إجَازة
الإجازة لغة:
فى المصباح: جاز المكان يجوزه جوزا وجوازا سار فيه وأجازه قطعه وأجاز الشىء أنفذه- قال ابن فارس وجاز العقد وغيره نفذ ومضى على الصحة وأجزت العقد جعلته جائزا وأجاز له فعل كذا سوغه له وأجاز رأيه أنفذه كجوزه وجاز له البيع أمضاه وأجاز الموضع خلفه (1)
الإجازة فى استعمال الفقهاء:
لا تخرج فى استعمال الفقهاء عن هذا المعنى العام فيستعملونها فى إنفاذ العقود الموقوفة بمعنى ترتيب أثرها عليها وإنفاذها فيقولون إن العقد الموقوف ينفذ وترتب عليه آثاره بإجازته ممن له ولاية إنفاذه فعقد الفضولى عند من يراه موقوفا لا تترتب عليه آثاره ولكنه يصير نافذا وتترتب عليه آثاره بإجازته من صاحب الشأن وهو المالك أو الولى علية أو وكيله مثلا وكذلك تصرف ناقص الأهلية المتردد بين النفع والضرر يصدر عليه موقوفا موذوفا ولكنه ينفذ بإجازته ممن له الولاية على ناقص الأهلية وتزويج العبد نفسه موقوف ينفذ بإجازته من سيده والوصية للوارث أو بأكثر من الثلث موقوفة وتنفذ بإجازتها من الورثة وهكذا، وكذلك يستعملونها بمعنى الإمضاء وذلك فى العقود النافذة إذا كان فيها خيار لأحد العاقدين فيقولون أنها تصير لازمة بإجازتها ممن له لخيار فى فسخها ويسقط خياره بإجازتها أى بإمضائها كما فى البيع فيه خيار الرؤية أو خيار الشرط وإذا كانت فى الفعل كان معناها الرضا به وبما يترتب عليه من أثر كما فى أجازه الإيفاء بالدين يقوم به أجنبي أو تسليم العين الموهوبة يقوم به غير الواهب
ما تتحقق به الإجازة
تتحقق الإجازة بكل ما يفيد الرضا صراحة أو دلالة من قول أو فعل فتكون باللفظ وما يقوم مقامه كالكتابة أو الإشارة ممن لايستطيع النطق وسواء أكانت بالعربية أو بأية لغة من اللغات من كل عبارة تدل على الإنفاذ. والرضا كأجزت ونحوه وهى اما صريحة إذا دلت على ذلك صراحة كأجزت وأنفذت أو غير صريحة إذا ما دلت على ذلك بطريق اللزوم وإلاشارة كأن يقول نعم ماصنعت أو بارك الله لنا فيما فعلت أو يهنأ فيشكر أو يتقبل التهنئة وذلك ماذهب اليه الفقيه أبو الليث وبه كان يفتي الصدر الشهير مالم يظهر أن مثل ذلك قد صدر منه على سبيل الإستهزاء ومرد ذلك الى القرائن وهذا هو المختار (2) ومن الإجازة بطريق الدلالة أمره فضوليا زوجه امرأة بأن يطلقها عندما علم بالزواج لأن الطلاق لايكون إلا فى زواج صحيح نافذ، وفى جامع الفصولين الطلاق فى النكاح الموقوف قيل يعد إجازة وقيل لا..
وتكون بالفعل إذا ما كان أثرا للعقد وتوقفت سلامته عليه كقبض المهر ودفعه وإرساله وقبض الثمن ودفعه وتسلم المبيع وتسليم العين المرهونة إلى المرتهن وتسليم الهبة إلى الموهوب له ونحو ذلك من كل ما يدل على الرضا بخلاف قبض المرأة هدية الزواج إذا زوجها منه فضولى إذ أن ذلك لايعد أثرا للعقد ولا تتوقفه سلامته على العقد فقد تكون الهدية من غير الزوج وقد تقبضها لغرض آخر غير الرضا بالعقد (3) وقيل إنها تتحقق مبعث الهدية الى الزوجة ولا تختلف المذاهب فى هذا الذى ذكرنا. ولكن الزيدية حين تعرضوا للإجازة الفعلية مثلوا لها بالمثال الآتي فقال لو علمت المرأة بالعقد وما سمى لها فيه فلم يصدر منها لفظ إجازه ولكن مكنت الزوج من نفسها كان تمكينها له كالإجازة للعقد والمهر معا حيث وقع التمكين بالوطء أو بمقدماته بعد العلم بالعقد أو التسمية بما لجهلت العقل لم يكن التمكين أجاز وتحد ان مكنته من نفسها لأنها زانية مالم تلحق منها الإجازة بعد أن تعلم فيسقط الحد للشبهة وهو تعذر العقد وأما لو علمت العقد وجهلت التسمية فلا إشكال أن التسمية تبقى موقوفة على أجازتها وقد يبقى العقد موقوفا أيضا فيبطل إذا ردت التسمية ولم ترض بها (4) .
هل يعد السكوت إجازة
ذكرنا أن الإجازة تكون بكل مايفيد الرضا من قول أو فعل فهل تكون أيضا بالسكوت عند العلم بالعقد أو بالتصرف أو عند مشاهدته؟
من القواعد التى ذكرها الفقهاء أنه لاَينسَبْ الى ساكت قوله وقد جاء ذكر هذه القاعدة فى كثير من كتب الحنفية ومنها الأشباه والنظائر لابن نجيم إذ جاءت تحت عنوان القاعدة الثانية عشرة ومقتضاها أن السكوت لا يعد إجازة قولية كما أنه لا يعد فعلا من الأفعال وذلك كله لإينفى أنه قد يفيد الرضا وإن لم يكن قولا أو فعلا ومن الظاهر أن إفادته الرضا مردها الى القرائن التى تحيط به.
وقد جاء فى الأشباه والنظائر: أن الوكالة لاتثبت بالسكوت فإذا رأى أجنبيا يبيع ماله فسكت ولم ينههه لم يكن سكوته توكيلا خلافا لابن أبى ليلى وأن السكوت
لا يعد إذنا للصبى والمعتوه بالتصرف إذا كان من القاضى وحدث السكوت منه وقت تصرفه وكذلك لايعد سكوت المرتهن إذنا للراهن ببيع العين المرهونة ولا يكون أذنا بإتلاف المال إذا ما رأى غيره يتلف ماله فسكت وإذا كانت الإجازة اللاحقة كالأذن السابق فما لايثبت به الإذن لاتثبت به الإجازة وبناء على ذلك لا يكون السكوت إجازة فيما ذكرنا من المسائل ولا فيما يشبهها ويترتب على ذلك أن السكوت لايعد إجازة كما لا يعد إذنا.
غير أنهم قد استثنوا من هذا المبدأ مسائل عديدة ذكرها صاحب الأشباه والحموى بلغت الأربعة والأربعين مسألة ومن هذه المسائل ماعدا السكوت فيه رضا وإجازة
كسكوت البكر البالغة يعد تزويج وليها إياها وسكوتها بعد قبض وليها مهرها وسكوتها إذا بلغت وقد زوجها غير أبيها وجدها وسكوت الواهب عند قبض الموهوب له العين الموهوبة فى حضرته. وسكوت الموقوف عليه بعد الوقف عليه وسكوت الولى إذا رأى الصبى المميز يبيع ويشترى وسكوت الإنسان عند رؤيته غيره يشق زقه إلى غير ذلك من المسائل (5) التى ذكرها وفى جامع الفصولين أن سكوت المالك الحاضر وقت بيع الفضولى لا يعد إجازة وذكر الخير الرملي أن صاحب المحيط ذكر أن سكوته عند البيع وقبض المشترى المبيع يعد رضا وإجازة قال صاحب جامع الفصولين أن مرد الحكم فى ذلك الى القرأئن إذ العبرة فى الإجازة إنما هو تحقق الرضا بالتصرف بأي دليل يدل عليه هذا عند الحنفية وتفصيل القول فى ذلك فى جميع المذاهب يرجع فيه إلى مصطلح (سكوت) (6)
الفرق بين الإجازة والإذن
الإجازة كما بينا إما تنفيذ لتصرف موقوف ومن ثم يترتب عليها إستتباع هذا التصرف لأثاره المترتبة عليه أو إمضاء العقد غير اللازم وإبرامه ومن ثم يترتب عليه سقوط الحق فى فسخه ممن أجازه كما فى البيع بشرط الخيار يجيزه من شرط له الخيار وكما فى شراء عين قبل رؤيتها يجيزه المشترى بعد رؤيتها وعلى ذلك لا تكون إلا تالية للتصرف اما الإذن ويكون سابقا عليه ولذا كان وكالة. أو فى معناها ومن ثم يكون
التصرف الصادر بمقتضاه تصرفا من ذى ولاية بخلاف التصرف الصادر قبل الإجازة فإنه يكون من غير ذى ولاية وقد جاء فى حاشية ابن عابدين فى الفرق بينهما ان الأذن إنما يكون لما سيقع والإجازة إذ تكون لما وقع وأن الأذن يكون بمعنى الإجازة إذا حدث بعد التصرف وكان لأمر وقعت وعلم به الأذن (7) ومعا يجب ملاحظته ان الآذن أو الوكالة يكون فى كل ما يجوز الإذن او الموكل مباشرته من التصرفات والأفعال عند الحنفية إما الإجازة فلا تكون فى كل تصرف يصدر وإنما تختص بالتصرف الموقوفة بسبب يرجع الى نقص الولاية أو عدمها أو تعلق حق الغيرعلى ما يجىء بيانه. كما يلاحظ ان الآذن بالعقد أو بالتصرف يعد توكيلا فيه فيقبل عند الحنفية الرجوع عنه قبل حدوثه من المأذون إما الإجازة فتستتبع أثرها في المال ومن ثم لا يقبل الرجوع فيها من المجيز إذ بمجرد الإجازة ينفذ العقد وإذا نفذ يتوقف بعد نفاذه.
أثر الإجازة فى الأقوال والأفعال
يبنا أن الإجازة فى العقود النافذة التى من شأنها أو من حكمها أن تكون لازمة وقد عرض لها عدم اللزوم بسبب ثبوت خيار فيها سواء أكان خيار شرط ام خيار رؤية أم خيار عيب أم خيار فوات وصف أو نحو ذلك يكون أثرها إمضاء العقد. ولزومه وسقوط الخيار بالنسبة لمن صدرت منة الإجازة وهذا الخلاف فيه بين المذاهب أما إذا كانت فى التصرفات الموقوفة فان أثرها (7) يكون نفاذ هذه التصرفات وترتب آثرها عليها وكأنها قد صدرت من ذى الولاية عليها فإذا كان قد باشرها فضولى أعتبرت صادرة من وكيل بمباشرتها وإذا صدرت من صبى مميز اعتبرت صادرة من الولى عليه وإذا صدرت من المالك ماسة بحق الغير أعتبر المالك مأذونا فيها من صاحب ذلك الحق وهكذا ولهذا قرر الحنفية ان الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة ومعنى ذلك أنها نجعل لمباشر التصرف حكم الوكيل فى مباشرته فيترتب على مباشرته جميع الأحكام التى تترتب على مباشرة الوكيل ويلزم المجيز بما يلزم به الموكل وذلك مع ملاحظة أن ذلك إنما يكون فى الإجازة الصحيحة المستوفية لشروطها وعلى ذلك ترجع حقوق العقد إلى الفضولى فى العقود التى ترجع فيها حقوق العقد الى الوكيل كالبيع وغيره من المعاوضات ولا ترجع إليه فى العقود التى لاترجع فيها حقوقها إلى الوكيل بل يكون فيها سفيرا ومعبر إليه كزواج وما ماثله من كل عقد يعتبر فيه الوكيل. سفيرا ومعبرا وذلك فى رأى من يرى أن حقوق العقد ترجع إلى الوكيل لا إلى الموكل كالحنفية وتفصيل ذلك يعرف فى مصطلح " وكالة " وجملة القول فى ذلك ان إجازة العقد الموقوف تصيره نافذا فى جميع المذاهب وذلك ما يجعلها فى حكم الإذن السابق أو الوكالة السابقة فيكون لها أحكامها على حسب اختلاف المذاهب فى أحكام الوكالة وهذا إذا كانت الإجازة فى التصرفات القولية إما إذا كانت فى تصرف فعلى فقيل أنها لا تلحق الأفعال وقيل إنها تلحق الأفعال كما تلحق الأقوال وعلى القول الأول لايكون
لها أثر ويكون للفعل حكمه وأثره الشرعى الذى يستوجبه حين يصدر ممن لا ولاية له عليه وعلى القول الثانى يكون لها حكم الإذن السابق به: جاء فى الدر المختا ر (8) الإجازة لاتلحق الإتلاف فلو أتلف مال غيره تعديا فقال المالك جزت أو رضيت لم يبرأ المتلف من الضمان ذكره صاحب الأشباه نقلا عن البزازية ولكن نقل صاحب التنوير عن العمارية أن الإجازة تلحق الأفعال وهو الصحيح وبناء عليه تلحق الإتلاف لأنه من جملة الأفعال وجاء فى أبن عابدين تعليقا على ذلك أن الملتقى لو تصدق ياللقطة ثم جاء ربها فأجاز الفعل صحت إجازته وكان لها حكم إذنه وذلك مايدل على أنها تلحق الأفعال ثم نقل عن البيرى على الأشباه أن أحد الورثة إذا اتخذ ضيافة من التركة حال غيبة الآخرين ثم قدموا بعد ذلك وأجازوا.
ثم أرادوا بعد إجازتهم الرجوع فيها وتضمين ذلك الوارث كان لهم ذلك لأن الإتلاف لايتوقف حتى تلحقه الإجازة وذلك يدل على أن الإجازة لا تلحق الأفعال وعلل ذلك بأن الأفعال لاتتوقف حتى تلحقها الإجازة ومعنى ذلك ان الفعل حين يصدر إنما يصدر عن ولاية فيكون بحق أو عن غير ولاية فيكون تعديا ولا تغير الإجازة من طبيعته فلا تجعل ما صدر تعديا صادرا عن حق فيه وعلى ذلك فلا تلحق الإجازة الأفعال وذلك ما يخالف الفرع الخاص بإجازة صاحب اللقطة تصدق الملتقط بها إذ جعلت إجازته كالإذن فلم يكن له حق المطالبة بالضمان وذلك مايتفق مع القول بصحته- وقد ذكر (صاحب الدر) فى مسائل من شتى من كتاب الخنثى أن الإجازة تلحق الأفعال على الصحيح فلو غصب إنسان عينا لأخر فأجاز المالك أخذه إياها صحت إجازته وبرىء الغاصب من الضمان (9) وفى جامع الفصولين غصب شيئا وقبضه فأجاز المالك قبضه برىء من الضمان ولو أودع مال الغير فأجاز المالك إيداعه برئ من الضمان ثم قال والإجازة لا تلحق الأفعال عند أبى حنيفة وتلحقها عند محمد كما تلحق العقود حتى أن الغاصب لو رد المغصوب على أجنبى فأجاز المالك برىء الغاصب عند محمد لا عند الامام ولو بعث بدينه على يد رجل إلى الدائن فجاء الرجل الى الدائن وأخبره ورضى بذلك وقال له اشتر لى به شيئا ثم هلك المال قيل يهلك من مال المدين وقيل يهلك من مال الدائن وهو الصحيح إذ الرضا بقبضه وفى الانتهاء كاءذنه بقبضه فى الإبتداء وهذا التعليل يدل على أن الإجازة تلحق الأفعال وهو الصحيح (10) .
وجملة القول أن المسألة خلافية. وعلى القول لصحة الإجازة فى الأفعال يصير الفعل بها وكأنه صدر من فاعله بناء على أنه مأذون به فينسب إلى إذنه وتكون القاعدة عامة فى الأقوال والأفعال أما علي القول الآخر فإنها تكون خاصة بالإجازة فى الأقوال وفى بيان حكم ذلك فى بقية المذاهب يرجع الى مصطلح " تعدى او اعتداء ".
وبناء على ما تقدم فليس بين الإجازة والإذن فرق من حيث صيرورة الفعل مأذونا به منذ وقع على القول بلحوقها للأفعال أما فى الأقوال فإنه يلاحظ أن الإذن بالعقد يجعله نافذا مترتبا عليه أثره منذ نشأ على حسب وصفه وصورته منجزا أو مضافا أو معلقا أما الإجازة فيختلف الحكم فيها عن ذلك فقد ذهب الحنفية الى أنهما إذا كانت. فيما يقبل التعليق ترتب عليه أثره من وقت الإجازة كالطلاق والعتق والكفالة فلا تطلق الزوجة إلا من وقت إجازة الطلاق ولايصير الكفيل ملتزما إلا من وقت أجازته الكفالة أما إذا كانت فيما لا يقبل التعليق فإنها تجعل العقد نافذا منذ صدر وترتب عليه آثاره من ذلك الوقت كالبيع وعلى ذلك إذا أجيز البيع الموقوف نفذ من وقت نشأته وكان للمشترى زوائد البيع وثمراته ومنافعه منذ وقع العقد لا فرق بين ما يحدث قبل الإجازة وما يحدث بعدها. وعللوا ذلك بأن الموقوف كالمعلق على الإجازة فى المعنى وما يقبل التعليق تقتصر آثاره على وقى حدوث الشرط المعلق عليه إذا ما علق. والشرط هنا هو الإجازة وعلى ذلك تقتصر آثار هذا النوع من العقود على وقت الإجازة- وهذا فى عقد موقوف يقبل التعليق أما مالا يقبل التعليق من العقود الموقوفة فلا يكون توققه على الإجازة فى معنى التعليق لأنه لا يقبله ولذا يستند أثره الى وقت إنشائه كالبيع (11) ولمعرفة حكم المذاهب فى ذلك يرجع الى العقد الموقوف فى مصطلح "عقد".
محل الإجازة
تكون الإجازة فى نوعين من العقود
والتصرفات:
الأول: العقود والتصرفات الموقوفة على إجازة ذوى الشأن فيها ويمكن أجمالها فى العقود والتصرفات التى تصدر ممن لا ولاية له كالفضولى. والصبى المميز بالنسبة إلى ما يتردد بين النفع والضرر والسفيه وكذلك التصرفات التى تصدر فى محل تعلق به حق الغير كبيع المرهون والمستأجر والتبرع فى مرض الموت صريحا او ضمنا كالمحاباة فى المعاوضات وبيع المورث لبعض ورثته والوصية لهم والوصية بأكثر من الثلث وتبرع المحجور عليه للمدين وتبرع من أحاط الدين بماله عند بعض الفقهاء وان لم يحجر عليه وتصرف الرقيق ويضاف إلى ذلك تزوجه وتزوج الصبى المميز ويخر ذلك من العقود والتصرفات الموقوفة- وفى بيان هذه العقود وتفصيل القول فيما يعد من العقود والتصرفات موقوفا او باطلا او نافذا فى مختلف المذاهب يرجع إلى مصطلح " عقد وتصرف "- غير أنه مما يستحسن الإشارة إليه بأجمال هنا أن من العقود مايعد فى بعض المذاهب موقوفا وفى بعضها باطلا كعقد الفضولى وتصرفه وغد الصبى المميز فيما يتردد بين النفع والضرر فذلك يعد موقوفا عند الحنفية إذا كان له مجيز وقت إنشائه وحينئذ ينفذ بالإجازة اما ضد الشافعية فيعد باطلا لا تلحقه الإجازة. وتبرعات الفضولى تعد باطلة عند الشافعية والمالكية وعلى رواية عند الحنابلة فلا تلحقها الإجازة وتعد موقوفة عند الحنفية فتنفذ، الإجازة ولسنا هنا بصدد بيان الموقوف فى مختلفا المذاهب ولذا تكتفى فيه بهذا القدر وكذلك يلاحظ أن العقد قد يعد موقوفا بالنظر إلى شخص فلا ينفذ بالنسبة إليه الا بإجازته بينما يعد نافذا لازما بالنظر الى آخر فلا يتوقف ولا يكون بحاجة الى إجازته وذلك كما فى بيع المرهون وبين المستأجر ويرجع إذا ذلك فى مصطلح " بيع " وكذلك يلاحظ أن تبرع من أحاط الدين بماله محل خلاف بين الفقهاء فى كونه موقوفا على الإجازة عند من يرى وقفه أو غير موقوف عند غيره.
النوع الثانى: العقود والتصرفات اللازمة التى دخلها خيار فصارت به غير لازمة أو روعى أن لزومها يمس حق الغير فجعل له حق فسخها أوطلب فسخها دفعاَ للضرر عن نفسه وذلك كعقود المعاوضات التى دخلها خيار الشرط أو خيار الرؤية أو خيار العيب او فوات الوصف مثل البيع والإجارة والصلح، وكذلك تزويج المرأة البالغة العاقلة نفسها من غير كفء أو بأقل من مهر مثلها، فإن العقد يكون غير لازم، إذ لوليها العاصب حق الإعتراض. وطلب الفسخ إجارته فى هذه الحال تسقط حقه فى الاعتراض وتجعل العقد لازما.
تصرفات المكره
من التصرفات التى تلحقها الإجازة فى بعض المذاهب تصرف المكره وإن لم يعد موقوفا فيها. وقد اختلف فقهاء الحنفية فى وصف العقد الصادر من المكره فقال زفر هو عقد موقوف على إجازته منه بعد زوال الإكراه فإذا كان
بيعا لايثبت به الملك إلا بعد الإجازة أماباقى فقهاء المذهب فقد قالوا هو عقد فاسد يثبت به الملك عند القبض وبإجازة المالك بعد زوال الإكراه يرتفع المفسد هو الإكراه وعدم الرضا، بناء على أن ركن العقد قد صدر من أهله مضافا الى محله. والفساد إنما كان لفقد شرط هو الرضا وبارتفاع المفسد وهوالاكراه وعدم الرضا ينفذ العقد (12) وفى ذلك يقول السرخسى فى مبسوطه " الإكراه لا يمنع انعقاد أصل البيع فقد وجد مابه ينعقد البيع من الإيجاب والقبول من أمله فى محل قابل له ولكن إمتنع نفوذه لإنعدام تمام الرضا بسبب الإكراه فإذا أجاز البيع غير مكره فقد تم رضاه به ولو أجاز بيعا باشره غيره نفذ بإجازته فإذا أجاز بيعا باشره هو كان بالنفاذ أولى وبيع المكره فاسد (13) ويرى الجمهور أنه باطل لاتلحقه إجازة، ويرجع فى تفصيل أحكام المذاهب فى ذلك الى مصطلح (إكراه)
تصرف الهازل
يجرى على لسان فقهاء الحنفية أن تصرف الهازل باطل إلا فيما أستثنى بالحديث ونزل فيه الهازل منزلة الجاد لقوله صلى الله عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والوصية وفى رواية العتق.
وفى ذلك يقول. الكاسانى فى بيع الهازل " ولا يصح بيع الهازل لأنه متكلم بكلام البيع لا على إرادة حقيقته فلم يوجد الرضا
بالبيع فلا يصح بخلا ف طلاق الهازل فإنه واقع لأن الهزل فى باب الطلاق ملحق بالجد شرعا، قال صلى الله عليه وسلم ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد الطلاق والنكاح والعتاق. فألحق الهازل بالجاد فيه ومثل هذا لم يرد بالبيع، والهزل يمنع البيع لأنه يعدم الرضا بمباشرة السبب " ولكن جاء فى "الحموى " على الأشباه أن مراد الفقهاء ببطلانه أنه كالباطل فى الحكم من حيث أنه لإيفيد ملكا بالقبض ولكن الواقع أنه فاسد بدليل أن فساده يرتفع بعدول لهازل عن هزله وبالعدول يصح العقد وينفذ بلا حاجة أى تجديده وذلك صريح فى أن تصرف الهازل تلحقه إجازة الهازل له وهو جاد فى إجازته فينفذ وإن وصف بالبطلان وبالفساد راجع مصطلح (هز) لبيان حكام المذاهب فى ذلك.
شروط الإجازة
إذا كانت إجازه لعقد معاوضة أشترط فيها ما يأتى عند الحنفية:
لأول: أن تصدر حال حياة من باشر العقد من غير ولاية إذا كان سينقلب بها وكيلاَ يرجع إليه حقوق العقد وذلك يكون فى عقود المعاوضات التى يباشرها فضولى مثل البيع والإجارة إذ بالإجازة ينقلب وكيلا وترجع إليه حقوق العقد فإذا باشر فضولى عقدا من هذه العقود ثم توفى قبل إجازته بطل العقد ولم تلحقه إجازة بعد ذلك ممن عقد له العقد وعلى ذا لم ينفذ العقد على الفضولى كما فى الشراء والاستئجار لأنه
فى هذه الحال لايتوقف بل ينفذ عليه " راجع مصطلح فضولى" لهذا لزم أن تكون الإجارة حال حياته ليقوم بما التزم به من حقوق نتيجة لعقده أما العقود الأخرى التى يعتبر فيها الوكيل سفيرا ومعبرا فلا ترجع إليه فيها الحقوق ومن ثم إذا باشرها فضولى وانقلب بالإجازة وكيلا كان حكمه حكم الرسول فصار فيها سفيرا ومعبرا وأنتهت مهمته فيها بإنتهاء عبارته فإذا توفى ثم أجيزت بعد وفاته نفذت ولزمت إذ ليس مناك حق لزمه بعقد وفات بوفاته وبناء على ذلك إذا زوج فضولى إمرأة ثم توفى كان للزوجة أن تجيز هذا العقد بعد وفاته ويصير العقد بإجازتها نافذا لازما وكذلك الحكم إذا كان الفضولى قد باشر العقد عن الزوج كان للزوج إجازته بعد وفاة الفضولى.
ويلاحظ إشتراط هذا الشرط فى التصرف الموقوف الصادر من الصبى المميز أو من السفيه أومن الراهن أو من المؤجر أو من المتبرع فى مرض الموت أو من المحجور عليه للمدين- فيجب أن تكون إجازته فى حياتهم إذ بوفاتهم قبل أجازته تبطل لعدم تمامه قبل الوفاة أما إجازه الوصية للوارث أو بأكثر من الثلث فلاتصح عند الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض الزيدية إلا بعد وفاة المتصرف وهو الموصى وذهب عطاء وربيعة الرأى وحماد وعبد الملك بن يعلى والأوزاعى وأبن أبى ليلى الى صحتها حال حياة الموصى وبعد وفاته وهذا الرأى هو المعتمد عند الزيدية والإباضية وكذلك هو المعتمد عند الشيعة الجعفرية بالنظر إلى الوصية بأكثر من الثلث أما الوصية للوارث فنافذة عندهم.
ويرى مالك صحة الإجازة حال حياة الموصى إذا كانت فى أثناء مرضه مرضا مخوفا يغلب فيه الموت وقدمات منه ولم يكن هناك ما يحمل الوارث عليها وأرجع إلى تفصيل الأحكام الى مصطلح " وصية " عند كلام عن إجارتها
الثانى: أن تصدر الإجازة حال حياة من عقد العقد له فإذا كان بين فضولى وآخر وجب أن تصدر حال حياة من عقد له الفضولي وإذا كان بين فضوليين وجب أن تصدر حال حياة من عقد العقد لهما وذلك يظهر معنى نفاذها بمطالبة من نسب إليه العقد بما يوجبه عديه بعد نفاذه بالإجازة وعلى ذلك لا يصح إجازة بيع الفضولى بعد والوفاة المشترى منه ولا بعد وفاة البائع بإجازته من ورثته إذ يبطل العقد حينئذ بوفاة البائع المالك إذ ليس لورثته حق إجازته كما لاتصح إجازة عقد النكاح بعد وفاة حد الزوجين وبعد وفاة الموصى له ولا تصح بعد وفاة من باشر العقد مع الصبى المميز أو السفيه لبطلان العقد ووفاته قبل تمامه وارجع فى تفصيل أحكام هذأ الموضوع الى العقد الموقوف فى مصطلح (عقد)
الثالث: أن تصدر الإجازة حال بقاء محل العقد حتى يظهر أثرها فيه عند صدورها
فلا تصح إجازة البيع بعد هلاك البيع بعد وإذا كان الثمن عرضا أى عينا كان بقاؤه الى صدورها شرطا فى صحتها أيضا لأنه فى هذه الحال يعد مبيعا اشتراه لنفسه فينفذ عليه والإجازة هنا تعد إجازة بنقد ثمن هذه العين من مال المجيز فإذا لم يصر اليه كان عليه مثلي ان كان مثليا وقيمته أن كان قيماً للمجيز (14)
الرابع: أن يكون المجيز أهلا لمياشره التصرف الذى أجازه فيجب أن يكون أهلا للتبرع إذا كان التصرف تبرعا وأهلا للمعاوضة إذا كان التصرف بيعا أو إجازة ونحو ذلك إذن الإجازة لهاء فيجب فيها من الشروط ما يجب فى الإنشاء وعلى ذلك ألا تصح إجازة المحجور على " للدين لتبرع باشره عنه فضولى ولا إجازتة صبى مميز أو سفيه لمعاوضة باشرها عنه فضولى ولا أجازته لوصية لوارث أو بأكثر من الثلث- ويرى الحنابلة صحة إجازة الى المحجور عليه الدين لوصية متوقفة وذلك على القول بان الإجازة تنفيذ لا على القول بأنها عطية (15)
الخامس: أن يكون المجيز عالما محل العقد من وجود أو عدم عند أبى يوسف رحمة الله خلافا لمحمد فإذا أجاز المالك وهو غير عالم لقيام محل العقد لم تصح الإجازة عند أبى يوسف وصحت عند محمد رحمه الله (16)
__________
(1) المصباح المنير والقاموس المحيط مادة "جوز"
(2) جامع الفصولين ج1ص228
(3) فتح القدير ج3ص431 طبعة بولاق.
(4) التاج المذهب ج2ص55،ص56
(5) الأشباه والنظائر الفن الاول ص184طبعة اسلامبول.
(6) ابن عابدين ج2 ص383 طبعة بولاق1323.
(7) (جامع الفصولين) ج اص231 بولاق.
(8) ج5 ص139.
(9) الدر المختار ج 5ص 538 طبعة الحلبى.
(10) جامع الفصولين ج1 ص 237.
(11) ابن عابدين ج2ص539.
(12) شرح النهاية.والنهاية وتكملة فتح القدير ج7 ص292 كتاب الإكراه وما بعدها مطبعة المكتبة التجارية.
(13) المبسوط للسرخسى ج24 ص93، ص94.
(14) فتح القدير ج5 ص312
(15) المغنى ج6ص429
(16) الهداية والفتح والعناية ج5 ص311،ص312،ص313(1/70)
إجٌبارُ
تعريف الإجبار لغة:
الجبار صفة من الإجبار وهو القهر والإكراه قال أبن الأثير ويقال جبر الخلق وأجبرهم ويقال رجل جبار مسلط قاهر ومنه قوله وما أنت عليهم بجبار- وأجبره أكرهه. يقال أجبر القاضى الرجل على الحكم إذا أكرهه عليه. وتميم تقول جبرته على الأمر أجبره جبر اوجبورا. قال الأزهرى وهى لغة معروفة كان الشافعى يقول جبر السلطان وهو حجازى فصيح فهما لغتان جيدتان وهما جبرته وأجبرته (1)
الإجبار اصطلاحا:
ليس له تعريف مخصوص فى كتب الفقه ويمكن تعريفه أخذا من إستعمالات الفقهاء بأنه حمل الغير من ذى ولإية بطريق الإلزام على عمل تحقيقا لحكم الشرع "الفرق بين الإجبار وألا كراه"
من تعريف كل من الإجبار والإكراه فى الاصطلاح يمكن معرفة الفرق بينهما لأن المعنى اللغوي لكل منهما قد يكون متقاربا إذا الإكراه فى اللغة يتضمن القهر (2)
وفى الاصطلاح هو الحمال على الفعل الأبعاد والتهديد مع وجود شرائطه المقررة فى باب الإكراه وإذاً يكون الفرق بينهما أن الإجبار يكون ممن له ولاية شرعية فى حمل الغير على فعل مشروع أما الإكراه فيكون من ذى قوة على تنفيذ ما توعدبه فى سبيل حمل الخير على فعل أمر غير مشروع على تفصيل موضعه مصطلح إكراه (3)
ما يرد فيه الإجبار
يرد الإجبار فى كثير من أبواب الفقه المختلفة كالإجبار فى القسمة والإجبار فى
حقوق الجوار والإجبار على كرى النهر والإجبار على الشركة الإجبار فى الشفعة والإجبار على الوفاء بالدين والإجبار على الأوضاع والإجبار على النكاح وألاجبار على الكلالة والإجبار على تولى القضاء والإجبار على تولى الخصومة والإجبار على رد المغصوب والمستأجر والإجبار على الزكاة والإجبار على عمارة المشترك من دار أو جدار وغير ذلك.
ولما كان بعض الفقهاء قدعبر عن الإجبار بالمعنى المذكور بكلمة "جبر" فانظر أحكامه فى مصطلح "جبر"
__________
(1) لسان العرب ص16ص114،ص116
(2) المصباح ج3مادة: جبر
(3) البدائع ج7 باب الإكراه(1/71)
اجتهاد
الاجتهاد فى اللغة
تحمل الجهد (أى المشقة) ، فلا يستعمل لغة على سبيل الحقيقة إلا فيما فيه مشقة، فلا يقال اجتهد فى حمل الخردلة إلا على نحو من التجوز لضعف الحامل مثلا (1) .
الاجتهاد عند الأصوليين
وهو فى اصطلاح الأصوليين بذل الفقيه غاية جهده فى تحصيل حكم شرعى بحيث يشعر من نفسه أنه عاجز عن المزيد على ذلك (2) .
وعرفه ابن حزم بأنه استنفاد الطاقة فى حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم، لأن أحكام الشريعة كلها متيقن أن الله تعالى قد بينها بلا خلاف، وهى مضمونة الوجود لعامة العلماء، وإن تعذر وجود بعضها على بعض الناس، فمحال ممتنع أن يتعذر وجوده على كلهم، لأن الله تعالى لا يكلفنا ما ليس فى وسعنا، وما تعذر وجوده على الكل فلم يكلفنا الله تعالى إياه (3) .
والاجتهاد نوعان عند من يقول بإمكان تجزى الاجتهاد: اجتهاد مطلق فى جميع الأحكام، وهو ما يقتدر به على استنباط الأحكام القليلة من أمارة معتبرة عقلا أو نقلا فى الموارد التى يظفر فيها بها (4) .
واجتهاد فى حكم دون حكم، وهو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام، ولابد بالنسبة للمجتهد فى هذا من أن يعرف جميع ما يتعلق بهذا الحكم، ومن جملة ما يعرفه فيه أن يعلم أنه ليس مخالفا لنص أو إجماع ولا يشترط معرفة ما يتعلق بجميع الأحكام، ويشترط للاجتهاد المطلق عند أهل السنة شروط:
الأول: معرفة مواقع آيات الأحكام من الكتاب بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند الحاجة، ولا يتمكن من الرجوع إليها إلا إذا عرف:
(أ) معانى مفرداتها وتراكيبها وخواص ذلك فى الإفادة والاستفادة.
فمعرفة معانى مفرداتها تقتضى أن يعرف وضع كل منها مما يدرك بدراسة كتب اللغة والصرف، ومعانى التراكيب تحتاج إلى النحو، وخواص ذلك تحتاج إلى علوم البلاغة من المعانى والبيان.
(ب) معانيها شريعة، وتتوقف على معرفة علم أصول الفقه، فيعرف علل الأحكام الشرعية كمعرفة أن الحدث المعبر عنه بقوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط ((5) علته النجاسة فقيس عليه كل خارج نجس وكمعرفة العلة فيما له مفهوم موافق، إذ أن المجتهد لمعرفته بالأحكام المتبادرة لكل عالم باللغة يتبين أن العلة شاملة كشمول دلالة النص فتقدم على القياس.
(ج) أقسام الكتاب من العام والخاص والمشترك والمجمل والخفى والظاهر والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من تقسيمات الأصوليين، وهذا شىء آخر غير معانيه على ما هو واضح.
الشرط الثانى: أن يعرف من السنة متنا وسندا القدر الذى تتعلق به الأحكام بأن يعرف بالنسبة للمتن نفس الأخبار أنها رويت بلفظ الرسول أو بالمعنى ومواضع المتن لهذا القدر بحيث يتمكن من الرجوع إليه عند الحاجة كما ذكرنا فى معرفة الكتاب، ويعرف بالنسبة للسند سند ذلك القدر من تواتر أو شهرة أو آحاد، وفى ذلك معرفة حال الرواة من الجرح والتعديل، ويكتفى فى هذا الزمان بتعديل أئمة الحديث الموثوق بهم كالبخارى ومسلم والبغوى وغيرهم من أئمة الحديث، وجملة ما يشترط فى معرفة السنة على ما ذكره الغزالى خمسة شروط:
1- معرفة طرقها من تواتر وآحاد لكون المتواترات قطعية الثبوت، والآحاد ظنية الثبوت.
2- معرفة طرق الآحاد وروايتها ليعمل بالصحيح منها ويبعد عن غيره.
3- معرفة أحكام أقوال الرسول وأفعاله ليعلم ما يوجبه كل منها.
4- معرفة ما انتفى عنه الاحتمال وحفظ ألفاظ ما وجد فيه الاحتمال.
5- معرفة الترجيح بينه وبين ما يعارض من الأخبار.
الشرط الثالث: معرفة أنواع القياس عند القائلين به، والمراد منها الأنواع الثلاثة الآتية:
الأول: قياس العلة: إثبات حكم معلوم فى معلوم آخر لاشتراكهما فى علة الحكم عند المثبت. كقياس الحنفية، الخارج النجس من غير السبيلين كالدم الذى يسيل إلى موضع يلحقه حكم التطهير على الخارج من السبيلين لعلة خروج النجاسة.
الثانى: قياس الدلالة (مساواة فرع لأصل فى وصف جامع لا يكون علة للحكم بل يكون لازما مساويا لعلة الحكم) كقياس المكره بالقتل على المكره بجامع الإثم، والإثم ليس علة للقصاص بل هو مساو لها كمساواة الضاحك للناطق فى الأفراد.
الثالث: قياس العكس (إثبات نقيض حكم الأصل فى الفرع لوجود نقيض علته فيه) كما قاس الرسول عليه الصلاة والسلام وطء المنكوحة فأثبت الأجر فيه قياسا على وطء المحرمة فى إثبات الوزر بقياس العكس، وقد سئل عليه الصلاة والسلام: أيأتى أحدنا شهوته، أى الحلال، فيكون له أجر.
فقال: أرأيت لو وضعها فى حرام يكون عليه وزر (6) .
ويرجع إلى مصطلح " قياس ".
وقالت طائفة: لا موضع البتة لطلب حكم النوازل من الشريعة ولا لوجوده إلا إلى نص القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دلالتهما على حكم تلك النازلة دلالة لا تحتمل إلا وجها واحدا، وهذا قول جميع أهل الإسلام قطعا، وهو قول جميع أصحابنا الظاهريين، وبه نأخذ (7) .
وقال أيضا: وجوه الاجتهاد تنحصر فيما جاء فى القرآن، والخبر المسند بنقل الثقات إلى النبى عليه الصلاة والسلام إما نصا على الاسم وإما دليلا من النص لا يحتمل إلا معنى واحدا.
فإن قال قائل: فكيف يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته أو نزلت به نازلة فأعيته، قيل له: وبالله تعالى التوفيق يلزم أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء فى تلك المسألة النازلة ثم يعرض تلك الأقوال على كتاب الله تعالى وكلام النبى عليه السلام كما أمره الله تعالى، إذ يقول: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ((8) ، وإذ يقول: (وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله ((9) ، وقوله تعالى: (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ((10) فليرد ما اختلف فيه من الدين إلى القرآن والسنة الواردة عن النبى عليه السلام، وليتق الله ولا يرد ذلك إلى رجل من المسلمين لم يؤمر بالرد إليه (11) . وقال ابن حزم: الاجتهاد فى طلب حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام فى كل ما خص المرء من دينه لازم للكل لم يخص الله تعالى بذلك عاميا من عالم (12) .
ومجتهدو الشيعة لا يسوغون نسبة أى رأى يكون وليد الاجتهاد إلى المذهب ككل بل يتحمل كل مجتهد مسئولية رأيه الخاص (13) .
وما كان من ضروريات المذهب يصح نسبته إليه وهم مجتهدون ضمن إطار الإسلام، وهو معنى الاجتهاد المطلق (14) . والشيعة لا يرون أئمتهم مجتهدين، وإنما يرونهم مصادر يرجع إليها لاستقاء الأحكام من منابعها الأصيلة، ولذلك يعتبرون ما يأتون به من السنة.
فأقوال أهل البيت إذن مصدر من مصادر التشريع لديهم وهم مجتهدون فى حجيتها كسائر المصادر والأصول (15) .
محل الاجتهاد وحكمه
كل حكم (16) شرعى ليس فيه دليل قطعى هو محل الاجتهاد، فلا يجوز الاجتهاد فيما ثبت بدليل قطعى كوجوب الصلوات الخمس والزكوات وباقى أركان الإسلام وما اتفقت عليه جليات الشرع التى تثبت بالأدلة القطعية.
فالاجتهاد المقصود هنا هو الاجتهاد فى الظنيات على ما ظهر من تعريفه السابق عند الجمهور.
والاجتهاد بالظنيات عند الجمهور حكمه غلبة الظن بأن ما وصل إليه المجتهد باجتهاد هو الحكم الصواب ويحتمل أن يكون خطأ عند أهل السنة (والمراد بالصواب: الموافقة بما عند الله فى الواقع ونفس الأمر. والمراد بالخطأ: المخالفة بما عند الله فى الواقع ونفس الأمر) .
وأصحاب هذا الرأى يطلق عليهم اسم " المخطئة "، ورأيهم هو المختار عند الحنفية وعامة الشافعية بأدلته الآتية: وعامة المعتزلة يقولون: كل مجتهد مصيب وهذا الخلاف بين أهل السنة وبين عامة المعتزلة ناشئ عن الخلاف فى أن لله تعالى حكما معينا قبل الاجتهاد أولا. فعند أهل السنة لكل حادثة حكم معين عند الله تعالى عليه دليل ظنى إن وجده المجتهد أصاب وله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن اخطأ فله أجر الاجتهاد فقط فإذا اجتهدوا فى حادثة وكان لكل مجتهد حكم، فالحكم عند الله تعالى واحد وغيره الخطأ.
وقالت المعتزلة: لا حكم قبل الاجتهاد بل الحكم تابع لظن المجتهد حتى كان الحكم تابعا لظن المجتهد، حتى كان الحكم عند الله تعالى فى حق كل واحد مجتهده هو وكل المجتهدات صواب، فكأن الشرع يقول كل ما وصل إليه المجتهد باجتهاده فهو الحكم فى حقه، وأصحاب هذا الرأى يطلق عليهم اسم " المصوبة ".
الأدلة على أن الحق واحد
استدل القائلون بأن الحق واحد، وهم الأئمة الأربعة وعامة الأصوليين من أهل السنة بأدلة منها.
أما الكتاب قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفثت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما ((17) .
وجه الدلالة: أنه تعالى خص سليمان بالفهم فى قوله ففهمناها سليمان، ومنَّ عليه، وكمال المنة فى إصابة الحق، فلو كانا مصيبين لما كان لتخصيص سليمان بالفهم فائدة، ولا مانع من القول، بمفهوم المخالفة فى هذا الموضع عند الحنفية، وواضح أنهما حكما بالاجتهاد لأنه لو كان حكم داود بالنص لما وسع سليمان مخالفته ولما جاز رجوع داود عنه.
وأما السنة فهى الأحاديث الدالة على ترديد الاجتهاد بين الصواب والخطأ، وهى كثيرة، منها ما روى أنه عليه السلام قال: " جعل الله للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا " وقال ابن حزم الظاهرى: أقسام المجتهدين بقسمة العقل الضرورية لا تخرج عن ثلاثة أقسام عندنا:
1- مصيب نقطع على صوابه عند الله تعالى.
2- ومخطئ نقطع على خطئه عند الله تعالى.
3- أو متوقف فيه لا ندرى أمصيب عند الله تعالى أم مخطئ.
وإن أيقنا أنه فى أحد الخيرين عند الله تعالى بلا شك، لأن الله تعالى لا يشك بل عنده علم حقيقة كل شىء، لكنا نقول مصيب عندنا ومخطئ عندنا، أو نتوقف فلا نقول أنه عندنا مخطئ ولا مصيب، وإنما هذا فيما لم يقم على حكمه عندنا دليل أصلا، وما كان من هذه الصفة فلا تحل الفتيا فيه لمن لم يلح له وجهة، إذ لا شك أن عند غيرنا بيان ما جهلناه، كما أن عندنا بيان كثير مما جهله غيرنا، ولم يعر بشر من نقص أو نسيان أو غفلة (18) .
وقال أيضا: إن المجتهدين قسمان، إما مصيب مأجور مرتين، وإما مخطئ، والمخطئ قسمان، مخطئ معذور مأجور مرة وهو الذى أداه اجتهاده إلى أنه على حق عنده، ومخطئ غير معذور ولا مأجور ولكن فى جناح وإثم، وهو من تعمد القول بما صح عنده الخطأ فيه، أو بما لم يقم عنده دليل باجتهاده على أنه حق عنده (19) .
أنواع الاجتهاد
الأول: اجتهاد فى دائرة النص وهو يتضمن الاجتهاد فى معرفة القواعد الكلية التى هى الدليل الإجمالى كاجتهاد الحنفية فى دلالة العام والمطلق أنها قطعية فى مدلولها فلا يخصصها ولا يقيدها خبر الآحاد إلا إذا صارت ظنية بالتخصيص والتقييد كاجتهاد الشافعية فى أن دلالة العام والمطلق ظنية فتخصص بأخبار الآحاد.
الثانى: الاجتهاد بطريق النظر يتضمن قياس المجتهد أمرا لا نص فيه ولا إجماع. على ما ورد فيه نص أو حكم مجمع عليه كما يتضمن استنباط الحكم من قواعد الشريعة الإسلامية العامة مما يطلق عليه البعض الاجتهاد بالرأى.
وقال ابن حزم: نص الله تعالى على أنه لم يكل بيان الشريعة إلى أحد من الناس ولا إلى رأى ولا إلى قياس، ولكن إلى نص القرآن وإلى رسوله عليه السلام فقط، وما عداهما فضلال وباطل ومحال (20) .
اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم
اختلف العلماء فيه على أربعة آراء:
الأول ليس له ذلك لقدرت على النص بنزول الوحى، وإليه ذهب أبو على الجبائى وأبو هاشم، ونقله أبو منصور الماتريدى عن أصحاب الرأى.
لأنه لو جاز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد لجاز مخالفته لمجتهد آخر لأن أحكام الاجتهاد تجوز مخالفتها.
الثانى: أن ذلك جائز له ووقع منه فعلا، وإليه ذهب الجمهور محتجين بما وقع من مثل قياسه القبلة على المضمضة فى عدم إفساد الصوم، وقياسه دين الله على دين العباد فى وجوب قضاء الحج.
ويرى كثير من الحنفية أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بانتظار الوحى فإن لم يرد كان عدم وروده أذنا له بالاجتهاد.
الثالث: وقوعه فى الحروب والآراء دون الأحكام الشرعية كالتأبد وأخبار مكان نزول الجيش فى موقعة بدر.
الرابع: التوقف عن القطع فى ذلك، وحكاه الآمدى عن الشافعى فى رسالته (21) .
أدلة القائلين بأنه صلى الله عليه وسلم متعبد بالقياس:
من الكتاب قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولى الأبصار ((22) ، والنبى منهم.
وقوله تعالى: (ففهمناها سليمان (وقد سبق بيان وجه الدلالة فيها.
وأبو يوسف احتج بعموم قوله تعالى:
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ((23) أى بما جعله الله لك رأيا.
ومن السنة حديث الخثعمية، قالت: يا رسول الله، إن أبى مات وعليه حجة أفأحج عنه؟
قال عليه الصلاة والسلام: " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزيه" قالت: نعم.
قال: " فدين الله أحق بالقضاء ".. قاس رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله على دين العباد.
وبحديث القبلة للصائم لما سأل عمر رضى الله عنه عنها أهى تفطر الصائم؟
قال عليه الصلاة والسلام: " أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته.. " إلى أخر الرواية، اعتبر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة الجماع وهى القبلة بمقدمة الشرب وهى المضمضة فى عدم فساد الصوم.
أما المعقول فهو أن الاجتهاد مبنى على العلم بمعانى النصوص، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسبق الناس فى العلم حتى كان يعلم المتشابه الذى لا يعلمه أحد من الأمة بعده (24) .
الاجتهاد فى زمن الرسول
جواز الاجتهاد:
اختلفوا فى جواز الاجتهاد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فى زمنه على مذاهب: الأول: يجوز الاجتهاد مطلقا بحضوره وغيبته ونقل عن محمد بن الحسن واختاره الغزالى والآمدى ودليله أن الأمر بالاجتهاد غير ممتنع عقلا، فيجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: قد أوحى إلى أنكم مأمورون بالاجتهاد والعمل، فإن ذلك لا يلزم منه محال لا لذاته ولا لغيره.
الثانى: يمتنع مطلقا فى زمنه صلى الله عليه وسلم، دليله أن أهل عصره عليه الصلاة والسلام قادرون على الرجوع إليه فامتنع ارتكاب طريق الظن وهو الاجتهاد مع القدرة على النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبيح أن يترك القادرون على العمل باليقين فيعمدون إلى العمل بالظن.
الثالث: يجوز للغائبين من القضاة والولاة دون الحاضرين ودليل الامتناع للحاضرين هو الدليل الذى سبق فى الرأى الثانى، ودليل الجواز للقضاة والولاة هو الوقوع، والوقوع أكبر دليل على الجواز.
الرابع: أنه إذا ورد فيه إذن خاص جاز وإلا فلا، فهو ممتنع عقلا لغير إذن خاص ودليله هو المذكور فى الرأى الثانى أيضا على أن الجواز للغائب لضرورة تعسر الرجوع أو تعذره إليه صلى الله عليه وسلم والإذن الخاص يقتضى الاطمئنان إلى أنه لا يخطئ.
وقوع الاجتهاد فى زمن النبى (صلى الله عليه وسلم)
اختلفوا فى وقوع هذا الاجتهاد على أقوال:
الأول: أنه لم يقع اجتهاد من غيره صلى الله عليه وسلم فى زمنه أصلا، ولو وقع لنقل إلينا، وأيضا فإن الصحابة كانوا يرفعون إليه صلى الله عليه وسلم الحوادث ولو كانوا مأمورين بالاجتهاد لم يرفعوها.
الثانى: أن الاجتهاد فى زمنه وقع من الحاضرين والغائبين. أما الغائبون فدليل وقوعه لهم حديث معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له صلى الله عليه وسلم: " بم تقضى؟ ". قال: بكتاب الله.
قال: " فإن لم تجد؟ ".
قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: " فإن لم تجد؟ ".
قال: أقضى برأيى.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
" الحمد لله الذى وفق رسول رسوله إلى ما يرضى به رسوله "، وهذا الحديث مشهور تلقته الأمة بالقبول فصح أن يثبت به أصل من أصول الدين.
وأما الحاضرون فدليل الوقوع لهم أولا: تحكيم سعد بن معاذ فى بنى قريظة وعمرو بن العاص وعقبة بن عامر ليحكما بين رجلين.
وثانيا: قوله تعالى: (وشاورهم فى الأمر ((25) .
الثالث: أنه وقع من غائبين دون الحاضرين وهو رأى الأكثر ودليل الوقوع للغائبين حديث معاذ السابق ذكره، أما حديثا التحكيم لسعد ولعمرو بن العاص وعقبة فهما من أخبار الآحاد التى لا تثبت بها أصول الدين.
الاجتهاد بعد زمن الرسول
أما الاجتهاد بعد عصره فجائز عند عامة الأصوليين والفقهاء بالشروط التى سبق توضيحها لم يخالف فى ذلك إلا الشيعة الذين يقولون بعصمة أئمتهم وأنهم مصادر التشريع على ما سبق بيانه.
ولكن فى حالة غيبة الإمام يجوزون الاجتهاد. وباب الاجتهاد المطلق مفتوح عندهم (26) .
جواز خلو الزمان عن مجتهد
يجوز خلو الزمان عن مجتهد عند أبى حنيفة ومالك والشافعى والسلف جميعا ومنع الحنابلة ذلك فقالوا: لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد.
استدل القائلون بالجواز بأنه ليس ممتنعا لذاته، إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال فلو كان ممتنعا لكان ممتنعا لغيره والأصل عدم الغير. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فيسيئوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا "، وهذا ظاهر فى جواز خلو الزمان عن مجتهد.
واستدل الحنابلة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله "، وهو ظاهر فى عدم الخلو إلى يوم القيامة أو إلى أشراط الساعة.
وقالوا أيضا: الاجتهاد فرض كفاية، فيكون انتفاؤه بخلو الزمان عن المجتهد مستلزما لاتفاق المسلمين على الباطل وأنه محال. (انظر مصطلح " مجتهد ")
__________
1) ترتيب القاموس المحيط ج1 ص467 مادة جهد.
2) انظر التلويح حاشية التوضيح على متن التنقيح ج2 ص117، 118، مطبعة دار الكتاب العربى ومختصر المنتهى ج2 ص389، 390 من القسم المطبوع بمطبعة الخشاب بمصر.
3) الأحكام لابن حزم ج 8 ص133 الطبعة الأولى سنة 1347 هجرية.
4) الأصول العامة للفقه المقارن ص579 الطبعة الأولى طبع بيروت سنة 1963م.
5) سورة المائدة:6.
6) انظر باب الاجتهاد فى حاشية السعد على شرح التوضيح ج2 من ص118 إلى آخر هذا المبحث.
7) الأحكام لابن حزم الظاهرى ج8 ص134.
8) سورة الأنبياء:7.
9) سورة الشورى: 10.
10) سورة النساء: 59.
11) الأحكام لابن حزم الظاهرى ج6 ص150.
12) المرجع السابق ج8 ص151.
13) المرجع السابق ص596.
14) المرجع السابق ص596.
15) الأصول العامة للفقه المقارن لتقى الدين الحكيم ص292.
16) انظر شرح التوضيح ج2 ص117 إلى نهاية المبحث.
17) سورة الأنبياء: 78.
18) الأحكام لابن حزم ج 8 ص136.
19) المرجع السابق ص138.
20) الأحكام لابن حزم الظاهرى ج8 ص18.
21) انظر روضة الناظر ج2 ص409، وإرشاد الفحول للشوكانى ص215.
22) سورة الحشر:2.
23) سورة النساء: 105.
24) انظر حاشية الكشف لعبد العزيز البخارى على البزدوى ج2 مختصر المنتهى لابن الحاجب ج2 والتقرير والتحبير ج3.
25) انظر شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب من ص292.
26) الأصول العامة للفقه المقارن ص605.(1/49)
إجزاء
المعنى اللغوى
الإجزاء مصدر أجزأ بمعنى كفى. جاء فى لسان العرب مادة " جزأ "، أجزأه الشىء كفاه. وفى حديث الأضحية: " ولن تجزىء عن أحد بعدك " أى لن تكفى.
وفى حديث آخر: " ليس شىء يجزىء من الطعام والشراب إلا اللبن "، أى ليس شىء يكفى.
ويقال: ما لفلان إجزاء، أى: ماله كفاية.
وفى حديث سهيل: " ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان " أى فعل فعلا ظهر أثره وقام فيه مقاما لم يقمه غيره، ولا كفى فيه كفايته.
المعنى الاصطلاحى
يتكلم علماء أصول الفقه عن الإجزاء عند تقسيمهم لمتعلق الحكم الشرعى، وكلامهم على الصحة والفساد والبطلان، ولهم فى تعريفه مذهبان:
أحدهما: أن الإجزاء هو كون الفعل كافيا فى الخروج عن عهدة التكليف به، وهذا التعريف ينسب إلى فريق من الأصوليين يعرف بفريق المتكلمين.
ثانيهما: أن الإجزاء هو إسقاط القضاء، وهذا التعريف ينسب إلى فريق آخر من الأصوليين يعرف بفريق الفقهاء.
وفى ذلك يقول القرافى فى كتابه الذخيرة (1) : الإجزاء هو كون الفعل كافيا فى الخروج عن عهدة التكليف، وقيل: ما أسقط القضاء.
وقد فصل الإسنوى فى شرحه على المنهاج الكلام على الإجزاء عند المتكلمين وعند الفقهاء، ورجح تعريف المتكلمين. فالإجزاء عند المتكلمين هو الأداء الكافى لسقوط التعبد به، وقد شرح أجزاء هذا التعريف فبين:
أولا: أن الأداء له معنيان: معنى لغوى، ومعنى فقهى.
أما معناه اللغوى فهو الإتيان، من قولهم أديت الشىء أى آتيته، ومنه قوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى أؤتمن أمانته ((2) .
وأما معناه الاصطلاحى: فهو الإتيان بالعبادة فى وقتها لأول مرة، وهو بالمعنى الأول أعم لأنه يشمل آداء العبادة فى وقتها لأول مرة وإعادتها بعد أول مرة وقضاءها بعد وقتها، والمراد هنا هو هذا المعنى الأعم، وقد غفل عن هذا بعض الناس فظن أن المراد بالأداء المذكور فى تعريف الإجزاء هو المعنى الاصطلاحى ولذلك ادعى أن القضاء والإعادة لا يوصفان بإجزاء لأن القضاء والإعادة لا يسميان فى الاصطلاح بالأداء وهو غلط.
ثانيا: يقال تعبد الله المكلفين بالصلاة، أى دعاهم إلى أن يعبدوه بها وطلبها منهم، فمعنى التعبد بالشىء طلبه،فإذا أتيت بالعبادة إتيانا كافيا لسقوط طلبها بأن اجتمعت فيها شرائطها وانتفت عنها موانعها فقد أجزأتك هذه العبادة وكفتك،وإذا لم تأت بها على هذا النحو فهى غير مجزئة.
ثم ذكر تعريف الفقهاء للإجزاء وبين بطلانه، فالإجزاء عند الفقهاء هو إسقاط القضاء، ومن المعروف أن القضاء إنما يجب بأمر جديد على المذهب الصحيح لا بالأمر الأول.
فإذا أمر الشارع بعبادة أمرا أوليا ولم يأمر بقضائها بأمر ثان فليس معنا إلا أمر واحد، وهذا الأمر الواحد إنما يتجه إلى الأداء الأول فقط ولا شأن له بالأداء الثانى وإذن فالأداء الثانى غير واجب لأنه ليس معنا أمر يوجبه، وإذا لم يكن واجبا فكيف يقال سقط مع أن السقوط فرع الوجوب والثبوت.
على أن القضاء إنما يجب بخروج الوقت حتى لو أخذنا بمذهب من يقول: إن الأمر الأول كاف فى إيجابه فموجبه وسببه هو خروج الوقت، فإذا أدى الصلاة على وجهها فى الوقت فلا ينبغى أن يقال أجزأت بمعنى أنه سقط قضاؤها لأن القضاء لم يجب حتى يقال أنه سقط، ولكن يقال أجزأت بمعنى كفى فعلها عن المطلوب شرعا.
ثم أنكم أيها الفقهاء تقولون أحيانا: هذا المطلوب سقط قضاؤه لأنه أجزأ، فتأتون بعلة ومعلول، أما المعلول فهو قولكم " سقط قضاؤه " وأما العلة فقولكم "لأنه أجزأ "، ومن المعروف أن العلة مغايرة للمعلول، فكيف تعرفون الإجزاء بأنه سقوط القضاء وهل يفسر الشىء بمغايره (3) .
وفى التحرير وشرحه من كتب أصول الحنفية أن الصحة هى ترتب المقصود من الفعل عليه، وذلك فى المعاملات هو الحل والملك، أما فى العبادات فإن المتكلمين قالوا: إنها موافقة أمر الشارع بأن يكون مستجمعا ما يتوقف عليه من الشروط وغيرها وذلك نفسه هو معنى الإجزاء، وقال الفقهاء الصحة والإجزاء فى العبادات هما موافقة أمر الشارع على وجه يندفع به القضاء، وثمرة الخلاف تظهر فيمن صلى على ظن الطهارة ثم تبين له أنه محدث فإن صلاته صحيحة ومجزئة عند المتكلمين لموافقة الأمر إذ المكلف مأمور بأن يصلى بطهارة سواء أكانت معلومة أو مظنونة، وهى فاسدة عند الفقهاء لعدم اندفاع القضاء وتوصف أيضا بأنها غير مجزئة. ثم قال صاحب التحرير بعد أن بين هذا المعنى: " والاتفاق على القضاء عند ظهوره " أى: وقد اتفق المتكلمون والفقهاء على وجوب القضاء عند ظهور عدم الطهارة (4) .
ولذلك قال أبو حامد الغزالى فى المستصفى: وهذه الاصطلاحات وإن اختلفت فلا مشاحة فيها، إذ المعنى متفق عليه (5) .
وقال الإسنوى فى شرحه تعليقا على مسألة ظان الطهارة: فإن قيل إذا لم يتبين أنه محدث فواضح أنه لا قضاء عليه، وليس كلامكم فيه وإن تبين أنه محدث وجب القضاء عليه عند الفقهاء وعند المتكلمين القائلين بالصحة أيضا، فما وجه الخلاف؟
قلنا: الخلاف إنما هو فى إطلاق الاسم أى اسم الإجزاء على الأداء ثم تبين عدم الطهارة، وممن نبه عليه القرافى (6) .
وفى روضة الناظر لموفق الدين ابن قدامة المقدسى الدمشقى، وهو فى الأصول على مذهب الحنابلة: " الصحيح من العبادات ما أجزأ وأسقط القضاء ".
وفى شرحه نقلا عن الشيخ علاء الدين المرداوى فى التحرير: " الصحة مطلقا ترتب الأثر المطلوب من الفعل عليه فبصحة العقد يترتب أثره من ملك غيره، وبصحة العبادة يترتب إجزاؤها وهو الكفاية فى إسقاط التعبد ويختص الإجزاء بالعبادة (7) ".
وفى إرشاد الفحول يقول الشوكانى:
أعلم أن الإتيان بالمأمور به على وجهه الذى أمر به الشارع قد وقع الخلاف فيه بين أهل الأصول: هل يوجب الإجزاء أم لا، وقد فسر الإجزاء بتفسيرين: أحدهما حصول الامتثال به، والآخر سقوط القضاء به، فعلى التفسير الأول أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى تحقق الإجزاء المفسر بالامتثال، وذلك متفق عليه، فإن معنى الامتثال وحقيقته ذلك.
وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه، فقال جماعة من أهل الأصول: إن الإتيان بالمأمور به على وجهه يستلزم سقوط القضاء. وقال القاضى عبد الجبار: لا يستلزم.
واستدل فى المحصول على القول الأول بأنه لو لم يقتض الإجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده: افعل، فإذا فعلت لا يجزىء عنك، ولو قال ذلك أحد لعد مناقضا.
واستدل للمخالف بأن كثيرا من العبادات يجب على من شرع فيها أن يتمها ويمضى فيها ولا تجزئه عن المأمور به كالحج الفاسد والصوم الذى جامع فيه (8) أى فوجد الإتيان بالمأمور به وهو تتميم الحج أو الصوم الفاسد، ولم يستلزم ذلك سقوط القضاء.
وفى كتاب الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى: مذهب أصحابنا والفقهاء وأكثر المعتزلة أن الإتيان بالمأمور به يدل على الإجزاء خلافا للقاضى عبد الجبار من المعتزلة ومتبعيه فإنه قال لا يدل على الإجزاء.
ثم قال الآمدى: كون الفعل مجزئا قد يطلق بمعنى أنه امتثل به الأمر وذلك إذا أتى به على الوجه الذى أمر به وقد يطلق بمعنى أنه مسقط للقضاء، وإذا علم معنى كون الفعل مجزئا فقد اتفق الكل على أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذى أمر به يكون مجزئا بمعنى كونه امتثالا للأمر، وذلك مما لا خلاف فيه.
وإنما خالف القاضى عبد الجبار فى كونه مجزئا بالاعتبار الآخر (9) ، يريد أن كلام القاضى إنما هو فى الإجزاء الذى هو بمعنى سقوط القضاء فهو ينازع فى أن فعل المأمور به يستلزم سقوط القضاء لما سبق ذكره من أن المكلف قد يطالب بإتمام الحج أو الصوم الفاسد فيتمهما فيكون بذلك فاعلا لما طلب منه ومع ذلك لا يسقط قضاؤهما.
ما الذى يوصف بالإجزاء وعدمه
لقد فرق علماء الأصول بين الصحة الإجزاء بأن الصحة توصف بها العبادات والمعاملات على حد سواء، فيقال هذه صلاة صحيحة وهذا بيع صحيح.
أما الإجزاء فلا يوصف به إلا العبادات، فيقال: هذه صلاة مجزئة، ولا يقال هذا بيع مجزئ.
وفى ذلك يقول والإسنوى فى شرحه على المنهاج: معنى الإجزاء وعدمه قريب من معنى الصحة والبطلان، كما قال فى المحصول، وبين الإجزاء والصحة فرق، وهو أن الصحة أعم لأنها تكون صفة للعبادات والمعاملات، وأما الإجزاء فلا يوصف به إلا العبادات (10) .
وقد نقلنا من قبل ما ذكره شارح روضة الناظر الحنبلى عن الشيخ علاء الدين المرداوى، وفيه يقول: ويختص الإجزاء بالعبادة (11) ، وقد سوى الكمال بن الهمام فى كتابه التحرير بين الصحة الإجزاء فى العبادات خاصة (12) .
وقرر العلماء أيضا: أنه ليس كل فعل من أفعال العبادات يوصف بالإجزاء أو بعدمه، وإنما يوصف بذلك فعل له وجهان: وجه يعتد به،. ووجه لا يعتد به. فالصلاة مثلا إذا وقعت مستوفية الشروط والأركان خالية من الموانع وصفت بالإجزاء، وإذا لم تقع كذلك وصفت بعدم الإجزاء، وقل مثل هذا فى الصوم والحج ... إلخ.
أما ما لا يقع من العبادات إلا على جهة واحدة فلا يوصف بالإجزاء وعدمه، وقد مثلوا لذلك بمثالين:
أحدهما: معرفة الله تعالى، فإنها إما أن تقع فيقال: إن هذا الشخص قد عرف الله تعالى بطريق ما، وإما ألا تقع فلا يكون قد عرفه، وحينئذ لا يقال عرفه معرفة غير مجزئة لأن المعرفة لم تحصل حتى توصف بأنها غير مجزئة.
المثال الثانى: رد الوديعة فإنه إما أن يردها أو لا يردها، فإن ردها قبل قد وقع الرد، وإن لم يرد قبل لم يقع الرد، ولكن لا يقال: مجزئ أو غير مجزئ. وهذا المثال قد مثل به صاحب المنهاج فى أصول الشافعية والإسنوى فى شرحه وتابعه على ذلك صاحبا التحرير والتيسير، كما تابعاه فى المثال الأول وهو معرفة الله تعالى.
وتمثيلهم برد الوديعة كان موضع نقاش بينهم: فهو أولا من باب المعاملات، والمعاملات لا توصف بالإجزاء وعدمه من أصلها سواء أكانت ذات وجهين أم ذات وجه واحد، إلا أن يقال: انظر إلى ناحية العبادة فيها وهى خلوص الذمة أمام الله برد الوديعة وعدم خلوصها بعدم ردها فتكون حينئذ من باب العبادات. وهذا لا يفيد، لأن المعاملات كلها يمكن أن يقال فيها ذلك، إذ هى ذات جانب عبادى تخلص الذمة بموافقة أمر الله فيه، ولا تخلص إذا لم تقع هذه الموافقة.
ومن جهة أخرى: إن الوديعة قد ترد على السفيه والمحجور عليه فلا يكون هذا الرد مجزئا، وقد ترد على المتصرف فيكون هذا الرد مجزئا وإذن فلها وجهان فتوصف بالإجزاء وعدمه، فالتمثيل بها غير دقيق.
ونقل البدخشى فى شرحه على المنهاج للبيضاوى بعد الكلام على المعرفة بالله تعالى ورد الوديعة: أن الفنرى يرى أن الموصوف بالإجزاء وعدمه إنما هو العبادات المحتملة للوجهين دون ما عداها، ويؤيد ذلك بأن بيع النقدين مثلا يحتمل الوجهين، أحدهما أن يكون مستجمعا للشرائط من التساوى والحلول والتقابض فى المجلس، وثانيهما أن يكون قد اختل فيه شىء من الشروط، ففيه احتمال الوجهين، ومع ذلك لا يوصف بالإجزاء وعدمه.
هذا هو رأى الفنرى، وقد علق عليه البدخشى بقوله: كأنه أراد بذلك أن رد الوديعة من المعاملات فلا يوصفا بهما وإن اشتمل على الوجهين، وأقول: الأظهر أن استعمالهما- أى الإجزاء وعدمه- إنما هو فى تفريغ الذمة عن الأمور المتقررة فيها يشهد بذلك التعريفات المذكورة وموارد استعمال الفقهاء ورد الوديعة منها وبهذا يتبين اختلافهم حول هذا المثال ووجهة كل منهم فيه (13) .
ويوصف بالإجزاء وعدمه كل من الفرض والواجب والمندوب أداء أو قضاء أو إعادة وفى ذلك يقول صاحب المنهاج: ويوصف بالإجزاء الأداء المصطلح عليه للعبادة أو قضاؤها أو إعادتها سواء أكان ذلك فرضا أو نفلا (14) .
وفى التحرير والتيسير أن مقتضى كلام الفقهاء أن الإجزاء لا يختص بالواجب، ودليل ذلك حديث الأضحية، عن أبى بردة أنه ذبح شاة قبل الصلاة فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: " لا تجزىء عنك ".
فقال: عندى جذعة من المعز.
فقال النبى عليه الصلاة والسلام:
" تجزىء عنك ولا تجزىء عن أحد بعدك " رواه أبو حنيفة.
وهو بمعناه فى الصحيحين وغيرهما، وهو بناء على أن الأضحية سنة كما هو قول الجمهور، وصاحبى الإمام، فدل ذلك على أن الإجزاء وعدمه يستعملان فيما هو سنة كما يستعملان فيما هو واجب أو فرض (15) .
وفى كلام الفقهاء ما يؤيد ذلك، ومن أمثلة ذلك فى المندوب أن الحنفية يقولون أن الأضحية واجبة عند أبى حنيفة، سنة عند صاحبيه (16) .
وعندما يتكلمون عما يجزىء منها وما لا يجزىء يقولون: ويجزىء منها ما يجزىء من الهدى (17) .
والمالكية يقولون فى الأضحية أيضا، وهى عندهم سنة: ويدخل وقتها الذى لا تجزىء قبله من ذبح الإمام أضحيته بعد صلاته وأدائه الخطبة فلا يجزىء إن سبق ذبحه، ولو أتم بعده، إلا إذا لم يبرزها الإمام للمصلى (18) .
والشافعية يقولون فى المسح على الخف: ويسن مسح أعلاه الساتر لمشط الرجل وأسفله خطوطا بأن يضع يده اليسرى تحت العقب واليمنى على ظهر الأصابع ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف الأصابع من تحت مفرجا بين أصابع يديه، ولا يسن استيغاب المسح، ويكره تكراره، وكذا غسل الخف، وقيل: لا يجزىء، ولو وضع يده المبتلة ولم يمرها أجزأه وقيل: لا (19) .
والحنابلة يقولون فى الأضحية وهى سنة عندهم: فأما العضباء وهى ما ذهب نصف أذنها فلا تجزىء (20) .
مذهب الظاهرية:
ويقول ابن حزم الظاهرى فى الأضحية: هى سنة حسنة وليست فرضا، ثم يقول: ولا تجزىء فى الأضحية العرجاء البين عرجها، ولا المريضة البين مرضها، فإن كان كل ما ذكرنا لا يبين أجزأ، ولا تجزىء فى الأضاحى جذعة ولا جذع أصلا لا من الضأن ولا من غير الضأن ويجزىء ما فوق الجذع (21) .
مذهب الإمامية:
ويقول الإمامية فى الزكاة: يجب دفع الزكاة إلى الإمام إذا طلبها، ويقبل قول المالك لو ادعى الإخراج، ولو بادر المالك بإخراجها أجزأته ويستحب دفعها إلى الإمام ابتداء (22) .
ويحكى المهدى فى البحر عن الهادى والقاسم من الزيدية أن الشاة فى الأضحية تجزىء عن ثلاثة (23) .
وجاء فى شرح النيل فى فقه الإباضية فى الكلام على العقيقة، ندب لمن ولد له ذكر أن ينسك بشاتين ولأنثى بواحدة ولا يجزىء إلا الشياه وإن كان الجمهور على إجزاء الإبل والبقر (24) .
ويتبين من هذه النصوص الفقهية فى المذاهب الثمانية أن الفقهاء يعبرون بالإجزاء وعدمه فيما هو مندوب وسنة، وتعبيرهم بذلك فى الواجب والفرض معروفة كذلك، ومن أمثلته قول الحنفية فى الذبائح ولو عطس عند الذبح فقال: الحمد لله لا تحل فى الأصح لعدم قصد التسمية بخلاف الخطبة حيث يجزئه، لأن المأمور به فى الجمعة ذكر الله تعالى مطلقا، وههنا الشرط ذكر اسم الله تعالى على الذبح (25) .
مذهب المالكية:
وقول المالكية فى الزكاة: ومجىء الساعى- إن كان ثم ساع- شرط وجوب فلا تجب قبل مجيئه، وشرط صحة أيضا فلا تجزىء إذا أخرجها قبله وإنما لم تجزىء مع أن تقديم زكاة العين على الحول بنحو شهر يجزىء لأن التقدم فى زكاة العين رخصة لاحتياج الفقراء إليها دائما مع عدم المانع وليس الأمر هنا كذلك لأن الإخراج قبل مجىء الساعى فيه إبطال لأمر الإمام الذى عينه لجبى الزكاة على نهج الشريعة ومحل عدم الإجزاء ما لم يتخلف الساعى عن المجىء لأمر من الأمور فإن تخلف أجزأت (26) .
مذهب الشافعية:
وقول الشافعية فى باب التيمم: ويشترط قصده إلى التراب لقوله تعالى: (فتيموا صعيدا طيبا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ((27) أى اقصدوه بأن تنقلوه إلى العضو فلو سفته الريح عليه فردده ونوى لم يجزىء لانتفاء القصد بانتفاء النقل المحقق له وقيل: إن قصد بوقوفه فى مهب الريح التيمم أجزأه ما ذكر كما لو برز فى الوضوء للمطر (28) .
مذهب الحنابلة:
وقول الحنابلة فى باب المسح على الخفين: إذا انقضت المدة أى مدة المسح على الخفين بطل الوضوء، وليس له المسح إلا أن ينزعهما ثم يلبسهما على طهارة كاملة وفيه رواية أخرى: أنه يجزئه غسل قدميه كما لو خلعهما (29) .
وقول الشيعة الإمامية فى باب الزكاة: الشاة المأخوذة فى الزكاة أقلها الجذع من الضأن أو الثنى من المعز ويجزىء الذكر والأنثى (30) .
وقول الزيدية فى باب التيمم، قال زيد ابن على عليه السلام كل شىء تيممت به من الأرض يجزئك وظاهر كلام الإمام أنه يجزئك التيمم بجميع أجزاء الأرض سواء كان ترابا أو رملا أو سبخة أو زرنيخا أو آجرا أو غير ذلك (31) .
وقول الإباضية فى باب الذكاة: وتجزىء التسمية فى الذكاة، أى الذبح، وإن بغير العربية لمن لا يعلمها إن كان ثقة، وتجزىء بكل ذكر لله تعالى مثل بسم الله الرحمن الرحيم، ومثل باسم الله، الله أكبر، ومثل لا إله إلا الله (32) .
مذهب الظاهرية:
وقول ابن حزم الظاهرى فى الكلام على الهدى: قال على: قد صح إجماع المخالفين لنا مع ظاهر الآية يريد قوله تعالى: (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى ((33) بأن شاة تجزىء فى الهدى الواجب فى التمتع والإحصار والتطوع، وقد عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر شياة ببعير، فصح أن الشاة بإزاء عشر البعير جملة، وأن البقرة كالبعير فى جواز الاشتراك فيهما فى الهدى الواجب فيما ذكرنا، فصح أن البعير والبقرة تجزئان عما يجزىء عنه عشر شياة، وعشر شياة تجزىء عن عشرة، والبعير والبقرة كل واحد منهما عن عشرة وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب وإسحاق بن راهويه، وبه نقول لما ذكرنا (34) .
قد يجزىء ما ليس بواجب عن الواجب
يقول شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافى المالكى: إن إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب هو خلاف الأصل، فلو صلى الإنسان ألف ركعة ما أجزأت عن صلاة الصبح، ودفع ألف دينار صدقة لا يجزىء عن الزكاة، وغير ذلك.
ثم ذكر سبع مسائل مستثناة من هذا للأصل فى مذهب المالكية، زادها بعضهم إلى اثنتى عشرة مسألة.
منها: إذا سلم المصلى من ركعتين ساهيا أنه فى رباعية ثم قام فصلى ركعتين بنية النافلة هل تجزئه هاتان الركعتان عن ركعتى الفرض؟ قولان: مشهورهما عدم الإجزاء ومنها: إذا نسى طواف الإفاضة وهو ركن عندهم وقد طاف طواف الوداع وهو مندوب وراح إلى بلده أجزأه طواف الوداع عن طواف الإفاضة على المشهور من المذهب (35) .
ومنها: وهو مما زيد على ما ذكره القرافى: أن المعتمر إذا ساق هدى التطوع فى عمرته فلما حل منها ووجب نحره أخره ليوم النحر ثم بدا له وأحرم بالحج وحج من عامه ذلك وصار متمتعا. فإن هدى التطوع يجزئه عن متعته ولو لم ينو عند يسوقه أنه يجعله فى متعته على تأويل ست وهو المذهب، كما أجزأه عن قرانه. (36) .
وذكر القرافى فرعا آخر فى إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب وهذا الفرع ليس من باب المندوب الذى يجزىء عن الواجب، بل من باب ما لا يجوز الإقدام على فعله، ومع ذلك لو فعله أجزأ عن الواجب.
قال القرافى: المريض إذا كان يقدر على الصوم لكن مع مشقة عظيمة لا يخشى معها علي نفسه ولا عضو من أعضائه، فهذا يسقط عنه الخطاب بخصوص رمضان لأجل المشقة، ويبقى مخاطبا بأحد الشهرين إما شهر الأداء أو شهر القضاء، فإن كان يخشى على نفسه أو عضو من أعضائه أو منفعة من منافعه- يريد منافع العضو- فهذا يحرم عليه الصوم، ولا نقول أنه يجب عليه أحد الشهرين: الأداء أو القضاء، بل يتعين الأداء للتحريم والقضاء للوجوب إن بقى مستجمع الشرائط سالم الموانع فى زمان القضاء، فإن أقدم وصام وفعل المحرم فهل يجزىء عنه؟
قال الغزالى فى المستصفى: يحتمل عدم الإجزاء لأن المحرم لا يجزىء عن الواجب ويحتمل الإجزاء كالصلاة فى الدار المغصوبة فإنه متقرب إلى الله تعالى بترك شهوتى فمه وفرجه جان على نفسه كما أن المصلى فى الدار المغصوبة متقرب إلى الله بركوعه وسجوده وتعظيمه وإجلاله، جان على صاحب الدار، وهو تخريج حسن (37) .
ويقول الآمدى فى الإحكام عن الصلاة فى الدار المغصوبة التى وقع التنظير بها فى هذا الموضوع: إن إجماع سلف الأمة وهلم جرا منعقد على الكف عن أمر الظلمة بقضاء الصلوات المؤداة فى الدور المغصوبة مع كثرة وقوع ذلك منهم ولو لم تكن صحيحة مع وجوبها عليهم لبقى الوجوب مستمرا وامتنع على الأمة عدم الإنكار عادة وهو لازم على المعتزلة وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر والزيدية الذين يقولون: إن الصلاة فى الدار المغصوبة غير واجبة ولا صحيحة ولا يسقط بها الفرض (38) .
قد يجزىء الفعل الواحد
عن واجب ومندوب
ومن ذلك أن تحية المسجد بصلاة ركعتين عند دخوله سنة.
