
ولا شك أنه مستحق للتعظيم، ولا شك أن الحمد تعظيم، ولكن الصحيح أن الله تعالى يحمد على كل حال، يحمد على الخير، ويحمد على الضرر، وذلك أنه إنما يسلط الضرر والشر أو البلاء لحِكَمٍ هو أعلم بها، فلأجل ذلك يحمد على الخير، ويحمد على الشر.
ولا يحمد على الشر سواه، وذلك أنه لا يبتلي بالشر كالمصائب والآفات والفقر والأذى والأمراض ونحوها، إلا لحكم ومصالح، فلأجل ذلك تحمده إذا أصابك مرض وألم، وإن أصابك فقر أو أذى فإنك تحمده على ذلك، وإن أصابك سجن أو جلدٌ أو أذى من خلق يسلطهم الله عليك فإنك تحمد الله على ذلك.
وإن كان ذلك لا يستدعي الفرح بذلك، ولا الرضا به، وبكل حال فهذا يبين أن في هذا التعريف شيء من الخلل وهو قولهم: إنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد، وغيره، فالله تعالى يعظَّم لكونه منعماً، ولكونه مبتلياً.
التعريف الثاني للحمد: أن الحمد ذكر محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله.(63/20)
ولعل هذا التعريف أسلم، ولكن الحمد لا يستلزم أن تذكر المحاسن كلها، ولكن إنما يحمد حمداً مطلقاً، فتقول: الحمد لله، ولو لم تذكر محاسنه التي حمدته عليها، فقولهم: ذكر محاسن المحمود، كأنهم يقولون: إن ذلك على وجه الإجمال، نحمده أي نذكر محاسنه سواء بالقلب أو باللسان، فمثلاً في أول سورة الفاتحة ابتدأها الله بقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) (الفاتحة:1) هذا من محاسنه (الرحمن الرحيم) (الفاتحة:2) هذا من محاسنه (مالك يوم الدين) (الفاتحة:3) هذا من محاسنه، وكذلك في سورة الأنعام: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض) (الأنعام:1) ، هذا من محاسنه، وفي أول سورة الكهف (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) (الكهف:1) هذا من محاسنه، (ولم يجعل له عوجاً) (الكهف:1) هذا من محاسنه، وأشباه ذلك.
والحمد هو ذكر محاسن المحمود وذكر فضائله، وذكر صفاته الحميدة مع حبه وتعظيمه وإجلاله، أي إن الحمد يستدعي من الحامد هذه الثلاثة: الحب، والتعظيم، والإجلال.
فهذان التعريفان اصطلاحيان للحمد، ولا شك أنه سبحانه أهل الحمد كما شرع ذلك في الصلاة، فالمصلي إذا رفع من الركوع يقول الإمام: سمع الله لمن حمده، والمأمومون والإمام كلهم يحمدون الله، ويقولون: (ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) كل ذلك في صفة الحمد.(63/21)
ولا شك أن العبد إذا حمد الله، كان قد عبده بهذه الكلمة (الحمد لله) ، واجتمع كونه معظماً له، ومحباً، ومجلاً له بهذه الكلمة، فقد أدى عبادة، وأي عبادة، وإن كان للحمد أيضاً أسباب إذا تجددت نعمة فإنك تحمده عليها ونعم الله تجدد بالغدو والآصال كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمده عليها) . وأينا يستغني عن الأكل والشرب في اليوم عدة مرات، إذن فإذا تجددت هذه النعمة، فإنك تحمده عليها.
كذلك أيضاً تقول بعد الفراغ من التخلي: (الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عني أذاه) ، أو بعد الخروج من الخلاء فتقول: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) ، فلا يستغني الإنسان أن يحمد الله في كل الحالات، إذاً فالله تعالى محمود دائماً إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال.
وقوله: الحمد لله المحمود بكل لسان، قد تقول: كيف يكون ذلك مع أن كثيراً من الألسن لا يعرفون الله، أولا يعترفون بفضله فضلاً عن أن يحمدوه؟
والجواب: أن الألسن ناطقة بحمده إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال، فألسنة الكفرة ولو كانت لا تذكر الله، ولو كانوا ينسبون النعم إلى غير الله، ولو كانوا يكفرون به وبنعمه، ولو كانوا يصرفون العبادة لغيره، ولكن لسان حال أحدهم متعرف بأنه محتاج إلى رب، وأنه لا يستغني عنه طرفة عين، لسان حال أحدهم معترف بأنه مخلوق مفتقر إلى الخلاق، وذلك الخالق له الفضل عليه، فلا بد أن يكون صاحب الفضل أهلاً أن يثنى عليه، وأهلاً أن يحمد إذاً، فهو حامد بلسان حاله شاء أم أبى.(63/22)
فهذا دليل على أن الله تعالى: محمود بكل لسان، من لسان حال، أو لسان مقال، وقد ذكر الله تعالى أن جميع المخلوقات ذليلة له كما في قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) (الجمعة:1) ، (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة) (النحل:49) ، (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض) (الحج:18) ، إلى آخر آيات السجود.
والتسبيح لا شك أنه عبادة، وأنها قطعية الحصول، ولو كرهاً، ولهذا قال تعالى في آية الرعد (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم) (الرعد:15) يعني وإن لم يسجدوا فإنه يسجد ظلالهم، إذا فهم يعترفون شاءوا أم أبوا بأنهم خاضعون وذليلون لله تعالى.
قوله:
الحمد لله بكل لسان، المعبود في كل زمان.
شرح:
لا شك أنه سبحانه مستحق أن يعبد في كل زمان، وما ذاك إلا أنه رب العباد في كل الأزمنة، والرب هو المعبود، ولأجل ذلك أمر عباده بأن يعبدوه لكونه رباً، يقول الله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) (البقرة:21) بدأ بكونه رباً، وما دام أن الخلق كلهم مربوبون فإن عليهم أن يعبدوا ربهم، فالرب تعالى معبود في كل زمان. وإن كان هناك من لا يعبد الله عبادة حقيقية كالكفار والمنافقين ونحوهم، ولكنهم في الأصل عبيد لله لا يستغنون عن التعبد له.
وأيضاً فمعلوم أن كل زمان من الأزمنة لا تخلو فيها الأرض عن أن يوجد فيه عباد عابدون، ولو خليت بلاد لم تخل البلاد الأخرى، ولو خلي يوم لم يخل اليوم الثاني، فلابد في زمان وساعة، ومن وجود من يعبد الله، فالله تعالى معبود في كل زمان.
قوله:
الذي لا يخلو من علمه مكان ولا يشغله شأن عن شأن.
شرح:(63/23)
فهذا مبدأ الدخول في الصفات، بدأ في صفات الله تعالى بهذه الجملة: (لا يخلو من علمه مكان) معلوم لكل مؤمن أن ربنا سبحانه وتعالى مطلع علينا وعالم بأحوالنا ويعلم أسرارنا وعلانيتنا فلأجل ذلك يذكر دائماً هذا الأمر مثل قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق:16) يعلم الله خطرات النفس ووساوس الصدر، وهواجس القلب بل يعلم أخفى من ذلك.
فسر بعض العلماء قوله تعالى: (يعلم السر وأخفى) (طه:7) أن السر: ما أضمره العبد في قلبه ولم يحرك به شفتيه فضلاً عن أن يتكلم به عند أحد، وأخفى من السر هو ما سوف يخطر له فيما بعد، قبل أن يحدث به نفسه، ولكن الله يعلم أنه سيفعله فيما يُستقبل أو سيخطر بباله.
إذاً فالله تعالى، لا يخلو من علمه مكان أية مكان صغير أو كبير يعلم ما يكون فيه، يعلم من يكون في هذا المكان، وعددهم، ونياتهم وأسرارهم، وعلانيتهم، ولا يشغله هذا عن المكان الثاني وعن البلاد الثانية، وعن أهل السماوات وعن أهل الأرض، فإنه كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن، يعلم كل مكان وما يحدث فيه.
قلت: إن هذا أول ما بدأ في الصفات حيث ذكر علم الله تعالى، وأنه واسع ومحيط بالأشياء، وعليم بها، ويفسر ابن قدامة رحمه الله بهذه الكلمة (الآيات التي فيها المعية) يشير إلى أنها محمولة على العلم كقوله: (وهو معكم أين ما كنتم) (الحديد:4) .
ذلك معية العلم والاطلاع والقرب والهيمنة، والقدرة، والنظر، والرؤية، وهو معكم أين ما كنتم يراقب ويطلع عليكم، ويعلم أسراركم، ويعلم أعمالكم، وكذلك قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) (المجادلة:7) يعلم ما يسرونه وما يتناجون به.(63/24)
ولعل ابن قدامة رحمه الله يرد بهذه الجملة على المعتزلة والحلولية والفلاسفة والكثير من الصوفية والجهمية، فهؤلاء عقيدتهم -والعياذ بالله- إنكار صفة العلو، وادعاء أن الله بذاته في كل مكان، فلذلك قال: (لا يخلو من علمه مكان) رداً على من يقول: إنه بذاته في كل مكان، وهذا قول الحلولية الذين يدعون أنه حال بذاته في المخلوقات كلها، وهذا عين الكفر وعين الجحود، فإن الرب تعالى بائن من خلقه مع كونه مستوياً على عرشه.
قوله:
ولا يشغله شأن عن شأن.
شرح:
يقول بعض الخطباء في الثناء على الله تعالى: لا تشتبه عليه اللغات، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات، وتفنن المسؤولات.
هذا معنى لا يشغله شأن عن شأن، لا يشتغل بسماع هذا عن هذا، بل يدعوه مئات الألوف وألوف الألوف في لحظة واحدة، ويسمع دعاءهم، ويعرف حاجاتهم، ويعرف مطالبهم، ويجيب من يجيبه منهم، ويعطيه سؤله، ولا شك أن هذا يستلزم أنهم يعظمونه إذا عرفوا أنه المستحق لهذا التعظيم، وأنه بهذه الصفة بحيث لا يشغله شأن عن شأن، فإن ذلك يحملهم على أن يطيعوه وأن يعظموه، ويجلوه، ويعتقدوا أنه ربهم ومالكهم، وأنه هو المعبود وحده.
قوله:
جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد.
شرح:
هذه الجملة يؤخذ منها صفات السلب وصفات النفي، فإن صفات الله صفات سلبية، أو صفات ثبوتية، ولكن إذا أتت الصفات السلبية استلزمت الصفات الثبوتية، وإلا فالسلب المحض لا يمدح الله به نفسه حتى يتضمن صفة ثبوت يمتدح بها.(63/25)
فإن المدح إنما هو بالصفات المثبتة لا بالصفات المنفية، فإذا قال مثلاً: جلَّ عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، فهذا نفي، وقد نفى الله ذلك عن نفسه في عدة آيات، كقوله تعالى: (ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً) (الجن:3 () ، وكقوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحدا) (الإخلاص:4) ، وكقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً) (البقرة:22) ، وكقوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال) (النحل:74) ، وكقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) ، وكقوله تعالى: (هل تعلم له سمياً) (مريم:65) .
هذه كلها نفي وسلب، ولكن يمدح نفسه بهذا السلب لأنه يتضمن ثبوت أضداد هذه الصفات، وكذلك قوله تعالى (ما اتخذ صاحبة ولا ولداًَ) (الجن:3) ، وكقوله تعالى: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل) (الإسراء:111) .
كل ذلك يستدعي صفة ثبوتية هي التفرد والوحدانية التي تستلزم الكمال فإنه إذا كان واحداً فرداً صمداً تصمد إليه القلوب، وتتوجه إليه الرغبات، ومع ذلك هو محيط بالمخلوقات، وعالم بها، ومع ذلك هو خالقها، ومدبرها وحده، أليس ذلك دليل العظمة؟ أليس ذلك دليل الكبرياء؟ لا شك أنه إذا تنزه عن أن يحتاج إلى صاحبة -يعني زوجة- لا يحتاج إلى ولد، لم يلد ولم يولد، وقد نزه الله نفسه عن الولد، وأخبر بأن هذه فرية قالها المشركون، وأنها أعظم فرية وأكبرها، قال تعالى: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً) (مريم:90-92) .
يعني أن مقالتهم هذه تكاد أن تتفطر لها السماوات، وتنشق لها الأرض، وتخر لها الجبال، وتتفطر لها المخلوقات العظيمة لعظم شناعتها، حيث جعلوا لله تعالى ولداً مع أنه مستغن عن الولد والوالد والشريك والنظير والمثيل والند والكفؤ؛ لماذا؟(63/26)
لأن هذه الأشياء تستلزم الحاجة، أو تستلزم المثلية، تستلزم أنه بحاجة إلى الولد كالإنسان الذي بحاجة إلى ولده يسانده ويساعده ويقوم مقامه، ويعينه عند عجزه، ويخلفه بعد موته.
والرب تعالى ليس كذلك، وليس بحاجة إلى الولد ولا إلى الزوجة، ولا إلى شريك، فهو له الكمال المطلق، إذاً فنفي الصاحبة يستلزم عدم الحاجة ويثبت الغني، وكذلك نفي الولد يلزم منه إثبات الكمال، وكذلك نفي الشريك، ونفي الند، ونفي المثيل، وما أشبه ذلك.
وردّ أيضاً على من أثبت ذلك من المشركين ونحوهم كقوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) (التوبة:30) ، وقوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم) (الزخرف:19) . وقوله تعالى: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * اصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون* (الصافات:149-154) ، وكقوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) (الصافات:158) .
زعم بعض جهلة العرب: أن الملائكة بنات الله، وأن بينه وبين الجنة نسباً، تعالى الله عن قولهم ذلك كله؛ فردّ عليهم، وأثبت وحدانيته، فبذلك نعرف أن كل نفي فإنه يستدعي ثبوتاً، وإلا فالنفي المحض ليس بمدح.
رد شيخ الإسلام رحمه الله في رسالته (التدمرية) في قاعدة من القواعد على من يصف الله تعالى بالصفات السلبية التي هي عدم محض، وكذلك في كثير من كتبه، وأخبر في (الحموية) أن الله بعث رسله بنفي مجمل، وإثبات مفصل، وأن الإثبات يقصد بذاته والصفات الثبوتية مقصودة لذاتها.(63/27)
وأما الصفات السلبية فمقصودة لغيرها، والله تعالى نزه نفسه بقوله تعالى: (ما اتخذ صاحبة ولا ولداً) (الجن:3) ، (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء) (الأنعام:101) ، فإذا نزه نفسه عن مثل هذا دل على صفة الكمال، وتنزه عن الشركاء والأمثال، وذلك يثبت وحدانيته حتى لا يعبد غيره.
وفي الآية التي في سورة سبأ يقول ابن القيم رحمه الله: إنها قطعت جذور الشرك يعني عروقه، وهي قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (سبأ:22-23) .
فنفى أربع حالات:
الملك ملك استقلال، فأما ما تملكه أنت من متاعك أو منزلك فليس ملك استقلال؛ لأنك أنت وهو ملك لربك وخالقك، أي لا يملكون ولو مثقال ذرة، فكيف يُعبدون؟.
وقد يقول قائل: نسلم أنهم لا يملكون، وأن الملك لله، قال تعالى: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) (غافر:16) لكن يمكن أن يكون لهم شركة أي يمكن أن يكونوا شركاء الله فنفى ذلك بقوله تعالى: (وما لهم فيهما من شرك) (سبأ:22) ، ولو شراكة في مثل الذرة.
وقد يقول قائل: نسلم أنهم لا يملكون وليسوا شركاء، ولكن يمكن أنهم أعوان لله، أي أنهم أعانوا لله في إيجاد الموجودات، فنفى ذلك بقوله تعالى: (وما له منهم من ظهير) (سبأ:22) ، أي من معين ليس لله تعالى مظاهر ولا مساعد، ولا معين في إيجاد الموجودات بل هو المنفرد بذلك وحده؛ وإذا كان كذلك فإنه المستحق لأن يعبد وحده.
ثم نفى الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، حتى لا يقولوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.(63/28)
فإذا انتفى الشريك وانتفى الولد، وانتفى المعين، ونفيت الصاحبة، ونفي الند والنظير والكفؤ؛ أثبتت صفات الوحدانية والتفرد، فهذا مقتضى هذه الصفة، وهي أننا ننفي هذه النقائص حتى نثبت الوحدانية التي هي صفة كمال لا يشاركه في هذا الكمال ولا في هذه الوحدانية أحد، ولأجل ذلك من أسماء الله (وإلهكم إله واحد) (البقرة:163) ، إثبات للوحدانية، وقوله تعالى: (قل هو الله أحد) (سورة الإخلاص:1) إثبات الأحدية، والأحد مبالغة في الوحدانية يعني هي أبلغ من أن يقول: (قل هو الله واحد) أحد: أي منفرد بالأحدية لا يشاركه في هذه الصفة غيره.
فإذا اعتقد المسلم ذلك عرف أنه المستحق لأن يعبد؛ جل وتنزه عن الشريك، وعن الصاحبة، وعن الند، والنظير، والمثيل.
قوله:
نفذ حكمه في جميع العباد.
شرح:
هذه صفة ثبوتية، فبعد ما ذكر الصفات السلبية ذكر الصفة الثبوتية، وهي أن حكمه ذاهب في جميع العباد، قال تعالى: (إن الحكم إلا لله) (يوسف:40) : حكمه: أمره وتدبيره وتصرفه، لا راد لحكمه، ولا معقب لحكمه، ولا لقضائه، نفذ حكمه في جميع البلاد، وفي جميع العباد، وله الحجة في ذلك، ولله الحجة البالغة (قل فلله الحجة البالغة) (الأنعام:149) ، فكونه يحكم فيهم بما يشاء معناه أنه يتصرف في ملكه لأنهم خلقه، ولأنهم ملكه، ولأنه المتصرف بهم وحده. فإذا كانوا ملكه فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وحكمه نافذ فيهم شاءوا أم أبوا، هذا هو الأصل في أن حكم الله تعالى نافذ في الخلق كلهم أولهم وآخرهم، هذه كما قلنا صفة ثبوتية تثبت أن الحكم لله، ويعرف الفقهاء والأصوليون الحكم بأنه: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.(63/29)
أما حكم الله تعالى فهو تقديره وتنفيذ قدره، فإذا قدر أمراً نفذ قدره أياً كان تقديره وتدبيره، وتصرفه هذا هو حكمه، ويمكن أن يكون حكمه أمره ونهيه، وإن كان قد يأمر من لا يفعل، فقد أمر الكفار بالإيمان، فما آمنوا، وأمر العصاة بالطاعة فعصوا، فهل يسمى هذا حكماً؟ نسميه حكماً شرعياً لا حكماً قدرياً بمعنى أن الحكم النافذ الذي لابد من وجوده هو الحكم القدري، هو الحكم الذي قضاه وقدره في الأزل، وحكم بوجوده، فلا راد له، وأما الحكم الشرعي وهو أنه شرع هذه الأحكام، وشرع الأوامر والنواهي وشرع الطاعات وحرم المحرمات، فهذا حكم شرعي ينفذ فيمن قدر الله إيمانهم لا فيمن قدر الله عصيانهم.
قوله:
لا تمثله العقول بالتفكير.
شرح:
من هنا أخذ أيضاً يبدأ في الصفات السلبية.
نعرف قبل ذلك أن قاعدة أهل السنة، أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم: وذلك لأنه أعلم بنفسه وأعلم بخلقه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بمن أرسله، فيقتصر في بعض الصفات ثبوتية أو سلبية على ما ورد، فقوله: (لا تمثله العقول بالتفكير) معناه أن القلوب تعجز عن أن تصل إلى مثل تمثيله، ولعل الدليل على ذلك قوله تعالى: (ولا يحيطون به علماً) (طه:110) أي مهما فكروا، ومهما سألوا لا يحيطون به علماً، يعجزون عن أن يمثلوا بعقولهم ذاته سبحانه.
كذلك لا تحيط به الظنون ولا العقول بالتفكير، ومن أدلة ذلك قوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) (البقرة:255) ، أي لا يصلون إلى علم من صفته إلا بما أوصله إليهم، فإذا لم يشأ لن يستطيعوا أن يصلوا إليه وكيف يعلمون صفة ذاته سبحانه مع أنه قد احتجب عن أن تصل إليه العلوم، أو الأوهام، أو التفكيرات، أو نحوها، وأخبر بعدم مماثلته لمخلوقاته بقوله: (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) .(63/30)
وقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثلين في التدمرية يبين فيهما عجز الإنسان عن أن يصل تفكيره إلى تكييف الذات الربانية.
المثال الأول: مخلوقات الجنة، مع أنها مخلوقات، ولكن لا ندري ما كيفيتها، قصرت عنها أفهامنا، فقد ذكر الله أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا لا تدركه أفهامنا ولا تخيلاتنا، كيف يجري الماء على وجه الأرض، ولا يسيح ولا ينبسط في الأرض، أمر الله أعظم، وقدرة الله أعظم، وكذلك جميع ما ذكر في الجنة.
المثال الثاني: الروح التي بها حياة البدن عجزت الظنون عند تفكيرهم فيها، وعجزت العقول عن إدراك ماهيتها، فردوا عقولهم ووقفوا عند قوله تعالى: (قل الروح من أمر ربي) (الإسراء:58) ، نحن نعرف أن الإنسان مركب من جسد وروح، فإذا خرجت الروح بقي الجسد جثة ليس فيه روح، وما هي هذه الروح؟ لا ندري عن ماهيتها، ولا ندري ما كيفيتها، عجزنا عن إدراكها، فكذلك بطريق الأولى عجزت عقولنا عن إدراك كيفية ذات الرب سبحانه، فهذا معنى كونه لا تمثله العقول، ولا القلوب بالتفكير، ولا تتوهمه، ولا تتخيله، ولا تصل إلى كيفية ذاته، بل كل ما خطر من صفةٍ للرب في بالك فإنه على خلاف ذلك.
ومهما خطر في بالك أن استواءه كذا، وأن كيفية نزوله كذا، وأن كيفية ذاته كذا وكذا، فإن الرب بخلاف ذلك، ليكون ذلك دليلاً على عجز هذه المخلوقات عن إدراك كنه ذاته، وعن معرفة ماهية ذاته فضلاً عن تحققها.(63/31)
ومعلوم أن جميع الذين يدينون بالإسلام، أو يدينون بالعبودية لله تعالى؛ مسلم وكتابي وغيرهم، يعتقدون أن هذا الوجود لابد له من موجد، وأن الموجد الذي أوجده واجب الوجود، وقد اطلعنا على ذلك، ولكن باصطلاحات وبعبارات فلسفية منطقية، ويكفي أن نستدل على ذلك بقوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) (الطور:35) ، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير شيء، ولم يكونوا هم الخالقين تعين أن لهم خالقاً، والخالق لابد أن يكون غنياً عما سواه وما سواه فقير إليه.
وإذا كان كذلك فإن الخالق سبحانه لا يمكن أن يشابه المخلوق الذي تعتريه الآفات والتغيرات والنواقص التي تنزه عنها الخالق سبحانه، نزه نفسه عن الموت كما في قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) (الفرقان:58) ، ونزه نفسه عن النوم، وعن النعاس، قال تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) (البقرة:255) ، السنة هي النعاس، وهو مقدمة النوم وما أشبه ذلك.
فهذه صفات تبين تنزهه عن مشابهة المخلوقات، وتنزهه عن أن تدركه عقول المخلوقين، أن يعرفوا كيفية صفة من صفاته فضلاً عن كيفية ذاته.
ثم استدل بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) ، فهذه الآية رد الله فيها على الطائفتين الممثلة والمعطلة.
أولها رد على الممثلة: (ليس كمثله شيء) وآخرها (وهو السميع البصير) رد على المعطلة، ولأجل ذلك كان آخرها ثقيلاً على هؤلاء المعطلة حتى روي عن رئيس من رؤسائهم وهو ابن أبي دؤاد أنه قال للخليفة المأمون: أحب أن تكتب على الكعبة، أو على كسوة الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، أراد أن يحرف القرآن؛ لأن كلمة وهو السميع البصير، تطعن في معتقد ابن أبي دؤاد الذي ينكر السمع والبصر، بل ينكر كل الصفات الذاتية، والصفات الفعلية، فلذلك ذكر ابن قدامة في مقدمة كتابه هذه الآية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) .(63/32)
والممثلة هم الذين يقولون: إن صفات الله كصفات المخلوقين، فيجعلون لله يداً كيدنا، ولله وجهاً كوجهنا، ولله قدماً كقدمنا، ولله كذا وكذا؛ تعالى الله عن ذلك، فرد الله عليهم بهذه الآية، وبآيات أخرى كقوله تعالى: (هل تعلم له سمياً) (مريم:65) يعني شبيهاً ومثيلاً، وكقوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال) (النحل:74) ، وينزه الله تعالى نفسه عن أن يكون له مثل.
وقد تكلم العلماء على هذه الآية، وقالوا في (كاف) (ليس كمثله) : إن الكاف صلة لتأكيد النفي، وأن المراد بالمثل الذات كما يقولون لمن يمدحونه: مثلك لا يغضب، ومثلك يحكم، ومثلك يعطي، يريدون أنت، فالمعنى: ليس كهو شيء، ليس شيء كهو أي مماثلاً له.
وعبر بعضهم بالزيادة في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أن الكاف زائدة حتى لا يفهم أن لله مثلاً، يعني أنه قد يخاف أن لله تعالى مثلاً، فيقال: ليس مثل مثل الله شيء، والصحيح أنه لا يقال في القرآن زائد، ولا لغو، فالقرآن كله حق، وكل حرف منه فيه فائدة، فإذاً نقول: إن الكاف صلة لتأكيد النفي، نفي المثلية، وسمعت من بعض المشايخ في التعبير عن الزيادة يقال:
وسم ما يزاد لغواً أو صله أو قل مؤكدا وكل قيل له
لكن زائداً ولغواً يجتنب إطلاقه في منزل فذا وجب
يعني أنه يعبر عنها بأربع عبارات: زائد، أو لغو، أو صلة، أو مؤكد، ولكن لا يطلق في القرآن كلمة زائد تنزيهاً للقرآن أن يكون فيه شيء زائد يمكن الاستغناء عنه، ومع ذلك تجدون كثيراً من المفسرين يطلقون فيه الزيادة، ومنهم صاحب تفسير الجلالين جلال الدين المحلي عندما أتى على هذه الآية، قال: الكاف زائدة لأن الله تعالى لا مثل له، فلو قال مؤكدة، أو قال صلة لتقوية النفي لكان أبلغ.(63/33)
وبكل حال؛ فالآية أفصحت عن نفي المثل لله تعالى، ولكن أفصحت أيضاً عن إثبات صفة السمع وصفة البصر، وتجدون في كتب النفاة تكرار هذه الآية (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) ، لأنه ليس كمثله شيء، ولا يأتون بأخرها لأنه حجة عليهم، وبكل حال، الأصل أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ونثبت لله صفات الكمال، وننزهه عن صفات النقص.
قوله:
له الأسماء الحسنى والصفات العلى (الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (طه:5-7) .
شرح:
هذا من جملة العقيدة ندين بأن له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ونعتقد أن أسماء الله تعالى كلها حسنى، وأن صفاته كلها عُلى أي رفيعة المعنى، ورفيعة المدلول، ذكر الله تعالى: أن له الأسماء الحسنى في ثلاثة مواضع: في سورة الأعراف: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (الأعراف:180) ، وفي سورة طه: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) (طه:8) ، وفي سورة الحشر: (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى) (الحشر:24) .
يعتقد أهل السنة أن الله تعالى سمَّى نفسه بأسماء وسماه بها رسله عليهم الصلاة والسلام، وأنها كلها حسنى، والحسنى مبالغة في الحسن أي أنها حسنة رفيعة المعنى جليلة القدر.
وقد ورد في الحديث المشهور الذي في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين أسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة) ، ثم في رواية الترمذي وغيره سرد الأسماء إلى أن وصلت إلى تسعة وتسعين، ابتداء بالأسماء التي في آخر سورة الحشر: الرحمن الرحيم الملك القدوس إلى آخرها.(63/34)
ورجح العلماء أن سردها ليس مرفوعاً، وإنما هو من بعض الرواة جمعوها من القرآن، ومن الأحاديث، وقد تتبعها كثيرٌ من العلماء من الأدلة والنصوص، وجمعوا ما فيها من الأسماء كما فعل ذلك ابن القيم في (الصواعق المرسلة) ، وقبله البيهقي في الأسماء والصفات وتبعهما الحافظ الحكمي في (معارج القبول شرح سلم الأصول) وجمعها أيضاً: ابن حزم في (المحلي) ، ولكنه اقتصر على ما صح عنده، وأدخل فيها بعض الأسماء التي لم تثبت أنها أسماء؛ أخذ من قوله: (وأنا الدهر) أن الله يسمى بالدهر، وهذا خطأ.
وبكل حال؛ يعتقد المسلمون أن الأسماء كلها حسنى، وأنه يدعى بها، ويعتقد المسلمون أن أسماء الله كثيرة لا تنحصر لأن الله تعالى أجملها في هذه الآيات، ولم يذكر لها عدداَ.
وأما الحديث: فليس فيه أنها محصورة في تسعة وتسعين اسماً، وإنما أخبر بأن من أسمائه ومما تسمى به تسعة وتسعين اسماً، اختصت بأن إحصاءها سبب لدخول الجنة، وإلا فلله أسماء كثيرة كما في الحديث الذي في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم: علم أصحابه دعاءً يدعون به، وأوله: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) .
فأخبر بأن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب، فدل على أن أسماء الله ليست محصورة بل هي كثيرة.
ثم المراد بإحصائها في قوله: (من أحصاها دخل الجنة) ليس هو مجرد حفظها لكنه اعتقاد صحتها والعمل بها، واعتقاد مدلولها، فإن كل اسم دال على صفة.(63/35)
ذكر العلماء أن كل اسم من أسماء الله له ثلاث دلالات: دلالة على الذات، ودلالة على الصفة المشتقة منه، ودلالة على بقية الصفات، وتسمى دلالته على الذات (دلالة مطابقة) ، ودلالته على الصفة المستنبطة منه (دلالة تضمن) ، والدلالة على بقية الصفات (دلالة التزام) .
فمثال ذلك من أسماء الله (الرحمن) كما سمَّي نفسه به في عدة مواضع، هذا الاسم لا ينطبق إلا على الله إذا قيل الرحمن انصرفت الأفهام إلى الرب تعالى، فهو دال على ذات الرب بالمطابقة أي إنه اسم للذات الربانية لا يدل إلا على الله ولا يصح إلا لله تعالى كما إذا قلنا: (محمد) على الإطلاق فإنه ينصرف إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فدلالته دلالة مطابقة.
كما أن دلالة الرحمن، والرب، والعزيز على الله تعالى دلالة مطابقة، فالنظر في الرحمن أليس دالاً على صفة؟ إنه مشتق من الرحمة، فدلالته على الرحمة التي هو مشتق منها نسميها دلالة تضمن، أي في ضمن هذا الاسم (الرحمة) كما أن العزيز فيه صفة العزة، والغفور فيه صفة المغفرة، والحكيم فيه صفة الحكمة، والوهاب، والرزاق، والحكم، والعدل كل اسم منها دال على صفة اشتقت منه فهذه دلالة تضمن، أي هذه الصفة في ضمن هذا الاسم.
أما دلالته على بقية الصفات، وعلى بقية الأسماء، فإنك تقول مثلاً: إذا سمي الله تعالى بالعليم فإن ذلك يستلزم الغِنَى والغفران والسمع والبصر، وهكذا يلزم من اتصافه مثلاً بالسميع أن يكون بصيراً، ويلزم من اتصافه بالسميع أن يكون غنياً، وأن يكون رحيماً، وأن يكون حكيماً، لأنه إذا لم يتصف بذلك كان ذلك نقصاً في صفة الرحمة.
أي كيف يكون رحيماً وليس بغني، وكيف يكون رحيماً وليس بعزيز، وكيف يكون رحيماً وليس بسميع بصير، وكيف يكون رحيماً وليس بمتكلم، وكيف يكون رحيماً وليس بحكيم، وهكذا.(63/36)
فهذه دلالة التزام، إذا آمن المسلم بهذه الأسماء الحسنى، فمعناه أنه يعتقد دلالتها يعتقد أن الله مسمى بالرحمن، وأنه متصف بالرحمة، وتسمى بالعزيز واتصف بالعزة، وتسمى بالحكيم واتصف بالحكمة، وتسمى بالسميع البصير، فيعتقد ذلك كله.
إذا فعل ذلك فقد أحصى هذه الأسماء، وإذا أحصاها واعتقد معناها، لزم من ذلك أن يدين بمقتضاها لأنه إذا دان أن الله سميع وسع سمعه الأصوات، ماذا تكون حالته؟ أليس يخاف الله ويرجوه، وإذا دان أن الله بصير لا يستر بصره حجاب ماذا تكون حالته؟ أليس يراقبه ويعبده؟ ويرجوه ويخافه؟ ويطيعه ويبتعد عن معصيته، إذا فعل ذلك، فإنه تقي نقي يكون ممن يرجى له الجنة والنجاة من عذاب الله، فعرف بذلك أن إحصاءها التزام جميع الطاعات والبعد عن جميع المعاصي.
قوله:
والصفات العلى.
شرح:
إن صفات الله تعالى تليق به، وقد وصف نفسه بصفات كلها عُلى، ولكن معلوم أن هذه الصفات تختص بالموصوف بها، فلا يجوز أن تكون كصفات الخلق التي هي ناقصة ويعتريها التغير، ويعتريها الفقد، فكم من إنسان قوي عاقل ذكي، ولكن ينقصه صفات أخرى كالغني أو الجود أو الحكمة، والقوة أي هو ضعيف وفقير وضرير وأصم وأبكم ... ، فقد تعتري الإنسان صفات النقص، ولكن صفات الله تعالى لا يعتريها نقص ولا تغير بل هي غاية الكمال.
فإذا وصفنا الله تعالى بالسمع والبصر، فإنا نقول: إن سمعه ليس كسمع خلقه، وبصره ليس كبصر الخلق، فالإنسان لا يبصر ما وراء الحجب، ولا ما وراء الحيطان ونحوها، فإنه يستر بصره أدنى ساتر، والرب تعالى: لا يستر بصره حجب، والإنسان سمعه مقصور على ما قرب منه، ولا يسمع ما بعُد، وتشتبه عليه اللغات، وتشتبه عليه الكلمات، والرب تعالى ليس كذلك.(63/37)
وإذا وصفنا الله تعالى بالصفات الفعلية فإنها كلها صفات رفيعة، إذا وصفناه بأنه هو العلي، فقلنا له العلو بجميع أنواعه: علو ذات، وعلو قدر، وعلو قهر؛ إذا وصفناه بالفوقية. فكذلك إذا وصفناه مثلاً بالغنى وبالعطاء، وبالجود وبالكرم، وبالحلم وبالمغفرة فكلها في غاية الرفعة والمنعة، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.
وقد خالف في ذلك الأشاعرة مع شيوع مذهبهم وشهرته فهم يقرون بسبع صفات، وهي: السمع، والبصر، والكلام، والقدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، وينكرون بقيتها، فلا يقولون: إن الله موصوف بالصفات العلى جميعاً التي وصف بها نفسه، وهذا تنقص لله لأنهم أنكروا صفات أثبتها الله لنفسه، ولكنهم يقرون بالأسماء جميعاً، وإن كانوا ينكرون دلالة بعضها.
أما المعتزلة، فإنهم ينكرون الأسماء ويتأولونها أو ينكرون دلالتها فيقولون: إنها مجرد أعلام، كما لو أن إنساناً سمي بعدة أسماء، وتلك الأسماء مجرد أعلام يعرف بها شخص ذلك الرجل، يعني قد يسمى الإنسان بأسماء ولا تنطبق عليه صفاتها، أي ليس كل من سمي سعداً من أهل السعادة، وليس كل من سمي صادقاً يكون من أهل الصدق، وليس كل من سمي طاهراً يكون مطهراً، وليس كل من سمي مباركاً تكون فيه البركة، وقد يسمى الإنسان بسعد، وخالد، وزيد، ويسمى بعدة أسماء ولا تكون معانيها منطبقة أو مجتمعة فيه، وإنما سمي بها حتى يتميز عن غيره كما يوصف بلقب أو بنسب إلى قبيلة، ونسبة إلى بلد، ونحو ذلك فيقال مثلاً سعيد بن زيد بن درهم العبسي الكوفي اسم لشخص واحد سمي به حتى تعرف ذاته.
والمعتزلة يقولون: هذه الأسماء إنما هي لأجل معرفة الذات لا أنها دالة على صفات، ويصرح كثير منهم بنفي الصفات، ويقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة، رحيم بلا رحمة، تعالى الله عن قولهم.(63/38)
وإذا قرأت القرآن تجد أن الله تعالى يختم آية الرحمة باسم الرحيم، ويختم آية النقمة باسم العزيز، أو ما أشبه ذلك؛ مما يدل على أن معانيها مقصودة، هذا ما يدين به المسلمون.
قوله:
(الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (طه:5-7) .
شرح:
هذه الآيات من سورة طه دالة على صفات: الأولى على اسم الرحمن، وأنه على العرش استوى استواء يليق به، (ونؤجل الكلام على الاستواء حتى تأتينا الآيات التي فيها ذكر الصفات ومن جملتها هذه الآية) .
(له ما في السموات وما في الأرض) (طه:6) هذه أيضاً من صفات الكمال (له ما في السموات) (طه:6) ملكاً وخلقاً وعبيداً إذا قلت: لماذا عبر بـ (ما) التي لغير العاقل (له ما في السموات) مع أنه ورد في آيات (له من في السموات) (الحج:18) .
فالجواب أن (ما) قد تأتي للعاقل كقوله تعالى: (والسماء وما بناها) (الشمس:5) ، أو أنه عبر بـ (ما) نظراً للكثرة، فإن ما في السماوات وما في الأرض يدخل فيه الدواب والحيوانات، ودواب البحر، ودواب البر، والطيور والوحوش، وجميع المخلوقات، ويدخل فيه النباتات مع اختلافها، ويدخل فيه الجمادات: الجبال والأودية، والدور والقصور والأشجار، وما أشبه ذلك؛ فلذلك قال تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما) (طه:6) أي ما بين السماء والأرض من المخلوقات وما بين السماوات من المخلوقات كل ذلك له. ومعنى كونها له، أي ملك له، وهو الذي خلقها وأوجدها، وهو الذي يفنيها إذا شاء، ويغيرها ويبدل فيها ما يشاء؛ ويتصرف فيها كما يشاء، يمنع ويعطي، يريش ويبري، يميت ويحيى، يخفض ويرفع، يصل ويقطع، يتصرف فيها فهي إذاً له؛ أي ملكه.(63/39)
(له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) (طه:6) ، قيل: الثرى هو التراب الذي فيه النداوة والرطوبة، ففسر ما تحت الثرى تحت التراب، أو ما تحت التراب الندي -بالمياه في جوف الأرض، ولا يعلم ما تحته إلا الله، أو ما تحت الأراضين مع سعتها له كل ذلك.
(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (طه:7) هذا أيضاً من الصفات، يعني أنه سبحانه يعلم سر الأمر وخفيه.
السر: ما يضمره الإنسان ويكنه في نفسه، أخفى من السر: ما لم يخطر في باله، ولكن علم الله أنه سيخطر في باله فيما بعد، وسيحدث به نفسه، أو سيفعله، وإن لم يكن قد نواه يعلم ذلك كأنه قال: إن تجهروا أو تخفوا لا يخفي عليه أمركم، والجهر: هو رفع الصوت، وإن تجهر بالقول يعني وإن جهرت بالقول، أو أسررت به فالجميع مسموع لله تعالى ومعلوم له.
ثم وحد نفسه (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) (طه:8) كلمة لا إله إلا الله لها شروط، ولها أركان، ولها دلالات يطول بنا أن نفصلها، وشروحها -والحمد لله- واضحة، ومعناها لا معبود بحق إلا الله.
وقد ذكرنا أن الأسماء الحسنى عامة فيما سمى الله به نفسه من الأسماء، أو ورد في الأحاديث الصحيحة
مسألة: في صفات الإحاطة والعلم والقهر
قوله:
أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً) (طه:110) .
شرح:
الصفة الأولى: الإحاطة، هذه أيضاً من صفات الكمال، وهي من الدلالة على صفة العلم ونحوه، يقول الله تعالى في آخر سورة الطلاق: (وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) (الطلاق:12) .(63/40)
والإحاطة في الأصل: هي الاستيلاء على الشيء من كل جهاته، كأنه أُحيط من كل جهاته بحيطان منيعة فاستُولي عليه، ولكن تستعمل بمعنى الإتيان على الشيء من كل جهاته؛ أحطت بهذا يعني وصلت إلى نهايته، أي أتيت عليه حتى استوليت عليه وعرفته وصارت تفاصيله ظاهرة عندي.
فالله تعالى وصف نفسه بصفة الإحاطة، فقال: (والله من ورائهم محيط) (البروج:20) يعني محيط بالخلق أي مستولٍ عليهم، وكذلك محيط بعلومهم، ومحيط بجميع المخلوقات، وما يحصل منها، وأما المخلوقون فعاجزون عن ذلك إلا بما فتحه الله عليهم، قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) (البقرة:255) أي لا يقدرون على أن يحيطوا بشيء من العلوم التي يعلمها، أو التي يمكن تعلمها إلا بما يشاؤه؛ فلا يعلمون المغيبات الخفية بل ولا يعلمون، البعث وما بعده، والحشر وتفاصيله إلا بما علمهم، وبما فتح عليهم.
والحاصل أن الله تعالى موصوف بأنه بكل شيء محيط؛ كما أخبر بذلك في عدة آيات؛ في سورة البروج وفي سورة فصلت، وفي آخر سورة الطلاق ونحوها.
هذا معنى الإحاطة، ويدخل في ذلك علوم الخلق أي أنه عالم بهم وبمعلوماتهم، وكذلك أيضا: أنه مع علمه بها فإنه قد أثبتها. وهذان يإتيان إن شاء الله في الكلام على القدر؛ أن الله علم الأشياء قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ حيث (قال الله تعالى للقلم: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة) ، ومعلوم أنه لا يكتب إلا ما أمره الله به، فكل شيء كائن قد سطر في اللوح المحفوظ، فالله قد أحاط بكل شيء علماً؛ هذه صفة كمال.(63/41)
الصفة الثانية: العلم، وقوله: (وسع كل شيء رحمة وحلماً) ، وسع كل شيء رحمة، ووسع كل شيء حلماً؛ معلوم أن السعة والاتساع والتفسح بمعنى واحد. وسع يعني امدَّ إلى ما لا نهاية له، فالله تعالى وسع سمعه الأصوات، ووسع علمه المعلومات والمخلوقات كلها، ووسعت رحمته المخلوقات يعني اتسعت رحمته، فرحم الخلق كلهم أولهم وآخرهم، وكذلك اتسع حلمه للخلق كلهم فحلم عنهم كما يشاء.
ومعروف أن هذه الصفات الفعلية كصفة الرحمة، وصفة الحلم مما يثبتها أهل السنة، أما الأشاعرة ونحوهم فينكرون الصفات الفعلية كالرحمة والحلم ونحو ذلك.
فمن أسماء الله تعالى: (الحليم) وقد ورد في عدة آيات، منها قوله تعالى: (إنه كان حليماً غفوراً) (الإسراء:44) ، والحليم هو الذي لا يعجل، الحليم الذي يحلُم عن الخلق بمعنى أنه لا يعاقبهم؛ أي يعفو عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة. والحليم من الناس هو المتأني؛ يقال: فلان معه حِلْم، يعني تأن في الأمور، وتثبت، وعدم تسرع، وعدم معاجلة بالعقوبة على أية ذنب صغير أو كبير، بل يحلُم عن هذا.
حَلُمت عن فلان لما ظلمني، ولما أساء إليَّ، أنا أحلُم عمن ظلمني؛ لا أستعجل العقوبة لمن أساء إليًّ فالحلم صفة شريفة، وإذا كانت من أفضل الصفات، فالله تعالى متصف بكل الصفات التي هي صفات الكمال هذا هو معنى الحلم.
الصفة الثالثة: القهر. وقوله: (وقهر كل مخلوق عزة وحكماً) . انظر كيف فرق؛ هناك (رحمة وحلماً) لما ذكر السعة، وهنا (عزة وحكماً) لما ذكر القهر.
القهر هو القوة والغلبة؛ قهرها يعني غلبها وقوي عليها، واستولى عليها، وصارت تحت سلطانه وتحت سيطرته، وتحت تصرفه لا تملك لنفسها أي نوع من أنواع التصرف إلا بإذن الله تعالى؛ فهي مخلوقة وذليلة ومهينة، فالله تعالى هو الذي يتصرف فيها كما يشاء ولا يخرج أحد عن قهر الله.(63/42)
وإذا قلت: إن هناك من طغى وبغى، وهناك من تجبر وعتا، وهناك من كفر ونفر، وهناك من تعدى طوره؛ فأين هؤلاء من قهر الله؟ أليسوا مقهورين؟ أليسوا يلينون لعزة الله ويذلون لها؟ أليسوا مهانين؟ أليسوا مملوكين تحت ملك الله تعالى؟ فما هذا الطغيان؟ وما هذا العسف؟ وما هذا التجبر؟ وما هذا الظلم الذي صدر منهم؟ وما هذا العتو والعدوان على عباد الله الذي نشاهده من الكفرة ونحوهم؟ أين قهر الخالق تعالى لهم؟ أين إذلاله لهم؟ أين السيطرة عليهم؟ .
الجواب: أن هذا لا ينافي كونه سبحانه قاهراً لكل مخلوق قهراً قوياً، وله سبحانه الغلبة والسيطرة على المخلوقات، ولكن تأمل كلامنا السابق عن صفة الحلم، وأنه سبحانه وتعالى يحلُم ولا يعجل، يمهل ولا يهمل، يسمع ويَعلم أفعالهم وتعديهم، ولكنه يمهلهم إلى أجل وإلى حين، فعند ذلك ينتقم منهم، وهو العزيز ذو الانتقام، فلا يغتر الظالم بجبروته، وبقوته وسيطرته، وبما أعطي من القوة؛ فإنه مقهور ومستولى عليه، ولا بد أن يؤخذ الحق منه.
أيحسب الظالم في ظلمه ... أهمله القادر أم أمهلا
ما أهملهم بل لهم موعد ... لن يجدوا من دونه موئلا
فلا يحسب أنه مهمّل، بل إن الله تعالى يمهل ولا يهمل، يمهلهم إلى أجل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) . ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) (هود:102) .
وقال في حديث آخر: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) (الأنعام،:44) .
وقال تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين) (القلم:44-45) .(63/43)
فالله تعالى يملي لهم ويمهلهم سنوات وعشرات السنين، ولكن إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فإما أن يبطش بهم، وإما أن يسلط عليهم من هو أقوى منهم؛ إذاً فهذه الصفة صفة صحيحة ثابتة لله تعالى ندين بها، ولا نقول: إن هناك من خرج عن قهر الله، أو خرج عن غلبة الله، ولا أن هناك من اغتر بنفسه وليس لله قدرة عليه، فلله تعالى قدرة على الجميع.
فالله تعالى قادر على كل شيء، وكل الخلق تحت تصرفه، وفي قبضته، وينتقم منهم إذا شاء، ويسلط عليهم من ينتقم منهم، أو يعمهم بالعقوبة؛ إذاً فلا يغتروا بالإمهال، يا أيها الظالم في فعله يا من تماديت واعتقدت أنك من الناجين لا تغتر بذلك، فالظلم مردود على من ظلم، والله تعالى ينتقم من الظالم ويأخذه أخذ عزيز مقتدر، هذا معنى قوله: (قهر كل مخلوق عزة وحكماً) .
قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً) (طه:110) هذه الآية مشتملة أيضاً على صفة من الصفات الفعلية الذاتية، فإن العلم صفة ذاتية فعلية بمعنى أن الله لا يمكن أن يتصف بفقد العلم، فالعلم صفة ذاتية لله تعالى. قال سبحانه: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) (الحديد: 22) ، معرفة ذلك سهلة يسيرة على الله تعالى، كذلك قال تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) في عدة آيات.
وقد فسر قوله: (ما بين أيديهم) بأنه ما قد ملكوه (وما خلفهم) ما سوف يحصلون عليه ويتملكون عليه.
وفسر (ما بين أيديهم) يعني الخلق الذين قد مضوا، (وما خلفهم) الذين سوف يخلقون فيما بعد، وفسر (ما بين أيديهم) يعني ما أمامهم مما يشاهدونه (وما خلفهم) أي ما وراء ظهورهم مما لا يشاهدونه.
والأقرب أن الآية عامة، وأما الأصل، فإن الله يعلم ما قبلهم وما بعدهم، ويعلم ما أحاطوا به الآن، وما سوف يعلمونه فيما بعد، يعلم ذلك كله.(63/44)
قوله: (ولا يحيطون به علماً) أي لا يعلمون علماً يقينيا ً بذات الله تعالى أي لا يعلمون علم الرب، وإنما يعلمون من صفاته ما أطلعهم عليه، هذا هو الأصل.
مسألة: طريقة أهل السنة في إثبات الصفات
قوله:
موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم.
شرح:
تتكرر هذه العبارة في كتب العقائد، ويدين بها أهل السنة؛ يقولون: إن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإذا قلنا ذلك فإننا نعترف بهذه الصفات التي وصف بها نفسه، ونصفه بها، ولا نتحاشى، بل نجسر عليها ونتكلم بها حيث أنه أخبر بها عن نفسه، ولو كان في ذلك ما يكون، ولو استنكرها من يستنكرها، ولا عبرة بمن يستوحش عندما تذكر صفات الله تعالى كصفة العلو، وصفة الاستواء، وصفة النزول كما يشاء، وصفة اليد، وصفة الوجه، وصفة الرحمة، وصفة المحبة، وما أشبه ذلك.
فالله تعالى قد أثبت هذه الصفات، وكذلك أثبتها نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كانت ثابتة أفلا يثبتها المسلم لا شك أن إثباتها من دين الإسلام، وذلك لأن الدليل عليها قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة؛ وهو ما أثبت في القرآن، فهل هناك شيء أصح من القرآن، ثم يليه الكتب الصحيحة كالصحيحين وغيرهما من الكتب التي تعتني بالصحيح.
وهذه الكتب مشتملة على صفات ثابتة قطعية الثبوت، ثم هي أيضاً قطعية الدلالة، دلالتها صريحة يعرفها كل عربي فاهم للغة يعرف ما تدل عليه، فمن الذي يشك في أن العرش سرير الملك؟ أثبت الله لنفسه العرش فنثبت أن لله عرشاً، وكذلك من الذي يشك أن العلو هو الارتفاع لغة؟ فنثبت لله العلو، ومن الذي يشك في أن السمع هو إدراك الأصوات، وأن البصر هو إدراك المرئيات؟ معروف أن هذه الصفات لفظها واضح من اللغة.(63/45)
فإذا سمعنا هذه الصفات تجرأنا على أن نثبتها لله ولا نتحاشى، بل نجسر على إثباتها ولو شنّع علينا من شنع، ولو أنكر علينا من أنكر؛ وما ذاك إلا لأن دلالتها واضحة لا تحتمل خفاء، وليس فيها غموض.
فطريقة أهل السنة أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه رسوله وجميع الأنبياء في كتبهم المنزلة وفي شرائعهم وسننهم، وذلك لأنه تعالى أعلم بنفسه، ورسله أعلم بمن أرسلهم، فإذا وصف نفسه بصفة، وأثبتها لنفسه، فكيف ننفيها، وكيف ننكرها؟ ما الدليل على ذلك، وما السبب في ردها؟
لا شك أنها إذا كانت قطعية ورددناها، وقلنا: إن العقل ينكرها ويستبعدها؛ كنا قد حكّمنا العقول في شرع الله، وهذا لا شك أنه جرأة على الله تعالى، وتحكيم للعقل الضعيف الذي يعتريه التغير في ذات الرب تعالى الذي أثبت لنفسه كل كمال، ونفى عن نفسه كل نقص.
وبكل حال؛ فمعنى هذه الجملة: أن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وأن كل ما ثبت فإننا نقول به.
وأما ما روي من الأدلة التي لم تثبت فلا نقول به لضعف المتمسك، فإذا كان هناك أحاديث ضعيفة مشتملة على بعض الصفات، فلا تثبت بها الصفات، وإنما تثبت الصفات بالأحاديث الصحيحة، ولو لم تبلغ حد التواتر ما دام أنها متلقاة بالقبول، وثابتة بالأسانيد الصحيحة، فإنا نثبت ما دلت عليه.
فمثلاً صفة النزول: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ... إلخ) الحديث.
ذكر بعض العلماء أنه مروي عن نحو عشرة من الصحابة من طرق بعضها في الصحيحين، فكيف نردها بمجرد العقول؟ إن كثيراً ممن ينكر الصفات من أشاعرة ونحوهم إذا سمعوا هذا الحديث نفروا منه.(63/46)
حتى إنه حدثني بعض التلاميذ من الذين اعتقدوا العقيدة الصحيحة أنه تكلم مرة بعد صلاة الجمعة وأخذ يرغب في قيام الليل، وأورد هذا الحديث: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) البخاري ومسلم، فقال: إن هذا فيه حث على قيام الليل، فلما سمع الإمام -وكان أشعرياً- هذا الحديث هرب وخرج استنكاراً له حيث إنهم يقولون: إنه لا يدل على صفة، وإنه لا يستدل به لكونه ليس بمتواتر، ونحو ذلك.
واصطلح هؤلاء الأشاعرة ونحوهم -الذين سموا علمهم بعلم الكلام- على أن الصفات لا تثبت بالأحاديث إلا إذا كانت متواترة، وأما أحاديث الآحاد فلا تقبل في الصفات، لأنهم اصطلحوا على أن المتواتر يفيد اليقين، وأن الآحاد يفيد الظن، وقالوا: لا يمكن أن تكون صفات الله دلالتها دلالة ظن، فلا نثبتها بالأحاديث التي لم تبلغ درجة التواتر، بل نرد كل حديث في الصفات إذا لم يبلغ حد التواتر.
ونحن إذا نظرنا لم نجد الأحاديث المتواترة إلا قليلة، مثل أحاديث الشفاعة، مع أن المعتزلة ردوا أحاديث الشفاعة، وقد بلغت حد التواتر، فلم يعملوا باصطلاحهم، وأحاديث النزول ردوها لأنها في نظرهم آحاد، وكذلك بقية الصفات مثل حديث العجب، وحديث الضحك، وحديث النداء، وحديث الكلام، وحديث الصوت؛ كلها ردوها، وقالوا: إنها ظنية لأنها آحاد، فلا نقبل إلا ما هو متواتر، سبحان الله ألستم قبلتموها في الأحكام وفي الأوامر والنواهي، وفي الحلال والحرام فلماذا تقبلونها هنا وتردونها هناك؟ ألستم في هذا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ ألستم كمن يقول: (نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً) (النساء:150) .(63/47)
هذه طريقتهم أما طريقتك -أيها المسلم- فإنك تأخذ كل ما ثبت، وأنك تقبله وتتقبله وتؤمن به إيماناً كاملاً حتى لا يعتريك في ثبوته شك، وأنها صفات ثابتة لله تعالى، أثبتها الله الذي هو أعلم بنفسه، وأثبتها له رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم بمرسله.
مسألة: التسليم والقبول لآيات وأحاديث الصفات
قوله:
وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفة الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل.
شرح:
هذا الكلام -أيضاً- توضيح لما قبله، يعني: كل ما جاء في القرآن فإنه ثابت قطعي الدلالة من صفات الرب تعالى، وجب قبوله ووجب الإيمان به، وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة الثابتة، التي تلقتها الأمة بالقبول وجب الإيمان به أيضاً، ووجب اعتقاد مدلوله، ووجب اعتقاد صحته، وأنه صحيح ثابت ليس في شك ولا توقف.
ومعلوم أن القرآن لا خلاف في دلالته من حيث الثبوت، ولكن كيف يرده هؤلاء الذين اعتمدوا العقول؟؛ يقولون: إنه قطعي الثبوت، ولكن ليس قطعي الدلالة، فدلالته ظنية لأنها محتملة للتأويل، وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال، هكذا يعبرون، ونحن نقول: إن احتمالكم الذي تقولونه؛ احتمال ضعيف، احتمال بعيد لا يؤبه له.
مسألة: الكلام في المشكل من النصوص
قوله:
وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (آل عمران: 7) .
شرح:(63/48)
قد تأتي بعض الصفات مشكلة على بعض الناس فيفهم منها التشبيه، أو يفهم شيئاً لا يليق بالله تعالى، ففي هذه الحال نقبلها لفظاً ونعرف أن لها معنى، ولكن نتوقف في الكيفية، ونتوقف عن التقعر في السؤال عن كيفيتها، وننزهها عن أن تكون مماثلة لصفات المخلوق، أو أن يفهم منها نقص في حق الخالق.
وأكثر من يحتج به النفاة من الأشاعرة ونحوهم في نفي الصفات، إذا أثبتناها لهم وقلنا: دل عليها القرآن فما دليلكم في النفي؟، فأكثر ما يحتجون به: أنها تحدث، وأنها تتجدد فيقولون: إن الله منزه عن حلول الحوادث فلا تحل به الحوادث. وهذه أكبر شبهة عندهم، وهذه الجملة لا دليل عليها، فكلمة حلول الحوادث إنما هي اصطلاح اصطلح عليه هؤلاء النفاة فجعلوه دليلاً قاطعاً في نفي الصفات.
فنقول: ما الذي حملكم على أن تقولوا: "ليس محلاً للحوادث أو هو محل للحوادث"؛ أثبتوا الصفات واتركوا "محل الحوادث، أو ليس محل حوادث" وكلُوا أمرها إلى الله تعالى.
وقد يوجد بعض الصفات التي يُشكل ظاهرها فيتوقف بعض أهل السنة فيها، ولكنهم يثبتونها حقيقة، وإذا أُوردت عليهم الإشكالات قالوا: ليس لنا تدخل في ذلك. فمثلاً إذا قال النفاة: لو كان على العرش لكان أصغر من العرش، أو أكبر، أو مساوياً؛ وكل ذلك محال -هذا من افتراضاتهم- فنقول: ليس لنا أن نخوض في هذا بل نقول إنه على العرش كما أخبر، ولكن لا نخوض في إشكالاتكم هذه ونحوها، الله تعالى أخبر عن نفسه بهذا وهو أعلم بنفسه.
ومثلاً إذا ذكر النزول وذكر حديث: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ... الحديث) يوردون -أيضاً- إشكالاً؛ ويقولون: معلوم أن العرش فوق المخلوقات وهو سقفها، فعند نزوله؛ هل يخلو منه العرش؟ هل تحصره السماء الدنيا التي ينزل فيها؟ وإلى متى يستمر هذا النزول؟ وهل ينزل العرش معه؟(63/49)
هذا الافتراضات لا حاجة إليها، ولا نتدخل فيها، هذه إشكالات أوردتموها أنتم ولا حاجة لنا في البحث عنها، نحن نثبت النزول، ولكن كيفيته الله أعلم بها -كما سيأتينا الكلام على النزول إن شاء الله.
كذلك من الصفات التي أدلتها صحيحة، ولكنها مشكلة؛ ومع هذا يجب أن تُثبت، وتفوض كيفيتها إلى الله؛ مثل حديث الصورة (خلق الله آدم على صورته ... الحديث) ، فقد كثر الكلام حوله حتى ألفت فيه مؤلفات مفردة، وأثبته الذين كتبوا فيه، فإذا أثبتنا أن الحديث صحيح، وأنه من أحاديث الصفات، قلنا: نثبته، ولكن نتوقف في كيفيته. ونقول: إن الله ليس كمثله شيء، وأنه سبحانه قد أخبر بهذا، وأخبر به رسوله، وليس لنا أن نتقعر في نفي ذلك.
وبكل حال ما أشكل من ذلك -كما قال ابن قدامة: (وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه) يعني كيفيته، هذا هو الصحيح، أما معانيه اللغوية فإنها ظاهرة، ونجعل عهدته على ناقليه ونثق بهم ونقول: العهدة والمسؤولية عليهم، وذلك لأنهم هم الذين نقلوا لنا السنة والشريعة، بل هم الذين نقلوا القرآن كله والأحاديث كلها؛ فكيف نرد هذا الحديث وحده، أو هذه السنة وحدها، فالذي نقلها هو الذي نقل غيرها من الأحكام. فنجعل عهدته على ناقله أي المسؤولية عليه إن كان خطأ، ونكل علمه -يعني الكيفية والماهية- إلى قائله؛ أي إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا في الشيء الذي يشكل علينا في الكيفيات ونحوها.
هذه طريقة الراسخين في العلم؛ والرسوخ هو التمكن، يقال: رسخ في كذا يعني تمكن فيه، فالراسخ العالم الذي تمكن العلم منه وتمكن من العلم، والمراد بالعلم هنا العلم الصحيح الذي هو ميراث الأنبياء، فهو العلم الذي من علمه وفهمه وأحاط به سمي راسخاً في العلم.
والله تعالى مدح الراسخين في العلم، فقال تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (آل عمران:7) .(63/50)
قسم الله تعالى الآيات في أول سورة آل عمران إلى محكمات ومتشابهات، فأخبر بأن أهل الزيغ يتبعون المتشابه، وأن الراسخين يقبلون الجميع: يقبلون المتشابه ويقبلون المحكم، ويقولون: آمنا بالجميع، كل من عند ربنا، ويدعون الله فيقولون: (ربنا لا تزغ قلوبنا) (آل عمران:8) أي لا تجعلنا مثل الذين في قلوبهم زيغ -يعني ميل وانحراف- فنضل عن سبيلك. دعوا الله دعوة صادقة وهم على صواب وعلى حق.
فطريقتهم أنهم يقولون: نؤمن بالمحكم ونعمل به، ونؤمن بالمتشابه ونقبله، ولكن لا نتقعر في معناه ولا نرده ولا نتأوله، ولا نحمله على ما نفهمه من صفات المخلوقين فنكون ممثلين، ولا نتكلف في رده وإبطاله فنلحق بالمعطلين.
مسألة: التأويل المذموم
قوله:
وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) (آل عمران:7) .
شرح:
هذا ذم لهذه الطائفة الذين هم الزائغون؛ والزيغ هو الميل والانحراف، ويكون في القلب وهو أشده، قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (الصف:5) يعني أنهم فعلوا أفعالاً صاروا بها زائغين، يعني مائلين عن الحق؛ فعاقبهم الله تعالى بان أزاغ قلوبهم، والجزاء من جنس العمل.
فهؤلاء الزائغون الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن الحق وانحراف عنه؛ ذمهم الله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) (آل عمران:7) يتبعون المتشابه معناه: أنهم إذا وجدوا المتشابه إما أن يطعنوا به في الشريعة ويقولوا: هذه الشريعة تجمع بين الحق والباطل، فيأخذون المتشابه ويجعلونه طعناً في الدين، وإما أنهم يجعلونه عقيدة لهم ولو كان دالاً على التعطيل، أو دالاً على التمثيل، وهذه طريقة زائغة منحرفة.(63/51)
فالتأويل الذي ذمهم الله به: (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) (آل عمران:7) يعني: تحريفه وتصريفه عن دلالته، والفتنة هي الشبهة، أو التشبيه الذي يوقع في الضلال، أو التحريف أو نحو ذلك، والحاصل أنهم يتبعون المتشابه.
روي في سبب النزول أن بعض النصارى تمسكوا بالآيات التي فيها ضمائر الجمع فقالوا: هذه دالة على أن الخالق متعدد، مثل قوله: (نحن قسمنا) (الزخرف:32) ، (إنا أنزلناه) (القدر:1) ، (إنا أعطيناك) (الكوثر:1) ، (إنا فتحنا) (الفتح:1) ، فقالوا: هذا دليل على أن هناك آلهة كثيرة فيكون عيسى، وأمه، والله؛ هم الذين خلقوا هذا الخلق، فجعلوه من المتشابه، أي أنهم استدلوا بضمائر الجمع على تعدد الآلهة، وهذا خطأ واضح؛ وذلك لأن الله تعالى يذكر نفسه بضمير الجمع للدلالة على التعظيم، فإن الأمير يعظم نفسه فيذكر نفسه بلفظ الجمع: نحن فعلنا، ونحن غزونا، ونحن أمرنا، مع أنه واحد، فالله تعالى أحق بأن يعظم نفسه.
ولكن كيف يتخذون هذا دليلاً على تعدد الآلهة؟ هذا من زيغ في قلوبهم، وهذا ابتغاء للفتنة؛ أن يفتنوا الجهال، وهذا طلب للتشبيه، يعني أنهم يشبهون صفات الخالق بصفات المخلوق أو أنهم يريدون الوقوف على تأويل الكلمات، وبكل حال فهذا من الزيغ، والله تعالى ذم الذين في قلوبهم زيغ بهذه الجملة؛ أنهم يتبعون ما تشابه منه من الآيات.
ويدخل في اتباع المتشابه ما قد يفهمه بعض المعتزلة من الجمل التي في ظاهرها تأييد لمذهبهم، وهو إنكار قدرة الله تعالى، فيتمسكون بالآيات التي فيها تفويض القدرة إلى العباد، ويجعلونها هي المحكم.
بينما الأشاعرة والجبرية ونحوهم يتمسكون بالآيات التي فيها تفويض الأمر إلى الله، وأنه هو الذي فعل ما يشاء، ويجعلونها هي المحكم، ويجعلون المتشابه ما سواها.(63/52)
والصحيح أن آيات الصفات من المحكم وليست من المتشابه، وذلك بالنسبة إلى مدلولها، أي إنها دالة على صفات، وأن تلك الصفات مفهومة المعنى إلا أن الكيفية التي هي عليها من المتشابه، فالذين يأخذون تلك الآيات ويجعلونها دالة على التشبيه؛ هؤلاء يبتغون الفتنة، ويبتغون تأويله، وكذلك غيرهم، وبكل حال: هذا مقصد سيئ (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) (آل عمران:7) .
قوله:
فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أملوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: (وما يعلم تأويله إلا الله) (آل عمران:7) .
شرح:
جعل علامة زيغهم أنهم يبتغون تأويله، وكذلك أيضاً: يبتغون الفتنة، وقرن ابتغاء الفتنة بابتغاء التأويل، والفتنة هي فتنة الناس عن دينهم، يريدون أن يفتنوا أهل السنة حتى يضلوهم، يريدون أن يفتنوا الجهلة حتى يخدعوهم عن ما هم عليه، ويصرفوهم إلى معتقدات سيئة، فهذه الفتنة كم افتتن بها من الجهال؟
ولا يزالون إلى هذا اليوم، لا يزال دعاة الضلال يشبهون ويموهون على الجهال حتى يحرفوهم ويصرفوهم عن معتقد أهل السنة، كثير من دعاة الضلال لا يزالون في كل مكان إذا جاءتهم الآيات جعلوها في جانبهم، وأخذوا يفسرون مدلولها على ما يذهبون إليه، وقالوا: هذه دالة على مذهبنا ونحن على حق، أو صواب. وهم في الحقيقة بعيدون عن الصواب، وقصدهم دعوة الناس إلى المعتقد الذي هم عليه؛ وذلك لأن كل من اعتقد عقيدة زين له أنها هي الصواب، فإن كان صوفياً دعا إلى تصوفه، وإن كان قبورياً دعا إلى تعظيم القبور ونحوها، وإن كان معتزلياً أو قدرياً أو جبرياً أو مرجئاً أو رافضياً أو مبتدعاً أي بدعة، فإنه يخيل إليه أن غيره على خطأ، وأنه هو المصيب، فلأجل ذلك: يحرص على أن يجد أدلة يستظهر منها الدلالة على ما هو عليه حتى يفتن الناس.(63/53)
فمثلاً القبوريون: قد يستدلون بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (المائدة:35) ويقولون: المراد: التوسل بالأموات إلى الله ودعاؤهم ليكونوا وسائط، وهذا من اتباع المتشابه، قال تعالى: (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) (آل عمران:7) .
كذلك قد يستدلون بقوله تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) (الإسراء:57) ، فيقولون: إن هؤلاء ممدوحون أنهم يتوسلون بأيهم أقرب إلى الله تعالى فيبتغون إليه الوسيلة، ولا شك أن هذا صرف للمعنى عن المتبادر منه، فهذا من اتباع المتشابه، وهو أيضاً مما يوقع في الفتنة فالوسيلة هي القربة أي يتوسلون إلى رضاه بالقربات وأنواع الطاعات.
ونجد مثلاً أن المعتزلة قد يستدلون على نفي الرؤية بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) (الأنعام:103) وبقوله تعالى لموسى (لن تراني) (الأعراف:143) وهذا المتشابه، وسيأتينا الإجابة عنه عند الكلام على الرؤية، فمثل هؤلاء يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وقد ذكرنا أن أكثر النفاة يعتمدون قوله تعالى في آية الشورى: (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) ويجعلونها عمدتهم في نفي الصفات، ويقولون: إذا أثبتنا لله تعالى سمعاً، فقد شبهنا، والله سبحانه ليس كمثله شيء، وكذا إذا أثبتنا له صفة البصر، وغيرها، فيعتقدون أن إثبات الصفات تشبيه، وهذا من ابتغاء الفتنة، وابتغاء التأويل، وهو طريق الذين في قلوبهم زيغ.
فالله تعالى حجبهم عن ما أمّلوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه في هذه الآية، يقول تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) (آل عمران:7) قطع لأطماعهم. والكلام في تفسير هذه الآية معروف في كثير من أصول التفسير، وأصول الفقه ونحوها، وكذا الخلاف: هل الراسخون يعلمون تأويله؟(63/54)
فقد ذكر ذلك العلماء كثيراً، وتعرض له شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، وذكر أن التأويل صار في اصطلاح الناس يطلق على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: التفسير. وهو اصطلاح بعض العلماء كابن جرير، فلا فرق عنده بين التفسير والتأويل، فهو يقول: القول في تأويل قوله تعالى. ثم يقول: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، أو يقول: وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ومراده التفسير، وكأنه اصطلح على أن إيضاح المعنى والمراد من الآيات آل إلى كذا وكذا، فسماه تأويلاً بالنسبة إلى ما آل إليه وشرح عليه.
النوع الثاني: أن التأويل معناه حقيقة الشيء وماهيته، وما تؤول إليه ماهية الشيء التي هو عليها هو التأويل، أي ما يؤول إليه وما يرجع إليه كتمثيله وتطبيقه، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر حياته: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) يتأوله يعني يمثله أو يمتثل الأمر الذي أمر به في قوله: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) (النصر:3) .
والله تعالى يخبر عن مآل الأشياء ويسميها تأويلاً: (ذلك خير وأحسن تأويلاً) (الإسراء:35) ، أي مالاً، ومنه قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله) (الأعراف:53) المراد حقيقته، تأويل البعث: حصول النشور، والبعث من القبور، وتأويل الجزاء: إعطاء كل ثواب حسناته، أو جزاء سيئاته.
يقال هذا تأويل قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه) (الحاقة:19) ، (وأما من أوتي كتابه) (الحاقة:25) ، (فمن ثقلت موازينه) (الأعراف:8) ، (ومن خفت موازينه) (الأعراف:9) هذا تأويله يعني تحققه، وكذلك تأويل دخول الجنة: كون أهل الجنة يرون ما فيها ويقولون: هذا تأويل ما أخبرنا الله به؛ فتأويل الأشياء: حقائقها وما تؤول إليه.
فهذان معنيان صحيحان؛ أن التأويل يأتي بمعنى التفسير، وأن التأويل يأتي بمعنى حقائق الأشياء وماهيتها.(63/55)
فإذا قيل إن الراسخين يعلمون التأويل؛ فالمراد بالتأويل: التفسير الذي تفسر به الكلمة ويشرح به معناها، وإذا قيل: إن التأويل لا يعلمه إلا الله؛ فالمراد: حقائق الأشياء وماهيتها وما هي عليه، يعني كيفية البعث، وكيفية الحشر، وكيفية نصب الموازين وكيفية نشر الصحف، وماهية تلك الصحف، وما مقدار المسافة، وكم في كل كتاب من صفحة ومن سطر، أو من كلمة. فكيفية ذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وهكذا أيضاً: ما أخبر الله به عن الجنة وأنهارها وأشجارها وثمارها وقصورها، كل ذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، يعني ماهيته وكيفيته وحقيقته التي هو عليها.
النوع الثالث: اصطلح المتأخرون من الأصوليين وأهل الكلام على أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، إذا قالوا: هذه الآية تحتاج إلى التأويل أو لابد من التأويل أو نخوض في التأويل؛ فمرادهم بالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره، فإذا قالوا: (استوى على العرش) ، يعني استولى؛ هذا تأويل حملنا عليه الفرار من التجسيم -كما يقولون- أو (استوى على العرش) استوى على الملك؛ هذا تأويل حملنا عليه الفرار من التشبيه.
وهذا اصطلاح جديد حادث في القرون المتأخرة؛ فما كان السلف يعرفون في الاصطلاح أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، بل التأويل عندهم هو المعنيان الأولان، أنه بمعنى التفسير أو أنه بمعنى الحقائق التي يؤول إليها الأمر..
مسألة: قول الإمام أحمد رضي الله عنه في الصفات
قوله:(63/56)
قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) أو (إن الله يرى في القيامة) وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف، ولا معنى ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) .
شرح:
نقل ابن قدامة رحمه الله بعض الآثار عن الأئمة، وقصده بذلك الاستئناس بها وليس اعتمادها، فقد قالها أئمة مقتدى بهم، معروفة مكانتهم، معترف بفضلهم، مشهور علمهم وكتبهم، يترحم عليم ويدعى لهم في كل زمان، فهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبه نطقوا، وبهم نطق، هؤلاء سرج الأرض، وأئمة الدنيا في زمانهم وبعد زمانهم، فإذا جاءت الآثار عنهم فإنها تكون محل قبول.
هذا الأثر عن الإمام أحمد قد يكون فيه بعض الإشكالات، وهو أثر ثابت عنه، رواه عنه بالإسناد القاضي أبو يعلى الفراء المشهور الحنبلي في كتاب له مطبوع اسمه (إبطال التأويل) .
لما سئل الإمام أحمد عن أحاديث الصفات؛ كأحاديث النزول، أو أحاديث الرؤية، وكذلك آيات الصفات -جاء فيها بالصواب، وإن كان لفظاً مجملاً، وقد أفصح فيها رحمه الله بما هو الصواب في كثير من كتبه، وأثبت بأن الله تعالى يُرى حقيقة بالأبصار، وأنه ينزل كما يشاء إلى سماء الدنيا، وأنه على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه يسمع كل شيء، ولا يستر سمعه شيء، وأنه يرى ولا يستر بصره شيء، ونحو ذلك من الصفات، أثبتها إثباتا حقيقياً.(63/57)
قد يتوقف في بعض الكلمات، ولكن قصده في ذلك الرد على الممثلة الذين يبالغون في الإثبات حتى يخرج بهم هذا الإثبات إلى نوع من التشبيه، فذكر أنا نؤمن بهذه الصفات، ونؤمن بهذه الآيات؛ يعني نصدق بها ونعتقد صحتها، وصحة معناها، ودلالتها، وذلك لأنها كلام الله، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ صحت عنه، وثبتت عنه، وقد أمرنا باتباعه، وأمرنا بطاعته، وقد عرف نصحه لأمته، وعرف بفصاحته وبيانه وبلاغته.
وإذا اجتمعت فيه هذه الصفات؛ كونه ناصحاً للأمة، حريصاً على نجاتها، وكونه فصيحاً بليغاً يعبر بالكلمات المفهومة التي لا لبس فيها أو خفاء، وكونه قد بلغ كل شيء، وعلم الأمة كل ما يهمهم، وما يحتاجون إليه، وأن هذه البيانات التي رويت عنه ثابتة قطعية الثبوت لا راد لها ولا طعن في أسانيدها؛ فكيف مع ذلك نردها؟.
بل الواجب أن نقبلها، ونجعلها في ضمن معتقدنا، ولكن لا نكيَّفها كما ثبت ذلك عن السلف أنهم قالوا: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. أي لا تسألوا: عن الكيفية.
والكلمة التي تشكل في هذا الأثر قوله: (لا كيف ولا معنى) ونحن نعتقد أن للصفات معنى، ونعتقد أن المعاني مفهومة، ولذلك فمراده بالمعنى هنا هو الماهية، وقصده أن ماهية تلك الصفة لا نخوض فيها، فلا نقول مثلاً: إن الله تعالى يبصر بعين مركبة من طبقات، ويحيط بها مشافر -مثلاً- وأهداب، ويسمع مثلاً بآذان وبأصمخة، وبكذا وبكذا، ويتكلم مثلاً بقصبة هوائية، وبلسان وشفتين لا نقول مثل هذا، ولكنا إذا أثبتنا الصفات أثبتناها حقيقة دون أن نبحث عن هذا، فلعل هذا هو مراد الإمام أحمد بقوله (لا كيف ولا معنى) ، فالكيف مجهول يعني كيفية الصفة، وأما المعنى فهو مفهوم بدلالته اللغوية، وخفي بكيفيته وكنهه، وأما الكلام فهو الكلام المسموع الذي يفهمه من سمعه.(63/58)
فقوله: (لا كيف) على ظاهره، يعني لا نخوض في الكيفية، وقوله: (ولا معنى) يراد به الكنه، أي ولا نتدخل في كنه الصفة وماهيتها، وما هي عليه، وأما المعنى الظاهر الذي تفسر به الكلمة فإنه معلوم للأمة، ولو لم يكن معلوماً لكان يخاطبهم بكلام لا يفهم كأنه أعجمي وهم عرب، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك، فقال تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي) (فصلت:44) ، وأخبر بأنه بلسان عربي مبين، ولما قال المشركون (إنما يعلمه بشر) (النحل:103) رد عليهم بقوله تعالى: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل:103) .
فلا يليق أن يكون الرسول وهو عربي ويخاطب العرب، ثم يخبرهم بشيء لا يدرون معناه، فلا بد أنا نعرف المعنى، ولكن نتوقف عن الكيفية، وعن الماهية، ونتقبل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: فلا نكون من الذين يقولون: (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) (النساء:150) ، وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى: (أولئك هم الكافرون حقاً) (النساء:151) فالواجب ألا نرد شيئاً من المقالات التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم مع ثبوتها، بل نثبتها، ولا نرد شيئاً ولا نزيد من عند أنفسنا شيئاً لا دليل عليه.
هذه هي طريقة أهل السنة، فطريقتهم نفي التشبيه، وإثبات الصفات بلا تشبيه، عملاً ببعض الآية التي ردت على الطائفتين المتطرفتين؛ طائفة مشبهة رد الله عليهم بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) ، وطائفة معطلة رد الله عليهم بقوله تعالى: (وهو السميع البصير) (الشورى:11) فكل طائفة منحرفة يوجد ما يبطل قولها في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله:
(بلا حد ولا غاية) .
شرح:(63/59)
الحد فيه خلاف؛ فأثبته كثير من العلماء، ونفاه بعضهم، والمراد بالحد: النهاية. فالصحيح أنا نقول: إن الله تعالى: بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته.
والذين نفوا الحد فقالوا: ليس لله حدٌ، يعني ليس له نهاية. آل بهم القول إلى أن اعتقدوا معتقد أهل الوحدة الذين قالوا: إن الوجود واحد، وأن وجود هذا هو عين وجود المخلوقات. وهذا قول شنيع تستوحش منه عندما تسمعه.
فإذا وردت الأدلة قلنا بها، وتجرأنا عليها وجسرنا على الكلام بها، ولو أنكر ذلك من أنكر، فلا نرد شيئاً من أجل إنكار هؤلاء، ولا نتأولها تأويلاً يبطل من معناها ما هو صحيح ثابت، ولو شنع من شنع، ولو عابنا، والتشنيع هو الإنكار والعيب كما في البيت الذي قاله الزمخشري -والله حسيبه- عندما يسمع قول أهل السنة: (إن الله استوى بلا كيف، وإن الله ينزل بلا كيف، وإن الله يرى بلا كيف) .، قال:
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة
سماها (البلكفة) لقولهم (بلا كيف) هكذا قال، ورد عليه علماء أهل السنة بل وعلماء الأشاعرة أيضاً نظماً ونثراً، وذلك لأنه على مذهب المعتزلة، وهو صاحب (الكشاف) التفسير المشهور.
وما دمنا متبعين للدليل فإننا نختص به ويفوت غيرنا، وأما ما أنكره علينا أضدادنا أو عابونا به فإنا لا نبالي بعيبهم وثلبهم، بل نقول: الحق معنا ولو كنتم جميعاً ضدنا وخلافنا؛ فنحن نثبت ما أثبته القرآن الذي دلالته واضحة، وأنتم تتكلفون في نفيه، وفي تحريفه، وتركبون الصعوبات في تأويله وفي صرفه عن ظاهره فتقولون: إن قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) (ص:75) أي بنعمتي، أو تقولون في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) (المائدة:64) أي قدرته أو ما أشبه ذلك، هذا من التأويل الذي فيه تكلف، وكذلك بقية الصفات.(63/60)
وهذا الأثر عن الإمام أحمد معمول به، والكلمات التي تنكر مثل قوله: (لا حد ولا غاية) و (لا كيف ولا معنى) محمول محملاً يناسب المقام، أن المراد بالمعنى الكنه، وأن المراد بالحد والغاية المنتهى، لا أنه يريد بذلك التفسير؛ فإنا نفسرها ونفهم مدلولها.
وقوله:
ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنّعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن.
شرح:
هذا تكميل الأثر الذي روي عن الإمام أحمد رحمه الله؛ في أنه يثبت أن التمسك يكون بالقرآن، وأن القرآن هو المعتمد، وكذلك الصحيح من السنة، وأن طريقتنا أن نتقبل كل ما جاء به القرآن والسنة، ولا نرد شيئاً من ذلك، وأنا لا نأتي بشيء من قبل أنفسنا، فنكون زدنا في الصفات ما ليس منها، وإنما نقتصر على ما ورد، نصف الله بما ورد، وبما أثبته لنفسه، أو أثبته له من أرسله.
مسألة: قول الإمام الشافعي رضي الله عنه في الصفات
قوله:
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
شرح:
الإمام الشافعي مُعترَف بإمامته، وله مكانة عند الأمة، وهو عالم قريش، فتح الله عليه، ورزقه فهماً وإدراكاً ومكانة وشهرة في الأمة، واعتنق مذهبه الفئام من الناس الذين تمذهبوا بمذهبه، وساروا على طريقته في الفروع، ولكن مع الأسف أن كثيراً منهم خالفوه في الأصول فرجحوا عليه (أبا الحسن الأشعري) ، وإن كان الأشعري أيضاً قد رجع عما قاله.(63/61)
فيقال لهم: إن الشافعي رحمه الله في العقيدة على مذهب السنة وعلى مذهب سلف الأمة، فإذا كنتم تقتدون به فعليكم باتباعه، وبما جاء عنه سواء من المجملات، أو المفصلات.
وهو في هذا القول يصرح بما يعتقده، وإن كان مجملاً قال: (آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله) وكلنا نقول ذلك، لكن هل يفهم من قوله (على مراد رسول الله) و (على مراد الله) أنه غير مفهوم، أو أنه لا معنى له، أو أنا لا ندري ما معناه؟ لا يفهم ذلك؛ بل الأصل أن الشافعي وغيره يعرفون أن تلك النصوص لها معان مفهومة، حيث إنها ألفاظ عربية فصيحة ظاهرة لا خفاء فيها، فيعتقدون مدلولها، لكن قولهم (على مراد الله) (على مراد رسول الله) يريدون بذلك الكيفية التي أرادها الله، وخاطبنا رسوله ليفيدنا لا ليضلنا.
أما على طريقة المعتزلة ونحوهم فإنه قد يقال: إن هذا القرآن وهذه السنة ما زادت الأمة إلا حيرة، تعالى الله عن قولهم؛ لأنها أوقعتهم في الشكوك، وحملتهم على أن يتكلفوا في الصرف عن الظاهر، وأن يتأولوها تأويلات بعيدة، ولا شك أنه لم يكن مقصوداً للرسول أن يوقع الناس في الحيرة، ولا أن يكلفهم بالتكليفات التي سلكوها بالتأويلات التي أرادوا بها صرفها عن ظاهرها فإن ذلك غير مقصود.
وبكل حال: لا يفهم من قوله رحمه الله: (على مراد الله) (وعلى مراد رسول الله) . أنه من المفوضة بل هو يعلم معانيها، ويؤمن بها ويتحقق دلالتها، ولكن إنما يتوقف عن كيفية تلك الصفات، الكيفية التي هي عليها، فيقول: مراد الله محجوب عنا ومراد رسوله، يعني بماهيتها وكنهها، وما هي عليه.
قوله:
وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله..
شرح:(63/62)
درجوا عليه يعني ساروا على هذا، والمراد أنهم على طريقة السلف التي هي تقبل النصوص، والعمل بها، واعتقادها، والإقرار بها، وإمرارها كما جاءت بقولهم: (أمروها كما جاءت) ، وإثبات دلالتها، وإثبات معانيها دون أن يصرفوا شيئاً من مدلولها عن ظاهره، ودون أن يحرفوا شيئاً منها، أو يشتغلوا بتحريفه أو بتأويله، أو يردوه (هكذا طريقتهم) ومراده بسلف الأمة أهل القرون الثلاثة المفضلة؛ الصحابة والتابعون وتابعوهم، هؤلاء هم سلف الأمة درجوا على ذلك، والآثار عنهم في ذلك كثيرة.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في الحموية كثيراً من الآثار عنهم، ولكنها قليلة بالنسبة إلى ما نقله غيره، ومن أراد أن يعرف أقوالهم فليقرأ كتب أهل السنة ككتاب (الشريعة) للآجري، وكتاب (السنة) للخلاّل، وكتاب (السنة) لابن أبي عاصم، و (شرح أصول أهل السنة) للالكائي، وكذلك كتب المتقدمين كالسنة لعبد الله بن الإمام أحمد، ففيها كثير من أقوال هؤلاء الذين أجملهم ابن قدامة.
يقول: (درجوا) يعني ساروا، ونهجو على طريقة هذين الإمامين الإمام أحمد، والإمام الشافعي - واقتصر عليهما، لكن الإمام مالكاً أيضاً مشهور أنه سئل عن آية الاستواء فقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول.. إلى آخره) ، والإمام أبو حنيفة مشهور ما ذكره في كتابه الذي هو (الفقه الأكبر) الذي جُمع من كلامه، وقد نقل عنه شيخ الإسلام في الحموية، ومع أنه موجود لكن مع الأسف فالذين تولوا شرحه أضافوا إليه إضافة أفسدوا بها مقصده.
فهؤلاء هم الأئمة الأربعة المقتدى بهم، وغيرهم من الأئمة الذين في زمانهم هم أيضاً على طريقتهم، فطريقة أهل السنة متفقة مع أئمتهم، وليس للأئمة قول يخرجون به عن قول أهل السنة.(63/63)
ذكر شيخ الإسلام في المناظرة التي حصلت بينه وبين أهل بلده في دمشق لما ناظروه على عقيدته أن السلطان في ذلك الوقت كان هو الذي عقد هذه المناظرة، ولما كان لشيخ الإسلام مكانته وشهرته عند الناس، وشعبيته، أراد السلطان أن يهدئ الوضع فقال لهم: إن هذا على مذهب الإمام أحمد، ومذهب الحنابلة معتبر ومعترف به فاتركوه على مذهبه، اتركوه يقول ما يقول في الأسماء والصفات ما دام أنه مذهب معترف به من المذاهب الأربعة.
ماذا قال شيخ الإسلام؟ قال: لا والله ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا القول بل إنه مذهب الأئمة كلهم، وذلك لأن الأصول والعقائد لا يجوز الخلاف فيها، أما الخلاف الذي بين الأئمة الأربعة فإنما هو في الفروع في مسائل العبادات ومسائل الحلال والحرام، ومسائل الأحكام، هذا الذي اختلفوا فيه، فأما الأصول التي هي العقائد والأسماء والصفات فالأئمة الأربعة، والأئمة الذين في زمانهم كالليث في مصر، والأوزاعي في الشام، وسفيان الثوري في العراق، وسفيان ابن عيينة في مكة، وابن أبي ذئب في المدينة، وعبد الرزاق في اليمن، وأشباههم كلهم على المذهب الحق الذي هو العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات لا خلاف بينهم في ذلك.
مسألة: الترغيب في السنة والتحذير من البدعة
وقوله:
وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم والاهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) .
شرح:(63/64)
الضمائر في (آثارهم ومنارهم) للأئمة المهتدين أئمة الأمة واحدهم إمام، يعني قدوة في الدين كما حكى الله تعالى عنهم: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) (الفرقان:74) أي قدوة وأسوة، وقد أجاب الله دعوتهم - يعني صالحي الأمة- فصاروا أئمة يقتدى بهم.
(وآثارهم) ليس المراد مواطئ الأقدام، وإنما المراد ما نقل عنهم، أي ما أثر عنهم، الآثار في الأصل هي بقايا الأقدام، أو مواطئ الأقدام، وتطلق على بقايا العلم كما في قوله تعالى: (أو أثارة من علم) (الأحقاف:4) يعني بقية، ويقول الشاعر:
تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
يريد بالآثار المعلومات التي حفظت عنهم، ونقلت عنهم، فأمرنا بتقفي آثارهم يعني باتباعها لأنهم اقتفوا أثر نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وأمرنا بأن نستنير بمنارهم، وأصل المنار العلم الكبير، أو النور الظاهر، ولكن هنا يطلق على علومهم التي هي نيرة مضيئة ساطعة يظهر لمن تأملها وضوحها، أمرنا بأن نسير على ذلك المنار، وأن ننهج ذلك المنهج حتى نكون بذلك معهم نسير كما يسيرون ونقف كما يقفون.
الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم -في الحديث الذي مر بنا، وهو الحديث المشهور الذي رواه العرباض بن سارية، وفيه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تسمكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) .(63/65)
وقد شرح هذا الحديث ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، وذكر جملة من المواعظ التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمل الصحابي رضي الله عنه في هذا الحديث تلك الموعظة، فكأنهم استشعروا أنها توصية أو أنها توديع، فلذلك قالوا: (موعظة مودع) كأنك تودعنا، ويكون ذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، ولا نطيل فيما يتعلق بالحديث.
ولكن يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) هذا حث على التمسك بها، فإن كلمة عليكم أمر كقوله تعالى: (عليكم أنفسكم) (المائدة:105) فمعناه الزموا سنتي وسيروا عليها، وتمسكوا بها، وانهجوا نهجها، واعملوا بها حسب استطاعتكم، هكذا ذكروا أن هذه اللفظة: (عليكم بكذا) تقتضي الأمر، أو الالزام أن التأكيد فأنت إذا قلت مثلاً: عليك بقراءة القرآن فإنك تحث عليها، أو تنهى عن شيء تقول مثلاً: عليك بالبعد عن الفواحش، فكلمة (عليك بكذا) تقتضي الأمر. وكلمة (إياك وكذا) تقتضي الزجر.
واقتصر على (إياكم ومحدثات الأمور) دون أن ينهى عنها، فلم يقل: اتركوها، ابتعدوا عنها؛ لأن كلمة (إياكم ومحدثات الأمور) أبلغ من اتركوها، وإذا قلت مثلاً: إياك وأصحاب السوء إياك وقرين السوء إياك وجلساء السوء معناه: احذرهم وابتعد عنهم، فإياكم ومحدثات الأمور أي ابتعدوا عنها.(63/66)
وهنا أيضاً من التأكيد على السنة قوله: (عضوا عليها بالنواجذ) بعد قوله: (تمسكوا بها) ، وهذا كله حث على العمل بها، فإن التمسك في الأصل الإمساك باليدين، وقد ينفلت منك الشيء الذي أمسكته بيديك، فتحتاج إلى زيادة توثق، وليس عندك إلا أسنانك بل أقاصي أسنانك، وهي النواجذ (عضوا عليها بالنواجذ) أي مع تمسسككم بها باليدين زيدوا على ذلك العض عليها بأقاصي الأسنان، ليكون ذلك أقرب إلى الثبات عليها، وكأنه استشعر أن هناك من يزعزعك عن هذه السنة، ويسعى في تفلتك منها، ويخذلك لكي تتركها وتتخلى عنها؛ من دعاة السوء والباطل وأهل الشبهات والتشكيكات ونحوهم، فكأنه لما علم كثرة الفتن التي توهن التمسك بالسنة أمر بشدها بقوة، وأمر بإمساكها إمساكاً قوياً.
والسنة في الأصل: هي الطريقة التي يسار عليها، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هي الشريعة التي بلغها، وتطلق على أقواله وأفعاله وتقريراته، وتطلق على الشريعة التي جاء بها على أنها من دينه الذي أُرسل به، وتطلق على الأحاديث التي هي موضحة للقرآن، فيقال: القرآن هو كتاب الله، والسنة هي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن الأصل أن السنة هنا هي الشريعة التي كان عليها (عليكم بسنتي) يعني ما أنا عليه وما أعمله، وما أقوله، وما بلغتكم به من هذه الشريعة، سواء في الاعتقادات أو في الأعمال كل ذلك من السنة فسيروا على نهجه، واعملوا بما يعمل به، وبذلك تصلون إلى سبيل النجاة.
والخلفاء الراشدون معروفون، وسموا بذلك لأنهم خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خلفوه في الولاية، وفي التبليغ، وفي الأعمال، فبلغوا ما بلغ -رضي الله عنهم- وساروا على نهجه وألزموا أنفسهم أن لا يتركوا شيئاً مما كان يعمل به النبي صلى الله عليه وسلم إلا عملوه.(63/67)
التزم بذلك أولهم الذي أطلق عليه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق الصحابة على تلقيبه بهذا (خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وقد وافقوا على ذلك، ولم يخالف في زمنه أحد يقول: إنه لا يستحق هذا الاسم، بل المسلمون على وجه الأرض اتفقوا على أن يخلف النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه إما بالصراحة، وإما بالإشارة.
والخلفاء الراشدون خلافتهم ثلاثون سنة، ورد في حديث سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وفي حديث آخر (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة) ولعله إشارة إلى (مقتل عثمان رضي الله عنه) ، وما حصل بعده من الفتن.
فنعرف من هذا الحديث أن الخلفاء الراشدين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: خلفاء ووصفهم بثلاث صفات:
الصفة الأولى: (الخلافة) ، أي أنهم خلف عنه.
الصفة الثانية: (الراشد) .
الصفة الثالثة: (الهداية) .
وكفى بها تزكية لهم، وحثاً على السير على نهجهم، وشهادة بأنهم أهل حق وصواب، وأن الذين يطعنون فيهم قد خالفوا العقل والنقل، وعاندوا في ترك ما هو أشهر من نار على علم، من السنة التي جاءت في مدحهم وتزكيتهم، مع هذه التزكية من النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم خلفاء. فتجدون الرافضة يسبّونهم ويقذعون في سبّهم، وبالأخص الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان، ويشتمونهم، ويدعون أنهم مغتصبون للخلافة، وعلى هذا لا يكون لهذا الحديث -عندهم- فائدة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(63/68)
وهذا الحديث -أيضاً- إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك محدثات، والمحدثات هي المبتدعات، فحذر منها، وأخبر بأن كل محدثة بدعة، ويراد بها ما يضاف إلى الشريعة من الأقوال والأفعال والعقائد، وأنه حادث بعد أن لم يكن، وأنه ضلال (كل بدعة ضلالة) ، والضلال هو الضياع، الضال هو التائه الضائع الذي ليس على هدى وليس على بيان.
وتلك البدع والمحدثات كثيرة، ولكن المهم منها ما يتعلق بالعقيدة فإن من عقيدة المسلمين -مثلاً- أن الرب سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم حدثت بدعة من فئة تنكر ذلك، وسموا معطلة، فهذه بدعة ضالة.
ومن عقيدة المسلمين؛ أن الإنسان ينسب إليه عمله وليس بمجبور، ثم حدثت بدعة فيها؛ أن الله لا يقدر على أفعال العباد، وهذه بدعة ضلال، ومن عقيدة المسلمين أن الإنسان ينسب إليه عمله ثم حدثت بدعة فيها؛ أن الإنسان ليس له اختيار، وأنه مجبور على فعله، وهذا بدعة ضلال.
وهكذا بقية البدع كبدعة الخوارج، وبدعة المعتزلة، وبدعة التكفير والتفسيق، وما أشبه ذلك، كلها من البدع التي أخبر بها في هذا الحديث (إياكم ومحدثات الأمور) ، وليس المقام مقام الكلام على تفنيد البدع، فهي مشهورة في كتب العلماء رحمهم الله.
مسألة: قول ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الباب
وقوله:
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (اتبعوا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم) .
شرح:
وهذا أيضاً من الآثار التي يستأنس بها، فابن مسعود رضي الله عنه من أجلاء الصحابة، أسلم قديماً، وهاجر، ونفع الله بعلمه، وزكاه عمر رضي الله عنه، وقال: (كنيف مُلئ علماً) ، وأرسله إلى العراق، وكان له تلامذة في الكوفة يأخذون برأيه، وحفظوا عنه علماً جماً، توفي سنة (32هـ) في خلافة عثمان.(63/69)
قوله: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) اتبعوا من قبلكم؛ يخاطب تلامذته، وتلامذته لم يكونوا من الصحابة ولم يدركوا زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإما أنهم من مسلمة العراق الذين ما أسلموا إلا في خلافة عمر، أو في خلافة عثمان، أو من المهاجرين من أهل اليمن، ونحوهم، فهو يوصي أولئك، فيقول: اتبعوا صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم، واقتدوا بهم، ولا تحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله، ولا تشرعوا ما لم يكن في الشريعة ولا تكونوا من الذين قال الله فيهم (شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (الشورى:21) فإن الله تعالى أكمل الدين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا حاجة إلى بدع تضاف إلى هذه الشريعة، فقد كفيتم، يعني كفاكم من قبلكم حيث حملوا الشريعة، وبينوها وبينوا لكم ما تقولونه بألسنتكم وما تعتقدونه بقلوبكم، وما تعملونه بأبدانكم فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات، وفيما يتعلق بالأخبار والنقول، وفي ذلك كفاية.
وفي الأثر الآخر أنه قال: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولحمل دينه؛ فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) تزكية منه رضي الله عنه للصحابة، وأمر لمن بعدهم أن يقتدي بهم، وأن لا يبتدع من قبل نفسه، وكأنه استشعر أن هناك من سوف يقوم ببدع، وقد نقل هو أيضاً تحذيراً عن بعض البدع كبدعة الخوارج، فإنه روى بعض الأحاديث التي فيهم مع كونه مات قبل أن يخرجوا.(63/70)
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه بكثرة البدع وبكثرة الاختلافات، ففي حديث العرباض الذي ذكرنا يقول صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً) يعني من طالت حياته فسيرى اختلافاً كثيراً، وقد وقع هذا الاختلاف، أوله: خلافهم على عثمان حتى قتلوه، ثم خلافهم فيما بينهم حتى حصلت المعارك، ثم خروج الخوارج، وقتالهم من لقوه من المسلمين، ثم بعد ذلك خروج القدرية وخروج الرافضة، وهكذا البدع التي خرجت.
فابن مسعود رضي الله عنه يقول: اتبعوا من قبلكم ولا تبتدعوا من قبل أنفسكم يعني في الشريعة، وتتعبدوا بالبدع، فقد كفيتم أي قد وضحت الشريعة لكم فاقتصروا عليها.
مسألة: قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في هذا الباب
قوله:
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاماً معناه: (قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفُّوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل -لو كان فيها- أحرى، لئن قلتم: حدث بعدهم. فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم مُحَسِّر، وما دونهم مُقَصِّر، لقد قصَّر عنهم قوم فجفَوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم) .
شرح:
عمر بن عبد العزيز خليفة راشد، ألحقه علماء الأمة بالخلفاء الراشدين مع قصر مدة خلافته (سنتان وبضعة اشهر) كخلافة أبي بكر، ولكن أعاد فيها الحق إلى نصابه، وأبطل البدع والمحدثات، ونصر السنة، وقمع المبتدعة، ورد المظالم، وعدل في الناس، وسار سيرة حسنة حمده عليها جميع المسلمين، ولم ينقم عليه لا من قريب، ولا من بعيد.(63/71)
وكفى أنه يستشهد بقوله، وذلك لأنه جمع مع الولاية علماً، أي أنه مع قصر عمره من علماء الأمة، وكذلك من مفكريها ومن ذوي الرأي فيها، وكثيراً ما يستشهدون بمقاله، ويروون عنه حكماً وفوائد تدل على حنكة وفضل، ومعرفة بالشريعة وبأهدافها.
يقول في هذا الأثر (قف حيث وقف القوم) يريد بالقوم العلماء الذين قبلهم، يخاطب أهل زمانه إما في خلافته، وإما في إمارته، فقد كان أميراً على المدينة قبل أن يستخلف، أي في زمن الوليد بن عبد الملك، ولاه إمارة المدينة فسار فيهم سيراً حسناً محموداً، فهو يقول: (قف حيث وقف القوم) أي الصحابة، وتلامذة الصحابة؛ العلماء الذين هم علماء الأمة؛ ورثة النبي صلى الله عليه وسلم.
كأنه يقول: لا تتجاوزوهم وتخوضوا في ما لم يخوضوا فيه، ولا تتقعروا وتبحثوا عن أشياء ما أذن الله بها، وليس لكم إلى معرفتها سبيل، فلا تبحثوا في الأمور الغيبية التي حُجبت عنكم، ولا تكثروا من السؤال عن الأشياء التي لا حاجة لكم بها، فقد وقف عنها من قبلكم فما بحثوا في جوهر، ولا عرض، ولا حد، ولا تعاريف، ولا حيز، ولا جهات، ولا أبعاض، ولا مركبات، ولا محدثات وما أشبه ذلك من الأمور التي أحدثتموها.
فإنهم -يعني الصحابة، وتابعيهم- عن علم وقفوا؛ يعني سكتوا عن هذه الأشياء عن علم، عرفوا أن فيها خطراً، فلم يتكلموا فيها، فما وقفوا إلا عن علم قلبي وقر في قلوبهم، (وببصر نافذ كفوا) كف البصر هنا ليس هو بصر العين، ولكنه بصر القلب يعني البصيرة، أي أن ذلك البصر نافذ لهذه العلوم، وقد تخيل ما وراءها من المفاسد.
فكر -رضي الله عنه- فعرف أن الصحابة وتلامذتهم كفوا عن الخوض في هذه العلوم -مع قدرتهم عليها- عن علم، لا أنها لم تحدث عندهم بل عرفوا أنها ستكون، ولكنهم وقفوا عنها.(63/72)
فقد ورد أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه؛ لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة) وفي رواية أنه قال: (ذاك صريح الإيمان) يعني الذي لا يتكلم بهذه الأشياء التي تخطر في باله، بل يزيلها عن قلبه؛ هذا صريح الإيمان، فإذا جاءتك هذه الخطرات، وهذه الأوهام، والتخيلات، وأبعدتها عن نفسك فإنك متبع لهم (عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا) .
ولهم على تجليتها وإظهارها أقدر، لو كان فيها فائدة لتكلموا بها فإنهم علماء وفصحاء، فهم على إظهار الخير الذي فيها أقدر، وهم أولى وأحرى أن يبينوا ما فيها لو كان فيها مصلحة، ولكن علموا أنه لا مصلحة فيها فكفوا عنها.
وإذا قيل: حدثت بعدهم، لو كانوا أدركوها لتكلموا فيها؛ يعني ما أحد تكلم في طبقات السماء مثلاً، ولا في مكونات الأرض، ولا في خلق الروح مثلاً وتكوينها ومن أي شيء خلقت، ولا في تقسيم الموجودات إلى جواهر وأعراض، ولا في الجسم وما يتركب منه وتعاريفه وما أشبه ذلك، ولا تكلم في زمن الصحابة أيضاً في الأعراض، ولا في الأبعاض، ولا في الطبقات وما أشبه ذلك، فما حدثت هذه العلوم إلا بعدهم.
ما الجواب؟ أجاب رضي الله عنه: (بأن الذين أحدثوها أنقص منهم علماً) ما أحدثها إلا أناس لا علم عندهم كما عند الصحابة، وإلا فإن الصحابة يقدرون أن يخوضوا، وما أحدثها بعدهم إلا من هو دونهم في العلم، وفي المواهب.(63/73)
ثم أخبر بأن الذين بعدهم انقسموا إلى قسمين: قسم قصروا، وقسم غلوا، الذين قصروا كأنهم الذين اقتصروا على ذكر الأحكام فقط، ولم يخوضوا في العلوم الغيبية، ولم يتكلموا فيها معرضين عنها بألسنتهم وبقلوبهم، فهؤلاء مقصرون، والذين غلوا هم الذين توسعوا فيها وتكلموا فيها كلاماً طويلاً، وولدوا فيها توليدات، ووقعوا في آخر أمرهم في حيرة وفي شك، وفي بعد عن الحق، فأدى بهم ذلك إلى أن يموتوا وهم شكاك لا يدرون ما يعتقدونه، فصاروا في طرفي نقيض؛ قوم قصروا، وقوم غلوا..
وتوسط الصحابة، وتوسط الأئمة، فلم يتركوا هذه العلوم جانباً بل تكلموا فيها بما يكفي، وقالوا فيها ما يشفي، وأوضحوا منها ما هو الحق، فأوضحوا للأمة عقيدتهم، أوضحوا للأمة أن تعتقد الأسماء والصفات التي نقلت وثبتت بالأدلة، وأوضحها الله تعالى في الكتاب والسنة، وأن ينزه الله تعالى عن صفات النقص، وأن يُعتقد البعث النشور والجزاء على الأعمال، وأن يدينوا بالعبادات ويتركوا المحرمات، وكفى بذلك بياناً، والذين لم يتكلموا فيها مقصرون.
روي أن بعض التلامذة سألوا ابن المبارك، وقالوا: إنا نكره أن نتكلم في هذه الصفات؛ يعني في إثبات العلو والاستواء، والنزول، وما أشبه ذلك -فقال: أنا أكره منكم لها، ولكن لما جاءت بها النصوص واشتملت عليها الأدلة تجرأنا على الكلام بها، وجسرنا على أن نقولها اعتماداً على الدليل، وكفى بالآيات دليلاً، أو كما قال. فأخبر بأنا قد نتوقف عندما تذكر لنا بعض الصفات التي لا دليل عليها، فإذا وجدنا لها دليلاً تكلمنا عليها بجراءة ولم نخف.(63/74)
فهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، وكان تلامذتهم يتكلمون بالدليل ولا يبالون، وهكذا نقل عنهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنهم كانوا وسطاً؛ ليسوا من الذين يعرضون عن هذه الأشياء ولا يذكرونها في عقائدهم، ويستوحشون إذا ذكرت؛ كما نقل أن رجلاً انتفض لما سمع حديثاً في الصفات استنكاراً لذلك، فقال علي: (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه) كأنهم لا يجرؤون على أن يتكلموا بشيء من الآيات والأحاديث التي تشتمل على ذكر صفة من الصفات، والحق أن نتجرأ ونتكلم بها ولا نتردد في إثباتها هذا هو الصواب، ولكن لا نتقعر ونغلو فنتكلم في أشياء لا دليل عليها.
(فما فوقهم محسر) أي الذين يتجاوزونهم، و (ما دونهم مقصر) وهم بين ذلك على هدى مستقيم؛ أي وسط بين طرفين، وهكذا أهل السنة متوسطون بين طرفي نقيض بين ممثلة وبين معطلة.
مسألة: قول الإمام الأوزاعي رضي الله عنه في هذا الباب
قوله:
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي رضي الله عنه: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول.
شرح:
الأوزاعي إمام أهل الشام من كبار تابع التابعين، أدرك كثيراً من علماء التابعين، وكان قدوة وأسوة في علمه رضي الله عنه ورحمه، وكان أيضاً من جهابذة الأمة ومن علمائها الذين حفظ الله بهم السنة في تلك البلاد.
يحثنا -رحمه الله تعالى- في هذا الأثر على أن نتبع آثار من سبق، وإن هجرَنا من هجرَنا؛ (وإن رفضك الناس) ، كأنه استشعر أن هناك من يهجر الحق ويهجر أهله الذين يروون أحاديث السنة، وأحاديث الصفات، ويمقتهم ويرميهم بأنهم مشبهة، وبأنهم ممثلة، فيقول: عليك بآثار من سبق، يعني الآثار التي يروونها، والتي يقولونها ويذهبون إليها، ويريد بمن سبق الصحابة، والتابعون من علماء الأمة، عليك بآثارهم؛ اتبع آثارهم وسر على نهجهم.(63/75)
(وإن رفضك الناس) ، ولو لقيت هجراناً وإهانة ما دمت على الحق، وما دمت متبعاً لمن هم على الحق، فلا تبال بمن هجرك، أو حقرك، أو مقتك.
(وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول) يعني احذر الآراء، (الآراء) هنا جمع رأي، والقول الذين لا دليل عليه يسمى رأياً، وجمعه أراء، وهي الأقوال التي يقولها بعض الناس بمجرد فكره، وبمجرد نظر يراه لا دليل عليه، فهؤلاء يجب أن نحذرهم ونبتعد عنهم.
وهذا الأثر فيه أن الحق أحق أن يتبع، وأن هناك من يشجع على الباطل ويدعو إليه ويزخرف، ويأتي له بعبارات مشوقة، وما أكثرهم في زماننا، يأتون بكلمات وعبارات مبهرجة يمدحون بها طرقهم، كطرق التصوف مثلا أو التشيع، أو النفي، أو التعطيل ونحو ذلك، ويزعمون أن هذه الطريقة المثلى، وأن سلوكها هو الطريق الأقوم، وأن الذين عليها هم أهل النجاة، وأن من خالفها فهو من أهل الهلاك أو التردي، وما أكثرهم في كل زمان.
مسألة: قول الإمام الأدرمي رضي الله عنه في هذا الباب
قوله:
وقال محمد بن عبد الرحمن الأدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها. قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء علمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها. قال: أفوسعهم أن لا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم. قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل. فقال الخليفة -وكان حاضراً-: لا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسعهم. وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت فلا وسع الله عليه.
شرح:(63/76)
هذه القصة مشهورة في كتب السنة: توجد فيها بطرق كثيرة، وبألفاظ كثيرة كما في كتاب الشريعة (للآجري) وغيره، وفي ترجمة الإمام أحمد (لابن الجوزي) ، وفي غيره من كتب أهل السنة. هذا الإمام سماه بعضهم محمد بن عبد الرحمن، وبعضهم سماه عبد الله بن محمد، عالم من علماء الأمة.
ذكروا أنه لما أحضر إلى الخليفة، والخليفة في زمنهم هو الواثق، قال له: ناظر أبا عبد الله يريد المبتدع الخبيث الذي يقال له: أحمد بن أبي دؤاد، وكان هو الذي زين للخلفاء أن يفتنوا العلماء، وأن يلزموهم بهذه البدعة التي هي القول بخلق القرآن، فقال هذا العالم -رحمه الله-: إنه ليس أهلاً أن يناظرني ولا أن أناظره؛ فغضب الخليفة، وقال: أبو عبد الله ليس كفؤاً وليس أهلاً؟ فطمأنه، وقال: مهلاً سوف يظهر الحق ويتبين عند المناظرة، أناظره تمشياً على رغبتك. وقد رويت القصة بألفاظ مطولة، كما في كتاب الشريعة.
وذكروا أنه جيء به موثقاً إلا أنه أصرَّ أن يعلن أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما أحضر عند الخليفة وبدأ في المناظرة، أتى بما ملخصه أن قال له: هذه البدعة، أو هذه المقالة التي تقول بها أنت، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ خلفاء الأمة، الخلفاء الراشدون، خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، الذين زكاهم وشهد لهم بالهداية؛ هل علموها أو لم يعلموها؟
فقال أولاً: ما علموها. فتعجب وقال: كيف تعلمها أنت؟ ولم يعلمها الصحابة والخلفاء الراشدون؟، ولم يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمتها أنت؟ هل نزل عليك وحي؟ هل أنت رسول من الله تعالى؟ ما الدليل على رسالتك؟ ما هو الوحي الذي نزل عليك حتى تكون أنت أعلم من الرسول، وأعلم من الخلفاء؟ فتحير ابن أبي دؤاد، ولم يجد بداً من أن يقول: بل علموها.(63/77)
فانتقل محمد بن عبالرحمن -رحمه الله- إلى أن يقول له: ما دام أنهم علموها، فهل دعوا إليها، وفتنوا الناس وألزموهم بما ألزمتهم به، وعذبوا من أنكرها وحبسوهم، وأنكروا على من خالفهم، أو لم يدعوا إليها؟
من المعلوم أنهم ما دعوا إليها، بل ولم يشتهر أنهم قالوا: إن القرآن مخلوق، ولم يقل ذلك أحد من الأمة، فقال: لم يدعوا إليها. لابد أن يعترف لأن التواريخ في القصص المشهورة؛ أنهم ما دعوا إليها، ولا فتنوا أحداً، ولا ألزموه أن يقول هذه المقالة الشنيعة التي هي الإلزام بأن القرآن مخلوق، فلما لم يجد بداً التزم واعترف بأنهم ما دعوا إلهيا.
فعند ذلك قال له: فهلا وسعك ما وسعهم ما دام أنهم علموها وسكتوا، وتركوا الناس على معتقداتهم ولم يفتنوا أحداً، ولم يلزموا أحداً، ولم يعذبوا أحداً، ولم يقولوا لهم هذه المقالة باطلة، أو هذه المقالة حق أو نحو ذلك. فاسكت كما سكتوا، ويسعك ما وسعهم، فإن كنت على صواب فصوابك لنفسك، ولا تغير عقائد غيرك، وإن كنت على خطأ فخطؤك على نفسك، أما غيرك فلا تغير عليهم ما دام الرسول وصحابته لم يغيروا عليهم ولم يفتنوهم، فانقطعت حجته عند ذلك.
والخليفة الذي كان قد سبب الفتنة، والذي كان أول من اتصل به ابن أبي دؤاد وبشر المريسي من الخلفاء -هو الخليفة المأمون، وهو ابن هارون الرشيد، هذا الخليفة هو الذي أظهر قوله بخلق القرآن، ودعا إليه، وفتن كثيراً من الأئمة، وجيء بالإمام أحمد إليه، فدعا الله أن لا يريه وجهه، فاستجاب الله دعوته، فمات المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد.(63/78)
ولكن تولى الخلافة بعد المأمون أخوه المعتصم، وكلاهما من أولاد الرشيد رحمه الله، وهو رشيد كاسمه؛ كان يغزو سنة ويحج سنة، وكان ينصر السنة كأبيه وجده، ولكن ولداه المأمون والمعتصم اتصل بهما هؤلاء المبتدعة، وزينوا لهما البدعة التي هي إنكار الصفات وإنكار كلام الله تعالى، وإنكار أن يكون القرآن كلامه، والقول بأنه مخلوق، حتى جيء بالإمام أحمد وبقي سجيناً عند المعتصم، وجلد في زمنه عدة مرات، وأطيل تعذيبه، وعذّب عذاباً شديداً، ولكنه تحمل ذلك وصبر.
ثم بعد ثماني سنين مات المعتصم، وتولى بعده ولده الواثق الذي جرت عنده قصة الأدرمي، والواثق ولد المعتصم، والصحيح أنه رجع عن هذه المقالة بسبب هذه الحجة التي احتج بها الأدرمي رحمه الله.
وتولى بعده ولده المتوكل بن الواثق وهو الذي نصر السنة، وأكرم الإمام أحمد، وأعزه ومكنه من أن يظهر السنة، واستدل على أن أباه الواثق قد رجع عن هذه المقالة بقصة الأدرمي معه؛ حيث إنه قال: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً. ما دام أنه وسعهم السكوت، فكيف لا يسعنا؟ الأولى بنا أن نسكت كما سكتوا، وأن نكل الناس إلى ما يعتقدونه من الأدلة.
ومع أن الإمام أحمد -رحمه الله- قد بالغ في ذكر الأدلة التي استدل بها عندهم. وذكر لهم أحاديث وآيات إلا أنهم لم يقتنعوا واستمروا على مقالتهم الباطلة إلى أن ظهر الحق وأعز الله أهله والحمد لله.
مسألة: بعض آيات الصفات
قوله:
فمما جاء من آيات الصفات قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) (الرحمن:27) ، وقوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) (المائدة:64) .
شرح:(63/79)
قد عرفنا أن صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: صفات ذات، وصفات فعل، وأن الصفات الذاتية هي التي تلزم الذات، وتكون ملازمة للموصوف بها دائماً لا تنفك ولا تنفصل في وقت من الأوقات، فهي جزء من ذات الشيء التي هي ماهيته وما يتكون منه.
فمثلاً إذا قلنا إن هذا الإنسان الماثل أمامنا يوصف بصفات ذاتية، وبصفات فعلية؛ فسمعه، وبصره، ولسانه، ويده، ورجله، وبطنه، وظهره أجزاء منه، وكذا أجزاؤه الباطنة كقلبه، ورئتيه، وكبده، وأمعائه هي أجزاء منه، فنحن نقول: إن الصفات الملازمة للموصوف هي صفات ذاتية.
فالله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، وقد أخبر عن نفسه بأنه متصف بصفات ملازمة له لا يمكن أن تنفك عنه، فمن ذلك هاتان الآيتان، فصفة الوجه صفة ذاتية؛ لا يمكن أن يكون بلا وجه في وقت من الأوقات، وقد ذكر الله تعالى صفة الوجه في عدة آيات منها هذه الآية: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (الرحمن:27) ، ومنها قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) (القصص:88) .
وترد في مواضع كثيرة كقوله تعالى: (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) (الليل:20) ، وكقوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) (الإنسان:9) ، وكقوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (الكهف:28) .
وهذه الآيات كلها دالة على صفة الوجه، فإذا أثبته أهل السنة؛ فإنهم يقولون: نثبته كما ورد، ولكن لا نخوض في أكثر من ذلك، ولا نقول: إن وجه الله يشتمل على كذا وكذا، حيث إن ذلك يحتاج إلى دليل. وهذا هو القول الصحيح.(63/80)
وأما الأحاديث فقد ورد -أيضاَ- فيها كثيراً إثباتُ صفة الوجه كقوله صلى الله عليه وسلم: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلى رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) ، وفي الحديث المشهور في الدعاء: (أسألك لذة النظر إلى وجهك) وفي حديث الحجاب يقول صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) . وغير ذلك، وهي أحاديث صحيحة مشهورة تلقاها، وتقبلها أهل السنة، وآمنوا بهذه الصفة كما ذكرها الله وأثبتها لنفسه، وقالوا: هذه صفة كمال.
وأما قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (البقرة:115) فهذه تكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: ليست من آيات الصفات، فإن المراد هنا (فثم وجه الله) أي فثم وجهة الله التي وجهكم إليها لتصلُّوا إليها، فلا يصح استدلال أهل الحلول بها على أن وجه الله في كل مكان -تعالى الله عن قولهم- بل نقول: وجه الله في هذه الآية: الجهة التي يوجه العبد إليها؛ أي فثم الوجهة التي وجهكم إليها، وأمركم بأن تتوجهوا إليها؛ لقول الله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة: 148) ، ولا يقال: إن هذا تكلف، وإن هذا تأويل، لأن هذا تقتضيه اللغة.
وأما من أنكر صفة الوجه وهم جميع المبتدعة كالمعتزلة، ومن انضم إليهم كالرافضة على عقيدة الاعتزال، وكذلك الخوارج، ومنهم الإباضية - ينفون صفة الوجه لله تعالى، ويفسرونه بالذات، إذا جاءتهم الآيات التي فيها إثبات الوجه قالوا: المراد الذات، قال تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (الرحمن:27) أي ذاته (كل شيء هالك إلا وجهه) (القصص:88) أي ذاته.(63/81)
الجواب: إن هذا وإن كان صحيحاً في اللغة؛ أنه يطلق الجزء على الكل - لكن لا شك أنها دالة على إثبات صفة الوجه، وأنه جزء من الذات، فإن النص على الوجه يدل على ثبوته، والذات تابعة للوجه، ويرد عليهم أيضاً بالأحاديث التي فيها التصريح بالوجه كقوله صلى الله عليه وسلم: (لأحرقت سبحات وجهه) ، (إلا رداء الكبرياء على وجهه) فإنها دالة عليه صراحة، ونحن نؤمن بإثبات هذه الصفة ولا نكيفها، ومعلوم أيضاً أنها من صفات الكمال.
وتأولها بعض المتأولين، وقالوا: المراد بالوجه عند العرب الجانب أو ما يعبر عنه بالبعض، أو نحو ذلك، ويقولون مثلاً: وجه هذه المسألة كذا وكذا، أو وجه هذا الجواب كذا وكذا، فيحملونه على أنه: ما يفهم منه، أو ما يفسر به؛ ولكن هذا يصعب عليهم تأويله في الأدلة الكثيرة.
ثم الآية الثانية قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) (المائدة:64) فيها إثبات صفة اليدين، وهي أيضاً صفة ذاتية، ذكرها الله تعالى بالتثنية في هذا الموضع، وذكرها بالتثنية في موضع آخر في قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) (ص:75) وذكرها بصفة الجمع، ولكن مع ضمير الجمع في قوله تعالى: (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً) (يس:71) ، وبصفة الإفراد في قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك) (تبارك:1) ، (بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) (آل عمران: 26) ، وذكرها بلفظ يمين في قوله تعالى: (والسموات مطويات بيمينه) (الزمر:76) هذا في القرآن.
والسنة المتواترة التي فيها ذكر اليد أو اليدين، أو نحو ذلك كثيرة، وكثيراً ما يحلف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (والذي نفسي بيده) في عشرات الأحاديث وفي الحديث صلى الله عليه وسلم قوله: (ناصيتي بيدك) كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) .(63/82)
وهكذا في قوله صلى الله عليه وسلم: (يمين الرحمن ملأى سحاء -إلى أن قال-: وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع) وذكر قبضه للمخلوقات فقال صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: (أنا الملك أين ملوك الأرض؟) ، وفي رواية: (ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟. أين المتكبرون؟، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) .
والأحاديث كثيرة في ذلك، وأورد كثيراً منها ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوما القيامة) (الزمر:76) مما يدل على ثبوت هذه الصفة، والطريق فيها أيضاً الطريق في سائر الصفات؛ وهو أن نثبت لله تعالى يداً كما أثبت لنفسه ولكن لا نبالغ فنقول: إنها كأيدي المخلوقين.
وورد في بعض الأحاديث ذكر الأصابع: (إن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على أصبع، فيقول ... الحديث) .
فنقتصر أيضاً على ذلك، ولا نقول: إن هذا مشابه لصفات المخلوقين، ولا نقول: إن هذا ضرب مثل؛ كما يقوله النفاة الذين ينكرون هذه الصفات، ويجعلونها أمثلة لهيبة المقام، ويقولون: ذكر اليمين، وذكر القبضة، وذكر هز السماوات، وهز الأرض إنما هو لتهويل المكان ولتهويل الأمر، ولجلب الفزع والخوف في القلوب، ولاهتمام الناس بهول ذلك اليوم، وإلا فليس هناك قبض وليس هناك هز، وليس هناك يمين ولا غيرها. هكذا رأيت في تفسير كثير من الأشاعرة ونحوهم الذين ينكرون هذه الصفات.(63/83)
ولا شك أن هذا رد للأدلة الواضحة، وتكلف في ردها، ومعلوم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم فصيح، يقدر على أن يوضح للناس ما يهمهم وما يعتقدونه، فلو كان المراد أن يهول الأمر لأفصح لهم بذلك، فكونه يقول:) إن الله يقبض السماوات والأرضين، ثم يهزهن) لا شك أن هذا إخبار بشيء واقع ولابد؛ وما ذاك إلا ليبين أن الرب سبحانه وتعالى ذو العظمة، وذو الجلال والكبرياء الذي تصغر عنده المخلوقات والأجرام العلوية، والأجرام السفلية والمخلوقات كلها مع تباعدها وتنائيها -حقيرة وفقيرة وذليلة ومهينة أمام عظمة الباري وجلاله وكبريائه.
إذا تصور الإنسان عظمة هذه المخلوقات، ثم حقارتها أمام عظمة الرب سبحانه وتعالى عظم ربه في قلبه وهاب أن يعصيه، وهاب أن يخالف أمره، واستحضر أنه على كل شيء قدير، وأنه لا يتعاظمه شيء، وأن جميع المخلوقات هي ملكه وخلقه وتدبيره، فيكون هذا سبباً في ذكر الأدلة على عظمة الله سبحانه وتعالى، حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) الخردلة التي هي أصغر من حبة الدخن كما هو معروف، فالله تعالى ذكر أنه يقبض السماوات والأرض، وروى ابن عباس ذكر مقدارها في قبضة الرب سبحانه وتعالى، والحاصل أن الكلام على إثبات اليدين.
ونقول لماذا ذكر الله اليد بلفظ مفرد كقوله: (تبارك الذي بيده الملك) (الملك:1) ؟(63/84)
الجواب: أن المراد جنس اليد، فإن الملك الحقيقي بيده سبحانه وتعالى، ولماذا ذكرها بلفظ جمع: (مما عملت أيدينا) (يس:71) ؟ فالجواب أن المراد هنا التعظيم، فإنه ذكر نفسه بلفظ الجمع الذي يدل على العظمة، فإنه واحد سبحانه، ولم يقل (أيديه) بل قال: (أيدينا) بضمير الجمع مثل قوله: (إنا خلقنا الإنسان) (الإنسان:2) (إنا) ضمير للجمع، والجمع هنا للتعظيم، فكذلك يقال (أيدينا) للجمع، فالجمع للتعظيم؛ جمع الأيدي وجمع الضمير، فهذا وجه الإفراد ووجه الجمع.
يبقى التثنية في هذه الآية ونحوها، فذكرها بالتثنية دليل على أنها مقصودة، وأن لله تعالى يدين كما وصف نفسه، ودليله في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وكلتا يديه يمين) ، فدل على أن العدد مقصود، وأن لله يدين كما وصف نفسه، هذا هو قول أهل السنة.
أما النفاة فماذا يقولون؟ تجدون في تفاسير الأشاعرة والمعتزلة ونحوهم -لهذه الآيات عجائب من أمرهم، وقد حكى ابن جرير رحمه الله عند تفسيره هذه الآية في سورة المائدة أقوالاً عنهم، وسماهم: (أهل الجدل) ، في قوله: اختلف أهل الجدل في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) (المائدة:64) . فذكروا أن المراد باليد النعمة، أو أن المراد باليد القدرة، أو أن المراد بذكر اليدين هنا تمثيل للكرم (يداه مبسوطتان) أي هو كريم وجواد يعطي ويكثر العطاء، وأن العرب تذكر اليدين وبسطهما وليس المراد حقيقة البسط، وإنما المراد كثرة العطاء، واستدلوا بقوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) (الإسراء:29) أي مغلولة عن النفقة (ولا تبسطها كل البسط) (الإسراء:29) ، أي تنفق نفقة طائلة.
ثم في النهاية قال رحمه الله: والقول الأخير أن اليد صفة من صفات الله. ثم أخذ ينصر هذا القول، ويؤيده، وأنها صفة من صفات الله تعالى أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.(63/85)
وذكر أن الله خلق آدم بيده في قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) (ص:75) وأن تخصيص آدم بيده دليل على أنها اليد التي هي صفة من صفات الله تعالى. وأنه لو كان المراد خلقت بقدرتي لم يكن لآدم خصوصية، فإن إبليس خلق بقدرة الله، وكذلك الشياطين والجن، والمخلوقات كلها، والملائكة والسماوات والأرض كلها خلقت بقدرة الله، فلا يكون لآدم ميزة على هذه المخلوقات؛ على قولهم هذا.
والصواب أن قوله تعالى: (خلقت بيدي) دلَّ على فضيلة اختص بها، ومن ثم فإن اليد هنا على الحقيقة، وهذا القول هو الأرجح، وأنها صفة من صفات الله أثبتها لنفسه، فلا نخوض في أكثر من ذلك، وننزه الله عن أن يكون مشابهاً للمخلوقات.
مسألة: بعض آيات صفة النفس والمجيء والإتيان
وقوله:
وقوله تعالى إخبار عن عيسى عليه السلام أنه قال: (تعلم ما في نفس ولا أعلم ما في نفسك) (المائدة:116) ، وقوله تعالى: (وجاء ربك) (الفجر:22) ، وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) (البقرة:210) .
شرح:
قوله: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فيها إثبات النفس لله تعالى، والنفس حقاً تطلق على الذات، قال الله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) (الأنعام:54) على نفسه يعني على ذاته، وتقول: جاءني فلان نفسه يعني تأكيداً حتى لا يُتوهم أنه جاءك رسوله أو ابنه، فإثبات النفس على أنها الذات معروف، ويمكن القول بأن قصد عيسى عليه السلام في قوله: (تعلم ما في نفسي) ما في ضميري؛ ما أُسره في نفسي وما أخفيه في قلبي، ومالا أتكلم به بل أحدث به نفسي خفية في قلبي، (ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) .
وبكل حال؛ هذا دليل على إثبات هذه الصفة، وإذا أطلقت النفس على الذات، أو أطلقت على ما في النفس يعني ما هو خفي، وما يضمره الإنسان، أو يخفيه الرب تعالى كان هذا سائغاً، وكان دليلاً واضحاً على إثبات هذه الصفة.(63/86)
وقد تأولها كثير من المنكرين، وأنكروا إطلاق النفس على الله تعالى، مع أنها أطلقت في القرآن في هذه الآيات وما أشبهها، وكذلك في بعض الأحاديث، ولكن لا عبرة بهم ولا بتأويلاتهم، فنحن نتقبلها، ونكل كيفيتها إلى خالقها، هذا إثبات صفة النفس.
أما الآية التي بعدها: إثبات صفة المجيء (وجاء ربك) (الفجر:22) ، وكذلك قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) (البقرة:210) ، ومثلها قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك) (الأنعام: 158) .
هذه الآيات مما حصل فيها اختلاف كثير وإنكار كبير للمتأخرين من المتكلمين وبالغوا في تأويلها وحرفها عن ظاهرها وتجدهم ينكرون صفتي المجيء والإتيان ونحو ذلك، بل قرأت في تفسير بعض المعتزلة أو الأشاعرة - لمَّا أتى على الآية من سورة البقرة: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) قال: وأما إتيان الله؛ فقد أجمع المسلمون على أن الله منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثان والمركبات هذا علك منزه عن المجيء والذهاب.
وسمعت من حكى مناظرة جرت بين سني وبين مبتدع؛ فقال المبتدع: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقال السني: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء، فجعلوا المجيء والذهاب من صفات المحدثات والمركبات -كما يقولون- ونزهوا الرب عن أمثال هذا. وجعلوا النزول والمجيء والإتيان الذي ذكره الله تعالى أنه زوال عن مكانه وحركة، وجعلوا هذا تشبيهاً لمجيء المخلوق وانتقاله وما أشبه ذلك، ولكن لا إنكار في شيء من ذلك؛ فالأحاديث والآيات صريحة واضحة وليس لنا أن نتدخل في تأويلها، ونسعى في تحريفها.
ثم إن المتأخرين من المتكلمين يقولون في آيات المجيء والإتيان إن فيها قولين:(63/87)
القول الأول: ينسبونه للسلف، وهو أنهم يعتقدون أن السلف يسكتون ولا يعتقدون فيها مجيئاً حقيقياً بل يسكتون عنها، ويتركون الكلام فيها، ويمرونها دون أن يتكلموا فيها أو يفسروها بأي نوع من أنواع التفسير، وإنما يسكتون عنها دون الخوض فيها، ويقولون: لا تأويل لها ولا تفسير لها ولا نخوض فيها، ولا نتكلم فيها، ولا ندري ما معناها، ولا نبحث في دلالتها. هكذا يزعمون أن السلف على هذه الطريقة.
والقول الثاني: تأويلهم لها بأنواع من التأويلات المتكلفة، وأكثرهم على أن فيها مقدراً تقديره: جاء أمر ربك، أو يأتيهم الله أي أمر الله (أو يأتي ربك) (الأنعام:158) أي أمر ربك.
وكان من جملتهم زاهد الكوثري الذي حقق كثيراً من الكتب وأفسدها، فمن جملة ما حققه كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي، فإنه أفسده بتعليقاته عليه، ولما أتى على هذه الآية قال: إن الله يقول في سورة النحل: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) (النحل:33) ، قال: ما دام في سورة النحل (أو يأتي أمر ربك) فإنا نقول كذلك في سورة البقرة (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) (البقرة:210) أي أمر الله، وكذلك آية الأنعام (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك) أي أمره؛ وكذلك في سورة الفجر (وجاء ربك) (الفجر:22) ، أي جاء أمره فجعل هذا محمولاً على الآية التي في سورة النحل، وقال: إن القرآن يفسر بعضه بعضاً.
ونحن نقول: لا يلزم من إتيان أمر الله في آية سورة النحل عدم إتيانه تعالى في آية أخرى، وإذا أثبتنا لله الإتيان قلنا يجيء كما يشاء، والأحاديث التي في الشفاعة فيها؛ أن بني آدم يطلبون الشفاعة ليأتي الله لفصل القضاء بين عباده، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: بأنه إذا طلبت منه الشفاعة جاء، فإذا رأى ربه سجد، وأطال السجود، فيقول الله تعالى له: (ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع.. الحديث) .(63/88)
وذلك دليل على أن الله تعالى يجيء لفصل القضاء مجيئاً يليق بجلاله، ولا يلزم من ذلك تشبيه بالمحدثات والمركبات، فنعتقد هذه الصفة ولا نقيسها على إتيان مخلوقاته بل يأتي الله تعالى ويجيء كما يشاء، ويفصل بين عباده، ولا ينافي ذلك عظمته وجلاله وكبرياءه وصغر المخلوقات بالنسبة إليه، وما ذاك إلا أنا لا نحيط به علماً، ولا نكيفه، ولا نكيف أية صفة هو عليها، هذا هو القول الحق.