ويقول الحنفية: إن آداء الفرض ينوب عنها بلا نية (39) .
ونقل ابن عابدين عن الحلية أنه لو اشتغل داخل المسجد بالفريضة غير ناو للتحية قامت تلك الفريضة مقام التحية لحصول تعظيم المسجد (40) .
ومن ذلك أيضا أنه يكفى عند الحنفية غسل واحد لعيد وجمعة اجتمعا مع جنابة، وقد علق ابن عابدين على هذا بقوله: وكذا لو كان معهما كسوف واستسقاء وهذا كله إذا نوى ذلك ليحصل له ثواب الكل (41) .
مذهب المالكية:
ومثله قول المالكية: إذا نوى المكلف بالغسل رفع الجنابة والغسل المندوب للجمعة حصلا معا، وكذا لو نوى نيابة غسل الجنابة عن النفل بخلاف ما لو نوى نيابة النفل عن الجنابة فلا تكفى عن واحد منهما (42) .
مذهب الشافعية:
وقول الشافعية: إن نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة حصلا جميعا على الصحيح (43) .
وقول الحنابلة: وإن اغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا ونواهما أجزأه بغير خلاف علمناه لأنهما غسلان اجتمعا فأشبها غسل الحيض والجنابة، وإن اغتسل للجنابة ولم ينو غسل الجمعة ففيه وجهان: أحدهما لا يجزئه لقول النبى صلى الله عليه وسلم: " وإنما لكل امرئ ما نوى ".
وروى عن ابن لأبى قتادة أنه دخل عليه يوم الجمعة مغتسلا فقال: للجمعة؟ قال: لا، ولكن للجنابة، قال فأعد غسل الجمعة، والثانى يجزئه لأنه مغتسل فدخل فى عموم الحديث، يريد قوله صلى الله عليه وسلم: من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" ونحوه، ولأن المقصود التنظيف وقد حصل (44) إلى غير ذلك.
الإجزاء لا يستلزم الإكمال
قال فى حاشية كشف الأسرار للبزدوى: إن المأمور إذا أتى بالمأمور به على وجه الكراهية أو الحرمة يخرج من العهدة على القول الأصح كالحاج إذا طاف محدثا (45) .
مذهب المالكية:
ومن ذلك قول المالكية: وسن ركعتان بعد الغسل. وقبل الإحرام وأجزأ عنهما الفرض وحصل به السنة وفاته الأفضل (46) .
ويشترط المالكية فى حصى الرمى أن تكون الحصاة قدر الفولة أو النواة، ثم يقولون ولا يجزىء صغير جدا كالحمصة وكره كبير وأجزأ (47) .
ويقول الحنفية فى باب الصلاة فى الكعبة: يصح فرض ونفل فيها وفوقها وإن كره الثانى أى الصلاة فوقها (48) .
وقد أورد السيوطى الشافعى فى الأشباه والنظائر فروعا مما تجزىء فيه نية العبادة وتشريك غيرها معها مثل أن ينوى الوضوء أو الغسل، وينوى مع ذلك التبرد بالماء ومثل أن ينوى الصوم لله تعالى وللحمية أو التداوى أو أن ينوى الطواف وملازمة غريمه الذى عليه دين له لكيلا يفلت منه، أو ينوى الصلاة لله تعالى مع دفع غريمه المطالب له.
ثم قال السيوطى بعد أن بين آراء الشافعية فى صحة النية فى هذه الفروع وما صححوه من الصحة فى هذه الصور إنما هو بالنسبة إلى الإجزاء. وأما الثواب فصرح ابن الصباغ بعدم حصوله فى مسألة التبرد نقله ابن الخادم ولا شك أن مسألة الصلاة والطواف أولى بذلك (49) ، وعلى هذا كل ما جاء فى الفقه من الإجزاء مع الكراهة التنزيهية أو التحريمية أو مع حرمة الإقدام كصيام من يضر به الصوم ضررا بليغا على ما بينا من قبل أو كون الفعل خلاف الأولى أو الأفضل أو نحو ذلك.
__________
1) ج1 ص64 طبعة سنة 1381 هجرية سنة 1961م المطبوع بكلية الشريعة بالأزهر.
2) سورة البقرة:283.
3) شرح المنهاج للإسنوى ج1 ص60 مطبوع بمطبعة صبيح بمصر عدة طبعات.
4) التحرير وشرحه ج2 ص234، 235 المطبوع بمطبعة الحلبى سنة 1350 هجرية.
5) انظر روضة الناظر وشرحه ص165 وهو مطبوع بالمطبعة السلفية بمصر سنة 1342 هجرية.
6) شرح الإسنوى على المنهاج ج1 ص59.
7) روضة الناظر وشرحه ص165.
8) إرشاد الفحول للشوكانى ص98 مطبعة السعادة بمصر سنة 1327 هجرية.
9) الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ج2 ص256 مطبعة المعارف بمصر سنة 1332 هجرية - 1914م.
10) شرح الإسنوى على المنهاج ج1 ص61 الطبعة السابقة.
11) روضة الناظر ج1 ص165.
12) التحرير وشرحه ج2 ص235 الطبعة السابقة.
13) راجع شرح الإسنوى على المنهاج ج1 ص63، وشرح البدخشى عليه أيضا ج1 ص62، وشرح التحرير ج2 ص235.
14) شرح الإسنوى ج1 ص60.
15) التحرير والتيسير ج2 ص235.
16) الاختيار لابن مودود الموصلى ج2 ص149 طبع الحلبى بمصر سنة 1355 هجرية.
17) المرجع السابق ص151.
18) الشرح الصغير ج1 ص285 طبع صبيح بمصر سنة 1350 هجرية طبعة الشرح مجردا.
19) الجلال المحلى على المنهاج ج1 ص60.
20) المغنى لابن قدامة ج3 ص583.
21) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص355، 358.
22) المختصر النافع ص84 طبع وزارة الأوقاف بمصر سنة 1378 هجرية.
23) نيل الأوطار للشوكانى ج5 ص115 طبع المطبعة العثمانية بمصر سنة 1357 هجرية.
24) شرح النيل ج2 ص577.
25) شرح الدر المختار على تنوير الأبصار وحاشية ابن عابدين ج5 ص262.
26) الشرح الصغير ج1 ص193 من الشرح المجرد بدون حاشيته المطبوع بمطبعة صبيح سنة 1350 هجرية.
27) سورة المائدة: 6.
28) شرح جلال الدين المحلى على منهاج الطالبيين للنووى، طبع الحلبى بمصر ج1 ص88.
29) المغنى ج1 ص390 طبعة المنار التى معها الشرح الكبير.
30) المختصر النافع ص79 طبع وزارة الأوقاف.
31) الروض النضير ج1 ص325 المطبوع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1347 هجرية.
32) شرح النيل ج2 ص543.
33) البقرة: 196.
34) المحلى ج7 ص154.
35) الفروق للقرافى ج2 ص19، 20 طبعة أولى سنة 1334 هجرية، مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
36) تهذيب الفروق ج1 ص25 المطبوع على هامش الفروق.
37) الفروق للقرافى ج1 ص23.
38) الإحكام للآمدى ج1 ص163، 167 الطبعة السابقة.
39) تنوير الأبصار ج1 ص635.
40) ابن عابدين ج1 ص635.
41) تنوير الأبصار وشرحه، وابن عابدين عليه ج1 ص157.
42) الشرح الصغير ج1 ص56.
43) الأشباه والنظائر للسيوطى ص22 المطبوع بمطبعة الحلبى سنة 1378 هجرية - سنة 1959م.
44) المغنى والشرح الكبير للحنابلة ج2 ص201.
45) حاشية عبد العزيز البخارى على كشف الأسرار للبزدوى المطبوع فى مكتبة الصنايع ج2 ص136 سنة 1317 هجرية.
46) الشرح الصغير ج1 ص246.
47) المصدر السابق ص261.
48) تنوير الأبصار وشرحه وحاشية ابن عابدين ج2 ص854.
49) الأشباه والنظائر للسيوطى ص21.(1/50)
أجلٌ
المعنى اللغوى
جاء فى المصباح: أجل الشىء مدته ووقته الذى يحل فيه، وهو مصدر أجل الشىء أجلا من باب تعب، وهو من باب قعد لغة، وأجلته تأجيلا من باب جعلت له أجلا.
وجاء فى القاموس: الأجل محركة غاية الوقت فى الموت، وحلول الدين، ومدة الشىء. وجمعه آجال، والتأجيل تحديد الأجل واستأجلته فأجلنى إلى مدة.
واستعمال الفقهاء للفظ أجل لا يخرج عن بعض الاستعمالات اللغوية، فإنه يدور فى اصطلاحاتهم بمعنى المدة، وبمعنى نهاية الوقت، وبمعنى حلول الدين، وهم يستعملون كلمة التأجيل أيضا بالمعنى اللغوى، وقد جاء الأجل فى القرآن بمعنى مدة العدة فى قول الله سبحانه وتعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ((1) . والمراد مدة تربصهن طوال مدة الحمل حتى تمام الوضع. وجاء بمعنى نهاية المدة المضروبة فى قوله تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ((2) وغير ذلك من المعانى التى بينتها اللغة.
اشتراط العلم بالأجل
والخلاف فيما يعتبر منه معلوما أو مجهولا
اتفق الفقهاء على اشتراط العلم بالأجل فى العقود مع اختلاف فيما يكون به الأجل معلوما وإليك التفصيل فى المذاهب:
مذهب الحنفية:
قال الميرغينانى فى "الهداية" (3) : ولابد فى الأجل أن يكون معلوما لأن الجهالة فيه مانعة من التسليم الواجب بالعقد. وعلق البابرتى على ذلك بقوله (4) : لابد أن يكون الأجل معلوما كى لا يقضى إلى ما يمنع الواجب بالعقد وهو التسليم والتسلم فربما يطلب البائع فى مدة قريبة والمشترى يؤخر إلى مدة بعيدة. وقال الكمال بن الهمام (5) : ولأنه عليه الصلاة والسلام فى موضع شرط الأجل وهو السلم أوجب التعيين حيث قال: من أسلف فى تمر فليسلف فى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم وعلى ذلك انعقد الإجماع.
وقال الكاسانى فى باب الإجارة (6) : يتحقق الأجل ببيان المدة سواء قصرت أو طالت من يوم أو شهر أو سنة أو أكثر من ذلك بعد أن تكون المدة مع معلومة، سواء عين اليوم أو الشهر أو السنة أو لم يعين، ويتعين الزمان الذى يعقب العقد لثبوت حكمه، ولا يلزم التعيين صراحة لأن التعيين قد يكون نصا وقد يكون دلالة. وفى مثل قولنا يوم أو شهر أو سنة وجدت دلالة التعيين من وجهين: أحدهما أن الإنسان إنما يعقد الإجارة للحاجة، والحاجة عقيب العقد قائمة، والثانى: أن العقد يقصد بعقده الصحة ولا صحة لهذا العقد إلا بالصرف إلى الشهر الذى يعقب العقد فيتعين. فإن وقع العقد فى غرة الشهر يقع على الأهلة بلا خلاف عند الأحناف حتى لو نقص الشهر يوما فى عقد إجارة مثلا كان عليه كمال الأجرة لأن الشهر اسم للهلال، وإن وقع بعد ما مضى بعض الشهر. ففى إجارة الشهر يقع على ثلاثين يوما بالإجماع لتعذر اعتبار الأهلة فتعتبر بالأيام، وفى إجارة الشهور هناك روايتان عن أبى حنيفة: إحداهما اعتبار الشهور كلها بالأيام، والثانية اعتبار تكميل الشهر الأول بالأيام من الشهر الأخير والباقى بالأهلة ". ثم قال الكاسانى نقلا عن الأصل: أنه إذا استأجر سنة أولها هذا اليوم وهو لأربعة عشر من الشهر - أى بقين- فإنه يسكن بقية هذا الشهر وأحد عشر شهرا بالأهلة وستة عشر يوما من الشهر الأخير. وقال الكاسانى: وهذا الأخير هو قول أبى يوسف ومحمد، ووجهه أن اسم الشهور للأهلة إذ الشهر اسم للهلال لغة إلا أنه لا يمكن اعتبار الأهلة فى الشهر الأول فاعتبر فيه الأيام ويمكن فيما بعده فيعمل بالأصل: ووجه الرواية الأولى أن الشهر الأول يكمل بالأيام بلا خلاف، وإنما تكمل الأيام من الشهر التالى، فإذا أكمل منه يصير أوله بالأيام فيكمل من الذى يليه وهكذا.
وجاء فى التنوير وشرحه (7) : " أن ابتداء الأجل فى البيع من وقت التسليم- إذا لم يكن هناك خيار. ولو كان فيه خيار فمن وقت سقوط الخيار عند أبى حنيفة، وعلق ابن عابدين على ذلك بقوله: لأن ذلك وقت استقرار البيع. وجاء فى التنوير وشرح وحاشية ابن عابدين (8) : لا يصح البيع بثمن مؤجل إلى مجهول كى لا يفضى ذلك إلى النزاع. وقال ابن عابدين: إن من جهالة الأجل ما إذا باعه بألف على أن يؤدى الثمن إليه فى بلد آخر ولو قال: إلى شهر على أن يؤدى الثمن فى بلد آخر جاز بألف إلى شهر ويبطل الشرط، ومنها اشتراط أن يعطيه الثمن مفرقا أو كل أسبوع البعض فإن لم يشترط فى البيع بل ذكر بعده لم يفسد. وجاء فى موضع آخر (9) : لا يصح البيع بثمن مؤجل إلى النيروز. وهو أول يوم من الربيع. ولا إلى يوم المهرجان أول يوم من الخريف. ولا صوم النصارى أو اليهود وفطرهم إذا لم يدر شيئا من ذلك المتعاقدان فلو عرفه جاز بخلاف فطر النصارى بعد ما شرعوا فى صومهم للعلم به، ولا يصح التأجيل إلى قدوم الحاج والحصاد للزرع والدياس للحب والقطاف للعنب لأنها تتقدم وتتأخر، ولو باع مطلقا عن الآجال ثم أجل الثمن إليها صح التأجيل.
وعلق ابن عابدين على ذلك بأنه يفيد أن ما ذكره من الفساد بهذه الآجال إنما هو إذا ذكرت فى أصل العقد بخلاف ما إذا ذكرت بعده كما لو ألحقا بعد العقد شرطا فاسدا، وجاء فى موضع آخر (10) أن الآجال على ضربين: معلومة ومجهولة. والمجهولة على ضربين: متقاربة كالحصاد ومتفاوتة كهبوب الريح فالثمن العين يفسد بالتأجيل ولو معلوما والدين لا يجوز لمجهول لكن لو جهالة متقاربة وأبطله المشترى قبل محله وقبل فسخه للفساد انقلب جائزا لا لو يعد مضيه. أما لو متفاوتة وأبطله المشترى قبل التفرق انقلب جائزا ثم قال: ونقل الحصكفى فى موضع آخر عن البعض أن إبطاله فى التفرق شرط فى المجهول جهالة متقاربة كالحصاد وعلق على ذلك بأنه خطأ.
وفى الهداية وشروحها (11) : لا يجوز السلم إلا بأجل معلوم لقوله عليه السلام: " من أسلف ... الحديث " ولأن الجهالة فى الأجل مفضية إلى المنازعة فهذا يطالبه فى مدة قريبة وذلك يؤديه فى بعيدها.
مذهب المالكية:
قال خليل والدردير فى باب السلم (12) : يشترط أن يكون الأجل بمعلوم للمتعاقدين ولو حكما كمن لهم عادة بوقت القبض. وعلق الدسوقى على ذلك بقوله: يشترط فى الأجل أن يكون معلوما ليعلم منه الوقت الذى يقع فيه قضاء المسلم فيه ومثل خليل والدردير للأجل المعلوم بالنيروز والحصاد والدراس وقدوم الحاج والصيف والشتاء. وقال الدردير: إن فى ذلك إشارة إلى أن الأيام المعلومة كالمنصوصة. وعلق الدسوقى على ذلك بقوله: إن الأيام المعلومة للمتعاقدين كالمنصوصة، والأيام المعلومة مثل خذ هذا الدينار سلما على إردب قمح إلى النيروز أو إلى عاشوراء أو لعيد الفطر أو لعيد الأضحى أو لمولد النبى صلى الله عليه وسلم، والحال أنهما يعلمان أن النيروز أول يوم من شهر توت وأن عاشوراء عاشر يوم من شهر المحرم، وأن مولد النبى صلى الله عليه وسلم ثانى عشر ربيع الأول وهكذا. والمنصوصة كخذ هذا الدينار سلما فى أردب قمح إلى أول شهر رجب أو آخذه منك بعد عشرين يوما.
ثم قال خليل والدردير (13) : إن الأشهر إذا ضربت أجلا تحسب بالأهلة إن وقع العقد فى أولها فإن وقع فى أثناء شهر من ثلاثة مثلا حسب الثانى والثالث بالهلال وتمم الأول المنكسر بثلاثين يوما من الرابع، وهذا يوافق الرواية الثانية التى نقلناها عن أبى حنيفة.
ويقولان أيضا (14) : وجاز عدم بيان الابتداء لمكتر شهرا أو سنة مثلا من غير ذكر مبدأ، وحمل من حين العقد وجيبة- أى مدة محدودة- أو مشاهرة، فإن وقع على شهر فى أثنائه فثلاثون يوما من يوم العقد، وجاز الكراء مشاهرة وهو عبارة عما عبر فيه بكلمة كل نحو كل شهر بكذا أو كل يوم أو كل جمعة أو كل سنة.
ثم قال الدردير (15) : فإن بين المبدأ، وإلا فمن يوم العقد. وقال خليل والدردير: ويجوز أن يقول هذا الشهر أو هذه السنة أو شهرا بالتنكير، أو إلى شهر كذا أو إلى سنة كذا أو إلى يوم كذا كل ذلك وجيبة تلزم بالعقد نقد أو لم ينقد ما لم يشترطا أو أحدهما الحل عن نفسه متى شاء.
وعلق الدسوقى على قول الدردير: "فإن وقع العقد على شهر.. إلخ ". فقال: إن وقع العقد على شهر وكان العقد فى أول الشهر لزمه كله على ما هو عليه من نقص أو تمام، وكذا السنة إذا وقع العقد عليها فإن كان فى أول يوم منها لزمه اثنا عشر شهرا بالأهلة، وإن كان بعد ما مضى من السنة أيام لزمه أحد عشر شهرا بالأهلة وشهر ثلاثون يوما. وقال الدسوقى فى التعليق على اشتراط العلم بالأجل فى باب السلم (16) : إن الأجل المجهول لا يجوز للغرر. وقال الدردير: لا يجوز التأجيل فى السلم إلى ما لا يجوز التأجيل فى البيع إليه. ومثل لذلك الدسوقى بمدة التعمير وقال: إن تأجيل الثمن أو المثمن إليها مفسد للعقد.
مذهب الشافعية:
يقول الشافعى- رضى الله عنه- فى الآجال فى السلف والبيوع (17) : إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من سلف فليسلف فى كيل معلوم وأجل معلوم" يدل على أن الآجال لا محل لها إلا أن تكون معلومة، وكذلك قال الله جل شأنه: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى (.
فلهذا اشترط الشافعية كغيرهم كون الأجل معلوما. جاء فى المنهاج وشرحه (18) : يشترط العلم بالأجل. فلو لم يكن معلوما لم يصح ويدخل فى العلم ما إذا قال: إلى أول رمضان أو إلى آخره على الصحيح. قال الشارح: وقد سوى الشيخ أبو حامد بين التأجيل إلى رمضان أو إلى غرته أو إلى هلاله أو إلى أوله فإن قال إلى أول يوم من الشهر حل بأول جزء من أول اليوم وقال (19) : لا يصح السلم مع جهالة الأجل كالسلم إلى الحصاد واليسرة - أى وقت يسار الناس عادة- وقدوم الحاج وطلوع الشمس. أى ظهور ضوئها لأن الضوء قد يستره الغيم. ولم يريدا وقتهما المعين، ونحو أول رمضان أو أخره لوقوعه على نصفه الأول أو الآخر كله. ونقل عن الإمام البغوى أن ذلك ينبغى أن يصح ويحمل على الجزء الأول من كل نصف وقال السبكى: إنه الصحيح، ونقله الأوزاعى وغيره عن نص الأم وقال: إنه الأصح نقلا ودليلا. وقال الزركشى: إنه المذهب، ثم قال صاحب شرح المنهاج: ولو أجل بقوله فى رمضان لا يصح لأنه جعل جميعه ظرفا فكأنهما قالا: يحل فى جزء من أجزائه وهو مجهول.
ويقول قليوبى (20) : الأجل بالنيروز صحيح وهو نزول الشمس أول برج الميزان وهو نصف شهر توت القبطى والمشهور الآن أنه أوله، وكذا بالصليب وهو سابع عشر شهر توت، وبالمهرجان وهو نزول الشمس أول برج الحمل وهو نصف شهر برمهات وقال فى حاشية قليوبى (21) : لا يجوز بفصح النصارى ولا بفطير اليهود- وهما عيدان لهما- كما نص عليه الشافعى رضى الله عنه لاختلاف وقتيهما. قال بعضهم: ولعل ذلك كان فى زمنه وإلا فهما الآن فى زمن معين عندهم. ونرد بأن وقتهما قد يتقدم ويتأخر كما يعرفه من له إلمام بحساب القبط.
وقد رجعنا إلى كتاب الأم للشافعى فى هذا فإذا هو يقول (22) : ولا يصلح بيع إلى العطاء ولا حصاد ولا جداد ولا عيد النصارى وهذا غير معلوم لأن الله حتم أن تكون المواقيت بالأهلة فيما وقت لأهل الإسلام. فقال جل ثناؤه: (يسألونك عن الأهلة ((23) ، وساق جملة آيات ثم قال: فأعلم الله بالأهلة جمل المواقيت والأهلة مواقيت الأيام ولم يجعل علما لأهل الإسلام إلا بها فمن أعلم بغيرها فبغير ما أعلم الله. وقال: ولو لم يكن هذا هكذا ما كان من الجائز أن تكون العلامة بالحصاد والجداد بخلافه. وخلافه قول الله عز وجل: (أجل مسمى (والأجل المسمى ما لا يختلف، والعلم يحيط أن الحصاد والجداد يتقدمان ويتأخران بقدر عطش الأرض وريها وبقدر برد الأرض والسنة وحرها، ولم يجعل الله فيما استأخر أجلا إلا معلوما.
والعطاء موكول إلى السلطان يتأخر ويتقدم، وفصح النصارى عندنا يخالف حساب الإسلام ويخالف ما أعلم الله به فلو أجزناه إليه أجزناه على أمر مجهول فكره لأنه مجهول وأنه خلاف ما أمر به الله ورسوله أن يتأجل فيه ولم يجز فيه إلا قول النصارى على حساب يقيسون فيه أياما فكنا إنما أعلمنا فى ديننا بشهادة النصارى الذين لا نجيز شهادتهم على شىء وهذا عندنا غير حلال لأحد من المسلمين، ثم أيد ذلك بما رواه عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا تبيعوا إلى العطاء ولا إلى الأندر - أى البيدر وهو موضع دراس القح- ولا إلى الدياس. ثم قال: إن رجلا لو باع إلى العطاء أو الجداد أو الحصاد كان فاسدا. وجاء فى المنهاج وشرحه (24) : إن أطلق المتعاقدان فى السلم الشهر حمل على الهلالى وهو ما بين الهلالين وإن اضطرد عرفهم بغير ذلك إذ هو عرف المشرع، وقيده الأوزاعى كما فى حاشية الرشيدى بما إذا لم يجر العرف بخلافه. والذى فى حاشية قليوبى.. إلخ. " أنه إن أطلق الشهر حمل على الهلالى.، وإن خالف عرف العاقدين ثم قال صاحب المنهاج وشارحه: هذا إن عقد أول الشهر فإن انكسر شهر بأن وقع العقد فى أثنائه وكان التأجيل بشهور حسب الباقى بعد الأول بالأهلة وتمم الأول ثلاثين يوما ولا يلغى المنكسر لئلا يتأخر ابتداء الأجل عن العقد. نعم لو عقدا فى يوم أو ليلة آخر الشهر اكتفى فى الأشهر بعده بالأهلة وإن نقص بعضها ولا يتمم الأول مما بعدها لأنها مضت عربية كوامل هذا إن نقص الشهر الأخير وإلا لم يشترط انسلاخه بل يتمم منه المنكسر ثلاثين يوما لتعذر اعتبار الهلال فيه حينئذ.
وعلق الشبراملسى على قول الرملى فى شرج المنهاج: " هذا إن نقص الشهر الأخير بأن الإشارة بكلمة هذا ترجع إلى الاكتفاء بالأهلة بعد يوم العقد، ومفاد ذلك أنهم يقولون بأنه إذا عقد المتعاقدان فى يوم أو ليلة أخر الشهر لا يكتفى بالأشهر بعده إلا إذا كان الشهر الأخير ناقصا فإن لم يكن ناقصا يتمم منه المنكسر ثلاثين يوما تحسب بالأيام بالنسبة للشهر الذى وقع العقد فى أخر يوم أو ليلة منه.
مذهب الحنابلة:
يقول ابن قدامة (25) : لابد من كون الأجل معلوما، لقوله تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى (، وقول النبى صلى الله عليه وسلم: " إلى أجل معلوم ".
ولا نعلم فى اشتراط العلم فى الجملة اختلافا. فأما كيفيته فإنه يحتاج أن يعلم بزمان بعينه لا يختلف. ثم قال (26) : إذا جعل الأجل إلى شهر تعلق بأوله وإن جعل الأجل اسما يتناول شيئين كجمادى وربيع ويوم النفر تعلق بأولهما، وإن قال: إلى ثلاثة أشهر انصرف إلى انقضائها لأنه إذا ذكر ثلاثة أشهر مبهمة وجب أن يكون ابتداؤها من حين لفظه بها، وكذا لو قال إلى شهر كان الأجل إلى أخره وينصرف ذلك إلى الأشهر الهلالية بدليل قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم ((27) وأراد الهلالية، وإن كان فى أثناء شهر كانا شهرين بالهلال وشهرا بالعدد ثلاثين يوما، وقيل: تكون الثلاثة كلها عددية، وإن قال محل الأجل شهر كذا أو يوم كذا صح وتعلق بأوله.
ثم قال (28) : أكون الأجل معلوما بالأهلة أمر لا خلاف فى صحة التأجيل به وذلك نحو أول الشهر أو وسطه أو أخره أو يوم معلوم منه لقوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج ((29) ولو أسلم إلى عيد الفطر أو النحر أو يوم عرفة أو عاشوراء أو نحوها جاز لأنه معلوم بالأهلة. قال: وإن جعل الأجل مقدرا بغير الشهور الهلالية فذلك قسمان: أحدهما ما يعرفه المسلمون وهو بينهم مشهور مثل كانون وشباط، أو عيد لا يختلف كالنيروز والمهرجان عند من يعرفهما فظاهر كلام الخرقى وابن أبى موسى أنه لا يصح لأنه أجل إلى غير الشهور الهلالية أشبه ما إذا أجل إلى الشعانين - عيد الأحد الذى قبل الفصح- وعيد الفطير ولأن هذه لا يعرفها كثير من المسلمين، وقال القاضى: يصح. والقسم الثانى مالا يعرفه المسلمون كعيد الشعانين وعيد الفطير فهذا لا يجوز التأجيل إليه لأن المسلمين لا يعرفونه، لا يجوز تقليد أهل الذمة فيه لأن قولهم غير مقبول ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم وإن أجل إلى مالا يختلف مثل كانون الأول ولا يعرف المتعاقدان أو أحدهما لم يصح لأنه مجهول عنده.
وقال: ولا يصح أن يؤجله إلى الحصاد والجداد وما أشبهه وكذلك قال ابن عباس وابن المنذر وأبو حنيفة والشافعى وعن أحمد رواية أخرى أنه قال: أرجو ألا يكون به بأس وبه قال مالك وأبو ثور وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء وبه قال ابن أبى ليلى. وقال أحمد: إن كان شىء يعرف فأرجو. وكذلك إن قال: إلى قدوم الغزاة وهذا محمول على أنه أراد وقت العطاء لأن ذلك معلوم فأما نفس العطاء فهو فى نفسه مجهول يختلف ويتقدم ويتأخر ويحتمل أنه أراد نفس العطاء لكونه يتفاوت أيضا فأشبه الحصاد واستدل لما رجحه من عدم جواز التأجيل إلى الحصاد ونحوه بما روى عن ابن عباس أنه قال: لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس ولا تبايعوا إلا إلى شهر معلوم، ولأن ذلك يختلف ويقرب ويبعد فلا يجوز أن يكون أجلا كقدوم زيد. وقال: إن حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودى أن ابعث لى بثوبين إلى الميسرة رواه حرمى بن عمارة وفيه غفلة فربما كان هذا الحديث من غفلاته إذ لم يتابع عليه. على أنه لا خلاف فى أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح.
وقال فى باب الإجارة (30) : إن الإجارة إذا وقعت على مدة يجب أن تكون معلومة.. فإن قدر المدة بسنة مطلقة حمل على سنة الأهلة لأنها المعهودة فى الشرع. قال الله تعالى: (يسألونك عن الأهلة (فوجب أن يحمل العقد عليه فإن شرط هلالية كان تأكيدا، وإن قال عددية أو سنة بالأيام كان له ثلثمائة وستون يوما لأن الشهر العددى يكون ثلاثين يوما، وإن استأجر سنة هلالية عد اثنى عشر شهرا بالأهلة سواء كان الشهر تاما أو ناقصا لأن الشهر الهلالى ما بين الهلالين ينقص مرة ويزيد أخرى قال: وإن كان العقد فى أثناء شهر عد ما بقى من الشهر وعد بعده أحد عشر شهرا بالهلال ثم كمل الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوما لأنه تعذر إتمامه بالهلال فتممناه بالعدد وأمكن استيفاء ما عداه بالهلال فوجب ذلك لأنه الأصل. وحكى عن أحمد رواية أخرى أنه يستوفى الجميع بالعدد فوجب استيفاء جميعها به كما لو كانت المدة شهرا واحدا ولأن الشهر الأول ينبغى أن يكمل من الشهر الذى يليه فيحصل ابتداء الشهر الثانى فى أثنائه فكذلك كل شهر يأتى بعده. وهكذا إن كان العقد على أشهر دون السنة وإن جعلا السنة رومية أو شمسية أو فارسية أو قبطية وكانا يعلمان ذلك جاز.
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم الظاهرى (31) :
إنما يجوز الأجل إلى ما لا يتأخر ساعة ولا يتقدم كالشهور العربية والعجمية وكطلوع الشمس وغروبها وطلوع كوكب مسمى أو غروبه فكل هذه محدود الوقت عند من يعرفها قال تعالى: (يسألونك عن الأهلة (واستدل بعموم قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى (على أن الأجل يعم كل محدود وهذا قول الحسن بن حى وأبى سليمان وأصحابنا.. واستثنى ابن حزم من اشتراط تحديد الأجل، الأجل إلى الميسرة، وقال (32) : إنه حق للنص فى ذلك ولأنه حكم الله تعالى فى كل من لا يجد أداء دينه.
ويقول (33) : لا يجوز البيع إلى أجل مجهول كالحصاد والجداد والعطاء والزريعة- وقت الزرع- والعصير وما أشبه هذا وهو قول أبى سليمان لأن كل ذلك يتقدم بالأيام ويتأخر. والحصاد والجداد يتأخران أياما إن كان المطر متواترا ويتقدمان بحر الهواء وعدم المطر، وكذلك العصير، وأما الزريعة فتتأخر شهرين أو أكثر لعدم المطر، وأما العطاء فقد ينقطع جملة. فكل ذلك شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل.
ثم قال: ولا يجوز الأجل إلى صوم النصارى أو اليهود أو فطرهم ولا إلى عيد من أعيادهم لأنها من زينتهم ولعلهم سيبدو لهم فيها فهذا ممكن. وأيد ذلك (34) بما روى عكرمة عن ابن عباس لا يسلم إلى عصير ولا إلى العطاء ولا إلى الأندر، وعن سعيد بن جبير: لا تبع إلى الحصاد ولا إلى الجداد ولا إلى الدراس، ولكن سم شهرا وبسنده إلى ابن سيرين أنه سئل عن البيع إلى العطاء فقال: لا أدرى ما هو. وعن منصور بن إبراهيم أنه كره الشراء إلى العطاء والحصاد ولكن يسمى شهرا، وبسنده إلى الحكم أنه كره البيع إلى العطاء ثم قال: هو قول سالم بن عبد الله بن عمر وعطاء. وأطال قبل ذلك فى مناقشة المخالفين له.
مذهب الزيدية:
قال صاحب البحر الزخار فى باب السلم (35) : يجب كون الأجل معلوما ويصح تقييده بالشهر الرومى والعربى والأيام المشهورة كالعيدين والنفرين - النفر إلى منى وإلى عرفة- ويوم عاشوراء لتعيينها، فإن أطلق العيد أو ربيع أو جمادى تعين الأول، وإن عين النيروز أو المهرجان أو عيد اليهود أو فطير اليهود أو فصح النصارى والشعانين صح أن عرفها المسلمون لا اليهود وحدهم إذ لا يوثق بقولهم وقال الإمام يحيى: لو قال أسلمت إليك إلى رأس الشهر لم يصح إذ لا يعلم أى يوم يطالبه. ونقل عنه أنه لو قال: أجلتك إلى شهر تدفع كل أسبوع رطلا صح لأن ما جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وآجال. قال صاحب البحر: بل المذهب فى ذلك أن له إلى أخر اليوم المطلق، ورأس شهر هو فيه لأخره وإلا فللشروق فى أول يوم فيه. ثم قال: ولو أجله خمسة أشهر تعينت القمرية إذ هى المعهودة فى الشرع لقوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة (ويعتبر بالأهلة لا بالعدد إلا حيث دخل بعض الشهر اعتبر بالعدد وما بعده بالأهلة لقوله صلى الله عليه وسلم: ".. فإن غم عليكم فأكملوا عدته ثلاثين يوما"، ونقل عن العترة وغيرهم أنه لا يصح التأجيل إلى الحصاد ونحوه للجهالة بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم: " لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس ولا تبايعوا إلا إلى أجل معلوم ". ونقل عن الهادى أيضا أنه لا يصح إلى قدوم غائب ونحوه للجهالة ويصح إلى وقت العطاء إن كان معلوما.
مذهب الإمامية:
قال صاحب الروضة (36) : لا يناط الأجل بما يحتمل الزيادة والنقصان، كقدوم الحاج أو إدراك الغلة، ولا بالمشترك بين أمرين أو أمور حيث لا مخصص لأحدهما كنفرهم من منى فإنه مشترك وبين أمرين، وشهر ربيع المشترك بين شهرين فيبطل العقد بذلك، ومثل التأجيل إلى يوم معين من الأسبوع كالخميس، وقيل: يصح ويحمل على الأول فى الجميع لتعليقه الأجل على اسم معين وهو يتحقق بالأول لكن يعتبر علمهما بذلك قبل العقد ليتوجه قصدهما إلى أجل مضبوط فلا يكفى ثبوت ذلك شرعا مع جهلهما أو أحدهما به، ومع القصد لا إشكال فى الصحة وإن لم يكن الإطلاق محمولا عليه ويحتمل الاكتفاء فى الصحة بما يقتضيه الشرع فى ذلك قصداه أم لا نظرا إلى كون الأجل الذى عيناه مضبوطا فى نفسه شرعا، وإطلاق اللفظ منزل على الحقيقة الشرعية. وقال: فى موضع آخر (37) من باب السلف: الشهور يحمل إطلاقها على الهلالية مع إمكانه كما إذا وقع العقد فى أول الشهر ولو وقع فى أثنائه ففى عده هلاليا يجبره بمقدار ما مضى منه أو إكماله ثلاثين يوما أو انكسار الجميع لو كان معه غيره أقوال: وعدها ثلاثين يوما أوجه.
مذهب الإباضية:
جاء فى النيل وشرحه (38) : فسد كل بيع أجل لغير وقت منضبط، لا لمنضبط كحصاد وجداد ودوس وقدوم الأعراب أو المسافرين أو الحاج، وخروج إلى بلد كذا، ووصول إلى البيت أو السوق والأخذ والعطاء والرزق عند الأكثر. وقيل: يجوز إلى الأجل المجهول على ما أسسا عليه البيع كما فى المنهاج، وقيل: إنه إن باع إلى خروج المشترى إلى بلد كذا أو إلى أن يصل إلى البيت أو السوق أو نحو ذلك فسد بالجهل وعدم العلم أيخرج أم لا ويصل أم لا؟
ثم قال: وأجاز ابن محبوب البيع إلى أيام وهى ثلاثة وكذا السلف لا إلى الأيام، وقيل بالجواز على أنها لسبعة، وفى التأجيل إلى القيظ والصيف والربيع والخريف والشتاء خلاف، قيل: يثبت إلا إذا نقضاه وقيل: لا يثبت الأجل إلا أن أتماه، وإن أراد الفصول بالحساب الذى يذكر بالفلك جاز قطعا وإن قال إلى شهر كذا فأوله، وإن قال إلى ربيع أو جمادى فالتأجيل ضعيف لأنهما ربيعان وجماديان ولهما النقض والصحيح فساده إلا إن قصدا معينا جاز قطعا. ثم قال: ويجوز الأجل بالسنة العجمية وشهورها على التحقيق وزعم البعض أنه لا يجوز وأصح الآجال الأهلة قوله تعالى: (هى مواقيت للناس (.
اختلاف المتعاقدين فى الأجل
مذهب الحنفية:
يقول الحصكفى فى الدر المختار وابن عابدين فى حاشيته (39) : لو اختلفا فى الأجل فالقول لنافيه وهو البائع، لأن الأصل الحلول إلا فى السلم، فإن لقول لمثبته لأن نافيه يدعى فساده ففقد شرط صحته وهو التأجيل، ومدعيه يدعى صحته بوجوده والقول لمدعى الصحة والفتوى على ذلك. ولو اختلفا فى قدر الأجل فلمدعى الأقل إنكار الزيادة، والبينة فيهما أى فى المسألتين للمشترى لأنه يثبت خلاف الظاهر والبينات للإثبات ولو اختلفا فى مضى الأجل فالقول والبينة للمشترى لأنهما لما اتفقا على الأجل فالأصل بقاؤه فكان القول للمشترى فى عدم مضيه ولأنه منكر توجه المطالبة.
وقد أورد صاحب تنوير الأبصار وشارحه، فى باب السلم فروعا (40) يختص منها الاختلاف فى أجل السلم بقوله: وإن اختلفا فى التأجيل فالقول لمدعى التأجيل، والأصل أن من خرج كلامه تعنتا فالقول لصاحبه بالاتفاق وعلق ابن عابدين على ذلك فقال: إن التعنت أن ينكر ما ينفعه. فلو قال رب السلم كان له أجل وأنكر المسلم إليه فهو متعنت فى إنكاره حقا له وهو الأجل كما فى الهداية. وقال الحصكفى فى الدر: وإن خرج كلامه خصومة ووقع الاتفاق على عقد واحد فالقول لمدعى الصحة عند الصاحبين وعند الإمام للمنكر. وفسر ابن عابدين عبارة " وإن خرج خصومة " فقال بأن أنكر ما يضره كعكس التصوير فى المسألة السابقة أى قال المسلم إليه كان التعاقد على الأجل وأنكر رب السلم ذلك.
وقد رجعنا إلى الهداية (41) فوجدنا عبارة الميرغينانى فى السلم بخاصة: ولو قال بل كان له أجل. فالقول قول رب السلم المسلم إليه لم يكن له أجل وقال رب السلم لأن المسلم إليه متعنت فى إنكاره حقا له وهو الأجل، والفساد لعدم الأجل غير متيقن فكان الاجتهاد فلا يعتبر النفع فى رد رأس لمال بخلاف عدم الوصف وفى عكسه وهو أن يدعى المسلم إليه الأجل ورب السلم ينكره كما فى الفتح. القول لرب السلم عندهما لأنه ينكر حقا له عليه فيكون القول قوله.
مذهب المالكية:
قال خليل والدردير (42) : لو اختلفا فى قدر الأجل كبعت لشهر، وقال المشترى لشهرين، حلفا وفسخ إن كانت السلعة قائمة على المشهور، ومحل الفسخ إن حكم به الحاكم أو تراضيا عليه ثم تعود السلعة على ملك البائع ظالما أو مظلوما ويكون الفسخ ظاهرا أى عند الناس وباطنا - أى عند الله تعالى- وصدق المشترى إن ادعى الأشبه- أى الأقرب إلى ما عليه التعامل- وإن انفرد البائع بالشبه فالقول قوله بيمينه فمحل التحالف إن لم يدع أحدهما الأشبه، وفى حالة التحالف يبدأ البائع بالحلف (43) .
ثم قال بعد ذلك (44) : إذا اختلف المتبايعان فى انتهاء الأجل مع اتفاقهما عليه كأن يقول البائع: هو شهر وأوله هلال رمضان وقد انتقض. فيقول المشترى: بل أوله نصف رمضان فالانتهاء فى نصف شوال فالقول عند الانتهاء- وهو هنا المشترى- بيمينه لأن الأصل بقاؤه- إن أشبه، سواء أشبه غيره أم لا- فإن أشبه غيره فقط فالقول قوله بيمينه فإن لم يشبه أيضا حلف وفسخ العقد فإن كانت السلعة قائمة ردت للبائع وإن فاتت ردت قيمتها ويقضى للحالف على الناكل.
وأما إن اختلفا فى أصل الأجل فإنه يعمل بالعرف بيمينين فإن لم يكن عرف تحالفا وتفاسخا إن كانت السلعة قائمة وإلا صدق المشترى بيمينه إن ادعى أجلا قريبا لا يتهم فيه، وإلا فالقول للبائع إن حلف.
مذهب الشافعية:
جاء فى المنهاج وشرحه (45) : إذا اتفق المتبايعان على صحة البيع ثم اختلفا فى أصل الأجل بأن أثبت المشترى الأجل ونفاه البائع، أو اختلفا فى قدره كشهر أو شهرين ولا بينة لأحدهما يعول عليها. فإن كانت لهما بينة لا يعول عليها بأن أقام كل بينة وتعارضتا لإطلاقهما عن التاريخ أو إطلاق أحدهما فقط أو لكونهما أرخا بتاريخين مختلفين فإنهما يتحالفان فى هذه الصور لخبر مسلم " اليمين على المدعى" وكل منهما مدع ومدعى عليه. قال الرملى (46) : فيحلف كل منهما على نفى قول صاحبه وإثبات قوله لما مر من أن كلا مدع ومدعى عليه فينفى ما ينكره ويثبت ما يدعيه هو.
مذهب الحنابلة:
يقول ابن قدامة (47) : وإن اختلفا فى أصل الأجل أو قدره أو نحو ذلك ففيه روايتان: إحداهما يتحالفان وهو قول الشافعى لأنهما اختلفا فى صفة العقد فوجب أن يتحالفا قياسا على الاختلاف فى الثمن والثانية القول قول من ينفى ذلك مع يمينه وهو قول أبى حنيفة لأن الأصل عدمه فالقول قول من ينفيه كأصل العقد لأنه منكر والقول قول المنكر.
وقال ابن قدامة فى باب السلم (48) : إذا اختلف المسلم والمسلم إليه فى حلول الأجل فالقول قول المسلم إليه لأنه منكر.
مذهب الزيدية:
ينقل صاحب البحر (49) عن الهادى وأبى طالب أن المتبايعين إذا اختلفا فى قدر المسلم فيه أو أجله تحالفا وبطل إذ كل مدع لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا البيع " فإن بينا فبينة المسلم: ثم قال: المذهب أن القول للمسلم إليه فى عدة مسائل منها عدم اقتضاء الأجل إذ هو الظاهر ويقول صاحب البحر فى موضوع الكتابة (50) : إن المذهب وهو قول الإمام يحيى أن القول للعبد فى قدر المال وأجله وتنجيمه إذ الظاهر البراءة فى ذلك كله.
مذهب الإباضية:
جاء فى النيل وشرحه (51) : إن اختلف الأجير والمستأجر، أو المكرى والمكترى فى المدة، فالقول فيها قول الأجير والمكرى، فعلى مدعى الزيادة فيها وهو المكترى والمستأجر غالبا بيان الزيادة وكذا لو ادعاها الأجير والمكرى وذلك مثل أن يقول الأجير مدة الكراء نصف سنة ويقول المستأجر سنة فعلى المستأجر البينة، وكذا لو قال الأجير مدة الكراء سنة وقال المستأجر نصف سنة لداع إلى ذلك كيمين أو إرادة رفق على الأجير أو إرادة زيادة خير للمستأجر فعلى الأجير بيان الزيادة، وذلك لأن المدعى لزيادة المدة يدعى شيئا بعد ما اتفقا على ما قبله فلا يقبل بلا بيان ولاسيما إن كانت نفعا له فى العمل وكذا إن اتفقا على المدة واختلفا فى انقضائها مثل أن يقولا: إنها شهر ولم يكن البدء من أول الشهر بل حسب الأيام لكن اختلفا هل استهل ليلة كذا فينسلخ ليلة كذا فالقول قول من لم يدع الانقضاء وكذا لو كان عدم الانقضاء مضرة عليه كالمكرى والأجير وذلك لأن الذمة شغلت بالمدة فلا تقبل البراءة منها بادعاء الانقضاء بلا بيان ثم قال: وأصل ذلك حرمة أموال الناس وأبدانهم إلا ما أجاز إليه صاحبهما فمن أنكر منهما كان القول قوله وحلف.
حكم الأجل
الأجل يكون جائزا فى بعض العقود كالتأجيل بالنسبة لثمن المبيع ويكون واجبا فى بعضها كخيار الشرط كما هو مقتضى ماهيته وكالسلم خلافا لبعض الفقهاء كالشافعية. ويكون ممنوعا فى بعضها كالصرف وبيع الربويات على تفصيل فى المذاهب.
مذهب الحنفية:
مما يجوز التأجيل فيه عندهم البيع.
وجاء فى الهداية وشروحها (52) : يجوز البيع بثمن حال ومؤجل إذا كان الأجل معلوما للإطلاق فى قول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا ((53) ، ولما رواه البخارى عن السيدة عائشة- رضى الله عنها- قالت: "إن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما نسيئة من يهودى إلى أجل ورهنه درعا له من حديد". ومما يجوز التأجيل فيه رأس مال السلم عند الإقالة وكذا القرض، يقول ابن عابدين (54) : إن القرض يصح تأجيله مع كونه غير لازم، لكن قال فى الهداية: إن تأجيله لا يصح لأنه إعارة وصلة فى الابتداء حتى يصح بلفظ الإعارة ولا يملكه من لا يملك التبرع وهو معاوضة فى الانتهاء فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كما فى الإعارة إذ لا جبر فى التبرع وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح لأنه يصير بيع الدراهم بالدراهم نسيئة وهو ربا. قال ابن عابدين: إن مقتضى هذه العبارة أن قوله: " لا يصح على حقيقته لأنه إذا وجد فيه ما يقتضى عدم اللزوم وما يقتضى عدم الصحة ولا منافاة وجب اعتبار عدم الصحة، ولهذا علل فى الفتح لعدم الصحة أيضا بقوله: ولأنه لو لزم كان التبرع ملزما للمتبرع. ثم نقل ابن عابدين عن القنية أن التأجيل فى الفرض باطل.
وقالوا: إن التأجيل فى بدل الكتابة جائز كالتنجيم. جاء فى الدر المختار (55) تعليقا على ما أورده التمرتاشى فى تنوير الأبصار عن شرط الكتابة. قال: لا يشترط كون البدل منجما أو مؤجلا لصحتها بالحال ونقل عن باب السلم فى الجوهرة أنه يجوز تأجيل رأس مال السلم بعد الإقالة لأنه دين لا يجب قبضه فى المجلس كسائر الديون ومما يجب التأجيل فيه السلم جاء فى الهداية وشروحها (56) : لا يجوز السلم إلا مؤجلا لقوله عليه الصلاة والسلام: " من أسلم منكم فليسلم " إلى أجل معلوم ولأنه شرع رخصة دفعا لحاجة المفاليس فلابد من الأجل ليقدر على التحصيل فيسلم ولو كان قادرا على التسليم لم يوجد المرخص ويحرم الأجل عند الأحناف فى مثل الربويات ومنها عقد الصرف.
جاء فى الهداية وشروحها (57) : ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق لقوله صلى الله عليه وسلم: " الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد"، ولقول عمر فى الصرف: " وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنظره ولأنه لابد من قبض أحدهما ليخرج العقد عن الكالىء بالكالىء، ثم لابد من قبض الآخر تحقيقا للمساواة فلا يتحقق الربا ولأن أحدهما ليس بأولى من الآخر فوجب قبضهما سواء كافا متعينين كالمصوغ أم لا يتعينان كالمضروب.
مذهب المالكية:
المالكية يجيزون البيع فى غير الربويات بثمن مؤجل. جاء فى فروعهم (58) : " سئل عبد الرحمن بن القاسم عمن باع ثوبا بمائة درهم إلى أجل شهر ثم اشترى بمائة درهم إلى الأجل. أيصح ذلك فى قول مالك. قال: نعم لا بأس فى ذلك وقد لخص الدسوقى فى باب القرض (59) أن المقترض إذا قبض القرض فإن كان له أجل مضروب أو معتاد لزمه رده إذا اقتضى ذلك الأجل وإن لم ينتفع به عادة أمثاله، فإن لم يكن ضرب له أجل ولم يعتد فيه أجل فلا يلزم المقترض رده لمقرضه إلا إذا انتفع به عادة أمثاله، ثم قال خلافا لمن قال أن الفرض إذا لم يؤجل بشرط أو عادة كان على الحلول، فإذا طلبه المقرض قبل انتفاع المقترض به رده إليه، والسلم عندهم يجب تأجيله كالأحناف. جاء فى متن خليل وشرح الدردير (60) : من شروط السلم أن يؤجل السلم بأجل معلوم. وعلله الدسوقى بأن التأجيل ليسلم من بيع ما ليس عند الإنسان المنهى عنه بخلاف ما إذا ضرب الأجل فإن الغالب تحصيل المسلم فيه فى ذلك الأجل فلم يكن من بيع ما ليس عنده إذ كأنه إنما يبيع ما هو عنده عند الأجل ويختلفون فى وجوب تنجيم بدل الكتابة. يقول خليل: والظاهر اشتراط التنجيم. ويقول الدردير: إنهم اختلفوا فى لزوم تنجيم بدل الكتابة - أى وجوبه كما قال الدسوقى- فقيل: يلزم تنجيمه. وفسر الدسوقى التنجيم بالتأجيل لأجل معين، ثم قال الدردير: فإذا وقعت الكتابة بغير تنجيم فهى صحيحة وتنجم لزوما على الراجح- أى وجوبا- لأن العرف فيها التأجيل كما يقول الدسوقى.
وقال ابن رشد: الصحيح جوازها حالة ولا يجب التنجيم، لكنها إن وقعت حالة فقطاعة قال الدسوقى: أى يقال لها: قطاعة كما يقال لها: كتابة، فالقطاعة عنده من أفراد الكتابة (61) .
ويحرم التأجيل عندهم فى الربويات فقالوا (62) : وحرم كتابا وسنة وإجماعا فى نقد أى ذهب وفضة وطعام ربا فضل ونساء أى تأخير والنساء- أى نسيئة يحرم فى النقد مطلقا وكذا فى الطعام ولو غير ربوى- ونقل الدسوقى عن الأجهورى أن ربا النساء فى النقد حرام ومثله طعام وإن جنساهما قد تعددا، ثم قال (63) : ولا يجوز صرف مؤخر ولو كان التأخير قريبا مع فرقة ببدن اختيارا ولو بأن يدخل أحدهما فى الحانوت ليأتى له بالدراهم منه لا إن لم تحصل فرقة فلا يضر إلا إذا طال.
مذهب الشافعية:
يجيز الشافعية الأجل فى البيع فى غير الربويات. جاء فى شرح المنهاج لجلال الدين المحلى (64) : " إذا بيع الطعام بغيره كنقد أو ثوب أو غير الطعام بغير الطعام وليسا نقدين كحيوان بحيوان لم يشترط فى البيع حلول ولا مماثلة ولا تقابض فيكون الأجل جائزا فى هذه الأنواع وهم يذكرون ذلك فى فروعهم ففى المنهاج (65) : "للمشترى قبض المبيع استقلالا إن كان الثمن مؤجلا". وهم يقيسون السلم على البيع فى جوازه بثمن حال ومؤجل (66) .
والسلم ينص الشافعى على أن التأجيل فيه جائز لا واجب يقول أبو شجاع والخطيب والبيجرمى فى حاشيته على الإقناع (67) : يصح السلم حالا ومؤجلا بأن يصرح بهما فإن أطلق انعقد حالا. وأما الحال فبالأولى لبعده عن الغرر كما يجب الأجل فى بدل الكتابة عندهم. جاء فى المنهاج وشرحه (68) فى كتاب الكتابة: "وصيغتها كاتبتك على كذا منجما ويبين وجوبا عدد النجوم". وقال (69) : وشرط العوض كونه دينا مؤجلا لأنه المنقول عن السلف والخلف ولأنه عاجز حالا.. ثم قال الرملى: "ولا بأس بكونها ولو فى الذمة حالة لقدرته على الشروع فيها حالا وتصح بنجمين قصيرين". وعلق الشبراملسى على ذلك بقوله: الذى فى شرح المنهج نصه: "ولا تخلو المنفعة من التأجيل وإن كان فى بعض نجومها تعجيل فالتأجيل فيها شرط فى الجملة ومثله فى التحفة".
ويحرم عندهم التأجيل فى الربويات أيضا على ما يصوره تعبيرهم. جاء فى المنهاج وشرحه (70) : إذا بيع الطعام بالطعام أو النقد بالنقد إن كانا جنسا واحدا اشترط الحلول من الجانبين بالإجماع لاشتراط المقابضة ومن لازمها الحلول فمتى اقترن بأحدهما تأجيل وإن قل زمنه أو حل قبل تفرقهما لم يصح أو جنسه كحنطة وشعير جاز التفاضل واشترط الحلول والتقابض لحديث "الذهب بالذهب ".. فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد.
مذهب الحنابلة:
وهم أيضا يجيزون تأجيل الثمن فى البيع فى غير الربويات ويذكرون ذلك فى فروعهم، يقول ابن قدامة (71) : "فإن قال: بعتك على أن تنقدنى الثمن إلى ثلاث أو مدة معلومة وإلا فلا بيع بيننا فالبيع صحيح".
وقالوا: يجب التأجيل فى السلم (72) إذ نصوا على أنه يشترط لصحة السلم أن يكون مؤجلا ولا يصح الثمن الحال. قال أحمد فى رواية المروزى: لا يصح حتى يشترط الأجل وذكر الحديث. ثم قال: فأمر بالأجل وأمره يقتضى الوجوب ولأنه أمر بهذه الأمور مبينا لشروط السلم ومنعنا منه بدونها وكذا لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن فكذلك الأجل لأن السلم رخصة للرفق ولا يحصل الرفق إلا بالأجل فإذا انتقى الأجل انتفى الرفق ولأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه أما الاسم فلأنه يسمى سلما وسلفا لتعجيل أحد العوضين وتأخير الآخر، وأما معنى فلأن الشارع أرخص فيه للحاجة الداعية إليه ومع حضور ما يبيعه حالا لا حاجة إلى السلم فلا يثبت كما قالوا بوجوب الأجل فى بدل الكتابة (73) . ويحرم الأجل عندهم فى الربويات، يقول ابن قدامة (74) : وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا ثم يقول (75) : وكل ما حرم فيه التفاضل حرم فيه النساء بغير خلاف نعلمه ويحرم التفرق قبل القبض لقول النبى صلى الله عليه وسلم: " عينا بعين "، وقوله: " يدا بيد ". ولأن تحريم النساء أولى بالتحريم ثم قال: وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه ولا يجوز نسيئة لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ".
مذهب الظاهرية:
ومما يجوز التأجيل فيه عندهم ثمن المبيع بشرط تحديد الأجل.
يقول ابن حزم الظاهرى فى كتاب البيع (76) : لا يجوز البيع بثمن مجهول ثم قال: وإنما يجوز الأجل إلى مالا يتأخر ساعة ولا يتقدم، وكذا فالقرض عندهم مما يجوز فيه الأجل. يقول ابن حزم (77) : القرض إما حالا فى ذمته وإما إلى أجل مسمى هذا مجمع عليه ثم قال (78) : فإن كان الدين حالا فللذى أقرض أن يأخذ به المقترض متى أحب وعنده (79) أن القرض جائز فى الأصناف الربوية ويجوز إلى أجل مسمى ومؤخرا تحت الطلب فيكون حالا فى الذمة متى طلبه صاحبه أخذه كما أجازوا الأجل فى بدل الكتابة. قال ابن حزم (80) : ومن كوتب إلى غير أجل مسمى فهو على كتابته ما عاش السيد، ومن كوتب إلى أجل مسمى نجم واحد أو نجمين فصاعدا فحل وقت النجم ولم يؤد رد عبدا، ويجب الأجل عندهم فى السلم، يقول ابن حزم (81) : السلم لا يجوز إلا إلى أجل مسمى ولابد. واستدل بالحديث ثم قال ففى هذا إيجاب الأجل المعلوم ويحرم التأجيل عندهم فى بيع الربويات وهو بيع صنف من الأصناف الواردة فى حديث " الذهب بالذهب " بمثله نسيئة كما يحرم متفاضلا ويجوز بيع كل صنف منها بالأصناف الأخرى بشرط أن يكون يدا بيد. قال ابن حزم (82) : لا يحل أن يباع قمح بقمح إلا مثلا بمثل يدا ليد، وذكر مثل ذلك فى باقى الأصناف، ثم قال (83) : وجاز بيع كل صنف مما ذكرنا بالأصناف الأخرى متفاضلا ومتماثلا إذا كان يدا بيد ولا يجوز فى ذلك التأخير طرفة عين فأكثر لا فى بيع ولا فى سلم، ثم قال (84) : وجاز بيع الذهب بالفضة سواء فى ذلك الدنانير بالدراهم أو بالحلى والدراهم بحلى الذهب، يدا بيد ولابد عينا بعين، ولا يجوز التأخير فى ذلك طرفة عين لا فى بيع ولا فى سلم ويباع الذهب بالذهب لا يحل التفاضل ولا التأخير طرفة عين، وتباع الفضة بالفضة وزنا بوزن يدا بيد ولا يجوز التأخير فى ذلك طرفة عين لا بيعا ولا سلما.
مذهب الزيدية:
يجوز البيع عندهم بثمن مؤجل أيضا ويذكرونه فى فروعهم. يقول صاحب البحر (85) : ولا يصح أن يأخذ بالثمن المؤجل غير جنسه قبل حلول أجله.
ويجب عندهم فى السلم لأن التأجيل فى ماهيته يقول صاحب البحر: السلم هو تعجيل أحد البدلين وتأجيل الآخر كما ذكر فى شروط السلم الأجل (86) كما يشترطون فى باب الكتابة التأجيل والتنجيم مع اختلافهم فى أقل النجوم، ونقل صاحب البجر عن المؤيد بالله وأبى طالب وأبى العباس أن التأجيل والتنجيم شرط وأقله نجمان قيل: ولو فى ساعتين، وقيل: بل أقل أجل السلم، وقال: إنه قوى، وأن وجه اشتراط التأجيل والتنجيم قول على الكتابة على نجمين، ولفعل عثمان ذلك مع عبده. ويحرم التأجيل فى الربويات. نقل صاحب البحر (87) عن العترة: إن ما لا يكال ولا يوزن جاز التفاضل فيه كالرمانة بالرمانتين ويحرم النساء لقوله عليه السلام: "لا ربا إلا بالنسيئة فعم إلا ما خصه دليل، ثم نقل أنهما إذا اتفقا جنسا وتقديرا أو فى أحدهما اشترط التقابض فى المجلس لقوله عليه السلام: "إلا يدا بيد "، ولقوله: "التمر بالملح يدا بيد كيف شئتم". وكذلك يحرم فى الصرف يقول صاحب البحر (88) : إن من شروط الصرف الحلول لقوله صلى الله عليه وسلم: " إلا ها وها ". والتأجيل يفسده ولو حل قبل التفرق إذ يخالف موجب عقده وهو التعجيل. كما نقل (89) عن المؤيد بالله وأبى طالب والقاضى زيد وأبى العباس أنه لا يصح الأنظار بالقرض إذ هو تبرع كالعارية، والتأجيل نقص للعوض وموضوع القرض تماثلها.
مذهب الإمامية:
مما يجوز التأجيل فيه عندهم ثمن المبيع إذا اتفق عليه الطرفان، جاء فى المختصر النافع (90) : "من ابتاع مطلقا فالثمن حال ولو شرط التأجيل مع تعيين المدة صح".
وفى قلائد الدرر (91) : ويجوز تأجيل القرض عندهم إذ يقول: إن آية (يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى (. تدل على جواز تأجيل القرض. كما جاء فيه (92) : إن فى قوله تعالى: (إلى أجل (يفهم إباحة المعاملة بالدين مؤجلا نسيئة وسلما لأن الدين حق يثبت فى الذمة فهو أعم من المؤجل وغيره.
ويجب الأجل فى السلم الذى يسمونه سلفا فقد عرفه صاحب المختصر النافع (93) بأنه ابتياع مضمون إلى أجل بمال حاضر واشترطوا لصحته تعيين الأجل. ويقول صاحب الروضة البهية (94) : وتقارن الكتابة البيع فى اعتبار الأجل فى الشهور. ثم قال: "ولابد فى الكتابة من العقد المشتمل على الإيجاب مثل كاتبتك على أن تؤدى إلى كذا فى وقت كذا إن اتحد الأجل أو أوقات كذا إن تعدد الأجل". ثم قال (95) : "والأقرب اشتراط الأجل فى الكتابة مطلقا بناء على أن العبد لا يملك شيئا فعجزه حال العقد عن العوض حاصل، ووقت الحصول متوقع مجهول فلابد من تأجيله بوقت يمكن فيه حصوله عادة". ثم قال: "وقيل: لا يشترط الأجل مطلقا للأصل ولإطلاق الأمر بها خصوصا على القول بكونها بيعا".
مذهب الإباضية:
يرون كغيرهم، كما فى النيل وشرحه، جواز تأجيل الثمن فى البيع إذ يقولون (96) : يفسد كل بيع لأجل غير منضبط لا منضبط. ويقولون بوجوب الأجل فى السلم فقد نصوا عند ذكرهم شروط السلم (97) على أنه بوزن وعيار وأجل ... يوفى فيه ما فيه السلم. ونقل عن أحد فقهائهم: إن علة الأجل حصول مصلحتين إحداهما للبائع وهو دفع قليل ليأخذ أكثر منه، والثانية للمشترى وهى الانتفاع بالثمن فى أجله. ويمنعونه فى الربويات على طريقتهم ويستدلون بحديث يروونه عن زيد بن أرقم والبراء بن عازب: "إن الصرف يد بيد وأما بالنسيئة فلا (98) ". وبما رواه جابر بن زيد عن طلحة بن عبيد الله أنه التمس من رجل صرفا فأخذ طلحة الذهب يقلبه بيده وقال: حتى يأتى خازنى من الغابة وعمر بن الخطاب حاضر فقال: والله لا تفترقان حتى يتم الأمر بينكما. وقد عرفوا (99) الصرف بأنه: بيع وإن بلا وزن بشرط التقابض فى المجلس، وهم يمنعون ربا النسيئة على تفصيل لهم فى ذلك (100) .
حكم الأجل من ناحية اللزوم وعدمه
واضح أن كل تأجيل مشروع يلتزم به العاقدان إلا أن الفقهاء عدا المالكية يستثنون القرض. ويضيف الأحناف إلى القرض فى عدم التزام الأجل مع ذكره ست مسائل أخرى وإليك البيان.
مذهب الحنفية:
جاء فى التنوير وشرحه (101) : لزم تأجيل كل دين إن قبل المدين إلا فى سبع بدلى صرف وسلم، وثمن عند إقالة وفيما بعدها وما أخذ به الشفيع ودين الميت والقرض، غير أن القرض يلزم تأجيله فى أربع مسائل إذا كان محجورا، أو حكم مالكى بلزومه بعد ثبوت أصل الدين عنده، أو أحاله على آخر فأجله المقرض، أو أحال على مدين مؤجل دينه، أو أوصى بأن يقرض فلان من ماله ألف درهم إلى سنة، أو أوصى بتأجيل قرضه إلى زيد سنة، واستخلص أن تأجيل الدين على ثلاثة أوجه: باطل فى بدلى الصرف والسلم، وصحيح غير لازم فى قرض وإقالة وشفيع ودين ميت ولازم فيما عدا ذلك، وأضاف إلى ذلك نقلا عن النهر أن الملحق بالقرض تأجيله باطل ومن إضافات ابن عابدين فى هذا المقام أنه علل عدم اللزوم فى تأجيل بدلى الصرف والسلم باشتراط القبض فى بدلى الصرف فى المجلس واشتراطه فى رأس المال، وهذا يقضى بعدم جواز التأجيل فى بدلى الصرف وفى رأس مال السلم كما نقل ابن عابدين عن القنية: إن المشترى إذا أجل البائع سنة عند الإقالة صحت الإقالة وبطل الأجل ولو تقايلا ثم أجله ينبغى ألا يصح الأجل عند أبى حنيفة فإن الشرط اللاحق بعد العقد ملتحق بأصل العقد عندهم. ونقل عن الجوهرة أنه يجوز تأجيل رأس مال السلم بعد الإقالة لأنه دين لا يجب قبضه فى المجلس كسائر الديون. وقال فى موضوع ما أخذ به الشفيع أنه يشمل ما إذا كان الشراء بثمن مؤجل فإن الأجل لا يثبت فى أخذ الشفيع، ثم صور دين الميت بقوله: لو مات المدين وحل المال فأجل الدائن وارثه لم يصح لأن الدين فى الذمة. ثم قال: وفائدة التأجيل أن يتجر فيؤدى الدين من نماء المال فإذا مات من له الأجل تعين المتروك لقضاء الدين فلا يفيد التأجيل وفى ملتقى الأبحر وشرحه مجمع الأنهر (102) : كل دين أجل بأجل معلوم صح تأجيله وإن كان حالا فى الأصل لأن المطالبة حقه فله أن يؤخره سواء كان ثمن مبيع أو غيره تيسيرا على من له عليه. ألا ترى أنه يملك إبراءه مطلقا فكذا مؤقتا ولابد من قبوله ممن عليه الدين فلو لم يقبل بطل التأجيل فيكون حالا ويصح تعليق التأجيل بالشرط. ثم استثنى كصاحب التنوير القرض ونص على أنه لا يصح تأجيله.
وقد صور ابن عابدين تعليق التأجيل بالشرط بقوله (103) : فلو قال لمن عليه ألف حالة: إن دفعت إلى غدا خمسماية فالخمسماية الأخرى مؤخرة إلى سنة فهو جائز.
مذهب المالكية:
جاء فى متن خليل وشرح الدردير عليه (104) : جاز قضاء قرض بمساو لما فى الذمة قدرا وصفة حل الأجل أم لا.
وعلق الدسوقى على ذلك بكلام يقول فيه: إن الحق فى الأجل فى القرض لمن عليه الدين. وقال (105) : إن ثمن المبيع إذا كان عرضا أو طعاما كان الحق فى الأجل لرب الدين، وأما القرض وثمن المبيع إذا كان عينا فالحق فيه لمن عليه الدين إن شاء عجل أو بقى الأجل.
مذهب الشافعية:
جاء فى منهاج الطالبيين وشرحه فى باب القرض (106) : " ولو شرطا أجلا فى القرض فلا يعتبر الأجل ويصح العقد وعلق على ذلك عميرة فى حاشيته بقوله: وعندنا لا يلزم التأجيل فى الحال إلا بالإيصاء أو النذر.
مذهب الحنابلة:
يقول ابن قدامة (107) : وللمقرض المطالبة ببدله فى الحال لأنه سبب يوجب رد المثل فى المثليات فأوجبه حالا كالإتلاف. ولو أجل القرض لم يتأجل وكان حالا. وكل دين حل أجله لم يصر مؤجلا بتأجيله.
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم الظاهرى (108) : من كان له دين حال أو مؤجل فحل فرغب إليه الذى عليه الحق فى أن ينظره أيضا إلى أجل مسمى ففعل أو أنظره كذلك بغير رغبة وأشهد أو لم يشهد لم يلزمه من ذلك شىء، والدين حال ويأخذه به متى شاء، وهو قول أصحابنا.
مذهب الزيدية:
قدمنا عن الزيدية نقلا عن البحر الزخار (109) أنهم يقولون بعدم صحة تأجيل القرض فضلا عن عدم اللزوم.
مذهب الإمامية:
جاء فى كتاب قلائد الدرر (110) : إن آية البقرة: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى (كما تدل على جواز تأجيل القرض تدل على لزومه عند اشتراطه. واستدل للزوم بعموم الأمر بالوفاء بالشروط والعقود. وقد استدرك صاحب القلائد على ذلك بقوله: إن الأصحاب أطبقوا على كونه من العقود الجائزة وأنه لو شرط فيه الأجل فلا يلزم لأن الآية ليست ناصة فى ذلك لاحتمال أن يكون الغرض من الكتابة المحافظة على المقدار حذرا من تطرق النسيان وإمكان حمل الرواية على الاستحباب. نعم لو شرط تأجيله فى عقد لازم فالأقوى لزومه.
انتهاء الأجل وسقوطه
واضح أن الأجل ينتهى بانتهاء مدته المتفق عليها بين المتعاقدين دون خلاف فى ذلك فإذا كان البيع بثمن مؤجل انتهى الأجل بانتهاء المدة المضروبة، ومثله فى مدة الإجارة والعارية وأجل القرض وما إلى ذلك. وأما سقوط الأجل فى أثناء المدة فواضح أيضا أنه يسقط باتفاق الدائن والمدين، وبوجود سبب يفسخ العقد الذى بقى عليه الأجل، وهناك اختلاف فى بعض الصور والجزئيات مثل إبطال المدين حقه فى الأجل، ومثل موت أحدهما ومثل الحجر على المدين نبينه فيما يأتى:
إبطال المدين حقه فى الأجل
مذهب الحنفية:
نقل ابن عابدين (111) : أنه لو قال المدين أبطلت الأجل أو تركته صار حالا بخلاف برئت من الأجل أو لا حاجة لى فيه، وإذا قضاه قبل الحلول فاستحق المقبوض من القابض أو وجده زيوفا فرده أو وجد فى المبيع عيبا فرده بقضاء عاد الأجل، لا لو اشترى من ديونه شيئا بالدين وقبضه ثم تقايلا البيع ولو كان بهذا الدين المؤجل كفيل.
ثم قال (112) نقلا عن الفنية: إنه لو قضى المديون الدين قبل حلول الأجل فإنه لا يأخذ من المرابحة التى جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام.
وفى غمز عيون الأبصار للحموى على الأشباه لابن نجيم (113) يلزم الدائن بقبول الدين المؤجل إذا قضاه المدين قبل حلول الأجل إلا أن يكون فى أخذه ضرر بالدائن فإنه لو لم يأمن مثلا بأن كان بمكة وأعطاه دينه وهو لا يحل إلا بمصر فإنه لا يجبر على أخذه منه.
مذهب المالكية:
يقول الدردير فى الشرح الكبير (114) : فإن أراد المقترض رد القرض له به قبل أجله لزم المقرض قبوله، لأن الأجل حق لمن هو عليه ولو كان غير عين، ولا يلزم ربه بقبوله فى غير محله إن كان غير عين- أى النقد ونحوه- لما فيه من الكلفة " أمل العين فيلزم ربها أخذها بغير محلها لخفة حملها إلا لخوف أو احتاج إلى كبير حمل، ومثل العين الجواهر النفيسة الخفيفة.
مذهب الشافعية:
قال الشافعى فى الأم (115) فى باب السلم: فإن دعا المدين الدائن إلى أخذ حقه قبل محله، وكان حقه ذهبا أو فضة أو نحاسا أو تبرا أو عرضا غير مأكول ولا مشروب ولا ذى روح يحتاج إلى العلف والنفقة جبر على أخذ حقه منه إلا أن يبرئه لأنه قد جاءه بحقه وزيادة تعجيله قبل محله. ثم قال: ولست انظر فى هذا إلى تغير قيمته فإن كان يكون فى وقته أكثر قيمة أو أقل قلت للذى له الحق إن شئت حبسته وقد يكون فى وقت أجله أكثر قيمة منه حين يدفعه أو أقل.
وجاء فى شرح المنهاج (116) : إن أداء القرض كأداء المسلم فيه صنفا وزمنا ومحلا. وعلق الشبراملسى على ذلك بقوله: إن المراد من تشبيهه به فى الزمان ما ذكروه من أنه إذا أحضر المقترض ما فى ذمته من دين فى زمن النهب لا يجب عليه قبوله، كما أن المسلم فيه إذا أحضره المسلم إليه قبل محله لا يلزمه القبول وإن أحضره فى زمن الأمن وجب قبوله فالمراد من التشبيه مجرد أن القرض قد يجب قبوله إذا أتى به للمقرض وقد لا يجب.
مذهب الحنابلة:
يقول ابن قدامة (117) فى باب السلم: "إذا أتى المسلم إليه بالمسلم فيه قبل محله ينظر فيه إن كان فى قبضه قبل محله ضرر لكونه يتغير كالفاكهة، أو كان قديمه دون حديثه كالحبوب لم يلزم المسلم قبوله لأن له غرضا فى تأخيره بأن يحتاج إلى أكله أو إطعامه فى ذلك الوقت، وكذلك الحيوان لأنه لا يأمن تلفه فيحتاج إلى الإنفاق عليه إلى ذلك الوقت وربما يحتاج إليه فى ذلك الوقت دون ما قبله، وهكذا إن كان مما يحتاج فى حفظه إلى مؤنة كالقطن ونحوه أو كان الوقت مخوفا يخشى نهب ما يقبضه فلا يلزمه الأخذ فى هذه الأحوال كلها لأن عليه ضررا فى قبضه ولم يأت محل استحقاقه له فجرى مجرى نقص صفة فيه وإن كان مما لا ضرر فى قبضه بأن يكون لا يتغير كالحديد والرصاص والنحاس فإنه يستوى قديمه وحديثه ونحو ذلك الزيت والعسل ولا فى قبضه ضرر لخوف ولا تحمل مؤنة فعليه قبضه لأن غرضه حاصل مع زيادة تعجل المنفعة فجرى مجرى زيادة الصفة وتعجيل الدين المؤجل".
وهذا صريح فى أن من حق المدين إبطال حقه فى الأجل وأن على الدائن أن يقبل التعجيل إذا لم يكن فيه ضرر عليه.
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم الظاهرى (118) : إن أراد الذى عليه الدين المؤجل أن يعجله قبل أجله بما قل أو كثر لم يجبر الذى له الحق على قبوله أصلا، وكذا لو أراد الذى له الحق أن يتعجل قبض دينه قبل أجله بما قل أو كثر لم يجز أن يجبر الذى عليه الحق علي أدائه سواء فى ذلك الدنانير والدراهم والطعام كله والعروض كلها والحيوان فلو تراضيا على تعجيل الدين أو بعضه قبل حلول أجله أو على تأخيره بعد حلول أجله أو بعضه جاز ذلك وهو قول أبى سليمان وأصحابنا واستدل على ذلك بأن شرط الأجل قد صح بالقرآن والسنة فلا يجوز إبطال ما صححه الله تعالى. وقال فى موضوع الكتابة (119) : وإذا كانت الكتابة نجمين فصاعدا أو لأجل فأراد العبد تعجيلها كلها أو تعجيل بعضها قبل أجله لم يلزم السيد قبول ذلك ولا عتق العبد وهى إلى أجلها وكل نجم منها إلى أجله لقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ((120) ولقول النبى صلى الله عليه وسلم: " المسلمون عند شروطهم ".
مذهب الزيدية:
يقول صاحب البحر الزخار (121) : يجب قبض كل معجل مساو للدين أو زائد فى الصفة لإلزام عمر امرأة كاتبت عبدا قبول تعجيل العبد قبل النجوم ولم يخالفه أحد إلا مع خوف ضرر أو غرامة، وقد نقل الحادثة صاحب جواهر الأخبار فى حاشيته على البحر فقال (122) : روى أن امرأة كاتبت عبدا لها على ثلاثين ألف درهم منجمة فأتى العبد بالمال صبة واحدة فأبت المرأة أن تقبض المال إلا فى النجوم التى اشترطتها، فجاء العبد إلى عمر فقال له: هات المال. فصبه العبد كاملا، فوضعه عمر فى بيت المال وأطلق العبد من الرق وأرسل إلى المرأة أن مالها قد صار فى بيت المال تأخذه فى أى وقت شاءت. فقال: إن فى الحديث رواية أخرى تفيد أن الحادثة مع أنس بن مالك.
ونقل صاحب البحر فى باب السلم (123) عن الهادى أنه يجوز قبول ما يحمل لتبرأ ذمة المعجل فإن امتنع فوجهان: قيل: يجبره الحاكم إذ هو حق عليه، وقيل: لا بل يقبضه إلى بيت المال حتى يقبله لفعل عمر ذلك، وقد نسب هذا إلى بعض أصحاب الشافعى وقال: إنه قوى.
مذهب الإمامية:
جاء فى الروضة البهية (124) : " البائع بتأخير يجب قبض الثمن لو دفعه إلى البائع مع الحلول مطلقا وفى الأجل أى بعده لا قبله لأنه غير مستحق حينئذ وجاز تعلق غرض البائع بتأخير القبض إلى الأجل فإن الأغراض لا تنضبط.
موت أحد المتداينين والحجر على المدين
يرى الأحناف أن الأجل يسقط بموت المدين. قال الكاسانى (125) : لو مات المسلم إليه قبل الأجل حل الدين، وكذا كل دين مؤجل سواه إذا مات من عليه الدين والأصل فى هذا أن موت من عليه الدين يبطل الأجل، وموت من له الدين لا يبطل لأن الأجل حق المدين لا حق صاحب الدين فتعتبر حياته وموته فى الأجل وبطلانه. وفى الأشباه والنظائر لابن نجيم (126) : إن الأجل يحل بموت المدين ولو حكما باللحاق مرتدا بدار الحرب ولا يحل بموت الدائن ويسقط أيضا عندهم بتنازل المدين عن الأجل المضروب باعتباره صاحب الحق فيه ما لم يكن فى ذلك ضرر بالدائن على ما بينا فى موضوع إبطال المدين حقه فى الأجل.
مذهب المالكية:
جاء فى متن خليل والشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليهما (127) : وحل بموت المدين ما أجل عليه من الدين لخراب ذمته ما لم يشترط المدين عدم حلوله به وما لم يقتل الدائن المدين عمدا فلا يحل كما لا يحل بموت رب الدين ولو كان الدين دين كراء لدار أو دابة أو عبد فإنه يحل بموت المكترى وقال الدسوقى: إنه لو طلب بعض الغرماء بقاء دينه مؤجلا لم يجب لذلك لأن للمدين حقا فى تخفيف ذمته بحكم الشرع أما لو طلب جميع الغرماء بقاء ديونهم مؤجلة كان لهم ذلك. ثم قال: إن ذلك هو المشهور من المذهب، ومقابله أن الدين المؤجل لا يحل بالموت كما لا يحل بالفلس. وانتهى بقوله: فالدين إنما يحل بموت من عليه الدين لا بموت من له الدين.
مذهب الشافعية:
قال الشافعى (128) : إذا مات الرجل وله على الناس ديون إلى أجل فهى إلى أجلها لا تحل بموته، ولو كانت الديون على الميت إلى أجل فلم أعلم مخالفا حفظت عنه ممن لقيت بأنها حالة يتحاص فيها الغرماء ويمكن أن يستدل بهذا بما جاء فى "الأم" أيضا: لما كان غرماء الميت أحق بماله فى حياته كانوا أحق بماله بعد وفاته من ورثته، فلو تركنا ديونهم إلى حلولها كما ندعها فى الحياة كنا منعنا الميت أن تبرأ ذمته ومنعنا الوارث أن يأخذ الفضل عن دين غريم أبيه. وجاء فيها: ولعل من حجتهم أن يقولوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه دينه ". قال الشافعى: فلما كان كفنه من رأس ماله دون غرمائه ونفسه معلقة بدينه وكان المال ملكا له أشبه أن يجعل قضاء دينه، لأن نفسه معلقة بدينه ولم يجز أن يكون مال الميت زائلا عنه فلا يصير إلى غرمائه ولا إلى ورثته، وذلك أنه لا يجوز أن يأخذه ورثته دون غرمائه، ولو وقف إلى قضاء دينه علق روحه بدينه وكان ماله معرضا أن يهلك فلا يؤدى عن ذمته ولا يكون لورثته فلم يكن فيه منزلة أولى من أن يحل دينه ثم يعطى ما بقى ورثته.
مذهب الحنابلة:
ينص الحنابلة (129) على أن من مات وعليه ديون مؤجلة ففى حلولها بالموت روايتان: إحداهما لا تحل إذا وثقها الورثة وهو قول ابن سيرين. والرواية الأخرى أنه يحل بالموت وبه قال الشعبى والنخعى لأنه لا يخلو أما أن يبقى فى ذمة الميت أو الورثة أو يتعلق بالمال لا يجوز بقاؤه فى ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا ذمة الورثة لأنهم لم يلتزموها ولا رضى صاحب الدين بذممهم وهى مختلفة متباينة ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه. أما الميت فلحديث: " الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه " وأما صاحبه فيتأخر حقه وقد تتلف العين فيسقط حقه، وأما الورثة فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها وإن حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم.
وقد اختار الخرقى الرواية الأولى ووافقه على ذلك ابن قدامة مستدلا بقوله: ولنا أن الموت لا يوجب حلول ما عليه إذ الموت ما جعل مبطلا للحقوق إنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: " من ترك حقا أو مالا فلورثته "، فعلى هذا يبقى الدين فى ذمة الميت كما كان ويتعلق بعين ماله كتعلق حق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه فإن أحب الورثة أداء الدين والتزامه للغريم ويتصرفون فى المال لم يكن لهم ذلك إلا أن يرضى الغرماء أو يوثق الحق بضمين ملىء أو رهن يثق به - الغريم- لوفاء حقه. وذكر القاضى أن الحق ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورثهم من غير أن يشترط التزامهم له ولا ينبغى أن يلزم الإنسان دين لم يلتزمه ولم يتعاط سببه ولو لزمهم ذلك لموت مورثهم للزمهم وإن لم يخلف وفاء.
ثم قال: وإن مات مفلس وله غرماء بعض ديونهم مؤجلة وبعضها حالة وقلنا: المؤجل يحل بالموت تساووا فى التركة فاقتسموها على قدر ديونهم وإن قلنا لا يحل بالموت نظرنا. فإن وثق الورثة لصاحب المؤجل اختص أصحاب الحال بالتركة، وإن امتنع الورثة من التوثيق حل دينه وشارك أصحاب الحال كى لا يفضى إلى إسقاط دينه بالكلية.
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم الظاهرى (130) : وكل من مات وله ديون على الناس مؤجلة أو للناس عليه ديون مؤجلة فكل ذلك سواء، وقد بطلت الآجال كلها وصار كل ما عليه من دين حالا سواء فى ذلك كله القرض والبيع وغير ذلك. واستدل على ذلك بقوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ((131) وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام "، وقوله تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين ((132) فصح أن بموت الإنسان بطل حكمه عن ماله وانتقل إلى ملك الغرماء والموصى لهم ووجوه الوصايا والورثة ورغبة الغرماء فى تأجيل ما عليهم أو تأجيل ما على الميت إنما كان بلا شك بينهم دين المتوفى إذ كان حيا وقد انتقل الآن المال عن ملكه إلى ملك غيره فلا يجوز كسب الميت عليهم فيما قد سقط ملكه عنه ولا يحل للغرماء شىء من مال الورثة والموصى لهم والوصية بغير طيب أنفسهم فبطل حكم التأجيل فى ذلك ووجب للورثة وللوصية أخذ حقوقهم وكذلك لا يحل للورثة إمساك مال غريم متهم إلا بطيب نفسه لأن عقده إنما كان مع المتوفى إذ كان حيا فلا يلزمه أن يبقى ماله بأيدى ورثته لم يعاملهم قط ولا يحل لهم إمساك مال الذى له الحق عنه والله تعالى لم يجعل لهم حقا ولا للوصية إلا بعد إنصاف أصحاب الديون. وروى بسنده إلى الشعبى والنخعى أنهما قالا: من كان له الدين إلى أجل فإذا مات فقد حل كما روى عن الحسن البصرى أنه كان يرى الدين حالا إذا مات وعليه دين.
مذهب الزيدية:
جاء فى البحر الزخار (133) نقلا عن القاسم والناصر والمؤيد بالله من أئمتهم أنه لا يحل الدين المؤجل بموت من هو عليه الدين، إذ هو حق له فصار لوارثه وينتقل إلى ذمة الوارث بدليل جواز القضاء من ماله.
مذهب الإمامية:
جاء فى قلائد الدرر (134) أن الحسن بن سعيد سأل شيخه عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمى ثم مات المقترض، أيحل مال القارض عند موت المستقرض منه أو للورثة من الأجل ما للمستقرض فى حياته؟ فقال: إذا مات فقد حل مال القارض.
وفى الروضة البهية (135) : وتحل الديون المؤجلة إذا مات المديون سواء فى ذلك مال السلم والجناية المؤجلة وغيرهما للعموم ولا تحل الديون المؤجلة بموت الدائن للأصل خرج منه موت المديون فيبقى الباقى. وقيل: يحل استنادا إلى رواية مرسلة وبالقياس على موت المدين وهو باطل.
سقوط الأجل بالحجر
مذهب الحنفية:
أما الحجر على المدين فإنه لا يسقط الأجل عندهم كما جاء فى الفتاوى الهندية (136) ويقول ابن نجيم (137) : إن ظاهر كلام الأحناف أن الجنون لا يوجب حلول الدين لإمكان التحصيل بوليه.
مذهب المالكية:
جاء فى المدونة (138) : سأل سحنون أستاذه عبد الرحمن بن القاسم عن المفلس إذا كانت عليه ديون إلى أجل، وديون قد حلت ففلسه الذين قد حلت ديونهم، أيكون للذين لم تحل ديونهم أن يدخلوا فى قول مالك؟ قال: نعم ولكن ما كان للمفلس من دين إلى أجل على الناس فهو إلى أجله. قلت أرأيت المفلس إذا كانت عليه ديون للناس إلى أجل أتحل إذا فلس فى قول مالك؟ قال: إذا فلس فقد حلت ديونهم عند مالك. ونقل عن ابن وهب أن مالكا قال: من مات أو فلس فقد حل دينه، وإن كان إلى أجل.
مذهب الشافعية:
قال الشافعى (139) : إذا أفلس الرجل وعليه ديون إلى أجل فقد ذهب غير واحد من المفتين ممن حفظت عنهم إلى أن ديونه التى إلى أجل حالة حلول دين الميت، واستدل لذلك بأن مال المفلس وقف كوقف مال الميت وحيل وبينه وبين أن يقضى من شاء. ثم قال: وقد يحتمل أن يباع لمن حل دينه ويؤخر الذين ديونهم متأخرة لأنه غير ميت فإنه قد يملك والميت لا يملك.
وفى المنهاج وشرحه (140) : ولا حجر بالدين المؤجل لأنه لا مطالبة فى الحال وإذا حجر بحال لم يحل المؤجل فى الأظهر والثانى يحل بالحجر كالموت بجامع تعلق الدين بالمال، وفرق صاحب الرأى الأول بخراب الذمة بالموت دون الحجر وعلق على ذلك قليوبى فى حاشيته بقوله: لا يجوز الحجر بالدين المؤجل مستقلا ولا يحسب من الدين من الذى يؤدى من المال ولا يطالب صاحبه، ولا يشارك عند القسمة فإن حل قبلها شارك صاحبه الغرماء كما فى شرح الروض، وقال عميرة فى حلول المؤجل بالجنون قولان: ونقل عن النووى أن المشهور الحلول.
مذهب الحنابلة:
يقول الخرقى (141) : إذا كان على المفلس دين مؤجل لم يحل بالتفليس. ويعلق على ذلك ابن قدامة بقوله: إن الدين المؤجل لا يحل بفلس من هو عليه رواية واحدة، قال القاضى: وذكر أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه يحل. ووجه ذلك أن الأجل حق للمفلس فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ولأنه لا يوجب حلول ماله فلا يوجب حلول ما عليه كالجنون والإغماء ولأنه دين مؤجل على حى فلا يحل قبل أجله كغير المفلس. فإذا حجر على المفلس. قال أصحابنا: لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة غرماء الديون الحالة بل يقسم المال الموجود بين أصحاب الديون الحالة ويبقى المؤجل فى الذمة إلى وقت حلوله. ثم قال: وإن قلنا أن الدين يحل فإنه يضرب مع الغرماء بدينه كغيره من أرباب الديون الحالة.
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم (142) : ويقسم مال المفلس الذى يوجد له بين الغرماء بالحصص على الحاضرين الطالبين الذين حلت آجال حقوقهم فقط، ولا يدخل فيهم حاضر لا يطلب ولاغائب لم يوكل ولا حاضر أو غائب لم يحل أجل حقه طلب أو لم يطلب لأن من لم يحل أجل حقه فلا حق له بعده "
مذهب الزيدية:
جاء فى البحر الزخار فى موضوع الحجر على المدين (143) : قيل: لا يحجر فى دين مؤجل حتى يحل كما ليس له طلب الكفيل والرهن والحجر توثيق مثل الكفيل والرهن. وقال أبو جعفر: ذو الدين المؤجل كمن لا دين له. ثم قال: يصح الحجر لكل دين نقد أو غيره ويدخل فيه المؤجل تبعا للحال. ثم قال: والمذهب لا يحل به المؤجل لأنه لا وجه لسقوط الأجل لكن إذا انقسم المال ترك قسط المؤجل. وقيل: لا بل يستغرقه ذو الحال. ورد ذلك بأن الحق المؤجل تعلق بذمته، فاستووا.
مذهب الإمامية:
جاء فى الروضة البهية (144) : ولا تحل الديون المؤجلة بحجر المفلس عملا بالأصل خلافا لابن الجنيدى رحمه الله حيث زعم أنها تحل قياسا على الميت وهو باطل مع وجود الفارق بتضرر الورثة إن منعوا من التصرف إلى أن يحل وصاحب الدين إن لم يمنعوا بخلاف المفلس لبقاء ذمته.
الاعتياض عن الأجل
أجمع فقهاء المسلمين على أن مد الأجل الدين حال أو مؤجل نظير مال حرام ويعد من ربا النسيئة. (انظر: ربا)
مذهب الحنفية:
جاء فى باب الصلح (145) : "لا يصح الصلح عن ألف مؤجل عليه نصفه حالا إلا فى صلح المولى مكاتبه فيجوز، ويعلل ابن عابدين عدم الجواز بأنه اعتياض عن الأجل وهو حرام، وعلل الجواز فى المكاتب بأن معنى الإرفاق فيما بينهما أظهر من معنى المعارضة فلا يكون هذا مقابلة الأجل ببعض المال ولكنه إرفاق من المولى يحط بعض المال ومساهلة من المكاتب فيما بقى قبل حلول الأجل ليتوصل إلى شرف الحرية.
مذهب المالكية:
جاء فى "المدونة" (146) ما يدل على منع البيع الذى يدخله ضع عنى وتعجل. وقد ذكر سحنون فيها صورا كثيرة من أوضحها أنه سأل ابن القاسم فقال: لو أنى أقرضت رجلا مائة أردب من الحنطة إلى سنة فجئته قبل الأجل فقلت له: أعطنى خمسين وأضع عنك الخمسين. أيصلح هذا أم لا؟ قال: قال مالك لا يصح هذا لأنه يدخله ضع عنى وتعجل والقرض فى هذا والبيع سواء. ونقل ابن القاسم وابن وهب عن مالك بسنده إلى مولى السفاح أنه أخبره أنه باع بزا من أصحاب دار بجلة إلى أجل ثم أراد الخروج فسألوه أن ينقدوه ويضع عنهم فسأل زيد بن ثابت عن ذلك فقال: لا آمرك أن تأكل ذلك ولا تؤكله، وذكر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا ينهون عنه.
مذهب الشافعية:
نص الشافعية على عدم صحة الصلح فى الدين المؤجل على تعجيل بعضه وترك الباقى كما لو صالح من عشرة مؤجلة على خمسة حالة فإنه لا يصح لأنه جعل ترك الخمسة المتروكة فى مقابلة تعجيل الخمسة (147) .
مذهب الحنابلة:
جاء فى "المغنى" إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عنى بعضه وأعجل لك بقيته لم يجز. وروى عن أبى عباس أنه لم ير به بأسا، وروى ذلك عن النخعى وأبى ثور لأنه آخذ لبعض حقه تارك لبعضه فجاز كما لو كان الدين حالا (148) .
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم (149) يجوز تعجيل بعض الدين المؤجل على أن يبرئه من الباقى فإن وقع رد وصرف إلى الغريم ما أعطى.
مذهب الزيدية:
يقول صاحب الزخار (150) : لو قال عجل لى وأنا أحط عنك كذا، ففعل من غير شرط فى العقد صح إجماعا، إذ لا مانع ولا يصح مع الشرط إذ يقتضى بيع الأجل، ونقل عن الهادى وأبى طالب أنه لا يصح مع الشرط وعن العباس والمؤيد بالله والإمام يحيى أنه يصح مع الشرط إذ الحط يلحق العقد وإذا جاز منفردا جاز مشروطا. وقال صاحب البحر أنه الأقرب إذ الشرط لا يقتضى الربا ولا يشبهه وذكر خلافا فيما إذا كان الدين فى غير السلم، ورجح أنه يصح، ثم قال: فأما الزيادة فى الحق ليزيد فى الأجل فمحرمة إجماعا لأنه ربا الجاهلية.
وقال صاحب البحر فى باب الكتابة (151) : فإن عجل البعض بشرط إسقاط الباقى فمذهب أبى طالب وبعض الفقهاء أنه لا يصح لشبهه بربا الجاهلية حيث كانوا عند حلول الأجل يطلبون القضاء أو زيادة لأجل المهلة، وقال المؤيد بالله وبعض الفقهاء: يجوز استحسانا، وقال صاحب البحر: إنه الأقرب للمذهب وليس بربا.
مذهب الإمامية:
يقول صاحب الروضة (152) : ولو جعل لحال ثمنا ولمؤجل أزيد منه، أو فاوت بين أجلين فى الثمن بأن قال: بعتك حالا بمائة ومؤجلا إلى شهرين بمائتين أو مؤجلا إلى شهر بمائة، أو شهرين بمائتين بطل لجهالة الثمن. وفى المسألة قول ضعيف بلزوم أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين.
مدة الأجل:
مدة الأجل فيما لا حظر فيه تختلف باختلاف موضوعها كالسلم وخيار الشرط والكتابة والإجارة ومثل آجال العدة ومدة الحمل وغير ذلك مما يتبين فى مواضعه من المصطلحات المناسبة كمصطلح عدة وحمل ومرتد ومفقود وخيار شرط، وخيار التعيين والسلم والكتابة والإجارة فيرجع فى بيان أحكامه إلى هذه المصطلحات.
__________
(1) سورة الطلاق: 4.
(2) سورة البقرة: 282.
(3) ج5 ص83 مطبوعة مع فتح القدير طبع مصطفى محمد.
(4) بهامش الفتح والهداية المرجع السابق.
(5) فتح القدير على الهداية المرجع السابق الموضع نفسه.
(6) بدائع الصنائع ج4 ص181.
(7) مطبوع على حاشية ابن عابدين ج4 ص27.
(8) حاشية ابن عابدين ج4 ص24. طبع المطبعة الكبرى الأميرية بمصر سنة 1325 هجرية، الطبعة الثانية.
(9) المرجع السابق ج4 ص131.
(10) المرجع السابق ج4 ص26.
(11) فتح القدير على الهداية ج5 ص336.
(12) متن خليل والشرح الكبير مع حاشية الدسوقى ج3 ص206 المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1345 هجرية.
(13) المرجع السابق ج3 ص307.
(14) المرجع السابق ج4 ص44 باب الإجارة.
(15) المرجع السابق ج4 ص45.
(16) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج2 ص206 سنة 1325 هجرية، المطبعة الأزهرية.
(17) الأم ج3 ص84 طبع المطبعة الأميرية.
(18) ج4 ص186 مطبعة الحلبى سنة 1357 هجرية.
(19) ج4 ص186 طبع الحلبى سنة 1357 هجرية.
(20) قليوبى وعميرة ج2 ص247 طبع الحلبى سنة 1353 هجرية.
(21) المرجع السابق.
(22) الأم ج3 ص84 المطبعة الأميرية.
(23) سورة البقرة: 189.
(24) ج4 ص187.
(25) المغنى ج4 ص290 طبعة المنار.
(26) المغنى ج4 ص291.
(27) سورة التوبة: 36.
(28) المغنى ج4 ص292.
(29) سورة البقرة: 189.
(30) المغنى ج5 ص399.
(31) المحلى ج8 ص516.
(32) المرجع السابق ج8 ص516.
(33) المحلى ج8 ص515 مسألة 1464.
(34) المرجع السابق ج8 ص518.
(35) ج2 ص401.
(36) الروضة البهية ج1 ص333 طبع دار الكتاب العربى بالقاهرة.
(37) المرجع السابق ج1 ص315.
(38) ج4 ص77.
(39) ج4 ص25 الطبعة السابقة.
(40) المرجع السابق ج4 ص233.
(41) فتح القدير على الهداية ج5 ص251 طبع مصطفى محمد بالقاهرة.
(42) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج3 ص189، 191.
(43) المرجع السابق ج2 ص191.
(44) المرجع السابق ج2 ص191,.
(45) ج4 ص156، طبع مصطفى البابى الحلبى بمصر سنة 1357 هجرية.
(46) المرجع السابق ج4 ص158 ومثله بإيجاز فى شرح الجلال المحلى مع حاشيتى القليوبى وعميرة ج2 ص239.
(47) المغنى ج4 ص196 طبع المنار.
(48) المرجع السابق ج4 ص312.
(49) البحر الزخار ج3 ص410.
(50) ج4 ص323.
(51) شرح النيل ج5 ص193، 194.
(52) فتح القدير ج5 ص83 فما بعدها طبع مصطفى محمد.
(53) سورة البقرة: 275.
(54) حاشية ابن عابدين ج4 ص187.
(55) مطبوع بهامش حاشية ابن عابدين ج5 ص66.
(56) الفتح ج5 ص335 طبع مصطفى محمد.
(57) الفتح ج5 ص369.
(58) المدونة ج9 ص117 طبعة الساسى.
(59) حاشية الدسوقى ج3 ص227.
(60) مطبوع مع حاشية الدسوقى ج3 ص206.
(61) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقى ج4 ص389.
(62) المرجع السابق ج3 ص28.
(63) ج3 ص29.
(64) ج2 ص168 طبعة الحلبى.
(65) نهاية المحتاج على المنهاج ج4 ص96.
(66) المرجع السابق ج4 ص178.
(67) ج3 ص45 طبع مصطفى البابى الحلبى بمصر سنة 1345 هجرية.
(68) ج8 ص380.
(69) المرجع السابق ج8 ص383.
(70) نهاية المحتاج ج3 ص410.
(71) المغنى ج3 ص593.
(72) المغنى ج4 ص289.
(73) المغنى ج9 ص417.
(74) المغنى ج4 ص2.
(75) المرجع السابق ج4 ص9.
(76) المحلى ج8 ص 516 مسألة 1464.
(77) المحلى ج8 ص 90 مسألة 1190.
(78) المحلى ج8 ص 93 مسألة 1196.
(79) المحلى ج8 ص 574 مسألة 1487.
(80) المحلى ج9 ص 294 مسألة 1692.
(81) المحلى ج9 ص 129 مسألة 1612.
(82) المحلى ج8 ص568 مسألة 1483.
(83) المحلى ج8 ص 569 مسألة 1484.
(84) المحلى ج9 ص 572 مسألة 1485.
(85) ج3 ص323.
(86) ج3 ص397.
(87) البحر الزخار ج3 ص334.
(88) البحر الزخار ج3 ص386.
(89) البحر الزخار ج3 ص399.
(90) ص112.
(91) ج2 ص255.
(92) ج2 ص257.
(93) ص134.
(94) ج2 ص206.
(95) ج2 ص207.
(96) النيل وشرحه ج4 ص77.
(97) النيل وشرحه ج4 ص356.
(98) النيل وشرحه ج4 ص 338.
(99) النيل وشرحه ج4 ص 341.
(100) النيل وشرحه ج4 ص330.
(101) مطبوع بهامش حاشية ابن عابدين ج4 ص 187.
(102) ج2 ص82 طبع الأستانة سنة 1327 هجرية.
(103) حاشية ابن عابدين ج4 ص187.
(104) مطبوع بهامش حاشية الدسوقى ج3 ص43.
(105) المرجع السابق ص44.
(106) مطبوع بهامش حاشيتى قليوبى وعميرة ج2 ص260.
(107) المغنى ج4 ص315 طبع المنار.
(108) المحلى ج8 ص98 طبع مطبعة الإمام.
(109) البحر ج3 ص296.
(110) قلائد الدرر ج2 ص255.
(111) حاشية ابن عابدين ج4 ص187.
(112) المرجع السابق ص189.
(113) ج2 ص48 طبع القاهرة سنة 1290 هجرية.
(114) مطبوع بهامش حاشية الدسوقى ج3 ص227.
(115) الأم ج3 ص121 الطبعة الأميرية بالقاهرة.
(116) ج4 ص224.
(117) المغنى ج4 ص306.
(118) المحلى ج8 ص94 المسألة 1200 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(119) ج9 ص299 المسألة 1701.
(120) سورة المائدة: 1.
(121) ج3 ص294.
(122) مطبوع مع البحر ج3 ص394.
(123) ج3 ص401.
(124) ج1 ص334.
(125) بدائع الصنائع ج5 ص213 ومثله فى الدر للحصفكى مطبوع بهامش ابن عابدين ج4 ص25، وفى مجمع الأنهر على ملتقى الأبحر ج2 ص8، وفى درر الحكام وشرحه غرر الأحكام ج2 ص146.
(126) ج2 ص212 طبع القاهرة سنة 1290 هجرية.
(127) ج3 ص266.
(128) الأم ج3 ص188 طبع بولاق.
(129) المغنى ج4 ص435 مطبعة المنار.
(130) المحلى ج8 ص99 وكذا ص202 مطبعة الإمام.
(131) سورة الأنعام: 164.
(132) سورة النساء: 11.
(133) ج3 ص396.
(134) ج2 ص255.
(135) ج1 ص344.
(136) ج5 ص64 طبع بولاق سنة 1320 هجرية.
(137) الأشباه والنظائر ج2 ص312.
(138) المدونة برواية سحنون ج13 ص85.
(139) الأم ج3 ص188 المطبعة الأميرية.
(140) مطبوع بهامش حاشيتى قليوبى وعميرة ج3 ص285.
(141) المغنى ج4 ص345 مطبعة المنار.
(142) المحلى ج8 ص202 المسألة 1280.
(143) ج5 ص91.
(144) ج1 ص343.
(145) ابن عابدين ج4 ص527، وفتح القدير ج7 ص42.
(146) ج9 ص123 فما بعدها.
(147) نهاية المحتاج ج4 ص374.
(148) المغنى ج4 ص174، 175.
(149) المحلى ج8 ص97 مسألة 1204.
(150) ج3 ص409.
(151) المرجع السابق ج4 ص219.
(152) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج1 ص333.(1/72)
إجماع (أ)
معنى الإجماع فى اللغة
جاء فى لسان العرب: " جمع الشىء عن تفرقة، يجمعه جمعا، وجمعه، وأجمعه، فاجتمع. والمجموع الذى جمع من ههنا وههنا وأن لم يجعل كالشىء الواحد.
والجمع أيضا: المجتمعون، ومثله الجميع.
ويقال: جمع أمره، وأجمعه، وأجمع عليه، أى عزم عليه كأنه يجمع نفسه له. ويقال أيضا: أجمع أمرك ولا تدعه منتشرا.
ومنه قوله تعالى " فأجمعوا أمركم " (1) .
وقولهم: " أجمع أمره ": معناه: جعله جميعا بعد ما كان متفرقا، وتفرقه أنه جعل يديره، فيقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر محكم أجمعه، أى جعله جميعا.
وفى الحديث: " من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له ".
ولم يجىء فى لسان العرب: أجمع القوم على كذا: بمعنى اتفقوا، وكذلك لم يجىء هذا المعنى فى أساس البلاغة ولا فى مختار الصحاح، ولكن صرح به فى كل من القاموس والمصباح والمفردات فى غريب القرآن.
قال فى القاموس: والإجماع الاتفاق، وجعل الأمر جميعا بعد تفرقه، والعزم على الأمر، أجمعت الأمر وعليه.
وقال فى المصباح: وأجمعت المسير والأمر، وأجمعت عليه، يتعدى بنفسه وبالحرف عزمت عليه وفى حديث " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له "، أى من لم يعزم عليه فينويه، وأجمعوا على الأمر: اتفقوا عليه ".
وقال فى مفردات القرآن: " وأجمعت كذا: أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة نحو
" فأجمعوا أمركم وشركاءكم " ونحو " فأجمعوا كيدكم ".
ويقال: " أجمع المسلمون علن كذا: اجتمعت آراؤهم عليه " ويؤخذ من هذا أن الإجماع فى اللغة يطلق تارة بمعنى العزم وتارة بمعنى الاتفاق (2) ، فهو لفظ مشترك، وبذلك جزم الغزالى فى المستصفى وهو ينقل المعنى اللغوى للفظ الإجماع (3) .
لكن قال ابن برهان، وابن السمعانى: "الأول، أى العزم، أشبه باللغة. والثانى، أى الاتفاق أشبه بالشرع " (4) .
وكأنهما يترددان فى أن الاتفاق معنى لغوى أصيل كالعزم، ولا محل لهذا بعد مجيئه فى كتب اللغة التى ذكرناها، على أن بعض اللغويين يعكس فيجعل المعنى اللغوى الأصيل للإجماع هو الاتفاق لأنه من أجمع إذا انضم إليه غيره فصار ذا جمع كما يقال أتمر أى صار ذا تمر، وألبن أى صار ذا لبن، وأبقل المكان أى صار ذا بقل.
نقله الإسنوى فى شرحه عن أبى على الفارسى فى الإيضاح، وذكره الرازى ثم قال: والأظهر من جهة اللغة أن المراد الاتفاق على أمر من الأمور، وجزم به الجلال فى شرحه على الفصول،، إذ قال هو من الاجتماع بمعنى التوافق لا غير (5) .
وفى شرح مسلم الثبوت عند الكلام على المعنى اللغوى: " أن الإجماع لغة العزم والاتفاق، وكلاهما من الجمع، فإن العزم فيه جمع الخواطر، والاتفاق فيه جمع الآراء " (6) .
معنى الإجماع فى الاصطلاح
الإجماع إما مطلق، وإما مضاف: فالمطلق: هو ما يذكر فيه لفظ الإجماع دون إضافة إلى فريق معين، بأن يذكر مقطوعا عن الإضافة، كما يقال ثبتت الزكاة بالكتاب والسنة والإجماع، أو يذكر مضافا إلى الأمة، أو المسلمين، أو العلماء، أو نحو ذلك مما يفيد عمومه وعدم اختصاصه بفريق دون فريق.
كما يقال: إجماع الأمة منعقد على وجوب الصلوات الخمس على كل مكلف، وإجماع المسلمين قائم على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمضاف: هو الذى يذكر فيه اللفظ منسوبا إلى فريق خاص، كما يقال إجماع أهل المدينة، وإجماع عترة الرسول صلى لله عليه وسلم، وإجماع أهل الحرمين، وإجماع الشيخين، وإجماع الخلفاء الراشدين ونحو ذلك. والتعاريف التى يذكرها جمهور علماء المذاهب الأربعة السنية المعروفة ومذهب الإباضية، إنما هى للإجماع بالمعنى المطلق.
أما غير هذه المذاهب الخمسة فلهم اصطلاحات فى الإجماع تختلف عن ذلك اختلافا بعيدا، أو قريبا وهذا هو تفصيل القول بعد إجماله.
معنى الإجماع فى مذاهب السنة
والمذهب الإباضى
عرفه الغزالى فى المستصفى بقوله: "هو اتفاق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة على أمر من الأمور الدينية " (7) .
وهذا التعريف يجعل المجمعين هم الأمة كلها، ويجعل المجمع عليه هو ما كان من الأمور الدينية خاصة، ولذلك اعترض عليه الآمدى فى الأحكام باعتراضين:
أحدهما: أنه يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة، فإن أمة محمد هم جملة من اتبعه إلى يوم القيامة، ومن وجد فى بعض الإعصار منهم إنما هم بعض الأمة لا كلها، وليس ذلك- أى كون المجمعين هم جميع الأمة إلى يوم القيامة- مذهبا للغزالى ولا لأى أحد ممن اعترف بوجود الإجماع.
الثانى: أنه يلزم من تقييده الإجماع بالاتفاق على أمر دينى ألا يكون إجماع الأمة على قضية عقلية أو عرفية حجة شرعية، وليس الأمر كذلك (8) .
ثم قال الآمدى: " والحق فى ذلك أن يقال: الإجماع عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع.
هذا إن قلنا أن العامى لا يعتبر فى الإجماع، وإلا فالواجب أن يقال: الإجماع عبارة عن اتفاق المكلفين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحد المذكور.
فقولنا: " اتفاق " يعم الأقوال والأفعال والسكوت والتقرير.
وقولنا: " جملة أهل الحل والعقد " احتراز عن اتفاق بعضهم وعن اتفاق العامة وقولنا " من أمة محمد صلى الله عليه وسلم " احتراز عن اتفاق أهل الحل والعقد من أرباب الشرائع السابقة.
وقولنا " فى عصر من الأعصار " حتى يندرج فيه إجماع أهل كل عصر، وإلا أوهم ذلك أن الإجماع لا يتم الا باتفاق أهل الحل والعقد فى جميع الأعصار إلى يوم القيامة.
وقولنا " على حكم واقعة " ليعم الإثبات والنفى، والأحكام العقلية والشرعية " (9) .
وعرفه النسفى فى شرحه للمنار بقوله:" هو اتفاق علماء كل عصر من أهل العدالة والاجتهاد على حكم " (10)
وهو يعبر بأهل العدالة والاجتهاد بدل تعبير الغزالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتعبير الآمدى بجملة أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أطلق فيه المجمع عليه فقال " على حكم " ليعم الحكم الشرعى وغيره كما فعال الآمدى.
وعرفه عبد العزيز البخارى فى حاشيته على أصول البزدوى بقوله: " وهو اتفاق المجتهدين من هذه الأمة فى عصر على أمر من الأمور " (11) .
وهو شبيه بتعريفه النسفى السابق، غير أنه ذكر "اتفاق المجتهدين " بدل " أهل العدالة والاجتهاد ".
والقرافى يذكر أنه " اتفاق أهل الحل والعقد.. إلى آخره " (12) .
ومعروف أن القرافى مالكى المذهب، وأن إمامه ينسب إليه القول بأن إجماع أهل المدينة يكفى ولو خالفهم غيرهم، وسيأتى بيان ذلك وتخريج المالكية له.
ويعرفه موفق الدين ابن قدامة المقدسى الحنبلى فى " روضة الناظر " بقوله: "هو اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من أمور الدين " (13) .
وهو شبيه بتعريف الغزالى السابق فى جعله محل الإجماع هو الأمور الدينية، وفسره بعض الحنابلة بقوله: " أى على أمر يتعلق بالدين لذاته أصلا أو فرعا، وهو احتراز عن اتفاق علماء الأمة على أمر دنيوى، كالمصلحة فى إقامة متجر أو حرفة، أو على أمر دينى لكنه لا يتعلق بالدين لذاته، بل بواسطة، كاتفاقهم على بعض مسائل العربية أو اللغة أو الحساب ونحوه، فإن ذلك ليس إجماعا شرعيا أو اصطلاحيا (14)
ويعرفه الشيخ أبو محمد عبد الله بن حميد السالمى الإباضى فى شرحه المسمى بطلعة الشمس على ألفية الأصول، فيقول: " الإجماع فى عرف الأصوليين والفقهاء وعامة المسلمين هو اتفاق علماء الأمة على حكم فى عصر، وقيل: اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى عصر على أمر، وزاد بعضهم: ولم يسبقه خلاف مستمر فيخرج علي التعريف الأول عوام الأمة ممن لا علم له، فلا يقدح خلافهم فى انعقاد الإجماع، ويدخلون على التعريف الثانى فيعتبر وفاقهم فى انعقاد الإجماع " (15) .
وقيد " عدم سبق الخلاف المستمر "، موضع خلاف بين العلماء سنبينه إن شاء الله فى شروط الإجماع ودخول العوام فى المجمعين أو عدم دخولهم موضع خلاف أيضا، وسيأتى فى الكلام عمن هم أهل الإجماع.
وهناك قيد لابد منه خلت التعاريف السابقة من التقييد به، وتنبه إليه بعض المؤلفين، ومنهم الشوكانى فى إرشاد الفحول، فقد قال فى تعريفه: " هو اتفاق مجتهدى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فى عصر من العصور على أمر من الأمور ".
فزاد قوله " بعد وفاته " وقال: إنه خرج به الإجماع فى عصره - صلى الله عليه وآله وسلم-، فإنه لا اعتبار به (16) .
وهناك زيادات أخرى يذكرها بعضهم فى تعريف الإجماع، حسب قوله بشرط معين، كالذى يشترط فى حجية الإجماع انقراض عصر المجتهدين المتفقين على ذلك الأمر، فيزيد قيد الانقراض، وكالذى يشترط بلوغ المتفقين حد التواتر فيزيد فى التعريف ما يفيد ذلك.
وقد بين شارح مسلم الثبوت أن التعريف غير محتاج إلى التقييد بكل هذه القيود، فإن منها ما هو شرط للحجية لا دخل له فى الحد (17) .
هذه هى آراء جمهور العلماء فى مذاهب السنة الأربعة، ومذهب الإباضية فى تعريف الإجماع اصطلاحا: وإليك أقوال غيرهم:
مذهب الظاهرية فى معنى الإجماع:
يرى الظاهرية أن الإجماع " هو اتفاق الأمة خاصها وعامها على ما علم من الدين بالضرورة، أو اتفاق الصحابة خاصة فيما وراء ذلك".
ويؤخذ هذا من كلام ابن حزم فى كتابه الأحكام، إذ يقول: " أن الإجماع الذى هو الإجماع المتيقن ولا إجماع غيره لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى، لكن ينقسم قسمين:
أحدهما: كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام فى أن من لم يقل به فليس مسلما، كشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وكوجوب الصلوات الخمس، وكصوم شهر رمضان وكتحريم الميتة والدم والخنزير، والإقرار بالقرآن، وجملة الزكاة، فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما، فإذ ذلك كذلك، فكل من قال بها فهو مسلم، فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الإسلام.
والقسم الثانى: شىء شهد هـ جميع الصحابة رضى الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تيقن أنه عرفه كل من غاب عنه عليه السلام منهم، كفعله فى خيبر، إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر، يخرجهم المسلمون إذا شاءوا، فهذا لا شك عند كل أحد فى أنه لم يبق مسلم فى المدينة إلا شهد الأمر أو وصل إليه.
عرف ذلك الجماعة من النساء والصبيان والضعفاء، ولم يبق بمكة والبلاد النائية مسلم إلا عرفه
وسر به (18) .
ويتبين من هذا أن الظاهرية لا يعتبرون اتفاق غير الصحابة فيما وراء أصول الدين المعلومة بالضرورة إجماعا، وهذا أقرب إلى أن يكون بحثا فى الحجية لا بحثا فى مفهوم الإجماع، وسيأتى الكلام فى ذلك إن شاء الله تعالى.
مذهب الزيدية فى معنى الإجماع:
يختلف الزيدية عن الإمامية فى تعريف الإجماع، إذ يرون أنه اتفاق المجتهدين على أحد وجهين:
الوجه الأول: " اتفاق المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فى عصر على أمر"، وهذا شامل للعترة وغيرهم.
الوجه الثانى: " اتفاق المجتهدين من عترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعده فى عصر على أمر "، والمراد بعترة الرسول على وفاطمة والحسنان فى عصرهم، ومن كان منتسبا إلى الحسنين فى كل عصر من قبل الآباء، فلو قام إجماع العترة على أمر وخالفهم غيرهم فلا يعتبر خلافهم ناقضا للإجماع.
وقولهم " من قبل الآباء" يخرج به من كان من قبل الإناث كأولاد سكينة بنت الحسين بن على فإنها تزوجت بمصعب بن الزبير فمن كان من جهتهما فلا يدخل (19) .
مذهب الإمامية فى معنى الإجماع:
إن الشيعة الإمامية يعرفون الإجماع بأنه " كل اتفاق يستكشف منه قول المعصوم سواء أكان اتفاق الجميع أو البعض، فلو خلا المائة من الفقهاء من قول المعصوم ما كان حجة ولو حصل فى اثنين كان قولهما حجة (20) .
وهذا يفيد أن الإجماع من حيث كونه إجماعا، ليست له قيمة عند الإمامية ما لم يكشف عن قول المعصوم فإذا كشف عن قوله فالحجة فى الحقيقة هو المنكشف، لا الكاشف، فيدخل حينئذ فى السنة، ولا يكون دليلا مستقلا فى مقابلها ومقابل الكتاب، ولذلك يقرر بعضهم أنه إنما عد بين الأدلة تكثيرا لها (21) .
مذهب النظام فى معنى الإجماع:
واستكمالا للمذاهب الأصولية فى تعريف الإجماع نورد تعريف النظام المعتزلى له، وهو يقول
" الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته وإن كان قول واحد " (22) .
وقد تعقب العلماء هذا التعريف بالإبطال.
فقال الغزالى: " وهو على خلاف اللغة والعرف، لكنه سواه على مذهبه، إذ لم ير الإجماع حجة، وتواتر إليه بالتسامع تحريم مخالفة الإجماع فقال " هو كل قول قامت حجته " (23) .
وقال الآمدى " إنه قصد بذلك الجمع بين إنكاره كون إجماع أهل الحل والعقد حجة، وبين موافقته لما اشتهر بين العلماء من تحريم مخالفة الإجماع والنزاع معه فى إطلاق اسم الإجماع على ذلك مع كونه مخالفا للوضع اللغوى والعرف الأصولى آيل إلى اللفظ " (24) .
وفى روضة الناظر لابن قدامة المقدسى الحنبلى مثل ذلك (25) .
أنواع الإجماع
الإجماع نوعان: أحدهما:
الإجماع القولى، وهو ما فيه اتفاق الأقوال أو تواطؤ الأفعال على شىء واحد وصورته أن ينطق كل واحد من المعتبرين فى الإجماع بأنه يجب كذا، أو يحرم كذا، أو يندب، أو يكره، أو يباح، أو أن يفعل كل واحد من المعتبرين فعلا يواطىء فى ذلك فعل صاحبه، نحو أن يصلوا على الجنازة بأربع تكبيرات لا يزيد بعضهم عليها، ولا ينقص أو يتفقوا على ترك شىء نحو أن يتركوا الأذان فى صلاة العيد أو نحو ذلك فيكون إجماعا على أنه غير واجب فيها.
النوع الثانى- الإجماع السكوتى، وصورته: أن يقول بعضهم قولا، أو يعمل عملا ويسكت الباقون بعد انتشار ذلك القول أو العمل فيهم ومع القدرة على إنكاره، فلا ينكروه بل يسكتون عليه، كما إذا قال بعضهم: صلاة الكسوف مشروعة، فانتشر هذا القول فيهم فلم ينكره أحد منهم، كان إجماعا على شرعيتها فلو قال مثلا: مفروضة، ولم ينكروه ثبت الإجماع على فرضيتها (26) .
ولكل من النوعين حكم يخالف حكم الآخر، وسيأتى ذلك إن شاء الله تعالى فى الكلام على حجية كل منهما والنزاع فى اعتبار السكوتى إجماعا.
والحنفية يصفون الإجماع القولى بالعزيمة، والسكوتى بالرخصة.
جاء فى المنار وشرحه، المسمى بنور الأنوار لملاجيون: " ركن الإجماع نوعان: عزيمة وهو التكلم بما يوجب الاتفاق أى اتفاق الكل على الحكم بأن يقولوا أجمعنا على هذا إن كان ذلك الشىء من باب القول، أو شروعهم فى الفعل إن كان من بابه، أى كان ذلك الشىء من باب الفعل، كما إذا شرع أهل الاجتهاد جميعا فى المضاربة أو المزارعة أو الشركة، كان ذلك إجماعا منهم على شرعيتها ورخصة وهو أن يتكلم أو يفعل البعض، دون البعض، أى يتفق بعضهم على قول أو فعل وسكت الباقون منهم ولا يردون عليهم بعد مضى مدة التأمل، وهى ثلاثة أيام، أو مجلس العلم ويسمى هذا إجماعا سكوتيا" (27) .
وجاء فى حاشيته للعلامة اللكنوى تعليقا على قوله " عزيمة": أى أصل (28) .
والمراد أن التنصيص من كل واحد من المجمعين هو الأصل ولكن لما كان اشتراطه لانعقاد الإجماع يؤدى إلى ألا ينعقد أبدا لتعذر اجتماع أهل العصر على قول يسمع منهم، والمتعذر معفو عنه، والمعتاد فى كل عصر أن يتولى الكبار الفتوى ويسلم سائرهم، لما كان الأمر كذلك كان الانتقال من التنصيص من كل واحد، الذى هو الأصل، إلى الإجماع السكوتى الذى يتحقق بقول البعض وسكوت الباقين رخصة تقابل الأصل والعزيمة (29) .
هذا تعريف النوعين، وسيأتى الكلام على حكم كل منهما من حيث الحجية.
الخلاف فى إمكان وقوع الإجماع، وفى إمكان العلم به، وفى إمكان نقله، وفى حجيته:
اختلف العلماء فى إمكان وقوع الإجماع على غير ما علم من الدين بالضرورة، وعلى تقدير إمكان وقوعه، اختلفوا فى إمكان العلم به، وعلى تقدير الإمكان فى هذا وذاك، اختلفوا فى إمكان نقل الإجماع إلى من يحتج به من بعد المجمعين.
وعلى تقدير إمكان ذلك كله، اختلفوا فى حجيته، فالمقامات أربعة:
المقام الأول: إمكانه فى نفسه.
المقام الثانى: إمكان العلم به.
المقام الثالث: إمكان نقله إلى من يحتج به.
المقام الرابع: حجيته (30) .
وهذا بيان الخلاف فى كل واحد من هذه المقامات.
المقام الأول: إمكان الإجماع
إن جمهور العلماء فى مذاهب السنة الأربعة، ومذهب الزيدية ومذهب الإباضية يقولون بإمكان وقوع الإجماع من أهل الحل والعقد على أمر من الأمور، وإن ذلك متصور لا استحالة فيه. وقد خالف فى ذلك النظام، وبعض الشيعة والخوارج وعدد من علماء مذاهب السنة وغيرهم (31) .
وكلام القاضى البيضاوى فى المنهاج يقتضى أن النظام يسلم إمكان الإجماع، وإنما يخالف فى حجيته، وهو تابع للإمام الرازى فى ذلك، والمذكور فى الأوسط لابن برهان ومختصر ابن الحاجب وغيرهما أن النظام يقول باستحالته.
وقال ابن السبكى: إن بعض أصحاب النظام يقولون باستحالة الاجتماع، أما هو فيقول إنه يتصور لكن لا حجة فيه (32) .
والذين يقولون بإمكان الإجماع يستدلون على ذلك بأنه قد وقع فعلا، فإن الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام، والوقوع الفعلى يدل على الإمكان، وكيف يمنع تصوره والأمة كلها متبعة باتباع النصوص والأدلة القاطعة ومعرضون للعقاب بمخالفتها، فكما لا يمتنع اجتماعهم على الأكل والشرب لتوافق الدواعى فكذلك على اتباع الحق، واتقاء النار (33) .
والذين يقولون بعدم إمكان الإجماع يقولون:
أولا: لا نخالف فى اتفاق الأمة على ما علم من الدين بالضرورة كوجوب الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام، ولكن ثبوت هذه وأشباهها إنما هو بالتواتر لا بالإجماع وأجيب عن ذلك بأن التواتر هو مستند الإجماع، فلما ثبتت بالتواتر أجمع المسلمون عليها، أو أنها ثبتت بالإجماع فتواترت وكيفما كان فالإجماع فيها ثابت، وبه يحصل المقصود وهو إمكان الإجماع بدليل وقوعه (34) .
ثانيا: إن اتفاق الأمة أو جميع المجتهدين، أو جميع أهل الحل والعقد على حكم غير معلوم من الدين بالضرورة محال، كاتفاقهم فى الساعة الواحدة على المأكول الواحد، كالزبيب مثلا أو على التكلم بالكلمة الواحدة، فإن الاتفاق على هذا أو ذاك محال عادة.
وأجيب بأن هناك فرقا، هو أنه لا صارف لجميعهم على تناول الزبيب مثلا فى يوم واحد ولجميعهم باعث على الاعتراف بالحق (35) .
وأجيب أيضا بأن الاتفاق إنما يمتنع عادة فيما يستوى فيه الاحتمال، كالمأكول المعين، والكلمة الواحدة، أما عند الرجحان بقيام الدلالة أو الإمارة الظاهرة، فذلك غير ممتنع، كاتفاق الجمع العظيم على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم (36) .
ثالثا: إن اتفاقهم فرع تساويهم فى نقل الحكم إليهم، وانتشارهم فى الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم.
وأجيب عن هذا بأنه " لا يمتنع نقل الحكم إلى المتفرقين فى الآفاق مع جدهم فى الطلب، وبحثهم عن الأدلة، وإنما يمتنع ذلك على من قعد فى قعر بيته لا يبحث ولا يطلب" (37) .
" والمجتهدون عدد قليل، ولهم اجتهادهم فى البحث عن الأحكام فلا يلزم مع ذلك امتناع اطلاع كل واحد منهم على ذلك الحكم " (38) .
رابعا: إن الاتفاق إما أن يكون عن دليل قاطع أو عن دليل ظنى، وكلاهما باطل، أما القاطع فلأن العادة تحيل عدم نقله إلينا، فلو كان لنقل، فلما لم ينقل علم أنه لم يوجد، ولو أنه نقل، لأغنى عن الإجماع، وأما الظنى فلأنه يمتنع الاتفاق عادة فى الأدلة الظنية، لاختلاف الأفهام وتباين
الأنظار" (39) .
وأجيب:" بعدم تسليم ما ذكر بالنسبة للدليل القاطع، إذ قد يستغنى عن نقله بحصول الإجماع الذى هو أقوى منه، وأما الظنى فقد يكون جليا لا تختلف فيه الأفهام، ولا تتباين فيه الأنظار، (40)
" وقد تصور إطباق اليهود على الباطل، فكيف لا يتصور إطباق المسلمين على الحق " (41)
" وليس بممتنع مع الدليل الظنى اتفاق الجمع الكبير على حكمه، بدليل اتفاق أهل الشبه على أحكامها، مع الأدلة القاطعة على مناقضتها، اتفاق اليهود والنصارى على إنكار بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، واتفاق الفلاسفة على قدم العالم، والمجوس على التثنية، أى القول بالهين، مع كثرة عددهم كثرة لا تحصى، فالاتفاق على الدليل الظنى الخالى عن معارضة القاطع أولى ألا يمتنع عادة " (42) .
المقام الثانى: إمكان العلم بالإحماع
اختلف العلماء فى هذا أيضا، فأثبته بعضهم، ونفاه بعضهم، قال الآمدى فى الأحكام: " المتفقون على تصور انعقاد الإجماع اختلفوا فى إمكان معرفته والاطلاع عليه، فأثبته الأكثرون أيضا، ونفاه الأقلون، ومنهم أحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين عنه، ولذا نقل عنه أنه قال: " من ادعى الإجماع فهو كاذب " (43) .
وأوضح المؤلفين بيانا لوجهة نظر النفاة، وجمعا لأدلتها، هو القاضى الشوكانى فى كتابه
" إرشاد الفحول" ويبدو من كلامه أنه مقتنع بهذا الرأى، معتقد أنه الحق، وهذا هو نص كلامه مع قليل من التصرف للتوضيح:
"على تقدير تسليم إمكان الإجماع فى نفسه، يمنع بعض العلماء إمكان العلم به فيقولون لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانيا، أو لا يكون وجدانيا، أما الوجدانى فكما يجد أحدنا من نفسه جوعه وعطشه، ولذته وألمه، ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليس من هذا الباب، وأما الذى لا يكون وجدانيا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته لا مجال للعقل فيها، إذ كون الشخص الفلانى قال بهذا القول أو لم يقل به ليس من حكم العقل بالاتفاق ولا مجال أيضا للحس فيها، لأن الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته، فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم، وذلك متعذر قطعا، ومن ذلك الذى يعرف جميع المجتهدين من الأمة فى الشرق والغرب، وسائر البلاد الإسلامية، فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التى يسكنها أهل العلم فضلا عن اختبار أحوالهم ومعرفة من أهم أهل الإجماع منهم، ومن ليس من أهله، ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به، والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الباحث فرد من أفرادهم، فإن ذلك قد يخفى على الباحث فى المدينة الواحدة، فضلا عن الإقليم الواحد، فضلا عن جميع الأقاليم التى فيها أهل الإسلام.
ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق يحمله علماء الغرب وعكسه، فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل، وبكيفية مذهبه، وبما يقول فى تلك المسألة بعينها، وأيضا قد يحمل بعض من يعتبر فى الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه كما أن ذلك معلوم فى كل طائفة من طوائف الإسلام، فانهم قد يعتقدون شيئا إذا خالفهم فيه مخالف خشى على نفسه من مضرتهم.
وعلى تقدير إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد وإجماعهم على أمر، فيمكن أن يرجعوا عنه، أو يرجع بعضهم قبل أن يجمع أهل بلدة أخرى، بل لو فرضنا حتما اجتماع العالم بأسرهم فى موضع واحد، ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلانى، فإن هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالإجماع، لاحتمال أن يكون بعضهم مخالفا فيه، وسكت تقية وخوفا على نفسه.
ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من يعتبر فيه من علماء الدنيا فقد أسرف فى الدعوى وجازف فى القول لما قدمنا من تعذر ذلك تعذرا ظاهرا واضحا، ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال: من ادعى الإجماع فهو كاذب.
وجعل الأصفهانى الخلاف فى غير إجماع الصحابة وقال: الحق تعذر الاطلاع على الإجماع إلا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم فى قلة، وأما الآن، وبعد انتشار الإسلام وكثرة فلا مطمع للعلم به.
قال: وهو اختيار أحمد مع قرب عهده من الصحابة وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور النقلية.
قال: والمنصف يعلم أنه لا خبر له عن الإجماع إلا ما يجده مكتوبا فى الكتب، ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه الا بالسماع منهم، أو بنقل أمل التواتر إلينا، ولا سبيل إلى ذلك إلا فى عصر الصحابة، وأما من بعدهم فلا (44) .
ويرد الغزالى فى المستصفى على الذين ينفون إمكان العلم بالإجماع فيقول: "قال قوم لو تصور إجماعهم فمن ذا الذى يطلع عليه مع تفرقهم فى الأقطار، فنقول: يتصور معرفة ذلك بمشافهتهم إن كانوا عددا يمكن لقاؤهم، وإن لم يكن عرف مذهب قوم بالمشافهة، ومذهب الآخرين بأخبار التواتر عنهم كما عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعى منع قتل المسلم بالذمى، وبطلان النكاح بلا ولى ومذهب جميع النصارى التثليث، ومذهب جميع المجوس التثنية.
فإن قيل: مذهب أصحاب الشافعى وأبى حنيفة مستند إلى قائل واحد وهو الشافعى وأبو حنيفة، وقول الواحد يمكن أن يعلم، وكذلك مذهب النصارى يستند إلى عيسى عليه السلام، أى فى غير التثليث ونحوه من الباطل.
أما قول جماعة لا ينحصرون فكيف يعلم. قلنا: وقول أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى أمور الدين يستند إلى ما فهموه من محمد صلى الله عليه وسلم وسمعوه منه ثم إذا انحصر أهل الحل والعقد فكما يمكن أن يعلم قول واحد أمكن أن يعلم قول الثانى إلى العشرة والعشرين، فإن قيل: لعل أحدا منهم فى أسر الكفار وبلاد الروم، قلنا: تجب مراجعته، ومذهب الأسير ينقل كمذهب غيره، وتمكن معرفته فمن شك فى موافقته للآخرين لم يكن متحققا للإجماع، فإن قيل: فلو عرف مذهبه ربما رجع عنه بعده، قلنا: لا أثر لرجوعه بعد انعقاد الإجماع، فإنه يكون محجوجا به، ولا يتصور رجوع جميعهم، إذ يصير أحد الإجماعين خطأ، وذلك ممتنع بدليل السمع، أى قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا تجتمع أمتى على الخطأ "، ونحوه" (45) .
ويجمل الآمدى الرد عليهم بقوله:
" وطريق الرد عليهم أن يقال: جميع ما ذكرتموه باطل بالواقع، ودليل الوقوع ما علمناه علما لا مراء فيه من أن مذهب جميع الشافعية امتناع قتل المسلم بالذمى، وبطلان النكاح بلا ولى، وأن مذهب جميع الحنفية نقيض ذلك مع وجود جميع ما ذكروه من التشكيكات، والوقوع فى هذه الصور دليل الجواز العادى وزيادة " (46) .
المقام الثالث: إمكان نقل الإجماع
إلى من يحتج به من بعد المجمعين
واختلفوا أيضا فى إمكان ذلك، فمنهم من يقول بالإمكان ومنهم من ينفيه.
قال النافون للإمكان: لو سلمنا إمكان ثبوت الإجماع عند الناقلين له لكان نقله إلى من يحتج به من بعدهم مستحيلا، لأن طريق نقله إما التواتر أو الآحاد، والعادة تحيل النقل تواترا لبعد أن يشاهد أهل التواتر كل واحد من المجتهدين شرقا وغربا ويسمعوا ذلك منهم، ثم ينقلوه إلى عدد متواتر ممن بعدهم، ثم كذلك فى كل طبقة إلى أن يتصل به، وأما الآحاد فغير معمول به فى نقل الإجماع.
وأجيب بأن ذلك تشكيك فى ضرورى للقطع لإجماع أهل كل عصر على تقديم القاطع على المظنون وما ذلك إلا بثبوته عنهم وبنقله إلينا (47) .
وقول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب، محمول على تكذيب المدعى بذلك فى انفراده بالاطلاع، فإن الإجماع أمر عظيم يبعد كل البعد أن يخفى على الكثير ويطلع عليه الواحد، أو محمول على حدوثه الآن، فإن كثرة العلماء والتفرق فى البلاد وكونهم غير معروفين، مريب فى نقل اتفاقهم، فإن أحمد رحمه الله قد احتج بالإجماع فى مواضع كثيرة، فلو لم ينقل إليه لما ساغ له الاحتجاج به (48) .
هذا وممن قال: بأن الوقوف على الإجماع متعذر إلا فى إجماع الصحابة: الإمام الرازى، والقاضى البيضاوى، وجمال الدين الإسنوى،من علماء الشافعية والحسين بن القاسم، صاحب غاية السول وهداية العقول فى أصول الزيدية والمنصور بالله، والإمام يحيى من الزيدية أيضا.
قال الإسنوى فى شرحه، على المنهاج للبيضاوى: " إن الوقوف على الإجماع لا يتعذر فى أيام الصحابة، رضوان الله عليهم، فإنهم كانوا قليلين محصورين ومجتمعين فى الحجاز، ومن خرج منهم بعد فتح البلاد كان معروفا فى موضعه، وهذا قد ذكره الإمام الرازى، فقال: "والإنصاف أنه لا طريق لنا إلى معرفته إلا فى زمان الصحابة وعلل بما قلناه، نعم لو فرضنا حصول الإجماع من غير الصحابة أى مع ما تبين من تعذر ذلك.
فالأصح عند الإمام والآمدى وغيرهما أنه يكون حجة، وقال أهل الظاهر: لا يحتج إلا بإجماع الصحابة، وهو رواية لأحمد (49) .
وسيأتى ذلك فى الكلام على الحجية.
وقال الحسين بن القاسم الزيدى: " إن الاحتمالات التى ذكروها، أى ذكرها القائلون بنفى إمكان العلم به وإمكان نقله إلى من يحتج به بعد المجمعين، هذه الاحتمالات منتفية فى أيام الصحابة، لأنهم كانوا قليلين محصورين مجتمعين فى الحجاز ومن خرج منهم بعد فتح البلاد كان معروفا فى موضعه ".
وعلق عليه الحسن بن يحيى فى الحاشية بقوله: " محصول هذا أنه ممكن من الصحابة لا من غيرهم وهذا قول المنصور بالله والإمام يحيى، وأحد قولى أحمد بن حنبل، كما حكاه فى
الفصول " (50) .
وقد ذكرنا فيما سبق أن الظاهرية لا يعتبرون الإجماع فى غير ما هو معلوم من الدين بالضرورة إلا إجماع الصحابة دون غيرهم من العصور، ومن أسباب قولهم بذلك امتناع العلم بإجماع غيرهم لسعة أقطار المسلمين وكثرة العدد وعدم إمكان ضبط أقوالهم.
فقد نقل الشوكانى عن ابن وهب قال: ذهب داود، وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط وهو قول لا يجوز خلافه، لأن الإجماع إنما يكون عن توقيفه، والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف، فإن قيل فما تقولون فى إجماع من بعدهم؟ قلنا: هذا لا يجوز لأمرين: أحدهما أن النبى صلى الله عليه وسلم أنبأ عن ذلك فقال: " لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين "، أى وذلك دال علي بقاء الخلاف، وعدم انعقاد الإجماع بدليل أن هناك من هم على الحق، متغلبون وظاهرون، وفى مقابلتهم طبعا من هم على غير الحق.
والثانى: أن سعة أقطار الأرض وكثرة العدد لا تمكن من ضبط أقوالهم، ومن ادعى هذا لا يخفى على أحد كذبه " (51) .
وجاء فى الأحكام لابن حزم الظاهرى: قال أبو محمد: قال أبو سليمان وكثير من أصحابنا: " لا إجماع إلا إجماع الصحابة رضى الله عنهم، واحتج فى ذلك بأنهم شهدوا التوقيف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وقد صح أنه لا إجماع إلا عن توقيف، وأيضا فإنهم رضى الله عنهم كانوا جميع المؤمنين، لا مؤمن من الناس سواهم، ومن هذه صفته فإجماعهم هو إجماع المؤمنين وهو الإجماع المقطوع به وأما كل عصر بعدهم فإنما هم بعض المؤمنين لا كلهم وليس إجماع بعض المؤمنين إجماعا.
إنما الإجماع: إجماع جميعهم، وأيضا فإنهم كانوا عددا محصورا يمكن أن يحاط بهم، وتعرف أقوالهم، وليس من بعدهم كذلك ".
وقد علق ابن حزم على هذا الذى نقله عن أبى سليمان وكثير من الأصحاب، بما يدل على موافقته عليه إلا فى نقطة واحدة تحفظ فيها، فقال: " وأما قوله أن عدد الصحابة رضى الله عنهم كان محصورا ممكنا جمعه وممكنا ضبط أقوالهم، وليس كذلك من بعدهم، فإنما كان هذا إذ كانوا كلهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تفرقهم فى البلاد وأما بعد تفرقهم فالحال فى تعذر حصر أقوالهم كالحال فيمن بعدهم سواء ولا فرق، هذا أمر يعرف بالمشاهدة والضرورة " (52) .
ويتبين من هذا أن ابن حزم يستبعد أيضا معرفة إجماع الصحابة بعد تفرقهم فى الأمصار.
المقام الرابع
حجية الإجماع
أولا بيان الخلا ف فى ذلك:
قال الآمدى: " أتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم خلافا للشيعة والخوارج والنظام من المعتزلة (53) .
وقال فى مسلم الثبوت وشرحه: "الإجماع حجة قطعا، ويفيد العلم الجازم عند الجميع من أهل القبلة ولا يعتد بشرذمة من الحمقى الخوارج والشيعة، لأنهم حادثون بعد الاتفاق، يشككون فى ضروريات الدين مثل السوفسطائية فى الضروريات العقلية " (54) .
وقال الإسنوى فى شرحه على المنهاج:
" ذهب الجمهور إلى أن الإجماع حجة يجب العمل به خلافا للنظام والشيعة والخوارج فإنه وإن نقل عنهم ما يقتضى الموافقة، لكنهم عند التحقيق مخالفون.
أما النظام فإنه لم يفسر الإجماع باتفاق المجتهدين، بل قال كما نقله عنه الآمدى إن الإجماع كل قول يحتج به.
وأما الشيعة، يريد الإمامية منهم، فإنهم يقولون: إن الإجماع حجة، لا لكونه إجماعا بل لاشتماله على قول الإمام المعصوم، وقوله بانفراده عندهم حجة.
وأما الخوارج فقالوا كما نقله القرافى فى الملخص: أن إجماع الصحابة حجة قبل حدوث الفرقة، أى الاختلاف، وهذا غير التفرق الذى ذكره ابن حزم وأراد به التفرق فى الأمصار، وأما بعدها فقالوا الحجة فى إجماع طائفتهم لا غير، لأن العبرة بقول المؤمنين، ولا مؤمن عندهم إلا من كان على مذهبهم " (55) وقال عبد الله بن حميد السالمى الإباضى: بعد أن ذكر الخلاف فيمن هم أهل الإجماع: "أعلم أن ثمرة الخلاف فى هذا المقام إنما هى فى كون الإجماع حجة على كل قول من هذه الأقوال عند القائل به، فمن يعتبر أهل الاجتهاد فقط، كان إجماع المجتهدين من الأمة حجة عنده، وافقهم غيرهم على ذلك أم خالفهم، ومن يعتبر المجتهدين الكاملين فى الإيمان دون الفسقة والمبتدعين كان إجماع المؤمنين الكاملين حجة معه وإن خالفهم أهل الأهواء، ومن يعتبر الفقهاء من أهل الفروع دون غيرهم كان إجماعهم حجة عندهم وإن خالفهم غيرهم فى ذلك.
وهكذا من يعتبر الأصوليين ومن اعتبر جميع الأمة لم يكن إجماع بعضها وإن كانوا مجتهدين حجة معه، وأهل هذه الأقوال لا يخطىء بعضهم بعضا، لأنه مقام اجتهاد.
وحجية الإجماع على كل قول من الأقوال المذكورة إنما هى حجة ظنية عند من أثبتها حجة هنالك فيلزم العمل بها دون العلم ولا يكون الإجماع حجة قطعية يحكم بتفسيق من خالفها إلا إذا اجتمعت الأمة عالمها وجاهلها ومؤمنها وفاسقها ومحقها ومبتدعها، فإذا اجتمعوا جميعا على حكم لم يسبقهم فيه خلاف وانقرضوا على ذلك من غير أن يرجع أحدهم عن ذلك الحكم، فهاهنا يكون الإجماع حجة قطعية، بإجماع جميع من اعتبر الإجماع، وذلك بعد كمال الشروط الآتى ذكرها، ومنها ألا يكون إجماعهم مخالفا للنص، وأن ينقل إجماعهم إلينا التواتر، إلى غير ذلك من الشروط المعتبرة، ودون هذا فالإجماع حجة ظنية، ويكفى اعتبار المجتهدين فى كون الإجماع حجة ظنية على حسب ما اخترناه " (56) .
ثانيا: الأدلة على حجيته:
استدل القائلون بحجيته بالكتاب، والسنة، والمعقول (57) : فهى مسالك ثلاثة فى الاستدلال، أما الإجماع فلا يمكن إثبات الإجماع به، لأنه استدلال على الشىء بنفسه (58) .
على أن منهم من قصر الاستدلال على الكتاب والسنة فقط، ولم ير أن يستدل بالمعنى المعقول على الحجية.
قالوا: لأن العدد الكثير وإن بعد فى العقل اجتماعهم على الكذب، فلا يبعد اجتماعهم على الخطأ كاجتماع الكفار على جحد النبوة (59) .
ونحن نذكر المسالك الثلاثة استيعابا للأدلة التى تمسكوا بها:
المسلك الأول: الاستدلال بالكتاب:
استدلوا من الكتاب الكريم بخمس آيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " (60) .
وجه الدلالة: أن الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين فى الوعيد، حيث قال " نوله ما تولى، ونصله جهنم " فيلزم أن يكون اتباع غير سبيل المؤمنين محرما لأنه لو لم يكن حراما لما جمع بينه وبين المحرم الذى هو المشاقة فى الوعيد، فإنه لا يحسن الجمع بين حلال وحرام فى وعيد بأن نقول مثلا: إن زنيت وشربت الماء عاقبتك، وإذا حرم أتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم لأنه لا مخرج عنهما، أى لا واسطة بينهما، ويلزم من وجوب اتباع سبيلهم كون الإجماع حجة، لأن سبيل الشخص هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد " (61) وهذا الدليل قد تمسك به الشافعى فى الرسالة كما ذكره الإسنوى وغيره، وقد دارت فيه مناقشات كثيرة بين مثبتى حجية الإجماع ومنكريها تجدها مفصلة فى كتب الأصول كالأحكام للآمدى، ومسلم الثبوت وشرحه وإرشاد الفحول وغيرها، وحسبنا أن نذكر بعضها على سبيل المثال، فمن ذلك قول المنكرين للحجية: لا نسلم أن المراد بسبيل المؤمنين فى الآية هو إجماعهم، لاحتمال أن يكون المراد سبيلهم فى متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو فى مناصرته، أو فى الاقتداء به، أو فيما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان به، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال (62) .
ولمثل هذا الاعتراض قرر بعض العلماء القائلين بالحجية أن دلالة الآية محتملة، فالغزالى يقول:
" والذى نراه أن الآية ليست نصا فى الغرض، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاققه ويتبع غير سبيل المؤمنين فى مشايعته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم، فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل 0
ولو فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية بذلك لقبل " (63) .
والحسين بن القاسم الزيدى يقول: والاحتجاج المأخوذ من هذه الآية الكريمة ظنى، لأنه معترض عليه بوجوه، منها - وهو أقواها- جواز أن يريد سبيلهم فى مطاوعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وترك مشاقته، أوفى مناصرته، أو فى التأسى به فى الأعمال، أو فيما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان بالله ورسوله، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع، لأن غيره من أدلة التمسك لا يخلو عن قدح، فلو أثبتت حجية الإجماع به لزم الدور وإثبات الأصل الكلى بدليل ظنى لا يجوز (64) .
الآية الثانية قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) " (65) ، ووجه الاستدلال بها " أن الله تعالى عدل هذه الأمة، لأنه تعالى جعلهم وسطا والوسط من كل شىء أعدله، قال الله تعالى " قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون " (66) أى أعدلهم.
وقال الجوهرى: " الوسط من كل شىء أعدله، ومنه قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا ". أى عدولا وقد علل الله تعالى جعلهم وسطا بأن يكونوا شهداء على الناس، والشاهد لابد أن يكون عدلا وهذا التعديل الحاصل للأمة وإن لزم منه تعديل كل فرد منها بالضرورة، لكون نفيه عن واحد يستلزم نفيه عن المجموع، لكنه ليس المراد تعديلهم فيما ينفرد به كل واحد منهم، لأنا نعلم بالضرورة خلافه، فتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه، وحينئذ فتجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا صغيرة وكبيرة، لأن الله تعالى، يعلم السر والعلانية، فلا يعد لهم مع ارتكابهم بعض المعاصى بخلافه تعديلنا فإنه قد لا يكون كذلك لعدم اطلاعنا على الباطن " (67) .
وقد دار فى هذه الآية نقاش كثير كالآية الأولى تراه مفصلا فى كتب الأصول، ومن ذلك ما ذكره الإسنوى فى شرحه على المنهاج إذ يقول " لقائل أن يقول أن الآية لا تدل على المدعى، لأن العدالة لا تنافى صدور الباطل غلطا ونسيانا، ولو سلمنا أن كل ما أجمعوا عليه حق، فلا يلزم المجتهد أن يفعل كل ما هو حق فى نفسه بدليل أن المجتهد لا يتبع مجتهدا آخر، وإن قلنا كل مجتهد
مصيب " (68) .
ويقول الشوكانى بعد أن أورد مناقشات الموافقين والمخالفين فى دلالة هذه الآية: " ولا يخفاك ما فى هذه الأجوبة من الضعف - يريد أجوبة المستدلين بالآية على ما أثير عليهم من اعتراضات- وعلى كل حال فليس فى الآية دلالة على محل النزاع أصلا، فإن ثبوت كون أهل الإجماع بمجموعهم عدولا لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية، فإن ذلك أمر إلى الشارع لا إلى غيره، وغاية ما فى الآية أن يكون قولهم مقبولا إذا أخبرونا عن شىء من الأشياء، وأما كون اتفاقهم على أمر دينى يصير دينا ثابتا عليهم وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة فليس فى الآية ما يدل على هذا، ولا هى مسوقة لهذا المعنى ولا تقتضيه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام " (69) .
يريد أنها لا تقتضيه بأى وجه من وجوه الدلالة الثلاثة المعروفة.
ولذلك أسقط الاستدلال بهذه الآية بعض المؤلفين مع شدة تمسكهم بالحجية كابن الحاجب فى مختصره، وابن قدامة الحنبلى فى روضة الناظر، وأوردها بعضهم معقبا بأن الاستدلال بها لا يفيد قطعا ولا ظنا قويا (70) ، وبعضهم معقبا أنها لا تفيد إلا ظنا (71) .
الآية الثالثة قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر " (72)
والاستدلال بها من حيث أنها جملة خبرية تصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والألف واللام فى المعروف والمنكر للعموم لأنها داخلة على اسم جنس، فهم إذن يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، فمن خالف فيما أمروا به أو نهوا عنه فقد خالف طريقتهم، فيكون مبطلا وضالا " فماذا بعد الحق إلا الضلال " (73) .
وأيضا: لو أجمعوا على الخطأ لكانوا آمرين بالمنكر وناهين عن المعروف، وهو خلاف المنصوص (74) .
وقد نوقش هذا الاستدلال كذلك بما لا نطيل بذكره، وفيه يقول الشوكانى: " ولا يخفاك أن الآية لا دلالة لها على محل النزاع لأن اتصافهم بكونهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تصير دينا ثابتا على كل الأمة، بل المراد أنهم يأمرون بما هو معروف فى هذه الشريعة، وينهون عما هو منكر فيها.
فالدليل على كون ذلك الشىء معروفا أو منكرا هو الكتاب أو السنة، لا إجماعهم، غاية ما فى الباب أن إجماعهم يصير قرينة على أن فى الكتاب أو السنة ما يدل على ما أجمعوا عليه، وأما أنه دليل بنفسه فليس فى هذه الآية ما يدل على ذلك " (75) .
الآية الرابعة قوله تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " (76) .
" ووجه الاحتجاج بها أنه تعالى نهى عن التفرق، ومخالفة الإجماع تفرق، فكان منهيا عنه، ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهى عن مخالفته " (77) .
وقد أعقب الآمدى بيان الاحتجاج بذكر ما ورد عليه من المناقشات والإجابة عن كل منها (78) .
الآية الخامسة قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم، فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا" (79) .
ووجه الاحتجاج بالآية أنه شرط التنازع فى وجوب الرد إلى الكتاب والسنة، والمشروط ينعدم عند عدم الشرط. وذلك يدل على أنه إذا لم يوجد التنازع فالاتفاق على الحكم كاف عن الكتاب والسنة ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى هذا " (80) .
وقد عقب الآمدى بذكر ما نوقش به هذا الدليل أيضا، وما رد به على المناقشة.
وبهذا انتهى المسلك الأول وهو الاستدلال بالكتاب على حجية الإجماع.
وقد علق الآمدى على هذا المسلك بقوله " واعلم أن التمسك بهذه الآيات، وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع، ومن زعم أن المسألة قطعية، فاحتجاجه فيها بأمر ظنى غير مفيد للمطلوب، وإنما يصح ذاك على رأى من يزعم أنها اجتهادية ظنية" (81) .
وعلق الغزالى على مسلك الاستدلال بالآيات أيضا بقوله: " فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر " (82) .
المسلك الثانى: الاستدلال بالسنة: قال الغزالى فى المستصفى:
المسلك الثانى- وهو الأقوى- التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتى على الخطأ " وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود، ولكن ليس بالمتواتر، كالكتاب، والكتاب متواتر لكن ليس بنص، فطريق تقرير الدليل أن نقول: تظاهرت الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى فى عصمة هذه الأمة من الخطأ، واشتهر على لسان المرموقين والثقات من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبى سعيد الخدرى، وأنس بن مالك، وابن عمر، وأبى هريرة، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم ممن يطول ذكره من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتى على الضلالة " و " لم يكن الله ليجمع أمتى على الضلالة " و " سألت الله تعالى ألا يجمع أمتى على الضلالة فأعطانيها " و " من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " و " أن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".
وقوله صلى الله عليه وسلم: " يد الله مع الجماعة، ولا يبالى الله بشذوذ من شذ " و " لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ".
وروى: " لا يضرهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء ".
و" من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " و" من فارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية " (83) .
وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة فى الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الأمة وخلفها بل هى مقبولة من موافقى الأمة ومخالفيها، ولم تزل الأمة تحتج بها فى أصول الدين وفروعه، فإن قيل فما وجه الحجة ودعوى التواتر فى آحاد هذه الأخبار غير ممكن، ونقل الآحاد لا يفيد العلم؟
قلنا فى تقرير وجه الحجة طريقان:
أحدهما: أن ندعى العلم الضرورى بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عظم شأن هذه الأمة وأخبر عن عصمتها عن الخطأ بمجموع هذه الأخبار المتفرقة، وأن لم تتواتر آحادها، وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى العلم بشجاعة على، وسخاوة حاتم، وفقه الشافعى، وخطابة الحجاج، وميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه، وتعظيمه صحابته وثنائه عليهم، وإن لم تكن آحاد الأخبار فيها متواترة، بل يجوز الكذب على كل واحد منها لو جردنا النظر إليه.
ولا يجوز على المجموع، وذلك يشبه ما يعلم من مجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال ولكن ينتفى الاحتمال عن مجموعها حتى يحصل العلم الضروى.
الطريق الثانى: ألا ندعى علم الاضطرار بل علم الاستدلال من وجهين:
الأول أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين، يتمسكون بها فى إثبات الإجماع ولا يظهر أحد فيها خلافا وإنكارا، إلى زمان النظام.
ويستحيل فى مستقر العادة توافق الأمم فى أعصار متكررة على التسليم بما لم تقم الحجة بصحته مع اختلاف الطباع وتفاوت الهمم والمذاهب فى الرد والقبول.
ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه.
الوجه الثانى: إن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا أنها أصلا مقطوعا به وهو الإجماع الذى يحكم به على كتاب الله تعالى، وعلى السنة المتواترة، ويستحيل فى العادة التسليم بخبر يرفع به الكتاب المقطوع به إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به، فأما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل: كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستند إلى خبر غير معلوم الصحة، وكيف تذهل عنه جميع الأمة إلى زمان النظام، فتختص بالتنبه له (84) .
والذى قرره الغزالى من الاستدلال بالأحاديث المذكورة على عصمة الأمة من الخطأ، هو استدلال بالتواتر المعنوى فى هذه الأحاديث وإن لم تتواتر آحادها.
وقد استدل به صاحب مسلم الثبوت وشرحه، ثم ساق استبعاد الإمام الرازى لذلك مشفوعا بالرد عليه، وهذا هو نص كلامهما مع تصرف يسير للتوضيح:
" واستدل ثانيا بقوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم: " لا تجتمع أمتى على الضلال "، فإنه يفيد عصمة الأمة عن الخطأ فإنه متواتر المعنى فإنه قد ورد، بألفاظ مختلفة يفيد كلها العصمة، وبلغت رواة تلك الألفاظ حد التواتر، وتلك الألفاظ نحو " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن "، ونحو " من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام "، ونحو " عليكم بالجماعة "، ونحو " الزموا الجماعة " ونحو " من فارق الجماعة مات ميتة الجاهلية "، ونحو " عليكم بالسواد الأعظم " ونحو " لا تجتمع أمتى علي الخطأ " وغير ذلك من الألفاظ التى يطول الكلام بذكرها، واستحسنه ابن الحاجب فإنه دليل لا خفاء فيه بوجه، ولا مساغ للارتياب فيه، واستبعد الإمام الرازى صاحب المحصول، كما هو دأبه من التشكيكات فى الأمور الظاهرة، التواتر المعنوى، سيما على حجيته- أى استبعد التواتر عامة، واستبعده على حجية الإجماع خاصة-- وقال لا نسلم بلوغ مجموع هذه الآحاد حد التواتر المعنوى، فإن الرواة العشرين أو الألف، لا تبلغ حد التواتر ولا تكفى للتواتر المعنوى فإنه ليس بمستبعد فى العرف إقدام عشرين على الكذب فى وقعة معينة، بعبارات مختلفة، ولو سلم فتواتره بالمعنى غير مسلم، فإن القدر المشترك هو أن الإجماع حجة، أو ما يلزم ذلك منه، وقد ادعيتم أن حجية الإجماع متواترة من رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ويلزم أن يكون كغزوة بدر، فإنه لو كان كذلك لم يقع الخلاف فيه، وإنكم بعد تصحيح المتن- أى ألفاظ الحديث ونصه- توردون على دلالته على حجية الإجماع، الأسئلة والأجوبة، ولو كان متواترا لأفاد العلم ولغت تلك الأسئلة والأجوبة، وإن ادعيتم أن هذه الأخبار تدل على عصمة الأمة وهى بعينها حجية الإجماع - وقرر الرازى هذه الاعتراضات بعبارات مطلية كما هو دأبه- وهذا الاستبعاد فى بعد بعيد فإن القدر المشترك المفهوم من هذه الأخبار قطعا هو عصمة الأمة عن الخطأ، ولا شك فيه، واجتماع عشرين من العدول الخيار، بل أزيد، على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، مما لا يتوهم.
وأما قوله: لو كان لكان كغزوة بدر، قلنا نعم إنه كغزوة بدر- كيف وقد عرفت سابقا أنه تواتر فى كل عصر من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم إلى الآن، أى إلى هذا الوقت- تخطئة المخالف للإجماع قطعا، وهل هذا إلا تواتر الحجية؟
وأيضا يجوز أن تكون المتواترات مختلفة بحسب قوم دون قوم، فهذا متواتر عند من طالع كثرة الوقائع والأخبار.
وما قال من أنه لو كان متواترا لما وقع الخلاف فيه، قلنا التواتر لا يوجب أن يكون الكل عالمين به، ألا ترى أن أكثر العوام لا يعلمون غزوة بدر أصلا بل التواتر إنما يكون متواترا عند من وصل إليه أخبار تلك الجماعة، وذلك بمطالعة الوقائع والأخبار، والمخالفون لم يطالعوا.
وأيضا الحق إن مخالفتهم كمخالفة السوفسطائية فى القضايا الضرورية الأولية، فكما أن مخالفتهم لا تضر كونها أولية، فكذا مخالفة المخالفين لا تضر التواتر، وأما إيراد الأسئلة والأجوبة فعلى بعض المتون - أى نصوص بعض الأحاديث لا على القدر المشترك المستفاد من الأخبار- فافهم ولا تزل فإنه مزلة " (85) .
المسلك الثالث: الاستدلال بالمعقول: قال الآمدى: " وأما المعقول فهو أن الخلق الكثير وهم أهل كل عصر إذا اتفقوا على حكم قضية وجزموا به جزما قاطعا، فالعادة تحيل على مثلهم الحكم الجزم بذلك والقطع به وليس له مستند قاطع بحيث لا يتنبه واحد منهم إلى الخطأ فى القطع بما ليس بقاطع، ولهذا وجدنا أهل كل عصر قاطعين بتخطئة مخالفى ما تقدم من إجماع من قبلهم، ولولا أن يكون ذلك عن دليل قاطع لاستحال فى العادة اتفاقهم على القطع بتخطئة المخالف، ولا يقف واحد منهم على وجه الحق فى ذلك " (86) .