وأما الآيات التي فيها إتيان أمر الله كقوله تعالى: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) (الحشر:2) ، فالمراد أتاهم الله بعذابه، وذلك لأنه معروف أن الله أرسل إليهم عذاباً؛ وهو الرعب الذي قذفه في قلوبهم، قال تعالى: (وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم) (الحشر:2) .
مسألة: بعض أيآت صفة الرضا والمحبة والغضب
والسخط والكراهية والمكر
قوله:
وقوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) (البينة:8) ، وقوله تعالى: (يحبهم ويحبونه) (المائدة:54) ، وقوله تعالى: (وغضب الله عليهم) (الفتح:6) ، وقوله تعالى: (اتبعوا ما أسخط الله) (محمد:28) ، وقوله تعالى: (كره الله انبعاثهم) (التوبة:46) .
شرح:
ذكرنا أن صفات الله تعالى: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وهذه الآيات اشتملت على الصفات الفعلية، وهي التي يتصف بها إذا شاء، ولا تكون ملازمة للذات دائماً بل يتصف بها إذا شاء، ويتصف بضدها أو بغيرها؛ لأنهما ضدان، فعندنا في هذه الآيات الرضا والغضب؛ وفي آيات كثيرة.
مثال الرضا (رضي الله عنهم ورضوا عنه) في عدة سور، وكذا قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين) (الفتح:18) .
ودائماً عندما نذكر الصحابة نقول: رضي الله عنهم، عملاً بقوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) (التوبة:100) ، فرضا الله تعالى صفة من صفاته، ولكنها صفة فعل، يرضى إذا شاء ويغضب إذا شاء.(63/89)
وقد ذكر الله الغضب في عدة آيات كقوله تعالى: (والخامسة أن غضب الله عليها) (النور:9) ، وكقوله تعالى: (وغضب الله عليه ولعنه (النساء:93) ، وكقوله تعالى: (وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً) (الفتح:6) ، وفي حديث الشفاعة (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فأثبت أن هذا غضب متجدد، وأنه لا يكون بعد هذا اليوم مثله، ودل على أن الغضب صفة فعل يغضب على من يشاء، ويرضى عمن يشاء.
فعلى هذا، فالصفتان، لا يمكن أن يرضى ويغضب في حالة واحدة على شخص واحد، ولا يقال هذا رضي الله عنه وغضب عليه في حالة واحدة، بل رضي عن هذا وغضب على هذا.
فالرضا والغضب صفتا فعل، وهذه الصفات التي ذكرت في هذه الآيات كلها من صفات الفعل كقوله تعالى: (كره الله انبعاثهم) (التوبة:46) ، (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه) (محمد:28) حيث أثبت لنفسه صفة السخط وصفة الكراهة، وكقوله تعالى: (باء بسخط من الله) (آل عمران: 162) .
والآيات التي فيها صفات الفعل كثيرة مثل قوله تعالى: (يخادعون الله وهو خادعهم)) النساء:142) ، فيها صفة المخادعة، قال تعالى: (الله يستهزئ بهم) (البقرة:15) ، فيها صفة الاستهزاء، قال تعالى: (فلما آسفونا) (الزخرف:55) ، فيها صفة الأسف، قال تعالى: (ومكروا ومكر الله) (آل عمران:54) ، (إنهم يكيدون كيداً * وأكيد كيداً) (الطارق:15-16) صفتا المكر والكيد، وأشباهها، كل هذه صفات فعل نثبتها لله كما يشاء، ونقول: إنه يسخط على من يشاء، ويرضى عمن يشاء.
ومثلها أيضاً صفات المحبة، قال تعالى: (يحبهم ويحبونه) (المائدة:54) ، وصفات الرحمة في آيات كثيرة، ومنها اشتق اسم الرحمن، ووصف نفسه بالرحمة، قال تعالى: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) (غافر:7) ، (ورحمتي وسعت كل شيء) (الأعراف:156) ، (إن رحمت الله قريب من المحسنين) (الأعراف:56) .(63/90)
فطريقة أهل السنة في هذه الصفات إثباتها ونفي النقص عنها، وذلك لأن الله أخبر بها، والله لا يخبر إلا بما هو حق، ولو كانت قد تستنكر أو تذم في حق الآدمي، كما في الصحيح عن أبي هريرة قال: إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: (لا تغضب) فردد مراراً قال: (لا تغضب) ، نهاه عن الغضب، والله تعالى يغضب، ولكنه يغضب على من يستحق الغضب، وكذلك مثله السخط، والكراهية مذمومة، ولكن إذا كانت على من يستحق ذلك فهي صفة حق، وهي صفة ثبوتية أثبتها الله لنفسه.
وقد كثرت التأويلات من المبتدعة لهذه الصفات، فيقول بعضهم: كيف يستهزئ الله مع أن الاستهزاء جهل. واستدلوا بقوله تعالى -عن موسى-: (قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) (البقرة:67) ، فإذا كان موسى يقول: إن الاستهزاء، أو الهزؤ أو: الهزء، جهل، فكيف يقول الله تعالى: (الله يستهزئ بهم) (البقرة:15) .
وكذلك المكر والكيد، والمخادعة، والمقت، والأسف، وما أشبهها - هذه مذمومة للإنسان إذا صدرت منه؛ فإن الله تعالى نهانا بقوله تعالى: (لكيلاً تأسوا على ما فاتكم) (الحديد:23) ، فكيف يتصف الله تعالى بها، ولما قال عنهم: (يكيدون كيداً) (الطارق:15) ، قال: (وأكيد كيداً) (الطارق:16) ، ولما قال: (ومكروا مكراً) (النمل:50) ، قال: (ومكرنا مكراً) (النمل:50) .
فالجواب: إن هذا من باب المقابلة لفعلهم بمثله، ولكن لا يكون فعل الله مساوياً لفعل العبد، بل صفات الله المذكورة صفات أثبتها لنفسه، وهي لا تكون إلا على من هو أهل لها، ولها آثارها، فإذا قلت: ما هو أثر الغضب؟ الجواب: أنه إذا غضب فإنه يعذب من يغضب عليه، وقد ورد أثر الرضا في أن الله إذا رضي؛ فإنه ينعم على من رضي عنه ويثيبه - في حديث قدسي وإن كان ضعيفاً؛ لكنه يكثر الاستشهاد به للاستئناس بلفظه: (إذا عُصيتُ غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد) .(63/91)
على تقدير أن هذا يُستشهد به، فيه إثبات أثر الغضب، وأثر الرضى، ولو لم يأت في هذا الحديث، ولكن ذلك من مقتضياته، فأنت تقول للإنسان الذي تنصحه: لا تفعل ما يغضب الله، هذا الفعل يغضب الله، فهو يعرف أن الله إذا غضب يعاقب، اتبع ما يرضي الله عليك أو بما يرضى به عنك ربك، فهو يعرف أنه إذا رضي الله عنه أثابه، فهو يحرص على الفعل الذي به يكون ربه راضياً عنه، ويبتعد عن الفعل الذي يكون به الرب عليه غضبان، لأنه يعرف أن في هذا الغضب عذاباً، وفي الرضا ثواباً. إذاً فلهما آثار في الدنيا وفي الآخرة.
ويقال كذلك أيضاً في الصفات الأخرى؛ كصفة السخط، وصفة الكراهية، وصفة المقت، وصفة الأسف، وصفة الكيد، ويقال: إن الله يمكر بهؤلاء، يعني يعطيهم ثم يعطيهم، ثم يأخذهم على حين غفلة، فكأنه مكر بهم.
ورد في بعض الآثار؛ لما ذكر تمادي بعض الكفار والعصاة، قال: (مُكر بالقوم ورب الكعبة) يعني خُدعوا بما وسع عليهم، وما توسعوا فيه، مما أوقعهم في الذنوب، إلى أن حصل لهم ما حصل من نزول العذاب بهم بغتة وهم لا يشعرون.
فنستفيد أن هذه الآيات دالة على صفات فعلية، وأنها غير مكيفة، وأن الذين أنكروها وبالغوا في إنكارها ليس معهم إلا أدلة عقلية أجاب عنها شيخ الإسلام؛ كما في أول التدمرية لما قال لهم: أنتم تعترفون بالإرادة، والإرادة هي ميل النفس إلى المراد، وتنكرون الغضب وتقولون: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فلماذا فرقتم بينهما قالوا لا نفسر الأراء بأنها ميل القلب إلى المراد، فإن هذه إرادة المخلوق.
قال: فكيف تفسرون الغضب بأنه غليان دم القلب لطلب الانتقام، فإن هذا غضب المخلوق، فقد فرقتم بين متماثلين؛ أثبتم الإرادة ونفيتم الغضب، وكلاهما يفسر عندكم بهذا التفسير الذي هو من خصائص المخلوقين، فانقطعت بذلك حجتهم.
مسألة: بعض أحاديث الصفات
قوله:(63/92)
ومن السنة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) ، وقوله: (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة) ، وقوله: (يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة) .
شرح:
هذه من أحاديث الصفات الفعلية، فأحاديث النزول ذكر ابن كثير وغيره أنها متواترة، وأكثرها مذكور في كتاب ابن القيم المسمى (الصواعق المرسلة) ، وكذلك في كتاب حافظ الحكمي (معارج القبول) ، وفي أمهات الكتب - بلفظ (نزل) أو (ينزل) ، أو بلفظ (هبط) ، أو (يهبط) أو نحو ذلك.
ومعلوم أن النزول لا يكون إلا من أعلى، فهي دالة على أن الرب تعالى موصوف بصفة العلو بجميع أنواعه، وأنها صفة ذاتية -كما سيأتي- وأما النزول فإنه صفة فعلية، ينزل إذا شاء، وفي الحديث: أنه ينزل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، وأنه يقول: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) ، يتودد إلى عباده وهو عنهم غني.
وإذا آمنا بهذه الصفة فإننا نكل كيفيتها إلى الله الذي أثبتها لنفسه، ولا نتقعر في ذلك، ولا نبالغ في الإنكار. نقول: ينزل كما يشاء، فإذا قالوا: إن النزول يستدعي الحركة، أو أن يخلو منه العرش، أو أن يكون بعض المخلوقات فوقه، أو أن يكون محصوراً.
قلنا: سبحان الله وبحمده، تعالى الله عن أن تدركه الظنون، وأن تتخيله الأفهام، وأن تمثّله الأوهام، تعالى الله عن ذلك. بل الرب سبحانه وتعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) ونزوله يليق به، ولا يماثل أحداً من خلقه في هذه الصفة.(63/93)
وقد تكلم على هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في رسالة مستقلة بعنوان (شرح حديث النزول) وهي رسالة قد تقر ب من ستين صفحة أو أكثر في بعض الطبعات، كلها على هذا الحديث، وما ذاك إلا لكثرة الخوض فيه، حيث رفع إليه هذا السؤال، وكان من جملة ما أشكل على السائل الذي أنكره - قال: إن الليل يختلف باختلاف البلاد، فقد يكون ثلث الليل في هذا البلد ضحى ونهاراً في بلد آخر، فيلزم من ذلك أن يكون النزول مستمراً عند كل أهل جهة في ثلث ليلهم؟
أجاب شيخ الإسلام: أنه لا مانع؛ فإن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، ولا مانع أن ينزل عند هؤلاء وهؤلاء كما يشاء، وأيضاً يمكن أن يختص النزول ببلاد المسلمين.
وبكل حال؛ نثبت هذه الصفة ولا نردها -لماذا؟ - لأن الله تعالى على كل شيء قدير، ولأن الذين نقلوها هم الذين نقلوا جميع الأحكام، فإذا رددناها لزم أن نطعن فيهم وفيما نقلوه، ونخطئهم، ولهذا يقول أبو الخطاب الكلوذاني في عقيدته:
قالوا: النزول؟ فقلت: ناقله لنا قوم هم نقلوا شريعة أحمد
قالوا: فكيف نزوله؟ فأجبتهم: لم يُنْقلِ التكييف لي في مسند
يقول: ناقلوه لنا هم الذين نقلوا الشريعة، فيكف نرد هذا النقل ونقبل أمثاله وعشرات الأمثال له؛ لمجرد أن العقل أنكر هذا في زعمكم؛ مع أنه زعم خاطئ؟، وإذا أثبتناه فلا نخوض فيما وراء ذلك -كما تقدم- مع أننا لا نقول: إن نزوله يشبه نزول الإنسان من كذا وكذا؟ فإن هذا خطأ.(63/94)
وخطَّأ العلماء النقل الذي ذكره ابن بطوطة في رحلته، حيث إنه ذكر أنه وصل إلى دمشق - يقول: فوجدت فيها ابن تيمية، وإذا هو على المنبر يتكلم على النزول، فقال: إن الله ينزل كنزولي هذا - يعني من المنبر- قالوا: هذا كذب على ابن تيمية من ابن بطوطة، فابن تيمية قد تكلم على النزول في هذا الحديث ولم يقل إنه كنزولي من على المنبر، أو نزولي من السطح، أو نحو ذلك، بل قال: ينزل كما يشاء. ثم خطؤوه أيضاً، وقالوا: إن ابن بطوطة لما أتى إلى دمشق كان ابن تيمية قد سجن في القلعة، فكيف رآه؟ مما يدل على أنه كذب هذه الكذبة، أو تلقاها من بعض الكاذبين، فلا يقال: إن ابن تيمية يمثل النزول بنزول الإنسان، وحاشاه من ذلك.
الحديث الثاني: حديث العجب. (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة) هذا الحديث مروي في المسند وفي بعض السنن، وهو مما يستشهد به، وإسناده حسن، ومعناه أن الشاب الذي في سن الشباب عادة يكون له ميل إلى اللهو، وميل إلى اللعب، فإذا منّ الله على بعض الشباب وأقبلوا على العلم وعلى الدين وعلى العبادة، وصدوا عن اللهو وعن اللعب وعن ما يوجبه الصبا، فإن ذلك غاية العجب، وذلك فضل الله عليهم.
الشاهد من الحديث أن الله يعجب، وهي صفة فعلية، لا نكيفها، بل نقول: هي كما يشاء الله تعالى، وقد قرأ بعض القراء السبعة قوله تعالى في سورة الصافات (بل عجبت ويسخرون) (الصافات:12) بضم التاء؛ لإسناد العجب إلى الله، وهي قراءة سبعية.
ولما ذكرها ابن جرير في التفسير مع قراءة (بل عجبت) قال: هما قراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، ولو قال قائل: بأيتهما نزل القرآن؟، قلنا: نزل بهما جميعاً. ففي هذه القراءة أن الله يعجب، وكذلك في قوله تعالى: (وإن تعجب فعجب قولهم) (الرعد:5) أخبر الله أنه عجب؛ يعني إن الله يعجب منهم.(63/95)
وينكر كثير من الأشاعرة ونحوهم صفة العجب، ويقولون: إن العليم الخبير لا يعجب، ولا يجوز أن يوصف الله بالعجب، فإن العجب إنما هو انتباه شيء في الإنسان وفي القلب يورث دهشة أو نحوها، هذا قولهم، لكن نحن نثبت لله عجباً لا يشبه عجب المخلوقين، وهذه من الصفات الفعلية.
ومثلها أيضاً حديث آخر في السنن؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب) فإن في هذا الحديث إثبات صفة العجب، كما إن فيه إثبات صفة الضحك، وفي الحديث الآخر: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة) ، قالوا: كيف ذلك؟ قال: يقاتل أهدهما في سبيل الله فيُقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيُسلم، ثم يُستشهد) ، فكلاهما يدخلان الجنة؛ القاتل والمقتول؛ هذا مما يورث العجب.
فنحن نثبت هذه الصفة، وننفي عنها التشبيه، فالتشبيه يختص بالمخلوقين، ونقول: إن الله تعالى أثبتها لنفسه، ونحن نثبتها دون أن نبالغ في التمثيل، أو نقول عنها ما ليس بحق، ومعلوم أن صفة المخلوق تناسبه؛ فالضحك للمخلوق هو قهقهةٌ وصوت يكون عن شيء يعجبه أو يفرحه أو يسره، ولكن الرب يضحك كما يشاء، بصفة لا نعلمها ولا نعلم كيفيتها.
وفي الحديث الطويل الذي ذكره ابن القيم في (زاد المعاد) وأشار إلى أن علامة الصحة عليه، وهو حديث أبي رزين العقيلي، لما قال في أثناء الحديث: (فيضحك الله من قوله) ، فقال أبو رزين: أو يضحك الرب؟ قال نعم قال لن نعدم من رب يضحك خيرا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بكل حال هذه من الصفات الفعلية صفة الضحك لله كما يشاء.(63/96)
فإذا عرفنا هذه الصفات التي وردت في هذه الأحاديث وفي هذه الآيات وهي كثيرة؛ فموقف أهل السنة منها أنهم يقولون: آمنا بها كما جاءت، نقرها ونمرها، ونثبت حقيقتها ولا نرد شيئاً منها، ولا نتكلف فيها، ولا نقول فيها: إنها صفة نقص، والرب ينزه عنها؛ ولا نقول: إنها تستلزم أنه يتجدد لله شيء، أو ما أشبه ذلك كما يقول هذا الكثير من النفاة وأهل الاعتزال ونحوهم الذين إذا ذكرت لهم هذه الصفات يقولون: إن هذا يستلزم حلول الحوادث بذات الله، وحلول الحوادث ممتنع -تعالى الله أن تحل به الحوادث- وليس في هذا شيء من الحوادث بل الله يفعل ما يشاء، ويضحك إذا شاء، ويرضى إذا شاء، ويغضب إذا شاء، دون أن يكون في شيء من ذلك نقص، أو نسبة نقص إلى الله سبحانه وتعالى.
وقوله:
فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدِّلت رواته، نؤمن به، ولا نرده ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بسمات المحدثين، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) ، وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال؛ فإن الله تعالى بخلافه.
شرح:
لما ذكر الأحاديث التي في الصفات والآيات، أخبر بأن هذا ونحوه دلت عليه النصوص التي هي ثابتة يقيناً من الأحاديث الصحيحة -كحديث النزول ونحوه- ومن الآيات، فهذه النصوص نؤمن بها ونتقبلها، ونشهد بصحتها، ونثبتها صفات لله تعالى يقينية حقيقية، ولكن لا نكيفها، ولا نمثلها بصفات المخلوقين، بل ننزه الرب تعالى عن سمات المخلوقين وعن صفات المحدثين.
والصفات والسمات متقاربة. فالصفة هي ما يمكن أن ينعت به المنعوت، ولذلك يقولون في النعت إنه صفة. وأما السمة فهي العلامة -اشتقاقاً من الوسم في الدابة-، ويقال: وسمت الدابة سمة، فالسمات هي العلامات، فالله ينزه عن صفات المخلوقين وعن سمات المحدثين.(63/97)
ومعلوم أن المخلوقين محدثون، فالمخلوق حادث بعد أن كان معدوماً، ويأتي عليه العدم كما كان معدوماً ثم وجد، ثم يموت ثم يوجد، قال تعالى: (وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) (البقرة: 28) .
فإذا أتى عليه العدم دل على نقصه، فلا يشبه به الخالق الذي لا يأتي عليه العدم، قال تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) (الفرقان:58) ، فهذه الصفات نتقبلها، ولا ننكر شيئاً منها ولا نرده، نتوقف عندها ولا نقول من قبل أنفسنا شيئاً وإذا اثبتناها لم نشبهها بصفات المخلوق فنستحضر هذه الآية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) ، وقد تكررت هذه الآية في الشرح لأن فيها رداً على النفاة، ورداً على المشبهة.
ثم ذكر أن كل ما خطر بالبال، وكل ما دار في الخيال، فإن الرب بخلافه، كل ما تصوره المتصور أو تخيله في ذهنه، أو خطر بباله من الهيئات والكيفيات أو الصفات فإن الله تعالى بخلاف ذلك، ولعل الدليل على ذلك قوله تعالى: (ولا يحيطون به علماً) (طه:110) ، فإذا كانوا لا يحيطون به علماً فإنهم لو فكروا، وقدروا، ونظروا، وظنوا، وحدسوا، وتخيلوا أن الله تعالى على هذه الهيئة، أو على هذه الصفة فإن كل ذلك ليس بصواب، والله بخلاف ذلك، ولا يحيطون به علماً
مسألة أحاديث صفة الاستواء
قوله:
ومن ذلك قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (طه:5) ، وقوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) (الملك:16) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) ، وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة.
شرح:(63/98)
هذا ابتداء كلام المصنف في صفة العلو، وهي من الصفات الذاتية التي كثر فيها النزاع، وكثر فيها المخالف، وطال فيها الكلام والجدال بين أهل السنة والمبتدعة، وأنكرها أغلب الأشاعرة، والمعتزلة، وغالب الفرق الضالة، وما ذاك إلا أن إثبات صفة العلو في زعمهم يستلزم التحديد، أو التجسيم، ويستلزم التحيز، وهم يستعظمون أن يكون الله في حيز، أو في جهة، أو أن يكون الرب موصوفاً، بأنه في هذه الجهة، يخيل إليهم أنه إذا وصف بذلك فهو محصور، وأن الجهة تحويه، أو نحو ذلك.
ونحن نقول: إنه أثبت لنفسه هذه الصفة، ولا يلزم من ذلك ما تخيلوه، بل هو فوق العباد كلهم، ومع ذلك لا تحويه الجهة التي يشار إليها، وليس هناك محذور من إثبات هذه الجهة، أو هذه الصفة.
الدليل الأول: قوله: (الرحمن على العرش استوى) ذكر العلماء أن صفة العلو دل عليها العقل، وصفة الاستواء دل عليها السمع. فالعقل والفطرة يضطران كل عاقل أن يطلب ربه من فوقه، إذا دعا الله تعالى فإنه يجد من قلبه ارتفاعاً ونظراً إلى العلو ولا يلتفت يمنة ويسرة، ولا يطلب عن يمينه ولا عن يساره، ولا تحت ولا أمام ولا خلف، بل فطرته وعقله تضطره إلى أن يرفع يديه، ويرفع نظره، ويرفع قلبه، ويستحضر أن ربه فوقه. فهذه الفطرة فطرة عقلية لا يستطيع أحد أن يجحدها، بل ذكروا أنها -أيضاً- في البهائم؛ إذا أجدبت الأرض فإنها ترفع رؤوسها إلى السماء تستقي -كما قاله بعضهم- بل إنها فطرة كذلك في الجاهليين -كما ذكر ذلك ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية- قال: إنها مقالة معروفة حتى عند الجاهلية في قول بعضهم: (إذا كان ربي في السماء قضاها) .(63/99)
وبكل حال فصفة العلو صفة ذاتية، ثم هي أيضاً صفة ثابتة أدلتها متواترة لا مجال لإنكارها إلا مع المكابرة والمعاندة، وقد ذكر العلماء أن الأدلة عليها أنواع كثيرة، وبعض الأنواع أفراده قد تصل إلى عشرين دليلاً أو أكثر، وقد يصل مجموع الأفراد إلى ألف دليل مما يكون سبباً في الاضطرار إلى الإقرار بهذه الصفة، وقد حصرها ابن القيم في واحد وعشرين نوعاً في منظومته النونية الكافية الشافية، ولما قسمها إلى واحد وعشرين نوعاً بدأ بآيات الاستواء.
وآيات الاستواء وردت في سبعة مواضع: في سورة الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والسجدة، والفرقان، وفي سورة الحديد، كلها ذكر فيها الاستواء، وخص الاستواء بالعرش.
وقد ذكر ابن القيم أن هذا إجماع من العلماء من أهل السنة -قال في النونية في الدليل السادس عشر:
هذا وسادس عشرها إجماع أهل العلم، أعني حجة الأزمان
من كل صاحب سنة شهدت له أهل الحديث وشيعة الرحمن
لا عبرةً بمخالف لهم ولو كانوا عديد الشاء والبعران
ثم ذكر تفسيرهم لآيات الاستواء بقوله:
ولهم عبارات عليها أربع قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر، وقد علا، وكذلك ارتفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن
والأشعري يقول تفسير استوى بحقيقة استولى من البهتان(63/100)
فذكر أنهم فسروا الاستواء، ثم المشهور عندهم، والكثير منهم يقولون: استوى استواءً يليق بجلاله، ولكن لما كان الاستواء له معان فإنهم فسروه وسيأتي قول الإمام مالك الاستواء معلوم - وإذا كان معلوماً فإنه فصيح وبلغة فصيحة، ولابد أنه مفسر، ولابد أنه مترجم من لغة إلى أخرى، ولابد أن يكون له معنى، فلذلك فسروه بأربع تفسيرات:
التفسير الأول: استوى: استقر، وذلك مشهور عنهم، ومع ذلك فالنفاة قد أخذوا يوردون عليه إيرادات وحشية فرضية؛ أوردها ابن خطيب الري الذي هو الرازي صاحب التفسير الكبير، عندما أتى على هذه الآية (ثم استوى على العرش) (الأعراف:54) قال: إن هناك من فسره بالاستقرار وزيّفه بوجوه. ثم أطال في ذكرها، وكذلك صاحب الكشاف الذي هو الزمخشري، ونحوهما من المعتزلة والأشاعرة، ولكن لا عبرة في تزييفهم، فإن تلك التزييفات التي زيفوه بها، والتي طعنوا فيه بها، كلها تخيلات وعقليات لا يلتفت إليها مع وجود النص، ومع الذي تؤيده اللغة الفصحى، وإذا قلنا: استوى، واستقر فلا محذور في ذلك، فالله تعالى مستقر على عرشه، ولكن لا يلزم من ذلك محذور.
والتفسير الثاني: هو الذي يذكره ابن جرير، وابن كثير أيضاً عند تفسير الاستواء، يقول: (ثم استوى على العرش) أي علا. هكذا يقول، وهو صريح في العلو الذي هو العلو الحقيقي.
التفسير الثالث: الارتفاع؛ (استوى على العرش) أي ارتفع.
التفسير الرابع: الصُعود؛ (ثم استوى على العرش) أي صعد، وذكر ابن القيم أن أبا عبيدة يختار هذا القول، وأبو عبيدة هو معمر بن المثنى الشيباني، وهو من علماء اللغة، فسر (استوى) بمعنى صعد، وذكروا عنه أنه نقل عن بعض فصحاء العرب أنه طرق عليه الباب بعض أصحابه، وكان في علية مرتفعاً فقال لهم: استووا. يعني ارتفعوا، فكأنه يقول: إن الاستواء بمعنى الصعود، ومعلوم أيضاً أن الكلمة وردت بعدة عبارات.(63/101)
فوردت في القرآن غير مقيدة بحرف، قال تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى) (القصص:14) لم يكن بعدها حرف، فتفسر هنا بمعنى الكمال يعني كمل.
كما وردت مقيدة بإلى، ومقيدة بعلى؛ قال تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) (فصلت:11) ، (ثم استوى إلى السماء فسواهن) (البقرة:29) هنا قيدت بإلى، وتفسر أيضاً بمعنى ارتفع إليها.
وأما إذا قيدت بعلى فلا خلاف أنها بمعنى العلو، ومنه قوله تعالى: (واستوت على الجودي) (هود:44) يعني ارتفعت عليه واستقرت، وهو جبل رفيع لما نضب الماء استوت السفينة على ذلك الجبل، فهاهنا استقرت وصارت مرتفعة فوقه، وكذلك قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره) (الزخرف:13) ، وكذلك قوله تعالى: (فاستوى على سوقه) (الفتح:29) يعني ارتفع السنبل على سوقه، فعرفنا أن هذا دليل واضح على أنها إذا قيدت بعلى؛ فهي دالة على الارتفاع، إذاً فهي دليل واضح على أن الله فوق العرش كما وصف نفسه.
أما المعتزلة ونحوهم من النفاة فكبرت عليهم هذه الآية فأولوها بعدة تأويلات:
التأويل الأول: يُقال أن الجهم الذي هو رئيسهم لما قرأ هذه الآية وعنده بعض أصحابه قال: لو تمكنت لمحوت هذه الآية من المصاحف، ولما كانت صريحة في الرد عليهم لم يجدوا بداً من الخوض في تأويلها، وأكثرهم فسر استوى باستولى، واستدلوا ببيت يقول فيه الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق
ولا يدري من الذي قال هذا البيت، وبعضهم يقول: إنه للأخطل، والأخطل نصراني لم يدخل في الإسلام، ولو كان عربياً من بني تغلب، ولعل ذلك هو الذي أراده ابن القيم بقوله في النونية:
ودليلهم في ذاك بيت قاله فيما يقال الأخطل النصراني
وفي لامية شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيها:
قبحٌ لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل(63/102)
ثم نقول: هذا البيت على تقدير صحته، فالاستواء فيه بمعنى العلو، استوى على العراق، يعني استقر على سريرها، فهو دال على العلو، فلا يكون دليلاً على الاستيلاء، ثم نقول: إن الاستيلاء ليس خاصاً بالعرش، وهذا هو الذي ذكره ابن القيم عن الأشعري:
والأشعري يقول تفسير استوى بحقيقة استولى من البهتان
الأشعري هو أبو الحسن الذي تنتسب الأشاعرة إلى مذهبه الأوسط، وقد رجع عنه في كتابه (الإبانة) . فيقول فيها: إنهم فسروا الاستواء بالاستيلاء، ولو كان الأمر كما يقولون: لم يكن للعرش ميزة؛ فإن الله تعالى مستولٍ على كل شيء، ولا يجوز أن يوصف بأنه استولى على غير العرش، فلا يجوز أن تقول: إن الله استوى على الجبال، إن الله استوى على الأرض، إن الله استوى على الحشوش، إن الله استوى على الأشجار وعلى القصور؛ وحيث إنه خص الاستواء بالعرش فإنه يختص به. فلو كان الاستواء بمعنى الاستيلاء فلماذا يخص العرش وحده؟ الله مستولٍ على الجميع. هذا من جهة، ومن جهة ثانية: فإن الاستيلاء لا يكون إلا بعد منازعة.
سمعت حكاية أن بعض المبتدعة قام في أحد المساجد وأخذ يتكلم عن الاستواء، وأخذ يقرر أن استوى بمعنى استولى، والله هو المستولي واستولى على العرش ... ثم إن بعض الحاضرين أمر غلاماً له أن يخرج ويطل من النافذة، ويقول له: قبل أن يستولي على العرش من العرش له؟ فبهت ذلك الذي يتكلم، فقالوا له: صحيح هذا السؤال واضح. نحن نقول وغيرنا: لمن كان العرش قبل أن يستولي الله عليه؟ وبهذا نعرف بطلان هذا التفسير.(63/103)
التأويل الثاني: إن العرش بمعنى الملك، قال تعالى: (ثم استوى على العرش) (يونس:3) أي استوى على الملك، وتفسيرهم العرش بأنه الملك كله إبطال الذي ذكره الله تعالى ووصفه بصفات خاصة، والله تعالى وصف هذا العرش بقوله تعالى: (رب العرش الكريم) (المؤمنون:116) ، (رب العرش العظيم) (النمل:26) ، (ذو العرش المجيد) (البروج:15) ، وذكر أن العرش محمول قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله) (غافر:7) ، (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) (الحاقة:17) ، (وترى الملائكة حافين من حول العرش) (الزمر:75) ، (رفيع الدرجات ذو العرش) (غافر:15) في آيات كثيرة أفتبطل هذه كلها؟ ويقال: العرش هو الملك. هذا من الخطأ.
زيادة على النصوص الكثيرة التي فيها إثبات حملة العرش، وكيف حملوه وعددهم، وبأي شيء حملوه، وما أشبه ذلك، كل ذلك يدل على أن العرش مخلوق كبير لا يعلم قدره إلا الله تعالى، ورد في بعض الأحاديث أن (الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة) الحلقة هي الحديدة المتلاقية الطرفين، ماذا تشغل من أرض واسعة؟ فكذلك نسبته، مع أن الكرسي قد وسع السماوات والأرض كما نص الله على ذلك.
وروي في حديث مرفوع: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) الترس هو المجن الذي يوضع على الرأس في القتال، ماذا تشغل السبعة فيه؟ فإذا كانت هذه نسبة المخلوقات العلوية والسفلية العظيمة إلى الكرسي، وهذه نسبة الكرسي إلى العرش، فما تكون نسبة العرش وما هو مقداره؟ لا يقدر قدره إلا الله تعالى.
إذاً فهذان تأويلان باطلان، والأول منهما هو الأشهر (استوى) بمعنى استولى، فإنهم زادوا فيها (لاماً) ويسمى هذا تحريفاً لفظياً، وزيادة هذه اللام شبيهة بالنون التي زادها اليهود لما قيل لهم قولوا: (حطة) فقالوا: (حنطة) هكذا شبهها ابن القيم بقوله:
نونُ اليهود ولامُ جهمي هما في وحي ربَّ العرشِ زائدتان(63/104)
شبهها بنون اليهود، إذاً فنحن نعرف أن هذا النص من الأدلة الواضحة على صفة العلو لله تعالى، ولا نخوض في أكثر من ذلك.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) (الملك:16) ، (أم أمنتم من في السماء) (الملك:17) الله تعالى قطع الكلام عما بعده في قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) هذا وقف مطلق. (أم أمنتم من في السماء) هذا وقف جائز (أن يرسل عليكم حاصباً) (الملك:17) ولا شك أن هذا دليل واضح على إثبات العلو، و (في السماء) يفسرونها بتفسيرين:
التفسير الأول: أن تكون (في) بمعنى على، وهذا مشهور في اللغة كما في قوله تعالى: (أربعين سنة يتيهون في الأرض) (المائدة:26) يعني على الأرض، (أفلم يسيروا في الأرض) (غافر:82) ، (قل سيروا في الأرض) (النمل:69) ، ليس المراد في جوفها بل المراد عليها، وكذلك قوله عن فرعون (ولأصلبنكم في جذوع النخل) (طه:71) ، ليس المراد أنه ينحت لهم ويدخلهم في الجذوع، بل المراد أنه يصلبهم على جذوع النخل، فدل على أن في تأتي بمعنى على: (في السماء) (المالك:17) يعني على السماء.
التفسير الثاني: أن السماء بمعنى العلو، وأن كل ما ارتفع فإنه سماء. يقولون: سما فلان يعني ارتفع، سما هذا البناء ارتفع، هذا بناء سامٍ أي مرتفع، هذا جبل سامٍ أي مرتفع، فالسمو بمعنى الارتفاع.
فإذا قيل: (من في السماء) أي في جهة العلو التي لا يعلم نهايتها وقدرها إلا هو سبحانه -فإن قيل فيها دليل على الحصر؟ -فالجواب ليس معنى (في السماء) أن السماء تحصره، أو تحويه -تعالى الله- بل هو فوقها كما يشاء.(63/105)
وإذا استدلوا بقوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (الزخرف:84) . وقالوا: هذا دليل على أنه في الأرض كما أنه في المساء. فالجواب عن هذه الآية، وعن الآية التي في سورة الأنعام (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) (الأنعام:3) أن المراد: الإله في السماوات والإله في الأرض؛ بمعنى المألوه الذي تألهه القلوب، والذي يستحق أن يكون إلهاً معبوداً وحده، وذلك لأنه لم يقف عند (السماء) ، بل وصلها، ولم يقل وهو الله في السماء. وهو الذي في السماء وفي الأرض بل قال (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (الزخرف:84) يعني: إله في السماء، وإله في الأرض.
ويمثل بعضهم ذلك بما إذا قلت مثلاً: فلان أمير في العراق، وأمير في الشام، مع أنه بأحدهما، والمعنى أن إمارته عامة لهذه البلاد، فالله تعالى ألوهيته عامة لأهل السماوات والأرض ولما شاء الله، هذا دليلُ إثبات أنه في السماء.
كما ورد أيضاً في الأحاديث مثل حديث رقية المريض، وهو حديث مشهور رواه أبو داود وغيره، وإن كان في سنده مقال، ولكن شيخ الإسلام يكثر الاستدلال به مما يدل على أن المقال لا يقدح فيه، وفيه (إذا مرض أحدكم، أو مرض أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء؛ فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع) .
والشاهد قوله: (ربنا الله الذي في السماء) ، ولم يقل في السماء والأرض، ولم يقل: (ملكك) كما يعبرون عنه، أو (في السماء سلطانك) كما تقوله النفاة، أو (في السماء أمره) كما يقولونه، والأحاديث في هذا كثيرة.(63/106)
ومثله قصة الجارية (جاء رجل وقال يا رسول الله: إن علي عتق رقبة، وإن عندي جارية أفأعتقها؟ فقال: ائت بها.. الحديث) فلما جاء بها امتحنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ هل هي مؤمنة؟ لأن من شرط العتق أن يكون العتيق مؤمناً لقوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة) (النساء:92) ، فأول شيء بدأها بقوله: (أين الله) ؟ فقالت: في السماء. إما أن ذلك فطرة، وإما أن ذلك عن علم تلقته وتعلمته، قال (من أنا) ؟ قالت: أنت رسول الله. فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة) . زكاها وشهد لها بالإيمان لما اعترفت بأن الله في السماء، فدل على أنه لا يكمل الإيمان إلا بهذا الشرط؛ وهو الاعتقاد أن الله في السماء، ويفيد أن من اعتقد غير ذلك فإنه ناقص الإيمان.
ومثل هذا أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) أي ربكم الذي في السماء، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً) ، والأحاديث كثيرة. والحاصل أن هذا دليل على إثبات العلو، ومحمله كما قلنا.
وقوله:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة؛ ستةً في الأرض، وواحداً في السماء. قال: من لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين. فأسلم، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) .
شرح:(63/107)
هذا حديث مروي في سنن الترمذي في قصة حصين والد عمران بن حصين الأسدي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، ولكنه لم يسأله عن الرغبة في الإسلام، فسأله كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة -ثم فصل- فقال: ستةً في الأرض، وواحداً في السماء. فقال: من لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء. فدعاه إلى الإسلام، وقال له: إذا أسلمت فإني سوف أعلمك كلمتين نافعتين. فأسلم، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) ، وهذه دعوة عظيمة.
قوله: (من لرغبتك ولرهبتك) يعني من تعده إذا كانت رغبتك ملحة وشديدة، ورهبتك يعني خوفك؛ فالرهبة: الخوف، والرغبة: الرجاء، يعني من الذي ترجوه عندما تحل بك الأزمات أن يفرج عنك، ومن الذي تخافه عندما تفعل المعاصي والمحرمات أن يبطش بك، من الذي تعد للرغبة والرهبة؟ فقال: الذي في السماء. أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو كان هذا غير جائز لأنكر عليه، ولقال له: هذا تجسيم، أو تشبيه أو إثبات جهة، أو نحو ذلك.
فإن المبتدعة يسمون أهل السنة بألقاب ابتدعوها يسمونهم: نوابت، ويسمونهم غثاءً، ومجسمة، وحشوية، ومشبهة، وممثلة وما أشبه ذلك، وهم أولى بتلك الأسماء التي ابتدعوها ونبزوا بها أهل السنة، وعلى كل حال فإن هذا دليل واضح على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن يعتقد أن الله في السماء.
وقوله:
وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة: (أنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء) .
شرح:(63/108)
هذا الأثر في صفة هذه الأمة من الآثار التي تنقل عن الكتب المتقدمة وهي من الأخبار التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل ... الآية) ولكنه مطابق للواقع، مطابق لوصف هذه الأمة بأنهم يسجدون في الأرض وإلههم في السماء، ومعلوم أنهم على الأرض وأنهم يسجدون عليها، وأنهم يضعون جباههم عليها تواضعاً لربهم، وأنهم يعتقدون أن ربهم فوقهم.
مسألة: حديث الأوعال
قوله:
وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا..) وذكر الخبر إلى قوله ( ... وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك) فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف -رحمهم الله- على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله، ولا تشبيهه، ولا تمثيله.
سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقيل: يا أبا عبد الله، (الرحمن على العرش استوى) (طه:5) كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بالرجل فأخرج.
شرح:
هذا الحديث يسمى حديث الأوعال، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية، ولما حصلت المناظرة بينه وبين الأشاعرة في دمشق، وأرادوا أن ينكروا عليه، وكان مما استدل به هذا الحديث الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم: خلق المخلوقات، ثم قال في آخره: (والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) .
لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم السماوات، وذكر البحار التي فوقها، وذكر الأوعال التي هي الملائكة الذين يحملون العرش، قال بعد ذلك: (والعرش فوق ذلك) يعني فوق ظهور الأوعال، مع ذكره لعظم خلقهم، و (والله فوق العرش) دليل صريح بذكر الفوقية.(63/109)
قالوا: إن الحديث في إسناده عبد الله بن عميرة، وأنه لا يعرف إلا به، ولكن شيخ الإسلام يقول: إن هذا الحديث قد رواه كثير من الأئمة مؤيدين له. ومن جملة من رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتابه (التوحيد) المطبوع المشهور المحقق؛ ذكر في أول الكتاب أنه لا يروي إلا الأحاديث التي صحت وليس في أسانيدها طعن ولا انقطاع، فهو روى هذا الحديث وسكت عنه، وذلك دليل على ثبوته، وفيه إثبات الفوقية أن الله تعالى فوق العرش الذي هو فوق المخلوقات، ولا دلالة أصرح من هذا الدليل.
(والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) يعني أنه مع علوه، فهو سبحانه يطلع عليكم، ولا يخفى عليه منكم خافية، يعلم القريب والبعيد.
وآيات المعية، وآيات القرب كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام أن ما ذكر في القرآن من علو الله تعالى وفوقيته لا ينافي ما ذكر من قربه ومعيته؛ فإنه سبحانه لا يقاس بخلقه، وليس كمثله شيء، وهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه، نَصفه بأنه هو الأعلى وهو معنا، ومطلع علينا، يرى عباده ويعلم أحوالهم، كما في قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق:16) ، وفي قوله تعالى: (وما كنا غائبين) (الأعراف:7) .
هذه الأدلة ونحوها أدلة صريحة في إثبات العلو، والأدلة كثيرة وقد مر بنا آيات الاستواء، وآيات ذكر السماء، وهذان نوعان من الدليل.
والدليل الثالث: آيات العلو كقوله تعالى: (وهو العلي العظيم) (البقرة:255) ، (سبح اسم ربك الأعلى) (الأعلى:1) ، (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) (الليل:20) ، (إن الله كان علياً كبيراً) (النساء:34) ، (إنه علي حكيم) (الشورى:51) ونحو ذلك، فالعلو ثابت لله تعالى بجميع أنواعه وأنواع العلو ثلاثة: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات.
ومثله آيات الفوقية، مثل قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) (الأنعام:18) ، (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل:50) .(63/110)
فإذا قال النفاة: إن قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) إن الفوقية هنا فوقية الغلبة، يعني الغالب فوق عباده، يعني غالباً لهم وقاهراً لهم، وشبهوا ذلك بقول فرعون: (وإنا فوقهم قاهرون) (الأعراف:127) وكذلك قالوا: إن العلو هنا علو الغلبة، وعلو القهر، وقالوا: إن هذه شبيهة بقول فرعون: (أنا ربكم الأعلى) (النازعات:24) .
الجواب أولاً: هذا لا يتأتى في آية: (يخافون ربهم من فوقهم) فإنه صريح في أن الفوقية ثابتة من فوقهم، ويمكن أن يصح في قوله: (وهو القاهر فوق عباده) أنها فوقية القهر وفوقية الغلبة وفوقية القدر، ومع ذلك يلزم من فوقية القهر فوقية الذات، فالله تعالى فوق عباده بذاته، والعلي بقدره، والعلي بقهره، يعني القاهر لهم، والذي هو فوقهم كما يشاء سبحانه وتعالى.
ومثل ذلك آيات الرفع؛ كقوله تعالى: (والعمل الصالح يرفعه) (فاطر:10) ، (إني متوفيك ورافعك إلي) (آل عمران:55) ونحوها، وآيات العروج قال تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) (المعارج:4) ، (ثم يعرج إليه) (السجدة:5) ، وآيات الصعود قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) (فاطر:10) .
ومثلها ما ذكر الله عن فرعون أنه أراد الصعود إلى السماء قال تعالى في قصته: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى) (غافر:36-37) لابد أن موسى أخبره بأن الله في السماء، ولو كان موسى أخبره بأن الله في كل مكان لما تكلف أن يبني الصرح، فهذا دليل على أن الله تعالى أمر موسى بأن يبين له ويعلمه أن الرب تعالى في السماء، فلذلك بنى الصرح محاولا أن يطلع على إله موسى.
ومن الأدلة على ذلك إقرار الأشاعرة بالرؤية؛ رؤية المؤمنين لربهم، ولذلك أنكرها المعتزلة، وقالوا: إنها تستلزم أن الله تعالى في جهة، ونحن نقول: نعم إن الله في جهة العلو.(63/111)
وبكل حال هذا هو القول الواضح، ومع ذلك فإنهم أنكروا صفة العلو مع كثرة ما عليها من الأدلة ووضوحها، حتى إن بعض الأشاعرة رد على ابن القيم في النونية ومنهم السبكي، ثم إن زاهداً اكلوثري حقق هذا الرد الذي على ابن القيم، وقدم له مقدمة بشعة أخذ يسبه فيهان ويصفه بصفات تصل إلى الكفر -والعياذ بالله- كفّره وفسّقه، وشتمه، ولعنه، ودعا عليه، وشنع به، وما ذاك إلا لأنه يعجز الكوثري وأمثاله أن يتأولوا هذه الأدلة، وأن يردوها، فلما رآها صريحة، ورأى أن الذين ردوا عليه تكلفوا في ذلك، لم يكن بدٌ من أن يحمل عليه.
أما هذا الأثر عن مالك، فهو مشهور عنه أنه جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله: أرأيت قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (طه:5) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء -يعني العرق- ثم رفع رأسه فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً) ثم أمر به فأخرج، هكذا رُوي عن مالك رحمه الله واشتهر عنه، وانتشر.
وهكذا أيضاً روي عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ من علماء المدينة، وهو من مشاهير العلماء أنه قال في الاستواء: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) . مقالة يا لها من مقالة حكيم، وعلوم لا تصدر إلى عن علم راسخ.
وقد رُوي هذا عن أم سلمة إحدى أمهات المؤمنين أنها قالت، (الاستواء معلوم، والكيف مجهول.. إلى آخره) ، ورواه بعضهم عن أم سلمة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحته إنما هي عن مالك وعن شيخه، ولا شك أن هذا قول الأئمة كلهم؛ يقرون بأن الله تعالى على العرش استوى، وأن الاستواء معلوم غير مجهول، ومعلوم يعني مفهوم له معنى مدرك، معناه واضح يفسر ويبين، ويفهم، ويترجم من لغة إلى لغة.(63/112)
فله معنى، بخلاف من يقول: إنه لا يعلم معناه، وإنما هو كالألفاظ الأعجمية التي نتكلم بها ولا ندري ما مفادها، أو كالألفاظ ما سمعنا لها أصلاً، ولا يدري معناها فهذا افتراء على مالك، ما دام أنه قال: (معلوم غير مجهول) أي لا أجهله أنا ولا تجهله أنت؛ لأن اللغة الفصيحة، لغة واضحة، إلا أن له كيفية، والكيف مجهول، الكيف غير معقول، الكيفية التي عليها الاستواء هي المجهول.
فلأجل ذلك في اصطلاح أهل السنة يقولون في آيات الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف، اجتنبوا التكييف، ويقولون: نؤمن بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تكييف ولا تعطيل.
التكييف له أحد معنيين:
الأول: هو السؤال بكيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف علمه؟ كيف يغضب؟ فنقول: لا يجوز التكييف.
الثاني: أن التكييف هو الإخبار بالكيفية؛ أن يقال: كيفية النزول كذا وكذا، كيفية الاستواء كذا وكذا، وهذا أيضاً لا يجوز اعتماده، ولا يجوز العمل به، ولا القول به، بل الله سبحانه وتعالى كما وصف نفسه في صفاته، دون أن يكون له كيفية مفهومة لنا.
وأما قوله: (والإيمان به واجب) لأن الله أخبر به في عدة آيات، وكل ما أخبر به وجب التصديق به، ووجب اعتقاده، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه من العلم الذي حجبه الله عنا، والسؤال عن الكيفيات بدعة، ولهذا في منظومة أبي الخطاب:
قالوا: فتزعم أن على العرش استوى قلت: الصواب؛ كذاك أخبر سيدي
قالوا: فما معنى استواه أبن لنا فأجبتهم: هذا سؤال المعتدي
فالسؤال عن الكيفية بدعة، ولأجل ذلك أمر بإخراج هذا المبتدع فنعرف من هذا طريقة السلف رحمهم الله في إثبات الصفات، وفي الرد على المبتدعة.
مسألة: إثبات صفة الكلام لله تعالى
قوله:(63/113)
ومن صفات الله تعالى؛ أنه متكلم بكلام قديم، يُسمِعُه من شاء من خلقه، سَمِعه موسى عليه السلام، من غير واسطة وسمعه جبريل عليه السلام ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يُكلِّم المؤمنين في الآخرة ويكلِّمونه، ويأذن لهم فيزورونه. قال الله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) (النساء:164) ، وقال سبحانه: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الأعراف: 144) ، وقال سبحانه: (منهم من كلم الله) (سورة البقرة:253) وقال سبحانه: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب) (الشورى:51) .
شرح:
هذه من الأدلة على أن الله تعالى متكلم ويتكلم إذا شاء، والدليل قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) واضح في أن الله كلم موسى وأنه أسمعه كلامَه، وكذلك قوله تعالى: (مِنْهم من كلم الله) يعني موسى أو يعني من الرسل من كلمه الله، وكذلك قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) (الأعراف:143) إلى قوله تعالى: (وإني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الأعراف:144) واضح في أن الله كلَّمه، وأنه اصطفاه، واختصه برسالته، وبتكليمه له، وأن الله أسمعه الكلام.
وقد ذُكر أن أحد الجهمية جاء إلى أبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة في العراق- وقال: أريد منك أن تقرأ هذه الآية: (وكلم الله موسى تكليماً) (النساء:164) بنصب (الله) ، وقصده أن يكون موسى هو الذي كلم ربه، لا أن الله هو الذي كلم موسى، يريد بذلك نفي كلام الله لموسى، ولكن أبا عمرو رحمه الله قال له: هب أني قرأت أنا أو أنت هذه الآية هكذا؟ فكيف تفعل بقول الله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) هل تستطيع أن تغيرها؟ هل تستطيع أن تقدم فيها أو تؤخر؟ فتحير ذلك الجهمي، وعرف أنه لا حيلة له في تغيير هذه الكلمة.(63/114)
أراد أن يحرفها تحريفاً لفظياً، ويجعل الكلام من موسى لا من الله؛ في قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) ، فجاءت هذه الآية التي تبطل تحريفه (وكلمه ربه) فقدم الضمير المفعول به، والرب هو المكلم - فلم يكن له فيها حيلة.
ثم ذكر شيخ الإسلام أن المعتزلة والجهمية تأولوا هذه الكلمة فحرفوها تحريفاً عجيباً؛ فقالوا: التكليم التجريح قال تعالى: (وكلمه ربه) ، (منهم من كلم الله) (البقرة:253) يعني جرحه بأظافر الحكمة، وقالوا: إن الجُرح هو الكَلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كُلمِ؛ لونه لون دم وريحه مسك) .
فذهبوا مذهباً بعيداً، وفسروا التكليم بأنه التجريح -سبحان الله- وهل التجريح شرف؟ وهل فيه ميزة لموسى؟ ولماذا اختصه بقوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) بعد ما ذكر أنه أوحى إلى النبيين بقوله تعالى (إن أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) (النساء:163) ، لو كان ذلك هو التجريح ما كان فيه فضيلة، كيف يكون جرحه بأظافير الحكمة؟ فإن التجريح عذاب سواءً كان حسياً أو معنوياً، ثم يبطله أيضاً قوله تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الأعراف:144) ولم يقل بتكليمي، والكلام واضح في أنه أراد ما سمعه من كلام الله له، فبطل بذلك تأويلهم.
كذلك أيضاً قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله وحياً) (الشورى:51) ليس المراد أن يجرحه إلا وحياً، وهل الوحي تجريح بأظافير الحكمة؟ فعرف بذلك أن التكليم هو الكلام، ولهذا قال تعالى: (أو من وراء حجاب) (الشورى:51) يعني أو يْكلِّمه من وراء حجاب كما حصل لموسى.
وقوله:
وقال تعالى: (فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك) (طه:11-12) ، وقال تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) (طه:24) ، وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله.
شرح:(63/115)
من الأدلة أيضاً: آيات النداء، فالنداء لا يعرف إلا بالكلام، وقد ذكر الله النداء في عدة آيات، ففي سورة القصص ذكره في ثلاث آيات؛ قال تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) (القصص:62) ، (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) (القصص:62) فالنداء لا يكون إلا بصوت، وبكلام مسموع: قال الله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين) (الشعراء:10) ، وقال تعالى: (هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى) (النازعات:15-16) ، وفي هذه الآية (فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك) إلى قوله تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) (طه:11-14) ، وكذلك قوله تعالى: (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً) (مريم:52) .
فلا شك أن النداء كلام مسموع، فلابد أن يكون كلام الله الذي تكلم به من الكلام المسموع الذي فهمه موسى، ولهذا لما سمع كلام الله سأل النظر إليه، وقال: (رب أرني أنظر إليك) (الأعراف:143) الآية، فدل على أنه سمع كلام الله، ولا شك أن موسى سمع قول الله تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) (طه:14) ، من الذي قال هذا لموسى؟ قالته الشجرة؟
ولما رأى النار فقال: (إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) (القصص:29) (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها) (النمل:8) يعني سمع نداء الله (أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك) (القصص:30-31) .
هل تقول الشجرة هذا الكلام الذي ذكره الله تعالى: (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) (طه:12-14) ، (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم * وألق عصاك) (النمل:9-10) ؟ هذا كلام لا يقوله إلا الرب سبحانه الذي ناداه.(63/116)
مسألة: إثبات أن القرآن كلام الله حقيقة
وقوله:
ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، مُنزَّلٌ غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
شرح:
ولما تكلم على أن الله متكلم ويتكلم، كان ولابد من أن يذكر أمثلة من كلامه الذي وصل إلى البشر، وبلا شك أن من أقرب ذلك هذا القرآن الذي بين أيدينا، الذي هو أعظم وأشرف الكتب المنزلة على الأنبياء، ولا شك أنه كلام الله.
ومعلوم أن الله أنزل على الأنبياء كتباً، أنزل على موسى التوراة، وأنزل على عيسى الإنجيل، وأنزل على داود الزبور، وأنزل على إبراهيم صحفاً كما في قوله: (صحف إبراهيم وموسى) (الأعلى:19) ، ولا شك أن ذلك كله من كلام الله الذي تكلم به وضمّنه شريعته، وأمره، ونهيه.
وكان من آخر الكتب هذا الكتاب المبين، وهذا الذكر الحكيم الذي وصفه الله بذلك، وصفه بأنه الذكر الحكيم يعني المحكم، وبأنه القرآن المبين يعني البيّن، ووصفه بالهدى، وبالبيان، وبالشفاء، وبالموعظة، وبصفات تدل على عظمته، وعلى عظم مكانته.
وأخبر بأنه منزل من الله بقوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين) (الشعراء:192-195) أنزله الله بلسان عربي حتى يفهمه المُرسل إليهم، قال الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (إبراهيم:4) .
فجعل هذا القرآن بلسان النبي صلى الله عليه وسلم: أي بلسان العرب كما أن الكتب المنزلة قبله أنزلها -سبحانه- بألسنة الذين نزلت عليهم، بالسريانية وبها نزل الإنجيل، وبالعبرانية التي هي لسان اليهود، وأما القرآن فإنه بهذه اللغة الفصيحة بلسان العرب، هذا هو قول أهل السنة: أن القرآن منزل غير مخلوق؛ رداً على الذين يقولون إنه مخلوق.(63/117)
(منه بدأ) : يعني تكلم به الرب سبحانه وتعالى، (وإليه يعود) وذلك إذا لم يُعمل به في آخر الزمان يُرفع من الصدور، ويُرفع من الأسطر ومن الكتب، ولا يبقى منه شيء، وهذا معنى قوله: (وإليه يعود) ، كما فسر ذلك شيخ الإسلام في بعض كتبه.
فعند أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه كلام مسموع، أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن الكلام معنى قائم بالنفس؛ قالوا: إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعِبرية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسُريانية فهو إنجيل؛ هكذا يقولون، وأنكروا أن يكون هذا الكلام الذي بهذه الحروف هو نفس كلام الله، وقالوا: إن كلام الله هو المعنى ليس هو اللفظ، وهذه الحروف التي في هذه المصاحف ليست هي كلام الله، وأرادوا بذلك التستر حتى لا يقولوا: إن القرآن مخلوق، وإلا فقولهم قريب من قول المعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق، وهؤلاء قالوا: إنه كلام الله، ولكن كلام الله المعنى دون اللفظ.
وكثيراً ما يستدلون بالبيت المشهور في كتبهم؛ يقولون: إن الشاعر العربي يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً
فيقولون: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وإن الكلام في الحقيقة إنما هو ما يقوم بالنفس، وأما ما يسمع بالأذان فلا يسمى كلاماً، وإنما يسمى عبارة أو حكاية، فيقولون: إن القرآن عبارة، أو حكاية عن كلام الله، وليس هو عين كلام الله، هذه عقيدتهم، فكيف نرد عليهم؟
العرب لا ينسبون للساكت كلاماً، ولو كان يزور في نفسه، إنما يُسمى كلاماً بعد ما يُنطق به، فأما قبل أن يُنطق به فلا يسمى كلاماً.
وأما البيت الذي استدلوا به فينسبونه إلى الأخطل وليس بصحيح؛ فلم يوجد في ديوانه، وأكثر الشعراء وعلماء الأدب ينكرون هذا البيت ويقولون: إنه مختلق لا أصل له. ثم رواه بعضهم قائلاً:(63/118)
إن البيان لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسانُ على الفؤاد دليلاً
ثم لو قدّرنا أنه صحيح، وأنه من قول الأخطل لم نقبله، وذلك لأن الأخطل نصراني، مشهور بتمسكه بالنصرانية، ويفتخر بها، ويمتنع أن يفعل ما يفعله المسلمون، وقد أشتُهر من شعره قوله:
ولستُ بقائم كالعير يدعو قُبيل الصبح حيَّ على الفلاح
ولستُ بقائدٍ عيساً بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بصائم رمضان طوعاً ولست بآكل لحم الأضاحي
ولكني سأشريها شمولاً وأسجدُ عند منبلج الصباح
لا شك أن هذا يدل على كفر صريح، وإذا كان يفتخر بأنه نصراني فكيف يُستشهد بكلامه في أمر يتعلق بالعقيدة؟ ثم -أيضاً- هو يسمى (الأخطل) والخطل هو عيب في الكلام، ثم -أيضاً- هو نصراني؛ والنصارى قد ضلوا في مسمى (الكلام) حيث جعلوا (عيسى) نفس (الكلمة) فإذا كان كذلك فكيف يستشهد بكلام هذا الأخطل النصراني، على أمر من أمور العقيدة.
وقد قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
ودليلهم في ذاك بيت قاله فيما يقال الأخطل النصراني
وكذلك البيت المنسوب إلى شيخ الإسلام -رحمه الله- في العقيدة اللامية التي أولها:
يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رزق الهدى من للهداية يسأل
اسمع كلام محقق في قوله لا ينثني عنه ولا يتبدل
حب الصحابة كلهم لي مذهب ومودة القربى بها أتوسل
ولكلهم قدر وفضل ساطعُ لكنما الصديق منهم أفضل
إلى قوله:
قبح لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول: قال الأخطل(63/119)
قبح له كيف ينبذُ الكتاب ويستدل بقول الأخطل، فعلى هذا كيف يكون كلام الأخطل دليلاً على مسألة الكلام، وأن الكلام هو المعنى دون اللفظ، فالعرب لا تنسب للساكت كلاماً، ولو كان يحدث نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها؛ ما لم يتكلموا أو يعملوا به) ، ولما قال له بعض الصحابة: (إن أحدنا ليجد في نفسه لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) .
مسألة: عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم
وقوله:
وهو سورٌ محكمات، وآيات بيناتٌ، وحروفٌ وكلمات، (من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات) له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض.
شرح:
هذا الوصف مشاهد في مصاحف المسلمين، أنه مائة وأربع عشرة سورة، وأن كل سورة فيها عدة آيات، وأطولها سورة البقرة مائتان وست وثمانون آية، وأقصرها سورة الكوثر ثلاث آيات، وسورة العصر ثلاث آيات، وسورة النصر ثلاث آيات، ومنها ما هو فوق المائتين كالأعراف والشعراء.
الحاصل أنه سور وآيات، وأن الصحابة جزَّءوه إلى ثلاثين جزءاً؛ يعني قسموه تقاسيم متقاربة، وجعلوه ثلاثين جزءاً، وجعلوه أحزاباً؛ كل جزء جعلوه حزبين، ومعروف أيضاً أن بعض العلماء اشتغلوا بعدّ آياته، فذكروا أن آيات القرآن أكثر من ستة آلاف آية، واشتغل بعضهم بعدّ كلماته، والكلمة هي القول المفرد، واشتغل بعضهم بعدّ حروفه؛ أن هذه السورة كذا وكذا حرفاً، وهذه الآية كذا وكذا حرفاً، وهذا دليل على أنه سور، وبكل سورة آيات وأجزاءٌ، وحروف، وكلمات.(63/120)
(له أول وآخر) بمعنى أن الصحابة اتفقوا على أن أوله سورة الفاتحة، وسموها (فاتحة الكتاب) وهي السبع المثاني، وكذلك كل سورة جعل لها اسم مما اشتملت عليه. كذلك أيضاً له آخر، فآخره سورة الناس، وترتيبه هذا الذي في المصاحف ترتيب من الصحابة، والأكثر من العلماء قال أنه توقيف وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوقفهم على هذا الترتيب، وقال: (اجعلوا هذه السورة بعد هذه السورة) أو نحو ذلك.
ومن العلماء من يقول: ترتيب السور باجتهاد من الصحابة، قدموا السبع الطوال، ثم أتبعوها المئين، ثم أتبعوها بالمثاني، ثم أتبعوها بالحواميم، ثم ختموها بالمفصل، وذلك اجتهاد منهم، وقالوا: إن مصاحف الصحابة اختلف فيها الترتيب، ولكن قد عرف أنه كان يُقرأ على زمن النبي صلى الله عليه وسلم: مرتباً، فيدل على أنه كان يقرأ كله، وهذا لا ينافي كونه كلام الله.
وقوله:
متلوٌ بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكيم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكم حميد) (فصلت:42) وقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) (الإسراء:88) .
شرح:(63/121)
هذا وصف للقرآن (متلو بالألسن) أي نقرؤه بألسنتنا، ونسمعه بآذاننا قال الله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) (الأعراف:204) ، (مكتوب في المصاحف) أي نكتبه بأيدينا في المصاحف، ويسطر فيها أسطراً متتابعة، فهو بهذه الصفات لا يخرج عن كونه كلام الله، إذا قرأه القارئ فإنه كلام الله، يقال: هذا يتكلم بكلام الله، ولو كان بعضه حكاية لغيره، فإذا قلنا مثلاً قوله تعالى: (فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى) (النازعات:23-24) قلنا: هذا كلام الله عن فرعون، وإذا قرأنا قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (الأعراف:17) قلنا: هذا كلام الله عن إبليس، فالحاصل أنه إذا كتب لم يخرج عن كونه كلام الله، وإذا قرئ، وإذا نسخ -بمعنى كُتب ونُقل- من مصحف في مصحف، فكله كلام الله.
وقد اشتمل القرآن على محكم ومتشابه في قوله تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (آل عمران:7) ، وقد فسر المحكم بأنه الذي ليس فيه نسخ ولا تغيير، وبأنه الذي يفهمه من يسمعه؛ هذا هو المحكم، فآيات الأحكام محكمة ظاهرة الإحكام، وأما المتشابه فهو الذي يشتبه على بعض الناس، وقد تقدم في أول الرسالة ذكر الذين يتبعون ما تشابه منه، وهم أهل الزيغ، وذكرنا أمثلة مما يتشبثون به.
وفيه -أي القرآن- (أمر ونهي) ؛ الأمر مثل قوله تعالى: (اعبدوا ربكم) (البقرة:21) ، والنهي مثل قوله تعالى: (ولا تشركوا به شيئاً) (النساء:36) ، وفيه (ناسخ ومنسوخ) يعني آيات منسوخ لفظها، أو منسوخ معناها، وكذلك أيضاً فيه مطلق ومقيد؛ المطلق الذي يحتاج إلى تقييد مثل قوله تعالى: (فتحرير رقبة) (النساء:92) .(63/122)
يعني فيه هذه الكلمات التي تشتمل عليها، وكله لا يخرج عن كونه كلام الله، وصفه الله بقوله تعالى: (وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (فصلت:41-42) العزيز؛ يعني الجليل، عزيز يعني ذو عزة، وذو قوة، وذو بلاغة، وذو أسلوب قوي، (لا يأتيه الباطل) معناه: لا يتطرق إليه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه، من أية جهة لأنه كلام الله، قال تعالى: (تنزيل من حكيم حميد) .
وكذلك قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) (الإسراء:88) لو اجتمع أولهم وآخرهم على أن يعارضوه ويأتوا بقرآن مثله لعجزوا عن ذلك. فهذا تحد من الله وإخبار بأنهم عاجزون، وقد وقع كما أخبر، فدل ذلك على أنه كلام الله.
وقوله:
وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الله تعالى على لسان الذين كفروا: (لن نؤمن بهذا القرآن) (سبأ:31) ، وقال بعضهم: (إن هذا إلا قول البشر) (المدثر:25) فقال الله سبحانه: (سأصليه سقر) (المدثر:26) ، وقال بعضهم: هو شعر. فقال الله تعالى: (وما علَّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) (يس:69) ، فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآناً لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات، وحروف، وآيات؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر.
شرح:
يشير إلى أن القرآن الذي هو كلام الله، هو هذا الموجود الذي في المصاحف، فإنه كلام عربي قال الله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي) (فصلت: 44) ، كيف يرسل إلى قوم عرب، ويكون قرآناً أعجمياً؟ وقال تعالى: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل:103) . وصفه بأنه لسان عربي.(63/123)
ثم حكى الله عن المشركين الذين عارضوه هذه الحكايات فحكى عنهم قولهم أنه أساطير الأولين، لما سمعوا فيه هذه القصص قالوا: إنه أكاذيب الأولين قال تعالى: (وقالوا أساطير الأولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً) (الفرقان:5) كيف تملى عليه وهو أمي لا يكتب ولا يقرآ؟ يقول تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) (العنكبوت:48) .
كذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: إنه شعر، إنه كهانة، والشعر معروف أنه له أوزان، وله قواف، والقرآن ليس كذلك، ومعلوم أن الكهنة يستعملون في كلماتهم سجعات متتالية، وليس كذلك القرآن، ولهذا رد الله عليهم بقوله تعالى: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون) (الحاقة:41-42) .
ولما أوردوا هذه الإيرادات على بعض كفار قريش -وهو الوليد بن المغيرة- لم يقنع بها فقالوا: فماذا نقول؟ قال: نقول إنه سحر يؤثر. يعني يُنقل ممن قبله، فقال الله تعالى حاكياً عنه: (فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر) (المدثر:24-26) كيف يكون سحراً يؤثر؟ من أين أثر، ومن أين جاء؟ فتبين أن هذا دليل على أنهم يشيرون إلى القرآن الذي يتلى عليهم؛ لأنه لو كان معنوياً لم يوصف بأنه شعر، ولا أنه سحر، ولا أنه كهانة، ولا أنه أساطير الأولين، ولا أنه افتراه كما في قولهم: (افتراه) يعني كذبه واختلقه، فدل على أنهم يشيرون إلى هذا القرآن.
وقوله:
وقال تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله) (البقرة:23) ، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدري ما هو، ولا يعقل.
شرح:(63/124)
يشير إلى أن المثل لابد أن يكون معروفاً مشهوراً مشاهداً فقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) في سورة البقرة، وفي سورة يونس (فأتوا بسورة مثله) (يونس:38) لو كان المراد المعنى الذي تزعم الأشاعرة أنه (معنى) لم يُعرف المثل لأنهم يقولون: أن القرآن إنما هو (المعنى) ، وأما اللفظ فهو تعبير من محمد أو تعبير من جبريل، وهذا خطأ، وإلا لما قال الله تعالى: (فأتوا بسورة مثله) .
وقوله:
وقال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) (يونس:15) ، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم وقال تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) (العنكبوت:49) ، وقال تعالى: (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون) (الواقعة:77-79) ، بعد أن أقسم على ذلك، وقال تعالى: (كَهيعص) (مريم:1) (حم * عسق) (الشورى:1-2) ، وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة.
شرح:
هذا دليل على أنه هو هذا القرآن فإن قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) (يونس:15) إشارة إلى هذا الذي يسمعونه قال تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) (يونس:15) أخبر بأنهم يشيرون إلى شيء (بقرآن غير هذا أو بدله) (يونس:15) فدل على أن هذا هو الذي سمعوه، وهو الذي قرأه عليهم.
وكذلك آية سورة العنكبوت (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) (العنكبوت:49) يعني: محفوظ في الصدور، في صدور الذين أتوا العلم، فدل على أنهم يسمعون ويفهمون هذه الآيات التي اشتملت عليها هذه السور، فدل على أنه كلام مسموع له أول وآخر، وأنه كلمات وحروف.(63/125)
وكذلك لما أقسم الله بقوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون) (الواقعة:75-78) يعني مكتوب أصله في اللوح المحفوظ (لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين) (الواقعة:79-80) ، هذه الصفات صفات القرآن؛ قرآن كريم، في كتاب مكنون، تنزيل من رب العالمين، لا يمسه إلا المطهرون -لا شك أن هذه كلها صفة للقرآن الذي بين أيدينا، فكيف تكون للمعنى؟ لا شك أنه أراد هذا الكلام المحفوظ المسموع.
وأما قوله: (افتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة) يعني مثل (ألم) (البقرة:) ، وفي آل عمران، والعنكبوت، والسور التي بعدها، وكذلك (الر) في يونس والسور التي بعدها، و (المص) (الأعراف:1) ، وكذلك في السور المتفرقة مثل (طه) (طه:1) ، (كهيعص) (مريم:1) ، ومجموعها تسع وعشرون سورة افتتحها بالحروف المقطعة.
هذه الحروف لا شك أنها حروف، لأنها تنطق بنفس الكلمة، يعني هو يكتب حرفاً ولكنه ينطق بكلمة، فإن قولك: (ك) - لا يكتب في (ألف) و (فاء) بل يكتب: (ك) ، وكذلك (ع) - لا تكتب الياء والنون وإنما تكتب (ع) ، فهكذا رويت ونطق بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه؛ فله بكل حرف حسنة) حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام (أقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يُقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم؛ يتعجلون أجره، ولا يتأجلونه) وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه) .(63/126)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من كفر بحرف منه فقد كفر به كله) . واتفق المسلمون على عد سور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه، ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه -أنه كافر، وفي هذا حجةٌ قاطعةٌ على أنه حروفٌ.
شرح:
هذه الأدلة أدلة واضحة على أن القرآن فيه كلمات، وحروف، وآيات، ونحوها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) رواه الترمذي أخبر بأنه يثاب على هذه الحروف، فدل على أن القرآن هو هذه الحروف، وكذلك (من قرأ القرآن فأعربه) ، (من قرأ القرآن ولحن فيه) ، (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها) ، ويحث صلى الله عليه وسلم على تعلمه وتعليمه بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، ويخبر صلى الله عليه وسلم عن فضل من يحمله (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب، وريحها طيب) يعني أنه يقرأ القرآن، وأن القرآن قد امتلأ به قلبه وضميره.
وكذلك ذكر كلام الصحابة في تفضيل إعراب القرآن؛ يعني تجويده، وتحقيق كلماته على كثرة التلاوة، كل ذلك دليل على أنهم فهموا أن القرآن هو هذا المكتوب في المصاحف الذي هو كلمات وحروف.
وكذلك اتفق أهل السنة، واتفق أئمة الأمة على أنه يجوز أن تُعدَّ كلماته، وأن تُعدَّ حروفه، وأن تُعدَّ آياته، وفي ذلك دليل على أن كلام الله هو هذا القرآن الذي فيه حروف، فالإمام الموفق رحمه الله في ذلك يشير إلى أن قول المعتزلة أنه مخلوق قول باطل.(63/127)
وكذلك قول الأشاعرة؛ أن الله لا يتكلم بحرف وصوت قول باطل، فإنهم يريدون بذلك إبطال كون القرآن كلام الله؛ حروفه ومعانيه، فإن كلام الله هو القرآن؛ حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف.
ولما اشتهر عن شيخ الإسلام رحمه الله أنه يثبت أن الله يتكلم بكلام مسموع، أنكر عليه الأشاعرة، ولما أحضروه في مصر لمجادلته انتصب له أحد علماء الشافعية ووقف خصماً له إذ رئيس القضاة في ذلك الوقت من الحنفية فقال له: أدعي على هذا الفقيه أنه يقول: إن الله يتكلم بحرف وصوت. هكذا نقموا عليه قوله: (إن الله يتكلم بحرف وصوت) كأن هذه كبيرة عندهم، وكأن هذا أكبر الذنوب، وأكبر الكبائر، وأنه كفر، فلم يكن من شيخ الإسلام إلا أنه ذكر لهم الأدلة، وطلب منهم أن يفسروها، فعجزوا عن ذلك. فلبيان بطلان قول الأشاعرة اجتهد الشيخ في هذا الباب في أن يورد كثرة الأدلة التي تثبت أن كلام الله هو هذا القرآن حروفه ومعانيه.
مسألة: رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة
قوله:
والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويُكلمهم، ويُكلمونه، قال الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) (القيامة:22-23) ، وقال تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (المطففين:15) فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى، وإلا لم يكن بينهما فرق.
شرح:
هذا ابتداء في مسألة النظر إلى وجه الله، ورؤية الله تعالى، وهي أيضا من المسائل المهمة التي تكلم فيها أهل السنة، وأثبتوها بالأدلة، وخالف فيها المعتزلة خلافاً صريحاً، وخالف فيها الأشاعرة خلافاً معنوياً، وهدى الله أهل السنة لقبولها، ولم يلزمهم محذور من إثباتها، والحمد لله.
أولاً: قد اختلفوا: هل يمكن النظر إلى الله تعالى في الدنيا، وهل رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟(63/128)
والصحيح أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يرى ربه في الدنيا، ولأجل ذلك لم يتمكن موسى من النظر إلى ربه بعد أن سأل النظر، وأخبره الله بعدم التمكن من ذلك، والدليل قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) (الأعراف:143.
فهذا دليل على أن البشر لضعف خلقتهم في الدنيا لا يتمكنون من رؤية الله تعالى، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: لم يره رؤية بصرية في الدنيا، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: هل رأيت ربك؟: (نورٌ أنى أراه) يعني كيف أراه ودونه ذلك النور، وكذلك في رواية (رأيت نوراً) وذلك لأن الله تعالى احتجب عن عباده بالنور.
وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فالصحيح أنه رآه رؤية قلبية لا رؤية بصرية، والذين أثبتوا الرؤية له استدلوا بقوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى) (النجم:13-14) ، والصحيح أن الضمير يعود إلى جبريل؛ أي ولقد رأى جبريل نزلة أخرى، وكذلك قوله (ولقد رآه بالأفق المبين) (التكوير:23) الضمير أيضاً يعود إلى جبريل عليه السلام، فإنه الرسول المذكور في قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين) (التكوير:19-21) هذه صفات الملك، فالضمير يعود إليه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها مرتين له ستمائة جناح، قد سد ما بين الأفق، أو قد سد الأفق، وكان ينزل عليه كثيراً، ولكنه يتمثل بصورة دحية الكلبي أو نحوه.(63/129)
وعلى كل حال؛ فإن الرؤية في الدنيا لا دليل عليها، وقد خالف في ذلك المتصوفة، وادعوا أن الأولياء يرون الله عياناً، وأنه يعرج بأرواحهم، وأن أرواحهم تتمكن من النظر إلى ربها، ولأجل ذلك فضَّلوا أولياءهم وسادتهم على الأنبياء بل وعلى الرسل، وعلى الملائكة، وهذا من شطحاتهم. هذا بالنسبة إلى الرؤية في الدنيا.
وأما الرؤية في الآخرة؛ فأثبتها أهل السنة، وأنها رؤية صحيحة، وأن المؤمنين في الجنة يرون الله تعالى، ويزورونه، ويُكلمهم ويُكلمونه، بل ثبت في السنة وفي الأحاديث أن رؤية الله تعالى في الجنة للمؤمنين هي أعظم لذة لهم، وأعظم نعيم، وأعظم سرور يصل إليهم يبهج نفوسهم، وتستنير وتضيء به وجوههم، ويكتسبون أعظم لذة بحيث أنهم لا يلتفتون إلى شيء ما داموا ينظرون إلى ربهم، ويغفلون عن كل نعيم كانوا فيه، فلا ينظرون إلا إلى ربهم حتى يحتجب عنهم، هذا من أعظم لذة لهم، يقول بعض العلماء ولو كان مثالاً دنيوياً:
فلو أني استطعتُ غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا
وقد تقدمت الآية التي أوردها الموفق رحمه الله، وهي قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم) (المطففين: 14-16) وصفهم بهذه الصفة؛ أنهم محجوبون عن ربهم، والحجب هو الحيلولة بينهم وبين ربهم، فلا ينظرون إليه ولا يرونه، ولا يتمتعون برؤيته، ويا لها من عقوبة تصل إليهم، أنهم محجوبون عن ربهم، وذلك أشد العذاب.(63/130)
فكل من حُجب عن رؤية ربه فإنه معذب، فحجبه عن ربه عذاب له وأي عذاب، وقد استدل بهذه الآية الشافعي رحمه الله، وهو أشهر من استنبط منها رؤية المؤمنين لربهم وحيث ثبت أن الكفار محجوبون عن ربهم فأنه يدل على أن المؤمنين من أهل الجنة غير محجوبين عن ربهم بل يرونه فلو كان لا يراه أحد لم يكن هناك فرق بين المؤمنينوالكفار، ولكان الجميع كلهم محجوبين عن ربهم، فالحجاب هو أن يكون بينهم وبينه حاجب، وحاجز لا يرونه، فإذا كان هؤلاء يرونه كانوا غير محجوبين، وهؤلاء لا يرونه فهم المحجوبون، وهذا دليل واضح.
وأما الآية الأولى فهي أصرح الآيات التي استدل بها أهل السنة، وهي قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة) (القيامة:20-21) يخاطب الكفار: تحبون العاجلة؛ وهي الدنيا، وتذرون الآخرة ولا تتنافسون فيها، ثم ذكر أقسام الناس في قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) (القيامة: 22-25) ، الوجوه الأولى وصفها بأنها ناضرة؛ أي ذات نضرة وبهاء وسرور، وجوههم مسفرة مستنيرة؛ لأنهم يرون ربهم، (إلى ربها ناظرة) أي تنظر إلى ربها نظر عيان، ففي هذه الآية نسبة الرؤية إلى الوجوه، وذلك لأن الوجوه هي محل النظر، ولما أن نظرت الوجوه إلى ربها أشرقت وأسفرت.
وكثيراً ما يصف الله وجوه أهل الجنة بصفات تظهر عليها، وذلك لأن الوجه هو محل التأثر، وإذا كان مسروراً رأيت وجهه مستنيراً، وإذا كان حزيناً رأيت وجهه مكتئباً، فوصف الله أهل النار بقوله: (وجوه يومئذ خاشعة) (الغاشية:2) يعني ذليلة، ثم قال تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة) (الغاشية:8) ، يعني منعمة، هكذا وصفهم الله بهذه الآية.(63/131)
وفي آية أخرى قال تعالى: (وجوه يومئذ مسفرة) (عبس:38) أي أضاءت واستنارات، والإسفار هو الضياء، مسفرة يعني عليها آثار هذه الإضاءة، أما الوجوه الأخرى فإنها قال الله تعالى عنها: (عليها غبرة * ترهقها قترة) (عبس: 40-41) .
فإذن هذه وجوههم التي وصفها الله أنها ناظرة، والكلمتان في الآيتين لفظهما واحد، ولكن خطهما مختلف (وجوه يومئذ ناضرة) (القيامة:22) مكتوبة بالضاد؛ أي ذات نضرة، مثل قوله تعالى: (ولقاهم نضرة وسروراً) (الإنسان:11) أي ذات نضرة وبهاء وسرور، (إلى ربها ناظرة) (القيامة:23) هذه كتبت بالظاء المشالة؛ من النظر الذي هو المعاينة.
قال بعض العلماء: نظروا إلى ربهم فنضرت وجوههم، يعني استنارت وأسفرت وابتهجت بهذا النعيم. فهذا هو دليلهم، أورد المؤلف رحمه الله هذين الدليلين من القرآن وذكر أن الرؤية تكون في الآخرة.
وقد ورد أيضاً في الأحاديث ما يدل على أن الجميع يرون ربهم يوم القيامة عندما ينزل لفصل القضاء، ويقول: (من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم) وفي هذا أنهم يرونه جميعاً؛ المنافقون والمؤمنون -كما يشاء. قال تعالى: (يوم يُكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) (القلم:42) قيل: إنهم يسألونه علامة، فيكشف عن ساق، فعند ذلك يعرفون أنه ربهم فيسجدون.
فهذا قد استدل به على أنهم يرونه في القيامة، ولكن هي رؤية ابتلاء وامتحان، أما الرؤية التي هي رؤية لذة، وبهجة، ونعيم فإنها في الجنة، وقد ذكر العلماء أن المقربين يرون الله بكرة وعشيا، وأن الأبرار يرونه كل جمعة؛ أي في كل أسبوع.
قوله:(63/132)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته) . حديث صحيح متفق عليه.
وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير.
شرح:
ثم ذكر من أدلة الرؤية حديث جرير بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون -أو لا تضاهون- في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (طه:130) فأفعلوا ثم قرأ أو (فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) .
فحديث جرير هذا دليل على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، ويريد بالصلاتين صلاتي العصر والفجر، أي حافظوا على هاتين الصلاتين لأن المقربين يرون الله بكرة وعشياً، وقد فُسر بذلك أيضاً قوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) (مريك:62) .
وبكل حال فرؤية المؤمنين لربهم من أجل ما أنعم وتفضل به عليهم، هذا هو قول أهل السنة.
وقد استوفى الأئمة الكلام على الرؤية كما في كتاب ابن القيم (حادي الأرواح) الذي كتبه عن أهل الجنة وصفة نعيم الجنة، وفي آخر أبوابه؛ باب في رؤية المؤمنين لربهم، ذكر فيه سبعة أدلة من القرآن وهي:
الدليل الأول: وهو سؤال موسى النظر في قوله تعالى: (رب أرني أنظر إليك) (الأعراف:143) فهو أعلم بما يجوز على ربه من علماء المعتزلة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) (يونس:26) ، الزيادة ورد في الحديث أنها (النظر إلى وجه الله) ، ولهذا قال تعالى: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) (يونس:26) ، الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله، فإذا نظروا إلى وجهه فلا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة.(63/133)
الدليل الثالث: قوله تعالى: (ولدينا مزيد) (ق:35) ، فُسر المزيد بأنه النظر إلى وجه الله تعالى.
الدليل الرابع: آيات اللقاء، وهي كثيرة كقوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه) (الكهف:110) ، اللقاء لا تعرفه العرب إلا أنه المقابلة والنظر، فهو دليل واضح على إثبات الرؤية.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (الأنعام:103) ، فهو دليل على إثبات الرؤية -كما سيأتي- مع أن المعتزلة يجعلونه دليلاً على نفي الرؤية.
الدليل السادس والسابع: الآيتان اللتان ذكرهما ابن قدامة رحمه الله، فهذه سبعة أدلة.
وقد أوضح دلالتها، ثم شرع في الأدلة من السنة، وذكر نحو ستين حديثاً أو أكثر ذكرها بأسانيدها وبطرقها، فيها الأحاديث الصحيحة وفيها الأحاديث الحسنة وفيها الأحاديث الضعيفة؛ أي ضعفاً شديداً، ولكنه أوردها للتقوية، وتبعه على ذلك حافظ الحكمي في كتابه المشهور (معارج القبول في شرح سلم الوصول) وهذا الشرح من أنفس الشروح، لما أتى إلى ذكر الجنة، وذكر الرؤية سرد أيضاً الأحاديث، وأسقط منها ما هو شديد الضعف، وفيما ذكره خير كثير، فهذا وجه إثبات هذه الصفة التي هي صفة رؤية المؤمنين لربهم.
وقد جعلها ابن القيم في النونية من أدلة إثبات العلو، قال: من كان يقر بالرؤية لزمه أن يقر بالعلو، فإن المؤمنين عندما يرون ربهم يرونه من فوقهم كما في قوله تعال: (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل:50) ، ففي الأحاديث أنه يتجلى لهم من فوقهم فيراهم ويرونه، فهو دليل واضح على أنها رؤية حقيقية ينظرون إليه كما يشاء.(63/134)
فعرفنا بذلك مذهب أهل السنة أنه لا شك أن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم، وأنهم يرونه رؤية حقيقة، ورؤية مقابلة كما يشاء، وأن الأدلة واضحة، ومن أصحها حديث جرير لقوله صلى الله عليه وسلم: (كما ترون هذا القمر) ، والتشبيه هنا للرؤية، شبه الرؤية بالرؤية، وليس المراد تشبيه الرب تعالى بالقمر، وإنما تشبيه رؤيتهم -لأنها رؤية حقيقة- كرؤيتهم القمر ليلة البدر، ولهذا قال: (لا تضامون في رؤيته) أي لا يلحقكم في رؤيته ضيم؛ وهو الضرر.
ثم مع هذه الأدلة التي ذكرنا قد خالف في ذلك المعتزلة فأنكروها صراحة، وخالفوا فيها خلاف عناد؛ لأنها عندهم تستلزم إثبات الجهة أو تستلزم المقابلة، فلم يكن بدُ من أن يردوا الأدلة رداً شنيعاً، ويخالفوها مخالفة واضحة، ولا يزالون على ذلك.
طبع قبل عشر سنوات أو خمسة عشر سنة كتاب اسمه (متشابه القرآن) في مجلدين للقاضي عبد الجبار، وهو من رءوس المعتزلة، وحققه رجل يقال له: (عدنان محمد زرزور) ، وذهب إلى ما ذهب إليه القاضي، فإذا أتى إلى آيات العلو، وآيات الاستواء، وآيات الرؤية حرفها، وجعلها من المتشابه وحملها محامل بعيدة، وإذا أتى إلى الآيات التي فيها شبْهُ استدلال لهم يقول: لنا قوله تعالى مثل هذه الآية: (لا تدركه الأبصار) (الأنعام:103) .
وورد كتاب -لأحد الإباضية يقال له: أحمد الخليلي، في عُمان- اسمه (الحق الدامغ) انتشر ووزع بكميات لأنه في زعمه وصل إلى الحقيقة، وسقط على المراد، تكلم فيه على مذهبهم في العقيدة في ثلاث مسائل؛ في مسألة الرؤية؛ فينكرها إنكاراً صريحاً، وفي مسألة خلق القرآن؛ فيدعي أنه مخلوق، وفي مسألة إثبات خلق الله لأفعال العباد؛ فينكر قدرة الله على أفعال العباد، ويبالغ في هذه المسائل الثلاث.(63/135)
والذي يهمنا تأويلهم لآيات الرؤية، وكثيراً ما يورد قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) (الأنعام:103) ، ويقال: (الإدراك: اللحاق، لا تلحقه أي لا تراه، فهي دليل على أنها لا تراه، والأبصار معلوم أنها هي الأعين، فإذا كانت لا تدركه أي لا تلحقه؛ فكيف يقال: إنه يرى؟) ويكررون ذلك دائماً.
وإذا نظرنا إلى تفسير أهل السنة رأيناهم يفرقون بين الإدراك وبين الرؤية، وذلك لأن الإدراك هو الإحاطة بالشيء من كل جهاته، وأما الرؤية فإنها رؤيته مع المقابلة حقيقة، والله تعالى ما نفى الرؤية إنما نفى الإدراك، والإدراك شيء زائد على الرؤية.
روي أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال للسائل: ألست ترى القمر؟ قال: بلى، قال: أكله؟ قال: لا. قال: فذلك الإدراك. أي لا ترى القمر كله، إنما ترى ما يقابلك، وأيضاً إنما تراه من بعيد، ولا تتحقق ماهيته، فإذا كان كذلك هل أنت تدري مما هذا القمر؟ ومن أي شيء صنعته؟ ومن أي شيء تركيبه وهل ترابي؟، فإذا كنت لا تراه فإنك لا تدرك ذلك، فنحن نرى القمر ويصل إلينا ضوؤه، ولكن لا ندركه كله، ففرق بين الرؤية والإدراك.
يدل على ذلك قول الله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) (طه:77) لا تخاف دركاً، فالدرك هو الإحاطة أي، لا تخاف ضرراً من الكفار ونحوهم.
ولما أسرى ببني إسرائيل وخرج بهم من مصر، وانفصلوا، تبعهم فرعون بجنوده، قال تعالى: (فأتبعوهم مشرقين) (الشعراء:60) (فلما تراءى الجمعان) (الشعراء:61) هؤلاء يرون هؤلاء (قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا) (الشعراء:61-62) ، ما المراد بمدركون؟ هل المراد بالإدراك النظر؟ فالنظر حاصل لقوله: (تراءى الجمعان:61) ، إذن المراد بالإدراك الإحاطة يعني: إنهم سيحيطون بنا، ويمسكوننا، ولا يتركوننا، ولا ننجوا منهم، فقال: (كلا إن معي ربي سيهدين) (الشعراء:62) .(63/136)
فعرف أن هناك فرقاً بين الرؤية وبين الإدراك، فبطل استدلالهم بهذه الآية على نفي الرؤية، واستدل بها أهل السنة على إثبات الرؤية.
يقول ابن القيم: إنها جاءت تمدحاً، فالله تعالى يمدح بها نفسه، ومعلوم أن الله إنما يمدح نفسه بالأمور الثبوتية، وهي الأمور التي فيها إثبات شيء يمدح به، وأما العدم فإنه لا يمدح به، فالنفي المحض لا مدح فيه، فإذا قلنا مثلاً: إن العدم لا يرى. هل هذا مدح له؟ ليس فيه مدح؛ لأن المعدوم ليس بشيء.
فإذا كان المعدوم لا يرى، فإن نفي الرؤية ليس فيه مدح، فعرف بذلك أن الآية وردت للتمدح، أثبت الله أن الأبصار لا تحيط به، يعني: متى رأته الأبصار لا تحيط به، أي لا تدرك ماهيته، ولا تدرك كنهه، ولا تدرك كيفية ذاته، وذلك لعظمته التي لا يحيط بها علماً أحدٌ من الخلق (ولا يحيطون به علماً) (طه:110) .
إذا فصارت الآية دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنهم قوم يجهلون، فلو تأملوا في سياق الآية قول الله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) (الأنعام:102-103) كل هذا تمدح، فكيف يتمدح بشيء لا فائدة فيه، فنفي الرؤية ليس بمدح؛ لأنه ينطبق على المعدوم، فدل على أنها للتمدح، وأنها تدل على أن الأبصار تنظر إليه، ولكن تعجز عن الإحاطة به لعظمته ولكبريائه ولجلاله، فصارت الآية تدل على إثبات الرؤية لا على نفيها.(63/137)
وأما الآية الثانية: وهي قصة موسى -عليه السلام-، قال تعالى: (قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) (الأعراف:143) ، أولاً: موسى عليه السلام نبي الله، كلمه الله، وحمله رسالته، واصطفاه، قال تعالى: (واصطنعتك لنفسي) (طه:41) ، وقال تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الأعراف:144) ، فهل موسى عليه السلام -وهو نبي الله- يجهل ما يجب على الله، وما يجوز على الله؟ هل يكون المعتزلة أعلم من موسى بربه؟ حاشا وكلا، لا يمكن لموسى أن يجهل وهم يعلمون، إن موسى صلى الله عليه وسلم الذي هو من أولي العزم، ومن أشرف الأنبياء ومن أفضلهم لا يجهل هذا الحكم، فهل يأتي المعتزلة ونحوهم ويعلمون مالا يعلمه موسى؟ هذا من أمحل المحال.
ثانياً: قول موسى (رب أرني أنظر إليك) (الأعراف:143) هذا في الدنيا، يعني أراد أن يتمكن من النظر إلى ربه رجاء أن يزيد بذلك يقينه، أو أن يتنعم ويتلذذ بهذا النظر، قال الله له: (لن تراني) (الأعراف:143) ، وليس في هذا عتاب.
فالله تعالى قد عاتب نوحاً عليه السلام لما قال: (رب إن ابني من أهلي) (هود:45) ، قال الله سبحانه وتعالى: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) (هود:46) أنكر على نوح لما سأل: ربي نج ابني الذي غرق في البحر، غرق في الطوفان، ربي إنك قد وعدتني أن تنجيني وأهلي، وإن ابني من أهلي، والله تعالى يقول: (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم) (المؤمنون:27) .
فأنكر عليه ذلك ولم ينكر على موسى لما قال: (رب أرني أنظر إليك) (الأعراف:143) بل قال تعالى: (لن تراني) (الأعراف:143) يعني لا تراني في هذه الدنيا، لأن بنية الإنسان في الدنيا ضعيفة لا تتمكن من التمثل أمام عظمة الله تعالى، فخلقنا في هذه الدنيا لا يمكن أن تثبت لجلال الله تعالى.(63/138)
وقوله تعالى: (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) (الأعراف:143) علق الله تعالى رؤيته على ثبوت الجبل، فيمكن أن يثبت الجبل مكانه، والله تعالى يقول؛ إذا ثبت الجبل فإنك ستراني، فإذا كان الثبوت ممكناً فالرؤية ممكنة، والله تعالى يقدر أن يثبت الجبل لبروزه سبحانه ولتجليه، وقد علّق عليه رؤية موسى، فدل على إمكانها. كما أن إمكان الثبوت متحقق، فقوله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) (الأعراف:143) تجلى الله تعالى كما يشاء للجبل، فإذا تجلى للجبل أفليس يمكن أن يتجلى لعباده يوم القيامة.
الجبل جماد تجلى الله له، ومع ذلك فإن الجبل لما تجلى له آنذاك ذهب حتى قيل: إنه انخسف في الأرض، وذلك لهيبة الله ولجلاله، لما أنه تجلى للجبل جعله دكاء، فالآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها، وإلا لم يكن موسى عليه السلام سأل الرؤية، وهو من أعلم الخلق بربهم.
ثم إن الخليلي -الذي ذكرناه- في كتابه (الحق الدامغ) تسلط على هذه الآيات التي استدل بها أهل السنة، وحرفها تحريفاً بعيداً حتى إنه هو وغيره في قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) (القيامة:22-23) قالوا: إن الله لم يذكر العيون إنما ذكر الوجوه، وقال بعضهم: النظر ليس هو المعاينة، وإنما هو انتظار الثواب؛ ناظرة للثواب، وتمحل بعضهم، وحرف كلمة (إلى) وقال: الإلي واحد الآلاء يعني النعم، (إلى) أي نعمة ربها ناظرة!!
فمن أين لهم هذا الاستنباط الذي ما تفطن له أحد نم العلماء ولا من السلف؟ إن قولهم: (إلى) أي نعمة ربها ناظرة، تمحل وتكلف وصرف للقرآن عن مدلوله. هذا قوله المعتزلة.(63/139)
أما الأشاعرة فيتظاهرون بأنهم من أهل السنة، وبأنهم من أتباع الأئمة الأربعة، فمنهم شافعية، ومالكية، وحنفية، وحنابلة، ولا يقدرون أن يصرحوا بالإنكار؛ لأن الشافعية قد اشتهر عن إمامهم أنه أثبت الرؤية وصرح بها، فلا يقدرون على إنكارها، فيثبتون الرؤية، ولكن ليس الرؤية التي هي رؤية الأبصار، إنما يفسرونها بالتجليات التي تتجلى للقلوب، وبالمكاشفات التي تنكشف في الجنة لهم، فيظهر لهم منها يقين وعلم بما كانوا جاهلين، به، وهذا بلا شك قول باطل وإنكار للحقائق، فتجدهم يثبتون الرؤية، ويقررونها في تفاسيرهم على هذا التأويل الباطل.
حتى أكابر الأشاعرة كالرازي، وأبي السعود، والبيضاوي، ونحوهم، عندما تكلموا على هذه الآية: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) (القيامة:23) ، قالوا: يرى لا في جهة؛ لأننا ننفي الجهة، يرى بلا مقابلة، أو الرؤية بالتجليات أو المكاشفات.
فأثبتوا الاسم ولكن لم يثبتوا الحقيقة التي هي رؤية أهل الجنة لربهم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته) ، فإن ظاهر الأحاديث أنها رؤية بالأبصار، ونظر إلى وجه ربهم تعالى كما يشاء، فلا يُلتفت إلى إنكار المنكرين مع ورود مثل هذه الأدلة التي لا يجوز ردها ولا التكلف في تأويلها.
مسألة: الإيمان بالقدر
وقوله:
ومن صفات الله تعالى أنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره. ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يُتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يُطيعوه جميعاً لأطاعوه. خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرز اقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويُضل من يشاء بحكمته.
شرح:(63/140)
(أراد ما العالم فاعلوه) يعني جميع ما في الكون وما يحصل من الكائنات، فإنه مراد لله تعالى، ولكن هذه الإرادة تسمى إرادة كونية قدرية؛ لأنها يدخل فيها جميع الكائنات -فهي مرادة لله، فجميع الأفعال التي تحصل والتي تحدث كلها مرادة لله؛ الطاعات، والمعاصي، والمصائب، والحوادث، والأرزاق، والآجال كلها مرادة لله تعالى، داخلة في إرادته، ولا تخرج عن كونها مرادة لله، فطاعات العباد مرادة، ومعاصيهم مرادة، ولكن إرادة المعاصي الموجودة إرادة كونية قدرية.
وبهذا نعرف أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية. فالإرادة الكونية يلزم وقوع مرادها، فكل ما أراده الله كوناً وقدراً فإنه لابد حاصل وواقع، فالمعاصي الموجودة قد أرادها الله كوناً وقدراً، والمصائب الحاصلة قد أرادها الله كوناً وقدراً، والأرزاق الموجودة -ولو كانت حراماً- قد أرادها الله كوناً وقدراً، وكذلك الأولاد ذكوراً وإناثاً، والأرزاق والمكاسب والحرف، والصناعات، والدراسات والعلوم، وكل ما يجري في هذا الكون كله قد أراده الله كوناً وقدراً؛ لأنه فعال لما يريد، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد.
ولو عصمهم لما عصوه ولما خالفوه، فهو الذي يهدي من يشاء فضلاً منه ورحمة، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة، فمن علم الله فيه خيراً وعلم من قلبه إقبالاً وتقبلاً للخير هداه الله وأنار قلبه. ومن علم الله أنه شريرٌ وعلم أنه من أهل الشر، وأنه لا خير فيه حَرمَه الهداية، وحال بينه وبين الإيمان وقسّى قلبه وصده عن الخير (ولا يظلم ربك أحداً) (الكهف:49) .(63/141)
فمن هداه الله فهو فضل منه، ومن أضله فهو عدل منه، ولا أحد يقدر أن يغير ما وقع؛ لقوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل) (الزمر:36-37) ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خطبة الحاجة: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) رواه مسلم فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ولكنه سبحانه خلق الخلق، وقسمهم إلى أهل طاعة، وأهل معصية، وعلم أهل الخير من أهل الشر، وعلم من يكون قابلاً للخير أهلاً له، ومن يكون قابلاً للشر أهلاً له، فجعل هؤلاء أشقياء وهؤلاء سعداء، ولله الحجة البالغة يقول الله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) (الأنعام:149) ، (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) (الشعراء:4) ؛ يعني لو شاء الله لأنزل عليهم آية فاهتدوا بها كلهم، ولكن علم الله من هو أهل للهدي ومن هو أهل للشقاوة يقول الله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام * ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً) (الأنعام:125) .
فإذا هدى الله تعالى هؤلاء، فلابد أن نعتقد أن ذلك فضل منه، وإذا أضل هؤلاء فذلك عدل منه، وأنه لو شاء لهدى الناس كلهم، فلا محيد لأحد عن القضاء الذي قضاه، ولا مخرج له عما حتمه عليه.
وفي حديث القدر يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) . أي أن ما تكره من الأمور المقدرة فإنها عن حكمة حصلت، وأن الذي قدرها حكيم يفعل ما يشاء قضاءً وقدراً، وحكمة وشرعاً، لا محيد لأحد عن القضاء المحتوم الذي قدره.(63/142)
وهذا كله لا ينافي العمل ولا ينافي فعل الأسباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر صحابته بأنه: ما منكم من أحد إلا قد كُتب مقعده من الجنة أو كُتب من النار) ، قال رجل: يا رسول الله؛ أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟، فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر) فأمر بأن يعمل، وأخبر بأن الإنسان يصير إلى ما قدره الله، فلابد وأن يسير إليه فمن كتبه الله سعيداً فلابد أن يعمل بعمل أهل السعادة ولو في آخر لحظة في حياته، وكذلك من كتبه شقياً.
ففي حديث القدر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) .
فالأعمال بالخواتيم، والله تعالى يوفق كل إنسان بأن يختم له من العمل بما هو أهله وما كتبه له؛ ولهذا كان كثير من السلف ومن العلماء يكثرون من الدعاء بحسن الخاتمة؛ لأن الأعمال بخواتيمها.
وقوله:
قال الله تعالى: (لا يسأل عمال يفعل وهم يسألون) (الأنبياء:23) ، وقال تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (القمر:49) ، وقال تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) (الفرقان:2) ، وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) (الحديد:22) ، وقال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً) (الأنعام:125) .
شرح:
بعض هذه الآيات في القدر الذي هو العلم السابق، وبعضها في القدر الذي هو قدرة الله على كل شيء.(63/143)
فقوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) هذه في العلم السابق، ومعناه أن كل شيء له زمان، وله وقت لا يتجاوزه ولا يتعداه ولا يتغير عن ما هو عليه، فإذا قدر الله تعالى أن هذا الإنسان يولد له كذا فلابد أن يتحقق ذلك الذي قدره الله وأراده؛ ولو حصل ما حصل من العوائق، وكذلك إذا قدر الله أن هذا لا يولد له فإنه لا يولد له ولو فعل ما فعل، وإذا قدر الله أن هذا لا يولد له حتى يفعل السبب الفلاني فإنه يتوقف أن يولد له على فعله ذلك السبب، وقد علم الله أنه يفعله في آخر الأمر أو نحو ذلك.
وهكذا إذا قدر الله مثلاً أن هذه الأرض تنبت كذا وكذا شجرة فلابد أن تنبته في الزمن الذي حدد، وأن هذه الشجرة أو هذه النبتة تنبت في اليوم الفلاني وتفنى باليوم الفلاني، وتثمر كذا وكذا، وعلم عدد أوراقها كما في قوله تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) (الأنعام:59) ، فعلم ذلك وحدوده داخل في هذه الآية: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (القمر:49) ؛ أي بمقدار وزمان، محدد أوله وآخره.
كذلك قوله تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) (الفرقان:2) ، أي قدر زمان الذي خلقه، خلق الذراري وقدر أعمالهم وآجالهم، فإذا حملت المرأة أرسل الله الملك فيكتب أجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ورزقه حلال أو حرام، وهو في بطن أمه، ولكن هذه كتابة خاصة. وكذلك أيضاً جميع ما يحدث داخلٌ في هذه الآية (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) أي حدده وحدد قدرته، وقوته ومبدأه ومنتهاه وما يصير إليه.
وأما قوله تعالى: (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) (الأنبياء:23) ، فهذا القضاء الذي هو العلم السابق، وكذلك القدرة على الأفعال؛ لأنه يفعل الأشياء ولا يسأل عن الحكمة فيها.(63/144)
فمن عقيدة أهل السنة أنهم يسلمون لأمر الله ولو لم يظهر لهم فيه حكمة، فلا يجوز أن تقول: ما فائدة خلق هذه الأشياء؟ أو هذه الأشياء فيها ضرر؛ ليتها لم تخلق، كل هذا لا يجوز؛ لأن في هذا اعتراض على تصرف الخالق، فهو الذي خلق الأقدار حتى إنه أراد التعرف إلى خلقه بإيجاد الضدين؛ فخلق الخير والشر، وخلق الحياة والموت، وخلق المسلم والكافر، وكذلك بقية الأضداد، فلا يجوز أن تقول: لماذا خلق الله البرد والحر؟ لماذا خلق الله السموم القاتلة؟ لماذا خلق الله السباع؟ لماذا خلق الله ذوات السموم كالحيات والعقارب؟، فخلق كل الأشياء لابد أن تكون فيها حكمة ولو لم تكن معلومة لنا، فلا يجوز أن يُعترض على الله تعالى في خلقه فإنه يفعل ما يشاء قال تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) (الأنبياء:23) ، يدخل في هذه الآية جميع ما أوجده، سواءً من المخلوقات ذوات الأرواح أو من النباتات أو من الأفعال، ولا يقال: لماذا أمر الله بكذا؟، ولماذا حرم كذا؟ ولماذا أوجب كذا؟ كل هذا لا يجوز: (لا يسال عما يفعل وهم يسألون) .
أما قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً) (الأنعام:125) فهذه الآية في الإرادة الكونية فإن الإرادة كما ذكرنا نوعان: إرادة كونية وإرادة شرعية، فالمعنى أن من أراد الله كوناً وقدراً أن يهديه فإنه يشرح صدره للإسلام، ويكون قلبه منبسطاً إليه، راغباً فيه، محباً له، مقبلاً عليه، متقبلاً له، يرغب فيه ويحبه ويألفه، ويستحسن أفعاله وشرائعه، ويرى كل ما فيه حقاً ومطابقاً وصدقاً ليس فيه شيء لا فائدة فيه ولا أهمية له، فيقبل على الإسلام ويتقبله، فهذا الذي أراد الله به خيراً.(63/145)
قال الله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) (الزمر:22) ، أخبر بذلك عن نبيه (ألم نشرح لك صدرك) (الشرح:1) ، والشرح هنا ليس هو الشق، ولكنه شرح الانبساط، بمعنى أن قلبه يصير مقبلا على الإسلام، ويصير صدره متسعا لتعاليم الإسلام، كأن صدره واسعٌ غاية السعة لأجل ما منّ الله عليه بهذه الهداية.
ثم قال تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) (الأنعام:125) ، أي من أراد الله إضلاله وحال بينه وبين الهداية فإنه يجعل صدره ضيقاً، وليس المراد الضيق الحسي، فإنك إذا رأيت اثنين أحدهما أراد الله أن يشرح صدره، والآخر لم يرد به خيراً بل أراد الله أن يضله، لا تفرق بينهما ظاهراً، فضيق الصدر هنا ضيق معنوي، بمعنى أنه لا يتسع صدره للتعاليم الدينية ولا يحبها ولا يتقبلها ولا يركن إليها؛ إذا أخبر بها ضاق بها ذرعاً وأبغضها ومقتها واحتقرها، وابتعد عنها واستثقلها كأنها جبال تحمل عليه؛ هذا من قضاء الله الذي قدر عليه، كذا جعل صدره ضيقاً حرجاً، والحرج هو الشدة والألم.
(كأنما يصعد في السماء) كأن قلبه يصعد أي يطار به، ويحال بينه وبين أسباب الفرح، لا شك أن هذا أمر الله تعالى؛ فهو الذي هدى هذا وأضل هذا.
وقد ذكرنا أن هدايته لمن يهديه فضل منه، وإضلاله لمن يضله عدل منه:
ما للعباد عليه حقٌ واجبُ كلا ولا سعيٌ لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله، أو نُعِّموا فبفضله، وهو الكريم الواسع(63/146)
هذه الآيات ونحوها فيما يتعلق بالقضاء والقدر، وقد ذكرنا أن الإرادة نوعان: إرادة كونية، وإرادة دينية شرعية، فالإرادة الكونية يلزم وقوع مرادها، والإرادة الشرعية لا يلزم وقوع مرادها؛ فوجود هذه المخلوقات مراد إرادة كونية، نقول مثلاً: إن الله أراد كوناً وقدراً وجود هذا الاجتماع وخلق هؤلاء الأشخاص ونحو ذلك، كل هذا مراد كوناً وقدراً.
كذلك أراد كونا وقدراً وجود المبتدعة والكفرة والفجرة والعصاة ونحوهم -ولو شاء ما وجدوا- فهذه إرادة كونية قدرية أزلية سابقة معلومة لله قبل وجودها، ولابد من تحقيق مراد الله الذي أراده في الكون والقدر.
أما الإرادة الشرعية فإنه لا يلزم وجود مرادها، ولكن مرادها محبوب لله تعالى، فالله تعالى أراد من العباد كلهم أن يؤمنوا به ديناً وشرعاً، وأن يعملوا الصالحات وأن يصدقوا الرسل، وأراد منهم أن يتركوا المحرمات ولكن هل وجه هذا المراد كله أو وجد بعضه أراد منهم أن يؤمنوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فالذين آمنوا اجتمعت فيهم الإرادتان: إيمانهم الذي حصل مراد كوناً وقدراً لأنه مكتوب، ومراد شرعاً وديناً لأنه محبوب.
كذلك أعمالهم الصالحة التي عملوها كالصلاة والصدقة والجهاد والأذكار والتلاوة مرادة دينا وشرعاً، كما أنها مرادة كوناً وقدراً؛ لأن الله قدر أن هؤلاء يؤمنون ويعملون الصالحات في الأزل، ويكثرون من العبادات، ويتعلمون العلوم النافعة، ويعتقدون العقائد الصالحة؛ أراد ذلك كوناً وقدراً فوجد، وأراده دينا وشرعاً فوجد فيهم.(63/147)
والإرادة الشرعية مذكورة في قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة:185) ، وفي قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) (النساء:26) ، (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) (النساء:27) ، (يريد الله أن يخفف عنكم) (النساء:28) .
كل هذه إرادة شرعية، يعني يريد شرعاً وديناً أن يخفف عنكم، يريد شرعاً وديناً أن يتوب عليكم، فمن تاب الله عليه ووفقه كان هذا مراداً شرعاً وديناً، وكوناً وقدراً، ومن لم يتب لم يوافق الإرادة الشرعية حيث إنه أريد منه التوبة فلم يتب، فتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمنين لأنهم حققوا الإرادة الشرعية، وتنفرد الإرادة الكونية في كفر الكافرين لأن الله أراد منهم شرعاً وديناً أن يؤمنوا فلم يؤمنوا، وأراد منهم كوناً وقدراً أن يكفروا فكفروا.
وهذا معتقد أهل السنة أن الله تعالى أراد جميع الكائنات، فلا تخرج عن إرادته ولا عن تكوينه، وأن جميع الكائنات حاصلة بقضائه وقدره، وأنه عالم بها.
وأما قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) (الحديد:22) ، هذه الآية تتعلق بنوع من القدر؛ هذا النوع هو علم الله السابق؛ أنه بكل شيء عليم، وأنه عالم بالأشياء قبل وجودها، وبهذا نعرف أن القدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، وهو العلم السابق قبل وجود الموجودات، علمها قبل وجودها، فكل شيء يوجد فإنه معلوم لله.
المرتبة الثانية: الكتابة؛ كتبها في اللوح المحفوظ، فكل شيء يحدث فإنه مكتوب.
المرتبة الثالثة: الإرادة؛ فإن الله أرادها وشاءها ولابد من وقوع ما شاءه الله.
المرتبة الرابعة: أن الله أوجدها وخلقها وحقق وجودها.(63/148)
إذا آمن العبد بذلك كله صدق عليه أنه آمن بالقدر، والمرتبة الأولى وهي العلم؛ ذكروا أنها أربعة أقسام:
الأول: التقدير العام؛ الذي هو العلم بالموجودات كلها من أول ما خلقت إلى ما لا نهاية له.
التقدير الثاني: التقدير العمري؛ وهو ما يكتب للإنسان وهو في بطن أمه.
التقدير الثالث: التقدير السنوي؛ وهو أنه في ليلة القدر يقدر الله ما يكون في تلك السنة إلى مثلها مما يكون على وجه الأرض، يكتب في تلك الليلة ما سوف يوجد، وما سوف يحصل؛ يقول الله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم * أمراً من عندنا) (الدخان:4-5) ، يعني في ليلة القدر، وذلك بعد قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم) (الدخان:3-4) .
أما التقدير الرابع: فهو التقدير اليومي؛ وهو وقوع ما يحصل في كل يوم، وهو المذكور في قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) (الرحمن:29) .
وقوله:
وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. فقال جبريل: صدقت) رواه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحُلوه ومره) . ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت) .
شرح:(63/149)
هذه أدلة على الإيمان بالقدر، فحديث ابن عمر في صحيح مسلم هو أول حديث في كتاب الإيمان، وهو حديث عمر المشهور، وأوله عن يحي بن يعمر قال: (كان أول من قال بالقدر في العراق معبد الجهني، فانطلقت أنا وحُميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنفُ، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي نفسي بيده؛ لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ... ) .
ثم أنشأ يحدث بهذا الحديث، حديث عمر المشهور إلى قوله: قال: أخبرني عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت ... الحديث) .
فهذا دليل على نوع من أنواع القدر، وهو العلم السابق الذي ذكرنا أنه العلم الذي علمه الله قبل وجود المخلوقات، وهو الذين أنكره معبد الجهني وادعى أن الأمر (أُنف) يعني مستأنف، بمعنى أن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث؛ لا يعلم ما سوف يولد لهذا، ولا من سوف يسكن هذه البلدة، ولا متى تعمر هذه البقعة، ولا متى تنبت هذه الشجرة، ولا متى تثمر حتى تخرج ثمارها، وهذا بلا شك تنقص لعلم الله الذي وصف به نفسه بأنه بكل شيء عليم.(63/150)
ولكن الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالقدر خيره وشره) يدخل فيه أيضاً القدر الذي هو الحوادث، وهو أن تؤمن بأنها مقدرة وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وورد من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رفعت الأقلام وجفت الصحف.
أما دلالة حديث القنوت الذي أوله: (اللهم أهدني فيمن هديت) إلى قوله: (وقني برحمتك شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك) فقد دل على أن الله يقيه من الشر، والدعاء ليس يغير القدر، ولكن الدعاء من القدر، والدعاء نفسه مقدر، وقد جعله الله سبباً لوقوع هذا القدر، فدعاؤنا بقولنا: (وقني شر ما قضيت) أي شر ما تقدره؛ أي ما قد كتب، ومما قدره الله تعالى وكتبه أن العبد سيدعو بهذا الدعاء ويكون سبباً في كشف الشر عنه.
فدل على أن المكتوب لابد من وقوعه، ولابد من حصوله، فما قدر الله فلن يخطئ العبد، لا راد لقضاء الله، ولا معقب لحكمه.
مسألة: جمع أهل السنة بين الشرع والقدر
وقوله:
ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثه الرسل.
قال الله تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجةُ بعد الرسل) (النساء:165) ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (البقرة:289) .(63/151)
وقال الله تعالى: (فاتقوا الله ما استقطعتم) (التغابن:16) ، وقال تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم) (غافر:17) . فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً يُجزى على حسنه بالثواب وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره.
شرح:
مسألة القدر انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام:
قسم أنكروا قدرة الله، وقسم احتجوا بالقدر، وقسم توسطوا، ولم يجعلوا القدر حجة لهم على المعاصي، ولكنهم يحتجون به على المصائب بعد حدوثها.
القسم الأول: الذين أنكروا قدرة الله هم المعتزلة، وأصول المعتزلة خمسة، ولهم كتاب مطبوع اسمه (الأصول الخمسة) للقاضي عبد الجبار، وأصولهم الخمسة أسماؤها حسنة، ولكن يدخل تحت تلك الأسماء بدع:
الأصل الأول: التوحيد، ويريدون به نفي الصفات.
والأصل الثاني: العدل، ويريدون به نفي قدرة الله على العباد كما سيأتي.
والأصل الثالث: المنزلة بين المنزلتين، ويريدون به إخراج العاصي من الإيمان وعدم إدخاله في الكفر.
والأصل الرابع: إنفاذ الوعيد، ويريدون به تخليد العصاة في النار.
والأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على الأئمة العصاة في زعمهم.
فالذي يهمنا هو الأصل الثاني، وهو العدل، فالاسم حسن، قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل) (النحل:90) ، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (النساء:58) ، ومعروف أن العدل هو التسوية بين الخصمين، والحكم بينهما بحكم وسط لا ظلم فيه ولا جور، ولا ميل مع أحدهما على الآخر كما في قوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة:8) .(63/152)
ولكن يريدون بالعدل أن الله تعالى لا يقدِّر المعصية على العاصي، ثم يعذبه عليها فإن ذلك يكون ظلماً، ويقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعله، وهو الذي يستقل بأفعاله، ولا قدرة لله على فعله، ولا يقدر على أن يهدي أو يضل، ولا يُقبل بقلب هذا، ولا يصد قلب هذا، فالله -عندهم- عاجز عن هذا -تعالى الله عما يقولون- بل العباد أنفسهم هم الذين يستقلون بأفعالهم. فجعلوا العبد خالقاً مع الله، ولهذا يسمون مجوس هذه الأمة؛ لأنهم جعلوا مع الله من يخلق؛ لأن المجوس جعلوا الكون صادراً عن خالقين: النور والظلمة، وأما المعتزلة فجعلوا العباد كلهم يخلقون؛ الطائع يخلق طاعته، والعاصي يخلق معصيته.
وقالوا: إن الله ليس له قدرة عليه بل العاصي يعصي الله، ولو شاء الله أن يرده ما قدر على أن يرده، إذا أراد العبد أن يفعل معصية، وأراد الله أن لا يفعلها غلبت قدرة العبد على قدرة الله، وإذا أراد الله أن تُفعل طاعة من العبد، والعبد أراد أن يفعلها غلبت قدرة العبد على قدرة الله، فهذا في زعمهم سموه عدلاً، حتى لا يعذب الخلق على الأمر الذي خلقه فيهم، هذا قول القدرية وهم المعتزلة.
القسم الثاني: يسمون الجبرية وهم طائفة من الأشاعرة غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته وإرادته، وقالوا: ليس للعبد أية اختيار، بل العبد مجبور على فعله مقسور عليه، ليس لديه أي نظر ولا همة ولا إرادة، ويتمثل بعضهم بقوله:
ألقاه في أليمّ مكتوفاً وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء
يقولون: إن الله هو الذي أوقعه في المعصية وخلقها فيه، وقدرها عليه، وألزمه بها، ومع ذلك يقول له: لا تعص، لا تقرب المعصية، لا تفعلها، فهو كمن كُتفت يداه، وألقي في البحر، وقيل له: لا تبل ثيابك بالماء، هذا غير ممكن.(63/153)
وذكروا أن يهودياً لعله قدري أو من هؤلاء الجبرية جاء إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، ورفع إليه أبياتاً يقول في أولها:
أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلّوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
دعاني وسدّ الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتي
فيقول: هو بمنزلة من دعاني وسد الباب دوني ولا مني على ذلك.
فأجاب شيخ الإسلام نظماً وارتجالاً وجعل يكتب وهو جالس، ويعتقدون أنه يكتب نثراً وإذا هو يكتب نظماً في المنظومة التائية الموجودة في المجلد الثامن من مجموع الفتاوى والتي أولها:
سؤالك يا هذا سؤال معاندٍ مخاصم رب العرش باري البرية
ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طُراً معشر القدرية
سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به في الخليقة
وقد زادت المنظومة على مائة وثلاثين بيتاً، أو نحوها، وبين له: إنك مخصوم، وإنك تقر على نفسك بأنك مخصوم، وإن الذين يحتجون بالقدر متناقضون، فهم يقولون هذه المقالات حتى يحتجوا على فعل المعاصي بوجودها، وأنشد ابن القيم في بعض كتبه قول بعضهم:
وضعوا اللحم للبزا ة على ذروتي عدن
ثم لاموا البزاة إذ أطلقوا لهنّ الرسن
لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن
يقول: إنهم يحتجون بالقدر كما يحتج الزاني مثلاً بأنهم دفعوه إلى الزنا، حيث إن النساء تكشفت أمامه فلم يملك نفسه أن اندفع؛ يقول: "لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن) هكذا يحتجون، ولكن لا حجة لهم في ذلك لأنهم متناقضون.(63/154)
ذكروا أن سارقاً جيء به إلى عمر رضي الله عنه فأراد أن يقطع يده، فقال ذلك السارق: سرقت بقدر الله فقال عمر: وأنا أقطع يدك بقدر الله؛ يعني هذا قدر وهذا قدر.
ولما توجه عمر رضي الله عنه إلى الشام وأقبل عليهم، وذكروا له أن الطاعون وقع في الشام عزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. يعني أن فعلنا هذا مقدر ولو فعلنا هذا لكان مقدوراً، فالقدر هو ما نفعله، القدر هو ما يهدينا الله له.
وفي الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟، فقال: (هي من قدر الله) يعني قدَّر الله هذا المرض، وقدَّر أن العبد يتداوى فيشفى، وهذه الأدوية مكتوب أنها سوف تحصل وهي من قدر الله، جعلها الله تعالى سبباً.
وعلى هذا فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، وذلك لأن القدر إنما هو موافقة الأمر والنهي، فالإنسان مأمور بأن يفعل، فإذا فعل فقد وافق القدر، وليس له أن يحتج بالقدر على ترك الفعل أو على فعل المحرم (قل فلله الحجة البالغة) (الأنعام:149) .
فكما أن الله تعالى أمرنا بفعل الأسباب الحسية وجعلها من القدر، فكذلك أمرنا بالأفعال المعنوية وجعلها من القدر، فنحن مأمورون مثلا بأن نتكسب ونطلب الرزق، ويكون هذا بقدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فكما أن الطير لا تجلس في وكناتها، ولا في أوكارها، بل تغدو وتذهب وتتطلب الرزق حتى تجده، فالإنسان يسعى ويفعل الأسباب ويكسب، ويطلب الرزق، ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري ويحترف، وفعل هذا من قدر الله تعالى ومن قضائه المكتوب عليه.(63/155)
وكذلك أيضاً لا يقول: سأسكت فلا أتكلم فإن هذا قدر، نقول له: انطق وتكلم وذلك أيضاً من القدر. ولا يقول: سوف أمسك عن الأكل فإن الله قدر أن أعيش عشت، وإلا فلا، نقول: لا بل أطعم الطعام، وغذ بدنك فإن هذا مما أمرت به، وهو من الأسباب في حياتك، وهو أيضاً من القدر. ولا يقول: لا أتزوج فإن كان الله قدر لي أولاداً حصلوا بدون زواج، نقول: لا، بل تزوج حتى يحصل ما قُدّر لك. وهكذا التعلم وما أشبهه، كلها بقضاء وقدر، ولابد أن يفعل العبد هذه الأسباب حتى يوافق ما قدر الله وما كتبه.
نقول بعد ذلك: إن أهل السنة توسطوا في ذلك فجعلوا للعبد قدرة، وجعلوا لله تعالى قدرة، وقدرة الله تعالى غالبة على قدرة العبد، وبقدرة العبد التي أعطاه الله إياها والتي مكنه بها يحصل الثواب والعقاب على هذه القدرة.
فلا شك أن الإنسان معه قدرة، ومعه تمكن، وأنه لولا هذه القدرة ما كُلف، وفي الآيات التي تقدمت ذكر الأدلة على ذلك: (لا يكُلف الله نفساً إلى وسعها) (البقرة:286) فلو لم يكن للإنسان قدرة لما كلف، ولهذا لا يكلف المجنون، ولا العاجز، ولا المقعد، ولا المريض، ولا فاقد القدرة.
وقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) (التغابن:16) يعني أن للعباد استطاعة وقدرة يزاولون بها أعمالهم، وهكذا الآيات التي فيها الأوامر والنواهي التي يوجهها الله إلى العباد: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (المزمل:20) ، (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) (الإنعام:151) ، ونحو ذلك.(63/156)
ولو لم يكن للعباد قدرة ما وجهت إليهم هذه الأوامر، فدل على أن الله أعطاهم قدرة يزالون بها الأعمال، ويصح بها أن يكونوا مكلفين، ويصح أن تنسب إليهم أفعالهم فيقال: هذا هو القاتل فاقتلوه، هذا هو الزاني فارجموه، هذا هو السارق فاقطعوه، ويقال: هذا هو المصلي يستحق الثواب، هذا هو الصائم له أجر صيامه، هذا هو المتصدق يضاعف الله أجره، فتنسب إليه أفعاله لأنها صدرت منه، وإن كانت مقدرة ومقضية ومخلوقة لله أزلاً، ولكن لما باشرها نسبت إليه فهي أفعاله.
فلا يجوز أن يقال: ليس للعبد أية قدرة أصلاً، فهذا قول الجبرية، ولا يقال: ليس لله قدرة أصلاً فهذا قول المعتزلة، بل لله قدرة عامة وللعبد قدرة خاصة، وقدرة الرب غالبة على قدرة العبد، ودليل ذلك في القرآن قوله تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله) (التكوير:28-29) ، (فمن شاء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشاء الله) (المدثر:55-56) ، (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إلا أن يشاء الله) (الإنسان:29-30) ، ونحو ذلك من الآيات.
فالاحتجاج بالقدر هو قول المشركين الذين يقولون: (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) (الزخرف:20) ، (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) (يس:47) ، فهؤلاء الجبرية الذين يحتجون بالقدر قولهم موافق لقول المشركين، والغالب أنهم لا يحتجون به إلا عند أهوائهم؛ ولهذا يقول ابن القيم في الميمية.
وعند مراد الله تفنى كميِّت وعند مراد النفس تُسدي وتُلحِمُ
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم
يعني تزعم أنك مجبور، فحصل في ذلك تقسيم الطوائف إلى ثلاث:
الذين يقولون: إن العبد هو المستقل بفعله، وهؤلاء هم القدرية، وكذلك ينكرون قدرة الله ويدعون أن الله يعصى قهراً.(63/157)
وطائفة مجبرة؛ الذين ينكرون قدرة العبد أصلاً، ويقولون: ليس له شيء من الفعل، فحركته كحركة المرتعش الذي لا يقدر على إمساك يده، أو حركته كحركة الشجرة التي تحركها الرياح بدون اختيارها فليس له أية قدرة.
وقول أهل السنة: أن له قدرة وإرادة، وأنه بحسبها يثاب ويعاقب، وإن كانت خاضعة لقدرة الله تعالى.
الإيمان قول وعمل
وقوله:
والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
قال الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (البينة:5) .
فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، كله من الدين.
شرح:
هذا الموضوع يقال له: أسماء الإيمان والدين، ويتعلق به التكفير والتفسيق ونحوه، وهو الذي عند المعتزلة يسمى المنزلة بين المنزلتين؛ وذلك لأن الأمة اختلفوا في مسمى الإيمان فتباينت فيه أقوالهم.
والإيمان في اللغة هو التصديق، ولكن الشرع أضاف إليه إضافات وأدخل فيه الأعمال، وأدخل فيه الأقوال، فأصبح الإيمان شاملاً للعقائد والأقوال والأعمال، أصبح مسمىً شرعياً، وما ذاك إلا أن المسميات الشرعية نقلت من مسماها اللغوي إلى مسمى خاص كسائر المسميات الشرعية.
فالعرب لا تعرف اسم الإيمان إلا أنه التصديق، ولا تعرف اسم الكفر إلا أنه التغطية، تغطية الشيء وستره يسمى عندهم كفراً لقول شاعرهم: (في ليلة كَفَر النجُومَ ظلامها) ، ولا تعرف الفسق إلا أنه الخروج، فسقت الرطبة: خرجت من قشرتها، ولا تعرف النفاق إلا أنه الاستخفاء، ولا تعرف الشرك في التجارة أو نحوها، ولا تعرف التوحيد إلا أنه الواحد المفرد.
فجاء الشرع وجعل لهذه الأشياء مسميات شرعية، ونقلها من المسمى اللغوي إلى المسمى الشرعي.(63/158)
فالإيمان: قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، هذا مسمى الإيمان في الشرع أدخل فيه الأعمال وسماه إيماناً كما ستأتي عليه الأدلة إن شاء الله.
أما الكفر: فإنه الخروج من الدين، فجحد الرسالة، وجحد النبوة، وجحد التوحيد وإنكار العبادة يسمى كفراً شرعياً.
أما الفسوق: فهو المعصية؛ لأنها خروج عن الطاعة.
أما النفاق: فهو مسمى شرعي يطلق على إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
أما التوحيد: فنقل من مسماه اللغوي إلى مسمى شرعي، وهو إفراد الله بالعبادة.
أما الشرك: فنقل من مسماه اللغوي إلى مسمى شرعي، وجعل اسماً لدعوة الله ودعوة غيره معه، فإشراك غير الله معه في نوع من أنواع العبادة يسمى شركاً.
فهذه مسميات نقلها الشرع وجعلها لمسميات خاصة، والكلام الآن عن الإيمان، وذلك لقدم وقوة الخلاف فيه:
فذهب بعضهم إلى أن الإيمان هو المعرفة، فمن عرف فهو مؤمن عندهم. فهل هذا صحيح؟ الله تعالى رتب على الإيمان الجزاء، رتب عليه الثواب، فكثيراً ما يذكر الله الإيمان ويذكر ثوابه، فهل كل عارف يستحق الثواب؟ معروف أن فرعون عارف قال الله تعالى عن موسى (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات) (الإسراء:102) . فهل فرعون مؤمن؟
وكذلك إبليس عارف بالله، وعارف بأن الله ربه هو الخالق، فهل يقال: إنه مؤمن مستحق للثواب؟ ، وكذلك أيضاً المنافقون؛ كثير منهم عارفون ولكنهم جحدوا عناداً، والمشركون عارفون أيضاً، يقول الله تعالى: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) (الأنعام:33) فهل يقال: إنهم مؤمنون يستحقون ثواب الإيمان؟(63/159)
إذن عرفنا أن هذا القول باطل، وهناك من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق. وهذا القول مشهور عند الحنفية، وقالوا: إنه مسمى الإيمان في اللغة، ولهم كلام طويل، ولكن نحن نقول: إن الله تعالى قد وصف المؤمنين بصفات زائدة على التصديق، مما يدل على أنه لابد مع التصديق من الأعمال، فلا يكون المؤمن مؤمناً إلا بتلك الأعمال.
الدليل الأول: قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) (الأنفال:2-3) ، فجعل المؤمنين حقاً هم المتصفون بهذه الصفات الخمس، ومنها ما هو عمل بدني كالصلاة، أو عمل مالي كالنفقة، أو عمل قولي كالذكر، أو عمل قلبي كالوجل، فدل على أن الإيمان يعم هذه الأشياء.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) (السجدة:15) نفى الإيمان عن غير هؤلاء، فأصبح من الإيمان الخرور سجوداً لله (إذا ذكروا بها خروا سجداً) (السجدة:15) ، والتسبيح بحمد الله وعدم الاستكبار والتجافي (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) (السجدة:16) ، والدعاء (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) (السجدة:16) إلى آخرها، فهذا كله من الإيمان.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) (الحجرات:15) فجعل من الإيمان الجهاد وترك الريب والعمل، فلا شك أن هذا كله دليل على أن الإيمان شيء زائد على التصديق.
إذن فيكون الإيمان مثلما عرفه الموفَّق رحمه الله؛ وهو قول أهل السنة، وقد ذكروا أن البخاري رحمه الله يقول: رويت في هذا الكتاب عن نحو ثلاثمائة من العلماء كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل، ويريد بذلك أن مشايخه الذين أخذ عنهم كلهم على هذا القول: (الإيمان قول وعمل) .(63/160)
وقد بدأ صحيحه -بعد المقدمة التي هي في الوحي- بكتاب الإيمان، ثم قال: (وهو قول وفعل، يزيد وينقص) ولم يذكر الاعتقاد؛ لأنه لا خلاف في الاعتقاد، ولما لم يكن لا خلاف في الاعتقاد خلاف أغفله، وذكر ما فيه الخلاف؛ وهو القول والفعل، أي أن الإيمان تدخل فيه الأقوال والأفعال، ثم يترتب على ذلك كمال الإيمان ونقصانه وزيادته.
وكثير من الحنفية والأشاعرة ونحوهم يعتقدون أن الإيمان واحد، وأنه لا يتفاوت، وأن الناس فيه مستوون وذلك لأنهم متفاوتون في العقيدة وقوة اليقين، ومتفاوتون في أثر تلك العقيدة على العباد، وإذا كانوا متفاوتين دل على أن الإيمان يتفاوت.
فنحن نعرف أنه قد يكون هناك إنسان رزقه الله علماً وقراءة وتدبراً، أقبل على السنة، وعلى الحديث، وعلى القرآن، وأخذ يتأمل وقامت عنده الأدلة، ورسخت في قلبه أدلة الوحدانية وأدلة الربوبية، وأدلة البعث والنشور، وأدلة الأعمال والأحكام، وأدلة الرسل والإيمان بهم، والملائكة ونحوهم؛ رسخت في قلبه، وكان من آثار رسوخها أن انبعثت جواحه بالعمل فلا ينطق إلا بالذكر ولا يسمع إلا الخير ولا يبصر إلا ما فيه خير، وكان سكوته ذكراً ونطقه ذكراً وعمله خيراً، كل ذلك من آثار ما رسخ في قلبه من تلك الأدلة.