وقد عبر صاحب مسلم الثبوت وشرحه عن هذا الدليل بقولهما:
لنا (أى يدل لنا على ما قلناه من حجية الإجماع) اتفاقهم فى كل عصر على القطع بتخطئة المخالف للإجماع من حيث هو إجماع، واتفاقهم على تقديمه على القاطع، وعدهم تفريق عصا الجماعة من المسلمين أمرا عظيما وإثما كبيرا والعادة تحيل اجتماع مثل هؤلاء من الأخيار الصالحين من الصحابة والتابعين المحققين على قطع فى حكم ما، لا سيما القطع بكون المخالفة أمرا عظيما، لاعن نص قاطع، بحيث لا يكون للارتياب فيه احتمال، فإنه قد علم بالتجربة والتكرار من أحوالهم وفتاويهم علما ضروريا أنهم ما كانوا يقطعون بشىء إلا ما كان كالشمس على نصف النهار (87) .
ويعلق الآمدى على هذا الاستدلال بالمعنى المعقول فيقول:
" ولقائل أن يقول: إن العادة لا تحيل الخطأ على الخلق الكثير بظنهم ما ليس قاطعا قاطعا ولهذا فإن اليهود والنصارى مع كثرتهم كثرة تخرج عن حد التواتر قد أجمعوا على تكذيب محمد عليه السلام وإنكار رسالته وليس ذلك إلا لخطئهم فى ظن ما ليس قاطعا قاطعا، وبالجملة، فإما أن يقال باستحالة الخطأ عليهم فيما ذهبوا إليه، أو لا يقال باستحالته، فإن كان الأول لزم ألا يكون محمد نبيا حقا بإجماعهم على تكذيبه، وإن كان الثانى- أى عدم استحالة الخطأ عليهم- فهو المطلوب " (88) .
وهذا الذى قاله الآمدى هو تلخيص لما ذكره الغزالى فإنه اعترض على هذه الطريقة قائلا: " وهذه الطريقة ضعيفة عندنا، لأن منشأ الخطأ إما تعمد الكذب وإما ظنهم ما ليس بقاطع قاطعا، والأول عير جائز على عدد التواتر، وأما الثانى فجائز، فقد قطع اليهود ببطلان نبوة عيسى ومحمد عليهما السلام، وهم أكثر من عدد التواتر، وهو قطع فى غير محل القطع، لكن ظنوا ما ليس بقاطع
قاطعا " (89) .
ثالثا: ما استدل به القائلون بعدم حجية الإجماع:
المنكرون للإجماع يسلكون فى الاستدلال على رأيهم مسلكين:
أولهما: معارضة أدلة الجمهور من الكتاب والسنة والمعانى المعقولة، بمثلها، فيأتون بآيات وأخبار ومعان معقولة تدل على بطلان حجية الإجماع.
ثانيهما: مناقشة ما استدل به الجمهور بإبطال دلالته على ما ذهبوا إليه من الحجية وبتأويل الآيات والأحاديث تأويلا آخر، ونحن نذكر أهم ما جاء به المنكرون لحجية الإجماع كما ذكرنا أهم ما جاء به المثبتون، وسنشفع كلا منها بما ورد عليه من المناقشة كما فعلنا أيضا حين ذكرنا أدلة المثبتين.
المسلك الأول: معارضة أدلة
الجمهور بمثلها
" قالوا: إن كتاب الله تعالى يدل على ما ذهبنا إليه، والله تعالى يقول " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء " (90) .
وذلك يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع (91) فلا مرجع فى تبيان الأحكام إلا إلى الكتاب والإجماع غيره (92) .
وقد رد الآمدى على ذلك بأنه ليس فى بيان كون الإجماع حجة متبعة بالأدلة التى ذكرناها ما ينافى كون الكتاب تبيانا لكل شىء (93) .
ورد عليه العضد فى شرحه على مختصر ابن الحاجب بأن هذه الآية " لا تنافى كون غيره أيضا تبيانا ولا كون الكتاب تبيانا لبعض الأشياء بواسطة الإجماع " (94) .
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: " فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول " (95) فلا مرجع عند التنازع إلا الى الكتاب والسنة (96) .
وقد رد اللآمدى بأن هذه الآية " دليل عليهم لأنها دليل على وجوب الرد إلى الله والرسول فى كل متنازع فيه، وكون الإجماع حجة متبعة مما وقع النزاع فيه، وقد رددناه إلى الله تعالى، حيث أثبتناه بالقرآن، وهم مخالفون فى ذلك " (97) .
ورد العضد بأن الآية " مختصة بما فيه النزاع والمجمع عليه ليس كذلك " (98) .
يريد أن لفظها يختص بما فيه النزاع، والمجمع عليه لا نزاع فيه فيمكن أن يدل المفهوم على أن المتفق عليه لا يحتاج فيه إلى الرجوع.
وقد صرح بإفادة الآية لذلك بمفهوم الكلام: شارح مسلم الثبوت (99) .
واستدلوا أيضا بمثل قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " (100) .
" ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق " (101) " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " (102) .
قالوا:- هذه الآيات وأمثالها من كل ما فيه نهى للأمة عن القول الباطل، والفعل الباطل، تدل على تصور ذلك منهم، ومن يتصور منه المعصية لا يكون قوله ولا فعله موجبا للقطع.
ويرد الآمدى على ذلك فيقول: " لا نسلم أن النهى فى هذه الآيات راجع إلى اجتماع الأمة على ما نهوا عنه، بل هو راجع إلى كل واحد على انفراد، ولا يلزم من جواز المعصية على كل واحد جوازها على الجملة، أى على المجموع، سلمنا أن النهى لجملة الأمة عن الاجتماع على المعصية ولكن غاية ذلك جواز وقوعها منهم عقلا، ولا يلزم من الجواز الوقوع، ولهذا فإن النبى عليه السلام قد نهى عن أن يكون من الجاهلين بقوله تعالى: " فلا تكونن من الجاهلين " (103) .
وقال تعالى لنبيه: "لئن أشركت ليحبطن عملك " (104) ، إذ ورد ذلك فى معرض النهى مع العلم بكونه معصوما من ذلك، وأيضا فإنا نعلم أن كل أحد منهى عن الزنا وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق إلى غير ذلك من المعاصى، ومع ذلك فإن من مات ولم يصدر عنه بعض المعاصى، نعلم أن الله قد علم منه أنه لا يأتى بتلك المعصية فكان معصوما عنها ضرورة تعلق علم الله بأنه لا يأتى بها، ومع ذلك فهو منهى عنها " (105) .
وقالوا: وأما السنة فإن النبى عليه الصلاة والسلام أمر معاذا لما سأله عن الأدلة المعمول بها، على إهماله لذكر الإجماع، ولو كان الإجماع دليلا، لما ساغ ذلك مع الحاجة إليه.
وأيضا فإنه قد ورد عن النبى عليه الصلاة والسلام ما يدل على جواز خلو العصر عمن تقوم الحجة بقوله، فمن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ ".
وأيضا قوله: " لا ترجعوا بعدى كفارا" نهى الكل عن الكفر وهو دليل جواز وقوعه منهم.
وقوله: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ".
وقوله: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى ".
وقوله عليه الصلاة والسلام: " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " (106)
وقوله: " خير القرون القرن الذى أنا فيه، ثم الذى يليه، ثم الذى يليه، ثم تبقى حثالة كحثالة التمر، لا يعبأ الله بهم " (107) .
ويرد الآمدى على ذلك فيقول:
"أما خبر معاذ فإنما لم ينكر فيه الإجماع لأنه ليس بحجة فى زمن النبى عليه الصلاة والسلام فلم يكن مؤخرا لبيانه مع الحاجة إليه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ "، لا يدل على أنه لا يبقى من تقوم الحجة بقوله، بل غايته أن أهل الإسلام هم الأقلون.
وقوله: " لا ترجعوا بعدى كفارا " فيحتمل أنه خطاب مع جماعة معينين وإن كان خطابا مع الكل فجوابه ما سبق فى آيات المناهى للأمة.
وقوله: " حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ".. الحديث: غايته الدلالة على جواز انقراض العلماء، ونحن لا ننكر امتناع وجود الإجماع مع انقراض العلماء، وإنما الكلام فى اجتماع من كان من العلماء، وعلى هذا يكون الجواب عن باقى الأحاديث الدالة على خلو آخر الزمان من العلماء، كيف وأن ما ذكروه معارض بما يدل على امتناع خلو عصر من الأعصار عمن تقوم الحجة بقوله، وهو قوله- عليه الصلاة والسلام-: " لا تزال طائفة من أمتى على الحق- حتى يأتى أمر الله، وحتى يظهر الدجال " " وأيضا ما روى عنه أنه قال: " واشوقاه إلى إخوانى. قالوا: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ فقال: أنتم أصحابى، إخوانى قوم يأتون من بعدى يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد الناس " (108) .
قالوا: وأما المعنى المعقول الذى يدل على عدم حجية الإجماع فى نظر القائلين بذلك، فيرجع:
أولا: إلى ما ذكروه من عدم إمكانه وعدم إمكان العلم به، وعدم إمكان نقله، وقد سبق بيان الرد على ذلك.
ثانيا: إلى اعتبارهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم كغيرها من الأمم فحيث لم يعتبر إجماع أهل الملل السابقة حجة، فلا يكون إجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم حجة (109) .
وجوابه كما ذكر الآمدى من وجهين: أحدهما: أن يقال من العلماء من اعتبر إجماع علماء من تقدم حجة قبل النسخ، فقد ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الأسفرايينى وغيره من أصحابنا- هكذا يقول الآمدى- وجماعة من العلماء، وإذن فلم يتم لهم الاستدلال لعدم حجية إجماع من سبقنا من الملل.
الوجه الثانى: أن نسلم بأن إجماع من سبقنا من أهل الملل ليس حجة- كما هو قول الأكثرين من العلماء- ولكن هناك فرقا بيننا وبينهم، لأنه لم يرد فى حقهم من الدلالة الدالة على الاحتجاج بإجماعهم ما ورد فى علماء هذه الأمة فافترقا " (110) .
وخلاصة الوجهين أننا إذا أخذنا بمذهب الأسفرايينى ومن معه فإجماعنا كإجماعهم كلاهما يحتج به وإن أخذنا بمذهب الأكثرين فإن إجماعنا قد وردت الأدلة بحجيته ولم ترد الأدلة باعتبار إجماعهم حجة، فهذا هو الفرق بين إجماعنا وإجماعهم.
وثالث المعانى المعقولة يرجع إلى ما هو مقرر من أن كل حكم لابد أن يكون ثابتا بدليل، والإجماع لا يكون فى نظر القائلين بحجيته إلا عن دليل، والدليل يغنى عنه، ثم إن بعض الأحكام الشرعية لا يكون إجماع الأمة دليلا عليها كالتوحيد، وكذلك سائر الأحكام العقلية (111) .
ويرد الآمدى على ذلك بقوله:
" لا نسلم أنه إذا كان الحكم ثبت بالدليل لا يجوز إثباته بالإجماع، أى فهذا ما جرى عليه العلماء حين يقولون: هذا الحكم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وأما التوحيد فلا نسلم أن الإجماع فيه ليس بحجة وإن سلمنا أنه لا يكون حجة فيه، بل فى الأحكام الشرعية، أى العملية لا غير، فإن بينهما فرقا، هو أن التوحيد لا يجوز فيه تقليد العامى للعالم، وإنما يرجع إلى أدلة يشترك فيها الكل، وهى أدلة العقل بخلاف الأحكام الشرعية، العملية، فإنه يجب على العامى الأخذ بقول العالم فيها، وإذا جاز أو وجب الأخذ بقول الواحد كان الأخذ بقول الجماعة أولى (112) .
هذا هو كلام المنكرين بحجية الإجماع والرد عليهم، فى المسلك الأول وهو المعارضة بالكتاب والسنة والمعقول.
المسلك الثانى: مناقشتهم وتأويلهم
لأدلة الجمهور
أما مناقشتهم لأدلة الجمهور فقد تقدمت عند عرض هذه الأدلة فلا نعود اليها وأما تأويلهم للأدلة، بحملها على معان أخرى، فمثل: قولهم فى تأويل حديث " لا تجتمع أمتى على ضلالة "، فإنهم فسروا الضلالة بالكفر والبدعة، وقالوا: لعله أراد عصمة جميعهم عن الكفر بالتأويل والشبهة، والرواية التى تقول " لا تجتمع أمتى على الخطأ " غير متواترة وإن صحت فالخطأ أيضا عام يمكن حمله على الكفر.
ويرد الغزالى على هذا بقوله:
" قلنا الضلال فى وضع اللسان لا يناسب الكفر، قال الله تعالى: " ووجدك ضالا فهدى" (113) ، وقال تعالى، إخبارا عن موسى عليه السلام: " قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين " (114) وما أراد من الكافرين، بل أراد من المخطئين، يقال: ضل فلان عن الطريق، وضل سعى فلان، كل ذلك الخطأ. كيف وقد فهم ضرورة من هذه الألفاظ تعظيم شأن هذه الأمة وتخصيصها بهذه الفضيلة.
أما العصمة عن الكفر فقد أنعم بها فى حق على وابن مسعود وأبى، وزيد، على مذهب النظام لأنهم ماتوا على الحق.
وكم من أحاد عصموا عن الكفر حتى ماتوا، فأى خاصية للأمة؟
فدل على أنه أراد ما لم يعصم عنه الآحاد، من سهو وخطأ وكذب، وتعصم عنه الأمة تنزيلا لجميع الأمة منزلة النبى صلى الله عليه وسلم فى العصمة عن الخطأ فى الدين، أما فى غير الدين من إنشاء حرب وصلح وعمارة بلدة، فالعموم يقتضى العصمة للأمة عنه أيضا، ولكن ذلك مشكوك فيه وأمر الدين مقطوع بوجوب العصمة فيه، كما فى حق النبى صلى الله عليه وسلم، فإنه أخطأ فى أمر تدبير النخل، ثم قال: " أنتم أعرف بأمر دنياكم،- وأنا أعرف بأمر دينكم " (115) .
إلى غير ذلك من التأويلات التى لا نطيل بذكرها، وقد عنى الغزالى بإيرادها والرد عليها فى المستصفى، فمن شاء فليرجع إليه فى الموضع الذى ذكرناه.
رابعا: هل الإجماع عند القائلين بحجيته قطعى أو ظنى؟
قال الشوكانى: " اختلف القائلون بحجية الإجماع هل هو حجة قطعية أو ظنية:
فذهب جماعة منهم إلى أنه حجة قطعية، وبه قال الصيرفى، وابن برهان، وجزم به من الحنفية الدبوسى، وشمس الأئمة.
وقال الأصفهانى: إن هذا القول هو المشهور، وأنه يقدم الإجماع على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلا، ونسبه إلى الأكثرين.
قال: بحيث يكفر مخالفه، أو يضلل ويبدع. وقال جماعة، منهم الرازى والآمدى: أنه لا يفيد إلا الظن.
وقال جماعة بالتفصيل بين ما اتفق عليه المعتبرون فيكون حجة قطعية، وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتى وما ندر مخالفه فيكون حجة ظنية 0
وقال البزدوى وجماعة من الحنفية: الإجماع مراتب: فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث والإجماع الذى سبق فيه خلاف فى العصر السابق بمنزلة خبر الواحد، واختار بعضهم فى الكل أنه يوجب العمل لا العلم فهذه مذاهب أربعة " (116) .
وفى البزدوى وشرحه: " أن الأصل فى الإجماع أن يكون موجبا للحكم قطعا كالكتاب والسنة، فإن لم يثبت اليقين به فى بعض المواضع فذلك بسبب العوارض كالآية المؤولة وخبر الواحد " (117) .
ومن أهل الهوى من لم يجعل الإجماع حجة قاطعة لأن كل واحد منهم اعتمد ما لا يوجب العلم، لكن هذا خلاف الكتاب والسنة والدليل المعقول (118) .
يريد الأدلة التى استدل بها القائلون بحجيته فهى دالة على أنه حجة قاطعة فى نظره.
" فصار الإجماع كآية من الكتاب أو حديث متواتر فى وجوب العمل والعلم به فيكفر جاحده فى الأصل " (119) .
" أى يحكم بكفر من أنكر أصل الإجماع بأن قال ليس الإجماع بحجة، أما من أنكر تحقق الإجماع فى حكم بأن قال لم يثبت فيه إجماع أو أنكر الإجماع الذى اختلف فيه فلا " (120) .
أى كالإجماع السكوتى الذى فيه خلاف الشافعى وغيره، والمنقول بلسان الآحاد.
واعلم أن العلماء بعد ما اتفقوا على أن إنكار حكم الإجماع الظنى، كالإجماع السكوتى، والمنقول بلسان الآحاد، غير موجب للكفر، اختلفوا فى إنكار حكم الإجماع القطعى كإجماع الصحابة مثلا.
" فبعض المتكلمين، أى الذين تكلموا فى هذا الموضوع، لم يجعله موجبا للكفر بناء على أن الإجماع عنده حجة ظنية، فإنكار حكمه لا يوجب الكفر كإنكار الحكم الثابت بخبر الواحد أو القياس، وذكر هذا القائل، وهو القاضى الشوكانى- فى تصنيف له- وهو كتاب إرشاد الفحول " والعجب أن الفقهاء أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار، وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر إذا كان الإنكار لتأويل، ثم يقولون: الحكم الذى دل عليه الإجماع مقطوع به، ومخالفه كافر، فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل، وذلك غفلة عظيمة " (121) .
ويستمر عبد العزيز البخارى فى كلامه فيقول: " وبعضهم جعلوه موجبا للكفر لأن الإجماع حجة قطعية كآية من الكتاب، قطعية الدلالة، أو خبر متواتر قطعى الدلالة، فإنكاره يوجب الكفر لا
محالة ".
" ومنهم من فصل فقال: إن كان الحكم المجمع عليه مما يشترك الخاصة والعامة فى معرفته، مثل أعداد الصلوات وركعاتها وفرض الحج والصيام وزمانهما، ومثل تحريم الزنا وشرب الخمر والسرقة والربا، كفر منكره لأنه صار بإنكاره جاحدا لما هو من دين الرسول قطعا، فصار كالجاحد لصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن كان مما ينفرد الخاصة بمعرفته كتحريم تزوج المرأة على عمتها وخالتها، وفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة وتوريث الجدة السدس، وحجب بنى الأم بالجد، ومنع توريث القاتل، لا يكفر منكره ولكن يحكم بضلاله وخطئه، لأن هذا الإجماع وإن كان قطعيا أيضا، إلا أن المنكر متأول، حيث جعل المراد من الأمة والمؤمنين جميعهم والتأويل مانع من الإكفار، كتأويل أهل الأهواء النصوص القاطعة، وتبين بهذا التفصيل أن تعجب من قال بالقول الأول، يريد الشوكانى، من الفقهاء ليس فى محله، فإنهم ما حكموا بكفر منكر كل إجماع ولم يجعلوا الفرع أقوى من الأصل، ولم يغفلوا عنه (122) .
وفى شرح النسفى وملاجيون على المنار: أن الإجماع على مراتب: فالأقوى إجماع الصحابة نصا فإنه مثل الآية والخبر المتواتر فيكفر جاحده كما يكفر جاحد ما ثبت بالكتاب أو التواتر لأنه لا خلاف فيه، ففيهم عترة الرسول وأهل المدينة، ثم الذى نص البعض وسكت الباقون من الصحابة، وهو المسمى بالإجماع السكوتى، ولا يكفر جاحده وإن كان من الأدلة القطعية، أى عند الحنفية، ثم إجماع من بعدهم، أى بعد الصحابة من أهل كل عصر على حكم لم يظهر فيه خلاف من سبقهم من الصحابة، فهو بمنزلة الخبر المشهور، يفيد الطمأنينة دون اليقين، ثم إجماعهم على قول سبقهم فيه مخالف، يعنى اختلفوا أولا على قولين، ثم أجمع من بعدهم على قول واحد، فهذا دون الكل، فهو بمنزلة خبر الواحد يوجب العمل دون العلم، ويكون مقدما على القياس كخبر الواحد " (123) .
وقال صاحب طلعة الشمس فى أصول الإباضية: " الإجماع القولى حجة قطعية يفسق من خالفها عند الجمهور، ولكن كونها قطعية بعد كمال شروطها وفى موضع لا يكون فيها خلاف فما وقع فيه الخلاف أنه إجماع أم غير إجماع فليس بحجة قطعية اتفاقا " (124) .
"أما الإجماع السكوتى فهو حجة ظنية توجب العمل ولا تفيد العلم مثل خبر العدل، فمن خالف الإجماع السكوتى لا يحكم بفسقه على الصحيح، كما لا يحكم بفسقه من خالف خبر الآحاد، لأن التفسيق لا يكون إلا مع مخالفة الدليل القاطع " (125) .
ويقول ابن لقمان فى " الكافل بنيل السول فى علم الأصول على مذهب الزيدية ".
والإجماع السكوتى الجامع للشروط حجة ظنية، وكذا القولى أن نقل آحادا، فإن تواتر فحجة قاطعة يفسق مخالفه " (126) .
ومن العلماء المعترفين بحجية الإجماع من أنكر حجية ما يسمى بالإجماع السكوتى، ومنهم من أنكر أن يكون صدور القول من البعض وسكوت الآخرين، إجماعا، فهو يعارض حتى فى التسمية.
ويتلخص القول فى ذلك، على ما بينه الإسنوى فى شرحه على المنهاج كما يأتى:
1- إذا قال بعض المجتهدين قولا، وعرف به الباقون فسكتوا عنه ولم ينكروا عليه، ففيه مذاهب: أصحها عند الإمام: أنه لا يكون إجماعا ولا حجة، لما سيأتى.
ثم قال هو والآمدى أنه مذهب الشافعى، وقال فى البرهان أنه ظاهر مذهب الشافعى، وقال الغزالى فى المنخول، نص عليه الشافعى فى الجديد.
والثانى، وهو مذهب أبى على الجبائى:
أنه إجماع بعد انقراض عصرهم لأن استمرارهم على السكوت إلى الموت يضعف الاحتمال.
والثالث: قاله أبو هاشم بن أبى على: أنه ليس بإجماع لكنه حجة.
وحكى فى المحصول عن ابن أبى هريرة: أنه إن كان القائل حاكما لم يكن إجماعا ولا حجة.
وحكى الآمدى عن الإمام أحمد وأكثر الحنفية: أنه إجماع وحجة، واختار الآمدى أنه إجماع ظنى يحتج به، وهو قريب من مذهب أبى هاشم، والذى ذكره الآمدى هنا محله قبل انقراض العصر وأما بعد انقراضه فإنه يكون إجماعا على ما نبه عليه فى مسألة انقراض العصر " (127) .
وفى بيان رأى الحنفية ووجهة المخالفين لهم من الشافعية، والرد عليهم يقول ملاجيون فى شرحه على المنار: " إذا اتفق بعضهم على قول أو فعل وسكت الباقون منهم، ولا يردون عليهم بعد مدة التأمل، وهى ثلاثة أيام أو مجلس العلم، ويسمى هذا إجماعا سكوتيا، فهو مقبول عندنا، أى الحنفية وفيه خلاف الشافعى رحمه الله لأن السكوت كما يكون للموافقة يكون للمهابة ولا يدل على الرضا كما روى عن ابن عباس أنه خالف عمر رضى الله عنه فى مسألة العول.
فقيل له: هلا أظهرت حجتك على عمر رضى الله عنه 0
فقال: كان رجلا مهيبا فهبته، ومنعتنى درته.
والجواب: أن هذا غير صحيح، لأن عمر رضى الله عنه كان أشد انقيادا لاستماع الحق من غيره حتى كان يقول: ولا خير فيكم ما لم تقولوا، ولا خير فى ما لم أسمع.
وكيف يظن فى حق الصحابة التقصير فى أمور الدين والسكوت عن الحق فى موضع الحاجة، وقد قال عليه السلام: "الساكت عن الحق شيطان أخرس " (128) .
وهناك مناقشات غير ذلك بين الحنفية والشافعية لا نطيل بذكرها ويمكن معرفتها بالرجوع إلى شرح النسفى على المنار للحنفية (129) .
وشرح الإسنوى على المنهاج للشافعية (130) :
2- وهناك فرع يذكر بعد ذلك وخلاصته، كما ذكره الإسنوى: " إذا قال بعض المجتهدين قولا ولم ينتشر ذلك القول بحيث يعلم أنه بلغ الجميع، ولم يسمع من أحد ما يخالفه، فهل يكون كما إذا قال البعض وسكت الباقون عن إنكاره أم لا.
اختلفوا فيه كما قاله فى المحصول، فمنهم من قال: يلحق به، لأن الظاهر وصوله إليهم، ومنهم من قال: لا يلحق به، لأنا لا نعلم هل بلغهم أم لا "، واختاره الآمدى.
ومنهم من قال: إن كان ذلك القول فيما تعم به البلوى أى فيما تمس الحاجة إليه، فيكون كقول البعض وسكوت الباقين، لأن عموم البلوى يقتضى حصول العلم به، وإن لم يكن كذلك فلا لاحتمال الذهول عنه، قال الإمام: وهذا التفصيل هو الحق " (131) .
من هم أهل الإجماع
المراد بأهل الإجماع من يعتبر إجماعهم إذا اتفقوا على أمر من الأمور فى عصر من الأعصار ويعتد بمخالفتهم إذا خالفوا فلا ينعقد الإجماع مع مخالفتهم.
وقد قدم الغزالى فى المستصفى لهذا الموضوع بمقدمة فقال: " الركن الأول من ركنى الإجماع المجمعون وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذا يتناول كل مسلم،، لكن لكل ظاهر طرفان واضحان فى النفى والإثبات، وأوساط متشابهة:
أما الواضح فى الإثبات فهو كل مجتهد مقبول الفتوى، فهو من أهل الحل والعقد قطعا، ولابد من موافقته فى الإجماع، وأما الواضح فى النفى، فالأطفال والمجانين والأجنة، فإنهم وإن كانوا من الأمة فنعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما أراد بقوله: " لا تجتمع أمتى على الخطأ " إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف فى المسألة بعد فهمها، فلا يدخل فيه من لا يفهمها، وبين الدرجتين العوام المكلفون، والفقيه الذى ليس بأصولى، والأصولى الذى ليس بفقيه، والمجتهد الفاسق، والمبتدع، والناشىء من التابعين مثلا، إذا قارب رتبة الاجتهاد فى عصر الصحابة " (132) .
ثم أفرد الغزالى لكل من هؤلاء الذين ذكر أنهم بين الدرجتين بحثا.
ونحن نتبع ترتيبه، مفردين لكل منهم بحثا، غير متقيدين برأى الغزالى وحده فى الموضوع:
أولا: دخول العوام فى الإجماع
يرى الغزالى أنه " يتصور دخول العوام فى الإجماع، فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك فى دركه العوام والخواص كالصلوات الخمس، ووجوب الصوم، والزكاة، والحج، فهذا مجمع عليه، والعوام وافقوا الخواص فى الإجماع، وإلى ما يختص بدركه الخواص، فتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد، فما أجمع عليه الخواص فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد لا يضمرون فيه خلافا أصلا، فهم موافقون أيضا فيه، ويحسن تسمية ذلك إجماع الأمة قاطبة.
فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين فهو مجمع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الأمة.
فإن قيل: فلو خالف عامى فى واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر، فهل ينعقد الإجماع دونه؟
إن كان ينعقد فكيف خرج العامى من الأمة، وإن لم ينعقد فكيف يعقد بقول العامى؟
قلنا: قد اختلف الناس فيه، فقال قوم:
لا ينعقد، لأنه من الأمة فلابد من تسليمه بالجملة أو بالتفصيل.
وقال آخرون- وهو الأصح- إنه ينعقد بدليلين:
أحدهما: إن العامى ليس أهلا لطلب الصواب، إذ ليس له آلة هذا الشأن، فهو كالصبى والمجنون فى نقصان الآلة، ولا يفهم من عصمة الأمة من الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الإصابة، لأهليته.
والثانى- وهو الأقوى- أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام فى هذا الباب، أعنى خواص الصحابة وعوامهم، ولأن العامى إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل، وأنه ليس يدرى ما يقول، وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه، وعن هذا لا يتصور صدور هذا من عامى عاقل، لأن العاقل يفوض مالا يدرى إلى من يدرى (133) .
ويقول عبد العزيز البخارى فى حاشيته على كشف الأسرار: " اعلم أن الإجماع إنما صار حجة بالنصوص الواردة بلفظ " الأمة " مثل قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا ".
وقوله جل ذكره " كنتم خير أمة أخرجت للناس ".
وقوله عليه الصلاة والسلام: " لا تجتمع أمتى على الضلالة " وهذا اللفظ يتناول بظاهره كل مسلم.
ثم ذكر ما ذكره الغزالى عن الطرفين الواضحين فى النفى والإثبات، وأن الأطفال والمجانين والأجنة، لا يدخلون، وأضاف إليهم من سيولد إلى يوم القيامة، لأنه وإن كان اللفظ ظاهرا فيه، فإن ما دل على كون الإجماع حجة دل على وجوب التمسك به، ولا يمكن التمسك بقول الكل قبل يوم القيامة لعدم كمال المجمعين، ولا فى يوم القيامة لانقطاع التكليف.
ثم ذكر أن أهلية الإجماع إنما تثبت بصفة الاجتهاد والاستقامة فى الدين عملا واعتقادا، لأن النصوص التى جعلت الإجماع حجة تدل على اشتراط ذلك (134) .
ويقول ملاجيون الحنفى فى شرحه علي المنار: " أهل الإجماع من كان مجتهدا صالحا، إلا فيما يستغنى عن الرأى، فإنه لا يشترط فيه أهل الاجتهاد بل لابد فيه من اتفاق الكل من الخواص والعوام حتى لو خالف واحد منهم لم يكن إجماعا كنقل القرآن وأعداد الركعات ومقادير الزكاة، واستقراض الخبز، والاستحمام، وقال أبو بكر الباقلانى: إن الاجتهاد ليس بشرط فى المسائل الاجتهادية أيضا ويكفى قول العوام فى انعقاد الإجماع.
والجواب أن عليهم أن يقلدوا المجتهدين، ولا يعتبر خلافهم فيما يجب عليهم من التقليد (135) .
واختار الآمدى أن موافقة العامى ومخالفته لها اعتبار فى الإجماع، موافقا فى ذلك القاضى أبا بكر الباقلانى.
قال: " وذلك لأن قول الأمة إنما كان حجة لعصمتها عن الخطأ بما دلت عليه الدلائل السمعية من قبل ولا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة، وإذا كان كذلك فلا يلزم أن تكون العصمة الثابتة للكل ثابتة للبعض، لأن الحكم الثابت للجملة لا يلزم أن يكون ثابتا للأفراد ".
" وبالجملة فهذه المسألة اجتهادية، غير أن الاحتجاج بالإجماع عند دخول العوام فيه يكون قطعيا وبدونهم يكون ظنيا " (136)
وفى روضة الناظر فى أصول الحنابلة:
مثل ما أوردناه نقلا عن الغزالى دون مخالفة له (137) .
ومثل ذلك أيضا فى مختصر ابن الحاجب المالكى، وشرح العضد عليه (138) .
وفى شرح ابن لقمان على الكافل فى أصول الزيدية أنه " لا يعتبر فى الإجماع موافقة المقلد ولا مخالفته " (139) فهو مختص بالمجتهدين.
وفى حاشيته: " والمراد بالمجتهدين من كان يتمكن من النظر ولو فى بعض المسائل لأن الاجتهاد يتجزأ " (140) . وفى طلعة الشمس، فى أصول الإباضية:
" ويخرج، أى بقيد المجتهدين، عوام الأمة الذين لا نظر لهم فى شىء من الشرعيات، وإنما يأخذون الأحكام عن علمائهم بطريق الاتباع والتقليد فلا يقدح خلافهم فى صحة الإجماع، ولا يعتبر وفاقهم فى صحته أيضا، وقيل: يعتبر وفاق العوام فى صحة الإجماع، لأن دليل الإجماع، لما اقتضى بظاهره دخول العوام احتمل أنه لا يتم قول العلماء إجماعا إلا بانقياد العوام لهم وإجابتهم إلى ذلك القول، ولو لم يكن عن اعتقاد لظاهر الأدلة، ولا مانع من وقوف كون الإجماع حجة شرعية على إجابة العوام إذ لا طريق للعقل إلى كونه حجة، وإنما يقتضيه الشرع فقط، ويجوز أن يكون فى انقيادهم للعلماء تمام كون قولهم حجة لوجه يعلمه الله تعالى ولا نعلمه فى المصالح الشرعية، ونقطع بذلك لأجل ورود العموم ولم يرد له مخصص، فلو لم يكن على عمومه خصصه الشرع ورد بأنه لما علمنا أنه لا تأثير للإجماع إلا حيث يكون للمجمعين مستند من دليل أو إمارة علمنا أنه لا تأثير لقول من لا مستند له (141) ".
ثانيا: دخول الأصوليين وفقهاء
الفروع، والنحويين وغيرهم
ممن لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد المطلق
يصور الغزالى خلاف العلماء فى ذلك فيقول: إذا قلنا: لا يعتبر قول العوام، لقصور آلتهم، فرب متكلم ونحوى ومفسر ومحدث هو ناقص الآلة فى درك الأحكام.
فقال قوم: لا يعتد إلا بقول أئمة المذاهب المستقلين بالفتوى، كالشافعى، ومالك، وأبى حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين.
ومنهم من ضم إلى الأئمة، الفقهاء الحافظين لأحكام الفروع، الناهضين بها، لكن أخرج الأصولى الذى لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها (142) .
ويزيد الآمدى علي هذا مستكملا فيقول: ومنهم من عكس الحال وأعتبر قول الأصولى دون
الفقيه (143) .
وبالنسبة لغير الأصولى والفقيه فى الفروع، يقرر المقدسى فى روضة الناظر أن من يعرف من العلم ما لا أثر له فى معرفة الحكم كأهل الكلام واللغة والنحو ودقائق الحساب، فهو كالعامى لا يعتد بخلافه فإن كل أحد عامى بالنسبة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما سواه، هذا فيمن علمه لا أثر له فى معرفة الحكم، أما إذا كان الكلام فى مسألة تنبنى على النحو مثلا، مثل أن يبنى النحوى مسائل الشرط فى الطلاق على باب الشرط والجزاء فى العربية، ففى الاعتداد بخلافه أو عدم الاعتداد به رأيان (144) .
ورجح الغزالى من هذه الآراء: أنه يعتد بخلاف الأصولى وبخلاف الفقيه المبرز، لأنهما أهل للنظر على الجملة، يقولان ما يقولان عن دليل، أما النحوى والمتكلم فلا يعتد بهما إلا أن يقع الكلام فى مسألة تنبنى على النحو أو على الكلام، وهو يميل إلى اعتبار الأصولى أولى فى الاعتداد به من فقيه الفروع فيقول:
والصحيح أن الأصولى العارف بمدارك الأحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم، وصيغة الأمر والنهى والعموم، وكيفية تفهم النصوص والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع، بل ذو الآلة من هو متمكن من درك الأحكام إذا أراد وإن لم يحفظ الفروع، والأصولى قادر عليه والفقيه الحافظ للفروع - أى الذى ليس تبريز فى الفقه والترجيح مع حفظه للفروع- لا يتمكن منه وآية أنه لا يعتبر حفظ الفروع: أن العباس والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبا عبيدة ابن الجراح وأمثالهم ممن لم ينصب نفسه للفتوى، ولم يتظاهر بها تظاهر العبادلة (145) .
وتظاهر على وزيد بن ثابت ومعاذ، كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا، وكيف لا وقد كانوا صالحين للإمامة العظمى، ولاسيما لكون أكثرهم فى الشورى، وما كانوا يحفظون الفروع، بل لم تكن الفروع موضوعة بعد، لكن عرفوا الكتاب والسنة وكانوا أهلا لفهمهما، فينبغى أن يعتد بخلاف الأصولى وبخلاف الفقيه المبرز (146) .
وحكى عبد العزيز البخارى الخلاف فى اعتبار الأصولى والفقيه الفروعى، فذكر أن من العلماء من اعتبر الأصولى دون الفروعى، ومنهم من اعتبر الفروعى دون الأصولى، ومنهم من اعتبرهما جميعا، ومنهم من نفاهما جميعا.
وقال: إن الرأى الأخير هو ما يشير إليه كلام الشيخ- أى البزدوى- نظرا إلى عدم الأهلية فيهما وهى المعتبرة والموجودة فى أهل فى أئمة الحل والعقد من المجتهدين (147) .
ويرى ابن الحاجب المالكى عدم الاعتداد بوفاق المقلد، أى أن الإجماع ينعقد بدونه فلا ينتظر وفاقه ولو كان قد حصل طرفا من العلوم التى لها مدخل فى الاجتهاد، أصوليا كان أو فروعيا أو
غيرهما (148) .
وكذلك الزيدية فإنهم يقولون: لا اعتبار بالمقلد فى الإجماع سواء وافق أو خالف على الأرجح (149) .
وهذا هو ما رجحه أيضا المقدسى الحنبلى فى روضة الناظر (150) .
ثالثا: المجتهد الفاسق أو المبتدع
لا يعتد فى الإجماع بقول غير مسلم، فلا يعتد باليهود ولا بالنصارى، ولا بالمرتدين عن الإسلام رغبة عنه، ولا بالمنكرين لما علم من الدين بالضرورة من غير شبهة.
وذلك لأن الإجماع هو اتفاق الأمة أو مجتهدى الأمة، وهؤلاء ليسوا من الأمة.
أما الفاسق باعتقاد أو فعل، ففى الاعتداد به فى الإجماع خلاف وتفصيل.
فالحنفية يقولون، كما فى كشف الأسرار للبزدوى: " إن أهلية الإجماع إنما تثبت بأهلية الكرامة وذلك لكل مجتهد ليس فيه هوى ولا فسق، أما الفسق فيورث التهمة ويسقط العدالة، وبأهلية أداء الشهادة، وصفة الأمر بالمعروف ثبت هذا الحكم، وأما الهوى، فإن كان صاحبه يدعو الناس إليه، فقد سقطت عدالته بالتعصب الباطل، وبالسفه، وكذلك أن مجن به، وكذلك أن غلا حتى كفر.
وصاحب الهوى المشهور- به ليس من الأمة على الإطلاق (151) .
ويوضح ذلك شارحه عبد العزيز البخارى فيقول:
" إن أهلية الإجماع ثبتت بصفة الاجتهاد والاستقامة فى الدين عملا واعتقادا، لأن النصوص والحجج التى جعلت الإجماع حجة تدل على اشتراط هذه المعانى: أما اشتراط الاستقامة عملا، وهى العدالة فلأن حكم الإجماع وهو كونه ملزما إنما ثبت بأهلية أداء الشهادة كما قال تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء عل الناس ".
وبصفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قال عز وجل: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" لأنهما يوجبان اتباع الآمر بالمعروف والناهى، فيما يأمر وينهى، إذ لو لم يلزم الاتباع لا يكون فيهما فائدة، وإنما يلزم اتباع العدل المرضى فيما يأمر به وينهى عنه دون غيره، لأن ذلك بطريق الكرامة، والمستحق للكرامات على الإطلاق من كان بهذه الصفة، والفسق يسقط العدالة فلم يبق به أهلا لأداء الشهادة، ولا يوجب اتباع قوله لأن التوقف فى قوله واجب بالنص، يقصد قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (152) .
وذلك ينافى وجوب الاتباع ويورث التهمة لأنه لما لم يتحرز من إظهار فعل " ما يعتقده باطلا، لا يتحرز من إظهار قول يعتقده باطلا، فثبت أن الفاسق ليس من أهل الإجماع، وأنه لا اعتبار لقوله وافق أم خالف.
وأما اتباع الهوى والبدعة فمانع أيضا من أهلية الإجماع، بشرط أن يكون صاحبه داعيا إليه، أو ماجنا به، أو غاليا فيه بحيث يكفر به، فإنه إذا كان يدعو الناس إلى معتقده، سقطت عدالته لأنه يتعصب لذلك حينئذ تعصبا باطلا حتى يوصف بالسفه، فيصير متهما فى أمر الدين فلا يعتبر قوله فى الإجماع.
وكذلك إن مجن بالهوى، أى لم يبال بما قال وما صنع وما قيل له، لأن ترك المبالاة مسقط للعدالة أيضا.
وكذلك إن غلا فيه حتى وجب إكفاره به، فلا يعتبر خلافه ووفاقه لعدم دخوله فى مسمى الأمة المشهود لها بالعصمة وإن صلى إلى القبلة، واعتقد نفسه مسلما لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة، بل عن المؤمنين وهو كافر وإن كان لا يدرى أنه كافر" (153) .
وبعض الشافعية كأبى إسحاق الشيرازى وإماما الحرمين (154) ، والآمدى يرون أنه لا ينعقد الإجماع دون المجتهد الفاسق ببدعته أو بفعله، إلا إذا كفر ببدعته، كذلك لأنه من أهل الحل والعقد، وداخل فى مفهوم لفظ الأمة المشهود لهم بالعصمة، وغايته أن يكون فاسقا وفسقه غير مخل فى نظرهم بأهلية الاجتهاد، والظاهر من حاله فيما يخبر به من اجتهاده الصدق، كإخبار غيره من المجتهدين، كيف وإنه قد يعلم صدق الفاسق بقرائن أحواله فى مباحثاته وأقواله، وإذا علم صدقه وهو مجتهد كان كغيره من المجتهدين " (155) .
وممن قال بذلك من الشافعية أيضا: الغزالى، فإنه قال فى المستصفى:
" المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر بل هو كمجتهد فاسق وخلاف المجتهد الفاسق معتبر (156) .
وهناك رأى ثالث فى المجتهد المبتدع الذى لم يكفر ببدعته، وهو: أن الإجماع لا ينعقد فى حقه إذا خالف، وينعقد فى حق غيره، أى أنه يجوز له مخالفة إجماع من عداه، ولا يجوز ذلك لغيره، فلا يكون الاتفاق مع مخالفته حجة عليه، ويكون حجة على من سواه (157) .
ونسب هذا القول إلى بعض الشافعية (158) .
وممن قال بمذهب الحنفية ابن الحاجب وشارح مختصره (159) ، وهو الظاهر أيضا عند الحنابلة (160) .
وبذلك أيضا قال الإباضية (161) .
وأما الزيدية فعندهم رأيان:
أحدهما عدم اعتبار كافر التأويل وفاسقه معا، وذكروا أنه مروى عن جمهور أئمتهم، والرأى الآخر الاعتبار بهما فلا ينعقد من دونهما " إجماع " وهو مروى عن بعض أئمتهم أيضا (162) .
رابعا: لا يختص الإجماع بالصحابة عند الجمهور: إجماع الصحابة حجة بلا خلاف، ولا يعتد العلماء بما يروى عن بعض المبتدعة من أنه ليس بحجة.
والخلاف إنما هو فى اختصاص حجية الإجماع بإجماع الصحابة.
فقد ذهب إلى ذلك الظاهرية (163) ، وأحمد ابن حنبل فى إحدى الروايتين عنه (164) .
قال الظاهرية: إن الإجماع هو إجماع الصحابة فقط وليس لمن بعدهم أن يكون إجماعه حجة، لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف، والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف (165) ، أى الإعلام الشخصى.
وفى رواية لأبى داود عن أحمد بن حنبل: الإجماع أن نتبع ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وهو فى التابعين مخير.
وقد نقل عن أبى حنيفة مثل ذلك إذ يقول: إذا أجمعت الصحابة على شىء سلمنا، وإذا أجمع التابعون زاحمناهم (166) .
وجمهور علماء المذاهب يخالفونهم فى ذلك، ويرون أن الإجماع ليس خاصا بالصحابة رضوان الله عليهم بل هو فى كل عصر.
ِِقرر ذلك الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإباضية (167) .
والحجة التى تذكر للقائلين بأن الإجماع هو إجماع الصحابة فقط تتلخص فى أن الإجماع إنما صار حجة بصفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والصحابة هم الأصول فى ذلك، لأنهم كانوا هم المخاطبين بقوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ". وبقوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " دون غيرهم، إذ الخطاب يتناول الموجود دون المعدوم، وكذلك قوله تعالى: " ويتبع غير سبيل المؤمنين " وقوله عليه الصلاة والسلام: " لا تجتمع أمتى على الضلالة " خاص بالصحابة الموجودين فى زمن النبى- صلى الله عليه وسلم-، إذ هم كل المؤمنين، وكل الأمة، لأن من لم يوجد بعد لا يكون موصوفا بالإيمان، فلا يكون من الأمة، ولأنه لابد فى الإجماع من اتفاق الكل، والعلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل، مع العلم بأنه ليس هناك أحد سواهم، وذلك لا يتأتى إلا فى الجمع المحصور كما فى زمان الصحابة، أما فى سائر الأزمنة فيستحيل معرفة اتفاق جميع المؤمنين على شىء مع كثرتهم وتفرقهم فى مشارق الأرض ومغاربها، ولأن الصحابة أجمعوا على أن كل مسألة لا تكون مجمعا عليها يسوغ فيها الاجتهاد، فلو أجمع غيرهم فى مسألة من هذا النوع لخرجت بهذا الإجماع الجديد عن أن تكون محلا للاجتهاد، وبذلك يكون معنا إجماعان:
أحدهما: إجماع الصحابة، والثانى: إجماع من بعدهم، وهما متناقضان فى أن المسألة محل للاجتهاد أو ليست محلا للاجتهاد، هذه هى حجتهم وقد رد عليهم الجمهور بأن النصوص الموجبة لكون الإجماع حجة تتناول الموجودين فى ذلك الزمان ومن يأتى بعدهم، وإلا لزم ألا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجودا عند ورود تلك النصوص، لأن إجماعهم حينئذ ليس إجماع جميع المخاطبين وقت ورودها، وقد أجمعوا على صحة إجماع من بقى من الصحابة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعد من مات بعده من الصحابة، وليس ذلك إلا لأن الماضى غير معتبر، كما أن الآتى غير منتظر.
وقولهم: أن العلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل، فاسد أيضا، لأن حاصله يرجع إلى تعذر حصول الإجماع فى غير زمان الصحابة، وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع فى أنه لو حصل كان حجة وكذا شبهتهم الثالثة، فهى فاسدة أيضا، لأنه لو صح ما قالوا لزم امتناع إجماع الصحابة على المسائل الاجتهادية بعين ما ذكروا وهو باطل لإجماعهم على كثير من المسائل الاجتهادية، ولئن سلمنا إجماعهم على تجويز الاجتهاد فى مسألة اجتهادية فهو مشروط بعدم الإجماع الذى قد يجد وحينئذ لا يلزم التعارض، لأن الإجماع إذا وجد على حكم المسألة زال شرط الإجماع السابق على تجويز الاجتهاد فيها، فيزول ذلك الإجماع بزوال شرطه (168) .
__________
(1) يونس:71.
(2) انظر مادة جمع فى الكتب اللغوية التى ذكرناها.
(3) ص 173 ج1 من المستصفى للغزالى طبع المطبعة الأميرية سنة1324 هجرية.
(4) ص67 من كتاب إرشاد الفحول للشوكانى طبعة مطبعة السعادة بمصر سنه 1327 هجرية.
(5) انظر هداية العقول إلى غاية السول وحواشيه ص 490 ج1 وهو من كتب الزيدية للحسين بن القاسم بن محمد المطبوع بمطبعة المعارف المتوكلية بصنعاء اليمن سنة 1359 هجرية.
(6) ص 211 ج 2 من شرح مسلم الثبوت المطبوع مع المستصفى بالمطبعة السالفة الذكر.
(7) ص173 ج1 من المستصفى.
(8) ص 281 ج 1 من الأحكام للأمدى.
(9) ص 282 ج1 من الأحكام للأمدى.
(10) 103 ج 2 من شرح النسفى على المنار المطبوع بالمطبعة الأميرية سنة 1316 هجرية.
(11) ص947 ج 3 من حاشية كشف الأسرار المطبوعة باستانبول سنة 1307 هجرية.
(12) ص 108 من الجزء. الأول من كتاب الذخيرة المطبوع بكلية الشريعة بجامعة الأزهر سنة 1381 هجرية سنه 1961 م 0
(13) ص 1 33 ج 2 روضة الناظر، المطبوع بالمطبعة السلفية بمصر سنه 1342 هجرية.
(14) انظر حاشية روضة الناظر المذكور ص 322، ج1.
(15) ج2 ص 5 6 من شرح طلعة الشمس، المطبوع بمطبعة الموسوعات بعصر.
(16) ص8 6 من إرشاد الفحول.
(17) ج 2 ص 11 2 من شرح مسلم الثبوت.
(18) ج 4 ص 149 من الأحكام لابن حزم المطبوع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1345 هجرية.
(19) انظر هداية العقول إلى غاية السول من كتب الزيدية للحسين بن القاسم بن محمد صفحة 490 وما بعدها، وقد سبقت الإشارة إلى المطبعة وسنة الطبع، وانظر أيضا كتاب " الكاشف لذوى العقول عن وجوه معانى الكافل بنيل السول " فى أصول الزيدية المطبوع بصنعاء سنة 1346 هجرية.
(20) الرياض الناضرة فى أحكام العترة الطاهرة ص 5 3 وما بعدها، ص 49 من كتاب فوائد الأصول للشيخ مرتضى الانصارى الشيعى الإمامى، وهو مطبوع بالحجر سنة1374 هجرية بمدينة قم.
(21) المصدر السابق.
(22) ج1 ص173 من المستصفى للغزالى.
(23) المصدر السابق.
(24) ج 1ص 1 28 من الأحكام للأمدى.
(25) ج1 ص335 من روضة الناظر.
(26) ص74 من كتاب طلعة الشمس.
(27) ص 103، 104 من الجزء الثانى من شرح المنار السابق ذكره، شرح نور الأنوار.
(28) حاشية قمر الأقمار على نور الأنوار ص103ج2.
(29) شرح المنار للنسفى ص104ج2
(30) انظر مختصر ابن الحاجب ج2 ص 29 طبع المطبعة الأميرية سنة 1316 هجرية وغيرهذا من كتب الأصول.
(31) المستصفى للغزالى ص 173 ج1، ومسلم الثبوت وشرحه ص 312ج2 والأحكام للأمدى ص283 ج1 وغير ذلك من كتب المذاهب الستة المذكورة.
(32) انظر هداية العقول إلى غاية السول (الحاشية) ص 492 ج 2، وانظر ص860 من شرح الإسنوى على المنهاج بحاشية الشيخ بخيت ج 3 طبع السلفية بمصر سنة 1345 هجرية وغير ذلك.
(33) المستصفى للغزالى ص 173 ج 1.
(34) روضةالناظر وشرحه فى أصول الحنابلة ص 1 33 ج1
(35) المستصفى للغزالى فى الموضع نفسه.
(36) إرشاد الفحول للشوكانى ص 68.
(37) هداية العقول إلى غاية السول ص 492 ج 2، وإرشاد الفحول للشوكانى ص8 6.
(38) طلعة الشمس فى أصول الإباضية ص73، ج 2
(39) المرجع السابق.
(40) المراجع نفسها.
(41) المستصفى ج اص173
(42) الأحكام للأمدى ص283 ج1.
(43) الأحكام للأمدى ص 284 ج1.
(44) ص 68، 69 من إرشاد الفحول للشوكانى.
(45) المستصفى ص 174 ج ا.
(46) ص 5 28ج1 من الأحكام للآمدى.
(47) راجع ص 30 ج 2 من شرح القاضى على مختصر ابن الحاجب وص 69 من إرشاد الفحول وغيرها.
(48) ص 212 ج 2 من شرح مسلم الثبوت.
(49) ص 858 ج 3 من شرح الإسنوى على المنهاج.
(50) راجع فى هذا وفى الشرح ص496 ج 2 من هداية العقول قى أصول الزيدية.
(51) ص77 من إرشاد الفحول.
(52) انظر ص147ج4 وما بعدها من الأحكام لابن حزم الظاهرى.
(53) ص 286 ج1 من الأحكام للآمدى.
(54) ص213 ج 2 من مسلم الثبوت وشرحه.
(55) ص860، 862 ج 3 من شرح الإسنوى على المنهاج وقد جاء مثل ذلك فى هداية العقول للزيدية ص497 ج 2
(56) شرح طلعة الشمس ص77، 78 ج 2.
(57) ص 286 ج 1 من الأحكام للآمدى.
(58) المستصفى للغزالى ص174ج 1 وإرشاد الفحول ص70.
(59) المصدر السابق إرشاد الفحول ص70، وممن أسقط الاستدلال بالمفعول صاحب هداية العقول الزيدى ص8 29 ج 2.
(60) سورة النساء: 115
(61) هذا الكلام للإسنوى فى شرحه على المنهاج ص 862 ج 3 وقد ذكر معناه الآمدى فى الأحكام ص286 ج 1 والشوكانى فى إرشاد الفحول ص 70 وأورده بنصه صاحب هداية العقول فى أصول الزيدية ص 499 ج 2، وجاء بمعناه أيضا فى مسلم الثبوت وشرحه ص214 ج 2، وفى شرح المنار فى أصول الحنفية ص 109 ج 2 وغير ذلك.
(62) إرشاد الفحول ص 1 7.
(63) المستصفى ج1 ص 5 17.
(64) ص 499،، 500 من هداية العقول فى أصول الزيدية.
(65) سورة البقرة: 143.
(66) سورة القلم: 28.
(67) شرح الإسنوى على المنهاج ص 873، 874 ج 3 والأحكام للآمدى ص 302 ج1 وهداية العقول للزيدية ص 501 ج 2 وشرح المنار ص 109 ج 2.
(68) ص 874 ج 3 من شرح الإسنوى.
(69) ص 73 من إرشاد الفحول.
(70) انظر شرح طلعة الشمس فى أصول الإباضية ص97 ج 2.
(71) مسلم الثبوت وشرحه ص 216، 217 ج 2.
(72) سورة آل عمران: 110.
(73) سورة يونس: 32.
(74) إرشاد الفحول ص 74 وشرح المنار ص 109ج 2.
(75) إرشاد الفحول ص 74.
(76) سورة آل عمران: 103.
(77) الأحكام للآمدى ص 309، 310ج1
(78) الأحكام للآمدى ص309 وما بعدها ج1.
(79) سورة النساء:590.
(80) الأحكام للآمدى ص 311 ج 1 0
(81) ص 312 ج1 للأحكام.
(82) المستصفى ص 175ج 1
(83) خرجت هذه الأحاديث وبينت درجاتها فى كتاب هداية العقول إلى غاية السول فى أصول الزيدية للحسين بن القاسم حينما استدل بها على حجية الإجماع وذلك فى صفحة 503 ج 2 وما بعدها. كما خرج الكثير منها شارح روضة الناظر فى أصول الحنابلة ص 338ج 1 وما بعدها فمن شاء فليرجع إليهما.
(84) المستصفى للغزالى ص 5 17، 176ج 1، وقد جاء مثله فى ص 313 ج1 وما بعدها من الأحكام للآمدى ومثله أيضا فى روضة الناظر للحنابلة ص 8 33 ج1 وما بعدها.
(85) ص 215، 216 من مسلم الثبوت وشرحه ج2 وقد نقل مثله الإسنوى فى شرحه ص 875 ج 3.
(86) ص 319 ج 1من الأحكام للآمدى.
(87) ص 213 من شرح مسلم الثبوت ج 2.
(88) ص 32 ج 1 من الأحكام للآمدى.
(89) ص 180 من المستصفى للغزالى ج 1.
(90) سورة النحل: 89.
(91) الأحكام للآمدى ص 290 ج1.
(92) ابن الحاجب وشرحه ص 32 ج 2.
(93) الأحكام للآمدى ص 299 ج 1.
(94) شرح مختصر ابن الحاجب ص 32 ج 2.
(95) سورة النساء: 59.
(96) المصدر نفسه.
(97) الآمدى ص 299 ج 1.
(98) المرجع نفسه من شرح العضد على ابن الحاجب.
(99) ص 217 ج 2 من شرح مسلم الثبوت.
(100) سورة البقرة: 188.
(101) سورة الإسراء:33
(102) سورة الأعراف: 33
(103) سورة الأنعام: 35.
(104) سورة الزمر: 65.
(105) ص 300 ج1 من الأحكام للآمدى.
(106) جاء فى لسان العرب: " القذة سن السهم "، وفى الحديث " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة "، يعنى كما تقدر كل واحدة منهن- أى كل قذة من القذذ- على صاحبتها وتقطع " انتهى، والحذوة قطع الشىء على مثال شىء آخر.
(107) ص290، 291 ج 2 من الأحكام للآمدى.
(108) ص 300 ج 1 عن الأحكام للآمدى وما بعدها.
(109) ص 291 ج امن الأحكام للآمدى.
(110) ص 301 ج 1 من الأحكام للآمدى.
(111) ص 291 ج 1 من الأحكام للآمدى.
(112) ص 302 ج 1 من الأحكام للآمدى.
(113) سورة الضحى: 7.
(114) سورة الشعراء: 20.
(115) انظر فى تأويلهم والرد عليهم كلام الغزالى فى المستصفى ص178 ج 1 0
(116) ص 74، 75 من إرشاد الفحول.
(117) ص 971 ج 3 (انظر الحاشية لعبد العزبز البخارى) .
(118) ص 972 ج 3 " انظر كشف الأسرار ".
(119) ص 981 ج 3 " انظر كلام صاحب الكشف".
(120) ص 981 ج 3، انظر الشرح لعبد العزيز البخارى.
(121) ص 73 من إرشاد الفحول هذا نصه وقد نقله عبد العزيز البخارى فى كلامه هنا 0
(122) ص ا98، 982 من حاشية عبد العزيز البخارى ج 3.
(123) ص 111، 112 من شرح المنار ج 2 بكل من النسفى وملاجيون 0
(124) ص 66، ج 2 من طلعة الشمس.
(125) ص 72 ج 2 من طلعة الشمس.
(126) ص83، 84 من الكافل بنيل السول وشرحه، وقد تقدم ذكر طبعته.
(127) ص 909 من شرح الإسنوى على المنهاج ج 3.
(128) ص 105 من شرح المنار ج 2.
(129) ص 104، 105 من شرح النسفى على المنار وما بعدها.
(130) ص 911 ج 3 من شرح الإسنوى على المنهاج وما بعدها.
(131) ص915، 916 من شرح الإسنوى على المنهاج ج 3
(132) المستصفى للغزالى ص 181، ج1.
(133) ص 181، 182 من المستصفى ج1.
(134) ص956 ج3 وما بعدها من حاشية عبد العزيز البخارى على كشف الأسرار.
(135) ص 105، 106 ج2 من شرح المنار.
(136) ص 322، 325 ج 1 من الأحكام للآمدى.
(137) ص347 ج1 من روضة الناظر.
(138) ص33 من الشرح المذكور.
(139) ص 71 من الشرح المذكور.
(140) نفس الموضع.
(141) ص 77 ج 2 من طلعة الشمس.
(142) المستصفى ص 182 ج1.
(143) الأحكام للآمدىج1 ص386.
(144) روضة الناظر ص350، 351 ج1.
(145) العبادلة: كما قال صاحب القاموس- هم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وليس منهم عبد الله بن مسعود، كما قال فى القاموس: وغلط الجوهرى- أى فى عده ابن مسعود من العبادلة- والصحيح أن الجوهرى لم يعده منهم ولعل نسخة محرفة من الصحاح وقعت لصاحب القاموس فيها، ذلك مع أن جميع نسخه ليس فيها ذلك، انتهى. شارح القاموس.
(146) ص183 ج1 من المستصفى.
(147) حاشية عبد العزيز البخارى على كشف الأسرار ص960ج 3
(148) ص33 ج 2 من المختصر وشرحه للعضد.
(149) ص 491، 560 من شرح هداية العقول ج1.
(150) ص 352 ج1 من روضة الناظر.
(151) ص 956ج3 من كشف الأسرار.
(152) سورة الحجرا ت: 6.
(153) ص7 هـ 9، 8 هـ 9 من حاشية عبد العزيز البخارى ج 3.
(154) المرجع السابق من الموضع نفسه
(155) ص 326ج1 من الأحكام للآمدى.
(156) ص 183 ج 1 من المستصفى.
(157) ص6 32 ج1 من الأحكام للآمدى، ص 33 ج 2من شرح مختصر ابن الحاجب للعضد.
(158) ص958 من حاشية عبد العزير البخارى ج 3.
(159) ص 33 ج 2 من مختصر ابن الحاجب وشرحه.
(160) ص 353 ج1 من روضة الناظر.
(161) ص 5 7 من شرح طلعة الشمس ج 2.
(162) شرح هداية العقول للزيدية ص 563ج1.
(163) الآمدى فى الأحكام ص 328ج1 وابن حز م فى كتابه الأحكام ص149 ج4.
(164) الآمدى فى الموضوع نفسه.
(165) إرشاد الفحول للشوكانى ص77.
(166) المرجع السابق.
(167) راجع فى مذهب الحنفية ص960ج3 من كشف الأسرار للبزدوى وشرحه لعبد العزيز البخارى ص106 ج 2 من شرحى المنار، وفى مذهب المالكية ص34 ج2 من شرح مختصر ابن الحاجب، ص 111 ج1 من الذخيرة.
وفى مذهب الشافعية ص 5 18 ج1 من المستصفى للغزالى وص8 32 ج1 من الأحكام للآمدى.
وفى مذهب الحنابلة ص 372 ج1 من روضة الناظر وفى مذهب الزيدية ص565 من هداية العقول ج1.
وفى مذهب الإباضبة ص 82 ج 2 من طلعة الشمس.
(168) اقرأ فى بيان حجتهم والرد عليها، كتب الأصول التى أشرنا إليها فى مذاهب الجمهور، ومنها حاشية عبد العزيز البخارى على كشف الأسرار ص 961، 962 ج3 وعنه نقلنا الاحتجاج والرد بتصرف يسير.(1/73)
إجماع (ب)
خامسا: لا يتحقق الإجماع بعترة
الرسول صلى الله عليه وسلم
وحدهم عند الجمهور
كافة الزيدية يقولون: إن الإجماع عام وخاص، كما قدمنا، فالعام هو إجماع جميع المجتهدين والخاص هو إجماع مجتهدى عترة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولو انفرد العترة وحدهم فأجمعوا على أمر فى عصر من العصور دون غيرهم انعقد الإجماع بذلك ولم يتوفف على موافقة الغير.
وقد بينا فى تعريف الإجماع مرادهم بالعترة، وقد وافقهم على مذهبهم بعض العلماء، منهم أبو هاشم وأبو عبد الله البصرى، والقاضى عبد الجبار، فى رواية عنه، واحتجوا على مذهبهم بالكتاب والسنة فأما الكتاب فقوله تعالى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (169) .
وجه الدلالة أنه تعالى أخبر مؤكدا بالحصر بإرادته إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم تطهيرا تاما، وما يريده الله تعالى من أفعاله واقع قطعا، فثبت ذهاب الرجس عنهم، وطهارتهم عنه الطهارة التامة، والرجس المطهرون عنه ليس إلا ما يستخبث من الأقوال والأفعال، ويستحق عليه الذم والعقاب، لأن معناه الحقيقى لا يخلو عنه أحد منهم.
وليس المراد إذهابه عن كل فرد، لأن المعلوم خلافه، فتعين أن المقصود إذهابه عن جماعتهم فجماعتهم إذن معصومة وهو المطلوب، وكذلك استدلوا بقوله تعالى:" قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى ".
دلت الآية على أن مودتهم طاعة، بل واجبة، فيكونون على الحق، وإلا حرمت مودتهم، بقوله تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " وغيرها.
وكونهم على الحق يقتضى وجوب متابعتهم، لعدم الواسطة بين الحق والضلال بدليل قوله
تعالى " فماذا بعد الحق إلا الضلال " والمراد بالقربى أهل البيت 0
وأما السنة فأحاديث كثيرة رووها وتمسكوا بها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: " إنى تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدى أبدا: كتاب الله، وعترتى، أهل بيتى، ألا وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ".
وحديث الثقلين هذا شهور عندهم ومروى من جهات كثيرة.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " مثل أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك ".
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " أهل بيتى أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ".
وقد عنى الزيدية بإيراد هذه الأحاديث والاستدلال بها على ما ذهبوا إليه، وترى ذلك فى كتبهم ومنها كتاب "هداية العقول " الذى أفاض فى إيراد الأدلة على ذلك، وفى مناقشة معارضيها أو
ناقضيها (170) .
ويرد عليهم علماء الجمهور:
أولا: بأن المراد من قوله تعالى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، فالآية نازلة فيهن بين آيات سابقة لها، وآية لاحقة بها، فالآيات السابقة تبدأ من قوله تعالى: "يا أيها النبى قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " (171) إلى قوله تعالى " وقلن قولا معروفا " (172) .
ثم تأتى آية الاستدلال، وهى قوله تعالى " وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (173) .
والآية اللاحقة بذلك هى قوله تعالى:
" واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفا خبيرا " (174) .
فالكلام فى هذه الآيات إنما هو مع أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، ولكن الله تعالى عبر فى إذهاب الرجس بقوله:
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " فأتى بضمير الخطاب للذكور فى لفظ " عنكم " وأتى بلفظ " أهل البيت " فيفهم من ذلك أنه أراد أن يعمم هذا الحكم وهو حكم إرادة التطهير فى أهل البيت رجالا ونساء على سنة تغليب المذكر إذا اجتمع رجال ونساء، فغاية ما يدل عليه ذلك هو اشتراك قرابة النبى وأزواجه فى هذا التطهير المراد، فإذا كان هذا يدل على عصمتهم وحجية إجماعهم فقولوا بذلك أيضا فى الأزواج كما قلتم به فى القرابة والعترة وأنتم لم تقولوا به، فبطلت حجتكم.
ثانيا: معنى الرجس الذنب، فغاية ما يلزم العصمة عن الذنوب لا العصمة عن الخطأ فى الاجتهاد كيف والمجتهد المخطىء يؤجر ويثاب، فكيف يكون ما يؤجر عليه الإنسان ويثاب من باب الرجس.
ويحتمل أن يكون المراد من الرجس الشرك أو الإثم، أو الأهواء، أو البدع، أو يكون إذهاب الرجس بما ساق إليهم من تشريع، فلا يلزم منه العصمة من الخطأ فى الاجتهاد أيضا.
وقد كثر الجدال فى المعنى المراد من هذه الآية، وحاول كل فريق أن يقوى دلالتها على ما ذهب إليه أو على نفى ما ذهب إليه الآخرون، ولا يتسع المجال لذكر هذا كله، فمن شاء فليرجع فيه إلى كتب الفريقين، مثل " هداية العقول " فى أصول الزيدية، وشرح مسلم الثبوت، فكل منهما يمثل وجهة نظره فى استقصاء، ويرد على ما يناقشه به الآخرون (175) .
وكذلك الكلام فى باقى الأدلة التى استدلوا بها من الكتاب.
أما استدلالهم بالأحاديث فقد رد عليهم فيه بأن هذه الأحاديث آحاد، وخبر الواحد ليس بحجة فى مثل هذا ولكنهم لا يقبلون هذا الرد، فإن الأحاديث التى أتوا بها متواترة، إما لفظا بذكر الاعتصام بآل البيت نصا، أو على سبيل التواتر المعنوى، كما قال الجمهور فى أحاديث عصمة الأمة عن الخطأ والضلال.
وقد عارضهم الجمهور بمثل " أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم واهتديتم " وبما تواتر عن الصحابة والتابعين من أنهم كانوا يجتهدون ويفتون بخلاف ما أفتى به أهل البيت ولا ينكر أحد عليهم، ولا يعيبهم أهل البيت أنفسهم، وهذا يفيد أن أهل البيت لا يقولون بوجوب اتباع ما أجمعوا عليه.
ألم تر كيف رد ابن مسعود قول أمير المؤمنين على فى عدة الحامل المتوفى عنه زوجها، وكيف رد شريح قوله بقبول شهادة الابن، مع أن كلا من الزيدية والإمامية يقولون بحجية قوله، ويستدلون لذلك بأدلة عندهم، فقول الإمام إذن يدل على إجماع أهل البيت عند الإمامية والزيدية، فكيف ساغ للصحابة والتابعين أن يخالفوه.
بمثل هذا يستدل الجمهور على بطلان القول بأن إجماع عترة الرسول صلى الله عليه وسلم يكفى حين ينفردون به عن غيرهم من مجتهدى الأمة، والنقاش طويل والمراجع هى المراجع التى ذكرناها للفريقين.
سادسا: إجماع أهل المدينة
إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور لأنهم بعض الأمة، والأدلة الدالة على كون الإجماع حجة متناولة لأهل المدينة وغيرهم.
وقال مالك رحمه الله تعالى: أنه حجة فلا يعتد بمخالفة غيرهم، ومن أصحابه من قال: إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم علي رواية غيرهم.
ومنهم من قال: أراد به أن إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته (176) .
وقال الباجى: إنما أراد حجية إجماع أهل المدينة فيما كان طريقه النقل المستفيض، كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة فى الخضروات مما تقضى العادة بأن تكون فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم، فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم، فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء0
وقال القاضى عبد الوهاب: إجماع أهل المدينة على ضربين: نقلى، واستدلالى.
فالأول كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأجناس وكتركهم أخذ الزكاة من الخضروات مع أنها كانت تزرع بالمدينة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لا يأخذون منها، وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه وترك الأخبار والمقاييس به، لا اختلاف بين أصحابنا فيه 0
والثانى، وهو إجماعهم من طريق الاستدلال، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه ليس بإجماع ولا مرجح.
والثانى: أنه مرجح 0
والثالث: أنه حجة ولكن لا يحرم خلافه وإذا عارض هذا النوع الاستدلالى خبر فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا، وقد صار جماعة إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع وليس بصحيح لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها (177) .
ويرى ابن الحاجب المالكى أن الصحيح التعميم، أى القول بكونه حجة مطلقا، لأن العادة جرت بعدم إجماع هذا الجمع الكثير من العلماء المحصورين الأحقين بالاجتهاد إلا عن راجح (178) .
وقد قيد ابن الحاجب إجماع أهل المدينة الذى فيه الكلام بأنه إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين.
ويقول الغزالى فى الرد على ما ذهب إليه مالك: " إن أراد مالك أن المدينة هى التى جمعت فى زمن الصحابة أهل الحل والعقد، فمسلم له ذلك لو جمعت، وليس ذلك بمسلم بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها، بل ما زالوا متفرقين فى الأسفار والغزوات والأمصار.
وإن أراد أن اتفاقهم فى قول أو عمل يدل على أنهم استندوا إلى سماع قاطع لأن الوحى الناسخ نزل فيهم فلا تشذ عنهم مدارك الشريعة، فهذا تحكم، إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر أو فى المدينة لكن يخرج منها قبل نقله، وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى أهلها، وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكناهم المدينة، ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم " (179) .
ونقل صاحب طلعة الشمس فى أصول الإباضية عن الحاكم قوله:
" والمشهور عن مالك أنه رد الخبر بفعل أهل المدينة حتى قال ابن ذؤيب: يستتاب مالك " (180) .
يريد أن مالكا روى إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرىء من العيب أصلا علمه أو جهله، ثم خالفهم، فلو أخذناه بمذهبه لقلنا له: خالفت الإجماع ومن خالف الإجماع يستتاب.
وهذه المخالفة من مالك لما عليه العمل والإجماع من أهل المدينة، يستدل بها من يؤول مذهب مالك فى ذلك.
ويقول: لو كان يرى أن إجماعهم حجة لم تسعه مخالفته (181) .
بل كل ما هنالك أنه يرجح نقلهم على نقل غيرهم، وهذا ما يشاركه فيه الشافعى، فقد أشار إلى هذا فى القديم، ورجح رواية أهل المدينة، وحكى عنه ذلك يونس بن عبد الأعلى، قال: قال الشافعى: إذا وجدت متقدمى أهل المدينة على شىء فلا يدخل فى قلبك شك أنه الحق، وكلما جاءك شىء غير ذلك فلا تلتفت إليه ولا تعبأ به (182) .
ثم استمر صاحب طلعة الشمس فى التعقيب على ما اشتهر نقله عن مالك فقال: " إن أكابر علماء الصحابة كانوا خارجين عن المدينة، وهذا يستلزم ألا يعتد بخلافهم، وهو من البعد بمنزلة لا تخفى على ذوى الألباب، فإن عليا وابن مسعود وأبا موسى وغيرهم كانوا بالكوفة، وأنس فى البصرة وأبو الدرداء بالشام، وسلمان فى المدائن، وأبو ذر كان فى الربذة، ومن المحال ألا يعتد بخلاف هؤلاء لأهل المدينة، فبطل ما زعموا.
هذا ما قاله صاحب المنهاج، وهو من الحسن بمنزلة لا تخفى " (183) .
سابعا: إجماع الخلفاء الراشدين
" لا ينعقد الإجماع عند الجمهور باتفاق الخلفاء الأربعة أو الخمسة، فيما لو عد الحسن بن على رضى الله عنه (184) ، مع وجود المخالف لهم من الصحابة رضى الله عنهم، ولا ينعقد من باب أولى باتفاق الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما.
وذلك لما سبق من أن الدلالة الدالة على اعتبار الإجماع حجة متناولة لإجماع أهل الحل والعقد كلهم فلا خصوصية للخلفاء الراشدين.
ونقل الآمدى وغيره عن أحمد بن حنبل، فى إحدى روايتين عنه، أنه يرى إجماع الخلفاء الأربعة حجة.
وكذلك نقل هذا عن القاضى أبى حازم من أصحاب أبى حنيفة (185) وعن بعض الظاهرية (186) وعن ابن البنا من الحنابلة (187) ، وحجة من قال بإجماع الأربعة، أو الخمسة، قوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى، عضوا عليها بالنواجذ "، فقد أوجب اتباع سنتهم كما أوجب اتباع سنته والمخالف لسنته لا يعتد بقوله، فكذلك المخالف لسنتهم.
وحجة من قال: بإجماع الشيخين قوله عليه الصلاة والسلام: " اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر
وعمر ".
قال الآمدى: وهذا معارض بقوله عليه الصلاة والسلام: " أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم أهديتم " وليس العمل بأحد الخبرين أولى من العمل بالآخر، فبطل الاستدلال بحديث " عليكم بسنتى " وحديث " اقتدوا بالذين من بعدى " (188) .
وقال صاحب طلعة الشمس الإباضى:
" إن سنة الخلفاء الراشدين كسنته صلى الله عليه وسلم فى وجوب الاتباع، لا فى اعتبار الإجماع، ولم يخص النبى صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة بل أراد كل خليفة حق، ولا شك أنه قد جاء من بعدهم خليفة حق من أئمة المسلمين رضى الله عنهم فلا وجه لتخصيص الأربعة " (189) .
وفى حواشى هداية العقول للزيدية: إن حديث " اقتدوا بالذين من بعدى " ضعفه الذهبى، وحديث
" عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى " رواه أبو داود وضعفه ابن القطان، وحديث
" أصحابى كالنجوم " ضعفه أحمد (190) .
وذكر ابن قدامة المقدسى الحنبلى فى روضة الناظر: أنه قد نقل عن أحمد رحمه الله ما يدل على أنه لا يخرج عن قول الخلفاء الأربعة إلى قول غيرهم، وكلام أحمد فى إحدى الروايتين عنه يدل على أن قولهم حجة، ولا يلزم من كل ما هو حجة أن يكون إجماعا ".
فهذا تحرير لمذهب ابن حنبل فى هذه المسألة، وقد علق عليه شارح الروضة بأنه هو الحق (191) .
ثامنا: إجماع الحرمين والمصرين
المراد بالحرمين مكة والمدينة، وبالمصرين الكوفة والبصرة، وقد ذكر الغزالى: " إن قوما قالوا المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة، والمصرين الكوفة والبصرة، وما أراد هؤلاء، والقائمون بإجماع أهل المدينة، إلا أن هذه البقاع قد جمعت فى زمن الصحابة أهل الحل والعقد. ثم بين الغزالى أن ذلك غير مسلم، (192) ولم يبين الغرالى من هم القائلون بذلك.
وجاء فى هداية العقول، من كتب أصول الزيدية: " حكى الأمدى وغيره عن بعض، القول بأن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة على غيرهم، وقيل: بل إجماع البصرة والكوفة فقط، حكاه الشيخ أبو إسحاق فى اللمع.
وقيل: إجماع أهل الكوفة وحدها كما نقل عن حكاية ابن حزم.
وقيل: إجماع البصرة وحدها، كما نقله بعض شراح المحصول " (193) .
وقال الشوكانى فى إرشاد الفحول: وقد زعم بعض أهل الأصول أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة، ولا وجه لذلك، وقد قدمنا قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة، فمن قال بذلك فهو قائل بحجية إجماع أهل مكة والمدينة والمصرين من باب أولى.
قال القاضى: وإنما خصوا هذه المواضع لاعتقادهم تخصيص الإجماع بالصحابة، وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ.
قال الزركشى: وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا فى كل عصر، بل فى عصر الصحابة فقط.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازى: قيل إن المخالف أراد زمن الصحابة والتابعين، فإن كان هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء فى هذه البقاع، ولكنهم لم يجتمعوا فيها (194) .
وجمهور الأصوليين على غير هذا الرأى، ولم يقل بذلك أحد من المذاهب التى تقول بالإجماع والحجة فى ذلك أنهم بعض الأمة، والأدلة التى ثبتت بها حجية الإجماع متناولة لأهل الحل والعقد كلهم كما سبق.
تاسعا: إجماع الأكثر
مع مخالفة الأقل
اختلف العلماء فى انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل، ومنهم من يعبر عن ذلك بندرة المخالف أى قلته غاية القلة، كإجماع من عدا ابن عباس على العول مع مخالفته فيه، وإجماع من عدا أبا موسى الأشعرى على أن النوم ينقض الوضوء مع مخالفته فى ذلك، وإجماع من عدا أبا طلحة على أن كل البرد يفطر، مع مخالفته فى ذلك.
فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد. قال الآمدى فى تأييد هذا المذهب:
والمختار مذهب الأكثرين، ويدل عليه أمران:
الأول: أن التمسك فى كون الإجماع حجة إنما هو بالأخبار الواردة فى السنة، الدالة على عصمة الأمة وعند ذلك فلفظ " الأمة " فى الأخبار يحتمل أنه أراد به كل الموجودين من المسلمين فى أى عصر كان، أى جميع أهل الحل والعقد منهم، ويحتمل أنه أراد به الأكثر كما يقال: بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف والمراد به الأكثر، لكن حمله على الأكثر بطريق المجاز، ولا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة، ولهذا يصح أن يقال إذا شذ عن الجماعة واحد، ليمس هم كل الأمة، ولا كل المؤمنين بخلاف ما إذا لم يشذ منهم أحد، وعلى هذا فيجب حمل لفظ " الأمة " على الكل.
الثانى: أنه قد جرى مثل ذلك فى زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم على خلاف الواحد، بل سوغوا له الاجتهاد فيما ذهب إليه مع مخالفة الأكثر، ولو كان إجماع الأكثر حجة ملزمة للغير، لما كان كذلك، أى لما سوغوا له أن يجتهد، وقد أجمعوا ولبادروا بالإنكار والتخطئة (195) .
وهذا الرأى هو الذى اختاره جمهور علماء المذهب وساروا فى كتبهم على ترجيحه (196) .
وذهب جماعة إلى انعقاد الإجماع إذا اتفق الأكثر وخالف الأقل، وممن قال بذلك: محمد بن جرير الطبرى، وأبو بكر الرازى وأبو الحسين الخياط، وأحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين عنه، وينقل عن بعض الزيدية الميل إليه (197) ، واحتج أصحاب هذا المذهب بما ورد من عصمة الأمة عن الخطأ، وقالوا: أن لفظ الأمة يصح إطلاقه على أهل العصر، وإن شذ منهم الواحد والاثنان ويرشحه قوله: عليه الصلاة والسلام " عليكم بالسواد الأعظم "،: " عليكم بالجماعة "،: " يد الله على الجماعة "،: " إياكم والشذوذ " والواحد والاثنان بالنسبة إلى الخلق الكثير شذوذ، " الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد".
وقد اعتبرت خلافة أبى بكر رضى الله عنه ثابتة بالإجماع وإن خالف فى ذلك سعد ابن عبادة، ولولا أن إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل حجة لما كان أمامة أبى بكر رضى الله عنه ثابتة بالإجماع، ثم إن خبر الواحد بأمر لا يفيد العلم، وخبر الجماعة إذا بلغ عدد التواتر يفيد العلم، فليكن مثله فى باب الاجتهاد والإجماع.
وقد أنكرت الصحابة على ابن عباس خلافه فى ربا الفضل فى النقود، وتحليل المتعة، ولولا أن اتفاق الأكثر حجة لما أنكروا عليه، فإنه ليس للمجتهد الإنكار على المجتهد إلى غير ذلك من وجوه الاستدلال وكلها قد دارت فيه المناقشة بين المثبتين والمخالفين- (198) وهناك آراء أخرى كرأى من يقول: إن عدد الأقل إن بلغ التواتر لم يعتد بالإجماع دونه، وإلا كان معتدا به (199) .
ولم ينسبوا هذا الرأى إلى قائل معين، وكرأى أبى عبد الله الجرجانى، وأبى بكر الرازى من الحنفية: أنه إذا سوغت الجماعة الاجتهاد للمخالف فيما ذهب إليه كان خلافه معتدا به، مثل خلاف ابن عباس رضى الله عنهما فى توريث الأم ثلث جميع المال مع الزوج والأب، أو مع المرأة والأب وإن لم يسوغوا له ذلك الاجتهاد فلا يعتد بخلافه، مثل خلاف ابن عباس رضى الله عنهما فى تحريم ربا الفضل، وخلاف أبى موسى الأشعرى فى أن النوم ينقض الوضوء (200) .
وكالرأى الذى اختاره ابن الحاجب المالكى من أن قول الأكثر يكون حجة، ولا يكون إجماعا
قطعيا (201) .
فمذهب ابن الحاجب فى عدم اعتبار اتفاق الأكثر إجماعا هو مذهب الجمهور، أى أن الإجماع لا ينعقد مع وجود المخالف وإن قل.
ولكنه يتكلم فى حجية اتفاق الأكثر وعدم قطعيته وكالرأى القائل بأن اتباع الأكثر أولى وإن جاز خلافه (202)
عاشرا: إجماع الصحابة مع خلاف
من أدركهم من مجتهدى التابعين
اختلفوا فى التابعى إذا كان من أهل الاجتهاد فى عصر الصحابة، هل ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته أو لا ينعقد؟
فمنهم من قال: إن كان التابعى من أهل الاجتهاد قبل انعقاد إجماع الصحابة فلا يعتد بإجماعهم مع مخالفته، وإن بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد إجماع الصحابة فلا يعتد بخلافه.
والقائلون بذلك هم أصحاب الشافعى وأصحاب أبى حنيفة، وهو مذهب أحمد ابن حنبل فى أحد الروايتين عنه.
ومذهب مالك والزيدية والإباضية على أصح القولين عندهم (203) .
والدليل على ذلك: أنه فى حالة بلوغ التابعى رتبة الاجتهاد قبل إجماع الصحابة لا يصدق على الصحابة وحدهم لفظ " الأمة " مع مخالفة التابعى المجتهد لهم، وقد كان كثير من التابعين يفتون فى عهد الصحابة، وكان الصحابة يسوغون ذلك لهم، بل كانوا أحيانا يحيلون عليهم فى المسائل كالذى روى عن ابن عمر أنه سئل عن فريضة، فقال: اسألوا فيها سعيد بن جبير فإنه أعلم بها منى.
وعن الحسين بن على كرم الله وجهه أنه سئل عن مسألة فقال: اسألوا الحسن البصرى، إلى غير ذلك.
أما فى حالة عدم بلوغ التابعى مرتبة الاجتهاد عند إجماع الصحابة فالأمر يختلف إذ لفظ " الأمة " ينطبق على الذين أجمعوا وحدهم، فهم أهل الحل والعقد حينئذ دون غيرهم، ولا عبرة ببلوغ التابعى مرتبة الاجتهاد بعد ذلك، فقد قام الإجماع قبله وانتهى الأمر.
وينبغى أن يعلم أن هؤلاء هم الذين يقولون بعدم اشتراط انقراض العصر، أى أن الإجماع يعتبر قائما فى لحظة انعقاده ولا ينتظر انقراض المجمعين بالموت حتى يتبين أن أحدا منهم لم يرجع وسيأتى الكلام على هذا الشرط.
ومنهم من قال: لا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفة التابعى سواء أكان من أهل الاجتهاد حالة إجماعهم أو صار مجتهدا بعد إجماعهم لكن فى عهدهم، وهؤلاء هم الذين يشترطون فى تمام الإجماع انقراض عصر المجمعين.
وكلا الفريقين من الذين يقولون بأنه لا ينعقد الإجماع بموافقة الأكثر مع مخالفة الأقل.
ومن الناس من يقول: لا عبرة بمخالفة التابعى أصلا إذا أجمع الصحابة، والقول بذلك مروى عن أحمد فى إحدى روايتين.
ويتفق هذا مع مذهب القائلين بأن إجماع الأكثر معتد به ولو خالف الأقل. ودليل القائلين بعدم الاعتداد بخلاف التابعى هو ما ورد من النصوص فى اتباع الأصحاب، وأن لهم مزية الصحبة.
وبين المختلفين نقاش فى الأدلة لا نطيل بذكر (204) .
شروط الإجماع
يذكر علماء الأصول فى مختلف المذاهب شروطا للإجماع كل منها وقع الخلاف فيه بينهم: هل يشترط أو لا يشترط؟ وهذه هى:
انقراض العصر
والمراد به: انقراض المجمعين فى عصر ما، فذهب فريق من العلماء إلى أن اتفاق الأمة لا يعتبر إجماعا تقوم به الحجة إلا إذا انقرض المجمعون وماتوا كلهم، لأن رجوعهم أو رجوع بعضهم قبل الموت محتمل، ومع هذا الاحتمال لا يثبت الاستقرار (205) .
وهذا القول هو قول الإمام أحمد بن حنبل وأبى بكر بن فورك (206) ، وبعض الظاهرية (207)
واحتجوا على قولهم بأن أبا بكر سوى بين الصحابة فى العطاء، وخالفه عمر فى التفضيل بعد إجماعهم على رأى أبى بكر فلو كان الإجماع الذى انعقد فى عهد أبى بكر علي التسوية حجة منذ انعقد، لما جاز لعمر مخالفته فاقتضى ذلك كون انقراض العصر شرطا أى أن لكل من المجمعين أن يرجع عن رأيه إذا رأى ذلك فهو اتفاق موقوف لا يتبين أنه صار إجماعا إلا بانقراض المجمعين كلهم ويتبع ذلك أنه لا يجوز لأحد بعد انقراض العصر أن يجتهد فيما تبين أنه إجماع، ومثلوا لذلك أيضا: باتفاق على وعمر وغيرهما من الصحابة على تحريم بيع أم الولد، ثم إن عليا خالفهم بعد ذلك ورأى جواز بيعها، وما ذلك إلا لأنه اعتبر الإجماع غير قائم، لأن العصر لم ينقرض (208) .
وذهب فريق آخر إلى أن انقراض العصر ليس شرطا بل إذا اتفقت الأمة ولو فى لحظة - أى اتفق المجتهدون فيها- انعقد الإجماع وتقررت عصمتهم عن الخطأ ووجب اتباعهم، ولا يجوز لأحد منهم ولا ممن يأتى بعدهم أن يخرج على هذا الإجماع، وذلك لأن الحجة فى اتفاقهم وقد حصل.
وليس فى الأدلة المثبتة للإجماع اشتراط ذلك، ولم يعتبروا أن الإجماع قام على رأى أبى بكر فى التسوية، بل رأوا أن عمر كان مخالفا فيه من أول الأمر، وإنما كان سكوته لكون رأى الخليفة هو المقدم، وكذلك لم يصح فى نظرهم أن الصحابة جزموا جميعا بتحريم بيع أم الولد قبل أن يخالفهم على (209) .
وعلى هذا أكثر أصحاب الشافعى وأكثر أصحاب أبى حنيفة والأشاعرة والمعتزلة (210) ، والمالكية
(211) ، والزيدية (212) ، وابن حزم الظاهرى (213) ، وهو الصحيح عند الإباضية (214) .
ومن الناس من فصل فقال: إن كانوا قد اتفقوا بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما لا يكون انقراض العصر شرطا، وإن كان الإجماع بذهاب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم، وسكت الباقون عن الإنكار مع اشتهاره فيما بينهم فهو شرط.
وهذا هو ما اختاره الآمدى، وروى عن أبى على الجبائى (215) .
ويتبين مما سبق أن ثمرة الخلاف تظهر فى جواز رجوع أحد المجمعين عن رأيه أو عدم جواز ذلك له، وفى جواز اجتهاد من بعد المجمعين فى الحادثة مع وجود أحد من أهل ذلك الإجماع على قيد الحياة أو عدم جواز ذلك (216) .
بلوغ المجمعين حد التواتر
التواتر هو تتابع الخبر عن جماعة بحيث يفيد العلم، والكلام فى تحقيق معناه وما به يكون، موضعه مصطلح تواتر.
ونكتفى هنا بما يتصل باشتراطه أو عدم اشتراطه فى الإجماع.
فمن استدل على كون الإجماع حجة بدلالة العقل- وهى ما سبق ذكره من أن الجمع الكثير إذا اتفقوا علي شىء اتفاقا جازما فلا يتصور تواطؤهم على الخطأ- فلابد من اشتراط ذلك عنده لتصور الخطأ على من دون حد التواتر، وذلك هو رأى إمام الحرمين وبعض العلماء.
وأما من احتج على كون الإجماع حجة بالأدلة السمعية التى هى الآيات والأحاديث السابق ذكرها فقد اختلفوا: فمنهم من شرطه، ومنهم من لم يشترطه.
وجمهور أهل المذاهب على عدم اشتراطه، أنه متى اتفق المجتهدون فى عصر ما على حكم فذلك إجماع مهما كان عدد المجمعين، بلغوا حد التواتر أم لا، لأن لفظ "الأمة" و "المؤمنين " صادق عليهم موجب لعصمتهم ولاتباعهم (217) .
مستند الإجماع
جمهور أهل المذاهب على أن الإجماع لابد له من مستند لأن أهل الإجماع ليس لهم الاستقلال بإثبات الأحكام فوجب أن يكون عن مستند، ولأنه لو انعقد عن غير مستند لاقتضى إثبات نوع، أى إحداث دليل، بعد النبى صلى الله عليه وآله وسلم وهو باطل (218) .
وفى بيان ذلك يقول صاحب " طلعة الشمس " الإباضى: من شروط الإجماع أن يكون للمجمعين مستند يستندون إليه من كتاب أو سنة أو اجتهاد سواء أكان ذلك المستند قطعيا أم ظنيا، فإن علمنا مستندهم كان ذلك زيادة لنا فى الاطمئنانية وتوسعا فى العلم، وإن جهلناه مع حصول الإجماع منهم وجب علينا أن نحسن الظن بهم، وأنهم لم يجمعوا إلا وعندهم مستند من قبل الشارع (219) .
وحكى عبد الجبار عن قوم أنه يجوز أن يكون عن غير مستند، وذلك بأن يوفقهم الله لاختيار الصواب من دون مستند، وهذا الرأى قرر العلماء ضعفه (220) . واعتبره الآمدى شذوذا.
وفى طلعة الشمس: أنه قول لبعض أهل الأهواء (221) .
والقائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند قد اتفقوا على صحة الإجماع وثبوت حجيته إذا كان المستند دليلا قاطعا (222) إلا ما روى عن بعض العلماء من أنه إذا كان الدليل متواترا مفيدا للمعنى المجمع عليه فإن الحكم يكون ثابتا به، ولا يحتاج إلى إثباته بالإجماع (223) .
أما المستند الظنى فقد اختلف العلماء فى صحة جعله مستندا للإجماع.
قال الحنفية: قد يكون سبب الإجماع من أخبار الأحاد كإجماعهم على عدم جواز بيع الطعام قبل القبض استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الطعام قبل القبض ".
وقد يكون سبب الإجماع قياسا، كإجماعهم على حرمة الربا فى الأرز استنادا إلى القياس على الأشياء الستة التى هى البر والشعير.. إلخ.
ثم أجمعوا على هذا القياس، فصار القياس بمعاضدة الإجماع قطعيا (224) ، وإلى هذا ذهب أيضا: الشافعية (225) ، والمالكية (226) ، والحنابلة (227) ، والزيدية (228) ، والإباضية (229) ، وذهب الظاهرية إلى أنه لا يصح اعتبار القياس مستندا للإجماع وذلك بناء على أصلهم فى إنكار القياس، ووافقهم محمد ابن جرير الطبرى فى جانب فقال: إن القياس حجة، ولكن الإجماع إذا صدر عنه لم يكن مقطوعا بصحته، وليس القياس فى رأيه كخبر الواحد، لأن الصحابة أجمعوا. على خبر الواحد بخلاف القياس (230) .
وفصل بعضهم بين أن يكون القياس جليا فيصلح مستندا، أو خفيا فلا يصلح، ونقل هذا عن بعض الشافعية (231) .
ثم اختلفوا: هل يجب على المجتهد ان يبحث عن مستند الإجماع أو لا يجب عليه ذلك؟
والأكثرون على أنه لا يجب عليه ذلك وأنه إذا وقع الإجماع وجب المصير إليه لأنهم لا يجمعون إلا عن مستند (232) .
عدم مخالفة الإجماع لنص
فى الكتاب أو السنة
إذا عارض الإجماع نص من الكتاب أو السنة فعلماء الأصول يختلفون: فمنهم من يقول: أن من شرط الإجماع ألا يكون على خلاف نص فى الكتاب أو فى السنة، ومن ثم لا يعتبرون مثل هذا الإجماع معتدا به لو فرض أنه وقع، وهؤلاء هم الإباضية والظاهرية.
يقول صاحب طلعة الشمس: الشرط الثانى: ألا يكون هناك نص من كتاب أو سنة يخالف ما أجمعوا عليه، فإن الإجماع على خلاف نص الكتاب أو السنة ضلال، ولا تجتمع الأمة على ضلال (233) .
ويفهم من هذا أن المسألة افتراضية على معنى أنه لو فرض وقوع إجماع على خلاف نص من الكتاب أو السنة لما كان هذا الإجماع معتدا به، بل يكون باطلا وضلالا، وذلك لا يتصور أن يكون فإن الأمة لا تجتمع على الضلال.
وكلام ابن حزم الظاهرى واضح فى إفادة هذا المعنى إذ يقول: إن الإجماع لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها بضرورة العقل: إما أن يجمع الناس على ما لا نص فيه، وهو باطل- أى لأنه لابد للإجماع من مستند كما سبق- وإما أن يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا كفر مجرد، أو يكون إجماع الناس على شىء منصوص، فهذا هو قولنا وهذه قسمة ضرورية لا نحيد عنها أصلا وهو كما ذكرنا، فاتباع النص فرض سواء أجمع الناس عليه، أو اختلفوا فيه، لا يزيد النص مرتبة فى وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه ولا يوهن وجوب اتباعه مخالفة الناس فيه لم بل الحق حق وإن اختلف فيه والباطل باطل وإن كثر القائلون به، ولولا صحة النص عن النبى صلى الله عليه وسلم بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل، أى على خلاف نص لقلنا: والباطل باطل وإن أجمع عليه ومن لا سبيل إلى الإجماع على باطل (234) .
وكون الإجماع لا يقع على خلاف النص، هو قدر مسلم به عند الجمهور، لا عند الإباضية والظاهرية فقط، نعم إنه ورد فى كتبهم ما قد يفهم منه أن الإجماع قد يعارض النص فيقضى بالإجماع على النص، كقولهم: إن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة (235) ، وقولهم: وهو، أى الإجماع، مقدم على الكتاب والسنة والقياس (236) .
وقولهم: يجب على المجتهد أن ينظر أول شىء إلى الإجماع، فإن وجده لم يحتج إلى النظر فى سواه ولو خالفه كتاب أو سنة علم أن ذلك منسوخ أو متأول لكون الإجماع دليلا قاطعا لا يقبل نسخا ولا تأويلا (237) لكن هذا محمول عند العلماء على أحد معنيين: إما أن يراد به أن الإجماع محكم فى تفسير المراد من النص كالإجماع على أن الأم تحجب عن الثلث إلى السدس بأخوين مع قوله تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " فهذا ظاهره أنه إجماع على خلاف النص لأن الأخوين ليسا بأخوة، ولكن هذا لا يكون مصادما للنص إلا إذا ثبت أن لفظ الأخوة لا ينطلق على الأخوين، وهذا لم يثبت ثبوتا قاطعا، فالإجماع هنا مفسر لأحد الأمرين الجائز إرادة كل منهما لغة أو استعمالا (238) .
وإما أن يراد به أن الإجماع له مستند آخر غير هذا الدليل المعارض له لأنهم لا يجمعون إلا عن مستند فربما كان الدليل المخالف خبرا ضعيفا أو منسوخا حكمه، ولذلك يقول المقدسى فى روضة الناظر: الإجماع لا ينعقد على خلاف النص لكونه معصوما عن الخطأ وهذا يفضى إلى إجماعهم على الخطأ، فإن قيل: فيجوز أن يكونوا قد ظفروا بنص كان خفيا هو أقوى من النص الأول أو ناسخ له، قلنا: فيضاف النسخ إلى النص الذى أجمعوا عليه لا إلى الإجماع (239) .
ومن الناس من يرى أن الإجماع يرفع حكم الكتاب والسنة، ونسبه عبد العزيز البخارى إلى بعض مشايخ الحنفية وبعض المعتزلة، ويستدلون على هذا بمسألة الإجماع على حجب الأم بالأخوين مع قوله تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " قالوا: إن ابن عباس راجع فيها عثمان فقال له: كيف تحجبها بأخوين وقد قال الله تعالى: "فإن كان له أخوة فلأمه السدس " والأخوان ليسا بأخوة؟
فقال عثمان: حجبها قومك يا غلام 0
فدل ذلك على جواز نسخ الحكم المنصوص عليه بالإجماع، واستدلوا كذلك بأن المؤلفة قلوبهم سقط نصيبهم فى الصدقات بالإجماع المنعقد فى زمان أبى بكر رضى الله عنه، وبأن الإجماع حجة من حجج الشرع موجبة للعلم كالكتاب والسنة فيجوز أن يثبت النسخ به كالنصوص، وقد تقدم ما ردوا به فى مسألة توريث الأم السدس إذا كان معها أخوان، أما الأدلة الأخرى التى استدلوا بها فقد فندها عبد العزيز البخارى بعد ذلك (240) . وبعض العلماء يرسم الطريق للتخلص من التعارض بين الإجماع والنص، فيقول الزيدية: أن القطعى لا يعارض، لأن مخالفه إما قطعى أو ظنى والكل ممتنع: وإلا لزم فى القطعيين أن يثبت مقتضاهما وهما نقيضان والظن ينتفى حين نقطع باليقين.
وأما الإجماع الظني فإذا عارضه نص ظنى من الكتاب أو السنة فالجمع واجب بين الدليلين إن أمكن، وذلك بالتأويل حيث كان أحدهما قابلا له بوجه ما، فيؤول القابل له من الإجماع أو النص، أو بالتخصيص حيث كان أحدهما قابلا له، ثم إن لم يمكن الجمع بأحد الأمرين وجب الترجيح بأى وجوهه (انظر: ترجيح) .
فإذا لم يمكن الترجيح لأحدهما على الآخر وجب إهمالهما لأن العمل بهما غير ممكن والعمل بأحدهما من دون الآخر ترجيح بلا مرجح (241) ، ومثل هذا فى المنهاج للبيضاوى وشرحه للإسنوى (242) .
عدم سبق إجماع مخالف
اشترط بعض العلماء فى الإجماع ألا يكون مسبوقا بإجماع مخالف له، وبعضهم لم يشترط هذا الشرط، وبعضهم يشترطه فى حال دون حال، وتفصيل القول فى ذلك أنه: إذا أجمع أهل عصر على حكم ثم ظهر لهم هم أنفسهم ما يوجب الرجوع عنه وأجمعوا على ذلك الذى ظهر لهم ففى جواز الرجوع والاعتداد بالإجماع الجديد خلاف مبنى على الخلاف المتقدم فى اشتراط انقراض عصر أهل الإجماع فمن رأى أن الإجماع لا يكون قائما إلا إذا انقرض المجمعون جوز لهم الرجوع وأن يتفقوا على رأى جديد، ومن لم يشترط انقراض العصر وقرر أن الإجماع ينعقد منذ اللحظة الأولى للاتفاق، لم يجوز الرجوع للمجمعين ولم يعتد بإجماعهم الجديد، هذا إذا كان أهل الإجماع الثانى هم أصحاب الإجماع الأول.
أما إذا كان الإجماع الثانى من غير الذين أجمعوا أولا، ففى ذلك خلاف أيضا بين الجمهور وبعض
العلماء (243) .
فالجمهور يرون أنه لا يجوز أن يأتى إجماع قوم على خلاف إجماع من سبقهم، لأن الإجماع الأول قد ثبت وصار حجة فلا يجوز الخروج عليه بل يكون ضلالا، وهذا هو المعبر عنه فى بعض كتب الأصول بنسخ الإجماع بالإجماع، وفى ذلك يقول المقدسى الحنبلى: فأما الإجماع فلا ينسخ ولا ينسخ به، لأنه لا يكون إلا بعد انقراض زمن النص، أى لا يكون إلا بعد عهد النبوة، والنسخ لا يكون بعدها، والنسخ لا يكون إلا بنص، ولا ينسخ بالإجماع لأن النسخ إنما يكون لنص (244) ، وحاصله: أنه لا يمكن أن ينسخ الإجماع بإجماع آخر، لأن الإجماع الثانى وإن كان لا عن دليل فهو خطأ وإن كان عن دليل فذلك يستلزم أن يكون الإجماع الأول خطأ، والإجماع لا يكون خطأ (245) .
ويقول الزيدية: والمختار أنه لا يصح إجماع على حكم بعد الإجماع على خلافه.
وإلا لزم بطلان الإجماع الأول، أو تعارض الإجماعين وكلاهما باطل (246) ، ومثل ذلك عند الإباضية (247) ، ويرى أبو عبد الله البصرى والإمام الرازى أنه يجوز الإجماع على خلاف إجماع سبق، لأنه يتصور أن يكون الإجماع الأول حجة إلى غاية هى حصول إجماع آخر (248) .
ولما كان الإجماع عند الحنفية على مراتب قرر بعضهم أن النسخ فيه جائز بمثله، وبذلك يقول الشيخ فخر الإسلام البزدوى دون تفريق بين ما إذا كان المجمعون على الرأى الثانى هم نفس المجمعين على الرأى الأول المخالف أو غيرهم وهذا نص كلامه، والنسخ فى ذلك جائز بمثله، أى فى الإجماع، حتى إذا ثبت حكم بإجماع عصر يجوز أن يجتمع أولئك على خلافه فينسخ به الأول ويستوى فى ذلك أن يكون فى عصرين أو عصر واحد (249) .
وقال شارحه عبد العزيز البخارى فى هذ الموضع مفسرا له ومعقبا عليه: والنسخ فى ذلك أى فى الإجماع جائز بمثله حتى جاز نسخ الإجماع القطعى بالقطعى، ولا يجوز بالظنى.
وجاز نسخ الظنى بالظنى والقطعى جميعا، فلو أجمعت الصحابة على حكم ثم أجمعوا على خلافه بعد مدة يجوز ويكون الثانى ناسخا للأول لكونه مثله، ولو أجمع القرن الثانى على خلافهم لا يجوز لأنه لا يصلح ناسخا للأول لكونه دونه، ولو أجمع القرن الثانى على حكم ثم أجمعوا بأنفسهم أو من بعدهم على خلافه جاز، لأنه مثل الأول فيصلح ناسخا له.
وإنما جاز نسخ الإجماع بمثله، لأنه يجوز أن تنتهى مدة حكم ثبت بالإجماع، ويظهر ذلك بتوفيق الله تعالى أهل الاجتهاد على إجماعهم على خلاف الإجماع الأول، كما إذا ورد نص بخلاف النص الأول ظهر به أن مدة ذلك الحكم قد انتهت، هذا مختار الشيخ.
فأما جمهور الأصوليين فقد أنكروا جواز كون الإجماع ناسخا أو منسوخا (250) ، وحكى أبو الحسن السهيلى فى آداب الجدل له فى هذه المسألة: أنه إذا أجمعت الصحابة على قول ثم أجمع التابعون على قول آخر فعن الشافعى جوابان:
أحدهما، وهو الأصح: أنه لا يجوز وقوع مثله، أى لا يمكن، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة.
والثانى: لو صح وقوعه فإنه يجب على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة (251) .
وعلى كلا الجوابين يكون الشافعى رحمه الله تعالى ممن يقولون بعدم الاعتداد بإجماع أهل عصر على خلاف إجماع أهل عصر سبقه.
عدم تقدم الخلاف فى عصر سابق
قال الآمدى: إذا اختلف أهل عصر من الأعصار فى مسألة من المسائل على قولين، واستقر خلافهم فى ذلك، ولم يوجد له نكير، فهل يتصور انعقاد إجماع من بعدهم على أحد القولين بحيث يمتنع على المجتهد المصير إلى القول الآخر أم لا؟
ذهب أبو بكر الصيرفى من أصحاب الشافعى وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعرى وإمام الحرمين والغزالى وجماعة من الأصوليين إلى امتناعه.
وذهب المعتزلة وكثير من أصحاب الشافعى وأبى حنيفة إلى جوازه، والأول هو المختار (252) .
وقد فهم من كلامه: أن أكثر الحنفية يقولون بجوازه، وهذا هو ما ذكر فى مسلم الثبوت وشرحه وقررا أنه حجة بدليل إجماع التابعين على متعة الحج بعد خلاف الصحابة فيها، وغير ذلك (253) .
وأن كثيرا من أصحاب الشافعى كذلك، وهذا ما ذكره الإسنوى فى شرحه على المنهاج وأيده بمثل ما أيده به القائلون بذلك من الحنفية وغيرهم، وأن بعض الشافعية يقول بالامتناع وقد بين الإسنوى ذلك أيضا (254) .
ونضيف إلى ذلك أن المالكية أيضا لهم قولان كذلك، والصحيح منهما أنه لا يمتنع (255) ، وكذلك الحنابلة (256) .
وكذلك للزيدية قولان: أصحهما أنه جائز وأنه، أى الإجماع الثانى، إجماعهم يجب اتباعه (257) .
والإباضية يقولون بالامتناع (258)
كما يرى ذلك أيضا ابن حزم الظاهرى (259) وحجة القائلين بالامتناع: أن الأمة إذا اختلفت على القولين واستقر الخلاف فى ذلك بعد تمام النظر والاجتهاد، فقد انعقد إجماعهم على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين، وهم معصومون من الخطأ فيما أجمعوا عليه، فلو أجمع من بعدهم على أحد القولين على وجه يمتنع معه على المجتهد المصير إلى القول الآخر، مع أن الأمة مجمعة فى العصر الأول على جواز الأخذ به، ففيه تخطئة أهل العصر الأول فيما ذهبوا إليه، ولا يمكن أن يكون الحق فى جواز الأخذ بذلك القول والمنع من الأخذ به معا، فلابد وأن يكون أحد الأمرين خطأ، أو يلزمه تخطئة أحد الإجماعين القاطعين وهو محال، فثبت أن إجماع التابعين على أحد قولى أهل العصر الأول يفضى إلى أمر ممتنع فكان ممتنعا لكن ليس هذا الامتناع عقليا، بل سمعيا (260) ، أما حجة القائلين بالجواز فهى وقوع ذلك فعلا إذا اختلف الصحابة فى أشياء ذكروها ثم أجمع التابعون على أحد القولين المختلف فيهما ولا أدل على جواز الأمر وإمكانه من وقوعه فعلا.
فقد اتفق الصحابة على قتال مانع الزكاة بعد اختلافهم فى ذلك إلى غير ذلك من الأمثلة وهناك مناقشة فى الأمثلة التى ذكرت لا نطيل بإيرادها (261) .
عدم سبق الخلاف المستقر من المجمعين
موضوع هذه المسألة هو: هل يجوز اتفاق أهل العصر على الحكم بعد اختلافهم فيه وهى قريبة من المسألة السابقة، والفرق بينهما أن أهل الإجماع فى هذه المسألة هم الراجعون بأعيانهم عما أجمعوا عليه، والمخالفون لأنفسهم، فإن المخالفين هم أهل العصر الثانى إذا أجمعوا على خلاف إجماع من سبقهم.
وحاصل الكلام فى هذه المسالة: أن الخلاف السابق إما أن يكون قد استقر بينهم بأن مضت مدة النظر والتأمل واستقر كل على ما رآه، وإما أن يكون غير مستقر بل هم فى فترة النظر وتقييد الرأى، فإذا استقر الخلاف بينهم على ما ذكرنا ثم بدا لهم أن يتفقوا على رأى واحد ويمنعوا من المصير إلى غيره ففى ذلك خلاف مبنى على مسألة انقراض العصر، أى موت المجمعين، فمن رأى اشتراطه فلا إشكال فى جواز اتفاقهم بعد اختلافهم، لأنه لم يتم الإجماع الأول فى نظره حتى تمتنع مخالفته، ومن لم يعتبر انقراض العصر شرطا، بل رأى أن الإجماع يتم منذ حصول الاتفاق ولا يحتاج تمامه إلى انقراض المجمعين، فإن هؤلاء اختلفوا فيما بينهم، فمنهم من جوزه واعتبره إجماعا بعد الخلاف وقال إنه يحسن، أن يكون وذلك هو رأى جمهور أهل المذاهب (262) وعليه أكثر الحنفية، والشافعية (263) ، والمالكية (264) ، والحنابلة (265) ، والزيدية (266) ، وابن حزم الظاهرى (267) ، ومنهم من منعه كالصيرفى (268) ، والإمام يحيى بن حمزة من الزيدية (269) ، وهو رأى
الإباضية (270) .
وإذا لم يكن الخلاف مستقرا فهو، أى الإجماع، جائز من باب أولى عند من يقول بالجواز بعد الاستقرار.
وقد اختار إمام الحرمين التفصيل، فإنه قال بعد حكاية الخلاف: والرأى الحق عندنا: أنه إذا لم يستقر الخلاف جاز وإلا فلا (271) .
مسائل خلافية تتعلق بالإجماع
فرض الأصوليون عدة مسائل تتعلق بالإجماع يدور فيها خلاف ينبنى على ما سبق ذكره من أحكام الإجماع وشروطه ونحن نعرض هذه المسائل مع الإيجاز فى أدلة المختلفين اكتفاء بالإشارة إلى ما ترجع إليه هذه الأدلة مما سبق:
إذا اختلفوا على قولين أو كثر
فهل لمن بعدهم إحداث قول زائد-؟
قد يتكلم المجتهدون جميعهم فى عصر ما فى مسألة ثم ينتهى أمرهم إلى الاختلاف فيها على قولين مثلا فهل لمن يأتى بعدهم من المجتهدين إحداث قول ثالث فى تلك المسألة؟
وقبل أن نذكر الآراء فى الإجابة عن هذا السؤال ننبه إلى أمرين:
أحدهما: أن المسألة مفروضة فيما إذا تكلم جميع المجتهدين فى عصر من العصور، لا فيما إذا تكلم بعضهم دون بعض.
الثانى: أن العلماء يفرضون فى هذه المسألة اختلاف الناظرين إلى قولين وهم لا يريدون خصوص القولين بل لو اختلفوا على ثلاثة أقوال أو أكثر فإن الكلام يأتى فى القول الزائد على ثلاثة كما يأتى فى القول الزائد على قولين سابقين، ولهذا جعلنا عنوان هذه المسألة " إذا اختلفوا على قولين أو أكثر.. إلخ ".
بعد هذا نذكر أن العلماء فى الإجابة عن هذا السؤال لهم ثلاثة مذاهب: فمنهم من منعه مطلقا وهم الأكثرون كما قال الإمام الرازى وعليه أكثر الحنفية كما فى المنار وفى التيسير أنه قد نص عليه الإمام محمد والشافعى فى رسالته (272) .
وجزم به القفال والقاضى أبوالطيب الطبرى والرويانى والصيرفى وقال به بعض الزيدية منهم أبو طالب والمؤيد بالله فى أحد قوليه (273) .
وممن يقول به الحنابلة (274) ، ودليلهم على ذلك يتلخص فىأن الأمة، أى المجتهدين كلهم فى عصر سابق، إذا اختلفوا على قولين فقد أجمعوا من جهة المعنى على المنع من أحداث قول ثالث، لأن كل طائفة توجب الأخذ بقولها أو بقول مخالفها (275) .
ويحرم الأخذ بغير ذلك على اعتبار أنه يكون خرقا للإجماع، وفى ذلك مناقشة.
ومنهم من جوزه مطلقا وعليه بعض الشيعة وبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر وبعض الزيدية وهو الصحيح عند الإباضية ونسبه جماعة منهم القاضى عياض إلى داود، وأنكر ابن حزم على من نسبه إلى داود (276) ، وحجتهم فى ذلك أن الذين تكلموا فى المسألة من قبل إنما هم مجتهدون يبحثون بحث المجتهدين ولم يصرحوا بتحريم القول الثالث، فليس أحداثه خرقا لإجماع سابق (277) .
وفى هذا مناقشة أيضا، ومنهم من فصل فقال: إن كان القول الثالث المحدث لم يرفع شيئا مما استقر عليه القولان الأولان جاز إحداثه لأنه لا محظور فيه، أى لأنه لم يخرق الإجماع المعنوى على القولين السابقين، وإن رفعه فلا يجوز لامتناع مخالفة الإجماع.
مثال الأول: اختلافهم فى جواز أكل المذبوح بلا تسمية، فقال بعضهم: يحل مطلقا سواء كان الترك عمدا أو سهوا.
وقال بعضهم: لا يحل مطلقا، فالتفصيل بين العمد والسهو ليس رافعا لشىء أجمع عليه القائلان الأولان بل هو موافق فى كل قسم منه لقائل.
ومثال الثانى: الجد مع الإخوة، فقد قال بعضهم: المال كله للجد فى التركة، وقال بعضهم: الجد يقاسم الإخوة فقد اتفق القولان على أن للجد شيئا من المال فالقول بحرمانه وإعطاء المال كله للإخوة قول ثالث رافع لما أجمع عليه الأولان فلا يجوز.
وبهذا التفصيل قال الإمام الرازى وأتباعه، واختاره الآمدى وابن الحاجب وروى عن الشافعى واختاره المتأخرون من أصحابه وهو المختار عند الزيدية وعليه المنصور بالله القاسم بن محمد والحسين ابنه صاحب هداية الطالبين فى أصول الزيدية وعليه أيضا الإمام مالك (278) .
إذا لم يفصلوا بين مسألتين
فهل لمن بعدهم التفصيل
إذا أجمع المجتهدون فى عصر ما بين مسألتين فى حكم واحد إما بالتحليل أو بالتحريم أو حكم بعض المجتهدين فيهما بالتحليل والبعض الآخر بالتحريم فهل يجوز لمن يأتى بعدهم أن يفرقوا بين هاتين المسألتين فى الحكم أو يعد ذلك خرقا لإجماع سبق؟
وهذه المسألة قريبة فى المعنى من التى قبلها فإن التفصيل بينهما بعد جمع السابقين لهما فى الحكم إحداث لقول ثالث فيهما ولأجل ذلك لم يفردها الآمدى ولا ابن الحاجب بل جعلاهما مسألة واحدة وحكما عليها بالحكم السابق، ولكن هناك فرقا بينهما وهو أن هذه المسألة مفروضة فيما إذا كان محل الحكم متعددا، وأما السابقة ففيما إذا كان متحدا (279) .
وحاصل القول فيها: أن السابقين إن صرحوا بعدم الفرق بين المسألتين فلا يجوز الفصل بينهما فى الحكم، وصرحوا بأن هذا القسم لا نزاع فيه، وإن ظن بعضهم أن فيه خلافا، أما اذا لم ينص السابقون على عدم الفرق بينهما فى الحكم فهناك ثلاثة مذاهب كالمسألة السابقة (280) :
1- قول بالجواز مطلقا.
2- وقول بالمنع مطلقا.
3- وقول بالتفصيل خلاصته:
أنه إن اتحد الجامع بين المسألتين فلا يجوز كتوريث العمة والخالة، فإن علة توريثهما عند من ورثهما أو عدم توريثهما عند من لم يورثهما هو كونهما من ذوى الأرحام، وكل من ورث واحدة أو منعها، قال فى الأخرى كذلك، فصار ذلك بمثابة قولهم: لا تفصلوا بينهما، وإن لم يتحد الجامع بينهما فيجوز، كما إذا قال بعضهم: لا زكاة فى مال الصبى ولا فى الحلى المباح.
وقال بعضهم بالوجوب فيهما فيجوز الفصل، وسبب هذا التفصيل أن اتحاد الجامع فى المسألتين شبيه بما لو صرحوا بعدم الفرق فيكون التفصيل معه فرقا للإجماع.
أما إذا لم يتحد الجامع فلا يظهر أن جمع الأولين بين المسألتين يدل على عدم الفرق ويكون بمثابة نص عليه ومن ثم جازت التفرقة لأنه لا خرق فيها لإجماع، وبهذا يتبين أن أصل القاعدة وهى أن أحداث قول ثالث فى المسألة الأولى أو تفصيل بين مسألتين فى الثانية أن استلزما خرقا للإجماع منعا، وإن لم يستلزما ذلك جازا، وأن الخلاف إنما هو فى تطبيق هذه القاعدة على جزئيات
المسائل (281) .
إذا اختلفوا ثم ماتت إحدى الطائفتين
فهل يصير قول الباقين إجماعا وحجة
اختلف العلماء فى ذلك: فمنهم من قال: يصير قول الباقين إجماعا وحجة لأنه أصبح قول كل الأمة وهذا هو الذى جزم به الإمام الرازى وأتباعه (282) .
والأكثرون على أن قول الباقين لا يصير إجماعا لأن قول الذين ماتوا قائم بدليله، وإن مات أصحابه والمذاهب لا تموت بموت أصحابها، وإنما اعتبر خلاف المخالف لدليله لا لعينه (283) .
ويقول الغزالى: إن الباقين ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى تلك المسألة التى أفتى فيها الميت فإن فتواه لا ينقطع حكمها بموته (284) .
هل يعتبر عدم العلم بالخلاف
حكاية للإجماع
قال الصيرفى: لا يكون إجماعا لجواز الاختلاف (285) ، وكذا قال ابن حزم فى الأحكام (286) .
وقال بعض الشافعية: إذا قال لا أعرف بينهم خلافا فإن لم يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط بالإجماع والاختلاف لم يثبت الإجماع بقوله، وإن كان من أهل الاجتهاد، فاختلف أصحابنا فى إثبات الإجماع بقوله: والصحيح أنه لا يؤخذ الإجماع بقوله ولو كان مجتهدا، فإن الشافعى قال فى زكاة البقر: لا أعلم خلافا فى أنه ليس فى أقل من ثلاثين منها تبيع.
والخلاف فى ذلك مشهور، فإن قوما يرون الزكاة على خمس كزكاة الإبل، وقال مالك فى موطئه وقد ذكر الحكم برد اليمين وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس ولا بلد من البلدان والخلاف فيه شهير،وكان عثمان رضى الله عنه لا يرى رد اليمين ويقضى بالنكول وكذلك ابن عباس، ومن التابعين الحكم وغيره وابن أبى ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وهم كانوا القضاة فى ذلك الوقت، فإذا كان مثل الشافعى ومالك يخفى عليهما الخلاف، فما ظنك بمن هو أقل من منزلتهما علما واجتهادا " وفوق كل ذى علم عليم " (287) .
هل الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة؟
اختلف العلماء فى ذلك، فقال بعضهم: إنه حجة، لأن الإجماع دليل يجب العمل به فلا يشترط التواتر فى نقله كالسنة (288) .
وإلى هذا ذهب الإمام الرازى والآمدى وابن الحاجب وهو المختار عند الحنفية (289) .
وبه أيضا يقول المالكية (290) ، والحنابلة (291) والإباضية (292) ، وهو المختار عند الزيدية (293) ،
وأنكره بعضهم، لأن ما يجمع عليه يجب أن يشيع نقله ويتواتر من جهة العادة، وممن قال بذلك أبو عبد الله البصرى وبعض الحنفية والغزالى من الشافعية (294) .
والقائلون بحجيته يعتبرونه ظنيا لا قطعيا ويوجبون العمل به لا العلم (295)
ما يكون الإجماع حجة فيه
وما لا يكون
قال الآمدى: إن المجمع عليه لا يخلوا أما أن تكون صحة الإجماع متوقفة عليه، أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فالاحتجاج بالإجماع على ذلك الشىء يكون ممتنعا لتوقف صحة كل واحد منهما على الآخر، وهو دور، وذلك كالاستدلال على وجود الرب تعالى وصحة رسالة النبى عليه الصلاة والسلام بالإجماع من حيث أن صحة الإجماع متوقفة على النصوص الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ.
وصحة النصوص متوقفة على وجود الإله المرسل، وكون محمد رسولا، فإذا توقف معرفة وجود الله ورسالة رسوله محمد على صحة الإجماع كان دورا.
وإن كان من القسم الثانى فالمجمع عليه إما أن يكون من أمور الدين أم من أمور الدنيا فإن كان من أمور الدين فهو حجة مانعة من المخالفة إن كان قطعيا من غير خلاف عند القائلين بالإجماع وسواء أكان ذلك المتفق عليه عقليا كرؤية الله لا فى جهة ونفى الشريك لله تعالى، أو شرعيا كوجوب الصلاة والزكاة ونحوها، وأما إن كان المجمع عليه من أمور الدنيا كالإجماع على ما يكون من الآراء فى الحروب، وترتيب الجيوش، وتدبير أمور الرعية فقد اختلف فيه قول القاضى عبد الجبار بالنفى والإثبات، فقال تارة بامتناع مخالفته، وتارة بالجواز، وتابعه على كل واحد من القولين جماعة.
والمختار إنما هو المنع من المخالفة، وأنه حجة لازمة لأن العمومات الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ، ووجوب اتباعهم فيما أجمعوا عليه: عامة فى كل ما أجمعوا عليه (296) .
ويتفق الحنفية فى ذلك مع الآمدى.
وزادوا: أن بعضهم يرى أن الأمور المستقبلة كأشراط الساعة، وأمور الآخرة لا تحتاج إلى إجماع، أى لا يحتاج إلى الاحتجاج فيها بالإجماع، لأن الغيب لا مدخل فيه للاجتهاد والرأى، إذ لا يكفى فيه الظن فلا بد من دليل قطعى عليه، أى فإن جاء نص قطعى ثبت فيغنى عن الإجماع
وعلق شارح مسلم الثبوت على هذا بقوله: والحق أنه يصح الاحتجاج فيها أيضا لتعاضد الدلائل،
إلخ (297) .
ويوافق المالكية أيضا على التفصيل الذى ذكره الآمدى (298) وكذلك الزيدية وأضافوا التمسك به أيضا فى الأمور اللغوية (299) .
ولم نجد ما يخالف ذلك فى المذاهب الأخرى، إلا حين يعرفون الإجماع فيذكرون أنه على أمر دينى وقد استوفينا هذا فى التعريف.
__________
(169) سورة الأحزاب: 33.
(170) راجع هداية العقول ج 1 ابتداء من ص 509 وما بعدها.
(171) سورة الأحزاب: 28.
(172) سورة الأحزاب: 32.
(173) السورة نفسها: 33.
(174) السورة نفسها:34.
(175) راجع هداية العقول ابتداء من ص 509 ج 1 فما بعدها، ص 228 ج 2 من شرح مسلم الثبوت فما بعدها.
(176) انظر ص349 ج 1 من الأحكام.
(177) إرشاد الفحول للشوكانى ص78.
(178) ص 35 من شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ج 2.
(179) ص187 ج 1 من المستصفى مع يسير جدا من التصرف.
(180) ص80 ج 2 من طلعة الشمس 0
(181) ص78 من إرشاد الفحول.
(182) المصدر السابق فى الموضع نفسه.
(183) ص 80 ج 2 من طلعة الشمس فى أصول الإباضية مع قليل من التصرف، ومثله فى كتاب هداية العقول فى أصول الزيدية ص 538 وما بعدها ج 1 وفى غير ذلك من كتب الأصول.
(184) انظر حواشى هداية العقول ص 541 ج 1 للزيدية.
(185) الأحكام للآمدى ص357 ج 1 وشرح الإسنوى ص 881.
(186) ص 81 ج 2 من طلعة الشمس.
(187) روضة الناظر ص366 ج 1 انظر الحاشية
(188) الأحكام للآمدى ج 1 ص357 0
(189) طلعة الشمس الموضع السابق.
(190) ص 541 ج 2 من هداية العقول من أصول الزيدية، انظر الحاشية.
(191) روضة الناظر فى أصول الحنابلة ص 366 ج 1.
(192) المستصفى للغزالى ص187 ج 1.
(193) هداية العقول فى أصول الزيدية ص 539 ج 1.
(194) إرشاد الفحول للشوكانى ص 78.
(195) الأحكام للآمدى ملخصا من المسألة الثامنة التى تبدأ من ص 336 ج 1.
(196) اقرأ فى ذلك المستصفى للغزالى ص186 ج 1 للشافعية، وحاشية عبد العزيز البخارى على كشف الأسرار ص 966 ج3 للحنفية، والآمدى فى الموضع الذى ذكرناه للشافعية، وروضة الناظر ص 358 ج اللحنابلة، وهداية العقول ص 588 ج 1 للزيدية، وطلعة الشمس للإباضية ص 78 ج 2.
(197) الأحكام للآمدى فى الموضع السابق وهداية العقول للزيدية فى الموضع السابق أيضا.
(198) اقرأ المراجع السابقة فى كتب الأصول.
(199) المراجع نفسها.
(200) المراجع نفسها.
(201) ج 2 ص 34 من مختصر ابن الحاجب وشرحه للعضد.
(202) المراجع السابقة.
(203) الأحكام للآمدى ج 1 ص 344 ومسلم الثبوت وشرحه ج 2 ص 221، 222 والذخيرة ج 1 ص 110 للمالكية. وشفاء العليل على الكافل للزيدية ج 1 ص63، وطلعة الشمس للإباضية ج 2 ص 81.
(204) انظر فى هذا كله الأحكام للآمدى ج 1 ص 345 وما بعدها وغيرها من المراجع السابق ذكرها.
(205) شرح ملاجيون على المنار ج 2 ص107.
(206) الأحكام للآمدى ج 1 ص366.
(207) طلعةالشمس ج 2 ص 86.
(208) طلعة الشمس فى الموضع السابق ذكره وما بعده.
(209) طلعة الشمس فى الموضع السابق ذكره.
(210) الأحكام للآمدى ج1 ص 366 والمنار ج 2 ص7 0 1
(211) الذخيرة ج1 ص 109 ومختصر ابن الحاجب ج2 ص 38.
(212) هداية العقول ج1 ص567.
(213) الأحكام لابن حزم ج 4 ص153.
(214) طلعة الشمس ج 2 ص 68.
(215) الأحكام للآمدى فى الموضع السابق وإرشاد الفحول ص79.
(216) المراجع السابقة.
(217) الأحكام للآمدى ج1 ص 358 وحاشية عبد العزيز البخارى على الكشف ج 3 ص966 والذخيرة ج1 ص 111 وهداية العقول ج1 ص 566 وطلعة الشمس ج 2 ص87 وروضة الناظرج1 ص346.
(218) إرشاد الفحول ص 75.
(219) طلعة الشمس ج 2 ص 83، 84.
(220) إرشاد الفحول ص75.
(221) طلعة الشمس ج2 ص 84.
(222) المرجع السابق.
(223) شرح النسفى على المنار ج2 ص 110 وكذلك شرح ملاجيون فى الموضع نفسه.
(224) المصدر السابق.
(225) شرح الإسنوى ج 3 ص923.
(226) الذخيرة ج 1 ص 110.
(227) روضة الناظر ج 1 ص385.
(228) هداية العقول ج1 ص 574.
(229) طلعة الشمس ج 2 ص 84.
(230) إرشاد الفحول ص 75 وغيره من مراجع الأصول.
(231) المصدر السابق.
(232) المصدر السابق.
(233) طلعة الشمس ص 85.
(234) الأحكام لابن حزم ج 4 ص 141 مع قليل جدا من التصرف.
(235) المستصفى للغزالى ج 1 ص 215. وحاشية كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى ج 3 ص 985.
(236) الذخيرة 110.
(237) روضة الناظر ج 2 ص 456.
(238) حاشية عبد العزيز البخارى على كشف الأسرار ج3 ص595، 596.
(239) روضة الناظر ج 1 ص 229، 330.
(240) حاشية عبد العزيز البخارى فى الموضع السابق.
(241) هداية العقول ج 1 ص595، 596.
(242) شرح الإسنوى على المنهاج ج 3 ص 934.
(243) إرشاد الفحول ص 81.
(244) روضة الناظر ج 1 ص 229.
(245) المصدر السابق انظر الشرح.
(246) شرح الكافل لابن لقمان الزيدى ص75.
(247) طلعة الشمس ج 2 ص85.
(248) إرشاد الفحول ص 81.
(249) كشف الأسرار للبزدوى ج 3 ص 982.
(250) شرح الكشف لعبد العزيز البخارى فى الموضع السابق ذكره.
(251) إرشاد الفحول ص 1 8.
(252) الأحكام للآمدى ج1 ص394.
(253) مسلم الثبوت وشرحه ج2 ص 6 22، 227.
(254) شرح الإسنوى ج 3 ص900، 901.
(255) الذخيرة ج1 ص109 0
(256) روضة الناظر ج1 ص 376.
(257) هداية العقول ج1 ص6 58، 587.
(258) طلعة الشمس ص 83.
(259) الأحكام لابن حزم ج 4 ص 55 1، 56 1.
(260) الأحكام للآمدى ج1 ص395.
(261) المرجع السابق.
(262) إرشاد الفحول ص 1 8.
(263) حاشية الإسنوى نقلا عن مسلم الثبوت- انظر الحاشية المذكورة ج 3 ص 899.
(264) الذخيرة ج1 ص 109.
(265) روضة الناظر ج1 ص 376.
(266) هداية العقول ج1 ص590.
(267) الأحكام لابن حزم ج4 ص 155.
(268) شرح الإسنوى ج 3 ص898.
(269) هداية العقول فى الموضع السابق.
(270) طلعة الشمس ج 2 ص83.
(271) شرح الإسنوى ج 3 ص 899.
(272) شرح مسلم الثبوت ج2 ص 235.
(273) الأحكام للآمدى ج 1ص 384 وحاشية الشيخ بخيت على شرح الإسنوى والشرح المذكور ج 3 ص 883 وإرشاد الفحول ص 82 وهداية العقول للزيدية ج اص 1 58. والمنار ج2 ص 112.
(274) روضة الناظر ج1 ص 77 3.
(275) الاحكام للآمدى ج 1 الموضع السابق.
(276) الاحكام للآمدى وهداية العقول وإرشاد الفحول فى المواضع السابقة. وطلعة الشمس ج2 ص 89.
(277) الاحكام للآمدى وغيره فى الموضع نفسه.
(278) انظر المراجع السابقة والذخيرة ج 1 ص 108 ومختصر ابن الحاجب وشرحه ج2 ص 39،40.
(279) شرح الإسنوى على المنهاج ج 3 ص 980.
(280) هداية العقول ج 1 ص 1 59.
(281) شرح الإسنوى على المنهاج وحاشيته ج3 ص889 إلى 93.
(282) شرح الإسنوى ج 3 ص908.
(283) عبد العزيز البخارى على الكشف ج 3 ص 969.
(284) المستصفى ج1 ص 195.
(285) إرشاد الفحول ص 85.
(286) ج 4 ص 175.
(287) إرشاد الفحول ص 86.
(288) شرح الإسنوى ج 3ص 932.
(289) مسلم الثبوت وشرحه ج 2 ص 242.
(290) الذخيرة ج 1 ص 109.
(291) روضة الناظر ج 1 ص 387.
(292) طلعة الشمس ج 2 ص 88.
(293) هداية العقول ج1 ص 595.
(294) هداية العقول فى الموضع نفسه وكذلك شرح مسلم الثبوت فى الموضع السابق ذكره.
(295) المراجع السابقة.
(296) الأحكام للآمدى ج1 ص 406.
(297) شرح مسلم الثبوت ج 2 ص 246.
(298) الذخيرة ج1 ص 111.
(299) هداية العقول ج 1 ص 594.(1/78)
إجمال
1- تعريف المجمل:
ا) الإجمال فى اللغة: المجمل لغة هو المبهم من أجمل الأمر إذا أبهم، وقيل: هو المجموع، من أجمل الحساب إذا جمعه وجعله جملة واحدة، وقيل: هو المتحصل من أجمل الشىء إذا حصله، والجملة جماعة كل شىء بكماله (1) .
ب) تعريف الإجمال فى اصطلاح الأصوليين:
يعرف من تعريفهم للمجمل على اختلافهم فى ذلك.
ج) تعريف المجمل عند الحنفية:
المجمل عند الأحناف أحد أقسام أربعة للمبهم: وهى الخفى، والمشكل، والمجمل، والمتشابه.
ولهم فيه تعريفات منها:
المجمل، هو ما ازدحمت فيه المعانى واشتبه المراد منه اشتباها لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار، ثم الطلب ثم التأمل (2) .
ومنها المجمل " لفظ لا يفهم المراد منه إلا باستفسار من المجمل وبيان من جهته، وذلك إما لتوحش فى معنى الاستعارة، أو فى صيغة عربية مما يسميه أهل الأدب لغة غريبة (3) .
ومنها المجمل " اللفظ الذى خفى المراد منه فلا يدرك إلا بالنقل " (4) .
د) تعريف المجمل عند المتكلمين:
عرف المجمل عند علماء الأصول الذين جروا على طريقة المتكلمين بتعريفات عدة:
فعرفه أبو إسحاق الشيرازى بقوله:
" المجمل: هو ما لا يعقل معناه من لفظه ويفتقر فى معرفة المراد إلى غيره " (5) .
ويعرفه الجوينى فى البرهان فيقول: " المجمل فى اصطلاح الأصوليين: هو المبهم، والمبهم هو الذى لا يعقل معناه، ولا يدرك منه مقصود اللافظ ومبتغاه " (6) .
وعرفه الآمدى فقال: " الحق أن يقال بأن المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه" (7) .
وعرفه ابن الحاحب بقوله: " المجمل هو ما لم تتضح دلالته " (8) .
وقال القفال الشاشى وابن فورك: " المجمل ما لا يستقل بنفسه فى المراد منه حتى يأتى تفسيره " (9) .
الهاء) تعريف المجمل عند الظاهرية يعرف ابن حزم الظاهرى المجمل بقوله: " لفظ يقتضى تفسيرا يؤخذ من لفظ آخر" (10) .
أقسام المجمل
المجمل أقسام ثلاثة: مجمل بين حقائقه، ومجمل بين أفراد الحقيقة الواحدة ومجمل بين مجازاته. وفى بيان ذلك يقول البيضاوى: " اللفظ إما أن يكون مجملا بين حقائقه، كقوله تعالى: " ثلاثة قروء " أو أفراد حقيقة واحدة مثل: " أن تذبحوا بقرة "، أو مجازاته إذا انتفت الحقيقة وتكافأت المجازات (11) .
ويقول الإسنوى شرحا لذلك: المجمل على أقسام:
أحدها: أن يكون مجملا بين حقائقه، أى بين معان وضع اللفظ لكل منها، كقوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء "، فإن القرء موضوع بإزاء حقيقتين وهما: الحيض والطهر.
والثانى: أن يكون مجملا بين أفراد حقيقة واحدة، كقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة "، فإن لفظ البقرة موضوع لحقيقة واحدة معلومة ولها أفراد، والمراد واحد معين منها.
والثالث: أن يكون مجملا بين مجازاته وذلك إذا انتفت الحقيقة، وتكافأت المجازات، فلم يترجح بعضها على بعض ".
أسباب الإجمال
الذى يؤخذ من تعريفات الحنفية للمجمل، أن أسباب الإجمال ثلاثة (12) .
أولا: ازدحام معانى اللفظ واشتباه المراد منها اشتباها لا يدرك بنفس العبارة، " بل بالرجوع إلى الاستفسار ثم الطلب، ثم التأمل وذلك كالألفاظ المشتركة، مثل المولى، والقرء.
ثانيا: التوحش فى معنى الاستعارة، وذلك إذا نقل اللفظ من معناه فى اللغة إلى معنى غير معلوم يقصده الشارع منه، وذلك كالصلاة. والصوم والحج وغير ذلك من الألفاظ التى نقلت من معناها لغة إلى معنى شرعى غير معلوم لنا قبل بيانه من الشارع نفسه.
ثالثا: غرابة الصيغة أو اللغة الغريبة ومثلوا له باستعمال كلمة. "هلوعا" فى قولة تعالى " إن الإنسان خلق هلوعا " التى بينها الشارع بقوله " إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا".
مواضع الإجمال
بيَّن الغزالى مواضع الإجمال فقال:
" اعلم أن الإجمال تارة يكون فى لفظ مفرد، وتارة يكون فى لفظ مركب، وتارة فى نظم الكلام والتصريف وحروف النسق ومواضع الوقف والابتداء. أما اللفظ المفرد فقد يصلح لمعان مختلفة كالعين للشمس والذهب والعضو الباصر والميزان، وقد يصلح لمتضادين كالقرء، للطهر والحيض، والناهل للعطشان والريان، وقد يصلح لمتشابهين بوجه ما، كالنور للعقل ونور الشمس، وقد يصلح لمتماثلين كالجسم للسماء والأرض، وقد يكون موضوعا لهما من غير تقديم وتأخير 0 وقد يكون مستعارا لأحدهما من الآخر كقولك: الأرض أم البشر فإن الأم وضع اسما للوالدة أولا، وكذلك اسم المنافق والكافر والفاسق والصوم والصلاة فإنه نقل فى الشرع إلى معان ولم يترك المعنى الوضعى أيضا.
أما الاشتراك مع التركيب فكقوله تعالى: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح ". فإن جميع هذه الألفاظ مرددة بين الزوج والولى 0
وأما الذى بحسب التصريف فكالمختار للفاعل والمفعول، وقد يكون بحسب الوقف والابتداء مثل قوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم " من غير وقف يخالف الوقف على قوله " إلا الله "، وذلك لتردد الواو بين العطفة والابتداء " (13) .
ولا يختلف الشيرازى والآمدى فى بيانهما لمواضع الجنس والقدر فيحتاج إلى بيان.
الإجمال فى الأفعال
يقرر الأصوليون أن الإجمال كما يكون فى الأقوال يكون فى الأفعال، ومثال ذلك أن يفعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - فعلا يحتمل وجهين احتمالا متساويا، مثل ما روى من جمعه فى السفر، فإنه مجمل لأنه يجوز أن يكون فى سفر طويل أو فى سفر قصير، فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل.
ومثله أيضا أن يروى أن رجلا أفطر فأمره النبى صلى الله عليه وسلم بالكفارة، فهو مجمل لاحتمال أن يكون الإفطار بالجماع أو بتناول الطعام، فلا يحمل على أحدهما دون الآخر إلا بدليل (14) .
ويقرر الإسنوى ذلك فيقول (15) :
" المجمل قد يكون فعلا أيضا، كما إذا قام النبى صلى الله عليه وسلم من الركعة الثانية فإنه يحتمل أن يكون عن تعمد فيدل على جواز ترك التشهد الأول، ويحتمل أن يكون عن سهو فلا يدل عليه ".
حكم المجمل
يبين شمس الأئمة السرخسى حكم المجمل فيقول: " وحكمه اعتقاد الحقية فيما هو المراد، والتوقف فيه إلى أن يتبين المراد به من المجمل " (16) .
ويبين أبو إسحاق الشيرازى حكم المجمل فيقول: " وحكم المجمل التوقف فيه إلى أن يفسر، ولا يصح الاحتجاج بظاهره فى شىء يقع فيه النزاع " (17) .
وقوع الإجمال فى الكتاب والسنة
يرى جمهور الأصوليين أن الإجمال واقع فى الكتاب والسنة وأنكر ذلك داود الظاهرى.
يقول الشوكانى فى إرشاد الفحول: " اعلم أن الإجمال واقع فى الكتاب والسنة، قال أبو بكر الصيرفى: ولا أعلم أحدا أبى هذا غير داود الظاهرى " (18) .
ويقول صاحب جمع الجوامع:
" والأصح وقوعه- أى المجمل- فى الكتاب والسنة، ومنه قوله تعالى " أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح "، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: " لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة فى جداره ".
ونفاه داود الظاهرى ويمكن أن ينفصل عنها بأن الأول ظاهر فى الزوج لأنه المالك للنكاح، والثانى ظاهر فى عوده إلى الأحد، لأنه محط الكلام " (19) .
التعبد بالمجمل قبل البيان
قال الماوردى والرويانى: " يجوز التعبد بالخطاب المجمل قبل البيان، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة فى أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم، وتعبدهم بالتزام الزكاة قبل بيانها. قالا: وإنما جاز الخطاب بالمجمل وإن كانوا لا يفهمونه لأحد أمرين:
الأول: أن يكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يعقبه من البيان، فإنه لو بدأ فى تكليف الصلاة بها لجاز أن تنفر النفوس منها، ولا تنفر من إجمالها.
" والثانى: أن الله تعالى جعل من الأحكام جليا وجعل منها خفيا يتفاضل الناس فى العمل بها ويثابوا على الاستنباط لها، فلذلك جعل منها مفسرا جليا وجعل منها مجملا خفيا " (20) .
ويقرر الغزالى ذلك أيضا فيقول:
" يجوز الخطاب بمجمل يفيد فائدة ما لأن قو له تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " يعرف منه وجوب الإيتاء، ووقته، وأنه حق فى المال فيمكن العزم فيه على الامتثال والاستعداد له، ولو عزم على تركه عصى. وكذلك مطلق الأمر إذا ورد ولم يتبين أنه للإيجاب أو الندب أو أنه على الفور أو التراخى أو أنه للتكرار أو للمرة الواحدة أفاد علم اعتقاد الأصل ومعرفة التردد بين الجهتين.
وكذلك " أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح " يعرف إن كان سقوط المهر بين الزوج والولى فلا يخلو عن أصل الفائدة وإنما يخلو عن كمالها، وذلك غير مستنكر، بل واقع فى الشريعة والعادة، بخلاف قول المخالف (21) .
بقاء المجمل فى القرآن
بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام -
اختلف الأصوليون فى بقاء المجمل فى القرآن بعد وفاة الرسول.
يقول الشوكانى (22) : " وقيل: أنه لم يبق مجمل فى كتاب الله تعالى بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم، وقال إمام الحرمين المختار: أن ما ثبت التكليف به لا إجمال فيه، لأن التكليف بالمجمل تكليف بالمحال، وما لا يتعلق به تكليف فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ".
ويقول الإسنوى (23) : "واختلفوا فى جواز بقاء الإجمال بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال فى البرهان بعد حكاية هذا الخلاف المختار أنه إن تعلق به حكم تكليفى فلا يجوز وذلك كالأسماء الشرعية مثل الصلاة فإنا نعلم قطعا أن معناها اللغوى وهو الدعاء غير مراد فلا بد من معنى آخر شرعى، وهو غير مدرك بالعقل إلا ببيان من الشارع وقد بينه قولا وفعلا، وكالربا فإنه لغة مطلق الزيادة، ولا شك أنه ليس كل زيادة محرمة، فهى زيادة مخصوصة فى الشرع وهى غير معلومة إلا بالبيان وقد بينها وأما ما لا يتعلق به التكليف كالمتشابه الذى لا يدرك لا بالعقل ولا بغيره فيجوز (24) .
ويقول ابن السبكى (25) : "وفى بقاء المجمل فى الكتاب والسنة غير مبين إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم- أقوال:
أحدها: لا، لأن الله تعالى أكمل الدين قبل وفاته بقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم ".
ثانيها: نعم، قال الله تعالى فى متشابه الكتاب: " وما يعلم تأويله إلا الله " إذ الوقف هنا كما عليه جمهور العلماء، وإذا ثبت فى الكتاب ثبت فى السنة لعدم القائل بالفرق بينهما.
ثالثها: الأصح: لا يبقى المجمل المطلق بمعرفته غير مبين للحاجة إلى بيانه حذرا من التكليف بما لا يطاق بخلاف غير المكلف به ".
علاقة المجمل بغيره من الألفاظ
العلاقة بين المجمل والمبهم
مسلك الأحناف:
يقسم الأحناف المبهم أو خفى الدلالة إلى أقسام أربعة: الخفى، والمشكل، والمجمل، والمتشابه 0
وعلى هذا يعد المجمل عندهم قسما من أقسام المبهم، فكل مجمل عندهم مبهم دون العكس.
يقول صاحب التلويح: " اللفظ إذا ظهر منه المراد، وإذا خفى فخفاؤه إما لنفس اللفظ أو لعارض الثانى يسمى خفيا، والأول إما أن يدرك المراد بالنقل أو لا، الأول يسمى مشكلا، والثانى إما أن يدرك المراد بالنقل أو لا يدرك أصلا، الأول يسمى مجملا، والثانى متشابها، فهذه الأقسام متباينة بلا خلاف " (26) .
مسلك المتكلمين:
يرى جمهور من كتب من الأصوليين على طريقة المتكلمين أن المجمل هو المبهم، يقول الغزالى فى المستصفى (27) : " اللفظ المفيد بالإضافة إلى مدلوله إما ألا يتطرق إليه احتمال فيسمى نصا، أو يتعارض فيه الاحتمالات من غير ترجيح فيسمى مجملا ومبهما".
ويقول الجوينى: " ولكن المجمل فى اصطلاح الأصوليين: هو المبهم، والمبهم هو الذى لا يعقل معناه، ولا يدرك منه مقصود اللافظ ومبتغاه " (28) .
وعلى هذا لا يكون المجمل قسما من أقسام المبهم كما يقول الأحناف، بل هو نفسه، ويكون كل مجمل عند الأحناف مجمل عند المتكلمين ولا عكس (انظر أيضا: مبهم) .
العلاقة بين المجمل والمتشابه
مسلك الأحناف:
يظهر مما تقدم أن كلا من المجمل والمتشابه قسم من أقسام المبهم أى الخفى بالمعنى الأعم، والفرق بينهما أن المجمل يدرك المراد منه بالنقل، وأما المتشابه فلا يدرك المراد منه أصلا. فالعلاقة بينهما إذن هى التباين (29) .
مسلك المتكلمين:
يرى أكثر المتكلمين أن المتشابه هو المجمل يقول الغزالى (30) : " والمتشابه ما تعارض فيه الاحتمال، وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة كالقرء، والذى فى قوله تعالى: " أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح "، فإنه مردد بين الزوج والولى، وكاللمس المردد بين المس والوطء، وقد يطلق على ما ورد فى صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله، فهذا تعريف للمتشابه بما يجعله والمجمل شيئا واحدا، وذلك فى الإطلاق المشهور.
ويقول إمام الحرمين فى البرهان: "المختار عندنا أن المحكم كل ما علم معناه وأدرك فحواه والمتشابه هو المجمل " (31) .
ويقول أبو إسحاق الشيرازى (32) : " وأما المتشابه فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: هو والمجمل واحد. ومنهم من قال: المتشابه ما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه والصحيح الأول، لأن حقيقة المتشابه ما أشتبه معناه، وأما ما ذكروه فلا يوصفه بذلك ".
أما الآمدى فقد جعل المجمل قسما من أقسام المتشابه، حيث جعل المتشابه ما تعارض فيه الاحتمال وذلك على جهتين: إما بجهة التساوى كالألفاظ المجملة، كما فى قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " لاحتمال القرء زمن الحيض والطهر على السوية، وإما لا على جهة التساوى كالأسماء المجازية، وإما ظاهره موهم للتشبيه، وهو مفتقر إلى تأويل، كقوله تعالى: " ويبقى وجه ربك "، " ونفخت فيه من روحى "، " مما عملت أيدينا " (33) .
وعلى هذا يكون المجمل منوط من أنواع المتشابه عند الآمدى، فكل مجمل متشابه ولا عكس.
أما الإسنوى فقد جعل المتشابه جنسا لنوعين هما المجمل والمؤول، قال (34) : " ثم أن المجمل والمؤول مشتركان فى أن كلا منهما يفيد معناه إفادة غير راجحة، إلا أن المؤول مرجوح أيضا، والمجمل ليس مرجوحا بل مساويا، فالقدر المشترك بينه من عدم الرجحان يسمى بالمتشابه، فهو جنس لنوعين: المجمل والمؤول " 0
مسلك أهل الظاهر:
أما ابن حزم الظاهرى فبعد أن عرف المجمل بأنه: " لفظ يقتضى تفسيرا يؤخذ من لفظ آخر " ذكر أن المتشابه لا يوجد فى شىء من الشرائع، ثم قرر بعد أن حصر مواضع المتشابه فى القرآن، أننا نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه، وأمرنا بالإيمان به جملة، وعلي هذا تكون العلاقة بين المجمل والمتشابه عنده التباين، إذ المجمل يؤخذ تفسيره من لفظ آخر، بينما المتشابه لا يمكن تفسيره " (35) (انظر أيضا: متشابه) .
العلاقة بين المجمل والعام
يرى جمهور الأصوليين أن العام من قبيل الظاهر أو واضح الدلالة بينما يرى البعض أنه قسم من أقسام المجمل (36) .
ويقول صاحب التلويح: " حكم العام التوقف عند البعض حتى يقوم الدليل لأنه مجمل لاختلاف أعداد الجمع، وأنه يؤكد بكل وأجمع، ولو كان مستغرقا لما احتيج إلى ذلك، ولأنه يذكر الجمع ويراد به الواحد كقوله تعالى " الذين قال لهم الناس إن الناس "، وعند البعض يثبت الأدنى، وهو الثلاثة فى الجمع والواحد فى غيره، وعندنا وعند الشافعى رحمه الله يوجب الحكم فى الكل، لأن العموم معنى مقصود فلابد أن يكون لفظ يدل عليه " (37) .
ويقول عبد العزيز البخارى: " وقد تحزبوا فرقا، فمنهم من قال: ليس فى اللغة صيغة مبينة للعموم خاصة لا تكون مشتركة بينه وبين غيره، والألفاظ التى ادعاها أرباب العموم لأنها عامة لا تفيد عموما ولا خصوصا، بل هى مشتركة بينهما أو هى مجملة، فيتوقف فى حق العمل والاعتقاد جميعا إلا أن يقوم الدليل على المراد، كما يتوقف فى المشترك أو كما يتوقف فى المجمل والخبر والأمر والنهى فى ذلك سواء، وهو مذهب عامة الأشعرية وعامة المرجئة، وإليه مال أبو سعيد البردعى من أصحابنا فعند هؤلاء لا يصح التمسك بعام أصلا " (38) . (انظر أيضا: عام) .
العلاقة بين المجمل والمشترك
المشترك إن تجرد عن القرائن فهو مجمل وخالف فى ذلك الشافعى وبعض الأصوليين فقالوا: بوجوب حمله على الجميع.
يقول الإسنوى: " اللفظ المشترك قد يقترن به قرينة مبينة للمراد وقد يتجرد عنها فإن تجرد عن القرائن فهو مجمل إلا عند الشافعى والقاضى فإنه يحمله على الجميع " (39) .
ويقول صاحب جمع الجوامع (40) : والمشترك يصح إطلاقه على معنييه معا مجازا وعن الشافعى والقاضى والمعتزلة حقيقة، زاد الشافعى وظاهر فيهما عند التجرد عن القرائن المعينة لأحدهما ".
ويقول الشوكانى (41) فى إرشاد الفحول:
" اختلف فى جواز استعمال اللفظ المشترك فى معنييه أو معانيه، فذهب الشافعى والقاضى أبو بكر، وأبو على الجبائى، والقاضى عبد الجبار بن أحمد، والقاضى جعفر، وبه قال الجمهور وكثير من أئمة أهل البيت على جوازه، وذهب أبو هاشم وأبو الحسن البصرى والكرخى إلى امتناعه " (42) .
وعلى هذا يكون المشترك من قبيل الظاهر عند الشافعى إذ إنه ظاهر فى إرادة جميع معانيه، مجملا عند غيره يجب التوقف فيه عند عدم القرينة حتى يرد البيان " (انظر: اشتراك) .
العلاقة بين المجمل والمتواطىء
عرف المتواطىء بأنه اللفظ الذى يتناول الكثير تناولا على السوية (43) .
وتعريف المتواطىء بهذا يجعله من قبيل المجمل، وقد صرح بذلك بعض الأصوليين.
يقول صاحب جمع الجوامع: " وتأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل جائز وواقع عند الجمهور، وسواء كان للمبين ظاهر وهو غير المجمل كعام يبين تخصيصه، ومطلق يبين تقييده، ودال على حكم يبين نسخه، أم لا، وهو المجمل كمشترك يبين أحد معنييه مثلا ومتواطىء يبين أحد ما صدقاته مثلا " (44) فقد جعل المتواطىء داخلا فى المجمل.
بيان الإجمال
بيان الإجمال نوع من أنواع البيان، (انظر: بيان)
__________
(1) انظر لسان العرب ج 11 ص 128، والقاموس المحيط ج 3 ص 531.
(2) أصول البزدوى وشرحه كشف الأسرار ج 1 ص 45، والمنار وشرحه ج 1 ص 0365
(3) انظر أصول السرخسى ج اص 168.
(4) انظرالتلويح على التوضيح ج 2 ص 126.
(5) انظر اللمع للشيرازى ص27.
(6) البرهان لوحة 110، 111 نقله صاحب تفسير النصوص.
(7) راجع الإحكام فى أصول الأحكام ج3 ص 9.
(8) انظر مختصر المنتهى لابن الحاجب مع شرح العضد، وإرشاد الفحول للشوكانى ص167.
(9) راجع إرشاد الفحول للشوكانى ص167.
(10) انظر الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم ج 1 ص 41.
(11) نهاية السول شرح منهاج الأصول ج 2 ص 508.
(12) انظر أصول البزدوى مع شرحه كشف الأسرار ج1 ص 54، والمنار للنسفى مع شرحه ج1 ص 365، وأصول السرخسى ج1 ص 168.
(13) انظر المستصفى للغزالى ج 1 ص 360 وما بعدها. وللإجمال مراجع أخرى يرجع فيها إلى كتب الأصول.
(14) راجع اللمع للشيرازى ص27، والإحكام للأمدى ج 3 ص 14.
(15) انظر نهاية السول شرح منهاج الأصول ج 2ص 512.
(16) راجع أصول السرخسى ج 1 ص 168.
(17) إرشاد الفحول للشوكانى ص 0168
(18) إرشاد الفحول ص168.
(19) راجع جمع الجوامع وحاشية البنانى عليه ج 2 ص 42، 43.
(20) راجع إرشاد الفحول للشوكانى ص 168.
(21) انظر المستصفى ج1 ص 376.
(22) إرشاد الفحول ص 168.
(23) نهاية السول شرح منهاج الأصول ج2 ص513.
(24) راجع نهاية السول شرح منهاج الأصول وحاشية الشيخ بخيت عليه ج 2 ص513.
(25) جمع الجوامع ج 1 ص 125.
(26) انظر التلوبح على التوضيح ج 1 ص 125.
(27) ج 1 ص 336.
(28) راجع البرهان لوحة 110، 0111
(29) راجع التلويح على التوضيح ج1 ص 126.
(30) المستصفى ج 1 ص 106.
(31) البرهان لإمام الحرمين لوحة 112.
(32) راجع اللمع لللشيرازى 29.
(33) راجع الإحكام للأمدى.
(34) نهاية السول ج2 ص 61.
(35) انظر الإحكام لابن حزم ج1 ص 48، ج4 ص 123.
(36) راجع المستصفى ج1 ص 378.
(37) راجع التلويح على التوضيح ج1 ص 38 ومرقاة الوصول شرح مرآة الأصول مع حاشية الأزميرى ج1 ص 35 وأصول البزدوى ج1 ص 291.
(38) انطر كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى ج 1 2ص 299 وما بعدها.
(39) نهاية السول فى شرح منهاج الأصول مع حاشية الشيخ بخيت ج 2 ص 142.
(40) ج 1 ص 164.
(41) ج 1 ص 20.
(42) راجع الإحكام للآمدى ج 2 ص 352 وما بعدها، ومختصر المنتهى لابن الحاجب مع شرحه للعضد وحاشية السعد ج 2 ص 111، وكشف الأسرار لعبد العزيز البخارى ج 1 ص 40.
(43) إرشاد الفحول للشوكانى ص17، وجمع الجوامع ج 1 ص 150 ونهاية السول شرح منهاج الأصول ج 2 ص 44.
(44) جمع الجوامع مع حاشية البنانى ج 1 ص47.(1/52)
إجهاض
التعريف به:
جاء فى المصباح: " أجهضت الناقة والمرأة ولدها إجهاضا أسقطته ناقص الخلق فهى جهيض ومجهضة بالهاء الأخيرة، وقد تحذف، والجهاض اسم منه".
وفى القاموس: الجهيض والجهض: الولد السقط أو ما تم خلقه ونفخ فيه الروح من غير أن يعيش.
ولم يخرج الفقهاء به عن هذا الاستعمال فيما رجعنا إليه من كتب المذاهب، وإنما يغلب فى عباراتهم إيراد لفظ. إسقاط بدل إجهاض: وإن كان الشافعية يكثر استعمالهم للفظ إجهاض.
فقد أورد الرملى (1) عبارة الاستجهاض فيما نقله عن الغزالى، إذ بين أن العزل خلاف الاستجهاض والوأد، لأنه جناية على موجود حاصل.
وكذلك عبر الرملى نفسه إذ يقول (2) :
" لو ضرب ميتة فأجهضت ميتا..، وكذا عبر الرشيدى بالإجهاض عن استعمال الدواء بقصد الإسقاط، فقال (3) ": " إن ما ذكر من الإجهاض " أن تستعمل دواء فإذا حملت أجهضت..".
وقال البجرمى: فى حاشيته على "الخطيب" (4) : تفسيرا لكلمة الإجهاض الواردة فى عبارة الخطيب: إنه الرمى، ونقل عبارة المصباح على أنها تقصر الإجهاض على الناقة فقط، ثم نقل عن الأزهرى وغيره أنه لا يقال أجهضت إلا فى الناقة خاصة، ويقال فى المرأة أسقطت. وقال: إن إطلاق الإجهاض على إسقاط المرأة مجاز.
لكن ما نقلناه عن المصباح صريح فى التسوية بين المرأة والناقة فى استعمال لفظ إجهاض.
كما عبر. الشيعة الجعفرية عن الإسقاط بلفظ الإجهاض أيضا إذ يقول صاحب الروضة البهية (5) .
" وتعتبر قيمة الأم عند الجناية لا وقت الإجهاض الذى هو الإسقاط ".
حكم الإجهاض الأخروى
مذهب الحنفية:
قال الحصكفى فى كتابه الدرر (6) :
" قالوا يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج".
وعلق على ذلك ابن عابدين بما نقله عن الطحطاوى عن النهر، قال فى النهر:
هل يباح الإسقاط بعد الحمل؟ نعم يباح ما لم يتخلق منه شىء، ولن يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوما.
وهذا يقتضى أنهم أرادوا بالتخلق نفخ الروح وإلا فهو غلط، لأن التخلق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة، كذا فى الفتح (7) .
وإطلاقهم يفيد عدم توقف جواز إسقاطها قبل المدة المذكورة على إذن الزوج.