وهناك آخر ما سمع إلا القليل، ولا اهتم إلا بالقليل من السنة، ولم يتعلم إلا أطراف المعلومات، ومع ذلك امتلأ قلبه باللهو والسهو وزينة الدنيا وزخرفها والميل إليها، وامتلأ قلبه بمحبة الشهوات، فإذا رأيته لا ستمعه يذكر الله إلا قليلاً ولا ترى جوارحه تنطلق إلا قليلاً بالأعمال الصالحة، بل وضد ذلك لا يذكر إلا ما يشتهيه وما يميل إليه، ولا ينطلق إلا إلى هوى نفسه، وأعماله الصالحة قليلة، فهل يقال: إن أعمال هذا وأعمال هذا مستويات؟ الذي يقول ذلك ليس له فكر.(63/161)
نعود إلى كلام الموفق رحمه الله، قوله: (إن الإيمان قول باللسان) يدخل في ذلك الأذكار، فهي من الإيمان، فإذا قلت مثلاً: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله، وأعوذ بالله، وبسم الله، والله ربنا، فهذا كله من الإيمان وهو قول اللسان.
وكذلك إذا دعوت إلى الله، أو دعوت إلى الخير، وعلّمت الناس، ودعوت إلى كتاب الله والعمل به، فكل نطق تنطق به وهو يدل على الخير فإنه من الإيمان، يقال: هذه الكلمة إيمان، وهذه التهليلة إيمان، وهذه التسبيحة إيمان، و (اعتقاد بالجنان) أي بالقلب، والاعتقاد: ما عقد عليه القلب وتمسك به، فالعقد أصله انعقاد القلب على الشيء، وعدم التردد في ثبوته، فإذا اعتقد قلبك ثبوت البعث فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت عذاب القبر فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الوحي فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الحشر والنشر والجزاء على الأعمال وتفاصيل ذلك فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الملائكة وكثرتهم فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الرسالة وكثرة الرسل فهذا من الإيمان، إلى آخر ذلك؛ كل ما يعقد عليه القلب فإنه من الإيمان.
كذلك أيضاً عمل الجوارح، فالصلاة والصدقات والصيام والطواف والحج والوقوف ورمي الجمرات والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والدعوة إلى الله، كل هذه من الإيمان.
والبخاري يبوب على ذلك في صحيحه فيقول: (باب الصلاة من الإيمان، (باب أداء الخمس من الإيمان) ، (باب أداء الزكاة من الإيمان) ، (باب الصبر من الإيمان) ، وهكذا يعدد خصال الخير ويجعلها من الإيمان؛ لأنها من الأعمال بالجوارح، والأعمال بالجوارح من الإيمان.(63/162)
أما الأدلة على ذلك فمنها قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (البينة:5) الدين هو الإيمان، فجعل هذه الخمس من الإيمان:
العبادة: يدخل فيها أنواع الطاعة وأنواع القربات كلها من الإيمان.
الإخلاص: إرادة وجه الله تعالى بالعمل وعدم إرادة غيره؛ هذا أيضاً من الإيمان.
الحنيف: هو المقبل على الله المعرض عما سواه، هذا من الإيمان.
الصلاة: من الإيمان.
الزكاة: من الإيمان. وكلها من الدين.
كذلك الإيمان: ذكر أنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد تقدم ذكر من ينكر زيادته، وتبين لنا خطؤهم وبعدهم عن الصواب، والأدلة واضحة على ذلك، قال الله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران:173) .
وفي سورة الأنفال يقول تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً) (الأنفال:2) .
وفي سورة الفتح يقول تعالى: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) (الفتح:4) وفي سورة التوبة يقول الله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون) (التوبة:124) .
والحاصل أن هذا دليل واضح على أن الإيمان يزيد وينقص، وكل شيء قَبِل الزيادة فإنه يقبل النقصان.(63/163)
والدين يشمل الإسلام والإيمان، كما في حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه عن الإسلام، ففسره بالأعمال الظاهرة، ثم سأل عن الإيمان وفسره بالأعمال الباطنة، يعني لما قرن مع الإسلام الإيمان فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بأعمال القلب، ثم سأل عن الإحسان، ففسره بالمراقبة والمشاهدة، ثم أخبر بأن هذا كله من الدين قال ((يعلمكم دينكم)) وصار الإسلام والإيمان والإحسان كله من الدين.
وإذا قلت: هل هناك فرق بين الإسلام والإيمان؟ فيقال: إذا قُرنا جميعاً؛ فإن الإسلام: الأعمال الظاهرة، والإيمان: أعمال القلب، وأما إذا اقتصر على واحد منها، فإنه يعم الجميع.
لكن قد يشكل على الإنسان بعض الأدلة مثل قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات:14) ، وقد كثر الكلام حول هذه الآية، ولا إشكال فيها والحمد لله؛ وذلك لأن هؤلاء الأعراب أسلموا، يعني استسلموا ظاهراً، والإيمان لابد أن يصير نابعاً من القلب، وهؤلاء لم يصل الإيمان الحقيقي إلى قلوبهم؛ فلأجل ذلك قال: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) ، فجعلهم مرتابين، أي في قلوبهم ريب، فأثبت لهم الإسلام، ونفى عنهم الإيمان (قل لم تؤمنوا) وذلك لأنهم استسلموا ظاهراً وقلوبهم مترددة، يعبدون الله على حرف، فإن أصابهم خيرٌ اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، فهؤلاء نفى عنهم الإيمان؛ لأن الإيمان منبعه من القلب، ويؤثر على الأبدان، يؤثر على السمع وعلى البصر، وعلى اليد وعلى الرجل وعلى اللسان، وهؤلاء إنما أعمالهم ظاهرها أنهم مسلمون، ولكن ليس معهم دافع الإيمان.(63/164)
أما قوله تعالى (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (الذاريات:35-36) هم لوط وأهله، فلا شك أن لوطا وأهل بيته ما عدا امرأته جمعوا بين الوصفين أي الإيمان والإسلام، الإيمان الباطن والإسلام الظاهر وإن كان أحدهما يكفي عن الآخر. والحاصل إنا إذا رأينا ذكر الإسلام مطلقاً، فسرناه بالإيمان وبالأعمال كلها، وإذا ذُكر الإيمان وحده، فسرناه بالإسلام وبالأعمال كلها، وإذا ذكرا معاً فأحدهما أخص من الآخر، والأعم هو الإسلام، وأخص منه الإيمان، وأخص من الإيمان الإحسان.
وقوله:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شُعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال تعالى: (فزادتهم إيماناً) (التوبة:124) ، وقال: (ليزدادوا إيماناً) (الفتح:4) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان) ، فجعله متفاضلاً.
شرح:
هذه أدلة واضحة الدلالة يستدل بها على أن الأعمال من مسمى الإيمان، وعلى أن الإيمان يزيد وينقص، وعلى أن أهل الإيمان يتفاوتون.
فالدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) . والشعبة هي القطعة من الشيء إذا رأيته متشعباً؛ في هذا شعبة، وفي هذا شعبة؛ يعني قطع، فإذا اجتمع وتواصل صار كله إيماناً.(63/165)
من هذا الحديث انطلقت أفكار العلماء في ذكر شعب الإيمان، وأخذوا يعددونها ويذكرون ما وصلوا إليه، وأوسع من كتب في ذلك البيهقي، له كتاب مطبوع في نحو سبعة مجلدات، اسمه (شعب الإيمان) استوفى فيه ما وصل إليه من الأحاديث التي تتعلق بالإيمان، وكتب في ذلك أيضاً بعض العلماء رسالة مختصر في شعب الإيمان، أوصلها إلى سبع وسبعين خصلة، بدأها بالتوحيد أخذاً من هذا الحديث (أعلاها قول لا إله إلا الله) وختمها بالأعمال التي فيها نفع للغير ومنها (إماطة الأذى) .
وفيما بين ذلك ذكر الصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والتطوعات من الإيمان، والنهي عن المنكر، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الخلق، ورد السلام وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإكرام الضيف، وإحسان الجوار، والرفق بالمملوك، وأخذ يعدد حتى وصل إلى سبع وسبعين خصلة، أراد بذلك أن يطبق هذا الحديث.
وهذا بلا شك ردٌ صريح على فقهاء الحنفية الذين يجعلون الإيمان هو التصديق فقط، ويجعلون الأعمال خارجة عن مسماه، ويجعلون الإيمان اسماً لعمل القلب فقط، أو يقين القلب فقط، ويقولون: إن الأعمال ثمرة من ثمراته، والصحيح أن الأعمال داخلة في مسمّى الإيمان، وأنها من جملة الإيمان كما سماها في هذا الحديث، وقسّم خصال الإيمان وشعب الإيمان.
وبكل حال متى استوفى المسلم هذه الخصال وعمل بها؛ سميناه: مؤمناً كامل الإيمان، وإذا نقص منها قلنا: مؤمن ناقص الإيمان، والخلاف هنا مع المعتزلة والخوارج:
فالمعتزلة بمجرد ما يترك خصلة من خصال الإيمان أو يفعل معصية يخرجونه من الإيمان، ولا يدخلونه في الكفر، بل يجعلونه في منزلة بين المنزلتين؛ هذا في الدنيا، ويقولون: لا نحكم عليه بالكفر في الدنيا، بحيث يقتل أو يسبى، بل نقول: لا مؤمن ولا كافر، بل بينهما.(63/166)
أما الخوارج فيقولون: بمجرد ما يرتكب ذنباً أو يترك طاعة خرج من الإيمان وحل دمه وماله.
وأما أهل السنة فيقولون: إنه مؤمن، ولكن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيسمونه مؤمناً، ولكن مع الإيمان يتصف بالفسق، فلا مانع من أن تقول: مؤمن فاسق، أو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
لكن هنا دليل استدل به المعتزلة ونحوهم، وهو الحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبه يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) الحديث أخرجاه في الصحيحين.
فإنه نفى عنه الإيمان، والجواب: إن المراد نفي الإيمان الكامل، فهو معه إيمان ناقص، أو (لا يزني الزاني وهو مؤمن) يعني أنه ليس معه الإيمان الذي يحجزه عن المعاصي بل إيمانه مضطرب، ومختل، وبعض الشراح يقولون: إن الإيمان يخرج منه ويصير عليه كالظلة ما دام متلبساً بمعصيته، ولكن لا يرجع إليه سالماً، بل يرجع إليه مختلاً وناقصاً. وبكل حال هذا دليل واضح على أن أهل الإيمان يتفاوتون.
وأما أدلة زيادته: فذكر منها ابن قدامة ثلاثة أدلة، وذلك لأن القلب تتوارد عليه الأدلة فيزيد الإيمان فيه، وقد يذهب بعضها فينقص، وقد تأتيه شبهة فتنقص اليقين الذين فيه ويبقى ناقصا.(63/167)
ومن الأدلة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي لقلبه وزن ذرة من إيمان) أليس هذا دليلاً على التفاوت، فبعضهم إيمانه مثقال دينار وهو قطعة من الذهب، وبعضهم مثقال خردلة؛ حبة صغير، وهذا دليل على أنهم متفاوتون، هذا أنقص من هذا، وهذا أزيد من هذا، فدل على أنهم يتفاوتون.
واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ مخاطباً للنساء في خطبته يوم العيد: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قلن: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين، قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعد شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين) ، فجعل تركها الصلاة -وإن كانت معذورة- نقصاً في دينها، فالرجل يزيد عليها في صلاته في تلك المدة، فدل على أن الإيمان يزيد بالطاعة من الصلاة والصدقة والصيام ونحوها، وينقص بترك الصلاة أو بترك الصيام وما أشبهه.
وأهل السنة قالوا: إن المؤمنين يتفاوتون في الإيمان، ولا يكفّرون بالذنوب، بل يعذرون العاصي، ويقولون: إنه مؤمن، ولكنه فاسق، أو عاص، ولو عمل أي عمل ما لم يكن ذلك العمل مخرجاً من الملة.
والأحاديث التي أطلق فيها الكفر على بعض الأعمال يقال: إنه كفر عملي، مثله قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) . معلوم أن هذه لا تصل إلى الكفر الذي هو الكفر بالله، والذي يبيح الدم والمال، ولكنها كفر عملي فيه شيء من التكذيب في بعض الشريعة.(63/168)
والأحاديث التي فيها الوعيد على بعض الخصال تسمى أحاديث الوعيد تُجرى على ظاهرها ليكون أبلغ في الزجر، مع العلم بأنها لا تخرج من الملة، ولو كان ظاهرها فيه إخراج من الملة، فإذا سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية) ، هل نقول: هذا ليس من المسلمين، مع إنه ما عمل إلا هذا العمل، هل خرج بذلك من الإيمان؟ هذا من أحاديث الوعيد، ونعتقد أنها لا تخرج من الملة، ولكن نمرّه على ظاهره ليكون أبلغ في الزجر.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً بريء منه) ، هل يكون معناه أنه خرج من الدين؟. وهذه الأحاديث كثيرة.
ولذلك فإن الإمام مسلماً رحمه الله بدأ صحيحه بكتاب الإيمان، وأورد فيه مثل هذه الأحاديث التي فيها إشكال على بعض الناس، وفيها شك -للدلالة على أن الإيمان يتفاوت مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) أخرجه مسلم، أليس فيه دليل على أن الإيمان يتفاوت وأن هناك إيماناً ضعيفاً.
كل هذا رد على الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد، وأن نقصانه ذهاب له. وممن كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان) ، وهو مطبوع في المجلد السابع من مجموع الفتاوى، ومطبوع أيضاً مفرداً، وكذلك في كتاب الإيمان في صحيح البخاري، وفي أكثر كتب المحدثين، وكذلك الكتب المستقلة؛ ككتاب (الإيمان) لابن أبي شيبة صاحب المصنف، وكتاب (الإيمان) لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب (الإيمان) لابن منده، وكلها مطبوعة ميسرة ولله الحمد
مسألة: الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله:(63/169)
ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا؛ نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه.
شرح:
هذا مما يتعلق بالعقيدة؛ وهو الإيمان بالغيب، وأول وَصْفٍ وَصَفَ الله به المتقين: الإيمان بالغيب قال تعالى: (هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب) (البقرة:2-3) ، والغيب كل ما غاب عنا وأخبرنا عنه، وكان الخبر يقيناً؛ أخبر الله به في القرآن أو أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث.
لا شك أن الأخبار الغيبية إخبار عن أمر ما شاهدناه ولا رأيناه، فما هي طريقتنا في ذلك وماذا نفعل؟ علينا أن نصدق به وإن لم تدركه عقولنا أو حواسنا، وكل شيء غاب عنا وأخبرنا عنه بخبر قد يكون غريباً وقد يكون مستبعداً، فإذا كان الخبر من الله أو رسوله وجب التصديق به مهما كان، والأمثلة لذلك كثيرة.
فأولاً: الخبر عن الله تعالى: هذا من الإيمان بالغيب، والخبر عنه بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، متصف بصفات كذا، منزه عن صفات كذا وكذا، هذا من الإيمان.
ثانياً: الخبر عن الرسل: أخبرنا الله، وأخبرنا الرسول عن الرسل بأخبار منها مثلاً: أن آدم خلق من تراب، وأن الله أسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وأن إبليس احتال عليه حتى أخرجه؛ هذا من الإيمان بالغيب، لأننا ما شاهدناه لكن جاءنا الخبر اليقين، فنصدق به ونؤمن به.
ثالثاً: الإخبار عن الملائكة؛ عن كثرتهم، وعن عبادتهم، وعن أعمالهم، وعن أماكنهم، هذا أيضاً من الإيمان بالغيب، نقبله ولو استبعده من استبعده، فإن الأمور الغيبية لا تدرك بالعقول وإنما تدرك بالأخبار، فإذا كان المخبر ممن يجب تصديقه، فالتصديق به داخل في خصال الإيمان فلا يجوز رد شيء من خبره.(63/170)
ويقال هكذا في بقية الأخبار، وبالأخص ما يكون في الدنيا، فإن الإنسان قد يعجز عن إدراكه، ولكن إذا كان خبراً صحيحاً ثابتاً فلا يجوز رده، ولو كذب بذلك من كذب.
ذكر ابن القيم في كتابه (الروح) عن الفلاسفة أنهم أنكروا عذاب القبر؛ وأن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأنه يفسح للميت في قبره مد بصره، أو أنه يضيق عليه حتى تختلف أضلاعه. وأنه يأتيه الملكان فيجلسانه، وأنهما يسألانه، وأنه إذا لم يعرف يضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق، وأنه يفتح له باب إلى الجنة أو باب إلى النار، وأنه يأتيه من روحها وريحانها، فهم ينكرون ذلك ويقولون: هذا لا نحس به، فإننا كشفنا عن الميت فوجدناه على هيئته لم يتحرك ولم يتغير، فأين هذه الأشياء التي تزعمونها؟
الجواب: أنكم في دار وهُم في دار، أنتم في دار الدنيا وهم في دار البرزخ، ومن مات فقد قامت قيامته، وليس لكم أن تنكروا الشيء الذي لا تدركونه، فإن إدراك هذه الأشياء إنما هو خاص بمن قد مات، وأما الأحياء فقد حجبت عنهم؟ ولأجل ذلك أخبرنا أن الإنسان لا يسمع هذه الأصوات، وذلك أنه لو سمعها لتكدرت عليه حياته، ولما اطمأن في الدنيا، ولما ركن إلى ملذاته، بل لا يعيش عيشة هنيئة، فلأجل ذلك حجب الله عنا هذه الأشياء فلم نرها.
والأحكام في الآخرة على الأرواح والأبدان، وأما البرزخ فالأحكام على الأرواح، والأبدان تبع لها، ونحن نعلم أن البدن جثة بعد الموت يصير إلى الفناء والعدم، وأما الروح فإنها هي التي تتألم وتتعذب، ونعلم أن الروح لا تدركها أبصارنا كما أننا لا ندرك الجن ولا الشياطين ولا الملائكة ولا نراهم، فإذن كيف تكذبون بشيء لا تحيط به أبصاركم ولا تقدرون على تصوره؟!(63/171)
فعرفنا بذلك أن واجب الإنسان أن يصدق بالغيب مما أخبر الله به، أو أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان يقينا، وسواء أدركته العقول أم قصرت ويدخل في هذا: الإيمان بما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الوقائع التي قد يستبعدها بعض الناس، وكذلك أيضا ما وقع للأنبياء عليهم السلام قبله، وكذلك ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وما أخبر به من عذاب البرزخ وأموره، وما أخبر الله به من البعث والنشور، والجزاء على الأعمال، والجنة والنار، وما يكون في يوم القيامة. كل ذلك داخل في الإيمان بالغيب؛ وما ذلك إلا لأنه غائب عن الأنظار، وإنما يُعتمد فيه على الخبر.
والخبر إذا جاء عن الصادق المصدوق وجب قبوله وتقبله، ولو استبعدته العقول وأحاله من أحاله، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بل والمسلمين عامة؛ فإن المسلمين الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم يلزمهم أن يصدقوه بما أخبر به، ولو لم تدركه عقولهم، أما الذين لا يصدقونه مطلقاً، أو يقبلون بعض ما جاء به فهؤلاء ليسوا حقاً من أتباعه.
فمثلاً الفلاسفة الإلهيون، يكذبون بما أخبر الله به من بدء الخلق، وينكرون أن يكون لهذا الخلق أول، أو يكون له آخر، فينكرون أن آدم خلق من تراب، بل يعتقدون أن هذا الجنس من الناس قديم لم يبدأ، ولم يكن له أول، ولم يزل هكذا دائماً وأبداً، ليس له مبتدأ وليس له نهاية، وينكرون قيام الساعة، وينكرون بعث الأجساد، وينكرون انقطاع هذا الجنس من الناس ويقولون: هكذا تبقى هذه الدنيا دائمة؛ أرحام تدفع، وأرض تبلع من غير نهاية، هكذا معتقدهم.
فكذبوا بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله، وما ذاك إلا أنهم لم تصل معرفتهم إلى الإيمان الصحيح، فوقعوا فيما وقعوا فيه من هذا الشك، وهم مثل من قال الله تعالى فيهم أنهم: (في ريبهم يترددون) (التوبة:45) .(63/172)
هذا الفرق بين المسلمين وبين الفلاسفة، وهم يقرون بالإلة، ويقرون بأن هذا الخلق مخلوق وله خالق مدبر، وإن كان اعترافهم بذلك عن طريق العقل لا عن طريق النقل اعترف بذلك كبيرهم الذي يرجعون إليه والذي يقال له: أرسطو، ويسمى عندهم (المعلم الأول) ، وله مؤلفات موجودة مطبوعة تباع بأغلى الأثمان مشتملة على هذه العقائد السخيفة، وتبعه من المسلمين أكابر الفلاسفة كابن سينا، ومع الأسف لا يزال مقدساً عند كثير من المنتمين إلى الإسلام، وكذلك الفارابي، وسمي عندهم (المعلم الثاني) ، وكلهم من غلاة الفلاسفة الذين ينكرون الغيب.
وهناك طائفة (السمنية) ذكروا أنهم ينكرون ما لا يدركون بإحدى الحواس، لا يقرون إلا بما أدركوه بحاسة من الحواس الخمس وهم الذين ناظروا جهماً في ربه، حيث لقي طائفة من السمنية، فسألوه: هل لك رب؟ قال: نعم. فقالوا له: هل رأيت ربك؟ قال: لا. قالوا: هل سمعت صوته وكلامه؟ قال: لا. قالوا: مسسته بيديك؟ قال: لا. قالوا: هل شممت رائحته؟ قال: لا. قالوا: إذن هو معدوم. فبقي متحيراً، ثم إنه تذكر وقال لأحدهم -وهو رئيسهم-: هل لك روح؟ أو هل لك عقل؟ فقال: نعم. قال: هل رأيت عقلك أو روحك؟ قال: لا. قال: هل شممته؟ هل مسسته، أو ذقته؟ هل سمعته؟ قال: لا. فقال: إذاً ليس لك عقل أو ليس لك روح. فعند ذلك رجعوا إلى أن يقولوا هذا القول المبتدع، فاعترفوا بالرب ولكنهم وصفوه بصفات لا يثبت معها إله معبود، أو رب معبود.
هذه الطائفة ينكرون ما سوى المحسوسات، لكن طائفة الفلاسفة أخص من هؤلاء؛ فالفلاسفة قسمان:
أ- فلاسفة طبيعيون؛ وهم الذي ينكرون الخلق والخالق ويقولون: إن هذه طبيعة، وإن هذا الوجود طبيعة، هكذا وجدت ولا يتغير عن الطبيعة وقد أنشد الشيخ الحكمي رحمه الله في قصيدته الجوهرة الفريدة قوله:
ولا نُصيخ لعصري يفوه بما يُناقض الشرع أو إياه يعتقد(63/173)
يرى الطبيعة في الأشيا مؤثرة أين الطبيعة يا مخذول إذ وجدوا
يقول: أين الطبيعة قبل أن يوجدوا، فهذا من عقائد الفلاسفة الطبائعيين الذي لا يقرون بإله.
ب- فلاسفة إسلاميون كابن سينا، وابن رشد، والفارابي ونحوهم فهؤلاء يقرون بأن هناك إلهاً، ولهذا يسمون الفلاسفة الإلهيون، ولكن معتقدهم أنهم لا يؤمنون بالغيب.
فالمسلمون والحمد لله يعرفون ما يعتقدونه، ويدينون بأن الخلق له خالق، وأن الخالق أمرهم بالأعمال، وأنه يجازيهم على الأعمال، وإذا لم يجازوا في الدنيا فإنهم سوف يلقون جزاءهم في الآخرة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وقوله:
مثل حديث الإسراء والمعراج، وكان يقظةً لا مناماً. فإن قريشاً أنكرته ولم تنكر المنامات.
ومن ذلك (أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فردَّ عليه عينه) .
شرح:
هذا من الإيمان بالغيب، وهو قصة الإسراء والمعراج، ذكر الإسراء في قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) (الإسراء:1) في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، مسجد إيليا قال تعالى: (لنريه من آياتنا) (الإسراء:1) .
أجمل الإسراء في هذه الآية، وكلمة (بعبده) تدل على أنه أسري بجسده وروحه، فهي تصدق على الجسد والروح، وتدل على أنه يقظة لا مناماً، وذلك لأن قريشاً أنكروا الإسراء؛ لما قال لهم: إنه أسري بي إلى بيت المقدس ثم رجعت، استعظموا ذلك حتى جاءوا إلى أبي بكر وقالوا: إن صاحبك يزعم كذا، وكذا؟ فقال: قد صدق. قالوا: كيف تصدقه؟ قال أصدقه بما هو أبلغ من ذلك في خبر السماء؛ ومن ثم سمي بالصدّيق.
أما الذين إيمانهم ضعيف فقد أرتد بعضهم عندما سمعوا بقصة الإسراء واستبعدوا ذلك، فقريش تقول: كنا نشد الرحال شهراً ذهاباً وشهراً إياباً، فكيف قطعته أنت في ليلة واحدة؟!.(63/174)
وهذا ليس ببعيد، فقد ذكر في الحديث؟ أنه أسري به على دابة يقال لها: (البراق) وأنها تضع حافرها عند منتهى طرفها -يعني من سرعة سيرها، فلا يستبعد ذلك، وقد وجد في هذه الأزمنة الطائرات التي تقطع هذه المسافة في زمن قليل، فلا يستبعد أن الله تعالى سخر له هذا البراق الذي قطع هذه المسافة في زمن يسير.
فالحديث معروف، وقصة الإسراء التي في الصحيحين وفي غيرهما مشتهرة، وأنه صلى الله عليه وسلم أتاه الملك، وأنه أركبه على البراق، وخرج من المسجد الحرام، ووصل إلى مسجد إيليا -المسجد الأقصى- وأنه وجد الأنبياء وأنه أمهم ثم بعد ذلك عرج به إلى السماء. والمعراج أشير إليه بأول سورة النجم، فإن الله تعالى ذكر فيها الإشارة إلى المعراج في قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى) (النجم:13-15) ، أنه عرج به إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وأنه رأى من آيات ربه الكبرى، وأن الله أراه وأطلعه على تلك الآيات، وهذا ما أشير إليه في الأحاديث.
وبكل حال نصدق بالإسراء ولو استبعده من استبعده، فإنه ليس ببعيد، وليس بمستغرب على قدرة الله، فالله على كل شيء قدير، وكما قال أبو بكر: (إني أصدقه في أعجب من ذلك في خبر السماء) ، إذا كان الملك ينزل إليه في لحظات، ويقطع هذه المسافة فلا غرابة أن يعرج به وينزل في جزء من اليلة، لا غرابة في ذلك، فعلى كل حال هذا مما يؤمن به أهل السنة والجماعة، ونعتقد كذلك أنه كان يقظة لا مناماً؛ لأن الإنسان يرى في نومه أنه قطع المسافات، وأنه ذهب إلى كذا، وأنه رجع إلى كذا، وهو لم يزل على فراشه، ولا يستغرب ذلك، فلو كان مناماً لما أنكرته قريش وأكبرته، ولما صار فيه معجزة أو غرابة.(63/175)
ومن ذلك: لما جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه ولطه ففقأ عينه، فرجع ملك الموت إلى ربه تعالى فرد عليه عينه، هذا حديث صحيح فلا طعن فيه، وقد استبعده من استبعده كبعض الفلاسفة وبعض المعتزلة، وقالوا: هذا خبر آحاد ولو كان صحيحاً فلا نقبله، وقالوا:
أولاً: إن الملك ليس من جنس البشر، فكيف مع ذلك تُفقأ عينه؟.
ثانياً: إن الملائكة أرواح فكيف يُتصور أنهم مثل الآدمي؟.
وأيضاً: فإن موسى نبي من أشرف الأنبياء ومن أولي العزم، فكيف يجرؤ على ملك الموت ويلطمه بهذه اللطمة إلى أن يفقأ عينه؟، إلى آخر ذلك من الاعتراضات.
قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند وغيره: إن موسى رآه داخلاً بيته بدون إذنه في صورة إنسان، فعند ذلك لطمه ظناً منه أنه متلصص، أو أنه داخل لينظر ويتطلع على داخل بيته، وهذا جائز في شرعنا، قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن رجلاً اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤا عينه) وثبت أن رجلاً اطلع في جُحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الرسول صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك.. الحديث) .
فيقول: إن هذا الملك تصور بصورة إنسان، ودخل على موسى فظنه موسى من المتلصصين، فعند ذلك فقأ عينه، ولا غرابة في أن موسى غضب لما أخبره بأنه جاء ليقبض روحه فلطمه ففقأ عينه، فرد الله تعالى عين ملك الموت عليه.. إلى تمام الحديث.(63/176)
وفي بعض الروايات أنه قال صلى الله عليه وسلم: (قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة.. قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن) يعني ما دام الموت لابد منه ولو بعد مئات السنين فالآن قال: (فسال الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر) . فبكل حال نصدق بهذا ولا غرابة في ذلك.
مسألة: في أشراط الساعة
وقوله:
ومن ذلك: أشراط الساعة، مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل.
شرح:
وهذه أيضاً من الأمور الغيبية، وهي أشراط الساعة، والأشراط هي العلامات، كأنها شرط في وجودها، والشرط في اللغة: ما يترتب عليه وجود المشروط وما لا يتم المشروط إلا به، وقد أخبر الله تعالى أن للساعة أشراطاً: قال تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها) (محمد:18) .
ومن أعظم أشراطها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فهو آخر الأنبياء إذ ليس بعده نبي؛ فهو نبي الساعة وثبت عنه أنه قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى. يعني أنه قريب من قيام الساعة، ومع ذلك فقد أخبر بأن بين يدي الساعة علامات؛ منها علامات صغيرة، ومنها علامات كبيرة.
وقد كتب فيها العلماء قديماً وحديثاً، وتوسعوا في علامات الساعة وأشراطها التي أخبر الله تعالى بها أو أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينوا أنها ثابتة وحقيقية، ولو أنكرها من أنكرها واستبعدها بعض من قصرت أفهامهم وعلومهم.(63/177)
وممن كتب في أشراط الساعة: ابن كثير رحمه الله في آخر كتابه التاريخ، لما انتهى من البداية أتى بالنهاية، وذكر أشراط الساعة وتكلم عليها، ومع الأسف نسخت طبعة من الطبعات حققها بعض المغرضين من أهل الشام ويقال له (أبو عبية) ثم إنه حرفها، وعلق عليها تعليقات بعيدة، وذلك لأن عقله لم يكن متسعاً لتلك الأمور الغيبية، ولما كثرت عليه تلك الأدلة وتنوعت أخذ يتنوع في بعضها، فبعضها يرده بأن يضعفه ولو كان صحيحاً، وبعضها يرده بأن يحمله محملاً بعيداً، وما أشبه ذلك.
فمن أشهر علامات الساعة، أو أشراطها: خروج المسيح الدجال، وقد تكاثرت فيه الأدلة، والأخبار فيه متواترة حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ في الصلاة من فتنة المسيح الدجال، وأخبر بأنواع من فتنته؛ فأخبر بأنه أعور، وأن الله ليس بأعور، وأخبر بأنه يعيث يميناً وشمالاً، وأخبر بمدته التي يمكثها في الأرض، وأخبر بأنه يسير فيها سيراً حثيثاً، وأخبر بأنه يأتي أهل القرية والمدينة فيطيعونه، فإذا أطاعوه وصدقوه أصبحوا وقد نزلت عليهم البركات، والذين يعصونه تنزل عليهم النقمات - وهذه فتنة من الله، وأنه لا يدخل مكة ولا يدخل المدينة ... إلى آخر ذلك، والأحاديث كثيرة.
ثم إن (أبا عبية) حمل الدجال وتأوّله على أنه الشر؛ قال: (الدجال هو الشر أو الشرور، أو المعاصي، أو المخالفات) ، وكذب؛ إنه شخص إنسان حي متحرك، فجعله معنوياً، وأخذ يتكلف في رد هذه الأحاديث ويصرفها مصارف بعيدة، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه.(63/178)
وقد رد على بعض كلماته الشيخ حمود التويجري -رحمه الله- في كتابه المصنف المعروف بـ (إتحاف الجماعة في أشراط الساعة) ، المجلد الأول في العلامات الصغيرة، والمجلد الثاني في العلامات الكبيرة، ناقش أبا عبية في بعض ما تأوله واعتذر بأنه ما وقف إلا على أحد المجلدين؛ على مجلد واحد لأن (أبا عبية) طبع النهاية في مجلدين كبيرين وكلاهما علق عليه بما يفسده. وهذا دليل على أن هناك من قصرت علومهم عن إدراك الأشياء التي لم تتصورها نفوسهم فيتأولونها بهذا التأويل.
وأما أحاديث المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فهي أيضاً متواترة ومتكاثرة، وقد أنكرها كثير من هؤلاء المتهوكين وقالوا: إن القرآن دل على أن عيسى قد مات؛ قال الله تعالى: (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) (آل عمران:55) وقال تعالى حكاية عن عيسى: (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) (المائدة:117) .
فإذا كان عيسى عليه السلام قد توفي فكيف يرجع؟ أليس قد مات، وقد انقطع عمره؟
وأجاب العلماء: بأن التوفي هنا هو النوم، يعني أنامه، ثم رفعه؛ قال الله تعالى: (وما قتلوه يقيناً * بل رفعه الله إليه) (النساء:157-158) فالقرآن صريح بأنه رفع إليه، أي رفع حياً إلى السماء عندما جاء اليهود ليقتلوه، فشبه لهم؛ نزل شبهه على بعض أصحابه كما في قوله تعالى: (ولكن شبه لهم) (النساء:157) وفُتح له طاق في البيت ورفع إلى السماء. وبقي في السماء حتى ينزل في آخر هذه الدنيا، ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وورد في الأحاديث أنه ينزل على المنارة البيضاء التي في المسجد الأموي شرقي دمشق، وأنه يقتل المسيح الدجال فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، ويقتله في باب لد - باب هناك في دمشق- هذه الأحاديث فيه متواترة مذكورة في كتب الصحيح، نصدق بها ولا عبرة بمن أنكرها أو استبعدها.(63/179)
أما خروج يأجوج ومأجوج فقد ذكر في القرآن في قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) (الأنبياء:96) ذكر في الحديث أنهم خلق لا يحصيهم إلا الله، وأنهم يخرجون إلى الدنيا، وأنهم يستولون على الأرض ويشربون المياه التي يمرون بها، حتى إنهم يمرون ببحيرة طبرية ويشربونها، ويأتي آخرهم ويقول: لقد كان هنا ماء.
وذكر في الحديث: أن عيسى عليه السلام يرغب إلى الله تعالى في أن الله ينجيه منهم، فيموتون فيصبحون فرسى، فيرسل الله عليهم ريحاً فتقذفهم في البحار، وينزل ماء من السماء فيغسل الأرض بعدهم حتى تكون كالزَّلَفَة (أي المرآة) -، ويبارك الله في الرسل، حتى إن الجماعة يشربون من لبن اللقحة فيروون منه، وحتى إن الجماعة يأكلون ويشبعون من الرمانة ويستظلون بقحفها، إلى آخر الحديث الطويل الذي في آخر صحيح مسلم، نصدق بذلك كله ولو استغربه من استغربه.
وأما خروج الدابة: فذكر أيضاً في القرآن قال الله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) (النمل:82) هذه الدابة ورد فيها صفات، ولكن ليست كلها بصحيحة، وإنما الثابت أنها دابة في الأرض مستغربة، وأن هذه الدابة تكلمهم كما أخبر الله تعالى، ولا يدري ماذا تكلم به.
وأما طلوع الشمس من مغربها: ففسر به قول الله تبارك وتعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) (الأنعام:158) وفسر هذا البعض بأنه طلوع الشمس من مغربها، وإذا طلعت آمن الناس كلهم، وذلك يوم لا ينفع نفساً أيمنها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.(63/180)
لا شك أن الأحاديث قد ثبتت في ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) هذه من أكبر العلامات التي ذكرت في الأحاديث.
وذكر أيضاً في بعض الأحاديث أنه يكون هناك خسف بالمشرق، وخسف في المغرب، وخسف في جزيرة العرب وأنه يكون آخر الآيات نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا.
وذكر أيضا من أشراط الساعة، أو من العلامات (نارٌ تخرج من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى) ، وهذه الآية قد خرجت في القرن السابع، وذكروا أنها ترتفع نحو عشرين ذراعاً أو ثلاثين ذراعاً في السماء، وأنها تشتعل بالحجارة، وإذا ألقي فيها السعف لا تحرقه، دامت أياماً في شرق المدينة، وذكرها المؤرخون كابن كثير وأطال في الكتابة عنها، وأنها من الأشراط التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه من العلامات الكبيرة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وآخر ذلك إخباره بأن الله يرسل ريحاً لينة طيبة وأنها تقبض روح كل مؤمن، وأنه لا يبقى بعد هذه الريح الطيبة إلا شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة.
مسألة: في البرزخ والبعث
قوله:
وعذاب القبر ونعيمه حقٌّ، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به في كل صلاة، وفتنة القبر حق، وسؤال مُنكر ونكير حق، والبعث بعد الموت حق، وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) (يس:51) .
شرح:
من الإيمان بالغيب: الإيمان بعذاب القبر، مع أن القبر مشاهد نشاهده ونراه، ولكننا لا نشاهد عذابه ولا نعيمه، ولكن لما وردت به الأدلة الصحيحة في السنن وفي الصحاح آمنا به وأيقنا وصدقنا بما جاء في الأحاديث واعتقدنا أن ذلك من الأمور الغيبية.(63/181)
وقد أطال العلماء في ذكر هذا الركن الذي هو من الإيمان بالغيب، وأوردوا فيه الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقروها وتكلم عليها العلماء المتقدمون والمتأخرون.
وممن اشتهر بتتبع الأخبار في ذلك من المتقدمين: ابن أبي الدنيا، وله كتب كثيرة مطبوعة في هذا، لكن أكبر كتبه كتاب (القبور) ، وكتاب (من عاش بعد الموت) ، ثم كتب بعد ذلك ابن القيم كتاب (الروح) وتكلم فيه عن عذاب القبر، وأطال فيه إلى أن ذكر قصصاً وذكر أحكاماً وأحاديث، وذكر فصولاً منوعة، وتكلم عليه أيضاً تلميذه ابن رجب في كتابه الذي سماه (أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور) وغيرهم، وهكذا في كتب الزهد وكتب المواعظ؛ يذكرون عذاب القبر ونعيمه.
والخلاصة أنه ورد في الأحاديث أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأنه يضيق على صاحبه -إن كان شقياً- حتى تختلف فيه أضلاعه، أو يوسع عليه -إن كان سعيداً- حتى يكون مد بصره، وأنه يأتيه الملكان فيه، فإن كان سعيداً بشراه بخير، ويسألانه: من ربك، ومن نبيك، وما دينك؟ فيجيبهم، وإن كان شقياً لا يجيبهم بل يقول: هاه هاه، لا أدري. وأنهما يضربان الشقي ضربة بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبلٌ لصار تراباً، وأنه يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلان، ولو سمعها الإنسان لصعق.
وأنه يأتيه رجل -إن كان سعيداً- طيب الريح طيب الثياب فيقول: أبشر باليوم الذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة، وأنه يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وريحانها، ونحو ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تبلغ حد التواتر.(63/182)
وقد ذكرنا فيما سبق أن الفلاسفة ونحوهم استبعدوا عذاب القبر، قالوا: أولاً: إنه لم يذكر في القرآن، وقالوا: ثانياً: إن العقول تنكره. وذكروا أنهم وضعوا الإنسان في قبره، وحفروا بعد ثلاثة أيام فوجدوه على حاله، ووضعوا الزئبق على صدره فوجدوه كما هو لم يتغير، والزئبق أخف وأسرع حركة، ومع ذلك لم يتغير من مكانه، فكيف يكون مع من يجلس، ويسأل، ويضرب، وينعم وأشباه ذلك؟
فأجابهم العلماء: إن هذا من أمر الغيب وعلينا أن نؤمن به، وإن ما بعد الموت فهو من الآخرة، ونحن من أهل الدنيا، ولسنا بمطلعين ولا مطلعنا الله على أمر الآخرة ونحن في الدنيا، وإن الأحكام بعد الموت تتعلق بالأرواح؛ فإن الأرواح هي التي تتنعم، وهي التي تتألم، وهي التي تصعد وتنزل، وهي التي تسأل وتجيب، وهي التي تنعم أو تعذب، وتجري هذه الأحكام عليها. وقد ذكر ابن القيم أن الروح لها بالبدن خمس اتصالات:
الاتصال الأول: عندما كان جنيناً في بطن أمه. فاتصالها به قليل، ولكن يتحرك الجنين في بطن أمه قليلاً.
الاتصال الثاني: بعدما يخرج إلى الدنيا، فهو اتصال كامل وإن كان يعتريه نقص.
الاتصال الثالث: عندما يكون الإنسان نائماً؛ فإن روحه تفارق بدنه، ولكنها لا تكون مفارقة كاملة.
الاتصال الرابع: في البرزخ الذي هو في القبر فهو اتصال ضعيف ولكن ليس بمستحيل.
الاتصال الخامس والأكمل: الاتصال في الآخرة بعدما تعاد الأرواح إلى أجسادها، وتتصل بها اتصالاً كلياً كاملاً.
والأحكام في الدنيا على الأجساد وتتبعها الأرواح، والأحكام في البرزخ على الأرواح وتتبعها الأجساد، والأحكام يوم القيامة على الأرواح وعلى الأجساد.(63/183)
وأما قولهم: لم يذكر في القرآن عذاب القبر. فأجاب عنه ابن القيم وغيره، وقالوا: إنه قد ذكر في السنة، ونحن نؤمن بالسنة وبما جاء بالقرآن، وأيضاً فقد ورد في القرآن إشارات ودلالات وفسرت بعذاب القبر؛ فذكر الله أن آل فرعون يغدا بهم ويراح على النار في قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (غافر:46) والغدو والعشي في هذه الدنيا، يعني أنهم يعرضون أي أرواحهم تعذب في النار.
كما ذكر الله أنهم سيعذبون مرتين في قوله تعالى: (سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) (التوبة:101) المرتان قيل: إنه مرة في الدنيا ومرة في البرزخ، (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، هذا في النار بعد البعث، وفسر بذلك أيضاً قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك) (الطور:47) يعني عذاب القبر؛ هذه إشارات إلى أن عذاب القبر قد ثبت، وأن الإنسان عليه أن يكثر الاستعاذة من عذاب القبر، وعليه أن يصدق به، وإن لم يدركه إحساسه.
ولكن قد تقول: إنه قد يبقى غير مقبور مدة طويلة. فنقول: الذي يبقى هو الجثة، والعذاب والنعيم على الأرواح.
مسألة: في الحساب
وقوله:
ويُحشر الناس يوم القيامة حفاة عُراةً غرلاً، فيقفون في موقف القيامة حتى يشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فيحاسبهم الله تعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأيمان والشمائل (فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً * وينقلب إلى أهله مسروراً * وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيراً) (الانشقاق:7-12) .
شرح:
قال بعض العلماء: إن الله تعالى أكثر في ذكر البعث، وأدلته، ومن القرائن التي تدل عليه والمعجزات والآيات والبراهين، وكذلك ما بعده من الجزاء على الأعمال ومن الحشر، والنشر وما إلى ذلك.(63/184)
ولعل الحكمة من المبالغة في ذلك إقناع المشركين، وذلك لأن المشركين من العرب كانوا ينكرون أشد الإنكار بعث الأجساد، فضلاً عن حساب عليها أو عذاب، فهم يقولون -مثل ما حكى الله عنهم هم والأولون أيضاً بقوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) (الأنعام:29) ، وكذلك حكى الله عنهم قوله تعالى: (إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون) (الصافات:69-70) ، فلما وجدوا آباءهم على هذا الأمر الذي هو إنكار البعث، تبعوهم في ذلك، وحكى الله تعالى عنهم قولهم: (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون * قل نعم وأنتم داخرون) (الصافات:16-18) ، أي تبعثون وأنتم ذليلون مهينون.
ورد الله على ذلك الكافر الذي جاء ومعه عظم ميت يفتته وقد صار رميماً فقال: أتزعم يا محمد؛ أن هذا يبعث بعد أن صار رميماً تراباً؟ قال: (نعم، يميتك الله، ثم يحييك ثم يحشرك إلى النار) فأنزل الله تعالى قوله: (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) (يس:77) ، ذكره بخلقه من نطفة، ومع ذلك أصبح خصيماً مبيناً، ثم قال تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه) (يس:78) ، نسي بدء خلقه الذي كان معدوماً، ثم خلق، ثم أوجد، إلى آخر الآيات التي فيها تذكيره بالبعث وبالآيات الدالة عليه بعد البعث.
وكثيراً ما يذكر الله الآيات التي في الحشر، ويذكر يوم القيامة، ويسميه بعدة أسماء، فيسميه يوم القيامة، ويسميه بالساعة، ويسميه بيوم الحشر؛ لأن الناس يحشرون فيه، ويسميه بالآزفة، والطامة، والحاقة، والواقعة، والصاخة، وكلها أسماء ليوم القيامة وآثارها.(63/185)
وهذا اليوم ذكر الله عظم شأنه فقال تعالى: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) (المطففين:6) ، ذكر في الأحاديث أنهم يقومون ويطول قيامهم وأنه يكون طويلاً، قدر في آية أنه ألف سنة مما يقدرون، وفي آية أخرى خمسين ألف سنة في سورة المعارج: (في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة) (المعارج:4) ، ثم أخبر بأنه قريب بقوله تعالى: (إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً * يوم تكون المساء كالمهل) (المعارج:6-8) ، أي تذوب كما يذوب المهل، (وتكون الجبال كالعهن) (المعارج:9) ، أي تكون كالعهن المنفوش إلى آخر الآيات.
فنؤمن بهذا، ونؤمن بأنه بعد البعث يحشر الناس، وأن الأرض تسوى فتزول عنها الجبال التي عليها، وتصبح الجبال كثيباً مهيلاً، ثم بعد ذلك تصبح كأنها العهن؛ وهو القطن المنفوش تطير به الرياح، قال تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) (النمل:88) . وهي تنتقل فلا يبقى لها أثر ولا يبقى لها مكان فينسفها الله تعالى: ثم تسوى بالأرض، يقول الله تعالى: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذروها قاعاً صفصفاً) (طه:105-106) ، أي الأرض تكون قاعاً صفصفاً مستوياً (لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً) (طه:107) ، يمدها الله تعالى يقول: (وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت) (الانشقاق:3-4) ، تمد كما يمد الأديم العكاظي، وتسوى بحيث لا يكون لها مرتفع ولا منخفض.
وبعد ذلك تبقى هكذا، فيجتمع عليها الخلق من أولهم إلى آخرهم؛ يجتمعون كلهم لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، يحشرون على هذه الأرض، ثم تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بهم، وكذا ملائكة السماء الثانية والثالثة، إلى أن تنزل الملائكة كلهم فيحيطون بهم.(63/186)
ونؤمن بما ذكره الله من الآيات والأعمال التي فيها، وأنها تنصب الموازين، قال تعالى: (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) (الأعراف:8-9) ذكر الله الوزن في عدة آيات.
وكذلك تنشر الدواوين -الصحائف التي فيها الأعمال- قال تعالى: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك) (الإسراء:13-14) ، (ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) (الكهف:49) فيقرءون كتبهم ويجدون فيها أعمالهم التي عملوها كلها، وتتطاير الكتب إلى الأيمان أو الشمائل، قال تعالى: (فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) (الإسراء:71-72) .
أما الكتاب الذي يعطى باليمين؛ فمكتون فيه: هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية، وأنه يشرق وجهه، ومن فرحه يقول: (هاؤم اقرءوا كتابيه) (الحاقة:19) . وأما الآخر فيقول: (يا ليتني لم أوت كتابية) (الحاقة:25) ، نصدق بهذا كله ولو استبعده من استبعده.
ووقوف الناس وحشرهم في ذلك اليوم ذكره الله في القرآن ذكراً متكرراً متواتراً، وأن الناس بعدما يبعثون يحشرون على أقدامهم؛ يحشرون وهم عراة، وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، ويحشرون وهم حفاة ليس في أرجلهم نعال، وكذلك غرلاً أي غير مختونين كما فسره بذلك ابن كثير.
وكذلك يبعثون بهماً أي سود الأبدان من الشمس، وقيل: إنهم لا يتكلمون أي لا يستطيعون أن يتكلموا، وذلك من الفزع قال تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر) (الأنبياء:103) ، وقد ذكر الله أنهم لا يتكلمون كما في قوله تعالى: (فلا تسمع إلا همساً) (طه:108) ، قيل: الهمس: وطء الأقدام، وقيل: الكلام الخفي، وهذه إشارات إلى ما ذكره الله في القرآن وأوضحه عن البعث والحساب.
مسألة: في الميزان(63/187)
قوله:
والميزان له كفتان ولسان، يوزن به أعمال العباد (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) (المؤمنون:102-103) .
شرح:
مما نؤمن به الميزان، وقد ذكره الله تعالى في عدة سور، فذكره في سورة الأنبياء، قال تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (الأنبياء:47) ، هذا دليل على أنه ميزان حقيقي توزن به الأعمال، فيظهر فيه خفتها أو ثقلها، ولو كان العمل خفيفاً كحبة الخردل.
وقد ذكر الله أيضاً الذرة في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (الزلزلة:7-8) ، والذرة هي: النملة الصغيرة، وماذا تزن؟
وذكر الله الميزان في قوله تعالى: (الوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) (الأعراف:8-9) ، وكذلك ذكره في سورة المؤمنون وفي سورة القارعة، وكذلك وردت الأحاديث في وزن الأعمال.
وختم البخاري صحيحه: ما جاء في الميزان، باب: قول الله تعالى: ((ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)) (الأنبياء:47) ، وأورد بعض الآيات وذكر حديث أبي هريرة: (كلمات خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن؛ سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده) فاستشهد بقوله: ثقيلتان في الميزان.
وهذه الآيات دليل واضح على إثبات الميزان، وورد في الأحاديث أنه ميزان حقيقي له كفتان، وأنه توزن فيه الأعمال أو غيرها، وأن له لساناً يظهر ميله خفة أو ثقلاً في لسانه، والكفتان اللتان توضع فيهما الأعمال.(63/188)
ثم اشتهر عن المعتزلة أنهم أنكروا الميزان الحقيقي، وادعوا أن الميزان هو العدل في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (الأنبياء:47) ، أي العدل وقالوا: لا يحتاج إلى الوزن إلا البقالون ونحوهم، فأما الرب تعالى فليس بحاجة إلى أن ينصب ميزاناً، لأنه يعدل بين عباده، قال تعالى: (ولا يظلم ربك أحداً) (الكهف:49) ، فأبطلوا دلالة هذه النصوص الصريحة التي فيها ذكر الميزان كقوله صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان) ونحو ذلك من الأحاديث.
وأهل السنة أقروا بأنه ميزان حقيقي، وأن الله تعالى ينصبه لكل أحد، وأن كل إنسان له ميزان توزن فيه أعماله، سواءً كان ميزاناً واحداً توزن فيه أعمال العباد، أو موازين متعددة ليكون ذلك أدل على العدل وعلى عدم الظلم، وأنه لا يعذب إلا من استحق العذاب.
وقد اختلف في الموزون ما هو؟، ويمكن أن يعم الوزن جميع ما ورد:
القول الأول: أن الأعمال توزن ولو كانت أعراضاً، فإن الله قادرٌ على أن يقلبها أجساماً، فإن الصلاة ليس لها جرم ولكن الله تعالى يقلبها جسماً فتخف أو تثقل.
كما ورد في بعض الأحاديث: (أن الرجل إذا صلى الصلاة وأساء فيها صعدت إلى السماء ولها ظلمة، وتغلق دونها أبواب السماء، وتلعن صاحبها فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها، وأما إذا صلى الصلاة فأحسن فيها صعدت إلى السماء ولها نور فتفتح لها أبواب السماء وتقول: حفظك الله كما حفظتني) .(63/189)
فالصلاة عرض ومع ذلك يكون لها هذا الجرم، وكذلك الصيام يكون له جرم يوزن، وكذلك بقية الأعمال يجعلها الله تعالى أجراماً، وهكذا أيضاً الذي له جرم مثل الصدقات، ورد أن الله تعالى يربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، يربي الصدقة ولو كانت يسيرة قليلة حتى تكون مثل الجبل، ثم بعد ذلك توزن وتثقل أو تخف بحسب نية صاحبها.
القول الثاني: أن الذي يوزن هو الصحف؛ أي صحف الأعمال التي كتبها الكتبة فهي التي توزن، ولكنها تخف وتثقل بحسب ما فيها من الأعمال صلاحاً أو فساداً.
واستدل على ذلك بحيث صاحب البطاقة وفيه (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر شيئاً من هذا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ يقول: لا يارب. يقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يارب. فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة وتوضع البطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) .
فهذا دليل على أن الأعمال التي تكتب في الصحف توزن؛ أي توزن تلك الصحف، وأن الثقل والخفة بحسب صحة العمل وبحسب الإخلاص فيه. وكما في الحديث الذي فيه قول الله تعالى لموسى: (لو أن السموات السبع والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله) وهذا في حق من أخلص توحيده، ونطق بهذه الكلمة عن إخلاص وصدق ويقين.(63/190)
القول الثالث: أن الذي يوزن هو نفس العامل. وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) (الكهف:105) ، أي لا يكون لهم وزن معتبر، أو إذا وزنوا فإنهم يخفون ولا يكون لهم ثقل في الميزان. وفي حديث في سيرة عبد الله بن مسعود؛ أنه صعد مرة على شجرة أراك يقطع منها سواكاً، فعجب الصحابة من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهما في الميزان أثقل من جبل أحد) فأفاد بأن الإنسان يوزن، وأنه يثقل بحسب إيمانه.
وورد قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) يعني أنه لما لم يكن له قدر ولم يكن له عمل صالح خف ميزانه فلم يساو وزن جناح البعوضة.
وبكل حال: لا مانع من أن يوزن العامل، وتوزن الصحف، وتجسد الأعمال فتوزن، ويكون الجميع مما يوزن، ليظهر عدل الله تعالى بين عباده (ولا يظلم ربك أحداً) (الكهف:49) .
مسألة: في الحوض
قوله:
ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: حوض في القيامة (ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً) .
شرح:
الإيمان بالحوض داخل في الإيمان باليوم الآخر، وما ذلك إلا لأننا نؤمن بكل ما أخبرنا به بعد الموت، وفي يوم القيامة أخبرنا بأنه يكون في الحشر أحوال ومن جملتها الحوض المورود.
ومعروف أن الحوض أصله ما يصنعه أهل البوادي من جلود الإبل ويجعلون له أعواداً يعتمد عليها. ثم يصبون فيه الماء لتشرب فيه الإبل أو الأغنام أو نحوها، ويحملونه معهم لكونه خفيفاً.(63/191)
ويطلق الحوض على كل ما يجمع الماء، والعادة أنه يجتمع في الأحواض وفي المستنقعات وهي الأماكن المنخفضة التي يجتمع فيها ماء المطر ونحوه، وقد تسمى الخزانات التي تستعمل الآن أحواضاً، وهي ما يعرف بالجوابي في قوله تعالى: (وجفان كالجواب) (سبأ:13) ، فالجابية هي: مجمع الماء الذي يصلح بآجر أو بجص أو نحوه أو بحجارة حتى لا يُسرب الماء، ويجتمع فيه ماء النواضح الذي ينضح من الآبار، فيكون واسعاً أو ضيقاً على حسب ما يريده أهل الماء، فيسمى هذا حوضاً، فالمجتمع الذي يجتمع فيه الماء هو الحوض.
وقد ورد في حوض النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسيرة شهر في شهر؛ يعني طوله مسيرة شهر وكذا عرضه أو طوله، من عدن إلى أيلة الشام يعني من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، وهذا مقارب أنه مسيرة شهر أو أكثر من شهر، هذه مسافته.
وماؤه ورد أنه أحلى من العسل وأشد بياضاً من اللبن، وآنيته عدد نجوم السماء -أي كيزانه التي فيه- يصب فيه ميزابان من الجنة، وقد فسر بالكوثر الذي في قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر) (الكوثر:1) ، وقيل: إن الكوثر نهر في الجنة، وأن هذا الحوض يُمد من ذلك النهر، يصب في هذا الحوض ميزابان من ذلك النهر الذي هو الكوثر.
ويَرِدُ عليه الناس تارة أفراداً ليتمكنوا من الورود ويشربون، ومن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، وتارة تذودهم الملائكة إذا كانوا قد غيروا أو بدلوا أو ابتدعوا، ولم يكونوا حقاً من الأمة المحمدية المحققين للاتباع.
والأحاديث في الحوض تزيد على أربعين حديثاً، كما في بعض الكتب التي كتبت في أشراط الساعة، وقد استوفاها ابن كثير في النهاية في آخر التاريخ وغيره، مما يدل على تنوعها وعلى ثبوتها، ويؤخذ من مجموعها ما ذكر من صفة الحوض.
مسألة: في الشفاعة
قوله:(63/192)
والصراط حق يجوزه الأبرار ويزلُّ عنه الفجار، ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم: فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحما وحمماً، فيدخلون الجنة بشفاعته.
ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات؛ قال الله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) (الأنبياء:28) ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين.
شرح:
ذكر الصراط وذكر الشفاعة؛ أما الصراط فورد ذكره في الأحاديث، وكثرت الأحاديث التي تصفه وإن كان في بعضها غرابة أو ضعف، وكثير من الوعاظ يوردون هذه الأحاديث في القصص وفي المواعظ ويتساهلون في روايتها للتخويف بها، والغالب أن ما ورد فيه من المبالغات لا يثبت؛ كالذي روي أن صعوده مسيرة ألف سنة، وأن استواءه مسيرة ألف، وأن الهبوط منه مسيرة ألف عام. هكذا ورد ولكن لم يثبت.
وما ورد أيضاً من أنه أحد من السيف وأدق من الشعرة وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب وهكذا.. فإنه قد دخل في هذا كثير من المبالغات، ووصفه بأنه أحد من السيف وأدق من الشعرة ورد في حديث يمكن اعتباره.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العبور على الصراط، وأن الناس يسيرون عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر عليه كالبرق، ومنهم من يمر عليه كالريح ومنهم من يمر عليه كأحاور الخيل والركاب ومنهم من يعدو عدواً ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، وعلى جنبتي الصراط كلاليب مثل شوك السّعدان تخطف من أمرت بخطفه، والأنبياء عليهم السلام على الصراط، ودعواهم: اللهم سلِّمم سلِّم، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل.(63/193)
هذه الصفات وردت فيه حتى استغرب بعضهم المرور كالبرق، يعني سرعة الذي يمر عليه كأنه البرق، وكالريح التي هي السير الحثيث، وكأجاود الخيل؛ الجواد هو الذي يسير سيراً سريعاً، والحاصل أنه ذكر أنهم يسيرون عليه هكذا؟ أي على قدر أعمالهم وآخرهم الذي يزحف زحفاً.
ورد أيضاً تقسيم الأنوار في قوله تعالى: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نو ر كم) (الحديد:13) وذلك أنهم يعطون أنواراً يمشون بها، وفي أثناء سيرهم ينطفئ نور المنافقين فيطلبون من المؤمنين أن يعطوهم قبساً يسيرون به، فيقال لهم: ارجعوا وراءكم حيث قسمت الأنوار فالتمسوا نوراً، فإذا رجعوا ضُرب بينهم بسُور له باب كما ذكر في القرآن في قوله تعالى: (قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسورٍ له باب) (الحديد:13) .
وذكر في الحديث أن هذا المرور على متن جهنم، وأنه هو الذي ذكره الله تعالى، وسماه وروداً في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) (مريم:71) يعني وارد جهنم، وأنهم إذا مروا عليها فإن من يحس بها هم الفسقة والكفار ونحوهم، وكثير منهم يزل من الصراط ويسقط في النار أو تخطفه تلك الكلاليب وتسقطه في النار، وأما الذين مروا عليها سراعاً فلا يحسون بها بل روي أنها تقول: (جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي) .
وإذا دخلوا الجنة قالوا: قد وعدنا ربنا أنا نَرِد النار -كما في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) أين هي؟ ما ذكرنا أننا وردناها فيقال لهم: إنكم قد مررتم بها وهي منطفئة، أطفأ لهبها أنواركم فلم تشعروا بها.(63/194)
الصراط على هذا هو على متْنِ جهنم يمر الناس عليه بأعمالهم، وقال بعض العلماء: إن سيرهم على الصراط الحسي الذي في الآخرة على قدر سيرهم على الصراط المعنوي الذي في الدنيا المذكور في قوله تعالى: (وهديناهما الصراط المستقيم) (الصافات:118) ، (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه) (الأنعام:153) ، (صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) (الشورى:53) .
بعد ذلك ذكر الشفاعة، والناس في الشفاعة ثلاثة أقسام: المشركون، والمعتزلة، وأهل السنة.
القسم الأول: المشركون القبوريون. يقولون: إن الأولياء وإن السادة يشفعون لأقاربهم، ولمن دعاهم، ولمن والاهم، ولمن أحبهم، ولأجل ذلك يطلبون منهم الشفاعة، فالمشركون الأولون حكى الله عنهم أنهم قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) (يونس:18) ، يعنون معبوداتهم من الملائكة، ومن الصالحين، ونحوهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله أي يشفعون لنا. وكذلك يقول القبوريون المعاصرون الآن؛ يقولون: إن الأولياء يشفعون لنا، وإننا لا نجرؤ أن نطلب من الله بل نطلب منهم وهم يطلبون من الله، ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين أعطاهم الله الشفاعة، ونحن ندعوهم ونقول: اشفعوا لنا كما أعطاكم الله الشفاعة.
ويضربون مثلاً بملوك الدنيا فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفاعة إذا أردت حاجة فإنك تتوسل بأوليائهم ومقربيهم من وزير وبواب وخادم وولد ونحوهم يشفعون لك حتى يقضي ذلك الملك حاجتك، فهكذا نحن مع الله تعالى نتوسل ونستشفع بأوليائه وبالسادة المقربين عنده، هذا قول المشركين، يبتون شفاعة كل ولي من الأولياء لكل من طلبها منه، وقد وقعوا بهذا في شرك الأولين، وقاسوا الخالق بالمخلوق.(63/195)
والله تعالى ذكر عن مؤمن يس قوله تعالى: (أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً) (يس:23) ، وذكر الله تعالى أن الكفار اعترفوا على أنفسهم بقولهم: (قالوا لم نك من المصلين) ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين) وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين) (المدثر:43-48) .
القسم الثاني: المعتزلة والخوارج. أنكروا الشفاعة لأنهم يعتقدون أن العصاة وأهل الكبائر مخلدون في النار لا يخرجون منها، وأن كل من عمل كبيرة ومات مصراً عليها فهو مخلدٌ لا تغني عنه الشفاعة ولا تنفعه، ويستدلون بالآيات التي فيها نفي الشفاعة مثل قوله تعالى: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة) (البقرة:123) ، ومثل قوله تعالى: (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) (البقرة:254) ، ويقولون: هذه الآيات تنفي الشفاعة، فليس هناك شفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لغيره. هذا ما قاله المعتزلة والخوارج بناءً على تخليدهم أهل الكبائر في النار.
القسم الثالث: أهل السنة. يثبتون الشفاعة ولكن بشرطين:
الشرط الأول: الإذن للشافع.
الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع.
جمع الله الشرطين في قوله تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) (النجم:26) وذكر الإذن في قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (البقرة:255) ، وفي قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن) (سبأ:23) ، (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً) (طه:109) ، وقد تكون هذه الآية جمعت الشرطين، وذكر الرضا في قوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (الأنبياء:28) .(63/196)
فهذان شرطان للشفاعة، وهي الشفاعة المثبتة: الإذن للشافع، والرضا عن المشفوع له. والإذن يكون للأنبياء، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الناس إذا طلبوا منه الشفاعة لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد حتى يقال له: (ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع قال: فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب.. الحديث) . هذا دليل على أنه لا يشفع إلا من بعد أن يأذن الله له.
وأما الرضا فإن الله لا يرضى عن الكفار كما في قوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر) (الزمر:7) ، فإذا كان لا يرضى لعباده الكفر، ولا يرضى الشرك، فلا يأذن في الشفاعة للكفار، ولا يأذن في الشفاعة للمشركين؛ فالشفاعة خاصة بالموحدين، وحقيقتها أن الله تعالى يكرم أولياءه وأنبياءه لينالوا المقام المحمود ويقول سبحانه وتعالى: (اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه.. الحديث) .
فيحصل منها تكريم الشافع ورفع منزلته، وأنه يؤتى المقام المحمود الذي وعده الله بقوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) (الإسراء:79) فمن يشفع تعرف منزلتهم وفضيلتهم، كذلك يحصل منها رحمة المشفوع لهم، وإخراجهم من العذاب، تلك فائدة هذه الشفاعة.
وذكر في الأحاديث عدد من الشفاعات، منها ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو عام، وأشهر الشفاعات هي الشفاعة العظمى يتأخر عنها أولو العزم، حيث إن الناس يأتون لآدم فيعتذر ثم يطلبون الشفاعة من نوح فيعتذر، ثم من إبراهيم، ثم من موسى، ثم من عيسى، وكلهم يعتذر ويذكر له ذنباً حتى يأتوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول:) أنا لها، أنا لها) .(63/197)
يشفع في أن يأتي الله تعالى لفصل القضاء، أن يفصل بين الناس بعدما طال المقام، وبعدما يملون من المكان، وبعدما تطول إقامتهم ومكثهم، فيقولون: من يشفع لنا إلى ربنا حتى يفصل بين العباد، يتمنون التحول من هذا المكان، فهذه الشفاعة العظمى، وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
وله شفاعة ثانية: شفاعته في أن تفتح أبواب الجنّة، فهو أول من يقرع باب الجنّة، وتقول الخزنة،: بك أمرنا أن لا نفتح لأحد قبلك. يشفع في أن يدخل أهل الجنة الجنة.
وله شفاعة ثالثة: في رفع درجات بعض أهل الجنة، يشفع في أن ترفع درجاتهم أو يرفع مقامهم ومكانتهم حتى تكون رفيعة.
وله شفاعة رابعة: الشفاعة في إخراج بعض العصاة من النار.
وشفاعة خاصة لعمه أبي طالب بالتخفيف عنه، بعدما كان في الدرك الأسفل من النار فيكون في ضحضاح من النار.
أما الشفاعة التي ليست خاصة له؛ فهي الشفاعة في العصاة الذين دخلوا النار بمعاصيهم؛ في أن يخرجوا منها؛ فإنها تشفع الملائكة والرسل والأنبياء والصالحون (فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا -قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) (النساء:40) ، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة؛ يقال له نهر الحياة، فينبتون في حافته كما تنبت الحبة في حميل السيل.. الحديث) .(63/198)
والحاصل أنا نؤمن بهذه الشفاعة ونجعلها مرتبطة بهذين الشرطين، فلا نطلقها كما يطلقها المشركون الذين يطلبون الشفاعة من غير الله، فالشفاعة لا تطلب من المخلوقين، حتى ولا من النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل: يا محمد اشفع لنا، ولا يا يوسف، ولا يا عبد القادر اشفع لنا، ولا يا عيدروس اشفع لنا، ولا يا يوسف، بل نقول: اللهم شفع فينا أنبياءك، اللهم تقبل شفاعة الشافعين فينا، اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة الشافعين، فنطلبها من الله وحده ولا نطلبها من سواه.
مسألة: في الجنة والنار والموت
قوله:
والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) (الزخرف: 74-75) (ويؤتي بالموت في صُورة كبش أملح، ويُذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة؛ خلود ولا موت، ويا أهل النار؛ خلود ولا موت) .
شرح:
الجنة أو النار هي النهاية التي يستقرون فيها الاستقرار الباقي الدائم؛ الذي ليس بعده ظعن ولا ارتحال ولا تحول أبداً، هذه هي النهاية، عندما يفصل بينهم يبقى أهل الجنة في دورهم وفي نعيمهم، ويبقى أهل النار في عذابهم وفي حميمهم وفي آلامهم.
ومذهب أهل السنة؛ أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وأنهما في مكان لا يعلمه إلا الله، وذهب بعض المعتزلة إلى أنهما ليستا موجودتين، وقالوا: إن الله ينشؤهما يوم القيامة، وقالوا: لا حاجة لبقائهما الآن ووجودهما معطلتين ألوف السنين لا ينتفع بهما مغلقة أبوابهما، وما الفائدة من خلقهما ومن إيجادهما؟(63/199)
ولكن حيث إن الأدلة وردت بوجودهما، فإننا نعتقد أنهما موجودتان، فالله تعالى ذكر إعدادها في قوله تعالى: (أعدت للمتقين) (آل عمران:133) أعدت يعني هيئت، فهي معدة الآن، وذكرها في قوله تعالى: (عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى) (النجم:14-15) فدل على أنها موجودة عند سدرة المنتهى.
وهكذا أيضاً كثيراً ما يذكر النار أعدت لأهلها وهيئت لمن عصى الله تعالى فدل على أنها موجودة، وأيضاً ورد في الحديث أنه (أوقد على النار ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت) يدل على أنها موجودة. وهكذا ما ورد أيضاً من صفاتها في القرآن.
والحاصل أن عقيدة أهل السنة أن الجنة والنار موجودتان الآن، وقد تكلم عن ذلك ابن القيم في كتاب "حادي الأرواح" ورجح القول بوجودهما، وتكلم عن جنة آدم التي أسكنها؛ هل هي جنة الخلد أم أنها جنة أخرى؟ وذكر حجج القولين في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي أول كتابه (مفتاح دار السعادة) وكأنه يميل إلى أنها جنة دنيوية، وإن لم يصرح بذلك.
وأما الجنة الأخروية؛ فإن الله تعالى: وصفها بأوصاف تكون عندما يدخلها أهلها، فذكر أنهارها وأشجارها وغرفها والثمار الدانية التي تكون في متناول كل أحد، واللحوم ومما يشتهون، وما أشبه ذلك مما تلتذ به الأعين وما تشتهيه الأنفس، فيذكر الله تعالى هذا حتى يشوِّق العباد إلى طلبها.
ولما سمع ذلك المشركون أخذوا ينكرون، حتى إن عمرو بن عبد ود لما قابل بعض الصحابة قال: أين جنتكم التي تدعون أن من قتل منكم فيها؟ فقالوا: هي عند الله أو حيث لا يعلمها إلا الله. وقال بعض الصحابة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أن يقولوا: (قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) . فلما ذكر الله أن المؤمنين عند ربهم في الجنة وذكر أن آل فرعون في النار دل على وجود الجنة وعلى وجود النار.(63/200)
ونؤمن أن لكل منهما أهلاً، وأن الله وعد كلاً منهما بملئها، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها.
فأما الجنة فيبقى فيها فضل فينشئ الله لها خلقاً، وأما النار فتأبى حكمته أن يسكنها من لم يكن مستحقاً لها، ومع ذلك يبقى فيها أماكن، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة تبارك وتعالى قدمه فيها، فتقول: قط قط، وعزتك. ويزوى بعضها إلى بعض) .
فهذا دليل على أنها يكون لها صوت، وأنها لا يعلم قدرها إلا الله مع عظم من يدخلها.
وقد تكلم العلماء في هاتين الدارين؛ الجنة والنار وأطالوا فيهما، ففي الجنة كتب ابن القيم (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) ضمنه أبواباً تتضمن كل ما ورد في ذكر الجنة، ومع ذلك فقد ذكر أيضاً في آخر النونية أكثر من ألف بيت فيما يتعلق بالجنة.
وأما النار: فكتب فيها كثير من العلماء، ومن أشهر من كتب فيها ابن رجب في كتابه المطبوع (التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار) ضمنه أبواباً في ذكر عذابها وحميمها وزقومها وأنهارها، وما يجري فيها ودركاتها، وما أشبه ذلك.
مسألة: في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قوله:
ومحمد صلى الله عليه وسلم: خاتم النبيين وسيد المرسلين، لا يصح إيمان أحد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ولا يقضى بين الناس في يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا يدخل الجنّة أمة إلا بعد دخول أمته، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والحوض المورود، وهو إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم.
شرح:(63/201)
بعدما ذكر ما يتعلق بحق الرب سبحانه وتعالى، ذكر أيضا ً حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن له حقاً على أمته، حقاً نعتقده فيه، وحقاً نعامله به. ولكنه حق يناسبه صلى الله عليه وسلم، فحق الله تعالى يليق به، فلله حق وللنبي صلى الله عليه وسلم حق.
يقول ابن القيم:
للربّ حقٌ ليس يُشبه غيره ولعبده حقٌ هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً، أي لا تخلطوا بين الحقين، فحق الله تعالى منه أن نعرفه ونعبده وندعوه ونعظمه ونعتقد صفات كماله ونعوت جلاله. أما حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو تصديقه؛ فنشهد بأنه مرسل من ربه، ومن كذب برسالته لم يصح إيمانه؛ وذلك لأن معرفة الله، ومعرفة حقوقه، ومعرفة العبادة ومعرفة الإيمان باليوم الآخر، ومعرفة العبادات كلها، إنما جاءت بواسطته، فهو الذي جاءنا بالقرآن، وهو الذي شرح لنا القرآن، وهو الذي علمنا هذه السنة، وعلمنا كيفية الأعمال؛ إذاً فله حق على أمته أن يشهدوا له بأنه مرسل من ربه، ثم يشهدوا أيضاً بفضله وبمزيته، وبما أعطاه الله من الفضل وفضّله على الأنبياء قبله، والناس بالنسبة إلى حق النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام: طرفان ووسط:
الأول: الذين جفوا في حقه. لا يأخذون من سنته إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون من شريعته إلا بما يناسبهم، إذا جاءتهم السنة التي سنها نظروا؛ فإن ناسبتهم أو وافقت ميلهم صدقوها وقبلوها وعملوا بها وإلا نبذوها وطرحوها، فهؤلاء ما صدقوه حق التصديق، حيث إنهم قبلوا بعض الشريعة دن بعض، فأخذوا منها ما يناسب أهواءهم.(63/202)
وهذا حال من يسمون في هذه الأزمنة بالعلمانيين، فإنهم ولو تسموا بأنهم مسلمون وأتوا بالشهادتين ولكنهم لما طرحوا كثيراً من السنة وتركوا العمل بها أصبحوا غير مصدقين حقاً. فعندما نجادل أحدهم نرى أنه شبه مكذب وإن كان مصدقاً بلسانه، ونقول له: إنك ما اتبعته حق الاتباع. فإذا رأيناه مثلا يحلق لحيته قلنا له: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فيقول ما معناه: إنا نجاري الناس ونأخذ بما عليه أهل زماننا. أليس هذا عصياناً لله ورسوله؟
إذا عصيت الرسول فقد عصيت الله، والله تعالى يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء:80) يعني ومن يعص الرسول فقد عصى الله.
كذلك الذين يبيحون للنساء التبرج وخلع جلباب الحياء، ويخالفون السنة، وما أمر الله به المؤمنات بقوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن) (الأحزاب:59) هؤلاء أيضاً ما صدقوا الرسول حقاً، فكأنهم لم يعملوا بالشريعة حق العمل بل أخذوا منها ما يناسب أهواءهم.
زيادةً على بقية الأعمال التي يعملونها كإباحة الربا، وأكل المال بغير الحق، والتخلف عن صلوات الجماعة ونحوها، والتنقص للأعمال الشرعية كالجهاد والحج والعمرة والتعبد والصيام والصلاة وغير ذلك. فالحاصل أن هذا الطرف يعتبر جافياً في حق النبي صلى الله عليه وسلم
الثاني: هم الغلاة: الذين غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعلوه إلهاً أو وصفوه بما لا يتصف به إلا الله تعالى، وما أكثر الكتب التي ألفت في مثال هذا، ومع ذلك انتشرت وتمكنت، وكثر الذين ينشرونها ويذيعونها، وفيها خرافات وأكاذيب، ومع ذلك راجت على ضعفاء البصائر، حتى وقع في ذلك كثير من العلماء المشاهير.(63/203)
فمنها: (الخصائص الكبرى) للسيوطي؛ ذكر فيها حكايات غريبة وقصصاً لا أصل لها كلها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها بعيدة عن الثبوت لا يصدق بمثلها عاقل، وقد اشتهر أن السيوطي ينقل عن غيره من غير تمحيص، فهو كحاطب الليل يأخذ ما وجده -وإن كان من مشاهير العلماء-، وهكذا الشعراني القديم له كتب في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وفيها مبالغة وغلو كبير. وكذلك رسالة مشتهرة عند الخرافين واسمها "روض الرياحين" وفيها زيادة في الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم واطرائه بما لا يليق أن يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى.
وتبعهم كثير من المتأخرين كالنبهاني، وزيني دحلان، وجميل صدقي الزهاوي، وهكذا جدد هذا ابن علوي في كتابه الذي سماه (الذخائر) فإنه حشد فيه من هذه الحكايات، وإن كان قد عزاها إلى إصولها التي نقلها عنها، ولكن لم يميز بين الصحيح والضعيف، ولم يبين ضعفها، فدعا ذلك إلى تقبل الجهلة والعوام لها، مما يحمل العامة على الغلو والزيادة في الإطراء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
لا شك في أن هذا لا يجوز، وقد وردت الأدلة في النهي عن مثل هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) ، والإطراء معناه المبالغة في المدح. ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: (بل ما شاء الله وحده) . ولما جاءه وفد بني عامر وقالوا له: يا سيدنا، قال لهم: (السيد هو الله) قالوا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. قال: (أيها الناس، قولوا بقولكم أو بعض قولكم؛ أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله) .(63/204)
ولما جاءه بعض الأعراب وقالوا: هذا رسول الله. ارتعد الأعرابي فزعاً؛ يعتقد أن له شأناً، فأجلسه إلى جنبه وقال: (هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد) ، يريد بذلك تواضعه عليه الصلاة والسلام، وجلس مرة على التراب وقال: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد) . ونحو ذلك من الأدلة التي يحث فيها على التواضع، لأنه لا يجوز أن يصفوه بما لم يصفه به ربه.
فهذان طرفان؛ الذين جفوا كالعلمانيين، والذين غلوا كالمشركين الذين رفعوه فوق قدره وأوردوا في ذلك الأكاذيب التي يمجها السمع.
مثل الحديث الموضوع الذي يقول: (لو لاك ما خلقت الأفلاك) يعني لو لاك ما خلقت الكون. يرددون مثل هذه الأحاديث، كالحديث الذي فيه: (أن آدم رأى على قائمة العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنه قال: يا رب، أسألك بحق محمد فقال: وما محمد؟ قال: رأيت اسمه مكتوباً معك على العرش، فسألتك به وعرفت أنه لا يكتب إلا من له قدر، فقال: صدقت يا آدم، لولا محمد ما خلقتك) .
حشد ابن علوي وغيره في مؤلفاتهم ما يزعمون به أنهم يقدسون النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك دليل على محبته. فنقول لهم: إن كنتم تحبونه فاتبعوه، فالمحبة إنما هي في اتباعه لا في تعظيمه وإعطائه شيئاً لا يستحقه إلا الله.
القسم الثالث -الذي هو القول الوسط-: هو قول أهل السنة؛ وهو أن تعطيه حقه الذي هو:
أولا ً: الإيمان به. قال الله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) (التغابن:8) الإيمان به يعني: تصديق رسالته والجزم بصحة ما أرسل به.
ثانياً: محبته. يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) . ومعلوم أن محبته تقتضي السير على نهجه وطريقته.(63/205)
ثالثاً: الاتباع له. يقول الله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) (الأعراف:158) ، ويقول تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (آل عمران:31) . فاتباعه هو السير على هديه ونهجه.
رابعاً: طاعته من طاعة الله. يقول تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء:80) ، (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها) (النساء:14) ، وطاعته تتمثل في تقبل ما جاء به والعمل به، والابتعاد عما نهى عنه، وقد أمر الله بمثل ذلك كثيراً؛ قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (الأحزاب:21) ، وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر:7) ، وحذر من مخالفته أشد التحذير في قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (النور:63) يخالفون عن أمره يعني: يرون أمره صريحاً فيخالفون عنه ويتركونه، فهؤلاء توعدهم الله بالفتنة والعذاب. فهذه حقوقه صلى الله عليه وسلم.
أما فضائله التي لا شك في صحتها فمنها: أنه أشرف المرسلين، وأنه خاتم النبيين، وأنه صاحب لواء الحمد؛ اللواء هو الراية التي تكون مرتفعة ويتبعها من يتبعه، فيوم القيامة يعطى لواءً ويتبعه الحامدون، وأنه صاحب المقام المحمود وفسر المقام المحمود بأنه قبول شفاعته عندما يشفع، فيقبل الله شفاعته. فذلك هو الذي يحمده فيه الأولون والآخرون.
وأنه سيد الناس يوم القيامة، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) ، يعني لا أقول ذلك افتخاراً ولكن من باب التحديث بنعمة الله (وأما بنعمة ربك فحدث) (الضحى:11) .(63/206)
والله تعالى قد ذكّره نعمه فقال: (ألم نشرح لك صدرك) (الشرح:1) ، (ألم يجدك يتيماً فآوى) (الضحى:6) ، (ولسوف يعطيك ربك فترضى) (الضحى:5) ، ونحو ذلك من الآيات التي يٌذكره فيها نعمته عليه.
فأهل السنة يذكرون مزاياه الصحيحة وفضائله، ولكن يعلمون أنه لا يصح له بموجبها شيء من حق الله، بل الله تعالى له حق، والنبي صلى الله عليه وسلم له حق؛ فحقه علينا أن نحبه ونتبعه ونتأسى به ونطيعه ونصدق رسالته ونثق بما وعدنا به.
وقد فسرت شهادة أنه رسول الله بأنها طاعته بما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فهذا هو حق محمد النبي صلى الله عليه وسلم.
مسألة: في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قوله:
أمته خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام، وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المُرتضى؛ رضي الله عنهم أجمعين. لما روى عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) . وصحت الرواية عن علي رضي الله عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت سميت الثالث) .
وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين غلى أفضل من أبي بكر) ، وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة.
شرح:(63/207)
تقدم معرفة حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من فضله أنه أول من يستفتح باب الجنة، ثم من فضله فضل أمته، فأمته خير الأمم، وورد في الحديث: (إنكم توفون -أي تكملون- سبعين أمة أنتم خيرها وأفضلها عند الله) .
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله أحاديث فضل هذه الأمة في تفسيره عند قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران:110) فإن هذه الآية نص على أن هذه الأمة خير الأمم؛ لأن نبيها خير الأنبياء، ومن فضلها أنهم يسبقون إلى الخيرات وإلى الجنة، فأول من يدخل الجنة هذه الأمة، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) الآخرون وجوداً والسابقون حقيقة إلى دار الكرامة، وذلك لشرف نبيهم، يكون من فضلهم أنهم يدخلون الجنة قبل الأمم السابقة.
ووردت الأدلة الكثيرة في ذلك ومنها ما ورد في الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً عظيماً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر، هكذا وهكذا فرأيت سواداً عظيماً، فقيل لي: هؤلاء أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب) . وغيرها من الأحاديث التي فيها فضل هذه الأمة وكثرتها.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) . يعني أن آيته ومعجزته هذا القرآن، وذلك لأن الأنبياء الذين قبله إنما كان أتباعهم الذين صدقوهم أتباعاً؛ وذلك لأن الأنبياء الذين قبله إنما كان أتباعهم الذين صدقوهم قلة قليلة.(63/208)
ولو كنا في هذه الأزمنة نجد أن النصارى أكثر من المسلمين وجوداً، ولكن ليسوا حقيقة من أتباع المسيح عليه السلام، بل من الذين يعبدون المسيح ويقولون هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، فالحاصل أن هذه الأمة خير الأمم وأفضلها.
ثم لا شك أيضاً أن الأمة بعضها أفضل من بعض، ولا شك أن أفضل هذه الأمة هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. أصحابه لهم الميزة ولهم الفضل على من بعدهم. وقد وردت الأدلة تشهد بفضل الصحابة؛ منها قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) (التوبة:100) ، ومنها قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) (الأنفال:72) إلى قوله تعالى: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم) (الأنفال:74) ، نص في فضل المهاجرين والأنصار، فالذين آووا ونصروا هم الأنصار، والذين هاجروا وجاهدوا هم المهاجرون.
وذكرهم الله تعالى بقوله: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) (التوبة:117) ، وكذلك قسمهم إلى ثلاثة أقسام في سورة الحشر في قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين) (الحشر:8) ، وقوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم) (الحشر:9) ، ثم قال تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم) (الحشر:10) .
فهذه آيات استوفت الصحابة رضي الله عنهم وكلها شاهدة بفضلهم، ولو لم يكن من فضلهم إلا أنهم الذين سبقوا إلى الإيمان، وصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم فازوا بصحبته وحملوا شريعته، وتعلموا منه الأحكام ونقلوا إلى الأمة ما تحملوه، ولهم فضل على من بعدهم حيث إنهم حفظوا هذه الشريعة. هذا من جهة.(63/209)
ومن جهة ثانية: لا يدرك فضلهم فيها، وما بذلوه من الأموال والأنفس؛ حيث بذلوا أموالهم في سبيل الله تعالى، ورخصت عندهم بلادهم وأولادهم وأحفادهم وأقاربهم، وكل ما يملكونه أنفقوه كله في سبيل الله تعالى. ثم قاموا بالجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك بعده في عهد الخلفاء الراشدين، فتح الله بهم القلوب، وفتح بهم البلاد، وامتدت بهم رقعة الإسلام، وفتحوا أقاصي البلاد وأدانيها، ودعوا إلى الله تعالى، ودخل الناس في دين الله أفواجاً بسبب دعوتهم وإعانة الله تعالى لهم وتوفيقهم، لا شك أن هذا لا يدركهم فيه من بعدهم، وهذا يعمهم جميعاً.
ومعلوم أن هذا الذي أثنى الله به عليهم ثابت لهم، ووعد من الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد. ولكن الرافضة يدعون أنهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يبايعوا علياً، وجحدوا الوصية المزعومة؛ حيث يدّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن علياً هو الخليفة بعده.
وقد ذكر الله فضل السابقين الأولين، وأن فضل أحدهم لا يدركه من بعدهم، ولهذا سماهم الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأثنى عليهم، فلا شك أن هذا دليل على تفاضلهم، وأن الذين هاجروا وصبروا على الذل والقلة والفقر، وصبروا على الشدة ولقوا الأذى من المشركين، وتحملوا ذلك كله، وتحملوا مفارقة أبناء بلادهم وأولادهم، أليس هؤلاء أفضل؟ لا شك أنهم امتازوا على غيرهم بميزة لا يدركهم فيها غيرهم.(63/210)
ثم أيضاً تفاوتهم أفراداً؛ فأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه خليفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لو تكلمنا عن فضله وميزته وخصائصه لطال بنا المقام. وكذلك خليفته عمر رضي الله عنه، له أيضاً فضل كثير، قد ذكر ابن كثير رحمه الله أنه كتب كتاباً بلغ ثلاثة مجلدات كبار في فضل الشيخين رضي الله عنهما. وابن كثير من المحدثين ومن أهل المعرفة، فلا يذكر إلا ما هو صحيح دون الأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ وما ذاك إلا لأن الرافضة كتبوا في فضائل علي مجلدات، ولكنها خرافات مكذوبة لا أصل لها.
رأيت عند بعض الأخوة كتاباً استحضره من إيران، من كتب السير الرافضية بلغ خمسة وثلاثين مجلداً، في سيرة أئمتهم الاثنى عشر، يذكر في فضل كل واحد منهم مجلدين أو ثلاثة، ولكن يعتمدون على أسانيد أينما هي أكاذيب يتصورها ثم يسردها، ويوهم أتباعه أنه ورد في فضلهم هذه القصص وهذه الوقائع، وحصل لهم ما حصل وأنهم تعبدوا بتلك العبادات، وأنهم فتحوا وجاهدوا وعلموا من العلوم كذا وكذا!! إذا قرأها الجاهل خيل له أنهم أولياء وأصفياء وصفوة أهل الأرض، وأنه ما كان ولا يكون مثلهم.
نحن نقول: الأئمة نعترف بفضلهم، ولكن هذه الأكاذيب ليسوا بحاجة إلهيا. فأهل السنة -والحمد لله- لم يرووا في فضل أئمتهم ولا خلفائهم شيئاً من تلك الأكاذيب والموضوعات، ولا يروون إلا بأسانيد موثقة، وإذا كان هناك أسانيد ضعيفة نبهوا على ضعفها.(63/211)
فعقيدتنا أن أفضل الأمة أبو بكر، وذلك لأنه صدِّيق الأمة كما نزل فيه قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (الزمر:33) الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق به أبو بكر رضي الله عنه، فلذلك سمي بالصديق لمبالغته في التصديق، وقيل: إن سبب تسميته؛ أنه لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحادثة الإسراء التي استغربها الكفار، قالوا لأبي بكر: إن صاحبك يزعم أنه أُسري به إلى بيت المقدس ورجع في ليلة. فقال: صدق إني أصدقه بأعظم من ذلك، في خبر السماء؛ فمن ثم سمي بالصديق.
وفضائله مشهورة، ولو لم يكن إلا أنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد صرح الله تعالى بصحبته في قوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (التوبة:40) وأي فضيلة أعظم من هذه، (إن الله معناه) المعية الخاصة معية الحفظ والتوفيق، والكلاءة والرعاية، والهداية والإلهام لا يدركها غيره. وهذه الصحبة لا شك أنه امتاز بها، وكذلك الرفقة؛ كونه اختار أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاه إحدى راحلتيه ولكنه بذل الثمن، ثم مشى معه وصار يحرسه في طريقه، ويحرص على أن لا يراه أحد إلى أن وصل إلى المدينة وهو ثاني اثنين إذ هما في الغار.
ثم ما عرف أنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ولا في سرية أبداً، بل دائماً هو في صحبته، وكذلك أيضاً: أنابه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج في سنة تسع من الهجرة، وأمّره على الحجيج وأرسل علياً ليبلغ أول سورة براءة.
والرافضة يقولون: إنه عزله في هذه الغزوة وأمّر علياً، ومن أجل ذلك يعلنون البراءة في اليوم السابع من شهر ذي الحجة وفي المشاعر - يقولون: نحن نبلغ مثل ما بلغ علي هذه البراءة التي يعلنونها قبل يوم التربوية بيوم، وكذبوا على علي رضي الله عنه، فإنه ما بلغها إلا في تلك السنة هو وغيره ممن بلغوها.(63/212)
ومن فضله أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعوا على بيعتته ورضوا به خليفة وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه في الصلاة لما مرض وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فألزمه بأن يصلي بالناس، وصلى بهم عدة أيام واستمر على الصلاة بهم.
ولما توفي صلى الله عليه وسلم لديننا. إذ اختاره لديننا إماماً في الصلاة، فإننا نرضاه أن يكون خليفة لدنيانا وأميراً لشؤوننا.
والأدلة على خلافته كثيرة، والسيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء استوفى كثيراً من الأدلة التي فيها إشارات أو فيها دلالات واضحة على أنه هو الخليفة، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ولا شك أنه أولهم، وكذلك ثبت قوله عليه السلام: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) .
ثم بعده بالفضل: عمر رضي الله عنه، وسمي الفاروق؛ فاروق الأمة الذي فرق الله بإسلامه بين الحق والباطل، وأظهر الله بإسلامه الإسلام، وقوي المسلمون بعد أن أسلم، وكان صارماً بطلاً شجاعاً قوياً في أمر الله تعالى.
أسلم رضي الله عنه بمكة، ولما أسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألسنا على حق؟ قال: (بلى) ، قال: فلماذا نستخفي؟ فشجعهم وخرجوا، وقد كانوا يتعبدون ويصلون في دار ابن أبي الأرقم، فقال: سوف نصلي في المسجد الحرام رغم من أنكر علينا. فخرجوا في صفين، في أحدهما حمزة وفي الآخر عمر، فلما رآهم المشركون أصابهم اليأس والحزن حيث عرفوا أن الإسلام قوي بإسلام عمر رضي الله عنه.
هاجر رضي الله عنه مع جملة من المهاجرين، وصبر ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وسافر معه، وصار معه دائماً، وصار قرينه لا يفارقه، وبقي كذلك إلى أن استخلفه أبو بكر لما حضره الموت فقام بالأمر من بعده خير القيام كما هو معروف، ولما توفي دفن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم.(63/213)
ثم بعده في الفضل: عثمان رضي الله عنه، ولا شك أيضاً أنه من المهاجرين الأولين ومن المسلمين القدامى، ويسمى: (ذو النورين) لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه أولاً ابنته رقية، وتخلف عن غزوة بدر لتمريضها ثم توفيت، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم زوجة أختها أم كلثوم، وبقيت أيضاً حتى توفيت عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كان عندنا بنت ثالثة لزوجناها عثمان) ، فلم يحظ أحد بمثل ما حظي به، فلذلك سمي: (ذو النورين) .
ثم بعده في الفضل: علي رضي الله عنه، ولا شك في صحة خلافته، لما قتل عثمان رضي الله عنه لم يكن هناك أحد أحق بالخلافة من علي، فتمت له البيعة، إلا إنه خرج عليه من خرج للمطالبة بدم عثمان؛ كأهل الشام وأهل العراق ونحوهم، ثم اختلفت الأمة عليه إلى أن قتل.
وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون الأربعة، وقد ورد تحديد مدتهم في حديث سفينة في قوله صلى الله عليه وسلم: (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك) . والأدلة على ترتيبهم هذه الآثار مثل حديث ابن عمر يقول: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان -يعني في الفضل- فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) يعني نرتبهم نقول: أبو بكر أفضل، ويليه عمر، ويليه عثمان، ولا ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
والآثار عن علي فيها أنه خطب على المنبر في الكوفة فقال: (أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث) قالوا: إنه يريد نفسه أو يريد عثمان. الله أعلم. ولكن مشهور عنه فيما يشبه المتواتر، ومروي عنه من نحو عشرين طريقاً أنه صرح بأن أفضل الأمة أبو بكر، ثم عمر.(63/214)
فأين الرافضة من هذا؟ لا شك أنهم لو كانوا ذوي عقول لقبلوا ما قاله علي؛ الذي هو عندهم الإمام، وهو الخليفة المعتبر بزعمهم، ومع ذلك تأتيهم كلماته الصحيحة الصادقة الثابتة فلا يقبلونها، ويقبلون الأكاذيب التي يبتدعها بعض غلاتهم ويصدقونها، فأين هؤلاء وأين عقولهم؟
لا شك أنا إذا تأملنا ما جاء عنه، وما جاء عن الصحابة، وما جاء في هذه الأحاديث التي فيها فضائل الصحابة رضي الله عنهم وميزتهم وما حباهم الله وما لهم من الفضائل؛ نجد أنها كلها تبطل غلو هؤلاء الرافضة في أهل البيت -كما يقولون- وسبهم وتنقصهم لخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين زكاهم وشهد بفضلهم.
وهذه الأحاديث أيضاً منها ما هو مرفوع كما سمعنا في حديث أبي الدرداء؛ فهو صريح في فضل الشيخين أبي بكر وعمر، وفيه أن الشمس لم تغرب على مثل هذين الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
لا شك أن فضائلهم كثيرة، والمسلم عندما يسمع هذه الفضائل يعرف أن لهم من الفضل ما يحملهم على أن يكونوا أسوة وقدوة، وأنهم تصدق أقوالهم ويقتدى بهم لأنا نزكيهم ونشهد بأنهم حملة العلم وحملة الشريعة والسابقون من هذه الأمة، فلا يجوز أن نسمع لمن يطعن فيهم أو ينتقصهم، ولا أن نرد شيئاً من أقوالهم إلا الأقوال التي يجتهدون فيها ويكونون مخطئين مخالفين لنص صريح لم يبلغهم، فنعتذر عنهم ونقبل الحق ممن جاء به.
قوله:
ثم من بعده عمر رضي الله عنه؛ لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه.
وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) فكان آخرها خلافة علي رضي الله عنه.
شرح:(63/215)
تقدم ذكر ترتيب الخلفاء رضي الله عنهم، أولاً: ترتيبهم في الفضل، وثانياً: ترتيبهم في الخلافة، والصحيح أن ترتيبهم في الفضل وترتيبهم في الخلافة على حد سواء.
فالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وأفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أبو بكر فصار أبو بكر هو الأفضل وهو الخليفة. وأفضل الأمة بعد أبي بكر: عمر؛ فقد حاز الفضل بعد أبي بكر -الفضل بمعنى الرتبة والميزة والفضيلة والشرف والأجر على قدر عمله، ولو كان هناك من أسلم قبله. فإن عثمان أسلم قبل عمر وكذلك علي أسلم قبل عمر، والزبير وسعد وغيرهم أسلموا قبله، ولكن إسلامه كان فتحاً ونصراً، وخلافته كانت عزاً للإسلام وتمكيناً له.
والأحاديث التي وردت في فضله لم ترد في غيره، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً الأسلك فجا غير فجك) يعني أن الشيطان يهرب منه، وفضائله أيضاً كثيرة. فأفضل الأمة بعد أبي بكر عمر، وهو أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر، أو الخلافة الصحيحة بعد أبي بكر خلافة عمر. واقتنع به المسلمون وبايعوه، وتمت البيعة ولم يشذ أحدٌ عن طاعته أو ينكر عليه أو يخرج عن طاعته، وسيرته تدل على أهليته وصلاحه رضي الله عنه.
ثم الخليفة بعد عمر عثمان -كما هو الواقع- وذلك لأن عمر رضي الله عنه جعله من أهل الشورى، وأهل الشورى اتفقوا على تقديمه، وتمت البيعة له، وبايعه علي، وبايعه عبد الرحمن، وسعد، والزبير، وسائر الصحابة وسائر المسلمين، وتمت الخلافة له. إذاً فالخليفة بعد عمر عثمان- رضي الله عنه.
وهل الأفضل بعد عمر -عثمان أو علي؟ فيه خلاف بين العلماء، وسبب الخلاف أن هناك من فضل عثمان على علي؛ واستدل بحديث ابن عمر الذي يقول فيه: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) وجاء الحديث أنه يلي عمر في الأفضلية.(63/216)
ومنهم من فضل علياً على عثمان؛ واستدل بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أفضل هذه الأمة بعد نبيها، أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث) . قالوا: يعني نفسه.
وسأله مرةً ابنه الحسن وقال: (يا أبت؛ من أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر. قال: فخشيت أن يقول عثمان؛ فقلت: ثم أنت؟ فقال: ما أبوك إلا رجل من المسلمين) . قال ذلك على وجه التواضع منه رضي الله عنه.
فلا شك في فضل الشيخين، ثم اختلف في الثالث؛ فمنهم من ثلث بعلي، ومنهم من ثلث بعثمان، وأما في الخلافة فإنهم مرتبون: أبو بكر الخليفة، ثم يليه عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم جميعاً.
وأما حديث سفينة فقد ذكرنا أنه يشير فيه إلى أن الخلافة ثلاثون سنة ولكن إذا عرفنا أن خلافة أبي بكر سنتين ونصفاً، وخلافة وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة فهذه خمس وعشرون سنة إلا أشهر أو خلافة عمر عشر سنوات، وخلافة علي خمس سنوات، فيبقى منها نحو نصف سنة يكملها خلافة الحسن بن علي ستة أشهر، فتكون ثلاثين سنة، وينطبق عليها الحديث (الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً ... ) .
مسألة: في العشرة المبشرين بالجنة
قوله:
ونشهد للعشرة بالجنة، كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) .
وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها؛ كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) ، وقوله لثابت بن قيس: (إنه من أهل الجنة) رواه البخاري في المناقب.
شرح:(63/217)
في هذه الفقرة من المتن تزكية لهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، ورد بليغ على من طعن فيهم أو ضللهم -كما ذكرنا عن الرافضة- وقد ذكر شارح الطحاوية أن الرافضة يكرهون اسم العشرة ولا يحبونه، وذلك لأن هؤلاء العشرة عندهم كفار أو ضلال باستثناء علي رضي الله عنه؛ فلأجل ذلك لا يحبون لفظ العشرة، مما يدل على أنهم كفروا جُلَّ الصحابة وما استثنوا منهم إلا أفراداً قليلين.
ولكن رد عليهم شارح الطحاوية مبيناً تناقضهم؛ فذكر أنهم لا يكفرون العشرة إنما يكفرون تسعة منهم، فهم لا يكرهون لفظ التسعة وإنما يكرهون لفظ العشرة، ومع ذلك يُخرجون علياً من هؤلاء العشرة فلا يبقى عندهم إلا التسعة الباقون.
هؤلاء العشرة ثبت فيهم الحديث الذي ساقه ابن قدامة رحمه الله، ورواه الإمام أحمد وغيره عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو أحد العشرة وهو ابن عم عمر بن الخطاب، فعمر هو: عمر بن الخطاب بن نفيل ابن عم زيد بن عمرو بن نفيل- أبو سعيد هذا.
فهؤلاء العشرة من المهاجرين، ومن أشراف قريش ومن مشاهيرهم، وليسوا كلهم من أهل البيت الذين اصطلح الرافضة على أنهم أهل البيت، إذ للرافضة اصطلاح خاص بأهل البيت غير ما هو مقرر عند أهل السنة، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- عندهم لسن من أهل البيت، وعمه العباس وذريته عندهم ليسوا من أهل البيت، مع أن العباس أقرب من علي. وكذلك جعفر وذريته ليسوا من أهل البيت، فأهل البيت عندهم فقط علي والحسن والحسين وذريتهما.
والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهؤلاء العشرة بالجنّة؛ الأربعة الخلفاء والستة الباقون منهم، وقد نظمهم ابن أبي داود في قصيدته المشهورة في قوله:
سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحةٌ وعامرُ فهر والزبير الممدَّحُ
يعني الستة:
فسعيد: هو ابن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو راوي الحديث.(63/218)
وسعد: هو ابن أبي وقاص الزهري، من بني زهرة، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.
وعبد الرحمن بن عوف: وهو أيضاً من بني زهرة من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.
وطلحة: هو ابن عبيد الله، من بني تيم الذين منهم أبو بكر رضي الله عنه.
والزبير: هو ابن العوام، من بني أسد بن عبد العزى بن عبد مناف.
وأما عامر: فهو أبو عبيدة بن الجراح من بني فهر.
وهؤلاء من المهاجرين، ومن أشراف قريش، ومن المسلمين قديماً، شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في الجنّة، ومعلوم أنه لا يشهد لهم إلا وقد أطلعه الله بأنهم يموتون على الإسلام وعلى السنة، وأنهم يدخلون الجنّة.
ولو كانوا ارتدوا -كما تقول الرافضة - لم يشهد لهم بالجنّة، فالرافضة تدعي أنهم ارتدوا بردهم علياً -كما يقولون- عن حقه الذي هو الولاية، وتدعي أنهم أعداء ألدَّاء لعلي، ثم بعد ذلك تحكم على كل من والاهم بأنه كافر؛ لأنه بزعمهم لا يمكن أن يحب علياً.
وعند الرافضة أنه: لا ولاء إلا ببراء، يقولون: لا يمكن أن نتولى علياً إلا بعد أن نتبرأ من أبي بكر وعمر وعثمان وسعد وسعيد وسائر الصحابة، فإذا توليت هؤلاء فقد آذيت علياً، فأبو بكر عندهم طلب الخلافة واستبدّ بها، وأخذها من صاحبها فلذلك ضللوه وكفروه، وعمر كذلك أيضاً أخذ الخلافة بعد أبي بكر وهي ليست له، وعثمان أخذ الخلافة وهي ليست له، حتى إني قرأت لبعض المتأخرين أنه يمتدح بأن شيعتنا وأنصارنا هم الذين ثاروا على عثمان وقتلوه، وردوا الأمر إلى أهله يعني إلى علي وهو أحق بالخلافة.
أما عبدا لرحمن - فيقولون: إنه الذي أخذ البيعة لعثمان، فيحكمون بأنه مرتد، أما طلحة والزبير؛ فيدعون أنهما قاتلا علياً في وقعة الجمل. والحق أنه عندما قُتل عثمان كان هؤلاء بمكة، فذهبوا إلى العراق ليدركوا قتلة عثمان، ولكن أدركهم علي فحصلت وقعة الجمل، فقتل فيها طلحة والزبير.(63/219)
فكل واحد من هؤلاء يطعنون فيه طعناً، ويدعون فيه دعوى، وأهل السنة يشهدون لهم بالجنّة بسابقتهم وفضلهم، وكذلك بموجب هجرتهم، وبموجب شهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى بها شهادة، ولا يعتبرون بكلام من أخل بحقهم أو طعن فيهم.
وهكذا أيضاً نشهد لكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنّة كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة) ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانا طفلين صغيرين، توفي وهما دون العاشرة، ولكن يبعثون يوم القيامة مع سائر الأمة في سن الشباب، وشهد لهما بأنهما سيدا شباب أهل الجنّة، وشهد لأمهما فاطمة أنها سيدة نساء أهل الجنّة، فنشهد لهما بذلك، ونشهد لأمهما بأنها من أهل الجنّة.
أما قصة ثابت بن قيس: فإنه كان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعلن أمراً من الأمور أو يتكلم بأمر من الأمور أمره بأن يخطب ويضمن خطبته ذلك المعنى، وكان جهوري الصوت، فلما نزل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) (الحجرات:2) خاف أن تكون هذه الآية تنطبق عليه لأنه كان يرفع صوته؛ كان جهورياً. فجلس يبكي في بيته يومين أو ثلاثة، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه، فذكروا له مقالته أنه يقول: إني أرفع صوتي وإني خشيت أن يكون حبط عملي وإني من أهل النار، فرد النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ليقول له: إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنّة) ، وكانت خاتمته أنه قتل شهيداً في وقعة اليمامة في قتال مسيلمة، فصدق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنّة.
أما غيره ممن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنّة فكثير، فمنهم بلال الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني سمعت دف نعليك في الجنّة) ، وسأله عن أرجى عمله، فهذه أيضاً شهادة لبلال بأنه من أهل الجنة.(63/220)
وكذلك عكاشة بن محصن، لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبعين الألف الذين يدخلون الجنّة بغير حساب، فقال عكاشة: ادع الله يا رسول الله أن أكون منهم. فقال: (اللهم اجعله منهم) . وقتل عكاشة في قتال بني أسد الذين ارتدوا، وكان هو من بني أسد، قتل شهيداً فانطبق عليه أنه من الذين قتلوا في سبيل الله.
وغيرهم كثير، ومن أشهرهم عبد الله بن سلام الذي كان من اليهود فأسلم في أول الهجرة، وفي حديث سعد بن أبي وقاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يطلع رجل يأكل من هذه القصعة من أهل الجنّة ... فجاء عبد الله ابن سلام) ، ثم إن كل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنّة فإنا نشهد له بذلك.
قوله:
ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنا نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء. ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل.
شرح:
هذا من جملة العقيدة، يدخلون هذا في أسماء الإيمان والدين، وقد تقدم الكلام على الإيمان، وأن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وأن المؤمنين الذين يدينون بهذا الإيمان نشهد لهم بالإيمان ولو عملوا ما عملوا من المعاصي، فلا نخرجهم من الإيمان، ولكن لا نشهد لهم بالجنّة لا نشهد لأحد معين بالجنّة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أو ثبت ذلك منه، فقد تقدم ذكر من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم كثير.(63/221)
ذكر الشيخ ابن سلمان في شرح الواسطية (الكواشف الجلية) أكثر من خمسين ممن وردت فيهم أحاديث تبشرهم بالجنة -وإن كان بعضها فيه ضعف، فنحن لا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن نرجو للمحسنين، فإذا رأينا أهل الإحسان، وأهل الإيمان والتقى، وأهل الخير والصلاح، وأهل الاستقامة، وأهل العقيدة السلفية السليمة، وأهل الأعمال الصاحلة قلنا: نرجوا أن هؤلاء من أهل الجنّة وأن الله لا يشقيهم ولا يحرمهم أجر ثوابهم. فالله تعالى قد وعد - وهو لا يخلف الميعاد بأنه يدخل الجنة أهل الأعمال الصالحة في عدة آيات، كما في قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) (البقرة:82) ، وفي قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) (الحديد:21) .
وقد مر بنا بعض من تلك الأدلة، كحديث ابن مسعود المشهور وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) ، وذكر مثل ذلك في عمل أهل النار، وأنه يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فالأعمال بالخواتيم، وهذا هو الذي يحملنا على أننا لا نجزم لمعيّن، ولكن من عرفنا أنه ما ت على الإسلام، وأنه ممن ختم الله له خاتمة حسنة فإننا نرجو له.
وكذلك أيضاً الصحابة الذين مدحهم الله تعالى؛ نثني عليهم ونمدحهم كما مدحهم الله؛ قال الله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (الفتح:18) ، فهذا فيه أنه رضي عنهم، وهو سبحانه لا يرضى عن القوم الفاسقين، لابد أنه رضي أقوالهم وعلم ما في قلوبهم وأنهم قد فازوا بهذه الميزة.(63/222)
وكذلك أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، فهذه أيضاً شهادة لأهل بدر، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وأهل بيعة الرضوان ألف وأربعمائة وزيادة. كل هؤلاء زكاهم الله تعالى، وزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك أيضاً التزكية العامة في قوله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان زيادة رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) (التوبة:100) ، فهذه الآية دخل فيها ثلاثة أقسام من الصحابة: المهاجرون، والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم واتبعوهم بإحسان -دخلوا في هذا الوعد، والله تعالى لا يخلف وعده. هذا فيما يتعلق بالشهادة بالجنّة لمن شهد له الله، أو شهد له النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الشهادة بالنار لمعين؛ فلا تجوز أيضاً إلا لمن ورد فيه النص، فقد ورد النص مثلاً في أبي لهب (سيصلى ناراً ذات لهب) (المسد:3) ، وكذلك في أبي جهل لما قتل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يوبخه هو ومن معه ويقول: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أبي طالب أنه (في ضحضاح من نار) والحاصل أن من ورد النص بأنه من أهل النار يُشهد له بذلك.
وأما الذين معهم معاص وذنوب، ولكن تلك الذنوب لا تصل إلى حد الكفر، فإننا لا نكفرهم بهذه الذنوب -كما تقدم- ولا نخرجهم من الإسلام بذنوبهم، بل نخاف على المذنب - ونقول: هؤلاء يخاف عليهم من الذنوب- ولو كانت من الصغائر، ونرجو للمحسنين - ولو كان معهم سيئات، ونخاف على المذنبين- ولو كان لهم حسنات. وخوفنا ورجاؤنا لا نحققه؛ فلا نجزم بأن هذا من أهل النار لأنه عمل هذه السيئات، ولا نجزم بأن هذا من أهل الجنّة لأنه عمل هذه الصالحات، بل الحسنات والسيئات من أسباب دخول الجنّة أو دخول النار.(63/223)
مسألة: في وجوب الجهاد مع كل إمام براً كان أو فاجراً
قوله:
ونرى الحج والجهاد ماضياً مع طاعة كل إمام براً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل. والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال -لا يبطله جَوْر جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار) رواه أبو داود.
شرح:
قوله: (ولا نكفر أحداً بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل) . ذكرنا أن الذنوب يُخاف على أصحابها، فنخاف على أصحاب هذه الذنوب ولكن خوفنا لا يصل إلى الجزم. كذلك أيضاً؛ فإنه لا يخرج من الإسلام بذنب، لا نخرجه من الإسلام بهذا الذنب.
وإذا قيل: ما المراد بأهل القبلة؟ فنقول: هم كل من يستقبلون القبلة التي هي البيت الحرام، سواءً يستقبلونها في صلاتهم أو في أدعيتهم أو يستقبلونها بقلوبهم كما في قوله تعالى: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) (إبراهيم:37) ؛ يسمون أهل القبلة لأنهم يهوون إليه، وكذلك سفرهم إليها لأداء المناسك، فهؤلاء أهل القبلة ما دام أنهم يصلون صلاتنا، ويستقبلون قبلتنا، ويأكلون ذبائحنا، ويشهدون بشهادتنا.
لكن إذا حدث عندهم شيء من النقص وشيء من الخلل فلا نخرجهم بهذا النقص ولا بهذا الخلل عن دائرة الإسلام، ولا نشهد لهم بالإيمان بل نقول: هم مسلمون. وإيمانهم الذي معهم قد يكون إيماناً ظاهراً، قد لا يكون محققاً في كل فرد منهم لقوله تعالى في الأعراب: (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات:14) .
نشهد لهم بأنهم من جملة المسلمين ومن الأمة الإسلامية، ونمتنع عن التكفير أو التنسيق، وكذلك نحث على الأعمال الصالحة وعلى التوبة من الأعمال السيئة.(63/224)
أما الجهاد والحج مع الأئمة؛ فإن هذا أيضاً من جملة عقيدة المسلمين، ويستدل على ذلك بهذا الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الجهاد ما ضٍ مع كل بر وفاجر حتى يقاتل آخرٌ الأمة الدجال، وأنه لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل.
يعني أن الأمة عليهم أن يجاهدوا من كفر بالله ومن خرج عن الإسلام -ولو كان ذلك القائد أو الأمير أو الوالي عاصياً أو فاسقاً أو مخلاً بشيء من العبادات والطاعات، فإن الجهاد معه فيه نصرٌ للإسلام والمسلمين.
وكذلك الحج؛ فكثيراً ما يكون تحت ولاية بعض الأمراء والعصاة، فيصح الحج مع كل أمير براً كان أو فاجراً، وسبب ذلك أنهم في القرون الماضية كانوا لا يحجون إلا مع أمير يكون على الحجاج ويجتمعون حوله ليأمنوا من قطاع الطريق، ففي الطريق أعراب يقطعون الطريق إذا كان الحجاج متفرقين ليس معهم من يجتمعون معه. فيخرج الحجاج مثلاً من العراق والبحرين والأحساء وما حولها كلهم يجتمعون ويصير عليهم أمير، ويتوجهون إلى الحجاز، ففي أثناء الطريق إذا كانوا متفرقين تقوم عليهم الأعراب وتقاتلهم وتسلبهم رواحلهم وأمتعتهم، فإذا كان معهم أمير يجتمعون عليه هابه الأعراب ولم يقدروا على قتاله، فمن أجل ذلك نقول: إن الحج معه ولو كان عاصياً فيه خير.
فقد يوجد من أمراء الجيوش وأمراء الحجاج من يشرب الخمر، أو يسمع الأغاني ونحوها، أو يؤخر الصلاة عن وقتها كصلاة العصر مثلاً، وما أشبهها، فيقول بعضهم: كيف نحج مع هذا الذي يشرب الخمر؟ نقول: ما دام أن فيه مصلحة وأن فيه نفعاً للمسلمين، حيث يأمنون معه على أنفسهم وعلى مناسكهم، وعبادتهم؛ فإن هذا خير، ووجوده خير من عدمه. مع أن الغالب أن أمير الحاج يكون من المتمسكين والعابدين وأهل الخير والصلاح، أو من العلماء العباد.(63/225)
وهكذا يقال في الجهاد: الأمير الذي يكون على المجاهدين غالباً يكون من أهل الخير والصلاح، ولا شك أن فيه منفعة ومصلحة للمسلمين، وذلك لأن الجهاد فيه إعلاء لكلمة الله تعالى، وفيه رفع للإسلام وإعزاز له.
والغالب أنه إذا كان أميره حازماً شديد البأس قوي التفكير؛ أنه يكون أحزم للجيش وأضبط له، فإنه يحيطهم برعايته ويراقبهم، ويعرف لهم الأماكن التي يسكنون فيها وينزلون فيها، ويدبرهم أحسن تدبير، فينتصرون على عدوهم ويظفرون على من قاتلهم، ويكون ذلك الحازم سبباً في انتصار الإسلام والمسلمين، فإذاً نقاتل معه، ولو حصل منه بعض الخلل ولو ارتكب بعض الذنوب، فإن وجوده خير من عدمه وخير من أن يتفلتوا ويتفرقوا فيظفر بهم الأعداء.
إذاً فالجهاد ما ض خلف كل أمير ومع كل أمير، والحج ماض خلف كل أمير ومع كل أمير؛ براً كان أو فاجراً للمصلحة العامة. ويستثنى من ذلك إذا كان كافراً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) ، فلا يجوز أن يمكن الكافر الذي أعلن كفره من الغزو مع المسلمين ولو كان قد يقاتل حمية مع المسلمين أو عصبية أو نحو ذلك، لأن الكافر لا يجوز اقراره أو اقرار ولا يته على المسلمين، لأنه لا يُؤمن أن يكون كيده على المسلمين، أما إذا كان عاصياً -مجرد معصية- فالمعاصي والكبائر ونحوها لا يخرج بها صاحبها من الإسلام، بل هو باق على دينه.
وحيث إننا في هذه الأزمنة قد اختلفت الأحوال بالنسبة إلى الحج، فأمنت الطرق -والحمد لله- فصار كل يحج من جهته، ولا يحتاجون إلى أن يكون هناك أمير يجمع الجويش أهل الجنوب من جهتهم، وأهل الشمال من جهتهم، وأهل الشرق، وأهل الغرب، يأتون من طرق مختلفة في البواخر وفي الطائرات وفي السيارات من كل جهة ولا يحتاجون إلى وال.(63/226)
وكذلك أيضاً في نفس المناسك لا حاجة بأن يكون لهم أميرٌ يتبعونه أو يسيرون معه كما كانوا سابقاً؛ ففي حديث ابن عمر أنه سأله سائل وقال: (متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك) . وهذا يدل على أنهم كانوا يتقيدون بالأمير فلا يرمون إلا إذا رمى، ولا يدفعون إلا إذا دفع، وأما الآن فالأمر فيه سعة ما دام أنهم قد عرفوا المناسك.
أما في الجهاد وسفره فالأمر مختلف، ومعلوم أن هناك جهاداً في كثير من البلاد الإسلامية، وأنهم بحاجة إلى أن يكون عليهم أمير على كل سرية أو على كل جيش يقاتلون به، ولو كان هذا الأمير غير مولى من جهة الأمير العام أو من جهة الملك أو الخليفة إنما هو مولىمن جهته في ولاية خاصة، فإن طاعته في تدبير الجيوش وعدم التفرق تعتبر من طاعة الله، لما في ذلك من المصلحة المحققة التي يتحقق بسببها نصر الإسلام والمسلمين بإذن الله.
مسألة: عقيدة السلف في الصحابة رضي الله عنهم
وما حدث بينهم
قوله:
ومن السُّنَّة تولِّي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم. واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم. قال تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) (الحشر:10) . وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح:29) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه) .
شرح:
واجب الصحابة:
أولاً: محبتهم محبة قلبية لسبقهم وإيمانهم وفضلهم على الأمة بعدهم.
ثانياً: الترضي عنهم كما رضي الله عنهم في قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (الفتح:18) ، وفي قوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه (التوبة:100) .(63/227)
فإذا ذكرت الصحابة تأتي بعدهم بالترضي فتقول: قال أنس رضي الله عنه، قال جابر رضي الله عنه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك دعاء لهما بالرضى، يعني عنه وعن أبيه أن يتجدد الرضى عنهما وعن الصحابة أجمعين في كل حين، ولك أجر على هذا الترضي.
ثالثاً: ذكر محاسنهم، يعني إفشاءها ونشرها، وذكر فضائلهم، وقد اعتنى العلماء بذلك لما رأوا أن الرافضة يكذبون عليهم ويطعنون فيهم قالوا: لابد أن نهتم بفضائل الصحابة. فالبخاري في صحيحه جعل كتاباً في الفضائل، وابتدأه بفضائل أبي بكر، ثم بفضائل عمر ثم بفضائل عثمان، ثم بفضائل علي، واستمر في ذكر فضائل الصحابة الذين وردت لهم فضائل على شرطه.
وهكذا الإمام مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم سرد الفضائل التي على شرطه، وبدأ بفضائل الخلفاء الراشدين مبتدئاً بأبي بكر رضي الله عنه ومن بعده، واستمر في ذكر فضائل الصحابة رجالاً ونساءً، أفراداً وجماعات. وهكذا الإمام الترمذي في سننه، ذكر فيه فضائل الصحابة وأطال في ذكر فضائلهم ومحاسنهم، وأفردها أيضاً كثير من العلماء، منهم الإمام أحمد له كتاب مطبوع في مجلدين عنوانه (فضائل الصحابة) رضي الله عنهم) .
ثم إن فضائلهم التي تذكر جاء كثير منها في القرآن الذي نص على فضلهم.
فمن معتقد أهل السنة والجماعة أن ينشروا فضائل الصحابة، وأن يكثروا من ذكرها، وأن يتبادلوها في المجالس، وأن يتكلموا بها في المحافل وفي المجتمعات، حتى يعرفهم الخاص والعام وحتى تنتشر لهم الذكرى الحسنة، وحتى يكون ذلك رداً وإبطالاً لما يفتريه عليهم أعداؤهم. أما مساوئهم فإننا نكف عنها ولا نتكلم فيها.(63/228)
وقد يقول بعض الأعداء كالرافضة: إنهم فعلوا وإنهم فعلوا؛ ويعدونها مثالب ومعايب يقدحون بها فيهم، ومن قرأ كتب هؤلاء الرافضة رآها ممتلئة بمثل هذه المثالب. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية القول في هذا المساوئ، وذكر أن منها ما هو كذب مفترى لا أصل له فلا يلتفت إليه، ومنها ما هو مغير قد زيد فيه ونقص منه، وغير عن وضعه حتى توهمه من يسمعه أنه مثلبة ومنقصة، وهو في الحقيقة مدح وثناء، ولكن الأعداء يصوغونه بصياغة يؤخذ منها العيب وهو في الحقيقة مدح، والأمثلة على ذلك كثيرة أيضاً.
رأيت لبعض المتأخرين كتاباً في مجلدين ينشره الرافضة ويوزعونه عنوانه (ثم اهتديت) أو (رجال آمنوا) ، والعجب من أمره أنه يجعل كثيراً من المحاسن مساوئ، ويدعي أنها مثالب ويبالغ في القدح فيها، فمنها اعتراض عمر رضي الله عنه على صلح الحديبية، فهل هذا يعتبر طعناً فيه؟ إنه تحمس لما رأى الصلح قد تم على تلك الشروط، وكان يحب أن يقتحم المسلمون البلاد وأن يقاتلوا ولو قتلوا، وكان مما ساءه ذلك الشرط الذي فيه؛ أن من جاء مسلماً فإنه يرد. فأخذ الكاتب المذكور يكيل لعمر من السب في اعتراضه على هذا الحكم.
ويقال أيضاً أن علياً رضي الله عنه من جملة الذين اعترضوا في ذلك حتى إنه لما قيل له: (امح "رسول الله") . امتنع عن ذلك وقال: (لا والله لا أمحوك أبداً) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره، ولكن لم يجعلوا هذا الامتناع عيباً. فلا شك أن فعل عمر رضي الله عنه مدحٌ له، لأنه دليل على حماسته ودليل على غيرته، ثم إنه بعد ذلك وافق رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي به وقال: (فعملت لذلك أعمالاً) .(63/229)
كذلك أيضاً من جملة ما يطعنون به في عمر رضي الله عنه؛ اعتراضه على الكتاب الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (ائتوني بكتاب أكتبه لكم لا تضلون بعده أبداً) وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرهقه المرض، فرفق عمر رضي الله عنه به، وقال: إنه قد بلغ به ما ترون، وعندنا كتاب الله حسبنا.
فالرافضة حملوا على عمر حملة شنعاء، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يكتب الولاية لعلي، ولكن عمر خاف أن تكتب لعلي؛ فنهى عن كتابتها، فصده عن أن يكتب هذا الكتاب هكذا حملوه هذا المحمل؛ مع إنه ما فعل ذلك إلا رفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهل يكون هذا قدحاً في عدالته؟ حاشى وكلا، ولكنهم يغيّرون، وبذلك نعرف أن ما يوردونه من المثالب ومن المساوئ مصوغ صياغة فيها قدح مع أنها في الحقيقة مدح.
فنحن نحب الصحابة ونترحم عليهم، ونكف عما شجر بينهم من الاختلاف، والاختلاف الذي حدث بينهم؛ إما اختلاف في المسائل الفقهية، وهذا يحدث كثيراً بين أهل الاجتهاد، ومع ذلك هم متآخون متحابون ولو حصل بينهم شيء من الاختلاف. فقد اختلفوا مثلاً في الحاج: هل يفضل له أن يحرم مفرداً، أو يحرم قارناً، أو يحرم متمتعاً؟ ومع ذلك فهذا الاختلاف ما أدى بهم إلى بغضاء؛ ولا إلى احتقار بعضهم لبعض، ولا إلى مقاطعة، ولكنه من باب الاجتهاد.(63/230)
وهناك مسائل كثيرة وقع فيها اختلاف من جنس هذا، ومثل هذا لا يعد قدحاً فيهم إنما هو اختلاف في مسائل فقهية اختلف فيها أيضاً من بعدهم، وكان سبب الاختلاف كثرة الأدلة وتنوعها، أو النظر فيها. يقول شيخ الإسلام: إنهم في هذه المسائل التي اختلفوا فيها معذورون، فهم إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، فإن كانوا مصيبين فلهم أجران، وإن كانوا مخطئين فلهم أجرٌ على الاجتهاد، وخطؤهم مغفور. فإذا كان أحدهم قد صدر منه ذنب حقيقي فيقول شيخ الإسلام: لعله قد تاب منه، والتوبة تجب ما قبلها، أو لعله غفر له بفضل سوابقه، فلهم سوابق لا يدركها من بعدهم، أو لعله غفر له بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والصحبة أيضاً عمل يختص بهم، أو لعله يغفر لهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم فإنهم أحق بها من غيرهم؛ وذلك لتميزهم بالصحبة له. وبكل حال فهذا الذي يقال عما صدر منهم.
أما الذي شجر بينهم من القتال -كالذي حصل بين علي ومن خالفه في وقعة الجمل، فنكف عن هذا ونعذرهم. فإن علياً رضي الله عنه قاتلهم لجمع الكلمة، وهم ما قصدوا قتال علي؛ فالزبير، وطلحة، وعائشة ومن معهم قصدوا قتال البغاة، أو الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه، هؤلاء يطالبون بقتلة عثمان، وهو يطالب بجمع الكلمة.
وكوقعة صفين التي كانت بين أهل الشام وأهل العراق، والتي قتل فيها خلقُ كثير، هذه أيضاً فتنة من الفتن التي حدثت بينهم، نكف عنها ونقول: إن كلاً منهم مجتهد. وملخصها أن معاوية ومعه عمرو بن العاص، ومعه من معه من الصحابة في جانب يطالبون بدم عثمان ويقولون لعلي: سلّم لنا قتلة عثمان وعليٌّ في جانب يقول لهم: بايعوني حتى تجتمع الكلمة، وحتى تقوى الشوكة، ومن ثم أنا وأنتم نأخذ قتلة عثمان واحداً واحداً.(63/231)
ولكن اختلفوا على ذلك فحصلت هذه الواقعة، وموقفنا الذي نعتقده أن نكل أمرهم إلى الله فلا نسبهم، بل نعذرهم بهذا الاجتهاد، ولا نعيب واحداً منهم، هذا هو القول الصحيح.
والآيات التي وردت في فضلهم -كالآيات التي ساقها المؤلف- تدل على مميزات لهم:
الآية الأولى: قوله تعالى في سورة الحشر: (ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنا) (الحشر:10) ، فالغل هو الحقد، فكل من جاء بعد الصحابة يمدحهم، ويقول هذه المقالة فإنه من جملة الذين يغفر لهم -إن شاء الله- ويستجاب فيه دعاؤهم.
أما الآية الثانية: في قوله تعالى: (محمدُ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح:29) ، هذا الوصف ميزة لهم وفضيلة: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح:29) .
وقد مدحهم بعض الشعراء بقوله:
في الليل رهبانٌ وعند قتالهم لعدوهم من أشجع الأبطال
ففي الليل رهبان يصلون يتهجدون، وعند لقائهم العدو أبطال وشجعان، فهم فيما بينهم متآخون ومتحابون كما وصفهم الله تعالى بقوله: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (المائدة:54) . وهذه الآية اشتملت على ستة من فضائلهم الكثيرة.(63/232)
أما الحديث؛ فقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما وقعت خصومة بين بعض المتقدمين من الصحابة، وبعض المتأخرين، بين خالد بن الوليد وهو من مسلمة الفتح وبين عبد الرحمن بن عوف وهو من المهاجرين الأولين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه: (لا تسبوا أصحابي -يعني المتقدمين-، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد -وهو الجبل المعروف في المدينة- ذهبا -لم يقل طعاماً- ما بلغ مد أحدهم -سواء مداً من ذهب، أو مداً من طعام- ولا نصيفه) يعني نصيف المد الذي هو ربع الصاع، والمد ملء الكفين المتوسطتين، ونصفه قد يكون ملء الكف الواحدة أو نحوها، فمتى يدرك أحدٌ فضلهم، ومتى يلحقهم غيرهم؟ رضي الله عنهم.
مسألة: عقيدة السلف في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله:
ومن السنة: الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصد يقة بنت الصديق التي برّأها الله في كتابه -زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة فمن قذفها بما برّأها الله منه فقد كفر بالله العظيم.
ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين.
شرح:
ذكر أيضاً أن من السنة الترضي عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد زكاهن الله تعالى وطهرهن، وخيَّرهن، ونزل فيهن ما يدل على فضلهن وعلى سبقهن، وعلى ميزات كثيرة، فمن السنة الترضي عنهن وذكر محاسنهن وفضلهن وميزاتهن.
ومن ذلك أن الله تعالى خيرهن بين الدنيا والآخرة فاخترن الآخرة، وذلك لما نزل قول الله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكنَّ أجراً عظيماً) (الأجزاء:28-29) .(63/233)
لو قالت إحداهن: أريد الدنيا وأريد زينتها لسرحها سراحاً جميلاً ولفارقها، ولكن كلهن رضين بالخصلة الثانية، أردن الله ورسوله والدار الآخرة، من أجل ذلك صبرن على العيشة الضيقة حتى كان يأتي عليهن شهرٌ أو شهران لا يوقد في بيوتهن نارٌ، إنما هو الأسودان التمر والماء، صبرن على ذلك لأنهن قلن: نريد الله ورسوله والدار الآخرة ولا نريد زينة الدنيا ولا نريد زهرة الدنيا.
وقال تعالى مميزاً لهن: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) (الأحزاب:32) ، فهذا فضل لهن (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) (الأحزاب:30) ، (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين) (الأحزاب:31) ، ولا شك أنهن حفظن أنفسهن، وأحسن بالأعمال الصالحة، فصار أجرهن مضاعفاً على غيرهن.
كما أدبهن الله بآداب حسنة منها قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية) (الأحزاب:33) ، (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) (الأحزاب:32) ، (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) (الأحزاب:34) ، وهذه الآيات من سورة الأحزاب يخاطب الله بها زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله تعالى في أثناء هذه الآيات: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) (الأحزاب:33) . فهذه الجملة من الآية في سياق الكلام على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً* وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) (الأحزاب:32-33) كل هذا خطاب لهن، وقوله تعالى: (وأطعن الله ورسوله) (الأحزاب:33) خطاب لهن، أيضاً. ثم قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) .(63/234)
نقرر هذا لأن الرافضة يقولون: هذه الجملة لعلي وذريته، وأما الذي قبله والذي بعده فليس هو لهم، فأخرجوا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخطاب، ويقولون: لأن الضمير جاء فيها بالمذكر في قوله: (عنكم) ، (ويطهركم) ، ما قال: عنكن، ولا قال: ويطهركن.
والجواب أن نقول: هذه الآية أولى بها زوجاته صلى الله عليه وسلم، ولكن إنما ذكر الضمير في قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم) لأنه أدخل معهن النبي صلى الله عليه وسلم فهو صاحب البيت، (عنكم) يعني عنك يا محمد، وعن زوجاتك، وعن أهل بيتك. فأهل البيت هم محمد وزوجاته، وكذلك أيضاً بناته وأولاده، فكلهم من أهل البيت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) .
فالرافضة يرددون (أهل البيت) ، ويخصون أهل البيت بعلي وذريته، ونحن نقول: صحيح أن علياً وذريته من أهل البيت، ولكن ليس هم وحدهم أهل البيت بل هناك غيرهم، فزوجته من أهل البيت، وزوجات عثمان من أهل البيت، وزوجة أبي العاص بن الربيع من أهل البيت، كلهن بناته صلى الله عليه وسلم. فلماذا تختص فاطمة وزوجها بأنهم أهل البيت؟. نعم علي ابن عمه وهو من أهل البيت، وأقرب منه عمه العباس وهو من أهل البيت، وأولاد العباس وأفضلهم عبد الله الذي قال له صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين) ، كيف لا يكون هؤلاء من أهل البيت؟ وكيف يختص أهل البيت بعلي وبذريته؟!.
نقول: إن هذا تقصير في الفهم فقوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته وبناته وأعمامه وأولاد أعمامه، ومن جملتهم علي وذريته؛ فهم منهم لا أنهم وحدهم أهل البيت.(63/235)
وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم كلهن لهن فضل، ولكن أفضلهن خديجة وعائشة. واختلف العلماء: أيتهما أفضل؟ فالرافضة يفضلون خديجة لأنها أم فاطمة، ويغالون بمدحها. ولكن أهل السنة يقولون: إن خديجة وعائشة متساويتان في الفضل، فخديجة لها ميزة وهي أنها هي السابقة، وهي التي أيدت النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من آمن من النساء، وكانت تشجعه على الدعوة، وكانت تهدّئه وتسكن روعة، وتَعده بالخير، وآسته بنفسها ومالها، ورزق منها أولاداً ولم يتزوج عليها في حياتها، ففضلت بهذه المميزات.