وفى كراهة الخانية (أى باب الكراهة فى كتاب الخانية) ولا أقول بالحل إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه لأنه أصل الصيد، فلما كان يؤاخذ بالجزاء فلا أقل من أن يلحقها إثم هنا إذا أسقطت بغير عذراه.
قال ابن وهبان: ومن الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبى الصبى ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه ونقل عن الذخيرة: لو أرادت الإلقاء قبل مضى زمن ينفخ فيه الروح هل يباح لها ذلك؟
اختلفوا فيه، وكان الفقيه على بن موسى يقول إنه يكره فإن الماء بعد ما وقع فى الرحم مآله الحياة فيكون له حكم الحياة كما فى بيضة صيد الحرم، ونحوه فى "الظهيرية ".
قال ابن وهبان: فإباحة الإسقاط محمولة على حالة العذر أو أنها لا تأثم إثم القتل انتهى.
قال: وبما فى الذخيرة يتبين أنهم ما أرادوا بالتخليق إلا نفخ الروح انتهى.
مذهب المالكية:
جاء فى شرح الدردير على متن خليل بحاشية الدسوقى (8) : " لا يجوز إخراج المنى المتكون فى الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا ".
وعلق الدسوقى على قول الدردير " ولو قبل الأربعين بأن هذا هو المعتمد، وقيل يكره إخراجه قبل الأربعين.
ونص ابن رشد (9) : على أن مالكا استحسن فى إسقاط الجنين الكفارة ولم يوجبها لتردده بين العمد والخطأ. واستحسان الكفارة يرتبط بتحقق الإثم.
مذهب الشافعية:
نقل البجرمى: فى حاشيته على الإقناع (10) فرعا عن ابن حجر يقول له: اختلفوا فى التسبب لإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه، وهو مائة وعشرون يوما.
والذى يتجه وفاقا لابن العماد وغيره الحرمة، ولا يشكل عليه جواز العزل لوضوح الفرق بينهما بأن المنى حال نزوله محض جماد لم يتهيأ للحياة بوجه بخلافه بعد استقراره فى الرحم، وأخذه فى مبادىء التخلق، يحرف ذللا بالإمارات.
وفى حديث مسلم أنه يكون بحد اثنين وأربعين ليلة، أى ابتداؤها.
ثم قال البجرمى: وقول ابن حجر:
" والذى يتجه.. الخ، فى بعض الكتب. خلافه، وقوله: " وأخذه فى مبادىء التخلق " يفيد؟ نه لا يحرم قبل ذلك.
وفى حاشية الشبراملسى على نهاية المحتاج (11) : اختلفوا فى جواز التسبب فى إلقاء النطفة بعد استقرارها فى الرحم.
فقال أبو إسحاق المروزى: يجوز إلقاء النطفة والعلقة، ونقل ذلك عن أبى حنيفة.
وفى الإحياء فى بحث العزل ما يدل على تحريمه وهو الأوجه لأنها بعد الاستقرار آيلة إلى التخلق المهيأ لنفخ الروح.
وحكى الرملى فى شرحه، خلافا فى كتاب أمهات الأولاد.
وقد رجعنا إلى كتاب أمهات الأولاد فى المرجع المذكور (12) فإذا فيه ما يأتى: قال المحب الطبرى: اختلف فى النطفة قبل تمام الأربعين على قولين: قيل لا يثبت حكم السقط والوأد، وقيل لها حرمة ولا يباح إفسادها ولا التسبب فى إخراجها بعد الاستقرار فى الرحم بخلاف العزل.
قال الزركشى: وفى تحليق بعض الفقهاء قال الكرابيسى سألت أبا بكر بن أبى سعيد الفراتى عن رجل سقى جاريته شرابا لتسقط ولدها فقال: مادامت نطفة- أو علقة فواسع له ذلك إن شاء الله انتهى.
وقد أشار الإمام أبو حامد الغزالى الى هذه المسألة فى الإحياء فقال بعد أن قرر أن العزل خلاف الأولى ما حاصله: وليس هذا كالاستجهاض والوأد لأنه جناية على وجود حاصل فأول مراتب الوجود: دفع النطفة فى الرحم فيختلط بماء المرأه فإفسادها جناية فإن صارت علقة أو مضغة فالجناية أفحش فان نفخت الروح واستقرت الخلقة زادت الجناية تفاحشا ثم قال: ويبعد الحكم بعدم تحرمه وقد يقال: إما حالة نفخ الروح فيما بعده الى الوضع فلا شك فى التحريم، وأما قبله فلا يقال انه خلاف الأولى بل يحتمل للتنزيه والتحريم ويقوى التحريم فيما قرب من زمن النفخ لأنه جريمة.
ثم أن تشكل فى صورة آدمى وجبت الغرة نعم لو كانت النطفة من زنا فقد يتخيل الجواز فلو تركت حتى نفخ فيها فلا شك فى التحريم 0
مذهب الحنابلة:
ونص الحنابلة (13) فيما يرويه أبن قدامة أن من ضرب بطن إمرأة فألقت جنينا فعليه كفارة وغرة، وإذا شربت الحامل دواء فألقى به جنيناً فعليها غرة وكفارة.
ومقتضى هذا النص وقوع الإثم فى إلقاء الجنين، لأن الكفارة إنما تترتب عليه كما هو مقتضى تسميتها كفارة.
وجاء فى الروض المربع بشرح زاد المقنع مختصر المقنع (فى باب العدد " ويباح للمرأة إلقاء النطفة قبل أربعين يوما بدواء مباح ".
ومن هذا النص الفقهى ينتج أن الإجهاض بشرب الدواء المباح فى هذه الفترة حكمه الإباحة. وأما بعد صيرورته جنينا ففيه الإثم لوجوب الكفارة.
مذهب الظاهرية:
يصور ابن حز م مذهب الظاهرية (14) :
" صح أن من ضرب حاملا فأسقطت جنينا فإن كان قبل الأربعة الأشهر قبل تمامها فلا كفارة فى ذلك لكن الغرة واجبة فقط لأن رسول الله حكم بذلك، لأنه لم يقتل أحدا لكنه أسقطها جنيا فقط، وإذا لم يقتل أحدا فلا كفارة فى ذلك إذ لا كفارة إلا فى القتل الخطأ ولا يقتل إلا ذو روح.
وهذا لم ينفخ فيه الروح بعد.
وإن كان بعد تمام الأربعة الأشهر، وتيقنت حركته بلا شك وشهد بذلك أربع قوابل عدول فإن فيه غرة فقط لأنه جنين قتل فهذه هى ديته.
والكفارة واجبة بعتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لأنه قتل مؤمنا خطأ.
ومقتضى ذلك حدوث الإثم على مذهبهم فى الإجهاض بعد تمام الأربعة الأشهر إذ أوجبوا الكفارة التى لا تكون ألا مع تحقق الإثم ولم يوجبوها فى الإجهاض قبل ذلك.
مذهب الزيدية:
جاء فى البحر الزخار (16) الذى يحكى المذهب الزيدى، أنه يجوز تغيير النطفة
والعلقه والمضغة، لأنه لا حرمة للجماد. وجاء فى باب الجنايات (17) : لا شىء فيما لم يتبين فيه التخلق والتخطيط كالمضغة والدم.
ثم قال (18) : أنه لا كفارة فى جنين، لأن النبى عليه الصلاة والسلام قضى بالغرة ولم يذكر كفارة، ثم إن ما خرج ميتا لم يوصف بالإيمان 0. ثم بين إنه إذا خرج حيا ثم مات ففيه الكفارة، ومقتضاه وجود الإثم فى هذه الجزئية.
مذهب الإمامية:
نص صاحب الروضة البنية (19) على أنه تجب الكفارة بقتل الجنين حين تلجه الروح كالمولود، وقيل مطلقا سواء لم تلج فيه الروح، مع المباشرة لقتله لا مع التسبب.
مذهب الإباضية:
جاء فى شرح النيل (20) : " ليس للحامل أن تعمل ما يضر بحملها من أكل أو شرب كبارد وحار- أو غيرهما كحجامة ورفع ثقيل ونزع ضرس، فإن تعمدت مع علمها بالحمل لزمها الضمان والإثم، وإلا فلا ألم، وكذا غيرها إذا فعل مضرا يحملها فهو مثلها إذا تعمده فى حالى العلم بالحمل والجهل به، وأن أمرت من يرفع عليها ثقيلا ففعل فأسقطت فلا إثم إن كان على غير علم ولزمه الضمان وإلا لزمه الإثم والضمان، وقيل بسقوطهما فى حال الجهل، وإن علمت الحامل دون من يرفع الثقيل عليها لزمها وحدها الضمان، وأطال شارح النيل فى التفريعات.
حكم الإجهاض الدنيوى
يشمل حكم الإجهاض الدنيوى على ما يلزم فيه من جزاء كالغرة، وعلى أثره فى انقضاء العدة، وما يتعلق بالسقط من طهارة أو نجاسة وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه وارثه واستحقاقه فى الوقف والوصية وغير ذلك، والذى يعنينا هنا هو الأول فقط لأنه الذى يختص من جهة كونه إجهاضا، وأما الباقى فأحكامه- مشتركة مع كل جنين وسقط دون اعتداء.) أنظر: (جنين، عدة، طهارة، جنا زة) .
مذهب الحنفية:
نص فقهاء الأحناف (21) على أن من ضرب بطن إمرأة أو ظهرها أو جنينها أو رأسها أو عضوا من أعضائها ولو كانت المرأة كتابية أو مجوسية أو زوجته فألقت جنينا ميتا وحب على العاقلة غرة وهى نصف عشر دية الرجل لو كان الجنين ذكرا وعشر دية " المرأة لو كان أنثى..
وقالوا: أن وجوب الغرة وأن- كان مخالفا للقياس إلا أنه ثابت بالسنة.
فقد روى عن محمد بن الحسن أنه قال: بلغنا أن رسول الله صلوات الله عليه قضى بالغرة على العاقلة، وقالوا: إن ألقت الجنين حيا فمات ففيه دية كاملة وكفارة، وإن ألقته ميتا فماتت الأم فدية فى الأم، وغرة فى الجنين لما تقرر إن الفعل يتعدد بتعدد أثره..
وقد ذكر الميرغينانى فى "الهداية" (22) أنه صح عن النبى عليه الصلاة والسلام القضاء بالدية والغرة فى هذه الجزئية، كما قالوا بتعدد الغرة لو جنينين فأكثر وإن ماتت فألقته ميتا فدية فقط ولا شىء فى الجنين لأن موت الأم سبب لموته ظاهرا إذ حياته بحياتها وتنفه بتنفسها، فيتحقق مونه بموتها، وإن ألقته حيا بعد ما ماتت فمات بعد ذلك فعليه دية الأم ودية الجنين كما إذا ألقته حيا ومات.
ثم نصوا على أن ما يجب فيه يورث عنه وترث منه أمه ولا يرث ضاربه منها ولا من غيرها لأنه قاتل مباشرة (أنظر: غرة، جنين) .
وقالوا: إن فى جنين الأمة الرقيق الذكر نصف عشر قيمته لو حيا فى مجال الضارب حالا، وعشر قيمته لو أنثى كذلك، كما قالوا: أنه لا يجب فى الجنين الذى نزل ميتا بجناية كفارة بل هى مندوبة، وأما إن نزل حيا ثم مات ففيه الكفارة.
وقالوا: إن ما استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام فى جميع الأحكام.
وإذا أسقطت المرأة جنينا عمدا بدواء أو فعل كضربها بطنها ومعالجة فرجها حتى أسقطت أو حملت حملا ثقيلا بقصد الإسقاط ولم يأذن لها زوجها فإن عاقلتها تضمن الغرة بذلك، وأما إن أذن الزوج أو لم تتعمد الزوجة فلا غرة لعدمه التعدى، وعلق على ذلك ابن عابدين فى حاشيته على الدر (23) : بأنه يتمشى على الرواية الضعيفة والصحيح قياسا على ما فى الكافى: أنه لا تسقط الغرة عن عاقلة المرأة بإذن زوجها بإتلاف الجنين لأن أمره لها ليس بأقل من فعله، وهو إذا ضرب إمرأته فألقت جنينا لزم عاقلته الغرة ولا يرث منها.
وقال "صاحب الدر": لو أمرت الحامل امرأة بالاعتداء عليها ففعلت لا تضمن المأمورة، وعلق على ذلك ابن عابدين لما نقله عن عزمى من أن نفى الضمان عن المأمورة لا يلزم منه ففيه عن الآمرة إذا أمرت بغير إذن زوجها.
ونقل صاحب الدر عن كتاب الواقعات: إن من شربت دواء لتسقط الجنين عمدا فإن ألقته حيا فمات عليها الدية والكفارة وان ألقته ميتا فالغرة، ولا ترث فى الحالين. وعلق ابن عابدين وعلى وجوب الدية والكفارة فى الصورة الأولى بأن ذلك الحكم ثابت ولو كان الفعل بإذن الزوج لتحقق الجناية على نفس حية فلا تجرى فيها الإباحة.
وقال: إن هذا بخلاف ما إذا ألقته ميتا فإنه لو كان بإذن الزوج فلا غرة عليها.
وابن عابدين يتمشى فى هذا مع ما ذكره صاحب التنوير والدر وقال: أنه رواية ضعيفة.
مذهب المالكية:
يقول المالكية فيما يروية كل من الدردير والدسوقى (24) : أن فى إلقاء الجنين وإن علقة عشر ما فى أمه ولو كانت أمة، وما يجب فى أمة إن كانت حرة. الدية، وإن كانت أمة القيمة، وسواء كانت الجناية عمدا أو خطأ من أجنبى أو أب أو أم كما لو شربت ما يسقط به الحمل فأسقطته، وهذا الغرم يدفع نقدا أى معجلا، ويكون فى مال الجانى إلا أن تبلغ ثلث ديته فعلى العاقلة، وله أن يدفع بدل عشر الدية الغر، وهذا التخيير فى جنيين الحرة، أما جنين الأمة فيتعين فيه النقد (أى العين) ولا غرة فيه والغرة عبد أو وليدة تساويه) (أنظر: غرة)
ثم قالوا إن هذا الحكم إن أنفصل كله ميتا وأمه حية فان انفصل كله بعد موتها أو بعضه وهى حية وباقيه بعد موتها فلا شىء فيه، وان انفصل عنها وهو حى حياة مستقرة بأن استهل صارخا أو رضع كثيرا سواء كانت هى حية أو ميتة ثم مات فالدية واجبة أن أقسم أولياؤه أنه مات من فعل الجانى ولو مات بعد تحقق حياته عاجلا، فان لم يقسموا فلا غرة، لأن الجنين إذا استهل صار من جملة الأحياء والديه تتوقف على القسامة وقد امتنع الأولياء عنها (أنظر: دية، قسامة) وإن تعمد الجانى الجنين بضرب بطن أو رأس أو ظهر لأمه فنزل مستهلا ثم مات ففى القصاص بقسامة أو الدية بقسامة فى مال الجانى لتعمده، خلاف.
والراجح فى تعمد البطن أو الظهر القصاص وفى تعمد الرأس الدية فى ماله كتعمد ضرب يد أو رجل.
ويتعدد الواجب عندهم من عشر أو غرة إن لم يستهل أو دية أن استهل بعدد الجنين، كما نصوا على أنه يورث على نظام الفرائض، وقالوا: انه إذا كان الإجهاض بفعل أحد الأبوين أو الأخوة اعتبر كالقاتل فلا يرث شيئا.
ويقول ابن رشد (25) : اتفقوا على أن الواجب فى جنين الحرة وجنين الأمة"من سيدها هو غرة لما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم من حديث أبى هريرة وغيره أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى فيه الرسول بغرة: عبد أو وليدة.
واتفقوا على أن قيمة الغرة الواجبة فى ذلك عند من رأى أن الغرة فى ذلك محدودة بالقيمة، وهو مذهب الجمهور هى نصفه عشر دية أمه (أنظر: غرة) .
كما ذكر أن مذهب مالك أن فى جنين الأمة عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى يوم يجنى عليه، وفى جنين الذمية عشر دية أمه وهى على أن الغرة لا تجب إلا إذا خرج الجنين ميتا، ولا تموت أمه من الضرب، فإن ماتت وسقط الجنين ميتا فلا شىء فيه. وقال أشهب: فيه الغرة، وقال أن مالكا وأصحابه يرون أن علامة الحياة الاستهلال بالصياح أو البكاء وأن مالكا يقول كل ما طرحته من نطفة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة.
ورجح ابن رشد اعتبار نفخ الروح فيه قال: إن الغرة عند مالك فى مال الجانى تشبيها لها بدية العمد. وقال: إنها تجب عند مالك لورثة الجنين وحكمها حكم الدية فى أنها موروثة.
مذهب الشافعية:
يقول أبو شجاع وشارحه الخطيب (26) : أن دية الجنين الحر المسلم غرة: عبد أو أمة لأن النبى عليه الصلاة والسلام قضى بذلك كما فى الصحيحين.
وعلق البجرمى على قيد " مسلم " بقوله ليس ذلك بقيد، لأن الجنين الكافر فيه غرة أيضا لكنها كثلث غرة المسلم فى الكتابى وثلث خمس غرة المسلم فى المجوسى، وأما المرتد والحربى فمهدران.
فالمعتبر كونه معصوما لا مسلما.
كما علق على قوله عبد أو أمة بأن الخيار لا للمستحق.
وقال الخطيب: إنما تجب الغرة فى الجنين إذا أنفصل ميتا بجناية على أمه الحية مؤثرة فيه سواء أكانت الجناية بالقول كالتهديد والتخويف المفضى إلى سقوط الجنين أم بالفعل كأن يضربها أو يوجرها دواء فتلقى جنينا أم بالترك كأن يمنعها الطعام أو الشراب حتى تلقى الجنين، ولو دعتها ضرورة إلى شرب دواء فينبغى قال الزركشى إنها لا تضمن بسببه وليس من الضرورة الصوم ولو فى رمضان إذا خشيت منه الإجهاض فإذا فعلته (أى الصوم) وأجهضت ضمنته كما قال الما وردى.
ولا ترث منه لأنها قاتلة، وسواء كان الجنين ذكرا أم غيره لاطلاق الخبر لأن ديتهما لو اختلفت لكثر الاختلاف فى كونه ذكرا أو أنثى فسوى الشارع بينهما، وسواء كان الجنين تام الأعضاء ناقصها ثابت النسب أم لا. وسواء انفصل فى حياتها يجنابة أو انفصل بعد موتها بجناية.
فى حياتها، ولو ظهر بعض الجنين بلا انفصال من أمه كخروج رأسه ميتا وجبت فيه الغرة.
ثم قال: ولو كانت أمه ميتة وقد انفصل ميتا فلا شىء لظهور موته بموتها ولو انفصل حيا وبقى بعد انفصاله زمنا بلا ألم ثم مات فلا ضمان، وإن مات حين خرج بعد انفصاله أو دام ألمه ومات منه فدية نفس كاملة على الجانى ولو ألقت امرأة بجناية عليها جنينين ميتين وجبت غرتان أو ثلاثا فثلاثا وهكذا ولو ألقت لحما قال أهل الخبرة فيه صورة آدمى خفيه وجبت فيه الغرة بخلاف ما لو قالوا لو بقى لتصور أى تخلق.
ثم قال: والخيرة فى الغرة إلى الغارم، ويجبر المستحق علي قبولها بشرط أن يكون العبد أو الأمة مميزا، واشترطوا بلوغ الغرة فى القيمة نصفه عشر الدية من الابن المسلم (أنظر: غرة) .
والغرة تستحق لورثة الجنين على فرائض الله، وهى واجبة على عاقلة الجانى، وتكون مؤجلة (انظر: عاقلة) .
ودية الجنين المملوك ذكرا كان أو غيره عشر قيمة أمه، ولو كانت الأم هى الجانية لا يجب فى جنينها المملوك للسيد شىء، إذ لا يجب للسيد على رقيقه شىء.
ونص البجرمى (27) على أن الجنين لو أنفصل لدون ستة أشهر فمات حين خرج
بعد انفصاله أو دوام ألمه ومات منه ففيه الدية الكاملة.
مذهب الحنابلة:
جاء فى المغنى لابن قدامة فى باب الديات (28) أن فى جنين الحرة المسلمة غرة فى قول أكثر أهل العلم، وقد روى عن عمر أنه استشار الناس فى إملاص المرأة (أى إلقاء جنينها) فقال المغيرة بن شعبة:: شهدت النبى صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة.
وقال ابن قدامة: إن كانت المرأة كتابية أو أمة والجنين الحر مسلم فإن الجنين يحكم بإسلامه وحريته، وفيه الغرة، ولو كان الجنين محكوما برقه لم تجب فيه الغرة.
وقال (29) : إن الغرة- تجب إذا سقط الجنين من الضربة ويعلم ذلك بأن يسقط عقب الضرب أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط، ولو قتل حاملا لم يسقط جنينها، أو ضرب من فى جوفها حركة أو انتفاخ فسكن الحركة لم يضمن الجنين. وقال إنه مذهب مالك وقتادة والشافعى.
وحكى عن الزهرى أن عليه. الغرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين.
واستدل ابن قدامة لمذهبه بأنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه، ولذلك لا تصح له وصية ولا ميراث، ولأن الحركة يصح أن تكون لريح فى البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك.
ثم قال: إن وجوب الضمان سواء ألقته فى حياتها أو بعد مماتها لأنه جنين تلف بجنايته وعلم ذلك بخروجه فوجب ضمانه 0
فأما إن ظهر بعضه من يطن أمه ولم يخرج باقيه ففيه الغرة.
وقال: إنه رأى الشافعى أيضا.
ونقل عن مالك وابن المنذر أنه لا تجب الغرة حتى تلقيه. ثم قال (30) : إن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل بأن فيه صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدت أنه مبتدأ خلق آدمى لو بقى تصور، ففيه وجهان أصحهما لا شىء فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة.
والثانى: فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمى أشبه ما لو تصور، وهذا يبطل بالنطفة والعلقة.
ثم بين ابن قدامة الحنبلى الغرة الواجبة وأورد ما فيها من خلاف: أهى عبد أو أمة أو تصح بغير ذلك، وبين أن قيمتها نصفه عشر الدية، كما ذكر أن غرة جنين الكتابيين
نصف الغرة الواجبة فى المسلم، وإن جنين المجوسية تجب فيه غرة قيمتها أربعون درهما، وإلا فالدراهم نفسها.
وفى موضع آخر (31) : يقول ابن قدامة:
إن الجنين المملوك فيه عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى.
وقال (32) : إن وطئ أمة بشبهة أو غر بأمة فتزوجها وأحبلها فضربها ضارب فألقت جنينا فهو حر وفيه غرة موروثة.. وإذا سقط جنين ذمية وقد وطئا مسلم وذمى فى طهر واحد وجب فيه اليقين وهو ما فى جنين الذمى، فإن الحق بالمسلم فعليه تمام الغرة. وأطال فى ذلك وتفصيله فى مصطلح (جنين، غرة) .
كما قال ابن قدامة (33) : إن الغرة موروثة عن الجنين كأنه سقط حياكما لو قتل بعد الولادة، وقال إنه قول مالك والشافعى وأصحاب الرأى.
ونقل عن الليث إنها لا تورث بل تكون بدله لأنه كعضو من أعضائها، وأطال فى الاستدلال والمناقشة وذكر الصور.
ثم قال (34) : وتحمل الطاقة دية الجنين إذا مات مع أمه إذا كانت الجناية عليها خطأ أو شبه عمد، وإن كان قتل الأم عمدا أو مات الجنين وحده لم تحمله العاقلة ويكون الجميع على الجانى، ونقل خلاف الشافعى فى ذلك.
ثم قال: وإذا ضرب بطن امرأة فألقت أجنة ففى كل واحد غرة لأنه ضمان آدمى فتتعدد بتعدده، وإن ألقتهم أحياء فى وقت.
يعيشون فى مثله ثم ماتوا ففى كل واحدة دية كاملة، وإن كان بعضهم حيا فمات وبعضهم ميتا ففى الحى دية وفى وفى الميت غرة. وقال فى موضع آخر (35) : وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة سواء كان الجنين حيا أو ميتا.
وقال " إنه قول أكثر أهل العلم ومنهم الحسن وعطاء والزهري والحكم ومالك والشافعى
وإسحاق.
ونقل عن ابن المنذر أنه قال: كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة فتلقى جنينا الرقبة مع الغرة.
ثم قال (36) : وإن ألقت المضربة أجنة ففى كل جنين كفارة كما أن فى كل جنين غرة أو دية، وإن أشترك جماعة فى ضرب إمرأة فألقت جنينا فديته أو الغرة عليهم بالحصص وعلى كل واحد منهم كفارة، وإن- ألقت أجنة فدياتهم عليهم بالحصص، وعلى كل واحد فى كل جنين كفارة.
وقال ابن قدامة إذا شربت الحامل دواء فألقت به جنينا فعليها غرة لا ترث منها شيئا وتعتق رقبة، وليس فى هذا اختلاف بين أهل العلم نعلمه إلا ما كان من قول من لم يوجب عتق الرقبة.
وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها فلزمها ضمانه بالغرة، ولو كان الجانى المسقط للجنين
أباه أو غيره من ورثته فعليه غرة لا يرث منها شيئا ويعتق رقبة.
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: فى كتابه المحلى (37) إن الحامل إذا قتلت وهى بينة الحمل فسواء طرحت جنينها ميتا أو لم تطرحه فيه غرة، ولابد لأنه جنين أهلك، وقد اختلف الناس فيه، وروى بسنده عن الزهرى: أنه كان يقول: إذا قتلت المرأة وهى حامل ليس فى جنينها شىء حتى تقذفه.
قال على (يعنى ابن حزم نفسه) : لم يشترط رسول الله فى الجنين إلقاءه، ولكنه قال: فى الجنين غرة عبد أو أمة كيف ما أصيب ألقى أو لم يلق ففيه الغرة، وإذا قتلت الحامل فقد تلف جنينها بلا شك، وبين بعد ذلك أنهم يفرقون فى حكم الإجهاض الدنيوى بين ما إذا كان إسقاط الجنين نتيجة ضرب الحامل قبل تمام الأربعة الأشهر أو بعدها فان كان قبل ذلك ففيه الغرة دون الكفارة وإن كان بعد ذلك ففيه الغرة والكفارة معا (أنظر على وجه التفصيل فيمن يستحق الغرة: "غرة")
ثم قال (38) : بين لنا صلى الله عليه وسلم أن دية من خرج إلى الدنيا فقتل مائة من الإبل، وبين لنا أن دية الجنين بنص لفظة غرة من العبيد أو الإماء وسماه دية فكانت الدية مختلفة لبيان الرسول لنا، وكانت الكفارة واحدة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفرق فيها (أنظر دية، كفارة) .
وقال بعد ذلك (39) : فيمن تعمدت قتل جنينها وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين فقتلته، أو تعمد أجنبى قتله فى بطنها فقتله، فإن القود واجب فى ذلك ولابد، ولا غرة فى ذلك حينئذ إلا أن يعفى عنه فتجب الغرة فقط ولا كفارة فى ذلك لأنه عمد.
قال: وإنما وجب القود لأنه قاتل نفس مؤمنة عمدا فهو نفس بنفس وأهله بين خيرتين: إما القود وإما الدية كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل مؤمنا.
وقال أبن حزم فى المرأة تتعمد إسقاط ولدها: إن النخعى يقول عليها عتق رقبة ولزوجها عليها غرة عبد أو أمة.
وذكر عنه رواية أخرى أنه قال: فى امرأة شربت دواء فأسقطت تعتق رقبة وتعطى أباه غرة قال: وهذا أثر فى غاية الصحة.
ثم قال: وإن كان لم ينفخ فيه الروح فالغرة عليها وإن كان نفخ فيه الروح ولم تتعمد قتله فالغرة على عاقلتها والكفارة عليها، وإن كانت تعمدت قتله فالقود عليها أو المفاداة فى مالها، فإن ماتت هى فى كل ذلك قبل إلقاء الجنين ثم ألقت فالغرة واجبة فى كل ذلك على عاقلة الجانى هى كانت أو غيرها، وكذلك فى العمد قبل أن ينفخ فيه الروح وأما أن كان نفخ فيه الروح فالقود على الجانى إن كان غيرها وأما إن كانت هى فلا قود ولا غرة ولا شىء لأنه لا حكم على ميت وماله قد صار لغيره.
وقال ابن حزم (40) فيمن ألقى جنينين فصاعدا وطرح الجنين ميتا ففى كل غرة وكفارة لأن. رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دية جنينها عبد أو أمة "، وكل جنين ولو أنهم عشرة فهو جنين لها، ففى كل جنين غرة عبد أو أمة، أما لو قتلوا بعد الحياة ففى كل واحد دية وكفارة (أنظر جنين) .
ثم قال فى موضع آخر (41) : فى جنين الأمة من سيدها إنه كجنين الحرة فى أن ديته عبد أو أمة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك فى الجنين ولم يقصره على جنين الحرة فلم يصح لأحد إن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.
وقال فى جنين الذمية كذلك غرة عبد أو أمة يقضى به على عاقلة الضارب فيطلبون غلاما أو أمة كافرين فيدفعانه أو يدفعانها إلى من تجب، فإن لم يوجدا فبقيمة أحدهما لو وجد.
وقال: لو أن ذميا ضرب امرأة مسلمة خطأ فأسقطت جنينا يكلف إن تبتاع عاقلته عبدا كافرا أو أمة كافرة ولابد.
مذهب الزيدية:
ويتمثل مذهب الزيديه فيما أورده صار، البحر الزخار (42) من أن الغرة واجبة فى الجنين إن خرج ميتا لقضائه صلى الله عليه وسلم على من قتلت ضرتها وجنينها، وقال: إن مذهب العترة أنه لا شىء فيمن مات بضرب أمه إن لم ينفصل.. ومن ضربت فخرج جنينها بعد موتها ففيه القود أو الدية إجماعا، فإن خرج رأسه فمات ولم يخرج الباقى ففيه الغرة أيضا، وما خرج وفيه أمارة حياة صوت أو حكة أو تنفس ففيه الدية ولو لدون ستة أشهر فإن خرج وفيه حياة مستقرة ثم قتله آخر فالقود عليه إذ هو المباشر وعلى الأخر أرش ضرب الأم والتعزير.
فإن ضرب حاملا فخرج منها جنينها بعد جنين أو رجله ثم خرج ناقصا بعد ذلك قبل برئها من الضرب ففيه الغرة وتدخل اليد فيها إذ الظاهر سقوطها بالضرب، فإن خرج ميتا فالدية كاملة وتدخل اليد فيها، وإن خرج بعد البرء من الضرب ضمن اليد لا الجنين، فان خرج ميتا فنصف الغرة لأجل اليد، وأن خرج حيا ثم مات فنصف الدية.
وإن ضرب حاملا فألقت يدا ثم ماتت ولم يخرج الباقى ففيها القود أو الدية، وفى الجنين الغرة، إذ الظاهر موته بابانة يده، وقد تحققناه آدميا بخروج يده، ولا شىء فيما لم يتبين فيه التخلق والتخطيط كالمضغة والدم إذ لم يقض النبى صلى الله عليه وسلم بالغرة إلا فى متخلق.
ونقل عن الإمام على والباقر والناصر والصادق أن فى إلقاء النطفة عشرين دينارا وفى العلقة أربعون وفى المضغة ستون وفى العظام ثمانون وفى الجنين مائة دينار إذ لزمت الغرة فى الميت ولا حياة فيه فلزمت هذه المقادير فيه ناقصا.
ثم روى عن العترة وجماعة أن الغرة فى الجنين مطلقا عبد أو أمة لقضاء النبى عليه الصلاة والسلام بذلك، وأن الباقر والصادق جعل الغرة عشر الدية، كما ذكر أن الغرة والدية يتعددان بتعدد الجنين، ووحكى فى ذلك الإجماع.
وقال: إنه لا غرة فى المملوكة، كما قال إنها موروثة كالدية، ونقل عن العترة والإمام يحيى (43) أن من ضرب أمة حاملا ثم أعتق ما فى بطها فخرج حيا ثم مات لزمت القيمة اعتبارا بوقت الجناية.
مذهب الإمامية:
جاء فى الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية فى فقه الشيعة الجعفرية (44) أن دية الجنين وهو الحمل فى بطن أمه فى النطفة إذا استقرت فى الرحم واستعدت للنشوء عشرون دينارا، ويكفى مجرد الإلقاء فى الرحم مع تحقق الاستقرار، وفى العلقة أربعون دينارا، وفى المضغة ستون دينارا، وفى العظم ثمانون 0
وفى التام الخلقة قبل ولوج الروح مائة دينار هى عشر دية أبيه ذكرا كان أو أنثى وقيل متى لم تتم خلقته ففيه غرة عبد أو أمة، ولو كان الجنين ذميا فثمانون درهما عشر دية أبيه، ولو كان مملوكا فعشر قيمة الأم المملوكة ذكرا كان أو أنثى، مسلما كان أو كافرا، ولو تعدد ففى كل واحدة عشر قيمتها كما تتعدد ديته لو كان حراً، ولا كفارة هنا ولو ولجته الروح فدية كاملة للذكر ونصفها للأنثى، ومع الاشتباه فنصفا الديتين.
وجاء فى موضع آخر (45) أن دية الجنين فى مال الجانى أن كان القتل عمدا أو شبيها بالعمد وإلا ففى مال العاقلة كالمولود وحكها فى التقسيط والتأجيل كغيره (أنظر: دية، غرة) .
مذهب الإباضية:
يصور مذهب الإباضية ما ذكره صاحب متن النيل وشارحه (46) إن الحامل إذا تعمدت ما يضر بالحمل فأسقطت لزمها الضمان علمت بالحمل أم لم تعلم، وكذلك غيرها لو تعمد الاعتداء عليها، وإذا علم الزوج بالحمل وعمل ما يضر بها فأسقطت لزمه الضمان، وان فعل جائزا له ووقع الضرر بامتناعها أو تعرضها ضمنت وسلم وإن لم يعلما به أو علم به أحدهما فوقع الضرر منهما أو من أحدهما بخطأ لزمهما الضمان لا الإثم، وأن راودها غير زوجها فامتنعت فأسقطت ضمن، وإن اعتدت فدافعها المعتدى عليه فأسقطت فهى ضامنة، وإن خوفها أحد فأسقطت ضمن، وإن صامت وأسقطت بجوع أو عطش ضمن، وإن حملت ثقيلا ضمنت، وإن مشت فى الحر حتى أسقطت فعليها دية السقط.
وقالوا: إذا وجب على حامل حق من قتل أو غيره فأخرج على علم بالحمل فإنه يلزم المخرج الضمان والهلاك، وقيل: لا هلاك عليه ولكن عليه الإثم وضمان الحمل وإن وجب على أمة ضرب فضربت فأسقطت لزم الإثم فقد، وقيل يلزم ضمان الحمل أيضا.
وجاء فى موضع آخر أن سقط الأمة يقدر بنظر العدول وليس على الجانى غير ذلك، وأنه إن سقط حيا فمات أعطى السيد نقصان الأمة وقيمة السقط، وسقط الحرة إن كان نطفة فعلى الجانى عشرة دنانير أو مضغة تهزجا فأربعة عشر أو علقة فأربعة وعشرون أو مضغة فأربعون أو ممتدا فستون أو مصور افثمانون أو نابت الشعر فمائة دينار أو منفوخا فيه الروح فديه كاملة. وقيل: إن كان حرا فمات بإسقاطه فالغرة لصاحب الحمل وهل هى عبد أو أمة أو فرس أو جواد أو أربعون دينارا الخ (انفر: غرة) .
وقالوا: إن غرة حمل المشرك عشر قيمة ديته من أى ملة كانت بحسب دية ملته، وقيل النظر.
__________
(1) نهاية المحتاج ج8 ص416 طبعة الحلبى بمصر سنة 7 هـ 13 هجرية.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص360 طبعة الحلبى بمصر سنة 7 هـ 13 هجرية.
(3) نهاية المحتاج ج 8 ص416 طبعة الحلبى بمصر سنة 7 هـ 13 هجرية.
(4) تحفة الحبيب على شرح الخطيب ج4 ص ا 13.
المطبعة الميمنية لأحمد البابى الحلبى بمصر سنة1310
(5) الروضة البهية ج2 ص 445.
(6) مطبوع بهامش حاشية ابن عابدين ج2 ص 411 الطبعة الميمنية بمصر سنة1310 هجرية.
(7) الفتح القديرة ج2 ص 495، مطبعة مصطفى محمد بمصر.
(8) ج2 ص366 المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1345
(9) بداية المجتهد ج2 ص348.
(10) ج4ص40.
(11) ج 6 ص179.
(12) نهاية المحتاج ج8 ص416.
(13) المغنى ج8 ص815
(14) ج2 ص316 المطبعة السلفية، الطبعة السادسة سنة 1380 هجرية.
(15) المحلى ج11 ص36.
(16) البحر الزخار ج3 ص81.
(17) المرجع السابق ج5 ص457.
(18) البحر الزخار ج5 ص260.
(19) ج2 ص445.
(20) ج8 ص119، 121
(21) حاشية ابن عابدين ج5 ص410، 413، والهداية ج4 ص153.
(22) ج4 ص153.
(23) ج5 ص410، 412.
(24) حاشية الدسوقى وشرح الدردير على متن خليل ج ص268، 270.
(25) بداية المجتهد ج2 ص347 طبعة دار الخلافة سنة 1333
(26) ج4 ص130، 133 وأنظر أيضا نهاية المحتاج ج7 ص 360، 346.
(27) ج4 ص133.
(28) المغنى ج7 ص799.
(29) المغنى ج7 ص801.
(30) المغنى ج7 ص802.
(31) المغنى ج7 ص806.
(32) المغنى ج7 ص808.
(33) المغنى ج7 ص 805.
(34) المغنى ج7 ص806.
(35) المغنى ج7 ص815.
(36) المغنى ج7 ص816.
(37) ج11 ص35 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(38) المحلى ج11 ص37.
(39) المحلى ج11 ص38.
(40) المحلى ج11 ص39.
(41) المحلى ج11 ص42، 46.
(42) ج5 ص356.
(43) البحر الزخار ج5 ص257.
(44) الروضة البهية ج2 ص444.
(45) الروضة البهية ج2 ص445.
(46) متن النيل وشرحه ج8 ص119، 121(1/53)
إحالة
المعنى اللغوى: الإحالة مصدر فعله أحال والمادة تدل على الانتقال والتغير من حال إلى حال ومن ذلك قولهم حال المشىء إذا تغير ومثله استحال ومنه تحول من مكانه إذا اتنقل وحولته نقلته من موضع إلى آخر وأحال المشىء إلى غيره ومن ذلك أخذت الحوالة ويقال أحلته بدينه اذا نقلته من ذمتك الى ذمة أخرى كما يقال أحلت المشىء إذا نقلته والاسم الحوالة كسحابة (1) .
المعنى الشرعى: من الاعتبارات الشرعية التى أسس عليها كثير من الأحكام الفقهية شغل ذمة الإنسان بما يلتزم به من مال عوضا عن مال تملكه أو منفعة استحقها أو حق أصبح مختصا به أو نتيجة قرض فيصبح بذلك مدينا مطالبا بأدائه ويعرف هذا المال حينئذ باسم الدين وتستمر ذمته مشغولة به إلى أن يوفيه أو يبرئه منه صاحبه الذى يعرف حينئذ باسم الدائن وقد يتفق المدين مع دائنه أن يحل محله فى هذا الدين آخر ينقل إلى ذمته هذا الدين وتبرأ منه ذمة المدين فتنتهى بذلك مطالبته به وذلك بطريق التبرع والتفضل من هذا الشخص أو نظير براءته من دين شغلت به ذمته للمدين الأول أو على أن يحل محله فى المطالبة بهذا الدين والوفاء به فتنتقل إليه المطالبة به ولا توجه إلى المدين الأصلى وذلك على حسب اختلاف الفقهاء فيما تدل عليه تلك المعاملة وما يترتب عليها من أثر وتقوم هذه المعاملة على وجود الأركان الآتية: مدين يحيل الدين وينقله أو ينقل المطالبة به الى غيره ويسمى بالمحيل ومحال هو الدائن يحيله المدين إلى ثالث ليصير. سر مطالب ليصير له بالدين ومحال عليه وهو من التزم للمحال بأن يوفيه هذا الدين وصار بذلك مطالبا به، ودين شغل ذمة المدين وانتقل بهذا الاتفاق إلى ذمة المحال عليه أو أنتقلت إليه المطالبة به وتسمى هذه المعاملة حوالة أو إحالة غير أن ان إطلاق اسم الإحالة عليها قليل الاستعمال فى لسان الفقهاء واستعمالاتهم والكثير الغالب إطلاق أسم الحوالة عليها وتحت هذا الاسم عرفوها وبينوا أنواعها وأركانها وشروطها وموضوعها وأحكامها وجميع ما يتعلق بها مما تتطلبه دراستها من جميع نواحيها، ولذا كان المستحسن الاقتداء بصنيع الفقهاء والرجوع فى تعريف الإحالة وبيان جميع ما يتعلق بها إلى مصطلح "حوالة ".
__________
(1) القاموس والمصباح والمعجم الوسيط.(1/54)
احتباء
التعريف به:
الاحتباء بالثوب الاشتمال، والاسم الحِبوة والحُبوة، وهى الثوب الذى يحتبى به، وفى الحديث أنه نهى عن الاحتباء فى الثوب الواحد.
ابن الأثير: هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليها، قال: وقد يكون الاحتباء باليدين عوضا عن الثوب، وإنما نهى عنه لأنه إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد ربما تحرك أو زال الثوب عنه فتبدو عورته (1) .
وفى الحديث الاحتباء حيطان العرب، يعنى ليس فى البرارى حيطان فإذا أرادوا الاستناد احتبوا، لأن الاحتباء يمنعهم من السقوط ويصير لهم كالجدار (2) .
واستعمله الفقهاء بهذا المعنى، واختلفوا فى حكمه فى انتظار الصلاة يوم الجمعة، فأجازه طائفة منهم وكرهه آخرون.
مذهب الحنفية:
أما الأحناف فقالوا: وللرجل أن يحتبى فى يوم الجمعة إن شاء لأن قعوده فى انتظار الصلاة فيقعد كما يشاء.
وقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم فى التطوعات فى بيته كان يقعد محتبيا، فإذا جاز ذلك فى الصلاة ففى حالة انتظارها أولى (3) .
مذهب المالكية:
وقال المالكية: يجوز الاحتباء والإمام فى الخطبة. وقال الباجى فى المنتقى: روى ابن نافع عن مالك: لا بأس أن يحتبى الرجل يوم الجمعة والإمام يخطب.
وقال فى النوادر: وله ان يحتبى والإمام يخطب.
قال أبو داود: وكان ابن عمر يحتبى والإمام يخطب، وكان أنس كذلك؟ وجل الصحابة والتابعين قالوا لا بأس بها، ولم يبلغنى أن أحدا كرهه إلا عبادة بن نسى.
وقال الترمذى: وكره قوم الحبوة وقت الخطبة ورخص فيها آخرون.
وقال الخطابى بالنسبة للحبوة والمعنى فيه أنها تجلب النوم فتعرض طهارته للنقض وتمنع من استماع الخطبة، لما روى أبو داود والترمذى والحاكم وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب (4) .
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية: ويكره الاحتباء حال الخطبة للنهى الصحيح عنه ولجلبة النوم (5)
مذهب الحنابلة:
وأما الحنابلة فقالوا: ولا بأس بالاحتباء مع ستر العورة لما تقدم من مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: " ليس على فرجه منه شىء "، يعنى الحديث الذى رواه إسحاق بن عبد الرازق عن معمر عن الزهرى عن عطاء بن يزيد عنه مرفوعا: نهى عن لبستين وهما اشتمال الصماء (وهو أن يضع ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو واحد شقيه ليس عليه ثوب) والاحتباء (وهو أن يحتبى به ليس على فرجه منه شىء) .
ويحرم الاحتباء مع عدمه، أى عدم ستر العورة، لما فيه من كشف العورة بلا حاجة، وعلم من الحديث انه إذا كان عليه ثوب آخر لم يكره لأنه لبسة المحرم وفعلها النبى صلى الله عليه وسلم وأن صلاته صحيحة إلا أن تبدو عورته (6) .
وقالوا أيضا: ولا بأس بالحبوة نصا مع ستر العورة وفعله جماعة من الصحابة وكرهه الشيخان لنهيه عليه الصلاة والسلام عنه، رواه أبو داود والترمذى وحسنه، وفيه ضعف (7) .
مذهب الظاهرية:
أما ابن حزم الظاهرى فقال: الاحتباء جائز يوم الجمعة والإمام يخطب.
وروى عن بن عمر أنه كان يحتبى يوم الجمعة والإمام يخطب. وكذلك عن أنس بن مالك وشريح وصعصعة بن صوحان وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعى، ومكحول، وإسماعيل بن محمد بن سعد ابن أبى وقاص، ونعيم بن سلامة، ولم يبلغنا عن أحد من التابعين أنه كرهه إلا عبادة بن نسى وحده، ولم ترو كراهة ذلك عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم (8) .
مذهب الزيدية:
أما الزيدية فقد ذهبوا الى عدم جوازه ونصوا على أنه لا يحتبى للخبر عن معاذ بن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب (9) .
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية: يجوز الاحتباء ولو فى ثوب يستر العورة لما ورد فى الحديث عن الإمام- الصادق- فيما رواه سماعة- قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يحتبى بثوب واحد، فقال: إن كان يغطى عورته فلا بأس (10) .
وكرهوا الاحتباء فى المسجد الحرام لما رواه حماد عن الصادق إعظاما للكعبة (11) .
مذهب الإباضية:
وقال الإباضية: ولا يضر احتباء (12) .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور، مادة " حبا ".
(2) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ج 2 ص176.
(3) المبسوط ج2 ص36.
(4) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ج2 ص 176.
(5) نهاية المحتاج ج2 ص315.
(6) كشاف القناع ج1 ص188.
(7) كشاف القناع ج اص350.
(8) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 5 ص67 0
(9) البحر الزخار ج 2 ص54.
(10) وسائل الشيعة ومستدركاتها للحر العاملى باب الحج.
(11) المصدر السابق.
(12) متن النيل ج1 ص83.(1/55)
إحتباس
المعنى اللغوى:
جاء فى القاموس: " إحتبسه: حبسه فأحتبس، لازم ومتعد ".
الإحتباس وسيلة لوجوب
نفقة الزوجة
وهذا يقتضى إن نبين ما يكون به الإحتباس وما يفوت به الإحتباس الموجب للنفقة فى المذاهب.
مذهب الحنفية:
يرى الحنفية، كما فى الهداية
وشروحها (1) :
أن النفقة واجبة للزوجة على زوجها سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة اذا سلمت نفسها غليه، فعليه نفقتها وكسوتها وسكناها، والأصل فى ذلك قوله تعالى: "لينفق ذو سعة من سعته " (2) ، ولأن النفقة
وقالوا أيضا: ولا بأس بالحبوة نصا مع ستر العورة وفعله جماعة من الصحابة وكرهه الشيخان لنهيه عليه الصلاة والسلام عنه، رواه أبو داود والترمذى وحسنه، وفيه ضعفا (3) .
مذهب الظاهرية:
إما ابن حزم الظاهرى فقال: الاحتباء جائز يوم الجمعة والإمام يخطب.
وروى عن ابن عمر أنه كان يحتبى يوما الجمعة والإمام يخطب. وكذلك عن أنس ابن مالك وشريح وصعصعة بن صوحان وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعى، ومكحول، وإسماعيل بن محمد بن سعد بن أبى وقاص، ونعيم بن سلامة، ولم يبلغنا عن أحد من التابعين أنه كرهه إلا عبادة بن نى وحده، ولم ترو كراهة ذلك عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم (4) .
مذهب الزيدية:
أما الزيدية فقد ذهبوا إلى عدم جوازه ونصوا على انه لا يحتبى للخبر عن معاذ بن انس أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب (5) .
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية: يجوز الاحتباء ولو فى ثوب يستر العورة لما ورد فى الحديث عن الإمام- الصادق- فيما رواه سماعة- قال سألت أبا عبد الله عن الرص يحتبى بثوب
جزاء الإحتباس فكل من كان محبوسا بحق لغيره كالقاضى والعامل فى الصدقات والمفتى والوالى، والمضارب، والمقاتلة إذا قاموا بدفع عدو المسلمين.. والنساء محبوسات لحق الزوج فتجب نفقتهن عليهم مسلمات كن أو لا، ولو غنيات.
وقال كل من صاحبى فتح القدير والعناية تعليقا على قول الميرغينانى فى الهداية: " اذا سلمت نفسها فى منزله " ليس شرطا لازما فى ظاهر الرواية، بل من حين العقد على الصحيح وإن لم تنتقل إلى منزل الزوج إذا لم يطلب الزوج انتقالها ت فإن طلبه فامتنعت لحق لها كمهرها لا تسقط النفقة أيضا، وإن كان لغير حق فلا نفقة لها لنشوزها.
وقال بعض المتأخرين: لا نفقة لها حتى تزف إلى منزل الزوج، وهو رواية عن أبى يوسف، وليس الفتوى عليها.
ونقل الكمال عن بعض الفقهاء أن تسليمها نفسها شرط بالإجماع، وفيه نظر.
ونقل صاحب العناية ما يؤيد أن الشرط ليس بلازم على إطلاقه، فقال: أن النفقة حق المرأة، والانتقال حق الزوج فإذا لم يطالبها بالنقلة فقد ترك حقه، وهذا لا يوجب بطلان حقها.
ويقولون (6) : إن المرأة إذا امتنعت عن تسليم نفسها قبل الدخول أو بعده حتى يعطيها المهر فلها النفقة لأنه منع بحق فكمان فوت الإحتباس لمعنى من قبله فيجعل كأنه ليس بفائت، وإن نشزت فلا نفقة لها حتى تعود إلى منزله، لأن فوت الاحتباس منها وإذا عادت جاء الاحتباس فتجب النفقة، وإذا امتنعت من التمكين فى بيت الزوج فلها النفقة، لأن الإحتباس قائم والزوج يقدر على الوطء كرها، وإن كانت صغيرة لا يستمتع بها فلا نفقة لها لأن امتناع الاستمتاع لمعنى فيها.
والإحتباس الموجب للنفقة ما يكون وسيلة إلى مقصود مستحق بالنكاح، ولم يوجد، لأن الصغيرة التى لا تصلح للجماع لا تصلح لدواعيه، لأنها غير مشتهاة، وإذا كان الزوج صغيرا لا يقدر على الوطء وهى كبيرة فلها النفقة من ماله لأن التسليم قد تحقق منها، وإنما العجز من قبله فصار كالمجبوب والعنين، وإذا حبست المرأة فى دين (7) .
فلا نفقة لها لأن فوت الاحتباس منها بالمماطلة، وإن كانا عاجزين بأن كانا صغيرين ففيه بحث. قال الكمال: والتحقيق أن النفقة لا تجب إلا تسليمها لاستيفاء منافعها المقصودة بذلك التسليم، فيدور وجوبها معه وجودا وعدما فلا تجب "فى الصغيرين، وتجب فى الكبيرة تحت الصغير.
قالوا: وإذا غصبها رص كرها فذهب بها فلا نفقة لها، وعن أبى يوسف أن لها النفقة.
قال الميرغينانى: والفتوى على الأول لأن فوت الاحتباس ليس منه حتى يجعل باقيا تقديرا 0
وإذا حجت مع محرم. فلا نفقة لها لأن فوت الاحتباس منها، وعن أبى يوسف
آن لها النفقة لأن إقامة الفرض عذر، ولكن تجب عليه نفقة الضر دون السفر لأنها هى المستحقة عليه، ولو سافر معها الزوج تجب النفقة بالاتفاق لأن الاحتباس قائم لقيامه عليها وتجب نفقة الحضر دون السفر.
وإذا مرضى فى منزل الزوج قال الميرغينانى: لها النفقة، والقياس إن لا نفقة لها إذا كان مرضا يمنع من الجماع لفوت الاحتباس للاستمتاع.
وجه الاستحسان إن الاحتباس قائم فإنه يستأنس بها ويمسها وتحفظ البيت، والمانع بعارض فأشبه الحيض.
وعن أبى يوسف إنها إذا سلمت نفسها ثم مرضت تجب النفقة لتحقق التسليم ولو مرضت ثم سلمت نفسها لا تجب لها النفقة لأن التسليم لم يصح.
وقال الكاسانى فى الاستدلال بالمعقول (8) :
أن المرأة محبوسة بحبس النكاح حقا للزوج ممنوعة عن الاكتساب بحقه، فكان نفع حبسها عائدا إليه فكانت كفايتها عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: " الخراج بالضمان " ولأنها إذا كانت محبوسة بحبسه ممنوعة من الخروج للكسب بحقه فلو لم تكن كفايتها عليه لهلكت، ولهذا جعل للقاضى رزق فى بيت مال المسلمين لحقهم لأنه محبوس لجهتهم ممنوع عن الكسب، فجعلت نفقته
فى مالهم وهو بيت المال.
كذا هنا، وقال: إن سبب وجوب النفقة للزوجة عند أصحابنا استحقاق الدق الثابت بالنكاح للزوج عليها، والدليل على ذلك أن حق الحبس الثابت للزوج عليها بسبب النكاح مؤثر فى استحقاق النفقة لها عليه لما بينا.
ثم قال: إن النفقة تجب للزوجة فى العدة من نكاح صحيح بهذا السبب، وهو استحقاق الحبس للزوج عليها بسبب النكاح لأن النكاح قائم من وجه فتستحق النفقة كما كانت تستحقها قبل الفرقة أولى، لأن حق الحبس بعد الفرقة تكد بحق الشرع وتأكد السبب يوجب تكد الحكم، سواء كانت العدة عن فرقة بطلان أو عن فرقة بغير طلاق من قبل الزوج أو من قبلها، إلا إذا كانت من قبلها بسبب محظور استحسانا. وأطال فى تفصيل ذلك.
وقال صاحب الدر أيضا (9) : لو سلمت نفسها بالليل دون النهار أو عكس ذلك،- فلا نفقة لها لنقص التسليم.
ونقل عن المجتبى أن ذلك يدلنا على جواب واقعة فى زماننا، أنه لو تزوج من المحترفة التى تكون بالنهار فى مصالحها وبالليل عنده فلا نفقة لها. وقال فى النهر فيه نظر.
وبين ابن عابدين وج النظر بأنها معذورة لاشتغالها بمصالحها بخلاف المقيس عليه
فإنه لا عذر لها فنقص التسليم منسوب إليها..
ونقل ابن عابدين عن الهندية أن الأمة إذا سلمها السيد لزوجها ليلا فقط ضلي السيد نفقة النهار وعلى الزوج نفقة الليل، وقياس المحترفة كذلك.
ثم قال ابن عابدين: إن له منعها من الغزل وكل عمل ولو قابلة ومغسلة. فان عصته وخرجت بلا أذنه كانت ناشزة ما دامت خارجة، وان لم يمنعها لم تكن ناشرة.
مذهب المالكية:
جاء فى متن خليل والشرح الكبير (10) : "تجب النفقة لممكنة من نفسها مطيقة للوطء بلا مانع بعد أن دعت هى أو مجبرها) أى من له حق إجبارها على الزواج (أو وكيلها للدخول "، وعلق الدسوقى على ذلك نقلا عن ابن سلمون بقوله: ان الممكنة هى التى لا تمتنع من الوطء إذا طلبت، بوأها زوجها معه بيتا أم لا.-
وقال الدردير: إن النفقة لا تجب لغير ممكنة، أو التى لم يحصل منها أو من وليها دعاء، أو صل قبل مضى زمن يتجهز فيه كل منهما، ولا لغير مطيقة، ولا مطيقة بها مانع كرتق إلا أن يتلذذ بها مع علمه - بالمانع.
ثم قال (11) : ولها الامتناع من أن تسكن مع أقاربه كأبوية، إلا الوضيعة فليس لها الامتناع من السكني مم، وكذا الشريفة إن اشترطوا عليها سكناها معهم.
وعلق الدسوقى على ذلك بقوله إن لها حق الإقناع ولو بعد رضاها بسكناها معهم ولو لم يثبت الضرر لها بمشاجرة ونحوها.
ثم قال: والظاهر أفه ليس لها الامتناع من السكنى مع خدمه وجواريه.
وقال بعضهم: أن لها الامتناع من السكنى معهم ولو لم تحدث بينها وبينهم مشاجرة بدليل تعليل ابن رشد وغيره عدم السكنى مع أهله بقولهم لما عليها من الضرر باطلاعهم على أمرها وما تريد أن تستره عنهم من شأنها.
وقالوا (12) : إن النفقة تسقط إن منعت زوجها الوطء أو الاستمتاع بدونه فتسقط نفقتها عنه فى اليوم الذى منعته فيه من ذلك، وكذلك إذا خرجت من محل طاعته بلا إذن ولم يقدر على ردها بنفسه أو رسوله أو حاكم ينصف، وهذا إن لم تكن حاملا وإلا فلها النفقة وإن خرجت.
وقيد الدسوقى الخروج المسقط للنفقة بما إذا كانت ظالمة فى ذلك الخروج لا ما إذا كانت مظلومة، ولا حاكم ينصفها.
ثم قال: أن الهاربة خفية لمكان مجهول تسقط نفقتها، ولو قدر على ردها أو عم بمكانها..
ويقول ابن رشد (13) : إن هناك اختلافا فى شأن الزوج غير البالغ هل تجب عليه النفقة، وسبب اختلافهم هل النفقة لمكان الاستمتاع أو لمكان أنها محبوسة على الزوج كالغائب والمريض.
وجاء فى المدونة (14) : إن مالكا يقول فى المريضة إذا دعته للدخول بها، وكان مرضها إلا بمنع من الجماع فان النفقة لازمة للزوج، أما إذا كان لا يقدر على جماعها فى المرض فدعت إلى البناء بها وطلبت النفقة فان لها ذلك.
وقال مالك فى الأمة (15) : إن لها النفقة وإن وأنت تبيت عند أهلها.
وقال الدردير (16) فى المطلقة: إن المطلقة رجعيا لا تسقط نفقتها مطلقا، والبائن تسقط نفقتها إن لم تحمل، على تفصيل فيما يجب من أنواع النفقة، على ما يتبين فى مصطلح "نفقة".
وقال خليل الدردير (17) : أن المرأة إن ح! بست فى دين فلا تسقط نفقتها لأن المنع من الاستمتاع ليس من جهتها وكذلك ان حبسته مى. فى دين لها عليه لاحتمال أن يكون معه مال أخفاه فيكون متمكنا من
الاستمتاع بأدائه لها، ولو حبسه غيرها لم تسقط بالأولى، وكذلك إذا حجت الفرض لا تسقط نفقتها ولو بغير أذنه أو حجت تطوعا بإذنه ولها نفقة الحضر.
مذهب الشافعية:
جاء فى الإقناع على متن أبى شجاع (18) : إن النفقة واجبة للزوجة الممكنة نفسها تمكينا تاما لأنها سلمت ما ملك عليها فيجب ما يقابله من الأجرة لها ولا تجب بمجرد العقد لأنه صلى الله عليه وسلم تزوج طائشة وهى صغيرة ودخل بها بعد سنتين ولم ينقل أنه أنفق عليها قبل الدخول، ولو كان حقا لها لساقه أليها، ولو وقع لنقل.
وعلل البجرمى فقال: إن النفقة دائرة مع التمكين وجودا وعدما.
ويقول الخطيب: فإن لم تعرض عليه زوجته مدة مع سكوته عن طلبها ولم تمتنع فلا نفقة لها لعدها التمكين، وان عرضت عليه وهى عاقلة بالغة مع ضرورة فى بلدها كأن بعثت إليه تخبره أنى مسئمة نفى إليك، فاختر أن آتيك حيث شئت "وتأتى
إلى وجبت نفقتها من حين بلوغ الخبر، ولو اختلف الزوجان في التسكين، فقالى مكنت فى وقت كذا فأنكر ولا بينة صدق بيمينه لأن الأصل عدمه (19) .
وعلق البجرمى على قول الخطيب " أن النفقة واجبة للزوجة الممكنة " فقال: أن
الممكنة تصدق بالمسلمة والذمية والأمة ويخرج بها غير الممكنة فلا نفقة لها.
ثم قال (20) : إن عدم التمكين يحصل بأمور منها: النشوز، ومنها الصغر بخلاف الكبيرة إذا كان زوجا صغيرا فلها النفقة، ومها العبادات التى تمنع التمكين، فإذا أحرمت بحج أول عمرة بغير إذنه وهى فى البيت فلها النفقة ما لم تخرج، لأنه قادر على تحليلها أو بإذنه فان لم يخرج معها فلا نفقة لها، وكذا إذا صامت تطوعا بغير إذنه أو امتنع من الإفطار فليس لها النفقة.
ويقول: إذا نشزت بعض النهار سقطت جميع نفقة ذلك اليوم، وإذا نشزت بعض الليل سقطت نفقة اليوم الذى بعده.
ثم قال: إن التمكين غير التام يسقط النفقة كما اذا كانت صغيرة لا تطيق الوطء ولو تمتع بالمقدمات وما إذا كانت أمة مسلمة له نهارا لا ليلا أو العكس أو فى نوع من التمتع دون آخر.
وقالوا فى زوجة المعسر الذى أمهله الحاكم بالنفقة أن لها الخروج لتحصيل نفقة بكسب أو سؤال، وعليها رجوع لمسكنها ليلا لأنه وقت الدعة وليس لها منعه من التمتع.
وفى نهاية المحتاج (21) : أن النفقة تسقط بالنشوز ولو بحبسها ظلما أو حقا وإن كان
الحابس هو الزوج وبالأولى تسقط لو حبسته ولو بحق للحيلولة بينه وبينها.
وقال (22) : أن المرض الذى يضر معه الوطء والحيض أيضا عذر فى عدم تمكينها من الوطء فتستحق المؤن.
قال: والخروج من البيت الذى رضى بإقامتها فيه ولو بيتها أو بيت أبيها بلا أذن منه ولا ظن رضاه نشوز، إلا أن يشرفه على الانهدام، أو الخروج لقاض لطلب الحق أو تعلم أو استفتاء ان لم يفتها زوجها أو المحرم، أو يخرجها معتد ظلما فليس بنشوز وتستحق النفقة.
وقال (23) : وتجب النفقة للمطلقة رجعيا حرة أو أمة ولو حاملا لبقاء حبس الزوج وسلطنته والبائن لا نفقة لها.
مذهب الحنابلة:
يقول ابن قدامه (24) فى باب عشرة النساء:
إذا تزوج امرأة فطلب تسليمها إليه وجب ذلك وان عرضت نفسها عليه لزمه تسلمها ووجبى نفقتها وإن طلبها فسألت الأنظار أنظرت مدة جرت العادة إن تصلح أمرها فيه: ثم أن كانت حرة وجب تسليمها ليلا ونهارا وان كانت أمة لم يلزم تسليمها إلا بالليل لأنها مملوكة عقد على إحدى منفعتيها فلم يلزم تسليمها فى غير وقتها، وعلل ذلك (25) فى موضع آخر بأن النفقة فى مقابلة
التمكين وقد وجد منها بالليل فتجب النفقة على الزوج فيه فقط.
ثم قال: وللزوج منعها من الخروج من منزله إلى ما يمكن الاستغناء عنه ولو لزيارة الوالدين أو عيادتهم أو حضور جنازة أحدهما ولا جوز لها الخروج إلا بإذنه ولكن لا ينبغى للزوج منعها من عيادة الوالدين وزيارتهما.. وان كانت مسلمة فقال القاضى له منعها من الخروج إلى المسجل.
وقال (26) : وإذا رضيت بالمقام مع الزوج وهو معسر لم يلزمها التمكين من الاستمتاع وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها وتحصل ما تنفقه على نفسها لأن فى حبسها بغير نفقة إضرار بها ولو كانت موسرة أيضا وهو" معسر لم يكن له حبسها لأنه إنما يملك حبسها إذا كفاها المئونة وأغناها عن ما لابد لها منه، ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب عليها فإذا انتفى الأمران لم يملك حبسها.
ويقول (27) : إن المرأة تستحق النفقة علي زوجها بشرطين:
أحدهما: أن تكون كبيرة يمكن وجوها فان كانت صغيرة لا تحتمل الوطء فلا نفقة لها لأن النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع ولأن من لا تمكن الزوج من نفسها لا يلزم الزوج نفقتها.
الثانى:. أن تبذل التمكين التام من نفسها لزوجها فإن منعت نفسها أو منعها أولياؤها
أو تساكنا بعد العقد فلم تبذل ولم. يطلب فلا نفقة لها وان أقاما زمنا واستدل بحديث عائشة السابق 0
ثم قال: ولأن النفقة تجب فى مقابلة التمكين المستحق بعقد النكاح، ولو بذلت تسليما غير تام لم تستحق النفقة إلا إذا كانت اشترطت ذلك فى العقد وتجب لها النفقة وإن غاب الزوج بعد تمكينها لأنها استحقتها بالتمكين ولم يوجد ما يسقطها، وأن غاب قبل تمكينها فلا نفقة لها عليه. وإذا مكنت وزوجها صغير أجبر ولمجا على نفقتها من مال الصغير وأن بذلت الرتقاء أو الحائض أو المهزولة التى لا يمكن وطؤها أو المريضة تسليم نفسها لزمه نفقتها لأنه لا تفريط من جهتها (28) . وللمرأة أن تمنع نفسها حتى تتسلم صداقها وإذا سافرت بغير إذنه سقطت نفقتها، وكذلك اذا انتقلت من منزله بغير إذنه وأن سافرت بإذنه فى حاجته فهى على نفقتها، وان كانت حاجة نفسها سقطت نفقتها لأنها فوتت التمكين لحط نفسها إلا أن يكون مسافرا معها متمكنا من الاستمتاع بها، وسواء كان سفرها لتجار أو بم تطوع أو زيارة وان أحرمت بالحج الواجب أو العمرة الواجبة فى الوقت الواجب من الميقات فلها النفقة لأنها فعلت الواجب عليها بأصل الشرع فلم تسقط نفقتها كما لو صامت رمضان.
والقياس أن الاعتكاف بغير إذن كالسفر- وان، كان بإذنه فلا نفقة لها أيضا على قول الخرقى، وقال القاضى: لا النفقة.
وقال ابن قدامه (29) : اذا طلق امرأته طلاقا بائنا فان كانت حاملا استحقت النفقة وإن كانت حائلا فلا نفقة لها على خلاف فى السكنى، والمطلقة رجعيا لا النفقة.
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم (30) : على الزوج كسوة الزوجة ونفقتها مذ يعقد النكاح صغيرة كانت أو كبيرة دعى إلى البناء أو لم يدع نشزت أو لم تنشز حرة كانت أو أمة بوأت معه فى بيت أو لم تبوأ.
مذهب الزيدية:
يقول صاحب البحر الزخار (31) : تسلم البالغة نفسها تسليما تاما لا فى جهة دون أخرى، فإن قالت لا أسلم تمسى إلا فى هذا المكان أو بشرط ألا تكشف ثيابي فنشوز مسقط للنفقة، فإن عقد فلم يطالب ولا سلمت تمسها مدة فالمذهب وجوبها.
وقال الإمام يحي: إن تسليم الولى للبالغة الكارهة لا يوص لا يوجب إذا لم يتسلمها إذ لا ولاية أتولى فى مالها، فإن أرادت تسليم نفسها للغائب أعلمت الحاكم فراسله وفرض لها بحد صحة تمرده، فإن عاقه عن تسلمها عائق فى سفره فلا نفقة لها حتى يتسلمها.
وإذا أسلمت المراهقة نفسها أو وليها فكالكبيرة، فان امتنعا فالقياس يقتضى كونه نشوزا.
وقال الإمام يحيى فى غير المراهقة ان تسليمها كلا تسليم، وإن صلحت وفى ذلك خلاف فى المذهب، وعليه نفقة الطفلة إلى لا تصلح خلافا لبعضهم لأنها محبوسة من أجله غير ممتنعة كالمريضة وتلزم النفقة الصغير فى ماله.
وقال الإمام يحيى: يحتمل ألا تجب إذ لا- تمكين. قلنا العذر من جهته كما لو هرب وخروجها بغير إذنه مسقط للنفقة فإن خرجت بإذنه لحاجته وجبت.
وجاء فى البحر أيضا فى الموضوع: وإذا امتنعت لتسليم المهر فلها النفقة إجماعا، وإذا نشزت ثم طلقت فلا نفقة للعلة ما لم تتب.
وفى موضع آخر (32) : ولا يلزم السيد تسليم أمته لزوجها نهارا لملكه استخدامها فان فعل لزمت نفقتها لتمام التسليم.
وقال الإمام يحيى: يحتمل إن يلزمها نصفها بتسليم الليل وتسقط نفقتها بالإحرام بغير إذنه، فان صامت بإذنه لم تسقط وله منعها من التطوع، فان صامت بعد منعه فناشزة وإن لم تخرج من المنزل.
مذهب الشيعة الجعفريه:
تجب نفقة الزوجة بالعقد الدائم بشرط التمكين الكامل (33) وهو إن تخلى بينه
وبين نفسها قولا وفعلا فى كل زمان ومكان يسوغ فيه الاستمتاع. فلو بذلت فى زمان دون زمان أو مكان دون مكان وكان كل من الزمان والمكان يصلح للاستمتاع فيه فلا نفقة لها.
ثم قال: وحيث كان مشروطا بالتمكين فلا نفقة للصغيرة التى لم تبلغ سنا يجوز الاستمتاع بها بالجماع على أشهر القولين لفقد الشرط وهو المكين من الاستمتاع، ولو كانت كبيرة ممكنة والزوج صغيرا وجبت النفقة لوجود المقتضى وانتفاء المانع لأن الصغر لا يصلح للمنع. ولا نفقة للناشزة الخارجة عن طاعة الزوج ولا للساكتة بعد العقد ما لم تعرض التمكين عليه بأن تقول: سلمت نفسى إليك فى أى مكان شئت، ونحو ذلك وتعمل بمقتضى قولها حيث يطلب، ومقتضى ذلك أن التمكين الفعلي خاصة غير كاف.
مذهب الإباضية:
جاء فى النيل وشرحه (34) : " لا يلزم الزوج حق البكر، كنفقتها، وهى التى لها أب لتعلق حقوقها به حتى يجلبها، أى يتسلمها الزوج، أو يقول له أبوها اجلبها أو تجئ إليه على ألا ترجع إلى أبيها أو أمسكها وإن لم يكن لها أب كذلك، ولو كانت ثيبا لزمت حقوقها من حين العقد.
وإن ترك الزوج جلبها، أى أخذها، تهاونا بها لزمه نفقتها وكسوتها وسكناها ومؤونتها ولو لم تطلب الجلب.
ثم قال: إن المجىء إلى زوجها حق عليها فلا يلزمه كراء الدابة أو السفينة ونحو ذلك للقدوم عليه من غيبتها.
وجاء فيه (35) : إن الزوجة إن مضت لواجب حج لزمته نفقتها فى الرجوع وقيل فى الذهاب، والصحيح أنها لا تلزم هو فى الذهاب لأن الحج فرض عليها وليمس فى ذهابها إليه حق لزوجها لأنها فارقته بالسفر بخلاف الرجوع فانه رجوع إلى حقوقه بعد الذهاب عها وبخلاف ما إذا كان الحج نفلا فإن إذنه لها فيه ترك لحقوقه عليها ما لم ترجع لا لحقوقها عليه ما أمكنت فلا تبطل نفقتها وكسوتها.
ثم قال: إن حقوقها لازمة فى حيضها ونفاسها وفى نهار رمضان مع انه ممنوع من وقاعها، مع انه لو منعت امرأة زوجها من وقاعها وأباحت المقدمات لأبطلت حقوقها.. قال (36) : وإن سافر معها لزمه كراء الدابة وسائر حقوقها الممكنة فى السفر ذهابا ورجوعا.
ثم قال (37) : وإن حبست فى تعدية بسبب اعتداء فعليه مؤوتنها، ولها أن تطلبه أن يأتيها فى الحبس وأن تغلق الباب عليه معها، وإن حبست فى تعدية منها.
فكانت محبوسة على الحق أو من الحابس أو من غيره فتكون محبوسة على غير الحق فعليه مؤنتها لأنها إن حبست على الحق فليست تعديتها مبطلة لحقها لأن له
أن يأتيها فى الحبس وإن حبست على غير حق فذلك مصيبة لا يبطل بها حقها- ولكن له فيما بينه وبين الله على حابسها على غير حق مثل ما أنفق عليها لأنه عطلها عن محله ولو كان يجد الدخول إليها، ألا ترى أنه لا حق لها إذا أبت الجلب إلى بيته ولو أباحت له الدخول إليها فى بيتها.
وقال (38) : أنه تلزم الزوج نفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكاها فى العدة والحامل التى طلقت ثلاثا أو بائنا لها نفقة فقط حتى تضع، ووجه ذلك أنه شغل بطنها بالحمل وقد يمنعها الحمل من الاكتساب أو بعضه.
__________
(1) راجع الهداية للميرغيانى وفتح القدير عليها، وكذا العناية ج3 ص321 طبعة مصطفى محمد بالقاهرة.
(2) سورة الطلاق:7.
(3) كشاف القناع ج اص35.
(4) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 5 ص67 0
(5) البحر الزخار ج 2 ص54.
(6) المرجع السابق ج3 ص314.
(7) المرجع- السابق ج 3 ص 326.
(8) بدائع الصنائع ج 4 ص16 طبع الجمالية بالقاهرة سنة 1328 هـ.
(9) الدر مع حاشية ابن عابدين ج2 ص 702 طبعة المطبعة الميمنية سنة 1303 هجرية
(10) حاشية الدسوقى على شرح الدرديرج2 ص508، طبعة المطبعة الأزهرية بمصر.
(11) المرجع السابق ج 2 ص 512.
(12) المرجع السابق ج 2 ص 514.
(13) بداية المجتهد ج 2 ص هـ4، طبع مطبعة الجمالية الطبعة الأولى سنة 1229 هجرية.
(14) المدونة ج 4 ص104 طبعة إلساسى.
(15) المدونة ج 4 ص 105.
(16) الشرح الكبير بحاشية الدسوقى ج2 ص514.
(17) المرجع السابق ج2 ص517.
(18) الإقناع وحاشية البجرمى ج4 ص 73 طبعة القاهرة سنة 1294 هجرية.
(19) المرجع السابق ج 4 ص 75.
(20) المرجع السابق ج4 ص 73.
(21) ج 7 ص194.
(22) المرجع السابق ج 7 ص 195.
(23) نهاية المحتاج ج7 ص200 ومثله كتاب الام ج5 ص87 المطبعة الأميرية.
(24) المغنى ج 7 ص19.
(25) المغنى ج 7 ص597.
(26) المرجع السابق ج 7 ص577، باب النفقة.
(27) المرجع السابق ج 7 ص 601 طبع دار المنار سنة 1367 هجرية.
(28) المرجع السابق ج7 ص60
(29) المغنى ج7 ص606.
(30) المحلى لابن حزم ج 9 ص ا 62 مسألة 1850 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(31) ج3 ص 273 مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1366 هجرية.
(32) المرجع السابق ج3 ص 275.
(33) راجع الروضة البهية ج 2 ص 142 طبع دار الكتاب العربى.
(34) ج 3 ص301.
(35) النيل وشرحه ج 3 ص 305.
(36) المرجع السابق ص306.
(37) المرجع السابق ص308.
(38) المرجع السابق ص 560، 561.(1/56)
احتجام
التعريف به
جاء فى القاموس: المحجم والمحجمة ما يحتجم به وحرفته الحجامة ككتابه واحتجم طلبها ومثله فى المنجد غير أن المقصود هنا بالاحتجام هو قبول الفعل الذى تعبر عنه اللغة بالحجم ووقوعه فى جسده برضاه.
حكم الاحتجام
عبارات الفقهاء فى الفروع التى تناولوا فيها الاحتجام فى أبواب الفقه كاحتجام الصائم ووالمتوضىء والمحرم تفيد إباحة الاحتجام فى كل حال إلا أن يترتب عليه ضرر وسيتبين ذلك مما نورده بعد فى هذه الفروع.
احتجام المتوضىء
مذهب الحنفية:
قال الإمام السرخسى فى المبسوط (1) : الحجامة توجب الوضوء وغسل موضع المحجمة عندنا خلافا للشافعى لأن الوضوء واجب بخروج النجس فإن توضأ ولم يغسل موضع المحجمة فإن كان أكثر من قدر الدرهم لم تجزه الصلاة وإن كانت دون ذلك أجرأت.
جاء فى الشرح الكبير (2) إن نقص. الوضوء يحصل بحدث وهو الخارج المعتاد قال وخرج بالمعتاد ما ليس معتادا كدم وقيح إن خرجا خالصين من الأذى
مذهب المالكية:
فقال إنهما لو لم يخلصا من الأذى لنقض المخالط لهما.
وبين" الصفتى " (3) الأذى فقال: أما الدم والقيح فإن خرج معهما عذرة أو بول انتقض الوضوء وإن خرجا خالصين من ذلك فلا نقض، وما نقلناه عن المالكية يفيد بعمومه أن دم الحجامة لا ينقض الوضوء لخلوصه من الأذى المذكور.
مذهب الشافعية:
قال الخطيب فى الإقناع (4) : لا ينتقض الوضوء بالنجاسة الخارجة من غير الفرج كالفصد والحجامة لما روى أبو داود بإسناد صحيح أن رجلين من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم حرسا المسلمين فى غزوة ذات الرقاع فقام أحدهما يصلى فرماه رجل من الكفار بسهم فنزعه وصلى ودمه يجرى. وعلم النبى صلى الله عليه وسلم به ولم ينكره.
مذهب الحنابلة:
قال ابن قدامه (5) : إن الخارج من البدن من غير السبيل ينقسم طاهرا ونجسا، فالطاهر لا ينقض الوضوء والنجس ينقض الوضوء فى الجملة رواية واحدة. وهذا القول بعمومة يتناول. دم الحجامة فهم يوافقون الأحناف فى وجوب الوضوء منه.
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزمة الظاهرى (6) لا ينتقض الوضوء برعاف ولا دم سائل من شىء من الجسد ولا بحجامة ولا فصد.
وبرهان ذلك أنه لم يأت قرآن ولا سنة ولا إجماع بإيجاب وضوء فى شىء من ذلك.
مذهب الزيدية:
يروى صاحب البحر الزخار (7) : إن- الدم السائل ينقض الوضوء، ورد على من نفى ذلك محتجا بأن النبى عليه الصلاة والسلام احتجم وصلى، بأن القول أقوى من الفعل فى الدلالة على التشريع، والسنة القولية التى استدل بها الزيديه على نقض الوضوء بالحجامة هى ما روى عن تميم الدارى عن رسول الله أنه قال الوضوء من كل دافق سائل.
مذهب الشيعة الجعفرية:
حصر صاحب المختصر النافع نوا قض الوضوء فى البول والغائط والريح المعتاد. والنوم الغالب على الحاستين السمع والبصر، وعلي الاستحاضة القليلة، وزاد صاحب الروضة (8) : ما يزيل العقل من جنون وسكر ومن هذا يتبين عدم النقض عندهم بالحجامة وما شابهها.
مذهب الإباضية:
جاء فى متن النيل (9) " وفى النقض بدم مرتفع ذى ظل وإن قرعة برأس أو شقاق
رجل.. قولان ".
والحجامة داخلة فى ذلك ففى النقض بها خلاف عندهم فيما يظهر.
ويتلخص من هذا أن القائلين بالنقض بالحجامة هم الأحناف والحنابلة والزيدية
وفى قول عند الإباضية، ومن عداهم من المذاهب المذكورة يرون عدم النقض بالحجامة.
أحجام الصائم
مذهب الحنفية:
جاء فى التنوير وشرحه (10) : ان الصائم إذا احتجم لا يفسد صومه، وعلل ذلك العينى فى شرح الكنز (11) بما رواه أبو داود من قوله صلى الله عليه وسلم " لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم ".
وقال: أن قوله عليه الصلا ة والسلام:
" أفطر الحاجم والمحجوم " منسوخ.
وروى الميرغينانى فى الهداية (12) الحديث بلفظ: " ثلاث لا يفطرن الصائم: القىء
والحطامة والاحتلام ".