وعائشة أيضاً لها ميزات كثيرة، فلو لم يكن من ميزاتها إلا أن الله تعالى أنزل عذرها في القرآن، وطهرها مما رماها به أهل الإفك في قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم) (النور:11) ، ثماني عشرة آية نزلت في عائشة برأتها مما قيل فيها.
أما فضائلها الأخرى فلا تحصى فقد كان النبي صلى الله يحبها، جاء إليه عمرو بن العاص فقال: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) ، وقال صلى الله عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) وحملت عنه علماً جماً، فهي أكثر نسائه حديثاً.
وكان يخبر بأن الوحي لا ينزل عليه في حجر امرأة إلا في حجرها، وكان يحب وهو في مرض موته أن يمرض في بيتها، ولما رأى زوجاته أنه سأل: (أين أنا؟) قلن له: لك أن تسكن حيث شئت. واستقر في بيت عائشة، وتوفي وهو في حجرها. تقول: (مات بين حاقنتي وذاقنتي) والحاقنة: الترقوة، يعني أنها كانت مسندة له، ودفن في بيتها، وتميزت بأنها بنت الصديق الذي هو أول من آمن من الرجال، والذي استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. فلها هذه الميزات، ومع ما لها من فضائل فإن الرافضة يسبونها سباً شنيعاً!!(63/236)
ثم ذكر فضل معاوية وسبب ذلك أن الرافضة والزيدية يطعنون فيه. وقد أثنى العلماء عليه وذكروا له منزلة رفيعة، فمنها أنه لما أسلم اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً للوحي بطلب من أبيه، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وائتمنه على ذلك حتى توفي وهو كاتب له، لم ينتقد عليه شيئاً، فهذه من ميزاته أنه من كتّاب الوحي.
وهو خال المؤمنين لأنه أخ لإحدى أمهات المؤمنين وهي أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مات زوجها في الحبشة، وكانت من المسلمات الأوائل، وكانت من المهاجرات إلى الحبشة، أسلمت وأبوها مع ذلك قائد من قوات المشركين. ثم إن الله تعالى هدى أبا سفيان فأسلم وصار يقاتل في سبيل الله، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعلني أميراً أقاتل المشركين كما كنت أقاتل المسلمين. فالتزم بذلك وبدأ يقاتل المشركين في الشام، وفقئت عينه وهو يقاتل في سبيل الله، ثم فقئت عينه الأخرى وهو في سبيل الله فحاز بذلك هذه الفضيلة.
ومعاوية أيضاً كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً له، وبعد ذلك كان أميراً على جيش من الجيوش في الشام في عهد عمر هو وأخوه يزيد بن أبي سفيان، وبعد أن مات أخوه يزيد ولاه عمر قيادة الجيوش بالشام، وأحبه أهل الشام لما رأوا له سيرة حسنة. فلما جاءهم خبر قتل عثمان استاؤوا وكثيراً، وحزنوا على عثمان حزناً شديداً وأخذوا على أنفسهم أن يبذلوا في نصره وفي قتال من قتله المهج والأرواح، فأوفوا بذلك كما هو معروف، وأطاعوا معاوية طاعة تامة حتى نصروه إلى أن أصبح خليفة وأميراً للمؤمنين كما هو الواقع.
مسألة حق ولاة الأمر على رعاياهم
قوله:
ومن السنة: السَّمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله.(63/237)
ومن وَلِيَ الخلافة واجتمع عليه الناس ورضُوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة وسُمِّي أمير المؤمنين -وجبت طاعته، وحَرُمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين.
شرح:
هذا الكلام يتعلق بطاعة ولاة الأمر؛ وهم الأمراء والخلفاء وقادة المسلمين الذين بولايتهم تأمن البلاد ويسود فيها الأمن، وينتصف المظلوم من الظالم، ويؤخذ على يد الظالم، بخلاف ما إذا كان الأمر فوضى.
لا يَصلحُ فوضى لا سراة لهم ولا صلاح إِذا جُهالُهم سَادُوا
تهدى الأمورُ بأهل الرأي إِن صلحت وإن فسدت فبالأشرارِ تَنقادُ
معلوم أن في الفوضى يستبد كل برأيه وينفذ ما يقول، فإن من طبع الناس محبة العتو والعدوان والسلب والنهب والأخذ بغير حق، فيكثر القتل ويكثر النهب ولا يحصل الأمن، وهذا بسبب الفوضى وعدم الولاية.
فمن أجل ذلك لم يكن بدٌ من ولاية قوية، معها من السلطة ما تقوى به على قهر الظلم وعلى قهر الاعتداء، فيحصل بهذه الولاية إقامة الحدود، وردع الظالم، وتنفيذ الأوامر، وزجر العصاة، وتنفيذ الجيوش، وضبط الحدود التي هي أطراف البلاد، وملازمة الثغور، والمرابطة عليها وحفظها عن العدو ونحو ذلك، لا يكون هذا كله إلا بتدبير ولاة الأمر.
ولما كان الأمر كذلك؛ وجب السمع والطاعة لولاة الأمور، وجاءت الأدلة الكثيرة في الأمر بالسمع والطاعة، فمر بنا في حديث العرباض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوصيكم بالسمع والطاعة وإِن تأمر عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله" يعني أنه أسود من أصل الخلقة، والمراد لا تحتقروه لسواده ما دام أنه يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا ولو كان عبداً.(63/238)
ومعروف أيضاً أن العبد مشغول بطاعة سيده الذي يملكه، ولكن قد يكون في بعض الإحيان أن بعض الملوك يولي بعض المماليك على بعض الولايات، ويفوض إليه الأوامر فيكتب إلى تلك الجهة أن يسمعوا له ويطيعوا، ولو كان عبداً مملوكاً ولو كان حقيراً حبشياً أسود.
فالجواب أن نسمع ونطيع لكل وال لكن بشرط؛ وهو أن تكون الطاعة في المعروف فإذا كان كذلك فإنا نسمع له ونطيع، وقد ورد في حديث حذيفة بن اليمان أنه قال صلى الله عليه وسلم: "تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع"؛ وذلك لأن في السمع والطاعة تمشية لأمور المسلمين، وتسوية للخلاف فيما بينهم، وجمعاً للكلمة وبعداً عن التضاد والفوضى ونحو ذلك، وفي الخروج عليهم، وفي قتلهم أو قتالهم وعدم الطاعة لهم تحصل المفاسد الكثيرة.
وفي حديث عبد الله بن حذافة لما أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية وأمَرهم بأن يطيعوه، وفي أثناء الطريق غضب فأمرهم أن يوقدوا ناراً، وأمرهم أن يدخلوها -من شدة غضبه، فقالوا: ما هربنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا هرباً من النار فكيف ندخلها؟! فلم يزل بعضهم يحجز بعضاً حتى خمدت النار وسكن غضبه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها. إنما الطاعة في المعروف". يعني أن الذي يطاع فيه هو الذي يكون من المعروف، وأما مثل هذا فإنه منكر.
ولذلك ورد في حديث آخر "فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" إذا أمر أحد الولاة بما هو معصية كقتل بريء مثلاً أو سلب بريء أو اختطاف أو سرقة أو أخذ شيء ونحوه مما يكون الوالي مخطئاً فيه، فلا تجوز طاعته في ذلك. كما أنه لا تجوز أيضاً طاعته إذا أمر بترك الطاعة، كما لو أمر بهدم المساجد أو بناء المشاهد أو إباحة فعل الفواحش والمنكرات وما أشبهها، فلا يجوز أن يطاع في ذلك لأن هذا يصادم الأوامر الشرعية، هذا معنى كونه إنما يطاع في المعروف.(63/239)
فإذا كان هذا الوالي والياً على المسلمين، وهو مستقيم السيرة والسريرة فيما يظهر، وهو يقصد الحق، فإننا نسمع له ونطيع، ولا يجوز أن نفارقه أو نخرج عليه لما في الخروج عليه من المفاسد.
وإنّ ما حصل في القرون الأولى من المفاسد إنما كان بسبب الذين خرجوا على الأئمة، ففي القرن الأول الذي هو أفضل القرون لما أمّر بنو أمية بعض الأمراء الذين في ولايتهم شيء من الظلم والشدة -ثار عليهم كثير من الأمراء والقواد- كما في فتنة ابن الأشعث، وفتنة ابن المهلب، وفتنة الباهلي ونحوهم، وحصل فيها قتل وقتال وتشريد وظلم وأضرار أضرت بالمسلمين، فالواجب أن نصبر على ما نراه من الضرر ونتحمل ذلك حتى لا تكون فتنة، وحتى ندفع الشر بما هو أسهل منه فيأمن الناس ويحصل لهم الخير والطمأنينة.
مسألة: المبتدعة وموقف أهل السنة والجماعة منهم
وقوله:
ومن السنة: هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم. وكل محدثة في الدين بدعة، وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة والكرامية، والكلابية ونظائرهم، فهذه فرق الضلال وطوائف البدع، أعاذنا الله منها.
شرح:
شرع الموفق رحمه الله في هذه الفقرة يتحدث عن البدع، وهي تارة تكون في العقائد وتارة تكون في الأعمال، ولا شك أن البدع التي في العقائد أشد خطراً من البدع التي في الأعمال، وذلك لأن البدع التي في الأعمال قد يقال: إنها محرمة ولكنها ليست مُكفِّرة؛ لأنها مجال للاجتهاد. ومع ذلك فإنها منكرة لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .(63/240)
ونحن مأمورون باجتناب البدع كلها وبالابتعاد عنها ولو كانت حقيرة، فإنها منكر. وكان السلف رحمهم الله ينكرون على من أحدث ما لم يسبق إليه، ولو كان يسيراً من الأمور المعتادة، أنكروا على مروان لما قدم الخطبة على الصلاة في صلاة العيد، فإن صلاة العيد تقدم على خطبتيه بخلاف الجمعة، فعدوا هذه بدعة وأنكروها ولكنها بدعة عملية ليست بدعة اعتقادية.
كذلك أنكر العلماء بدعة إحياء المولد؛ وهي إحياء ليلة الثاني عشر من ربيع الأول وقالوا: إنها بدعة مع أنها بدعة عملية، وإن كان للاعتقاد فيها مجالٌ ولكنها تلحق بالأعمال لا بالعقائد، وسبب ذلك أنها محدثة لم يكن لها أصل في الشرع.
وكذلك إحياء أول ليلة جمعة من رجب بصلاة -تسمى صلاة الرغائب- لا أصل لها مع أنها صلاة، والذين يفعلونها يقولون: أتنكرون علينا الصلاة وطول القيام وقراءة القرآن وقراءة الأحاديث واستماع الأدعية؟ فنقول لهم: لا ننكر ذلك، ولكن ننكر عليكم تخصيص هذه الليلة دون غيرها، فإن هذا لم يرد به الشرع، فتعبدوا في السنة كلها ولا تخصوا ليلة من الليالي بعبادة ليست مشروعة فيها ولا محددة.
وهكذا البدع كثيرة، وقد استوفاها العلماء في مؤلفاتهم كالشاطبي رحمه الله في (الاعتصام) ، وكأبي شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث، وقبلهما ابن وضاح في نبذة مطبوعة اسمها (البدع والنهي عنها) وغيرهم كثير، والكلام على هذه البدع العملية أهون من الكلام على البدع العقدية.(63/241)
إذ لا شك أن البدع الاعتقادية أشد نكارة وما ذاك إلا أنها تعتمد القدح في الشرع؛ إما قدحاً في كماله، وإما قدحاً في صلاحيته، وإما اطراحاً لبعض تعاليمه. فلأجل ذلك يحذر العلماء من هؤلاء المبتدعة، وينكرون عليهم ويحذرون من قراءة كتبهم، ومن مجالستهم، ومن الانخداع بشبهاتهم، ومن قراءة نشراتهم التي ينشرون فيها ضلالاتهم وبدعهم -حتى لا يقع في شيء من شبهاتهم فيصعب بعد ذلك التخلص مما علق بالقلوب.
وكان السلف رحمهم الله يعرضون عن هؤلاء المبتدعة ويقولون: السكوت عنهم إذلال وإهانة لهم. فإن العالم يحتقر المبتدع ويسكت عنه، ويتركه يهذر ولا يتلفت إليه ولا يستمع له، ولو كان العامة يستجيبون لعلماء أهل السنة إذا حذروهم وقالوا: هذا مبتدع فاحذروه ولا تجالسوه؛ لبقي معزولاً لا أحد يجالسه ولا أحد يستمع منه ولا يناظره.
فالعلماء يقولون: نصون علمنا عن أن نجادله أو أن نناظره أو أن نناقشه أو أن نتكلم معه، كما ننصح ونحذّر إخواننا عن أن يجالسوه، حتى يبقى المبتدع معزولاً، وهكذا كان الناس طوال القرون المفضلة؛ كانوا كلما وُجد مبتدع وحاول أن يضل الناس، حذر العلماء منه، وابتعد عنه الناس وتركوه، وتمسكوا بما كان عليه سلف الأمة وجهابذتها.
ولكن مع طول الزمان ومع غربته تمكن هؤلاء المبتدعة، وصار لهم كلمة وأتباع، وقوة ونفوذ، ومقلدون ومذاهب متبعة معترف بها -في زعمهم- لها مكانتها ولها قوتها، فحصل بذلك انخداع الكثير من الجهلة والعوام حتى راجت مؤلفاتهم، فعند ذلك لم ير العلماء بداً من مناقشتهم؛ إما مناقشة علنية حتى ينقطعوا، وإما مناقشة كتابية.
ومثال ذلك مخاصمة محمد بن عبد الرحمن الأدرمي يرحمه الله لذلك المبتدع وهو ابن أبي دؤاد، فقد ناقشه وقطع حجته بكلمات مختصرة، وإن كان المؤلف أوجزها، وقد توسع فيها العلماء الذين يروون بالأسانيد كالآجري في الشريعة ونحوه.(63/242)
كذلك أيضاً؛ لما اشتهر بشر المريسي بقوله: إن القرآن مخلوق -رأى بعض العلماء أن يخاصموه كما في رسالة (الحيدة) لعبد العزيز الكناني، الذي أعلن مخاصمته له؛ وذلك لأنه أراد أن يظهر نفسه حتى يجتمع مع ذلك المبتدع، فجمعهما الخليفة، وتخاصما بقوة وبجدل، وكان الظهور للكناني رحمه الله، وانقطع بشر ولم يكن معه جواب كاف لإقناع هذا العالم، ثم كتب الكناني تلك المناظرة التي حدثت بينه وبين بشر في هذه الرسالة التي اسمها (الحيدة) وهي رسالة مطبوعة الآن.
ثم تتلمذ على المريسي رجل حنفي ولكنه مبتدع، وهو محمد ابن شجاع الثلجي، ولكنه يخفي ابتداعه، كتب رسالة في عقيدة (بشر) ولم يذكر اسمه، ولكنه معروف، تولى الرد عليها ومناقشتها عالم جليل من علماء أهل السنة وهو عثمان بن سعيد الدارمي في رده المشهور المطبوع باسم (رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد) .
ومع الأسف فقد كتب زاهد الكوثري رسالة في ترجمة الثلجي، وأثنى عليه وبالغ في الثناء عليه لأنه حنفي، ولم يتعرض لشيء من القدح فيه مع أنه معتزلي جهمي!
فهؤلاء العلماء رأوا أن المجادلة أفضل، لكن هناك من يرى تركها أصلاً، فقد ذكر ابن بطة في كتابه (الإبانة الكبرى) آثاراً كثيرة في النهي عن مجادلة ومخاصمة المبتدعة، والتحذير من مجالستهم ومخاصمتهم ومناظرتهم، وأن في ذلك السلامة، وأن في تركهم والبعد عنهم إهانتهم، وإماتة أقوالهم، ولكن رأى الكثير من العلماء أنه لابد من مناقشتهم حتى يظهر الحق ويستبين.
ووقع لشيخ الإسلام ابن تيمية مناظرات مع الأشاعرة -في زمانه-ومع الصوفية في مصر، ومع كثير من المبتدعة كالبطائحية، لأنه رأى أن ذلك من الضروري حتى يقطع شبههم، لأنهم يشبهون على الناس.(63/243)
ويمكن مراجعة مناظرة العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية المطبوعة في المجلد الثالث من مجموع الفتاوى بعد ذكر العقيدة. وكذلك مناظراته لما قدم إلى مصر وجادله من جداله في أمور العقيدة، ومناظراته أيضاً في الشام بينه وبين الصوفية الذين يدعون أنهم يدخلون النار ولا تضرهم، فقطعهم وخاصمهم في ذلك وكذّبهم، وهذه المناظرات كلها وقعت وجهاً لوجه.
ولكن هناك ردود احتوتها مؤلفاته، ناقش فيها المبتدعة، مثل كتابه (منهاج السنة) رداً على الرافضة وفيه قمع لهم ودحض لشبهاتهم وإبطال لترهاتهم وأكاذيبهم، يقرأه القارئ فيرى الحق واضحاً جلياً. وكتابه (درء تعارض النقل والعقل) ، أو (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) رداًَ على كثير من الأشاعرة في شبهاتهم، وله كتب كثيرة (كالرد على الاخنائي) ، و (الجواب الباهر في الرد على عباد المقابر) ، و (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ، وغيرها.
فالحاصل أن أهل البدع العقدية خطرهم شديد، والإنسان عليه أن يعرف بدعهم ويحذرها، ويعرف أن ما عداها هو السنة والصواب فيتمسك به ويعض عليه بالنواجذ حتى يسلم من هذه الأخطار.
ثم مثّل الموفق رحمه الله لهؤلاء المبتدعة، وذكر منهم مشاهيرهم وبدأ بالرافضة الذين يسمون أنفسهم (شيعة) وسبب تسميتهم (رافضة) أنهم في حدود سنة ثمان وعشرين ومائة خرج زيد بن علي بن الحسين ودعا إلى مبايعته، فجاء إليه الرافضة في العراق وقالوا: نبايعك على أن تتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر، فقال: هما صاحبا جدي. فقالوا: إذاً نرفضك. فسموا بالرافضة.(63/244)
ومعروف أن مذهبهم مبني على الغلو في أهل البيت الذين هم -عندهم- علي وذريته وزوجته فقط وأم زوجته التي هي خديجة، وبالغ بعضهم إلى أن ادعى الولاية لأبيه الذي هو أبو طالب. وقد كتب بعض علماء الرافضة كتاباً نشر قبل أربعين سنة سماه (أبو طالب مؤمن قريش) فتجرأ إلى هذا الحد وأدعى بأنه مؤمن وأنه تقي وأنه مسلم؛ لأجل أنه أبو علي وقد نوقش هذا الكتاب ووجد أنه ليس له مرجع فيما قال، وأن مرجعه الوحيد من كتب الرافضة التي لا أساس ولا صحة لها، فهذا معتقدهم.
ومن بدعهم أنهم لما غلوا في علي كان من لوازم ذلك أن يطعنوا في الخلفاء قبله الذين يدعون أنهم قهروه وقسروه وألزموه بأن يبايع لهم وأن يتنازل عن الخلافة وأنه لا حق له فيها، فادعوا أن أبا بكر وعمر وعثمان ظلموه. فتبرأوا منهم وتبرأوا ممن بايعهم من الصحابة ولم يوالوا من الصحابة إلا عدداً يسيراً، أما بقية الصحابة عندهم فإنهم كفار، لأجل ذلك لا يقبلون أحاديثهم ولو كانت في الصحيحين، هذا مذهب الرافضة.
ثم زادوا على ذلك أنهم طعنوا في القرآن، وادعوا أن الصحابة الذين كتبوه خانوا فيه، وأنهم حذفوا منه ما يتعلق بالولاية وما يتعلق بأهل البيت، وادعوا أن هناك سورة تسمى سورة (الولاية) وهي مصورة في كتاب (الخطوط العريضة) لمحب الين الخطيب رحمه الله، وادعوا أن الصحابة حذفوها، وحذفوا أيضاً أشياء كثيرة من القرآن، حتى ذكروا أنهم حذفوا آية من سورة (ألم نشرح) وقالوا: إنها نزلت (ألم نشرح لك صدرك وجعلنا علياً صهرك) !!!!
والحاصل أنهم يطعنون في الخلفاء، وأكثر الصحابة، ويسبونهم ويردّون أحاديثهم ويطعنون في القرآن، ويغلون في حق علي غلواً زائداً حتى عبدوه من دون الله، فجمعوا بين الشرك بعبادة أهل البيت وتعظيمهم التعظيم الزائد، والطعن في القرآن، والطعن في السنة أو ردّها، والطعن في الصحابة وتكفيرهم.(63/245)
أما بقية الطوائف؛ فهم طوائف مختلفة في المعتقد، نذكر تعريفهم باختصار على ترتيب وجودهم.
فأول من وجد: (الخوارج) الذي خرجوا على علي، وكان من عقيدتهم التكفير بالذنب، فيجعلون الذنب كفراً والعفو ذنباً، ولذلك يستحلون دماء المسلمين، ويقولون: من فعل الكبيرة حل دمه وماله وسبي نسائه وأولاده ونحو ذلك، وقد قاتلهم علي رضي الله عنه، واستمروا موجودين في مدة خلافة بني أمية وهم يقاتلون يقوون تارة ويضعفون تارة إلى أن تفرقوا. ولكن بعد ذلك هدأت حدتهم فلم يقاتلوا، ودخلت فيهم أيضاً بدع أخرى، ويوجد منهم الآن في البلاد الأفريقية الألوف ولكنهم متسترون، ويوجد منهم أيضاً الطائفة الإباضية التي في عمان، ولكنها في الحقيقة معتزلة ولا يطبقون مذهبهم تماماً.
وبعدهم خرجت (القدرية) الذين ينكرون من القدر العلم السابق، وأول من خرج منهم معبد الجهني، ثم غيلان القدري، ينكرون علم الله بالأشياء قبل وجودها يقولون: لا يعلم الأشياء حتى تحدث. وهؤلاء الذين قال فيهم الشافعي: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خُصموا وإن جحدوه كفروا.
ثم حدثت فيهم بدعة أشد من هذه وهي إنكار قدرة الله على الهداية والإضلال، وأن الله ليس على كل شيء قدير، وأنه لا يهدي ولا يضل من يشاء، وهؤلاء هم القدرية الذين أنكروا القدرة. وقال فيهم الإمام أحمد: القدر قدرة الله -يعني من اعترف بأن الله على كل شيء قدير فقد خصم القدرية، خاصموهم بهذه الكلمة قولوا لهم: أليس الله على كل شيء قدير؟ إذاً فكيف يخرج عن قدرته كونه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك.(63/246)
ثم خرج بعدهم (المعتزلة) في آخر حياة الحسن البصري، وأولهم واصل بن عطاء الذي ادعى أن العاصي ليس بكافر ولا مسلم بل في منزلة بينهما، واعتزل مجلس الحسن وصار يقرر مذهبه بزاوية من المسجد، وصار الحسن إذا جاءه من يستشيره، أو رأى من أحد بدعة أشار إليه وقال: عند أولئك المعتزلة، اعتزلنا واصل، فمن ثم سُمّوا بالمعتزلة.
وانتشر مذهبهم إلى الآن، وطبعت لهم مؤلفات، وممن اعتنق مذهبهم القاضي عبد الجبار صاحب الكتاب المشهور: (المغني) الذي هو من أشهر كتبهم، مطبوع في نحو أربعة عشر مجلداً، وله مؤلفات أخرى في تقرير مذهبهم.
وقد ذكرنا أن مذهبهم يدور على خمسة أشياء:
- التوحيد: الذي هو نفي الصفات.
- والعدل: الذي هو نفي قدرة الله لأفعال العباد.
- والمنزلة بين المنزلتين: التي هي أن العاصي ليس بمؤمن ولا كافر.
- وإنفاذ الوعيد: الذي هو تخليد العصاة في النار.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الذي هو الخروج على الأئمة. هذا مذهبهم الباطل.
وممن اعتنق مذهبهم من مشاهير اللغويين (الزمخشري) صاحب التفسير المشهور بالكشاف، فإنه معتزلي مبالغ في الاعتزال، ضمّن تفسيره عقيدة الاعتزال.
ثم خرجت بعدهم (الجهمية) : ولكن مذهبهم تفرق في عدة فرق، فمن مذهبهم تعطيل الله تعالى عن صفات الكمال، فإنهم نفوا الصفات كلها، بل بالغوا في النفي حتى جعلوها كلها مجازاً، وهم الذين يحذر السلف رحمهم الله -كثيرا- من الانخداع بهم.
ثم إن الجهم الذي تنسب إليه هذه الطائفة اجتمعت فيه ثلاث بدع عقدية هي:
- التعطيل: وهو نفي الصفات.
- والإرجاء، فهو رأس المرجئة، وهو أولهم إذ يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب. إذا كنت مؤمناً فاعمل ما شئت من الذنوب. ويقول قائلهم:
فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم(63/247)
فعندهم أن المعاصي لا تضر التوحيد، ومن كان مذنباً -ولو كثرت ذنوبه- فإنه لا يخرج عن كونه مؤمناً كامل الإيمان.
- والجبر وهو نوع من البدع في القدر؛ وهو ادعاؤه أن الإنسان مجبور على الذنوب وعلى المعاصي وعلى الكفر، وليس له اختيار أبداً وهم الذين يقول قائلهم:
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل، بينوا لي حجتي
فهؤلاء رؤوس المبتدعة والفرق: الجهمية المعطلة، والمرجئة، والقدرية، والجبرية، والمعتزلة الذين جمعوا هذه المذاهب ونحوهم.
أما (الكرامية) فهم اتباع محمد بن كرام عالم مشهور إلا أنه مبالغ في الإثبات حتى اتهم بنوع من التمثيل، ولكنه أقرب إلى الحق وأقرب إلى الصواب، وإنما انتقدوه لمبالغته في إثبات الصفات حتى وقع في نوع من التشبيه، ومن مذهبهم أن الإيمان مجرد المعرفة.
أما (الكُلابية) فهم أتباع عبد الله بن سعيد بن كُلاب، وهم الذين يقرون بسبع صفات فقط وهي: السمع والبصر والكلام والحياة والقدرة والإرادة والعلم وينكرون ما عداها، وهو الذي سلك طريقته أبو الحسن الأشعري في وسط عمره، وإلى أبي الحسن هذا ينتسب المذهب المنتشر؛ مذهب الأشاعرة، فالأشاعرة على مذهب ابن كلاب.
وأما فرقة (السالمة) فهي تتبع ابن سالم، ومذهبهم قريب من مذهب الكرّامية أو أشد؛ فهم يقولون بالتشبيه، وأن الله له يدٌ كأيدينا ونحو ذلك.(63/248)
وبقيت فرقة موجودة بكثرة وهم (الصوفية) ، فالصوفية لا شك أنهم كانوا في أول الأمر زهاداً يلبسون الصوف، ولكن حدثت فيهم بدعٌ وأشدها بدعة القول (بوحدة الوجود) وهو أن وجود الخالق عين وجود المخلوق، فهذه البدعة هي التي ضلوا بها عن الطريق، وهي بدعة يعتنقها كثير منهم. وعندهم بدع أخرى ولكنها خفيفة بالنسبة إلى هذه، كبدعة الغناء والسماع والرقص والتمايل والنشيد الموحَّد مثلاً، والذكر المقطوع كذكرهم بكلمة (هو، هو) ، وما أشبه ذلك وهم موجودون بكثرة والردود عليهم متوفرة. وبكل حال هؤلاء هم رؤوس المبتدعة، ينبغي للمسلم أن يجتنبهم حتى يسلم في دينه وعرضه.
مسألة: الكلام على الاختلاف في الفروع
وقوله:
وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين؛ كالطوائف الأربع فليس بمذموم، فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة.
نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات، برحمته وفضله - آمين.
وهذا آخر المعتقد، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً..
شرح:(63/249)
هذا آخر العقيدة، ختمها بهذه الجملة، وهي حكم الانتساب إلى المذاهب الأربعة الفرعية. وقد ذكرت قريباً أن هذا يعتبر من الفروع لا من الأصول، أو يلحق بأصول الفقه، ولكن هناك من يجعله من أصول العقائد، ويتشدد في النهي عن الانتساب إلى المذهب. فهناك فرق في الهند وفي الباكستان يسمون أنفسهم (أهل الحديث) يشددون على المنتسبين إلى المذاهب، ولكن لا نلومهم؛ لأن هناك من يتعصب عندهم للمذاهب تعصباً زائداً، فآل بهم الأمر إلى أن جعلوا الانتساب إلى المذهب كالانتساب إلى المعتقد. فقالوا: لا يجوز أن تكون جهمياً ولا أن تكون أشعرياً، ولا أن تكون كرّامياً، ولا كٌلابياً، ولا سالمياً، ولا واصلياً، ولا نظامياً، ولا جاحظياً، وما أشبه ذلك، ولا يجوز أن تكون شافعياً، ولا حنبلياً، ولا مالكياً، ولاحنفياً، ولا ثورياً، ولا ليثياً..
وجعلوا الانتساب إلى المذاهب كالانتساب إلى المعتقدات، وهذا خطأ وما ذاك إلا أن أهل المذاهب أولاً كلهم من علماء السنة، وكلهم من أهل الحديث، فتح الله تعالى عليهم ورزقهم فقهاً وفهماً، فجمعوا بين الحفظ والفهم، فأدى بهم اجتهادهم إلى أقوال دونوها في مؤلفاتهم.
فأولهم (أبو حنيفة) رحمه الله، كان ذكياً، عنده قوة إدراك، وعنده قوة فهم، فكان يفتي بهذه الفتاوى ويعللها، ويسر الله له تلميذين وهما أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، سجلا فتاواه وأقواله في مؤلفات كثيرة، فانتشر مذهبه، وبسبب كتب هذين العالمين تمكن وصار له مذهب متبع، وهو لم يكتب هذه الفتاوى بنفسه، إنما تارة يمليها على التلاميذ، وتارة يكتبونها هم؛ إذا استفادوا منه فائدة كتبوها ثم جمعوها في مؤلف، ثم انتشر هذا المذهب واعتنقه من اعتنقه.(63/250)
ثم جاء بعده (الإمام مالك) ، وألف كتابه (الموطأ) واختار فيه ما اختار، ولما انتشر اعتنقه من اعتنقه، ورأى كثير من العلماء أنه عالم المدينة، وأنه محدث جليل كبير، حتى إن المنصور العباسي في زمانه قال: نريد أن نحمل الناس على العمل بالموطأ كما أن عثمان حملهم على المصحف. فامتنع مالك رحمه الله، وقال: إن الصحابة تفرقوا، وإن عندهم من العلوم ما فاتنا، وليس كل العلم قد حويته، أجل ولا العشر ولو أحصيته. ثم تتلمذ عليه أيضاً تلميذ جمع من فتاواه شيئاً كثيراً في الكتاب الذي اسمه (المدونة) المطبوع في خمسة مجلدات كبار، انتشر مذهبه بسببها في أكثر البلاد المغربية والأفريقية بسب أنهم ذهبوا بكتبه هناك.
ثم جاء بعده (الشافعي) رحمه الله، وألف كتاب (الأم) ، و (الرسالة) والرسائل الكثيرة المطبوعة معهما، وهو الذي أملاها أو كتبها، واختصرها بعض تلامذته، فكان ذلك سبباً أيضاً في أن تتلمذ عليه تلامذة كثيرون في الشام وفي مصر، وفي العراق، وفي الحجاز، وفي اليمن وفي كثير من البلاد، وكثر اتباعه الذين على مذهبه بسبب اعتمادهم على هذه المؤلفات.
ثم جاء بعده -أو في زمنه- الإمام (أحمد بن حنبل) ، وكان رحمه الله لا يحب أن تكتب فتاواه، فلم يكتب في الفقه وإنما كتاباته فيما يتعلق بالحديث أو فيما يتعلق بالعقيدة، ولكن تتلمذ عليه تلامذة محبون له فكانوا يكتبون فتاواه، هذا يكتب مجلداً، وهذا يكتب ورقتين، وهذا يكتب عشرين ورقة، وهذا كتب وهذا كتب، وحتى ذكروا أنه جمع من فتاواه أكثر من ثلاثين مجلداً، ثم جمعها أحد تلاميذهم وهو أبو بكر الخلال صاحب كتاب (السنة) في عشرين مجلداً أخذها من تلامذته.(63/251)
وجاء أيضاً بعده تلميذ له وهو محمد بن حامد وجمعه أيضاً في مجموع آخر، وكاد مذهب الإمام أحمد أن يضمحل ولا يكون له أتباع إلى أن جاء عهد القاضي أبي يعلى، فاعتنق هذا المذهب، ولما تولى القضاء أظهر هذا المذهب ودعا إليه، وألف فيه المؤلفات، وانتشر المذهب وصار له أتباع من ذلك اليوم وحتى يومنا هذا.
هذه هي المذاهب الأربعة، ولكن هل كان بعضُهم يضلل بعضاً؟، حاشى وكلا، كلهم متآخون ومتحابون ومجتمعون على الحق.
سئل الإمام الشافعي فقيل له: هل نصلي خلف من يقلّد مالكاً؟ فارتعد وقال: ألست أصلي خلف مالك! فمالك شيخ الشافعي الذي أفاده فوائد كثيرة جمة، فأنكر على هذا الذي قال إننا نتورع أن نصلي خلف المالكية لأنهم يخالفوننا في أشياء، والخلافات التي بينهم في الصلاة مثلاً في الجهر بالبسملة أو التلفظ بالنية، أو في بعض الأشياء اليسيرة القليلة، وكذلك بينه وبين الحنفية خلافات لا تبطل بها الصلاة.
مع ذلك كله فإن هؤلاء الأئمة ليسوا هم العلماء كلهم، بل في زمانهم من هو أهلٌ للاتباع وأهلٌ للعلم؛ فالإمام الليث بن سعد عالم مصر كان أيضاً عالماً جليلاً كبيراً، وله أيضاً أتباع، وإن لم يكن له مؤلفات ولا مذهب متبع. وكذلك الإمام الأوزاعي أبو عبد الرحمن عالم الشام في زمانه، وله أيضاً أتباع، وله تلاميذ كثيرون.
ولكن المجمع واحد، فكلهم يتبع الآخر إذا ظهر له الحق مع أحدهم، فإنهم يتبرؤن من الخطأ ويقولون لتلامذتهم: إذا اتضح لكم الخطأ في قولنا فلا تتبعوه، اتبعوا الحق وخذوا به.
ذكروا أن الإمام أبا حنيفة يقول: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين، فنحن رجال وهم رجال؛ وذلك لأنه من التابعين.(63/252)
واشتهر عن مالك رحمه الله أنه يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. يعترف على نفسه بأن أقواله عرضة للخطأ وعرضة للترك، وإذا اتضح فيها خطأ فلتُترك.
وجاء رجل إلى الشافعي رحمه الله، وسأله عن مسألة فقال: هذه المسألة أفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا. فقال السائل: فما تقول أنت يا أبا عبد الله؛ فغضب الشافعي غضباً شديداً وقال: ويحك أتراني في بيعة؟ أتراني في صومعة؟ أتراني على وسطي زنار؟ أقول لك أفتى فيها رسول الله صلى عليه وسلم وتقول ماذا تقول أنت، أترى أني أخالف فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم! هكذا غيرتهم وحماستهم على السنة النبوية.
كذلك الإمام أحمد رحمه الله اشتهرت مقالته التي يقول فيها: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأى سفيان، والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (النور:63) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
هذه مقالتهم التي يحثون فيها على الرجوع إلى السنة، ومع ذلك وللأسف؛ فإن كثيراً من أتباعهم المقلدة صاروا يرون الحق والصواب معهم فقط، ويتعصبون للمذاهب هذا التعصب الذي سبّب الفرقة.
فقد نتج عن التعصب لمذهب هذا على هذا؛ أنه حصل بينهم منافسات ومجادلات سواءً في الكتب أو في الأعمال أو نحوها، حتى ذكروا أن المسجد الأموي الذي في دمشق كانت تقام الصلاة فيه أربع مرات يصلي الإمام الحنفي بمن معه، ثم يصلي الشافعي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، وهذه تفرقه بين المسلمين.(63/253)
وهكذا أيضاً قبل مائة وخمسين سنة في الحرم المكي، كان فيه أربع مقامات، فالمقام الحنفي في الجانب الشمالي يصلى فيه الإمام الحنفي والمقام المالكي في الجانب الغربي يصلي فيه الإمام المالكي، والمقام الشافعي في الجانب الجنوبي يصلي فيه الإمام الشافعي، والمقام الحنبلي بالجانب الشرقي في مقام إبراهيم يصلي فيه الإمام الحنبلي، فتقام الصلاة في المسجد الحرام أربع مرات أو يصلي فيه أربعة أئمة! هذا لا شك أنه تعصب مذموم.
ومع الأسف ذكر لنا أن كثيراً من المبتدعة يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف إمام الحرم الموجود الآن؛ يقولون: هذا وهابي مبتدع ضال. ولكن هؤلاء ما ضللوه لأجل أنه حنبلي، وإنما من أجل أنه وهابي كما يزعمون.
نحن نقول: الأئمة رحمهم الله مجتهدون ومذاهبهم معترف بها واتفاقهم حجة قاطعة وإجماعهم دليل قوي، واختلافهم رحمة وفيه سعة.
ذكر أن رجلاً جاء إلى الإمام أحمد وقد كتب كتاباً سماه (الاختلاف) قال فيه مثلاً: اختلفوا في المسألة الفلانية فقال الشافعي: كذا، وقال الثوري: كذا، وقال الليث: كذا، وقال مالك: كذا. فسماه (الاختلاف) فأنكر عليه أحمد وقال: لا تسمه بالاختلاف بل سمه بالسعة. يعني إن هذا الاختلاف توسعة على المسلمين حتى إذا عمل أحدهم بهذا القول، وعمل الثاني بهذا القول كان كل منهم على خير.
فهذا ما يتعلق بهذه المذاهب، وهي المذاهب المتبعة، ومن ظهر له الحق في غير مذهبه، فلا ضير عليه أن يتبع الحق ولو خالف مذهب إمامه.. والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الخاتمة
أحمد ربي وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأعترف بفضله ولا أكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ خلق كل شيء فأحكمه ودبره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ ما أوحي إليه وفسره صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ومن اقتفى أثره:
أما بعد:(63/254)
فبنعمة من الله وفضل تم إعداد وتخريج أحاديث شرح لمعة الاعتقاد، وذلك الشرح المبارك النفيس العظيم لفضيلة شيخنا الشيخ الدكتور/ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله تعالى وأمد في عمره ونفع به المسلمين.
وفي نهاية عملي هذا المتواضع أعتذر عما ورد فيه من الخطأ والتقصير؛ حيث إن هذا من طبيعة البشر، فما حصل من صواب فمن الله، وما حصل من خطأ أو تقصير فمن نفسي والشيطان -أعاذنا الله منه- كما أني أشكر كل من أعانني على تخريج وإعداد هذا الكتاب، وعلى رأسهم والدي الكريمان أمد الله في عمريهما -رب ارحمهما كما ربياني صغيراً- وفضيلة شيخنا الكريم الذي تفضل علي بالموافقة لإعداد هذا الشرح النفيس وتخريج أحاديثه، ومن ثم التوجيه والمساندة حتى انتهى الكتاب إلى ما هو عليه الآن، وعائلتي كانت لها اليد الطولي في تهيئة الجو المناسب لي للبحث والمطالعة، كما أني لا أنسى فضل من ساعدني في تفريغ الأشرطة وكتابتها لا حرمه الله الأجر، وكذا إخواني الكرام الذين كانوا دائماً نعم العون -بعد الله- لي في جميع ما احتاجه منهم.
أسأل الله الكريم العظيم رب العرش العظيم أن يجزي كل من أعانني في إخراج الكتاب خير الجزاء، وأن ينفع به، وأن يجعل عملي فيه وفي غيره خالصاً لوجهه الكريم وأن يجعله ذخراً لي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(63/255)
الكنز الثمين
(1) النية وإخلاص العمل
وسئل وفقه الله:
* ما الوسيلة لإخلاص العمل أو إصلاح النية؟ أرشدونا وفقكم الله؟
فأجاب:
من المعروف أن الإخلاص من شروط التوحيد، ومعناه أن يعتقد المسلم أن عمله لله، وأن لا يريد به حظاً عاجلاً، ولا مدحاً، ولا ثناءً من أحد، وإنما النية والدافع الذي في قلبه هو إرادة وجه الله.
وقد وردت الأدلة في ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في الجهاد: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". يعني أن الذي يقاتل حمية، أو عصبية، لا تكون نيته صحيحة. كذلك نية التوحيد، ففي الحديث: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نَفْسه" بأن تكون نيته الطاعة والقربة إلى الله.
وبين ما يضاد ذلك، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "من سمّع سمّع الله به، ومن يرآئي يرآئي الله به". يعني: من حسّن صوته بالقراءة ونحوها ليمدح، فإن الله لا يمدحه. كذلك من صلّى صلاةً بخشوع وخضوع، أو تصدق بصدقة، أو ما أشبه ذلك، أو أنفق في سبيل الله رئاءَ الناس فإن الله تعالى يفضحه؛ لأن هذا من الرياء الذي يحبط الأعمال.
وبالجملة فالإخلاص هو أن تريد بعملك وجه الله، وأن لا تقصد به مدحاً ولا ثناءً ولا حظاً دنيوياً.
(2) تقسيم التوحيد ثابت عن علماء الأمة
وسئل يحفظه الله:
* يقول أحد الدعاة - وهو ينتمي لجماعة من الجماعات الإسلامية؛ في معرض حديثه في محاضرة ألقيت في إمارة الشارقة بالإمارات المتحدة، يقول-: "التوحيد من ناحية تقسيمه إلى ثلاثة أنواع لم يثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يثبت عن الصحابة، وعليه فهذا التقسيم بمسماه بدعة" انتهى كلامه. ثم سألت أحد طلبة العلم فقال: يمكن أن يقسم التوحيد إلى أكثر من ثلاثة وهكذا. نرجو توضيح هذه المسألة؟
فأجاب:(64/1)
إن تقسيم التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة جاء عن علماء الأمة، وأخذوه استنباطاً من الأدلة؛ حيث إن النصوص الصريحة تفيد وجوب توحيد الرب تعالى، باعتقاد أنه واحد، قال تعالى: ((وإلهكم إله واحد)) (البقرة:163) . وقال تعالى: ((وما من إله إلا إله واحد)) (المائدة:73) . وفي الحديث: "ولا نعبد إلا إياه". وفي الدعاء: "ولا إله غيرك".وغير ذلك من الأدلة.
* فإذا قلنا: إن الله تعالى واحد في إلهيته، وأحقّيته للعبادة؛ فهذا توحيد العبادة؛ دليله الآيات المذكورة.
* وإذا قيل: إن الله تعالى واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، بدليل قوله تعالى: ((هل تعلم له سمياً)) (مريم:65) . وقوله: ((ولم يكن له كفُواً أحد)) (الإخلاص:4) . وقوله: ((ليس كمثله شيء)) (الشورى:11) . كان هذا توحيد الربوبية، والأسماء والصفات، والمعرفة والإثبات، وهو التوحيد الخبري الاعتقادي؛ فهذا صحيح؛ ودليله الآيات المذكورة.
فكيف يقال: إن هذا بدعة؟!
مع أنه مأخوذ من هذه الآيات والأحاديث والنصوص الصريحة، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(3) الألوهية
الشهادتان من توحيد الألوهية
وسئل فضيلته:
* قول "أشهد أن لا إله إلا الله" من أي أنواع التوحيد؟ وأي توحيد يعصم الدم والمال؟
فأجاب:
الشهادتان من توحيد الألوهية، فشهادة أن لا إله إلا الله هي توحيد الألوهية الذي هو الاعتقاد والعمل، وشهادة أن محمداً رسول الله هي مكمّلة لها، وفيها الاتباع، فهي من توحيد الألوهية، وهو توحيد العبادة، يعني النطق بالشهادتين بلفظ الألوهية، من تكميل توحيد العبادة.
وهذا التوحيد هو الذي يعصم الدم والمال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". متفق عليه من حديث ابن عمر.(64/2)
وذلك أن توحيد الربوبية قد أقر به المشركون ولم يعصم دماءهم وأموالهم حيث عبدوا مع الله غيره، فلذلك أمر الله بقتالهم، بقوله تعالى: ((فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)) (التوبة:5) . فإذا تابوا من هذا الشرك وعبدوا الله وحده وجب الكف عنهم. والله أعلم.
دلالة التضمن في توحيد الألوهية
وسئل حفظه الله:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية. هلاّ بيّنتهم لنا دلالة التضمن؟
فأجاب:
كون الشيء في ضمن غيره يسمى تضمناً، نقول: إنه لا يمكن أن يعبد الله بتوحيد الألوهية؛ إلا بعد ما يعترف بأن الرب هو الخالق المتصرف وهذا هو توحيد الربوبية.
فتوحيد الربوبية في ضمن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية كأنه الدافع إلى توحيد الألوهية؛ فالتضمن معناه: الاشتمال عليه، وكونه في ضمنه.
فالأصل في التكليف، أن الله أمرنا بتوحيد الألوهية، ولكن جعل توحيد الربوبية دليلاً عليه.
كيف نرد على أهل النظر
وسئل يحفظه الله:
* كيف نرد على أهل النظر "أن للعالم صانعين" عن طريق العقل والنقل؟ .
فأجاب:
أما عن طريق العقل: فبدلالة التمانع، وهي أنه لو كان للعالم إلهان خالقان؛ فأراد أحدهما تحريك شيء، وأراد الآخر تسكينه.
* فإما أن يحصل مرادهما وهو ممتنع عقلاً.
* وإما ألا يحصل مراد أحدهما وهو مستحيل، ويستلزم عجزهما.
* وإما أن يحصل مراد واحد منهما!!
فالذي لا يحصل مراده عاجز؛ لا يصلح أن يكون إلهاً، ولا أن يكون خالقاً، فدل ذلك على أن الخالق واحد ليس له من يزاحمه في التصرف، وهذه هي الدلالة العقلية.
وأما الدلالة السمعية (أي الأدلة النقلية وهي الكتاب والسنة) : فالآية الكريمة: ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)) (الأنبياء:22) . ونحوها من الآيات.
الفرق بين التكلم والخبر
وسئل وفقه الله تعالى:(64/3)
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": "فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع.. وذكر منها:
1- مرتبة التكلّم والخبر. 2- ومرتبة الإعلام والإخبار.
فما الفرق بين مرتبة التكلم والخبر، وبين مرتبة الإعلام والإخبار؟
فأجاب:
التكلم معناه لغة: أن يتكلم حتى يَسْمَعَهُ غيره، بعد ما يعلن بقلبه؛ يتكلم حتى يسمعه من حوله.
وأما الإعلام فمعناه: أن يُعْلِمَ غيره، فيقول مثلاً: اعلموا أن الأمر كذا، وكذا، وهذا أمر زائد على التكلم.
قد يتكلم الإنسان ولا يقول: اعلموا، فهذه مرتبة تكلّم فقط؛ فإذا ما أعْلَمَ غيره فإنه يتعدى بعد ذلك إلى مرتبة أشمل وأوسع وهي مرتبة الإعلام والإخبار.
فهنا تكلّم للتذكر أو للحفظ، وهنا إخبار للناس وإعلام لهم.
معنى "شهد الله"
وسئل حفظه الله:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": (وعبارات السلف في: "شهد" تدور على الحكم) فما معنى الحكم؟
فأجاب:
فسّر كثير من الصحابة "شهد الله" في قوله تعالى: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)) (آل عمران:18) . فسّرها الكثير: "بِحَكَمَ الله"، وفسّرها بعضهم: "بِأخْبَرَ الله"، وفسرها بعضهم: "بِأعْلَمَ الله"، كما فسّرها بعضهم "بِأمَرَ الله"…
فيكون المعنى: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) أي: "أمر الله أنه لا إله إلا هو"… و ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) أي: "حكم الله أنه لا إله إلا هو".. و ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) أي: "أخبر الله أنه لا إله إلا هو".. والمعنى أن الآية تشهد بذلك كله، والله أعلم.
ما معنى الأبيات التالية؟
وسئل غفر الله له ولوالديه:
* نرجو شرح هذه الأبيات التي ذكرها شارح العقيدة الطحاوية (انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص97) . وهي من شعر أبي إسماعيل الأنصاري يقول:(64/4)
1- ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
2- توحيد من ينطق عن نعته عارية.. أبطلها الواحد
3- توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد
فأجاب:
فإن ظاهره أن ليس أحد وحد الله وإنما هو وحد نفسه، وننصحك أن لا تتقعر في معنى هذه الأبيات، ولكن على كل حال هي فيها شيء من الدخول في علم التصوف أو الغلو فيه.
فالبيت الأول: الذي ذكر أنه ما وحّد الواحد من واحد؛ ظاهره أن الناس ليس فيهم موحّد.
والبيت الثاني: ظاهره أن كل من ينطق بتوحيده فإنه جاحد أو لا حد كما في بعض النسخ.
والبيت الثالث معناه: أن ليس أحد وحّد الله تعالى إنّما الله هو الذي وحّد نفسه.
لكن يمكن حمله على أن المخلوقين تلقوا ذلك عن الله تعالى؛ فصار توحيدهم مأخوذاً عن توحيده. هذا أحسن ما حمل عليه.
(4) الربوبية
الرزق تكفل الله به ولكن…
وسئل عفا الله عنه:
* لقد سمعت من الذين يتلبسون ويتخفون برداء الإسلام؛ دعوة تنادي بأن الرزق تكفل به الله سبحانه وتعالى، وأن من يتقي ويسير في طريق الإسلام الصحيح يأكل من فوقه، ومن تحته، ويأتيه الرزق من حيث لا يحتسب؛ ولكن لماذا يموت الإنسان من جراء الجوع والجفاف في بعض المناطق؟ أليس هناك تكفل من قبل مشروط بالطاعة؟
فأجاب:
لا شك أن الله تعالى تكفل بالأرزاق لكل المخلوقات، وهيأ لهم أسبابها، لكنه قد يبتلي العباد -ولو كانوا مؤمنين- للاختبار، وإظهار العبر وضده، وهو سبحانه قد سهل أسباب الرزق، وأعطى الإنسان قوة وقدرة على الاحتراف والتكسب، وطلب الرزق، فإذا لم يستعمل تلك القوة والملكة، فقد فرّط، فلا يأمن أن يسلط عليه الجوع والفقر والألم.
وهكذا قد يسلط الله على البلد بما فيها من الدواب وغيرها، فيعذبهم بسبب الذنوب والكفر، وترك الواجبات.
لماذا يعبد الله؟
وسئل فضيلة الشيخ:
* لماذا يعبد الله سبحانه وتعالى؟
فأجاب:(64/5)
ورد في بعض الآثار أن الله تعالى يحضر رجلاً في الآخرة؛ عند الحساب فيقول: لماذا عبدتني؟ فيقول العبد: سمعت بخلق الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، فأسهرت ليلي، وأتعبت نهاري، وأظمأت نفسي طلباً لدخول الجنة، وشوقاً إليها لأحظى بهذا النعيم، والثواب العظيم، فيقول الله تعالى: هذه الجنة فادخلها فلك ما طلبت، وما تمنيت.
ثم يحضر رجلاً ثانياً فيسأله: لماذا عبدتني؟ فيقول: سمعت بخلق النار وما فيها من العذاب والنكال والوبال والأغلال والآلام، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وأتعبت نفسي خوفاً من النار، وهرباً من ألمها وعذابها، فيقول الله تعالى: قد أجِرْتَ من النار فادخل الجنة، ولك ما تتمنى نفسك.
ثم يحضر الله رجلاً ثالثاً، فيقول: لماذا عبدتني؟ فيقول: عرفت صفاتك وجلالك وكبرياءك ونعمك وآلاءك فتعبدت شوقاً إليك ومحبة لك، فأنت المستحق للعبادة والتعظيم، لفضلك وإنعامك على الخلق، ولكمال صفاتك، وعظيم جلالك، فيقول الله تعالى: أنا ذا فانظر إليّ، وقد أبحتك ثوابي، وأعطيتك ما تتمناه.
وبالجملة: فالذي يعبد الله لمعرفته بأنه أهل للعبادة، ولأداء حقوقه، ولأنه أهل التقوى، وأهل المغفرة، وخالق العبد والمنعم عليه، وله المن والفضل والثناء الحسن، هو أكثر أجراً وثواباً، والله واسع عليم.
(5) الأسماء والصفات
هل يجوز إطلاق كلمة الصانع على الخالق
وسئل فضيلته:
* نجد أن شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": يطلق كلمة الصانع على الخالق فمثلاً يقول: "فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع ودلائل صدق الرسول"، فهل يجوز إطلاق كلمة الصانع في حق الله سبحانه وتعالى؟.
فأجاب:(64/6)
هذه تجوز على وجه الصفة، فنعتقد أن الله الصانع، بمعنى أنه المبدع للكون، وهو الذي صنع الكون بذاته، وأبدعه، فلذلك يُكْثَرُ من إطلاقها في الكتب؛ كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: ((اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)) (البقرة:21) . وأطلق ذلك شيخ الإسلام في عدة مواضع في الجزء الثاني من مجموع الفتاوى، ونحو ذلك. فإطلاق الصانع معناه: بأنه وصف لله أنه مبدع للكون.
النظر دليل اليقين
وسئل الشيخ:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": "استدلاله بالآيات الكونية والنفسية، استدلال بأفعاله ومخلوقاته، ومن أسمائه تعالى "المؤمن" وهو على أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم.." نرجو توضيح هذه العبارة؟
وكذلك يقول في موضع آخر: "واستدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.." نرجو توضيح ذلك؟
فأجاب:
معلوم أن الاستدلال بالآيات مما يثبّت الدليل، والله تعالى قد نصب الآيات ليستدل بها العباد على معرفة ربهم، والآيات هنا يراد بها الآيات الكونية، والآيات النفسية.
أما الآيات الكونية فهي: الآيات التي في الكون، يقول الله تعالى: انظروا في هذه الآيات لتعتبروا، انظروا في خلق السماء وارتفاعها، وانظروا في تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وانظروا في هذه الأرض وما فيها من النبات وما فيها من الحيوانات، وانظروا في هذه البحار وما احتوت عليه، وما أشبه ذلك. فالنظر يعني الاعتبار، وهو يكون دليلاً إلى اليقين، أي يقوي الإيمان.(64/7)
كذلك الآيات النفسية: يقول تعالى: ((وفي أنفسكم أفلا تبصرون)) (الذاريات:21) . يعني في أنفسكم آيات، فلو فكر الإنسان في نفسه لزالت عنه الشكوك والتوهمات. ففي نفس الإنسان أعظم عبرة، وأعظم آية، كيف كان في أول أمره نطفة، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن أصبح رجلاً سوياً؟! ثم ينظر إلى أن حواسه كاملة، وحاجاته كاملة؛ فإن ذلك بلا شك مما يلفت نظره، ويوضح له أمره أنه مخلوق وأن له خالقاً؛ قال تعالى: ((أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون)) (الطور:35) .
وأما الاستدلال بأنه سبحانه وتعالى من أسمائه المؤمن الذي يصدق عباده، فهذا التصديق في يوم القيامة؛ أما في الدنيا فيصدق عباده المرسلين بما يقيم على أيديهم من الآيات والمعجزات، ويصدق عباده المؤمنين في الآخرة بأن يثيبهم، ويظهر بذلك صدقهم ونصحهم لأممهم.
تسمية المخلوق بصفة الخالق
وسئل حفظه الله:
* إذا اتفق اسم أو صفة للخالق مع المخلوق فهل يعني ذلك أنها متفقة في المسمى، ومختلفة في المعنى والمدلول؟
فأجاب:
إذا اتفقا فقد اتفقا في الاسم، واتفقا في المعنى العام، واختلفا في الكيفية، فالمدلول واحد.. فإذا قلنا مثلاً: إن الله يسمع، وأن المخلوق يسمع، فالسمع هو إدراك الأصوات، هذا متفق فيه، وإذا قلنا: إن الله تعالى له سمع، وللمخلوق سمع، فمعلوم أن سمع الله ليس كسمع المخلوق، بل بينهما تفاوت، فهي متفقة في الاسم، ومتفقة في المعنى العام، وأما الكيفية والصفة فبينهما تفاوت.
لفظ التشبيه لفظ مجمل
وسئل الشيخ:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية" (انظر شرح العقيدة الطحاوية) : "ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح".. نرجو توضيح هذه العبارة؟
فأجاب:
كلمة التشبيه: أهل السنة يريدون بها المعنى الصحيح، والمعتزلة يريدون بها نفي الصفات.(64/8)
فأهل السنة يريدون بكلمة: "ليس لله شبيه" أي نحن ندفع عن الله التشبيه، صحيح أن قصدهم أن يقولوا: إن الله لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا تشبهه المخلوقات، وهذا معنى صحيح.
ولكن تارة يراد به المعنى الباطل، وهو نفي الصفات! فإن المعتزلة يقولون: ليس لله سمع، ومن أثبته فهو مشبه، وليس لله علم، ومن أثبته فهو مشبه، فإثبات السمع عندهم تشبيه، وإثبات القدرة عندهم تشبيه، وإثبات الحياة عندهم تشبيه، وإثبات الكلام عندهم تشبيه، فصار لفظ التشبيه لفظاً مجملاً. تارة يراد به المعنى الصحيح، وتارة يراد به المعنى الباطل.
(6) احترام كلام الله وأسمائه وصفاته
حكم الأكل على ورق الجرائد
وسئل فضيلته:
* ما حكم استعمال أوراق الجرائد "كفرش" لموائد الطعام؟
فأجاب:
هذه الصحف والأوراق غالباً لا تخلو من أسماء الله تعالى، أو بعض آيات القرآن أو الأحاديث الشريفة، فلا تجوز الاستهانة بها، ولا الجلوس عليها، أو جعلها خواناً لموائد الطعام؛ بل تحرق وتتلف بعد الانتهاء من قراءتها.
حكم سماع القرآن ونحن في أماكن الخلاء
وسئل فضيلته:
* استمع في أغلب أوقاتي وأنا في المنزل إلى برنامج "القرآن الكريم" في المذياع، فيصادف أحياناً أن أدخل بيت الخلاء ويكون المذياع مشتغلاً، فما حكم سماع التلاوة وغيرها وإنا داخل بيت الخلاء؟
فأجاب:
لا مانع أن تسمع تلاوة القرآن الكريم إن كنت في بيت الخلاء، وذلك لأن السماع ليس مثل الإدخال، والممنوع هو إدخالها مكتوبة في المراحيض، وأماكن التخلي، وأما سماعها وأنت داخل بيت الخلاء فلا مانع.
هل يجوز إدخال ما فيه اسم الله إلى بيت الخلاء؟
وسئل فضيلته:
* هل يجوز دخول بيت الخلاء ومعي ورقة مكتوب عليها كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"؟ علماً بأن الورقة مهمة جداً ولا يمكن تركها خارج بيت الخلاء؟
فأجاب:(64/9)
ورد ما يدل على النهي عن دخول الأماكن القذرة بشيء فيه ذكر الله، ولكن قد تعم البلوى، وقد يضطر الإنسان إلى استصحاب شيء من ذلك، فحينئذ قد يُرفع عنه إذا كان خفيّاً، مختبئاً غير واضح.
وضربوا مثلاً بالخاتم إذا كان فيه اسم الله، كعبد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك، فإن استطاع أن يخلعه ولا يدخل به فهو أولى، وإن لم يستطع؛ جعل فصه في داخل كفه وقبض عليه حتى يكون خفياً فذلك مما يُستأنس به.
لذا فعليك أن تخبئ الورقة التي فيها كلمة الشهادة، أو اسم من أسماء الله في جيبك، فإن ذلك أخف، فإن تيسّر إخراجها وعدم الدخول بها فهو أولى.
احترام أسماء الله وصفاته
وسئل حفظه الله:
* ما حكم وضع الأوراق التي فيها أسماء الله أو صفة من صفاته في سلة المهملات أو في برميل الزبالة؟ علماً بأن أكثر من وقع في هذا العاملين في الإدارات والمؤسسات الحكومية (المكاتب) ؟
فأجاب:
يجب احترام أسماء الله تعالى وصفاته، ومن احترامها رفعها عن الامتهان إذا وجدت في الصحف والأوراق العادية والمعاملات، فلا يجوز إلقاؤها على الأرض تحت الأحذية، ولا إلقاؤها مع الزبالات في سلة المهملات، حيث إنها تلقى في القمامات ويستهان بها؛ بل يلزم إتلافها وإحراقها، وعلى الكُتّاب أن يحضروا عندهم آلات الإتلاف التي تمزقها قطعاً صغيرة، كما هو معتاد، والله أعلم.
(7) الشرك وما يتعلق به
ليس للكواكب طبائع تلائمها
وسئل فضيلته:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب، واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها.. ما المقصود: "بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها"؟
فأجاب:(64/10)
يقولون أن هناك من يعبد الكواكب، والذي يعبدونها يبنون لها الهياكل، والهيكل هو الصورة التي يظنونها على صورة نجم، أو نوء من الأنواء، ثم ينظرون إلى حركة ذلك النجم، فيسندون إليه بعض التأثير، فيقولون: إن من طبيعة هذا النجم الحرارة، أو من طبيعته البرودة، أو من طبيعته الرطوبة، أو من طبيعته الجفاف واليبس، أو ما أشبه ذلك…
فإذا مطروا مطراً قالوا: هذا صدق نجم أو نوء كذا وكذا! فيجعلون المطر من طبيعته!
وإذا أصابتهم رياح قالوا: أثارها النجم الفلاني، أو النوء الفلاني!
وإذا ثارت سحب نسبوها إلى الأنواء.
فالطبائع هي إما شدة البرد، أو شدة الحر، أو الجفاف، أو اليبس، أو قلة الأمطار، أو كثرة الأمطار، أو هبوب الرياح، أو إثارة السحب، أو ما أشبه ذلك، يزعمون أنها هي التي تثيرها، ونسوا أن الله تعالى هو الذي يتصرف في الكون، وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وهو الذي سخرها، كما في قوله تعالى: ((وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره)) (النحل:12) .
فإذا كانت كلها مسخرات؛ فكيف يكون لها تأثير؟! وكيف يكون لها طبائع تلاءمها؟
(8) الرقى والتمائم
الاضطرابات النفسية لا تعالج بالتمائم
وسئل وفقه الله:
* هل يجوز لي أن أعلق تميمة، حيث إنني أعاني من اضطرابات نفسية؟
فأجاب:
لا يجوز تعليق التمائم، لورود النهي عن ذلك وتجوز الرقية بالقرآن، والأدعية، والأوردة المأثورة وكثرة الذكر، والأعمال الصالحة، والاستعاذة من الشيطان، والبعد عن المعاصي وأهلها، فكل ذلك يجلب الراحة والطمأنينة والحياة السعيدة.
حديث السبعين المشهور
وسئل فضيلته:(64/11)
* قرأنا في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب في حديث السبعين إنهم (لا يرقون) ، وقرأنا في زاد المعاد لابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى بعض أصحابه، وقال في ذلك بعض الأدعية؛ فهل فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم نَسْخٌ لما ورد في الحديث، أم أنها من الأفعال الخَاصة به؟
فأجاب:
أنا قرأت كتاب التوحيد، ولم أجد فيه هذه الكلمة وهي كلمة "لا يرقون"، وهذا السائل إذا كان قد وجدها فيمكن أنها بنسخة غير معتمدة، والرواية التي قرأناها في كتاب التوحيد فيها: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون". فإذا كان في بعض النسخ، "لا يرقون" فيمكن أنها أخذت من رواية ضعيفة، وذلك لأن الحديث موجود في الصحيحين في بعض رواياته: "لا يرقون ولا يسترقون".
ولكن صحح العلماء أن كلمة: "لا يرقون" خطأ من بعض الرواة، وأن الصواب: "لا يسترقون".
فكونك ترقي غيرك وتنفعه مما تثاب عليه، ولا ضرر عليك في ذلك، فقد نفعت غيرك كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
وأما كونك تطلب غيرك فإن ذلك دليل على ضعف التوحيد،/ ودليل على أنك ما وثقت بالتوكل على الله. فالراقي يجوز أن يرقي غيره، ولكن يكره له أن يطلب من يرقيه.
على الجنب المبادرة بالاغتسال
أما الحائض والنفساء فلا بأس
وسئل وفقه الله:
* ما حكم الشرب أو الاستحمام بالماء المقرئ عليه بالقرآن؟ وما حكم الرقية الشرعية على المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء، وعلى الرجل إذا كان جنباً؟
فأجاب:
على الجنب أن يبادر بالاغتسال قبل استعمال القراءة ليكون أقرب إلى التأثير، ولو كان ذلك شرباً للماء المقروء فيه، أو غسلاً به.
فأمّا الحائض والنفساء فلها استعمال الماء المقروء فيه زمن العادة، حيث إنها قد تتضرر بتأخير الاستعمال.
الأكمل للمريض أن يكون طاهراً(64/12)
وسئل حفظه الله:
* هل تجوز القراءة والرقية الشرعية على المرأة المريضة بالمس والعين وغيره، وهي حائض، وعلى الرجل المريض وهو جنب؟
فأجاب:
يشترط لقارئ القرآن الطهارة من الحدث الأكبر، الذي يوجب الغسل، كالجنابة والحيض، وأما المريض فالأكمل أن يكون طاهراً أيضاً، لكن إذا مرضت الحائض وتضررت جازت القراءة عليها زمن الحيض للحاجة، سواء كان المرض بالمس أو السحر أو العين.
(9) الاضطرابات النفسية والخواطر الشيطانية والطب الشعبي والرؤى والأحلام
وساوس الشيطان في الأمور الغيبية
وسئل فضيلة الشيخ:
* في بعض الأحيان يأتي الشيطان للإنسان، ويوسوس في نفسه في ذات الله، وفي آياته الكونية، فما الذي ينبغي على الإنسان فعله حيال ذلك؟
فأجاب:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا: ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: "جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به!، قال: وقد وجدتموه؟! قالوا: نعم! قال: ذاك صريح الإيمان".
وفيه أيضاً عن عبد الله بن مسعود قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: تلك محض الإيمان".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟! فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله".
وعنه أيضاً؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟! فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته".
وعنه أيضاً؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الخلق؟ فإذا أحس أحدكم بشيء من ذلك، فليقل: آمنت بالله ورُسُلِهِ".(64/13)
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء، لأن يكون حممةً أحبَّ إليه من أن يتكلم به، فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".
ففي هذه الأحاديث وغيرها بيان أن هذه الأفكار التي قد تطرأ على الإنسان في الأمور الغيبية، أنها وسوسة من الشيطان ليوقعه في الشك والحيرة والعياذ بالله.
ثم إن الإنسان إذا وقع في مثل ذلك فعليه أمور؛ كما أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك:
1- الاستعاذة بالله.
2- الانتهاء عن ذلك، والانتهاء معناه قطع هذه الوسوسة.
3- أن يقول: آمنت بالله وفي رواية: آمنت بالله ورسله.
فإذا خطرت لك وسوسة في ذات الله، أو في قدم العالم، أو في عدم نهايته، أو في أمور البعث، واستحالة ذلك، أو في بيان الثواب والعقاب أو ما أشبه ذلك.. فعليك أن تؤمن أإيماناً مجملاً، فالنصوص تقول: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، وعلى مراد الله.. آمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله. وعلى مراد رسول الله، وما علمت منه أقول به، وما جهلت أتوقف فيه وأكل علمه إلى الله.
ولا شك أن هذه الوساوس متى تمادى فيها العبد جرّت إلى الحيرة، أو إلى الشك، وهذا مقصد الشيطان.
أما الذي يتمادى مع هذه الوسوسة يقع في الشك، ثم في الحيرة، ثم يتخلى في النهاية عن أمور العبادة، وأما إذا قطعها منذ المرة الأولى، فإنها تنقطع إن شاء الله.. مع كثرة الاستعاذة من الشيطان، وكثرة دحر الشيطان، لأن هذا من كيْده ليوسوس به الإنسان حتى يشككه في إيمانه ودينه.
تفكروا في المخلوق ولا تفكروا في الخالق
وسئل حفظه الله تعالى:
* هل الأحلام والوساوس الشيطانية -في ذات الله ونحو ذلك- التي تأتي للإنسان في النوم أو الصلاة ونحوها تؤثر في الإيمان؟ أم هو دليل على قوة الإيمان؟
فأجاب:(64/14)
لا شك أن الأحلام تكثر وتقع في النوم في غالب الأحوال، ولكن لا ينبغي الاهتمام بها، فقد ورد في الحديث: "الرؤيا على رِجْلِ طائر حتى تُعْبَر فإذا عُبِرَتْ وقعت". وورد أيضاً: "فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وشر الشيطان، وليتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره".
فإذا كانت أحلاماً غريبة، فهي من الأضغاث، ففي الحديث: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان".
ولا يجعلها المسلم أكبر ما يهمه، بل عليه أن يتغافل عنها ويحدث نفسه بما يهمه من أمر دينه أو دنياه، ويعلم أن الله تعالى قد عفى عن التخيلات وحديث النفس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم".
وقد وقعت الأوهام لكثير من الصحابة، حتى قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يَخِرَّ من السماء أحبُّ إليه من أن يتكلم به". وفي رواية: "قالوا إنَّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: "وقد وجدتموه؟! ". قالوا: نعم! قال: "ذاك صريح الإيمان". وفي رواية: أنه سئل عن الوسوسة، قال: "تلك محض الإيمان". ونحو ذلك من الأحاديث، التي في صحيح مسلم وغيره.
وحيث إنها لا تضر الإيمان، فإن على المؤمن أن يجعل فكره وحديثه فيما بين يديه، فقد ورد في الأثر: تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق. وعلى المسلم أن يكثر من الدعاء بالصلاح والثبات والاستقامة، وأن يكثر من ذكر الله وعبادته وتلاوة كتابه، ويبتعد عن الآثام والسيئات التي يتسلَّط بها الشيطان على المسلم، والله أعلم.
علاج الخواطر الشيطانية
وسئل فضيلته:
* ترد على خاطري أحياناً هواجس وخواطر، أخاف أن تخرجني عن ديني، فماذا أفعل تجاهها؟ وهل علي إثم في ذلك؟
فأجاب:(64/15)
هذه الخواطر والأفكار من الشيطان فهو الذي يوسوس في صدور الناس، ليوقع المسلم في الحيرة، فإذا أحسست بشيء من ذلك فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، من نفثه وهمزه ولمزه، وعليك بالانتهاء عن التفكير في الأمور الغيبية، وأمور الصفات والكون، حتى لا يضعف اليقين.
رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام
وسئل فضيلته:
* يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي". فهل تتحقق رؤية أحد من الأنبياء غير الرسول صلى الله عليه وسلم؟
فأجاب:
فيما يظهر لي أن هذا الحديث خاص بالصحابة الذين رأوا شخصه، وعرفوه ورأوا وجهه، وعاشروه وعرفوه، فإذا رأوه في المنام عرفوه، وقالوا: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما من بعدهم الذين لم يروه، فإن الشيطان قد يتمثل بصورة إنسان، أي إنسان، ويقول: أنا محمد فما يدريك أن هذا محمد! صلى الله عليه وسلم؟
فهل رأيته حتى تحكم أن هذه هي صورته وشخصه؟ فما دامت أنك لم تره فليس هناك يقين بأن هذا محمد صلى الله عليه وسلم.
وبهذا تبطل كثير من المرائي التي يحتج بها الخرافيون. يقول أحدهم: رأيت الرسول في المنام، فإذا هو يقول لي: زر القبر الفلاني، وافعل كذا، وكذا فيتمسك هؤلاء بتلك الرؤيا، ويقولون: الرسول لا يتمثل به شيطان!
نقول: ومن أدراكم أن هذا غير شيطان؟ قد تكون هذه صورة شخص عادي يتمثل به الشيطان ويتسمى بأنه محمد، وليس هو.
أما الأنبياء السابقون قبله، فلا أذكر فيهم شيئاً من هذا، ولكن يقرب أنهم مثل النبي صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان لا يتمثل بصورهم.
أما إذا كان أحد أصحابهم يعرفون شخص ذلك النبي، بأن هذا هو عيسى، وأن هذا هو أيوب، رؤية عين في اليقظة، ثم رأوا في المنام من يشبههم، مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأوه في الحياة، فنعم أي قد رآه حقاً.
لم يجد الطب معي..
فهل يعالجني الشيخ؟(64/16)
وسئل فضيلته:
* توجد امرأة أصيبت بمرض لا تعلم ما هو، ولم يجد الطب لها علاجاً، فأتت بشيخ يقرأ عليها، فلما رآها قال: إن الخادمة التي في المنزل وضعت لها إبرة في الفراش، وطلب هذا الشيخ الدخول إلى الغرفة، وتبخيرها وبإذن الله تشفى. فهل قوله هذا صحيح؟ وكيف علم بهذا؟ وهل له اتصال بالعالم الآخر؟ وهل تأذن له بالدخول إلى الغرفة؟
فأجاب:
هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لكن ينظر في حال هذا الشيخ، فإذا كانت أحواله مستقيمة، يعني محافظاً على العبادات، ومن حملة كتاب الله، ومن العاملين به، ومن أهل العلم الصحيح، وأهل العقيدة السلفية السليمة، فقد يكون من باب خوارق العادات، أو من المكاشفات، أو يمكن أنه رأى لذلك علامات، فلا مانع والحال هذه من تمكينه مما طلب.
أما إذا كان قليل العبادة، ومتهماً في ديانته، أو في عقيدته، أو مبتدعاً، أو من أهل المعاصي، أو منحرفاً أو ما أشبه ذلك، أو من أهل الشعوذة والكهانة والسحر، وتعاطي الأمور السحرية ونحوها.. فلا يجوز والحال هذه.. لا سؤاله، ولا تمكينه.
ولا مانع من فعل العلاجات ومن جملتها التبخير، فإن التبخير بالبخور العادي قد يكون له تأثير، إما تأثيراً في الجن ومردة الشياطين ونحوهم، وإما تأثيراً في الجو، فيحدث بإذن الله شيئاً من الصحوة ومن النشاط.
موقف الإسلام من الأطباء الشعبيين
وسئل فضيلته:
*ما موقف الإسلام من الأطباء الشعبيين؟
فأجاب:(64/17)
ورد في الحديث: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء عَلِمَه من عَلِمَه، وجهله من جهله". فهؤلاء الأطباء الشعبيون قد عملوا بالتجربة على هذه الأدوية، ورجعوا فيها إلى كتب الطب التي جمعها علماء عارفون بذلك، وهذا فن من فنون العلم الكثيرة، قد تخصص فيه أقوام من عهد النبوة، وقبلها وبعدها، وعرفوا تراكيب الأدوية وخواص كل دواء، وكيفية استعماله، مع اعتقادهم أنها أسباب للشفاء، وأن الله تعالى هو مسبب الأسباب، فعلى هذا لا بأس بتعلم ذلك والعلاج به، وعلى السائل أن يقرأ كتاب: (الطب النبوي) لابن القيم، وللذهبي، و (الآداب الشرعية) لابن مفلح، وكتاب (تسهيل المنافع) ، وغيرها.
العلاج هو: ذكر الله والصبر وغيره
وسئل فضيلته:
* عن رجل أصيب بداء، فذهب إلى الأطباء ولم يستفد شيئاً، ثم ذهب إلى المشايخ والقراء فإذا قرأوا عليه هدأت نفسه، وبعد فترة تعود حالته إلى ما كانت عليه، ثم هو يقول: ما العلاج في ذلك؟
فأجاب:
العلاج يكون بأمور:
أولاً: الطمأنينة إلى الخير، ومحبته.
ثانياً: الصبر على ما تلاقيه نفسك من القلق، واحتساب أن هذا من المصائب التي يبتلي الله بها العباد، ويختبرهم، هل يصبر العبد أم لا؟ فإذا صبر فإن الله تعالى يثبته، قال تعالى: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)) (الزمر:10) . هذا من حيث العموم.
أما من حيث الخصوص: فنوصيه بأمور:
أولاً: كثرة الأعمال الخيرة والصالحة، كالصلوات والعبادات والأذكار وقراءة القرآن ونحوها.
ثانياً: ونوصيه أيضاً بحضور مجالس الذكر، ومجالس العلم، فإن فيها ما يطمأن نفسه، وبها يشغل نفسه عن تلك الأفكار.
ثالثاً: ثم نوصيه بأن يشغل نفسه بأي شيء مفيد، فمثلاً يشتري الأشرطة والكتب المفيدة والتي فيها المواعظ والإرشادات والعلم النافع والأحكام والقصص والعبر، التي يشغل بها وقته، وتطمئن بها نفسه.(64/18)
فإذا اشتغل بذلك كله، ووطن نفسه على ذلك، وَأكْثَرَ من ذكر الله، ومن قراءة القرآن، وعلاج نفسه بالأدعية الواردة في الكتاب والسنة، بعد ذلك نرجو من الله أن يخفف عنه ما يجده.
الوساوس الشيطانية
وسئل أثابه الله:
* ما الأسباب والوسائل التي تعصم الإنسان وتحصنه من الوساوس والأوهام الشيطانية، وتجعله سليماً مستقيماً في عقيدته وسلوكه؟
فأجاب:
عليه أولاً: أن يكثر من الاستعاذة بالله من شر الشياطين وأوهامها ووساوسها، ويعتقد أن ربه هو الذي يعيذه ويعصمه ويحميه، وَيَحُولُ بينه وبين تلك الأوهام والتخيلات.
كما أن عليه ثانياً: أن يذهب من نفسه تلك التخيلات والواردات، التي تشككه في عقيدته ودينه وطهارته وصلاته سواء في صحتها أو في أصلها، بل يعتقد جازماً أنها عين الصواب والحق، وأن ما يجول في نفسه من الشك والريب في صحتها أو موافقتها كله من أوهام الشيطان، ليوقعه في الحيرة وليكلفه ما لا يطيق، حتى يملَّ العبادة أو يعتقد بطلانها، وهذا ما يريده إبليس من المسلمين، والله أعلم.
كيفية النفث
عند التعرض لوساوس الشيطان في الصلاة
وسئل حفظه الله تعالى:
* شكا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تَعَرّض الشيطان وإشغاله لهم في الصلاة، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منه، والنفث ثلاثاً، نرجو بيان كيفية النفث عند التعرض لمثل هذا الموقف في الصلاة ولو تكرر ذلك كثيراً؟
فأجاب:
أولاً: على الإنسان أن يستعيذ من الشيطان عند ابتداء الصلاة والقراءة.
ثانياً: عليه أن يحرص على إحضار قلبه لما يقوله في صلاته، فإذا قرأ تأمل ما يقرأ، وإذا دعا تأمل ما يدعو به، وإذا ذكر الله تأمل معاني الأذكار التي يدعو بها، حتى ينشغل بتأمل ذلك عن وساوس الشيطان.
ثالثاً: إذا ابتلي ووقعت منه هذه الوسوسة، فإن عليه أن يجدد الاستعاذة ولو بقلبه، وينفث عن يساره ثلاثاً.(64/19)
والنفث هو: النفخ مع قليل من الريق، أي: نفخ مختلط بشيء أو قليل من الريق، هذا هو النفث، وهو الذي يستعمل في القراءة على المريض، بأن ينفث عليه، لعل ذلك يكون مانعاً من الشيطان.
الوساوس الشيطانية في الصلاة
وسئل حفظه الله:
* عن الوساوس الشيطانية في الصلاة والتفكير في أمور الدنيا، حتى إن بعضهم يَشْرُد ذهنه في الصلاة فما يدري ما يقول الإمام، فما علاج مثل هذا الأمر؟ وهل ينقص هذا من أجر الصلاة؟
فأجاب:
لا شك أن هذه الوساوس وأحاديث النفس من الشيطان، لينقص على المسلم صلاته، ولكنها شيء غالب على أكثر الناس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني". ولأجلها شرع سجود السهو؛ فإن سببه: أن المصلي يشرد ذهنه، فلا يدري ما صلى، فيزيد أو ينقص.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان يأتي المصلي فيقول: له اذكر كذا واذكر كذا، -لما لم يكن يذكر من قبل- حتى يَظَّل الرجل، ما يدري كم صلى.. الخ. وقال عمر رضي الله عنه: "إني لأجهر بصوتي وأنا في الصلاة"، وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص لأبيه في قوله: ((الذين هم عن صلاتهم ساهون)) (الماعون:5) : أيُّنا لا يسهو؟ أيُّنا لا يحدث نفسه؟ فأخبره أن السهو عنها تأخيرها عن وقتها.
ولكن على المسلم أن يحرص على الإقبال على صلاته.
* فإن كان في قراءتها؛ تدبرها وتأمل معانيها، حتى لا يتحدث بغيرها.
* وإن كان في دعاء أو ذكر؛ تعقله واستحضر ما يدل عليه.
* وإن كان في ركن كقيام وركوع وسجود؛ تفكر في سببه وحكمة مشروعيته، واحضر قلبه فيه، وبذلك ينشغل بصلاته ويقبل عليها بكليته.
ثم إن غلبه حديث النفس، فليحذر من الحديث بأمر الدنيا وشهواتها وأعمالها، والله يعفو ويغفر ما شذ عن ذلك، والله أعلم.
(10) ادعاء علم الغيب
من ادعى علم الغيب فهو كاهن أو ساحر أو طاغوت
وسئل فضيلته:(64/20)
* ما حكم من ادعى الغيب؟ وما هي أنواع الغيب التي يتشوق الإنسان إلى معرفتها؟
فأجاب:
من ادعى علم الغيب فهو كاهن أو ساحر أو طاغوت، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله، لقوله تعالى: ((وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)) (الأنعام:59) .
والمراد بالغيب: علم ما يكون في الأزمنة القادمة، وعلم الآجال والأعمار، ونحو ذلك.
(11) السحر والكهانة والتنجيم
حقيقة السحر
وسئل عفا الله عنه:
* هل للسحر حقيقة؟
فأجاب:
نعم! له حقيقة، وحقيقته أن السحرة يعبدون الشياطين، ويطيعونهم، وهم يساعدونهم على ما يريدون، والله تعالى قد أعطى الشياطين من القدرة ما يزاولون به أعمالاً غريبة.
السحر عمل شيطاني والساحر مشرك كافر
وسئل حفظه الله:
* عن امرأة ساحرة تعمل السحر، وقد تضرر منها أناس كثير، فما الواجب نحو هذه المرأة الساحرة؟ وعن كيفية التخلص من هذا السحر؟
فأجاب:
فإن السحر هو عمل شيطاني، حيث يتقرب الساحر إلى الجن بالذبح لهم، أو دعائهم من دون الله، أو ترك الصلاة، أو أكل النجاسات ونحو ذلك، حتى تخدمه الشياطين ومردة الجن، فيلابسون من يريده، ويقتلون ويعوقون ويعقدون الرجل عن امرأته، ويصرفون أحدهما عن الآخر ونحو ذلك.
وعلى هذا فالساحر مشرك كافر، لأجل تقربه إلى غير الله بهذه الأعمال الكفرية، فلذلك ورد الأمر بقتله، وثبت ذلك عن عمر بن الخطاب، وبنته حفصة، وجندب رضي الله عنهم.
وعلى ما ذكرنا فلا يجوز ترك هذه المرأة التي اشتهرت بعمل السحر، فإن كان لديكم بينات وقرائن، فارفعوا أمرها وبما حصل منها من الأضرار، حتى تقتل ويستريح الناس من شرّها، وعلى رب الأسرة السعي في إزالة ضرر هذه المرأة، ولو كانت والدته؛ حيث إن هذا العمل كفر بالله، وضرر على عباد الله، ومتى قتلت انزجر غيرها، وامتنعوا عن مثل هذا العمل الشيطاني.(64/21)
فإن امتنعوا كلهم من تغيير الحال، ورضوا عن هذه العجوز، وتركوها على هذا الأمر، فإنك أنت مسؤول عن ما تعرف عنها، فاحرص على إثبات الوقائع التي حَصَلَتْ منها، وأثبت ما تقدر عليه من القرائن والبيّنات، وما يعرفه عنها الجيران والأهلون، ومتى حَصَلْت على المعلومات الكافية فارفعها إلى المحكمة الشرعية، ليجرى فيها حكم الله تعالى، وهو العمل بحديث: "حد الساحر ضربة بالسيف".
ولا يحق لك أن تقيم على هذه الحال التي تعاني فيها من هذه الأضرار، وبعد ذلك نوصيك:
أولاً: بالتحصن بكثرة ذكر الله وقراءة القرآن، واستعمال الأوراد في الصباح والمساء، وذلك مما يحفظك الله من الجن والسحرة.
ثم نوصيك ثانياً: بعلاج ما أصابك بالرقية الشرعية، عند القراء المعروفين، باستعمال كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والأدوية الشرعية، وهم كثيرون في البلاد، وقد نفع الله بهم من أراد الله به خيراً، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(12) الحسد والعين والتكبر
إنَّ الله جميل يحب الجمال
وسئل فضيلة الشيخ:
* عن امرأة تحب أن تكون متميزة عن غيرها في لباسها، ولا تريد أحداً مثلها؛ بل ولا تريد أحداً أفضل منها، ولكنها لا تتمنى زوال نعمة أحد من الناس، فهل هذا حسد أم كبر؟ علماً بأنها تكره هاتين الصفتين، الحسد والكبر؟
فأجاب:
لا ندري ماذا يقوم بقلب هذه المرأة مما يجعلها على هذه الصفات…
* فإن كان ذلك حسداً فهو محرم.
* وإن كان تكبراً أو استنكافاً عن مشاركة الغير في ذلك الوصف؛ فهو محرم أيضاً، ولكن الكبر المذموم هو بطر الحق وغمط الناس، أي: احتقارهم، وليس من الكبر من يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فإن الله جميل يحب الجمال.(64/22)
* وإن كان فعلها هذا حبّاً للتميز والشهرة، بسمة خاصة، فينظر إلى سبب ذلك، ويمكن أن يكون هذا من الأخلاق التي تتمكن من قلوب بعض الناس دون أن يكون لها دوافع ممنوعة، والله أعلم.
كيف تتقي العين؟
وسئل فضيلته:
* هل للمسلم أن يحتاط من العين، مع ثبوتها في السنة؟ وهل يخالف ذلك التوكل على الله؟
فأجاب:
ورد في الحديث: "إن العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا".
والعين، هي: عين الإنسان التي تصيب الأشياء فتتلفها، ولا تفسد إلا بإذن الله، وَبِقَدرِهِ.
أما كيفيتها: فالله أعلم بها؛ إلا أن بعض الناس تكون نفسه شريرة، وتنبعث منها عند تسممها مواد سامة ضارة، تصل إلى ذلك المعين، فتحدث فيه أحداثاً بإذن الله كأن يتألم ونحو ذلك.
ولك أن تحتاط، ولك أن تبذل الأسباب التي تقيك من شره، ومن هذه الأسباب:
الاستعاذة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان، وعين الإنسان. وكان جبريل عليه السلام يرقي النبي صلى الله عليه وسلم من العين فكان يقول: "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك".
فعلى الإنسان أن يأتي بهذه الأدعية، والأسباب التي تقيه، مع معالجة ذلك إذا وقع، فإنه إذا اتهم إنسان بأنه أصابه بالعين، فيطلب منه أن يغسل له ثوبه أو نحو ذلك، لقوله في الحديث: "وإذا استغسلتم فاغسلوا".
الكافر كغيره يصيب بالعين
وسئل حفظه الله:
* هل صحيح أن الكافر لا يصيب المسلم بالعين -أي بالحسد-؟ وما هو الدليل؟
فأجاب:
ليس بصحيح؛ بل الكافر كغيره قد يصيب بالعين.
(13) الاستعانة والاستغاثة والاستعاذة والتوسل والشفاعة
الاستغاثة بغير الله
وسئل حفظه الله:(64/23)
* عن إنسان يستغيث بغير الله، إما بالشيوخ، أو بالأولياء، أو بالأنبياء. علماً بأنه مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلي، ويصوم، هل تنقص هذه الاستغاثة التوحيد؟ أم توقعه في الشرك الأكبر؟
فأجاب:
الاستغاثة بغير الله معلوم أنها من الشرك الأكبر، وذلك أن الاستغاثة دعاء يكون من الإنسان إذا وقع في كرب وفي شدّة. فهذا يسمى استغاثة. والكفار في الجاهلية كان أحدهم عندما يصيبه الكرب في البحر لجأ إلى الله، فيستغيث بربه ويطلب منه أن ينقذه مما هو فيه من الكرب، قال تعالى: ((وإذا مسّكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه)) (الإسراء:67) .
أما الذي يذكر غير الله، ويستغيث بغير الله، في حالة الشدائد، أكبر شركاً من المشركين الأولين الذين نزل فيهم القرآن، والذين كفّرهم الله تعالى، وقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلينا أن نسأل هذا المستغيث:
هل هو مثلاً يقول: يا ولي الله أغثني! فأنا في حسبك! ولا حول لي إلا أنت! ولا أحد ينجيني إلا أنت! أنا معتمد عليك، يا ولي الله خذ بيدي! نجني مما أنا فيه؟!! وإذا كان مثلاً في البحر، وتلاطمت به الأمواج، أخذ يقول مثلاً كقول الرافضة: يا علي! أو يا حسين! نجني من الكرب! أو ما أشبه ذلك؟!! أو يقول: يا عبد القادر الجيلاني! أو يا بدوي!
أو ما أشبه ذلك…
فإن هذا شرك أكبر!! فهذا معنى الاستغاثة: أن يشهد أن لا إله إلا الله، ويصلي، ويصوم، ولكنه يحلف ويستغيث بغير الله تعالى، فهذا شرك أكبر، ولا ينفعه هذا التوحيد مع هذه الاستغاثة، وهو على خطر عظيم.
(14) القبور وما يتعلق بها
تحريم زيارة النساء للقبور
وسئُل فضيلة الشيخ:
* ما السبب أو العلة في تحريم زيارة النساء للقبور؟
فأجاب:(64/24)
أولاً: ورد النهي الشديد عن زيارة النساء للقبور، بقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوَّارات القبور". وقوله لفاطمة -لما زارت أناساً للتعزية-: "لو بلغت معهم الكداء -يعني أدنى المقابر- ما رأيت الجنة".
ثانياً: ورد تعليل ذلك، بقوله صلى الله عليه وسلم -للنساء اللاتي تبعن الجنازة-: "فارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت". فعلَّل نهيهن بعلتين:
الأولى: كونهن فتنة للأحياء، فإن المرأة عورة، وخروجها وبروزها للرجال الأجانب يوقع في الفتنة، ويجر إلى الجرائم.
الثاني: كونهن يؤذين الميت، فإن المرأة قليلة الصبر ضعيفة القلب، لا تتحمل المصائب، وذلك محرم شرعاً.
هل يرش الماء على قبر الميت وجيرانه؟
وسئل فضيلته:
* يقوم بعض الناس بعد الفراغ من دفن الميت برش الماء على القبور المجاورة، ويقولون: اسقوا جيرانه، أو نحو هذا الكلام، هل لهذا العمل أصل في الشرع، أو أنه بدعة؟
فأجاب:
ذلك لا أصل له؛ إنما يرش قبر الميت بعد أن يدفن، حتى ييبس ظاهر القبر الذي هو من تراب، فيجعل عليه الحصى ثم يرش بالماء حتى ييبس، وحتى لا تذروه الرياح، فإن الرياح قد تثير ذلك التراب، وتحمله عن القبر، ولربما يظهر بعض القبر، فلأجل ذلك يرش الماء.
أما الجيران الآخرون فقد تيبست قبورهم، وقد تصلبت فلماذا يسقى هؤلاء؟! إن هذا العمل لا أصل له في الشرع، وليس هذا من السقي كما يقولون!
لا إثم في زيارة المقابر يوم الجمعة
وسئل حفظه الله:
* يوم الجمعة يكون بالنسبة لنا إجازة، فلو خصصنا هذا اليوم أو بعض ساعات منه لزيارة المقابر، فهل يدخل هذا في البدع؟
فأجاب:(64/25)
لا يدخل؛ لأنه وردت بعض الأدلة في زيارة المقابر يوم الجمعة، وأن أهل المقابر يسمعون من يزورونهم يوم الجمعة، أو يوم السبت أو نحو ذلك، وما دام أنكم لم تقصدوا تخصيص هذا اليوم، وأن هذا هو وقت فراغكم، فلا إثم عليكم إن شاء الله، وقد ورد في تخصيصه وفضله بعض الأدلة، ولكنها لم تثبت.
هدم القبر المرتفع
وسئل حفظه الله:
* توفي أخي، فقام أحد أقاربنا ببناء قبر مرتفع عن سطح المدفون بها، و َكَتَبَ عليه آيات من القرآن، فهل يجوز مثل هذا البناء؟
فأجاب:
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر، وأن يجصص. وأن يكتب عليه. وأمر عليّاً رضي الله عنه بقوله: "لا تدعن قبراً مشرفاً إلا سوِّيته". أي جعلته كغيره، ولعل السبب أن ذلك مما يلفت الأنظار، ويسبب الفتنة بصاحب القبر، فيعتقد الجهلة أنه قبر ولي، أو سيد صالح، فيحملهم على التعلق به، واتخاذه مسجداً يصلى عنده، وقد ورد النهي عن ذلك، وإنما ورد رفع القبر عن الأرض بنحو شبر. ليُعرف أنه قبر، فلا يُجلس عليه، ولا يوطأ بالأقدام، أو نحو ذلك.
حكم البناء فوق المقابر القديمة
وسئل فضيلته:
* هناك مقبرة قديمة جدِّاً؛ والدليل على أقدميتها أن بعض قبورها موجهة إلى بيت المقدس، فهل يجوز بناء البيوت فوقها لكونها قديمة؟
فأجاب:
لا يجوز البناء على القبور ما دامت واضحة المعالم، ومتحقق أنها قبور، ولو كانت قديمة، وليس كونها موجهة إلى بيت المقدس دليلاً على قدمها، ولا يدل على أن أهلها غير مسلمين، ما دامت البلاد بلاداً إسلامية.
فعليك أن تحوِّط عليها حاطاً منيعاً، وتتصرف في بقية أرضك بالحرث والبناء ونحوه.
زيارة قبور المشركين وآثارهم
وسئل حفظه الله:
* هل يجوز للمسلم أن يزور مقابر الكفار، وآثارهم للتذكر؟ مثال ذلك: الأهرامات بمصر، حيث يوجد بها مقابر الفراعنة، وآثارهم؟
فأجاب:(64/26)
لا يجوز شد الرحال إليها، ولو كان ذلك للاعتبار والتذكر، ولكن إذا كان هناك في مصر، أي: أتاها من غير شد رحل، للاعتبار والنظر في آثار من قبلنا، وكيف أن قوتهم ما دفعت عنهم؟! وكيف أن ما فعلوه كان عاقبة لهم؟! وما بقي إلا آثارهم، وأخبارهم، ويأخذ من ذلك العبرة والموعظة، ويستعد للآخرة، ويعمل عملاً صالحاً، ويعرف أن العمل الصالح هو الذي يبقى، وهو سبب النجاة، فلا مانع من ذلك إن شاء الله، ولو كان فيها قبور المشركين، لأنه لم يقصد بزيارته تعظيم القبور، أو الطواف بها، والتمسح بها، كما يفعل بعض من يزور تلك القبور.
حول تمييز القبر وزيارته
وسئل:
* هل يجوز أن يزار قبر شخص بعينه، مع زيارة القبور الأخرى؟ وما حكم تعيين قبر بعلامة، أو بإشارة من أجل معرفة صاحب هذا القبر؟
فأجاب:
زيارة القبور مشروعة لسببين:
الأول: تذكر الآخرة.
الثاني: الدعاء للموتى.
وتجوز مثلاً كل أسبوع، أو كل أسبوعين، أو كل شهر، أو نحو ذلك، أو إذا أحس الإنسان بقسوة قلبه، فإنه يزورهم حتى يتعظ، وحتى يلين قلبه أو نحو ذلك.
ويجوز أن يخص الإنسان بزيارة قبر أبيه، أو قبر أخيه، أو قريبه، أو نسيبه، فيجوز له أن يزور قبراً معيناً، ثم يسلم على القبور جميعاً.
ويجوز أن يعلِّم القبر بعلامات يُعْرَفُ بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجراً، وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي".
فيجوز أن يجعل علامة كحجر، أو لبنة، أو خشبة، أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها هذا القبر عن غيره، حتى يزوره، ويعرفه.
أما أن يكتب عليه، فهذا لا يجوز؛ لأنه قد نُهي أن يكتب على القبور، حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعاً زائداً عن غيره.
أفضل الأوقات لزيارة المقابر
وسئل فضيلته:
* هل هناك وقت لزيارة المقابر، فقد سمعنا أن زيارتها في الليل سنة؟
فأجاب:(64/27)
ليس هناك وقت محدد لزيارة المقابر، إلا أن بعض العلماء يستحب زيارتها يوم الجمعة، وبعضهم يوم السبت. ولكن متى تيسر لك أن تزورها في أي وقت فافعل، ولا عليك أن تحدد وقتاً من الأوقات.
وزيارة القبر مشروعة لتذكر الآخرة، والدعاء للأموات، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور في أول الأمر، لما كان الصحابة حديثو عهد بالجاهلية مخافة الغلو، ولما اطمأنوا وعرفوا التوحيد، رخص لهم، وقال: "زوروا القبور فإنها تذكّر الموت".
فمتى أحس الإنسان في قلبه قسوة، فإن عليه أن يزورها ليعتبر ويتذكر، ويدعو للأموات متى تيسر له في صباح الجمعة، وهو الأفضل أو غيرها من الأوقات.
أما زيارتها في الليل، فلا أذكر دليلاً عليه، ولا أذكر أن أحداً استحبه، بل قد ورد كراهة الدفن ليلاً عند كثير من العلماء، والآخرون قالوا: "لا بأس بالدفن ليلاً إن شاء الله".
عذاب القبر
وسئل فضيلة الشيخ:
هل يعذب أهل الكبائر في القبر؟
فأجاب:
لا شك أن عذاب القبر -الذي هو البرزخ بين الدنيا والآخرة- قد أعد تمحيصاً، أو أُعد عاجلاً، يعني عذاباً معجلاً، فإذا مات الإنسان وهو مصر على كبائر وذنوب كثيرة، كترك الصلاة، أو ترك الجماعة، أو شرب الخمر، أو قتل النفس، أو ما أشبه ذلك.
فإن هذه من الذنوب الكبيرة، فلا يأمن أن يعذب.
وقد رويت أحاديث كثيرة فيها وعيد شديد لمن اقترف ذنباً من تلك الذنوب، وعيد في البرزخ، ووعيد في الآخرة.
وبكل حال فإن عذاب القبر يناله العصاة المصرون على الكبائر، كما يناله الكفار والمنافقون ونحوهم.
وما روي في بعض الأحاديث من أنه للمنافق، والكافر، وللمرتاب، ونحو ذلك. فهذا هو العذاب الغليظ، والعذاب المستمر لهؤلاء، ويكون للذين ماتوا وهم مصرون على الكبائر، ويلزمون بقدرها، كما أنهم يدخلون النار بقدر سيئاتهم وكبائرهم حتى تمحص، ثم يخرجون من النار بعد ما تمحص.(64/28)
فكذلك يكون هذا العذاب في البرزخ تمحيصاً وتكفيراً لما اقترفوه من سيئات.
(15) رسالة الجواب الفائق في الرد على مبدل الحقائق
رسالة الجواب الفائق في الرد على مبدِّل الحقائق
المقدمة
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فلقد قرأت النصيحة الصادرة من أحد علماء مصر، والتي بعث بها المرسل المسترشد محمود عبد الله راشد، من الجمهورية العربية المصرية، إلى مفتي مكة المكرمة، وبعد أن قرأت فيها عنوانها تفاءلت به، ولكن اتضح أنه قد أخطأ الحق في بعض المواضيع فيما يتعلق بالصفات، وفيما يتعلق بالأعمال، فأحببت أن أعلق عليها ببعض التنبيهات على ما ظهر لي أنه خطأ، وأوضِّح الصواب في ذلك حسب ما وصل إليه علمي، وأستشهد على ذلك ببعض أقوال العلماء الصالحين المخلصين، وأقدم ما يتعلق بالصفات، مرتباً ذلك حسب أسطر الصفحات.
في صفات الله
أولاً: طريقة السلف إثبات الصفات حسب ورودها:
في السطر الحادي عشر من الصفحة الأولى قال في إثبات بعض الصفات:
[يسمع بغير أصمخة وآذان، ويرى بغير حدقة وأجفان، ويتكلم بغير شفة ولسان.. الخ] .
فأقول:
إن طريقة سلف الأمة إثبات الصفات حسب ورودها، واعتقادها صفات حقيقية لها معان مفهومة، ونفي التشبيه عنها، وإبعاد كل ما يتوهم فيه التشبيه وما هو من خصائص المخلوقين، مع الاقتصار في النفي والإثبات على ما وردت به النصوص، فنحن نثبت صفة السمع والبصر والكلام، مع إثبات الحقيقة ونفي التشبيه، فأما ذكر الأصمخة والآذان، والأحداق والأجفان، والشفة واللسان، فلا نتعرض لها بنفي ولا إثبات، وننكر على من أثبتها، وعلى من نفاها، مع وصف الله تعالى بأنه الأحد الصمد، وقد فسر الصمد بأنه المصمت، الذي لا جوف له، أو بالسيد الذي كمل في سؤدده، وكلاهما معروف في اللغة.
ثانياً: الوهابية متبعون للسلف في إثبات الصفات:(64/29)
قال في السطر الحادي والعشرين من الصفحة الأولى ما نصه:
[كتهمة الوهابية للذات العلية يعتقدون بأن لله جسماً محدوداً، مُؤَلَّفاً من أعضاء، يد محسوسة يبطش بها، ورجل يمشي بها، يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع، فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت واللاهوت، لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم وأخرجهم من دائرة الإسلام؛ لأن المجسمة ليسوا من الإسلام في شيء … الخ] .
والجواب أن يقال:
مراده بالوهابية: أتباع أئمة الدعوة السلفية، التي قام بها في نجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر، وهو وأتباعه رحمهم الله ليس لهم مذهب خاص؛ بل هم في العقيدة على معتقد السلف الصالح والأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام السنة والحديث، مع أنهم لا يعيبون من تبع مذهب إمام من الأئمة المعتبرين، وإذا تبين لهم الحق والصواب في غير مذهب إمامهم، تبعوه مع من كان، وقد ذكرنا آنفاً أننا متبعون للنص والدليل ندور معه حيث دار، ففيما ذكره هذا القائل عدة أخطاء:
الأول: تسميته لهم بالوهابية:
بعد أن عرفت أنهم لم يختصوا بشيء ولم يبتدعوا جديداً، وأن كل ما قالوه: إنهم متبعون للنصوص وللسلف الصالح، ولأن القائم بالدعوة ليس هو عبد الوهاب، وإنما هو ابنه الشيخ محمد، فهم المحمديون أصلاً وفرعاً، ولأن الوهَّاب اسم من أسماء الله تعالى، فهو الذي وهبهم الهداية والعلم والعمل.
الثاني: رميه لهم بالتجسيم:(64/30)
فهم لم يقولوا بذلك أبداً، ولم يستعملوا هذه اللفظة إثباتاً ولا نفياً، فمن قال: إن الله جسم فهو مبتدع، وكذا من نفى الجسم فهو مبتدع أيضاً، حيث إن هذه اللفظة لم ترد في النصوص، ولم يستعملها السلف والأئمة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، مع أنا نثبت الصفات الواردة ونعتقد حقيقتها، وننفي عنها التشبيه والتمثيل، ولا يلزم أن يكون مجسمة إذا قلنا: بأن الله فوق عباده على عرشه بائن من خلقه، أو قلنا: إن له يداً ووجهاً وعيناً كما يشاء، أو قلنا: إنه ينزل ويجيء لفصل القضاء كما يشاء، فإن هذه الصفات ونحوها قد وردت بها النصوص، فنحن نعتقد حقيقتها ولا نمثلها بخصائص المخلوق، ولا نثبت لها كيفية أو مثالاً، فكما لم ندرك كُنْهَ الذات وماهيتها، فكذا نقول في هذه الصفات، فإنّا نثبتها إثبات وجود لا إثبات تكييف وتحديد، كما قال ذلك أكابر الأئمة. فكيف يلزم من ذلك أن نكون مجسمة؟!.
وهكذا قوله: [محدود] . نفضل ترك الخوض في الحد، مع أنه من المسائل التي أثبتها بعض السلف ونفاها البعض، ولكن الأفضل التوقف؛ حيث إن البحث في ذلك مُبْتَدَع، وإن اللفظ لم يرد في الأدلة، ومع ذلك فعذر من أثبت الحد ومن نفاه أن لكل منهما مقصداً ظاهره الصحة.
وبالجملة: فلا اختصاص لنا بهذا دون غيرنا، ولكن هذا الكاتب مزجى البضاعة في عقيدة السلف وأقوالهم، وكان الأولى أن يوجه طعنه ولومه على علماء السلف وأئمتهم، فإن هذه الأقوال والمذاهب المأثورة عنهم مدونة في مؤلفاتهم الموجودة المشهورة!!
الثالث: قوله عن الوهابية:
إنهم يصفون الرب تعالى بأنه:
[مؤلف من أعضاء: يد محسوسة يبطش بها، ورجل يمشي بها.. الخ] .
والجواب:(64/31)
إن هذا من جنس ما قبله قول عليهم بلا علم، فإن التأليف جمع المتفرق، أو تركيبه من أدوات مختلفة، وهذه اللفظة محدثة في العقيدة، لا نقول بها ولا نستعملها في عقائدنا ولم ترد في النصوص؛ حيث إن لازمها قول باطل كما ذكرنا.
فأما إثبات اليد والرجل حيث وردت فإنا نقتصر على ذلك، فقد تكاثرت الأدلة على إثبات اليد بما لا يدع مجالاً في أنها يد حقيقية، لكنا نقول: إنها لا تشبه خصائص المخلوق، وإن الله يقبض بها السماوات والأرض كما أخبر عن ذلك (وذلك كما في قوله تعالى: ((وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون)) (الزمر:67) .
وأما الرِّجل: فقد ورد في السنة أن الله يضع رجله أو قدمه على النار، وورد في القرآن ذكر السّاق ووُضِّح في الحديث، فإذا أثبتنا ذلك لم يلزم أن نكون مجسمة، ولم يلزم أنّا نقول: إن الله تعالى مؤلف من أعضاء؛ بل نقول: إن ذاته حقيقية، وصفاته حقيقية؛ كما يليق به، كما أنا لا نقول بالبطش والمشي الذي رمانا به؛ بل نقتصر على الوارد في الكتاب والسنة.
الرابع: زعمه أنهم يصفون الله بأنه:
[يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع.. الخ] .
الجواب:(64/32)
إن هذا قول لا حقيقة له، ولا عمدة له في هذا النقل، فهذه مؤلفاتهم وعقائدهم مطبوعة شهيرة، ولا يوجد فيها هذه الألفاظ، فإنهم ينفون الصفات التي لم ترد في الوحيين ويتقيَّدون بالأدلة، ولكن أعداءهم يلزمونهم بلوازم باطلة، فإذا أثبتوا الاستواء كما يليق بالله أو فسروه بالعلو والارتفاع -كما قاله السلف وأهل اللغة- لم يلزم أنهم قائلون بالجلوس والقيام، فقد تكاثرت الأدلة على إثبات العلو الحقيقي بكل معانيه، وعلى إثبات العرش. وأن الله تعالى مستو عليه كما يشاء، فليس لنا إنكار ذلك أو تسليط التأويلات التي هي تحريف للكلم عن مواضعه على تلك الأدلة واضحة الدلالة، فمتى ألزمنا أعداؤنا بلوازم باطلة زاعمين أنها تلزم من قال بموجب تلك النصوص، لم نلتفت إلى تلك الإلزامات وأوضحنا خطأهم في هذا الإلزام.
فأما إثبات النزول والمجيء فليس لنا إنكاره، وقد صرحت به النصوص وتواردت على إثباته الأدلة التي لا تحتمل التأويل، ومع ذلك نتوقف عن الكيفية ونكلها إلى الله، ولا نقول: إنه إذا نزل يخلو منه العرش، أو تحصره السماوات… الخ؛ بل نقول: إن الرسول الناصح لأمته صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهذا النزول. وأن الله تعالى قد أخبر بالمجيء يوم القيامة، فنحن نثبت ذلك كما ورد ولا نضيف إليه شيئاً من عند أنفسنا، فما ألزمونا به غير لازم.
الخامس: قوله:
[فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت واللاهوت.. الخ] .
فنقول:(64/33)
هذا تشبيه باطل وبعيد عن الصواب فما وجه الشبه؟!، فإن النصارى زعموا أن اللاهوت وهو: (الإله) اتحد بالناسوت وهو: (الإنسان) أو: (عيسى) ، وقالوا: ((إن الله هو المسيح ابن مريم)) (المائدة:72) . ((وقالت النصارى المسيح ابن الله)) (التوبة:30) ، وذلك هو عين الكفر والضلال، فأما أتباع السلف والأئمة فما قالوا شيئاً من قبل أنفسهم، وإنما وصفوا الله تعالى بما وصف به نفسه، أو وصفه به أعلم الخلق بربه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أثبتوا لله الصفات الواردة، واعتقدوها حقيقة لتواتر النصوص بها، ثم نفوا عنها كل أنواع التشبيه وخصائص المخلوقين، واعتقدوا أنها تليق بالله كما يشاء، لم يلزم أن يكونوا كالنصارى في قولهم باللاهوت والناسوت.
وبكل حال فإن هذا الكاتب عليه أن يوجه عيبه ولومه إلى الأئمة المتبعين!! كمالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق ونحوهم، فهل يتجرأ أن يقول عليهم: إنهم وهابية، وإنهم إخوان النصارى؟!!
هذا ما لا يستطيعه لما لهم عند جمهور الأمة من المكانة الراقية، فلو رماهم بذلك لأنكر عليه الخاص والعام، وسددت إليه سهام الملام.
السادس: قوله:
[لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم وأخرجهم من دائرة الإسلام.. الخ] .
فنقول:
هذا تهور وجرأة على الله وعلى المسلمين وأهل الدين، واستهزاء وتمسخر بشعائر الإسلام، وتكفير لأهل العقيدة السليمة، وإخراج لهم عن دائرة الإسلام، وتلك مصيبة عظمى لو يعلم أثرها هذا الكاتب لم يتجرأ على ذلك. فإنه:
أولاً: زعم أنهم قد أطاعوا الشيطان مطلقاً، وأنه هو الذي أوقعهم في هذا الاعتقاد السلفي، الذي قد سار عليه جمهور سلف الأمة وأهل القرون المفضلة، فإذا كان إبليس قد لعب بهم، فقد لعب أيضاً بأولئك الأئمة والقادة الأجلاء.(64/34)
ثانياً: إخراجه لهم من الإسلام، وهي إحدى الكِبَرْ. فبأي خصلة أخرجهم من الدين؟! أما كانوا يدينون لله بالتوحيد؟! ويعملون بمعنى الشهادتين؟! ويحافظون على إقامة أركان الإسلام؟! ويبتعدون عن كل المحرمات؟! ويحذرون منها؟! ويحرصون على إخلاص دينهم لربهم وحده؛ فلا يجعلون منه شيئاً لغيره كائناً من كان؟! فمن كفَّرهم فقد أنكر حقيقة التوحيد، وأباح الكفر والشرك، فهو أولى بما قال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه". أي: رجع إليه تكفيره.
وفي حديث آخر: "أن رجلاً ممن قبلنا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان؟! إني قد غفرت له، وأحبطت عملك". فهل ينتبه هذا الكاتب، ويرتدع عن مثل هذا التهور والتسرع في التكفير!!
السابع: قوله:
[لأن المجسمة ليسوا من الإسلام في شيء.. إلخ] .
فنقول:
ونحن نبرأ إلى الله أن نصفه بالتشبيه، أو التمثيل بشيء من المخلوقات، ولقد أوضحنا أن أئمة الدعوة بريئون من وصمة التشبيه، أو التمثيل الذي يرميهم به أعداؤهم قديماً وحديثاً، وأنه لا يلزم من إثباتهم صفة الاستواء والنزول والمجيء وسائر الصفات الذاتية والفعلية، أن يكونوا مشبهة، فإنهم تابعون للنصوص الصريحة في الإثبات، ومصرحون بنفي مشابهة المخلوقات، كما يثبت غيرهم الصفات العقلية، وينفون عنها التشبيه، وكما يثبت الباقون الذات الحقيقية، ويتوقفون عن معرفة ماهيتها وكنه حقيقتها، وقد يكون النافون أولى بالتشبيه؛ لأنه لم يبادر إلى أذهانهم سوى دلالة النصوص على التشبيه، ولم يفهموا منها إلا هذا المعنى الباطل، فاعتقدوا أن ظاهر النصوص غير مراد؛ لأنه بزعمهم يدل على مماثلة الله للمخلوقات، تعالى الله وتقدس.
ثالثاً: آيات الصفات محكمة جليّة ظاهرة المعاني مفهومة الدلالة:(64/35)
قال في السطر الثاني من الصفحة الثانية:
[أما الآيات المتشابهات فلابد فيها من التأويل، خوف التجسيم والتشبيه.. الخ] .
والجواب:
إن هذا قول خاطئ مخالف لقول الراسخين في العلم، الذين يقولون في المتشابه: ((آمنا به كل من عند ربنا)) . فقد ذم الله الزائغين الذين: ((يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)) (آل عمران:7) .
إن هذا الكاتب اعتقد أن آيات الصفات فقط هي القسم المتشابه وحده، وهو خاطئ من حيث العموم؛ فإنها محكمة جلية، ظاهرة المعاني، مفهومة الدلالة، فسرها السلف والأئمة، وأوضحوا معاني ما اشتملت عليه، ولم يفوِّضوا لفظها كما يزعم أهل الكلام، ولم يحرفوا معانيها كما يدعي هذا الكاتب ونحوه: أن تأويلها لازم خوف التجسيم.. الخ.
* فأما قوله: [لأن القرينة تصرف اللفظ عن ظاهره.. إلخ] .
نقول: ليس ثمَّ قرينة يحتاج معها إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فمتى قلنا: ((آمنا به كل من عند ربنا)) واعتقدنا أن الألفاظ دالة على معاني صحيحة مفهومة للمخاطبين، وأنها دالة على صفات تناسب الموصوف، وتباين صفات المحدثات ونحو ذلك، لم نحتج إلى صرف اللفظ عن ظاهره، حيث يتكلف في هذا الصرف، وحيث يكون المعنى المصروف إليه بعيداً عن السياق وعن المفهوم المتبادر للسامعين، فإن المخاطبين به عند نزوله لم يحرفوا معانيه ولم يفهموا منه شيئاً من خصائص المخلوق؛ بل أثبتوا كل الصفات الواردة واعتقدوها لائقة بالموصوف، فلما جاء من بعدهم وفشت فيهم المذاهب الكلامية توسعوا في البحث، فاعتقدوا أن ظاهر النصوص يقتضي التجسيم والتشبيه، فسلطوا عليها أنواع التأويل كأضراب هذا الكاتب هداهم الله.
رابعاً: لا يلزم من إثبات الصفات القول بأنه جسم محدود:
فأما قوله:
[فمن كان هذا شأنه لا بداية ولا نهاية، كيف تعتقد أنه جسم محدود مؤلف من أعضاء، يتحرك، وينتقل من مكان إلى مكان آخر، ويترك وراءه فراغاً؟]
هذا عليه فيه ملاحظات:(64/36)
منها قوله: [لا بداية ولا نهاية] :
قال ذلك بعد الآية الكريمة: ((هو الأول والآخر)) (الحديد:3) . وهو تفسير مبتدَع، فإن هذه الأسماء قد بيَّن معانيها النبي صلى الله عليه وسلم ووضحها بقوله في دعاء الاستفتاح: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء".
ومنها قوله: [كيف نعتقد أنه جسم محدود] :
والجواب:
إنه لا يلزم من إثبات الصفات على ما يليق بها القول: بأنه جسم محدود، ثم قد سبق الرد على قوله: جسم محدود مؤلف من أعضاء، وبيَّنا أن هذه ألفاظ بدعية، لا يجوز الخوض فيها إثباتاً ولا نفياً.. إلخ.
ومنها قوله: [يتحرك وينتقل من مكان … الخ] :
فنقول:
اتهم بالقول بذلك أئمة الدعوة السلفية وهو كقوله آنفاً: يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع، وقد ذكرنا الجواب عنه آنفاً، وأوضحنا أنه لا يلزم من إثبات المجيء والنزول الذي وردت به الأدلة أن نقول بالحركة والانتقال المحسوس، الذي هو من خواص المحدثات والمركبات، بل مجيء الله ونزوله هو كما يليق به، وهو حق حقيقي ليس بمجاز، ولا يصح نفيه بعد ثبوته في النصوص التي دلالتها قطعية.
ذكر الكاتب أمثلة على تأويل بعض الآيات المتشابهة:
المثال الأول: تأويل قول الله تعالى: ((وجاء ربك)) :
ثم إن هذا الكاتب ذكر مثالاً لتأويل بعض الآيات المتشابهة، كما زعم وهي قوله: ((وجاء ربك)) (الفجر:22) . فأقحم فيها لفظ: (أمر) ، فقال: [وجاء أمر ربك والملك.. إلخ] .(64/37)
وهذا تفسير الجهمية ومن تبعهم، ولا عبرة بكثرة من قاله من المتقدمين والمتأخرين، فإننا متبعون للأدلة، فقد ذكر الله الإتيان وأضافه إلى ذاته، وفرق بين إتيانه وإتيان بعض آياته، فقال عز وجل: ((هل ينظرون إلى أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك)) (الأنعام:158) . وقال تعالى: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام)) (البقرة:210) … الخ.
ومتى قلنا: إن الله يجيء كما يشاء إتياناً يليق به؛ لم يلزم القول بالحركة الموهومة، مع أن تأويله بالأمر لم ينقل عن أحد من السلف وهم الأسوة وبهم القدوة.
المثال الثاني: تأويل حديث النزول:
ثم ذكر مثالاً ثانياً للتأويل الذي التزم سلوكه خوفاً من التشبيه، فقال في السطر الثامن من الصفحة الثانية:
[ (النزول) معناه: الهبوط من أعلى إلى أسفل، ثم الرجوع ثانياً إلى مكانه وهذا أيضاً مستحيل، إذاً لا بد من التأويل، نزول مَنّ وإفضال، وقبول توبة، بمعنى التنزل، لا كنزول الأجسام والصور.. الخ] .
والجواب: أن يقال: وردت أحاديث كثيرة صحيحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله تعالى ينزل كل ليلة، وذكرت بلفظ النزول وبلفظ الهبوط، والذين نقلوها هم نقلة أحكام الشريعة ولم ينكرها أحد من السلف، ولم يقولوا: إن المراد نزول فضله أو منِّه أو قبوله التوبة.. الخ. كما أنهم لم يكيفوا ذلك ولم يشبِّهوه بنزول الأجسام، واعتبروه مثل المجيء والإتيان الذي أثبته الله لنفسه، ولم يلزم من إثباته ما هو مستحيل؛ بل الجميع نصّ على حقيقته، وهو من خصائص المتصف به لأنه تعالى: ((ليس كمثله شيء)) (الشورى:11) في ذاته ولا في صفاته.
2- ثم قال في نفس السطر:
[ ((ويبقى وجه ربك)) (الرحمن:27) أي: ذاته. ((ولتصنع على عيني)) (طه:39) أي: عنايتي ورعايتي لك] .
فنقول:(64/38)
هذا تأويل خاطئ، حيث أنكر ما أثبته الله لنفسه من صفة الوجه والعين، وقد وردت أدلة متنوعة في الكتاب والسنة بذلك (ومن الأدلة على إثبات صفة الوجه، قول الله تعالى: (0ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)) (الرحمن:27) . وفي الحديث الذي رواه مسلم برقم179 في الإيمان، باب "في قوله عليه السلام: بإن الله لا ينام.. الخ". من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
أما الأدلة في إثبات صفة العين فمنها: قوله تعالى: ((فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا)) (الطور:48) . وفي الحديث الذي رواه البخاري كما في الفتح، 6/199 برقم 3057 في الجهاد، باب "كيف يعرض الإسلام على الصبي". من حديث ابن عمر رضي الله عنه، في وصف الدجال) ، ومن طلبها وجدها في كتب الحديث والعقائد، ولم يزل السلف يأثرونها من غير تكبر، ولم يقولوا: إنّها تشبه خصائص المخلوق؛ بل إنها صفة للرب تعالى كسائر صفاته، نؤمن بها ولا نكيِّفها حيث لم يخالفها عقل سليم، ولا نقل صحيح؛ بل النقول المتكاثرة المتواردة على حكم واحد يتعذر تأويلها.
3- ثم قال في السطر الذي يليه:
[ ((والسموات مطويات بيمينه)) (الزمر:67) أي بقدرته. ((يد الله فوق أيديهم)) (الفتح:10) "ويد الله مع الجماعة". أي: يؤيدهم بنصره… الخ] .(64/39)
وهذا تأويل باطل من جنس ما قبله، فقد تكرر ذكر اليد واليدين للرب تعالى في العديد من الآيات والأحاديث والتصريح بذكر اليمين، ونحو ذلك من العبارات الصريحة، فإن تأويلها بالقدرة بعيد عن الصواب، وقد ذكرها الله في قوله لإبليس: ((ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدَيَّ)) (ص:75) بلفظ المثنى، ولو كان المراد القدرة لما حسن ذكر التثنية، ولقال إبليس: وأنا خلقتني يا رب بقدرتك. ثم إنه ادعى الإجماع على تأويل اليد بالقدرة والتأييد، والنصر والرعاية، والحماية والعناية، وليس كذلك؛ فإجماع الصحابة والتابعين سابق لهؤلاء، على أن يد الله صفة من صفاته، وتبعهم على ذلك سلف الأمة والأئمة الأربعة، وَنَصَرَهُ ابن جرير في تفسير قول الله تعالى: ((بل يداه مبسوطتان)) (المائدة:64) فأين الإجماع على ما قال؟! ومن الذي حكاه كما قال هذا الكاتب؟! ثم إنه أورد بيت شعر اعتمده فيما قال، ونص البيت:
وكل نص أوهم التشبيها أوّله أو فوض ورم تنزيها
وهذا البيت مذكور في منظومة لبعض الأشاعرة.
ونحن نقول:
أولاً: إن صاحب النظم لا ينبغي اتخاذه عمدة؛ فإنه إنما بنى كلامه على معتقده الذي اعتنقه عن مشائخه، الذين تلقى عنهم هذه العقيدة السيئة.
ثانياً: لا يُظَنّ أن نصوص الشرع من الكتاب والسنة توهم التشبيه أبداً، فإن السلف والأئمة لم يكونوا يفهمون أو يتوهمون أن النصوص توهم التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فالله تعالى أعلى وأجل من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه، لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.(64/40)
ثالثاً: إلزامه بالتأويل والتفويض، ويعتقد أن السلف يفوِّضون النصوص، أي: يسكتون عن المراد بها مع الاعتقاد أنها لا تدل على صفات حقيقية في نفس الأمر، فألزم إما بالتأويل وهو في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه، لكن ينفي دلالته على الصفات في نفس الأمر، وإما بالتفويض الذي هو السكوت المراد مع روح التنزيه وهو اعتقاد أنها لا تفيد صفات لله في نفس الأمر. وكلا الأمرين خطأ، وإنما الصواب: ترك التأويل وإثبات حقيقة الصفات التي أفادتها تلك النصوص، مع تفويض العلم بالكيفيات والماهيَّات، ومع اعتقاد أنها لا يُفهم منها تشبيه الرب أو شيء من صفاته بالمخلوقين، فلا تشبيه ولا تعطيل.
خامساً: نسبة الجلوس إلى أهل السنة كذب عليهم:
ثم قال في السطر الخامس عشر من الصفحة الثانية:
[فمن هذا شأنه لا بداية ولا نهاية، كيف يجلس ويستقر على مخلوق ضعيف تحمله الملائكة؟! وتحفه من كل جانب ملائكة؟! هذا مستحيل… الخ] .
فيقال:
* تكرر قوله: (لا بداية ولا نهاية) ، وذكرنا أن الصواب التفسير النبوي الأول والآخر.
* فأما قوله: [كيف يجلس… الخ] :(64/41)
فالجواب: أن الله تعالى وصف نفسه بأنه على العرش استوى في سبعة مواضع من القرآن، وفسر العلماء الاستواء بما يدل على العلو والارتفاع والاستقرار، والتزموا نفي العلم بالكيفية وتفويضها إلى الله، ولا أذكر في كتب السلف التفسير بالجلوس، فنسبته إلى أهل السنة أو أئمة الدعوة كذب عليهم؛ بل منهم من فوض وقال (استوى) : استواء يليق بالله تعالى، ومنهم من قال: علا وارتفع كما يشاء مع عدم العلم بالكيفية، وليس في ذلك محذور والحمد لله، وقد أنكروا على من توسع في الخوض في ذلك بذكر أنه أكبر من العرش، أو مثله أو دونه، وكذا بذكر المماسة وكون الرب محمولاً على العرش كحمل الراكب على المركوب ونحو ذلك، فلا نقول بهذه التقديرات، ولا نخوض في هذا الأبحاث لعدم النقل فيها، ولما فيها من التدخل فيما لا يعني.
سادساً: تفسير السلف الاستواء: بالاستقرار والعلو … الخ:
ثم قال بعد سطرين:
[و (استوى) لغة معناها: استقر. فالاستقرار هنا بصفة الرحمة على العرش وما قواه.. أما من اعتقد بأنه جلس واستقر على العرش فقد أشرك، لأنه توهمه جسماً محدوداً محمولاً على عرشه.. إلخ] .
والجواب:
قد تقدم أن السلف فسروا الاستواء بالاستقرار والعلو والارتفاع والصعود، ولم يقولوا ما قاله هذا الكاتب؛ من أنه الاستقرار بصفة الرحمة على العرش فإنه بعيد. بل قالوا: استقر كما يشاء لا كاستواء المخلوق، ولم يعتقدوا: أنه جلس أو استقر على العرش كاستقرار المخلوق، ولم يقولوا: إنه محتاج إلى العرش أو غيره، ولا توهموا ربهم: جسماً محدوداً محتاجاً إلى خلقه، فكل هذا تقوُّل عليهم بلا علم، فإن كان يقصد أئمة الدعوة فليوقفنا على موضع من كتبهم فيه ما ذكر، وإلاّ فليسند القول إلى قائله، والذي يقول بتلك الأقاويل الكفرية يصدق عليه أنه حمار كما وصفه به الكاتب.
(16) في دعاء المخلوقين والتوسل بالأشخاص(64/42)
أولاً: تفسير معنى دعاء العبادة ودعاء المسألة:
قال الكتاب في الصفحة الثالثة في السطر السابع:
[ (النداء) لغة معناه الدعاء، وهو لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز وجل، أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه أنه يضر وينفع ويعطي ويمنع من غير إذن الله فقد أشرك..الخ] .
والجواب:
لقد خبّط هذا الكاتب، وخلط، وأخطأ في الكثير مما قاله أو تعمده، فأنبِّه على أهم أخطائه فيما يأتي:
أولاً: ذكر أن الدعاء لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز وجل، أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي.. الخ.
وهذا قول باطل بعيد عن الصواب، صدر عن جهل بحقيقة الدعاء وبحقيقة العبادة، وبالأدلة الواردة على ذلك، وأنا أشير إلى شيء من ذلك:
فأقول: أما الدعاء: فهو لغة: النداء، ويطلق شرعاً على: دعاء العبادة ودعاء المسألة، وهما متلازمان:
* فدعاء العبادة هو: فعل كل الطاعات، وأداء جميع القربات امتثالاً لأمر الله، وتقرباً إليه، وهو متضمن دعاء المسألة، فإن المصلي داع بلسان الحال، فكأنه يقول: إنما أصلي طلباً لرضى الله، وجزيل ثوابه، وهكذا في جميع الأعمال الصالحة لسان حال من يفعلها يقول: أريد من فعلها مغفرة الله وجنته، فهو سائل في نفس الأمر.
* أما دعاء المسألة فهو: السؤال والطلب، كسؤال الجنة والتعوذ من سخط الله، ومن النار ونحو ذلك، وهو ولابد مستلزم لدعاء العبادة، فإن حقيقة العبادة الذل والخضوع، والتواضع والإذعان، فالذي يدعو ربه يسأله حال تذلل وخشوع وإنابة وإخبات، فالسؤال: دعاء، والذل: عبادة، وهكذا المصلى، والصائم، والمتصدق، والذاكر، والقارئ، والطائف، والعاكف، والراكع، والساجد. فإن كلاً من هؤلاء حال فعله يكون راغباً في فضل الله طالباً لمنه وعطائه، ويكون مع ذلك متذللاً ومذعناً، منقاداً لأمر الله، خاضعاً مخبتاً له، وذلك هو حقيقة العبادة.(64/43)
ومتى كان كذلك ورأينا من يسأل ربه من فضله ويمد إليه يد الافتقار ويلهج بالدعاء مستمطراً من فضل ربه، فإنّا نسميه داعياً سائلاً لله، فإذا كان مع ذلك قد أهطع وأقنع وخشع وتذلل، وتواضع حال سؤاله، فهو لذلك عابد لربه ظاهراً، نحكم بذلك حسب ما رأينا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة". ثم قرأ قوله تعالى: ((وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي.. الآية)) (غافر:60) . ووجه الدلالة من الآية أنه تعالى أمر بدعائه، وذم المستكبرين عن عبادته، والقرينة تدل على أن المراد يستكبرون عن دعائي وقال تعالى: ((قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون)) (غافر:66) . فجعل دعاءهم عبادة، وقال عن الخليل عليه السلام: ((وأعتزلكم وما تدعون من دون الله)) (مريم:48) . ثم قال: ((فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله)) (مريم:49) . فعبر بالعبادة عن الدعاء.
وبعد أن عرفت حقيقة الدعاء وحقيقة العبادة وتلازمهما فإن الأدلة واضحة على أن الدعاء حق الله، لا يُصرف منه شيء لغير الله، قال تعالى: ((فلا تدعوا مع الله أحداً)) (الجن:18) . وقال ((ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك)) (يونس:106) . وقال: ((ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة)) (الأحقاف:5) . ونحوها من الآيات.
ثانياً: أما قول هذا الكاتب: [أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه؛ أنه يضر وينفع، ويعطي ويمنع، من غير إذن الله فقد أشرك] .(64/44)
نقول: إن دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك مطلقاً؛ سواء كان المدعو ملكاً، أو نبيّاً، أو ولياً، أو جنِّيّاً، أو صالحاً، أو شريفاً، أو سيداً، أو شجراً، أو قبراً، أو غير ذلك، فأما إن دعى إنساناً حيّاً حاضراً قادراً وطلب منه ما يقدر عليه، كقوله: يا فلان اسقني، أو أطعمني، أو احملني، أو احمل رحلي، ونحو ذلك فهذا جائز، وهو من الأفعال المحسوسة، التي لا يزال الناس يفعلونها ويعين بعضهم بعضاً على فعلها. وكذا إن قال: يا فلان ادع الله لي بالمغفرة والجنة، أو أشركني في صدقاتك، أو وقفك، أو دعواتك ونحوها، فإن دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مما يثيبه الله عليه، وهذا بخلاف ما إذا قال: اغفر ذنبي وأدخلني الجنة، أو: خذ بيدي عن النار ونحو ذلك، فإن هذا لا يجوز فعله مع الحي فضلاً عن الميت؛ لأنه مما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا منه تعالى.
فنحن نستدل بفعل الإنسان على عقيدته، فمتى رأينا شخصاً وقف عند قبر إنسان معظَّم في نفسه، وخضع برأسه، وتذلل، وأهطع، وأقنع، وخشع، وخفض صوته، وسكنت جوارحه، وأحضر قلبه ولبّه، أعظم مما يفعل في الصلاة بين يدي ربه عز وجل، وهتف باسم ذلك المقبور، وناداه نداء من وثق منه بالعطاء، وعلق عليه الرجاء ونحو ذلك، فإننا لا نشك أنه والحالة هذه يعتقد أنه يعطيه سؤله ويدفع عنه السوء، وأنه يستطيع التصرف في أمر الله، ففعله هذا دليل سوء معتقده، فلا حاجة لنا أن نسأله: هل أنت تعتقد أنه يضر وينفع من غير إذن الله؟ فالله تعالى ما كلفنا أن ننقب عن قلوب الناس، وإنما نأخذهم بموجب أفعالهم وأقوالهم الظاهرة، وهذا الشخص قد خالف قول الله تعالى: ((ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين)) (يونس:106) .(64/45)
وقد رأينا خشوعه وتذلله أمام هذا المخلوق الميت، وذلك هو عين العبادة كما عرفنا، فنحكم عليه بموجب فعله وقوله؛ بأنه قد أشرك بالله وتأله سواه، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب وتعظمه، وتحبه وترجوه، وتخافه وتعامله بما لا يصلح إلا لله، ولو لم يسمه الفاعل إلهاً، ولو لم يسم فعله تألهاً وتعبداً؛ فإن العبرة بالحقائق وما في نفس الأمر بخلاف الأسماء، فأهل هذا الزمان لما جهلوا حقيقة العبادة والتأله والدعاء ونحوه الذي هو من حق الله ولم يعرفوا معانيها وأصل وضعها صرفوها لغير الله، وسموا ذلك توسلاً واستشفاعاً وتبركاً واحتراماً وهو عين عبادة ذلك المخلوق، وعين الشرك الذي توعد الله عليه بالنار وحرمان الجنة.
ثالثاً: ثم قال الكاتب في الصفحة الثالثة في أول السطر التاسع: [أما من اعتقد فيمن يناديه بأنه من أهل العطاء، وما ملك إلا بتمليك الله، ولا يتصرف إلا بإذن الله فهو موحد…الخ] .
فنقول: لا حاجة لنا في التنقيب عن معتقده، الذي يقوم بقلبه فإنه أمر خفي، وقد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فنحن نأخذه بالظاهر، فإن أفعاله تعبر عن ما في ضميره ولو حاول تغييره لم يستطع.
ثم نقول أيضاً: كيف يصلح اعتقاد أن المخلوق من أهل العطاء، أي أنه يملك أن يعطي من يشاء مغفرة، ورزقاً، ومالاً، وولداً، وصحة، وغنى،.. الخ؟ فإن الذي يملك ذلك هو الله وحده، كما وصفه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت".
وقد أخبر الله عن كل ما يُدْعَى من دونه بأنهم: ((ما يملكون من قطمير)) (فاطر:13) .(64/46)
وإن أراد الكاتب أنه من أهل العطاء، أي الذين أعطاهم الله نوعاً من التصرف والملكية، فهذا لا دليل عليه، وإنما خصائص الأنبياء نزول الوحي عليهم وتكليفهم بالتبليغ عن الله ما نزل إليهم، ولم يعطهم شيئاً من حقه الذي هو الدعاء والعبادة والتأله، ولا ملكهم رزق العباد، وهبة الأولاد، وشفاء الأسقام البدنية، وغفران الذنوب ونحوها، وعلى هذا فمن اعتقد في نبي، أو ملك، أو ولي، أو مخلوق، أنه مفوّض من الله في إهلاك من شاء، أو إعطاء من أراد، أو إدخال جنة أو ناراً، فقد صادم النصوص، وأشرك المخلوق في حق الخالق؛ فإن الله تعالى قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، -وهو أشرف الخلق وأفضلهم-: ((إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)) (القصص:56) . فإذا كان سيد الخلق، وخاتم الرسل، لا يقدر على هداية عمه أو أقاربه فكيف يهدي أبعد الخلق وأشفاهم إذا دعوه مع الله وصرفوا له ما لا يستحقه إلا الله؟ ولقد أمره الله تعالى أن يعترف بعدم ملكيته لشيء من ذلك؛ لأنه حق الله وحده، قال الله تعالى: ((قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً)) (الجن:21) . والرشد: الهداية القلبية وإيصال الإيمان إلى القلوب، بخلاف البلاغ والبيان؛ فإنه وظيفته ورسالته كما قال تعالى: ((إن عليك إلا البلاغ)) (الشورى:48) . وقد أخبر بأنه يهدي إلى الحق، أي: يدل عليه، كما قال عز وجل: ((وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)) (الشورى:52) . والمراد هداية البيان والدلالة والإرشاد، فأثبت هداية البيان ونفى هداية التوفيق والإلهام وقبول الإسلام، فمع هذه النصوص الصريحة كيف يقال: إن المخلوق يملك بتمليك الله الهداية والإضلال، والإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، أو يتصرف بإذن الله في الكون فيرسل الرياح ويثير السحب، وينزل المطر، وينبت النبات، ويخلق، ويرزق؟!(64/47)
كل هذا جرأة على الله، وإنما جعل الله من معجزات عيسى ابن مريم عليه السلام شيئاً من ذلك بإذن الله، ثم انقطع برفعه إلى السماء، ولم يذكر الله تعالى أن أحداً من الأموات أو الغائبين، يهدي من أحب، أو يرزق من يشاء بإذن الله؛ بل قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ من الخير وما مسني السوء)) (الأعراف:188) .
فهل يقال بعد هذا: إنه هو أو من دونه بعد موته يملك بتمليك الله النفع والضر، والإعطاء والمنع؟ وأنه بناء على ذلك يُطْلَبُ منه كما يُطْلَبُ من الله! فَيُدْعَى وَيُرْجَى وتعلّق عليه الآمال ويخشع له العبد ويتواضع! ويقف أمام قبره خاضعاً ذليلاً وخائفاً راجياً، فإن هذا كله لازم قول هذا الكاتب؛ حيث أباح نداءه وجعله مالكاً متصرفاً فيما هو من خصائص الرب تعالى، وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال لعشيرته الأقربين: "انقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً". وقال لعمه العباس: "لا أغني عنك من الله شيئاً".
وهكذا قال لعمته ولابنته فاطمة الزهراء، وأمرهم بأن يعملوا عملاً صالحاً لوجه الله، ينقذون به أنفسهم من النار، ولا يعتمدون على قرابتهم منه أو شرفه عند الله، بل قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه".(64/48)
وكل هذا حث للمسلم أن يعمل لله عملاً خالصاً لوجهه يكون سبباً لنجاته يوم القيامة، فلا يعتمد على نسب، ولا حسب، ولا يرغب إلى أي مخلوق يدعوه أو يرجوه، أو يخافه أو يعظمه كتعظيم الله تعالى، أو يعقد عليه أمله أو يعتقد أنه يملك من أمر الله شيئاً مع قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((ليس لك من الأمر شيء)) (آل عمران:128) . وقوله: ((قل إن الأمر كله لله)) (آل عمران:154) . فهل ذكر الله تعالى أنه قد ملك أحداً من خلقه شيئاً من حقه؟ أو فوَّض إليه التصرف في عباده؟ بأن يغفر لمن يشاء! ويعذب من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولقد قال تعالى: ((ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهدي الله فما له من مضل)) (الزمر:36-37) . وقال عز وجل: ((ومن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه)) (الإسراء:97) . أي لا أحد يتولى أمرهم، ولا أحد يقدر على هدايتهم؛ ولو توسلوا بالأنبياء والأولياء والملائكة والصالحين والأصفياء، والقصد من ذلك أن يُقبل العباد بقلوبهم على ربهم، ويَصْدُقُوا الرغبة إليه، ويدعوه مخلصين له الدين، وينصرفوا بقلوبهم وأعمالهم عن كل مخلوق: تحقيقاً لوصف العبودية التي هي غاية الذل مع غاية الحب، فهو سبحانه قريب مجيب، كما قال تعالى: ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)) (البقرة:186) .(64/49)
فهو أعلم بعباده، وهو المطلع على الضمائر والنيات، ويعلم ما تكنه الصدور وما توسوس به النفوس، ويعلم السر وأخفى، فكيف مع ذلك يعدل عنه العباد؟ وكيف يحتاج إلى من يُعرِّفه بخلقه؟ وكيف يكون المخلوق أعلم من الرب الخالق تعالى بما في قلب الداعي؟ فالصدود عن الخالق إلى أحد من المخلوقين، فيه غاية التنقص للرب عز وجل، وسوء الظن به أنه لا يعلم بعباده حتى ينبهه غيره من المخلوقين، تعالى الله علواً كبيراً.
ثانياً: الرسل جميعاً لم يخرجوا عن طبيعة البشر:
ثم قال الكاتب في السطر الثالث عشر من الصفحة الثالثة:
[ومن أسف أن الوهابية قالوا: تمجيد الرسول بما يخرجه عن طبيعته البشرية باطل وزور… الخ] .
جوابه:(64/50)
أن يقال: مراده بالوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن انتفع بدعوته السلفية رحمهم الله، وقد علم أنه رحمه الله لم يأت بجديد، وإنما جدد للناس ما اندرس من معالم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد؛ حيث خرج في مجتمع قد غلب عليه الشرك ووسائله: كعبادة الأموات، وعمارة ما يسمى بالمشاهد برفع قبور الصالحين والأولياء، وبناء القباب عليها، وتحري الصلاة عندها، بالعكوف حولها، وبالذبح لها تعظيماً واحتراماً، وبإيقاد السرج عليها طوال الليل، وبالنذور، والهدايا إلى تلك الضرائح، وتعليق الرجاء عليها، والهتاف بأسماء الأموات، وندائهم ودعائهم مع الله، كقبر: شمسان، وتاج، ويوسف، وزيد بن الخطاب، ونحوهم، فَبيّن لأهل زمانه أن حقهم علينا محبتهم وأتباعهم، والعمل مثل أعمالهم. فأما الدعاء، والرجاء، والذبح، والنذر، فهو خالص حق الله، وأورد لهم النصوص الصريحة في مصادمة ما فعلوه للتوحيد، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله". مع قوله تعالى: ((فصل لربك وانحر)) (الكوثر:2) أي: خصَّه وحده بالصلاة والنحر، فمتى صلى أحد أو نحر لغير الله فقد أشركه في حق الله، وبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال قبل أن يموت بخمس: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
وقال وهو في سياق الموت: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعوا.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". ودعى ربه فقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". والمعنى: أن الأولين أشركوا حيث تحروا الصلاة عند قبور الأولياء والأنبياء، فكل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجدٌ، لم يُبْنَ مسجد له منبر موجه إلى القبلة، فإن المسجد ما يتخذ للركوع والسجود فيه.(64/51)
فأهل ذلك الزمان قد غلب عليهم قصد قبور الأولياء والصالحين؛ للصلاة عندها، لاعتقاد أن للصلاة هناك مزية، وأنها أفضل من الصلاة في المساجد، ومع جماعة المسلمين، أو أن ذلك الولي يشفع في هذه الصلاة لتُقْبَل أو يضاعفَ ثوابها ونحو ذلك من الاعتقادات الفاسدة، ولا شك أن هذا تعظيم للمخلوق، ورفع لمنزلته إلى درجة لا يستحقها إلا الله.
فأما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإننا نمجده ونحبه ونقدم محبته على الأنفس والأموال؛ فإنّ ذلك شرط لصحة الإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده والناس أجمعين"، ولكن لا نخرجه بهذه المحبة عن طبيعة البشر فنجعله رباً، أو إلهاً، أو خالقاً، أو رازقاً، وإنما ميزته الرسالة؛ حيث فضّله الله على جميع البشر، وأنزل عليه الوحي وكلفه بحمل الرسالة وتبلغها إلى جميع الناس، مع أنه لا يزال متصفاً بالبشرية وبالعبودية. قال الله تعالى: ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)) (الكهف:110) . بل إن الرسل كلهم لم يخرجوا عن وصف البشرية كما حكى الله عن الرسل قولهم لأممهم: ((إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)) (إبراهيم:11) . ولما تعنَّت بعض المشركين وطلبوا منه بعض الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله، قال الله تعالى له: ((قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً)) (الإسراء:93) .
فهل من دليل يفيد أن الرسل خرجوا عن طبيعة البشرية، فصاروا يعلمون الغيب ويملكون التصرف في الكون، ويشاركون الرب في الإعطاء والمنع، والضر والنفع، ونحو ذلك.
أليس قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليّ، وما أنا إلا نذير مبين)) (الأحقاف:9) .(64/52)
بل أمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه هذه الأمور؛ حيث قال تعالى: ((قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك)) (الأنعام:50) .
بل قد وصفه الله تعالى بالعبودية، التي هي تمام التذلل والخضوع للرب عز وجل، فقال تعالى في مقام التحدي، ((وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)) (البقرة:23) . وقال تعالى في مقام الإسراء: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)) (الإسراء:1) . وقال تعالى في مقام الدعوة: ((وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً)) (الجن:19) . وقال تعالى: ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)) (الكهف:1) . وقال: ((تبارك الذي نزل الفرقان على عبده)) (الفرقان:1) .
فذكر تعالى أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومميزاته أن أنزل عليه هذا الكتاب، الذي أعجز الناس أن يعارضوه، ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومميزاته أن أسرى ببدنه وروحه إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء إلى حيث شاء الله، ومن فضائله أن كلفه ربه بالدعوة إلى الله، وكل هذه المميزات لم تخرجه عن وصف العبودية لله بكل معانيها من كونه مملوكاً للرب، ومن كونه ذليلاً متواضعاً وخاضعاً له مطيعاً، وهذا وصف فضل وشرف اتصف به المصطفَون من عباد الله، ولم يتكبروا عنه، قال تعالى: ((لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون)) (النساء:172) .
فنحن نقول: لا يصح في تمجيد الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاد أنه خرج عن كل وصف البشرية، إلى وصف الملكية، أو إلى وصف الربوبية، أو الألوهية، ولا واسطة بينهما.
رابعاً: يجب إعطاء المسألة والنصرة لله وحده:
ثم قال الكاتب في السطر السادس عشر:
[فمن اعتقد أن مدد الرسول انقطع لانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فقد أساء الأدب مع الرسول، ويخشى عليه الموت على الكفر والعياذ بالله تعالى] .
جوابه:(64/53)
أن يناقش عن مدد الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته.
* فإن أراد بمدده؛ دلالته على الخير، وإرشاده للأمة، وإيضاحه للحق والهدى، وتبليغه لما أرسل به، وبيانه لعلوم الشريعة أكمل بيان، فهذا لم ينقطع بموته، فإن الأمة لا تزال تستضيء بأنوار هدايته وتسير على النهج الذي رسمه لها، وتستمد من سنته ما يوضح لها طرق الهدى، فمن صد عن سنته وأعرض عنها فهو أضل من حمار أهله.
* أما إن أراد بمدد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فوائد اتباعه، وآثار الاقتداء بسنته، وبركات العمل بشريعته،، فهذا أيضاً لم ينقطع بموته، فنحن نعتقد أن من سار على نهجه واقتفى طريقه حصلت له البركات وأمده الله بفضله وعطائه، وانتفع في هذه الحياة بنتائج هذا الاتباع كسائر الأعمال الصالحة، فإن العمل الصالح سبب في كثرة الخير، وحلول البركة، وسعة الرزق، وطيب الحياة، ورغد العيش، والنصر على الأعداء، وحصول العلم والفهم والفتح من الله، والإلهام والتوفيق لعمل الصالحات، والحفظ عن المنكرات، لكن لا يضاف المدد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا حيث إنه ببركة اتباعه، وإلا فالله هو الذي يمد العاملين، ويعطيهم ويتفضل عليهم، لأنه تعالى مالك الملك وبيده النفع والضر، والعطاء والمنع، والخفض والرفع.(64/54)
* فإن أراد هذا الكاتب بمدد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إعطاءه لمن سأله، ونصره لمن استنصر به، وإجابته لمن دعاه ونحو ذلك، فمثل هذا لا يملكه الرسول صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، بل هو إلى الله تعالى، كما قدمنا بعض الأدلة على ذلك كقوله تعالى: ((قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً قل إني لن يجيرني من الله أحدٌ ولن أجدَ من دونه ملتحدا)) (الجن:21-22) . وقوله: ((قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب)) (الأنعام:5) . وقوله صلى الله عليه وسلم لأقاربه: "أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً". وقوله في حديث الغلول: "لا أغني عنك من الله شيئاً قد أبلغتك".
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك جنس هذا المدد في حياته فهكذا لا يملكه بعد مماته، بل لا يملكه أحد من خلق الله، لا مَلكٌ مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، فمن اعتقد أنه صلى الله عليه وسلم يمد من سأله، ويعطي من طلبه، وينفع من دعاه مع الله، فقد جعله لله نداً وصرف له خالص حق الله، وهذا النوع من الإمداد هو مراد هذا الكاتب وأضرابه، وغاب عنهم أن الصحابة ومن بعدهم من أئمة المسلمين لم يعتقدوا هذا الاعتقاد، ولم يفعلوا معه ما يدل عليه، فلو كانوا يعتقدون فيه هذا النوع لتهافتوا إلى قبره يطلبون منه المدد والإعطاء، فكم نزلت بهم من مصيبة؟! وكم وقعت من فتنة؛ كوقعة الحرة ونحوها؟! وكم سلط عليهم الأعداء؟! ولم يحفظ أنهم جاؤوا إلى القبر مستنصرين، ولا فزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: المدد يا رسول الله!! ولو كان هذا اعتقادهم لتوافدوا إلى قبره أفواجاً، وأقبلوا إليه من كل حدب وصوب زرافات ووحداناً، فلما لم يفعلوا عُرف أن هذا الاعتقاد إنما هو من بدع المتأخرين؛ حيث أوقعهم الشيطان في ذلك الاعتقاد السيئ، ونتائجه الشركية، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(64/55)
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم، يطلبون منه الدعاء في حياته بالغيث، وإنزال المطر، ورفع العذاب، وبالمغفرة والجنة، وبسعة الرزق، وطيب الحياة، فيدعو الله لهم ويجيب الله دعوته؛ لكرامته عليه، ولفضله وشرفه، وليكون ذلك من جملة معجزاته، فأما بعد موته فلم يطلبوا منه شيئاً من ذلك أبداً؛ بل لما قحطوا عام الرمادة توسلوا بعمه العباس رضي الله عنه؛ لشرفه وكبر سنه وقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، فطلبوا من الله أن يجيب دعوته لهم لأنه حي موجود بينهم، ولم يتوسلوا بالنبي لله؛ لأنهم عرفوا عدم جواز ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
خامساً: لا يجوز الإقسام بذات الرسول صلى الله عليه وسلم على الله، أو السؤال بحقه أو بجاهه:
ثم قال هذا الكاتب في السطر السابع:
[ (التوسل) كلمة التوحيد لا تتم إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله؟ لك أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه الله…الخ] .
والجواب:
نقول: نعم! لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، ذلك لأنه الذي دل على التوحيد ودعا إليه، ولأن الله تعالى نوَّه برسالته كما في قوله تعالى: ((محمد رسول الله)) (الفتح:29) . وقوله: ((قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)) (الأعراف:158) .
وقد فسرت هذه الشهادة بأنها: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبَد الله إلا بما شرع.
وفسرت الشهادة له بالعبودية والرسالة: بأنه عبد لا يُعبَد، ورسول لا يُكذَّب؛ بل يطاع ويُتَّبَع، فليس معنى هذه الشهادة أو من مستلزماتها التوسل بذاته وسؤال الله بجاهه ونحو ذلك.
فأما قوله: [فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله؟] .(64/56)
فنقول: إن أراد من توسل بطاعته واتباعه فلا بأس بذلك، كأن يقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بإيماني وتصديقي واتباعي لرسولك وطاعتي له، أن تغفر لي ونحو ذلك، كما يجوز التوسل بسائر الأعمال الصالحة، كقصة أصحاب الغار الذين توسل أحدهم: ببرّه لأبويه، والثاني: بعفته عن الحرام، والثالث: بأمانته وأدائه حق الغير مع غلته.
فيجوز أن نتوسل إلى الله بالصلوات، والأذكار، والصدقة، والجهاد، ونحوها من أعمال العبد التي يرحمه الله بسببها، ويقبل دعاءه.
وهكذا إن أراد التوسل بمحبته، واحترامه وتوقيره، والصلاة والسلام عليه، وتعظيم سنته وشرعه وما جاء به، فهذا من التوسل المشروع، فيقول: يا رب أسألك وأتوسل إليك بمحبتي لك ولنبيك، وباحترامي له ولسنته، أن تهب لي من فضلك، وترزقني حلالاً، وتبارك لي فيما أعطيتني، ونحو ذلك.
* وهكذا إن أراد التوسل بدعائه وشفاعته فلا بأس بذلك، ولكن يطلب ذلك كله من الله ويوجه إليه سؤاله، فيقول: اللهم اجعلني ممن تناله شفاعة نبيك يوم القيامة، أو: اللهم وفقني للعمل الصالح الذي أنال به شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو: اجعلني من المؤمنين الذين يدخلون في دعائه واستغفاره صلى الله عليه وسلم، وكل هذا ونحوه جائز إن شاء الله، ولا يخالف فيه أحد من أئمة الدعوة أو غيرهم من أهل السنة.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر للمؤمنين كما في قوله تعالى: ((واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)) (محمد:19) . فأنت تدعو الله أن يجعلك من المؤمنين الذي يعمُّهم هذا الاستغفار.(64/57)
* أما إن أراد هذا الكاتب السؤال بذاته، أو الإقسام بذاته على الله، أو السؤال بحقه أو بجاهه فهذا لا يجوز، فلم يرد عن الصحابة، ولا عن أحد من أئمة الدين أو علماء المسلمين المقتَدى بهم، ولا نُقل أن أحداً منهم قال: اللهم إني أسألك بحق نبيك، أو أنبيائك، أو بجاه أو حرمة فلان، أو أتوسل إليك بنبيك ونحو هذا، ولم يفعلوه في الاستسقاء ولا في غيره، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا عند قبر غيره، ولم يرد هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقله المتأخرون الذين وقعوا في الغلو والشرك، وينقلون في ذلك أحاديث ضعيفة، أو موضوعة؛ لا تقوم بها حجة.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/202) عن أبي حنيفة وأصحابه؛ أنهم صرحوا بالنهي عن ذلك، وقالوا: لا يُسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك.
ثم نقل عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك.
وقال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام.
قال القدوري: المسألة بحقه لا تجوز، لأنه حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً. انتهى.
ومعنى قوله: لا حقَّ للمخلوق على الخالق، أي: لا يحب على الله حق لخلقه؛ بل هو سبحانه المتفضل على عباده وهو الذي وفقهم للهداية والأعمال الصالحة، وامتنَّ على من شاء منهم بالفضيلة والكرامة، والنبوة والولاية، فليس لأحد عليه حق من واجب نظير ما يجب للمخلوق على المخلوق من الحق، الذي يطالب به ويلزم من عليه الحق بأدائه، فأما ما ورد من الأحاديث في حق العباد على الله، كقوله صلى الله عليه وسلم: "وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً". فهو حق تفضل وتكرم، ووعد وعدهم به وهو لا يخلف الميعاد.(64/58)
* فأما قول الكاتب: [لك أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه الله] .
جوابه: ما تقدم من أن التوسل الجائز هو التقرب إلى الله بكل الأعمال الصالحة التي يحبها، فمتى عمل المسلم الحسنات، وتقرب إلى الله بالقربات التي يحبها، كان ذلك أعظم التوسل، وهو معنى قوله تعالى: ((اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)) (المائدة:35) . أي: تقربوا إليه بالأعمال التي يحبها، وتكون موصلة لكم إلى مرضاته.
فأما التوسل بالذوات والأشخاص وسؤال الله بحقهم، فإن ذلك لا يجوز، ولم يفعله السلف الصالح، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
سادساً: يجوز التوسل بحب الصالحين ولا يجوز التوسل بأشخاصهم:
أما قول هذا الكاتب:
[إن الله يحب المتقين ذاتاً وصفات، أحياء وأمواتاً، ويحب من أحبهم، ويحب من اقتدى بهم، ويحب من توسل بهم إليه] .
فالجواب:
صحيح أن الله تعالى يحب المتقين، ويحب من أحبهم واقتدى بهم، ولكن محبتهم تستلزم محبة أعمالهم، فمن أحبهم صادقاً تَتَبَّعَ أفعالهم فطبقها وعمل مثل أعمالهم، فإن كنت تحب المتقين فاتق الله حق تقاته، حتى يحبك الله كما أحبهم، وإذا كنت تحب المتقين فقلدهم في أفعالهم، فإن من أحب الرسول صلى الله عليه وسلم استن بسنته وعمل بالشرع الذي بلغه، ومن أحب الصالحين أصلح أعماله واقتفى آثار عباد الله الصالحين، فهذه علامات المحبة، قال الله تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)) (آل عمران:31) . فمن أحب المتقين وانهمك في الذنوب، وأشرك بالله واقترف المعاصي، وخالف سيماء أهل التقوى فدعواه كاذبة خاطئة.
فأما التوسل بحبهم إلى الله فجائز؛ فإن حب أولياء الله وأهل الخير والصلاح من أعمال البر، التي يثيب الله عليها. فإذا قلت: أسألك يا رب وأتوسل إليك بحبك وحب أوليائك، وأهل التقوى والصلاح من عبادك، أن تهب لي من فضلك وجودك، ونحو ذلك، فلا بأس بذلك كالتوسل بسائر الأعمال القلبية.(64/59)
فأما التوسل بذواتهم وأشخاصهم أو بحقهم وجاههم؛ فقد عرفتَ أنه منكر من القول وزور، وأنه من وسائل تعظيمهم ورفع ذواتهم إلى ما لا يستحقه إلا الله، فيكون شركاً أو من وسائل الشرك، والله: ((لا يغفر أن يشرك به)) (النساء:116) . بل قد توعد على الشرك بأعظم الوعيد، فكيف يحب أهله أو يثيبهم؟! ولكن أكثرهم يجهلون.
سابعاً: حديث التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم كذب وزور:
ثم قال الكاتب في السطر الحادي والعشرين من الصفحة الثالثة: [قال صلى الله عليه وسلم: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم"] .
أقول:
هكذا أهل الجهالة والضلالة يتعلَّقون بما هو أوهى من بيت العنكبوت، فنحن نطالبهم بإثبات هذا المقال كحديث مرفوع، حتى يتم الاستدلال به، فإنه حديث لا أصل له أبداً.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (1/319) : وروى بعض الجهال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سألتم الله فسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم". وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين.
فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل، فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام المحمود؟! الذي يغبطه به الأولون والآخرون! وصاحب الكوثر والحوض المورود! وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة! وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه! ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له.. الخ.(64/60)
وقال أيضاً في الفتاوى (1/346) : وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي". حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء. ولهذا كما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره، وذكروا الصلاة عليه، ولم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، إلى آخر كلامه رحمه الله.
الصوفية
تعرض هذا الكاتب للمدح والإطراء في حق الصوفية، وكأنه أراد بذلك الرد على أئمة الدعوة في إنكارهم على أهل الطرق والأحوال، أو اعتقد أنهم ينكرون على الصوفية ويمقتونهم، أو أراد بالثناء عليهم أن فيهم الأولياء والأصفياء، الذين وصلوا إلى حضرة القُدُس واتصلوا بالملأ الأعلى؛ فاستحقوا لذلك أن نتوسل بهم وندعوهم من دون الله، كما يفعل المشركون: مع الجيلاني، والبدوي، ونحوهما.
ونحن نقول: إن الصوفية أصلاً هم الزهاد في الدنيا، والمشتغلون بالعبادة، وكانوا في الزمن الأول يرتدون الصوف الخشن من باب التقشف فعرفوا بهذا الاسم، كإبراهيم بن أدهم، وبشر الحافي، وإبراهيم الخواص، والجنيد بن محمد، ونحوهم، وكان أولئك يعبدون الله على علم وبصيرة، فيحافظون على الجماعات، ويبتعدون عن المحرمات، ويسارعون في الخيرات، ولم يكن عندهم شيء من البدع ولا الخرافات، ثم جاء بعدهم من تسمى باسم الصوفية وانتحل مذهباً خاصاً، وأصبح الصوفية أهل نحلة وطريقة مستقلة، وابتعدوا عن العلم والعلماء، واعتمدوا على الأذواق والمواجيد، فدخلت عليهم بدع وخرافات في المعتقد، وفي العمل: كالسماع، والرقص، والتواجد، وصحبة الأحداث، والزهد في المباحات، وتأليم النفس ونحو ذلك، وقد ناقشها ورد عليهم فيها الشيخ ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) وغيره.(64/61)
ثم جاء بعدهم من تسمى بالتصوف أيضاً وغلا حتى تدخل في الربوبية، واعتقد أن الوجود واحد بالعين، وأنكر الفرق بين الخلق والخالق، وهم المسمون بالاتحاديين الحلوليين وأهل وحدة الوجود، وقولهم من أشنع الأقوال، وكفرهم أوضح من كفر اليهود والنصارى، فمنهم من أفصح عن ما يكنه، وأعلن معتقده كالحلاج فحكم بكفره أهل زمانه، وأفتوا بقتله فقتل، ومنهم من يتستر ويخفي معتقده ولكنه يظهر للمتمعن والمتفطن في كلامه، أمثال ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض ونحوهم.
وهذا المعتقد الكفري قد تمكن وفشا القول به زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، فرد على أهله ضمن رسائل مطبوعة في المجلد الثاني من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، وله رسائل كثيرة في حقيقة التصوف والسلوك في المجلدين العاشر والحادي عشر، ومن هذا التقديم الموجز يعرف أنه لا يجوز إطلاق الذم ولا المدح للصوفية، بل يعطى كل منهم حكمه.
أما الصوفية في هذا الزمان ومنهم من يعرفون بالتيجانية وغيرهم، فإنهم قد انتحلوا طرقاً، وصارت لهم مقامات وخواص تصادم الأدلة؛ حيث يعتقدون في أوليائهم الأقدمية على الرسل الكرام، ويزعمون أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، ويرجعون إلى أقوال مقدميهم، ويحكَّمونهم في الأنفس والأزواج والأموال، ويعتقدون فيهم العصمة وملكية التصرف، ونحو ذلك، من الاعتقادات السيئة، فما داموا كذلك فهم مجانبون للصواب، ومحادون لله ورسوله، فلا نعرف لهم فضلاً ولا كرامة.
أولاً: إطلاق الصوفية بأنهم صفوة الله من خلقه خطأ:
قال الكاتب:
[الصوفية هم صفوة الله من خلقه، وقدوتهم أهل الصُّفَّة الذين مدحهم الله، وأثنى عليهم في محكم كتابه؛ لأنهم عبدوه محبة فيه وشوقاً لرؤيته، وإمام الجميع المصطفى صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الله عز وجل، كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة.. الخ] .
جوابه:(64/62)
أن يقال: يعتقد هذا الكاتب وأمثاله أن اشتقاق اسم الصوفية من الصفاء، أي: صفاء القلوب، أو من الصفوة، أي: أنهم صفوة خلق الله، أي: خيرتهم وأفضلهم، وهذا خطأ؛ فإن الصوفية إنما وجدوا في أثناء القرن الثاني واشتهروا بالزهد والتقشف، ولبسوا الصوف المنسوج من صوف الضأن لخشونته، قال الشيخ تقي الدين في الفتاوى (11/28) : وكذلك في المائة الثانية صاروا يعبِّرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال: إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو إلى الصفا، فهي أقوال ضعيفة.. الخ. وقال أيضاً (11/195) : واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح. وقد قيل: إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل: إلى أهل الصفة، وقيل: إلى الصفا، وقيل: إلى الصفوة، وقيل: إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، وهذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفِيّ، أو صفائي، أو صفوي، ولم يقل صوفي اهـ.
وهذا الكاتب جعل الصوفية هم صفوة الله من خلقه، فأما أن يقصد سبب التسمية، أو يقصد الميزة والفضيلة، فقد عرفت أن اشتقاق التسمية من الصوف لا من الصفوة، وعرفت مما قدمناه أن الصوفية الأقدمين كانوا من صفوة عباد الله في ذلك الزمان؛ لكن ليسوا أفضل من أنبياء الله ورسله، ولا من الصحابة والسابقين الأولين، فإطلاق الكاتب بأنهم صفوة الله من خلقه، خطأ؛ فإنه يلزم منه تفضيلهم على ملائكة الله ورسله، وعلى أكابر الصحابة والخلفاء الراشدين، والسابقين إلى الإسلام، وعلى أئمة المسلمين وعلمائهم، الذين لم يلبسوا الصوف، ولم ينتسبوا إلى الصوفية، ولا شك أن مراد الكاتب بهم صوفية هذا الزمان، ومن سبقهم من أئمتهم كابن عربي، وابن سبعين، والحلاج، ونحوهم ممن انتحلوا مذهب الاتحاد، الذي هو كفر صريح، وخروج عن عقيدة الأبنياء وأتباعهم، فهؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء؛ فضلاً عن أن يكونوا صفوة الله من خلقه.(64/63)
فأما جعله أهل الصفة هم قدوتهم فهو أيضاً خطأ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/38) : أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر المسجد النبوي في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه؛ حيث يكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء والآهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوى إليه، يأوى إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له، ويجيء ناس بعد ناس، فكانوا تارة يقلون وتارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين … الخ.
فعلم من هذا أن أهل الصفة هم فقراء المهاجرين، ولكنْ ليسوا قدوة لأهل التصوف، ولا لغيرهم، وليسوا أفضل من أكابر الصحابة من المهاجرين، الذين لم يأووا إلى تلك الصفة، ومن الأنصار الذين هم أهل المدينة، والله تعالى مدح الصحابة والسابقين الأولين عموماً، ولم يخص أهل الصفة بمدح ولا ثناء يتميزون به عن غيرهم، ولا شك أن جميع الصحابة عبدوا الله محبة له وشوقاً لرؤيته، وطلباً لثوابه، وأهل الصفة من جملتهم، فلا مبرر لتخصيص أهل الصفة بأنهم عبدوه محبة فيه وشوقاً لرؤيته، ما دام هذا الوصف يدخل فيه معهم غيرهم.
* فأما قول هذا الكاتب: [وإمام الجميع المعصوم صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الله عز وجلّ، كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة.. الخ] .(64/64)
فنقول: صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم إمام جميع أمة الإجابة الذين صدقوه وشهدوا له بالرسالة؛ ولكنه لم يشرع لأمته هذه الشطحات، ولا نقلت عنه تلك المواجيد والأذواق المزعومة، فأما خلوته في غار حراء فذلك تمهيد من الله لنزول الوحي عليه، ففي تلك الخلوة تصفية لسريرته وتفريغ لقلبه عن الشواغل، وإبعاد عن المجتمع المليء بالشرك والمعاصي والمخالفات؛ لكنه بعد أن نزل عليه الوحي لم يرجع إلى غار حراء، وما حفظ أنه بعد النبوة صعد ذلك الجبل، ولا حاول الخلوة والتفرد ولا انقطع عن الناس؛ بل لم يزل مع الناس ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو إلى توحيد الله، ويخالط الناس ويجالسهم، ويعاشر أهله ويعلم أتباعه ما أوحي إليه، ويبلغ الناس رسالة ربه، وهكذا بعد أن هاجر إلى المدينة استمر في الدعوة والتعليم، وكان يجلس مجالس عامة يقرأ فيها القرآن، ويبين معانيه ويتلقى عنه أصحابه علم الشريعة، وتفاصيلها مع ما يقوم به من غزوات بنفسه، وبعث جيوش أو سرايا ودعاة إلى الله وجُباة، وبعث رسل وكتب لشرح تفاصيل الإسلام، وكل هذه الأعمال ونحوها تنافي أعمال الصوفية التي معظمها يدور على الخلوة والابتعاد عن مجتمع الناس، وعلى ترك الشهوات المباحة من: النكاح، وتناول الطيبات، وإعطاء النفس حظها من المباح، الذي يتقوى به على عبادة الله، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". فأين في سنته فعل الخلوة أو مدح الانقطاع عن الناس، أو التواجد والطرب عند السماع أو نحو ذلك؟! بل إ نه قد نهى عن السماع الذي يستعمله الصوفية وذم أهله، فأما ما يرويه الصوفية من تواجده وطربه في بعض المناسبات فكله كذب لا أصل له والله الموفق.
ثانياً: إن حلاوة الأنس بالله تكون بذكر الله واتباع شرعه:
ثم قال الكاتب:(64/65)
[من ذاق حلاوة أنسه رأى من لطفه العجائب، وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب، قال تعالى: ((يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً)) (الأحزاب:45) . لفظ (أيها) بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة بل لابد من حضور، قال صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"] .
جوابه:
أن نقول: يعتقد الصوفية أن حلاوة الأنس بالله تعالى، لا تحصل إلا بالخلوة الطويلة والانفراد، ويسمون تلك الخلوة جمعية القلب، فإن أحدهم ينفرد في زاوية من مكان مظلم، ويبدأ في التفكير ويطيل النظر، ويتناسى الخلق كلهم، ويجمع همه على ربه، فربما ترك عدة صلوات متوالية تمر به حالة انفراده مخافة تفرق همومه وفساد جمعيته. وفي النهاية يزعم أنه يحصل له في تلك الخلوة مكاشفات واطلاع على الملأ الأعلى، وعلى أمور غيبية وخفية، ويسمى ذلك لذة الأنس، أو حلاوة المناجاة، ويزعم أنه يتمتع بلذيذ الخطاب، ويرفع له الحجاب عن ربه فيطلع بقلبه على ما أخفِي عن غيره، ويسمى الذين لم يصلوا إلى درجته ومنزلته: محجوبين مبعَدين عن القرب الذاتي إلى ربهم، وقد يصل أحدهم إلى غاية قصوى تسمى عندهم بالفناء؛ بحيث يفنى أحدهم بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده؛ بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وقد تجرهم هذه الأحوال إلى عقيدة سيئة هي اتحاد الخالق بالمخلوق (عقيدة أهل الحلول) ، وقد يزعم بعضهم أن مشايخهم وأكابرهم يصلون إلى درجة تسقط عنهم التكاليف، وتباح لهم المحرمات، ونحو ذلك من الخرافات، التي يمدحهم لأجلها هذا الكاتب وأضرابه.
ونحن نقول: إن حلاوة الأنس بالله لا تحصل إلا بالاشتغال بذكره ودوام عبادته، والبعد عن القواطع والشواغل التي تقسي القلب، وتحول بينه وبين التفكير في آلائه، والتذكر لنعمائه.(64/66)
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن للإيمان حلاوة وطعماً كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وقال صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نبياً".
وهكذا أخبر بأن العبادة بها تقر عينه ويرتاح بدنه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة"، وقوله: "أرحنا يا بلال بالصلاة".
فهذا ونحوه يفيد أنه عليه الصلاة والسلام، يجد في الصلاة لذة قلبه وسروره وابتهاجه وغاية فرحه وراحة بدنه؛ حيث إنه في الصلاة ينقطع عن الغير ويُقْبِلُ بقلبه على ربه، ويلتذ بذكره ومناجاته، ويتقلب من حال إلى حال يجد في كل منها الأنس بالعبادة، وكذا ينتقل من ذكر إلى دعاء، إلى تلاوة، وفي الجميع قوة للقلب والبدن.
فبهذه الأوصاف تكون الصلاة مفيدة ومؤثرة على العبد وناهية عن الفحشاء والمنكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما يلتذ بالعبادة بأي وصف كانت، ولم يكن يؤثر الخلوة والإنفراد، وليس في كون الصلاة قرة عينه ما يدل على أحوال الصوفية وأذواقهم ومواجيدهم، ولو من بعيد.(64/67)
فنحن نقول: ما نوع الأنس الذي يذوقون حلاوته، ثم يرون من لطفه العجائب؟ فإن كان الأنس بالذكر والصلاة والدعاء والتلاوة والتنقل في العبادة، فليس من شرط ذوقه الانفراد والعزلة والبعد عن الناس وترك الجمع والأعياد والجماعات؛ بل إن حلاوة العبادات يحس بها كل من أحضر قلبه حال أدائها، وأعرض عن كل ما يشغل القلب عن الإقبال على التدبر من أوهام ووساوس وحديث نفس، فتفريغ القلب من ذلك سهل ويسير على من يسره الله عليه، فهؤلاء هم الذين يوليهم الله عنايته ويلطف بهم، ويكون من آثار لطفه أن يحميهم ويحفظهم عن القواطع والعوائق، ويعصمهم من كبائر الإثم والفواحش، ويحميهم أيضاً من الشهوات والملذات التي تعوق سيرهم إلى ربهم، ويكون من آثار لطفه توفيقهم وتسديدهم: في الأقوال، والأعمال، والإقبال بقلوبهم على الطاعات، والاستكثار من الصالحات، وهذه سيرة الصحابة رضي الله عنهم، ومن سار على نهجهم، الذين عمروا أوقاتهم بالتعلم والتفهم، والعمل والتطبيق، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات المباحة أسوة بنبيهم الذي قال: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن يرغب عن سنتي فليس مني".
* فأما قول الكاتب: [وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب] .
فنقول: إن أراد التمتع والتلذذ بتدبر القرآن وتعلقه؛ بحيث يعده خطاباً من ربه إليه، فهذا حق وصواب، فإن الله تعالى أمر بذلك كما في قوله: ((ليدّبروا آياته)) (ص:29) . وقوله: ((أفلم يدّبروا القول)) (المؤمنون:68) . لكن ليس من شرط هذا التمتع خلوة، أو انفراد؛ بل يحصل التلذذ بتدبره في الصلاة، وبين الناس.(64/68)
فأما إن أراد التمتع بلذيذ خطاب ربه وسماع كلامه منه إليه، وأن أهل الأحوال تتصل قلوبهم بالملأ الأعلى، ويناجون الله ويكلمهم ويكلمونه، ونحو ذلك، فكل ما يقولون في هذا الباب هوس ووحي شيطان، فإن الله تعالى خص أنبياءه بوحيه وخص موسى بالتكليم، كما قال تعالى: ((وكلَّم الله موسى تكليماً)) (النساء:164) . وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وقد قال تعالى: ((وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم)) (الشورى:51) .
وهذا الكاتب قد ذكر أن الصوفية ترفع عنهم الحجب والأستار، ويناجون ربهم ويتلذذون بكلامه، ومعنى هذا: أنهم فاقوا كثيراً من الأنبياء والرسل، الذين هم الواسطة بين العباد، فإن الرسل إنما يوحي الله إليهم وحياً، أو يرسل إليهم الله وبين رسولاً ملكياً أو يكلمهم من وراء حجاب، كما في نص هذه الآية، أما الصوفية في زعم هذا الكاتب فإنها ترفع لهم الحجب، وتخترق قلوبهم الأستار، وتتصل بالملأ الأعلى، وتسمع خطاب الرب تعالى مباشرة، وتتمتع بلذيذ ذلك الخطاب، فهل بعد هذا الغلو والرفع لمقامهم من زيادة، سبحان ربنا الأعلى؟!
* فأما استدلاله بقوله تعالى: [ ((يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً)) . وقوله: لفظ "أيها" بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة بل لابد من حضور] . فالمتبادر أنه يقصد أحد أمرين:
أحدهما: أن الله خاطبه وهو حاضر شاهد عنده، بأن كشف له الأستار، وقربه من حضرة القدس، وخاطبه كفاحاً بلا واسطة ملك ولا غيره، وهذا ليس على إطلاقه، فإن الآيات التي فيها نداء النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن كثيرة، ومعلوم أنها نزلت كغيرها بواسطة الملك وحياً من الله إليه، كما في قوله تعالى: ((نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين)) (الشعراء:193-194) .(64/69)
الثاني: أن يقصد أننا متى قرأنا هذه الآية فإنا نخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، كأنا نراه مواجهة ومقابلة، وأنه شاهد عندنا حاضر ليس بغائب، فيفيد ذلك أنه حي لم يمت، وأنه يسمع كل من خاطبه بهذه الآية أو غيرها، وأنه شاهد مع كل أحد في كل مكان، متى ناداه وخاطبه سمعه وأجابه، وأن هذا الوصف يعم كل ولي وصالح من أكابر الصوفية، ونحوهم. وهذا لا يصح؛ فلفظ "أيها": ليس خاصاً كما قال هذا بالمواجهة؛ بل إن الله خاطب نبيَّه بهذه الآيات الكثيرة آمراً له بما أرسله به، وما كلفه به من البشارة والنذارة والتبليغ والبيان، وكل ذلك أنزله بواسطة ملك الوحي، فالخطاب بواسطة يناسب فيه لفظ "أيها" فلا تدل على استلزام مواجهة ومقابلة.
أما لفظ الشاهد: فالمراد الشهادة على الأمة بأنهم قد بُلِّغوا ودُعُوا وقامت عليهم الحجة، كما في قوله تعالى: ((ويكون الرسولُ عليكم شهيداً)) (البقرة:143) . وقوله: ((ليكون الرسول شهيداً عليكم)) (الحج:78) . قيل: شاهداً على أنه قد بلّغكم ما أنزل إليه وبينه لكم، وقيل: شاهداً على أصحابه بحسن أعمالهم وصلاحهم واستقامتهم، فما يوهمه كلام الكاتب لا صحة له.
ثالثاً: الصوفية كغيرهم لا يملكون شيئاً من أمر الكون لأنه لله وحده:
ثم قال الكاتب:
[الصوفي: هو من عرف أن التوجه إلى الله والانقطاع إليه مما ينيل القصد، ويهيئ النفس للملكية.. الخ] .
أقول:
قد ذكرنا أول الكلام تعريف الصوفية في أول الأمر، ثم ما آل إليه أمرهم وما دخل عليهم من البدع، ثم الطرق التي أوقعت الكثير منهم في الخروج عن الإسلام: كالحلول، والاتحاد، فأما التوجه إلى الله والانقطاع إليه فهو صفة شريفة عَليَّة متى قصد منها الإقبال على العبادات، والتفرغ لها والإعراض عن كل ما يشغل عن الطاعة، ويعوق عن مواصلة السير إلى الله.(64/70)
وهذه طريقة أهل الزهد والعلم والعبادة من الصوفية السلفيين ومن غير الصوفية، ولم يزل في المسلمين قديماً وحديثاً خلق كثير وجمع غفير يشتغلون جُلّ وقتهم بالعبادة القلبية الروحية، ويتوجهون إلى ربهم بقلوبهم، ويعلقون عليه آمالهم، وينقطعون إليه وحده، ويعرضون عما سواه، ولا ينافي ذلك إعطاء النفوس حظها من راحة ولذة مباحة: من مأكل، ومشرب، ومنكح، وملبس، وكذا الاشتغال بالكسب الحلال، وجمع المال الذي تمس إليه الحاجة من وجوهه الجائزة، كما أمر الله بذلك في قوله: ((فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)) (الجمعة:10) . وكما في قوله تعالى: ((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)) (المزمل:20) .
وإذا كان الأنبياء والرسل يلتمسون الرزق ويطلبون المال من وجوهه، كما قال تعالى: ((وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)) (الفرقان:20) . فكيف بأتباعهم، ومن هو دونهم؟ فإن أراد الكاتب بالانقطاع إلى الله، ترك الدنيا وما فيها والزهد في المباحات، والرهبنة، وترك كل الملذات ومشتهيات النفس التي تتقوى بها على الطاعات، فهذا الوصف والقصد غير صحيح؛ بل هو خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الرسل وأتباعهم.
* فأما قول الكاتب: و [يهيئ النفس للملكية] .. الخ.
فهو خطأ من القول؛ فإن أراد بالملكية الصعود بالنفس إلى مقام الملائكة واتصافها بالروحية والنوارنية والاتصال بالملأ الأعلى، ونحو ذلك، فلا يصح، فإن نفس الإنسان لا تصل إلى صفات الملائكة، التي من خصائصها: العلو، والخفة، والنور، والمكاشفات، والاستغناء عن الدنيا، والانكفاف عن الشهوات، ونحوها. فإن الله ركَّب في طباع البشر من الشهوة، والالتذاذ بالطعم والمشرب، والميل إلى ذلك، والتألم بفقده ما لم يكن من صفات الملائكة.(64/71)
أما إن أراد بالملكية التملك وأن النفس تتهيأ لأن تملك شيئاً من أمر الكون أو تدبره أو تتصرف فيه تصرف المالك، فهذا أيضاً لا يصح، فالنفس البشرية وسائر النفوس المخلوقة ليس لها من الأمر شيء، ولا تقدر على التصرف المستقبل، ولا الملكية التامة النافذة؛ بل إن المخلوق نفسه مملوك لربه ولو ملك الدنيا بأسرها، فملكه مؤقت وناقص، وهو وما بيده ملك لربه، فكيف يقال: إن انقطاع الصوفي ينيله القصد ويهيئ نفسه للملكية.
رابعاً: ذكر الله يزيد في استمرار العبادة:
ثم قال هذا الكاتب:
[فاتخذ الذكر زاداً لروحه والفكر في آياته القرآنية والكونية شراباً لروحه.. الخ] .
فأقول:
هذا القول حق، فذكر الله دائماً هو قوت القلوب، وزاد الأرواح؛ ولكن ليس معناه أنه يغني عن الزاد الحقيقي للبدن، وإنما الذكر والفكر يقوي الروح، ويزيدها نشاطاً وثباتاً واستمراراً في العبادة، وحباً ورغبة في مواصلة العمل.
خامساً: العلماء مهما بلغوا؛ فهم مقيدون بنصوص الشريعة:
ثم قال الكاتب:
[حتى أشرقت على قلبه شمس المعارف الربانية، فأصبح القلب ينبوعاً من ينابع الأنوار والأسرار والحكم الربانية.. الخ] .
نقول:
هذا غير صحيح؛ فإن ذلك يستلزم تفوقه على الرسل والملائكة، واستغناءه عن الشريعة وعلومها، فإن الينبوع هو الماء النابع من الأرض، فمعنى ذلك أن شمس المعارف الربانية والعلوم الدينية قد أشرقت على قلوب الصوفية، وسطعت فيها فاستنارت بها فأصبح ينبوعاً للأنوار والأسرار، يعني: معدناً تنبع منه الأنوار الإلهية وتنفجر منه عيون الحكمة، وتتوارد عليه الأسرار والحكم الربانية؛ فتغنيه عن العلوم الشرعية.(64/72)
ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يفتح على بعض العباد إفهاماً وحكماً وأسراراً في كتابه أو شرعه، كما في قوله تعالى: ((واتقوا الله ويعلمكم الله)) (البقرة:282) ؛ حيث جعل التقوى سبباً للتعليم، فالله تعالى قد يرزق بعض عباده الأتقياء والصالحين علوماً وأفهاماً وأسراراً في كتابه، أو في شرعه، ولكنها مستنبطة من القرآن والحديث، ومن الحكم العامة التي لأجلها شرعت الشرائع، وتنوعت الأوامر والأحكام، ولا تصل إلى الوصف الذي يذكره الكاتب من إشراق شمس المعارف.. الخ، فإنه مع ما فيه من المبالغة والإطراء غير صحيح؛ فإن القلب البشري لا يتصور أن يصبح ينبوعاً من ينابيع الأسرار والأنوار والحكم الربانية، وذلك لقصر الإنسان عن هذا الوصف مهما فتح عليه من العلوم والمعارف، مع أن هذا الوصف ليس خاصاً بالمتصوفة؛ بل هناك علماء الأمة وعبّادها قاموا بحقوق ربهم، ووقفوا عند حدوده، وعبدوه حق عبادته قد فتح الله على قلوبهم من الفهم والإدراك، والحفظ والاستنباط، الشيء الكثير، كما حصل للأئمة الأربعة، وللمحدثين والفقهاء من صدر هذه الأمة، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات والملذات، ولم يدخلوا في عداد الصوفية، ولا توغلوا في إشاراتهم ورموزهم؛ بل هم متقيدون بنصوص الشريعة وبتعاليم ربهم، ومتبعون لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وذلك هو الفضل العظيم.
سادساً: الاتباع إنما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المبلغ عن الله:
ثم قال الكاتب:
[ومن قال كذلك صارت أحواله كلها بالله، ولله، أمرنا باتباعه] .
جوابه:(64/73)
أن يقال: كيف تكون أحوال الصوفي كلها بالله ولله؟! مع أنه بشر يخطئ ويصيب، ويرتكب الذنوب، وهو محل النقص والتقصير في أداء حقوق ربه، وفي شكر نعمته: ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)) (إبراهيم:34) . وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومع ذلك فقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في صلاته: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت..". الخ.
فإذا كان صدِّيق الأمة رضي الله عنه يعترف بأنه ظلم نفسه ظلماً كثيراً، فكيف يكون المتصوف معوصماً وأحواله كلها بالله ولله؟! ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يوفق بعض أحبابه لتكون حركاته بالله، كما في الحديث القدسي عند البخاري عن أبي هريرة، وفيه: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به". فإن معنى ذلك تسديده في أقواله وأفعاله، ولكنّا لا نستطيع الجزم لشخص بعينه بأن أحواله كلها بالله ولله، كما ذكر هذا الكاتب.
* فأما قوله: [أمرنا باتباعه] .(64/74)
فغير صحيح؛ فإن أغلب الصوفية؛ سيما المتأخرين لهم شطحات خاطئة لا يجوز شرعاً اتباعهم فيها، فقد ظهر بُعْدُهم فيها عن الصواب، ولهم أيضاً طرق وأحوال مبتدعة: كالسماع، والرقص، والخلوة الطويلة، والبعد عن العلم والعلماء، والاستغناء عن الوحي بالأوهام، وحديث النفس الذي يخيل أنه وحي إلهام، فكيف يسوغ اتباعهم في هذه البدع ونحوها؟ وبأي نص أمرنا بذلك؟ مع العلم بأن الاتباع إنما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المبلغ عن الله، وقد ورد الأمر بذلك، كما في قوله تعالى: ((واتبعوه لعلكم تهتدون)) (الأعراف:158) . وقال تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)) (آل عمران:31) . وأن يطاع ويُتَّبع المخلوق، متى وافق أمر الله ورسوله، فيكون اتباعه خاصاً بما بلغه مما تحمله عن الله ورسوله، فالطواعية والاتباع في الحقيقة لله ورسوله، فمتى خالف المخلوق -مهما كانت مرتبته- صريح الكتاب والسنة، وجب طرح قوله، والرجوع إلى شرع الله، كما في قوله تعالى: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)) (النساء:59) .
سابعاً: شطحات شنيعة بعضها من أعظم الكفر وأشنعه:
ثم قال الكاتب:
[قال الإمام الأكبر، محي الدين ابن العربي رضي الله عنه: من لم يأخذ الطريق عن الرجال، فهو ينقل من محال إلى محال] .
نقول:
لا عبرة بالقائل ولا بما قال، فإن ابن عربي هذا مشهور بأنه اتحادي، يقول باتحاد، الخالق والمخلوق، وهو أعظم الكفر وأشنعه، وقد صرح بذلك في كتابيه: (فصوص الحكم) و: (الفتوحات المكية) وغيرهما من مخالفة الرسل صريحاً، ومدح الكفار والمشركين، وتصويب ما هم عليه.(64/75)
وقد نقل عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11/240) تعقبه للجنيد بن محمد رحمه الله في قوله: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فأنكر عليه ابن عربي، وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية: يا جنيد، وهل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما؟ كذا قال! لأن عقيدته أن وجود المحدث هو عين وجود القديم، كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي على من؟ وما ثمَّ إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو. فعلوُّه لنفسه وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العليّة لذاته وليست إلا هو. إلى أن قال: هو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر، وما ثَمَّ من يراه غيره، وما ثمَّ من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات.
ثم ذُكِرَ أن التلمساني لما قُرئ عليه الفصوص فقيل له: القرآن يخالف فصوصكم، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا. فقيل له: فإذا كان الوجود واحداً، فلم كانت الزوجة حلالاً والأخت حراماً؟ فقال: الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم.
ونقل شيخ الإسلام في المجموع (2/121) عن صاحب الفصوص، وهو ابن عربي المذكور قوله: إن آدم عليه السلام إنما سُمِّي إنساناً لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، وهذا يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس، وبعضاً منه، وأنه أفضل أجزائه وأبعاضه.
وهكذا قال في الفصوص: إن الحق المنزه هو الحق المشبه، فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا؛ بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة.. الخ.(64/76)
وفي كلامه من أمثال هذا الكفر الصريح ما لا يحد ولا يوصف، وقد تعقبه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (2/204-284) وغيره. فكيف يوصف، مع ذلك بأنه الإمام الأكبر وبأنه يحي الدين؟ وقد انخدع بكلامه الجم الغفير، واعتقدوا أنه أجر الأولياء، وأرقاهم منزلة، وأرفعهم قدراً، وإنما تفطن له وعرف ما في كلامه من الكفر والضلال، أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تحقق عقيدته، وعرف مواضع أخطائه أو تصريحاته في مؤلفاته، وناقشه في كل ذلك، وبين تناقضه وتهافته في كلامه، وذلك في مواضع كثيرة من مجموع الفتاوى وغيره.
* فأما قوله: [من لم يأخذ الطريق من الرجال إلخ] .
فمراده بالطريق مسلك الصوفية، وهو العبادات القلبية أو الأسرار الرمزية، كنوع من اللباس، أو إشارات بينهم يتناقلونها، ويتلقاها الصغير عن الكبير بأسانيد كأسانيد الأحاديث والمؤلفات.
فيقول أحدهم: أخذت الطريق عن فلان، وأخذها هو عن فلان، حتى تتصل بأكابرهم كالجيلاني، أو الحلاج ونحوهما، ولا يكتفون بما عليه المسلمون من تلقي الشريعة من الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، فالطريق عندهم مسلك مغاير لمسلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته وأئمة المسلمين، وقد اشتهروا بتسميتهم أهل الطرق أو الطرقية، ولا أستحضر شيئاً عن تفاصيل طرقهم ورموزهم ولكني أعتقد أنها خيالية لا يصح الركون إليها؛ لكونهم يؤثرونها على الشرع، ويستغنون بالعمل بها عمّا عليه في ذمهم، وبيان شيئ من أحوالهم، ومنها قول ذلك الناظم رحمه الله:
إن قلت قال الله قال رسولُه همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت قد قال الصحابة والأولى تبعوهم في القول والأفعل
أو قلت قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والإمام العالي
أو قلتَ قال صحابهم من بعدهم فالكلُّ عندهم كشبه خيال(64/77)
ويقول قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفاء أحوال
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي
دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحالي
فهذه حقائق الطرق التي يتبجحون بها هم ومريدوهم، أمثال هذا الكتاب، الذي انتحل هذه المناهج المبتدعة، وتحامل على أهل التوحيد، ورغّب في وسائل الشرك في مذكرته هذه.
ثامناً: يحرم نشر هذه المذكرة لما فيها من الأكاذيب والأباطيل:
ثم قال:
[فالواجب عليك وعلى أمثالك من كبار العلماء نشر هذه المذكرة؛ لمن أراد النجاة في الآخرة عن طريق: الإذاعة، والمجلات الإسلامية، رحمة المسلمين، وخوفاً من عذاب الله، لأن كاتم العلم ملعون، نسأله الختام بجاه طه عليه السلام… الخ] .
جوابه:
أن نقول: الواجب والحرام إنما يؤخذ من الأدلة الشرعية، فنحن نقول: إن هذه المذكرة يحرم نشرها، ويجب إتلافها على من رآها، وذلك لما تحتوي عليه من الملاحظات التي ناقشنا بعضها فيما سبق مما يتعلق بالأسماء والصفات، وما يتعلق بالتوسل والاستشفاع، وما فهيا من ذم أهل التوحيد ورميهم بما هم منه براء، وكذا الغلو في مدح الصوفية المنحرفة والغالية، فعلى كبار العلماء التحذير لمن أراد النجاة عن الاغترار بمثل هذه البدع، ونشر السنة والعقيدة السلفية، وأدلة التوحيد والإخلاص، والنهي عن كتمان ذلك وعدم إيضاحه لمن يخاف وقوعه في أسباب الردى، فمن كتم ذلك فهو كاتم للعلم، وقد توعده الله تعالى بقوله: ((إن الذي يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يعلنهم الله ويلعنهم اللاعنون)) (البقرة:59) .(64/78)
* فأما توسل هذا الكاتب بجاه طه عليه السلام، فهو من البدع التي قد توقع في الشرك المحبط للأعمال، وقد تقدم أنه استدل بحديث: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي.. إلخ"، وأنه كذب لا أصل له، وبيان ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم له جاه عند الله، ولكن لم يرد التوسل بجاهه، فليس جاه المخلوق عند الخالق كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
وبمراجعة ما تقدم يتضح وجه النهي عن السؤال بجاه المخلوق أو التوسل به، وأنه من وسائل تعظيم المخلوق ووصفه بما لا يستحقه إلا الله.
وهذا آخر ما أردت تعليقه على هذه المذكرة؛ نصحاً للمسلمين، وبياناً لما قد يلتبس من كلامه على الجهلة ونحوهم، مع أن أهل العقيدة والتوحيد لا يخفى عليهم ما تحتوي عليه تلك المذكرة من التهافت والتناقض، ونصر الباطل وإنكار حقيقة التوحيد، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(64/79)
محرمات متمكنة في الأسرة
تقديم فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
أحمد الله وأشكره وأثني عليه وأستغفره وأتوب إليه وأذكره، وأسأله سبحانه أن يغفر لنا الذنوب والخطايا، ويتجاوز عن المعاصي والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند وشبيه ولا ظهير ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، محمد بن عبد الله الذي بشر وأنذر وخوف وحذر الأمة من صغائر الذنوب وكبائرها صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره وتمسك بهداه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
فإن ربنا تبارك وتعالى خلقنا لعبادته وأمرنا بتوحيده وطاعته، وحرم معصيته ومخالفته، ووعد من أطاعه بالجنة والأجر العظيم، وتوعد من عصاه وخالف أمره بالنار والعذاب الأليم، وفرض على أنبيائه ورسله أن يبينوا للأمم تفاصيل الطاعات والمحرمات وما يترتب على فعلها من الثواب والعقاب، وبعد أن وضح الحق واستبان وعرف الناس الواجبات والمحظورات لم يبق للناس على الله حجة ولا اعتذار، فمن تمسك بالحق ودان لله تعالى بالعبودية وأذعن لأمره واستكان وتقرب إليه بالحسنات وحفظ نفسه عن السيئات فهو السعيد الفائز برضى الله تعالى وثوابه، ومن عصى وعتى وتمرد وخرج عن الطاعة وتجرأ على المحرمات فهو الشقي الطريد المبعد عن رحمة ربه وفضله.
وذلك أن الله تعالى من حكمته قد حف الجنة بالمكاره، وحف النار بالشهوات، فمن صبر على الطاعات وألزم نفسه بالمكاره من العبادات وتحمل في طاعة ربه المشقات والصعوبات فهو من أهل السعادة والفلاح وجزيل الثواب، ومن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني وانساق نحو شهواته وملذات نفسه وانخدع بالمغريات البراقة ولم يتمعن فيما وراء هذه الشهوات من العاقبة السيئة فهو من أهل الشقاء والحرمان وشديد العقاب.(65/1)
ومن حكمة الله تعالى كما حف النار بالشهوات أن مكن للعصاة وأمهلهم وعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، وأعطاهم من زهرتها وزينتها، فاعتقد الغوغاء والعامة أنهم من ذوي الحظ العظيم، وأن إكرامهم في الدنيا دليل فضلهم وأقدميتهم رغم ما يجاهرون به من المعاصي، وما يفرطون فيه من الطاعات، فسار الأكثرون خلفهم، وأمعنوا في تقليدهم مما كان سبباً في ظهور المعاصي والمجاهرة بفعل المحرمات بدون خجل ولا مبالاة، فظهر التبرج والسفور ووسائل الزنا والفواحش، وكثرت بيوت الدعارة والفساد وشربت الخمور، وأعلن شرب الدخان وتعاطي المخدرات، وتفنن الكثير في السرقة والاختلاس وانتهاب الأموال وأكلها بغير حق، وكثر التعامل بالربا والغش والمخادعة والرشوة والاختيال على تحصيل المال بأنواع الحيل، وتهاون الكثيرون بالصلاة والصوم والأعمال الصالحة، فكان لزاماً على أهل العلم أن يبينوا للناس خطر ما وقعوا فيه، وأن يحذروهم عاقبة التهاون بالمحرمات.
وكنت قد ألقيت محاضرة حول بعض المعاصي المتفشية في هذه البلاد خاصة. وسجلها بعض الإخوان ثم أفرغها الأخ علي بن حسين أبو لوز وعرضها علي فصححتها، وقد أضاف إليها بعض التعديلات، وأذنت بنشرها على ما فيها من ضعف التركيب وعدم التنسيق الذي اقتضاه الارتجال، وأرجوا من الإخوان أن ينبهونا على ما فيها من خلل وخطأ فالمؤمن مرآة أخيه، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(65/2)
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)) رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها. فقال قائل: ومن قلة بنا يومئذ؟ قال: ((بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ فقال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) . (رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن ثوبان رضي الله عنه) .
أقول إن من حب الدنيا وكراهية الموت انتشار المعاصي والمحرمات هنا وهناك، والتي قد تمكنت في كثير من البلاد واعتادها الكثير من الناس فلا يستقبحونها ولا يستنكرونها.
لقد أصبح الإسلام غريباً في كثير من البقاع، وخاصة بين أهله، فما أن تجد شاباً ملتزماً بأمر الله ومتمسكاً بسنة رسوله صلى الله علية وسلم: من توفير لحيته، أو تقصير ثوبه، أو محافظته على الفرائض والسنن وغير ذلك؛ إلا وتجد من ينكر عليه ويقول: لا تتشدد فإن الدين يسر، وإن فعلك غلو وإفراط …. الخ. فجعلوا من يسر الدين ترك الأوامر، وارتكاب النواهي والمعاصي نسأل الله العافية.
أيها الأحباب:
إن للمعاصي آثاراً وخيمة على مرتكبها وعلى أسرته أو مجتمعه أو على أمته، وعلى الأرض والسماء والدواب وغيرها، قال تعالى: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)) (سورة الروم، الآية: 41) .(65/3)
والمحرمات والمعاصي هي حدود الله وهي كل ما حرمه الله في كتابه وحرمه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته كما في الحديث: ((ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم الله فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسياً ثم تلا هذه الآية ((وما كان ربك نسياً)) . (سورة مريم، الآية: 64)) ) . (رواه الحاكم وحسنه الألباني في غاية المرام ص: 14) .
وقال صلى الله علية وسلم: ((ما نهيتكم، عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)) . (رواه مسلم) .
فعلى المسلم العاقل أن يتوب إلى ربه توبة نصوحاً، وأن يحذر كل الحذر من الوقوع في المحرمات، ومن وقع في شيء منها فليسارع إلى التوبة؛ فعسى الله أن يغفر له، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) (رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد) .
وفي الحديث أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) . (رواه مسلم) .
وهذه رسالة مختصرة في بيان بعض المحرمات المتمكنة في الأمة، والمحرمات كثيرة، وكثيرة جداً، ولكن اقتصرنا على المشهور منها ليتبين للناس مدى خطورة هذه المعاصي فيتجنبوها، فيحموا أنفسهم ومجتمعهم ودوابهم وغير ذلك من سخط الله وعقابه.
نسأل الله تعالى لنا ولإخواننا أن يجنبنا المحرمات صغيرها وكبيرها، ونسأله تعالى الهداية والتوفيق والسداد، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، إنه سميع قريب مجيب والله أعلم.
آثار الذنوب والمعاصي(65/4)
لاشك أن الذنوب والمعاصي والمحرمات سبب لمحق البركات، وقلة الخيرات، ومنع الأرزاق، وسبب لعقوبة الله تعالى وتسليطه على عباده أنواعاً من المثلات، وإحلال العقوبات، وذلك لأنه تعالى يغضب على من عصاه، ويعاقبهم على قدر ذنوبهم إذا لم يعف عنهم، كما ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: ((إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد) .
والمعصية يدخل فيها كل مخالفة، فتكون سبباً لغضب الله تعالى، ولا يقوم لغضبه قائم، ولأجل ذلك يتوعد الله على كثير من المعاصي باللعن، ويتوعد على بعضها بالغضب، ويتوعد على بعضها بالعذاب العاجل أو الآجل، تخويفاً منه للعباد حتى لا يقعوا في المعاصي والمحرمات.
وقد أخبر الله تعالى بأن هذه المعاصي سبب لمنع الرزق، وسبب لظهور الفساد، وسبب للشرور ولتمكن الأشرار، وتسلطهم على الأخيار.
يقول الله تعالى: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)) . (سورة الروم، آية: 41) والفساد هنا يعم فساد الأخلاق، وفساد البلاد، ويعم الانحرافات، وهذا كله عقوبة على ما كسبت أيدي الناس، والكسب هنا هو فعل جرائم المحرمات، فقوله: ((بما كسبت أيدي الناس)) ، يعني بما عملوا من المحرمات التي تسبب العقوبة، وتسبب محق البركة.(65/5)
ومع ذلك فإنه سبحانه يخبر بأنه لا يعاجل عباده، ولكن يمهلهم ويؤخرهم، وإلا فلو عاجلهم لأحل بهم العقوبة الصارمة، قال تعالى: ((ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة)) (سورة فاطر: 45) والكسب هنا يراد به الكسب السيئ، يعني المحرمات والسيئات. أي أنه تعالى لولا إمهاله لكان العباد على ما يعملونه مستحقين للعذاب، والضمير يعود على الأرض، أي: ما ترك على الأرض من دابة. والمعنى أنه لو يؤاخذ الناس بما يستحقونه من العقوبة على المظالم والمعاصي والمحرمات لعجل لهم، ولأخذهم ولأهلكهم حتى الدواب في الأرض.
ولكن إذا استقروا ولزموا الطريقة المستقيمة أعانهم الله وأغاثهم، قال تعالى: ((وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً)) (سورة الجن الآية: 16)
والطريقة هي الإسلام، أي إذا استقاموا على الإسلام وتمسكوا به وعملوا بشرائعه وتركوا المحرمات، فإن الله تعالى يسقيهم ماء غرقا فيسقى الأرض ويغيث العباد ويسقي الحرث والأشجار. وأما إذا لم يفعلوا فإنه يعاقب من يشاء بأنواع العقوبة حسب ما يستحقونه.
ومع ذلك فإنه يعفو عن كثير من المخالفات، وإلا فان العباد على معاصيهم وذنوبهم يستحقون أكثر مما نزل بهم، قال تعالى: ((وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)) (سورة الشورى، الآية: 30) والكسب هنا السيئات. يعني أن ما ينزل بنا من مصيبة فإنه عقوبة على الكسب المحرم وعلى السيئات التي اكتسبتها أيدينا.
وقد ورد في بعض الأحاديث: ((ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة)) .
والإنسان لا يغتر بما هو فيه.
فلا يغتر بالأمن.
ولا يغتر بزهرة الدنيا.
ولا يغتر بزخرفها.
ولا يغتر بكثرة الأموال والأولاد.
ولا يغتر بالصحة في الأبدان.
ولا يغتر بما أعطاه الله وما خوله.(65/6)
فإن هذا ليس دليلاً على رضى الله إذا كان الإنسان يعمل ما يسخطه، ولكن هو من الإمهال إلى العذاب الذي لم يأت أجله، يقول الله تعالى: ((وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا)) (سورة الكهف: الآية 58) يعني أن هذا الإمهال – لمن لم يستقم ولم يرجع إلى الله تعالى – له أجل ينتهي إليه.
ودليل ذلك الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله تعالى: ((وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)) (سورة هود: آية 102) . (متفق عليه) . والظالم هنا العاصي الذي اقترف معصية وفعل ذنباً أيما ذنب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليملي للظالم)) يعني يؤخره ويمهله ويعطيه على ما هو عليه، ومع ذلك فلعله أن يعود إلى ربه إذا كان ذا عقل، وأن تتغير حاله.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيت الله يعطي الظالم وهو مقيم على ظلمه فاعلم أنه استدراج)) . رواه أحمد. ويعطيه أي يوسّع عليه. فإذا رأيت الله تعالى يوسع على إنسان وهو ظالم، ومع ذلك تزداد مكانته ومنزلته وماله، ويزداد في طغيانه ومعصيته، فلا تظن أن ذلك لكرامته على الله، ولكن أعلم أن ذلك من باب الاستدراج، اقرأ قول الله تعالى: ((سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين)) (سورة الأعراف، الآيتان: 182، 183) فقوله: ((وأملي لهم)) يعني أؤخرهم إلى أن يحين أجلهم وتنزل بهم العقوبة.
وقد ورد في بعض الأحاديث: ((ما أخذ الله قوماً إلا عند غرتهم وغفلتهم وسلوتهم)) .والأخذ هنا العقوبة، أي: ما عاقبهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر إلا بعد أن يركنوا إلى الدنيا ويطمئنوا إليها، ويظنوا أنهم يتمتعون فيها.
واقرأ قوله تعالى: ((فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين)) (سورة الأعراف: 166) .(65/7)
واقرأ قول الله تعالى عن الذين مضوا: ((فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)) . (سورة الأنعام: 43، 44) .
و ((أخذناهم بغتة)) يعني على حين غرة وعلى حين غفلة.
فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، أو أخذهم بالتدريج وعاقبهم عقوبة بطيئة لم يتفطنوا لها حتى بغتهم أمر الله.
وهذا ونحوه يدل على أن السيئات والمحرمات من كبائر الذنوب وأن بسببها تنزل العقوبة العاجلة أو الآجلة، وإذا أمهل للعاصي ومات وهو في طغيانه وعلى كفره وعناده وظلمه وعدوانه، فلا يأمن أن يعاقب في الآخرة فإن عذاب الآخرة أشد وأبقى.
وكثيراً ما يذكر الله العذاب الأخروي الذي هو عذاب النار وبئس القرار، وذلك لتخويف العباد حتى يعودوا إلى الحق ويعبدوا ربهم وحده لا شريك له، قال تعالى: ((ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون)) . (سورة الزمر: الآية 16) .
فيجب علينا أن نخاف من عذاب الدنيا أن يعاجلنا الله به، كما عاجل الأمم السابقة الذين عتوا وبغوا وطغوا وتعدوا. أو نخاف من عذاب الآخرة إذا بقينا على هذه المعاصي والمحرمات، فنخاف أن يعاقبنا الله عقوبة أخروية وهي أشد وأبقى من عقوبة الدنيا.
هذا ما أحب أن أقوله في آثار الذنوب والمعاصي.
وللذنوب آثار كثيرة وعظيمة وقد قص الله تعالى علينا عقوبة الذين كذبوا وكيف أخذهم لما كذبوا ومكروا وردوا رسالته على رسله، فأنزل بهم أنواع العقوبات التي ذكرها في كتابه العزيز.
اجتنبوا السبع الموبقات(65/8)
إن المحرمات المتمكنة في الأمة كثيرة، وإن المسلم ليحذر أن يركن إلى شيء منها فيكون من أهل العقوبات، وقد وردت الأدلة في ذكر أنواع السيئات للتحذير منها ولعقوبتها ولشدة العذاب عليها. فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) . متفق عليه.
وذلك لأن هذه السبع قد ذكر الله عليها عقوبات شديدة، ونأتي على ذكر كل واحدة من هذه المعاصي باختصار فنقول:
أولاً الشرك بالله:
لقد ذكر الله تعالى الشرك في قوله تعالى: ((إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)) . (سورة المائدة، الآية: 72) .
وقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) . (سورة النساء، الآية: 48) .
وفي الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثاً: ((الإشراك بالله.. .. ..)) الحديث، (متفق عليه) .
والشرك ينقسم إلى قسمين: شرك أكبر وشرك أصغر. وكل منهما له أقسام.
والشرك الأكبر مخرج من الملة وهو الذي لا يغفره الله عز وجل، وصاحبه مخلد في النار أبد الآبدين.
أما الشرك الأصغر فإنه ليس يخرج من الملة ولكن صاحبه على خطر عظيم.
وهنا ننبه على أنواع من الشرك الأكبر المنتشرة على سبيل الاختصار:
فمن الشرك الأكبر الذبح والنذر لغير الله.
ومن الشرك الأكبر السحر والكهانة والعرافة.
ومن الشرك الأكبر اعتقاد النفع في أشياء لم تشرع كاعتقاد النفع في التمائم والعزائم ونحوها.(65/9)
ومن الشرك الأكبر الطواف حول القبور وعبادتها والاستعانة والاستغاثة بأصحابها، باعتقادهم أنهم ينفعونهم ويقضون لهم حاجاتهم. وهكذا دعاؤهم، ونداؤهم عند حصول الكربات والمكروهات لهم. فتجد أحدهم إذا أصابه مكروه يقول: يا بدوي! أو يا جيلاني! أو يا عبد القادر! أو يا حسين! أو يا علي! أو يا شاذلي! أو يا رفاعي! وهكذا دعاؤهم للسيدة زينب، والعيدروس وابن علوان وغيرهم كثير وكثير.
وهكذا من الشرك الأكبر تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله.
ومن الشرك الأكبر أيضاً اعتقاد بعضهم في تأثير النجوم والكواكب في بعض الظواهر الكونية وغيرها: كاعتقادهم أن المطر ينزل بسبب النجم كذا وكذا، وأن الرياح يثيرها نجم كذا وكذا، وهذا كله من الشرك بالله.
وهناك أنواع من الشرك الأصغر الغير مخرج من الملة نذكر بعضها على سبيل الاختصار:
فمن الشرك الأصغر الرياء والسمعة.
ومن الشرك الأصغر الطيرة وهي التشاؤم ويدخل فيه التشاؤم ببعض الشهور أو الأيام أو بعض الأسماء أو أصحاب العاهات.
وهكذا من الشرك الأصغر الحلف بغير الله: كالحلف بالآباء أو الأمهات أو الأولاد، أو الحلف بالأمانة، أو الحلف بالكعبة، أو الشرف، أو النبي، أو جاه النبي، أو الحلف بفلان، أو بحياة فلان، أو الحلف بالولي وغير ذلك كثير. فلا يجوز الحلف إلا بالله.
ثانياً: السحر.
وأما السحر فقد ذكره الله تعالى بقوله: ((ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)) إلى قوله: ((ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق)) . (سورة البقرة: الآية: 102) أي ماله في الآخرة حظ ولا نصيب.(65/10)
والسحر قد كثر في هذه البلاد، وهو من الأعمال الشيطانية، وهو متمكن في كثير من البلاد الإسلامية، ولا شك أنه نوع من الشرك وما ذاك إلا أن السحرة يعبدون الشياطين حتى تلابس من يريدون إضراره؛ فيكون الساحر بذلك مشركاً، حيث إنه يتقرب إلى الشيطان بما يحب حتى يخدمه الشيطان فيضر به مسلماً أو يضر به من يريد إضراره.
ولقد انتشر في هذا الزمان اللجوء إلى السحرة لفك السحر وهذا أمر شنيع ومحرم، وفي كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم غنية لمن أصابه السحر ونحوه، وعليه أن يطلب الشفاء من الله أولاً ثم عمل الأسباب المباحة، كالرقية الشرعية ونحوها.
ولما كان السحر محرماً وهو نوع من أنواع الشرك بالله فقد حكم على الساحر بأنه كافر.
فواجب علينا أن نحذرهم ونبتعد عنهم، وواجب أن نُعَرَّفَ بمن نعرف منه أنه ساحر، أو يتعاطى السحر، من رجل أو امرأة.
ويدخل تحت باب السحر أيضاً الكهانة والعرافة، والكاهن أو العراف كافر إذا ادعيا علم الغيب.
ولا يجوز الذهاب إليهم ولا التعامل معهم، ومن ذهب إليهم مصدقاً لهم فهو كافر كفراً يخرج من الملة.
أما من ذهب إليهم وهو غير مصدق لهم فإنه لا يكفر ولكنه قد وقع في ذنب عظيم، كما ورد
أنه لا تقبل صلاته أربعين يوماً نسأل الله السلامة والعافية.
ثالثاً: قتل النفس.
وأما القتل فالمراد به الاعتداء على المسلم بسفك دمه أو جرحه أو قطع طرف منه، أو نحو ذلك، وقد ورد في الحديث: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) . (متفق عليه) . يعني: المظالم التي بين الناس يوم القيامة تكون في الدماء وتكون في الأموال وتكون في الأعراض ولكن الدماء أهمها، فلذلك يحكم بينهم في أمر هذه الدماء، فيقضي بينهم وذلك لأهميتها.(65/11)
وقد ورد الوعيد الشديد على قتل المسلم عمداً، قال الله تعال: ((ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً)) . (سورة النساء، الآية 93) .
فقد توعد الله القاتل بأنواع العقوبات:
الأولى: جزاؤه جهنم وهو اسم من أسماء النار وبئس القرار.
الثانية: الخلود فيها يعني: طول المقام فيها إلى أجل لا يعلمه إلا الله.
الثالثة: الغضب أي: غضب الله عليه، وإذا غضب عليه فإنه يستحق أن يعاقبه.
الرابعة: اللعن وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله.
الخامسة: العذاب: على هذا الذنب الذي هو اعتداؤه على حرمة مسلم وإراقة دمه بغير حق.
رابعاً: أكل الربا:
والربا هو المال الذي يؤخذ بغير حق من المعاملات الربويه المحرمة شرعاً وهو من كبائر الذنوب، ولذلك قال الله تعالى: ((فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275) يمحق الله الربا ويربي الصدقات)) . (سورة البقرة، الآيتان 275، 276) .
ولا شك أن الربا متمكن في الأمة. فكثير من المعاملات يكون فيها ربا وأهلها لا يشعرون، ولكن يفعلون ذلك تقليداً أو يفعلونه ظناً منهم أنه لا إثم فيه. فالواجب أن نبتعد عنه وألا نتعامل إلا بالمعاملات المباحة التي لا شك فيها، وفي الحلال غنية عن الحرام.
والربا محرم بالكتاب والسنة وهو من المهلكات والموبقات السبع، قال تعالى: ((يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)) . (سورة البقرة، الآيتان:278،279) .
إن المتعامل بالربا قد حارب الله ورسوله، ويا خيبة من أعلن حربه على الله ورسوله لأنه خاسر لا محالة.(65/12)
وانظر أيها المتعامل بالربا إلى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في شناعة عملك هذا، ففي الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: ((الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)) . انظر: صحيح الجامع (3533) .
وعن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنهما: ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)) . انظر: صحيح الجامع (3375) .
خامساً: أكل مال اليتيم:
يعم كل من كان عنده مال لغيره من يتيم أو فقير أو نحو ذلك، فَأَكَلَهُ وجَحَدَهُ.
وقد توعد الله من أكل مال اليتامى بالعذاب الشديد فقال تعالى: ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)) . (سورة النساء، الآية:10) فأكلهم النار، يعني: في عذاب الله تعالى يعاقبون بأن يأكلوا ناراً.
وهذه النار التي يأكلونها هي من نار جهنم. يروى أنهم يلقمون جمرات في النار تحرق أجوافهم، أو أنهم يسقون من الحميم الذي هو أشد حرارة مما يتصور، كما في قوله تعالى: ((وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم)) . (سورة محمد، الآية15) .
فأخبر بأنهم إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً، أو أنهم يأكلون هذا المال الحرام ويعاقبون بأن يعذبوا في النار يوم القيامة، وهذا وعيد شديد.
وعلى المسلم أن يبتعد عن أكل أموال الناس بغير الحق، اليتامى وغيرهم، والله تعالى قد نهى عن أكل المال بغير حق، فقال تعالى: ((ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)) . (سورة البقرة، الآية: 188) يعني: لا تأكلوا أموال الناس التي تخصهم بغير حق ظلماً وعدواناً، فإنكم بذلك متعرضون لعذاب الله تعالى وغضبه.(65/13)
ومن أكل أموال الناس بالباطل كل مال حرام وسحت ومن ذلك: السرقة والرشوة والغصب والتزوير وبيع المحرمات والربا وما يؤخذ كأجرة على المحرمات كالكهانة أو الغناء ونحوها.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به)) . (رواه أحمد والترمذي والدارمي) .
فعليك أخي المسلم التوبة من حقوق الناس، وهو شرط من شروط التوبة، فلا تتم التوبة إلا بإرجاع الحقوق إلى أهلها أو استباحتهم.
سادساً: التولي يوم الزحف:
والتولي يوم الزحف هو: عندما تتقابل الصفوف في القتال فينهزم من ينهزم ويسلط العدو على المسلمين فيأخذ بعضهم بالهرب بسبب انهزامه، فهذا هو التولي. وهو بذلك متوعد بوعيد شديد ذكره الله تعالى بقوله: ((يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار (15) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيز إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16)) ) . (سورة الأنفال، الآيتان: 15، 16) وهذا وعيد شديد على التولي يوم الزحف.
سابعاً: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات:
قال تعالى: ((إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24)) ) . (سورة النور، الآيات: 23، 24، 25) .
والقذف هو الرمي بالفاحشة، بأن يرمي إنساناً بريئاً بقوله: إنك قد زنيت، أو هذا زان، أو هذه زانية، وهو كاذب عليهم. لا شك أن هذا بهتان وظلم وكذب ورمي لمسلم بريء بفاحشة لم يعملها، وإلصاق له بتهمة يظهر شناعتها، فيلام بها ويعاب عليها.(65/14)
فلأجل ذلك استحق العقوبة كل من رمى إنساناً بريئاً بفاحشة وهو عالم بأنه بريء، قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا)) . (سورة النور، الآيتان: 4، 5) .
فقد عاقب الله من رمى مؤمناً بفاحشة بثلاث عقوبات:
الأولى: الجلد. ((فاجلدوهم ثمانين جلدة)) .
الثانية: رفض الشهادة ((ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً)) .
الثالثة: الحكم عليهم بأنهم فاسقون. ((وأولئك هم الفاسقون)) .
إلا من تاب من هذه المعاصي التي بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الموبقات المهلكات التي تسبب العذاب على صاحبها، سواء في الدنيا أو في الآخرة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) . (رواه مسلم) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قذف مملوكه وهو بريء مما قال، جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال)) . (متفق عليه) .
ويلحق بهذه الكبائر كل ما يشبهها أو يقاس عليها، مما يدخل فيه الوعيد، أو مما فيه مفسدة للأمة، وفيما يلي نأتي على شيء من الذنوب والمعاصي التي يظن البعض أنها من الصغائر فيستهين بها ولا يلقي لها بالاً ليكون المسلم على حذر منها، فإن من وقع فيها ولم يتب كان على خطر عظيم، وإن ربك لبالمرصاد وإن جهنم موعدهم أجمعين إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، فنرجو الله له المغفرة والرحمة، والله غفور رحيم.
إياكم ومحقرات الذنوب(65/15)
كثيراً ما يقع المسلم في بعض الذنوب ويظن أنها من الصغائر، فيحتقرها، ولا يلقي لها بالاً أو يحتج بقوله تعالى: ((إن الله غفور رحيم)) والبعض الآخر بحديث: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما)) . (رواه مسلم) . وغيرها من الأقوال ومداخل الشيطان عليهم.
ونحن نقول لا يجوز للمسلم أن يتهاون بهذه الذنوب التي يدعي أنها من الصغائر، أو بالذنوب التي هي مقدمات للكبائر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن إذا اجتمعن على الرجل يهلكنه. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً: ((كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعودة والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً كثيراً، فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها)) . (رواه أحمد) .
هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لو كان هناك جماعة مسافرون وليس معهم حطب يوقدون به ليصلحوا طعامهم والأرض ليس فيها حطب ظاهر، ولكنهم قوم كثير فتفرقوا في الأرض، فوجد هذا بعرة ووجد هذا عوداً، ووجد هذا عوداً. حتى اجتمع سواد، يعني حطب كثير، فكان ذلك سبباً في أنهم أوقدوا فيه وأنضجوا طعامهم، وأصلحوا ما يريدون إصلاحه.
فكذلك هذه السيئات الصغيرة تأتي من هنا واحدة ومن هناك ثانية وثالثة ورابعة وهلم جرّا، حتى تجتمع على الإنسان فتهلكة، وهو متساهل بها ومتصاغر لها لا يظن أنها تبلغ ما بلغته.
وأنا أذكر جملة من هذه الذنوب التي يحتقرها كثير من الناس ويظن أنها صغيرة ولا محذور فيها للتذكير، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وحتى يبتعد عنها المسلم ويقف عند حدود الله:
أولاً: السخرية والاستهزاء وإطلاق الكلمات البذيئة:(65/16)
كثير ما يتلفظ بعض الناس بكلمات لا يهتم بها ولا يلقي لها بالاً وقد تهلكه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) . (رواه البخاري) .
وما أكثر هذه الكلمات التي لا ينتبه لها صاحبها عند المقال، ولا يفكر فيها، وقد تكون كفراً، وقد تكون معصية، ولكنه لا يقدر لها تقديراً.
كثيراً ما يتكلم بكلمة كسُبَّةٍ، أو بهتان أو ظلم، أو غيبة، أو نميمة، أو سخرية أو استهزاء في أمر من الأمور، ولا يتفطن لها فيحكم عليه بالكفر والعياذ بالله.
ولقد توعد الله بالوعيد الشديد الذين يسخرون بأهل الخير وبأهل الصلاح. وقد عد الله سبحانه وتعالى السخرية بهم والاستهزاء بآيات الله وبأحكامه وبشرائعه كفراً.
ومن الأدلة على خطر الاستهزاء بالله وبآياته وبأوليائه المؤمنين قول الله تعالى عن أهل النار: ((وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار * اتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار)) . (سورة ص، الآيتان: 62، 63) . يقولون: إننا كنا نستهزئ بالمطوعين، ونستهزئ بالمصلين، ونستهزئ بالملتحين، ونستهزئ ونسخر بالمتدينين، ونعدهم أشراراً، ونعدهم فجاراً وضلالاً، واليوم لا نراهم معنا في النار!!
أين ذُهب بهم؟!
أين أولئك الذين كنا نعدهم من الأشرار، ونتخذهم سخرياً؟!
ومن الأدلة أيضاً قول الله تعالى: ((زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب)) . (سورة البقرة، الآية:212) .
((ويسخرون من الذين ءامنوا)) يعني يستهزئون بالمؤمنين وبالمتدينين وبالصالحين، ويسخرون من زهدهم وتمسكهم بدينهم، فلذلك عاقبهم الله تعالى بأن أحل بهم غضبه وعذابه وصاروا من أعدائه.
أما أولئك الذين كان يسخر منهم ويستهزأ بهم فهم من أولياء الله الذين أكرمهم بجزيل ثوابه.(65/17)
ومن الأدلة أيضاً ما حكاه الله تعالى عن المنافقين بأنهم يلمزون أهل الخير، فقال تعالى: ((الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم)) . (سورة التوبة، الآية: 79) .
ويلمزونهم أي: يعيبونهم، وما أكثر الذين يلمزون المطوعين ويعيبونهم! فيعيبونهم مثلاً بالصلاة، ويعيبونهم برفع الثياب وتقصيرها، ويعيبونهم بإرخاء اللحى وإعفائها، ويعيبونهم بترك شرب الدخان والخمور، وما أشبهها!
وتلك شكات ذاهب عنك عارها، فالعبادات المذكورة لا عيب فيها، وليس عليك عيب إذا عابك مثل هؤلاء وتنقصوك، وإنما العيب في الذي يعيبك بتمسكك فهو أولى بأن يكون معيباً ذميماً.
ولقد ذم الله أولئك الذين يستهزئون بالمؤمنين ويلمزونهم، وسماهم مجرمين، قال تعالى، ((إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون)) . (سورة المطففين، الآية: 29) . والذين آمنوا يراد بهم الذين حققوا الإيمان وعملوا الصالحات، وتركوا المحرمات. فالمجرمون يضحكون منهم ويستهزئون بهم قال تعالى: ((وإذا مروا بهم يتغامزون)) . (سورة المطففين، الآية: 30) . وقال: ((وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون (32) وما أرسلوا عليهم حافظين)) . (سورة المطففين، الآيتان: 32، 33) .
هكذا تكون حالهم في الدنيا، أما في الآخرة فإن المؤمنين يضحكون منهم عندما يرونهم هم الخاسرين.
ولا شك أن الاستهزاء والسخرية بأهل الخير هو الكمال الحقيقي بأهل الخير، ذلك أنهم أهل الطاعة وأهل الاستقامة، أما أولئك فهم أهل الضلال والخسران فبماذا يمتدحون؟
أيمتدحون بشربهم الخمور؟!
أم يمتدحون بسماع الأغاني؟!
أم يمتدحون بحلق اللحى وإعفاء الشوارب؟!
أم يمتدحون بترك الصلوات أو التكاسل عنها؟!
أم يمتدحون بالغيبة والنميمة والبهتان؟! أم.. أم.. أم.. الخ.(65/18)
ثم نقول أنه لا يجوز الجلوس مع هؤلاء الفساق الذين يستهزئون بالمؤمنين ويلمزونهم ويسخرون منهم، كما أخبر الله بذلك فقال: ((وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)) . (سورة الأنعام، الآية: 68) .
بل لا يجوز السكوت على ما يقولونه من السخرية أو الاستهزاء أو الرضا بما يقولونه، قال تعالى: ((فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)) . (سورة التوبة، الآية: 96) . ولا يجلس مع هؤلاء الأشرار إلا ضعاف الإيمان والذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم.
أما من أراد دعوتهم ونصحهم وبيان الحق وأن ما هم عليه فهو باطل فلا بأس بالجلوس معهم بقدر البيان لهم وتحذيرهم، فهو من الدعوة إلى الله.
ثانياً: شرب الخمور وتعاطي المخدرات:
ومن المنكرات والمحرمات المتمكنة في الأمة، والتي فشت في كثير من الناس، شرب الخمور والمسكرات وتعاطي المخدرات.
إن الكثير من الشباب اليوم يبيت ليله على شرب هذه المسكرات وتعاطيها، وربما تفوت عليهم أوقات كثيرة وهم في سكر والعياذ بالله.
وقد وردت الأدلة الكثيرة في تحريم الخمر، وذكر جل وعلا العلة في تحريمها فقال تعالى: ((إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان واجتنبوة)) . (سورة المائدة، الآية: 90) . وهذا دليل واضح على تحريم الخمر، وهو الأمر بالاجتناب الذي هو البعد عنها. وكذلك مقارنتها بالأنصاب وهي آلهة الكفار، وهذا دليل آخر على تحريمها.
فانظر أيها المسلم العاقل إلى هؤلاء الذين يعيبون أهل الخير والاستقامة، كيف حالهم وهم سكارى؟! نسأل الله العافية.
وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)) . (رواه مسلم) .(65/19)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)) . (رواه أبو داود، وانظر صحيح الجامع (3128)) .
فكل مسكر ولو كان غير الخمر فهو حرام، فالويسكي أو الشمبانيا، أو الفودكا أو البيرة أو العرق وغيرها كلها داخلة في التحريم فهي كلها أسماء للخمر، كما ورد في الحديث: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) . (رواه الإمام أحمد، وانظر صحيح الجامع (5453)) . وهناك من يسميها مشروبات روحية نسأل الله العافية.
ثم انظر أيها المسلم لهذا الحديث العظيم وأمعن النظر فيه، فإنه يقطع القلوب لمن كان عنده إيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من شرب الخمر وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، وإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة، قالوا: يا رسول الله، وما ردغة الخبال؟ قال عصارة أهل النار)) . (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان (1378) والحاكم: 4/145، 146. ووافقه الذهبي. وحسنة أحمد شاكر (4918) .
وقد انتشر في هذا الزمان تعاطي المخدرات ولا شك أنها أشد وأعظم من الخمر، فهي أشد حرمة من الخمر، وإذا كان هذا الوعيد الشديد في من شرب الخمر، فكيف بمن يتعاطى المخدرات؟ بل كيف بمن أدمن عليها؟!
نسأل الله أن يهدي شباب المسلمين وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً وأن يبعد عنهم الفتن ما ظهر منها وما بطن
ثالثاً: تعاطي القمار والميسر:(65/20)
ومن المنكرات التي فشت أيضاً وتمكنت في الأمة لعب القمار، وهو الميسر الذي قرنه الله بالخمر، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)) . (سورة المائدة، الآية:90) .
إن الكثير من الشباب يبيت طوال ليله على اللعب بما يسمى الورق أو على اللعب بما يسمى (البلوت) أو ما أشبه ذلك، فماذا يستفيدون من هذا اللعب؟!
فإن كان على عوض فإنه ميسر محرم، حيث إنه يكسب مالاً حراماً إذا ربح، مع ما يترتب على ذلك من العقوبة والإثم الذي ذكره الله بقوله: ((إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)) . (سورة المائدة، الآية:91) .
فالميسر هو اللعب الذي يُؤخذ عليه عِوض. ولا شك أن الذين يلعبون هذه الألعاب ينشغلون عن ذكر الله، فلا تجدهم يذكرون الله إلا قليلاً، وينشغلون عن الصلاة، فكثير منهم يلعب إلى نصف الليل أو ثلث الليل أو ثلثي الليل. فمتى يقومون لأداء صلاة الفجر مع الجماعة؟!
إن أضرار هذه الألعاب التي فشت وتمكنت في الأمة كثيرة جداً:
إنها سبب في السب والشتم والتشاحن والخلافات.
وسبب لتضييع الأوقات.
وسبب لعقوبة الله لهؤلاء المفرطين.
إن أولئك المدمنين على هذه الألعاب يدعون أنهم بلعبهم هذا يقطعون الفراغ، وذلك أن عندهم أوقات فراغ طويلة يحبون أن يشغلوها بهذه الألعاب، وبئس ما فعلوا، فعندهم وقت ثمين يستحق أن يشغلوه بطاعة الله.
فما بالهم لم يتعلموا العلم؟!
وما بالهم لم يتعلموا القرآن ولم يتعلموا معانيه ولم ينشغلوا بحفظه؟!
وما بالهم لم يجتهدوا في ذكر الله تعالى وفي دعائه وفي طاعته؟!
لماذا ينشغلون باللهو واللعب ويتركون ما هو ذكر وطاعة وخير ويقطعون أوقاتهم في هذه المحرمات؟!
والقمار أو الميسر له أشكال كثيرة ومتنوعة وهو من أعمال الجاهلية المشهورة:(65/21)
فمن أشكاله في هذا الزمان ما يسمى (عقود التأمين التجاري) كالتأمين على الحياة أو السيارات أو البضائع أو المنازل أو المصانع ونحوها، وهذا من الميسر المحرم، ومنه التأمين الجزئي أو التأمين الشامل أو التأمين ضد الغير وهذا كله من الميسر الحرام.
ومن أشكاله أيضاً ما يسمى (بالنصيب الخيري) في بعض البلاد، وكان من الأولى أن يسموه (اليانصيب الشرِّي) لأنه يأتي بشر ولا يأتي بخير، وكل ما يكسبه الفائز من الجوائز العينية أو المالية فهو حرام وسحت.
ومن أشكاله أيضاً المراهنات في المباريات وغيرها. أما إذا كانت هذه المباريات لا تحتوي على جعل فإنها مباحة إذا خلت من المحرمات: كإضاعة الصلوات أو السب والشتم واللعن أو تكشف للعورات ونحوها.
ومن الألعاب المحرمة التي تدخل في هذا الباب:
لعبة الملاكمة لما فيها من ضرب الوجه والذي ورد النهي عنه.
مسابقات اختيار ملكة جمال العالم.
لعبة مناطحة الأكباش أو الثيران أو مناقرة الديوك وغيرها.
ومما يجب التنبيه عليه ما انتشر في هذه الأزمنة من وجود المسابقات في بعض المحلات التجارية فتأخذ رقماً يتم السحب عليه ثم توزع الجوائز على أصحاب الأرقام الفائزة.
وبعض المحلات التجارية أو المصانع تضع بداخل سلعتها حروفاً لأسماء أو أرقام معينة أو أجزاء من صورة ما، ثم يقولون: من جمع هذه الحروف وتكونت لديه كلمة كذا فإنه يربح، ثم بعد ذلك يحدد الفائز الأول والثاني وهكذا علماً بأن المشتري لا يعلم ما بداخل السلعة فيلزم فتحها حتى يعلم الحرف أو الرقم الذي بداخله، وهكذا يظل يشتري حتى تتكون لديه جميع الحروف والأرقام، وربما لا تجتمع لديه فيكون خاسراً.
وربما يشتري أكثر من قيمة الجائزة وهذا كله حرام وسحت ومن الميسر المحرم.
وهناك مسابقات مباحة لا تدخل في الميسر ومن ذلك:
مسابقات تحفيظ القرآن أو مسابقات العلم الشرعي كالبحوث ونحوها. وهذه جائزة بجعل وبدون جعل.(65/22)
ومن المسابقات المباحة أيضاً سباق الخيل والإبل والرمي والسباحة ونحوها، وهذه جائزة أيضاً بجعل وبدون جعل.
رابعاً: سماع الأغاني والموسيقى ونحوها:
إن من أبرز المحرمات التي تمكنت في الأمة وصارت مرضاً عضالاً، هو سماع الأغاني والموسيقى والملاهي والعكوف عليها.
إن الكثير ممن انتكست فطرتهم عندما يقرأ عليهم القرآن تجد أحدهم ينعس أو ينام، وإذا سمع أغنية أو مطرباً أو مغنياً طرب له، وذهب عنه النعاس، وذهب عنه الوسن الذي كان يعتريه، وقام نشيطاً، وبات ليله على سماع هذا المنكر، نسأل الله العافية.
لا شك أن هذا السماع من المحرمات، ولا شك أن السامع واقع في إثم عظيم، لأنه حيل بينه وبين سماع القرآن، واعتاض عنه الغناء واللهو الذي يشغله عن ذكر الله. ثم هو مع ذلك يفسد القلوب، فإن هؤلاء الذين يعكفون على سماع الغناء تفسد أمزجتهم وتفسد قلوبهم والعياذ بالله، وتثقل عليهم الطاعات، وتسهل عليهم المحرمات، ثم هو دافع أيضاً إلى ما وراءه وما هو شر منه، والعياذ بالله، فيكون إثمه أعظم وأكبر، وخاصة إذا كانت الأغنية مثيرة أو بصوت امرأة من المطربات ونحوها.
لقد فشت بسبب هذه الأغاني منكرات كثيرة منها فعل فاحشة الزنا واللواط، وما شابههما، وتمكنت في كثير من الناس، وما ذاك إلا أنهم ألفو اهذه الأصوات الرقيقة الرنانة المثيرة للوجد والمثيرة للشهوات التي تدفعهم إلى اقتراف المحرمات ولا يجدون ما يردعهم.
إن ضعف الإيمان وضعف الوازع الديني سبب رئيس لتمكن هذه الأغاني في قلوب كثير من الناس، وكذلك قلة الخوف من الله تعالى ومراقبته في السر والعلن، وإلا لو وجد الخوف لما كان لهذه الأغاني طريق إلى القلوب.
فنصيحتي للإخوة بأن يحفظوا أنفسهم عن سماع الأغاني أو الجلوس عندها، والبحث عما فيه خير في الدنيا والآخرة من ذكر الله وطاعته، وألا يكونوا كالذين استبدلوا الذي هو أدني بالذي هو خير، نسأل الله السلامة والرحمة.(65/23)
ومن الأدلة على تحريم الأغاني والموسيقى ونحوها، قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) . (رواه البخاري) .
وعن أنس رضي الله عنه: ((ليكونن في هذه الأمة خسف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف)) . رواه الترمذي، وانظر السلسة الصحيحة 2203)) .
ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: ((ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله)) . (سورة لقمان، الآية: 60) . وكان ابن مسعود رضي الله يقسم بالله عنه أنه الغناء. انظر: تفسير القرآن الكريم لابن كثير.
خامساً: النظر إلى الصور عبر جهاز التلفاز أو الفيديو ونحوه:
ومن المنكرات أيضاً النظر إلى تلك الصور الفاتنة والتفكه بالنظر فيها، تلك الصور التي تعرض في الأفلام عبر أجهزة الفيديو والتلفاز وغيرهما، والتي تعرض فيها صور النساء المتبرجات، سيما التي تذاع من البلاد الأجنبية كالبث المباشر، وما يعرض بواسطة ما يسمى (بالدش) وما أشبهها.
إنها والله فتنة وأي فتنة، حيث إن الذي ينظر إلى تلك الصور لا يأمن أن تقع في قلبه صورة هذه المرأة أو صورة هذا الزاني أو هذا الذي يفعل الفاحشة أمام عينيه، وهو يمثل له كيفية الوصول إليها. فلا يملك نفسه أن يندفع إلى البحث عن قضاء شهوته، إذا لم يكن معه إيمان أكب على النظر إلى هذه الصور، سواء كانت مرسومة أو مصورة في صحف ومجلات، أو كانت مرئية عبر البث المباشر، أو تعرض في الأفلام ونحوها.(65/24)
إن هذه المعاصي والمحرمات المتمكنة قد فشت كثيراً وكثيراً، ودعت إلى فواحش أخرى، فالمرأة إذا أكبت على رؤية هؤلاء الرجال الأجانب لم تأمن أن يميل قلبها إلى فعل الفاحشة، وإذا رأت المرأة هؤلاء النساء المتفسخات المتبرجات المتنكفات المتحليات بأنواع الفتنة، لم تأمن أن تقلدهن فترى أنهن أكمل منها عقلاً، وأكمل منها اتزاناً وقوة، فيدفعها ذلك إلى أن تلقي جلباب الحياء، وأن تكشف عن وجهها، وأن تبدي زينتها للأجانب، وأن تكون فتنة وأي فتنة.
سادسا: ً تبرج النساء:
وإن من المحرمات المتفشية أيضاً تبرج كثير من النساء في الأماكن العامة وغيرها، والذي هو تفسخ وقلة حياء منهن.
إن هذا التبرج له أسباب كثيرة، وأهم الأسباب في وجوده وانتشاره، عكوف كثير من النساء على رؤية الصور الخليعة في الصحف والأفلام ونحوها، فهو الذي أوقع في قلوبهن حب الشهوات التي أدت إلى خلع جلباب الحياء، مما دعاهن إلى أن يندفعن إلى فعل الفاحشة.ولا يحصى ما يحصل، أو ما يعثر عليه هيئات الأمر بالمعروف والدعاة إلى الله تعالى من أماكن الدعارة، ومن أماكن الفساد، ومن اختطاف النساء من الأسواق، وكذلك اختطاف طالبات المدارس، برضاهن أو بغير رضاهن، مما يؤدي إلى فعل الفاحشة بهن، وهذا لا شك أن له دوافع وأسباباً كثيرة أدت إليه، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
قلة الإيمان الرادع وضعف الوازع الديني مما يؤدي إلى عدم أو قلة الخوف من الله.
عدم الغيرة من أوليائهن والمحافظة عليهن.
جلب الأولياء لهذه الأجهزة كالتلفاز والفيديو والدش وغيرها، والتي سبَّبت خلع الحياء عند كثير منهن، والتبرج المحرم، حتى حصلت هذه المحرمات وما شبهها.
إن هذا التبرج معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهو من كبائر الذنوب.
وهو سبب للعن والطرد من رحمة الله، كما في الحديث: ((سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات)) . (رواه مسلم) .(65/25)
وهو أيضاً من صفات أهل النار.
وهو سواد وظلمة يوم القيامة.
وهو نفاق.
وهو هتك لستر ما بينها وبين الله.
وهو من الفواحش.
وهو من أفعال الجاهلية.
وهو من فتح الباب إلى كثير من الفتن، فهو يؤدي إلى الخلوة والاختلاط، وغيرها من الفواحش: كالزنا واللواط.
وللتبرج مفاسد كثيرة:
منها: فساد أخلاق الرجال.
ومنها: تحطيم وتفكك الأسر.
ومنها: المتاجرة بالمرأة.
ومنها: انتشار الأمراض إذا حدث الوقوع في الفاحشة.
ومنها: أنها سبب في الوقوع في الزنا.
ومنها: أنها سبب لوقوع عقوبات من الله.
فيا أولياء النساء والزوجات والبنات تذكروا: أن الرجل راع على أهله وهو مسؤول عن رعيته. فاحذروا الخلوة، والاختلاط، والتبرج، فإنها والزنى رفيقان لا يفترقان.
ثم اعلموا أن الستر أعظم عون على العفاف. واحذروا أجهزة الفساد السمعية والمرئية فإن فيها الشر الكبير وهي فتنة وأي فتنة.
إن الرجال الناظرين إلى النساء
مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحومَ أُسُوْدُها
أكلت بلا عوض ولا أثمان
فالله الله يا ولي أمر المرأة في نسائك ومحارمك فإنك مسؤول، احفظ بنتك وأختك وزوجتك ولا تتركهن يربيهن التلفاز والفيديو والدش فتندم حين لا ينفع الندم.
وفي الختام: وبعد ذكر هذه النبذة المختصرة لبعض المحرمات، فهناك محرمات أخرى متمكنة، ولكن اقتصرنا على بعضها والمقصود الإشارة واللبيب تكفيه الإشارة.
أيها الأخوة: إن انتشار هذه الفواحش سبب في وقوع العقوبة من الله على الأمم، فقد ورد في بعض الأحاديث: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا)) . (رواه بن ماجه) .
وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما يحدث في المستقبل، ولقد رأينا تحقيق هذا الحديث في هذا الزمان بما يحدث في الدول الأجنبية من إباحة الفاحشة وإعلانها، وما نتج عنه من الأمراض الخبيثة التي لم تكن من قبل.(65/26)
إننا نشاهد كثيراً من الأمراض التي يذكرها الأطباء ليل نهار، والتي استعصى علاج الكثير منها، يقولون إن سببها فعل هذه الفواحش.
اسألوا الأطباء: ما هو علاج هذه الأمراض؟!
ما هو علاج الإيدز؟!
ما هو علاج مرض الهربس؟!
ما هو علاج مرض السرطان؟!
ما هو علاج مرض كذا وكذا؟!
لا شك أنه استعصى عليهم الكثير من هذه الأمراض، والتي من أسبابها والعياذ بالله اقترافُ هذه الفواحش والمحرمات والعكوف على فعلها.
نسأل الله أن يحفظنا ويحفظ شباب المسلمين ونساءهم، وأن يحفظ علينا بلدنا هذا من الفتن والشرور وجميع بلاد المسلمين.. اللهم آمين.
كيف تحصن نفسك
وبعد أن عرفنا جملة من المعاصي والمحرمات المتمكنة في الأمة، وعرفنا أدلتها، والوعيد الشديد على من اقترفها وعكف عليها، فإننا نقول: كيف يحصن المسلم نفسه وأهله ونساءه وأولاده حتى لا يقع في مثل هذه المعاصي والمحرمات؟!
أولاً: بالتربية الحسنة:
نعم، إن أول حصن حصين ومانع قوي، هو التربية الحسنة، التربية على الأخلاق والآداب الإسلامية، والتربية على معرفة الله، ومعرفة آثار هذه المعاصي السيئة ومعرفة تأثيرها على الطاعات والأعمال الصالحة وعلى المجتمع.
أيها الإخوة: إن الذي يتربى على الطاعة يألفها ويحبها، والذي يتربى على حب الأعمال الصالحة فإن ذلك يحمله على الاستكثار من العبادات والطاعات.
ولا شك أن من أسباب الوقوع في السيئات والمعاصي نقص قَدْرِ الله وعظمته وإجلاله في قلب العبد، فإنه لو كان لقدر الله نصيب في نفسك أيها العاصي لما وقعتَ فيما وقعت فيه من الذنوب والخطايا، لأن معرفتك بالله وعظمته وهيبته تمنعك من اقتراف هذه الذنوب، ولو كنت تعلم يقيناً أن الله مطلع عليك لما عصيته في أرضه لو وقعت الخشية في قلبك منه.(65/27)
ومن التربية اختيار الزوجة الصالحة، لأن الزوجة الصالحة المحافظة على دينها سوف تسعى جاهدة إلى تربية ابنها التربية الإسلامية وتحافظ عليه ليكون ابنها لبنة صالحة في المجتمع، كما أنها تربيه على الطاعة والأعمال الصالحة.
أما المرأة السيئة في خلقها ودينها؛ فإنها عادة تهمل نشئها وتربيه على التلفاز والفيديو، وتربيه على الفساد شعرت بذلك أم لم تشعر.
وكما ورد في الحديث: ((ثلاث من السعادة.. وذكر منها الزوجة الصالحة)) . (رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني ((1047)) .
ثانياً: المحافظة على الصلوات الخمس:
الصلاة وما أدراك ما الصلاة، يقول الله تعالى: ((وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)) . (سورة العنكبوت، الآية: 45) . والفحشاء هو القول الفاحش، والمنكر جميع المعاصي المنكرة.
إن الصلاة سبب رئيسٌ ومهم جداً في حماية الفرد والمجتمع من الوقوع في الذنوب صغيرها وكبيرها.
ولكن متى؟!
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يوم أن تكون هذه الصلاة لله بخشوع وخضوع قلب، ليس نقراً كنقر الغراب لا يدري ماذا قال فيها.
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يوم يتعبد الإنسان لله فيها بأنواع العبادات، يكبره، ويعظمه، ويجله، ويدعوه، ويركع ويسجد، ويقوم ويقعد، كل ذلك لله وحده.
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يوم أن يستحضر ذلك المصلي عظمة الله في قلبه، ويعلم أن هذه الصلاة وهذه العبادة هي لله وحده، ويستحضر كبرياءه وأنه مأمور بهذه العبادة حتى يأتيه اليقين.
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يوم يعلم العبد أن تركها بالكلية كفر وعقوبتها عظيمة.
أيها الإخوة: إن الصلاة لم تشرع إلا لتهذيب النفوس، ولم تشرع إلا لعبادة الله تعالى وحده، فإن تيقن المصلي بهذا كله كانت الصلاة حماية وحجاباً عن الوقوع في الذنوب والمعاصي وغيرها.
ثالثاً: كثرة ذكر الله تعالى:(65/28)
إن ذكر الله تعالى سبب من أسباب الحماية من هذه المحرمات، بل وسبب مهم قد يتهاون فيه الكثير إلا من رحم ربي.
لذلك فقد أمر الله تعالى بذكره في مواضع كثيرة من كتابه العزيز ومن ذلك قوله تعالى: ((الذين يذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم)) . (سورة آل عمران، الآية: 191) .
وذلك لأن الذي يذكر الله يتذكر أمره ونهيه، فيتذكر أنه أمر بالعبادات، ويتذكر أن في هذه الأذكار أجراً عظيماً، ويتذكر أنه نهي عن المحرمات وأن في تركها أجراً كبيراً، وأن في تركه للأوامر وفعل المحرمات عقوبة، فيحمله هذا التذكر على أن يتقرب إلى الله بالطاعات ويترك المحرمات ويبتعد عنها.
رابعاً: مجالسة الصالحين:
ومن أسباب الحماية مجالسة الصالحين وأهل الخير الذين يذكرون الإنسان إذا غفل، ويعينونه إذا ذكر، ويدعونه، إلى الخير ويحذرونه من الشر.
ولكن من هم الصالحون؟!
الصالحون هم أولئك الذين أصلحوا أعمالهم، وأصلحوا أقوالهم، واستقامت أحوالهم.
وهم الذين عرفوا الله حق المعرفة.
وهم الذين يدعون إلى الخير وينهون عن الشر.
وهم الذين التزموا أوامر الله واجتنبوا نواهيه.
وهم.. وهم.. وهم.. الخ.
هؤلاء هم الصالحون، أما غيرهم فهم أهل الشر والفساد.
وإن من تمام مجالسة الصالحين اجتناب أهل المعاصي والبعد عنهم، فإن من جالس الصالحين اجتنب أهل الشر والفساد، ومن جالس أهل الخير هجر أهل الشر وابتعد عنهم.
أما أولئك الذين لا يجالسون الصالحين ويصدون عنهم، فكثيراً ما يجتذبهم أهل الفساد ويدعونهم إلى ما يفعلونه، فيزينون لهم ما هم فيه، فلا يأمن أن يقعوا فيما وقعوا فيه.(65/29)
أيها الإخوة، إن الأشرار ولو اعترفوا بأنهم على الشر، فإنهم يتمنون أن يكون الناس مثلهم حتى لا ينفردوا بالشر وحدهم، فصاحب الدخان لا يعترف بأنه على باطل، ولذلك تجده يزين لكل من رآه ولكل من جالسه أنه على حق، وأن هذا الدخان لا مانع منه، ولا بأس به، حتى يوقع فيه هذا وذاك، فإن شربوه مرة واثنين وتعودوا عليه، صعب عليهم بعد ذلك التخلص منه. ثم تجدهم يعيبون من ترك الدخان ويقولون إنه بخيل متزمت ومتشدد ونحو ذلك من الألفاظ.
وهكذا فإن هؤلاء المفسدين الأشرار يعيبون أهل الدين ويعيبون أهل الصلاة وأهل ترك المحرمات بهذه العيوب التي يلصقونها بهم.
وهذه سنة الله تعالى أن كل عاص يدعو إلى معصيته، ولو اعترف بأنه على باطل، ولكن لابد إذا كان متمكناً في هذه المعصية أن يزين حالته ويبين للناس أنه ليس على باطل حتى يفعلوا مثل ما فعل.
فعلى المسلم أن يجتنب أهل السوء ومجالسهم فإنه لا يسلم إلا إذا اجتنبهم وابتعد عنهم. أما من كان معه قدرة على مقاومتهم، وإقناعهم ونصحهم، والرد عليهم وإبطال شبهاتهم، فإنه واجب عليه أن يفعل ذلك، ولا بأس أن يجالسهم في هذه الحالة حتى يرد عليهم، فإذا رأى أنهم تمادوا واستمروا في غيهم ولم تؤثر فيهم كلماته ومواعظه ونصحه فالنجاة النجاة، والبعد البعد، فهو أولى وأسلم.
أيها الإخوة، هذه توجيهات في السلامة من هذه المحرمات، وهي على سبيل المثال. وأسباب التحصن والحماية كثيرة وفي الإشارة كفاية، واللبيب تكفيه الإشارة، والإنسان الذي معه فكر وعقل يعلم كيف الطريق إلى السلامة من بقية المحرمات لاجتنابها والحذر من مقاربتها.
نسأل الله تعالى أن يحمي المسلمين من المعاصي ما ظهر منها وما بطن، وأن يبصرهم بأنفسهم حتى يجتنبوها، وأن يحمي مجتمعات المسلمين من العصاة والمفسدين.(65/30)
ونسأله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، ويمكن لهم الدين، ونسأله أن يصلح أئمة المسلمين وولاة أمورهم، وأن يجعلهم هداة مهتدين، يقولون بالحق وبه يعدلون.
ونسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويصلح أحوال المسلمين، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(65/31)
ترجمة الشيخ عبد الله ابن جبرين
الاسم والنسب
هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين من آل رشيد وهم فخذ من عطية بن زيد وبنو زيد قبيلة مشهورة بنجد كان أصل وطنهم مدينة شقراء ثم نزح بعضهم إلى بلدة القويعية في قلب نجد وتملكوا هناك.
أسرته
هذه الأسرة منهم من له ذكر وأخبار على الألسن لكنها لم تدون في كتب التأريخ لقلة العناية بتلك الأخبار في زمنهم وقد أشتهر جده الرابع وهو حمد بن جبرين وكان في أواسط القرن الثالث عشر حيث آل إليه أمر القضاء والولاية والأمارة في مدينة القويعية وكان ذا منزلة ومكانة في قومه فهو خطيبهم وأميرهم وقاضيهم مع ما رزقه الله من السعة في العلم والمال وتملك الآبار وإحياء الموات كما تدل على ذلك وثائق الملكية التي تحمل اسمه وأسماء بنيه من بعده وقد أورث علماً جماً حيث كان له كتاب وعمال ينسخون الكتب الجديدة بالأجرة ولا يزال الكثير منها موجوداً موقوفاً عند بعض أحفاده ثم اشتهر بعده ابن ابنه إبراهيم بن فهد فتعلم العلم وأدرك الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ والشيخ عبد الله أبابطين والشيخ حمد بن معمر وقرأ ونسخ وحفظ علماً جماً وأورث بعده مخطوطات تحمل اسمه منها ما نسخه بيده ومنها ما تملكه وقد تولى الإمامة والخطابة والإفتاء والتدريس وتعليم القرآن والحديث وتوفى في آخر القرن الثالث عشر وقام بعده ابنه عبد الله الذي حفظ القرآن وقرأ على أبيه وبعض علماء بلده وغيرهم وتولى الإمامة والخطابة والتعليم في قرية مزعل التابعة للقويعية وقد نسخ كتباً بيده أوقفها بعده ومات سنة 1344هـ وتولى الإمامة والخطابة بعده ابنه محمد بن عبد الله وكان قد قرأ على أبيه ورحل في طلب العلم وحفظ الكثير من المتون ونسخ بيده كتباً ومات سنة 1355هـ وأما والد المترجم له فهو أحد طلبة العلم وحفظه القرآن ولد سنة 1321هـ وتولى الإمامة بعد أخيه ثم انتقل إلى بلدة الرين لطلب العلم على قاضيها(66/1)
عبد العزيز الشثري المكنى بأبي حبيب وأقام هناك حتى أرتحل بعد وفاة الشيخ أبا حبيب إلى الرياض ومات سنة 1387هـ.
ولد الشيخ عبد الله بن جبرين سنة 1352هـ في إحدى قرى القويعية ونشأ في بلدة الرين وابتدأ بالتعلم في عام 1359هـ وحيث لم يكن هناك مدارس مستمرة تأخر في إكمال الدراسة ولكنه أتقن القرآن وسنه إثناء عشر عاماً وتعلم الكتابة وقواعد الإملاء البدائية ثم ابتدأ في الحفظ وأكمله في عام 1367هـ وكان قد قرأ قبل ذلك في مبادئ العلوم ففي النحو على أبيه قرأ أول الآجرومية وكذا متن الرحبية في الفرائض وفي الحديث الأربعين النووية حفظاً وعمدة الأحكام بحفظ بعضها وبعد أن أكمل حفظ القرآن ابتدأ في القراءة على شيخه الثاني بعد أبيه وهو الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري المعروف بأبي حبيب وكان جل القراءة عليه في كتب الحديث ابتداء بصحيح مسلم ثم بصحيح البخاري ثم مختصر سنن أبى داود وبعض سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي وقرأ سبل السلام شرح بلوغ المرام كله وقرأ شرح ابن رجب على الأربعين المسمى جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديث من جوامع الكلم وقرأ بعض نيل الأوطار على منتقى الأخبار وقرأ تفسير ابن حرير وهو مليء بالأحاديث المسندة والأثار الموصولة وكذا تفسير ابن كثير وقرأ كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وأتقن حفظ أحاديثه وأثاره وأدلته وقرأ بعض شروحه وقرأ في الفقه الحنبلي متن الزاد حفظاً وقرا معظم شرحه وكذا قرأ في كتب أخرى في الأدب والتأريخ والتراجم واستمر إلى أول عام، أربع وسبعين حيث انتقل مع شيخه أبو حبيب إلى الرياض وانتظم طالباً في معهد إمام الدعوة العلمي فدرس فيه القسم الثانوي في أربع سنوات وحصل على الشهادة الثانوية عام 1377هـ وكان ترتيبه الثاني بين الطلاب الناجحين البالغ عددهم أربعة عشر طالباً ثم انتظم في القسم العالي في المعهد المذكور ومدته أربع سنوات ومنح الشهادة الجامعية عام 1381هـ وكان ترتيبه الأول(66/2)
بين الطلاب الناجين البالغ عددهم أحد عشر طالباً وعدلت هذه الشهادة بكلية الشريعة. وفي عام 1388هـ انتظم في معهد القضاء العالي ودرس فيه ثلاث سنوات ومنح شهادة الماجستير عام 1390هـ بتقدير جيد جداً وبعد عشر سنين سجل في كلية الشريعة بالرياض للدكتوراه وحصل على الشهادة في عام 1407هـ بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف وأثناء هذه المدة وقبلها كان يقرأ أكابر العلماء ويحضر حلقاتهم ويناقشهم ويسأل ويستفيد من زملائه ومن مشائخهم في المذاكرة والمجالس العادية والبحوث العلمية والرحلات والاجتماعات المعتادة التي لا تخلو من فائدة أو بحث في دليل وتصحيح قول ونحوه.
الحالة الاجتماعية(66/3)
تزوج بابنة عمه الشقيق رحمها الله وذلك في آخر عام 1370هـ ومع قرابتها كانت ذات دين وصلاح ونصح وإخلاص بذلت جهدها في الخدمة والقيام بحقوق ربها وبعلها وتوفيت عام 1414هـ وقد رزق منها أثنى عشر مولوداً من الذكور والإناث مات بعضهم في الصغر والموجود ثلاثة ذكور وست إناث وقد تزوج جميعهم وولد لأغلبهم أولاد من البنات والبنين ولا يزالون يغشون أباهم ويخدمونه ويقومون بالحقوق الشرعية والآداب الدينية، أما الوضع المنزلي فقد كان في أول الأمر تحت ولاية والده فكان يخدمه ويقوم بما قدر عليه عن بره وأداء حقه في نفسه وماله ولا يستبد بكسب ولا يختص بمال ولما انتقل إلى الرياض وانتظم في معهد إمام الدعوة العلمي وكان يدفع له مكافأة شهرية فكان يدفع ما فضل عن حاجته لوالده الذي ينفق على ولده وولد ولده وبعد ثلاث سنين اضطر إلى إحضار زوجته وأولاده واستئجار منزل صغير وتأثيثه والنفقة فكانت المكافأة تكفي لذلك رغم قلتها لكن مع الاقتصار على الحاجات الضرورية وبقي يستأجر منزلاً بعد منزل لمدة ثماني سنين فبعدها أعانه الله على شراء بيت من الطين والخشب القوي فهناك استقر به النوى حيث قام فيه سبعة عشر عاماً يعيش في وسط من الحال لا إسراف فيه ولا تقتير ولم يتوسع في الكماليات والمرفهات لقلة ذات اليد ثم في عام 1402هـ انتقل إلى منزله الحالي الذي أقامه بمساعدة بنك التنمية العقارية وعاش فيه كما يعيش أمثاله في هذه الأزمنة.
عقيدته(66/4)
أما العقيدة والمذهب فقد نشأ على معتقد سليم تلقاه عن الآباء والأجداد والمشايخ العلماء المخلصين فتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، فقرأ وحفظ ما تيسر من كتب العقائد كالواسطية للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وتقلى شرحها من مشائخه الذين تعلم منهم العلوم الشرعية فكانوا يفسرون غريبها ويوضحون المعاني ويبينون الدلالات من النصوص وقد نهج والحمد لله منهج مشايخنا في تدريس كتب العقيدة السلفية فقرأ عليه التلاميذ الكثير من كتب العقائد المختصرة والمبسوطة كشروح الواسطية للهراس ولابن سلمان ولابن رشيد وشرح الطحاوية ولمعة الاعتقاد وشروح كتاب التوحيد وكذا الكتب المبسوطة لشيخ الإسلام وابن القيم وحافظ الحكمي وغيرهم ممن كتب في العقيدة وناقش الأدلة وتوسع في سردها وكان في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة يدرس كتب العقيدة ويشرف على البحوث والرسائل التي تقدم للجامعة في هذا القسم ويشترك في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه ويرشد الطلاب إلى المراجع المفيدة في الموضوع ولا زال إلى الآن يشرف على كثير من الرسائل وعلى اتصال بالجامعة زيادة على الطلاب الراغبين في هذه الدراسة في هذه الدراسة.
أما المذهب في الفروع فإن مشايخه الذين درس عليهم الفقه كانوا متخصصين في مذهب أحمد بن حنبل، لا يخرجون عنه غالباً وقد اقتصر عليه وأكثر من قراءة كتب الحنابلة والتعليق عليها ومعلوم أن مذهب أحمد هو أوسع المذاهب لكثرة الروايات فيه التي توافق المذاهب الأخرى غالباً فمن قرأ هذا المذهب وتوغل فيه أحاط بأكثر المذاهب ما عدى الافتراضات ونوادر المسائل التي يفترض الفقهاء وجودها فلا أهمية لدراستها فمتى وقعت أمكن معرفة حكمها بإلحاقها بأقرب ما يشابهها.
شيوخه(66/5)
أما الشيوخ والعلماء الذين تتلمذ عليهم فأولهم والده رحمه الله تعالى فقد بدأ بتعليمه القراءة والكتابة في عام 59 ثم أكمل وهي مسقط الرأس وكان رحمه الله من طلبة العلم وأهل النصح والإخلاص والمحبة وقد أفاد كثيراً بحسن تربيته وتلقينه وحرصه على التلاميذ ليجمعوا بين العلم والعمل وقد توفى سنة 1377هـ ومن أكبر المشايخ الذين تأثر بهم شيخه الكبير عبد العزيز بن محمد أبو حبيب الشثري الذي قرأ عليه أكثر الأمهات في الحديث وفي التفسير والتوحيد والعقيدة والفقه والأدب والنحو والفرائض وحفظ عليه الكثير من المتون وتلقى عنها شرحها والتعليق على الشروح وكان بدء الدراسة عليهم عام 1367هـ حتى توفى عام 1387هـ بالرياض رحمه الله تعالى ولكن قلت القراءة عليه بعد التخرج للانشغال والتدريس ونحوه، ومن العلماء الذين قرأ عليهم واستفاد من مجالستهم فضيلة الشيخ صالح بن مطلق الذي كان إماماً وخطيباً في إحدى القرى بالرين ثم قاضياً في حفر الباطن ثم تقاعد وسكن الرياض ومات سنة 1381هـ وكان ضرير البصر ولكن وهبه الله الحفظ والفهم القوي فقلّ أن يجالسه كبيراً أوصغيراً إلا استفاد منه وقد قرأ عليه بعض الكتب في العقيدة والحديث وحضر مجالسه التي يتعدى فيها الأكابر والعلماء ويأتي بالعجائب والغرائب وبالجملة فهو أعجوبة زمانه رحمه الله وأكرم مثواه، ومن أشهر المشايخ الذين قرأ عليهم وتابع دروسهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وهو غني عن التعريف به وقد تلقى عليه مع التلاميذ دروساً نظامية عند ما أفتتح معهد إمام الدعوة في شهر صفر عام 1374هـ وتولى تدريس القسم الذي كنت معهم في أغلب المواد الشرعية كالتوحيد والفقه والحديث والعقيدة فدرسه في الحديث بلوغ المرام مرتين في القسم الثانوي والقسم العالي وفي الفقه متن زاد المستقنع وشرحه الروض المربع مرتين أيضاً بتوسع غالباً في شرح كل جملة وهم يتابعون ويكتبون الفوائد المهمة.(66/6)
وفي التوحيد والعقدية قرأ كتاب التوحيد وشرحه فتح المجيد وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ومتن العقيدة الحموية والعقدية الواسطية له أيضاً وشرح الطحاوية لابن أبي العز وغيرها وقد استمر في التدريس حتى أنهو القسم العالي في آخر سنة 1381هـ حيث توقف عن التدريس وانشغل بالافتاء ورئاسة القضاء حتى توفى عام 1389هـ في رمضان رحمة الله تعالى عليه.
وقرأ في الدراسة النظامية على جملة من العلماء كالشيخ إسماعيل الأنصاري في التفسير والحديث والنحو والصرف وأصول الفقه وذلك من عام 1375هـ حتى التخرج والشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد في الفرائض لمدة ثلاث سنوات ودرس عليه أيضاً في مرحلة الماجستير لمادة الفقه عام 1388هـ وكان رحمه الله نم فقهاء البلد وله مؤلفات مشهورة منها عدة الباحث بأحكام التوارث ومنها التنبيهات السنية شرح العقدية الواسطية وهو أول الشروح الوافية لهذه العقيدة. وقرأ أيضاً على الشيخ حماد بن مجد الأنصاري والشيخ محمد البيحاني والشيخ عبد الحميد عمار الجزائري في علوم وفنون متعددة وفي مرحلة الماجستير قرأ على الكثير من كبار العلماء كسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد المتوفى سنة 1402هـ في الفقه طرق القضاء وحضر مجالسه منذ أن قدم الرياض واستفاد منه كثيراً في الأحكام والقصص والعبر والتأريخ والنصائح كما هو مشهور بذلك وقرأ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي وهو مشهور من كبار العلماء وقد تتلمذ عليه واستفاد منه جمع غفير في هذه البلاد من القضاة والمدرسين والدعاة وغيرهم وهو ممن فتح الله عليه وألهمه من العلوم ما فاق به الكثير من علماء هذا الزمان وقد توغل في التفسير والاستنباط عن الآيات وكذا في الحديث ومعرفة الغريب منه وكذا في العلوم الجديدة وأهلها.(66/7)
وكذا الشيخ مناع خليل القطان الذي درسهم في تلك المرحلة في مادة التفسير بتوسع وإيضاح وقد استفادوا كثيراً من مجالسته ومحاضراته حيث يأتي بفوائد كثيرة مستنبطة من الآيات أو الأدلة وله مؤلفات عديدة في فنون متنوعة وكذا الشيخ عمر بن مترك رحمه الله تعالى وكان من أوائل حملة الدكتوراه من السعوديين وقد قرأ عليه في مادة الفقه والحديث والتفسير وكان شديد العناية بالأدلة والتعليلات وله معرفة تامة بالمعاملات المتجددة ويتوسع في الكلام قولها وقد استفاد منه كثير، ومنهم الشيخ محمد عبد الوهاب البحيري مصري الجنسية تولى التدريس في الحديث وكان يتوسع في الشرح وذكر المسائل الخلافية ويحرص على الجمع والترجيح فأفاده في كثير من المواضع المهمة ومنهم محمد الجندي مصري أيضاً ولم يقم إلا بعض سنة حتى مرض فرجع إلى مصر وتوفى هناك رحمه الله ومنهم محمد حجازي صاحب التفسير الواضح ومنهم طه الدسوقي العربي مصري أيضاً وكان ذا معرفة واسعة واطلاع وحفظ مع فصاحة وبيان وآخرون سواهم.(66/8)
وقد استفاد أيضاً من مشايخ آخرين دراسة غير نظامية وأشهرهم سماحة الشيخ عبد العزيز بذلك عبد الله بن باز -رحمه الله- الذي لازمه في أغلب الحلقات التي يقيمها في الجامع الكبير بالرياض بعد العصر وبعد الفجر والمغرب بحيث يحضره العدد الكثير ويدرس في فنون منوعة من المتون والشروح المؤلفات ويعلق على الجمل ويوضح المسائل وينبه على الأخطاء ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم المهيزع وهو من المدرسين والقضاة وكان يقيم دروساً في مسجده وفي منزله ويستفيد منه الكثير ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن هويمل أحد قضاة الرياض قرأ عليه في المسجد وغيره وإن كان قليل التعليق لكنه يفيد على الأخطاء ويوضح بعض المسائل الخفية وفي آخر حياته ثقل سمعه وأشتد مرضه ثم توفى رحمه الله تعالى في عام 1415هـ وقد استفاد أيضاً من الزملاء والجلساء الذين سعد بالاقتران بهم وقت الدراسة ووفق بالقراءة معهم والمذاكرة في أغلب الليالي وفي أيام الاختبارات ومنهم الشيخ فهد بن حمين الفهد والشيخ عبد الرحمن محمد المقرن رحمه الله والشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فرسان والشيخ محمد بن جابر وغيرهم ممن سبقوه بالقراءة على المشايخ وتعلموا كثيراً مما فاته فأدركه بواسطتهم فكان يقرأ عليهم الشرح ويتلقى إصلاح بعض الأخطاء اللغوية والبحث في المسائل الخلافية ومعرفة الكتب المفيدة في الموضوع وكيفية العثور على المسألة في الكتب المتقاربة في الفقه الحنبلي وكذا معرفة طرق الاستفادة من كتب اللغة واختصاص كل كتاب بنوع من المواضيع ونحو ذلك مما يفوت من يقرأ بمفرده فلذلك ينصح المبتدئ أن يقترن في المذاكرة والاستفادة بمن هم أقدم منه في الطلب ليضم ما عندهم إلى ما عنده وقد ذكرنا أن أقدم هؤلاء المشايخ هو الشيخ عبد العزيز الشثري رحمه الله وقد بالغ في الثناء عليه ولما انتقل إلى الرياض عام 1374هـ استصحبه معه وذكر لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى بعض ما قرأ عليه وما وصل إليه(66/9)
مما جعل الشيخ يجعله مع أعلى التلاميذ عند تقسيمهم إلى سنوات في معهد إمام الدعوة العلمي وكان من آثار إعجابه أن طلبه ذلك العام لتولي القضاء ولكنه أعتذر بالدراسة والشوق إليها فعذره.