وعلق على ذلك الكمال بن الهمام (13) بأن هذأ الحديث روى من عدة طرق وأحسنها ما رواه البزار من حديث ابن عباس رضى الله عنهما، وقال: انه أصح الروايات إسنادا ويجب أن يرتقى إلى درجة الحسن.
وفى المبسوط للسرخسى (14) : يحتج الحنفية لعدم الإفطار بالاحتجام بحديث أنس بن مالك رضى الله عنه.
قال: مر بنا أبو طيبة فى بعض أيام رمضان، فقلنا: من أين جئت؟
فقال: حجمت رسول أدلّه صلى الله عليه وسلم.
وفى حديث أبن عباس: أن النبى احتجم وهو صائم محرم، وعنه أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قال: " أفطر الحاجم والمحجوم " شكا الناس إليه الدم فرخص للصائم أن يحتجم.
وهذه تبين طريق النسخ الذى أشار إليه العينى.
ويقول السرخسى أيضا: إن تأويل حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بهما وهما يغتابان. آخر فقال الحديث، والمراد: ذهب ثواب صومهما بالغيبة، وقيل الصحيح أنه غشى. على المحجوم فصب الحاجم الماء فى حلقه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام
" أفطر الحاجم المحجوم "، فوقع عند الراوى أنه قال: أفطر الحاجم والمحجوم، ثم علل أيضا بأن خروج الدم من البدن لا يفوت ركن الصوم ولا يحصل به اقتضاء الشهوة وبقاء العبادة ببقاء ركنها.
مذهب المالكية:
قال المالكية (15) : إن الحجامة لا تفطر لما صححه الترمذى أن المصطفى عليه الصلاة والسلام احتجم وهو صائم فى صائم الوداع.
قال: فيكون هذا الحديث ناسخا لما روى من قوله: أفطر الحاجم والمحجوم.
وجاء فى المدونة (16) : ما يدل على الكراهة عند مالك، ولو احتجم رجل مسلم لم يكن عليه شىء.
ثم ساق الحديث: " ثلاث لا يفطرن "وحديث ابن عباس أن الرسول احتجم وهو صائم.
مذهب الشافعية:
جاء فى المنهاج وشرحه (17) : ولا تفطر الحجامة لما صح من احتجام الرسول وهو صائم، وقال إن خبر الإفطار منسوخ، وأن القياس يؤيد عدم الإفطار. ثم قال: إن الحجامة مكروهة للصائم، وجزم فى المجموع بأنه خلاف الأولى.
وقال الأسنوى: وهو المنصوص، فقد قال فى الأم: وتركه أحب إلى وعلق الشبراملسى فى حاشيته علي كون النبى صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، بأنه ليس مكروها فى حقه وأن كره فى حق غيره لأنه يجوز أنه فعله لبيان الجواز، بل فعله المكروه يثاب عليه ثواب الواجب.
وقد رجعنا إلى " الأم " فى باب " ما يفطر الصائم " (18) فيما يتعلق بالحجامة فوجدنا عبارته:. قال الشافعى: روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: " أفطر الحاجم والمحجوم "، وروى: أنه احتجم صائما. قال الشافعى: ولا نعلم مكانه وأحدا منهما ثابتا، ولو ثبت واحد منهما عن النبى قلت به، ولو ترك رجل الحجامة للتوقى لأن احب إلى، ولو احتجم لم أره يفطره.
مذهب الحنابلة:
قال ابن قدامه (19) : ان الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم، وذكر ممن قال به إسحاق وابن المنذر، وكان الحسن وابن مسروق وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم، وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا فى الصوم منهم ابن عمر، وأبن عباس وغيرهما.
واحتج لمذهبهم بقول النبى صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم "، وقال: إنه رواه عن النبى أحد عشر نفسا، وذكر عن أحمد أن هذا الحديث أصح حديث يروى فى هذا الباب، وأطال فى الرد على القائلين بأن الحجامة لا تفطر الصائم.
مذهب الظاهرية:
وفى المحلى لابن حزم الظاهرى (20) ما يفيد أنه لا ينقض الصوم حجامة ولا احتلام، ثم قال: صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفطر الحاجم والمحجوم " فوجب الأخذ به إلا أن يصح نسخه وقد صح نسخه بحديث أن الرسول صلوات الله عليه أرخص فى الحجامة للصائم فقامت به الحجة، ولفظ أرخص لا تكون إلا بعد نهى فصح بهذا الخبر نسخ الخبر الأول.
مذهب الزيدية:
قال صاحب البحر (21) : لا يفسد الصوم بالحجامة إذ احتجم النبى صلى الله عليه وسلم صائما، ورخص للصائم فيه.
قال: وحديث "أفطر الحاجم والمحجوم " نسخ بالترخيص، أو لأنهما اغتابا فبطل ثوابهما، وإلا لزم فى الحجام ولا قائل به.
مذهب الشيعة الجعفرية:
يصوره ما جاء فى الروضة البهية والمختصر النافع (22) : لا يفسد الصوم بإخراج الدم المضعف، والإخراج المذكور يشمل الحجامة.
مذهب الإباضية:
جاء فى كتاب الوضع (23) : كرهوا للصائم أربعة، فإن فعلهن فلا بأس، وعد منها الحجامة بالنهار.
وفى شرح النيل (24) : كره احتجام نهارا مطلقا، وقيل فى آخر النهار، وقيل فى أوله لا لفساده بل لخوف الضعف فيؤدى للإفطار.
قالوا: ولم يصح حديث: الحجامة تنقض الصوم، وأما حديث أفطر الحاجم والمحتجم " فهو حكم عليهما بالإفطار لفعلهما أمرا مفطرا كنظر الحاجم إلى عورة المحتجم أو لاغتيابهما ويدل على ذلك ذكر الحاجم فإنه لا حجة قوية على أن من فعل بأحد ما يفطر به كان مفطرا.
ويتلخص موقفه فقهاء المذاهب المذكورة فى أنهم جميعا عدا الحنابلة يرون عدم فساد الصوم بالحجامة وان كان مكروها أو خلاف الأولى على التفصيل المذكور.
احتجام المحرم
مذهب الحنفية:
قال السرخسى (25) : وللمحرم أن يحتجم ويغتسل ويدخل الحمام لأن هذا كله من باب المعالجة، فالمحرم والحلال (أى غير المحرم) فيه سواء، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم بالقاحة (موضع بقرب المدينة) .
وقال الميرغينانى (26) : إن حلق المحرم موضع المحاجم فعليه دم عند أبى حنيفة. وقال الصاحبان عليه صدقة لأنه إنما يحلق لأجل الحجامة وهى ليست من المحظورات، فكذا ما يكون وسيلة- أليها إلا أن فيه إزالة شىء من التفث فتجب الصدقة.
مذهب المالكية:
نص خليل والدردير (27) على جواز الفصد للمحرم إذا كان لحاجة وإلا كره فيما يظهر.
وعلق الدسوقى بقوله: وعلى كل حال لا فديه. فيه. ومنه يبين حكم الحجامة
لا شتراكهما.
وفى المدونة (28) : سئل مالك: ألا يكره للحجام المحرم أن يحجم المحرمين ويحلق منهم مواضع المحاجم؟ قال مالك: لا أكره ذلك له إذا كان المحرم المحتجم إنما يحتجم لموضع
الضرورة.
مذهب الشافعية:
جاء فى الأم (29) ، قال الشافعى أخبرنا سفيان بن عيينة عن أبن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم. قال الشافعى: فلا بأس أن يحتجم المحرم من ضرورة أو غير ضرورة ولا يحلق الشعر.
مذهب الحنابلة:
يقول ابن قدامه (30) : أما الحجامة اذا لم يقطع شعرا فمباحة من غير فدية فى قول الجمهور لأنه تداو بإخراج دم فأشبه الفصد.
ولأن ابن عباس روى أن النبى احتجم وهو محرم، متفق عليه، ولم يذكر فديه، ولأنه لا يترفه بذلك، فأشبه شرب الأدوية.
وإن احتاج فى الحجامة إلى قطع شعر فله قطعه لما روى عبد الله بن بحينة أن رسول أدته صلى الله عليه وسلم احتجم بلحى جمل فى طريق مكة وهو محرم وسط رأسه متفق عليه.
ومن ضرورة ذلك قطع الشعر ولأنه يباح حلق الشعر لإزالة الأذى فكذلك هنا وعليه - الفديه، لقوله تعالى " فمن كان منكم مريضى أو به أذى من رأسه ففدية.. " الأيه.
مذهب الظاهرية:
يرى ابن حزم الظاهرى فى كتابه المحلى (31)
أن للمحرم أن يحتجم ويحلق موضع المحاجم ولا شىء عليه، ثم روى من طريق عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ومثله من طريق سفيان بن عيينة عن أبن عباس، ومن طريق مسلم عن ابن بحينة ولم يخبر عليه أن فى ذلك فدية ولا غرامة.
إباحة الفصد والحجامة.
مذهب الزيدية:
جاء فى البحر الزخار (32) : وله أن يفتصد ولا فديه، لأن النبى صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، وقاسوا على أباحه الاحتجام إباحة عصر الدماميل ونزع الشوك.
مذهب الشيعة الجعفريه:
جاء فى. المختصر النافع (33) : إن فى الحجامة بالنسبة للمحرم لغير ضرورة قولين أشبههما الكراهية.
مذهب الإباضية:
ويقول الإباضية كما فى كتاب الوضع (34) : على المحرم أن يترك فعل أربعة من بدنه، وذكر منها قطع شىء من بدنه وادماءه.
ثم قال: فان قطع شيئا من بدنه أو أدماه فعليه دم.
والإدماء يتناول الاحتجام إذ هو مخرج للدم لا محالة، وعلى هذا فان المذاهب الثمانية لا تمنع الاحتجام فى الاحرام، ومن عدا الإباضية لا يوجبون فديه لذات الاحتجام وقد نصت بعض المذاهب على وجوب الفدية لحلق موضع الحجامة وقيل الواجب صدقة ونص الظاهرية على إنه لا يجب شىء حتى فى هذا.
التداوى بالاحتجام
يتبين من القول السابق ذكرها أن الفقهاء مجمعون على أن التداوى بالاحتجام جائز غير محظور، وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه تداوى به، وأن كثرة عديدة من الصحابة كانوا يفعلون ذلك.
وقد روى البخارى وابن ماجة أن النبى عليه الصلاة والسلام قال: " الشفاء فى ثلاث": شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار "
وقال الكرمانى فى شرحه للحديث: أن فيه إثبات الطب والتداوى 0
وقال العزيزى فى شرحه أيضا: إن الحجم أنجح هذه الثلاثة شفاء عند هيجان الدم.
__________
(1) ج1 ص83 طبعة الساسى بالقاهرة سنة 1324.
(2) الشرح الكبير للدردير حاشية الدسوقى ج1 ص114.
(3) حاشية الصفتى ص35 الطبعة الأميرية سنة 1302 هجرية.
(4) الإقناع على ألفاظ أبى شجاع ج1 ص178 المطبعة الميمنية بمصر سنة 1306 هجرية.
(4) المغنى ج1 ص184 مطبعة المنارة الطبعة الثالثة
(5) المحلى ج1 ص209 مسألة 169 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(7) ج1 ص 86 مطبعة السعادة بالقاهرة الطبعة الأولى سنة 1366 هجرية.
(8) الروضة البهية ج 2 ص 22.
(9) شرح النيل ج1 باب نوا قض الوضوء ص 77.
(10) حاشية ابن عابدين ج2 ص106.
(11) شرح الكنز ج1 ص100.
(12) الهداية وفتح القدير ج 2 ص64 طبعة مصطفى محمد.
(13) الفتح، المرجع السابق.
(14) ج 3 ص57.
(15) الصفتى على العشماوية ص 174 المطبعة الاميرية.
(16) ج 1 ص198 طبعة الساسى.
(17) المنهاج وشرحه ج 3 ص170.
(18) كتاب الام ج 2 ص83 المطبعة الاميرية سنة 1321 هجرية.
(19) المغنى ج 3 ص 103.
(20) المحلى ج 5 ص 501، 502.
(21) البحر الزخار ج2 ص253.
(22) الروضة البهية ج1 ص152 والمختصر النافع ص66.
(23) كتاب الوضع ص156.
(24) ج3 ص198، 199.
(25) المبسوط ج4 ص124.
(26) الهداية مع فتح القدير ج2 ص232.
(27) حاشية الدسوقى مع شرح الدردير ج2 ص58.
(28) المدونة ج2 ص188.
(29) الام ج2 ص174.
(30) المغنى ج3 باب الحج.
(31) المحلى ج 7 باب الحج.
(32) البحر الزخار ج2 باب الحج.
(33) باب الحج.
(34) باب الحج.(1/57)
احْتِسَابُ
المعنى اللغوى
الاحتساب مصدر، فعله احتسب، يقال احتسب بكذا اكتفى به واحتسب على فلان الأمر أنكره عليه، واحتسب الأجر على الله أخره لديه-، كما يقال احتسبت بكذا أجرا عند الله، أى فعلته مدخرا إياه عنده، والمادة تدل فى كثير من استعمالاتها على العد كما تبين من الاستعمالات السابقة، ومنه علم الحساب، أى علم العدد، والحسبة اسم من الاحتساب، وإذن فالاحتساب يستعمل فى فعل ما يحتسب عند الله (1) .
المعنى الشرعى
ثوابه فى الدار الآخرة وذلك الاستعمال لا يكاد يخرج عن بعض استعمالاته اللغوية وعلى ذلك فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يسمى احتسابا فى لسانهم كما يسمى حسبة أيضا، وذلك إذا فعله لا لرياء ولا لسمعة ولا لإظهار علو أو كبرياء- وكذلك كل معروف يفعله الإنسان لوجه الله سبحانه وتعالى مدخراً ثوابه عنده لغير رياء ولا سمعة كالصدقة يتصدق بها احتسابا ودفع الأذى والشر يقوم به احتسابا والمعونة فى الخير والنصرة يقوم بهما احتسابا وفى هذا المعنى جاء فى قوله - صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو الدرداء - رضى الله عنه- قال سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الله عز وجل قال يا عيسى إنى باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ... رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط البخارى. وفى قوله صلى الله عليه وسلم فيم رواه أبو هريرة " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ... رواه البخارى ومسلم وفيما روى عن عمر قال: "أيها الناس احتسبوا أعمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته" وفى هذا ما يدل على أن الاحتساب بمعنى الحسبة- وفى بيان ما يدل على طلبه بمعنى الحسبة وعلى حكمه وعلى طبيعته وعلى ما فيه من معنى الولاية وعلى شروطه وأركانه وعلى موضوعه وما يتم به يرجع إلى مصطلح حسبة.
__________
(1) القاموس والمصباح ومفردات الراغب الأصبهانى وأساس البلاعة للزمخشرى والمعجم الوسيط.(1/58)
احْتِطاب
المعنى اللغوى
الاحتطاب فى القاموس: الحطب محركة ما أعد من الشجر شبوبا، وحطب كغرب جمعه كاحتطب.
ويستعمله الفقهاء بمعناه اللغوى.
ويكون الاحتطاب فى الأراضى المباحة التى لم يملكها أحد أو فى المملوكة بإذن من صاحبها. ومن سبق إليه كان أحق به من غيره فيملكه بذلك، والاحتطاب من الأرض في المملوكة لا يحتاج إلى إذن الإمام لأنه من الأشياء المباحة التى لا يفتقر ملكها إلى إذن الإمام (1) . هذا وقد ذكر الأئمة له عدة أحكام تتعلق به.
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: لو اشتركا فى الإحتطاب يجب الأجر بالغا ما بلغ عند محمد، لأن المسمى وهو نصف الحطب غير معلوم فلم يصح الحط بأقل (2) .
وهل إذا سرق الحطب تقطع اليد فيه أم لا؟
ورد عن أبى حنيفة أنه لا قطع فى الطعام، ولا فيما أصله مباح (3) .
والحطب فى ملك رجل ملك له فليس لغيره أن يحتطبه بدون إذنه، وإن كان فى غير ملك فلا بأس به ولا يضر نسبته إلى قربه أو جماعة ما لم يعلم أن ذلك ملك لهم، ويملك المحتطب الحطب لمجرد الاحتطاب وإن لم يشده ولم يجمعه (4) .
ولا تجوز الشركة فى الأشياء المباحة مثل الإحتطاب والاحتشاش والاصطياد وكل مباح، لأن الشركة متضمنة معنى الوكالة، والتوكيل فى أخذ المباح باطل، لأن أمر الموكل به غير صحيح، والوكيل يملكه بغير أمره فلا يصلح نائبا عنه، وما أصطاده كل واحد منهما أو احتطبه أو احتشه فهو له دون صاحبه لثبوت الملك فى المباح بالأخذ، فان أخذاه معا فهو بينهما نصفان لاستوائهما فى سبب الاستحقاق، وأن أخذه أحدهما ولم يعمل الآخر شيئا فهو للعامل وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر، بأن حمله معه أو حرسه له فللمعين أجرة مثله لا يجاوز به نصف ثمن ذلك عند أبى حنيفة وأبى يوسف، وعند محمد بالغا ما بلغ (5) .
مذهب المالكية:
قال المالكية: لو قال لآخر: إحتطبْ على دابتى ولك نصف الحطب جاز إن علم ما يحتطبه عليها بعادة أو شرط وسواء فى ذلك إن قيد بزمن كيوم لى، ويوم لك، أم لم يقيده كنقلة لى ونقلة لك، فالأجرة هنا واجبة، ومثل الدابة السفينة والشبكة ونحوهما فيجوز بنصفه ما يحمله عليها إذا كان معينا من مكان معين (6) .
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: يصح التوكيل فى تملك المباحات كالإحياء والاصطياد والاحتطاب فى الأظهر ومقابله المنع، والملك فيها للوكيل (7) .
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: يجوز للشخص أن يستأجر رجلاً ليحتطب له لأنه عمل مباح تدخله النيابة فأشبه حصاد الزرع، ويصح التوكيل فى تملك المباحات من الصيد والاحتطاب والحشائش ونحو ذلك كإحياء الموات وهذا هو الصحيح من المذهب (8) . وتصح شركة الأبدان فى الاحتشاش والاصطياد والتلصص على دار الحرب، وسائر المباحات كالاحتطاب (9) .
قال الزيدية: لو استأجر شخص من يصطاد له أو يحتش أو يحتطب أو يسقى أو نحو ذلك من المباح فلا يصح الاستئجار- وكذا لو عقد اثنان شركة فى ذلك- أو وكل رجل غيره لم يصح ولو نواه للغير بل يملكه الفاعل إذا فعل فى الأصح من المذهب.
وقال المتوكل بالله: يصح التوكيل فيه ... وعلى الأصح من المذهب لا أجرة له من الآمر إلا أن ُيكرِهُه (10) .
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: إذا أستأجر غيره للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاصطياد من المباحات مدة معينة صحت الإجارة، ويملك المستأجر ما يحصل من ذلك فى تلك المدة هذا ولا تدخل النيابة فى الاحتطاب والاحتشاش، لأنه تعلق قصد الشارع بإيقاعه من المكلف مباشرة، لو احتطب أو احتش بنية أنه له ولغيره لم تؤثر تلك النية وكان بأجمعه له خاصة (11) .
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: وجاز احتطاب شخص أو أخذه الشوك أو الحشيش من أرض آخر على أن الحطب بينهما مثلا، وإنما جاز لأنه قد رأى الأرض مع ما فيها، أو لم ير لكنه قد عقد أن له النصف مثلا فى كل ما حطب (12) .
الاحتطاب فى أرض الحرم
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: إن قطع حشيش الحرم أو شجرة ليست مملوكة لأحد وهو مما لا ينبته الناس فعليه قيمته (13) إلا ما جف منه ... وما جف من شجر الحرم لا ضمان فيه لأنه ليس بنام (14) .
مذهب المالكية:
قال المالكية: حرم على المكلف بالحرم محرما أو غيره، آفاقيا ومن أهل مكة قلع ما نبت بنفسه ولو كان قطعه لإطعام الدواب على المعتمد، ولا فرق بين الأخضر واليابس إلا الأذخر (15) ، كما ورد فى الحديث استثناء الأذخر والملحقات به وهى السنا والسواك والعصا (16) .
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: ويحل من شجر الحرم الأذخر قلعا وقطعا لاستثنائه فى الخبر. وكذا الشوك كالعوسج (17) وغيره من كل مؤذ منتشر من الأغصان المضرة فى طريق الناس عند الجمهور، والأصح حل أخذ نباته من حشيش أو نحوه لعلفه البهائم وللدواء كحنظل للحاجة إليه (18) .
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: ويباح الانتفاع بما أنكسر من الأغصان وبما انقطع من الشجر بغير فعل آدمى وكذا الورق الساقط يجوز الانتفاع به (19) .
مذهب الظاهرية:
قال الظاهرية: من احتطب فى حرم المدينة خاصة فحلال سلب ما وجد معه فى حاله تلك ويجرد من ثيابه إلا مما يستر عورته فقط لما ورد عن عامر بن سعد قال: إن سعدا (أباه) ركب إلى العقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فسألوه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرده عليهم (20) .
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: من محظورات الإحرام قطع شجر من الحرمين أو رعيه. فلو كان يابسا جاز قطعه، فلو كان مؤذيا كالعوسج ونحوه مما له شوك مؤذ فيجوز قطعه فلو كان مستثنى كالاذخر جاز قطعه. أما لو كان أصله فى الحل وفرعه فى الحرم جاز قطعه وأن يكون مما ينبت بنفسه (21) .
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: ولا كفارة فى قلع الحشيش وإن أثم فى غير الأذخر، وما أنبته الآدمى ومحل التحريم فيهما الاخضرار، أما اليابس فيجوز قطعه مطلقا لا قلعه إن كان أصله ثابتا (22) .
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: وجاز لمحرم احتطاب وشد محمله أى ربطه والعقد عليه إلا على نفسه منه ولا يحل وإن لمحل شجر الحرم، ويجوز رعيه. ولا يجوز قطع اليابس أيضا، وجوز رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذخر (23) .
والأصل فى شجر الحرم أنه غير مستنبت ففيه الجزاء، وعن ابن محبوب فى عود صغير فى الحرم إطعام مسكين، وقيل فى كسر عود درهم ولو صغيرا كسواك (24) .
__________
(1) المغنى لابن قدامة ج6 ص 38.
(2) الهداية ج3 ص 177.
(3) الهداية ج4 ص 227.
(4) حاشية ابن عابدين ج5 ص 389.
(5) الجوهرة النيرة ج1 ص 285.
(6) الشرح الصغير ج2 ص 159.
(7) السراج الوهاج ص 247.
(8) المقنع ج2 ص 149.
(9) المقنع ج2 ص 183.
(10) شرح الأزهار ج3 ص 322.
(11) شرائع الإسلام ص 216 باب الشركة.
(12) شرح النيل ج5 ص 59.
(13) ولا يكون للصوم فى هذه القيمة مدخل لأن حرمة تناولها بسبب الإحرام فكان من ضمان المحال.
(14) كتاب الهداية للمرغينانى ج1 ص 127 مطبعة مصطفى الحلبى.
(15) نبت كالحناء طيب الرائحة.
(16) بلغة السالك لاقرب المسالك للدردير ج 1ص 277 المطبعة التجارية.
(17) نوع من الشوك.
(18) نهاية المحتاج ج3 ص 342 مطبعة مصطفى الحلبى.
(19) المقنع وشرحه ج1 ص 435 المطبعة السلفية، وكشاف القناع ج1 ص 602 المطبعة العامرة الشرقية بالقاهرة.
(20) المحلى لابن حزم ج1 ص 263 مسألة رقم 901.
(21) شرح الأزهار ج2 ص 103 مطبعة حجازى بالقاهرة.
(22) الروضة البهية ج1 ص 182 مطابع دار الكتاب العربى.
(23) الأذخر نبت طيب الرائحة تصنع منه الحصر وتسقف منه البيوت ما بين الخشب.
(24) شرح النيل ج2 ص 323،337.(1/59)
احْتِكَار
معنى الاحتكار فى اللغة
جاء فى المصباح: احتكر فلان الطعام، إذا حبسه إرادة الغلاء، والاسم الحكرة، مثل الغرفة من
الإغتراف، والحكر (يفتح الحاء والكاف أو اسكانها) بمعنى الاحتكار.
وعرف صاحب القاموس الحَكْر، بفتح الحاء وسكون الكاف بأنه الظلم وإساءة المعاشرة، وقال أن بالتحريك اى الحكر بفتحتين: ما احتكر أى حبس انتظارا لغلائه كالحكر بضم الحاء، فيكون اسما من الاحتكار. ونقل الصنعانى (1) عن النهاية لابن الأثير فى شرح قول النبى صلى الله عليه وسلم: " من احتكر طعاما.. " اى اشتراه وحبسه ليغلو فيغلو.
ومن هذا يتبين بوضوح أن معانى المادة كلها تدور حول الظلم فى المعاملة وحبس شىء من الأشياء لاستبداد بشأنه.
ومنه ما ورد فى استعمال الشريعة من عصر النبوة إلى أن عرفه الفقهاء فى كتبهم بما لا يخرج عن ذلك فى الجملة.
التعريف الفقهى للاحتكار
يقول الحصكفى من الأحناف فى شرح الدر المنتقى (2) نقلا عن الشر نبلالية عن الكافى: أن الاحتكار شرعا اشتراء الطعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء أربعين يوما لقوله عليه الصلاة والسلام: " من احتكر على المسلمين أربعين يوما ضربه الله بالجذام والإفلاس ".
ثم قال: وقيل شهر وقيل كثر، وبين الحصكفى أن تكثيرة مدة الأيام لا معاقبة فى الدنيا بنحو البيع والتعزير. لا للإثم لحصونه وإن قلت المدة، وتفاوت الإثم بين تربص المحتكر لعزة الطعام وندرته أو للقحط.
وقد رجعنا إلى حاشية الشر نبلالى على درر الحكام شرح غرر الأحكام (3) فوجدنا ما يأتى تعليقا على قول صاحب الغرر:
كره احتكار قوت البشر والبهائم: الاحتكار حبس الطعام للغلاء افتعال من حكر إذا ظلم ونقص وحكر بالشىء إذا أستبد به وحبسه عن غيره، وتقييده بقوت البشر والبهائم قول أبى حنيفة ومحمد وعليه الفتوى، وقال أبو يوسف: كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا. كذا فى الكافى.
وأما تقدير مدة حبس الطعام فقد ورد فى كلام صاحب الدرر إذ يقول: " ومدة الحبس قيل أربعون يوما وقيل شهر وهذا فى حق المعاقبة فى الدنيا، لكن يأثم وإن قلت المدة ".
ويقول البابرتى (4) الحنفى: إن المراد بالاحتكار " حبس الأقوات تربصا للغلاء " وهذا التعريف أقرب إلى ما أورده الشرنبلالى فإنه لم يقيد الحبس بكونه على سبيل الشراء، ولم يذكر نحو الأقوات، وقد اختلف كل منهما عن الحصكفى من هاتين الناحيتين.
وقد وافق صاحب الاختيار الحصكفى فى تقييد الحبس بكونه على سبيل الشراء وإن كان قصر على الطعام كالبابرتى والشرنبلانى، وأشار صاحب الاختيار الموصلى الحنفى إلى شمول الاحتكار للشراء من المصر أو من مكان يجلب طعامه إلى مصر، فقال (5) : " إن الاحتكار أن يبتاع الشخص طعاما من المصر أو من مكان يجلب طعامه إلى المصر ويحبسه إلى وقت الغلاء".
ونبه الكاسانى الحنفى إلى قيد يفيد حكمة المنع من الإحتكار (6) : فأضاف إلى التعريف قيد أن يكون ذلك يفر بالناس بدل قولهم (إلى وقت الغلاء) .
مذهب المالكية:
أما المالكية فيصورون الاحتكار بما تفيده عبارة المدونة برواية سحنون (7) : أنه سمع مالك، يقول: الحكرة فى كل شىء فى السوق من الطعام والزيت والكتان والصوف وجميع الأشياء وكل ما اضر بالسوق فيمنع من يحتكر شيئا من ذلك كما يمنع من احتكار الحب ".
والمالكية فى هذا التعميم يتفقون مع أبى يوسف فى عدم قصر الإحتكار على الطعام.
مذهب الشافعية:
عرفه الرملى الشافعى بقوله (8) : أنه اشتراء القوت وقت الغلاء ليمسكه ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق.
وبمثله عرفه الإمام النووى الشافعى فى شرحه لصحيح مسلم (9) وقد انفرد هذا التعريف بتقييد الشراء بكونه وقت الغلاء.
مذهب الحنابلة:
وعرفه ابن قدامة الحنبلى فى المغنى بقوله (10) : الاحتكار المحرم هو ما اجتمع فيه ثلاثة شروط: أن يشترى، وأن يكون المشترى قوتا، وأن يضيق على الناس بشرائه. فهو يتفق مع من يقول ممن قدمنا أن الاحتكار يتحقق بالشراء وتخصيصه بالقوت.
مذهب الظاهرية:
وأما ابن حزم الظاهرى فقد وافق الجميع فى اعتبار الإضرار بالناس قيدا فى الاحتكار الممنوع، واتجه إلى أنه مرتبط بالشراء ولم يقصره على الطعام وعبارته (11) : الحكرة المضرة بالناس حرام، سواء فى الابتياع أو إمساك ما ابتاع، " والمحتكر فى وقت الرخاء ليس آثما ".
مذهب الزيدية:
والزيدية يخصونه بأن المحبوس قوت آدمى أو بهيمة، ويعممون فى الحبس بما يشمل ما يكون على سبيل الشراء أو غيره ويصور مذهبهم ما جاء فى البحر الزخار (12) من قولهم: يحرم احتكار قوت الآدمى والبهيمة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم- " من احتكر الطعام " (أى الخبز ونحوه) فإنه لم يخصه بالشراء وبذأ يتحقق الاحتكار عندهم مما يكون حبسه بعد الشراء أو الحصول عليه من زراعته، كما يشمل ما إذا كان الشراء من المصر أو كان مجلوبا من خارجها.
مذهب الإمامية:
وعرف الشيعة الإمامية الحكرة (13) : بأنها جمع الطعام وحبسه يتربص به الغلاء، وحصروا الطعام الذى يتحقق فيه الاحتكار فى سبعة أشياء، هى: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت والملح. فهم لا يخصونه بالشراء وينفردون بقصر الطعام على هذه الأنواع.
مذهب الإباضية:
وعرفه الإباضية (14) بأنه شراء مقيم من سوق أو من غيره بالنقد أو غيره طعاما ينتظر به الغلاء فهم يخصون الاحتكار بشراء المقيم للطعام، ويصرحون بأن من أخذ الطعام من غيره فى دين أو مقاضاة أو أرش أو أجرة أو ارث أو هبة فلا يكون ذلك من الاحتكار المحظور، وقد ألحقوا بالمقيم فى تحقق الاحتكار الممنوع المسافر الذى يتجر بمال المقيم الذى يتجر بمال المسافر فلا يكون من الاحتكار الممنوع، واختلفوا فى الطعام الذى يكون فيه الاحتكار فجعله بعضهم عاما فى كل ما يطعم ولو رهنا أو شرابا، وخصه بعضهم بالحبوب الستة، وخصه بعضهم بما يسمى فى العرف طعاما، وبعضهم خصه بالبر والشعير.
حكم الاحتكار الأخروى
الاحتكار الذى تتحقق فيه القيود المذكورة على اختلاف المذاهب فيها كما بينا محظور أجماعا غير أنه قد اختلفت عبارات الفقهاء فى التعبير عن هذا الحظر. فمنهم من صرح بالحرمة، ومنهم من صرح بالكراهة، ومنهم من اكتفى بلفظ المنع الصادق بكل من التحريم والكراهة. فالكاسانى الحنفى يقول (15) : تتعلق بالاحتكار أحكام منها الحرمة لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المحتكر ملعون والجالب مرزوق؟، ولا يلحق اللعن إلا بمباشرة المحرم، وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برىء من الله وبرىء الله منه ".
ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلا بارتكاب الحرام، وساق دليلا آخر عقليا يرجع إلى أن الاحتكار من باب الظلم والظلم حرام، وقال بعد ذلك أن قليل مدة الحبس وكثيرها سواء فى حق الحرمة لتحقق الظلم.
ويمثل ذلك صرح الشبراملسى الشافعى فقد قال (16) : إن النهى المتعلق بالاحتكار نهى تحريم، وأيضا فان ابن حجر الهيثمى الشافعى يعتبره من الكبائر ويقول (17) : أن كونه كبيرة هو ظاهر الأحاديث الواردة فى النهى عن الاحتكار لوجود الوعيد الشديد كاللعنة وبراءة ذمة الله ورسوله والضرب عليه بالجذام والإفلاس وبعض هذه دليل على الكبيرة.
وكذلك ابن قدامة الحنبلى (18) ينص على تحريم الاحتكار ويستدل بعدة أحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم-: "من احتكر فهو خاطىء ".
ووافقهم ابن حزم الظاهرى فيما نقلناه من العبارة السابقة إذ يقول (19) : إن الحكرة المضرة بالناس حرام.
وكذلك بالنسبة للزيدية خط فإن صاحب البحر الزخار ينص (20) : على أنه يحرم احتكار قوت الآدمى والبهيمة فى الفاصل عن كفايته ومن يمونه.
وكذلك الإباضية فقد صرحوا (21) : بأن الاحتكار حرام. وقال صاحب شرح النيل: أن النهى عن الاحتكار أشد من غيره من البيوع الممنوعة لانتظار المحتكر اللعنة بالاحتكار لحديث: " المحتكر ينتظر اللعنة".
وأما القائلون بالكراهة فمن الأحناف الميرغينانى صاحب الهداية وكل من الموصلى صاحب الاختيار والتمرتاشى صاحب تنوير الأبصار والحصكفى فى الدر وابن عابدين فى حاشيته وهو المذكور في ملتقى الأبحر وشارحه. يقول صاحب الهداية (22) : " ويكره الاحتكار فى أقوات الآدميين والبهائم.. الخ ".
كما يقول صاحب التنوير وشارحه صاحب الدر وابن عابدين فى حاشيته (23) . " وكره احتكار قوت البشر 00 الخ ". ويوافق الشيعة الجعفرية من قالوا بالكراهة من الأحناف، فقد أورده صاحب اللمعة الدمشقية وشارحه صاحب الروضة البهية فى مكروهات التجارة (24) .
وإن كان صاحب الروضة البهية قد اختار فى موضع آخر (25) أنه يحرم مع حاجة الناس إليه إذ يقول: والأقوى تحريمه مع حاجة الناس إليه لصحة الخبر بالنهى عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم كما أورده صاحب المختصر النافع من الشيعة الجعفرية فى المكروهات أيضا وذكر أن هناك قولا بحرمته. واما من أورد عبارة المنع دون تحديد لجهة المنع فإنه الحطَّاب من المالكية إذ أورد أنه ممنوع (26) .
حكم الاحتكار الدنيوى
يقول صاحب البدائع الفقيه الحنفى:
إن من أحكام الاحتكار أن يؤمر المحتكر بالبيع إزالة للظلم لكن إنما يؤمر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله، فإن لم يفعل وأصر على الاحتكار ورفع إلى الإمام مرة أخرى وهو مصر عليه فإن الإمام يعظه ويهدده، فإن لم يفعل ورفع إليه مرة ثالثة يحبسه ويعزره زجرا له عن سوء صنعه ولا يجبر على البيع.
وقال محمد: يجبر عليه، وهذا يرجع إلى مسألة الحجر على الحر لأن الجبر على البيع فى معنى الحجر.
ويقول الميرغينانى الحنفى فى كتابه الهداية: إن رفع المحتكر إلى الإمام مرة ثانية حبسه وعزره زجرا له ودق الضرر العامة.
أما صاحب "الدر الحنفى " فيمرح بأنه يجب على القاضى أن يأمره ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله.
ويضيفه ابن عابدين: أنه مع أمره ينهاه عن الاحتكار ويعظه ويزجره.
ثم يقول صاحب الدر: فإن لم يبع بل خالف الأمر عزره وباع عليه وفاقا على الصحيح.
ثم نقل عن صاحب السراج أنه لو خاف الإمام علي أهل بلد الهلاك أخذ الطعام من المحتكرين وقومه فإذا كانوا فى سعة ردوا مثله. قال: وليس هذا بحجر بل للضرورة، ومثله فى الاختيار والبدائع.
مذهب المالكية:
ونص المالكية على أن من اشترى الطعام من الأسواق واحتكره وأضر بالناس فإن الناس يشتركون فيه بالثمن الذى اشتراه وصرح ابن جزى بأن فى جبر الناس على إخراج الطعام فى الغلاء خلافا (27) .
ويقول الأبى المالكى فى شرح لصحيح مسلم (28) : إن الخليفة كان إذا غلا السعر ترفق بالمسلمين فأمر بفتح مخازنه وأن يباع بأقل مما يبيع الناس حتى يرجع الناس عن غلوهم فى الأثمان، ثم يأمر مرة أخرى أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله أو القدر الذى يصلح للناس حتى يغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل وكان ذلك من حسن نظره.
مذهب الشافعية:
وصرح الشافعية بأن من عنده زائد على كفايته ومئونته سنة يجبر على بيعه فى زمن الضرورة، بل قالوا: أنه إذا اشتدت الضرورة يجبر على بيع ما عنده ولو لم يبق له كفاية سنة.
مذهب الحنابلة:
كما صرح الحنابلة بأن لولى الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه الناس فى مخمصة فإن من اضطر إلى طعام غيره أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل ولو امتنع عن بيعه إِلا بأكثر من سعره أخذه منه بقيمة المثل.
ثم يقول ابن القيم (29) : من أقبح الظلم أن يلزم الناس إلا يبيعوا الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون، فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرهم ذلك منعوه، وهذا يمكن تسميه احتكار الصنف ".
ثم قال: إن هذا من البغى والفساد، فيجب التسعير عليهم، ومن هنا ذهب كثير من الفقهاء إلى القول بأن من حق الإمام، بل من واجبه أن يسعر السلع وأن منع الناس أن يبيعوا إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بها بلا تردد فى ذلك عند أحد من العلماء (انظر: تسعير) .
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم الظاهرى: يمنع المحتكر من الاحتكار، وروى بسنده إلى على أنه أحرق طعاما أحتكر بمائة ألف، كما روى عن عبد الرحمن بن قيس قال: أحرق لى على بن أبى طالب بيادر بالسواد كنت احتكرتها، لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة. والبيدر: الموضع الذى تدرس فيه الحبوب، والمراد: ما فى تلك الأماكن من الحبوب.
مذهب الزيدية:
وصرح الزيدية بأن المحتكر يجبر على بيع ما احتكره ولا يباع عنه إلا إذا تمرد فيبيعه الحاكم ويعزره لعصيانه.
مذهب الإمامية:
أما، الشيعة الجعفرية فيقولون: يجب بيع الطعام المحتكر.
ويقول صاحب "اللمعة الدمشقية" (30) : أن الطعام المحتكر لو لم يوجد غيره وجب البيع ويسعر أن أجحف فى الثمن.
مذهب الإباضية:
وينص الاباضية على أنه لا يترك المحتكر يبيع بأكثر مما اشترى وإنما يجبر على البيع كما اشترى، وقيل إن أخذ منه حين الفراغ من العقد قبل الانتظار أجبر على البيع ولو بربح، وان قبض عليه بعد الانتظار أجبر أن يبيع بمثل ما اشترى وقد يمنع من الربح مطلقا لسوء نيته.
وروى عن جابر أن من أحتكر طعاما على الناس وأبى أن يبيع إلا على حكمه وهو غال ينزع منه.
ثم قال صاحب النيل (31) : ولا يجبر المحتكر على البيع إن خرج من ملكه بوجه أورده لنفقته أو تغير عن حاله مثل أن يكون حبا فيطحنه أو دقيقا فيخبزه.
ثم قال: وإن مات المحتكر لم يجبر وارثه ولا يجبر من دخله ملكه بوجه.
__________
(1) سبل السلام ج3 ص 32 طبعة صبيح بالأزهر بمصر.
(2) الدر المنتقى على متن الملتقى بهامش مجمع الأنهر ج2 ص 547 طبعة الأستانة سنة 1327 هجرية.
(3) ج1 ص 400.
(4) فى كتابه العناية بهامش فتح القدير على الهداية ج8 ص 126.
(5) الاختيار شرح المختار ج3 ص 115 طبعة مصطفى الحلبى سنة 1355 هجرية.
(6) البدائع ج5 ص 129.
(7) ج10 ص 123.
(8) نهاية المحتاج ج3 ص 456 طبعة مصطفى الحلبى سنة 1357 هجرية بالقاهرة.
(9) صحيح مسلم بشرح النووى ج12 ص 42 المطبعة المصرية بالقاهرة.
(10) المغنى ج4 ص 220 طبعة المنار بالقاهرة.
(11) المحلى ج9 ص 78 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(12) ج3 ص 319 الطبعة الأولى طبعة أنصار السنة المحمدية سنة 1367 هجرية.
(13) الروضة البهية ج 1 ص 292 طبع دار الكتاب العربى بمصر ومثله فى المختصر النافع ص 120
(14) شرح النيل ج 4 ص101،102.
(15) البدائع ج 5 ص129.
(16) نهاية المحتاج ج 3 ص 156.
(17) الزواجر ص216، 217.
(18) المغنى ج4 ص 220 طبعة المنار.
(19) المحلى ج 9 ص 78.
(20) البحر الزخار ج 3 ص 319 وما بعدها.
(21) شرح النيل ج 4 ص 102.
(22) الهداية ج4 ص 76.
(23) حاشية ابن عابدين ج5 ص227 ومعها شرح الدر على متن التنوير ومثله فى الاختيار، شرح المختار ج 3 ص 115 وكذا ملتقى الأبحر وشارحاه ج 2 ص 547
(24) ج 1ص 274.
(25) المرجع السابق ج اص 292.
(26) مواهب الجليل للحطاب ج4 ص227 مطبعة السعادة، الطبعة الأولى سنة 1329 هجرية.
(27) قوانين الفقهية لابن جزى ج3 من247.
(28) ج4 ص 304،305.
(29) الطرق الحكمة فى السياسة الشرعية ص 226.
(30) الروضة البهية شرح اللمعة ج 1ص 293.
(31) شرح النيل ج 4 ص 104، 105.(1/60)
احْتِيَال
تعريف الاحتيال:
الاحتيال لغة: جاء فى مختار الصحاح (1) : " الحيلة اسم من الاحتيال، وكذا الحَيْل والحوْل.. يقال لا حيل ولا قوة، لغة فى حوْل. وهو أحيل منه، أى أكثر حيلة، ويقال ما له حيلة ولا احتيال ولا محال بمعنى واحد ". وجاء فى لسان العرب (2) : " الاحتيال مطالبتك الشىء بالحيل " وعلى هذا فالاحتيال هو اللجوء إلى الحيلة. ويعرف الشاطبى الحيل بقوله: " أن حقيقته المشهورة هى تقديم عمل ظاهر الجواز لابطال حكم شرعى، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة فى الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة، فإن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة كان ممنوعا، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره فى المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مال الهبة المنع من آداء الزكاة، وهو مفسدة، ولكن هذا بقصد إبطال الأحكام الشرعية (3) .
وقال قبل ذلك (4) : التحيل بوجه سائغ مشروع فى الظاهر وذلك كمن وهب النصاب قبل الحول حتى لا تجب الزكاة، أو غير سائغ كمن شرب الخمر فى وقت الصلاة حتى تسقط عنه، على إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط أو ينقلب إلا مع تلك الواسطة، فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له.
ويبين ابن القيم أقسام الحيل فيقول (5) :
القسم الأول: الطرق الخفية التى يتوصل بها إلى ما هو محرم فى نفسه بحيث لا يحل بمثل ذلك السبب بحال، فمتى كان المقصود بها محرما فى نفسه فهى حرام باتفاق المسلمين. وهذا القسم ينطوى على أنواع ثلاثة: أحدها: أن تكون الحيلة محرمة ويقصد بها المحرم.
الثانى: أن تكون مباحة فى نفسها. ويقصد بها المحرم، فتصير حراما تحريم الوسائل كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس المعصومة.
وهذان القسمان تكون الحيلة فيهما موضوعة للمقصود الباطل المحرم، ومفضية إليه كما هى موضوعة للمقصود الصحيح الجائز ومفضية إليه، فإن السفر طريق صالح لهذا وهذا.
الثالث: أن تكون الطريق لم توضع للإفضاء إلى المحرم، وإنما وضعت مفضية إلى المشروع كالإقرار والبيع والنكاح والهبة ونحو ذلك فيتخذها المتحيل سلما وطريقا إلى الحرام.
القسم الثانى: أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل، وهذا القسم ينقسم إلى ثلاثة أنواع أيضا:
النوع الأول: أن يكون الطريق محرما فى نفسه وإن كان المقصود به حقا مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده ولا بينة له، فيقيم صاحبه شاهدى زور يشهدان به، ولا يعلمان ثبوت ذلك الحق، فهذا يأثم على الوسيلة دون المقصود، وفى مثل هذا جاء الحديث " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ".
النوع الثانى: أن تكون الطريق مشروعة، وما تفضى إليه مشروع، وهذه هى الأسباب التى نصبها الشارع مفضية إلى مسبباتها كالبيع والإجارة، ويدخل فى هذا النوع الاحتيال على جلب المنافع وعلى دفع المضار، وليس كلامنا ولا كلام السلف الصالح فى ذم الحيل متناولا لهذا النوع، بل العاجز من عجز عنه.
النوع الثالث: أن يحتال على التوصل إلى الحق أو على دفع الظلم بطريق مباحة لم توضع موصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره، فيتخذها هو طريقا إلى هذا المقصود الصحيح، أو قد تكون وضعت ولكنها خفية ولا يفطن لها. والفرق بين هذا النوع والذى قبله أن الطريق فى الذى قبله نصبت مفضية إلى مقصودها ظاهرا فسالكها سالك للطريق المعهود، والطريق فى هذا النوع نصبت مفضية إلى غيره فيتوصل بها إلى ما لم توضع له، فهى فى الأفعال كالتعريض الجائز فى الأقوال.
الصلة بين الاحتيال
وبعض الأصول الشرعية
قرر الشاطبى حرمة الاحتيال، وأسس هذا البطلان على جملة من الأصول الشرعية الكلية والقواعد القطعية، ثم قام بعمل استقراء من نصوص الشريعة يفيد أن الاحتيال بالفعل المشروع فى الظاهر إلى إبطال الأحكام الشرعية باطل شرعا، وإليك هذه الأصول.
أولا: الاحتيال ومخالفة قصد الشارع
أسس الشاطبى حرمة الاحتيال على أن المحتال قصد ما ينافى قصد الشارع فبطل عامله. ذلك أن قصد المكلف فى العقل يجب أن يكون موافقا لقصد الشارع وأن من ابتغى فى تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله على المناقضة باطل، وقد أقام الأدلة على أن مخالفة قصد الشارع مبطلة للعمل (6) .
أما أن المحتال قاض بالعمل غير ما شرع له فظاهر، فالناكح- يقصد تحليل المرأة لزوجها الأول- قاصد بالزواج غير ما شرع له. فالزواج شرع للتناسل وتكوين الأسرة والسكن والمودة والرحمة، وما إلى ذلك من مصالح الزواج التى لا تحصل إلا بدوام العشرة. وليس من صالح النكاح التى قصدها الشارع منه أن- يحلل الزوج المرأة لغيره، بل إن ذلك مناف للحكمة من الزواج ومفوت لمصالحه.
ودليل ذلك أن الجمهور على أن التحليل لو شرط صراحة فى العقد لبطل، لأنه شرط ينافى مقتضى العقد، وقصد الشارع من عقد البيع دفع حاجة البائع إلى الثمن وحاجة المشترى إلى السلعة، فإذا قصد المحتال أن يقرض مائة إلى أجل ليسترد مائتين، وجعل السلعة وسيلة لذلك وليس لأحدهما غرض فيها بوجه من الوجوه فقد خالفه قصده قصد الشارع.
الأساس الثانى - الاحتيال وقاعدة اعتبار المآل:
يقرر الشاطبى أن النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، وبين أن مضمون هذه القاعدة أن المجتهد لا يحكم على فعل بالإذن أو المنع إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فإذا كان الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، فإنه يمنع إذا أدى استجلاب تلك المصلحة أو درء تلك المضرة إلى فوات مصلحة أهم أو حدوث مفسدة أكبر، وبالمثل فإن الفعل غير المشروع لمفسدة تنشأ عنه، أو لمصلحه تندفع به يشرعه إذا أدى استدفاع المضرة أو جلب المصلحة إلى مفسدة تساوى أو تزيد.
وهذه القاعدة تنطبق على الاحتيال، ذلك أن الفعل المتحيل به فعل مشروع لمصلحة فى الظاهر، لم يقصد به المتحيل تحصيل هذه المصلحة، وإنما قصد به مفسدة محرمة، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة، فإن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره فى المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار ماّل الهبة المنع من آداء الزكاة وهو مفسدة (7) .
الاحتيال وإسقاط حكم السبب بفعل شرط أو تركه
إذا كان إعمال السبب يتوقف على فعل شرط أو تركه، فإن قام المكلف بفعل ما يحقق هذا الشرط أو يفوته، تحصيلا لمصلحة شرعية، فإن فعل الشرط يترتب عليه أثره. وأما إذا فعل المكلف هذا الشرط أو تركه من حيث كونه شرطا دون قصد إلى تحصيل مصلحه شرعية، وإنما فعله قصدا لإسقاط حكم السبب لكى لا يترتب عليه أثره، فهذا عمل غير صحيح، وسعى باطل.
ومثل الشاطبى لذلك بأنه إذا توافر النصاب كان سببا لوجوب الزكاة. ولكن يتوقف الوجود على بقاء النصاب، حتى يحول الحول، فإذا ما أنفق المكلف النصاب قبل الحول للحاجة إلى إنفاقه، أو أبقاه للحاجة إلى إبقائه، فإن الأحكام التى تترتب على الأسباب تنبنى على وجود الشرط أو فقده، أما إذا أنفقه من حيث أنه شرط لوجوب الزكاة قاصدا عدم ترتب آثار السبب عليه، فإن هذا العمل غير صحيح، ولقد أقام الشاطبى الأدلة التى تفيد القطع فى جملتها بأن فعل ما يحقق الشرط أو يعدمه يقصد إبطال حكم السبب، فعل غير صحيح وسعى باطل.
ثم قال: فإن هذا العمل يصير ما انعقد سببا للحكم، جلبا لمصلحة أو دفعا لمفسدة، عبثا لا حكمة له ولا منفعة فيه، وهذا مناقض لما ثبت فى قاعد المصالح وأنها معتبرة فى الأحكام، وأيضا فإنه مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد سببا وحصل فى الوجود صار مقتضيا شرعا لمسببه، ولكنه توقف شرعا على حصول شرط هو تكميل للسبب، فصار هذا الفاعل أو التارك بقصد رفع حكم السبب قاصدا لمضادة الشارع فى وضعه سببا. وقد تبين أن مضادة قصد الشارع باطلة، فهذا العمل باطل (8) .
الاحتيال وانعدام الإرادة فى العقد المتحيل به
إن ركن العقد هو الرضا، ولما كانت الإرادة أمرا باطنا لا يطلع عليه، جعل الشارع مظنة الرضا، وهو الصيغة، قائمة مقام الرضا على أنه إذا ثبت أن العاقد الذى أتى بالصيغة قد قصد بها غير ما وضعت له، فإن الرضا بالعقد يكون منعدما، إذ الصيغة لا تنعقد سببا لترتب آثار العقد عليه إلا إذا قصدها العاقد غير مريد بها معنى يناقض موجبها ومعناها. فعاقد الهبة بقصد القرب من الزكاة لم يتوافر بالنسبة له الرضا بالعقد الذى أبرمه ذلك أنه قصد بالصيغة ما ينافى المعنى الذى وضعت له.
فلفظ الهبة إنما وضع لإرادة تمليك الواهب للموهوب له على سبيل الإرفاق والإحسان، والواهب للنصاب لم يقصد باللفظ معناه الموضوع له شرعا، وإنما قصد به الهروب من دفع الزكاة، ولم يضع الشرع لفظ الهبة للهروب من دفع الزكاة. كما لم يضع لفظ النكاح ليحلل المطلقة وإنما وضعه لدوام العشرة، وإذا كانت بعض عقود الهازل صحيحة، فإن هناك فرقا بين الهازل والمحتال. ذلك أن الهازل أتى بالصيغة غير قاصد ما يناقض المعنى الذى وضعت له شرعا، فكان قاصدا لحكم اللفظ حكما، وإن لم يقصده حقيقة، وذلك بخلاف المحتال، فإنه لما كان قاصدا خلاف معنى اللفظ لم يصح القول بأنه قاصد لمدلوله حكما، فالهازل آت بالسبب غير راغب فى ترتب آثاره عليه وترتب الأثر بحكم الشارع لا بإرادة الشخص (9) .
حكم الاحتيال وأدلته
يقرر الشاطبى أن الاحتيال بالمعنى الذى قرره غير مشروع، والفعل المتحيل به غير صحيح فيقول: الحيل فى الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة فى الجملة ... فإذا كان الأمر فى ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع (10) .
وعلى هذا فإن الفعل المتحيل على ما لا يجوز غير مشروع فى الباطن بينه وبين الله تعالى، وغير صحيح، ولا يترتب عليه أثر فى أحكام الدنيا إذا قامت الأدلة عن القصد المحرم والباعث غير المشروع.
وعلى هذا فإن واهب النصاب قبيل الحول بقصد الفرار من الزكاة تحرم هبته وتبطل إذا ثبت بإقراره أو بالقرائن أنه إنما وهب النصاب بقصد الفرار من هذا الواجب وهو مجال الخلاف بين المالكية والحنابلة من جهة، وبين الشافعية والحنفية من جهة أخرى.
فالفريق الأول يبطلون الفعل الذى يقصد به الفاعل قصداً غير مشروع إذا قامت القرائن على هذا القصد، أما الفريق الآخر فإنهم وإن وافقوا على أن القصد إلى إبطال الحقوق وإسقاط الواجبات وغير ذلك من النيات المحرمة والمقاصد غير المشروعة محرم، إلا أن العقد أول التصرف لا يبطل بل يترتب عليه أثره، ويحكم بصحته قضاء، ولو ثبت قصد الفاعل غير المشروع أو نيته المحرمة، ما لم يكن العاقد قد أظهر هذا القصد أو تلك النية فى العقد نفسه، بحيث كانت داخلة فى صلب التصرف ومعبراً عنها فيه.
ويقرر الشاطبى أن هناك نصوصا شرعية يقطع مجموعها بالمنع من الاحتيال فى الشريعة ونحن نورد بعض هذه النصوص:
1- ما جاء فى القرآن من نصوص خاصة بالمنافقين والمرائين: فقد ذم الله هذين الفريقين وتوعدهم بالعقوبة وشنع عليهم، ويتمثل النفاق فى الرياء فى أنهم أتوا قولا أو عملاً، للشارع منه قصد معين، وهم يقصدون منه ما يناقض هذا القصد، فالمنافق ينطق بكلمة الشهادة لا يقصد بها الخضوع فى الباطن والظاهر لله عز وجل، وإنما يقصد بها صيانة دمه وماله والمرائى يأتى العبادة لا يقصد بها التوجه إلى الله الواحد المعبود، ولا نيل الثواب فى الآخرة، وإنما قصده النيل من أوساخ الخلق، أو من تعظيمهم أو غير ذلك من حظوظ الدنيا الفانية، ومتعها الزائلة.
2- ما جاء فى القرآن فى شأن أصحاب السبت الذين حرم عليهم الصيد فى يوم السبت فحفروا حياضا تصلها قنوات بالبحر حتى تدخلها الحيتان يوم السبت ثم يحبسونها حتى يصيدوها فى الأيام الجائز فيها الصيد، وقد كان عقابهم بالمسخ، وهو أشنع العقوبات (11) .
والاحتيال واضح فى أفعالهم، إذ إنهم ما قصدوا بالحفر مصلحه شرعية بل كان مقصدهم الاحتيال على فعل المنهى عنه.
3- ما جاء فى السنة من النهى عن جمع المتفرق وتفريق المجتمع خشية الصدقة ذلك أن الجمع والتفريق جائزان إذا قصد الخليطان مصلحة مشروعة لذلك الفعل، أما إذا كان ذلك الفعل لم يقصد به إلا إسقاط الزكاة الواجبة أو تقليلها فإن هذا القصد يبطل. لأن ما خالف قصد الشارع حرام باطل.
4- ما جاء فى السنة من تحذير المسلمين من فعل اليهود الذين استحلوا محارم الله بأدنى الحيل، فقد حرم الله عليهم الشحوم فجملوها (12) وباعوها وكلوا أثمانها، وقد لعن الله اليهود بسبب فعلهم هذا، ذلك أن المصلحة المفهومة من النهى عن الشحوم هى عدم الانتفاع بها، وذلك يشمل الانتفاع بالثمن وهم قد أغفلوا هذا المعنى واعتبروا ظاهر النص لا قصدا إلى الوقوف عندما حده الشارع مما لم تعلم مصلحته على الخصوص، وإنما بقصد الحصول على المال الذى هو معبودهم المقدس، إذ كيف تطيب نفوسهم بترك الشحوم دون الاستفادة منها (13) .
5- ما جاء فى السنة من لعن المحلل والمحلل له، والراشى والمرتشى، وحرمة بيع العينة، وهدية المديان، وغلول الأمراء والبيع والسلف.
__________
(1) ص 184.
(2) ص187.
(3) الموافقات ج4 ص 201 طبع مصطفى محمد.
(4) الموافقات ج2 ص 378.
(5) أعلام الموقعين ج3 ص 341.
(6) انظر الموافقات ج2 ص 231.
(7) راجع الموافقات ج4 ص 201.
(8) الموافقات ج 2 ص 278.
(9) الموافقات ج1 ص 216، ج2 ص 330 وأعلام الموقعين ج3 ص 134،ص 136.
(10) الموافقات ج 2 ص 330، ص 385.
(11) سورة الأعراف: 163- 168.
(12) جمل الشحم، وأجمله، واجتمله: أذابه. والجميل: الشحم الذائب.
(13) الموافقات ج 2 ص 278.(1/61)
إحْدَاد
تعريفه لغة: الإحداد مأخوذ من الحد، وهو لغة: المنع.، ويريد به اللغويون منعا خاصا، وهو امتناع المرأة عن الزينة والخضاب بعد وفاة زوجها (1) .
وفى عرف الفقهاء: ألا تقرب المعتدة من وفاة، شيئا من الزينة والطيب، وما إليهما على تفصيل فى ذلك بين المذاهب، وعلى خلاف بين المباح والممنوع (انظر ما تجتنبه الحاد) .
زاد بعض المذاهب كالحنفية والزيدية المعتدة من طلاق ثلاثا وعلل الحنفية ذلك بأن حزن المرأة على انفصام عرى الزوجية لا يقل عن حزنها لموته (2) .
والإحداد امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما، و " من " كل ما كان من دواعى الجماع..
والحداد ثياب المآتم السود، والحاد والمحد من النساء التى تترك الزينة والطيب يقال: حدت تحد وتحد حدا وحدادا، وأحدت. وأبى الأصمعى إلا أحدت تحد وهى محد ولم يعرف حدت.
قال أبو عبيد: ونرى أنه مأخوذ من المنع، لأنها قد منعت من ذلك، ومنه قيل للبواب حداد، لأنه يمنع الناس من الدخول والسجان حداد.
وقد سميت الحدود الشرعية كذلك لأنها تمنع وتردع عن المعصية. وقال ابن عرفة: الإحداد ترك ما هو زينة ولو مع غيره، فيدخل ترك الخاتم، إذ قد يكون زينة وحده لبعض النساء، وقد لا يكون، فى بعض آخر، إلا مع غيره، فيمنع على الحالين والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " (3) .
حكمه
وجمهور الفقهاء على وجوبه (4) على المتوفى عنها، إلا ما يروى عن الحسن البصرى من طريق حماد بن سلمة عن حميد أنه قال: المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها يكتحلان ويمتشطان ويتطيبان ويختصبان وينتعلان ويصنعان ما شاء.
ومثله عن الحكم بن عتيبة، وعن الشعبى أنه كان لا يعرف الإحداد، قال أحمد: ما كان بالعراق أشد تبحرا من هذين، وفى الحسن والشيم، وخفى ذلك عليهما.
وحجة الجمهور حديث أم عطية فى المتفق عليه واللفظ لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً (5) .
وقد فصل العلماء القول فى وجوبه على الكتابية والأمة والصغيرة والمطلقة الخ ... على ما سيأتى بيانه.
حكمته
أن التطيب والتزين يلفت النظر إلى المرأة، ويدعو إلى اشتهائها والتفكير فيها، فمنعت منه صونا لها فى زمن عدتها وفاء بحق الزوج الذى فارقها وهو على وفاق معها، وإذا كانت تلك الأمور دواعى للرغبة فيها وهى ممنوعة من النكاح فإن اجتنابها واجب كى لا تصير ذريعة على الوقوع فى المحرم (6) .
مدته
أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها للحرة، وعلى النصف من ذلك للأمة، وتحل الحرة ليلة الحادى عشر.
مذهب الحنفية:
أن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها، لقوله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن".
مذهب المالكية:
قال الباجى: قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما هى أربعة أشهر وعشراً " على وجه الإخبار بمدة الإحداد الواجب على زوجة المتوفى: ذلك أربعة اشهر وعشر.
وقال مالك: تحد الأمة إذا توفى عنها زوجها شهرين وخمس ليال، مثل عدتها وليس على أم الولد إحداد إذا مات سيدها ولا على أمة يموت عنها سيدها إحداد، وإنما الإحداد على ذوات الأزواج (7) : انظر مصطلح "عدة".
مذهب الشافعية:
وقال الشافعى فى الأم: وعدة المتوفى عنها من يوم يموت عنها زوجها فإن لم يأتها نبأ وفاة حتى انقضت عدتها لم تستأنف عدة جديدة. وكذلك لو لم يأتها نبأ الوفاة حتى يمضى بعض عدتها أكملت ما بقى من عدتها حادة، ولم تعد ما مضى منها.
وإن بلغها يقين وفاته ولم تعرف اليوم الذى مات عنها فيه اعتدت من يوم استيقنت وفاته حتى تكمل عدتها، ولم تعتد بما شك فيه كأن شهد عندها أنه مات فى رجب، وقالوا لا ندرى فى أى رجب مات فتعتد فى آخر ساعات النهار من رجب فاستقبلت بالعدة شعبان، وإذا كان اليوم العاشر بعد الأربعة الأشهر فى آخر ساعات النهار حلت، فكانت قد استكملت أربعة أشهر وعشرا (8) . هذا إذا لم تكن حاملا، وإلا فإن أمد الإحداد ينتهى بوضع حملها. قصرت المدة أم طالت.
وقال بعض العلماء: لا يلزمها الإحداد بعد أربعة أشهر وعشرا وإن لم تضع الحمل. وهذا بالنسبة للزوج، أما إذا كان الإحداد على غير زوج فلا يزيد عن ثلاث ليال، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: " لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" (9) .
مذهب الحنابلة:
إذا كانت حاملا فحتى تضع.
مذهب الظاهرية:
وافقوا الجمهور فى مدة الإحداد على الزوج، وعلي غيره من الأقارب.
قال ابن حزم: لو التزمت المرأة ثلاثة أيام على أب أو أخ او ابن أو أم أو قريب أو قريبة، كان ذلك مباحا واستدل بنحو الرواية التى سقناها قريبا.
أما إن كانت المتوفى عنها حاملا فقد ذكر بشأنها أنه إن كانت عدة المتوفى عنها وضع حملها فلابد من الإحداد أربعة أشهر وعشر فأقل إن وضعت قبل مضيها ولا نوجبه عليها بعد ذلك، لأن النصوص كلها إنما جاءت بأربعة أشهر وعشر فقط.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر سبيعة الأسلمية بأن تنكح من شاءت إذا وضعت حملها أثر موت زوجها بليال، وقد تشوفت للخطاب فلم ينكر ذلك عليها، فصح أنه لا إحداد عليها بعد إنقضاء حملها قبل الأربعة الأشهر وعشر.
ثم قال: ولم نجد نصابا يجابه عليها أن تمادى الحمل أكثر من أربعة أشهر وعشرا، فإن وجد فالقول به واجب وإلا فلا.
ثم استدركنا إذ تدبرنا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فى بعض طرق خبر أم عطية أنها تجتذب ما ذكر اجتنابه دون ذكر أربعة أشهر وعشرا، فكان العموم أولى أن تضع حملها (10) .
مذهب الزيدية:
قالوا: والحامل بآخر الأجلين لقوله تعالى: " أن يضعن حملهن " وقوله: " أربعة أشهر وعشرا وقيل: بالوضع فقط لقوله تعالى " أن يضعن حملهن، ولم يفصل.
مذهب الإمامية:
قالوا: بأبعد الأجلين إذا كانت حاملا. وسواء قيل بالوضع أو بأبعد الأجلين، فمحصل آراء الحنفية والزيدية والإمامية والحنابلة أنه إذا استمر حملها أكثر من أربعة أشهر وعشرا لا تحل حتى تضع.
وحيث أن الإحداد يكون فى مدة العدة فإنه فى هذه الحالة يستمر وجوبه حتى تضع كذلك (11) .
إحداد الكتابية
مذهبا الحنفية والزيدية:
يرون إن الإحداد لا يجب على الكتابية لأن الإيمان شرط لوجوب الإحداد، عملا بظاهر الحديث، ولأن الإحداد عبادة، والكتابية غير مخاطبة بها خطاب تأليف إذ ليست من أهل العبادة (12) .
مذهب المالكية:
اختلف قول مالك فى ذلك حسبما روى عنه، فروى عنه أشهب: لا إحداد عليها لما ذكرنا من التعليل عند الأحناف.
وروى عنه ابن القاسم وغيره: أن عليها الإحداد كالمسلمة، ووجهه أن هذا حكم من أحكام العدة، وحق من حقوق الزوجية فلزوم الكتابية للمسلم كلزوم المسكن والعدة والنفقة.
وعلى هذا فلا يكون المراد من وصف الإيمان هنا ما يفهم تخصيص الحكم بالمؤمنات بل يكون ذكره على سبيل الترغيب فى الفعل والترهيب من الترك، والتأكيد فى الزجر بمعنى أن هذا أمر لا يتركه من يؤمن بالله واليوم الأخر كما قال - صلى الله عليه وسلم- " من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيفه" (13) .
مذهب الحنابلة والشافعية والظاهرية:
يرون الإحداد واجبا على الكتابية كالمسلمة، ويعلل الظاهرية ذلك بقولهم قال تعالى: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " وقال عز وجل: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله "، والدين الحكم (14) .
فواجب عليهم أن يحكم عليهم بحكم الإسلام وهو لازم لهم، وبتركهم إياه استحقوا الخلود " فى النار". ومن قال أنه لا يلزمهم دين الإسلام فقد فارق الإسلام
وقال الشافعى: من وجبت عليه عدة الوفاة، وجب عليه الإحداد، لا يختلفن.
مذهب الإمامية:
قال صاحب الروضة البهية: والذمية كالحرة فى الطلاق والوفاة على الأشهر بل لا نعلم القائل بخلافه (15) .
إحداد الصغيرة
يرى الحنفية والزيدية: أنه لا إحداد عليها لرفع القلم عنها (16) .
أما الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية والإمامية، فيرون أن عليها الإحداد كالكبيرة والمخاطب بذلك هو وليها فيجب عليه أن يجنبها ما تتجنبه الكبيرة (17) .
والأصل فى ذلك، على ما ذكره المالكية، ما روى عن أم سلمة أن امرأة سألت النبى - صلى الله عليه وسلم- عن ابنة لهما توفى زوجها الحديث، وقد أجابها - صلى الله عليه وسلم- ولم يسأل عن سنها، استدل بهذا القاضى أبو محمد، والدليل على ذلك من جهة المعنى أن كل من لزمتها العدة بالوفاة لزمها الإحداد كالكبيرة (18) .
إحداد الأمة
اتفق الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية والزيدية على أن الأمة المنكوحة يلزمها الإحداد لأن قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الأخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " محمول على التعميم.
ولأنها مخاطبة بحقوقه تعالى فيما ليس فيه إبطال حق السيد، إذ ليس فى الإحداد إبطال لحق سيدها وليس لسيدها منعها من الإحداد لأنه حكم من أحكام الزوجية فلم يكن لهم منعها منه كملك الزوج حق الاستمتاع بها (19) .
مذهب الإمامية:
اختلف النقل عنهم فروى عن الباقر أنها لا تحد لأنه قال: إن الحرة والأمة كلتيهما إذا مات عنهما زوجهما سواء فى العدة، إلا أن الحرة تحد والأمة لا تحد، وهذا هو الأقوى.
وذهب الشيخ الطوسى فى أحد قوليه وجماعة إلى وجوب الإحداد عليها لعموم قول النبى- صلى الله عليه وسلم- " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، وفيه مع سلامة السند أنه عام وذاك خاص، فيجب التوفيق بينهما (20) . أما الأمة الموطوءة بملك اليمين يموت عنها السيد فلا إحداد عليها.
الإحداد فى ذات النكاح الفاسد
اتفق الحنفية والحنابلة والظاهرية والمالكية (21) ، على أنه لا إحداد عليها لأنها ليست زوجة على الحقيقة وليس لها زوج كانت تحل له ويحل لها فتحزن على فقده. وخالف فى ذلك القاضى أبو الوليد الباجى المالكى ففصل فقال: وهذا عندى فى التى يفسخ نكاحها ولم يثبت بينها شىء من أحكام النكاح من توارث ولا غيره، وأما التى يثبت بينهما أحكام التوارث فإنها تعتد عدة الوفاة ويلزمها الإحداد ... انظر فى مصطلح " نكاح. النكاح الفاسد ".
وذكر ابن حزم فى تعليل ذلك: " أما ليست مطلقة ولا متوفى عنها، ولم يأت بإيجاب عدة عليها قرآن: لا سنة، ولا حجة فيما سواهما ".
مذهب الزيدية:
فى المسألة رأيان أصحهما أن الإحداد يلزم فى النكاح الفاسد ما لم يفسخ (22) .
إحداد المطلقة
لا يخلو حال المطلقة من أن تكون رجعية أو مبتوتة (مطلقة ثلاثا) أى بائنة بينونة كبرى. فأما الرجعية فلا خلاف بين الفقهاء أنه لا إحداد عليها، وأما المبتوتة فالمالكية والظاهرية والإمامية يرون أن لا إحداد عليها، ويعلل المالكية ذلك- بأن المتوفى فارق زوجته وهو على نهاية الإشفاق عليها والرغبة فيها، ولم تكن المفارقة من قبله فلزمها الإحداد لذلك ولإظهار الحزن كذلك.. أما المطلقة فقد فارقها مختاراً لفراقها، مقابحا لها، فلا يتعلق بها حكم الإحداد كالملاعنة (23) وعلى من تحد والزوج باق؟
مذهب الحنفية والزيدية:
يرون الإحداد، ويعلل الحنفية ذلك بأن النبى - صلى الله عليه وسلم- نهى المعتدة أن تختضب بالحناء وقال: الحناء طيب، ولأنه يجب إظهارا للتأسف على فوت نعمة النكاح الذى هو سبب لصونها وكفاية مؤنها، والإبانة أقطع لها من الموت، سواء فى ذلك الطلاق البائن: الواحد أو الثلاث أو المختلعة، ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أخرج عبد الرزاق عن معمر، عن الزهرى وعطاء الخراسانى عن ابن المسيب قال: تحد المبتوتة كما تحد المتوفى عنها ولا تمس طيبا ... الخ، أخبرنا الثورى عن عبد العزيز، عن ابن المسيب قال: المطلقة والمتوفى عنها حالهما واحد فى الزينة (24) .
مذهب الحنابلة والشافعية:
أثر عن الحنابلة روايتان فى ذلك (25) ، واختلف قول الشافعى فى هذه المسألة، فقال فى القديم يجب عليها الإحداد لأنها معتدة بائن فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها. وقال فى الجديدة لا يجب عليها الإحداد لأنها معتدة من طلاق فلم يلزمها الإحداد كالرجعية، ثم وجه الشافعية هذا بما وجهه به المالكية (26) .
وقال فى الأم: وأحب إلى للمطلقة طلاقا لا يملك زوجها فيه عليها الرجعة تحد إحداد المتوفى عنها حتى تنقضى عدتها من الطلاق. وقد قاله بعض التابعين، ولا يبين لى أن أوجبه عليها لأنهم قد يختلفان فى حال وإن اجتمعا فى غيره (27) .
ما تجتنبه المحدة
مذهب الحنفية:
وافقوا الشافعية والحنابلة فى وجوب ترك الطيب والزينة والكحل والدهن المطيب، كما اتفقوا مع الشافعية فى منع الدهن غير المطيب كالزيت والشيرج إلا لضرورة، فيجوز وقد صح أن النبى - صلى الله عليه وسلم- لم يأذن للمعتدة فى الاكتحال والدهن لا يعرى عن كونه نوع طيب وفيه زينة للشعر. لكن لو كانت عادتها الإدهان فخافت بتركه وجعا، فإن كان ذلك أمراً ظاهراً يباح لها، لأن الغالب كالواقع، وكذا لبس الحرير إذا احتاجت إليه لعذر فلا بأس (28) .
مذهب المالكية:
يجب على المحدة عندهم أن تجتنب ما يتزين به من الحلى والطيب، ونصوا على وجوب تجنب عمله والتبخر به وعلى وجوب ترك الثوب المصبوغ مطلقا، لما فيه من التزين إلا الأسود ما لم يكن زينة قوم كأهل مصر والقاهرة وسائر من يتزين فى خروجهن بالأسود. وبذلك رجعوا هذه المسألة إلى العرف كالإمامية.
قال القاضى أبو محمد:
كل ما كان من الألوان يتزين به النساء لأزواجهن فلتمتنع منه المحدة (29) ويجب عند المالكية ترك الامتشاط بالحناء والكتم (30) بخلاف نحو الزيت من كل ما لا طيب فيه والسدر والإستحداد فلا يطلب ترك ذلك. قالوا: ولا تدخل حماما، أى عاما، ولا تطلى جسدها ولا تكتحل إلا من ضرورة ولو بطيب وتمسحه نهارا وجوبا.
وحكى ابن ناجى قال: اختلف فى دخولها الحمام فقيل: لا تدخل أصلا، ظاهره ولو من ضرورة، وقال أشهب لا تدخله إلا من ضرورة (31) .
تجتنب المحدة ما يدعو إلى الرغبة- فيها وذلك فى الأمور الأربعة التالية:
1- الطيب، ولا خلاف فى تحريمه عند من أوجب الإحداد، لقول النبى- صلى الله عليه وسلم-:
" لا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قسط أو أظفار " (32) .
2- الزينة، وهى ثلاثة أقسام:
أ) الزينة فى نفسها، فيحرم عليها أن تختضب، وأن تحمر وجهها، وأن تبيضه وأن تحسن وجهها عموما بنقش أو تحفيف، وما أشبهه، وأن تكتحل بالإثمد من غير ضرورة. لما روت أم سلمة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " المتوفى عنها زوجها لا تلمس المعصفر من الثياب، ولا الممشق، (33) ولا الحلى ولا تختضب ولا تكتحل"0 رواه النسائى وأبو داود.
وروت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج، فإنها تحد أربع أشهر وعشرا. ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب (وهو ما صبغ غزله قبل نسجه) ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قسط أو أظفار ... متفق عليه.
روت أم سلمة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين توفى أبو سلمة، وقد جعلت على عينى صبرا، فقال: " ما هذا يا أم سلمة؟ " قلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب. فقال: " إنه يشب (34) الوجه لا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار "
ولأن الكحل من أبلغ الزينة فهو كالطيب وأبلغ منه. أما إن اضطرت إلى الكحل بالاثمد للتداوى فلها أن تكتحل ليلا وتمسحه نهاراً. وذلك لما روت أم حكيم بنت أسيد عن أمها أن زوجها توفى وكانت تشتكى عينيها فتكتحل بالجلاء، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمه تسألها عن كحل الجلاء، فقالت: لا تكتحلى إلا لما لابد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار ... رواه أبو داود والنسائى.
وإنما منع الكحل بالإثمد، لأنه الذى تحصل به الزينة، فأما الكحل بالتوتيا ونحوها فلا بأس به لأنه لا زينة فيه. ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها، لأنه إنما منع منه فى الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم- " إنه يشب الوجه "، ولا تمنع من التنظيف بتقليم الأظفار ونتف الإبط، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولابد من الاغتسال بالسدر والامتشاط به لحديث أم سلمة، ولأنه يراد للتنظيف لا للطيب.
جـ) زينة الثياب:
يحرم عليها من الثياب ما يتخذ عادة للزينة.
ب) لبس الحلى:
فيحرم عليها لبس الحلى كله حتى الخاتم فى قول عامة أهل العلم، لقول النبى - صلى الله عليه وسلم-: " ولا الحلى ". وقال عطاء يباح حلى الفضة دون الذهب، وليس بصحيح لأن النهى عام. ولأن الحلى يزيد حسنها.
3- النقاب: وهو الأمر الثالث مما تجتنبه المحدة ومثله البرقع ونحوه لأن المحدة مشبهة بالمحرمة، والمحرمة تمنع من ذلك وإذا احتاجت إلى ستر وجهها أسدلت عليه كما تفعل المحرمة.
3- المبيت فى غير منزلها: (35) ، وانظر فى هذا مصطلح " عدة ".
مذهب الشافعية:
وذهب الشافعية فى كل هذا إلى ما ذهب إليه الحنابلة وحرم عندهم ترجيل الشعر ولذا خالفوا الحنابلة فى استعمال الزيت والشيرج فى الرأس فمنعوه لأنه يرجل الشعر (36) .
مذهب الظاهرية:
إن الذى تمنع منه المحدة خمسة أشياء فقط:
الأول: الكحل كله لضرورة أو غير ضرورة.
الثانى: الثوب المصبوغ مطلقا لزينة أو لغيرها إلا العصب وحده فهو مباح لها.
الثالث: الخضاب كله.
الرابع: الامتشاط حاشا التسريح بالمشط فقط، فهو مباح لها.
الخامس: الطيب كله حاشا شيئا من قسط أو أظفار عند طهرها فقط، ويباح لها بعد ذلك أن تلبس ما شاءت من حرير أبيض أو أصفر.. الخ. ومباح لها أن تلبس المنسوج بالذهب والحلى كله من الذهب والفضة والجوهر والياقوت والزمرد وغير ذلك. ولم يأخذ بالأحاديث التى استدل بها غيره لمقال فى سندها (37) .
مذهب الزيدية:
قريب من مذاهب من ذكرنا من الفقهاء عدا الظاهرية، فيحرم عندهم استعمال المحدة للطيب والحلى والثوب المصبوغ والكحل إلا لضرورة، والخضاب لحديث أم سلمة.
وأما عن اكتحال المحدة فقد ذكر أنهم اختلفوا فى شأنه فذهب فريق إلى: تحريمه على المحدة لغير حاجة وهو ظاهر ما فى حديث أم عطية السابق، وقال فريق: يجوز مع كراهة جمعا بين أدلة التحريم والحل وهو قوله - صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة: " اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار " وأجاب بأنه لا دلالة فيه على مطلق الحل بل عند الحاجة ففى بعض طرقه أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة وقد جعلت على وجهها صبرا: إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل.. الحديث، فاستعمالها الصبر ظاهر فى الحاجة إليه (38) .
مذهب الإمامية:
كجمهور الفقهاء فى تحريم الزينة من الثياب والأدهان والطيب والكحل الأسود والحناء وخضب الحاجبين بالسواد، واستعمال ما يحسن الوجه وغير ذلك مما يعد زينة عرفا إلا أنهم لم يخصوا المنع فى الثياب بلون دون آخر، بل أرجعوا ذلك إلى العرف وقالوا: إن ذلك يختلف باختلاف البلاد والأزمان والعادات فكل لون بعد زينة عرفا يحرم لبس الثياب المصبوغ به.