الأعمال التي تقلدها
أولها أن بعث مع الدعاة إلى الحدود الشمالية في أول عام 1380هـ بأمر الملك سعود وإشارة لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ورئاسة الشيخ عبد العزيز الشثري رحمهم الله تعالى مع بعض المشائخ ولمدة أربعة أشهر ابتداء من حدود الكويت على امتداد حدود العراق وحدود الأردن وحدود المملكة شمالاً وغرباً وكثير من مناطق المملكة وقاموا بالدعوة والتعليم وتوزيع النسخ المفيدة في العقيدة وأركان الإسلام حيث أن أغلب السكان من البوادي عاشوا في جهل عميق فهم لا يعرفون إلا اسم الإسلام والصلاة والصيام ونحو ذلك ويجهلون الواجبات وما تصح به الصلاة ويقعون في الكثير من وسائل الشرك وأنواعه وقد بذلت الهيئة جهداً في تعليمهم ونفع الله الكثير ممن أراد به خيراً.(66/10)
ثم تعين مدرساً في معهد إمام الدعوة في شعبان عام 1381هـ إلى عام 1395هـ قام فيه بتدريس الكثير من المواد كالحديث والفقه والتوحيد والتفسير والمصطلح والنحو والتأريخ وكتب مذكرات على أحاديث عمدة الأحكام بذكر الموضوع والمعنى الإجمالي وشرح الغريب وذكر الفوائد وكذا مذكرات على مواد الفقه والتوحيد والمصطلح لا يزال الكثير منها محفوظ عند الطلاب أو في المعاهد العلمية ثم في عام 1395هـ انتقل إلى كلية الشريعة بالرياض وتولى تدريس التوحيد للسنة الأولى وهو متن التدمرية وكتب عليه تعليقات كفهرس للمواضيع وعنوان للبحوث وكذا درس أول شرح الطحاوية ثم في عام 1402هـ انتقل إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد باسم عضو إفتاء وتولى الفتاوى الشفهية والهاتفية والكتابة على بعض الفتاوى السريعة وقسمة المسائل الفرضية وبحث فتاوى اللجنة الدائمة التي يناسب نشرها وقراءة البحوث المقدمة للمجلة فيما يصلح للنشر وما لا يصلح ومازال هكذا حتى الآن وقد انتهت مدة خدمته في دار الإفتاء، أما الأعمال الأخرى فقد تعين إماماً في مسجد آل حماد بالرياض في شهر شوال عام 1389هـ حتى هدم المسجد وهدم الحي كله في عام 1397هـ وبعد عامين عين خطيباً احتياطياً يتولى الخطبة عند الحاجة ومازال كذلك إلى الآن حيث يقوم بخطبة الجمعة وصلاتها في الكثير من الجوامع عند تخلف الخطيب أو قبل تعيينه وقد يستمر في أحد الجوامع أشهراً أو سنوات ويتولى صلاة العيد في بعض المناسبات. ويقوم أيضاً متبرعاً بالتدريس في المساجد ابتداء بدرس الفرائض في عام 1387هـ لعدد قليل ثم بتدريس التوحيد والأصول الثلاثة وكشف الشبهات والعقيدة الواسطية ونحوها لعدد كثير في مسجد آل حماد في آخر عام 1389هـ وقد حصل إقبال شديد على تلك الحلقات وكان أغلب الطلاب من مدرسة تحفيظ القرآن الذين توافدوا من جنوب المملكة ومن اليمانيين الوافدين لأجل التعلم وقد أقام تلك الدروس بعد الفجر أكثر(66/11)
من ساعة أو ساعتين وبعد الظهر كذلك وبعد العصر غالباً وبعد المغرب إلى العشاء واستمر ذلك حتى هدم المسجد المذكور حيث نقلت الدروس إلى مسجد الحمادي حيث توافد إليه الطلاب كثرة في أغلب الأوقات للدراسة في العلوم الشرعية كالحديث والتوحيد والفقه وأصوله والمصطلح وغيرها ثم في عام 1398هـ رغب إليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أن يقوم في غيبته بالصلاة في الجامع الكبير كإمام للصلوات الخمس فقام بذلك وكان يتولى الصلاة بهم إماماً كل وقت ماعدا خطبة الجمعة وصلاتها ومن ثم نقلت الدروس إلى مسجد الجامع الكبير والذي عرف بعد ذلك بجامع الإمام تركي بن عبد الله رحمه الله وفي حالة حضور سماحة الشيخ يقوم بصلاة العشائين هناك وإلقاء الدروس بينهما وبقية الأوقات ويلقي الدروس في مسجد الحمادي بعد العصر والمغرب وبعد الفجر غالباً ثم في عام 1398هـ رغب إليه بعض الشباب في درس بعد العشاء في المنزل يتعلق بالعقيدة فلبى طلبهم وابتدأ بالعقيدة التي كتبها الشيخ ابن سعدي وطبعت في مقدمة كتابه القول السديد وقد كثر عدد الطلاب وتوافدوا من بعيد ولم يزالوا إليه الآن وقد انتقل عام 1402هـ إلى منزله الحالي في السويدي فنقل الدرس هناك في ليلتين من كل أسبوع وقد قرؤا في هذه المدة نظم سلم الوصول وشرحه معارج القبول في مجلدين ورسالة الشفاعة للوادعي وكتاب التوحيد للشيخ محمد محمد بن عبد الوهاب وشرح ثلاثة الأصول له كما قرؤا في الفقه ونظم الرحبية في المواريث ومنار السبيل شرح الدليل لابن ضويان حتى كمل والحمد لله، ولما ضاق المنزل نقلوا الدرس إلى المسجد المجاوره ويعرف بمسجد البرغش كما نقول فيه الدروس الأسبوعية بعد الفجر وبعد المغرب أي بعد هدم المسجد الكبير عام 1408هـ وقد قرؤوا في هذه الأوقات كثيراً من الأمهات كالصحيحين وشرح الطحاوية وشرح الواسطية لابن سلمان ولابن رشيد وبعض زاد المعاد وجميع بلوغ المرام وزاد المستقنع وبعض سنن أبي داود(66/12)
والترمذي وموطأ مالك ورياض الصالحين وبعض نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار وبعض سنن الدارمي وترتيب مسند الطيالسي وشرح كامل منتقى الأخبار لأبي البركات وكتاب الدين الخالص لصديق حسن خان وفي المصطلح متن نخبة الفكر ومتن البيقونية وفي النحو متن الآجرومية وبعض ألفية ابن مالك وفي أصول الفقه متن الورفان لإمام الحرمين وغير ذلك من المتون والشروح الكثيرة.
وفي عام 1382هـ أسس بعض المحسنين مدرسة خيرية أسموها (دار العلم) فأقبل إليها العدد الكثير من الطلاب صغاراً وكباراً وتولى المترجم فيها التدريس في المواد الدينية كالحديث والتوحيد والفقه حسب مدارك الطلاب وأقام الشباب فيها نادياً أسبوعياً يستمر بعد العشاء ليلة كل جمعة لمدة ساعتين يحضره غالباً ويلقى فيه بعض الكلمات ويجيب على الأسئلة الدينية والاجتماعية وفي عام 1398هـ قام فيها بدرس أسبوعي يحضره العدد الكثير واستمر حتى هذا العام حيث نقل إلى أقرب مسجد هناك حولها ولا يزال وقد أكملوا فيه قراءة الصحيحين وابتدؤا في سنن الترمذي وتولى القراءة عليه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الله بن غيث وتركه في أول الأمر الشيخ الدكتور محمد بن ناصر السحيباني حتى انتقل إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة ثم خلفه الشيخ الدكتور فهد السلمة حتى انشغل بالتدريس في كلية الملك فهد الأمنية والطريقة أن يقرأ الباب ثم يشرحه بإيضاح مقصد المؤلف وبيان ما تدل عليه الأحاديث وفي حدود عام 1403هـ رغب إليه بعض الشباب من سكان حي العليا أن يلقى عندهم درساً أسبوعياً في العقيدة ودرساً في الحديث فابتدأ الدرس في مسجد متوسط في الحي أشهراً ثم انتقلوا إلى مسجد الملوحي مدة طويلة ثم إلى مسجد السالم حيث استمر الدرس فيه سنوات ثم انتقل بهم إلى مسجد الملك عبد العزيز ثم إلى جامع الملك خالد وقد أكملوا في هذه المدة متن لمعة الاعتقاد والعقيدة الواسطية وكتاب التوحيد ومتن التدمرية وبعض بلوغ المرام وشرح عمدة الفقه قسم(66/13)
العبادات بعض الروض المربع قراءة وشرحاً وفي عام 1409هـ رغب إليه بعض الأخوان أن يقرر درساً أسبوعياً في مسجد سليمان الراجحي بحي الربوة قراءة وشرحاً وذلك أن المسجد مشهور ويحيط به أحياء واسعة مكتظة بالسكان المحبين للعلم فلبى طلبهم وابتدأ في شرح الطحاوية فأكمله وفي عمدة الأحكام في الحديث فأكملها وفي كتابه السنة للخلال ثم كتاب السنة لعبد الله بن أحمد ولا يزال يقرأ فيه ويتولى القراءة غلاباً إمام المسجد صالح بن سليمان الهبدان أو مؤذن المسجد ويختم الدرس قرب الإقامة بالإجابة على أسئلة مقدمة من الحاضرين ويتكاثر العدد في هذا الدرس فربما ذادوا على الخمسمائة ولا يتوقف إلا في أيام الاختبارات ثم يستأنف بعدها وفي عام 1409هـ رغب إليه سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- أن يلقي درساً في مسجد سوق الخضار بعتيقة لكثرة من يصلي فيه فلبى رغبته وأقام فيه درساً أسبوعياً لكن إنما يحضره القليل من الطلاب لانشغال أهل الأسواق بتجارتهم واستمر هذا الدرس في الفقه والتوحيد كما أنه في هذه السنين يقوم غالب الأسابيع بإلقاء محاضرات في مساجد الرياض النائية التي يكثر فيه المسلون ولا يلقى فيها دروس فيتواجد العدد الكثير غالباً في المحاضرة التي تتعلق بالعبادات والمعاملات وما يحتاج إليه الناس ويشترك أيضاً في الندوات التي تقام أسبوعياً في المسجد الجامع الكبير المعروف بجامع الإمام تركي والتي ابتدأت من أكثر من عشرين عاماً ويعلق عليها غالباً سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والآن يعلق عليها سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله.(66/14)
وهناك أعمال أخرى قام منها التدريس في المعهد للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وذلك في عام 1408هـ حيث أسند إليه درس الفقه للسنة الأولى ويسمى السياسة الشرعية وهو ما يتعلق بالمعاملات وأحكام والتبادل بمعدل درسين في الأسبوع وفي نهاية العام وضع أسئلة الاختبار وصحح الأجوبة كالمعتاد ثم في العام بعده قام بهذا الدرس ومعه درس آخر للسنة الثانية ويعرف بالأحوال الشخصية وله ثلاث حصص كل أسبوع وطريقة الإلقاء اختيار جمل من الكتاب المقرر وذكر ما فيها من الخلاف وسرد أدلة الأقوال مع الجمع والترجيح ووجه الاختيار وفي السنة بعدها اقتصرت على الدرس الأول وهو السياسة الشرعية ثم توقف بعدها عن هذا التدريس (ومنها) الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه التابعة للجامعة المذكورة وذلك طوال هذه السنين أي بعد الانتقال من الجامعة إلى رئاسة البحوث العلمية كما سبق لم يتخل عن أعمال الجامعة وذلك في كل عام يلتزم بالإشراف وعلى ثلاث رسائل وأربع يقوم بتوجيه الطالب وإرشاده إلى مراجع البحث في الأمهات حسب علمه ويقرأ ما يقدمه كل شهر من بحثه ويبين ما فيه من خطأ ونقص ويجتمع به غالباً كل أسبوع أو نحوه ويرفع عنه للجامعة تقريراً عن سيره وما يعوقه وفي النهاية يكتب عن رسالته ومدى صلاحيتها للتقديم ويحضر عند المناقشة وتقويم الرسالة كما يقوم أيضاً بمناقشة بعض الرسائل المقدمة للجامعة كعضو فيها ويبدى ما لديه من الملاحظات ويحضر تقويم الرسالة كالمعتاد (ومنها) القيام بالدعوة داخل المملكة بإلقاء محاضرات أو خطب أو إجابة على الأسئلة وذلك كل شهر أو شهرين حيث يزور البلاد القريبة الرياض فيلقي محاضرة في معهد أو مركز صيفي وفي مسجد جامع ويجتمع بالأهالي ويبحث معهم في مشاكل البلاد وعلاجها وقد تستمر الرحلة أسبوعياً أو أكثر للتجول في البلاد النائية وزيارة بعض الدوائر الحكومية للمناصحة والإرشاد فيلقى تقبلاً وتشجيعاً وترغيباً في(66/15)
الاستمرار وقد تكون الزيارة رسمية وتحدد المدة من مركز الدعوة أو إدارة الدعوة في الداخل (ومنها) الاشتراك في التوعية في الحج وذلك زمن إن كان تبع الجامعة حتى عام وذكر منافع الحج والعمرة وإيضاح الأهداف من هذه الأعمال وتفقد آثارها بعد إنقضائها والإجابة على الأسئلة التي تتعلق بالمقام وذلك لمدة شهر كامل وقد تعزر عليه الاشتراك في هذا بعد الالتحاق بالرئاسة بسبب الإقامة في المكتب للحاجة الماسة إليه هناك وقام في السنوات الأخيرة بالحج مع بعض الحملات الداخلية التي تجمع حجاجاً من الرياض وكان يتولى معهم الإجابة على الأسئلة وإلقاء كلمات توجيهية كل يوم مرة أو مرتين ويقوم بزيارة بعض الحملات الأخرى في الموسم فيفرحون بذلك العمل.
مؤلفاته(66/16)
أولها البحث المقدم لنيل درجة الماجستير في عام 1390هـ (أخبار الآحاد في الحديث النبوي) وقد حصل على درجة الامتياز رغم إنه كتبه في مدة قصير ولم تتوفر لديه المراجع المطلوبة وقد طبع عام 1408هـ في مطابع دار طيبة ثم أعيد طبعه مرة أخرى وهو موجود مشهور ولم يتيسر له التوسع فيه قبل طبعة لاحتياجه إلى مراجعة وتكملة وقد حمله على الكتابة فيه محبة الحديث وفضله وما رأه في كتب المتكلمين والأصوليين من عدم الثقة بخبر الواحد سيما إذا كان متعلقاً بعلم العقيدة وقد رجح قبوله في الأصول كالفروع. وفي عام 1398هـ كلف بكتابة تتعلق بالمسكرات والمخدرات لتقديمها للمؤتمر الذي عقدته الجامعة الإسلامية في ذلك العام فكتبه بحثاً بعنوان (التدخين مادته وحكمه في الإسلام) وهو بحث متوسط وفيه فوائد وأحكام زائدة على ما كتبه الآخرون وقد أعجب به المشايخ المشاركون في موضوع الدخان وقد طبعته مطابع دار طيبة عدة طبعات وهو مشهور متداول وإن كان مختصراً لكن حصل به فائدة لمن أراد الله به خيراً وفي عام 1402هـ رفع إليه كلام لبعض علماء مصر ينكر فيه إثبات الصفات ويرد الأدلة ويتوهم إنها توقع في التشبيه وكذا يميل إلى الشرك بالقبور ويمدح الصوفية وقد لخص كلامه بعض الأخوان في أربع صفحات وأرسلها لمناقشتها في كتب عليه جواباً واتضحاً وتتبع شبهاته وبين ما وقع فيه من الأخطاء بعبارة واضحة ومناقشة هادئة وطبع ذلك البحث في مجلة البحوث الإسلامية العدد التاسع ثم أفرده بعض الشباب بالطبع في رسالة مستقلة بعنوان (الجواب الفائق في الرد على مبدل الحقائق) وهو موجود متداول طبعته مؤسسة آسام للنشر وكتبه أيضاً مقالاً يتعلق بمعنى الشهادتين وما تستلزمه كل منهما وطبع في مجلة البحوث العدد السابع عشر ثم افرده بعض التلاميذ بالطبع بعنوان (الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما) وطبع في عام 1410هـ في مطابع دار طيبة في 90صفحة من القطع الصغير وقد التزم فيه وفي غيره(66/17)
العناية بالأحاديث للاستدلال بها وتخريجها مع ذكر درجتها باختصار. وفي عام 1391هـ قام بتدريس متن لمعة الاعتقاد لابن قدامة لطلاب المعهد العلمي وكتب عليها أسئلة وأجوبة مختصرة تتلاءم مع مقدرة أولئك الطلاب في المرحلة المتوسطة ومع ذلك فإنها مفيدة لذلك رغب إليه بعض الشباب القيام بطبعها فطبعت بعنوان (التعليقات على متن اللمعة) عام 1412هـ وفي مطبعة سفير والناشر دار العميعي للنشر والتوزيع وقد وقع فيها أخطاء تبع فيها ظاهر المتن والأدلة وقد أعيد طبعها مع إصلاح بعض الأخطاء. وقد قام فيها بتخريج الأحاديث التي استشهد بها ابن قدامة تخريجاً متوسطاً حسب بدارك التلاميذ وفي عام 1399هـ سجل في كلية الشريعة لدرجة الدكتوراه واختار (تحقيق شرح الزركشي على مختصر الخرفي) وهو أشهر شروحه التي تبلغ الثلاثمائة بعد المغني لابن قدامة واقتصر في الرسالة على أول الشرح إلى النكاح دراسة وتحقيق أو نوقشت الرسالة كما تقدم ثم كمل تحقيق الكتاب وطبع في مطابع شركة العبيكان للنشر والتوزيع في سبعة مجلدات كبار وتم توزيعه وبيعه في أغلب المكتبات الداخلية وهو موجود متداول والحمد لله.(66/18)
وقد اعتنى في هذا الشرح بتخريج الأحاديث والآثار الكثيرة التي يوردها الشارح وقام بترقيمها فبلغ عددها كما في آخر المجلد السابع 3936 وإن كان فيه بعض التكرار القليل وقد بذل جهداً في هذا التخريج بمراجعة الأمهات وكتب الأسانيد التي تيسرت له للرجوع إليها وهي أغلب المطبوعات وذكر رقم الحديث إن كان الكتاب مرقى أو الجزء والصفحة وذكر اختلاف لفظ الحديث إن كان مغايراً لما ذكر الشارح وذكر من صحح الحديث من المتقدمين أو ضعفه كالترمذي والحاكم والذهبي وابن حج والهيثمي وإن كان في أحد الصحيحين لم يذكر ما قبل فيه للثقة بهما وحيث أنه بدأ درا ستة في الصغر بكتب الحديث كما تقدم فقد أورث ذلك له شوقاً إلى كتابة الحديث فحرص على اقتناء الكتب القديمة التي يهتم مؤلفوها بالأحاديث النبوية ويوردونها بأسانيدهم المتصلة كما أحب كل ما يتعلق بالحديث من كتب المصطلح وعلل الحديث وكتب الجرح والتعديل ونحوها وذلك أن هذا النوع هو الدليل الثاني للشريعة أي بعد كتاب الله تعالى ولأن علماء الأمة أولوه عناية تامة حتى قال بعضهم إن علم الحديث من العلوم التي طبخت حتى نضجت ولأن هناك من أدخل فيه ما ليس منه برواية أحاديث لا أصل لها من الصحة ولكن قبض الله لها نقادها من العلماء الذين وهبهم الله من المعرفة بالصحيح والضعيف ما تميزوا به على غيرهم وقد عرفنا بذلك جهدهم وجلدهم وصبرهم على المشقة والسفر الطويل والتعب والنفقات الكثيرة مما حملهم عليه الحرص على حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيتها عما ليس منها وقد يسر الله في زماننا هذا طبع هذه الكتب وفهرستها وتقريبها بحيث تخف المؤنة ويسهل تناول الكتاب ومعرفة مواضع البحوث بدون تكلفة والحمد لله، هذا وقد كان ألقى عدة محاضرات في مواضيع متعددة وتم تسجيلها في أشرطة ثم أن بعض التلاميذ أهتم بنسخها وإعدادها للطبع وقد تم طبع رسالتين الأول بعنوان (الإسلام بين الإفراط والتفريط) في 59صفحة والثانية(66/19)
بعنوان (طلب العلم وفضل العلماء) في 51صفحة وكلاهما طبع عام 1313هـ في مطبع سفير والناشر دار الصميعي للنشر والتوزيع وأما التسجيل فإن التلاميذ قد أولوه عناية شديدة وذلك بتتبع الدروس والمحاضرات وتسجيلها في أشرطة ثم الاحتفاظ بها ومن ثم نسخ ما تيسر منها للتداول وللطبع وقد سجل شرح زاد المستقنع وشرح بلوغ المرام وشرح الوقات في الأصول وشرح البيقونية في المصطلح وشرح منار السبيل في الفقه وشرح الترمذي وثلاثة الأصول ومتن التدمرية وغيرها كثير، ويباع كثير من الأشرطة في التسجيلات الإسلامية في الرياض وغيرها.(66/20)
أما الكتابات السريعة فكثيرة فإن هناك العديد من الطلاب يحرصون على تحصيل جواب مسألة أو فتوى في مشكلة ويرفعونها إليه وبعد كتابة الجواب وتوقيعه ينشرونه في المساجد والمكاتب والمدارس فيتداول ويحصل له تقبل وفائدة محسوسته لثقتهم بالكاتب كما إن الكثير من الشباب الذين أعطوا موهبة في العلم إذا كتب أحدهم رسالة أو كتيباً رغب إليه إن يكتب له مقدمة أو تقريظاً فيصرح باسمه عنوان الرسالة ويكون ذلك ادعى لزوجاته والإقبال عليه والاستفادة وهناك من العلماء من يساهم في بث تلك النشرات التي لها مسيس ببعض الأوقات كالمخالفات في الصلاة وأحوال الاقتداء بالإمام والمخالفات في الصيام وفي الحج وأعمال عشر ذي الحجة والمقال في التيمم ومتى يرخص فيه ونحوها فتطبع في مواسمها ويوزع منها ألوف كثيرة رجاء الانتفاع بها وهناك من العلماء من أخذ تلك النشرات وأودعها بعض مؤلفاته كالشيخ عبد الله بن جار الله رحمه الله وغيره ممن كتبوا في تلك المواضيع وضمنوها بعض ما كتبه المترجم للاستفادة، وأما العلماء الأكابر فإن المناقشين لرسالة أخبار الآحاد بعد إقرارها كتبوا عنها تقريراً مفيداً يمكن الحصول عليه من المعهد المذكور حيث كتبوه عام 1390هـ وهكذا الذين ناقشوا كتاب شرح الزركشي وهم الشيخ صالح بن محمد اللحيدان والشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مع المشرف الدكتور عبد الله بن علي الركبان فقد قرروا الكتاب الذي ناقشوه من أول الشرح إلى النكاح وكتبوا عنه صلاحيته للنشر وحرصاً الأكثر على الحصول عليه قبل طبعه وتقبله أكابر العلماء وأقروا العمل الذي قام به تجاهد ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وسائر هيئة كبار العلماء ويمكن مراجعتهم لتقييمها وما لوحظ علهيا وما تميزت به ولم يعرف أحداً ابدى انتقاد المانهجه في هذه الكتب المتعلقة بالحديث والمصطلح.(66/21)
أما المنهج فقد سلك في تحقيق الزركشي الخطة التي رسمت في الخطط والموجود في المقدمة وقد حرص على البحث عن الأحاديث وأنها التي يستدل بها وقابلها على أصولها كما حرص على التعليق على ما يحتاج إلى تعليق من نقل أو مخالفة أو خلاف في مسألة وأما الشروح الأخرى كشرح اللملعة القديم والبيقونية والورقات والتوحيد والبلوغ والمنتقى الخ فإنه يترحها ارتجالاً ويوضح العبارة التي في المتن بالأمثلة ويذكر الخلاف المشهور ويبين المختار عنده حتى لا يقع الطالب في حيرة ويتوسع أحياناً في الشرح بذكر ماله صلة بذلك الحديث أو تلك المسألة وقد تميزت هذه الكتب والشروح بوضوح العبارة وبذكر الأدلة ومناقشتها وبالتعليل إن وجد والحكمة من شرعية هذا الحكم والتوسع في ذكر الأمثلة فلا جرم صار عليها إقبال شديد حيث نسخ كثير من الطلاب بعض تلك الأشرطة بشرح منار السبيل وقد بلغ ما نسخوه عدة مجلدات وحرص الكثير على تصويره واقتنائه حيث وجد وافية مسائل واقعية ومعالج لبعض المشاكل المتمكنة في المجتمع وتحذير من بعض الحيل والمكائد التي يتعلها بعض المؤمنين ونحو ذلك من المميزات الكثيرة.(66/22)
أما استقصاء المعلومات عند الكتابة فهذا يكون في الشرح الارتجالي كشرح أحاديث مسلم والترمذي ومنتقى الأخبار وأما الكتابة فالغالب الاقتصار على القد المطلوب في السؤال دون استقصاء وتوسع في الجواب وكذا الإملاء إذا كان الجواب ارتجالياً كما وقع في الأسئلة التي طبعت بعنوان (حوار رمضاني) الذي طبعته مؤسسة آسام للنشر عام 1312هـ في 28صفحة بقطع صغير وكذا في أسئلة متعلقة برمضان وقيامه والقراءة في القيام ودعاء الختم ونحوه حيث ألقى بعض الشباب 36سؤالاً وقد كتب عليها جواباً متوسطاً ثم قام السائل وهو سعد بن عبد الله السعدان بتحقيقها وتخريج أحاديثها وطبعت بعنوان (الإجابات البهية في المسائل الرمضانية) نشر دار العاصمة مطابع الجمعة الإلكترونية عام 1413هـ 103صفحة وبكل حال من الأحوال تختلف في الدوافع إلى الكتابة وحال المستفيد فأما الصعوبات فإن الرسالة الأولى وهي (أخبار الآحاد) كتبها في زمن قصير وكانت المراجع قليلة أو مفقودة عنده فلا جرم لقي مشقة في البحث عن مواضع المسائل واضطر إلى الاختصار رغم سؤال المشرف وغيره فأما شرح الزركشي فقد لقي أيضاً فيه صعوبة لسعة الكتاب وكثرة نقوله وندرة الكتب التي نقل عنها وعدم بعض المراجع للأحاديث التي يستشهد بها معتمداً على كتب الفقهاء التي لا تعزو الأحاديث إلى مخرجها فيحتاج إلى صعوبة في البحث في كتب الفهارس والتخريج التي تذكر المشاهير من الأدلة دون النادر منها ولكن الله أعان على الكثير وحصل التوقف في البعض الذي لم يعثر على أصوله كأول سنن سعيد بن منصور وكسنن الأثرم ومسند إسحاق ونحو ذلك ولو وجد من ينقلها لكن مع قصور واختصاره وأما علم المصطلح فإن مراجعة كثيرة وكتبه متوفرة والغالب إنها متوافقة فيه وإن يوجد في بعضها زيادة خاصة فلذلك يمكن الاختصار فهيا ويمكن التوسع بذكر الأمثلة ولم يكتب فيها سوى شرح البيقونية وهو الآن يحقق وبعد للطبع وهو مجرد إيضاح للتعاريف المذكورة في النظم،(66/23)
وأما المشكلات التي تواجه من كتب في علم المصطلح فهي كثرة الكتب في الموضوع التي يلزم منها كثرة التعريف ووجود الطرق بينها حتى يحتار الكاتب في اختيار ما يناسب المقام ولكن الأجلاء من المحدثين قد ناقشوا التعريفات الاصطلاحية وذكروا ما يرد عليها والجواب عنه لكن قراءة ذلك كله تستدعى وقتاً طويلاً فالطلاب إذا اقتصر على المختصر التي كتبها أئمة هذا الفن كالنخبة والبيقونية والفية العراقي والسيوطي رأى في ذلك كفاية ومقنعاً. وحيث أن هذا النص قد أكثر فيه العلماء من الكتب فإن أشهر كتبه التي تحتوي على ما ويوضحه ويجلى معانيه هي الكتب الواسعة مثل تدريب الراوي شرح تقريب النووي للسيوطي ومثل توجيه النظر لبعض علماء الجزائر ومثل توضيح الأفكار للأمير العسفاني وإن كان بعضها ينقل من بعض ومن المعاصرين الشيخ صبحي الصالح فقد كتب مؤلفاً في علوم الحديث ومصطلحه وذكر أشياء زائدة على ما كتبه الأولون لوجود كثير من المراجع التي توفرت له والأدلة التي أمكنه أن يستدل بها وبكل حال فالباحث في الموضوع يحس أن يلم بكتب المتقدمين الذين وضعوا هذا الاصطلاح ثم بعدهم.
المصدر: موقع الشيح ابن جبرين
مع تحيات شبكة مشكاة الإسلامية / المكتبة الإسلامية(66/24)
فتاوى في الخسوف والكسوف
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه.
وبعد، فهذه أجوبة على أسئلة رفعها بعض المواطنين عن الكسوف والخسوف وشيء من أحكامهما.(67/1)
السؤال:-
هل وردت حكمة لحدوث الكسوف والخسوف؟ وما الرد على من قال إن معرفتها بالحساب دليل على أنها ظاهرة طبيعية؟
الجواب:-
نقول: لقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة في عدة أحاديث مخرجة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة وذلك (أولاً) أنه خرج فزعاً يجر رداءه يخشى أن تكون الساعة (ثانياً) بين أنه آية من آيات الله (وثالثاً) أنه ذكر أن الله يخوف بهما عباده، ولا شك أن هذا التغير الحادث في هذه الجرم العظيمة هو من أكبر آيات الله الكونية التي يشاهدها العالم في وقتها، وأنه عبرة وموعظة وذكرى للمؤمنين، ولا يقلل من شأنه معرفة أسبابه من اجتماع النيرين في آخر الشهر أو حيلولة الأرض بين الشمس والقمر في وسط الشهر فإن هذا من آيات الله الذي قدر سيرهما بانتظام وقدر اجتماعهما في هذا الوقت وأحدث به هذا الحدث الكبير ونحو ذلك، فالواجب أن المسلمين يخافون العذاب أو الضرر أو حدوث حادث كبير ويتذكرون قول الله تعالى: ((وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً)) (الإسراء:59) . وقوله تعالى: ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)) (فصلت:53) . وإذا رأوا آيات الله في الآفاق عرفوا قدرة من خلقها وسيّرها فعبدوه وحده، وخافوه دون غيره، واستحضروا عظمته وجلاله وكبرياءه فهابوه وأشفقوا من حلول سخطه ونزول عذابه عند معصيته أو التقصير في طاعته، ولم يتقبلوا قول مَن يهون مِن شأن هذه الآيات والمخلوقات ويدعى أنها عادات طبيعية؛ فإن الله -تعالى- هو الذي سخر الشمس والقمر وقدر سيرهما، وقدر اجتماعهما في أول الشهر وتباعدهما في وسط الشهر، وجعل القمر نوراً يكتسب من ضوء الشمس، وقدر هذا الليل والنهار لمصالح العباد وهو العزيز الحكيم.(67/2)
السؤال:-
هل الكسوف والخسوف مؤقتان بوقت من الشهر بحيث يستدل بالكسوف على نهاية الشهر وبالخسوف على انتصاف الشهر؟
الجواب:-
نعتقد أن ربنا -تعالى- على كل شيء قدير ويدخل في عموم القدرة حدوث الكسوف أو الخسوف في أي وقت وزمن لكن جرت سنة الله في هذا الكون أن الكسوف يكون في آخر الشهر، وأن سببه حيلولة القمر دون ضوء الشمس، أو بعضه فتظلم الأرض ويضعف ضوء الشمس؛ ولا شك أن ذلك من آيات الله ومن الدليل على أنه جعل هذه الشمس مضيئة وقدر على أن يغير ضوء الشمس أو يضعفه؛ فيتذكر العباد قدرة الرب وعظمته وكمال تصرفه فيخافونه أشد الخوف ويهرعون إليه، وهكذا جرت العادة في خسوف القمر أنه يكون في وسط الشهر بسبب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس فيظلم القمر وينطمس نوره حيث إنه يكتسبه من الشمس، ومع ذلك فهو دليل على قدرة الرب وكمال تصرفه سبحانه وتعالى.(67/3)
السؤال:-
تعددت الروايات في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الكسوف مع أن الشمس كسفت مرة واحدة في حياته صلى الله عليه وسلم فكيف ذلك؟
الجواب:-
غالب الروايات على أنه صلاها ركعتين؛ في كل ركعة ركوعان وسجدتان، هكذا في صحيح مسلم (صحيح مسلم:3/28) وغيره عن عائشة وأختها أسماء وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن سمرة. وروى مسلم (صحيح مسلم:3/29) وغيره أنه صلاها ركعتين؛ في كل ركعة ثلاثة ركوعات وسجدتان كما في حديث ابن عباس وعائشة وجابر وروى مسلم (صحيح مسلم:3/34) . عن ابن عباس أنه صلاها ركعتين، في كل ركعة أربع ركعات وسجدتان، وروى علي مثل ذلك، وروى أبو داود (سنن أبي داود، ومعه كتاب معالم السنن للخطابي: 1/699) أنه صلاها عشرة ركوعات وأربع سجدات مع أن أسانيدها صحيحة ثابتة معتمدة في كثير من الأبواب والأحكام. وقد ذهب بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى تخطئة الروايات التي فيها الزيادة على ركوعين حيث انفرد بها مسلم عن البخاري، وعلل بأن الكسوف لم يقع إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ومعلوم أنه لم يمت موتتين، ولا كان هناك إبراهيمان، لكن نقول: إن تخطئة هؤلاء الرواة الثقات فتحٌ لباب الطعن في حديثهم، وردٌّ لكثير من الأحاديث التي تخالف المذاهب والآراء بحجة أنها خطأ وأن الراوي قد أخطأ في كذا وكذا مع أن هؤلاء الرواة محتج برواياتهم في الصحيحين، معتمدون في الكثير من الأحاديث التي تفردوا بها، فالأقرب أن يُحمل هذا الاختلاف على تعدد وقوع الكسوف والخسوف؛ فإن المعتاد وقوعهما في كل سنة مرة أو مراراً ومن المستبعد أن لا يقع الكسوف والخسوف في زمن النبوة عشر سنين سوى مرة واحدة، ويحمل ذكر إبراهيم في الروايات الأخرى على أنه سبق فهم أو خطأ من الراوي؛ فتخطئة أحدهم في كلمة أولى من رد عدة أحاديث، وعلى هذا فيجوز للإمام أن يصلي(67/4)
ثلاثة ركوعات أو أكثر في كل ركعة إذا علم أن مدة الكسوف سوف تطول، ويمكنه أن يطيل الصلاة ويكثر الركعات قبل التجلي أو رآه أخف على المأمومين من إطالة القيام وتقليل الركعات، والله أعلم.(67/5)
السؤال:-
ما صفة صلاة الكسوف والخسوف؟ وهل القراءة فيهما بالنسبة للإمام سرية أو جهرية؟
الجواب:-
هي كسائر الصلاة لا تصح إلا بطهارة كاملة، وبشروط الصلاة: من الإسلام، وإزالة النجاسة، وستر العورة، واستقبال القبلة؛ ولا بد فيها من التكبير والاستفتاح وسائر أعمال الصلاة، وفيها قراءة طويلة في القيام فيبدأ بقراءة الفاتحة جهراً ولو كان الكسوف نهاراً، ثم يفتتح سورة طويلة كالبقرة أو نحوها، ثم يركع ويطيل الركوع، ثم يرفع ويعيد القراءة للفاتحة ثم سورة أخرى أقصر من الأولى، ثم يركع ويطيل الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم يرفع ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد إلى آخره، ثم يسجد سجدتين بينهما جلسة يطيلهما، ثم يقوم فيقرأ الفاتحة وسورة أقصر من التي قبلها، ثم يركع دون الركوع الثاني في الركعة الأولى، ثم يرفع ويطيل القيام والقراءة بسورة دون السورة التي قبلها، ثم يركع دون الركوع الثالث، ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين بينهما جلسة يطيلهما دون السجدتين في الركعة الأولى؛ فيكمل أربعة ركوعات وأربع سجدات، وإن أراد تكرار الركوع أكثر من ركوعين فله ذلك كما تقدم.(67/6)
السؤال:-
هل تصليها النساء في المساجد أو في البيوت؟
الجواب:-
ذكرت عائشة وأسماء وغيرهما أن النساء صلين في الكسوف مع النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أسماء: فدخلت على عائشة وهي تصلي فقلت: ما شأن الناس يصلون؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقلت: آية؟ قالت: نعم، فأطال رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام جداً حتى تجلاّني الغَشْي فأخذت قربة من ماء إلى جنبي فجعلت أصب على رأسي أو على وجهي، وفي رواية: فجعلت أنظر إلى المرأة أسن مني وإلى الأخرى هي أسقم مني، وفي لفظ: ثم التفت إلى المرأة الضعيفة فأقول: هذه أضعف مني. رواه مسلم (صحيح مسلم:3/32-33) وغيره، فدل على أن هناك نساء صلين في المسجد، ولكن إذا خشيت الفتنة أو كانت المرأة شابة يخاف أن تفتن الرجال أو متطيبة فلا يجوز لها حضور المسجد بل تصلي في بيتها سيما إذا كان هناك مجموعة من النساء وفيهن من تقرأ وتعرف الأحكام فتصلي بهن جماعة أو تعلمهن يصلين فرادى، والله أعلم.(67/7)
السؤال:-
هل لصلاة الكسوف والخسوف خطبة؟
الجواب:-
وقع في حديث عائشة عند مسلم (صحيح مسلم:3/27) وغيره: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر من آيات الله، وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فكبروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا يا أمة محمد إنْ مِنْ أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ألا هل بلغت" وفي رواية: وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة" وقال أيضاً: "فصلوا حتى يفرج الله عنكم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لحي وهو الذي سيب السوائب" وفي رواية: "إني قد رأيتكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال"، وفي حديث جابر في صحيح مسلم (صحيح مسلم:3/30) وغيره ثم قال: "إنه عرض عليّ كل شيء تولجونه؛ فعرضت علي الجنة حتى لو تناولت منها قطفاً لأخذته" أو قال: "تناولت منها قطفاً فقصرت يدي عنه؛ وعرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار، وإنهم كانوا يقولون إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات الله يريكموهما، فإذا خسفا فصلوا حتى تنجلي" وفي رواية عنه قال: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه؛ لقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من(67/8)
لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار؛ كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به، ورأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً، ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل، فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر في الصحيحين (صحيح مسلم:3/32، وصحيح البخاري:2/46) قالت: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، ما من شيء لم أكن رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، وأنه قد أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور قريباً من فتنة المسيح الدجال؛ فيؤتي أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: هو محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وأطعنا، فيقال له: نَمْ، قد كنا نعلم أنك لتؤمن به فَنَمْ صالحاً؛ وأما المنافق فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت". ونحو ذلك من التعليمات التي ذكرت في هذه الأحاديث وفيها أنه خطب وأنه حمد الله وأثنى عليه وأنه أفادهم بهذه الفوائد نقل هذا بعضها وهذا بعضها، وقد استدل به على أن المصلي بالجماعة يخطبهم بما يفيدهم، وقيل: إنه لا يخطب وإنما يذكرهم ويعلمهم أحكام الكسوف وما حصل فيه، ويذكر بعض ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من هذه التعليمات وإن لم يصعد منبراً وإن لم يقف أمام المصلين كما في خطبة العيدين؛ فيحصل بذلك الإفادة والتعليم والتحذير من المعاصي ونحوها.(67/9)
السؤال:-
هل يسن قراءة سورة معينة فيها (صلاة الكسوف والخسوف) ؟
الجواب:-
لا أذكر في حديث صحيح تعيين سورة ورد ذكرها في هذه الصلاة، ومع كثرة من رواها من الصحابة لم يصرح أحد منهم بأنه قرأ سورة كذا وكذا، وقد ورد في حديث عائشة عند مسلم (صحيح مسلم:3/28) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف بقراءته، وفي حديث ابن عباس في صحيح مسلم وغيره فقام قياماً طويلاً قدر نحو سورة البقرة … إلخ. ولعله صلى الله عليه وسلم قرأ عدة سور في هذه الصلاة فلم يحتج الناقل أن يذكر شيئاً منها واكتفوا بقولهم فقام قياماً طويلاً، وفي الثاني وهو دون القيام الأول دون أن يحتاج إلى ذكر السورة أو السور التي قرأ بها، فعلى هذا إذا قرأ في الأولى سورة البقرة قرأ في القيام سورة آل عمران فإنها دون البقرة، ثم في القيام الثاني سورة الأنعام، وفي الرابع سورة يونس أو نحو ذلك.(67/10)
السؤال:-
إذا أدرك المصلي ركوعاً من ركعة فهل أدرك الركعة؟
الجواب:-
معلوم أن الركوع ركن في كل صلاة، وحيث إن صلاة الكسوف يكرر فيها الركوع فالصحيح أن الركن هو الركوع الأول فما بعده يكون عبادة مضافة مؤكدة للأول، وعلى هذا فمن فاته الركوع الأول من الركعة الأولى قضى ركعة كاملة بركوعيها أو بركوعاتها إن زادت على اثنين، ومن فاته الركوع الأول من الركعة الثانية قضى الصلاة كلها ولا يعتد بما أدركه بعد الركوع الأول ولو كان قياماً وركوعاً وسجوداً حيث فاته الركن الموجود في كل الصلوات، والله أعلم.(67/11)
السؤال:-
إذا زال الكسوف أو الخسوف وهو يصلي فماذا يفعل؟
الجواب:-
لما كان الموجب للصلاة هو الخسوف فإذا زال السبب فلا بأس بإنهاء الصلاة؛ فله أن يخفف الأركان والصلاة وينهي ما بقي منها ثم يسلم ولا يقصر من الأركان؛ فإذا تجلت الشمس وهو في الركوع الأول من الركعة الثانية أتمه خفيفاً وأتم القيام الثاني والركوع الثاني والسجدتين وخفّفهما ومسلم، وهكذا.(67/12)
السؤال:-
إذا انتهت الصلاة ومازال الكسوف أو الخسوف فما الحكم؟
الجواب:-
لا يشرع تكرار الصلاة فيما أعلم، ولم أطلع على رواية فيها أنه أعاد الصلاة بعد ما سلم من الأول؛ وإنما في الروايات أنه أطال القراءة والركوع والأركان وانصرف وقد تجلت الشمس، ولعله صلى الله عليه وسلم عرف بالوحي وقت التجلي فمدّ الصلاة بقدر الكسوف؛ وعلى هذا فإن كان الكسوف قد عم الشمس أو القمر فإنه سوف يطول زمانه فيشرع أن يطيل في الأركان بقدر مدة الكسوف، وإن كان الكسوف يسيراً خفف حتى ينصرف وقت التجلي، وإن كرر الصلاة مرتين فلا بأس لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتموهما فكبروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا" (صحيح مسلم:3/27) وفي رواية: "فصلوا حتى يفرج الله عنكم" (صحيح مسلم:3/28) . وفي لفظ: "فاذكروا الله حتى ينجليا" رواه مسلم (صحيح مسلم:3/29) عن عائشة، وله في حديث: "فصلوا حتى تنجلي" (صحيح مسلم:3/31) . فيدخل في ذلك إطالة الصلاة وتكرارها.(67/13)
السؤال:-
إذا حدث الكسوف في وقت نهي فهل تقام الصلاة؟
الجواب:-
نعم لأن الكسوف من أسباب إقامة الصلاة وفعلها؛ فإذا كسفت الشمس بعد العصر فإنهم يصلون حتى تنجلي أو تغرب عنهم، وإذا خسف القمر بعد الفجر فقيل إنهم يصلون ما لم تطلع الشمس وذلك لأنهم لا يزالون في حكم الليل، وقيل لا صلاة حيث إنه ذهب وقت الانتفاع به، أما إذا خسف بعد طلوع الشمس فلا صلاة مع أن ذلك لا يتصور عادة لما تقدم من أسباب الكسوف والخسوف.(67/14)
السؤال:-
من فاتته صلاة الكسوف أو الخسوف فهل يقضيها بمفرده؟
الجواب:-
لا مانع من أن يصلي ما تيسر له إن كان الكسوف باقياً؛ فيصلي منفرداً بقدر ما يشغل به بقية الوقت قبل التجلي، فإن تجلى الكسوف قبل أن يصلي فات وقته، وإن تجلى وهو في الصلاة خفف ما بقي وانصرف، وإن اقتصر على الذكر والاستغفار والقراءة كفاه ذلك كما لو انصرف المصلون قبل التجلي واشتغلوا بذكر الله ودعائه وتلاوة كتابه، والله أعلم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، كتبه عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين؛ عضو الإفتاء(67/15)
الثمرات الجنية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رفع منزلة أهل العلم، فقال: ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)) (المجادلة:11) . والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الكرام، حُماة السنة المقتدين، ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وبعد، فمما لا شك فيه ولا ريب أن أعظم وأفضل وأجل العلوم بعد القرآن الكريم علم السنة النبوية و "شرف العلوم يتفاوت بشرف مدلولها، وقدرها يعظم بعظم محصولها، ولا خلاف عند ذوي البصائر أن أجلها ما كانت الفائدة فيه أعم، والنفع فيه أتم، والسعادة باقتنائه أدوم، والإنسان بتحصيله ألزم، كعلم الشريعة الذي هو طريق السعداء إلى دار البقاء، ما سلكه أحد إلا اهتدى، ولا استمسك به من خاب، ولا تجنبه من رشد، فما أمنع جناب من احتمى بحماه، وأرغد مآب من ازدان بحُلاه" (جامع الأصول لابن الأثير 1/36) .(68/1)
وإذا علمنا أن علم الحديث من العلوم الشرعية التي أمرنا بتعلمها وتعليمها "وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه، ولذلك يسر الله سبحانه وتعالى أولئك العلماء الأفاضل، والثقات الأماثل، والأعلام المشاهير، الذين حفظوا قوانينه، واحتاطوا فيه، فتناقلوه كابراً عن كابر، وأوصله كما سمعه أول إلى آخر، وحببه الله إليهم لحكمة حفظ دينه، وحراسة شريعته، فمازال هذا العلم من عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه والإسلام غض طري، والدين محكم الأساس قوي، أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعدهم وتابعي التابعين، خلفاً بعد سلف لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله عز وجل، إلا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما يسمع من الحديث عنه، فتوفرت الرغبات فيه، وانقطعت الهمم على تعلمه، حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ذوات العدد، ويقطع الفيافي والمفاوز الخطيرة، ويجوب البلاد شرقاً وغرباً في طلب حديث واحد ليسمعه من روايه…" (جامع الأصول لابن الأثير 1/39-40) .
وقد اعتنى أهل العلم في القديم والحديث بحفظ الأحاديث وروايتها، والعمل بها، وتدوينها في كتب أطلق عليها، سنن، ومسانيد، وصحاح، ومعاجم، وجوامع، ومشيخات، وأجزاء، وأمالي، ونحو ذلك. واهتموا كذلك بالرواة ومروياتهم من حيث القبول والرد، وقعدوا قواعد لنقد الرواة والروايات، وألفوا في علوم الحديث كالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وأسباب ورود الحديث، والتصحيف والتحريف، والمؤتلف والمختلف، والمتفق، والمتفرق إلى غير ذلك من مباحث هذا العلم.
1- ويعتبر الإمام القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خالد الرّامَهُرْمُزي (360هـ) أول من ألف في علوم الحديث في كتابه "المُحدث الفاصل بين الراوي والواعي" ولم يستوعب كل الأنواع.(68/2)
2- ثم تلاه الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع النيسابوري (405هـ) فألف "علوم الحديث" لكنه لم يهذب الأبحاث ولم يرتبها.
3- ثم جاء الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (430هـ) فعمل على كتاب الحاكم مستخرجاً، وترك أشياء لم يذكرها فتداركها من جاء بعده من الأئمة.
4- ثم صنف الحافظ الحجة أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (463هـ) كتاباً في قواعد الرواية سمّاه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع". بل وقل فن من فنون الحديث النبوي إلا وألف فيه كتاباً حتى قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه".
5- وألف القاضي عياض بن موسى اليحصبي (544هـ) كتابه: "الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع" وهو كتاب فريد، مفيد جداً في بابه، واقتصر فيه على كيفية التحمل والآداء وما يتفرع عنها.
6- وألف الإمام أبو حفص عمر بن عبد المجيد الميانجي (580هـ) جزءاً مختصراً بعنوان "ما لا يسع المحدث جهله".
7- ثم جاء الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (643هـ) فألف كتابه المشهور "علوم الحديث" والذي عُرف بـ "مقدمة ابن الصلاح".
وقد اعتنى بكتب من سبقه من الأئمة خصوصاً الخطيب البغدادي، وكان يُملي على طلبته ما جمعه وهذبه، فجاء كتابه حافلاً مفيداً، لكن لم يرتبه ترتيباً مناسباً، ومع ذلك فيعتبر كتابه بحق عمدة لمن جاء بعده من العلماء ولذا اعتنى به الكثير ما بين شارح له أو ناظم أو مختصر أو مستدرك، فمن ذلك:
ألفية الحديث للحافظ العراقي، وقد شرحها بنفسه، وشرحها الحافظ السخاوي بشرح مطول أسماه: "فتح المغيث".
- واختصر المقدمة، الإمام النووي بكتابه: "التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير" وشرح التقريب الإمام السيوطي شرحاً وافياً في كتابه: "تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي".(68/3)
- وممن اختصر المقدمة الحافظ ابن كثير في كتابه "اختصار علوم الحديث" وقد شرحه العلامة أحمد شاكر في كتابه: "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث".
ومن المختصرين أيضاً القاضي بدر الدين ابن جماعة في كتابه "المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي".
وكذلك البلقيني في كتابه: "محاسن الاصطلاح في تضمين كتاب ابن الصلاح"، والعراقي في كتابه "التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح". وأيضاً الإمام ابن الملقن في كتابه المقنع، وكذلك ابن حجر في كتابه: النكت، والطيبي في كتابه الخلاصة في أصول الحديث، وغير ذلك من المؤلفات التي تدل على أهمية كتاب ابن الصلاح.
وتوالت بعد ذلك المؤلفات في علم مصطلح الحديث عموماً إما بالنظم أو النثر، ومن أفضل وأدق كتاب في هذا الباب: كتاب الحافظ ابن حجر: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، وشرحه "نزهة النظر" هذا الكتاب يعتبر من المختصرات المحررة: وإذا كانت مقدمة ابن الصلاح قد اعتنى بها الكثير، فإن النخبة ذاع صيتها وتلقفها طلاب العلم، واهتم بها العلماء أكثر من غيرها وكثرت شروحات الأئمة، وكثر النظم لها (انظر مقدمة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة لكتاب قفو الأثر في صفو علوم الأثر لابن الحنبلي ص24 فقد ذكر جملة من شروحات ونظم العلماء للنزهة) .
وممن نظم في علم المصطلح الشيخ طه بن محمد ابن فتوح البيقوني كان حياً قبل 1080هـ وهو نظم مشهور بديع امتاز بسلاسة الألفاظ وسهولة العبارة، إلا أنها مختصرة جداً اقتصر في نظمه على ذكر بعض مصطلحات الفن، ولو كانت شاملة لكفت الراغب في هذا العلم، وقد انتقد النظم في بعض المواضع، وقام بشرح البيقونية بعض أهل العلم من ذلك:
1- شرح العلامة عبد القادر بن جلال الدين المحلى كان حياً 1065هـ المسمى: "فتح القادر المعين بشرح منظومة البيقوني في علم الحديث" وتوجد نسخة خطية محفوظة في جامعة الملك سعود برقم 342.(68/4)
2- "تلقيح الفكر بشرح منظومة الأثر" تصنيف العلامة أحمد بن محمد الحسيني الحمودي الحنفي 1098هـ وتوجد نسخة خطية في جامعة الإمام محمد بن سعود برقم 598.
3- "شرح الزرقاني على المنظومة البيقونية في المصطلح" تصنيف العلامة محمد الزرقاني المالكي 1122هـ وشرحه مطبوع.
4- "صفوة الملح بشرح منظوم البيقوني في فن المصطلح" تصنيف العلامة شمس الدين محمد بن محمد البديري الدمياطي المشهور -بابن الميت- 1140هـ. وتوجد نسخة خطية في دار الكتب المصرية برقم 23264ب، وأخرى برقم 25882ب، ونسخة ثالثة في المكتبات الوقفية بحلب وعنها مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم 7692ب.
5- "حواشي على المنظومة البيقونية" تصنيف العلامة عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى الأهدل 1250هـ. وتوجد نسخة في جامعة الملك سعود برقم 598 وأخرى برقم 1404م (ص293-300) . وثالثة برقم 1351.
6- "الدرة البهية في شرح المنظومة البيقونية" تصنيف العلامة محمد بدر الدين بن يوسف المدني الدمشقي 1354هـ وتوجد نسخة في الخزانة العامة بالرباط، وعنها مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود برقم 6439ف.
7- "النخبة النبهانية شرح المنظومة البيقونية". تصنيف الشيخ محمد بن خليفة بن حمد النبهاني 1369هـ وهي مطبوعة.
8- "التقريرات السنية شرح المنظومة البيقونية" تصنيف العلامة حسن بن محمد المشاط المكي 1399هـ وقد طُبع مراراً.
9- "شرح البيقونية في مصطلح الحديث". تصنيف العلامة محمد بن صالح بن عثيمين. وهو شرح لطيف مفيد للغاية، وقد طبع.(68/5)
01- وهناك شروح كثيرة على البيقونية غير ما ذكرناه، ولعل من أفضل شروحات هذه المنظومة شرح شيخنا العلامة عبد الله بن عبد الرحمن ابن جبرين حفظه الله تعالى -وهو هذا الشرح- ولقد امتاز شرح شيخنا بسهولته ووضوحه، وكثرة الأمثلة، والتعقبات المفيدة، وعدم التقيد بالمباحث التي اقتصر عليها الناظم، فنجد في هذا الشرح الماتع ذكر بعض أنواع مصطلح الحديث التي لم يرد ذكرها في النظم، على أن شيخنا -دعاه الله- لم يرد التوسع ولو فعل لكان هذا الشرح في مجلد كبير.
وهذا الشرح عبارة عن درس ألقاه الشيخ لبعض الطلاب المبتدئين، وسُجل على أشرطة وقام بنقله أحد الإخوة الفضلاء -جزاه الله خيراً- ومن ثم عُرض على الشيخ وقام بمراجعته وتصحيحه وتعديله، وقد وفقني الله تعالى للعناية بهذا الشرح وخدمته، فلله الحمد والمنة، وقمت بتعليق بعض الفوائد الضرورية المهمة، ووضعت عناوين للرسالة إتماماً للفائدة، ونسأل الله العلي القدير أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً متقبلاً، ونستغفره ونتوب إليه من جميع الذنوب والحمد لله رب العالمين.
وكتب
أبو أكثم سعد بن عبد الله سعد السعدان
13/10/1416هـ
ص ب: 86662
الرياض: 11632
متن المنظومة البيقونية
أَبدَأُ بِالْحَمْدِ مُصَلِّياً عـ ـ ــــَلَى ... ... ... مُحَمَّدٍ خَيرِ نبيٍ أُرْسِلاَ
وذِي مِنْ أَقْسَامِ الحَدِيثِ عِدَّة ... ... ... وكلُّ واحَدٍ أتى وحَدّهْ
أَوَّلُها الصَّحيحُ وهْوَ ما اتَّصلْ ... ... ... إِسْنَادُه وَلَم يُشَذَّ أَوْ يُعَلّ
يرْوِيهِ عَدْلٌ ضَابطٌ عَنْ مِثلهِ ... ... ... مُعْتمَدٌ في ضَبْطِهِ وَنقْلِهِ
والحَسَنُ المعْرُوفُ طُرْقاً وغدتْ ... ... ... رجَالهُ لا كالصّحيح اشتهرتْ(68/6)
وكلُّ ما عَن رُتْبَةِ الحُسْنِ قَصُر ... ... ... فهو الضّعِيفُ وهْوَ أَقْسَاماً كُثرْ
وَمَا أُضِيفَ لِلنَّبيِ المرْفوعُ ... ... ... وَمَا لِتابعٍ هوَ المقطوعُ
وَالمُسْنَدُ المتَّصلُ الإِسنادِ مِن ... ... ... رَاويهِ حَتى المُصْطفى وَلَمْ يَبنْ
وَمَا بِسَمْع كلِّ رَاوٍ يتَّصِل ... ... ... إسنادُه لِلمصطفى فالمتَّصِلْ
مُسَلسلٌ قلْ ما عَلى وَصفٍ أَتى ... ... ... مِثْلُ أَمَا وَاللهِ أَنبانِي الفَتى
كَذَاكَ قَد حَدَّثنيهِ قَائِماً ... ... ... أَوْ بَعْدَ أَنْ حدَّثني تبسَّما
عَزيزُ مَروي اثنين أَوْ ثلاثهْ ... ... ... مشهورُ مَرْوي فوقَ ما ثلاثهْ
مُعنَعنٌ كَعنْ سعيدٍ عن كَرَم ... ... ... وَمُبْهَمٌ مَا فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسم
وكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُه عَلا ... ... ... وَضِدُّهُ ذَاكَ الذِي قدْ نَزَلا
وَمَأ أَضفتَهُ إلى الأَصْحاَبِ مِنْ ... ... ... قَوْلٍ وَفِعلٍ فَهْوَ موقوفٌ زُكِن
وَمُرْسلٌ مِنهْ الصّحَابيُّ سَقَطْ ... ... ... وقلْ غريبٌ ما روَى راوٍ فقط
ْوَكُلُّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَال ... ... ... إِسْنَادُهُ مُنقطِعُ الأَوْصَالِ
وَالمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْهُ اثنَانِ ... ... ... وَما أَتى مُدَلَّساً نوعانِ
الأَوَّلُ الإِسْقَاطُ للشيخِ وأَنْ ... ... ... يَنقُلَ عمَّنْ فوْقَهُ بعَن وأَنْ
والثّانِ لا يُسقطهُ لكن يَصِفْ ... ... ... أوْصَافهُ بِما بِه لا يَنْعَرِف
ومَا يُخالِفُ ثقةٌ فِيهِ الملا ... ... ... فالشْاذُّ والمقلوبُ قِسمانِ تَلا(68/7)
إبدالُ رَاوٍ مّا بِرَاوٍ قِسْمُ ... ... ... وقَلْبُ إِسْنَادٍ لِمتنٍ قِسْمُ
وَالفَرْدُ ما قيّدْتَهُ بِثَقَةٍ ... ... ... أَوْ جمْعٍ أَوْ قْصرٍ على رِوَاية
وَما بِعٍلةٍ غُموضٍ أَوْ خفَا ... ... ... مَعَلَّلٌ عِندَهُمُ قَدْ عُرِفَا
وَذُو اخْتِلافِ سندٍ أَوْ مَتنِ ... ... ... مُضطَرِبٌ عِنْدَ أُهيلِ الفَنِّ
وِالمُدرَجاتُ في الحديثِ ما أَتتْ ... ... ... منْ بعضِ أَلفاظِ الرُّواةِ اتصلتْ
وَما رَوى كلُّ قرينٍ عن أَخِهْ ... ... ... مُدبَّجٌ فاعرِفهُ حَقاً وانتَخِهُ
مُتَّفِقٌ لفْظاً وَخَطَّا مُتفِقْ ... ... ... وضدُّهُ مختِلفٌ فاخْشَ الغلَطْ
والمنكرُ الفرْدٌ به راوٍ غدا ... ... ... تعْدِيلُهُ لا يحمِلُ التُّفرُّدَا
متروكُهُ ما واحدٌ به انفرَدْ ... ... ... وأَجمَعُوا لضِعفهِ فهوَ كَرَدْ
والكذِبُ المُخْتَلقُ المصنُوعٌ ... ... ... عَلَى النبيِ فذلِكَ الموْضوعُ
وقدْ أَتتْ كالجَوْهَرِ المكْونِ ... ... ... سمّيتٌها مَنظُومَةَ البَيْقوني
فوقَ الثلاثينَ بأَربَعٍ أَتت ... ... ... أَبياتُها ثمَّ بخَير خُتِمَتْ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاَّ على الظالمين، وأَشهدُ أَن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصبحه والتابعين.
وبعد:
فهذه منظومة في مصطلح الحديث، اقتصرَ فيها الناظم على مجرد التعريف، واختصر كثيراً من التعاريف، واقتصر على المهم من اصطلاحات المحدِّثين، ولم يتوسَّع في ذكر كل المصطلحات، وإِنَّما ذكرَ البعض دون الكل.(68/8)
وقد كنتُ شرحت المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث قبل نحو عشرين عاماً لبعض الطلاَّب المبتدئين، وتوسعت في شرح الأبيات، وأكثرت من ذكر الأمثلة، حيث إنها اصطلاحات عرفية لا تظهر من السياق ولا من الأَصل اللغوي، ثم إن بعض التلاميذ سجلها وأفرغت وعرضت عليَّ فقمت بتصحيحها وإدخال بعض التعديلات عليها وأذنت بطبعها، حيث لم يشتهر شيء من الشروح المبسطة على هذه المنظومة إلاَّ أَن يكون بعيداً لم أطلع عليه.
فهذا الشرح صدرَ ارتجالاً بناء على المفهوم المعروف من الفن في كتب المصطلح، فللقارئ غُنْمه، وعلى الكاتب غُرْمه، وهو جهد المقل، وقدرة المفلس. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. قاله: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء 5/10/1415.
قال الناظم:
أبدأ بِالْحَمْدِ مُصَلَّياً عَلَى ... ... ... مُحَمَّدٍ خَيرِ نبي أُرْسِلاَ
معنى الحمد:
بَدأ بالحمد اقتداء بالكتاب العزيز، كتاب الله، حيث بُدِئ بالحمد؛ لأَن الله هو المستحقّ للحمد وحده (والحمد) : ذكرُ محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، هذا تعريفٌ لبعض العلماء، وبعضهم قال: (الحمد) فعلٌ يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً على الحامد وغيره، والله تعالى هو المستحق للحمد، ويُحْمَدُ على صفاته، فتَحمدُه لأنه الواحد الأحد؛ ولأنه متصف بصفات الكمال ونحوها، وتحمده على تصرفاته، وتحمده لأنه الذي سخَّر الشمس والقمر، وسخر لنا النجوم مسخرات، وخلق وقدر، وأنه الذي يحيي ويميت ويفعل ما يشاء، وتحمده على عطائه وفضله؛ لأنه الذي أعطى وتفضل، وأغنى الإنسان، وأتم عليه نعمته، وآتاه من كل ما سأل، وخلقه في أحسن تقويم، وما أشبه ذلك، فيحمد على كل حال كما يحمد على ما قدره وما قضاه، حتى يحمده على المصائب والآفات والعاهات التي تصيب الإنسان؛ لأن الله ما أوقعها وأحدثها إلا لمصلحة كالتفكر والاختبار والعبرة.(68/9)
معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
قوله: (مصلياً يعني: حالَ كوني مصلِّياً على النبي، والصلاة من الله ثناؤه علىعبده في الملأ الأعلى، وقيل: الرحمة، والصلاة من الملائكة الاستغفار، والصلاة من الآدميين الدعاء. وأصل الصلاة لغة: الدعاء قال تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) (التوبة:103) ، يعني: دعاءك، والمعنى في قوله: (صلوا عليه وسلموا) (الأحزاب:56) ، يعني: ادعوا الله له على ما بذل لكم من النصح والتوجيه، والإرشاد.
الفرق بين النبي والرسول:
ووصَفَه بقوله: (خير نبيٍ أُرسلا) ليجمع بين كونه نبياً ومرسلاً، فإنه ليس كل نبي رسولاً.
والنبي مشتق من النبأ وهو الخبر؛ لأنه جاء بخبر من الله، أو من النبوة وهي الارتفاع؛ لأن الله رفع قدره، قال تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) (الانشراح:4) . والرسول هو: الذي يحمل الرسالة من قومٍ إلى قوم. والفرق بين النبي والرسول: أن النبي من كلف ولم يؤمر بالتبليغ، والرسول من كلف وأمر بالتبليغ، يعني كٌلف بالتبليغت وألزم به، ودعا قومه ونجا من أطاعه، وهلك من عصاه، هذا هو الرسول.
قوله: (وذي من أقسام الحديث عِدَّه) يعني بأقسام الحديث مصطلحات المحدِّثين، وإلا فالحديث قسمان: صحيح، وضعيف، ولكن البقية مصطلحات (وكلُّ واحدٍ أتى وحده) يعني: كل قسم، أو كل نوع أتى، وأتى بعده حده، يعني تعريفه.
فذكر الصحيح وتعريفه، وذكر الحسن وتعريفه إلى آخره، وبدأ بالصحيح.
أوَّلٌها الصحٍحٌ وَهُوَ ما اتَّصَلَ ... ... ... إِسْنَادُه وَلَم يُشَذَّ أَوْ يُعلّ
الحديث الصحيح:
قوله: (أولها الصحيحُ وهو ما اتّصل ... إسناده) .
الصحيح: مشتق من الصحة، وهي ضد البطلان، والصحيح بمعنى الثابت، صح الشيء يعني: ثبت وتحقق، وصح الحديث، يعني: ثبت نقله واعتمد ووثق به.
تعريفه:(68/10)
والحديث الصحيح هو: ما رواه عدلٌ ضابطٌ مُعتَمدٌ في ضَبْطِه ونَقْلِه، واتّصلَ إسناده دون أن يكون فيه انقطاع، وسلم من العلة والشذوذ.
شروط الحديث الصحيح:
فشروطه:
أولاً: اتصال السند.
ثانياً: عدالة الراوي.
ثالثاً: تمام ضبط الراوي.
رابعاً: السلامة من العلة.
خامساً: السلامة من الشذوذ.
أي لابد للحديث الصحيح من هذه الضوابط.
تعريف السند:
والسند هو: رجال الحديث، أي: سلسلة الرجال الموصلة للمتن، ومعنى اتصال السند: كون هذا يرويه عن هذا وقد لقيه، وهذا يرويه عن هذا وقد لقيه، وهذا يرويه عن هذا وقد لقيه، إلى أن يأتي إلى الصحابي الذي سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
محترزات الحديث الصحيح:
قوله: (ما اتصل إسناده)
يَخرج ماذا؟ يخرج الانقطاع، وسيأتينا أمثلة للانقطاع. والمنقطع:
(منه) ما سقط من أوله واحد أو أكثر، ويسمى معلقاً.
(ومنه) ما سقط من آخر الإسناد، ويسمى مرسلاً.
(ومنه) ما سقط من وسطه اثنان متواليان، ويسمى معضلاً.
(ومنه) ما سقط من وسطه واحد ويسمى منقطعاً، أو سقط من وسطه اثنان غير متواليين، ويسمى أيضاً منقطعاً.(68/11)
يعني: مثلاً الراوي الأول سمعه من شيخ أسقطه، ورواه عن شيخ شيخه، وهو لم يلقه أو لم يسمعه منه فأصبح بينه وبينه فجوة، فيقال هذا الإسناد منقطع، أي: كيف يرويه هذا عن هذا وهو ما لقيه، فلابد أن يرويه واحد عن واحد قد لقيه، والثاني عن ثالث قد لقيه، والثالث عن رابع قد لقيه، إلى أن يتصل بالصحابي. فمثلاً إذا قال الإمام مسلم: حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا إسماعيل بن جعفر، حدّثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. تحققنا أن مسلماً قد روى عن قتيبة، وهو أحد مشايخه الذين أدركهم، وتحققنا أن قتيبة روى عن إسماعيل، وأن إسماعيل أدرك ابن دينار، وأخذ عنه، وأن ابن دينار أدرك ابن عمر وروى عنه، فالإسناد هنا متصل لذلك نقول: قد اتصل الإسناد، وهكذا إذا قال: حدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث قال حدثني أبي شعيب قال حدثني جدي الليث بن سعد (الإمام المشهور، قال: حدثنا بكير بن الأشج، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، تحققنا أن عبد الملك قد روى عن أبيه شعيب، وأن شعيباً أدرك أباه الليث، وأن الليث روى عن بكير، وأن بكيراً روى عن سهيل، إلى آخر ذلك، فنقول: هذا إسناد متصل.
لكن لو رواه عبد الملك بن شعيب عن جده الليث وهو ما أدركه أصبح منقطعا ولو رواه عبد الملك عن بكير بن الأشج وأسقط أباه وجَده فهذا نسميه معضلاً، حيث سقط فيه اثنان متواليان، وهكذا، ومثل هذا يكون ضعيفاً لا يُعمل به حتى يأتي من طريق أخرى متصلاً.
الحديث الشاذ:
ثم قال: (ولم يشذَ أو يعل) .(68/12)
(الشذوذ) مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه أو أكثر منه عدداً، فإنّ هذا يُعدُّ حديثاً شاذاً فلا يقبل، فإذا اتفق الرواة على رواية حديث، ثم رأينا واحداً منهم وكان ثقة قد خالف هذا الجمع الكثير، وأتى بزيادة كلمة انفراد بها، عرفنا أن هذا شاذ، ونقول: إنَّ هذه الزيادة شاذة، فلا تقبل لِعلة احتمال الخطأ، أو لانفراد واحد عن جمع، ومُثّل لذلك بحديث المغيرة في مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين. حيث رواه عن المغيرة نحو عشرين روايا كلهم قالوا: مسح على الخفين:
وأنفرد واحد يُقال له: أبو قيس، عن هُزيل بن شرحبيل عن المغيرة فقال: مسح على الجوربين والنعلين.
فنقول: هذه الرواية راويها عدل وإن كان أبو قيس فيه مقال، كما قال مسلم في التمييز صـ203. وإسنادها متصل، لكنها شاذة، والشذوذ ضعف، فلا يسمى هذا حديثاً صحيحاً، بل يسمى إسناده صحيحاً ولكنه شاذ، قد خالف فيه الثقة من هو أكثر منه وأوثق وأضبط، وأكثر ملازمة وما أشبه ذلك.
الحديث المعلول:(68/13)
وكذلك السلامة من العلة، والمعلول هو: ما فيه علة خفية قادحة، فقد يطلع أحد العلماء على خطأ من أحد الرواة، كأن يقلب الحديث، أو يرويه بالمعنى، أو يرفعه وهو موقوف، أو يصله وهو منقطع أو ما أشبه ذلك فيطلع النقاد من أهل الحديث على أن فيه علة، وأنها قد خفيت على أكثر المحدثين، لكون ظاهر الإسناد الصحة، ولكن بالتتبع وبمقابلته بالأحاديث الأخرى وجد أن فيه علة خفية قادحة، ويسمى هذا بالمعلول، وقد ألف فيه تآليف كثيرة، مثل كتاب (العلل) لابن أبي حاتم في مجلدين بلغت أحاديثه التي فيها علل ألفين وثمانمائة وأربعين حديثاً، رتبها على ترتيب أحاديث الأحكام من الطهارة إلى آخره، مقتصراً على الأحاديث التي فيها علل، ويعتمد غالباً في أخذ العلة على أبيه؛ لأنه كان من فرسان المحدثين، وعلى ابن عم أبيه وهو أبو زرعة الرازي، وكان من أهل العلم بالرجال، ومن أهل العلم بالعلل، وقد أكثر فيه من الأمثلة، وتوسع حتى أدخل أحاديث صحيحة علتها تكون بنسبة يسيرة.
ومثله وأوسع منه (العلل) للدارقطني فإنه قد توسع حتى علل أحاديث موجودة في الصحيحين، أو في أحدهما! وكتابه أوسع من غيره، وقد طُبع منه عشرة أجزاء وفيها 2083 حديثاً.
وبالجملة قلَّ أن يكون الإنسان راوياً للكثير إلا ويقع في شيء من الخطأ، فيعتبره بعض الناس حديثاً صحيحاً. وهو خطأ.
يرْوِيهِ عَدْلُ ضَابطٌ عَنْ مِثلهِ ... ... ... مُعْتمَدٌ في ضَبْطِهِ ونقْلِهِ
تعريف العدالة:
قوله: (يرويه عدل ضابط عن مثله) العدل الضابط المراد به الراوي، ولابد في الراوي من وصفين: العدالة، والضبط.
والعدالة ما هي؟ معلوم أنها تشترط العدالة في الشاهد مثلاً في المحاكم لقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم) (الطلاق:2) . فكذلك العدالة في رواي الحديث، أي: لابد فيه من اعتبار العدالة.(68/14)
وقد تكلم الفقهاء في العدالة في الشهود، وذكروا ما يقدح في عدالة الشاهد، وما يخرجه من سمة العدالة، وقالوا: العدالة هي:
أولاً: فعل الواجبات وترك المحرمات.
ثانياً: المحافظة على الشِّيم والأَخلاق.
ثالثاً: فعل المُروءات. والمروءة هي: أن يفعل كل ما يُجَمِّل ويُزين، ويترك ما يُدنس ويشين، فهذا هو العدل، وتفصيل ذلك طويل، وقد توسعوا فيه في كتب الفقه في كتاب الشهادات، وذكروا أمثلة مما يقدح في عدالة الشاهد، حتى أوصلها بعضهم إلى مائة قادح أو أكثر، حتى قدحوا في شهادة من يأكل في الأسواق، أو يمشي كاشفاً لبعض عورته كفخذيه، أو يمد رجليه في المجالس، أو يضطجع أمام الناس ولا يبالي؛ لأن ذلك يدل على سخافته ودناءته، وعلى نذالة خلقه، وكذلك قدحوا في شهادة من يجاهر بالمعصية ويعلن بها ونحو ذلك، فكذلك يقدح في روايته.
تعريف: الضبط
(أما الضبط) فهو الحفظ، وذكروا أنه قسمان: (ضبط صدر) و (ضبط كتاب) .
* تعريف ضبط الصدر:(68/15)
فضبط الصدر: أن يحفظ ما رواه: أي: إذا سَمِعَهُ حَفِظَه، أو ردده حتى يحفظه، وعلامة الحفظ: أن يأتي به كما سمعه وأن يستحضره كلما أراد الاستشهاد به فيسرده كما هو. وكان في الصحابة حفاظ، منهم: أبو هريرة رضي الله عنه حافظ الصحابة، ومع ذلك كان يكرر الأحاديث، يبيت أول الليل يدرسها ويكررها ويرددها حتى لا ينساها؛ لأنه يُحدث من الذاكرة، ولم يكن يكتب، وهناك من يكتبها كعبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقد كتب صحيفة وسماها الصحيفة الصادقة، وتوارثها ولده بعده، إلى أن وصلت إلى عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك في التابعين حفاظ، منهم من يحفظ الحديث أو القصة، أو القصيدة عندما يسمعها، وقد روي عن الشعبي عامر بن شراحيل التابعي المشهور أنه قال: (ما كتبت سوداء في بيضاء) مع كثرة أحاديثه، وكثرة ما يحفظه من القصص والأخبار، والقصائد والأشعار، ونحو ذلك، ومع ذلك لم يكن يكتب، بل كان يعتمد على الحفظ، وأن بعضهم لم يكن يطلب من المحدث أن يعيد شيئاً بل متى سمع الشيء حفظه لأول مرة ولو لم يتكرر، حتى أن بعضهم كان إذا مر باللهو أو بالكلام الباطل، والقصص الخرافية ونحوها يسد أذنيه، مخافة أن يدخل فيها شيء باطل فيبقى في ذهنه، فهو يحب أن تكون محفوظاته خالية من الأشياء التي لا فائدة فيها، وهذا هو: ضبط الصدر.
* تعريف ضبط الكتاب:
وأما ضبط الكتاب: فكونه إذا سمع الشيء دونه وكتبه، وحفظ كتابه في صندوقه أو في يده، مخافة أن يطلع عليه سفيه فيزيد فيه أو ينقص منه، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا ونحوه قدح في الضبط، بخلاف ما إذا حفظ كتابه فإنه يؤدي منه متى أراد، بدون أن يحصل فيه تغيير أو نقص، ولهذا قال الناظم في ذلك الراوي: (معتمد في ضبطه ونقله) يعني معتمد عليه، ضابط لما يسمعه ولما ينقله، وسبب الاعتماد الحفظ والأهلية.
أقسام الحديث الصحيح:(68/16)
أقسام الحديث الصحيح كثيرة، أرفعها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم بعده ما كان في صحيح البخاري، ثم بعده ما كان في صحيح مسلم دون البخاري، ثم بعده ما كان على شرطهما وإن لم يروياه، ثم بعد ذلك ما كان على شرط البخاري وحده، ثم بعده ما كان على شرط مسلم وحده، ثم ما صح عند البقية من المحدثين وإن لم يكن على شرط أحد منهما.
الحديث الحسن:
قوله: (والحسن المعروف طرقاً) هنا عرَّف الحسن.
يقول في تعريف الحديث الحسن: أنه ما غدت رجاله اشتهرت، لكنه نزل عن درجة الصحيح، وعرَّفه بأنه معروفة طرقه يعني أن أسانيده معروفة، وأن رجاله موثوقون، وأنه متصل، إلا أن رجاله وجملته ليسوا في الشهرة كرجال الصحيح، بل أقل منهم شهرة، فهو يُقبل ويُعمل به، ولكن منزلته دون منزلة الصحيح، لنزول درجة رجاله، فمن المعلوم أن رجال الحديث يتفاوتون في الثقة والحفظ، فمنهم: حفَّاظ نقَّاد، ومنهم: حفَّاظ يقعون في شيء من الوهم.(68/17)
وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه أمثلة من هؤلاء وهؤلاء، فمثل للثقات العدول: بإسماعيل بن أبي خالد، ومنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش ومثلهم كثير كما للابن أمر وابن أبي ذئب وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وأبي إسحاق السبيعي، وأمثالهم، فهؤلاء أئمة وحفاظ وعلماء، يحفظ أحدهم ما سمع غالباً، وقد اشتهروا بالنقل، وصار الناس يرجعون إليهم، وتتلمذ عليهم الخلق الكثير، فمثلاً تلامذة الزهري لا يكادون أن يحصوا كثرة لاشتهاره بالحفظ، ومثل تلامذة الأعمش سليمان بن مِهران أحد الحفاظ المشهورين كثيرون لاشتهاره فيما بينهم بالحفظ، وكذلك الذين اشتهروا بقوة الحفظ، كما ذكرنا أن الشعبي عامر بن شراحيل يقول: (ما كتبت سوداء في بيضاء) ، لقوة حفظه مع كثرة ما روى، فهو من الحفَّاظ المشهورين، فإذا جاءنا في رجال الحديث من هؤلاء الأئمة اعتبرناه من الصحيح! سواء كانوا من أهل العراق كشعبة، والثوري، والسبيعي، ونحوهم، أو من أهل الشام كالأوزاعي، أو من أهل مصر كالليث، أو من أهل مكة كابن عيينة، وعطاء بن أبي رباح، أو من أهل المدينة كالزهري ومالك وابن أبي ذئب ونحوهم، فنقول: هؤلاء رجال الصحيح، فمن نزل عن مرتبتهم وإن كان يشمله اسم الصدق والحفظ وكثرة الرواية، لكن يقع منه خطأ، وينسى أحياناً فهو الذي روايته في مرتبة الحسن. فمثلاً أبو صالح السمان أحد الحفاظ من تلاميذ أبي هريرة، نقله يعتبر في درجة الصحيح، وتلميذه ابنه سهيل كثير الرواية عن أبيه، لكنه يقع في أخطاء، ولأجل هذا احتج به مسلم دون البخاري، فروايته وحده تعتبر في مرتبة الحسن، وكذلك يمثل بسعيد بن أبي عروبة، وعطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم، ويزيد بن أبي زياد، وأشباههم، هؤلاء يروون أحاديث، ولكن ليسوا في الترتيب في منزلة رجال الصحيح، فيعد تفردهم أو كون الحديث من رواية أحدهم هو الحسن، هذا معنى قوله: (وغدت رجاله لا كالصحيح) يعني اشتهرت لا كرجال الحديث الصحيح،(68/18)
بل دون رجال الصحيح في الشهرة.
وقد عرفنا أن رجال الحسن يشملهم العدالة والضبط، إلا أن ضبطهم أقل من ضبط رجال الصحيح، وهذا هو الفرق بين الحديث الحسن والحديث الصحيح.
معنى قولهم: حسن صحيح:
واستشكلوا الجمع بين الحسن والصحيح، كما يفعله الترمذي في قوله: هذا (حديث حسن صحيح) ، فما الجواب؟ فإن كونه صحيحاً يغني عن كونه حسناً؛ لأن الحسن أنزل من درجة الصحيح، فكيف يكون حسناً صحيحاً؟ لماذا لم يكتف بصحيح؟ أو لم يكتفِ بحسن، إن كان أنزل درجة من الصحيح؟ ولم يستعمل هذا غالباً إلا الترمذي، ولكن يظهر أن الترمذي لم يلتزم هذا الاصطلاح، وهو أن الصحيح رجاله هم الموثقون الحفاظ، والحسن رجاله هم الذين دون أولئك في الضبط، إنما أراد بقول: حسن صحيح. الوصف له بما يقتضي الصحة والعدالة والقبول، فيقول: حديث حسن صحيح، يعني أنه حسن من حيث مخرجه، وصحيح من حيث أصله، كأنه يصفه بما يؤكد قبوله، هذا هو المتبادر من فعل الترمذي.
أما إذا قال: حديث حسن. فإنه كما ذكر أن الحسن هو ما عرف مخرجه واشتهرت رجاله، وروي له طريقان أو أكثر.
أقسام الحديث الحسن:
ثم يقسّمون الحسن أيضاً إلى قسمين: حسنٌ لذاته، وحسنٌ لغيره، كما أن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، والحسن لذاته هو: الذي له طريق واحد، ولكن رجاله موثقون، ثم قد يكون الحسن صحيحاً وذلك إذا تعددت طرق روايته، أي: روي عن طريقين أو أكثر، ولكن كل منهما رجاله كرجال الحسن، فيكون هذا الطريق حسناً لذاته، وهذا الطريق الثالث حسناً لذاته، وهذا الطريق حسن لذاته والمدار على الصحابي في الحديث الواحد، فنقول هذا هو الصحيح ولكن لا لذاته بل بالمجموع، ويسمى الصحيح لغيره، يعني أنه صحيح لشواهده ولكثرة طرقه، فإن كثرة الطرق تقويه، وتنقله من قوي إلى أقوى.(68/19)
أما الحسن لغيره فهو: الذي نزل عن درجة الحسن لما كان فرداً، ولكن بمجموع الطرق -وكلها لا تخلو من الضعف- يترقى إلى الحسن لا لذاته بل بالمجموع.
المتابعات والشواهد:
فعندنا مثلاً طريق ضعيف، وطريق آخر فيه ضعف، وطريق ثالث فيه ضعف، تجتمع هذه الطرق وتتقوى، ويكون حسناً لا لذاته بل بالمجموع، يعني أنه تقوّى بهذا وبهذا فأصبح حسناً لغيره؛ ولهذا يسمون الطرق متابعات وشواهد وإن لم يذكرها الناظم فقد ذكرها غيره. والمتابعات تكون في السند والشواهد تكون في المتن.
فإذا كان الراوي يوافق غيره كان دليلاً على ثقته، وإذا كان ينفرد عن غيره كان دليلاً على ضعفه، وتسمى موافقته لغيره متابعة، فتجدهم إذا قرأت ترجمة أحد الرواة يقولون مثلاً في الكلام عليه: فلان ضعيف، لا يُتابع على أحاديثه، أو ينفرد عن الثقات بالمنكرات، أو ينفرد بالغرائب عن الثقات.
أما الذي يتابع فإنه يدل على حفظه، فعندك مثلاً: الزهري له تلاميذ كثيرون، فإذا روى عنه ابن أخيه وهو محمد بن عبد الله حديثاً، ولم يروه غيره قلنا: هذا الحديث غريب، تفرد به ابن أخي الزهري عن عمه، ولو كان عند الزهري ما تركه بقية تلامذته، فدل على ضعف هذا الحديث حيث تفرد به ابن أخي الزهري، فإن وجدناه قد رواه يونس بن يزيد الأيلي أحد تلامذة الزهري، أو عقيل بن خالد أحد تلاميذه، أو شعيب بن أبي حمزة أحد تلامذة الزهري أو سفيان ابن عيينة، أو الثوري، أو معمر بن راشد، أو من أشبههم عرفنا أنه قد توبع، فقلنا: ابن أخي الزهري يتابع، تابعه فلان على حديثه، وتابعه معمر وهكذا.
والحاصل أن الحسن لغيره هو: الضعيف الذي تتعدد طرقه.
والصحيح لغيره هو: الحسن الذي تتعد طرقه.
الضعيف الذي لا ينجبر:(68/20)
ثم إن هناك ضعفاً لا ينجبر، وهو أن يكون الرواةمتهمين بالكذب، مشهورين به، وقد تتعجب من توافق كثير من الروايات التي فيها ضعف، لكن لا غرابة، فإنهم قد يتفقون على الكذب فيجتمع مثلاً في مجلس واحد ثلاثة يختلقون حديثاً، ويقولون: نرويه عن فلان الثقة المعروف، فيتفرقون وكل منهم يحدِّث به، فيقول مثلاً: حدَّثني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، فمثلاً عبد القدوس بن حبيب في الشام يقول: حدّثني شعيب، ثم يأتي أحد الكذابين في العراق كعمرو بن جميع ويقول: حدثني شعيب، ويأتي آخر في خراسان ويقول: حدثني شعيب، فإذا رأينا أن هذا الحديث قد توافقوا وتتابعوا على روايته عن شعيب تعجبنا حتى ليجزم بعضهم أن شعيباً حدَّث به، وإلا فكيف اتفق عليه راوي العراق، وراوي خراسان، وراوي الشام؟
والجواب: أنه لا عجب، فقد يجمعهم مجلس، ويتفقون فيه على اختلاق حديث، ويتفرقون ويروونه، وقد يسرقه بعضهم، كما تجد في تراجم بعض الرواة ذكر السرقة، يقال: فلان يسرق الأحاديث. أي أنه إذا سمع حديثاً ضعيفاً مروياً من طريق سرقه، وكتبه، ثم حدّث به من طريق ثانِ، فاختلق له طريقاً آخر، فيتعجب الذي يرى هذا مخرجاً من طريق، ثم يراه مخرجاً من طريق آخر، ويقول: كيف توافقت الرواة؟ يعني هذا: طريق كلهم مصريون، وله إسناد من طريق كلهم عراقيون، فنقول: لا غرابة في ذلك، فقد يكون الذي اختلقه لأول مرة هو المصري، ثم لما سمع به العراقي ركب له إسناداً، ليدعي أنه قوي.(68/21)
وقد يكتب بعضهم إلى بعض ممن يَروون الكذب، أو يرون جواز الكذب أو نحو ذلك، فإذاً قد يقع في روايات الضعفاء توافق، فلا تكون متابعة الضعيف شديد الضعف رافعة لضعف الحديث، ولا مسببة لنقله إلى مرتبة الحسن لغيره، وإنما الذي يرتقي إلى مرتبة الحسن إذا كان الضعف فيه ينجبر وذلك إذا كان الراوي غير متهم بالكذب. أما الضعف الذي لا ينجبر فلا يعني ما هو ضعيف بسبب رواة متهمين بالكذب، وقد عرف أن الراوي يطعن فيه فيُقال: كذَّاب. أو يُقال: متهم بالكذب، أو ما أشبه ذلك.
فإذا كان الراوي غير متهم بالكذب، فضعفه ينجبر إذا روي عن طريق أُخرى، وأحاديث الكذَّابين تُتَجنَّب.
وقد كُتبت في ذلك مؤلفات كثيرة ككتب الموضوعات، والقصد من كتابتها التحذير منها لكي يعرفها الناس ويحذروها ويتجنبوا روايتها، أو يتجنبوا تصديقها والعمل بها، فمنها: (كتاب الموضوعات) في أربعة مجلدات لابن الجوزي، يرويها بالأسانيد، ويقتصر على الأحاديث الموضوعة، وإن كان قد تساهل وأدخل في ذلك أشياء من الأحاديث التي فيها ضعف لا يصل إلى الوضع ومنها: (تنزيه الشريعة المرفوعة) لابن عراق في مجلدين، وهو من أوفى ما كتب في الموضوعات، وإذا كان رواة المتابعات كلها من المبتدعة، فإن الضعيف لا يترقى إلى الحسن؛ لأن كثيراً من المبتدعة يتساهلون في رواية الموضوع سيما إن كانت الأحاديث تؤيد بدعتهم، أو يرون وضع الأحاديث حسبة، تقوية لمذاهبهم ومعتقداتهم، وأكثر من يفعل ذلك الرافضة الذين امتلأت مؤلفاتهم بالأكاذيب التي يؤيدون بها مذهبهم.
وكُلُّ ما عَن رُتْبَةِ الحُسْنِ قَصُر ... ... ... فهو الضّعِيفُ وهْوَ أَقْسَاماً كُثرْ
الحديث الضعيف:
قوله: (وكل ما عن رتبة الحسن قصر ... فهو الضعيف وهو أقساماً كَثُر) :(68/22)
معروفٌ أن الحديث صحيح، وحسن، وضعيف، ومنهم من يقول: صحيح وضعيف، ولكن الصحيح ينقسم إلى قسمين، صحيح قوي، وصحيح دونه في القوة وهو الحسن، فكل ما نزل عن مرتبة الحسن فهو الضعيف، وأقسامه كثيرة.
فمنه: ما يسمى بالمنكر، والمنقطع، والمقلوب، والموضوع، ومنه يُطلق عليه اسم: الضعيف، ومنه ما يكون ضعفه بسبب في إسناده، كالمعضل، والمعلق، والمرسل والمدلس والمعنعن وما أشبه ذلك، كمما سيأتينا أمثلة لذلك.
وَمَا أُضِيفَ لِلنَّبيِ المرْفوعُ ... ... ... وَمَا لِتابعٍ هوَ المقطوعُ
الحديث المرفوع:
قوله: (وما أضيف للنبي المرفوع ... وما لتابع هو المقطوع)
الحديث المرفوع هو: ما ينتهي إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله أو تقريره، وينقسم إلى مرفوع صريحاً، ومرفوع حكماً.
فالمرفوع الصريح هو أن يُقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فَعَلَ النبي صلى الله عليه وسلم كذا، أو فُعِلَ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فهذا مرفوع صريحاً.
أما المرفوع حكماً فهو كلام الصحابي الذي يتورع عن الجرأة في الدِّين، ولم يأخذ عن الإسرائيليات ونحوها، وتكلّم بما لا مجال للرأي فيه، فإن له حكم الرفع، حيث إنه لا يُقال مثل هذا بالرأي وعلى هذا تحمل كثير من أحاديث الصحابة الموقوفة فإن يوجد أحاديث موقوفة على الصحابة كعمر وعثمان وعلي، وابن عمر، وأنس وجابر ونحوهم، فهذه الآثار أقوال يقولونها وأفعال يفعلونها لها أحكام ولا يمكن أن يفعلوها من تلقاء أنفسهم، بل لابد أن يكونوا تلقوها عن نبيهم صلى الله عليه وسلم سواء كانت في العبادات أو في المعاملات، وسواء كانت أفعالاً أو تروكاً، فإن لها حكم الرفع.
الحديث الموقوف:(68/23)
وقد ألحق بذلك بعضُ العلماء ما كان عن التابعين، ولكن الصحيح أن التابعي ما وقف عليه، فهو أقل رتبة مما وقف على الصحابي، فالصحابي إذا انتهى إليه الإسناد فإنه يسمى موقوفاً، ولكن إن كان لا مجال للرأي فيه فهو مرفوع حكماً، وإن كان للرأي مجال فيه فهو موقوف أصلاً وفرعاً، أما إن انتهى إلى التابعي (وهو الذي رأى الصحابة) كسعيد بن المسيب، وقتادة، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، والزهري وأشباههم، فإن ما وقف عليه يسمى مقطوعاً.
الحديث المقطوع:
(وما لنابع هو المقطوع) يعني: ما وقف على التابعي وجعل من كلامه فإنه مقطوع، وقد دونت فتاواهم وأقوالهم، وما تركت تضيع، حتى ولو كانوا من التابعين؛ لأنهم تلامذة الصحابة، فاعتنى كثير من العلماء بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المرفوعة ودوّنوها، كأهل السنن وأهل الصحيحين ونحوهم.
وبعض العلماء الذين ألفوا في كتب الأحكام لم يقتصروا على المرفوع، بل ألحقوا به أقوال الصحابة وأقوال التابعين وأفعالهم واجتهاداتهم، ولو كان فيها شيء من الاختلاف، فإنها تدل على أن هذه المسألة فيها مجال للاجتهاد، وقد نجد اختلافاً عن بعض الصحابة فقد اختلفوا في المستحاضة كم تجلس؟ واختلفوا في من أتى حائضاً هل يكفر أم لا؟ واختلفوا في إزالة النجاسة بكم تزول؟ لكن هذا الاختلاف يدل على أن هذه الأمور فيها سعة، وأن فيها مجالاً للاجتهاد، وأنه ليس كل ما قالوه متحققاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(68/24)
فالحاصل أن ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمى مرفوعاً، وما أضيف إلى الصحابي يسمى موقوفاً، وما أضيف إلى التابعي من كلامه أو فعله يسمى مقطوعاً، فإن المسألة إما أن يوجد فيها نص مرفوع، فحينئذ يستدل به وتطرح أقوال غير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه طريقة الإمام أحمد، فإنه إذا وجد في الباب حديثاً لم يلتفت إلى غيره، وإذا لم يجد حديثاً ووجد فيها أثراً عن الصحابة تمسك به إذا لم يختلفوا، فإذا اختلف الصحابة اختار القول الذي فيه أحد الشيخين أبي بكر وعمر أو أحد الخلفاء، فإذا لم يجد عن الصحابة في المسألة شيئاً فإنه يذهب إلى أقوال التابعين؛ لأنهم تلامذة الصحابة، فإذا لم يجد فيها شيئاً اجتهد بنظره وأفتى بما يوجبه اجتهاده.
وَالمُسْنَدُ المتَّصلُ الإِسنادِ مِن ... ... ... رَاويهِ حَى المُصْطفى وَلَمْ يَبنْ
الحديث المسند:
وقوله: (والمسند المتصل الإسناد من ... راويه حتى المصطفى) :
اقتصر الناظم هنا على تعريف المصطلحات تعريفاً موجزاً، دون أن يذكر أكثر من تعريف، ودون أن يذكر شيئاً من الخلاف، أو كثرة الأقوال، وقد تقدم تعريف الحديث الصحيح، والحسن، والضعيف، والموقوف، والمرفوع، وذكر الناظم في هذا البيت تعريف المسند.
فالمسند مشتق من الإسناد والإسناد هو سلسلة الرجال أي رجال الحديث، وسمي إسناداً لأن بعضهم يسنده عن الآخر وهذا يسنده عن الآخر، كأنه يبرأ من عهدته، إذا حدثك بهذا الحديث فإنه لا يتهم به، حيث إنه نقله عن شيخه فلان، فأسنده إليه وسلم من العهدة، وشيخه فلان أيضاً سلم من العهدة حيث أسنده إلى شيخ له، وهكذا كل واحد منهم يسنده إلى شيخه، إلى أن يصل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو المسند أي ما رُوي بالإسناد، بحيث أن كل راوٍ منهم ينقله عن الآخر، ورجال الحديث يسمون إسناداً.
الإسناد المتصل:(68/25)
ويُقال: هذا إسناد صحيح، يعني رجاله موثقون، وقد عرفت أن الإسناد معناه إضافة الشيء إلى إنسان، تقول: فلان أسند هذا القول إلى فلان، يعني أضافه إليه، كأنه كان ملتصقاً به، ثم بعد ذلك اعتمد على غيره، واستند على سواه، فالإسناد هو رجال الحديث، بقطع النظر عن كونه فيه فجوات، أو ليس فيه فجوة، فإنه قد يسقط بعض رجاله وهو ما يسمى معلقاً أو معضلاً، أو منقطعاً أو مرسلاً، أو مدلساً، وذلك من العيوب التي يطعن بها في الحديث، فأما إذا اتصل رجال الإسناد فهو المتصل، إذا كان كل منهم قد روى هذا الحديث عن شيخ له قد سمعه منه، تقول: هذا إسناد متصل، وضده المنقطع، فالمتصل هو المتواصل، فأنت مثلاً إذا خططت خطوطاً في الأرض وتركت بينها فرجاً قيل: هذا خط متقطع، فإذا وصلت بينها أي: وصلت هذا وهذا، قيل: هذا خط متصل. ومثله خطوط الطرق للسيارات فالمتصل الذي يستمر من هذه البلدة إلى هذه البلدة، أي متواصل ليس فيه فجوات، أما إذا كان فيه فجوة ولو قدر ذراع، أو قدر عشرين باعاً أو مائة قيل: هذا خط منقطع، أو خط متقطع أي: فيه قطع، فالإسناد كذلك، كون كل من الرواة سمع من الآخر واتصل السماع واتصلت الرواية.(68/26)
ومثال ذلك: إن قال مسلم مثلاً: حدَّثنا محمد بن رافع (شيخ له قد لقيه وأخذ عنه كثيراً) ، وابن رافع قال حدثنا عبد الرزاق شيخ له قد لقيه وأخذ عنه كثيرا وعبد الرزاق قال: حّدثنا معمر (أحد مشايخ عبد الرزاق) ، ومعمر قال: حدَّثنا الزهري. وهو قد لقي الزهري وأخذ عنه، والزهري قال: حدثني سالم بن عبد الله، وهو من أشهر مشايخه، وسالم قال: حدثني عبد الله بن عمر، وهو أبوه الذي هو من أشهر تلاميذه من أولاده، نقول: هذا إسناد متصل، حيث إننا تحققنا أن كلاّ منهم قد لقي الآخر وقد حدث عنه، وهكذا سائر الأسانيد المتصلة، فإنها سميت متصلة لتلاقي كل من التلميذ وأستاذه، وكونه قد لقيه ويعرف أنه قد لقيه إما بإخباره، كأن يقول: لقيت فلاناً وأخذت عنه وإما بالإمكان بكونهما في بلد واحد، وقد عاش معه سنين، وهو يجمع الأحاديث، ويحرص على جمعها، لاسيّما كبار السن، فإنه والحالة هذه يكون إذا روى عنه يحمل على السماع، كذلك بالتحديث إذا كان مأموناً موثوقاً، وقال: حدثني فلان، عرفنا من ذلك أنه حدثه وسمعه منه، كذلك بالتصريح بالسماع، إذا قال: سمعته من فلان، فإنه يحمل على الاتصال فيكون إسناده متصلاً وهكذا يقال في بقية الأسانيد، فالإسناد المتصل هو المتواصل الذي ليس فيه اختلال، وضده المنقطع، والمنقطع هو الذي في إسناده سقوط واحد من الوسط، أو اثنين غير متواليين من الوسط، فإن سقط من وسطه اثنان أو أكثر على التوالي فإنه يسمى معضلاً.
الحديث المعلق:
فإن كان السقط من أوله وكان واحداً أو أكثر فيسمى معلقاً.
كأن صاحب الكتاب علقه وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر على الوصول إليه.(68/27)
فإن كان السقط من آخره بعد التابعي فإنَّه يسمى مرسلاً، فإن كان السقط خفيّاً، وظاهر الإسناد أنه متواصل لكن فيه سقط خفي فإنه يسمى مدلساً، والمُدَلِّس هو الذي يروي عن شيخه ما لم يسمعه منه بصيغة تحتمل اللقي، فيقول مثلاً: عن فلان. وكان قد لقيه لكنه ما سمع منه هذا الحديث كقوله عن الزهري. أو قال الزهري لما لم يسمعه منه، فإذا قال: حدثني الزهري، دل على أنه سمعه منه، أو قال: سمعته من الزهري، فالمدلس يتوقف في قبوله مخافة أن يكون قد دلسه عن ضعيف فأسقطه.
قوله: (ولم يبن) يعني ينقطع، أي لم يكن فيه بون، والبون الانقطاع، يقال مثلاً بان عنه، يعني انفصل عنه وانقطع، وتقول: أبن هذا عني، يعني أزله، وفي الحديث لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشراب وأن الإنسان لا يروى بنفس واحد قال: (أبن القدح عن فيك) ويعني: أفصله وأخره (لم يبن يعني لم يفصل، ولم ينقطع، ولم يكن فيه بون، والبون والبين هو الانقطاع، كما في قول بعضهم: وأتى دونك البون، وبون بعيد، وبينهم بون شاسع، فالبون هو البعد، فالمسند هو الذي إسناده موجود، بقطع النظر عن الإسناد هل هو متصل أو منقطع، فصورة الإسناد ظاهرة، وقد يكون مُدلساً، وقد يكون مرسلاً خفياً، وقد يكون مرسلاً جلياً، وقد يكون معضلاً، وإنما فيه صورة الإسناد ظاهرة، وضده ما لم يسند، فمثلاً كتاب (رياض الصالحين) للنووي أحاديثه ليست مسندة بل مذكورة بدون أسانيد، وصحيح مسلم أحاديثه مسندة من مسلم إلى الصحابي إلى الرسول.
وعلى هذا فالمسند هو الذي فيه الإسناد، وقد يكون في تلك الأسانيد ما هو منفصل منقطع، أو مرسل أو معضل، ولكن مع ذلك تُسمى مسانيد، وأحاديث مسندة، فالمسند هو الذي يوجد فيه الإسناد.
والمتصل هو الذي اتصل إسناده بالسماع أو بالتحديث، بحيث لم يظهر فيه ما يوهم أنه غير متصل، فمن سمعه عرف أنه متصل.(68/28)
مُسَلسلٌ قلْ ما عَلى وَصفٍ أَتى ... ... ... مِثْلُ أَمَا وَاللهِ أَنبانِي الفتى
كَذَاكَ قَد حَدَّثنيهِ قَائِماً ... ... ... أَوْ بَعْدَ أَنْ حدَّثني تبسَّما
الحديث المسلسل:
وأما (المسلسل) فهو ما على وصف أتى، يعني: ما أتى على صفة معينة من أول السند إلى آخره.
وقد يكون مسلسلاً بالقول، أو مسلسلاً بالفعل، فالمسلسل بالقول كالمسلسل بالتحديث، أي أن كل واحد منهم يقول: حدَّثني حدّثني، والمسلسل أيضاً بالقول كالمسلسل بالسماع، كأن يقول: سمعت فلاناً قال: سمعت فلاناً، قال: سمعت فلاناً. إلى أن يقول الصحابي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مسلسلاً بقول خارج، ومِثلُ ذلك حديث معاذ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحبك) فإنه تسلسل، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: (إني أحبك) ومعاذ قال لتلميذه: إني أحبك وتلميذه قال للثاني: إني أحبك. وقد قال لي فلان: إني أحبك وقال لي فلان: إني أحبك، إلى أن قال: قال لي معاذ: إني أحبك. قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحبك) فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، فهذا مسلسل بهذه المقالة إلى أن وصل إلى الصحابي يعني من أول الإسناد إلى الصحابي، كل واحد منهم يقول لتلميذه: إني أحبك.
وهناك حديث مسلسل بالأولية، وهو أن يقول الراوي: حدثني فلان، وهو أول حديث سمعته منه. قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، إلى أن يصل إلى الصحابي، فهذا مسلسل بالأولية.(68/29)
وقد يكون مسلسلاً بالفعل، كأن يقول: حدثني فلان وهو قائم، قال: حدثني فلان وهو قائم، إلى أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مسلسلاً بفعل أجنبي، كأن يقول: حدثني فلان متبسماً، أو حدثني فلان وهو يضحك، قال: حدثني فلان وهو يضحك، قال: حدثني فلان وهو يضحك. أو وهو يبتسم، إلى أن يصل إلى الصحابي، فيكون هذا مسلسلاً بالفعل. فالحاصل أن المسلسل ما اتفق رواته على صيغة أو على كلمة تتصل بالرجال، أو تتصل بكيفية الأداء، فتسلسل كأنه انجر من هذا إلى هذا، والتسلسل أصله التجاذب، تسلسل القوم يعني تجاذبوا، يعني صاروا كذا وكذا، وكذلك تسلسل أي: ترقى من كذا إلى كذا، وتسلسل هذا العمل يعني نزل من هذا إلى هذا، فأخذوا منه هذه الكلمة، وذكروا في الأحاديث المسلسلة أنها غالباً تكون ضعيفة أو يختل فيها التسلسل كثيراً، فيحتاجون أن يأتوا به بصورته فينقطع في بعض الأحيان فيقع فيها تساهل، أو يقع فيها شيء من الرواية بالظن أو ما أشبه ذلك.
عزيزُ مَروي أثنينِ أَوْ ثلاثةْ ... ... ... مشهورُ مَرْوي فوق ما ثلاثةْ
وهنا تأتي تعريف العزيز والمشهور، وبعده المعنعن والمبهم، والعالي والنازل.
الحديث العزيز، والمشهور، والمستفيض:(68/30)
فأما (العزيز) فهو ما رواه اثنان، وقيل: ما رواه ثلاثة، والأشهر أنه ما رواه اثنان فقط، يعني رواه عن الصحابي اثنان، ورواه عن الاثنين اثنان وهكذا، رواه اثنان إلى أن وصل إلى المؤلف، وسمي عزيزاً من العزة وهي القلة، يُقال: هذا (عزيز) في هذا الزمان، يعني قليل، كما يقولون: هذا أعز من الكبريت الأحمر. يعني أقل من العزة، وهي القلة؛ لقلة رجاله، وقيل: مشتق من القوة، فإن أحد الراويين تقوى بالآخر، فقد كان غريباً كما سيأتي، ولكن بعد أن رواه راوٍ آخر ووجد له إسناد آخر تقوى أي أصبح قوياً، فقيل: عزيز بمعنى قوي، فالتعليل الأول يناسب كونه مروي اثنين، وإذا قيل: إنه مروي ثلاثة -كأن يكون له ثلاثة أسانيد- فإنه مشتق من القوة لا من القلة؛ لأن الثلاثة فأكثر ليست قليلة، بل هي أدنى الكثرة، هذا هو العزيز.
وذهب الحاكم إلى أنه شرط للصحيح، وقال: لا يكون الصحيح إلا ما رواه اثنان أو أكثر، وعلى كلام الحاكم لا يكون الغريب صحيحاً، وقد خالفه في ذلك كثير من العلماء، وصححوا أحاديث غريبة ليس لها إلا إسناد واحد، كحديث: (إنما الأعمال بالنيات) فليس له إلا إسناد واحد بالنسبة إلى التابعين، ومع ذلك فهو صحيح، وكذا الترمذي فهو في كتابه الجامع يصحح الأحاديث الغريبة، فيحكم بغرابته ومع ذلك يصححه فيقول: هذا حديث صحيح غريب، والغريب ما ليس له إلا إسناد واحد.
فالحاكم يقول: لا يكون صحيحاً إلا إذا كان له إسنادان، وهو العزيز، والراجح إن شاء الله أنه قد يحكم بصحة الحديث الغريب إذا كان إسناده ثقات، ورواته مشهورين، ولو لم يكن له إلا إسناد واحد.(68/31)
فالعزيز ما رواه (إما اثنان) ، على قول الحاكم وهو المشهور، أي ليس له إلا إسنادان، (وإما ثلاثة) على قولٍ أشار إليه الناظم البيقوني (عزيز مروي اثنين أو ثلاثة) وهو يدل على أن هناك خلافاً، وأن بعض العلماء قالوا: العزيز ما رواه ثلاثة والمعنى أنه رواه عن الصحابي ثلاثة، ثم استمر يرويه ثلاثة ثلاثة، إلى أن وصل إلى أهل التأليف، فأصبح له ثلاثة أسانيد، كما لو رواه مثلاً عن أنس ثلاثة من تلاميذه كقتادة وأيوب السختياني وثابت البناني ثم يرويه عن كل واحدٍ واحدٌ، فيرويه عن قتادة شعبة، ويرويه عن ثابت سعيد بن أبي عروبة، ويرويه عن أيوب عوف الأعرابي، ثم يرويه عن هؤلاء الثلاثة ثلاثة، كل واحد يرويه عنه واحد، إلى أن يصل إلى زمن البخاري أو الترمذي، فيرويه الترمذي أو غيره بهذه الأسانيد الثلاثة، فيسمى هذا الحديث عزيزاً على قولٍ، ومشهوراً على قولٍ آخر، يعني أن العزيز فيه قولان (الأول) : أنه مروي اثنين. والقول (الثاني) أنه مروي ثلاثة. (والمشهور) فيه قولان: (الأول) أنه مروي ثلاثة أو أكثر (الثاني) أنه مروي أربعة أو أكثر، وهو الذي اختاره البيقوني، ولهذا قال: (مشهور مروي فوق ما ثلاثة) يعني فوق الثلاثة، وأدنى شيء فوق الثلاثة هو الأربعة، فإذا كان له أربعة أسانيد فإنه عنده المشهور، ولعل الراجح قول الجمهور أن العزيز يطلق على ما رواه اثنان، وأن المشهور يطلق على ما رواه أكثر من اثنين، يعني ثلاثة أو أكثر ما لم يبلغ حد التواتر، يعني ولو رواه عشرة، ولكنه لم يبلغ حد التواتر، فيسمى مشهوراً، وقد يسمى مستفيضاً، يعني أن له اسمين، المشهور والمستفيض، واشتقاقه من الشهرة لانتشاره بين الناس وتناقله، وكذلك المستفيض من الفيضان، وهو التفجر، وكأنه فاض في الناس، وتناقلوه أفراداً وجماعات، فلأجل هذا أطلق عليه: مستفيض.
أقسام الحديث المشهور:
قوله: (مشهور مروي فوق ما ثلاثة)(68/32)
ويقسمون المشهور أيضاً إلى قسمين عند الخاصة، ومشهور عند العامة، والمراد بالخاصة علماء الحديث، فقد يكون الحديث مشهوراً عندهم، وإن لم يكن منتشراً وكثيراً تناوله وتناقله بالنسبة إلى العامة؛ لأن العامة إنما يتناقلون ما يسهل حفظه، أو ما يتكرر، أو ما تكثر الحاجة إليه، أما الأحاديث الخاصة فإنها تكون متناقلة بين العلماء والمحدثين وليست متناقلة بين عموم الناس، فتجد الحديث مثلاً يسمى مشهوراً ومستفيضاً حيث إن له عدة طرق، أكثر من اثنين أو ثلاثة، ومشهوراً لأنه رواه أهل السنن، ورواه أهل الصحاح: البخاري ومسلم، وابن خزيمة وابن حبان، والحاكم وابن الجارود، وابن السكن، وابن القطان، ومن أشبههم من الذين ألفوا في الصحيح، ورواه أهل السنن الأخرى كالدارمي والبيهقي والدارقطني وأشباههم، ورواه أهل المسانيد، ورواه أهل المصنفات، ورواه أهل التفاسير، ومع ذلك وقد يكون منتشر الذكر بين العامة، وقد يكون الأمر بالعكس أي أن الحديث قد يشتهر على ألسن العامة، ومع ذلك ليس بمشتهر عند الخاصة الذين هم العلماء والمحدثون، فالعامة قد يسمعون أثراً ونحوه فيتناقلونه على أنه حديث، ويشتهر بينهم وينتشر، وإذا نقب عنه لم يكن حديثاً، بل هو إما حديث ضعيف مع شهرته بين العامة وكثرة تناقلهم له، وإما أثر موقوف على بعض الصحابة أو من دونهم.
فالحاصل أن المشهور هو الذي يرويه ثلاثة عند أكثر العلماء أو يرويه أكثر من ثلاثة عند البيقوني والبعض غيره، وأنه يسمى مشتهراً مستفيضاً، وأنه قسم إلى مشهور عند الخاصة، ومشهور عند العامة، ورواته هي الأسانيد والطرق، والحكم عليه يرجع إلى الرجال.(68/33)
ونحن إنما نقول: مروي ثلاثة ومروي اثنين بالنسبة إلى الأسانيد ظاهراً، ولا يحكم بصحته ولا بضعفه إلا بعد النظر في رجاله، فإذا نظرنا في رجال الحديث، نظرنا في ثقتهم وعدالتهم وأهليتهم، أو أن فيهم نوع ضعف، ولكن ذلك الضعف ينجبر بمتابعة هذا لهذا ولهذا، فيحكم بصحته، وقد يكونون من الضعف بمكان قوي، بحيث لا يُقبل حديثهم، ولا يُحكم بصحته إذا كانوا متهمين بالكذب، أو ضعفاء بالمرة، فهذا التعريف إنما هو بالنظر إلى الاسم أي اسم الحديث مشهور أو مستفيض أو عزيز، مع قطع النظر عن ثقة رجاله أو ضعفهم، فإذا أردنا الحكم عليه فلا نحكم عليه إلا بالنظر إلى عدالة رواته وصحة إسناده.
مُعنْعنٌ كَعنْ سعيدٍ عنْ كَرَم ... ... ... وَمبْهَمٌ مَا فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسم
الحديث المعنعن والمؤنن:
قوله: (معنعن كعن سعيد عن كرم)(68/34)
(المعنعن) هو الحديث الذي يتسلسل بكلمة عن فلان عن فلان، والعنعنة يستعملونها إما للاختصار وإما لعدم التثبت من سماعه عن ذلك الشيخ، كأن يرويه عنه بواسطة، أو ما أشبه ذلك ويجوز للمتأخر أن يروي الحديث بعن، فيجوز لك أن تقول: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال ستاّ..) مع أن بينك وبين أبي هريرة مئات السنين، فإذا قال الراوي (عن) فليس متحققاً أنه لقيه أو أنه سمعه منه، فقد يقول أبو بكر بن أبي شيبة: عن شعبة. وهو مالقيه، وقد يقول مثلاً سفيان بن عيينة: عن الزهري. وهو قد لقيه فيعنعن، وقد يكون الشيخ روى عن شيخه بالتحديث، وعن شيخ شيخه بالعنعنة، ويفعل ذلك كثير من العلماء، وقد يكون الإسناد كله معنعناً، فغالب أول مصنف عبد الرزاق رواه تلميذه عند بالعنعنة مع ذكره لاسمه فيكتب: عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري عن سالم عن أبيه، فيجعله كله معنعناً، مع أن عبد الرزاق قد روى عن مشايخه بالتحديث أو بالإخبار أو بالسماع، ومع ذلك يذكره بالعنعنة، ولعلّ ذلك من باب الاختصار والعنعنة إذا جاءت في الحديث فإنها تكون دون التحديث بمراتب؛ لأنها ليست دالة على الاتصال، إلا إذا حملنا ذلك الراوي على حسن الظن.
واختار الإمام مسلم -رحمه الله- أن الحديث المعنعن يقبل مطلقا ويحمل على الاتصال بشرط:
أن يكون المعنعن ليس مدلساً.
وأن يكون معاصراً لمن روى عنه يمكن أنه لقيه.
فإن كان المعنعن مدلساً فلا يقبل إلا إذا صرح بالتحديث، فمثلاً من المدلسين ابن إسحاق صاحب السيرة، نجد عنده أحاديث كثيرة تارة يذكرها بصيغة العنعنة، وتارة بالتحديث، فتارة يقول: حدَّثنا عاصم بن عمر، وتارة يقول: عن عاصم بدون حدَّثنا، فيقبل ما صرح فيه بالتحديث، دون ما لم يصرح فيه بالتحديث، مخافة أن يكون قد أسقط شيخه.(68/35)
والضعيف (المدلس) هو الذي يسقط شيخه، ويروي الحديث بالعنعنة عن شيخ شيخه، الذي قد لقيه لكنه لم يسمع منه ذلك الحديث، (المؤنن) أيضاً ألحقوه بالمعنعن، لكن الغالب أن المؤنن لا يقتصر فيه على كلمة (أن) بل لابد أن يُضاف إليها كلمة أخرى، فإن أضيف إليها ما يدل على السماع فهو متصل وإن أضيف إليها ما لم يدل على السماع فلا، فإذا قال مثلاً: حدثنا عبد الله بن لهيعة أن جابراً الجعفي قال: حدثني أنس. فمثل هذا أن جابراً قال. وكلمة (أن) هو المؤنن، ولكن أضاف إليها (قال) وكلمة (قال) لا تدل على الاتصال، فيتوقف فيه؛ لأن ابن لهيعة قيل: إنه مدلس، وأما إذا أضاف إليها كلمة صريحة فيقبل، كأن يقول: حدثنا ابن لهيعة، أن جابراً الجعفي حدثه، فكلمة (أن) اقترنت بها (حدثه) أو أخبره، أو سمعه يقول: أو ما أشبه ذلك، فيزول بذلك خوف الانقطاع.
الحديث المبهم:
قوله (ومبهمٌ ما فيه راوٍ لم يُسم) ، أي: لم يصرح باسمه، كأن يقول مثلاً عن ابن لهيعة عن رجل، عن قتادة. فقوله عن (رجل)) هذا مبهم لا يُدرى من هو، وقد لا يذكره باسم رجل، كأن يقول عمن أخبره، أو عمن يسمع جابراً.(68/36)
فهذا الذي سمع جابراً مبهم، وقد يكون الإبهام لعدد، كأن يقول: عن عدة من مشايخنا، أو من أصحابنا، فهؤلاء العدة مبهمون، وقد يكون الإبهام مع نوع من التعيين، كأن يقول: عن عمه أو عن أخيه، وله عدة أعمام وله عدة إخوة، أو أخوه مجهول لا يُدرى من هو ولا يُدرى ما اسمه، فيكون هذا مبهماً، فالمبهم هو الذي فيه رجل لم يسم، وهو يدل على ضعفه، فيُرد الحديث الذي فيه راوٍ مجهول، وقد يسمى ومع ذلك يبقى على جهالته، وقد يسمى ولكن لا يقال فيه كلام، ولا يذكره أحد، ولا يترجم له، ولا يدري ما حاله، وما روايته وما ثقته، وهو مع ذلك مسمى، بأن يقول مثلاً: حدثني زهير أو يزيد، وقد يقول مثلاً: يزيد بن بزيع، ولكن من هو يزيد هل هو ثقة أو ضعيف، لا ندري، لم يتكلم فيه أحد، فيتوقف في رواية هذا المجهول.
المجهول وأقسامه:
ويقسم المجهول إلى قسمين:
مجهول الحال.
ومجهول العين.
فمجهول العين هو: أن لا يُعرف بعينه، ولا يُدرى ما اسمه.
وأما مجهول الحال فهو: الذي يسمى، ويرويه عنه اثنان، ولكن لا يروى شيء من أخباره، ولا ينقل هل هو صدوق أو كذوب، أو ثقة أو ضعيف، روى عنه فلان وفلان ولكن ما وثق، فيسمى مجهول الحال، وقد يسمى مستوراً.
الفرق بين المبهم والمجهول:
والفرق بين المبهم والمجهول أن المجهول أخص؛ لأنه قد يكون مسمى ومجهولاً، قد يُقال: عن أُمه، وأُمه مجهولة، وقد يُقال عن أخيه، وأما إن قيل: عن رجل. أو عن من سمع. فهذا يسمى مبهماً، فالمبهم هو الذي لا يذكر بما يميزه، وأما إذا قال: عن أخيه أو عن أمه وهي مجهولة، أو أخته أو عمه، أو ما أشبه ذلك فهذا يسمى مجهولاً، وليس بمبهم.
وكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُه عَلا ... ... ... وَضِدُّهُ ذاكَ الذِي قدْ نَزَلا
الحديث العالي، والحديث النازل:
قوله: (وكل ما قلت رجاله علا ... )(68/37)
العالي والنازل من أقسام الحديث، وتتعلَّق بالأسانيد، ويُقال: هذا إسناد عال، وهذا إسناد نازل. فالعالي هو الذي قلَّت رجاله، والنازل هو الذي كثرت رجال إسناده، وقلة الرجال مرغوب فيها عند المحدّثين فهم يحبون الحديث العالي دون النازل، وسبب ذلك: أن كثرة الوسائط سبب لكثرة الأوهام؛ لأنه إذا كان مثلاً بين الترمذي وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة، فاحتمال الخطأ من هؤلاء قليل، يعني محتمل أنهم أخطأوا ولكنه احتمال قليل بخلاف ما إذا كان بينه وبينه عشرة، فإنه قد يوجد أحاديث ينزل فيها الترمذي إلى عشرة، وقد يوجد أربعة، فيسمى القليل عالياً، فأقل ما بين الترمذي وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة، ويسمى الآخر نازلاً إذا كان الإسناد سبعة أو أكثر، وسبب ذلك أن بعضهم يروي عن بعض، وهم متقاربون، يروي عن بعض، وهم متقاربون، يروي التابعي عن تابعي عن تابعي إلى أربعة أو خمسة أو ستة بعضهم عن بعض، وكلهم متقاربون، وتكثر الوسائط، فلأجل ذلك قالوا: إن العالي أصح، وأقوى، وأقرب إلى الثقة بهم، وقد كانوا يحرصون على العلو، فكثيراً ما توجد الأحاديث عند الشيخ في بلاده نازلة، فيسافر مسيرة شهر أو أكثر، لأجل أن يحصل عليه بإسناد أقل لأنه يسقط عنه رجل.(68/38)
فمثلاً: الإمام أحمد يروي عن عبد الله بن عمر أحاديث ليس بينه وبينه إلا اثنان، يرويها مثلاً عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ لأن ابن عمر طال عمره إلى أن توفي في حدود سنة 74هـ وتتلمذ عليه عبد الله بن دينار في آخر حياته وحفظ منه علماً، وطالت حياة عبد الله بن دينار فمات سنة 127هـ، فأدركه بعض مشايخ أحمد كسفيان بن عيينة وإسماعيل بن جعفر ونحوهما، فرووا عنه فتكون أحاديثه ثلاثية حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر، وكذلك أحاديث أنس حيث أدركه الزهري، وإن كان الزهري لم يُعمرْ أي ما طالت حياته، ولكن أنسا عُمر حتى توفي سنة 93، وعاش بعده الزهري ثلاثاً وثلاثين سنة126وتوفي سنة 5 والإمام أحمد يروي عن ابن عيينة ويقول: حدثنا ابن عيينة عن الزهري، عن أنس، فأحاديثه عنه ثلاثية.(68/39)
كذلك البخاري عنده الأحاديث الثلاثيات فليس بينه وبين الصحابي إلا اثنان، وبينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة، ومنها أحاديث عن أنس يرويها عنه تلميذه حُميد الطويل الذي عُمِّر فأدركه محمد بن عبد الله الأنصاري فالبخاري يقول: حدَّثنا محمد بن عبد الله عن حميد عن أنس فهذا إسنادٍ عال، وكذلك سلمة بن الأكوع عُمر يعني عمراً متوسطاً توفي سنة 74هـ، ولكن تلميذه ومولاه يزيد بن أبي عبيد عُمر بعده فأدركه مشايخ البخاري فصار يروي عن سلمة أحاديث ثلاثية، فيقول: حدّثنا مكي بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، فهذا حديث عال، فإذا كثرت الرجال فإنه يسمى نازلاً، فقد تجد بين البخاري وبين الرسول صلى الله عليه وسلم سبعة أحياناً، ويكون ذلك لأن بعضهم يروي عن بعض، وهم متقاربون فيقول مثلاً: حدّثنا عمر بن حفص، حدّثنا أبي، حدّثنا الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود فهذا بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ستة، وقد يحدث عن بُندار عن غندر عن شعبة عن الأعمش فهذا إسناد فيه نوع من النزول بالنسبة إلى الثلاثي، هذه هي الأحاديث العالية والنازلة، ورغبتهم في الأحاديث العالية لقلة الوسائط وقلة الرجال، فقد يسافرون -كما ذكرنا- لأجل سقوط رجل أو رجلين.(68/40)
فالإمام أحمد توجد عنده أحاديث في بغداد نازلة، ولكنها توجد عند بعض المشايخ عالية مثل عبد الرزاق، فسافر أحمد من بغداد إلى صنعاء لأجل أن يسمع منه أحاديث هي موجودة عنده في بغداد، لكنها نازلة، فأراد أن يأخذها عن عبد الرزاق لتكون عالية، فقد يكون بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ستة فإذا أخذها عن عبد الرزاق ارتفع إلى خسمة أو أربعة فقد يقول: حدّثنا عبد الرزاق: حدَّثنا معمر عن الزهري عن أنس فهؤلاء أربعة أو يقول عبد الرزاق: حدّثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس فهؤلاء خمسة فالرغبة في علو الإسناد لأجل قلة الوسائط التي يحصل بسببها قلة الأوهام.
فأنت مثلاً إذا سمعت حادثاً حدث كمرض أو موت فسمعته من واحد شاهده وقال لك: شاهدت فلاناً مريضاً أو شاهدت فلاناً عندما توفي، أو شاهدت البيت الفلاني وقد احترق أو قد انهدم، جزمت به، لأنه ليس بينك وبين هذا الحادث إلا واحد شاهده، لكن لو أن هذا الواحد الذي شاهده نقله لك عن خمسة قال مثلاً: أنا ما شاهدته، ولكن أخبرني فلان وهو ما شاهده ولكن أخبره فلان وهو أيضا ما شاهده وإنما أخبره فلان ولم يشاهده أيضاً وأخبره فلان الخامس الذي شاهده، فكثرة الوسائط قد تُوقع الشك في هذا الحادث هل هو صحيح واقعي أم لا؟ لأن أحدهم قد يكون قاله مازحاً غير مُجدّ في قوله، وقد يكون مخطئاً على بعضهم، وقد يكون بعضهم قال: نقله لي فلان وهو مخطئ، وقد يكون بعضهم لا يعرف هذا الذي حدَّثه، إنما قال: يمكن أنه فلان، وليس جزماً، فلأجل ذلك كثرة الوسائط يحصل بها وَهم وخطأ غالباً، فهذا هو السبب في أن قلة الرجال أقوى.
حكم الإسناد العالي والنازل:(68/41)
ثم إن الحكم على السند بالنظر إلى الرجال، لا نحكم على السند عالياً أو نازلاً إلاَّ بعد النظر في رجاله، وقد يكون العالي رجاله ضعفاء، ويكون الإسناد النازل رجاله أقوياء، وقد يكون الإسناد العالي أضعف من النازل، رغم أن هذا عال ولكن في رجاله ضعف وهذا عال ورجاله ثقات، فلا تساوى بينهما.
وَمَا أَضَفْتهُ إلى الأَصْحاَبِ مِنْ ... ... ... قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَهْوَ موقوفٌ زُكِنْ
وَمُرْسلٌ مِنهُ الصّحَابيُّ سَقَطْ ... ... ... وقل غريبُ ما روى راوٍ فقطْ
وَكُلًّ مَاَ لَمْ يَتَّصِلْ بِحَالِ ... ... ... إسنادُهُ مُنْقطِع الأَوصَال
هذا تعريف الموقوف، والمرسل، والغريب، والمنقطع، وهي بعضها من مباحث الإسناد كالمرسل والمنقطع، وبعضها من مباحث المتن كالغريب والموقوف.
الحديث الموقوف:
(والموقوف) هو ما وقف على الصحابي، فإذا وقف الإسناد إلى الصحابي ولم يتجاوزه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو موقوف أي هو من كلام الصحابة، ويكثر هذا في الكتب التي تعني بكتابة الآثار، كمصنف ابن أبي شيبة، وسنن الدارمي، ومصنف عبد الرزاق، وسنن سعيد بن منصور، يذكرون فيها أشياء كثيرة من الموقوفات على الصحابة، ومن الموقوفات على التابعين، فكل ما أضيف إلى الصحاب يعني الصحابة فهنا عبَّر بالصحاب عن الصحابة يُقال لهم: أصحاب وصحب وصحابة وصحاب، وسواء كان ذلك المروي من قولهم أو من فعلهم، كفعل أحدهم أمراً من الأمور، يُقال: فعل عثمان كذا فهذا موقوف، أو قال عمر كذا وكذا فهذا موقوف.
(زُكِن) يعني عُرِفَ وحققَ أنّ هذا هو الموقوف حقاً، وكثيراً ما تكون الموقوفات في كتب المتقدمين كالدارمي وعبد الرزاق ومالك، ثم يخطئ فيها كثير من المتأخرين فيرفعونها، وكثيراً ما يقول الترمذي وغيره هذا الحديث موقوف، رفعه فلان فأخطأ فيه، أو غلط فرواه مرفوعاً، والصحيح أنه موقوف على عائشة، أو موقوف على ابن عباس أو نحو ذلك.(68/42)
وقد ذكرنا سابقاً أن الموقوف قد يكون له حكم المرفوع، فيما إذا كان ذلك الصحابي لا يأخذ عن الإسرائيليات، وكان كلامه لا يُقال مثله بالرأي، فإذا تكلم بكلام من أُمور الآخرة حُمِلَ على أنه تلقَّاه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مثلاً أخبر بثواب، فإنه محمول على أنه مرفوع حكماً لا لفظاً، هذا هو الموقوف.
الحديث المرسل:
وبعده قال: (ومرسل منه الصحابي سقط..............)
المرسل: ما رفعه التابعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والتابعي هو الذي لقي الصحابة، فإذا قال سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال عطاء بن أبي رباح: قال النبي صلى الله عليه وسلم فهو المرسل، وقوله: (منه الصحابي سقط) . أي في الظاهر، ولكن لو تحققنا أنه لم يسقط منه إلا الصحابي لقبلناه؛ لأن الصحابة عدول، لكن نخشى أن يكون سقط قبل الصحابي تابعي ضعيف، فلأجل ذلك يكون المرسل ضعيفاً، والتعبير السليم أن يقال: إن المرسل ما رفعه التابعي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبب رده الجهل بالساقط؛ لأنا لا ندري هل هو صحابي فنقبله أو هو تابعي، فإن كان تابعياً فقد يكون ضعيفاً، وإن كان ثقة فلا ندري هل أخذه من صحابي فيقبل، أو أخذه من تابعي آخر، فإذا أخذه من تابعي آخر فقد يكون ضعيفاً فيرد، وإذا كان قويّاً فهل أخذه من صحابي أو من تابعي ثالث، فقد يأخذ بعض التابعين من بعض إلى ثلاثة أو أربعة، فلأجل احتمال أنه أخذه عن تابعي ضعيف يتوقف في قبول المرسل.
ويستثنى من ذلك مراسيل سعيد بن المسيب قالوا: لأنها تُتُبِّعَتْ فوجدت مسانيد، فهو لا يرسل إلا عن ثقة، أو عن صحابي، وكذلك إذا تحقق أن هذا المرسل قد أرسله ذلك التابعي عن جَمْعٍ من الصحابة؛ لأن التابعي قد يسمع الحديث من عشرة من الصحابة، فيجزم به، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم فهنا إذا يقبل.
الحديث الغريب:(68/43)
قوله: (............ وقل غريب ما روى راوٍ فقط)
هذا تعريف الحديث الغريب، بأنه ما ليس له إلا إسناد واحد، وأكثر من يستعمله الترمذي في جامعه حيث يقول: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث فلان، أو من رواية فلان، فإذا رواه مثلاً عن الصحابي تابعي، وعن التابعي تابعي آخر، وعنه تابعي ثالث، ثم رابع، ثم آخر، وهؤلاء انفردوا به لم يتابعهم أحد فنسمي هذا حديثاً غريباً، وقد يشتهر بعد ذلك كحديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات) فإنه غريب في أوله ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولا رواه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا رواه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عن التيمي إلا يحيى الأنصاري، فهو غريب في أوله، ثم اشتهر عن يحيى، فأصبح متواتراً في آخره.
ومن أمثلة الغريب حديث أبي هريرة: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) فإنه ما رواه إلا أبو هريرة، ولا رواه عن أبي هريرة إلا الأعرج، ولم يروه عنه إلا أبو الزناد، ولا رواه عن أبي الزناد، إلا محمد بن عبد الله بن الحسن، ولا رواه عن ابن الحسن إلا الدراوردي، فيكون هذا حديثاً غريباً وإن كان قد رُوي من طرق أخرى بغير هذا اللفظ، والغرابة تدل على ضعف الحديث، فيقولون في تعبيراتهم: لا يأتيك بالغريب إلا الغريب، ويقال: فلان يأتي بالغرائب، فلان أحاديثه غريبة أي يأتي بأحاديث ما رواها غيره، فانفراده يدل على ضعفه وضعف روايته، هذا هو الغريب أي ما ليس له إلا إسناد واحد.
الحديث المنقطع:
وقوله: (وكلُّ ما لَم يتَّصِل بِحَال إسناده منقطعُ الأوصال)
هذا تعريف المنقطع، وقد ذكرنا أن الإسناد إما أن يكون فيه انقطاع في أوله وهو المعلق، أو من آخره وهو المرسل، أو من وسطه فإن كان باثنين متواليين فهو المعضل، وإن كان باثنين غير متواليين فالمنقطع، وكذلك إن كان الساقط واحداً فهو المنقطع.(68/44)
كيف يعرف الانقطاع في الإسناد:
وكيفَ تَعرِفُ الانقطاع؟ تعرفه بالرواة عن هذا الشيخ، تقول مثلاً: هذا الشيخ لم يرو عنه إلا فلان وفلان، فإذا وجدت إنساناً لم يُذكر في تلامذته عرفت أنه لم يرو عنه، فإنك كثيراً ما تجد في تراجم الرواة إحصاء تلاميذ الشيخ وإحصاء مشايخه كما في كتاب: (تهذيب الكمال في أسماء الرجال) للمزي.
إذا قال مثلاً: إسرائيل بن أبي إسحاق السبيعي، روى عن فلان وفلان وفلان وفلان، فيحصي مشايخه الذين روى عنهم ثم يقول وروى عنه فلان وفلان وفلان، فيحصي تلاميذه الذين رووا عنه، ولو زادوا على المائة أو على المائتين، فأنت إذا رأيت شخصاً قد روى عن إسرائيل، فانظر هل ذكره صاحب تهذيب الكمال، فإذا لم يذكره، ولم يذكره غيره دلَّ على أنه ليس من تلاميذه، وأنه ما أدركه، أو أنه روى عنه بواسطة فأسقط تلك الواسطة، فيكون الإسناد منقطعاً.
فالإسناد المنقطع هو الذي فيه سقط، وقد يعرف السقط بعدم المعاصرة، وذلك يحتاج إلى معرفة المواليد والوفيات، فإذا رأيت مثلاً وكيع بن الجراح الذي وُلِدَ قبل موت الزهري بسنة أو سنتين عرفت أنه ما روى عنه أي كيف يروي عنه وهو ابن سنة أو سنتين يعني أن هذا ولادته في سنة كذا، وهذا وفاته في سنة كذا وبينهما سنة أو سنتان فلان يمكن أن يروي عنه، وهكذا بعض المحدثين قد يروي عن شخص بواسطة ويسقط من روى عنه، ويقع ذلك كثيراً في أولاد بعض الصحابة الذين ما أدركوا آباءهم ورووا عنهم كأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود روايته عن أبيه منقطعة؛ لأنه مات وهو صغير فما عقله، ومع ذلك روى عنه كثيراً، ولكن روايته محمولة على أنه أخذها عن أهل بيته أو عن تلامذة أبيه، فتكون منقطعة، فالمنقطع هو: ما سقط فيه راوٍ أو أكثر مع عدم التوالي، هذا من حيث الاصطلاح، وإلا فهو يعم كل ما لم يتصل، على ظاهر النظم.
وَالمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْه اثنَانِ ... ... ... وَما أَتى مُدَلَّساً نوعَانِ(68/45)
الحديث المعضل:
قوله: (والمعضَلُ الساقطُ منه اثنانِ.............)
الإعضال في اللغة:
والإعضال هو العيب الكبير، هذا في اللغة: أعضله يعني عاقه عن السير، وقطعه قطعاً كلياً، فهناك مثلاً المنقطع عن القوم، إما أن يسير خلفهم سيراً متوسطاً وهم مسرعون، فهذا يسمى منقطعاً عن القوم، وإما أن يكون سيره بطيئاً وسيرهم سريعاً، فهذا قد أعضل عن القوم، ولحاقه بهم متعذِّر، فالمعضل سمي بذلك لزيادة انقطاعه.
المعضل اصطلاحاً:
والمعضل من مباحث الإسناد وعرَّفه بأنه الساقط منه اثنان، ولابد أن يكونا متواليين، فمتى سقط منه راويان متواليان فهو المعضل، فإن كانا متفرقين فإنه المنقطع.
كيف يعرف الإعضال في الإسناد:
ويُعرف السقط منه بمجيئه من طريق أُخرى، وقد يكون السقط غير ظاهر، حيث يكون بعض الرواة قد لقي بعضاً، فمثلاً الإمام سفيان بن عيينة قد لقي الزهري وحدَّث عنه، ولكنه تارة يحدِّث عنه بواسطة رجل، وتارة يحدث عنه بواسطة اثنين، فإذا روى ابن عيينة عن الزهري حديثاً لم يسمعه منه ولا ممن سمعه منه، لكن بواسطتين فحذف الواسطتين فهو حديث معضل، مع أن ظاهره الاتصال.
كذلك قد يكون المسقط لا يتفطن للانقطاع الظاهر، فيروي عمن لم يسمع منه ما لم يسمع، فمثلاً يروي بكير بن الأشج عن قتادة وهو لم يسمع منه؛ لكونه مات كهلاً، وقد يكون بينه وبينه اثنان فيسمى معضلاً، ومثلا يروي هشيم بن بشير عن ابن إسحاق وهو لم يسمع منه، وكذلك قد يروي عبيد الله بن معاذ العنبري عن هشام بن عروة بن الزبير ما لم يسمع منه؛ بل قد يروي عنه بواسطتين، ويسقط الواسطتين، فيسمى هذا معضلاً، فالمعضل الساقط منه اثنان على التوالي.
الحديث المدلس:
قوله (وما أتى مدلسا نوعان)
التدليس لغة: إخفاء العيب، وقد ذكروه في البيوع، وأنه من أقسام الخيار هو التدليس، الذي هو ستر العيب.(68/46)
ومثلوا له: بأن يكون في السلعة عيب ويستره البائع، والمشتري لا يدري عنه، كالمُصرَّاة وهي: الناقة أو البقرة أو الشاة التي يُجمع لبنها في ضرعها أياماً، إذا رآها المشتري اعتقد أنها كثيرة اللبن، وإنما هو مجموع، فهذا تدليس، فالدابة مُدلسة، وكذلك الجارية عندما تُباع إذا كانت قد ابيض شعرها من الكبر فسوده ليوهم أنها شابة، وقد تكون شمطاء، وقد تكون عجوزاً، فيعتقد المشتري أنها شابة؛ لأن شعرها أسود فهذا تدليس.
تعريف التدليس:
والحاصل أن التدليس هو الإخفاء أي إخفاء العيب ونحوه، وهو غش في العين، فالتدليس في الإسناد هو إخفاء السقط، بأن يسقط في الإسناد رجلاً ويخفيه، بحيث إذا سمع أو قرأ المحدث هذا السند لم يتفطن للساقط، ويُعدُّ التدليس عيباً كبيراً في الراوي، لكن قد يُتسامح في بعضهم، يعني أن بعض الرواة قد يدلس، ولكن يُعتذر عنه أنه لا يدلس إلا عن ثقة، أو أنه يدلس لعذر عدم التذكر، يعني قد يكون نسي شيخه الذي حدث عنه، فحينئذ يحدث عن شيخه الذي فوقه، وعلى كل حال فالتدليس عيب، وقد ذمه كثير من العلماء، ومنهم شعبة بن الحجاج الذي يُقال له: أمير المؤمنين في الحديث فإنه روي عنه أنه قال: لأن أزني أحب إليَّ من أن أُدلِّس.
الأَولُ الإِسْقَاطُ للشيخ وأَنْ ... ... ... ينقلَ عمَّن فوْقهُ بعَن وأَن ْ
أمثلة للمدلِّسين:
ومن المشتهرين بالتدليس ابن إسحاق صاحب السيرة، فكثيراً ما يسقط شيخه، ويروي عن شيخ شيخه بعن أو بأن، ومن المشهورين بالتدليس: الكلبي، وعطية العوفي، وهناك مدلسون ولكنهم ثقات، منهم أبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدرُس، والأعمش سليمان بن مهران، وقتادة بن دعامة، ولكن في الغالب أنهم لا يدلسون إلا عن ثقات، فلا يحذفون من الإسناد إلا شخصاً موثوقاً ومجزوماً به؛ فلأجل ذلك تقبل رواياتهم عن أكابر مشايخهم وإن اشتهر عنهم التدليس.
تدليس الإسناد:(68/47)
والتدليس الذي يستعملونه أن يسقط أحدهم شيخه، ويروي عن شيخ شيخه بعن أو بأن، كأن يقول مثلاً: عن الزهري قال: حدثني سالم عن أبيه، أو عن الزهري عن سالم عن أبيه، فلا يقول: حدَّثني الزهري؛ لأنه ما حدَّثه به فلا يتجرأ على الكذب، إنما يقول عن الزهري، أو يسقط مثلاً شيخه، ويقول: إن هشيماً قال: حدَّثنا فلان. وإن عاصم بن عمر قال.
فالحاصل أن المدلس تارة يأتي بكلمة (أنه قال) وتارة يأتي بكلمة (عن) ويسقط شيخه الذي سمع منه الحديث.
والثّانِ لا يُسقطهُ لكن يَصِفْ ... ... ... أوصافهُ بما بِه لا يَنْعَرِف
تدليس التسوية:
وهناك تدليس شر منه، ويُقال له: (تدليس التسوية) وهو: أنه لا يسقط شيخه؛ ولكن يسقط شيخ شيخه، لأن شيخه ليس بمدلس، فيسقط شيخ شيخه، ويركب الإسناد برجال كلهم ثقات، فهذا تدليس التسوية، وهو شر أنواع التدليس، واشتهر به اثنان من الرواة، أحدهما (بقية بن الوليد) وثانيهما (الوليد بن مسلم) اشتهرا بتدليس التسوية، وقد ذكروا أن الوليد بن مسلم قالوا له مرة: إنك تروي الحديث عن الأوزاعي عن نافع، وعن الأوزاعي عن الزهري، وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد، وغيرك يدخل بينه وبين نافع عبد الله بن عامر، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقرة وغيرهما، فما يحملك على هذا؟ قال: أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء إلخ أي: أكرمه أن يروي عن هؤلاء لكنه سبب تفرد الأوزاعي؟ بهذه الأحاديث الضعاف التي تفرد بها عنه الوليد بن مسلم عن أولئك الثقات مشايخ الأوزاعي يطعن في الأوزاعي.(68/48)
فقالوا له: إنك إذا جعلت هذا الإسناد مركباً كذلك حصل الطعن على الأوزاعي؟ كيف أن هذا الإمام يروي هذه الأحاديث الضعيفة فتكون من أفراد الأوزاعي لا من أفراد عبد الله بن عامر أو إبراهيم بن مرة أو شهر بن حوشب الذين هم ضعفاء فيصير الطعن على الأوزاعي فيقال: الأوزاعي أتى بالمنكرات والمعضلات، فتكون أنت السبب حيث إنك أسقطت الضعفاء، ولكنه لم يبالِ بكلام من نصحه، هذا هو الوليد بن مسلم المشهور بتدليس التسوية مع عدالته وثقته وحفظه.
ومثله (بقية بن الوليد) فهو مشهور أيضاً بتدليس التسوية، وفيه يقول بعض العلماء: أحاديث بقية، ليست نقية، فكن منها على تقيّة. أي على حذر، وقد تجده مصرحاً بالتحديث بأن يقول: حدَّثنا بقية بن الوليد، حدَّثنا هشيم، عن الزهري ولكن لا ينفعه تصريحه بالتحديث؛ لأنه يسقط شيخ هشيم الذي بينه وبين الزهري ويسقط شيخ الأعمش فيحدث عن الأعمش عن ثقات، وهكذا.
فالحاصل أن تدليس التسوية هو شر أنواع التدليس والسبب:
(أولا ً) : أن الناس ينخدعون به إذا رأوه قد صرَّح بالتحديث، فإذا قالوا: فيه بقية بن الوليد وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث، فيقبلون حديثه وما فهموا أنه لم يسقط شيخه، وإنما أسقط شيخ شيخه.(68/49)
(ثانيا) : أن شيخه الذي حدَّث عنه - حيث قال: حدَّثنا شعبة، أو قال: حدَّثنا سفيان - ليس من أهل التدليس، فإذا رأيناه روى عن قتادة، قلنا: هذا الإسناد ثابت ولو بكلمة (عن) بأن قال: حدَّثنا شعبة عن قتادة، فقد يكون بينهما يزيد بن أبي زياد، أو ليث أبن أبي سليم، أو عوف الأعرابي، أو غيرهم ممن فيه ضعف، فأسقطه بقية بن الوليد مع أن شعبة ليس من أهل التدليس، بل يذمُّ التدليس، فلو رآه الباحث قال: هذا إسناد مقبول، هذا إسناد ثابت، صرح فيه بقية بن الوليد بالتحديث قال: حدَّثنا شبعة، وشعبة ليس من المدلَّسين، وقد رواه عن قتادة، فيصير شر أنواع التدليس؛ لأن شيخه ليس من أهل التدليس، وقد رواه بالعنعنة عن قتادة ولم يتجرأ أن يقول فيه: حدَّثنا قتادة. وشعبة ما قال حدَّثنا قتادة، فإنَّ شعبة كثيراً ما يقول: عن قتادة ولا يدل أن بينه وبينه واسطة، وإنما للاختصار مثلاً.
تدليس الشيوخ:
وهناك تدليس آخر وهو الذي أشار إليه الناظم، وهو أن يوصف الشيخ بما لا يتميز به بأن يكني المسمى، أو يسمي المكني أو يذكره باسم غير مشهور به، أو ما أشبه ذلك، فغالباً ما يفعل ذلك المدلسون إذا رووا عن إنسان مشهور بالضعف، لم يصرحوا باسمه ليقبل حديثه، فمثلاً هناك عبد الله بن المسور الهاشمي مشهور بالضعف، بل بوضع الحديث، كان يضع أحاديث كلام حق ليست من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيركب لها إسناداً، ويجعلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيروي عنه أناس، ولا يذكرونه باسمه أي لا يصرّحون به فيقول أحدهم: حدَّثنا الهاشمي، أو حدَّثنا عبيد الله الهاشمي، أو يُكَنُّونُه بأن يقولوا: حدَّثنا أبو هاشم، أو ما أشبه ذلك فالذي يرى الحديث قد يقول: هذا حديث رجاله مستورون، وإنَّما يتفطن لهذا أهل المعرفة بالحديث، إذ الرجل لم يكن اسمه واضحاً مشهوراً بالضعف أو بالكذب.(68/50)
ومثله تلاميذ الكلبي، يدلسون اسمه أيضاً، فالكلبي اسمه محمد بن السائب بن بشر الكلبي، وكنيته أبو سعيد، وليس مشهوراً بالكنية، فيروي عنه بعضهم ويقول: عن أبي سعيد، ويسمعه إنسان فيتبادر إلى فهمه أنه الخدري الصحابي الجليل، مع أنه الكلبي، والكلبي كذاب، كذلك قد يسقط بعضهم أباه فيقول: حدَّثنا محمد بن بشر وهو ليس مشهوراً بذلك بل مشهور باسمه محمد بن السائب بن بشر، ومشهور بالكلبي، فإذا قال محمد بن بشر وأسقط السائب توَهم البعض أنه غيره فقبلوا حديثه.
هذا هو التدليس في الشيوخ بحيث إنه لا يميز شيخه، ولا يذكره بالوصف الذي يعرف به، كذلك لو لم يذكره إلا بالاسم العَلَم، كأن يقول: حدَّثنا إسحاق، وهناك عشرة مشايخ اسم كل منهم إسحاق، وفيهم ضعيف، وفيهم ثقة، وفيهم متوسط، فسكت ولم يميز، فإنَّ هذا تدليس أيضاً.
(فتدليس الإسناد) -وهو الأكثر- يعني: أن يسقط الراوي شيخه ويحدَّث عن شيخ شيخه بعن أو بأن.
(وتدليس التسوية) يعني: أن يسقط الراوي شيخ شيخه، ويجعله عن شيخه، عن الشيخ الثالث.
(وتدليس الشيوخ) : بأن يصف شيخه بما لا يتميز به أي بصفة لا يعرف بها حقاَّ أنه فلان.
وكلها تعد طعناً في الراوي متى عُرِفَ أن هذا الراوي تعمد هذا التدليس.
متى يقبل حديث المدلس؟:
وإذا قيل: متى يقبل حديث المدلس؟ فالجواب: يقبل إذا صرَّح بالتحديث، فإذا قال: (حدَّثنا) فإنه يقبل حديثه؛ لأنه لا يتجرأ على الكذب في مثل هذا، بل يتحاشى أن يكذب بأن يقول: (حدثنا) وهو ما حدَّثه، فكلمة (حدَّثنا) و (أخبرنا) و (سمعت) صريحة بأنه تلقاه عنه، بخلاف كلمة (عن) و (أن) و (قال) فإنَّها محتملة أنه سمعه منه أو لم يسمعه منه، فهذا هو التدليس المشهور.
بواعث التدليس:(68/51)
وقد يكون قصده قصداً مناسباً، وقد يكون قصده تكثير مشايخه، كما ذكروا ذلك عن الطبراني صاحب المعاجم التي رتبها على مشايخه، ليعرف بذلك كثرة مشايخه الذين حدَّث عنهم، فهو يروي عن شيخه الذي اسمه أحمد حديثاً أو أكثر ثم عن شيخ له آخر اسمه أحمد بن فلان حديثاً أو أكثر إلى أن يكمل من اسمهم أحمد، وقد يذكر أحدهم باسميه مثلاً، أوله كنية فيذكره مع الأسماء ومع الكنى، حتى يُقال: إنه حدَّث عن ألف شيخ، أو عن خمسة آلاف أو ما أشبه ذلك. فإذا لم يتميز ولم يُعرف يكون هذا الشيخ مجهولاً فيرد حديثه وترد روايته.
فإن قيل: ما حكم القراءة من كتاب بصيغة: روى الترمذي. ويُذكر الحديث بدون إسناد، هل هذا تدليس؟
قلنا: إذا قال: رواه الترمذي، فقد عزاه إلى من أسنده فصاحب (رياض الصالحين) يقول: رواه الترمذي ولا يُقال هذا تدليس.
ضابط التدليس:
إذاً ما ضابط التدليس؟ لو وصل إليك حديث بالإسناد، بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ثلاثون راوياً، يعني سمعت هذا الحديث عن شيخك فلان وسمعه شيخك عن شيخه فلان، إلى أن وصل إلى الصحابي وبينك وبينه ثلاثون راوياً ترويه بالأسانيد، فأنت إذا أسقطت شيخك الذي سمعته منه، ورويته عن شيخ قد لقيته، ولكن ما سمعت منه هذا الحديث فقد صرت مُدّلساً لهذا الحديث تدلس الإسناد، فإذا لم تسقط شيخك الأول ولكن أسقطت شيخ أحد المشايخ الذين فوقك وقد لقيه ذلك الشيخ لكنه هنا رُوي بواسطة فأسقطت الواسطة فإن هذا تدليس تسوية، فأما روايتك من كتاب قد دُوِّن وطبُع واشتهر فإنه يجوز لك أن تعزو إليه وتسقط الإسناد.
والمدلس لا يلزم إطراح كل رواياته، بل إذا تحققنا أن هذا الحديث ثابت من طرق أخرى اعتبرنا روايته له كشاهد ومقوِّ، أما إذا تفرد بالحديث فإنه لا يقبل.
الفرق بين التدليس والمرسل الخفي:
فإن قيل: ما الفرق بين التدليس والمرسل الخفي؟(68/52)
قلنا: بينهما فرق ظاهر ذكره ابن الصلاح في علوم الحديث؟ لأن المرسل الخفي هو: أن يروي الراوي حديثاً عن شيخ لم يسمع منه وقد عاصره.
وأما المُدَلِّس فيروي عن شيخه الذي سمع منه أحاديث. حديثاً ما سمعه منه.
المرسل الخفي:
(فالمرسل الخفي) أن يروي عمن في زمانه ومن عاصره شيئاً لم يسمعه منه، والمدلس أن يروي عن شيخه ما لم يسمعه منه.
نقول مثلاً: أنت أدركت من المشايخ في هذه البلاد الشيخ عبد الله بن حميد، وعاصرت الشيخ عبد الله بن عدوان، ولكنك لم ترو عنه، فتحديثك وروايتك عن ابن حميد حديثاً ما سمعته منه يسمى تدليساً لأنك رويت عنه وجلست عنده، أو سمعت كلامه في الحرم أو في الرياض، فرويت عنه شيئاً لم تسمعه منه، فهذا تدليس، أما روايتك عن ابن عدوان فتسمى مرسلاً خفياً، لأن زملاءك هؤلاء قد يقولون: يمكن أنه سمع منه لأنه عاصره؛ ولأنه في بلاده، ولكنك ما سمعت منه؛ لأنه توفي من زمن قديم سنة (1374هـ) فتحقق أنك لم ترو عنه، فنقول: إن هذا مرسل خفي. فالتدليس بأنواعه مذموم؛ لأنه حديث مروي عنهم فعليه أن يبين رجال الحديث الذي نقله عنهم، ليُرجع إلى تراجمهم، ويُبحث في الحديث، ليحكم بعد ذلك بأنه صحيح أو غير صحيح.
إِبدالُ رَاوٍ مّا بِرَاوٍ قِسْمُ ... ... ... وقَلْبْ إِسْنَاد لِمتنٍ قِسْمُ
الحديث المقلوب:
قوله: (إبدال راو ما براو قسم وقلب إسناد لمتن قسم)(68/53)
(المقلوب) والقلب يكون تارة في الإسناد، وتارة في المتن، وتارة يكون في المتن والإسناد، فالإسناد كأن يُبدل راوياً براو إذا كان بينهما تقارب في اللفظ، كأن يُبدل عاصماً الأحوال بواصل الأحدب لتقاربهما في اللفظ والسمع، مع اختلافهما، أو يبدل يحيى بن بكير بيحيى بن أبي بُكير وكلاهما من الرُّواة، فالأول هو يحيى بن عبد الله بن بكير يروي عنه البخاري كثيراً فيقول: حدَّثنا يحيى ابن بكير، وأما الثاني فروى عنه ابن أبي شيبة وغيره وهو من رجال الصحيحين، فإبدال راوٍ براوٍ يُسمى قلباً، يُقال: انقلب هذا الحديث على فلان، فجعله عن شيخه فلان وقد أخطأ.
أنواع القلب:
وقد يكون قلب الإسناد بإبدال راوٍ ثقة براوٍ ضعيف أو بالعكس، ولا شك أنه إن كان الأصل أنه ضعيف وانقلب براوٍ ثقة، فإنه يعد مردوداً، فكثيراً ما يروى حديث عن عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف، فينقلب على بعضهم بعبيد الله بن عمر هو أخوه الثقة، ويقال: هذا الحديث انقلب على الدراوردي مثلاً، أو انقلب على غيره من عبد الله إلى عبيد الله العمري، وهذا طعن في الحديث.
ومن أنواع الانقلاب: أن يحول متن إلى إسناد حديث آخر أو بالعكس، وقد يكون عمداً كما وقع لجماعة من أهل بغداد، لما قدِم عليهم البخاري قلبوا له أسانيد مائة حديث، جعلوا إسناد هذا لمتن هذا وإسناد هذا لمتن هذا، وأعطوها عشرة أشخاص، لكل شخص عشرة أحاديث، وقالوا له: إذا اجتمعوا عنده فاسأله عن عشرتك، ففعل الأول وكلما حدَّثه بحديث قال: لا أعرفه. حتى تم عشرته، وجاء الثاني وهكذا حدّثه بالعشرة، وقال: لا أعرفها، فأما عوام الناس فقالوا: إنّه غير حافظ، كيف مر عليه مائة حديث وهو لا يعرفها، وأما أهل العلم الذين عملوا هذه الحيلة فإنهم عرفوا أنه قد فطِن.(68/54)
ولما أكمل العشرة أحاديثهم رجع إلى أولهم، وقال: حديثك الأول حدَّثناه فلان عن فلان عن فلان، وحديثك الثاني والثالث إلى أن تمم عشرته، وهكذا حتى أتمهم، فردّ الأسانيد إلى متونها والمتون إلى أسانيدها، فاعترفوا له بالفضل، وهذا يسمى قلب إسناد إلى متن للاختبار.
وقد يكون القلب في نفس المتن، بأن تنقلب كلمة بدل كلمةٍ على بعض الرواة، مثاله حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، وفيه: (ور جلٌ تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) انقلب على بعض الرواة فقال: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. وهذا انقلاب في المتن.
ومثله حديث في الشفاعة، وفيه: (أن النار يبقى فيها فضل، ويبقى في الجنة فضل، قال: فأما النار فينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فيها) وهذا انقلاب، والصواب أنه ينشئ للجنة، وتأبى حكمته أنه ينشئ للنار خلقاً ما عملوا أعمالاً سيئة فيدخلهم النار بلا ذنب، أما الجنة فينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم في ما فيها من الفضل.
والحاصل أن هذا يسمى انقلاباً في المتن وذكر ابن القيم أيضاً له مثالاً وقال: إنه انقلب على بعض الرواة، وهو حديث أبي هريرة الذي يقول فيه: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) وقال: إن آخره يخالف أوله، فإن البعير يقدم يديه في البروك قبل رجليه، وأنكر أن ثفنات اليدين تسمى ركباً، بل الركبة دائماً في الرجل وقال: لعله انقلب على بعض الرواة وأن صوابه وليضع ركبتيه قبل يديه، وذكر أنه كذلك وقع عند ابن أبي شيبة في المصنف: (إذا سجد أحدكم فيضع ركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل) ولو كان سنده ضعيفاً لكنه وافق الأصل، فترجح بذلك أن الحديث منقلب على بعض الرواة كالدراوردي أو محمد بن عبد الله بن الحسن وكلاهما فيه مقال، يضرُّ مع التفرد والمخالفة.(68/55)
وعلى كل حال فإن الانقلاب يُرجع فيه إلى أصل الحديث، فإذا خفت أن يكون هذا الحديث مما انقلب على بعض الرواة فارجع إلى أصل الحديث ثم اطرح الرواية المنقلبة، ويعد الانقلاب قدحاً في الرواية، ونقصاً في الحديث، لأنه خطأ وقع إما في المتن وإما في الإسناد.
وَالفَرْدُ قيّدْتَهُ بِثقَةٍ ... ... ... أَوْ جمْعٍ أَ ْ قْصرٍ على رِوَاية
الحديث الفرد:
قوله: (والفرد ما قيدته بثقة أو جمع أو قصر على رواية)
من مباحث أصول الحديث البحث في (الفرد) والبحث في (المعلول) .
فالفرد هو: ما تفرد به شخص عن عالم من العلماء، ويقسمونه إلى قسمين، فرد نسبي، وفرد مطلق، فإن كان غريباً من أصل السند فإنه يسمى فرداً مطلقاً وإن تفرد به شخص في أثناء السند فإنَّه يسمى فرداً نسبياً، مثال الفرد المطلق إذا لم يروه إلا صحابي، ولم يروه عنه إلا واحد، ولم يروه عنه أيضاً إلى واحد، إلا أن انتهى إلى المؤلف، فإنه فرد مطلق، أي فرد مشتق من الواحد.
ومثال الفرد النسبي أن يرويه مثلاً عن الزهري جماعة، ثم يتفرد به عن واحد منهم شخص واحد، فإذا رواه عن الزهري ابن أخيه محمد بن عبد الله، وعُقيل، ومعمر، ويونس، وسفيان، ونحوهم وتفرد به عن عُقيل شخص واحد فإنّه فرد نسبي، والغريب والفرد متقاربان، إلا أن أكثر ما يستعمل الغريب في الاسم، فيُقال: هذا حديث غريب.
والفرد في الفعل يُقال: تفرد به فلان عن فلان، هذا حديث غريب تفرد به العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه مثلاً، لكن لما كان فيه هذا التقسيم خصه باسم، يعني أن التفرد قد يكون في السند كله فالسند كله فرد، يعني ما رواه مثلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة ولا رواه عن أبي هريرة إلا القارئ عبد الرحمن، ولا رواه عنه إلا ابنه العلاء، ولا رواه عن العلاء إلا إسماعيل بن جعفر فيقال: هذا حديث غريب، ويقال: حديث حديث فرد تفرد به إسماعيل، عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة.(68/56)
وَما بِعِلةٍ غُموضٍ أَوْ خفَا مُعَلَّلٌ عِندَهُمُ قَدْ عُرِفَا
الحديث المعلَّل:
قوله: (وما بعلة غموض أو خفا معلل عندهم قد عرفا)
(المعلول) عندهم ما فيه علة خفية قادحة، والعلة هي ما يطعن به في الشيء ومنه سمي المرض علة، والعلة اسم للعيب والطعن في الشيء، يطعن في الحديث بطعن، ويكون ذلك الطعن علة، ولابد أن تكون العلة شيئاً خفياً، بحيث إن الذي لم يمارس الأسانيد ونحوها ينخدع بهذا الحديث فيقول: صحيح لا عيب فيه، فظاهره متصل فيحكم بقبوله لكن أهل الأسانيد والعلم بالأحاديث يعرفون صحته أو ضعفه، فيطلعون على عيب خفي يسمونه علة في هذا الحديث، سواء في إسناده أو في متنه، وقد ألَّفوا في ذلك مؤلفات، ولعلك قرأت (كتاب العلل) لابن المديني، مطبوع في نبذة متوسطة، تكلم فيها على علل الحديث، وكيف تُستنبط، وكيف تُعرف.
وممن ألّف في علل الحديث ورتبها على الأبواب ابن أبي حاتم كما تقدم في أول الكلام، وكتابه مطبوع في مجلدين كبيرين، اسمه (علل الحديث) رتبه على أبواب الفقه، فكتابُ الطهارة ذكر فيه علل الأحاديث التي في الطهارة، وكتاب الصلاة وهكذا، وأوفى من ألف فيه الدارقطني فإنه استوفى جميع العلل التي في الأحاديث، حتى تكلم على الأحاديث التي في الصحيحين، وذكر أن في بعضها علل، وسرد الاختلاف والاضطراب الذي يطعن به، فتارة يذكر أن بعضهم أخطأ في الموقوف فرفعه وقد كان أصله موقوفا على صحابي فأخطأ بعضهم فرفعه، وتارة تكون العلة الوصل، فقد يكون أصله مرسلاً، فأخطأ بعضهم فوصله، وكذا المنقطع قد يصله بعضهم خطأ وهو منقطع، وهكذا، هذه أنواع العلل، وأمثلتها في تلك الكتب.
وَذُو اخْتِلافِ سَندٍ أَوْ مَتنِ ... ... ... مُضطَرِبٌ عِنْدَ أُهيلِ الفَنِ
الحديث المضطرب:
قوله: (وذو اختلاف سند أو متن مضطرب عند أهيل الفن)(68/57)
(المضطرب) هو الذي يقع فيه اختلاف في أَلفاظه، يقال: اضطرب الرواة في هذا الحديث، فرواه بعضهم كذا ورواه بعضهم كذا، ولم نستطع أن نرجح راوياً على راو، ويعد الاضطراب قادحاً في الحديث، مسبّباً اطِّرَاحه، ومثّلَ له ابن القيم بحديث أبي هريرة الذي في السنن والمسند في صفة الصلاة "إذا سجد أَحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" وقال: إن هذا حديث مضطرب، رواه بعضهم "وليضع يديه قبل ركبتيه" ورواه بعضهم بالعكس "إذا سجد أَحدكم فليضع ركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل" وبعضهم حذف الجملة كلها واقتصر على فلا يبرك كبروك الفحل ولم يذكر اليدين والرجلين، وبعضهم رواه: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه على ركبتيه" ولم يقل: قبل ركبتيه، وقال بعضهم: كالبعير يضع إلخ ذلك من الروايات، فجعل هذا اضطراباً يقدح به في الحديث.
فالمضطرب ضعيف، حيث إننا لا ندري نأخذ بهذا أم بهذا أم بهذا، فيطرح الحديث فنقول:
المضطرب هو: الذي يختلف فيه الرواة، فَيروُونه على وجوه مُحتَمِلة، فلا نرجح هذا على هذا، بل يُتَوَقَّفُ في قبوله كله، ويعدل إلى غيره، فإن كان أصل الحديث محفوظاً في الصحيحين مثلاً ثم حصل اضطراب فيما بعد في السند، أو في المتن، فإنه لا يضر، وأكثر ما يكون الاضطراب في السند، حيث يبدل راوٍ براو، ويوصل مرة ويقطع مرة، فيقال: هذا مضطرب السند، ولا يضر الاضطراب في الإسناد إن كان أصله محفوظاً، وحَدَثَ الاضطراب متأخراً.
ثم قال الناظم رحمه الله:
و (المُدرَجاتُ) في الحديثِ ما أَتتْ ... ... ... منْ بعضِ أَلفاظِ الرُّواةِ اتصلتْ
وَما رَوى كلُّ قرينٍ عن أَخِهْ ... ... ... (مُدبَّجٌ) فاعرِفهُ حَقا وانتخِه
مُتَّفِقٌ لفْظاً وَخَطّاً (مُتفِقْ) ... ... ... وضِدٌّهُ فيما ذَكرْنا (المفترِقْ)(68/58)
(مُؤتَلفٌ) مُتّفقُ الخطِّ فقَطْ ... ... ... وضِدُّهُ (مختلِفُ) فَ اخْش الغلَطْ
(والمُنكَرُ) الفرْدُ بهِ راوٍ غدا ... ... ... تعُدِيلُهُ لا يَحْمِلُ التَّفرًّدَا
(مَترُوكُهُ) ما واحِدٌ بهِ انْفَرَدْ ... ... ... وأَجْمَعُوا لِضَعْفهِ فهْوَ كَرَدّ
والكَذِبُ المُخْتَلَقُ المصْنُوعُ ... ... ... عَلَى النَّبيِّ فَذلِك (الموْضوعُ)
وقد أتتْ كالجَوْهَرِ الكْنُونِ ... ... ... سمَّيتُها منظُومَةَ البَيْقُوني
فوقَ الثلاثينَ بأَربَعٍ أَتت ... ... ... أَبياتُها ثُمَّ بخَيرٍ خُتِمَت
في هذه الأبيات تعريفُ أنواع من المصطلح فمنها (المدرج ومنها (المدبج) ومنها (المتفق والمفترق) ومنها (المؤتلف والمختلف) ومنها (المنكر) ومنها (المتروك) ومنها (الموضوع) .
وَالمُدرَجاتُ في الحديثِ ما أَتتْ ... ... ... منْ بعضِ أَلفاظِ الرُّواةِ اتصلتْ
الحديث المدرج:
فقوله (والمدرجات في الحديث ما أتت من بعض ألفاظ الرواة اتصلت) :(68/59)
(المدرج) : هو ما أُضيف إلى الحديث من غيره، من كلام الرواة مما ليس بمرفوع، أُضيف للحديث، وجُعِل منه، وأُوهِم أَنه من الحديث، وليس منه، فيسمى مدرجاً، كأَنه أَدرجه في ضمن الحديث أحد الرواة، وقد يُعرَفُ المدرج بمجيئه من طريق أُخرى مصرَّحاً به، أو مجيء الحديث ناقصاً من طريق أُخرى ليست فيها تلك الزيادة، فيعرف أنه مدرج، أو كونه لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك حديث رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للعبد المملوكِ الصَّالحِ أجران) -والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبرٌّ أُمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك، فآخر الحديث يٌفهم منه أَنه ليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: وبر أُمي. فدلَّ على أَن هذا من كلام أبي هريرة، قال: لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي لأحببت أنني مملوك - فآخر الحديث يسمى مدرجاً، مضافاً إلى الحديث وليس منه.
وكذلك إذا كان أيضاً فيه نقص، مثل حديث ابن مسعود (الطِّيَرَةُ شِرْك، الطِّيرَةُ شرك) - وما منا إلا.... ولكن الله يذهبه بالتوكُّل - فآخره مدرج وهو قوله: وما منَّا إِلاَّ.. إلخ فليس هو من الحديث؛ لأنه معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقع في شيء من الطيرة مع كونها شركاً، فدل على أنه مدرج من كلام الراوي.(68/60)
وقد يكون الإدراج في آخر الحديث وهو الأغلب، كما في هذين المثالين، يعني: يتكلم الراوي بكلمة، فيفهمها أو يسمعها تلميذه فيعتقد أنها من ضمن الحديث فيرويها، وقد تكون في أول الحديث، مثاله حديث أبي هريرة: (أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار) فقوله: أسبغوا الوضوء. هذا من كلام أبي هريرة: (ويلٌ للأعقاب من النار) هذا هو المرفوع، حيث ذكروا أن أبا هريرة رأى أناساً يخففون الوضوء فقال: أسبغوا الوضوء (ويل للأعقاب من النار) سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فاعتقد أحدهم أن قول: سمعتُه عامٌ لقوله: أسبغوا الوضوء وما بعده فرواه كذلك، والصحيح أن المرفوع إنما هو آخره، وهو قوله: (ويل للأعقاب من النار) . ومثله حديث ابن عمر في سترة المصلي، وهو قوله: لا تُصل إلا إلى سُترة (ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله فإن معه القرين) قوله: لا تصل إلا إلى سترة، هذا على الصحيح مُدْرَجٌ، وإِنَّما المرفوع قوله: (لا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله، فإِنَّ معه القرين) هذا هو أصل الحديث، الذي اقتصر عليه المخرجون الأُول كمسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، لم يرووا إلا قوله: ( ... فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين) فقوله: لا تصل إلا إلى سترة، هذا مدرج ولو صححه الحاكم وغيره.
والحاصل أن المدرج هو الذي يُجعلُ من ضمن الحديث وليس منه، بل من كلام الراوي، وأنه يتميز بجمع الطرق، ومعرفة أَنه قد صَّرح فيه بأنه ليس من أصل الحديث.
وَما رَوى كلُّ قرينٍ عن أخِهْ ... ... ... مُدبَّج فاعرِفهُ حَقا وانتَخِهْ
الحديث المدبَّج:
قوله: (وما روى كلُّ قرين عن أخه مدبج فاعرفه حقا وانتخه) :(68/61)
وأما (المُدَبَّجُ) : فهو أن يروي الراوي عن زميله، وتسمى رواية الأقران، وهم الذين يشتركون في زمن واحد، وفي أًستاذ واحد ويشتركون في الرواية عن شيخ فيسمون أقراناً، مثل محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، زميلان، فسِنُّهُما متقارب، وهما تلميذان لمحمد ابن جعفر المسمى بغندر، فيُقال فيهما قرينان، فإذا روى محمد ابن بشار، فهذا هو المدبج أي: أن يروي الزميل عن زميله حديثاً، والزميل الثاني يروي عن زميله محمد بن بشار عن محمد بن المثنى ثم روى محمد بن المثنى عنه حديثاً آخر، يعني روى هذا حديثاً وهذا حديثاً، فمثلاً الإمام أحمد زميل ليحيى بن معين، ومع ذلك قد روى يحيى عن أحمد وروى أحمد عن يحيى، حيث وجد أحمد عن يحيى أحاديث ما حصل عليها من مشايخه الذين لقيهم وسافر إليهم ووجد يحيى أحاديث عند أحمد، ولم يدرك مشايخه الذين روى عنهم أو روى عنهم غيرها، فقال يحيى: حدَّثنا أحمد بن حنبل، حدّثنا محمد بن جعفر مثلاً، وقال أحمد: حدّثنا يحيى ابن معين حدّثنا وكيع بن الجراح، فهذا هو المدَبَّجُ.
رواية الأقران:
أما لو روى واحد عن الثاني، ولم يرو الثاني عن الأول، فإنه يسمى أقراناً، فالأقران رواية واحد عن قرينه، فإذا روى كل منهما عن زميله أصبح اسمه مدبجاً، أي أن هذا وجد أحاديث عند شيخ له ما وجدها الآخر عند شيخه.(68/62)
فمثلاً إذا كان عندنا الزميلان (عبد الإله) و (محمد) زميلان في الوقت الواحد، ولكن عبد الإله اتصل بمشايخ حدَّث عنهم وما اتصل بهم محمد، فاحتاج محمد أن يروي تلك الأحاديث عن عبد الإله، فيقول: حدثنا عبد الإله عن شيخه فلان، وعبد الإله وجد أحاديث عند محمد عن مشايخ قد أدركهم، ولكن ما روى عنهم تلك الأحاديث، فاحتاج أن يرويها عنهم بواسطة، فيقول: حدّثني زميلي محمد، عن شيخه فلان، وهو شيخهما، لكن ما استطاع أن يأخذ عنه هذا الحديث، أي أن كليهما قد أخذ عن ذلك الشيخ، ولكن محمد وجد عند ذلك الشيخ أحاديث ما بحث عنها عبد الإله، فلأجل ذلك انفرد بها، ولما سمعها عبد الإله عن زميله قال: فاتتني عن شيخي، فآخذها منك أي آخذها عن شيخي بواسطتك، وكذلك محمد وجد أحاديث عند عبد الإله عن شيخهما أيضاً فقال: فاتتني تلك الأحاديث عن شيخي ما سمعتها منه، لكن آخذها منك وأرويها بواسطة زميلي للحاجة، فينزل درجة، فيقول: حدّثنا عبد الإله عن شيخنا فلان.
مُتَّفقٌ لفْظاً وَخَطًّا مُتفِقْ ... ... ... وَضِدُّهُ فيما ذَكرْنا المفترِقْ
الحديث المتفق والمفترق:
قوله: (متفق لفظاً...................المفترق) :
(المتفق والمفترق والمؤتلف والمختلف) ، هذه مباحث تتعلق بأسماء الرواة، فإذا اتفقت الأسماء واختلف الأشخاص سموه المتفق والمفترق، كما لو اتفق الاسم واسم الأب، واختلف الشخص فمثلاً اثنان في زمن واحد كلاهما اسمه إسحاق بن إبراهيم، متفق في الاسم واسم الأب، مفترق في الشخص، هذا يُقال له ابن نصر وهذا يقال له ابن راهويه، وقد يكون أكثر من اثنين، كثلاثة أو أربعة في زمن واحد، فهنا إسحاق بن إبراهيم بن يزيد، وإسحاق ابن إبراهيم الصواف، وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ، كلهم في زمن متقارب فيقال لهذا متفق الاسم واسم الأب ومفترق في الجد وفي الشخص.
الحديث المؤتلف والمختلف:(68/63)
أما (المؤتلف والمختلف) فهذا مما يحتاج إلى العناية به، وهو ما اتفقت حروفه وافترقت حركاته، فكثيراً ما تتفق الأسماء يعني في الحروف، وتختلف في الحركات، أو تتفق في الحروف وتختلف في النقط والإعجام، وكثيراً ما يحصل فيه التصحيف والتحريف، وكثيراً ما يشتبه محمد بن بشار بمحمد بن سنان ومحمد بن بشار مع كون الباء هنا بعدها معجمة، والياء هناك بعدها مهملة، لكن لكتابتهم باليد يحصل أيضاً الاشتباه، وكثيراً ما يشتبه الاسم بما يقاربه حيث يشتبه شيبان بسنان مع أن بينهما فرقا، ولكن غالبهم لا ينقطون الحروف، فلأجل ذلك يحصل الاشتباه كسليمان بسلمان مع أن بينهما فرقا، ويقع هذا في الأسماء التي يتقارب لفظها وتحتاج إلى ضبط وإلى عناية، وقد ضبطها النووي في مقدمة شرح مسلم، فذكر الأسماء التي تتقارب، وذكر ما يوجد بينهما من الفروق، فأنت إذا قرأت مثلاً هذه الكلمة تعرف أنها كلها تُنطق بكذا إلا هذا الاسم الفلاني، مثلاً غالب الأسماء تتميز إذا كانت أعلاماً وقد يحصل الاشتباه في بعض الأعلام وفي الأنساب فقد يكون الفرق بينهما في النقط كالهمداني، والهمذاني، والدهني والذهبي، فإذا مر بك عمار الذهبي فأصلحه الدهني بالمهملة والنون؛ لأنه خطأ فليس هناك عمار الذهبي في الرواة الأولين، وإنما كتبوه الذهبي لاشتهار نسبة الذهبي، وإلا فالصواب أنه عمار الدهني.(68/64)
والأولون يكتبون الحروف بدون نقط، فيجيء بعض النسَّاخ، -والنساخ قد يكونون من العامة حتى سماهم كثير من الحذاق مُسَّاخاً فيكتبونة فإذا رأوا الدهني نقطوا الدال وجعلوا الدال ذالا وجعلوا النون باء وقد يحصل أيضاً التصحيف حتى بزيادة أو بإسقاط بعض من الحروف، فمثلا رأيت من صحف (الضبي بالضبعي) وبالعكس، فأسقط العين مع السرعة، وكأنها ما اتضحت العين فكتبها الضبي مع أنه الضبعي، فأما الاختلاف في النقط فحدث ولا حرج، مثل جمرة كثيرا ما يكتبونه حمزة، فأبو جمرة الضبعي تلميذ ابن عباس مشهور يكتبونه أبو حمزة؛ لأن كلمة (جمرة) غريبة غير مشهورة، ولما كتبت نقطت الراء فأصبح حمزة.
فهذا النوع يسمى المؤتلف والمختلف يعني بالمؤتلف المتقارب في الرسم، والمختلف في النطق إما بالشكل وإما بالنقط، فالشكل مثل سَلاَم وَسلاّم بتشديد اللام وتخفيفها هذا اختلافه بالشكل، وأما النقط فمثل سنان وشيبان، ومثل سيار ويسار وبشار وما أشبه ذلك، فهذا كله مما يقع فيه التصحيف، فهو يسمى بالمؤتلف يعني بالمؤتلف في الخط المختلف في النطق.
والمنكرُ الفرْدُ به راوٍ غدا ... ... ... تعْدِيلهُ لا يحمِلُ التَّفردَا
الحديث المنكر:
قوله: (والمنكر الفرد به راو غدا تعديله لا يحمل التفردا) :(68/65)
(المنكر) : هو ما رواه راوٍ تفرَّد به، وتفرده لا يحتمل، يقال: هذا حديث منكر، تفرَّد به فلان وتفرده ليس بمقبول، أَما لو تفرَّد به إنسان ثقة عدل كالزهري والشعبي والأَعمش فإنَّه لا يكون منكراً بل يكون مقبولاً، فإذا تفرَّد ليث بن أبي سليم أَو عطاء بن السائب بهذا الحديث مثلاً فإنه يكون منكراً، وقد ذكرنا أن أبا قيس روى عن هزيل، عن المغيرة المسح على الجوربين، وأنه تفرد به، فسمى منكراً، يُقال: إن أبا قيس وهزيلاً لا يحتملان هذا التفرد أي لا يقوى على أن يقبل تفرده دون سائر الرواة الكثيرين، فهذا هو المنكر، وكأننا استنكرنا على هذا الراوي تفرده.
الحديث المعروف:
ويقابله (المعروف) فالمنكر ضده المعروف، وهو رواية من لم يخالف غيره، ولم ينفرد، يقال: المعروف رواية فلان وفلان المرسلة مثلاً، والمنكر رواية فلان المتصلة، وهكذا فعندنا مثلاً حديث: (كل أمر ذي بال لا يُبْدأُ فيه بحمد الله فهو أجذم) هذا رواه قرة ابن عبد الرحمن، عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً، وقرة ضعيف تفرد به، فيُقال: هذا الحديث منكر، تفرد به قرة، وضعفه ظاهر لا يحتمل التفرد، وقد رواه جماعة عن الزهري ولم يذكروا أبا هريرة ولا أبا سلمة بل قالوا: عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، فروايتهم المعروفُ، ورواية قرة المُنْكَرُ، حيث إن هذا هو المعروف الذي تتابع عليه تلامذة الزهري فأرسلوه، وانفرد قرة بن عبد الرحمن فوصله، فيسمى حديثاً منكراً من رواية قرة له، ومرسلاً برواية الآخرين.
متروُكهُ ما واحد به انفرَدْ ... ... ... وأجمَعُوا لِضعْفهِ فهوَ كَرَدِّ
الحديث المتروك:
قوله: (متروكه ما واحد به انفرد وأجمعوا لضعفه فهو كرد)(68/66)
(المتروك) : هو الذي انفرد به راوٍ متهم بالكذب، إذا لم يعثر على كذبه، ولكن تلحقه التهمة، فيأتي بغرائب، وينفرد عن الثقات بما يخالف فيه غيره، فقد يأتي بأحاديث طويلة وهو ليس أهلاً لحفظها، فيُقال: فلان متهم بالكذب، فإذا انفرد بحديث فإنَّه منكر، وروايته تلك تسمى منكرة، والمنكر مردود أي متروك، ويسمى (متروكاً) أي: مشتق من التَّرْكِ، والتَّرْكُ هو عدم القبول، والراوي نفسه يُقال له: متروك، وكذا روايته، ويقال فيه: متروك الحديث، فالمروي متروك، والراوي نفسه متروك يعني متروك التحديث عنه، فمثلاً إذا روى عبد الله بن مُحَرّرٍ أو عباد بن كثير فإنَّ كليهما متهم بالكذب شديد الضعف، فيُقال: عبد الله بن محرَر متروك، يعني اتركوه ولا تحدِّثوا عنه، وإذا رُوِىَ لنا حديث في إسناده عباد بن كثير قلنا هذا الحديث متروك، فيكون الحديث متروكاً لأن في إسناده راوياً متهماً بالكذب ويطلق على مرويه أنه متروك.
الرواية عن المختلط:
وكذا الرواية عن المختلط كعبد الله بن لهيعة فإنَّه ثقة، ولكن عمدته على كتب له كان يحدِّث منها ويحتفظ بها، فلما احترقت صار يحدِّث مما علق بذهنه منها، فلأجل ذلك وقع التخليط في حديثه، فتلامذته الأولون الذين رووا عنه قبل الاختلاط تقبل روايتهم عنه، والتلامذة الآخرون يُرَدُّ حديثهم عنه إذا انفرد به، وكذلك الذين أخذوا عنه قبل الاحتراق وبعده؛ لأنه اختلط حديثهم الأول بالثاني، فهناك أُناس لما رأوا أنه اختلط كفوا عنه، ولم يحدِّثوا عنه فتقبل روايتهم وهناك أناس حدثوا عنه قبل الاختلاط وبعده فاختلط الأول بالآخر فيترك إذا انفرد به، وهناك تلاميذ ما حدَّثوا عنه إلاَّ بعد الاحتراق فيترك إذا انفرد به أيضاً، لكن إذا وجد حديث قد تابعه غيره دلَّ على أن له أصلاً، أما ما انفرد به وكان عن طريق من لم يحدث عنه إلاَّ بعد الاختلاط فلا.
والكذِبُ المختلَقُ المصنُوعُ ... ... ... عَلَى النبي فذلِكَ الموْضوعُ(68/67)
الحديث الموضوع:
قوله: (والكذب المختلق المصنوع على النبي فذلك الموضوع) :
(الموضوع) : هو الذي تَحَقَّقَ أَنه مكذوب، واشتقاقه من بريء منه، ويسمى المختلق، كأن صاحبه هو الذي اختلقه يعني افتراه، ويسمى: المكذوب، فالمكذوب والمفترى والمختلق والموضوع والمصنوع معناها واحد، والوضع في الحديث قد وجد منذ زمن بعيد.
أسباب وضع الأحاديث:
والواضعون للحديث أصناف فهناك أُناس ضَعافُ الدِّين وضعوا أحاديث انتصاراً للمذاهب، كما روي أن رجلاً حنفياً أراد أن يرفع من قدر إمامهم أبي حنيفة، ويضع من قدر الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله فاختلق حديثاً بلفظ: (يكون في أُمتي رجل يقال له محمد بن إدريس، أضر على أُمتي من إبليس، ويكون في أُمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أُمتي) فعرف وضعه بظهور آثار الاختلاق عليه. وذكروا أن رجلاً جاءه ولده يشكو المعلم الذي يعلم القرآن أنه ضربه، فقال: لأفضحنَّ المعلمين اليوم، ثم رَكَّبَ إسناداً له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وافترى حديثاً بلفظ: (مُعلِّمُو صبيانكم شرارُكم أقلهم رحمةً لليتيم، وأغلظهم على المسكين) أو نحوه فاعترافه بأنه سيفضح المعلمين دل على أنه اختلق ذلك وكذب.
وقد يكون مما يدل عليه قرائن الحال، ففي مجلس من المجالس اختلفوا مرة فقال بعضهم: سمع الحسن من أبي هريرة، فأنكره بعضهم، فكان بينهم واحد من الوضَّاعين فَرَكَّبَ له إسناداً وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سمع الحسن من أبي هريرة) ومعروف أن الحسن ما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تكلم في حقه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء، ولكن هذا دليل على الافتراء!(68/68)
وقد يكون بعض من يضع الأحاديث يريد التَّقَرُّبَ بها إلى الملوك، كما ذكروا أن أحد الوضَّاعين دخل على المهدي وإذا المهدي -وهو خليفة- يلعب الحمام، يُطَيِّرُهُ من هنا، ويقع هنا، فيعجبه طيرانه من هنا ومن هنا، فيقول: إذا سبقت الحمامة الفلانية أو التي لونها كذا فَعَلَيَّ كذا، فأراد الوَضَّاعُ أن يفتري حديثا يقوِّي فعل المهدي، فروى حديثاً فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سَبَق إلا في نَصل أو خُفٍ أو حافرٍ أو جناح) فكلمة (جناح) زادها كذباً من قِبَل نفسه، يريد بذلك الجائزة وقد أعطاه عشرة آلاف درهم، فلما خرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب، ثم قال المهدي: أنا الذي حملته على الكذب، ثم أمر بالحمام فذُبح، فهذا كذب للتقرب إلى الملوك، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال (أو جناح) .
وهناك من يكذب احتساباً كما رُوِيَ أن بعض القصاص ونحوهم يضعون على الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضل السنة، وفي فضائل الأعمال، وما أشبهها فقيل لهم: كيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب عليَّ متعمداً فيتبوأ مقعده من النار) فقالوا: نحن ما كذبنا عليه، إنَّما كذبنا له، أي ننصر بذلك سنته، ونجلب الناس إلى شرعه، فنكذب في فضائل الأعمال، لأجل أن نرغب الناس فيها بأحاديث في فضل الصلاة وأحاديث في فضل الجهاد، وأحاديث في فضل الأعمال، وفعل الخيرات وما أشبهها، فيُقال لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عمم في قوله: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهذا آخر الكلام على هذه المنظومة.
والله أعلم وأحكم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(68/69)
الحسد
تقديم فضيلة الشيخ العلامة
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
الحمد لله تعالى على ما أنعم، وله الشكر على ما وفق له وألهم، نحمده سبحانه على ما تفضل به وتكرم، هو ربي لا إله إلا هو، وهو الإله الواحد المعظم، أرسل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهدى الله به من هذه الأمة من أراد به خيراً من جميع الأمم، وحرم الهداية أهل الغي والحسد وحيل بينهم وبين هذا الفضل والكرم.
وبعد:
فهذه رسالة كتبتها في الحسد وآثاره وأضراره وما وقع بسببه من المصائب والشرور والفتن، وسردت بعض الأدلة التي نقلتها عن مؤلفات أهل العلم، كالآداب الكبرى لابن مفلح وتفسير الرازي الكبير ومختصره للقمي، والترغيب والترهيب للمنذري ونحوها، رجاء أن يستفيد منه من قرأه بإنصاف وتمعن، حتى يخف أثر هذا الداء العضال الذي فشا وتمكن حتى في طلبة العلم وحملته، فإن الحسود لا يسود ولا ينال من حسده إلا الهم والغم والنكد والكبد، فمن عرف أن الله تعالى هو المنعم على عباده بما فيه خيرهم وصلاحهم، أو فيه اختبارهم وابتلاؤهم، فلا يجوز له أن يحسدهم على ما أعطاهم الله تعالى وإنما عليه أن يغبطهم إذا أدوا حقوق الله تعالى وعملوا بما يرضيه، ويحرص على أن يحصل على مثل ما حصلوا عليه، فأما السعي في إزالة النعمة وتنغيصها على أهلها فهو من الكبائر، والله المتفضل على عباده، وله الحمد والشكر وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين
21/3/1419هـ
تعريف الحسد وبيان حقيقته
تعريف الحسد:
الحسد لغة: قال في لسان العرب: الحسد معروف، حسده يَحْسِدُه ويَحْسُدُه حسداً وحسَّده إذا تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته أو يسلبهما هو، وقال: الحسد أن يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه.(69/1)
والغَبْطُ: أن يتمنى أن يكون له مثلها ولا يتمنى زوالها عنه (لسان العرب لابن منظور 3/148-149) .
واصطلاحاً: هو تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يَصِرْ للحاسد مثلها. أو تمني عدم حصول النعمة للغير.
حقيقة الحسد:
وحقيقة الحسد أنه ناتج عن الحقد الذي هو من نتائج الغضب.
أدلة إثبات الحسد من القرآن والسنة
أولاً: الأدلة من القرآن:
· قال الله تعالى: ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم)) (البقرة:109) ، وهذا تحذير للمؤمنين عن طريق اليهود الذين يحاولون رد المؤمنين إلى الكفر، يحملهم على ذلك الحسد الدفين في أنفسهم لما جاء هذا النبي من غيرهم، فحسدوا العرب على إيمانهم، وحاولوا أن يردوهم كفاراً ولكن الحق واضح فتمسكوا به.
· وقال تعالى: ((أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)) (النساء:54) . وذلك هو حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم الناس من تصديقهم له حسداً له لكونه من العرب، روى الطبراني عن ابن عباس في قوله ((أم يحسدون الناس)) ، قال: نحن الناس دون الناس. يعني: إننا معشر العرب أو معشر قريش نحن الناس المذكورون في هذه الآية، ولا شك أن هذا ذم لهم على هذه الخصلة، وهي الحسد الذي حملهم على إعمال الحيلة في صد الناس عن الحق المبين.
· وقال تعالى: ((ومن شر حاسد إذا حسد)) (الفلق:5) ، فالحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن أخيه المحسود، ولابد أنه سوف يبذل جهده في إزالتها إن قدر، فهو ذو شر وضرر بمحاولته وسعيه في إيصال الضرر، ومنع الخير.
· وقد حكى الله تعالى أمثلة من الحسد كقصة ابني آدم فإن أحدهما قتل أخاه حسداً لما تقبل قربانه، فأوقعه الحسد في قتل أخيه بغير حق، وكقصة إخوة يوسف في قولهم: ((ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا)) (يوسف:8) . ثم عملوا على التفريق بينه وبين أبيه بما فعلوا.(69/2)
· وكقصة المنافقين في قوله تعالى: ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم)) (آل عمران:120) . وذلك مما يحملهم على إعمال الحيل في إبعاد المؤمنين عن الخيرات.
· وقد قال تعالى: ((ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض)) (النساء:32) . فهذا التمني المنهي عنه قد يكون الدافع له الحسد من المفضول للفاضل، مع أن الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فعلى المفضول أن يطلب الفضل من الله تعالى، ولا ينافس أخاه ويضايقه فيما أعطاه الله وتفضل به عليه.
ثانياً: الأدلة من السنة:
· ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا" الحديث، وهذا النهي للتحريم بلا شك، لما في التحاسد من الأضرار والمفاسد، وقطع الصلات بين المسلمين.
· وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع في قلب بعد الإيمان والحسد".
· وثبت في السنن عن أبي هريرة وأنس قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب".
· وعن ضمرة بن ثعلبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا" رواه الطبراني ورواته ثقات.
· وعن الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" رواه البزار والبيهقي بإسناد جيد.
· وعن أنس قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني إن قدرت على أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل" رواه الترمذي وحسنه.(69/3)
· وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قيل فما المخموم؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد" رواه ابن ماجه بإسناد صحيح.
· وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن لنعم الله أعداء، الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله".
· وفي حديث مرفوع: "ستة يدخلون النار قبل الحساب، ذكر منهم: العلماء بالحسد".
· وقال ابن الزبير: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا، إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟!
· وروي عن الأصمعي أنه قال: الحسد داء منصف، يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود. يعني: أن الحاسد إذا رأى أخاه في نعمة وصحة ورفاهية حسده وقام بقلبه حقد وبغض له، فهو كلما رآه في هذه النعمة اغتاظ لذلك، فيبقى دائماً مهموم القلب حزيناً، يتمنى ما لا يقدر عليه من إزالة تلك النعم، فهو يتقلب على فراشه من الغيظ، مع أن المحسود لا يشعر بألم، بل هو قرير العين مسرور لم يصل إليه في الغالب شيء من الضرر الذي في قلب الحاسد، وإن وصل إليه فإنه لا يتأثر به إلا قليلاً، والله أعلم.
الفرق بين العين والحسد(69/4)
العين هي: النظر إلى الشيء على وجه الإعجاب والإضرار به، وإنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث، فتحدث فيها تلك الكيفية السم، فتؤثر في الملسوع، وربما قويت تلك الكيفية واتقدت في نوع منها، حتى تؤثر بمجرد نظرة، فتطمس البصر، وتسقط الحبل، فإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة، إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، وتوجهت إلى المحسود، فكم من قتيل! وكم من معافى عاد مضني البدن على فراشه! يتحير فيه الأطباء الذين لا يعرفون إلا أمراض الطبائع، فإن هذا المرض من علم الأرواح، فلا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع وعجائبه أبهر، وآياته أعجب، فإن هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح أصبح كالخشبة، أو القطعة من اللحم، فالعين هي هذه الروح التي هي من أمر الله تعالى، ولا يدرك كيفية اتصالها بالمعين، وتأثيرها فيه إلا رب العالمين.
وأما الحسد: فهو خلق ذميم، ومعناه تمني زوال النعمة عن المحسود، والسعي في إضراره حسب الإمكان وهو الخلق الذي ذم الله به اليهود بقوله تعالى: ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم)) (البقرة:109) . أي أنهم يسعون في التشكيك وإيقاع الريب، وإلقاء الشبهات حتى يحصلوا على ما يريدونه من صد المسلمين عن الإسلام، ولا شك أن الحسد داء دفين في النفس، وتأثيره على الحاسد أبلغ من تأثيره على المحسود، حيث إن الحاسد دائماً معذب القلب، كلما رأى المحسود وما هو فيه من النعمة والرفاهية تألم لها، فلذلك يقال:
أصبر على كيد الحسود إن صبرك قاتله
النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله
وقال بعض السلف: الحسد داء منصف، يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود.
الفرق بين العائن والحاسد(69/5)
قال ابن القيم في بدائع الفوائد: العائن والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء، فيشتركان في أن كلاً منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه، فالعائن، تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد: يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره، ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده: من جماد، أو حيوان، أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، فمع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين. ا. هـ.
فالحاصل أن الحاسد هو: الذي يهمه ما يرى في إخوانه المسلمين من النعمة والخير، والصحة والمنزلة الراقية فيحقد عليهم، ويغتم لذلك، ثم يسعى في زوالها، ويبذل ما في وسعه من وشاية وكذب، وافتراء عليه، ويؤلب عليه من له سلطة أو ولاية، حتى تزول تلك النعمة التي يتمتع بها أخوه، وليس هناك دافع له على إزالتها سوى الحقد والبغض، فلا يقر قراره حتى يتلف المال، أو يفتقر الرجل، أو يمرض، أو يحرم من حرفته أو عمله.
أما العائن فهو: إنسان قد تكيفت نفسه بالخبث والشر، فأصبحت تمتد إلى ما يلفت النظر، وترسل إليها ما يحطمها ويغيرها، فيسقط الطائرة من الهواء، ويعطب الوحش البري، بمجرد كلمته ونظرته السامة، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن منهم من تمر به الناقة أو البقرة السمينة فيعينها، ثم يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم، وآتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر.
وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة، لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه. فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها طائفة.(69/6)
وقد حكى بعض الإخوان أن منهم من يريد السفر على الطائرة أو الحافلة فيعينها، فتتوقف حتى يتفرغ فيأتي ويتكلم بما يبطل ما بها فتصلح مع بذل العمال ما يستطيعون في إصلاحها، والحكايات عن أهل العين كثيرة مشهورة.
ومع ذلك قد أنكرها بعض المشايخ الكبار بسبب أنهم لا يعلمون لها سبباً مباشراً، وذلك لجهلهم بتأثير الأرواح وما تختلف به عن الأجساد، كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى في البدائع وغيره.
مراتب الحسد
ذكر ابن سليمان في الموارد أنها خمس:
المرتبة الأولى: أن يتمنى زوال النعمة عن الغير، ويسعى في الوسائل المحرمة لإزالتها بكل ما يستطيع، وهي الغاية في الخبث والنذالة، وهما الغالب في الحساد، خصوصاً المتزاحمين في صفة واحدة، كالتجار والعمال، وأهل الوظائف الحكومية، فمتى ربح أخوه ربحاً كثيراً أو حصل له لذة مما يتمناه، أو حصل على عمل أو منصب أرفع من غيره، فإن الحاسد يعمل في الإساءة إليه، ويسعى في حرمانه، ويلصق به العيوب، ويولد عليه الأكاذيب، ليزيحه عن ذلك العمل، وينصب نفسه مكانه.
المرتبة الثانية: أن يتمنى زوال تلك النعمة، ويحب ذلك، وإن كان لا يريدها لنفسه، ولا يطمع فيها، لكن من باب الحقد على أخيه والبغض له.
المرتبة الثالثة: أن يجد من نفسه الرغبة في زوال النعمة عن المحسود، سواء انتقلت إليه أو إلى غيره، ولكنه لا يعمل شيئاً في إزالتها إلا أنه في جهاد مع نفسه، وكفها عما يؤذي أخاه، خوفاً من الله تعالى، وكراهة لظلم عباد الله، فهذا قد كفي شر غائلة الحسد، ودفع عن نفسه العقوبة الأخروية، ولكن ينبغي له أن يعالج نفسه عن هذا الوباء الذي هو بغض النعمة، ومحبة زوالها عن أخيه المسلم.(69/7)
المرتبة الرابعة: أن يتمنى زوال النعمة عن غيره بغضاً لذلك الشخص، لسبب شرعي، كأن يكون ظالماً يستعين على ظلمه بذلك المنصب، أو ذلك الجاه والمال، فيتمنى زوالها ليريح الناس من شره، وكالفاسق الذي يستعين بالمال أو المنصب على فسقه وفجوره، فتمني زوال ذلك والسعي فيه لا إثم فيه، بل قد يكون مثاباً إذا عمل على إراحة المسلمين من الشر والعسف، والظلم والتجبر الذي يتسلط به ذلك الظالم بسبب منصبه أو جاهه.
المرتبة الخامسة: أن يتمنى لنفسه مثلها، ولا يحب زوالها عن أخيه، ولا يسعى في ذلك، سواء كانت تلك النعمة من مباح متاع الدنيا كالمال والجاه، أو من النعم الدينية كالعلم الشرعي، والعبادة الدينية، وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها"، وهذا لا يسمى حسداً إلا من حيث الظاهر، وإلا فهو غبطة ومنافسة، ومحبة للحصول على الخير الدنيوي، والأجر الأخروي، فهو يحب أن يكون مثل أخيه، ويغبطه بذلك، وله مثل أجره على حسن نيته وقصده.
أسباب الحسد ودوافعه
يمكن أن نلخص ذلك في سبعة أسباب:
أولها: العداوة والبغضاء، فمن آذاه إنسان وأوصل إليه ضرراً، فلا بد أن يبغضه، ويغضب عليه، ويتولد من ذلك الحقد المقتضي للتشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، قال تعالى: ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)) (آل عمران:120) . وربما أفضى هذا الحسد إلى التقاتل والتنازع.
ثانيها: التعزز، فإنَّ واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً، يترفع به عليه، وهو لا يمكنه تحمل ذلك، أراد زوال ذلك المنصب عنه، وليس غرضه التكبر، بل يريد أن يدفع كبره، فإنه قد رضي بمساواته.(69/8)
ثالثها: أن يكون من طبعه أن يستخدم غيره، فيريد زوال النعمة من ذلك الغير، ليقدر على ذلك الغرض، ليكون تابعاً له، ومنه قوله تعالى عن المشركين: ((وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)) (الزخرف:31) . يعني أنهم يتكبرون عن أن يكونوا تابعين، بدل ما كانوا متبوعين، وقال تعالى: ((أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)) (الأنعام:53) . كأنهم احتقروا المسلمين الذين كانوا أتباعاً فاستقلوا عنهم.
ورابعها: التعجب من أن يفضلهم رجل من أمثالهم، كما في قوله تعالى: ((أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم)) (الأعراف:63) . فكأنهم عجبوا من رجل مماثل لهم، ينزل عليه الوحي دونهم، فلذلك حسدوه.
وخامسها: الخوف من فوات المقاصد، وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد كتحاسد الضرائر على مقاصد الزوجية، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين، وتحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة وفي ذلك قال الشاعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً إنه لدميم
وسادسها: حب الرئاسة، كمن يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك، وأحب موته، فإن الكمال محبوب لذاته وهذا المحبوب مكروه، ومن أنواع الكمال التفرد به، لكن هذا ممتنع إلا لله تعالى، ومن طمع في المحال خاب وخسر.
وسابعها: شح النفس بالخير على عباد الله، فإنك تجد من لا يشتغل برئاسة ولا تكبر، ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك، وإذا وصف اضطراب الناس وإدبارهم فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه، وهذا ليس له سبق ظاهر سوى خبث النفس، كما قيل: البخيل من بخل بمال غيره.
أثر الحسد على المجتمع(69/9)
لقد أمر الله تعالى بالاستعاذة من شر الحاسد، في قوله: ((ومن شر حاسد إذا حسد)) (الفلق:5) ، وهذا دليل على أن له شر وفيه ضرر، ولا يتحصن منه إلا بالاستعاذة بالله تعالى حيث إن الحسد من أعظم الأمراض الفتاكة بالمجتمع، فهو يجبر صاحبه على أصعب الأمور، ويبعده عن التقوى، فيضيق صدر الحسود، ويتفطر قلبه إذا رأى نعمة الله على أخيه المسلم، ولقد كثر الحسد بين الأقران والإخوان والجيران، وكان من آثار ذلك التقاطع والتهاجر، والبغضاء والعداوة، فأصبح كل من الأخوين أو المتجاورين يتتبع العثرات، ويفشي أسرار أخيه، ويحرص على الإضرار به، والوشاية به عند من يضره أو يكيد له، ولا شك أن ذلك من أعظم المفاسد في المجتمعات الإسلامية، فإن الواجب على المسلمين أن يتحابوا ويتقاربوا ويتعاونوا على الخير والبر والتقوى، وأن يكونوا يداً واحدة على أعدائهم من الكفار والمنافقين، فمتى أوقع الشيطان بينهم العداوة والبغضاء، وتمكنت من قلوبهم الأحقاد والضغائن، حصل التفرق والتقاطع، وصار كل فرد يلتمس من أخيه عثرة أو ذلة فيفشيها، ويعيبه بها، ويكتم ما فيه من الخير، ويسيء سمعته، ويجعل من الحبة قبة، ويقوم الثاني بمثل ذلك وكل منهما يوهم أن الصواب معه، وأن صاحبه بعيد عن الصواب، ثم إن كلا منهما يحرص على الإضرار بالآخر ويعمل على حرمانه من الخير، فيصرف عنه المنفعة العاجلة ويحول بينه وبين المصالح المطلوبة، من فائدة مالية، أو حرفة أو أرباح أو معاملات مفيدة، ونحو ذلك، ولا شك أن هذا يضر المجتمعات ويقضي على المصالح، ويتمكن الأعداء من المنافع ومن استغلال الفوائد، وبتمكنهم يضعف المسلمون المخلصون، ولا ينالون مطلوبهم من ولاية أو رئاسة، أو شرف أو منفعة، وسبب ذلك هذه المنافسات التي تمكنت من النفوس، حتى حرموا إخوانهم وأنفسهم من الخير، وسلطوا عليهم أعداءهم. أفلا يرعوي المؤمن، ويعرف مصلحته ويحب الخير(69/10)
لإخوانه، ويوصل إليهم ما يستطيع، حتى يعم الأمن ويصلح أمر الدين والدنيا والآخرة، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
كيفية علاج الحسد
يمكن أن يلخص علاجه في أمرين: العلم والعمل:
أما العلم: ففيه مقامان: إجمال، وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره.
وتفصيل: وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان، حيث كره حكم الله وقسمته في عباده، فهو غش للإخوان، وعذاب أليم، وحزن مقيم، ومورث للوسواس، ومكدر للحواس، ولا ضرر على المحسود في دنياه، لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، ولا في دينه، بل ينتفع به، لأنه مظلوم من جهتك، فيثيبه الله على ذلك، وقد ينتفع في دنياه أيضاً من جهة أنك عدوه، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك، إلى أن يقضي بك إلى الدنف والتلف، قال الشاعر:
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله
النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله
وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من الله تعالى بمزيد الفضائل، قال الشاعر:
لا مات أعداؤك بل خلدوا وحتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة فإنما الكامل من يحسد
والحاسد مذموم بين الخلائق، ملعون عند الخالق، مشكور عند إبليس وأصدقائه، مدحور عند الخالق وأوليائه، فهل هو إلا كمن رمى حجراً إلى عدو ليصيب به مقتله، فرجع حجره إليه فقلع حدقته اليمنى، فغضب فرماه ثانياً فرجع ففقأ عينه الأخرى، فازداد غيظه فرماه ثالثاً فرجع إلى نفسه فشدخ رأسه، وعدوه سالم، وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون: ((ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)) (طه:127) .(69/11)
وأما العمل: فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له، وإن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه، حتى يصير المحسود محبوباً محباً له، على حد قوله تعالى: ((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)) (فصلت:34) . فذلك التكلف يصير في النهاية طبعاً.
وقد ذكر ابن القيم أن شر الحاسد يندفع عن المحسود بعشرة أسباب:
أحدها: التعوذ بالله من شره، والتحصن به واللجوء إليه.
الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله حفظه ولم يكله إلى غيره.
الثالث: الصبر على عدوه، فلا يقاتله ولا يشتكيه، ولا يحدث نفسه بأذاه، فما نصر على حاسده بمثل الصبر، والتوكل على الله، ولا يستطيل الإمهال له، وتأخير الانتقام منه.
الرابع: التوكل على الله، فمن توكل على الله فهو حسبه، فالتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فمن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره.
الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به، والفكر فيه، فيمحوه من باله، ولا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يشغل قلبه بالفكر فيه، فمتى صان روحه عن الفكر فيه، والتعلق به، فإن خطر بباله بادله إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفع له، بقي الحاسد يأكل بعضه بعضاً.
السادس: الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها، بحيث تبقى خواطره وهواجسه كلها في محاب الله، والتقرب إليه، فيشغل بذلك عن الحاسد وحسده، ويكون قلبه معموراً بذكر ربه والثناء عليه، غير متشاغل بغيره.(69/12)
السابع: تحريه التوبة من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فما سلط على العبد أحد إلا بذنبه، فعليه المبادرة إلى التوبة والاستغفار، فما نزل بالعبد بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
الثامن: الصدقة والإحسان مهما أمكن فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء، وشر الحاسد، فلا يكاد الأذى والحسد يتسلط على متصدق، فإن أصابه شيء كان معاملاً باللطف والمعونة والتأييد.
التاسع: إطفاء نار الحاسد والباغي والظالم بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذاه وشره وبغيه، ازددت إليه إحساناً وله نصيحة، وعليه شفقة لقوله تعالى: ((ادفع بالتي هي أحسن السيئة)) (المؤمنون:96) .
العاشر: تجريد التوحيد لله تعالى، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأنها بيد الله تعالى، فهو الذي يعرفها عنه وحده إلى آخر كلامه، وقد لخصت هذا من كلامه على آخر سورة الفلق في بدائع الفوائد فليراجع.(69/13)
اثر الذنوب والمعاصي
لها أثر كبير في حدوث الأضرار والشرور والعقوبات السماوية ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة وقد قال تعالى: ((وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)) والمصيبة يدخل فيها المصائب البدنية كالأمراض والعاهات والحوادث السيئة والموت والفتن وتسليط الأعداء كما في الأثر القدسي "إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني" كما يدخل في المصيبة العقوبات السماوية كالقحط والجدب وغور المياه ويبس الأشجار وقلة الثمار أو فسادها ومثل الغرق والصواعق والرجفة والآفات السماوية كعقوبة قوم هود بالريح العقم وقوم صالح بالصيحة الطاغية وقوم نوح بالغرق وفرعون وقومه بالغرق ونحوهم ومن آثار الذنوب أيضاً قسوة القلوب وعدم تأثرها بالمواعظ والآيات والأدلة والتخويف والتحذير والإنذار بحيث تسمع ولا تفقه ولا تقبل وتزل عنها الموعظة وهي في غفلة ولأجل مناعة الذنوب عظمت عقوبتها في الدنيا بالقتل للمرتد والزاني المحصن والقطع للسارق وقاطع الطريق والحبس للمحاربين والجلد لأهل المسكرات ونحو ذلك تفادياً للآثار السيئة التي يعم ضررها للمجتمعات حيث أن المعصية إذا أعلنت تعدت عقوبتها لقوله تعالى ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)) أي أنها تعم العاصي وغيرها وكذا في الحديث أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه وقد عدد ابن القيم عقوبات الذنوب في الجواب الكافي إلى نحو الخمسين فليراجع.(70/1)
الشيشان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد ...
فلا يخفى ما وقع هذه الأيام القريبة على جمهوريتي الشيشان وداغستان من الاعتداء الشيوعي وما حصل من آثاره من قتل وتشريد وهدم وأضرار فادحة نتج من آثارها موت وإتلاف للممتلكات بسبب كونهم مسلمين مؤمنين بالله تعالى، وهذه الاعتداءات تسود كل مسلم ويحزن لها كل مؤمن وذلك مما يوجب على أهل الإسلام الاهتمام بأمر إخوانهم المسلمين والحرص على تخفيف آلامهم وجبر مصابهم، فقد ورد في الحديث "أن المؤمنين يد واحدة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم" ومعنى كونهم يداً واحدة أن الإسلام يجمعهم وبذلك يساعد بعضهم بعضاً ويتعاونون على ما يكون سبباً في نصرهم وتقويتهم ورد كيد أعدائهم، وقد أمر الله تعالى بنصر المؤمنين في كل مكان كما في قوله تعالى: ((وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)) وأخبر بتولي المؤمنين لإخوانهم فقال تعالى: ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)) ، ولا شك أن هذه الولاية يكون من آثارها التناصر والتعاون وبذل كل المستطاع في نصر الإسلام وأهله وإعلاء كلمة الله وهذا دأب المسلمين في كل زمان ومكان لما بينهم من الأخوة الإيمانية التي تقتضي المحبة والشفقة حتى مثلهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجسد الواحد في قوله ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاظفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وفي رواية (إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله) ، فالمؤمنون في كل مكان يعين بعضهم بعضاً ويقوي بعضهم بعضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه، ومن هذه الأدلة يجب على المسلمين أولاً:- الدعاء لإخوانهم في تلك البلاد بالنصر والتمكين والتأييد ورد كيد الكائدين، ويجب ثانياً:- إمدادهم بالأسلحة والقوة الحسية التي يكافحون بها ويقاتلون من قاتلهم،(71/1)
ويجب ثالثاً:- تقويتهم مالأموال فهم بأمس الحاجة إلى القوت والغذاء والكسوة وكل ما يتقوون به ويدفعون به آلام الجهد والضرر ويعالجون من أصيب منهم بجراح أو آلام، ولا شك أن الجهاد بالمال مما يثاب عليه وقد قدمه الله على الجهاد بالنفس في آيات كثيرة، كقوله تعالى ((انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله)) وقوله تعالى: ((تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم)) وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم" وفي الحديث الآخر "من جهز غازياً فقد غزى" فعلى المسلمين أن يهتموا بأمر إخوانهم فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم؛ نسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته وينصر المجاهدين في كل مكان ويثبت أقدامهم ويسدد سهامهم ويكبت الأعداء ويرد كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصبحه وسلم.(71/2)
اللهو والأغاني
وردت أدلة في تحريم اللهو والاغاني سواء بالآلات كالعودة والطنبور والرباب والطبل والزير والدفوف أو بغيرها وساء كان معه رقص وتمايل وتشبيب أو لم يكن معه لعموم الأدلة قال تعالى: ((وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامرون)) والسمور هو الغناء الذي يسبب الغفلة ويشبه السكر ويبعث على الأمور المحرمة كالزنا ومقدماته وفعل الفواحش وقد ورد في تفسير قول الله تعالى خطاب الأبليس ((واستفزز من استطعت منهم بصوتك)) أن صوته هو الغناء والطرب وقال الله تعالى: ((ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم)) قال ابن مسعود رضي الله عنه: "والله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء" بمعنى لهو الحديث وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع وثبت أن عائشة أدخلت جاريتين صغيرتين في يوم عيد تغنيان بشيء من شعر العرب وليستا بمغنتين فدخل أبو بكر رضي الله عنه فقال: "أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على تسمية الغناء مذمار الشيطان فننصح المسلم ذكر أو أنثى أن يبتعد عن سماع الغناء واللهو المحرم سواء من أشرطة أو أفلام أو من المغني نفسه وأن يعتاض بذلك سماع القرآن والذكر والعلم المفيد والله أعلم.(72/1)
بيع الدخان
لا شك أن الدخان محرم وشربه وإنتاجه وكذا الجراك وأجهزته ذلك لأنه يضر بالبدن والصحة وأضراره كثيرة ولذلك يحذر منه الأطباء والمعتبرون وكذا يمنع إظهاره في الدول الكبرى كأمريكا وبريطانيا ويمنع شربه في الحافلات والطائرات اعترافاً منهم بضرره صحياً رغم ما يحصل للشركات المنتجة من الأرباح الكثيرة وحيث أنه محرم فإن ربحه حرام والله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه فننصح المسلم أن يبتعد عن بيعه ولو كان في ربح كثير ولو كان جالباً للزبائن أي المتعاملين معه بالشراء فإن بيعه غش للمسلمين وترويج للمحرم وقد قال الله تعالى ((ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)) فننصح كل مسلم أن يصون كسبه عن الحرام وننصح الجمهور أن لا يتعاملوا مع البائعين للدخان والجراك ونحوه فإن ذلك من إعانتهم على فعل المنكر وترويجه وأن يذهبوا إلى من لا يبيع شيئاً من ذلك ولو كان بعيداً ليشجعوا أهل الكسب الحلال وهكذا لا يجوز بيع المجلات الهابطة التي تحمل الصور الخليعة الفاتنة فإنها تدعوا إلى الفتنة وفعل الفواحش ولا فائدسة فيها خالصة وما فيها من مقالات وأخبار قد يوجد خير منه في غيرها فليحذر المسلم من يشر الرذيلة وأسبابها والله هو الرازق ذو القوة المتين، والله أعلم.(73/1)
صلة الأرحام
السؤال الأول:-
من هم الأرحام الذين تجب صلتهم؟ وما هي حدود الصلة؟
السؤال الثاني:-
تقيم بعض الأسر لقاءات شهرية أو سنوية للرجال هل الحضور فيها من صلة الرحم؟
السؤال الثالث:-
من المعلوم أن من ذوي الأرحام الذين تجب صلتهم بعض النساء اللاتي ليسوا من محارم الرجل كبنت العم والعمة والخال والخالة وغيرهم فكيف تكون صلتهم؟
الجواب الأول:-
قال تعالى: ((وأولا الأرحام بعضهم أولى ببعض)) وهم القرابة من جهة الأب والأم كالأبوين والأجداد والجدات وأن علوا والأولاد ذكوراً وأناثاً وأولادهم وإن نزلوا وأولاد الأب ذكوراً وأناثاً وهم الأخوة والأخوات من الأب وأولادهم وإن نزلوا ذكوراً وأناثاً وأولاد الأم وهم الأخوة والأخوات من الأم وأولادهم ذكوراً وأناثاً إن نزلوا وأولاد الجد وهم الأعمام والعمات وأولادهم وإن نزلوا وأولاد جد الأب وهم أعمام الأب وإن علوا وأولادهم وإن نزلوا وكذا من يدلي بالأم كالأخوات والخالات وأولادهم ذكوراً وأناثاً ولا شك أنهم يتفاتون في الأحقية فالكبير له حق القرابة وحق الطعن في السن والصغير له حق التعليم والتأديب وعليه حق لمن هو أكبر منه في الأحترام والتوقير وتحصل الصلة بالزيارة والاستزارة وإجابة الدعوة وبالمؤانسة والمحادثة والمكالمة والمكاتبة والهدية والتقبل وإظهار الفرح بالزيارة والأعتذار وقبول الأعذار عن التأخر والأبتعاد وتكون الصلة بحسب العادة وتختلف بأختلاف البلاد وكثرة الأعمال وتباعد المساكن ونحوها.
الجواب الثاني:-(74/1)
نعم هذه اللقاءات والاجتماعات من صلة الرحم فمن لا عذر له ولا يوجد ما يشغله فعليه حضور هذه الاجتماعات متى كان القصد منها التعارف والتقارب والتواصل وإظهار الحب والوداد واشتملت على نصايح وعظات وعلوم نافعة وعلى ذكر وشكر الله تعالى على نعمة الإسلام والأمن والخير والعيش الرغيد وعلى البحث في المشاكل العائلية وتفقه أحوال الأقارب وعلى كلام معتاد لا محذور فيه وسلمت من غيبة ونميمة ومن لهو وسهو ومن آلا غناء أو طرب ولم يكن فيهم من يظهر معصية كشرب دخان أو جراك أو مسكر أو نحوها فمتى سلمت تلك الأجتماع من مثل هذه المحرمات والمكروهات فلا أرى التأخر عنها.
الجواب الثالث:-
لا شك أن القرابة من النساء المحارم حق الزيارة والسمات عليهن لا سيما مع كبر السن وقوة القرابة من الصغار فلهن حق لها جوا لها نوقت فإن المرأة تمنعها أن ظنها من كثرة التجول من الدخول على الرجال فلذلك لهن حق على القريب ولو أكبر منهن فإن تيسر لهن الابتداء واللازام فهو أولى لمن هو أكبر سن كالعم والخال والأب والأخ الكبير ونحوهم. فأما القريبات من غير المحارم فحقهن يكون في المناسبات بالسلام عليهن من راء حجاب سيماء مع كبر السن وصدق الأخوة وقدم الصحية ولا يلزم الزيارة الشهرية ولا الأسبوعية لمثل هؤلاء ولا بأس المكالمات الهاتفية التي تشمل على سلام وتحيات وتجديد عهد ونحو ذلك.(74/2)
الألفية
لا يجوزالاحتفال بأعياد الكفار ولو على وجه المجاملة لأنها أعياد مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فلا أصل لها في الكتب السماوية ولا في الشرائع الإلهية، وإنما هي من محدثات النصارى الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
ولا شك أن مشاركتهم في هذا الاحتفال أو في غيره من أعيادهم يُعتبر ذلك إقراراً لهذه المحدثات وتعظيماً لهؤلاء المبتدعة، فعلى هذا يحرم على المسلمين تعظيم هذه الأعياد وتهنئه أهلها وإظهار شيء من الفرح والسرور بها مما يُعد إقرار لتلك البدع، بل المسلمون يعتبرونها كسائر أيام السنة وإنما يحتفلون بالأعياد الشرعية الإسلامية وبما شُرع فيها من الصلاة والعبادات. والله أعلم.(75/1)
المدير والمدرس(76/1)
السؤال:-
ما هي نصيحة فضيلتكم لمديرات المدارس والمدرسات؟
الجواب:-
ننصح كل مدير أو مدرس ذكر أو أنثى بالحرص على أداء الأمانة والأخلاص في أداء العمل الوظيفي الذي التزم به وعليه أن يحرص على الحضور أو الوقت ويستمر إلى آخر لينجز عمله كما ينبغي وعليه أن يستعد لألقاء الدرس كامل ويحضر له ويتصور الموضوع كاملاً قبل أن يبدأ في الإلقاء وذلك حتى تبدأ الزمن فإن القصد هو إيصال المعلومات إلى الطلاب والطالبات وإفهامهم الدروس وحصول الفائدة المطلوبة ثم على المدرس والمدير أن يكون قدوة حسنة في أفعاله وأقواله فيظهر بالمظهر الحسن في لباسه والمرأة تتستر وتلبس اللباس الواسع الذي لا يبين تفاصيل البدن وعليهم أن يعودوا أنفسهم على الكلام الطيب والقول الحسن والبعد عن السباب والشتم والعيب والثلب والتأنيب لمن لا يستحق ذلك فإن الجميع يقتدى بهم أقوالهم وأفعالهم، والله أعلم.(76/2)
مشاهدة مباريات كرة القدم في رمضان
إعلم أن أيام رمضان غرة في وجه العام فهي أفضل الأزمنة وأجدرها بالاغتنام والأحتفاظ عن الإضاعة وأولها أن تستغل في العمل الصالح الذي يعود على الإنسان بالأجر الكبير حيث أن رمضان موسم من مواسم الآخرة يجب أن تشغله في القراءة والذكر والدعاء والعمل الصالح ولهذا كان العلماء والأئمة من صدر هذه الأمة إذا دخل رمضان تخلوا من التعليم والتحديث وتفرغوا للقرآن تعلماً وتدبراً وتلاوةً فإن رمضان له خصوصية بالقرآن لقول الله تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)) فننصحك بتركك للملاهي والألعاب والمباريات والمسلسلات وما يعرف في الشاشات مما يعوقك عن القرآن ويفوتك الخير الكثير في رمضان ثم أنك لست مضطر إلى المحادثات ولا إلى الكلام المكروه ولا إلى الغيبة والنميمة فمتى رأيت أهل مجلس لهو فأنصحههم وإلا فأتركهم وتكذر قول الله تعالى: ((والذين هم عن اللغو معرضون)) وبذلك تكسب وقتك وتسلم من إضاعته.(77/1)
القنوات الفضائية(78/1)
السؤال:-
ما حكم مشاهدة القنوات الفضائية؟ وما هي نصيحتكم لإولياء الأمور الذين قاموا بإدخال جهاز الإستقبال ((الدش)) لأبنائهم؟!
الجواب:-
هذه القنوات الفضائية عما يبثه أعداء المسلمين أو ضعفاء الإيمان يرسلونها نحو أهل الإيمان والدين الصحيح ليزعموا العقيدة ويشككوا في الدين الصحيح ويثيروا الشبهات بما يبثون من الشبه التي يروجونها بين أبناء المسلمين وكذا تحتوي هذه القنوات على ما يدفع إلى الفتنة ويدعوا إلى أقتراف المحرمات من الزنا والولاط والسرقة والقتل والحيل الباطلة التي يحكوها أولئك المذيعون فلا جرم رأينا وسمعنا الكثير من الجرائم والأفعال الشنيعة التي تقع في المنازل التي تحتوي على أجهزة الأستقبال لهذه القنوات فننصح الملسلم الغيور على محارمه وأولاده أن يبعدهم عن تلقي هذه التصاوير والتماثيل التي تزرع الشر في النفوس وتثير الغرائز إلى أرتكاب المحرمات وإلا فسوف يعض الظالم على يديه ويتمنى إن أبتعد عن هذه الأجهزة فعليه المبادرة وإبعادها قبل أن تستفحل الشرور وتتمكن في النفوس والله المستعان.(78/2)
جهل الإنسان
إن الإنسان يولد جاهلاً ويرزقه الله سمعاً وبصراً وعقلاً ويكلفه أن يتعلم حتى يزيل الجهل الذي هو وصف له ذاتي، وليس عليه أن يحيط بكل المعلومات ويقرأ كل الفنون وإنما عليه أن يبدأ بالأهم فالأهم ويتعلم ما ينفعه سواء في المدارس والجامعات أو في الحلقات والمحاضرات والندوات أو من الكتب والرسائل أو من الأشرطة والإذاعات وعليه أن يأتي الأمور من مبادئها فيهتم بالعقيدة والتوحيد ويحفظ بعض المتون في ذلك ويقرأ شروحها وكذا يقرأ في النحو والصرف واللغة ما يقيم لسانه ويفهم معه كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم وبحفظ المتون المختصرة في ذلك ويقرأ شروحها حتى يفهمها وكذا يقرأ في كتب العبادات والمعاملات التي هو بحاجة إلى العمل بها في حياتها فإنه مكلف بالطهارة والصلاة والزكاة الخ ويحتاج إلى بيع ونحو ذلك مما هو مضطر إليه وعليه أن يتعلم من ذلك ما تمس إليه الحاجة من البيوع المحرمة حتى يتجنبها وحتى يستفاد من علمه فيها وهكذا بقية العلوم الحكمية في كتب الفقه والحديث وعليه أن يحفظ من المتون أقربها تناولاً وأمهلها فهماه وهكذا يتزود من علوم الآداب والأخلاق واليقرأ في كتب السيرة والتاريخ للعبرة والأتعاظ ونحو ذلك.(79/1)
فأما حديث جابر فهو صحيح وهو حجة في طلب العلم فإن الصلاة المكتوبة وصوم رمضان تحتاج إلى تعلم الكيفية وما تتم به الصلاة وما يشترط لها وما يبطلها وما يلحق بها عن السنن والندويات والمكملات وهكذا قوله وأحللت الحلال وحرمت الحرام وهو بحاجة إلى تعلم الكسب الحلال وما يترتب عليه وما يكره فيه وتعلم الحرام وأسبابه وأمثلته ولها شك أن ذلك يحتاج إلى وقت طويل في التعلم من أفواه المشايخ ومن يعلمون الكتب ولا يحصل ذلك بمجرد الفهم والألقاء في الروع. أما قوله: ثم ماذا بعد القراءة ثم ماذا بعد البحث الخ نقول أن القراءة تفيد العلم ويحصل بعدها فوائد جمة ثابتة تؤيد في المعلومات ولا شك أن البحث في الكتب عن المسألة وتتبع مواضعها يفهم منه معرفة حكمها وكلام العلماء وفيها حتى إذا جرت على الإنسان عرف كيف يتخلص منها ولا شك أن تقييد الفوائد سبب في مراجعتها وبقائها في الذاكرة والعلم بما تحويه وكذا يقال في حضور الدروس في المدارس والحلقات حيث يحصل للدراس مسائل يتزود منها خير أو تزيد معلومات يومياً أو أسبوعياً بما لا يحصل للمتخلف والمشغول بحاجة نفسه ولا شك أن الكتب العلمية التي تعب العلماء في جمعها وتنقيحها وتحريرها وبذلوا فيها جهدهم يحصل بها فوائد جمة لمن قصد الأستفادة وأعطاها حقها من القراءة والمطالعة. وأما تحضير المواضيع فيحتاج إليه من بعد بحثاً خاصاً أو يلقى درساً أو محاضرة فهو يحضر بأن يقرأ ويطالع المراجع حتى يتأكد عند الألقاء من صحة ما ألقاه وجواب ما يسأل عنه وحفظ المتون ففائدة كبيرة حيث أن يستحضر الجواب من ذلك المتن عند البحث فيه أو العمل بمسألة فيعرف الحكم ويتذكر نص العلماء على ذلك من حفظه. فأما الإعجاب على قراءة كتب الزهد والترغيب والترهيب فهو مفيد في بعض الأ؛ وال لكن لابد قبله من معرفة الأحكام والواجبات والمحرمات وأمور العقائد ونحوها حتى يكون الإنسان على بعيدة من أمره، والله أعلم(79/2)
أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم
يراد بالضعف هنا ضعف الإيمان وضعف التمسك بالدين والاقتناع من غالب المسلمين بمجرد الانتماء إلى الإسلام دون التحقيق بتعاليمه ولا شك أن لذلك أسباباً عديدية أشدها كثرة الدعاة إلى الفساد والمنكرات والمعاصي بالقول والفعل من أناس ثقلت عليهم الطاعات ومالت نفوسهم إلى الشهوات المحرمة كالزنا وشرب الخمر وسماع الأغاني ونحو ذلك فقاموا بالدعوة إلى الاختلاط وزينوا للمرأة التبرج والسفور وجعلوا ذلك من حقها ودعوا إلى إعطائها الحرية والتصرف في نفسها فجعلوا لها أن تمكن من نفسها برضاها ولو غضب أبوها أو زوجها فلا حد عليها ولا على من زنا بها برضاها وعند الانهماك في هذه الشهوات ثقلت عليهم الصلوات وتخلفوا عن الجمع والجماعات ومنعوا الواجبات وتعاطوا المسكرات والمخدرات مما كان سبباً لضعف الإيمان في قلوبهم وهكذا من أسباب ضعف الأمة الإسلامية كثرة الفتن والمغريات حيث توفرت أفلام الجنس وأصوات المغنين والفنانين والفنانات وصور النساء العاريات أو شبه العراة ولك ذلك سبب الانهماك في هذه المحرمات فضعف الإيمان في القلوب وهكذا من أسباب ضعف الأمة الإسلامية انفتاح الدنيا على أغلب الناس وانشغالهم بجمع الحطام الفاني والإعراض عن العلم والعمل والسعي وراء جمع المال وتنمية التجارات والمكاسب فكان سبباً لنسيان حق الله تعالى وتقديم الشهوات وما تتمناه النفس مع توفر الأسباب والتمكن من الحصول عليها، ومن الأسباب أيضاً ضعف الدعاة إلى الإسلام الحقيقي وقلة ما معهم من العلم الصحيح ورضاهم بأقل عمل مع مشاهدة كثرة الفساد وتمكن المعاصي وكثرة من يتعاطى على مرأى ومسمع من الجماهير ولا شك أن الأمة متى ضعف فيها جانب الإيمان والعمل الصالح وفسدت فطرها وانهمكت في الملاهي والشهوات وأعرضت عن الآخرة فإنها تضعف حسياً ويقوى الأعداء من كل جانب ويسيطرون على ما يليهم من بلاد المسلمين ولا يكون مع المسلمين قوة حسية ولا(80/1)
معنوية تقاوم قوة الأمم الكافرة وذلك ما حصل في كثير من البلاد الإسلامية التي تسلط عليهم الأعداء يسومونهم سوء العذاب وتسلط عليهم ولاة السوء وأذلوهم وقهروهم حتى يرجعوا عن دينهم والله المستعان.(80/2)
العلم
فضله وآدابه ووسائله
لفضيلة الشيخ العلامة / عبد الله الجبرين
أعده للنشر
د. طارق بن محمد الخويطر
تقديم
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد:
فقد أذنت للشيخ الدكتور طارق بن محمد بن عبد الله الخويطر قي طبع الرسالة التي في فضل العلم وطلبه بعد أن فرغها من الأشرطة وبعد أن عرضها علي وقمت بتصحيحها حسب ما يناسبها.. ووكلته في الإشراف على الطبع والتصحيح والإخراج وكل ما يستلزم نشرها، فهو محل ثقة وأمانة ونصيحة، وفقه الله تعالى لرضاه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولا: ما المراد بالعلم
ثانيا: أهمية العلم الذي يحتاج إلى تعلمه
ثالثا: كيفية التعلم
نقول إن المراد بالعلم، هو العلم الشرعي الذي أخذ من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم في نونيته:
العلم قال الله قال رسوله ******** قال الصحابة هم أولو العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة **** بين النصوص ويبن رأي فلان
هذا حقيقة العلم، وذلك لأن القرآن الذي نحن نهتم به ونقرأه ونتلوه ونتعلمه هو منبع العلوم وأصلها، ولأجل ذلك يؤمر الذين يتعلمونه ويحفظونه أن يتعلموا معانيه كما يتعلمون ألفاظه، وقد ثبت أن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا فعلمنا العلم والعمل (2) .
__________
(1) أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين في معهد القرآن الكريم بالحرس الوطني.
(2) رواه أحمد 5/410، وابن أبي شيبة 10/460، وابن جرير الطبري 1/60.(81/1)
لا شك أن القرآن فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، فهو الفصل ليس بالهزل.. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
ذكر الله تعالى أن الجن لما استمعوه {فقالوا إنا سمعنا قرانا عجبا @ يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} [الجن: 1-2] .. فما فيه كله رشد وكله هدى، وقد تكفل الله تعالى بحفظه، قال الله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] ، هكذا أخبر سبحانه أنه تولى حفظه.
كذلك أيضا قد تولى الصحابة رضي الله عنهم بيان معانيه، تولوا تفسيره وبيان ما فيه من المعاني، ثم يسر الله من العلماء من فسروا ألفاظه، وفسروا معانيه، وبينوا ما يستنبط منه من الأحكام، فما بقي لأحد عذر في أن يجهل معاني القرآن.
لا شك أن القرآن قد تناوله بعض المحرفين من المعتزلة والمبتدعة، وحرفوا الكلم فيه، ولكن صانه الله تعالى وحماه عن أن يحرفوا ألفاظه، وإنما فسروا معانيه بتفاسير بعيدة، فيسر الله من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة من فسره التفسير الصحيح، فلذلك نقول: إن على طالب العلم أن يقتصر على التفاسير التي اعتنت ببيان ألفاظه واقتصرت على القول الصحيح، مثل تفسير ابن جرير الطبري رحمه الله، وتفسير ابن أبي حاتم، وتفسير البغوي، وابن كثير رحمهم الله.. هؤلاء من علماء أهل السنة، وكذلك من المتأخرين مثل تفسير ابن سعدي وتفسير الجزائري، أما أكثر التفاسير فإن فيها ضلالات وتحريفات، فيقتصر المسلم على تفسير يكون موثوقا.(81/2)
أما بالنسبة إلى السنة، فإن السنة - التي هي الأحاديث النبوية - تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين هذا القرآن، فقال له: {وأنزل إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] ، وقد بينه صلى الله عليه وسلم بأقواله وبأفعاله، وكذلك بين الشريعة التي أرسل بها، وقد وفق الله تعالى صدر هذه الأمة للعناية بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فنقلوه نقلا ثابتا، ثم كتبوه في مؤلفات، وبينوه، وتكلموا على صحيحه وما ليس بصحيح، وما هو حسن، وما يعمل به وما لا يعمل به، وشرحوه أيضا، وشرحوا غريبه، وتكلموا على أسانيده.. فأصبحت السنة محفوظة، لأن حفظها من تمام حفظ الشريعة التي شرعها الله تعالى.
فنقول أيضا: إن على طالب العلم أن يهتم بحفظ السنة، أو بقراءة ما تيسر منها، فإن فيها علما جما، علما نافعا، وحيث أن الكتب كثيرة قد لا يسمح الوقت لكي يقرأها طالب العلم كلها، فإن عليه أن يهتم بمبادئها، فإن أصح الكتب صحيح البخاري ثم مسلم، ولطول الكتابين يشق قراءتهما في وقت قصير، فلذلك يسر الله تعالى من العلماء من اختصر الصحيحين، فهناك كتاب " اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان "، وفي الإمكان أن يستفيد منه ويعرف الأحاديث الصحيحة التي اتفق عليها البخاري ومسلم، وإذا أراد مختصر واحد منهما وجده فيستفيد منه، وإذا أراد نبذا من هذين الصحيحين وجد أيضا مختصرات، وكذلك أيضا إذا أراد شروحا وجد شروحا توضح المعاني والألفاظ..
كذلك أيضا أقوال الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -، وذلك لأن الصحابة تعلموا من نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتابعون تعلموا من الصحابة؛ فلذلك تعتبر أقوالهم، وتعتبر أحكامهم وتفاسيرهم من السنة، من تعلمها فإنه على هدى، وقد يسر الله تعالى من حفظ أقوالهم ورواها بالأسانيد، واعتبروها من السنة، واعتبروها من الشريعة، فمن طلبها وجدها.(81/3)
فهذه هي المراجع الأساسية للعلم، كتاب الله أولا، ثم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقوال الصحابة وأفعالهم، وتلامذتهم، هذا هو العلم الذي ينبغي أن يبدأ به.
بعد ذلك نقول ما حكم تعلم هذا العلم؟
الجواب:
ما تعلمه: منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب.
الواجب هو ما كان مكلفا به كل إنسان، فإن كل فرد من الأمة مطالب بالعمل، مطالب بالعبادات أن يتعبد بها، ولا شك أن التعبد على جهل لا يقبل؛ فلأجل ذلك فرض عليك أن تتعلم ما أنت مأمور بالعمل به، حتى لا تتخبط في الأعمال.. فإن التخبط في العمل، والعمل على جهل، وسيلة وذريعة إلى رد العمل وعدم قبوله وعدم إجزائه، فلا بد أن تتعلم، وأهم شيء تتعلمه هو علم الديانة، العلم الذي أنت مطالب به. تتعلم كيف طهارتك وكيف صلاتك وكيف عباداتك، والمراد بالعبادة التي أنت مخلوق لها، وما حرم الله عليك حتى تتجنبه، وما كلفك به حتى تطبقه، وما أنت مأمور بفعله حتى تعمله، وتتعلم الآداب وتتعلم الأحكام، وكلها – والحمد لله – ميسرة ما بين مختصر وما بين مبسوط، وتعلمها سهل يسير، ولا شك أن من تعلم هذا له أجر كبير.
إذا تعلمها أثابه الله على تعلمه لما هو فرض ولما هو نفل، والأدلة على ذلك كثيرة.(81/4)
مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ومن سلك طريقا يلتمسن فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ".. ثواب عظيم، فالجنة هي أعلى مقاصد الإنسان في الآخرة، من دخل الجنة فقد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وكيف يحصل عليها؟ هذا إذا سلك طريقا يتعلم فيه علما شرعيا، وليس المراد بالطريق أن يسافر سفرا بعيدا يقطعه في أيام أو في أشهر، بل يعم ذلك كل من توجه إلى مكان يتعلم فيه ولو بضع دقائق بينه وبين مسكنه، فإنه والحال هذه يعتبر قد حصل على علم وسلك طريقًا.. إذا توجهتَ من بيتك إلى حلقات علمية أو ندوات أو محاضرات أو حلقات تحفيظ قرآن وقصدك أن تتزود من هذا العلم، من القرآن أو من السنة أو من المسائل والأحكام الدينية فأنت قد سلكت طريقا تلتمس فيه علما، وقد اشتمل هذا الحديث الذي هذا أوله على فضل طالب العلم، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " (1) .
يتكرر هذا الحديث على المسامع دائما، ولكن الهمم ضعيفة، يسمعه الكثير وما رأينا حوافز تدفع إلى تعلم العلم الصحيح!!
آداب ووسائل طلب العلم:
وبعد أن عرفنا أهمية وفضل تعلمه نذكر بعض الأسباب التي تكون وسيلة إلى تعلمه وتحصيله، وتسمى آدابا ووسائل يتوصل بها طالب العلم إلى أن يبارك الله تعالى في أيامه، ويبارك في علومه، ولو كانت علوما قليلة:
__________
(1) أبو داود (3641) واللفظ له، والترمذي (2682) ، وابن ماجه (223) .(81/5)
أولا: الإخلاص في تعلم العلم: فإن الإخلاص شرط في قبول الأعمال كلها ومن جملتها العلم، أمر الله بالإخلاص في الدين في قوله تعالى: {فاعبد الله مخلصا له الدين @ ألا له الدين الخالص} [الزمر:2-3] ، وفي قوله سبحانه: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} [الزمر: 11] ، وذلك بإصلاح القصد وإصلاح النية في طلب العلم.
فإن هناك من ينوي بتعلمه شغل الوقت، يقول عندي وقت فراغ أشغله بهذا التعلم، وليس له قصد في المنفعة، ولا شك أن هذا قصد قاصر، قصد ناقص إذا كان لمجرد شغل الوقت، لأن هؤلاء إذا وجد أحدهم ما يشغل به وقته غير العلم انشغل به، فكأنه وجد فراغا فأخذ المصحف أو أخذ الكتاب حتى يشغل هذا الفراغ، ولو وجد كتابا ليس علميا لشغل به وقته، ولو وجد من يحدثه لشغل وقته بهذا الكلام الدنيوي أو اللهو.
ومن الناس من يكون قصده بتعلمه أمرا دنيويا، فيقول أتعلم حيث أنه يبذل في هذا التعلم مكافأة، أو أجرة، أو مال أو نحو ذلك، فيكون من الذين تعلموا العلم لأجل الدنيا، ولا شك أن هذا يفسد النية، ولا يحصل له الفضل الذي ورد في فضل تعلم العلم.
ومن الناس من يكون قصده بالتعلم مجرد شهادة أو مؤهل يحصل به على ترقية أو وظيفة أو نحو ذلك، وهذا أيضا مقصد دنيء لا يليق بالمؤمن أن يقصد هذا المقصد؛ وذلك لأنه لا يبارك له في علمه إذا كان يدرس لمجرد أن يحصل على كفاءة أو توجيه، أو ما أشبه ذلك، فيكون قصده قصدا دنيئا، وغير ذلك من المقاصد الدنيوية.
وإذا قلت فما المقصد الصحيح؟ وكيفا إذا تعلمت العلم يكون قصدي قصدا حسنا؟
الجواب:(81/6)
أولا: تنوي إزالة النقص، وذلك لأن الجهل نقص، فالله تعالى أخبر بأنه أخرجنا إلى الدنيا من بطون أمهاتنا جهلاء، قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] ، فإذا عرفت أن الإنسان ناقص في حالة جهله، ونويت أن تزيل هذا النقص لتحصل لك صفة كمال فإن هذا مقصد حسن، فتقول إني رأيت الجهلاء لا يعرفون وقدرهم ناقص عند الناس فأنا أريد أن أسد هذا الفراغ وأن أكمل ذلك النقص.
ثانيا: أن تنوي شرف العلم وشرف العلماء، إذا عرفت أن للعلم فضلا، وأن العلماء لهم شرف، ولهم ميزة، يرفعهم الله تعالى بهذا العلم، إن الله يرفع بهذا العلم أقواما ويضع به آخرين، يقول الله تعالى: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] .
ويقول الشاعر:
العلم يرفع بيتا لا عماد له ****** والجهل يهدم بيت العز والشرف
فأنت تنوي أن يكون هذا العلم فضلا وشرفا يرفعك الله به.
ثالثا: أن تنوي العمل على بصيرة، لأنك مكلف، فإن الإنسان منا عليه أعمال وعليه واجبات وطاعات مأمور أن يتعبد بها، ومحرمات منهي عن فعلها.. وكيف يؤديها وتكون مجزئة؟ لا بد من أن يتعلم، حتى يعمل على بصيرة.. فمن توضأ وهو جاهل لم يعمل بالوضوء الصحيح، ومن لم يتعلم نواقض الوضوء انتقض وضوءه وهو لا يشعر، ومن لم يتعلم كيفية الصلاة وما يجب فيها ما قبلت منه صلاته، ومن لم يتعلم كيفية الحج وقع في أخطاء تفسده أو تبطله.
فإذا نويت أن تتعلم حتى تعمل على بصيرة ويجزئك العمل ويصير مقبولا فهذه نية صالحة يثيبك الله تعالى على ذلك ويوفقك.(81/7)
رابعا: إذا نويت حمل هذا العلم الذي هو علم الكتاب والسنة، لتبلغ من يجهل من أهلك وأقاربك وغيرهم ما يجهلونه، فقد ورد في الحديث " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " (1) . ففي هذا أن حملة العلم هم أهل العدالة، فالذي ينبغي أن يكون من هؤلاء العدول نية صالحة، نية صادقة، وهكذا تكون المقاصد.
هكذا ذكرنا أربعة أسباب تكون بها نية الإنسان صالحة، وأربعة تكون بها نيته فاسدة.
كيفية طلب العلم:
بعد ذلك كيفية التعلم والآداب التي يحصل بها على العلم.. فقد يقول قائل إن التعلم خاص بالصغار وأن الإنسان إذا أسنَّ فاته سن التعلم، وأنا قد كبرتُ، وقد طعنتُ في السن، فكيف أحصل على العلم؟
فنقول إن الإنسان يتعلم ولو بلغ الستين أو السبعين، فإن باب العلم مفتوح ووسائله مهيأة، وليس هناك عوائق، ونعرف أن كثيرا من الصحابة أسلموا وهم كبار السن، منهم ابن الستين وابن السبعين سنة ومع ذلك تعلموا، وكذلك التابعون الذين دخلوا في الإسلام وقد أسنوا، تعلموا وأصبحوا حفظة وعلماء ورواة.. لا شك أن هذا ليس عذرا أن يكون الإنسان قد تجاوز السن الذي يتعلم فيه فيترك التعلم.
فللعلم آداب، ونذكر بعض تلك الآداب التي تكون وسيلة لذلك:
أولا: إحضار القلب عند التعلم، فإن الكثير الذين يحضرون مجالس العلم والقلب غافل يجول في الشهوات، أو كذلك يحضرون خطب الجمع وأحدهم ناعس أو يوسوس في أمور بعيدة، فإنه لا يستفيد من الخطب، ولا يستفيد من التعلم ولا من الحلقات العلمية، فلا يكون بذلك مستفيدا، فلا بد أن تحضر قلبك ولبك.
__________
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل 1/146، وابن عبد البر في التمهيد 1/59، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.. وانظر الكلام على الحديث في فتح المغيث 2/14.(81/8)
ثانيا: الحرص، فلا بد أن يكون طالب العلم حريصا على التعلم، فإن الذي يقول إن وجدت وسيلة تعلمت وإلا فلست بحاجة إلى العلم، ولست مُكَلِّفًا نفسي..! ليس هذا وصفُ طالب العلم، لا بد أن يحرص على التعلم، ويكون في قلبه همة واندفاع إلى التعلم.
ثالثا: تفريغ وقت لطلب العلم، فإن الكثير الذين جعلوا أوقاتهم إما في مجالس عادية: زيارات ومجالسات مع أصدقاء أو مع زملاء أو مع أهل أو نحو ذلك، يفوتهم التعلم. كذلك أيضا إذا جعلوا أوقاتهم كلها في طلب الدنيا: في حرفة، في تجارة، في مصنع؛ وكذلك إذا جعلوا أوقاتهم في أسفار لنزهة أو زيارة عادية، أو أسفار لا أهمية لها، لا شك أنه يضيع عليهم الأوقات، فلا بد أن يخصص طالب العلم وقتا، كما إذا خصص كل يوم ساعة أو ساعتين، فإنه مع المواصلة يحصل على علم، بخلاف من شغل وقته بالقيل والقال، أو شغله بالزيارات، أو شغله بالخرافات، أو بالسماعات، أو بالعكوف على الملاهي، أو ما أشبه ذلك، فإنه قل أن يستفيد.
وكثير قد تعلموا علما، ثم انشغلوا عن العلم به وانشغلوا عن ترداده، فكان ذلك سببا لنسيانه ولغفلتهم عنه.
ومعلوم أن الإنسان في هذه الدنيا لا بد أن يكون له رزق يقتات به، فإذا يسر الله تعالى له من القوت ما يكتفي به فعليه أن يجعل بقية الوقت في طلب العلم، وإذا ضاقت به الحالة فإنه مرخص له أن يطلب الرزق، وأن يبتغى من فضل الله، لقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10] ، ولقوله: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20] ، يبتغون الرزق، فإذا يسر الله للإنسان رزقا هنيئا حلالا يتقوت به، ويقوت به من تحت يده ومن يعول، فإن عليه أن يجعل وقته أو بقية وقته للاستفادة ولطلب العلم.(81/9)
رابعا: الصبر والتحمل، فإنه قد يلقى مشقة، لكن عليه أن يتحمل، فإذا عرض له من يعوقه قطع تلك العوائق، وإذا نازعته نفسه وشعر بالملل والتعب والسآمة عصى تلك الدوافع، فإن النفس قد تميل إلى الراحة، وقد تميل إلى النوم وإلى الكسل وإلى الخمول، ولكن إذا عزم الإنسان ودفع نفسه، فإنها تطاوعه.
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ****** فإن أطمعت تاقت وإلا تسلتِ
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ***** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فهكذا النفس إذا أطيعت فإنها تندفع إلى الشهوة، وإلى اللذة، وإلى النوم، وإلى الراحة.
نجد أن كثيرا أضاعوا أوقاتهم، فإذا دخلت إلى الحدائق وجدتها مليئة، وإذا دخلت إلى المقاهي وجدتها مليئة، وليس لهم حاجة إلا مجرد التسلي والترفيه بزعمهم يرفهون عن أنفسهم. فإذا تركت النفس على ما هي عليه اندفعت إلى ذلك اللهو، وإذا فطمت وترك ما تميل إليه انتفع الإنسان بالوقت ولم يضع عليه وقته.
خامسا: الاستمرار وعدم الانقطاع، فهكذا طالب العلم لا ينقطع عن التعلم ولا عن العلم في وقت من الأوقات، بل يستمر عليه إلى الممات.. يقول بعض السلف: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، أي منذ أن تكون صغيرا إلى الموت، وكان كثير من السلف يطلبون العلم ويكتبونه، فيدخل أحدهم إلى الأسواق ومعه المحبرة - الدواة التي فيها الحبر -، وسنه كبير، فيُقال: لا تزال تحمل المحبرة؟ فيقول: من المحبرة إلى المقبرة، أي لا نزال نواصل العلم.
ونسمع عن كثير من طلبة العلم أنهم يواصلون طلب العلم ليلا ونهارا ولا يملون ولا يتكاسلون، ويذكر أن أحد مشايخ مشايخنا كان طوال ليله وهو يقرأ للتحفظ أو يكتب العلم، فيجيئه بعض المحسنين بعشاء بعد صلاة العشاء ويوضع إلى جنبه ولا يتفرغ لأكله إلا بعد الأذان الأول في آخر الليل، ويجعله سحوره، يجعل عشاءه سحورا انشغالا بطلب العلم، انشغالا بالقراءة والكتابة وما أشبه ذلك.(81/10)
ونسمع عن الأولين أن أحدهم يسافر مسيرة شهر وشهرين في طلب حديث أو أحاديث ويغيب عن أهله سنة أو سنتين أو سنوات كل ذلك لطلب العلم ولا يملون، ولا يقولون أضعنا أهلنا، أو هجرنا بلادنا.. لأن الدافع قوي وهو تحصيل العلم النافع، فهكذا يكون طالب العلم.
سادسا: التكرار، أي تكرار ما علمه وذلك لأنه إذا تعلم فائدة ثم تغافل عنها ذهبت من ذاكرته ونسيها بسرعة، وأما إذا تذكرها مرة بعد مرة، قرأ الحديث وبعد حفظه راجعه بعد شهر وبعد أشهر حتى يرسخ ويثبت في ذاكرته فإنه يكون من حملة العلم وحفظته.
لذلك كان السلف يوصون بمذاكرة العلم، يقول بعضهم: مذاكرة ليلة أحب إلي من إحيائها. يعني كوني أجلس في هذه الليلة أتذكر العلم وأتذكر ما حفظته أحب إلي من أن أقومها قراءة وتهجدا وصلاة وركوعا وسجودا، وذلك لأن هذا - أي مذاكرة العلم - نفع متعد.
سابعا: كتابة ما استفاده، فكلما استفاد فائدة أثبتها معه في دفتر أو ورقة وكررها إلى أن يحفظها. يقول العلماء: " إن ما حفظ فر وما كتب قر "، أي أن ما كتبته ستجده فيما بعد.. ويشبهون العلم بالصيد، فيقول بعضهم:
العلم صيد والكتابة قيده ******** قيد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة ****** وتتركها بين الخلائق طالقة
إذا صاد الإنسان غزالة ثم أطلقها فإنها تهرب، بخلاف ما إذا قيدها بحبل وثيق، فهكذا الكتابة تثبت هذه العلوم بحيث أنك تجدها فيما بعد ويصل عليها.
وقد يسر الله أيضا في هذه الأزمنة التسجيلات التي تحفظ الكلام الذي أنت تريد حفظه لتراجعه فيما بعد وتستفيد منه بعد يوم أو بعد أيام أو ما أشبه ذلك.(81/11)
ثامنا: الواضع، لا سيما في مجالس العلماء، وذلك أن العالم هو الذي يتواضع لمن يعلمه، وقد ورد في الأثر: " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر " (1) . فالذي يتكبر ولا يتواضع لمن هو أصغر منه لا يوفق للعلم كما إذا رأى عالما أصغر منه سنا يقول كيف أتعلم من هذا الطفل؟ أو من هذا الصغير الذي أنا أكبر منه؟
نقول: إن الله تعالى شرفه وفضله بالعلم فعليك أن تصغر نفسك وتتواضع وتأخذ العلم ممن هو معه، ولو كنت أشرف وأغنى وأكبر وأرقى فإن العلم يؤخذ من منابعه ومن أهله.
تاسعا: الجرأة وعدم الاستحياء، يعني أنك إذا صرت تستحي من أن تسأل بقيت على جهلك؛ ولذلك قال بعض السلف: " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر "، يحمله تكبره على أن يعجب بنفسه ويبقى على جهله، وكذلك أيضا يحمله استحياؤه عن أن لا يطلب أو يستفيد ممن معه علم فيبقى على جهله.
نقول إن الإنسان إذا تأدب بهذه الآداب الشرعية فإن الله تعالى يوفقه ويفتح عليه ويرزقه العلم النافع والعمل الصالح، ونذكر الخصال الستة التي أشرنا إليها حيث نظمها بعضهم:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ***** سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة **** وصحبة أستاذ وطول زمان
هذه هي الوسائل التي يمكن أن ينال طالب العلمِ العلمَ بها، ولا شك أن العلم موهبة وفضل من الله تعالى، فإن الكثير من العلماء المشاهير لهم أولاد انحرفوا عن العلم وصاروا دنيويين، وكثير من الجهلة يسر الله لأولادهم فتعلموا وصاروا قادة وسادة، فهو فضل من الله تعالى، متى كان عند الإنسان نية صادقة وأحب مواصلة التعلم يسر الله تعالى له العلم.
نكتفي بهذا، نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا متقبلا، وأن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه على كل شيء قدير.
الأسئلة
__________
(1) الأثر عن مجاهد رحمه الله، انظر البخاري مع الفتح 1/228(81/12)
س 1: ما أهم المتون التي تنصحون بحفظها في مختلف العلوم؟
- أنصح في العقيدة بالعقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإنها جامعة ومفيدة، وعليها شروح لكثير من العلماء، وكذلك كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد إذا تيسر حفظه أو قراءته وتكراره، والثلاثة الأصول للمبتدئين، فهذه الثلاثة بالنسبة للعقيدة كافية إن شاء الله.
وهناك منظومة " سلم الوصول " للشيخ حافظ الحكمي إذا تيسر حفظها، أو حفظ ما تيسر منها أو قراءة شرحه استفيد من ذلك.
وبالنسبة لعلوم الحديث: ننصح بحفظ "الأربعين النووية" وبقراءة "عمدة الأحكام من كلام خير الأنام " فإن أحاديثها صحيحة، ثم بعدها إذا تيسر قراءة بلوغ المرام والاستفادة منه.
وبالنسبة لعلوم القرآن، أفضل ما أتذكر " تفسير ابن كثير" وكذلك مختصراته، كمختصر الرفاعي لا بأس به، وتحقيق أحمد شاكر اسمه " عمدة التفسير ".
وبالنسبة إلى أحكام الفقه كتب ابن قدامة كالعمدة والمقنع وشروحه، والمحرر والهداية والزاد وشروحه ونحوها.
وبالنسبة لعلوم الحديث هناك المنظومة البيقونية، ونخبة الفكر وما عليها من الشروح.
وبالنسبة إلى الآداب ننصح بقراءة رياض الصالحين بكثرة فإن فيه الفضائل وفيه الآداب.
س 2: ما علاج الفتور الذي يمر بطالب العلم؟
كثير يشتكي من هذا الفتور الذي هو كسل يحصل من آثاره أن ينقطع عن طلب العلم، ذكرنا أن هذا من الكسل والخمول، وأن الإنسان إذا عود نفسه فإنه يستمر على طلب العلم وينشط نفسه.
والنفس كالطفل إن تهمله شَبَّ على ***** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فعليك أن تفطم نفسك عن الملاهي التي تكسل عن طلب العلم حتى تصل إلى رتبة تجد فيها العلم النافع إن شاء الله.
س 3: من طلب العلم لأجل غرض دنيوي هل يلحقه الوعيد الوارد في الحديث؟(81/13)
- لا شك أنه لا يحصل له به أجر ولا فائدة، لأن الغالب أن الذين يدرسون لطلب المؤهل فقط لا يستفيدون من علومهم، بحيث أن أحدهم إذا انتهى من تلك المرحلة أحرق كتبه، أو ألقاها في القمامة أو باعها بأبخس الأثمان؛ لأنه ما تعلم إلا لقصد، فنقول: إن مثل هؤلاء لا يبارك لهم في علومهم وربما يعاقبون عليها، فعلى الإنسان أن ينوي مع ذلك رفع الجهل عن نفسه والعمل بالعلم.
س 4: هل يكتفي طالب العلم بالدراسة في المعاهد أو يحضر حلقات العلم في المساجد؟
- لا شك أن القراءة في المعاهد فيها خير كثير، وفيها علم جم، ولكن إذا كان عنده وقت فلا يحرم نفسه أن يحضر حلقات العلم، فهناك ندوة أسبوعية في الجامع الكبير – جامع الإمام تركي -، هذه الندوة كل يوم خميس ليلة الجمعة، فلا يحرم نفسه أن يحضر ليستفيد، كذلك أيضا هناك حلقات في صباح الخميس وصباح الجمعة في كثير من المساجد، فلا يحقر نفسه أن يستفيد منها، فإن مواصلة العلم خير وتفيد طالب العلم فإنه يحصل على تذكر العلم وترسيخه في ذاكرته.
س هـ: هل يمكن استدراك ما بقي من العمر مع وجود الأشغال الكثيرة؟
نعم فإن المسلم لو تعلم كل يوم ساعة أو نصف ساعة بلغ المنزل، أتذكر أن بعض مشايخنا جلس مرة للمبتدئين، بعضهم عمره من الخمسين إلى الستين، ثم حثهم على طلب العلم وضرب لهم مثلا فقال: إن أحدكم لو أراد أن يعمر له بيتا ولم يتيسر له إلا أن يبني كل يوم لبنة واحدة، ففي سنة يكون قد بنى ثلاث مائة وستين لبنة، في سنتين أو في ثلاث سنين يتم البناء ويرتفع، وهكذا تستفيد كل يوم فائدة أو فائدتين تضيفها إلى معلوماتك، ولو كل يوم نصف ساعة.. ووسائل العلوم – والحمد لله – متيسرة، فالكتب متوفرة والأشرطة الإسلامية متوفرة وحلقات العلم متوفرة، وخطب الجمع فيها علوم نافعة، والإذاعة لا سيما إذاعة القرآن التي تشتمل على علم نافع يجد فيه الإنسان كل ما طلبه، فلا يتوقف الإنسان عن التعلم ويقول تجاوزت سن التعلم.(81/14)
س 6: كيف يكون أدب الطالب مع شيخه؟
- لا شك أن هناك آدابا كثيرة في آداب العالم مع تلاميذه، وآداب الطالب مع مشايخه، وأهمها:
التواضع: فيتواضع طالب العلم مع مشايخه ويكون محترما لمشايخه، ويكون منصتا في حلقات العلم، ويكون مستفيدا، ومحضرا قلبه ولبه، ويكون أيضا جالسا جلسة تواضع كما ورد في قصة سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، قال عمر رضي الله عنه " فأسند ركبتيه إلى ركبتيه " (1) . أي أن جلوسه كجلسة الجالس بين السجدتين مفترشا، ووضع كفيه على فخذيه، بمعنى أنه فعل فعل المتواضع وكأنه يعلمهم آداب التعلم.
وهكذا السؤال عما يشكل، فإذا استشكلت مسألة طلب من الأستاذ أن يعيدها برفق، وإذا سأله المدرس طلب الاسترشاد، وإذا أفاده بفائدة حمده عليها ومدحه على هذا، كما يقول بعض الشعراء:
إذا أفادك إنسان بفائدة ******** من العلوم فلازم شكره أبدا
وقل فلان جزاه الله صالحة ***** أفادنيها وألق الكبر والحسدا
فلذلك كله آداب، وقد ألف فيها أحد العلماء وهو ابن جماعة له كتاب مطبوع اسمه " تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ".
س 7: ما هي النصيحة لبعض طلبة العلم الذين يثيرون الشبه حول الدعاة المعروفين أو يذكرون الأخطاء؟
__________
(1) مسلم برقم (8)(81/15)
- علينا أن ننصحهم ونبين لهم أن عليكم إصلاح أنفسكم، فإن عندكم أخطاء أكثر وأكثر، فعليكم أن تصلحوا أنفسكم، وعليكم أن تستروا عورات إخوانكم، فمن ستر مسلما ستره الله، وأن تلتمسوا لهم الأعذار كما ورد عن بعض السلف أنه قال: إذا سمعت من أخيك كلمة فالتمس له عذرا. وقال: لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، احملها على أحسن المحامل، عليك أن تذكر فضلهم، إذا كان لهم فضائل، ولا تكتم فضلهم وتبدي أخطاءهم وكأنهم ليس لهم فضل أبدا، وهذه عادة سيئة أن كثيرا من الناس يلتمس عثرات بعض العباد والعلماء ونحوهم، ويفشيها ويعلنها ويكتم فضائلهم وآثارهم وعلومهم النافعة، فيكون كما قال الشاعر:
ينسى من المعروف طودا شامخا ****** وليس ينسى ذرة ممن أساء
فكيف تنسى فضائلهم وآثارهم ولو كانت أمثال الجبال، ولا تنسى ذرة صدرت من أحدهم، يعني خطيئة، هذا لا شك أنه من الخطأ الكبير.
س 8: "طلبنا العلم لغير الله فصار لله " يسأل عن معناها:
- كان هناك بعض من العلماء طلبوا العلم إما لقصد شغل فراغ، وإما لطلب شهرة أو نحو ذلك، ولكن بعدما رأوا حلاوة العلم وذاقوا فضله أخلصوا نياتهم فيما بعد، وواصلوا تعلمهم ونفعهم الله تعالى ونفع بهم، فكان في النهاية إخلاصا لله تعالى.
س 9: هل يلزم طالب العلم حفظ القرآن؟
- الأفضل الاهتمام بالقرآن حفظا وتلاوة وتعلما، ولكن هناك بعض من الناس يصعب عليهم الحفظ، أو يحفظون ولكن سرعان ما ينسى أحدهم، فنقول: إن تعلم العلم الذي أنت ملزم بالعمل به، ولا يقبل عملك إلا بتكملته لا بد من تعلمه، فليكن تعلم العلوم الفرضية لازم وإن لم يحفظ القرآن وبقية وقته يجعله في حفظ القرآن وفي التزود من العلم.
س 10: طالب ينقل الواجب من زميله والمدرس ينهاه عن ذلك؛ لأن المدرس يريد كل طالب أن يقرأ الكتاب ويكتب منه. فما حكم ذلك؟(81/16)
- الأصل أن الإنسان يعتمد على ما ذاكره وعلى ما حفظه من المدرس، ولا يجوز له أن يعتمد على غيره.
س 11: ما حكم إطلاق كلمة المرحوم أو المغفور له على الميت؟
- أرى أنه لا بأس بذلك تفاؤلا كالدعاء كما يقال غفر الله له، فهو مغفور له بواسطة دعاء إخوانه المسلمين، وليس في ذلك جزم ولا تزكية.
س 12: أسهر لطلب العلم ولكنني أعاني من الغد فهل أستمر على هذا السهر في القراءة؟
- العادة أن الإنسان إذا كان له همة تابع ولو واصل الطلب طوال الليل، ولكن قد نهي عن اتعاب النفس وإرهاقها سواء في الصلاة والتهجد، أو في التعلم وما أشبهه..
ثم نقول: إن الكثير من الناس اعتاد السهر ولكن لا في طلب علم ولا في صلاة، بل إما في قيل وقال، وإما في لهو وسهو وغناء وخمر وزمر ونظر إلى صور وأفلام وما أشبه ذلك، ومع ذلك لا يسأم أحدهم ولا يمل إلى الساعة الثانية أو الثالثة ليلا، وهو جالس أمام هذه الشاشات وأمام هذه الأصوات، ومع ذلك إذا قرأ في سورة أو نحوها كسل ومل وتعب، ولا شك أن هذا من ضعف النفس، والإنسان عليه أن يعود نفسه ما فيه خير، حتى تسهل عليه الطاعات وتخف عليه بإذن الله.
س 13: هل يستطيع الإنسان أن يجمع بين طلب العلم وبر الوالدين وحقوق الزوجة والأولاد والأقارب؟
- يستطيع.. فإنه لا يستغرق أربعا وعشرين ساعة، فعليه أن يجعل لنفسه راحة، النوم مثلا كل يوم ست ساعات أو سبع ونحوها، وكذلك راحة نفسه في أكل أو نحوه ساعة أو ساعتين، وكذلك أوقات العبادة ساعة أو ساعتين، كذلك الزيارات نحو ساعة أو ما أشبهها، وهكذا أيضا أعماله التي هو منوط بها كدراسة أو تعلم أو وظيفة أو نحوها إذا استغرقت ثماني ساعات أو سبع ساعات أو ما أشبهها وبقية الوقت يجعله للتعلم ويجعله للتزود من العلوم، فالوقت واسع.
س 14: ما حكم قول: حفظتك رعاية الله وقول في ذمتي؟(81/17)
- في رعاية الله لا بأس بها، لكن قول " حفظتك "! نقول حفظك الله برعايته، أو رعاك الله، أو أنت في رعاية الله وفي حفظ الله، أما الحلف بالذمة فمعناه العهد، إذا قال في ذمتي معناه أتعهد لك ولك عهد أعاهدك أن أفي لك بهذا، فمن قال ذلك فعليه أن يوفي بما تعهد به.
س هـ1: ما حكم قول الخطباء في نهاية الخطبة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) .. هل ورد ذلك؟
- يذكر أن الخطباء في العراق كانوا في آخر الخطبة يدعون بأمر الحجاج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويشتمونه في آخر الخطب، فبعد ذلك في سنة 99 هـ آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فأمرهم بقطع هذا اللعن وهذا السب، وأمرهم أن يختموا خطبهم بهذه الآية {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] فاستمر العمل عليها إلى هذه الأزمنة؛ لأن عمر بن عبد العزيز يعتبر من الخلفاء الراشدين، ولو تركها إنسان لا تبطل خطبته.
س 16: يتساهل البعض في سداد الديون سواء الأقساط أو غيرها، فما النصيحة لهؤلاء؟
- نصيحتنا بأن لا يتساهلوا في حقوق الناس، فكل يحرص على أداء حقه إليه كاملا، وكذلك أيضا الوفاء بالعهد، فإنك إذا استدنت دينا التزمت بأن تسدده أقساطا، فإن عليك عهد وميثاق فعليك الوفاء بهذا العهد لقول الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء: 34] .
س 17: هل يجوز أن أحج عن والدي المتوفى وأنا لم أحج عن نفسي؟
- ابدأ بنفسك، لا يجوز أن يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه، وبعد ذلك يمكنك أن تحج عن والدك.
س 18: هل عذاب القبر يقع على الروح والجسد؟
- الأصل أنه يقع على الروح، لأن الجسد يفنى ويصير ترابا، ولكن لا يستبعد أن الله تعالى يوصل إليه تألما ولو كان ترابا.
س 19: هل كثرة المساجد والتقارب بينها تعد من علامات الساعة؟
- لم يرد ذلك، ولكن لا يشرع التقارب الكثير، بل لا بد أن يكون بين المسجدين مساحة كمائتي متر أو ما أشبهها، حتى لا يكون هناك مضارة.(81/18)
س 20: هل يجوز دفع الزكاة لأخ فقير؟
- إذا كنت لا ترثه ولا يرثك - أي أن لكما أولاد - وهو فقير فهو أحق بزكاتك.
س 21: هل الأرض كروية الشكل أو هي مسطحة؟
- الواقع أنها كروية خلقها الله تعالى على هذا، ولأجل ذلك الشمس تدور حولها.
س 22: آخذ في حفاظ آيات الله وقتا طويلا، فهل أؤجر على ذلك؟
- تؤجر بقدر جهدك وبقدر ما تبذله من الوقت فلك أجر كلما كررت.
س 23: هل يحمد من الطالب أن يخرج من الدرس والمدرس يشرح ليصلي سنة الضحى؟
يفضل استمراره، فإن المشايخ نسمع منهم أن طلب العلم أفضل من النافلة، وفي إمكانه إذا انتهى من الدرس أن يأتي بسنة الضحى.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم(81/19)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
أحكام الرضاع(82/1)
السؤال:-
أفيدكم بأنني شاب يتيم وأرغب في إكمال نصف ديني وأتزوج من بنت عمتي، والمشكلة هنا هي أن عمتي شقيقة والدي أخبرتني بأني رضعت مع ولدها الأوسط وعمره ثلاث سنوات، وهذا الابن جاء بعده ابن ثاني ثم أنجبت الفتاة من بعدهما، وقد تمنيت من الله أن تكون هذه الفتاة من نصيبي ... ولكن عندما أختبرتني عمتي بهذا الشيء أردت أن أستفسر عن هذا، وهل يجوز الزواج من هذه الفتاة أم لا؟ علماً بأنها أرضعتني مرة واحدة والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان) .
الجواب:-
إذا كانت رضعة واحدة كما ذكرت فلا تحرم عليك بنت عمتك، وإنما يحرم خمس رضعات والله أعلم.(82/2)
السؤال:-
إنني تزوجت امرأة قريبة لي منذ خمس سنوات، ومنذ أيام عرفت أنها رضعت من أمي، فقمت بسؤال أحد العلماء فقال لي: إذا كانت الرضعات محرٍّمات فقد صارت أختاً لي ويجب علينا أن نتوجه إلى المحكمة. وعليه فقد قمت بسؤال والدتي التي أرضعتها فقال: أنها كانت في زيارة لمنزلهم (يعني منزل أهل الزوجة) بعد ولادتها ولم ينزل بعد لبن أمها واحتاجت للرضاعة فقمت بإرضاعها رضعة واحدة، وبعدها نزل لبن أمها وأقسمت بالله على ذلك، ثم رجعت إلى الشيخ الذي استفتيته أولاً فنصحني بالتوجه إلى دار الإفتاء لأخذ القول الفصل في المسألة، وعليه فإنني أعرض المسألة على فضيلتكم سائلاً الله عز وجل أن يوفقكم فيها إلى ما يحب ويرضى.
الجواب:-
إذا تأكدت والدتك أن الرضعة واحدة وحلفت على ذلك فالقول قولها وتصدق في ذلك ولا يؤثر هذا الرضاع وتبقى الزوجية كما هي ولا تثبت الأخوة بينك وبين هذه الزوجة والله أعلم.(82/3)
السؤال:-
نعم أنا فريح لديَّ ولد اسمه حباس وقد طلقت أمه وهي حامل فيه، وأرضعته حرمة أجنبية، وأم ولدي أرضعت أولاد الأجنبية، وبنتي أنا يا فريح من امرأة ثانية وتكون أختاً لابني حباس من الأب، زوجتها أحد أبناء المرأة الأجنبية وهي أم ولدي الأكبر من الرضاع، فهل هذا جائز أم فيه شك؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب:-
إن أولاد المرأة الأجنبية الذين أرضعتهم أم حباس مع ابنها حباس يصبحون أولاداً لفريح حيث إن اللبن منه، فإن أرضعتهم بلبن زوج بعد فريح فلا يكونون أولادً له، فينظر هذا الزوج لبنت فريح هل رضع مع حباس أو مع غيره والله أعلم.
السؤال:
أنا امرأة أرملة ولي بنت أخت متزوجة منذ سنين طويلة ولها من العيال تسعة، أكبرهن متزوجة ولها ولد، ومشكلتي يا فضيلة الشيخ بأني يوم ولدت أرضعتني عمتي أخت أبي مع ابنها، ولما كبرت تقدم لي عمه أخو أبيه فوافقت عليه وتزوجته وصار عندي من العيال تسعة عيال، ولم نكن نعلم بموضوع الرضاع، ولم أعلم إلا بعد سنين طويلة تقارب العشرين سنة، ولم يخبرني عن موضوع الرضاعة أي أحد حيث إن المرضعة لم تعلم عدد الرضعات التي أرضعتها لي بحكم مرور زمن طويل جداً، وكنت يومها مولودة صغيرة حيث إن أُمي لم يأت حليبها بعد (أي اللبن) ولم أكن أستطيع الرضاعة لصغر سني، ولابد من وضع الثدي في فمي لإجباري على الرضاعة، نرجو توضيح الحكم الشرعي في الموضوع، وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-
تعاد للاستفسار عن الزوج هل هو عم ابن المرضعة من النسب أو عم ابنها من الرضاع.
وحيث إن الرضاع يغلب على الظن أنه مانع ولا نجزم بذلك لوجود الشك في عدده، فالأولى القول بالتحريم والله أعلم.(82/4)
السؤال:-
أفيدكم أنني قد رضعت من امرأة مع ابنتها نورة، فهل يكون إخوان نورة إخواني؟ وهل أكون محرماً لأخواتها؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب:-
تكون المرضعة أمك وزوجها أباك ونورة أختك من الرضاعة وأخواتها أخواتك وإخوانها إخوتك وأما إخوانك فهم أجانب منها.(82/5)
السؤال:-
أنا رجل خطبت ابنة عمي، وقد رضعت من أمها -وهي زوجة عمي- رضعة واحدة التقمت الثدي مرة واحدة ثم تركته، وزوجة عمي أخبرتني بذلك وهي امرأة ثقة، فهل تحل لي ابنة عمي المذكورة بالرضاع المذكور؟ والله يحفظكم.
الجواب:-
الرضعة الواحدة لا تحرم، ولا أثر لها في الرضيع فعلى هذا تحل لك بنت عمك ولا تكون محرماً لزوجة عمك بمجرد هذه الرضعة، فإنما يحرم خمس رضعات فأكثر إذا كانت في الحولين والله أعلم.(82/6)
السؤال:-
يوجد بنت وولد، البنت رضعت من أم الولد، والولد رضع من أم البنت بالتناوب، وتمت الرضاعة أكثر من شهر، فهل إخوان الولد يصبحون إخواناً لأخته من الرضاعة؟ وهل يجوز للبنت أن تكشف عليهم أم لا؟ كما أن أبا الولد متزوج زوجة أخرى ولها أولاد، فهل يجوز لهم أيضا الكشف على أخت الولد من الرضاعة؟
الجواب:-
هذه البنت التي رضعت من أم الولد تصبح أختاً له ولجميع إخوته الذين من أبيه أو من أمه حيث إنها بنت أمهم أو بنت أبيهم فهي تقول أمكم أرضعتني فأنا أختكم من الأم، وأخت إخوتكم من الأب حيث رضعت من اللبن الذي سببه أبوكم، وكذا هذا الولد الذي رضع من أم البنت تصبح البنت واخوتها محارم لذلك الولد لأنه رضع من أمهم ولبن أبيهم والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(82/7)
السؤال:-
عندي بنات خالي أربع، اثنتان رضعن من أمي، واثنتان لم يرضعن من أمي، فهل يحق لي الزواج من إحدى الاثنتين اللتين لم يرضعن من أمي؟ أفتونا مأجورين.
الجواب:-
نعم يحق لك الزواج من التي لم ترضع من أمك وأنت ما رضعت من أمها فهي أجنبية ولا يضرها رضاع أختيها.(82/8)
السؤال:-
أبو البنات منصور، والبنت الكبرى عبير رضعت من زوجة خالها أكثر من خمس رضعات مشبعات مع ابنهم الصغير إبراهيم.
هل يجوز زواج البنت الصغرى ليلى من ابنهم الكبير عبد الناصر الذي لم يجتمع معها على ثدي واحد؟
الجواب:-
إذا كان ابنهم الكبير عبد الناصر لم يرضع من زوجتك، وكانت بنتك ليلى لم ترضع من أم عبد الناصر ولا من زوجة أبيه حلت له ولا يضرها رضاع أختها عبير من أمه، وتكون عبير أخت عبد الناصر من الرضاع وأختها ليلى زوجته والله أعلم.(82/9)
السؤال:-
رجل رضع من زوجة أخيه، ويريد أن يزوج ولده من بنت أخيه التي رضع من أمها، فهل يجوز هذا شرعاً؟
الجواب:-
هذا الراضع يصبح ابناً لأخيه، وبنات أخيه صاحب اللبن أخواته وعمات عياله، فلا يحل له أن ينكح ولده من أخته من الرضاع وكذا ولد ولده وإن نزلوا.(82/10)
السؤال:-
لقد أرضعت والدتي طفلة ليلة ونصف نهار -من المغرب إلى ظهر اليوم التالي- كلما جاعت الطفلة أرضعتها، وذلك لمرض والدة الطفلة والتي تعتبر أخت والدتي.
فما موضع الطفلة مني ومن إخواني وأخواتي من الأب والأم؟ وما موضعها من إخواني وأخواتي من أمي فقط قبل زواجها من أبي صاحب اللبن؟
الجواب:-
تصبح هذه الطفلة بنتاً لأمكم وبنتاً لأبيكم صاحب اللبن، وأختكم جميعاً أي جميع أولاد المرضعة من الزوجين كلهم إخوتها وأخواتها، وجميع أولاد صاحب اللبن وهو زوج المرضعة وقت الرضاع إخوة لهذه الطفلة سواء من هذه الزوجة أو من غيرها والله أعلم.(82/11)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
أحكام الصلاة(83/1)
السؤال:-
عندما تصلي المرأة خلف الرجال هل تدخل معهم بنية الجماعة أم منفردة؟
الجواب:-
لا يجوز للمرأة أن تَصِفَّ إلى جانب الرجل ولو كان محرماً لها، بل عليها أن تقوم خلفهم ولو كانت وحدها، فإن كان هناك نساء فإنهن يُقمن الصفوف وخير صفوف النساء آخرها لبعده عن الرجال.(83/2)
السؤال:-
إمام يصلي بجماعة وأمامه غرفة (حجرة) وفيها نساء هل يجوز لهن أن يصلين ويأتممن بهذا الإمام ولو حالت تلك الحجرة بينهن وبين قبلة الإمام، يعني يصلين أمام الإمام؟
الجواب:-
لا يجوز للمأمومين أن يصلوا أمام الإمام سواءً من الرجال أو النساء، وسواءً كنَّ في غرفة أو في رحبة أو صحراء بل كل المأمومين يصلون خلف الإمام أو عن جانبيه ولو كان دونه جدار أو حاجز إذا كان أمامهم أو عن أحد جانبيهم.(83/3)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
أحكام الصيام(84/1)
السؤال:-
هل الاستنجاء يفسد الصوم؟
الجواب:-
لا يفسد الصوم بالاستنجاء الذي هو غسل الفرجين أو أحدهما بالماء ولو دلكهما بيده ولو دخل الماء أو شيء منه في المخرج فإنه معتاد ولا يصل إلى الجوف بالاستنجاء والله أعلم.(84/2)
السؤال:-
أنا امرأة أفطرت أربعة أشهر من أشهر رمضان، حيث إما أكون نفساء أو في الشهر الأخير من الحمل، ولم أقضها إلى الآن، لأني كنت أعتقد أن المرأة المعذورة ليس عليها قضاء للصوم كالصلاة. والآن أبلغ من العمر سبعا وأربعين سنة، فماذا أعمل الآن؟
الجواب:-
لابد من قضاء هذه الأشهر الأربعة ولو متفرقة، ولابد مع القضاء من الكفارة عن التأخير وذلك بإطعام مسكين عن كل يوم أي عن كل شهر خمسة عشر صاعاً، والله أعلم.(84/3)
السؤال:-
أنا امرأة قد أنعم الله عليَّ بصيام ست من شوال كل عام، وفي هذا العام أردت أن أصوم كما عودت نفسي، ولكن زوجي قال لي: (الله لا يقبل منكِ إذا صمتِ) . فهل يجوز لي أن أصوم الست أم لا؟
الجواب:-
لا تصومي تطوعاً إلى بإذن الزوج إلا أن يكون غائباً أو تعلمين أن الصوم لا يعوقكِ عن خدمته وأنه لا يحتاج إلى الاستمتاع معكِ في ذلك النهار، فإن صمتِ فطلب منكِ المضاجعة فاستجيبي له ولو كنتِ صائمة إذا لم يأذن في الصوم.(84/4)
السؤال:-
امرأة في الخمسين من عمرها لم تقضِ الأيام التي كانت تفطرها من رمضان بسبب العادة الشهرية إما تهاوناً أو جهلاً بالحكم الشرعي، علماً أن ذلك كان أيام شبابها وقبل زواجها. وهي الآن تسأل ماذا تفعل؟ هل يلزمها القضاء؟ مع العلم أنها لا تعلم كم سنة فعلت ذلك وهي الآن تصوم أيام التطوع مثل ست من شوال وتنويها عن تلك الأيام التي مضت. أفتونا مأجورين.
الجواب:-
لابد من القضاء والاحتياط فتصوم حتى تجزم بأنها قد قضت جميع ما أفطرته أو زادت عليه من أيام عادتها فإذا كانت تصوم الست من شوال بنية قضاء أيام عادتها السابقة أجزأ ذلك عنها بهذه النية، فعليها إكمال ما بقي ثم عليها مع الصيام إطعام مسكين عن كل يوم لأجل التأخر عدة سنين فتدفع الإطعام مرة واحدة فإذا كانت لم تصم ثلاث سنين أيام العادة وكل سنة ستة أيام فعليها إطعام ثمانية عشر مسكيناً والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(84/5)
السؤال:-
ما حكم من أتى زوجته بعد صلاة الفجر في رمضان لا يعلم الحكم الشرعي في ذلك؟ وما هي كفارة هذا الفعل؟ أفتونا مأجورين.
الجواب:-
إذا حصل الجماع في نهار رمضان بعد الإمساك فلابد من القضاء والكفارة، ولا تسقط بجهل الحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر ذلك الأعرابي الذي واقع أهله في رمضان وهو لا يدري عن الكفارة، والكفارة هي تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(84/6)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
أحكام الطهارة(85/1)
السؤال:-
امرأة يأتيها شيء قبل الحيض وهو نوع من الصفار والكدرة وأحياناً يكون أحمر فكيف تصلي؟
الجواب:-
هذا دم فساد لا يمنع من الصلاة، وعليها أن تغسل فرجها وتعصبه وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي حتى يخرج الوقت ثم تتوضأ للوقت الثاني كذلك، إلا أن تتحقق أنه لم يخرج منها شيء بين الوقتين فلا يلزم إعادة الاستنجاء والوضوء.(85/2)
السؤال:-
امرأة جاءتها الدورة أول مرة في الشهر الماضي ولما طهرت منها جلست حوالي ثلاثة عشر يوماً، ثم خرج منها سائل أحمر غامق اللون وجلست فيها حوالي ثلاثة أيام، صحيح أنه كثير ولكنه أقل بكثير من دم الحيض المعروف، فماذا تفعل الآن هل تصلي؟ وهل تمس المصحف؟ أم ماذا تفعل؟ أفتونا مأجورين.
الجواب:-
هذا السائل الذي جاء قبل حينه وهو مغاير لدم العادة بلونه وقدره أرى أنه دم عرق فلا مانع من الصلاة والقراءة ومس المصحف حتى يأتي الدم العادي الذي هو دم الحيض المعروف.(85/3)
السؤال:-
منذ سن البلوغ أعاني من مرض يترتب عليه خروج (المذي) الطاهر باستمرار تقريباً، وفي البداية لم أكن أعرف بأن هذا ينقض الوضوء ولم أكن أعرف بأنه نجس فكنت أصلي حتى لو خرج شيء منه من غير أن أتوضأ، لم أكن أغسل المحل الذي وصل شيء منه إليه، وأصلي على هذا الحال، وأنا والله العظيم لم أكن أعرف بحكمه وعندما عرفت بحكم ذلك تحرزت منه بقدر استطاعتي وتوضأت لكل صلاة، وفي البداية لم أتداوى منه ولكنني منذ فترة ذهبت إلى الدكتورة للعلاج ولكن العلاج لم يُفِدْني وسؤالي هو:
(أ) هل يجب عليَّ قضاء الصلوات التي صليتها على تلك الحال وأنا جاهلة بالحكم علماً بأنها كثيرة ولا أقدر على حصرها؟ وهل التحرز منه بحشو قطنة محل خروجه يفسد الصوم؟ وما الطريقة الصحيحة للتحرز منه؟
(ب) أحياناً عندما استيقظ من النوم أجد رطوبة ولكنني لا أغتسل منها لسببين، الأول: أني لا أعرف ما إذا كانت مذيّاً أو غيره. والثاني: أنه يغلب علي ظني بأن ما أجده هو بسبب المرض الذي ذكرته لكم. وسؤالي هو: هل عليَّ الاغتسال أم لا؟ وإذا كان الجواب نعم فهل عليَّ إثم في أنني صليت من غير اغتسال؟ وماذا عليَّ أن أفعل تجاه ذلك.
الجواب:-
(أ) لا يجب عليكِ قضاء الصلوات الماضية لعذر الجهالة ويكفي التحفظ بقطن ونحوه ولا يفسد به الصوم.
(ب) لا يلزم الاغتسال بل يكفي الوضوء إذا لم تذكري احتلاماً ولأنه مشكوك في أنه مذي أو غيره والأصل أنه من المرض.(85/4)
السؤال:-
هل يشترط عند الغسل من الدورة الشهرية فرك البدن أثناء صب الماء أم أنه يجزئ القيام بفرك البدن بالصابون ثم صب الماء عليه بدون الفرك مرة أخرى؟
الجواب:-
الواجب صب الماء على البدن وتعميمه بالغسل ودلك الجسم الذي يقدر على دلكه بيده، وإن لم يستطع اكتفى بوصول الماء إليه، أما الصابون ونحوه فلا يلزم لرفع الجنابة أو الحدث والله أعلم.(85/5)
السؤال:-
ما حكم من صلى وفي ثوبه دم، سواء كان دم إنسان أو دم حيوان؟ وهل يعيد صلاته أم لا؟
الجواب:-
إذا كان الدم يسيراً كنقطة أو نقطتين أو ثلاث متفرقات فلا إعادة عليه، فإن كثرت النقط أو مواضع الدم فإنه يعيد إن كان عالماً بالدم قبل الصلاة ولم يغسله، فإن كان جاهلاً به ولم يعلم حتى فرغ من الصلاة فلا إعادة عليه لعذره بالجهل.(85/6)
السؤال:-
الإفرازات ما قبل العادة الشهرية، هل تصلي معها المرأة؟ وهل يلزمها أن تتطهر منها؟ وماذا تعمل إذا نزلت أثناء الصلاة؟
الجواب:-
هذه الإفرازات التي تأتي قبل الدورة الشهرية والتي هي عبارة عن مياه أو كدرة أو صفرة في غير زمن العادة، أرى أنها لا تمنع من الصلاة لأنها ليست حيضاً لتقدمها قبله لكن عليها أن تتطهر منها بالوضوء لكل صلاة إذا خرجت مستمرة، ويكون حكمها حكم سلس البول والقروح السيالة ولا يضرها خروجها في الصلاة بل تتم صلاتها وتصلي كل وقتها فروضاً ونوافل ولكن يحسن أن تتحفظ حتى لا يلوث ثيابها.(85/7)
السؤال:-
ما حكم إفرازات الرحم؟ وهل يصح للمرأة أن تكمل صلاتها إذا أتتها وقت الصلاة؟
الجواب:-
هذه الإفرازات التي تخرج بدون اختيار لها حكم دم الاستحاضة وسلس البول فتتوضأ لها وقت الصلاة ولا يضرها خروجها وهي تصلي حتى يخرج الوقت ثم تتوضأ للوقت الثاني.(85/8)
السؤال:-
ما الأحوال التي تغتسل فيها المرأة؟
الجواب:-
تغتسل المرأة بعد الجماع الموجب له وبعد الاحتلام مع الإنزال وبعد الطهر من الحيض ومن النفاس.(85/9)
السؤال:-
إذا جامع الرجل لزوجته بدون إنزال هل عليها اغتسال؟
الجواب:-
نعم عليها الاغتسال من الجماع الذي هو إيلاج رأس الذكر في الفرج، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) . أي ولج الذكر إلى محل الختان أي غابت الحشفة المدورة ولا يشترط الإنزال فيجب على كل منهما الاغتسال بهذا الإيلاج.(85/10)
السؤال:-
إذا جامع المرأة زوجها بحائل وأنزلت فهل عليها غسل؟
الجواب:-
نعم إذا حصل الإنزال وجب الغسل ولو كانت المباشرة وراء حائل كما لو أولج ذكره في الفرج من وراء الثوب فحصل الإنزال أو حصل الإيلاج.(85/11)
السؤال:-
ما حكم المسح على الخمار؟ وهل حكمه حكم المسح على الجوارب؟
الجواب:-
المسح على خمار المرأة في الطهارة يجوز في الوضوء بشرطين: أن يكون صفيقاً غير شفاف وأن يكون محكم الشد ومداراً تحت الحنك ثم إنه يأخذ حكم الجوارب في التوقيت بيوم وليلة لكن يعمم بالمسح كله والله أعلم.(85/12)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
أحكام الظهار(86/1)
السؤال:-
حصل بيني وبين زوجي خلاف فقال لي: (أنتِ تحرمين عليَّ) ، ورددت عليه وقلت له: (أنتَ تحرم عليّ كما تحرم مكة على اليهود) رغم أني كنت في أشد الزعل والغضب في ذلك الوقت، فماذا عليَّ أن أفعل حين ذلك؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب:-
التحريم من الزوج يعتبر ظهاراً، فتحرمين عليه حتى يُكَفِّر بتحرير رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، أما تحريم المرأة زوجها فإنه يمين يكفيها أن تطعم عشرة مساكين، فإن لم تجد صامت ثلاثة أيام متتابعة، ولا تمنعه من نفسها قبل التكفير، فإنه حقه واجب عليها وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(86/2)
السؤال:-
أنا امرأة قدمت لزيارة ولدي في منزله وأثناء الزيارة حصل بيننا نقاش وغضبت على إثره ولا أدري وقتها ما أقول وحلفت يمين الظهار على أن لا أبيت في منزله ليلة واحدة ولا أعود إلى زيارته مرة ثانية، ولكن كان الوقت متأخراً من الليل ولم يدعني أذهب إلى منزل بنتي، والآن أنا نادمة على ما صدر مني، وأنا الآن في منزل ولدي حيث إني علمت أنه لا يجوز تحريم الوالد لولده والعكس، لهذا أرجو إفادتي عن الحكم الشرعي والله يحفظكم.
الجواب:-
إذا دخلتِ منزله أو زرتِ مكانه مرة أخرى فعليكِ كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين، قوت ليلة نحو خمسة عشر كيلو من الأرز أو البر ولا تعودي لمثل هذا الحلف والله أعلم.(86/3)
السؤال:-
كنت عند بعض الجماعة وعزمتهم على الفطور، ولما لم يأتوا قلت: (عليّ حرام من أهلي إذا لم يأتِ هؤلاء إليَّ لا آتي بيوتهم) وقصدي هو عدم إتيانهم فقط، أرجو إفادتي وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-
عليك كفارة ظهار إذا أتيت بيوتهم، فإن تحريم الأهل يعتبر ظهاراً مثل قولهم: (هي عليّ كظهر أمي) ففيه الكفارة المذكورة في سورة المجادلة على الترتيب والله أعلم.(86/4)
السؤال:-
أنا امرأة متزوجة منذ أحد عشر عاماً ورزقنا خلالها ستة أطفال، وقد حصل بيني وبين زوجي خلافات عديدة، كان أولها منذ ثمان سنوات حيث إنني كنت حاملاً في طفلي الثاني، فقد طلَّقني زوجي وأنا حامل وأعادني إلى عصمته دون علم أحد إلا بعد سنة ونصف من وقوع الطلاق، وذلك عندما سافرنا إلى الجنوب وأخبرت والدي بما حصل فذهب والدي وزوجي إلى القاضي وأخبروه بما حصل وحكم أنه لا شيء في ذلك، وبعد أربع سنوات وقع خلاف آخر وقال لي يومها: (أنتِ عليّ كظهر أمي) ولم أكن أعلم أن هذا ظهارٌ لجهلي بالدين، وبعد وقوع هذا التحريم منه أنجبت طفلين وهما آخر أطفالنا، وبعد علمنا بأن ما حدث يعتبر ظهاراً وأن كفارته عتق رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ... إلخ، لم نقم بالتكفير عن ذلك، وبعدها حصل خلاف آخر وقال لي فيه: (تحل لي بنتي ولا تحلين لي) وبعدها أراد أن يجامعني فرفضت ولم أمكنه من نفسي، وكان ذلك الكلام منذ حوالي شهر.
فلا أدري ماذا يلزمنا نحن الاثنين في ما قد حصل؟ وهل يعتبر الكلام الذي حصل في المرة الأخيرة طلاقاً أم ظهاراً؟ علماً يا فضيلة الشيخ أنني في حيرة من أمري حيث إن أطفالي ما زالوا صغار السن، وزوجي ليس بأهل لرعايتهم، حيث إنه غير متعلم وهو رجل ضيق العقل والشخصية والصبر والأَخلاق والضمير، وهو بصراحة لا يعتمد عليه في تربية أطفال صغار في مثل سن أولادي.
ولا أدري هل حملي بعد الخلاف الذي حصل في المرة الثانية يعتبر حمل زنا أم يعتبر حلالاً؟ عملاً أن زوجي لا ينفق علينا النفقة الشرعية وإنما يصرف ما يسد الجوع ويستر البدن ومع ذلك أنا أريد المحافظة على الأسرة كي لا يتشرد الأطفال، أفيدونا عن الحل الأمثل وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-(86/5)
أقول أما الطلاق الأول فيحسب واحدة ويعتبر وطؤه مراجعة، وأما الثاني فظهار، وحيث لم يكفر عن الثاني والثالث فإن عليه كفارة واحدة عتق رقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر أطعم ستين مسكيناً، ويكفيه كفارة واحدة، ولا يحل له الوطء إلا بعد الكفارة، وعليكِ أنتِ طلب الطلاق أو المراجعة بعد الكفارة، ولو أن تشتكي على الإِمارة أو المحاكم، فعليه حق كبير وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(86/6)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
أحكام نشوز الزوجة(87/1)
السؤال:-
لي زوجة خرجت من بيتي منذ أربع سنين وتركت بناتها وأولادها وعددهم ثمانية، أربع بنات وأربعة أبناء بدون رخصة مني ولا سبب شرعي يذكر، وحاولت معها بجميع الطرق الشرعية، وسبق لي أن استفتيتك بشأنها وقلت لي: إذا كان هذا حالها واستمرت على ما هي عليه فلا خير فيها وطلقها بعد المحاولة معها طلاق السنة. وفي الحقيقة لا تزال عاصية ولا تقوم بشيء من واجباتها تجاهي، وتؤذيني بلسانها على الدوام أمام أولادي وعند الناس، ولقد كررت النصح لها بعد أن أمرتني بذلك، ولكن دون فائدة، وسوف أطلب منها قريباً بإذن الله أن تخاف الله في نفسها وفي أولادها وبناتها، فإن أطاعت فذلك خير وإن أبت فسوف أخلي سبيلها، وسؤالي يا فضيلة الشيخ هو: هل لها عليَّ حق شرعاً في النفقة والسكن في المدة السابقة وحالياً، وبعد إخلاء سبيلها إذا استمرت على عنادها؟
الجواب:-
فحيث إنها خرجت من بيتك بدون إذنك وبدون رضاك ولم يكن منك أذى لها ولا ضرر ظاهر ولا مضايقة ولا تقصير في النفقة حيث حاولت رجوعها فأبت وأصرت على العصيان فإنها تعتبر ناشزاً طوال هذه المدة ولا تستحق نفقة ولا كسوة ولا أجرة سكن، فإن النفقة لها تلزم مقابل تمكينها من الاستمتاع بها، فإذا امتنعت من ذلك سقط حقها على زوجها، وإذا استمرت على هذا العصيان فالفراق خير لك من إمساكها لقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) (البقرة:231) وجزيت خيراً وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(87/2)
السؤال:-
امرأة تزوجت برجل وهي في بلادها ورزق منها بنتاً، وهي مع زوجها إذ نشزت منه فطلقت نفسها ولم يطلقها هو، فأتت هنا المملكة وتزوجت رجلاً آخر ورزقت منه طفلاً، وزواجها من هذا الرجل الثاني بموافقة من أهلها، فما حكم زواجها من هذا الرجل الثاني قبل أن يطلقها زوجها الأول؟ وماذا على الرجل الثاني أن يفعله لها وابنها وخصوصاً أنه إن كان فعل محظوراً يريد أن يتوب إلى الله؟
الجواب:-
طلاقها لنفسها خطأً وغير واقع إلا إذا وافق زوجها ورضي وتركها، فأما إن كان متمسكاً بها معتقداً أنها في عصمته فإن طلاقها غير صحيح ونكاحها للزوج الثاني باطل ولو كان بإذن أهلها، فلابد أن يفرّق بينهما وترجع إلى الأول بعد الاستبراء من الثاني بحيضة أو وضع حمل، فإن طلقها اعتدت منه وعقد لها على الثاني أو غيره، وإن أمسكها فهو أحق بها، أما ولدها من الثاني فهو ابنه لأنه نكحها بشبهة فهو صاحب الفراش والولد له.(87/3)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
الحديث الصحيح(88/1)
السؤال:-
ما مدى صحة الحديث: (إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاثة المرأة والدابة والمنزل) وهل ذلك يعني أن المكان المشؤوم يكون شؤماً على كل من يدخله أم يكون على شخص دون الآخر؟ حيث لاحظت منذ تعييني في هذا المكان تتابع عدة ظروف صعبة عليَّ ... وتزامن تعييني في الوظيفة سكني منزلاً جديداً، فهل لأحد المكانين علاقة فيما حصل لي؟! وأنا مؤمنة بالقضاء خيره وشره بحمد الله وأومن أن ما أصابني لم يكن ليخطئني وما أخطأني لم يكن ليصيبني لكن مع ذلك لكل شيء سبب، فماذا تنصحوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب:-
الحديث صحيح، ومعناه أن الثلاثة قد يحصل بسببها ضرر على الإنسان وهو مع ذلك مكتوب عليه ومقدر فلا يصيبه إلاَّ ما كتب له، لكنه مأمور بالبعد عن المخاطرة وأسباب الضرر، فلا مانع من مفارقة المرأة المشئومة أو الدابة أو السيارة أو الدار مع الإيمان بقضاء الله وقدره.
وقد أجاب العلماء عن الحديث بعدة أجوبة ومنهم صاحب كتاب تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد في باب ما جاء في التطير.(88/2)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
الحقوق الزوجية وآداب العشرة الزوجية(89/1)
السؤال:-
رجل له زوجتان وعندما تطالبه إحداهما بالبقاء في البيت مع الأولاد في أوقات الراحة مثل العصر وبعد المغرب يقول: إنه غير مطالب إلا بالمبيت عندهما فقط، أما باقي الوقت فليس لها المطالبة ببقائه عندها، وهو يستغله في اجتماعات مع أصدقاء وطلعات للبر وأشياء غير ضرورية، فبماذا توجهونه جزاكم الله خيراً؟
الجواب:-
إنما عليه البقاء في المنزل وقت فراغه ووقت النوم، وله أن يجالس أصدقاءه ويزاول تجارته أو حرفته أو وظيفته وله أن يسافر متى شاء لحاجة أو لنزهة، ولكن عليه إحسان العشرة الزوجية بقدر الحاجة والله أعلم.(89/2)
السؤال:-
عندي زوجتان ولله الحمد فهل إذا حصل لإحداهما عذر شرعي كالولادة أو غيرها، فهل يجوز لي اعتزالها والمبيت عند الأخرى خلال هذه المدة المعينة؟
الجواب:-
لا يجوز إذا كانت عندك في بيتك، بل عليك أن تبيت عندها وتؤنسها وتأكل معها وتحادثها ولو كانت حائضاً أو نفساء، أما إذا كانت عند أهلها أو سافرت عن المنزل فلك أن تبيت كل وقتك عند الأخرى والله أعلم.(89/3)
السؤال:-
عندي زوجتان ولله الحمد فهل إذا حصل لإحداهما عذر شرعي كالولادة أو غيرها، فهل يجوز لي اعتزالها والمبيت عند الأخرى خلال هذه المدة المعينة؟
الجواب:-
لا يجوز إذا كانت عندك في بيتك، بل عليك أن تبيت عندها وتؤنسها وتأكل معها وتحادثها ولو كانت حائضاً أو نفساء، أما إذا كانت عند أهلها أو سافرت عن المنزل فلك أن تبيت كل وقتك عند الأخرى والله أعلم.(89/4)
السؤال:-
أنا امرأة تزوجت من رجل كنت أظن أنه من أهل الخير والصلاح ولكن لم يكن ظاهره كباطنه، فكان حاداً في التعامل سيئ الطباع بخيلاً، وكان دائماً يضربني ودائماً يشتم أهلي، ويقبحني في شكلي دائماً، حتى وقعت الكراهة بيننا وكرهته كرهاً لا يطاق، وقد وقعت بيننا خلافات مستمرة لا حدود لها، وكلما ذهبت إلى أهلي يعيدونني ويصبروني، وبعد أن زادت الخلافات وتعبت نفسي أرسلني إلى أهلي أنا وولدي الصغير، ومنذ سنتين وإلى هذا الوقت وأنا أطالبه بالطلاق ولكن دون جدوى، وهو يرفض هذا الأمر رفضاً تاماً ويقول: سوف أعلّقها لن تأخذ رجلاً بعدي.
علماً بأنه متزوج من زوجة أخرى ومبسوط معها ولله الحمد وما دام أن الشرع حلل مثنى وثلاث ورباع ولا خلاف أو إشكال في ذلك، ولكنه يريد أن يذلني ويهين كرامتي، وبعد تدخل أهل الخير وكما هي عادته الكذب والخداع والمكر جاء إلى أهلي وقال: أطلقها بشرط الولد ووافقنا على ذلك بعد رفضه للعرض بدل الولد، وبعد أخذه للولد لم يفِ بوعده ولم يطلقني ويقول: سوف أجعلها معلقة طول عمري. وأخبر أنه يجد متعة في ذلك ويعلم تماماً أني لن أرجع لكنه يقول: لا لي ولا لغيري وإذا كنتِ تريدين الولد إلحقيه. وسؤالي هو:
(أ) إن عدت إليه والأحوال كما تعلم بيننا كرهاً شديداً فهل يحق لي طلب الخلع منه؟
(ب) هل كذبه وخداعه لي وكراهيته لأهلي وشتمه لهم وضربه لضعف شخصيته وعدم رجولته من الصفات الذميمة لهذا تجعلني أطلب الطلاق؟
(ج) هل تعليقه لي يعتبر ظلماً والذي أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلمات يوم القيامة) كل يوم يضيع من عمري وأنا معلقة بدون زوج ولا أولاد، أرجو توجيه نصيحة له لعله يعود إلى رشده.
الجواب:-(89/5)
إذا كان الأمر على ما ذكرتم من شدته وقسوته وصعوبة المعيشة معه وعدم القدرة على الصبر سيما مع الضرب والشتم والعيب والثلب والقذف والتحقير وضعف الشخصية وسوء المعاملة، ثم الحبس والمنع من التخلص، فلابد من رفع القضية وإثبات ما ذكرتم عنه من هذه الصفات، وطلب الفراق ولو بعوض وهو الخلع، وعليكم قبل ذلك نصحه وتخويفه وتحذيره من العقوبة العاجلة ومن أخذ عزيز مقتدر، سيما أخذه للطفل الذي لا يصبر عليه سوى أمه، وإنما قصده الضرار المحرم، ومن ضار مسلمة عاقبه الله، ومن شاق شق الله عليه، فإن أبى فلابد من الافتداء وسيجعل الله بعد عسرٍ يسرا، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.(89/6)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
الخلافات وأدب العشرة الزوجية(90/1)
السؤال:-
يحصل بيني وبين زوجتي شجار بسبب عدم نظافة مطبخها، فهي تترك الأواني حتى تتراكم وتكون لها رائحة كريهة، وكذلك بسبب التبذير الذي يحصل منها، فهي هداها الله- إذا عملت صنفاً من الطعام ولم يؤكل منه إلا اليسير تضعه في الثلاجة، وبعد أيام تعمل نفس الصنف من الطعام ولا تخرج الذي في الثلاجة، ونصحتها أن هذا الأمر لا يجوز ... وهذا حرام لأنه يعتبر تبذيرا، وإن الله سوف يعاقبنا على هذا الأمر، فيكون ردها إما أن تقول: هذا لا يخصك، أو تقول: أعمل هذا الأمر لأتحداك، فأخبرها أنها تتحدى الله لأنها نعمته، فتقوم بسبي أمام الأطفال بألفاظ قبيحة وتصر على أنني المخطئ عليها، مع العلم أن والدتها تعامل زوجها بقسوة وتسبه أمام أبنائه وأقربائه، وأنها لا تعطيه حقه كشخص متزوج، وقد نصحتها بأنه لا يجوز على المرأة أن تمنع نفسها عن زوجها أفيدونا عن هذا الأمر.
الجواب:-
لا شك أن هذا الأمر غير لائق، وبإمكانك نصحها وتوبيخها وتحذيرها من عقوبة الإسراف والإفساد والكسل، وكذا نصح أمها وبيان قبح ما تفعله، فإن لم تتأثر فتخوف بالطلاق رجاء أن ترتدع والله الموفق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(90/2)
السؤال:-
لي زوجة من خارج المملكة، وإذا منعتها عن الخروج من البيت أو نهيتها عن شيء أخذت تسبني وتلعنني وتشتمني، أريد موقف الشرع من ذلك! وهل أطلقها أم ماذا أفعل؟
الجواب:-
حيث إنها من خارج المملكة ننصحك بالصبر عليها مع نصحها وتخويفها من الطلاق الذي تتضرر به، حيث تفارق زوجها وولدها، ومتى لم تقبل وطلبت الطلاق أو وافقت عليه فلك أن تطلقها إذا لم تستطع الصبر عليها.(90/3)
السؤال:-
حدث خلاف بين شخص وزوجته وذلك بسبب طلب الزوجة أن تسكن في بيت خاص بها، فحدث عن هذا الخلاف أن ذهبت المرأة وطفلها إلى بيت أهلها وهم في منطقة بعيدة، وهي بعيدة عن مواعيد المستشفى وليس هناك من يذهب بالطفل لمواعيده وهي عند أهلها، فمن هو أحق برعاية الطفل الأب أم الأم؟ مع العلم أن الطفل صغير، أرجو توجيه النصح وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-
ننصح الزوجة أن تطيع زوجها وأن لا تكلفه ما يشق عليه وذلك لما يترتب على الخلافات والمنازعات من الأضرار والمفاسد، وعلى هذا فإن الأب أحق بالطفل لعصيان الزوجة ولبعد الطفل عن المستشفى وما يحصل عليه من الضرر في ذلك والله أعلم.(90/4)
السؤال:-
لقد تزوجت امرأة وهي -والحمد لله- ملتزمة ومكثت معها أكثر من ستة أشهر، ولكوني عندي زوجة قبلها ونحن ولله الحمد على خير ما يرام، فقد ألحت عليَّ الزوجة الأولى بطلاق الثانية، وتحت هذا التأثير فعلاً قمت بطلاق الزوجة الثانية دون أن يحصل منها أي تقصير، ولما علمت بذلك انزعجت كثيراً وتأثرت من ذلك وكتبت لي رسالة قالت فيها: (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون) (إبراهيم: 42) لقد ظلمتني بدون ذنب ولا تقصير وقلبت حياتي رأساً على عقب، وكنت قبل أن أتزوجك محل أنظار الشباب وكانت الفرصة أمامي في ارتباطي بشاب مثلي كبير، ولكني فضلتك على غيرك لدينك رغم أنك متزوج ولك أربعة أولاد ومع هذا قبلتك فكان جزائي منك هذا فعليك من الله ما تستحق ولن أسامحك أبداً وسهام الليل لا تخطئ) أنقل كلامها حرفياً لأن رسالتها هذه أقلقتني كثيراً وقد حاولت كثيراً استرضاءها بالمال وغيره فرفضت ذلك وتريد أن أخطبها من جديد، والذي أريده منكم هل أنا فعلاً ظلمت هذه المرأة بطلاقها دون أي ذنب جنته؟ وبماذا تنصحوني؟
الجواب:-
لقد أخطأت حيث تزوجتها بدون رضى زوجتك الأولى، وحيث سمعت كلام زوجتك الأولى في شأنها، وحيث أوهمت بطلاقها عدم صلاحها للزوجية، فما ذكرته صحيح فأنا أشير عليك أن تعيدها حيث لم يصدر منها ضرر ولا نقص، وإنما طلقتها إرضاءً لزوجتك الأولى التي قد وافقت على الزواج بها، إلا إذا سمحت عنك ورضيت بالفراق والتزمت أنها لا تدعو عليك بسهام الليل فلك ذلك، والله الموفق.(90/5)
السؤال:-
امرأة موظفة في أحد المستشفيات كخادمة، ورفض زوجها أن ترسل لأهلها في مصر أي مبلغ من الراتب، علماً أنه لا يأخذ منه شيئاً، وقد هددها بالطلاق إذا هي أرسلت شيئاً من الراتب.
فهل يجوز أن ترسل لأهلها شيئاً من راتبها؟ وإن أرسلت فهل يقع الطلاق؟ أرجو التوضيح والإِفادة وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-
إذا كان زوجها لا يأخذ راتبها وأنه زائد عن حاجتها فلا يجوز له منعها من إرساله لأهلها، وحيث إنه هددها بالطلاق فإنا ننصحه أن لا يطلقها ولو أرسلت، فإذا كان تهديده أن قال لها: (إن أرسلتِ شيئاً طلقتكِ) فعليه أن لا يطلق ولو أرسلت، فإن كان قد علق الطلاق على الإِرسال بأن قال: (إن أرسلتِ شيئاً فأنتِ طالق) وقصد بذلك تهديدها وتخويفها دون قصد الطلاق فلا يقع الطلاق بالإِرسال، لكن عليه كفارة يمين لاعتباره بمنزلة الحلف على ترك شيء أو فعله والله أعلم.(90/6)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
الطلاق وموقف الشرع منه وبعض فتاوى الطلاق
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وبعد:
فلا شك أن النكاح الشرعي من ضرورات هذه الحياة لما فيه من المصالح العامة والخاصة، ثم إن الله تعالى أباح الطلاق الذي هو حل لعقدة النكاح وذلك عندما تسوء العشرة ويشتد الخلاف ويحصل الضرر من هذا الاجتماع على الطرفين أو على أحدهما، ومع إباحته فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبغض الحلال إلى الله ولعل ذلك لما فيه من فك رباط الزوجية وتحريم الحلال وتفريق الأسر ووقوع العداوة والبغضاء بين الزوجين وأهليهما فلأجل ذلك جاء الشرع بتضييق الطريق التي تؤدي إلى الطلاق وشرع من العلاج للصلح والألفة والمحبة ما عرف به كراهيته الطلاق والمنع منه إلا في الحالات الحرجة التي لا يطاق معها التحمل والصبر، وقد أمر الله بالعلاج مع المرأة عندما يبدو منها بعض المقت أو الكراهية في قوله تعالى: (واللآّتي تخافون نشوزهن فعضوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) (النساء:34) ، فإذا رأى الرجل من زوجته تكرهاً أو تثاقلاً عند حاجته أو عصياناً أو بذاءة لسان وخاف منها النشوز وهو الخروج عن الطاعة بدأ بوعظها وتخويفها وتحذيرها من غضب الله وسخطه وعقابه وذكرها بحق الزوج وما ورد فيه من الأدلة وعظم حقه عليها، فإن انصاعت وارتدعت اكتفى بذلك وعادت الألفة بينهما، فإن لم تتأثر وبقيت على العصيان والتمادي في النشوز هجرها في الكلام ثلاثة أيام وفي المضجع بأن يوليها دبره رجاء أن تتوب وتترك المخالفة والمعصية، ثم إن لم يؤثر ذلك فيها ضربها ولكن ضرباً غير مبرح أي غير شديد وذلك لتأديبها وزجرها عن النشوز، ثم إذا تأزمت الأمور واشتد الخلاف فإن القاضي يبعث حكمين من أهله وأهلها ليصلحا بينهما فإن لم يقبلا فلا بد من الفراق بعد أن يؤمر كل منهما أن يتنازل عن بعض حقه وأن يعتبر نفسه هو المخطئ(91/1)
فلعل ذلك مما تعود به الألفة بينهما ومتى عزم الزوج على الفراق فلا بد أن يتأنى ويتريث فربما صلحت الأحوال واصطلحا بينهما، وهكذا لو رأت المرأة ما يسوءها من شراسة وسوء خلق ومضايقة أو حيف وجور فإن عليها التصبر والتحمل قبل أن تسأل الطلاق، فقد ورد في الحديث: (أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) .
وإذا نفد صبرها ولم تطق البقاء معه جاز لها طلب الطلاق واستحب له أن يطلقها حتى يخلصها مما هي فيه من الضيق والحرج، فإن لم يفعل فلها طلب الخلع بأن تبذل له مالاً أو منفعة على أن يخلي سبيلها لتعيش في راحة وطمأنينة، ثم إن الشرع لما أباح الطلاق جعله في أضيق الأحوال وأقلها وجوداً، فإن طلاق السنة هو أن يطلقها في طهر لم يطأها فيه أو بعدما يتبين حملها ويكون الطلاق واحدة فقط، وتبقى معه في منزله حتى تنقضي عدتها، وإذا تأملت ذلك وجدته يهدف إلى تقليل الطلاق والتحذير من إيقاعه حيث نهى عن الطلاق في الحيض فإن النفس قد تكرهها في تلك الحال فإذا أوقع الطلاق حال كراهتها فقد يندم ويتمنى عدم إيقاعه، ثم نهاه عن إيقاع الطلاق في طهر جامعها فيه وذلك أنه إذا صبر عنها مدة حيضها ثم طهرت فإن نفسه تندفع نحوها فإذا واقعها أمسكها حيث نهى عن الطلاق في ذلك الطهر، فإذا أمسكها حتى تحيض عرف أنه لا يجوز إيقاع الطلاق حالة الحيض فإذا طهرت لم يصبر عن مواقعتها غالباً فيبقى هكذا حتى يزول الخلف ويخف ما في النفس، وهكذا أباح طلاقها في حالة الحمل لأن إقدامه على ذلك دليل واضح على عدم رغبته في إمساكها، وهكذا إذا صبر عن مواقعتها بعد الطهر فطلقها فإن صبره دليل عزمه على الطلاق وعدم إطاقة الصبر معها، ثم أنه إنما أباح الطلاق مرة واحدة وذلك ليتمكن من المراجعة في العدة لقوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) (البقرة:228) أي في زمن العدة، كما أنه منعه من إخراجها ونهاها عن الخروج من منزله بقوله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن(91/2)
ولا) إلى قوله: (اسكنوهن من حيث سكنتم) (الطلاق:1-6) ، وحيث إن المعتدة لها حكم الزوجة فإن بقاءها معه وتجملها أمامه وكلامها وعرضها نفسها عليه من الأسباب التي تدفعه إلى المراجعة، وهكذا سعيها في الصلح واعتذارها عما صدر منها فإذا دفعته نفسه إلى مواقعتها كان ذلك رجعة عليها فتعود الحالة الزوجية إلى ما كانت عليه أو أحسن، فإذا تحمل الصبر وكفّ نفسه عنها كان دليلاً واضحاً على بغضه لها وعزمه على الطلاق والفراق، ولكن قد تصلح الأحوال فيما بعد ويعتذر أحدهما على الآخر ولو بعد زمن طويل فيتمكن من نكاحها بعقد جديد حيث إن الطلاق واحدة أو اثنتان وذلك مما يتمكن به من تجديد العقد وكل هذا يهدف إلى تقليل الطلاق والحد من إيقاعه وكم نلاقي يومياً من الوقائع بين الزوجين والتي تؤدي إلى الطلاق والفراق ثم يحصل فوراً الندم والتراجع، ولكن بعد فوات الأوان، وبالتأمل نجد أن أسباب الطلاق متنوعة وأغلبها وقوع نزاع وشقاق وخصومة ولو يسيرة تثير حفيظة الزوج فلا يتمالك أن يتلفظ بالطلاق ومتى راجع نفسه اعترف بخطئه وتمنى تلافي الأمر فنقع في حرج مع الكثير من هؤلاء، وننصح الزوج أن يتأنى ويتحمل فلا يسرع بالتلفظ بالطلاق مع علمه بأنه سوف يندم ويحب إرجاع زوجته إلى عصمته فلو تمالك نفسه لما حصل منه ما حصل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ، وهكذا ننصح الزوجة أن تتغاضى عن التقصير وعن الأخطاء التي تقع من زوجها عليها أو على ولدها فتملك نفسها أو تكتم غيظها وتصبر على ما أصابها حتى لا تحفظ زوجها بأقل انتقاد أو تعقب أو عتاب، سيما إذا عرفت منه الشراسة وسوء الخلق وضعف التحمل، فربما تراجع أو اعترف بالخطأ وربما نصحه غيره وعاتبوه بالتي هي أحسن حتى يراجع رشده ويذهب غيظه ويعرف عذر زوجته وأن هذا الخطأ لا يبلغ أن يصل إلى الفراق الذي يهدم البيت ويفرق الأسرة ويعرض الأولاد إلى التفرق والضياع،(91/3)
وهكذا ننصح كلا الزوجين عن إيقاع خلل أو نقص في الواجب من الحقوق فإن بذلك تدوم العشرة وتصلح وبالتساهل في حق الزوجة من النفقة أو الكسوة أو السكنى أو العشرة الطيبة يقع منها الضجر والقلق سيما إذا كان قد تعمد بخسها حقها، أو جار في القسم بين الضرتين، أو مال مع إحداهما، وقد أوجب الله العدل بين الزوجات وأمر من خاف الجور أن يقتصر على واحدة، ولا شك أن الزوج قد يجد في نفسه ميلاً إلى إحدى الزوجتين ولكن عليه تحري العدل الظاهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) يعني القلب، والجور المحرم هو المذكور في قوله تعالى: (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) (النساء:129) ، فعلى كلا الزوجين مراقبة الله والعلم باطلاعه ومحاسبته على ما فعل مما يجوز أو لا يجوز، وعليهما الحرص على الوئام والملاطفة وحسن العشرة ولين الجانب والتغاضي عن الزلات والهفوات والتخلق بالفضائل والتنزه عن الأدناس ومساوئ الأخلاق وعن الكذب والبهت والظلم والشقاق والنزاع ورفع الأصوات والتشدد في الطلبات وما يثير الأحقاد ويوقع فيما لا تحمد عقباه حتى تدوم الألفة وتصلح الأحوال والله يتولى السرائر وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(91/4)
السؤال:-
أنا امرأة ملتزمة بحدود الله ومتزوجة ولديَّ أربعة أطفال، وقد حصل بيني وبين زوجي كلام حاد وعنيف فغضب ورمى عليَّ الطلاق، وكتب ذلك في ورقة وهذه الطلقة الثانية، وبعد أن هدأت نفوسنا وزال الغضب نريد الرجوع إلى بعضنا على سنة الله ورسوله، وقد طلقني في حالة طهر ليس عليَّ نجاسة، ولكن نزل عليَّ دم فجأة بعد الطلاق على غير موعده وظل معي أربعة أيام ثم توقف، ثم نزل مرة أخرى يومين فذهبت إلى المستشفى لأني يمكن أن أكون حاملاً وعملت الفحص اللازم للحمل ولكن لم يكن حمل ولا حيض على قول الدكتورة لأنه دم على غير موعده، وكنت قد اغتسلت من الحيض قبل الطلاق بأسبوع، ومع ذلك شككت في الأمر ولكن ليس حملاً، وقالت الدكتورة إنه تعب الحالة النفسية وكثرة التفكير وقلة النوم فنزل الدم وأعطتني العلاج اللازم فتوقف والحمد لله، وبعد فترة نزل دم الحيض المعتاد في وقته ومدته سبعة أيام ولون الدم دم الحيض بعكس الذي نزل قبل ذلك كان لونه أحمر فتاحاً، وقد حضت الحيضة الأولى في شهر جمادى الأولى وحضت الحيضة الثانية في شهر جمادى الثانية والحيض معي منتظم في كل شهر وفي موعد محدد ومدته سبعة أيام كل شهر، والآن أريد من فضيلتكم إفادتي عن نزول هذا الدم هل هو حيض أم استحاضة؟ وهل يفسد عليَّ عدة الطلاق خصوصاً وأنني من النساء اللاتي يحضن ثلاثة شهور بثلاث حيضات وهل عليَّ كفارة؟ حيث أنني تركت فريضة الصلاة شكاً بالأمر.
الجواب:-
يقع هذا الطلاق وعدّته ثلاث حيض، فالدم الأول أربعة أيام ثم يومان هو الحيضة الأولى ثم بعدها حيضتان فإن حصل بعده حيضتان انقضت العدة وحرمتِ عليه إن لم يكن راجع في العدة فلابد من عقد جديد فإن تراجع في العدة صحت الرجعة والله أعلم.(91/5)
السؤال:-
لنا قريب يقول إِنه طلق عدة مرات وفي أوقات مختلفة، أي حلف بالطلاق من زوجته أنه لن يدخل منزلنا ويرضى علينا إلا بعد إعادة مبلغ من المال سبق أن دفعه لوالدنا مقابل إنهاء موضوع اتهام ابنه بسرقة بندقية تخص والدنا -وهو الآن نادم على ذلك الطلاق ويرغب مصالحتنا، والسؤال هو:
ما هو الحكم الشرعي تجاه طلاق المذكور حتى ننهي هذه القطيعة بيننا وبينه علماً بأنه زوج شقيقتنا وابن عمتنا؟ أفيدونا مأجورين.
الجواب:-
إن كانت نيته منع نفسه من الدخول إلى منزلكم ولم يعزم على الطلاق اعتبر ذلك يميناً مكفره بإطعام عشرة مساكين، فإن كان عازماً على الطلاق راغباً فيه فلا يدخل فإنها تطلق زوجته طلقة واحدة والله أعلم.(91/6)
السؤال:-
حصل بيني وبين زوجتي سوء تفاهم وأردت أن أنهي سوء التفاهم هذا بأي حال ولكن حضر الشيطان بيننا ووصل الأمر إلى الطلاق وقلت لها في سماعة التلفون عندما اتصلت عليها في منزل أهلها أنتِ طالق طالق طالق، وكنت حينها نفسيتي تعبانة ولم أتمالك نفسي عندها، وعندما أغلقت سماعة التلفون ندمت ندماً لا يعلمه إلا الله، وعندما ذهبت إليها لأصلح الحال بيننا قالت لي أريد فتوى الشيخ، أفتونا مأجورين.
الجواب:-
هذا التكرار يرجع فيه إلى نيّة المتكلم فإن كنت تنوي واحدة فقط وقعت واحدة، وإن كنت تريد إيقاع الثلاث وقعت، ولك مراجعة المفتي العام للنظر في أمرك مرة أخرى.(91/7)
السؤال:-
نعرض على سماحتكم حالة زواج وطلاق -الزوجان قريبان لي- وشاء الله أن يتزوجا في بلاد الغُربة في إيطاليا، حيث يُقيمان هناك، ونظراً لصلة القرابة هذه بينهما فقد تم عقد الزواج على الشكل التالي: عند كتابة المقدم والمؤخر في عقد الزواج فقد تم كتابة المقدم بأنه مقبوض نظراً لصلة القرابة ولإنهاء بعض الإجراءات بالشكل السريع وكذلك لوجود الثقة بين الأقارب، وبالتالي تم كتابة المقدم بأنه مقبوض على الورق فقط، ولم يتم استلام أي مبلغ نقدي أو شيك أو سند أو أي ورقة على شكل أمانة، وكذلك تم كتابة المؤخر بأنه غير مقبوض أيضاً، والسؤال هنا لسماحتكم:
هل تستحق الزوجة المطلقة مبلغ المقدم من الزوج بالرغم من كتابته بأنه مقبوض على الورق وهو غير مقبوض بالفعل؟
الجواب:-
إذا حصل الطلاق لزم الزوج دفع جميع الصداق المسمى في العقد، فلها أن تطالبه بالمقدم حيث لم تقبضه للثقة بينهما، فإن جحدها وادعى أنها قبضته بموجب الإقرار المكتوب في الوثيقة، فعليه إحضار بينة بذلك، فإن لم يحضرها، فعليها اليمين أنها ما قبضته، وأن توقيعها على القبض لأجل إنجاز الإِجراءات النظامية ولأنها وثقت به للقرابة والأمانة، فمتى حلفت استحقت ما تدّعي من المؤخر والمقدم والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(91/8)
السؤال:-
رجل طلق زوجته وهو صغير السن طلقتين ولم يفارقها منذ أن طلقها حتى الآن، وقد مضى على الطلاق ما يقارب العشر سنوات وله أبناء منها بعد الطلاق، ما الحكم الشرعي في مثل هذه الحالة؟ وإذا كان الحكم الشرعي مفارقتها فما طريق العودة الشرعي لرجوعهما لبعض؟
الجواب:-
إذا لم يفارقها وبقي معها كزوج ينام معها كزوجة طلقت ثم روجعت في العدة ويستمتع بها فإنها تحل له، والطلقتان تصح الرجعة بعدهما وقد راجعها ولو بالفعل وهو ردها والاستمتاع بها حتى ولدت بعد المراجعة، فعليه البقاء معها ما دم له رغبة فيها فإن كانت المراجعة بعد العدة فلا بد من تجديد العقد بين وليها وزوجها بحضور شاهدي عدل وفرض صداق المثل ولو بعد طول المدة والله أعلم.(91/9)
السؤال:-
حلفت يمين طلاق مضطراً، طلبت مني زوجتي أن أعود للسعودية وإنهاء جميع أعمالي والعودة خلال شعبان، وإذا لم أعد حتى نهاية الشهر تكون طالقاً، وحلفت اليمين كما هو: (يمين بالله سوف أعود قبل نهاية شهر شعبان وإنهاء عملي وإذا لم أعد تكوني طالقاً) هذا هو اليمين.
عدت للسعودية ولكن طلبت مني الشركة لا بد أن أستمر حتى نهاية شهر شوال وإعطائي حقوقي وحفاظاً على يمين الله الذي حلفته سافرت قبل نهاية شهر شعبان ولم أعد إلا في شهر رمضان، فهل تعتبر زوجتي مطلقة أم لا؟ وهل العودة تسقط اليمين أم لا؟ أفيدونا بارك الله فيكم.
الجواب:-
هذا الطلاق المعلَّق على عدم العودة إذا لم تقصد الطلاق وإنما قصدت إلزام نفسك بالعودة فيعتبر يميناً مكفره بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ولا يقع الطلاق.(91/10)
السؤال:-
حصلت بعض المشاكل بين أفراد قبيلتي وبعض الأقارب بشأن من يتزوج أخواتي من أبي.. أبناء عمي ترفضهم زوجة أبي، وأقاربي الآخرين تقبل بهم لتزوجهم من بناتها، علماً بأن والدي على قيد الحياة، حينها تدخلت لفض هذه النزاعات ثم قمت بلفظ الطلاق حيث قلت: (عليَّ الطلاق إنهم ما يعرفون خواتي -أقصد أقاربي الآخرين الذين يقبل بهم والدي وزوجته وأخي شقيق البنت- وبعد ذلك بفترة حوالي ثلاث أو أربع سنوات قام أقاربي المقبول بهم وذهبوا إلى أبناء عمي وطلبوهم بأن يسمحوا لهم بالزواج من أخواتي وسمحوا لهم جميعاً، ووعدوا بعدم التدخل في شؤونهم ... وذهبوا وتملكوا لدى المأذون من أختي لأحدهم.. ونتيجة لذلك غضبت غضباً شديداً لأنهم لم يسألوني ولم يأخذوا بخاطري، فاستدعيت المعرس وقلت له: (عليَّ الطلاق بالثلاثة الحارمة إنك ما تعرفها جزاء لك لأنك تجاهلتني) والمقصود من هذا الطلاق عدم إتمام الزواج وليس طلاق زوجتي، أفيدونا مأجورين.
الجواب:-
إذا كان هذا ما قصدت به الطلاق فعليك كفارة إطعام عشرة مساكين ولا تردهم عن الزواج ولا تطلق زوجتك.(91/11)
السؤال:-
أنا شخص متزوج منذ عام تقريباً، وحالياً أرغب فسخ نكاح زوجتي -أي تطليقها- لظروف صحية، فهل يلزمني معرفة ما إذا كانت في صحة طهر من عدمه؟ علماً أنه لم يتم دخولي بها، ولم يحدث اختلاء حيث أن زوجتي لدى أهلها في مدينة حائل وأنا أسكن لدى أهلي في مدينة الرياض، علماً أنني سبق وأن سمعت فتوى من أحد مشائخنا الأفاضل -ولا أتذكره حالياً- مفادها أن من تم طلاقها دون المساس فلا تعتد.
الجواب:-
يجوز طلاقها في أي وقت، ولا يشترط طهارتها، ولا عدة عليها حيث لم يحصل دخول، والأفضل أن تطلقها واحدة وهو طلاق السنة بشاهدين أو في صك شرعي.(91/12)
السؤال:-
أعلنت أن أتوب من شرب الدخان وحلفت بالله قائلاً: (طلاق بالثلاث من ظهر زوجتي) وكررت هذه الجملة ثلاث مرات، ثم قلت في نفس الوقت (تحرم عليَّ زوجتي) وكررت هذه الجملة تقريباً مرتين أو ثلاث مرات -علماً أن زوجتي حامل- بأنني لم أعد أشرب الدخان طيلة حياتي كرهاً له وطاعة لله غير قاصداً طلاق زوجتي، ووثقت من نفسي تماماً بأنني لم أعد أشرب الدخان، ثم قمت في الحال ورميت الدخان في الزبالة، ثم قلت مرة ثانية بعد رمي الدخان في الزبالة: (يحرم عليَّ شرب الدخان) وكررت هذه الجملة مرتين أو أربع مرات، لكني وللأسف الشديد بعدة فترة ستة أشهر تقريباً غلبت نفسي والشيطان اللعين ورجعت لشرب الدخان وأنا كاره، وأخذت عليه فترة لمدة شهر واحد ثم تركته وتبت منه والحمد لله، وأنا قلق وخائف مما بدر مني من أيمان وطلاق، وهل زوجتي حلال أم تعتبر طالقاً؟
فما الحكم والحل؟ وماذا أعمل جزاكم الله خيراً؟
الجواب:-
هذا الطلاق غير مقصود ولا يريد فراق زوجته، وإنما يريد منع نفسه من شرب الدخان، وعلى هذا يعتبر الطلاق يميناً يكفرها بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، ولو كرر الطلاق، فأما التحريم فالراجح أنه يعتبر ظاهراً يكفره بتحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وعليه صدق التوبة والبعد عن المدخنين.(91/13)
السؤال:-
يوجد عندي زوجة ذات أخلاق سيئة جداً، وأريد أن أؤدبها حيث أنني أطلقها طلقة واحدة وأرسلها إلى بيت أهلها، ثم أقوم بمراجعتها قبل انتهاء العدة بشهادة شاهدين وإثبات ذلك في ورقة وأن عملي هذا كان القصد منه تأديبها فقط، فهل هذه الطريقة صحيحة أم لا؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً.
الجواب:-
السنَّة لمن أراد الطلاق أن يطلق واحدة ويتركها في بيتها مع تجنب مسها، وهي لا تحتجب عنه، فإن بدا له راجعها في العدة، فإن انتهت العدة قبل الرجعة حلت لغيره، أما إرسالها إلى بيت أهلها كتأديب مع الطلاق فجائز، لكن لا بد من رجعتها قبل انتهاء العدة بشهادة شاهدين، ولا بد من إخبارها قبل العدة حتى لا تتزوج قبل علمها بالرجعة، ولا بأس أن يؤخر الرجعة إلى قُبَيل انتهاء العدة، والأولى كتابة الرجعة في ورقة مع توقيع الشاهدين والله أعلم.(91/14)
السؤال:-
حدث خلاف بيني وبين زوجتي في أحد المواضيع البسيطة جداً، وللأسف فقد سيطر الغضب على الموقف فقلت لها: (اعلمي أنكِ لو فتحتِ هذا الموضوع مرة أخرى أو عارضتيني في تربية أولادي إنكِ مطلقة، وهذا أخر إنذار لكِ وآخر طلقة) ثم أتبعتها ثانية وهي كالتالي: (واعلمي أن فراشكِ عليَّ حرام مدة شهر من الآن) ، وفي الحقيقة أني أريد هذه الزوجة وهي تريدني، ولنا ستة أولاد ولكني عند الخلافات ولو كانت بسيطة يغلب علينا الغضب، وخاصة أن الزوجة شديدة الغضب والتعصب حتى إني أحياناً أشك من شك عقلها، أفيدونا ما رأي الشرع وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-
ننصحك بحسن الخلق وحسن المعاملة والغض والعفو عند الغضب، ولين الجانب والصفح عن الهفوات، وأما قولك: لو فتحتِ هذا الموضوع مرة أخرى إنكِ طالق فهذا يمين يكفي فيها الكفارة بإطعام عشرة مساكين، أما تحريم الفراش مدة شهر فالأولى أن تتجنب الفراش حتى ينقضي الشهر، فإن لم تصبر فعليك كفارة ظهار، وهو صيام شهرين متتابعين من قبل أن تتماسا، فإن لم تستطع فإطعام ستين مسكيناً، وعليك أن تملك نفسك عند الغضب ولا يتكرر منك مثل هذا الحلف والتحريم حتى لا توقع نفسك في الحرج، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(91/15)
السؤال:-
أود إحاطة فضيلتكم أنه منذ ست سنوات تقريباً: حصل بيني وبين زوجتي خلاف بسيط وعلى إثره حلفت عليها قائلاً: (عليَّ الطلاق أن أقوم بتسفيركِ خلال أسبوع) ولم يتيسر لي تسفيرها خلال هذه المدة إلا بعد انقضائها، وكانت نيتي من هذا الحلف هو تسفيرها وليس طلاقها، وبعد ذلك راجعتها وتمت الأمور على خيرا ما يرام.
وحيث إنني متزوج منذ ما يقارب اثني عشر عاماً، ولم نرزق خلالها بمولود بسبب زوجتي فقد قامت هي بدورها بالبحث عن امرأة وقامت بخطبتها لي وبعد إِنها أغلب الإِجراءات وقع فيها ما يحدث لكثير من النساء من الغيرة فأوقعت بين المرأة المخطوبة وأهلها وحدثت بعض المشاكل كان من أهمها وأبرزها امتناع هذه الزوجة الجديدة عن إتمام الزواج، فغضبت لذلك غضباً شديداً وقلت لها: (عليَّ الطلاق أنكِ أنتِ سبب كل هذا) .
وقد اعترفت بعد ذلك أنها سبب هذه المشاكل وكان ذلك مما يقارب أربعة أشهر.
ومنذ ما يقارب شهرين عقدت على امرأة أخرى وتزوجتها ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم ما زلنا في مشاكل وشجار دائمين، ولقد أوصلتني هذه المشاكل إلى حد لم أعد قادراً على مسك أعصابي، ودخلت من مدة أسبوع إلى المنزل فوجدتهما قد تشاجرتا، فحاولت أن أصلح بينهما ولكن من كثرة النقاش لم أحتمل أعصابي وقد خرجت من وعيي، فوجهت الخطاب إلى كل واحدة على حدة قائلا: (إنتِ طالق ... أنتِ طالق) قلت هذا الكلام إلى كل واحدة منهما رغبة مني لإِنهاء النقاش وإِنها هذه الخلافات بالخلاص منهما جميعاً، والآن وبعد هذا كله أرجو يا فضيلة الشيخ إفادتنا عن الطلاق الحاصل مني تجاه الزوجة الأولى في الطلاق الأول والثاني والثالث؟ وهل يقع الطلاق على الزوجة الثانية؟
علماً كما ذكرت أنني لم أكن في وعيي في الطلقات الثلاث المذكورة.
الجواب:-(91/16)
أما قولك: عليَّ الطلاق أن أقوم بتسفيركِ خلال أسبوع بنية التسفير، فهذا يمين تجزيء فيه الكفارة، إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.
وأما قولك: عليَّ الطلاق أنكِ أنتِ السبب في كل هذا. وقد كانت هي السبب فلا شيء عليك في هذا لأنه حق مطابق ما حلفت عليه.
أما قولك لكل واحدة منهما على حدة: أنتِ طالق أنتِ طالق، فيقع بكل واحدة منهما طلقة، وتحل مراجعتهما زمن العدة ويبقى لك طلقتان، فراجعهما ولا تعد إلى مثل هذا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(91/17)
السؤال:-
أفيدكم أنه قد حصل مني طلاق لزوجتي حيث قلت لها: طالق طالق طالق، وكنت في حالة غضب شديد، أرجو التكرم فتواي هل تحل لي بعد هذا؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-
تحل لك إذا كنت قاصداً التأكيد بهذا التكرار، فإن كنت تقصد العدد الثلاث الطلقات فلا تحل لك إلا بعد زوج والله أعلم.(91/18)
السؤال:-
حدث بيني وبين زوجتي جدال حول إمكانية تسديد قيمة فاتورة التلفون وكان جدالاً شديداً أفقدني السيطرة على أعصابي، وقد تلفظت عليها بيمين الطلاق، حيث قلت لها: (أنتِ طالق بالثلاثة إذا رن التلفون في بيتي مرة ثانية) والآن مضى أربعة أشهر على الواقعة ولم أتمكن من إعادة جهاز التلفون للمنزل بسبب هذا اليمين، علماً بأن الأسرة كلها بحاجة ماسة لهذا التلفون، أفيدونا مأجورين.
الجواب:-
حيث كان قصدك إبعاد التلفون وليس الطلاق فإن هذا كاليمين، فعليك كفارتها وهي إطعام عشرة مساكين بنحو خمسة عشر كيلو من الأرز وما يصلحها من اللحم أو نحوه واحفظ لسانك.(91/19)
السؤال:-
حدث خلاف بيني وبين زوجتي وقد ألقيت عليها يمين الطلاق وكانت طلقة واحدة من غير شعور، وقد كنت بعدها في غيبوبة بعدما حدث، والآن وأنا نادم على ما حدث مني وأرغب أن أبلغكم أني أريد مراجعة زوجتي وأراجعها، نرجو منكم تبيين الحكم الشرعي تجاه ذلك والله يحفظكم.
الجواب:-
لك مراجعتها ما دامت في العدة إذا كان هذا الطلاق لأول مرة أو كان وقوعه في زمن غيبوبة أو إغماء، بحيث لا يشعر بما يقول ولا بد من شاهدي عدل على الرجعة. والله أعلم.(91/20)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
بعض مخالفات الأفراح وحكم الغناء فيها(92/1)
السؤال:-
ظهرت لدينا بعض العادات السيئة في الزوجات مثل:
1- إحضار الكوافيرة.
2- دخول أقارب العريس إلى صالة النساء.
3- تشغيل الموسيقى والأغاني.
وقد اجتمع أهل الخير وقرروا عقوبة من يفعل مثل هذه الظواهر ووضعوا عقوبات مالية على مرتكبيها فهل هذه القرارات تعد مخالفة لشرع الله أو فيها الحكم بغير ما أنزل الله؟ أفيدونا عن حكم ذلك والله يحفظكم ويرعاكم.
الجواب:-
لا يجوز عمل الكوافيرة لأنه من وصل الشعر وتغيير خلق الله تعالى وقد ورد اللعن لفاعله، وكذا دخول أقارب العريس ونظرهم إلى العروس سواء في ليلة الزفاف أو بعد ذلك إلا ّ أبوه وولده، والأغاني حرام وفيها فتنة وبلاء ودعاية للفساد، وأما العقوبة المذكورة فأرى عدم فعلها لكن في الإمكان هجر من يفعل ذلك والبعد عنه وإظهار بغضه ومقته حتى ينزجر وينزجر أمثاله والله أعلم.(92/2)
السؤال:-
أرفع إلى فضيلتكم سؤالي حول بعض العادات التي تحصل في الزواج وقد انتشرت عندنا في المنطقة الجنوبية وهي:
أولاً: عندما يعقد الزوج على زوجته يعمل والد الزوجة مناسبة يدعو إليها الأقرباء، وتقوم النساء بضرب الدفوف.
ثانياً: عندما يريد أن يدخل الزوج بزوجته يعمل الزوج وليمة أيضاً يكون فيها من التبذير ما الله به عليم، وتجتمع النساء ويضربن بالدفوف لمدة ساعة أو ساعتين أو أكثر في يوم الزواج واليوم الثاني.
ثالثاً: عندما تجلس الزوجة في بيت زوجها أسبوعاً أو أسبوعين أو أكثر يعمل والد الزوجة وليمة أيضاً، ويدعو إليها الزوج، وتجتمع النساء ويضربن بالدفوف.
فما حكم ضرب الدفوف في هذه الحالات الثلاث؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب:-
أولاً: عمل الولي مناسبة وقت العقد من العادات وتعتبر كرامة للحاضرين وضيافة للوافدين وفرحاً وابتهاجاً بهذه المناسبة الطيبة ولكن بدون إسراف أو تبذير بل بقدر الحاجة، وأما ضرب الدفوف فلا حاجة إليه وإنما رخص فيه ليلة الزفاف ولو كان دليل الفرح والاغتباط.
ثانياً: حفل ليلة الزواج هو عمل وليمة العرس المشروعة بمناسبة الزفاف واجتماع الأقارب والأحباب وهنا يشرع ضرب الدف عملاً بحديث: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) . وكذا سماع شيء من الصوت المباح في المديح والترحيب والتهنئة ولكن ذلك بقدر المعتاد فلا يجوز الإسراف والتبذير في الطعام وإفساد المال في ذلك ولا يجوز الإطالة في السهر والتمادي في الضرب بالدف الزائد عما تحصل به الكفاية.
ثالثاً: أما زيارة الزوجة لأهلها بعد أسبوع وعمل وليمة، فلا بأس به وهو معروف باسم الزيارة، لكن لا حاجة إلى ضرب الدفوف في هذه المناسبة بل فعله يعتبر منكراً، فالعمل المعتاد إنما هو وليمة للزوج وأقارب الزوجين كفرح واغتباط بمرور هذه المدة مع الاستقامة والله أعلم.(92/3)
السؤال:-
في الأفراح يقوم أهل الزوج أو الزوجة باستئجار نساء مهنتهن الضرب على الدفوف بمبلغ كبير من المال يزيد على الخمسة آلاف ريال لليلة الواحدة ويستعملن مكبر الصوت أثناء الضرب على الدفوف والغناء بالصوت المرتفع فما حكم ذلك؟
الجواب:-
ورد الحديث بلفظ: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) . فدل على شرعية الضرب بالدف وحيث أن ضربه خاص بمن يحسن ذلك ومن يعرف تلك الصيغة فلا بأس بمنحه أجرة أو هدية فيكون بقدر ما يسمع الحاضرين ولا يتجاوزهن وإلا حرم، وأما الغناء فيباح بما يتضمن التحية أو المديح المباح وبدون مبالغة في رفع الصوت مخافة الفتنة والله أعلم.(92/4)
السؤال:-
ما حكم الغناء بالطار للنساء بمفردهن في الزواجات؟ وما حكمه للرجال؟
الجواب:-
الطار اسم لنوع من آلات اللهو ولعله ما يُعرف بالطبل أو الدف، وإذا كان هو الطبل الذي هو مختوم الجانبين فالصحيح أنه من المعازف المحرمة، فلا يجوز الغناء به لا في الزواج ولا غيره لا للنساء ولا لغيرهن، وإن كان الدف الذي هو مفتوح أحد الجانبين فلا بأس باستعماله في أفراح الزواج بل هو مندوب إليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) ولا بأس معه بشيء من الصوت والغناء المباح بمدح أو ترحيب أو نحو ذلك، والأصل أنه للنساء وإن فَعَلَه الرجال أحياناً فلا بأس والله أعلم.(92/5)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
حكم إلقاء المرأة السلام على الرجال الأجانب(93/1)
السؤال:-
هل يجوز للمرأة أن تلقي السلام على رجال أجانب من غير المحارم، ولو كانوا معروفين؟
الجواب:-
يظهر لي أنها لا تسلم عليهم بالقول المسموع وهم أجانب منها، بل تقتصر على الإشارة أو النية، فإن كلام المرأة قد يكون فتنة لبعضهم، ولذلك نهيت عن رفع صوتها عند الرجال، وفي الصلاة لا تسبح للإمام بل تصفق بيديها، وفي التلبية لا ترفع صوتها بها، ولا تتولى وظيفة الأذان ونحو ذلك، فإن كن نساء سلمت عليهن بقدر ما تسمعهن ورددن عليها السلام المسموع، وكذلك إن مرت بمحارم لها كإخوة وبنين ونحوهم، ولا يشرع للرجل أن يرفع صوته بالسلام على المرأة الأجنبية عند الفتنة والله أعلم.(93/2)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
حكم زكاة الحلي المستعمل(94/1)
السؤال:-
هل حٌلي المرأة التي تلبسه فيه زكاة أم لا؟
الجواب:-
قد اختلف العلماء في زكاة الحلي الملبوس، فروي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليها فتخات من فضة فقال: (أتؤدين زكاتها؟) (الحديث أخرجه أبو داود والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني رحمه الله. قالت: لا. قال: (هي حظكِ من النار) . وهو صحيح، وحمل على أن زكاته إعارته أو لبسه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد بنتها مسكتان من ذهب فقال: (أتزكين هذا؟) قالت: لا. قال (أتحبين أن يسوّركِ الله بهما بسوارين من نار؟) فألقتهما (الحديث آخرجه أبو داود والنسائي والترمذي) . وهو صحيح، ولعل زكاته عاريته أو ضمّه مع غيره، وعلى هذا فالأحوط إخراج زكاة الحلي الملبوس، وإن لم يخرجها واكتفى بعاريته أو لبسه فلا بأس لوجود الخلاف، فقد كانت عائشة تحلي بنات أخيها ولا تخرج عنه زكاة، ولأنه مال مستعمل فهو كاللباس.(94/2)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
حكم سماع القرآن وقت انشغال المرأة عنه(95/1)
السؤال:-
هل يجوز للمرأة أن تجعل الراديو يقرأ القرآن في نفس الوقت الذي تؤدي فيه عملها في المطبخ؟
الجواب:-
يجوز ذلك حيث أن الإذاعة تحكي ما فيها من قرآن أو غيره، ومن استمع له استفاد ومن اشتغل فقد يستفيد ولو قليلاً.(95/2)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
حكم منع الحمل وأحكام توليد
الرجل للمرأة الأجنبية(96/1)
السؤال:-
أنا امرأة عندي ستة أولاد، وأكثرهم يتم الحمل به قبل أن تتم رضاعة أخيه -قبل انتهاء الحولين- فأردت أن أركِّب ما يسمى باللولب، وهو مانع للحمل لمدة عامين فقط، فما حكم الشرع في ذلك؟ مع العلم أنه يتم تركيبه عند امرأة طبيبة، أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب:-
لا مانع من ذلك إذا تراضى عليه الزوجان وتأكدتما أن لا ضرر فيه على الرحم ولا على قطع النسل ونحوه والله أعلم.(96/2)
السؤال:-
هل توليد الرجل للمرأة جائز؟ مع العلم أن نسبة الطبيبات في المستشفيات الحكومية وغيرها قليلة جداً، وطبيعة العمل موزع على دوريات ومناوبات، والولادة في علم الغيب فقد يذهب الرجل بزوجته في وقت لا يوجد فيه إلا أطباء من الرجال.
الجواب:-
اعلم أن الولادة أمر طبيعي موجود منذ خلق الله البرية، لم يزل النساء يلدن ولا يحتاج بعضهن إلى مولدة، وكثيراً ما تلد المرأة وتضع ولدها معها بلا مشقة كما حكى الله عن مريم قوله: (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) إلى قوله (فأتت به قومها تحمله) (مريم: 23-27) فقد ولدت وحدها وحملت ولدها بعد ذلك، وهذا يقع كثيراً كما نعرفه، وعلى هذا فلا يجوز للرجل الأجنبي أن يتولى توليد المرأة حيث يحتاج إلى كشف عورتها والنظر إلى فرجها، ولمس بشرتها كبطنها وأسكيتها وشفريها، لا شك أن هذا لا يجوز إلا للضرورة ولا ضرورة هنا والحمد لله، وليس التوليد مختصاً بالطبيبات فما عرفن إلا من زمن قريب، فإن وجدت طبيبة مأمونة موثوقة تحسن تولي الولادة ولا تلحق الضرر بالمرأة ولا بالمولود فلا بأس بتولي ذلك، وإلا تولى ذلك غيرها من غير الطبيبات، وهن النساء الكبيرات اللاتي عَرفن التوليد وتولين ذلك بدون تعلم طب أو نحوه، وكون الطبيبات في الولادة قليلات في المستشفيات لا يضر، فليس التوليد مقصوراً عليهن، وإذا كان العمل في المستشفى موزعاً على دوريات ومناوبات فعلى من أحست بالولادة أن تتصل بالمستشفى فإن كان فيه امرأة حاذقة وإلا ذهبت إلى غيره أو إلى امرأة عارفة ولو لم تكن طبيبة دون أن تذهب إلى رجل يكشف عورتها.(96/3)
السؤال:-
معلوم أنه إذا توافرت الطبيبات المسلمات فلا يجوز توليد الرجال، ولكن الواقع الآن ندرة الطبيبات، ويوجد طبيبات كافرات فهل نقدمهن على الرجال المسلمين مع عدم ثقتنا بهن، أم أنه يجوز توليد الرجال المسلمين لثقتنا بهم في مثل هذه الأحوال؟
الجواب:-
قد عرفت أن التوليد لا يختص بالطبيبات حيث يتولاه غيرهن من النساء المعتادات دون أن يحصل ضرر على المرأة ما عدا العملية القيصرية، وعلى هذا فلا يجوز الذهاب إلى الرجال المولدين ولو كانوا مسلمين ولو كانوا موثوقين، ولا يجوز أيضاً الذهاب إلى المولدات الكافرات لعدم الثقة بهن، فقد تبينَّ أنهن يعاملن المرأة والجنين بقسوة، وكثيراً ما يولد الجنين ميتاً أو يحصل به عيب كفصل عضو منه وانخلاع يد أو رجل أو أدرة في الخصيتين بسبب القسوة وعدم الأمانة حتى من طبيبات مسلمات، لكنهن أجنبيات ومن رجال أجانب، فكيف نعدل عن المولدات المعروفات من غير الطبيبات إلى مثل هؤلاء غير الموثوقين؟ وعلى هذا فإن تيسر طبيبات مأمونات مسلمات فهن أولى وإلا فلا يجوز تولي الرجال ولو كانوا مسلمين إلا عند الضرورة وكذا الكافرات لا يجوز توليدهن للنساء المسلمات إلى عند الضرورة والله أعلم.(96/4)
السؤال:-
تتوافر الآن الطبيبات في تخصص النساء والولادة في المستشفيات الخاصة، فهل يجوز أن أذهب للمستشفيات الحكومية التي لا يعلم هل يولَّدهن رجال أم نساء؟ علماً أن المستشفيات الخاصة تتطلب مبلغاً من المال يقارب خمسة آلاف ريال في الولادة الطبيعية ويتضاعف في حالة وجود عملية أو مرض الطفل، فيزيد إلى عشرة آلاف ريال، وهذا مبلغ مكلِّف على أواسط الناس.
الجواب:-
قد عرفنا أن النساء لم يزلن يلدن بدون طبيبات وتوليد المرأة للمرأة أمر معتاد معروف، وإن لم يتعلمن بالدراسة لكن تعلمن بالتمرن والاعتياد، ومع الأسف في هذه الأزمنة صار الناس يذهبون إلى الطبيبات أو المولدين من الرجال وتركوا ما كانوا عليه من قبل، وبكل حال لا يجوز للرجل أن يتولى توليد النساء الأجنبيات إلا في الضرورة القصوى، فإن وجد مولدات في المستشفيات الحكومية ذهبت إليهن وإلا تولى توليدها أمهاتها أو نساؤها العارفات بذلك قديماً، فإن لم يوجدن فلها الذهاب إلى العيادات الأهلية ولو بأجرة كثيرة، فإن لم تقدر وتعذر ذلك كله واضطررت إلى الرجال جاز ذلك بقد رالضرورة عند انسداد الأبواب، وقد ذكرنا أن كثيراً من النساء تلد في بيتها وحدها.(96/5)
السؤال:-
هل يجوز للطبيب أن يباشر الولادة مع وجود طبيبة في نفس الوقت والفترة؟ علماً أن بعض أولياء الأمور يطلبون توليد المرأة. وهل يجوز للطبيبة أن تمتنع كذلك بحجة توزيع العمل بينهما وبين الطبيب الموجود؟
الجواب:-
قد عرفنا أنه لا يجوز توزيع العمل بين رجل وامرأة وهو من أمراض النساء أو من أمراض الرجال، فليس للمرأة أن تتولى علاج الرجل سيما إذا دعى ذلك إلى كشف العورة كعلاج الأدرة أو البروستات ونحوها، وليس للرجل أن يتولى علاج المرأة سيما الولادة وعلاج الرحم والكشف الداخلي.(96/6)
السؤال:-
هل يأثم الزوج عندما يرفض توليد الرجال ويخرج بزوجته إلى مستشفى آخر وقد تلد المرأة في سيارته ويحصل لها ضرر أو للطفل؟
الجواب:-
إذا رفض الزوج أن يولِّد الرجل امرأته وخرج بها فولدت في السيارة فلا إثم عليه ولو حصل عليها مشقة أو على الطفل ضرر لأنه امتنع من فعل محرم، وهو كشف الرجل الأجنبي لعورة زوجته ولمسه لها، ثم إن كونها ولدت في السيارة دليل على سهولة الولادة واعتيادها والضرر الحاصل تتحمله، ولو قدر موت الطفل أو عيبه فهو بقضاء الله وقدره فيرضى ويسلم، وقد عرفنا أن الولادة أمر عادي يتولاه النساء منذ خلق نوع الإنسان ويعرف أغلبهن كيفية التوليد وإن كان الطب الحديث توصل إلى ما يسمى بالعملية القيصرية التي ما كان الأولون يعرفونها وهي أمر نادر قليل وقوعه والنادر لا حكم له والله أعلم.(96/7)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
حكم نظر الغفلة وحكم الركوب مع غير المحارم
وحكم مصافحة أخي الزوج(97/1)
السؤال:-
أنا امرأة أسكن مع أهل زوجي ويسكن معنا إخوة زوجي، ويحصل كثيراً من الأوقات من نظرة فجائية، فهل يصيبني لفحة من النار أم لا؟
ملحوظة: تكررت النظرة من أحد إخوة زوجي حتى لاحظت أنه يسرق النظر إليَّ وأنا في بيت الخلاء، ولقد أخبرت زوجي بذلك ولكنه لم يصدق في أخيه ذلك، فما الحكم في ذلك؟ وما هي نصيحتكم لي؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-
ورد الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك) . ومعناه: أن النظر إذا كان وقع على امرأة أجنبية بدون قصد فإنه يصرف بصره في تلك اللحظة ولا يحدق النظر، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) . وبكل حال عليكِ أولاً الحرص على التستر وتغطية الوجه ونحوه عند إخوة الزوج ونحوهم من الأجانب، وعليكِ أن تخبري زوجكِ ليقوم بنصحهم عن تحديق النظر وعن التحسس للغفلة، أو إذا رأيتِ من يتعمد هذا النظر ويظهر منه القصد للغفلة فلا بد من الابتعاد عنه حيث فعل ما لا يحل له والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصبحه وسلم.(97/2)
السؤال:-
ما حكم ركوب المرأة مع أختها من الرياض إلى الدّلم مع وجود زوجته وأولاده الصغار دون العاشرة؟ ومتى تباح الضرورة في ذلك؟ أفيدونا مأجورين.
الجواب:-
ورد في الحديث: (ما خلا رجل بامرأة إلاَّ كان الشيطان ثالثهما) . لكن هذا يختص بالخلوة وحدهما، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) . فهاهنا لا توجد الخلوة لوجود زوجة الرجل وأولاده ولو كانوا صغاراً فإنها تزول الخلوة، ولا يطلق على هذا سفراً لقصر المدة وأمن الطريق وانتفاء الخلوة ووجود الحاجة مع القرابة والأمانة والثقة ونحو ذلك فهذه الأمور لها اعتبارها والله أعلم.(97/3)
السؤال:-
أنا من إخوانكم في الله، ومنَّ الله عليَّ بالإِستقامة ولله الحمد، وأسكن أنا وأخي في بيت واحد، وكلٌ منا متزوج، فهل يجوز أن أصافح زوجة أخي مع حضور المحرم كزوجها أو زوجتي أو أطفالنا؟ وهل يجوز أن أجلس معها مع حضور المحرم وهي بلباس الرداء المعتاد عندنا والنقاب المعروف عندنا بالبرقع بدون أن تضع على وجهها خماراً؟ وهل يجوز أن أُعَلمَهَأ أمور الدين كذلك هل يجوز أن أسألها عن نواقص البيت؟ وجهوني جزاكم الله خيراً.
الجواب:
لا يجوز أن تصافح زوجة أخيك فأنت غير محرم لها، فلا يحل لمس امرأة أجنبية ولو كان بحضور زوجها أو أحد محارمها أو نساء غيرها أو أطفال عندكم، فأما الجلوس معها فلا يجوز مع الخلوة والانفراد، ولو كانت متحجبة متسترة، فإن كان هناك محرم أو نساء زالت الخلوة بشرط التستر الكامل للوجه والبدن أي البرقع ضيق الفتحات والرداء الساتر للبدن كله، فأما تعليمها ومناقشتها في أمور الدين وسؤالها عن نواقص البيت فيجوز ذلك بشرط التستر الكامل وعدم الخلوة ويكون بكلام معتاد بقدر الحاجة والله أعلم.(97/4)
السؤال:-
طلَّق والدي والدتي منذ ما يقارب 30سنة، وتزوجت وأنجبت من الزوج الثاني وطلقها من مدة وهي تنتقل بين أبناء زوجها الثاني وإذا طلبت منها الجلوس عندي في البيت ترفض بحجة أن والدي في البيت وهذا لا يجوز، مع العلم أن والدي متزوج وعنده أبناء وهو كبير في السن ومقيم عندي في الفلة، فهل يجوز لها الجلوس والإقامة عندي في البيت؟ وهل يجوز الجلوس مجتمعين بوجودنا في مكان واحد وهي متحجبة؟ أرجو الإفادة.
الجواب:-
لا مانع من جلوسها في منزلك ولو كان أبوك موجوداً وقد طلَّقها، فأنت محرمها وهي تحتجب عن غير المحارم.(97/5)
السؤال:-
امرأة ذهبت مع أخيها وزوجته للاعتكاف في العشر الآواخر من شهر رمضان المبارك لهذا العام، وهذه المرأة قد توفي عنها زوجها، وعندها اثنان من الأبناء أعمارهما ما فوق سن الخامسة عشرة -أي قد بلغا- ولديها خادمة في المنزل، فذهبت إلى الحرم المكي بقصد الاعتكاف وتركت الأبناء والخادمة وحدهم في المنزل، علماً أن لها ابن من غير هؤلاء الأبناء متزوج، فما حكم ذهاب هذه المرأة؟ وما توجيه فضيلتكم لها ولمثيلاتها من النساء؟ وما توجيهكم لأخيها؟ أفيدونا مأجورين.
الجواب:-
لا يجوز لها أن تترك هذه الخادمة في المنزل ومعها هؤلاء الشباب البالغون، فإنه يؤدي إلى الخلوة المحذورة، ولو كان قصدهم الاعتكاف في العشر الأواخر، وعلى أخيها أن لا يلبي طلبها بل هو مسؤول عنها وعن سفرها وتركها لهؤلاء الشباب يخلون بهذه الخادمة الأجنبية ويتعرضون للفتنة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(97/6)
السؤال:-
ما حكم سفر المرأة وحدها في الطائرة لعذر، بحيث يوصلها المحرم إلى المطار ويستقبلها محرم في المطار الآخر؟
الجواب:-
لا بأس بذلك عند المشقة على المحرم كالزوج أو الأب إذا اضطرت المرأة إلى السفر ولم يتيسر للمحرم صحبتها فلا مانع من ذلك بشرط أن يوصلها المحرم الأول إلى المطار فلا يفارقها حتى تركب الطائرة ويتصل بالبلاد التي توجهت إليها ويتأكد من محارمها هناك أنهم سوف يستقبلونها في المطار ويخبرهم بالوقت الذي تَقْدُمُ فيه ورقم الرحلة، وذلك لعدم الخلوة المنهي عنها ولعدم المحذور من سفرها وحدها الذي تكون عرضة للضياع أو لاعتراض أهل الفساد، وأيضاً فالمدة قليلة إنما هي ساعة أو بضع ساعات، هذه المدة قد لا تسمى سفراً أصلاً، لأن السفر هو الذي يسفر عن أخلاق الرجال، فلا ينطبق على المدة القصيرة ولأن الضرورات لها أحكامها، والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(97/7)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
حكم وطء الزوجة وهي حائض(98/1)
السؤال:-
ما حكم وطء الزوجة وهي حائض سواء أكانت الزوجة راضية أم غير راضية وهل يلزمها كفارة؟ نرجو التوضيح وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-
يحرم وطء الزوجة في زمن الحيض في الفرج، فإن فعل فالصحيح أنه يكفر فيتصدق بدينار، ويُقَّدرُ بأربعة أخماس الجنيه السعودي، فإن كان في أول الحيض فعليه دينار، وإن كان في آخره فنصف دينار، وأما المرأة فالأظهر أنه لا كفارة عليها ولو كانت راضية والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(98/2)
السؤال:-
كنت أمزح مع أحد الزملاء فقلت حالفاً: (والله العظيم بأن أجامع زوجتي وهي حائض) وقلت: (بالثلاث بأن أجامعها وهي حائض) ولم تكن عندي النية بفعل ذلك، وكان القصد منه التفاخر، وقد سألت أحد المشايخ فقال: ليس عليك شيء، وسألت آخر فقال: يلزمك كفارة وهي إطعام عشر مساكين، وقد قمت بإطعام عشرة مساكين ولكن الوسواس لم يفارقني، أرجو إفادتي ونصحي بما يجب أن أفعله جزاكم الله خيراً.
الجواب:-
لا يلزمك شيء غير الكفارة وهي إطعام عشرة مساكين، وإذا كنت قد أطعمت سقط عنك إثم الحلف، وننصحك أن تحفظ نفسك عن مثل هذا الكلام الذي فيه التعدي على المحرمات والجرأة على ذلك فإنه ذنب كبير والله أعلم.(98/3)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
عِدة المرأة المتوفى عنها زوجها(99/1)
السؤال:-
رجل توفي وفي عصمته ثلاث نساء -أي زوجاته- اثنتان منهن حوامل وواحدة غير حامل، فكيف يكون حداد هؤلاء الزوجات؟
الجواب:-
عدة الحوامل وإحدادهن مدة الحمل سواء طالت المدة أو قصرت، فإذا وضعت الحامل حملها انقضى إحدادها وحلت للأزواج، أما غير الحامل فإحدادها أربعة أشهر وعشرة أيام، فبعدها تتزوج إن شاءت والله أعلم.(99/2)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
فتاوى الخطبة والزواج(100/1)
السؤال:-
ما الطريقة الصحيحة للتقدم لخِطبة امرأة؟ وما الطريقة إذا عرفت موافقة البنت ولم يدر أبوها وأمها عن هذه المسألة فكيف التقدم لإِخبارهم بذلك؟
الجواب:-
عليك أولاً السؤال عنها، وعن أخلاقها وصلاحها ومناسبتها، ثم بعد ذلك لك أن تتقدم إلى أهلها وترسل إليهم من يطلب منهم ذلك ثم إذا وافقوا فقد وافقت المرأة، ولك بعد ذلك طلب رؤيتها في غير خلوة، وأما الاتصال بها هاتفياً فيجوز إذا كان الكلام عادياً ليس فيه غزل ولا معاكسة ولا طلب خلوة بل سؤالها عن الموافقة والرغبة دون استطراد في الكلام.(100/2)
السؤال:-
هل الأفضل العقد على المرأة مباشرة بعد الخِطبة أو تأخيرها قليلاً حتى يُكْمِل الشخص ما يحتاجه من مستلزمات الزواج؟
الجواب:-
يجوز العقد عليها مباشرة بعد الموافقة، ثم الاستعداد لإعداد مستلزمات الزواج، فإن خفت أن لا تقدر على المهر أو علمت بطلباتهم الكثيرة فلابد من الإِمهال حتى تعرف من نفسك القدرة على الدفع المطلوب مخافة العجز بعد العقد فيطلبون منك مهراً لا تقدر عليه والله أعلم.(100/3)
السؤال:-
تقدم أخي لخِطبة فتاة، ولكني أرى أنه لا توجد بها صفة من الصفات الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة ... الحديث) (الحديث في الصحيحين) . وكذلك لم تنل شيئاً من التعليم لا شرعي ولا غيره فهل يجب عليَّ أن أنصح أخي أم لا وذلك بترك خِطبة هذه الفتاة؟ علماً بأن أخي مدرس تخرّج حديثاً هذا العام.
الجواب:-
إذا لم يكن قد عقد عليها فلكِ أن تنصحيه وتبيني له ما تعلمينه عن هذه الفتاة من النقص والخلل والعيب وقلة الدين وقلة العلم وعدم الحسب والجمال والمال فلا خير فيها، فإن كان عقد عليها وتم ذلك فلا تعترضي عليه لما يترتب على الطلاق والفسخ من الضرر عليهما فإذا تم الزفاف فربما تناسب وتتأدب وتصلح معه والله أعلم.(100/4)
السؤال:-
سبق وأن عقد أخي النكاح على زوجتي ولم يدخل بها، وله أولاد من زوجة أخرى، فهل هم محارم لزوجتي أم لا؟ ولها بنات مني فهل هن يحللن لأولاد أخي أم لا؟ أفيدونا أثابكم الله.
الجواب:-
أولاد أخيك يعتبرون محارم لزوجة أبيهم ولو لم يدخل بها إذا حصل العقد، وأما بناتها من غيره فيحلون لهم ولو قد دخل بها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(100/5)
السؤال:-
كنت مسافراً إلى إحدى البلاد العربية، فأردت الزواج لأحفظ فرجي من الحرام، فذهبت إلى رجل عرض عليَّ فتاة للزواج فوافقت ... فذهبت إلى رجل آخر كتب بيننا عقد زواج شرعي، وبعد أن أخذت الزوجة إلى البيت وبعدها بيومين اتضَّح لي عدة أمور:
الأمر الأول: أن الزواج تمَّ بغير موافقة وليها.
الأمر الثاني: أن الشاهدين لم يكونا موجودين في مجلس العقد على الرغم من وجود ثلاثة أشخاص -غير الشاهدين- ساعة كتابة العقد.
الأمر الثالث: أنهم كانوا يتخذون هذه المسألة تجارة فتتزوج هذا اليوم بشخص وبعد أسبوع تتزوج بشخص آخر.
وكنت جاهلاً بطريقتهم هذه، وعندما أقدمت لهذا الزواج كنت أعتقد أنه زواج صحيح، وبعد أن أخبرتني الفتاة بأن هذه الطريقة للكسب المادي توقفت عن الجماع ودعوتها إلى أن تتوب إلى الله وتترك هذا الشيء وتتجه إلى الله وتصلي، فوافقت ولكن طلبت أن نجدد عقد الزواج عن طريق وليها، والسؤال هو:-
(أ) هل عقد الزواج باطل أم صحيح؟
(ب) هل أكون قد اقترفت الزنا بجهلي بهذا الشيء؟
(ج) هل يصح لي أن أجدد العقد إذا كان العقد الأول باطلاً؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب:-
(أ) هذا العقد فاسد إذا كانت هي التي زوجت نفسها، ولا يصح عند الجمهور، لكن إذا وقع عند من يجيزه كالحنفية فلا مانع من اعتباره.
(ب) : وحيث إن الحنفية يجيزونه بلا ولي وأنك جاهل بمذهب الجمهور وبحديث: (لا نكاح إلا بولي) (الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الألباني رحمه الله) . فأنت معذور ولا يكون نكاحك حراماً بل هو وطء بشبهة يعفى عنه.(100/6)
(ج) ولابد من تجديد العقد بحضور الولي وشاهدي عدل يشهدان على الإيجاب والقول حتى يكون النكاح صحيحاً عند الجمهور. ولا بد أيضاً من تحقق براءة رحمها بانقضاء عدتها من الزوج السابق أو استبرائها من وطء الشبهة ونحوه. والله أعلم.(100/7)
السؤال:-
رجل تزوج امرأة ومكثت معه حوالي سنتين، واتضح أنها أخته من الرضاعة، وسأل أحد العلماء فقال له: يلزمك أن تفارقها. وبعد حوالي أسبوع من المفارقة تزوجت، فهل هذا الزواج صحيح أم عليها العِدَّة؟ أفيدونا أثابكم الله.
الجواب:-
إذا فارقها وابتعد عنها بعد علمه بتحريمها عليه فلابد لها من الاستبراء، وذلك بأن تمكث حتى تحيض حيضة واحدة ليعلم بذلك براءة رحمها، فزواجها قبل الاستبراء فاسد، فعلى الزوج الثاني تجنبها حتى تستبرئ ويجدد العقد والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(100/8)
السؤال:-
ما الزواج العرفي؟ وما حكمه في الإسلام؟
الجواب:-
الزواج العرفي يظهر أنه اتفاق بين الزوج والأولياء على العقد واسم الزوجية لكن لا يمكنونه من الزوجة وإنما يقصدون أمراً معيناً كولاية أو حصول صك طلاق بعده أو نحو ذلك ولا شك أنه لا يجوز لأن النكاح جده جد وهزله جد.(100/9)
السؤال:-
ما زواج المتعة؟ وما حكمه في الإسلام؟
الجواب:-
نكاح المتعة هو أن يتزوجها ويحدد المدة كشهر أو شهرين كل يوم بكذا أو كل شهر بكذا فإذا انتهت المدة فارقها، وقد شرع هذا النكاح في غزوة الفتح لضرورة المسلمين الجدد ثم حرم إلى يوم القيامة.(100/10)
السؤال:-
شخص سافر إلى أمريكا بغرض الدراسة هل يجوز له أن يتزوج وهو بنيته الطلاق بعدما ينهي دراسته؟ علماً بأن المرأة غير مسلمة.
الجواب:-
الزواج في أمريكا يجوز ولو لكتابية كالنصرانية، وإذا أضمر أنه يطلقها بعد أنتهاء الدراسة جاز له ذلك، لكن لا يشترط في العقد ولا يحدد المدة ولا ينقص من المهر لأجل هذا الغرض ولا يضره كونه يضمر الطلاق في قلبه فربما تتغير نيته، فإن طلق فهو الخاسر والله أعلم.(100/11)
السؤال:-
في بعض الأوقات والأحيان أجامع زوجتي من الخلف ولكن بدون إيلاج الذكر في الدبر، فما حكم ذلك؟
الجواب:-
يحرم الوطء في الدبر، أي الإيلاج في محل الأذى وهو مخرج الغائط، لكن يجوز الإستمتاع من الخلف بدون إيلاج كجعله بين الفخذين أو بين الإِليتين ونحو ذلك كما لو كانت حائضاً أو نفساء ونحو ذلك ولم تنكسر شهوته إلا بذلك والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(100/12)
السؤال:-
هل يجوز للمرأة تقبيل فرج زوجها والعكس؟
الجواب:-
يجوز ذلك مع الكراهة، فإن الأصل أن كلاً من الزوجين يستمتع من الآخر بجميع البدن إلا ما ورد النهي عنه، فيجوز مس كل منهما فرج الآخر بيدنه والنظر إليه ولكن النفس تكره ذلك لأنه خلاف المألوف الذي يعبر عنه بالاستمتاع.(100/13)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
فتاوى اللباس والزينة(101/1)
السؤال:-
ما موقف الشرع من البرقع الذي يلبسه كثير من النساء في بلادنا؟ وبعضهن يظهرن وجناتهن وحواجبهن وتصبح المرأة فتنة بهذا اللباس، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب:-
لا شك أن النقاب الذي هو البرقع جائز إلا في الإحرام، ويشترط فيه أن يكون ضيق الفتحات لا يخرج من العين إلى قدر النظر، فإذا تجاوز ذلك وصار لافتاً للأَنظار فلا يجوز، ولا شك أن إبداء الوجنتين والحاجبين من العورة، فلا يجوز للمرأة لبسه بهذه الكيفية، وعلى المرأة أن تغطي وجهها بخمار ساتر فوق النقاب إذا كان واسع الفتحات ويكون الخمار على العين لا يمنع نظرها لكن يستر بشرة الوجه والله أعلم.(101/2)
السؤال:-
لقد انتشر في الآونة الأخيرة لبس البنطلون بين النساء بأشكاله المختلفة، وإذا أُنكر عليهن احتججن بأنهن بين النساء، فهل يجوز لبس البنطلون بصفة عامة؟ مع العلم أنه قد يظهر هذا اللباس من أسفل العباءة محدداً حجم الساقين، أفتونا عن الحكم الشرعي في لبسه. وجزاكم الله خيراً؟
الجواب:-
لا يجوز هذا اللباس للمرأة ولو كانت في محيط النساء أو المحارم لأنه يصبح عادة متحكمة يصعب التخلص منها حتى مع الرجال الأجانب وفي الأسواق والنوادي والمدارس ونحوها ... وذلك مما يلفت الأنظار ويسبب الفتنة ولو لُبس فوقه عباءة أو نحوها ولأنه أيضاً يبين تفاصيل البدن ظاهراً حيث تبدو معه الثديان والإليتان والفخذان ونحو ذلك، والمرأة مأمورة بالتستر ولبس الواسع من الثياب، فعلى أولياء الأمور المنع من هذا البنطلون وقصر المرأة على اللباس المعتاد بين المسلمين دون هذه الأكسية المستوردة التي يقلدن فيها الكافرات من النصارى واليهود وأشباههم والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(101/3)
السؤال:-
ما حكم لبس البنطلون للفتيات عند غير أزواجهن؟
الجواب:-
لا يجوز للمرأة عند غير زوجها مثل هذا اللباس لأنه يبين تفاصيل جسمها، والمرأة مأمورة أن تلبس ما يستر جميع بدنها لأنها فتنة وكل شيء يبين من جسمها يحرم إبداؤه عند الرجال أو النساء والمحارم وغيرهم إلا الزوج يحل له النظر إلى جميع بدن زوجته، فلا بأس أن تلبس عنده الرقيق أو الضيق ونحوه والله أعلم.(101/4)
السؤال:-
ما حكم استعمال المرأة للحناء في الرأس مما يؤدي ذلك إلى تغيير السواد؟
الجواب:-
إذا كان الشعر أبيض فلا بأس بغييره بالحناء والكتم لينقلب إلى الحمرة والسمرة، فأما الشعر الأسود فلا حاجة إلى استعمال الحناء فيه بل يترك على حاله.(101/5)
السؤال:-
انتشر في وسط النساء ما يلي:
(أ) قص شعر الرأس.
(ب) تغيير لون شعر الرأس باللون الأحمر والأصفر أو لون آخر.
(ج) لبس البنطلون أو ما يسمى (الجنز) .
(د) لبس الحذاء المرتفع (الكعب) .
(هـ) لبس الثياب الضيقة أو القصيرة أو المشقوقة من إحدى الجوانب أو القصيرة الأيدي.
فما هو الحكم في تلك الفقرات المذكورة؟ علماً بأن النساء يعللن أن لبسهن إنما يكون أمام النساء أو المحارم. مع توجيه نصيحة إلى أولياء أمورهن.
الجواب:-
(أ) أما قص المرأة شعر رأسها فلا يجوز فإن زينتها في توفير هذا الشعر وهو مما يمتدح به في الجاهلية والإسلام ولا زال نساء المسلمات يربين شعرهن منذ الطفولة ويحرصن على تسريحه وتضفيره وإطالته ويفتخرن ويتجملن به، حتى جاء وفد الغرب فأظهر نساؤهم قص الشعر من الأمام أو الخلف، وادَّعى من قلدهن أن ذلك جمال وزينة مع أنه غاية في التشويه وقبح المظهر، وقد ورد نهي المرأة عن حلق رأسها بعد التحلل من الإحرام وأن عليها أن تأخذ من كل ضفيرة قدر أنملة فقط، مع مدح أهل التحليق في حديث (رحم الله المحلقين.. الخ) ، وللشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في أضواء البيان كلام طويل على هذه المسألة في سورة الحج على قوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقضُوا تَفَثَهُمْ..) (الحج:29) وهو مما يهم الاطلاع عليه والله أعلم.
(ب) وأما تغيير المرأة لون شعر رأسها بألوان متنوعة فهو أيضاً موضة جديدة كما يُقال ويعبرون عنه بالميش، وقد تلقوه عن الوافدات من نساء الغرب اللاتي يبدون أمام الرجال حاسرات عن الرأس والوجه، وقد صبغن الشعر بعضه بأحمر وبعضه بأصفر وبعضه بأزرق.. إلخ.(101/6)
والقصد أن يلفتن الأنظار وأن يفتن الشباب، ومع أن هذا تمثيل وتقبيح فقد قلدهن نساء من أهل الوطن وقد ألزمهن أزواجهن بذلك لّما رأوا أولئك النساء بتلك الصورة تعلقت نفوسهم بها فأحبوا أن يظهروها في زوجاتهم رغم أن هذا التمثيل والتلوين يقبح المنظر ويشوه المظهر، وقد ورد في الحديث النهي عن التمثيل بالشعر، والنهي عن وصل الشعر، والنهي عن الصبغ بالسواد إذا كان الشعر أبيض، والرخصة في صبغ الشيب بالحمرة أي: بالحناء والكتم فقط، فيقتصر على الوارد والله أعلم.
(جـ) وأما لبس المرأة للبنطلون فلا يجوز ولو كانت خالية ولو كانت أمام النساء أو أمام زوجها إلا في غرفة مغلقة مع زوجها فقط، فأما سوى ذلك فلا يجوز فإنه يبين تفاصيل البدن ويعوّد المرأة على هذه اللبسة حتى تألفها وتصبح عندها مستساغة، فلا تجوز هذه اللبسة بحال.
(د) وأما لبس الحذاء المرتفع (الكعب العالي) فلا يجوز أيضاً وهو من التقليد الأعمى لنساء الغرب بما لا فائدة فيه ولا زينة، وإنما قصدهن لفت أنظار الشباب وتكرار النظر إلى تلك المرأة لتعجب الناظرين، ويمكن أن من قصدهن تحديب المرأة حتى تظهر عجيزتها أو بعض بدنها ونحو ذلك من المقاصد السيئة فتقليدهن في ذلك لا يجوز والله أعلم.(101/7)
(هـ) وأما الثياب الضيقة التي تبين تفاصيل البدن فلا تجوز للمرأة، فإن ظهورها بذلك يلفت الأنظار حيث يتبين حجم ثديها أو عظام صدرها أو إليتها أو بطنها أو ظهرها أو منكبيها أو نحو ذلك، فاعتياد مثل هذه الأكسية يعودها على ذلك، ويصير دينها، ويصعب عليها التخلي عنه مع ما فيه من المحذور، وهكذا لبس القصير أو المشقوق الطرف بحيث يبدو الساق أو القدم أو قصير الأكمام ولا يبرر ذلك كونها أمام المحارم أو النساء لأن اعتياد ذلك يجر إلى الجرأة على لبسه في الأسواق والحفلات والجمع الكثير كما هو مشاهد، وفي لباس النساء المعتاد ما يغني عن مثل هذه الألبسة والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(101/8)
السؤال:-
ما هو الحكم في صبغ رأس المرأة بغير الأسود وذلك للتجمل؟ وهل هناك صبغة محرمة مثل الميش؟ وهل تمنع وصول الماء إلى قشرة الرأس؟ وهل هي مضرة بالرأس؟ مع العلم أن الصبغ يمكث أربعة أو خمسة أشهر بإحدى الألوان غير الأسود، وهل هي من تغيير خلق الله؟
الجواب:-
لا يجوز مثل هذا الصبغ حيث إنه من تغيير خلق الله، وهو من تقليد الغرب بدون فائدة، ولا شك أن السواد أحسن الألوان في الشعر فتغييره بهذه الأصباغ من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولكن إذا ابيّض الشعر وصار شيباً جاز صبغه بالحناء ونحوه، ولا يمنع وصول الماء إلى البشرة فإنه يختص بالشعر والله أعلم.(101/9)
السؤال:-
ما رأيكم فيما يفعله بعض النساء من وضع الصبغة على الشعر وكذلك؟ وضع ما يسمى الميش على الشعر أيضاً؟ وماحكم استعمال الطيب للمرأة وذلك عند ذهابها إلى المدرسة؟
الجواب:-
لا شك أن هذا تغيير لخلق الله، فلا يجوز وضع هذه الأصباغ على الشعر إذا كان لونه أسود، فإنه أحسن الألوان فهذه الأصباغ التي تلون الشعر إلى أحمر وأخضر وأبيض ونحوه ... من تغيير خلق الله، ثم هو تقليد غربي ما كان المسلمون يعرفون ذلك قبل وفود نساء الكفار ومن تشبه بقوم فهو منهم، ويقال في وضع الميش الذي هو أصباغ ملونة متعددة أو موحدة تغيرّ لون الشعر عما هو عليه، فهو أيضاً تقليد غربي ويستثنى من ذلك إذا ابيّضَّ الشعر وأصبح كُلَّهُ شيباً، فإنه يجوز صبغه بالحناء الأحمر لورود الأمر بتغيير الشيب بغير السواد، وأما استعمال الطيب للمرأة فلا يجوز أن تمس طيباً له رائحة سيما إذا كانت سوف تخرج إلى السوق أو المستشفى أو العمل في المدرسة أو نحوها وأيضاً فإن طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه كالورس والصفرة في الخدين والذراعين ونحوهما والله أعلم.(101/10)
السؤال:-
انتشرت بين النساء والرجال ظاهرة قص الشعر بحيث يكون له فروة طولها 10سم أو 13سم ثم تقص حواف شعر الرأس فقط من جهة اليمين إلى الخلف ثم إلى الشمال بالكلية أو حلاقتها باستثناء جهة الأمام.
فما حكم ذلك وما دليله؟ وهل هو من القزع أم لا؟ ولماذا؟
الجواب:-
لا شك أن هذا الفعل من المنكر ومن التقليد الأعمى، وأنه داخل في القزع فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع ورأى صبياً قد حلق بعض رأسه فقال: (احلقوه كله أو اتركوه) . ثم إن هذا الفعل ليس فيه زينة ولا جمال للرجل ولا للمرأة، بل هو تغيير لخلق الله وتشويه للمنظر، وتقليد للغرب بما لا فائدة فيه مع ما به من التكلفة والشغل الشاغل، وكثرة العمل وصرف المال فيما فيه مضرة بما هو معروف، فننصح الرجل أن لا يعتاد مثل هذا التقليد الغربي، والمرأة أن تتوقف على ما كانت عليها أمها وجداتها من توفير الشعر وتضفيره فهو الغاية في الجمال والله المستعان وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(101/11)
السؤال:-
ما حكم إزالة شعر اليدين والساقين حيث إنَّه انتشر عند كثير من النساء؟ وهل النمص المقصود به إزالة شعر الحاجبين فقط أم أَنه يشمل الساقين وغيرهما حيث أن الحديث مطلق؟
الجواب:-
لا مانع من حلق شعر اليدين والساقين أو إزالته بما يزيله من أدهان أو نحوها وذلك أن هذا الشعر قد يؤذي ويحدث خشونة في الجسد، وأَما النمص المنهي عنه فهو إزالة شعر الحاجبين بالحلق أو النتف أو القص، ولا يلحق به إزالة شعر الساق أو الذراع فلا يدخل هذا في النمص المحرم بقوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله النامصة والمتنمصة) . وعلى المرأة التقيد بما ورد وترك ما لا يجوز فعله من النمص والوشم والوشر والفلج في الأسنان وتغيير خلق الله تعالى.(101/12)
السؤال:-
ما حكم حلق المرأة لشعر الحاجب الذي بحذاء -بجانب- الأنف؟
الجواب:-
الأصل أنه لا يجوز، لدخوله في شعر الحاجب، ولأن إزالته تدخل في النمص، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم النامصات والمتنمصات.(101/13)
السؤال:-
ما حكم لبس بعض النساء للعدسات اللاصقة الملوَّنة بقصد الزينة؟ كأن تلبس لباساً أخضر فتضع عدسات خضراء، أفتونا مأجورين.
الجواب:-
لا يجوز هذا إذا كان لقصد الزينة فإنه من تغيير خلق الله، ولا فائدة فيه للبصر، وربما قلل بصر العين حيث تُعَرَّضُ للعبث بها بالإلصاق وما بعده، ثم هو تقليد للغرب بدون فائدة، ولا جمال أحسن من خلق الله وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(101/14)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
فتاوى عن الحجاب الشرعي(102/1)
السؤال:-
انتشر بين نساء المسلمين ظاهرة لبس بعض النساء العباءة على الكتفين وتغطية الرأس بالطُرَح، والتي تكون زينة في نفسها، وهذه العباءة تلتصق بالجسم وتصف الصدر وحجم العظام ويلبسن هذا اللباس موضة أو شهرة، ما حكم هذا اللباس؟ وهل هو حجاب شرعي؟ وهل ينطبق عليهن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما ... ) ؟ أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيراً.
الجواب:-
لقد أمر الله نساء المؤمنين بالتستر والتحجب الكامل فقال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن..) (الأحزاب:59) . والجلباب هو الرداء الذي تلتف به المرأة ويستر رأسها وجميع بدنها ومثله المشلح والعباءة المعروفة، والأصل أنها تلبس على الرأس حتى تستر جميع البدن، فلبس المرأة للعباءة هو من باب التستر والاحتجاب الذي يقصد منه منع الغير من التطلع ومد النظر، قال تعالى: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) (الأحزاب:59) ولا شك أن بروز رأسها ومنكبيها مما يلفت الأنظار نحوها، فإذا لبست العباءة على الكتفين كان ذلك تشبهاً بالرجال وكان فيه إبراز رأسها وعنقها وحجم المنكبين وبيان بعض تفاصيل الجسم كالصدر والظهر ونحوه، مما يكون سبباً للفتنة وامتداد الأعين نحوها وقرب أهل الأذى منها ولو كانت عفيفة.
وعلى هذا فلا يجوز للمرأة لبس العباءة فوق المنكبين لما فيه من المحذور ويخاف دخوله في الحديث المذكور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي من أهل النار ... ) إلى قوله: (ونساء كاسيات عاريات مميلات روؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.. الخ) (أخرجه مسلم وأحمد وذكره الألباني في الأحاديث الصحيحة) . والله أعلم.(102/2)
السؤال:-
قام المركز الإسلامي في مدينتنا بتنظيم محاضرة للنساء، وقام المحاضر بإلقاء المحاضرة مباشرة من دون حاجز أو حجاب رغم معارضة بعض النساء لذلك وعدم رضاهن، ورغم وجود نساء كاشفات لوجوههن وأيديهن، وكان بالإمكان إلقاء المحاضرة من وراء ستار، ونتيجة لذلك حدثَ نقاش طويل بين بعض المسلمين عندنا، خصوصاً وأن إدارة المسجد ممثلة في اللجنة المنظمة رفضت أن يقوم أحد طلبة العلم في نفس اليوم بإلقاء محاضرة من وراء حجاب، وقد زاد من الخصومة أن المحاضر قال: (إن آية (وإذا سألتموهن متاعاً فسئلوهن من وراء حجاب) (الأحزاب:53) خاصة نزولاً وحكماً بزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز تطبيقها على غيرهن؟ وقال أيضاً إجابة على سؤال حول الاختلاط: (إن المحرَّم شرعاً هو الخلوة فقط، ولذلك لا مانع من استضافة المرأة للرجل الأجنبي في حال عدم الخلوة؟ ) وقال أيضاً: (إنه لا يرى أن تنتقب المرأة في البلاد الغربية حتى لا تعطي صورة غير مقبولة عن الإسلام) ؟
السؤال: ما رأيكم فيما حدث؟ وهل يجوز ذلك شرعاً؟ وما رأيكم فيما قاله المحاضر حول الاختلاط والنقاب؟ وهل يجوز الإنكار عليه؟ أفيدونا مأجورين.
الجواب:-(102/3)
لا شك أن ما فعله هذا المحاضر لا يجوز في الإسلام، فإن وقوف الرجل أمام النساء المتبرجات من أعظم أسباب الفتنة ولو أمنه هذا الرجل لم يأمنه غيره، ومتى فتح الباب لهم توصلوا إلى المحظور من النظر المحرم وما يجره من الفواحش، وقد نهى الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن التبرج بقوله: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) (الأحزاب:33) وهذا الخطاب يعم كل المؤمنات لأن الله ذمّه بإضافته إلى الجاهلية، والتبرج هو إبداء الزينة ولا شك أن الوجه هو مجمع محاسن المرأة وبه تحصل الفتنةو يحصل التقارب، فإن بقية جسدها قد لا يحصل به تفاوت بين النساء ولا شك أن النساء فتنة لكل مفتون، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) (أخرجه أحمد وهو عند مسلم) ، ولّما أذن لهن في الصلاة في المسجد قال: (وليخرجن تفلات) (أخرجه أحمد وأبو داود) .(102/4)
وقال: (وبيوتهن خير لهن) وذكرت عائشة أنه يشهد صلاة الفجر نساء متلفعات بمروطهن (أخرجاه في الصحيحين) ، وقالت عائشة: (لو شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل) (أخرجه الشيخان) . ولما أمرهن بالخروج لصلاة العيد قلن: (إحدانا ليس لها جلباب) قال: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) ، والجلباب هو الرداء الذي تلتف به امتثالاً لقوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) فالمرأة إذا تسترت واحتشمت عرفت بصفتها وحيائها ودينها فلا يتجرأ أحد أن يؤذيها معاكسة أو مكالمة أو ممازحة، ولذلك نهيت المرأة عن السفر بدون محرم حتى لا تتعرض لأذى من ذوي النفوس الرديئة، وأما قوله تعالى: (فاسألوهن من وراء حجاب) (الأحزاب:53) فهو وإن كان خطاباً لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وذلك لوجود العلة التي في قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضٌ) (الأحزاب:32) . فإذا كان هذا الطمع في أمهات المؤمنين فلابد أن يكون في غيرهن بطريق الأولى، فإن الله اختار لنبيه أفضل النساء وأعفهن ومع ذلك أمرهن بالحجاب ونهاهن عن الخضوع بالقول صيانة لهن، فغيرهن أولى بالصيانة والتحفظ والبعد عن أسباب العهر والفتنة، وعلى هذا فيحرم أن تستضيف المرأة رجلاً أجنبياً ولو كان معه رجال أو معها نساء إذا كان هناك سفور وتبرج وعدم محرم للمرأة، وقد وردت الأدلة على النهي عن خلوة الرجل بالمرأة إلا مع ذي محرم، ولم يفرق بين وجود النساء أو الرجال الأجانب، وعلى هذا فإذا احتيج إلى إلقاء محاضرة للنساء فلا بد من حاجز وستار قوي يمنع من النظر حتى لا تحصل الفتنة، ويلزم المرأة أن تستر جميع بدنها بما في ذلك الوجه واليدان أمام الرجال الأجانب، ولو كانت في بلاد الكفار حتى تظهر شعائر الإسلام وذلك يعطي صورة حسنة عن الإسلام وأهله، ولا عبرة بمن استغرب(102/5)
ذلك وأنكره ممن قد يرون المنكر معروفاً والمعروف منكراً، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(102/6)
السؤال:-
لديّ ولد يبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً ومتزوج حديثاً، ويعمل في دولة الكويت، ولقد أمرته بأن يأمر زوجته أن تستر وجهها أمام أخيه الذي يسكن معه في نفس البيت وأخوه يصغره بقليل، وكذلك أمام الناس جميعاً، فردَّ عليَّ وبوجهي بأعلى صوته قائلاً: لا أسمح لك ولا لأحد أن يتدخل في هذا الأمر، ولقد سألت العلماء هنا في الكويت بخصوص هذا الأمر فأباحوا كشف المرأة وجهها واليدين. فأخبرته في الحال أنه لا يجوز شرعاً وهذا محرم وأعطيته صورة من فتواكم لي بهذا الخصوص، وأورد هنا ما قاله لي نصاً: (لا أسمح لك ولا لأحد أن يتدخل في شؤوني وزوجتي) ولقد حاولت معه ومع زوجته بالنصح ويردّ عليَّ بخشونة وبدون تقبل لما أمرته به من خير لدينه ودنياه، ولقد جرح شعوري بأفكاره وعدم تقبله لطاعتي ونكرانه للجميل، وأنا كنت أسكن في الكويت ولي فيها بيت ملك، وهو يسكن الآن فيه وزوجته وأخوه وأمه، علماً بأنهما موظفان ولهما دخل جيد، والآن يا فضيلة الشيخ وبعد ما ورد أعلاه هل يجوز لي شرعاً أن أخرجه من بيتي وأهجره من السلام وأمنع بناتي وأولادي من الدخول عليه في بيته الذي يخصه مستقبلاً، وذلك خشية تاثير زوجته على بناتي، حتى يغيرّ المنكر الذي هو عليه الآن؟ وهل يعتبر هذا الابن فيما عمله معي في حكم العاق أم يعتبر مرتكب إثم؟ وهل لي الحق أن أحرم زوجته من الدخول على بناتي ولا في بيتي الذي أنا أسكنه إذا لم تخف الله وتستر وجهها؟
فبماذا تنصحونني وتنصحون هذا الأبن؟ وبماذا تنصحون زوجته؟ وبماذ تنصحون أخاه الذي يسكن معه في البيت وهو على هذا الحال وعمره قرابة الثانية والعشرون سنة؟ أرجو إفادتي ولفضيلتكم جزيل الثواب والأجر من الله.
الجواب:-(102/7)
عليك تكرار النصح له وتخويفه وتحذيره من المفسدة وإذا أصر وامتنع من التقبل فهو عاص لله عاق لأبيه، فلك أن تخرجه من منزلك وأن تهجره في ذات الله وأن تمنعه من الدخول على بناتك مخافة التأثير عليهن، فإذا تاب وأناب وتراجع وكلَّف زوجته بالتستر والاحتشام فهناك تتقبله وتفسح له الزيارة وعليك أن تنصح أخاه الذي أصغر منه عن الجلوس معه وتأمره بهجره ومقاطعته ما دام مصراً على المعصية وجزيت خيراً.(102/8)
السؤال:-
ما الحجاب الإسلامي الكامل؟
الجواب:-
الحجاب الإسلامي للمرأة أن تقر في منزلها ولا ترى الرجال الأجانب ولا يرونها، لقوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) (الأحزاب:33) ، أمر بالقرار في البيت وعدم الخروج إلا لضرورة وإذا احتاجت للخروج والبروز أمام الرجال نهيت عن التبرج: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) (الأحزاب:33) والتبرج إبداء شيء من البدن كالوجه أو اليد أو القدم بل عليها أن تستر بدنها كله بثياب صفيقة ساترة واسعة لا تبين شيئاً من تفاصيل الجسم بل تستر بدنها كله ولا تظهر شيئاً من الزينة كالثياب الجميلة والحلي والبدن لقوله تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) (النور:31) فهذا هو الحجاب الكامل، أي: ستر الوجه والبدن كله وتوسيع الثوب والمشالح والأردية والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(102/9)
فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله
الفتاوى النسائية
فتاوى عن حد الزنا(103/1)
السؤال:-
رجل يطأ أخت زوجته منذ مدة طويلة حتى تبين حملها. والسؤال هو: هل تبقى زوجته بذمته؟ وما مصير المولود ولمن ينسب؟ وما الحد الشرعي على هذا الرجل والمرأة علماً أن هذه المرأة مطلقة؟
الجواب:-
هذا جرم كبير حيث إنه زنا وإنه مع من يحرم عليه نكاحها وإن كان مؤقتاً، وعلى هذا فإذا اعترف بالزنا وأن الحمل منه فعليه الرجم بالحجارة حتى يموت، وكذا على المرأة التي مكنته من نفسها وهي ثيّب ولم تكن مكرهة عليها الرجم، ولا يتسامح معها لبشاعة فعل الفاحشة، ولا ترجم المرأة حتى تلد ويوجد من يحضن الولد، وينسب الولد لأمه ولو اعترف به الزاني أو أولاده فإنه لا يلحق بالزاني ولا كرامة، وعليه قبل الرجم اجتناب زوجته حتى تلد أختها لئلا يجتمع ماؤه في رحم أختين، وكذا يبتعد عن زوجته إن ادَّعى شبهة وقامت قرينة به والمرجع في ذلك إلى القاضي الشرعي وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(103/2)
السؤال:-
هل يجوز للأرملة أن تزني إذا لم تجد عملاً ولم تجد الزوج يتزوج بها ولم يوجد من يعولها ولم تجد من يعطيها ولو بالتسول وأولادها معرّضون للمجاعة؟
الجواب:-
لا يجوز لها الزنا بأية حال، فهو من أعظم المحرمات، وعليها بذل السبب في الزواج أو التسول والصبر على الشدّة إلى أن يرزقها الله: (سيجعل الله بعد عسر يسرا) (الطلاق:7) .(103/3)
السؤال:-
قدم رجل إلى ألمانيا وحصلت له علاقة مع ألمانية -والعياذ بالله- وكانت هذه العلاقة علاقة محرمة، حصل منها زنا -نسأل الله العافية- وعلى إثرها أنجبت هذه الألمانية طفلاً من هذا الرجل الجزائري علماً أن هذه المرأة غير مسلمة وهو مسلم (اسماً فقط) ، وبعد عام من عمر الطفل أسلمت الألمانية ولله الحمد، ولكن أبا الطفل ما زال على حاله من شرب للخمر والرقص.. الخ -والعياذ بالله- وقد نصحه غير واحد من الإخوة ولكن لم يرجع ولم يتغير شيء من حاله -هدانا الله وإياه-، ثم إن هذه المرأة الألمانية رفضت أن يرى الأب ابنه وأقامت عليه دعوة في المحكمة، وحكمت المحكمة بأن هذا الرجل ليس بأب صالح للابن فلا يحق له رؤية ابنه، ثم بعد ثلاث سنوات طلب الأب رؤية ابنه وذلك بوساطة بعض جماعة المسجد فوافقت الألمانية على أن يرى الطفل كل خمسة عشر يوماً، مرة واحدة لمدة ساعة، ثم بعد مرتين رفضت أن يراه مرة أخرى وعزمت على أن يكون الطفل باسم زوجها الحالي، والذي تزوجها قبل عام وهو رجل ملتزم، كذلك نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً، والآن هل يأخذ الطفل اسم أمه أم اسم أبيه أم اسم زوج أمه؟ وهل لوالده رؤيته وهو مقيم على تعاطي الخمر وارتياد أماكن الفساد؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله.
الجواب:-
هذا الولد ينسب إلى أمه، فعصبتها هم عصبته ولا ينسب إلى أبيه الزاني ولا إلى زوج أمه الذي تزوجها بعد ولادته، فليس هو ابناً للزاني ولا كرامة لحديث: (الولد للفراش وللعاهر الحَجَر) أي للزاني الخيبة أو العقوبة، والولد لا يضره عمل أبويه إذا أصلح حاله، وحيث إن أمه قد تابت وتزوجت رجلاً صالحاً فعليها أن تنسب هذا الولد إليها وإلى أبيها وهي التي تعصبه، وكذا عصبتها كأبيها وإخوتها ونحوهم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(103/4)