ووافقوا الجمهور أيضا فى جواز الاكتحال بالسواد لعلة ثم قالوا: إن تأدت الضرورة باستعماله ليلا ومسحه نهارا وجب وإلا اقتصرت على ما تتأدى به الضرورة ولا يحرم عليها التنظيف ولا دخول الحمام ولا تسريح الشعر ولا السواك ولا قلم الأظفار (39) ولا استعمال الفرش الفاخرة ولا تزيين أولادها وخدمها (40) .
__________
(1) انظر لسان العرب المجلد الثالث ص 143 والمصباح المنير جـ1 ص 171 مادة "حدد".
(2) الحطاب جـ4 ص154، 155، والروضة البهية جـ 2 ص157 والبحر الزخار جـ3 ص 222 وفتح القدير جـ 3 ص193، 294 والروض النضير جـ4، ص 125 والمهذب جـ 2 ص149 والمحلى جـ 10 ص 274 وما بعدها والمغنى جـ9 ص 166 وما بعدها.
(3) رواه البخارى جـ9 ص 401 من الفتح.
(4) فتح القدير جـ 3 ص 291،المحررجـ2 ص107 ص 108، والحطاب جـ4، ص 154 والمهذب للشيرازى جـ 2 ص 149 والروضة البهية جـ 2 ص157 والمحلى جـ10ص275 والروض النضير جـ4 ص 125.
(5) الروض النضير جـ4 ص 125.
(6) فتح القدير جـ 3 ص 194 والباجى على الموطأ جـ4 ص 145 وفتح البارى جـ9 ص 401.
(7) الباجى على الموطأ جـ4 ص 148.
(8) الأم جـ5 ص 214.
(9) الباجى جـ4 ص 145، والنووى جـ 10 ص 142، 143.
(10) المحلى جـ10 ص 281.
(11) فتح القدير جـ 3 ص 272 والبحر الزخارى جـ3 ص 221، والمختصر النافع ص 225، والمغنى جـ 9 ص 152.
(12) البحر الزخار جـ3 ص 222 وفتح القدير جـ 3 ص 293.
(13) الباجى على الموطأ جـ4 ص 144.
(14) المغنى جـ 9 ص 166، والمحلى جـ10 ص 277، والأم جـ5 ص 214.
(15) الروضة البهية جـ2 ص 159.
(16) فتح القدير جـ 3 ص 291، ص 296، والبحر الزخار جـ3 ص 222.
(17) الأم جـ5 ص 214،والخرشى جـ3 ص 287، والمغنى جـ 9 ص 166، والمحرر جـ2 ص 107،108، والمحلى جـ10 ص 275، والروضة البهية جـ2 ص 157،158.
(18) الباجى على الموطأ جـ4 ص 148.
(19) فتح القدير جـ 3 ص 291، والأم جـ5 ص 214، الخرشى جـ3 ص 287،والباجى جـ4 ص 145، والمغنى جـ 9 ص 166، والمحلى جـ10 ص 275،315، والبحر الزخار جـ3 ص 222.
(20) الروضة البهية جـ2 ص 157، ص 158.
(21) فتح القدير جـ 3 ص 291،والمحرر جـ2 ص 107، والمغنى جـ9 ص 167، والمحلى جـ 10ص 303.
(22) البحر الزخار جـ3 ص 222.
(23) الخرشى جـ3 ص 287،288، والباجى على الموطأ جـ4 ص 145، والمحلى جـ 10ص 303، والروضة البهية جـ2 ص 157.
(24)) فتح القدير جـ 3 ص 295، والتعليق الممجد على موطأ محمد جـ1 ص 267، والروض النضير جـ4 ص 119،125.
(25) المحرر جـ2 ص 107.
(26) المهذب جـ2 ص 149.
(27) الأم جـ5 ص 212.
(28) فتح القدير وحواشيه جـ3 ص 294،296.
(29) الباجى جـ 4 ص 148.
(30) صبغ يذهب بياض الشعر ولا يسوده.
(31) أقرب المسالك وحاشية الصاوى جـ1 ص 466.
(32) النبذة المطعة والقسط والأظفار نوعان من البخور ليسا من مقصود الطيب رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به المرأة موضع الدم وأثره لا للتطيب وهذا هو المقصود هنا.
(33) الممشق: المصبوغ بالمشق وهو المعزة: الطين الأحمر.
(34) يشب الوجه: يحسنه. والروض النضير جـ4 ص
(35) المغنى جـ9 ص 167، وص 170، والمحرر جـ2 ص 107 وص 108.
(36) المهذب جـ2 ص149 وص 150.
(37) المحلى جـ 1 ص 275، وص 277.
(38) الروض النضير جـ4 ص 126،ص 127 والبحر الزخار جـ3 ص 222،223.
(39) وذلك رأى الجمهور كما أسلفنا.
(40) الروضة البهية جـ2 ص 157،158.(1/62)
إحْرَاز
معنى الإحراز فى اللغة:
جاء فى لسان العرب: " أحرزت الشىء أحرزه إحرازا، إذا حفظته وضممته إليك وصنته عن الأخذ" (1) .
معنى الإحراز عند الفقهاء
الإحراز فى عرف الشرع هو وضع المال فى حرز مثله. ولقد تكلم الفقهاء عن الإحراز فى باب السرقة والوديعة، فعرفوا الحرز وبينوا أنواعه والضابط الذى يرجع إليه فى تحديده.. راجع كلمة " حَرَزَ "
العلاقة بين الإحراز والحيازة
يؤخذ من كتب اللغة أن الإحراز والحيازة بمعنى واحد، يقول صاحب لسان العرب (2) : "وأحرز الشىء حازه ". وجاء فى موضع آخر منه فى مادة " حاز " " حزت الشىء إذا أحرزته ".
وأما العلاقة بين الإحراز والحيازة فى عرف الفقهاء فهى العموم والخصوص، ذلك أنهم يستعملون الإحراز بمعنى وضع الشىء فى حرز مثله، وبمعنى ملاحظته وحراسته، ويستعملون الحيازة فى باب تملك المال المباح، ويقصدون بها الاستيلاء عليه. وليس كل ما يعد حيازة للمال يعد إحرازا له فى باب السرقة والوديعة، فقد يكون محوزا ولكنه فى غير حرز مثله (3) .
الإحراز والقبض
الإحراز والقبض بمعنى واحد فى اللغة، فقد جاء فى لسان العرب (4) " حازه يحوزه إذا قبضه، وحرزت الشىء أحرزته ".
أما الفقهاء فقد استعملوا القبض فى أعم من معنى الإحراز، وعرفوه عند الكلام على قبض المبيع والمرهون، وحكم بيع الطعام قبل قبضه، بأنه التخلية، أو النقل فيما ينقل، والتخلية فى العقار، وهذا المعنى أعم من الإحراز، بمعنى وضع المال فى الحرز.. انظر مادة " قبض ".
الإحراز والاستيلاء
جاء فى المنجد (5) : " استولى استيلاء على الشىء صار الشىء فى يده ".
وعلى هذا فالاستيلاء فيه معنى الإحراز والقبض والحيازة فى عرف أهل اللغة، ذلك أن الشىء إذا صار فى يده فقد قبضه وأحرزه.
وأما الفقهاء فإنهم يستعملون الاستيلاء فى حيازة المال المباح ويعدونه من أسباب كسب الملك وتعريفهم للاستيلاء وتحديدهم للضابط الذى يرجع إليه فيه يفيد أن الاستيلاء أعم من الإحراز، ذلك أن بعض صور الاستيلاء قد يعد إحرازا فى حين أن البعض الآخر لا يعد كذلك، ومن ناحية أخرى فإن بعض صور الإحراز قد يكون بالحراسة، وهذه قد لا تعد استيلاء تثبت به ملكية على المال المباح.. أنظر "استيلاء".
اشتراط الإحراز فى السرقة
تكلم الفقهاء على الإحراز كشرط من شروط القطع فى السرقة، وإليك مذاهبهم فى ذلك:
مذهب الحنفية:
جاء فى الهداية والفتح (6) : ثم الإخراج من الحرز شرط عند عامة أهل العلم، وعن داود لا يعتبر الحرز أصلا.
مذهب المالكية:
جاء فى الشرح الكبير للدردير (7) : تقطع يد السارق اليمنى بسرقة طفل أو ربع دينار مخرج من حرز.
مذهب الشافعية:
جاء فى شرح الجلال المحلى على منهاج الطالبين (8) : يشترط لوجوب القطع فى المسروق أمور ... الرابع كونه محرزا بملاحظة أو حصانة موضعه.
مذهب الحنابلة:
يقول ابن قدامة فى" المغنى" (9) : القطع لا يجب إلا بشروط سبعة ... الشرط الرابع أن يسرق من حرزه ويخرج منه وهذا قول أكثر أهل العلم لما روى أن رجالا من مزينة سأل النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الثمار فقال " ما أخذ فى غير أكمامه فاحتمل ففيه قيمته ومثله معه، وما كان فى الخزائن ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن.
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم فى "المحلى": " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع السارق جملة ولم يخص عليه السلام حرزا من حر ز، ولو أراد الله ألا يقطع السارق حتى يسرق من حرز ويخرجه من الدار لما أغفل ذلك ولا أهمله ... فنحن نشهد ونبت ونقطع، أن الله تعالى لم يرد قط اشتراط الحرز فى السرقة.
مذهب الزيدية:
يقول ابن المرتضى فى "البحر الزخار" (11) : وشرط القطع عند العترة الأخذ من الحرز، وجاء فى "شرح المنتزع المختار" (12) : إنما يقطع بالسرقة من جمع شروطا ... السابع أن يكون السارق أخرج النصاب من حرز وكان ذلك الإخراج بفعله.
مذهب الإمامية:
جاء فى المختصر النافع (13) : يشترط فيه - السارق- التكليف ... وأن يهتك الحرز ويخرج المتاع بنفسه، ويأخذه سراً. وجاء فيه أيضا: لابد من كونه- المسروق - محرزا بقفل أو غلق أو دفن.
مذهب الإباضية:
جاء فى " شرح النيل فى الفقه الإباضى (14) : وتقطع يمنى سارق ... إن خرج من حرز.
إحراز المال المباح
إحراز المال المباح سبب منشىء للملكية، ولقد عبر الفقهاء عن هذا السبب " بحيازة المال المباح" والاستيلاء على المال المباح، وإحياء الموات، ثم تكلموا على شروط الحيازة أثرها بالنسبة لكل نوع من أنواع المال المباح 000 راجع مصطلحات " حيازة- استيلاء- إحياء ".
الإحراز فى الوديعة
تكلم الفقهاء علي التزام المودع بإحراز الوديعة فى حرز مثلها. وهاك مذاهبهم فى ذلك.
مذهب المالكية:
جاء فى شرح الخرشى (15) : لا ضمان على المودع إذا أمره صاحب الوديعة أن يجعلها فى كمه فجعلها فيه ونسيها فوقعت فضاعت، وقيد بأن تكون غير منثورة فى كمه وإلا ضمن لأنه ليس بحرز حينئذ.
مذهب الشافعية:
يذهب الشافعية إلى أن المُوِدع إذا أحرزَ الوديعةَ فى غير حرز مثلها دون إذن المالك مضيعا لها، والتزم بضمانها، ولو قصد بذلك إخفاءها لأن الودائع مأمور بحفظها فى حرز مثلها (16) .
مذهب الحنابلة:
جاء فى المغنى لابن قدامة (17) : وإذا لم يحفظها كما يحفظ ماله، وهو أن يحرزها بحرز مثلها، فإنه يضمنها، وحرز مثلها يذكر فى باب القطع فى السرقة وهذا إذا لم يعين له المودع ما يحفظها فيه، فإن عين له لزمه حفظها فيما أمره به سواء كان حرز مثلها أو لم يكن، وإن أحرزها بمثله أو أعلى منه لم يضمنها ويتخرج أن يضمنها إذا فعل ذلك من غير حاجة.
مذهب الزيدية:
جاء فى البحر الزخار (18) : إذا لم يعين المالك حرزها فعليه أن يحفظها حيث يحفظ مثلها فى مثله.
مذهب الإمامية:
جاء فى المختصر النافع (19) : وتحتفظ كل وديعة بما جرت به العادة، ولو عين المالك حرزا اقتصر عليه.. ولو نقلها إلى أدون أو أحرز ضمن إلا مع الخوف.
__________
(1) لسان العرب جـ 23 ص 323.
(2) جـ 23 ص 341.
(3) راجع الهداية مع فتح القدير جـ4 ص 241 ومنهاج الطالبين جـ4 ص190.
(4) جـ23 ص 341.
(5) ص 1021.
(6) جـ4 ص 238.
(7) جـ4 ص 332.
(8) جـ4 ص 190.
(9) جـ4 ص 240.
(10) جـ 11 ص 337.
(11) جـ5 ص 179.
(12) جـ8 ص364.
(13) ص 223.
(14) جـ7 ص 646.
(15) جـ6 ص 129.
(16) راجع مغنى المحتاج جـ6 ص 87.
(17) جـ6 ص 384.
(18) جـ4 ص 169.
(19) ص 150.(1/63)
إحْرَاق
مقدمة:
للإحراق أحكام فى الشريعة الإسلامية تبدو فى المواضع الآتية:
أولها: أثر الإحراق فى طهارة الأعيان النجسة، وطهارة الأعيان المحروقة واستعمالها.
ثانيها: ما يجوز للإمام وولى الأمر من الإحراق، وذلك فى أمور شتى، كإحراق- آلات اللهو والفسق، وإحراق الكتب التى تتضمن الكفر، والصلبان، وما يجوز من إحراق المصاحف وإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة، والمنافقين والفساق، ورحال الغالِّ للغنيمة ومتاعه.
وأخيرا: ما يجوز عند القتل والقصاص وامتناع المْثلَة والتعذيب.
ثالثها: بحث ما يجوز من الإحراق فى القتال، برمى النار على المشركين عند محاربتهم، والحكم لو تترسوا بمن لا يجوز قتله، وكان المحاربون من البغاة أو المرتدين.
رابعها: الجناية على النفس أو المال بالإحراق وما يكون من مُثْلَة السيد بعبده بالإحراق.
إحراق النجاسات واستعمال الأشياء المحروقة
اختلف الرأى فى أثر الإحراق فى طهارة الأعيان النجسة، وهل يؤدى الإحراق إلى طهارتها، أم تظل نجسة بعد الإحراق، وحكم رمادها ودخانها.
فذهبت بعض المذاهب إلى أن الإحراق يطهر الأعيان النجسة مع تفصيل فى دخانها وما تخلف من رمادها. وذهب البعض الآخر إلى أن الأعيان النجسة لا تطهر بالإحراق وأن رمادها وسخامها نجسان.
مذهب الحنفية:
للحنفية (1) رأيان:
أحدهما: رأى الإمام أبى يوسف (2) ، وعنده أن الأشياء النجسة لا تطهر بالإحراق.
فإذا احترقت خشية أصابها بول أو عذرة، ووقع رمادها فى بئر، فسد ماؤها عنده. ذلك لأن الرماد عنده أجزاء لتلك النجاسة، فتبقى على نجاستها بعد الإحراق.
والثانى: هو رأى الإمام محمد (3) ، وعليه الفتيا، وهو أن الإحراق النجاسات يطهرها. ذلك لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفى الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فمن باب أولى بانتفائها كلها.
وإنما قيل (4) أن إحراق الذى تطهر به النجاسة هو ما استحالت به النجاسة، أى تغيرت به مادتها وتحولت عن طبيعتها. فليس كل ما يدخل النار يطهر بدخوله فيها وإنما تطهر الأعيان النجسة بالإحراق.
وقيل (5) أيضا أنه لا فرق بين الجفاف بالنار أو الشمس أو الريح، فكل ذلك يطهر النجاسة. فإذا احترقت الأرض بالنار وذهب أثر ما عليها من النجاسة جازت الصلاة مكانها من باب أولى.
وعلى القول بأن النجاسات تطهر بالإحراق إذا استحالت مادتها قالوا: إن السرقين (الزبل أو العذرة، فضلة الإنسان) إذا أحرقت حتى صارت رمادا ظهرت.
وإذا أحرق راعى الشاة الملطخ بالدم وزال عنه الدم يحكم بطهارته. وإذا لبَّن (عجن اللبن: وهو الطوب المضروب من الطين) بالماء النجس واحرق صار طاهرا.
وكذلك الكوز أو القدر إذا طبخ من طين نجس يطهر بالإحراق والإناء من الحديد أو الخزف أو الحجر إذا دخلت النجاسة فى أجزائه فإنه يطهر بالإحراق.
مذهب المالكية:
وذكر المالكية فى ذلك رأيين:
أحدهما: أن النجاسات تطهر بالإحراق ... قاله الدردير فى شرح بلغة السالك على الشرح الصغير (6) ، وقاله ابن رشد كذلك (7) .
والثانى: أن النجاسات لا تطهر بالإحراق (8) وذلك مفهوم من قال بنجاسة دخان النجاسات المحترقة ورمادها.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (9) بالتفرقة بين ما هو نجس لعينه، وما هو نجس لمعنى فيه.
فأما الأشياء النجسة لعينها كالعذرة والسرجين وعظام الميتة ونحوها فقالوا لا تطهر بالإحراق، وأما إذا كانت نجاستها لمعنى كالخمر- فإنها بإحراقها يزول هذا المعنى، فتطهر بالإحراق. فإذا طبخ اللبن (الطوب النىء) الذى خلط بطينة السرجين لم يطهر لأن النار لا تطهر النجاسة.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (10) : لا تظهر النجاسة بالإحراق ولا بالاستحالة ولو أحرق السرجين النجس فصار رمادا لم تطهر لأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة فلم تطهر بها كالدم إذا صار قيحاً أو صديداً. وعلى هذا الأساس اعتبر الخمر كأن تتحول إلى خل فإنها نجسة بالاستحالة، فجاز أن تطهر بها. وقالوا لا تطهر الأرض بشمس ولا ريح ولا جفاف، وقالوا لا تطهر نجاسة بنار فرمادها ودخانها وبخارها وغبارها نجس.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (11) : تطهر الأعيان النجسة بإحراقها، فإذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو ترابا فكل ذلك طاهر ويتيمم به.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (12) : إن النار تطهر النجاسات وذلك بالاستحالة التامة وهى تغير اللون والريح والطعم إلى غير ما كانت عليه.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (13) : إذا أحالت النار النجاسة رماداً أو دخانا طهرت، أما إذا أحالتها خزفاً أو آجُرَّا فلا تطهر.
مذهب الإباضية:
وللإباضية (14) فى النجس إذا صار جمرا أو رمادا قولان:
أحدهما: أنه يطهر بالإحراق.
والثانى: أنه لا يصير طاهراً به، فهو ذات واحدة تغير لونها. أما ما تنجس (أى أصابته نجاسة من غيره) فإنه يطهر بالاحتراق، فيكون جمره ورماده ولهبه طاهرا، لأن ما تنجس بغيره تزول نجاسته بمزيل كالنار، ونصوا على أن النجاسة تزال بالنار، وقالوا: إنها أقوى من الشمس والريح فى إزالة عين النجاسة فيما يتحملها كالأرض والفخار بأن يحمى عليه حتى تطيقُه اليد سواء جعلت النار على موضع النجاسة أو تحته أو وصلته الحرارة التى لا تطيقها اليد حتى ولو لم تترك أثرا.
دخان النجاسات ورمادها
الرأى فى دخان النجاسات ورمادها على وجهين. أحدهما: مبنى على القول بأن الإحراق يطهر النجاسات فيكون دخانها ورمادها طاهرين. والآخر: مبنى على أنه لا يطهرها، والدخان هو أجزاء من النجاسات فلا يكون طاهرا ولا رمادها.
مذهب الحنفية:
قال الأحناف (15) تبعا لرأيهم الراجح: إن دخان النجاسة ورمادها طاهران، فإذا (16) أصاب الثوب أو البدن دخان نجاسة لا ينجسه. وإذا أحرقت العذرة فى بيت فعلا، دخانها وبخارها إلى السقف، وانعقد وذاب أو عرق فأصاب ماؤه ثوبا، لا ينظر استحسانا. قيل ما لم يظهر أثر النجاسة.
مذهب المالكية:
قال المالكية (17) ممن رأوا نجاسة الأشياء النجسة المحروقة، أن دخان النجاسات عند حرقها نجس. وقيل إن دخانها أشد نجاسة من رمادها، وأن رمادها نجس كذلك. وكذلك عرق الحمام من الرطوبات التى به من بول، وعرق، ونجاسات.
فإذا كان الدخان ينعكس على طعام يطهى على نجاسات يوقد بها، فإن كان دخانها ينعكس فى الطعام، فيصل إليه فإن الطعام يكون نجسا فلا يؤكل. وإن كان لا ينعكس فلا بأس به. ولذلك فلا يؤكل الخبز الذى يوقد عليه بأرواث الحمير. ولا يوقد بعظام الميتة على طعاما أو شراب.
وقيل (18) ينبغى أن يرخص فى مصر فى الخبز بالزبل (ومثله الجلة) لعموم البلوى ومراعاة لمن يرى أن النار تطهر النجاسات وإن رماد النجاسة طاهر، وللقول بطهارة زبل الخيل. وقيل لا ينجس بالملاقاة أو العلوق، وهو أن يظهر أثر الدخان فيما أصابه، لا مجرد رائحته.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (19) فى رماد النجاسات لعينها أنه نجس، فلا يطهر السرجين والعذرة وعظام الميتة بالإحراق ورمادها المتخلف عنها نجس.
أما دخانها ففيه وجهان:
أحدهما: أنه نجس لأنه أجزاء متحللة من النجاسة فهو كالرماد.
والثانى: أنه ليس بنجس لأنه بخار نجاسة كالبخار الذى يخرج من الجوف.
وقالوا (20) : إن النار المتصاعدة من الوقود بأعيان نجسة ليست نجسة لأنها ليست من نفس الوقود، وإنما هى تأكل الوقود. فالنار المتصاعدة طاهرة ما لم تختلط بالدخان.
وقيل: يعفى عن القليل من دخان النجاسة. وقيل لا يعفى عنه، فإذا قيل ذلك، فإذا مسح التنور مما علق به من دخان بخرقة يابسة طهر. وإذا مسح بخرقة رطبة يطهر وإلا غسل بالماء.
وقالوا فيما علق بالثوب من دخان النجاسات: إن كان قليلا عفى عنه، وإن كان كثيرا لم يعفه عنه ولم يطهر إلا بالغسل وإذا اسود الرغيف مما لصق به من دخان وقود نجس، كان أسفله نجسا.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (21) : لا تطهر نجاسة بنار. فرمادها ودخانها وبحارها وغبارها نجس.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (22) : إن تراب النجاسات المحروقة طاهر، وذلك تبعا لقولهم بطهارة المحروقات النجسة.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (23) : إن العذرة والروث والميتة ونحوها إذا صارت رماداً، فالمذهب أن الاستحالة توجب الطهارة، وفى الدخان وجهان.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (24) : إذا أحالت النار النجاسة رمادا أو دخانا طهرت.
مذهب الإباضية:
وللإباضية (25) قولان فى غبار النجس ورماده. أحدهما: أنه يطهر بالإحراق. والراجح عندهم أنه لا يطهر بالإحراق لأن غبرة الشىء جزء لطيف منه. أما دخانه فقد قالوا بطهارته لأنه لا توجد فيه ذات النجس ولا طعمه ولا لونه ولا رائحة يحكم على النجاسة بها.
أما المتنجس بغيره فلا خلاف عندهم فى طهارة غباره ورماده وجمره ودخانه.
استعمال المحروقات
لا خلاف بين فقهاء المذاهب فى جواز استعمال الرماد المتخلف من محروق طاهر غير أن التيمم بالرماد أو بما خالطه الرماد من تراب الأرض أو بمدفون المحروق فموضعه الكلام على التيمم، انظر "تيمم".
وفيما يحرق من أجل التجمير "تبخير"، فموضعه مصطلح " تجمير ".
الإحراق بأمر الإمام أو ولى الأمر
هناك أحوال شتى يكون فيها للإمام أو ولى الأمر استعمال النار فى الإحراق كما أن ثمة قيودا على استعمال النار فى نواح أخرى.
نتكلم فيما يلى على الفروض التى قيل بجواز الإحراق فيها، وما لا يجوز من المثلة والتعذيب بالنار.
إحراق رحال الغالَّ للغنيمة ومتاعه
نص الحنابلة (26) : على إحراق رحال الغالَّ للغنيمة ومتاعه، واكتفى الحنفية (27) والمالكية (28) والشافعية (29) بالقول بأنه يؤدب، وقال الإمام الشافعى: لا يرجل الغال عن دابته فيحرق سرجه ومتاعه، لأن الرجل لا يعاقب فى ماله، وإنما يعاقب فى بدنه. وإنما جعل الله الحدود على الأبدان، وكذلك العقوبات. وأما المال فلا توقع العقوبة عليه.
وقال الحنابلة: إن حكم الغال- وهو الذى يكتم ما يأخذه من الغنيمة فلا يطلع الإمام عليه ولا يضعه فى الغنيمة- أن يحرق رحله كله.
وقال ابن قدامة: وبهذا قال الحسن وفقهاء الشام، ومنهم مكحول والأوزاعى وأن سعيد بن عبد الملك أتى بغال فجمع ماله وأحرقه وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه.
وقال يزبد بن يزيد بن جابر: إن السنة فى الذى يغل أن يحرق رحله. وقد رواه سعيد فى سننه. والدليل ما روى صالح بن محمد بن زرارة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتى برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبى يحدث عن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه سلم قال:" إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه " ... قال: فوجدنا فى متاعه، مصحفا فسأل سالما عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه. فالمصحف لا يحرق إذا غل، وكذلك لا ينبغى أن تحرق كتب العلم والحديث، ولا يحرق الحيوان لنهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يعذب بالنار إلا ربها، ولحرمة الحيوان فى نفسه ولأنه لا يدخل فى اسم المتاع المأمور بإحراقه.
قال ابن قدامة: وهذا لا خلاف فيه.
ولا تحرق كذلك آلة الدابة أى سرج الدابة ونحوه أيضا، نص عليه أحمد، لأنه يحتاج إليها للانتفاع بها ولأنها تابعة لما لا يحرق، فأشبه جلد المصحف وكيسه قال ابن قدامة: قال الأوزاعى: ويحرق سرجه وأكافه (البرذعة) ، ولا تحرق ثياب الغال التى عليه لأنه لا يجوز تركه عريانا، ولا ما غل من غنيمة المسلمين ويرفع إلى المغنم كما قال الإمام أحمد بن حنبل، ولا يحرق سلاحه لأنه يحتاج إليه فى القتال، ولا تحرق نفقته لأن ذلك مما لا يحرق عادة، وجميع ذلك أو ما أبقت عليه النار من حديد أو غيره فهو لصاحبه لأن ملكه ثابت عليه ولم يوجد ما يزيله عنه، وإنما عوقب بإحراق متاعه فما لم يحترق يبقى على ما كان.
قال الإمام أحمد: وإذا استحدث الغال متاعا غير ما كان معه عند الغلول بعد أن رجع إلى بلده، أحرق ما كان معه حال الغلول فقط.
كما قال: وإن مات قبل إحراق رحله لم يحرق لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولأنه بالموت انتقل إلى ورثته فإحراقه عقوبة لغير الجانى وإن باع رحله أو وهبه احتمل ألا يحرق لأنه صار لغيره. فأشبه ما لو انتقل عنه بالموت، واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق لأنه تعلق به حق سابق على البيع أو الهبة فوجب تقديمه.
وإن كان الغال صبيا لم يحرق متاعه لأن الإحراق عقوبة وهو ليس أهلا للعقوبة. وإن كان عبدا لم يحرق متاعه أيضا لأن المتاع لسيده فلا يعاقب سيده بجناية عبده وإن غلت امرأة أو ذمى أحرق متاعهما لأنهما من أهل العقوبة، وإن أنكر الغلول وذكر أنه ابتاع ما بيده لم يحرق متاعه حتى يثبت غلوله ببينة أو إقرار.
الإحراق فى القتال
إحراق حصون الكفار وإرسال النار عليهم بالمجانيق وغيرها:
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (30) : لا بأس بأن يحرق المسلمون حصون الكافرين وأن ينصبوا المجانيق عليهم لقول الله تعالى" يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين " (31) ، ولأن كل ذلك من باب القتال لما فيه من قهر العدو والنكاية فيه وغيظه، ولأن حرمة الأموال لحرمة أربابها، فكذلك لا تكون ثمة حرمة لأموالهم. وكذلك لما ذكره الزهرى من أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخيل بنى النضير وتحريقها فأنزل الله قوله: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله" (32) ، أى أن القطع جائز بإذن الله، ففى هذا بيان أنه كان فيه غيظ لهم وقد أمرنا به لقوله تعالى: (ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ((23) .
وكذلك فقد أمر بحرق قصر عوف بن مالك النضرى بأوطاس.
وكره بعض الحنفية ذلك لما ذكره أبو بكر فى وصيته ليزيد بن أبى سفيان ألا يقطعوا شجرة ولا يخربوا ولا يفسدوا، لقوله تعالى: (وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ((34) .
وقال ابن عابدين: أن الإحراق فى الأصل ممنوع لأنه لا يعذب بالنار إلا ربها. ولكن تحرق الدابة إذا شق نقلها وكانوا ينتفعون لا لو عقرت أو ذبحت، كما تحرق الأسلحة والأمتعة إن تعذر حملها، ويدفن ما لا يحرق بموضع خفى.
مذهب المالكية:
وقال المالكية (35) بجواز التخريب وقطع النخل والحرق إن أنكأ العدو. وأنه لا بأس أن ترمى حصونهم بالمجانيق وأن تحرق فى قراهم وحصونهم بالنار، وذلك إذا لم يكن غير النار وسيلة، وكنا إذا تركناهم خفنا على المسلمين، وأما إذا لم نخف، فقد اختلف الرأى فى جواز إحراق المحاربين بالنار إذا انفردوا ولم يمكن قتلهم إلا بالنار. فقال رأى بجواز ذلك. وقال رأى بعدم جوازه، ما دام لا خوف عليهم من المسلمين.
وقال ابن رشد: أنه يجوز أن يرمى من فى الحصون بالنار إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة.
والرأى الظاهر: أن ذلك مندوب لما فيه من غيظ العدو، فقد روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخل بنى النضير فأنزل الله: (ما قطعتم من لينة (فهى دالة على إباحة القطع، ولا حرج فى الترك.
وقال مالك: الظاهر الأفضل أن القطع أولى من الترك لما فيه من إذلال العدو وصغارهم ونكايتهم لقوله تعالى: (ولا ينالون من عدو نيلا (.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (36) : فى ذلك أنه يجوز حصار الكفار فى البلاد والقلاع ورميهم بنار أو منجنيق أو غيرهما. وقالوا: إنه يجوز إحراق ما لا روح له. أما ما له روح من حيوان فإن قتله محرم لأنه يألم مما أصابه، إلا أن يذبح فيؤكل ولا يحل قتله لمغايظة العدو لقوله صلى الله عليه وسلم: " من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها، سأله الله عنها "، ولا تحرق حشرة النحل لأنها ذات روح.
وإذا تحصن أهل الحرب بحرم مكة امتنع قتالهم بما يعمهم وغيرهم، وكذا حصارهم تعظيما للحرم، فإذا قامت ضرورة لذلك جاز. وإذا رموا بالمنجنيق فارتد الرمى ورجع وأصاب أحد رجال جيش المسلمين ممن يرمون به، أو غيرهم، فقتله فديته على عواقل الذين رموا بالمنجنيق. فإن كان المصاب أحد الرماة الذين رموا به رفعت حصته من الدية.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (37) : إذا قدر على العدو فلا يجوز تحريقه بالنار بغير خلاف، وإن أمكن أخذ العدو بدون رميهم بالنار لم يجز رميهم، لأنهم فى معنى المقدور عليهم، وأما عند العجز عنهم بغيرها فجائز فى قول أكثر أهل العلم، ويجوز نصب المنجنيق عليهم، لأن النبى صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بالطائف.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (38) : يجوز تحريق أشجار المشركين وأطعمتهم وزروعهم ودورهم وهدمها. وقال الله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله (وقد أحرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بنى النضير.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (39) : يجوز للإمام ومن يوليه من قبله أن يحرق من حاربه، وأن يرميه بالمنجنيق بشرطين:
أحدهما: أن يتعذر إيقاع السيف فيهم لتحصنهم فى قلاع أو بيوت مانعة أو فى سفينة فى البحر.
الثانى: أن يكونوا فى تلك الحال قد خلوا مما لا يجوز أن يقتل من الصبيان أو النسوة ونحوهم.
فإذا اجتمع هذان الشرطان جاز قتلهم بما أمكن، فلا يجوز الإحراق إلا لضرورة ملجئة وهى تعذر دفعهم عن المسلمين أو تعذر قتلهم.
ويجوز تخريب بيوت المشركين وقطع شجرهم إن لم يمكن إحراقها لقوله تعالى: (ما قطعتم من لينة (. وقد أحرق النبى صلى الله عليه وسلم شجر الطائف وبنى النضير.
وقالوا: إن ما تعذر حمله إلى دار الإسلام، حيث يكون جمادا، كالثياب والطعام ونحوهما يجوز إحراقه.
أما الحيوان فلا يحرق إلا بعد الذبح فإن كان مما يستبيحون أكله، أو ينتفعون به بعد الذبح يحرق وأما ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به وهو ميتة فلا وجه لإحراقه.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (40) : يجوز محاربة العدو بكل ما يرجى به الفتح كهدم الحصون والرمى بالمجانيق، ويكره رميهم بالنار إلا لضرورة، فإن أدى ذلك إلى قتل نفس محترمة فيحرم الرمى بالنار إن أمكن بدونه، وأما إذا توقف الفتح عليه فوجب الإحراق فى القتال إذا وجد فى العدو مسلم أو من لا يقتل
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (41) : إذا كان فى الحصن ونحوه نساء أو صبيان أو أسرى من المسلمين أو تجار مسلمون، فلو قدر على التمييز فعلا بين المحاربين وبين هؤلاء لزمنا ذلك فلا يحل إذن رمى النساء والصبيان والأسارى، فإذا كانوا يقصدون المشركين ولا يمكنهم التمييز جاز الرمى بالنار والإحراق. قالوا: وذلك حتى لا ينسد باب الجهاد بأن يعمد العدو إلى الاحتفاظ معه بمن لا يجوز قتلهم ليعرقل الحرب، وكذلك إذا تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمى إليهم بضرورة إقامة الفرض، فإن أصابوا مسلما فلا دية ولا كفارة.
وقال الحسن بن زياد: تجب الدية والكفارة، لأن دم المسلم معصوم، والضرورة فى رفع المؤاخذة لا لنفى الضمان كتناول مال الغير فى مخمصة رخص فيه، ولكن مع الضمان.
مذهب المالكية:
وقال المالكية (42) : إذا كان فى الحصن مع المقاتلين أسرى مسلمون فلا يرمون بالنار، وإذا كان فى الحصن نساء وصبية من المشركين فقد قيل فى المدونة أنه يجوز أن يرموا بالمجانيق ولا يجوز أن يحرقوا.
وقال ابن رشد فى السفن فيها الأسارى المسلمون أو النساء أو الصبيان قولان: قول أنه يجوز رميهم بالنار وقول أنه لا يجوز ذلك.
وإن تترسوا بمسلم لم يقصد الترس إذ لا يستباح دم المسلم، إلا إذا خيف أن يؤدى تركهم إلى انهزام المسلمين واستئصال قاعدة الإسلام، فإنه يجب الدفع وتسقط حرمة الترس.
وقد قال المالكية أنه إذا اضطر الجيش إلى التخلى عن الخيل أو الحيوان فى أرض العدو، فإنها تعرقب (اى تقطع عراقيبها) فإن خيف أكلها فإنها تحرق، وذلك إذا كانوا يأكلون الميتة.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (43) : إذا كان فى المشركين الذين يجرى قتالهم مسلم أو أسير أو تاجر مسلم جاز حصارهم وقتلهم بما يعم، فإن الأمر محمول على ما فيه مصلحة المسلمين لئلا يعطلوا الجهاد علينا بحبسهم مسلما عندهم. ولكن يجب توقى ذلك ما أمكن ويكره عند عدم الاضطرار إليه تحرزا من إيذاء المسلم ما أمكن، ومثله فى ذلك الذمى.
ولا ضمان عندهم فى قتل المسلم أو الذمى فى ذلك، لأن الفرض أنه لم تعلم عينه، أى أن المسلمين رموا أو أحرقوا ولا يعلمون بخصوص ذات من فيهم من المسلمين، ويجوز رميهم بالنار والمنجنيق ولو كان فيهم النساء والصبيان لقوله تعالى " فخذوهم واحصروهم "، ولأنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق.
وقال الإمام الشافعى: لا بأس أن ينصب المنجنيق على الحصون دون البيوت التى بها الساكن، إلا أن يلتحم المسلمون قريبا من الحصون فلا بأس أن ترمى البيوت. وإذا كان فى الحصون والبيوت مقاتلة محصنون رميت الحصون والبيوت ولو التحموا فى حرب فتترسوا بنساء وخناثى وصبيان ومجانين منهم، جاز رميهم إذا دعت الضرورة لذلك، فإذا دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع الضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم، لئلا يؤدى الرمى إلى قتلهم بغير ضرورة.
قالوا: ولكن المعتمد جوازه مع الكراهية وهو قياس على ما مر من قتلهم بما يعم.
وقيل: يشترط لذلك أن يكون القصد هو التوصل إلى رجالهم.
وإن تترسوا بمسلمين أو ذميين فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم وجوبا صيانة لهم، وهم يختلفون فى ذلك عن الذرية والنساء المشركات لأن حرق المسلم أو الذمى لأجل الدين، وأما حرق الذرية والنساء فلحفظ حق الغانمين خاصة. وإلا فإذا تترسوا بمسلمين أو ذميين حال الالتحام فى الحرب اضطررنا لرميهم بأن كنا لو كففنا عنهم ظفروا بنا أو عظمت مكانتهم فينا، جاز رميهم على الأصح على قصد قتال المشركين، وفى سبيله ويتوقى المسلمون بحسب الإمكان، لأن مفسدة الكف عنهم أعظم ولا يكون ذلك عند الخوف، لأن دم المسلم أو الذمى لا يباح بالخوف.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (44) : وإذا تضمن رمى الكفار إتلاف النساء والذرية الذين يحرم إتلافهم قصدا، وكان لا يقدر عليهم إلا بذلك، جاز الرمى بالنار والإحراق.
وإن تترس الأعداء أثناء الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم بقصد المقاتلة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجيق ومنهم النساء والصبيان، ولأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند حرقهم فينقطع الجهاد.0. وذلك سواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحين بالرمى حال التحام الحرب.
وقالوا: إن تترسوا بمسلم ولم تدع الحاجة إلى رميهم، لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شرهم، لم يجز رميهم، فإن رماهم فأصاب مسلما فعليه الضمان، وإن دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم لأنها حالة ضرورة، وذلك إذا لم يقدر عليهم إلا بالرمى وكانت الحرب قائمة، لأن ترك ذلك يفضى إلى تعطيل الجهاد ... فعلى هذا، فإن قتل الرامى مسلما فعليه الكفارة، وفى الدية رأيان: أحدهما أنها تجب لأنه قتل مؤمنا خطأ فيدخل فى عموم الآية.. (ومن قتل مؤمنا خطأ (والثانى: أنه لا دية عليه لأنه قتل فى دار الحرب برمى مباح فيدخل فى عموم قوله تعالى: (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة (، ولم يذكر الدية.
مذهب الزيدية:
واشترط الزيدية (45) لرمى المشركين بالنار وحرقهم ألا يكون معهم صبية أو نساء، وإلا فلا يجوز الإحراق إلا لضرورة ملجئة، وهى تعذر دفعهم عن المسلمين أو تعذر قتلهم دون الترس.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (46) : لو تترس الأعداء بالنساء أو الصبيان منهم كف عنهم إلا فى حال التحام الحرب، وكذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمين.
فإذا قتل الأسير المسلم ولم يكن من الممكن جهادهم إلا كذلك، فلا يلزم القاتل بالدية. وفى الكفارة خلاف، فقال بعضهم تلزمه " الكفارة "، وقال البعض الآخر لا تلزمه.
الإحراق فى قتال البغاة
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (47) : يقاتل أهل البغى بالمنجيق والحرق وغير ذلك مما يقاتل به أهل الحرب، لأن قتالهم لدفع شرهم وكسر شوكتهم، فيقاتلون بكل ما يحصل به ذلك.
مذهب المالكية:
وقال المالكية (48) : إن قتال البغاة يقصد به ردعهم فقط وليس قتلهم، فهو يختلف عن قتال الكفار فى ذلك، ولذلك تنصب عليهم الدراعات ولا تحرق مساكنهم ولا يقطع شجرهم.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (49) : لا يقاتل البغاة بعظيم يعم كنار أو منجنيق.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (50) : لا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه كالنار من غير ضرورة، فإن دعت الضرورة لذلك كما لو حاصر البغاة أهل العدل فلم يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم، جاز ذلك.
وأما المرتدون فقد قالوا أن أبا بكر كان يأمر بتحريقهم بالنار. وفعل خالد بن الوليد ذلك بأمره.
وقال فى منتهى الإرادات غير ذلك.
لأنه إذا أصر المرتد على ردته قتل بالسيف ولا يحرق بالنار لحديث " إن الله كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتل " وحديث " من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله " (يعنى النار) قال: رواه البخارى.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (51) : لا يحل قتال أهل البغى بنار تحرق من فى الحصن من غير أهل البغى لقوله تعالى " ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولاتزر وازرة وزر أخرى"، أما إذا لم يكن فيه إلا البغاة فقط، فيقاتلون حتى ينزلوا إلى الحق. ويجوز أن توقد النيران حولهم ويترك لهم مكان يتخلصون منه إلى عسكر أهل الحق (أى المسلمين) ، ولا يحل حصارهم بالنار دون أن يجعل لهم منفذا، لأن الله تعالى لم يأمر بذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر بالمقاتلة فقط.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (52) : يحرق الباغى ويغرق ويخنق إن تعذر قتلهم بالسيف وخلوا عمن لا يقتل كالنساء والصبيان، ويجوز للحاكم تعزير أهل البغى بإحراق دورهم وهدمها.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (53) : إن القصد من محاربة البغاة تفريق كلمتهم، فقتالهم أقل من جهاد المشركين.
مذهب الإباضية:
وقال الإباضية (54) : ويمنع فى القتال بين الفئة الباغية وغيرها من إشعال النار فيما بينهم وقت اصطفافهم لقتال لا بقصد إحراق أو موت. ولكن لا ضمان ان أصيبوا ولو قصدوهم بالحريق.
إحراق آلات اللهو والخمر ودور ال
إحراق آلات اللهو والخمر ودور الفسق
والكتب الباطلة والصلبان
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (55) : يجوز إحراق بيت الخمر، فقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه أحرق بيت الخمار، وعن الإمام الزاهد الصفار أنه أمر بتخريب دار الفاسق بسبب الفسق. وقال أبو يوسف يحرق الزق أو يخرق إذا كان فيه خمر لمسلم أو لنصرانى
مذهب المالكية:
وقال المالكية (56) إن من قال بأن العقوبة المالية منسوخة فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا.
وأورد القرافى أمثلة عديدة للإحراق وغيره من طرق التعزير تساوى فيه القليل والكثير ومن ذلك تحريق عمر للمكان الذى يباع فيه الخمر وتحريق قصر سعد ابن أبى وقاص لما احتجب عن الناس فيه وصار يحكم فى داره وأن أبا بكر" رضى الله عنه" استشار الصحابة فى رجل ينكح كما تنكح المرأة فأشاروا بحرقه بالنار، فكتب أبو بكر رضى الله عنه- بذلك إلى خالد بن الوليد ثم حرقهم عبد الله بن الزبير فى خلافته، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك. وهو رأى ابن حبيب من الحنابلة، وذكره فى مختصر الواضحة وأن أبا بكر حرق جماعة من أهل الردة ... قال وغير ذلك من القضايا مما يكثر تعداده وهى شائعة فى مذهب مالك وابن حنبل.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (57) :لا يجوز توقيع العقوبة على المال وأن العقوبة توقع على البدن وقد أجاب الإمام الشافعى بذلك كما تقدم فى سؤاله عن حرق متاع الغال وإنما إذا أصابوا فى القتال كتبا فيها كفر لم يجز تركها على حالها لأن النظر فيها معصية وإن أصابوا التوراة والإنجيل لم يجز تركها على حالها لأنها مبدلة فإن أمكن الانتفاع بما كتب عليه كالجلود غسل، وإن لم يمكن حرق.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (58) :إن إتلاف المال على وجه التعزير والعقوبة ليس بمنسوخ وقالوا: يجوز إتلاف المنكرات من الأعيان والصور وإتلاف محلها تبعا لها مثل الأصنام المعبودة من دون الله، ولما كانت صورها منكرة فإنه يجوز إتلاف مادتها فإذا كانت حجرا أو خشبا أو نحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها وكذلك آلات الملاهى كالطنبور يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء ومن الإتلاف إحراقها وقال أبو الحصين: كسر رجل طنبورا فخاصمه إلى شريح فلم يضمنه شيئا وقد رجحه ابن القيم لأن الله سبحانه وتعالى اخبر موسى - عليه السلام- أن يحرق العجل وكان من ذهب وفضة، وذلك محق بالكلية.
وأن النبى صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر كتابا اكتتبه من التوراة وأعجبه موافقته للقرآن فتمعر (أى ظهر الغضب على وجهه صلى الله عليه وسلم) حتى ذهب عمر إلى التنور فألقاه فيه.
وأنه يجوز إحراق آلات السحر والتنجيم ومخازن الخمر وحرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان لما خافوا على الأمة من الاختلاف 0 وكذلك الكتب المشتملة على بدعة تتلف ولا ضمان على إتلافها وإحرقها.
وقالوا: يحرق بيت الخمار وأماكن المعاصى وأنه يستحب أن يحرق بيت المسلم الخمار الذى يبيع الخمر وكذلك النصرانى يبيع الخمر للمسلمين فإن لم ينته فإنه يحرق بيته عليه بالنار. وحرق عمر بن الخطاب بيت روشن الثقفى لأنه كان يبيع الخمر.
وقال ابن قدامة: إن أبا بكر أمر بتحريق أهل الردة بالنار ونقل خالد بن الوليد ذلك، وإنما روى حمزة الأسلمى أن النبى "صلى الله عليه وسلم" قال: إن أخذتم فلانا فأحرقوه بالنار ثم رجع فقال إن أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
مذهب الظاهرية:
وعند الظاهرية (59) : قال أبو محمد بن حزم: إنه يجوز إحراق بيت الخمار كفعل عمر ابن الخطاب "رضى الله عنه" ويكون ذلك حدا مفترضا، لأن عمر فعله. وروى أن من فعل فعل قوم لوط يحرق عند البعض بالنار إلا أنه ضعف الأحاديث التي استدل بها فى ذلك، لأنه قد صح أنه لا قتل عليه، وحكمه حكم من أتى منكرا فالواجب بأمر النبى صلى الله عليه وسلم تغييره باليد أو الفعل أو القول.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (60) : تحرق دفاتر الكفر وكتب الزنادقة والمشبهة وأوراقهم، وذلك إن تعذر تسويدها وردها إلى المالك وإذا وجدت فى الغنيمة دفاتر كفر فتحرق إن لم يمكن محوها. أما التوراة والإنجيل فتمحى ولا تحرق، وكذلك سائر الصحف النبوية فأما جلد الميتة وعصبها فيحرق لتحريم استعماله. وقالوا كذلك بإحراق آلات اللهو والطرب.
إحراق المصاحف
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (61) : لا تحرق المصاحف إذا صار المصحف خلقا "أى باليا " أو تعذرت قراءته فلا يحرق بالنار بل يجعل فى خرقة طاهرة ويدفن.
مذهب المالكية:
وقال المالكية (62) إذا احرق شخص المصحف استخفافا لا صونا، كان ذلك فعلا يتضمن الردة، وعليه فيكون مرتدا وقالوا: إن المراد بالمصحف ما فيه قرآن ولو كلمة ومثل ذلك أسماء الله الحسنى وأسماء الأنبياء والحديث وكتب الفقه، فإن حرق كل ذلك على وجه الاستخفاف لا يجوز، فإن كان على وجه الصيانة فلا ضرر.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (63) إن حرق المصاحف من أسباب الردة والعياذ بالله.
تحريم المثلة والتعذيب بالنار والقتل بها
وردت الأحاديث علي عدم جواز المثلة والتعذيب بالنار والقتل بها لقوله "صلي الله عليه وسلم" لا يعذب بالنار إلا رب النار" رواه أبو داود (64) فلا يجوز إقامة الحد أو التعزير بالنار انظر " آلة ".
إلا أنه إذا كان الجانى قد أحرق من جنى عليه، كأن يكون قد طرحه فى النار، فإنه يعاقب بمثل ما جنى، انظر: " الجناية على النفس بالإحراق ".
مذهب المالكية:
قال المالكية (65) فى تعزير شاهد الزور: لا يجوز تسخيمه بسواد كالفحم، كما يفعل فى بعض البلاد لأنه حرام وتغيير لخلق الله
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (66) : يجوز تعزير أهل البغى بإحراق دورهم وهدمها، وكذلك يجوز إحراق مال المحتكر مع حاجة المسلمين إليه.
مذهب الإباضية:
وقال الإباضية (67) يجوز القتل بالنار إذا امتنع من يراد القصاص منه عند التنفيذ، وقد بينا من قبل خلاف الحنابلة فى جواز حرق المرتد. وأن ابن قدامة أجاز ذلك ولم يجزه صاحب منتهى الإرادات، وكذلك نصت بعض المذاهب على أن المثلة بعد النصر فى القتال غير جائزة (68) . وأنه إذا قدر على العدو فلا يجوز تحريقه بالنار (69) ونصت بعض المذاهب (70) أيضا على عدم جواز إحراق العبد بالنار أو التمثيل به أو وسم أى عضو منه بما يحرق وأنه إذا تعرض لذلك يعتق الجناية على الأموال بالإحراق.
وضمان ما يحرق من المال
من يتسبب فى الجناية على مال بإحراقه ضمن، وفى ذلك:
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (71) انه لو وضع فى الطريق جمرا فاحترق به شىء كان ضامنا، لأنه كان متعديا بوضع النار فى الطريق وإن حركته الريح فذهبت به إلى موضع آخر ثم أحترق به شىء لا يكون ضامنا. وقالوا هذا إذا لم يكن اليوم ريحا، فإن كان ريحا كان ضامنا لأنه علم حين ألقاه فى الطريق أن الريح تذهب به إلى موضع آخر، فيضاف التلف إليه فيكون ضامنا، ولو أن رجلا مر فى ملكه وهو يحمل نارا فوقعت شرارة منها على ثوب إنسان فاحترق ... ذكر فى النوادر أنه يكون ضامنا، ولو طارت الريح بشرر ناره وألقته على ثوب إنسان لا يضمنه لأن الاحتراق حصل من الريح هاهنا. هذا إذا كان فى موضع له حق المرور فيه، فإن لم يكن له حق المرور فى ذلك الموضع يكون ضامنا. ولو أحرق كلأ أو حصائد فى أرضه فذهبت النار يمينا وشمالا وأحرقت شيئا لغيره لم يضمنه لأنه غير متعد.
مذهب المالكية:
ويذهب المالكية (72) إلى مثل ما ذهب إليه الحنفية فقالوا: من أجج نارا" أى أشعلها" فى يوم عاصف (أى شديد الريح) فأحرقت شيئا فإنه يضمنه إلا أن يكون ذلك فى مكان بعيد لا يظن وصول النار إلى الشىء الذى حرق فإنه لا ضمان عليه حينئذ، كذلك لا ضمان على من أجج نارا فى وقت لا ريح فيه، ثم أن الريح عصفت عليها فنقلتها إلى متاع شخص فأتلفته.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (73) بمثل هذا المذهب أيضا، فنصوا على أنه إن سقط الشرر على مال بعارض ريح ونحوها لم يضمن، لأن التلف لم يحصل بفعله، ولو أوقد نارا فى أرضه فحملتها الريح إلى أرضه غيره فأتلفت شيئا أو أجج على سطحه نارا فطارت شرارة إلى دار الجار فأحرقتها فان كان الذى فعله قد جرت به العادة لم يضمن لأنه غير متعد، وإن فعل ما لم تجر به العادة بأن أجج من النار ما لا يقف على حد داره ضمن لأنه متعد.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (74) كذلك بهذا الرأى، فقالوا: إذا أوقد بملكه نارا أو فى موات فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها لم يضمن إذا فعل ما جرت به العادة من غير تفريط لأنه غير متعد. ولأنها سراية فعل مباح، وإن كان ذلك بتفريط منه بأن أجج نارا تسرى فى العادة لكثرتها أو فى ريح شديدة تحملها أو أوقد فى دار غيره ضمن ما تلف به، وإن سرى إلى غير الدار التى. أوقد فيها لأنها سراية عدوان وإن أوقد نارا فأيبست أغصان شجر غيره ضمنه، لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة إلا أن تكون الأغصان فى هوائه (أى داخلة فى ملكه) فلا يضمنها، لأن دخولها عليه غير مستحق.
وجاء فى كشاف القناع: وإن أجج نارا فى موات أو فى ملكه بأن أوقد النار حتى صارت تلتهب فى داره أو علي سطحه فتعدى إلى ملك غيره فأتلفه لم يضمن الفاعل، لأن ذلك ليس من فعله ولا تعديه ولا تفريطه وذلك إذا كان التأجج ما جرت به العادة بلا إفراط ولا تفريط، فإن فرط بأن ترك النار مؤججة ونام فحصل التلف بذلك وهو نائم ضمن لتفريطه، أو فرط بأن أجج نارا تسرى فى العادة لكثرتها أو أججها فى ريح شديدة تحملها إلى ملك غيره ضمن لتعديه، وكذا لو أججها قرب زرب (أى حظيرة المواشى) أو حصيد، ولا يضمن إن تعدت النار لطيران الريح بعد أن لم تكن لعدم تفريطه قال فى عيون المسائل: لو أججها على سطح دار فهبت الريح فأطارت الشرر لم يضمن لأنه فى ملكه ولم يفرط، وهبوب الريح ليس من فعله.
مذهب الظاهرية:
وعند الظاهرية (75) : جاء فى المحلى: من أوقد نار ليصطلى أو ليطبخ شيئا وأوقد سراجا ثم نام فاشتعلت تلك النار فأتلفت أمتعة وناسا فلا شىء عليه فى ذلك أصلا لأنه غير متعد. أما إذا تعدى فعليه الضمان لقول الرسول" صلى الله عليه وسلم " النار جبار"، وهو خبر صحيح تقوم به الحجة فوجب بهذا أن كل ما تلف بالنار فهو هدر إلا نار اتفق الجميع على تضمين طارحها، وليس ذلك إلا ما تعمد الإنسان طرحه للإفساد والإتلاف، فهذا مباشر متعد.
مذهب الزيدية:
وعند الزيدية (76) :من أجج ناراً فى ملكه فحملتها الريح إلى موضع فأهلكت مالا فيه، فإنه لا يضمن. لأنها انتقلت عن وضعه، إلا أن يكون الموضع متصلا أو فى حكم المتصل كأن يصله لهب النار أو كما لو كان بين الملكين شجر ونحوه فتسرى فيه النار إلى ملك الآخر فإنه يضمن، وإذا كان متعديا بوضعها ضمن ما تولد منها ولو بهبوب الريح.
مذهب الإمامية:
وعند الإمامية (77) لو أجج نارا فى ملكه ولو للمنفعة فى ريح معتدلة أو ساكنة لم يزد النار عن قدر الحاجة التى أضرمها لأجله فلا ضمان، لأن له التصرف فى ملكه كيف شاء، وان عصفت الريح بعد إضرامها بغتة لعدم التفريط، وألا يفعل كذلك بأن كانت الريح عاصفة حالة الإضرام على وجه يوجب ظن التعدى إلى ملك الغير أو زاد عن قدر الحاجة، وإن كانت ساكنة ضمن سرايتها إلى ملك غيره. ولو أججها فى موضع ليس له ذلك فيه ضمن، ولو أججها فى المباح، فالظاهر أنه كالملك لجواز التصرف فيه.
الجناية على النفس بالإحراق
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (78) : إذا أحرق رجل رجلا بالنار قتل به (أى بالإحراق) لأن النار تفرق الأجزاء أو تبعضها.
مذهب المالكية:
وعند المالكية (79) : يقتل القاتل بما قتل به ولو نارا، لقوله تعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به "، وقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم "، والمعنى أن الحق فى القتل للولى بمثل ما قتل به الجانى، ومن خاف من النار على زرعه أو على نفسه أو على داره فقام ليطفئها فاحترق فيها فإن دمه يكون هدرا، وظاهره أن الحكم فيه هو هذا سواء كان فاعلها يضمن ما أتلفته كما إذا هيجها فى يوم عاصف، أم لا وهو ظاهر حل البساطى.
مذهب الشافعية:
وعند الشافعية (80) يقتل بإلقاء النار من فعل ذلك بغيره ويخرج منها قبل أن يشوى جلده ليتمكن من تجهيزه وإن أكلت النار جسد الأول، ولو ألقى فى النار مثل مدته فلم يمت، زيد من ذلك الجنس حتى يموت ليقتل بما قتل به، ولو ألقاه فى نار يمكن الخلاص منها فمكث ففى وجوب الدية قولان أظهرهما: لا دية ولا قصاص فى ذلك، أما إذا لم يمكنه الخلاص من النار لعظمها أو نحو زمانه فيه (مرض أو عجز) فيجب القود.
مذهب الحنابلة:
وعند الحنابلة (81) لا يجوز استيفاء القصاص فى النفس إلا بالسيف فى العنق سواء كان القتل به أو بمحرم لعينه كتحريق وذلك للنهى عن المثلة.
ومن ألقى شخصا فى نار لا يمكنه التخلص منها إما لكثرة النار أو لعجزه عن التخلص لمرض أو صغر، وكان مربوطا أو منعه الخروج فهو قتل عمد لأنه يقتل غالبا.
وان تركه فى نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو كونه فى طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود لأن هذا لا يقتل غالبا، وهل يضمنه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه لأنه مهلك لنفسه بإقامته فلم يضمنه لكن يضمن ما أصابت النار منه.
والثانى: يضمنه لأنه جان بالإلقاء المفضى إلى الهلاك وترك التخلص لا يسقط الضمان والنار يسيرها مهلك.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (82) : إن من عمد إلى إحراق قوم فعليه القود وإن لم يعمد ذلك فهو قاتل خطأ، والديات على عاقلته والكفارة عليه لكل نفس كفارة، انظر " كفارة ".
مذهب الزيدية:
ويذهب الزيدية (83) إلى أن من أحرق فالقصاص بالسيف لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا قود إلا بالسيف "، أما قوله صلى الله عليه وسلم: " من غرق غرقناه، ومن حرق حرقناه "، ورضخه صلى الله عليه وسلم: "رأس اليهودى فلعله لمصلحة كتحريق على عليه السلام الغلاة، وأبى بكر الفجاءة ونحوه مما يجوز للإمام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يعذب بالنار إلا رب النار"
مذهب الإمامية:
وعند الإمامية (84) لو طرحه فى النار فمات قتل به ولو كان قادرا على الخروج ولأن النار قد تشنج الأعصاب بالملاقاة فلا يتيسر الفرار أما لو علم أنه ترك الخروج تخاذلا فلا قود، لأنه أعان على نفسه وينقدح أنه لا دية له أيضا لأنه مستقل بإتلاف نفسه، أما لو خرج فترك المداواة فمات فإن له الدية لأن السراية مع ترك المداواة ناشئة من الجرح المضمون والتلف من النار ليس بمجرد الإلقاء بل بالإحراق المتجدد الذى لولا المكث لما حصل ولو قصد بتأجيج النار الإتلاف فهو عامد يقاد فى النفس مع ضمان المال 00 انظر " آلة، قصاص ".
__________
(1) فتح القدير ج1 ص 138،139، والفتاوى الهندية ج1 ص 44،البحر الرائق لابن نجيم ج1 ص 239.
(2) فتح القدير ج1 ص 139.
(3) فتح القدير ج1 ص 139.
(4) حاشية ابن عابدين ج1 ص 291.
(5) فتح القدير ج1 ص 138، والفتاوى الهندية ج1 ص 44، البحر الرائق ج1 ص 155.
(6) ج1 ص 19.
(7) الحطاب ج 1 ص 106 وما بعدها.
(8) المرجع السابق ج1 ص 106 وما بعدها.
(9) المهذب ج1 ص 48 وما بعدها ونهاية المحتاج ج1 ص 229 وما بعدها، والمجموع ج2 ص 579 وما بعدها.
(10) كشاف القناع ج1 ص 87،16 والمغنى ج1 ص 744.
(11) المحلى ج1 ص 128 وما بعدها.
(12) البحر الزخار ج1 ص 23 وشرح الأزهار ج1 ص 42 وما بعدها.
(13) الروضة البهية ج1 ص 22 وشرائع الإسلام ج1 ص 42.
(14) شرح النيل ج1 ص 269،276.
(15) المراجع السابقة.
(16) الفتاوى الهندية ج1 ص 47 والبحر الرائق ج1 ص 244.
(17) الحطاب ج1 ص 106 وما بعدها.
(18) الحطاب ج1 ص 106 وما بعدها.
(19) المراجع السابقة.
(20) نهاية المحتاج ج1 ص 229 وما بعدها.
(21) كشاف القناع ج1 ص 16.
(22) المحلى ج1 ص 128 وما بعدها.
(23) شرح الأزهار ج1 ص 50.
(24) الروضة البهية ج1 ص22 وشرائع الإسلام ج1 ص 42.
(25) شرح النيل ج1 ص 269.
(26) المغنى ج10 ص 532 وما بعدها.
(27) الزيلعى ج3 ص 244 وابن نجيم ج5 ص 83.
(28) الحطاب ج3 ص 354.
(29) الأم ج4 ص 251.
(30) المبسوط للسرخسى ج10 ص 32 وما بعدها، مطبعة درب سعادة سنة 1324، وبدائع الصنائع ج7 ص 100 وما بعدها، مطبعة الجمالية سنة 1910، والبحر الرائق لابن نجيم ج5 ص 82 وما بعدها الطبعة الأولى بالمطبعة العلمية،والفتاوى الهندية ج2 ص 193 وما بعدها، مطبعة بولاق الأميرية الطبعة الثانية وحاشية ابن عابدين ج3 ص 317.
(31) سورة الحشر: 2.
(32) سورة الحشر:5.
(33) سورة التوبة:120.
(34) سورة البقرة:205.
(35) شرح الحطاب ج3 ص 335 وما بعدها وهامشه التاج والأكليل فى المرجع نفسه، وبلغة السالك ج2 ص 385.
(36) نهاية المحتاج ج 8 ص 61، والأم الجزء الرابع ص 287 وما بعدها.
(37) المغنى ج10 ص 532 وما بعدها وص 502، والمحرر ج2 ص 178.
(38) المحلى ج7 ص 294.
(39) شرح الأزهار ج4 ص 541،500 والبحر الزخار ج5 ص 414 وما بعدها.
(40) شرائع الإسلام ج1 ص 148 وما بعدها والروضة البهية ج1 ص 220 والمختصر النافع ص 136.
(41) المبسوط للسرخسى ج8 ص 33 وبدائع الصنائع ج7 ص 101،والبحر الرائق ج5 ص 82.
(42) الحطاب ج3 ص 335 وما بعدها وهامشه التاج والأكليل فى الموضع نفسه.
(43) نهاية المحتاج ج8 ص 61، والأم ج4 ص 287 وما بعدها.
(44) المغنى ج10 ص 502 وما بعدها.
(45) شرح الأزهار ج4 ص 541،550 والبحر الزخار ج5 ص 414 وما بعدها.
(46) المختصر النافع ص 136 والروضة البهية ج 1ص 220 وشرائع الإسلام ج1 ص 148.
(47) بدائع الصنائع ج7 ص141 والفتاوى الهندية ج2 ص 284.
(48) الدردير ج2 ص 385.
(49) نهاية المحتاج ج7 ص 387.
(50) منتهى الإرادات ج4 ص 141،154.
(51) المحلى ج11 ص 116.
(52) البحر الزخار ج5 ص 418، ص 420.
(53) شرائع الإسلام ج1 ص 157.
(54) شرح النيل ج 2 ص329.
(55) الفتاوى الهندية ج هـ ص 353، 373، 323، والفتاوى البزازية هامش الكتاب السابق ج6ص356
(56) تهذيب الفروق للقرافى ج 2 "االهامش " ص206 وما بعدها.
(57) الأم ج 4ص251 والمهدب.
(58) الطرق الحكمية لأبن القيم الجوذية ص،274 271، 275 وما بعدها، وكشاف القناع ج2 ص 374، 375، والمغنى ج10 ص374 ومنتهى الإرادات ج4 ص155
(59) المحلى ج11 ص315،380.
(60) شرح الأزهار ج4 ص 583، والبحر الزخار ج5 صرف429.
(61) الفتاوى الهندية ج هـ ص323.
(62) الدردير ج2 ص 385، الدسوقى ج4 ص301
(63) البحر الزخار ج5 ص424.
(64) انظر المغنى ج10 ص 502
(65) الحطاب ج4 ص 141.
(66) البحر الزخار ج 5 ص420
(67) شرح النيل ج 2 ص 329.
(68) وذلك عند الحنفية البحر الرائق لابن نجيم ج هـ ص83.
(69) ذلك عند الحنابلة- المغنى ج10 ص 502.
(70) عند المالكية الدردير ج2 ص413، وعند الحنابلة المحرر ج 2 ص 2 وعند الظاهرية المحلى ج 9 ص210
(71) الفتاوى الهندية ج 3 ص458،459،398.
(72) شرح الخرشى ج 8 ص111 ومواهب الجليل للحطاب ج 6 ص1 32 وشرح الخرشى ج8 ص 112.
(73) المهذب ج 2 ص 52 1، 275.
(74) المغنى ج 5 ص453 وكشاف القناع ج 2 ص367.
(75) المحلى ج11 ص19، 20.
(76) شرح الأزهار وحاشيته ج4 ص420،421.
(77) الروضة البهية ج 2 ص 425.
(78) البحر الرائق ج 8 ص327.
(79) الدردير ج2 ص 365، 366 والحطاب ج 6 ص 322، 333.
(80) نهاية المحتاج ج 7 ص 289، 291، 244.
(81) كشاف القناع ج3 ص 363،364والمغنى ج 9 ص 325.
(82) المحلى ج11 ص19وج10ص360.
(83) البحر الزخار ج 5 ص236،237.
(84) شرائع الإسلام ج2 ص 265، والروضة البهية ج 2 ص425.(1/64)
إحرامُ (أ)
التعريف اللغوى:
الإحرام لغة مصدر أحرم وأحرم دخل فى الحرم أو فى حرمة لا تهتك أو فى الشهر الحرام، وأحرم الحاج أو المعتمر دخل فى عمل حرم عليه به ما كان حلالا. والأصل فيه المنع. ويقال أحرمت الشىء بمعنى حرمته. والمحرم المسالم، ومنه حديث الصلاة تحريمها التكبير كأن المصلي بالتكبير والدخول فى الصلاة صار ممنوعا من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها (1) .
التعريف الاصطلاحى
مذهب الحنفية:
عرفه فقهاء الحنفية بالنسبة للحج بأنه تحريم المباحات على النفس لأداء هذه العبادة (التى هى الحج والعمرة) وقال صاحب فتح القدير: حقيقته الدخول فى الحرمة، والمراد الدخول فى حرمات مخصوصة أى التزامها غير أنه لا يتحقق ثبوته شرعا إلا بالنية مع الذكر (2) .
مذهب المالكية:
هو عند المالكية نية أحد النسكين " الحج والعمرة أو هما معا " والعبرة بالقصد لا باللفظ، والأولى ترك اللفظ ولا يضر مخالفة اللفظ لما نواه، ولا يضر رفض أحد النسكين بل هو باق علي إحرامه وإن رفضه: أى ألغاه (3) .
مذهب الشافعية:
عند الشافعية هو الدخول في حج أو عمرة أو فيهما أو فيما يصلح لهما أو لأحدهما ويطلق أيضا على نية الدخول فى النسك (4)
مذهب الحنابلة:
هو عند الحنابلة نية النسك أى الدخول فيه لا نيته ليحج أو يعتمر سمى الدخول فى النسك إحراما لأن المحرم بإحرامه حرم على نفسه أشياء كانت مباحة له من النكاح والطيب وغيرها (5)
مذهب الظاهرية:
يفهم من كلام ابن حزم الظاهرى أن الإحرام هو الدخول فى الحج أو العمرة فقد جاء فى المحلى: إذا جاء من يريد الحج أو العمرة إلى أحد المواقيت فإن كان يريد العمرة فليتجرد من ثيابه إن كان رجلا ويلتحف فيما شاء من كساء أوملحفة أو رداء، فإن كان امرأة فلتلبس ما شاءت ثم يقولون: لبيك بعمرة أو ينويان ذلك فى أنفسهما، والأمر كذلك عنده بالنسبة للحاج على تفصيل فيمن ساق الهدى ومن لم يسقه (6)
مذهب الزيدية: والزيدية يذهبون إلى أن الإحرام هو نية الحج أو العمرة أو هما معا عند الميقات، فقد قالوا إنما ينعقد بالنية، ولابد معها من تلبية، ويصح نية الإحرام من غير تعيين ما أحرم له (7) .
مذهب الإمامية:
يقول الإمامية هو فى الحقيقة عبارة عن النية لأن توطين النفس على ترك المحرمات المذكورة لا يخرج عنها، ويمكن أن يريد به نية الحج جملة (8) .
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: يعقد نية الإحرام بحج ويقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك لبيك بحج تمامه وبلاغه عليك يا الله. ومن لم يلب لم يدخل فى حج ولم يصح إحرامه، والتلبية مع نية الإحرام بحج أو
بعمرة أو بهما قيل: كافيتان عن ذكر حج أو عمرة أو ذكرهما فى التلبية.، والأول الذى هو ذكر أحدهما أو ذكرهما فى التلبية أصح (9)
حكم الإحرام فى الحج
مذهب الحنفية:
عند الحنفية هو شرط ابتداء فصح تقديمه على أشهر الحج، إن كره، وله حكن الركن انتهاء فلا يجوز لفائت الحج استدامة الإحرام ليقضى به من قابل بل عليه التحلل بعمرة ثم القضاء من قابل. (10)
مذهب المالكية:
قال المالكية هو ركن من أركان الحج، والركن فى هذا الباب هو مالابد من فعله ولا يجزىء عنه دم ولا غيره (11)
مذهب الشافعية:
عند الشافعية الإحرام ركن من أركان الحج على أنه نية الدخول فى النسك (12)
مذهب الحنابلة:
اختلفت الرواية فى الإحرام فروى أن الإحرام ركن لأنه عبارة عن نية الدخول فى الحج، فلم يتم بدونها، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ". وكسائر العبادات، وروى أنه ليس بركن لحديث الثورى الذى يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:" الحج عرفة"، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه، والرأى الأول هو مشهور المذهب (13)
مذهب الزيدية:
أركان الحج عند الزيدية هى الإحرام والوقوف وطواف الزيارة وفروضه الأركان وطواف القدوم.. إلخ. فعدوه ركنا وفرضا (14)
مذهب الإمامية:
ويشترط فى حج الأفراد النية، والمراد بها نية الإحرام بالنسك المخصوص ووجه تخصيصه- أى الإحرام - أنه الركن الأعظم باستمراره ومصاحبته لأكثر الأفعال وكثره أحكامه. وقالوا: أفعال العمرة المطلقة وهى الإحرام والطواف والسعى والتقصير ... والثلاثة الأول منها أركان (15) .
مذهب الإباضية:
الإحرام ركن من أركان الحج (16) .
حكم الإحرام فى الصلاة
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: التحريمة، وهى تكبيرة الافتتاح شرط صحة الشروع فى الصلاة لقول النبى صلى الله عليه وسلم: " لا يقبل الله صلاة امرىء حتى يضع الطهور مواضعه، ويستقبل القبلة، ويقول الله اكبر ". نفى قبول الصلاة بدون التكبير فدل على كونه شرطا لكن إنما يؤخذ (أى يلزم) هذا الشرط على القادر دون العاجز.
والإحرام فى الصلاة عند الحنفية يكون بلفظ الله اكبر وما اشتق منه كقوله الله الأكبر والله الكبير، واقتصر أبو يوسف على ذلك. وقال أبو حنيفة ومحمد يجوز الشروع بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير، كأن يقول الله أجل، الله أعظم، أو الحمد لله أو سبحان الله، وكذلك كل اسم ذكر مع الصفة نحو الرحمن أعظم أو الرحيم أجل.. ويجوز الشروع فى الصلاة بلفظ من هذه الألفاظ على الخلاف المذكور بغير اللغة العربية لمن كان عاجزا عن النطق بها، أما من كان قادرا على النطق بها فيجوز له النطق بغيرها عند أبى حنيفة ولا يجوز عند الصاحبين (17)
مذهب المالكية:
قال المالكية: الصلاة مركبة من أقوال وأفعال فجميع أقوالها ليست بفرائض إلا ثلاثة، منها تكبيرة الإحرام (18)
مذهب الشافعية:
قال الشافعية من أركان الصلاة تكبيرة الإحرام، لما روى الشيخان " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ويتعين فيها علي القادر. بالنطق بها " الله كبر " لأنه المأثور من فعله صلى الله عليه وسلم (19)
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: التكبير ركن فى الصلاة، لا تنعقد الصلاة إلا به سواء تركه عمدا أم سوأ، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: " تحريمها التكبير " فدل على أنه لا يدخل الصلاة بدونه، فإن كان أخرس أو عاجزا فى عن التكبير بكل لسان سقط عنه (20)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: الإحرام بالتكبير فرض لا تجزىء الصلاة إلا به لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ... وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" أرجع فصل، فإنك لم تصل " (ثلاث مرات) فقال: والذى بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمنى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر "، فقد أمر بتكبير الإحرام (21)
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: الفرض الثانى من فرائض الصلاة هو التكبير، ومن شرطه أن يكون المكبر قائما، والتكبير من الصلاة فى الأصح (22)
مذهب الإمامية:
قال صاحب المختصر النافع: أفعال الصلاة واجبة ومندوبة، فالواجبات ثمانية وعد من بينها التكبير. قال: وهو ركن فى الصلاة وصورته الله كبر مرتبا ولا ينعقد بمعناه، ومع التعذر تكفى الترجمة والأخرس ينطق بالممكن، ويعقد قلبه بها مع الإشارة، ويشترط فيها القيام (23)
مذهب الإباضية:
وفرضت تكبيرة الإحرام والافتتاح وزعم بعضهم أنها سنة سائر التكبير وقيل أن كسائر فرض، ومن تعمد فيها لحنا أعاد الصلاة وإن لم يتعمد فقولان، وصح بالعربية وفسد بغيرها علي المختار، وبوجوب ترتيب اللفظين وموالاتهما وجوز عند البعض البناء على اللفظ الأول لقطع كسعلة أو عطسة أو نحوها (24)
كيفية الإحرام بالحج
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: إذا أراد الإحرام اغتسل أو توضأ، والغسل أفضل، لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أغتسل لإحرامه، إلا أن الاغتسال للتنظيف حتى تؤمر به الحائض، وإن لم يقع فرضا عنها فيقوم الوضوء مقامه، ولبس ثوبين جديدين أو غسيلين: إزار، ورداء، لأن المحرم ممنوع عن لبس المخيط.
وينبغى لولى من أحرم من الصبيان العقلاء أن يجرده ويلبسه ثوبين إزارا ورداء لأن الصبى فى مراعاة السنن كالبالغ ويتطيب بأى طيب شاء، ويستحب عند الإحرام للمحرم تقليم أظافره وقص شاربه وحلق عانته ونتف إبطه وتسريح رأسه عقيب الغسل، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم ائتزر وارتدى عند إحرامه، ولابد من ستر العورة.
والجديد فى الثياب افضل، لأنه أقرب إلى الطهارة، والأولى أن يكونا أبيضين ومس الطيب، وعن محمد أنه يكره إذا تطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام.
ووجه المشهور حديث عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، والإزار من الحقو والرداء من الكتف ويدخل الرداء تحت يمينه ويلقيه على كتفه الأيسر فيبقى كتفه الأيمن مكشوفا ولا يزره ولا يعقده ولا يخلله، فإن فعل ذلك كره ولا شىء عليه والثوب الواحد الساتر جائز، وصلى ركعتين، لما روى جابر رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذى الحليفة ركعتين عند إحرامه، ويقول بعد الصلاة، إن أراد أن يحرم بالحج: " اللهم إنى أريد الحج فيسره لى وتقبله منى، وإذا أراد أن يحرم بالعمرة يقول اللهم إنى أريد العمرة فيسرها لى وتقبلها منى، وإذا أراد القرآن يقول اللهم إنى أريد العمرة والحج فيسرهما لى وتقبلهما مني، لأنه فى عبادة عظيمة فيها كلفة ومشقة شديدة، فيستحب الدعاء بالتيسير وبالتسهيل وبالقبول ثم يلبى عقب صلاته، لما روى أن النبى صلي الله عليه وسلم لبى فى دبر صلاته وإن لبى بعد ما استوت به راحلته جاز ولكن الأول أفضل ولا ينبغى أن يخل بشىء من كلمات التلبية ولو زاد فيها جاز، وإذا لبى فقد أحرم: يعنى مع النية. لأن العبادة لا تتأتى إلا بالنية ولا يصير شارعا فى الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية وعن أبى يوسف يصير شارعا بالنية وحدها من غير تلبية.
ودليل من ذهب إلى اشتراط التلبية قول الله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولى الألباب ((25)
قال ابن عباس - رضى الله عنه -: فرض الحج الإهلال. وقال ابن عمر- رضى الله عنه-: التلبية وقالت عائشة - رضى الله عنها -: لا إحرام إلا لمن أهل أو لبى، والإهلال رفع الصوت بالتلبية، ولأن الحج يشتمل علي أركان فوجب أن يشترط فى تحريمه ذكر يراد به التعظيم كالصلاة (26) .قال المالكية عن كيفية الإحرام: تجرد ذكر من محيط سواء كان الذكر مكلفا أم لا، والخطاب يتعلق بولى الصغير والمجنون، وسواء كان المحيط بخياطة كالقميص والسراويل أم لا، كنسج أو صياغة، أو بنفسه، كجلد سلخ بلا شق والأنثى لا يجب عليها التجرد إلا فى نحو أساور، ووجب علي المحرم المكلف ذكر أو أنثى تلبية، ووجب وصلها به (أى بالإحرام) ويسن للإحرام غسل متصل به متقدم عليه، فإن تأخر إحرامه كثيرا أعاد الغسل، ولا يضر فصل بسد رحاله وإصلاح حاله وسن لبس إزار بوسطه ورداء على كتفيه ونعلين فى رجليه (27) .
وقال الخرشى: ظاهر كلام خليل أن السنة الإحرام عقب نفل، ولذا قال: والفرض مجز، والمستحب أن يكون أثر نافلة ليكون للإحرام صلاة تخصه (28) .
ويندب للمحرم إزالة شعثه قبل الُغسل بأن يقص أظافره وشاربه ويحلق عانته وينتفه شعر إبطه ويرجل شعر رأسه أو يحلقه إن كان من أهل الحلاق ليستريح من ضررها وهو محرم (29) .
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: ويستحب للمحرم أن يغتسل، لما روى زيد بن ثابت رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله علية وسلم اغتسل لإحرامه، وان كانت امرأة حائضا أو نفساء اغتسلت للإحرام، لما روى القاسم بن محمد أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبى بكر رضى الله عنهما بالبيداء، فذكر ذلك أبو يكر رضى الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مروها فلتغتسل، ثم لتهل "، ولأنه غسل يراد للنسك فاستوى فيه الحائض والطاهر، ومن لم يجد الماء تيمم لأنه غسل مشروع، فانتقل منه إلى التيمم عند عدم الماء كغسل الجنابة.
قال فى الأم: ويغتسل لسبعة مواطن وعدم منها الإحرام (30) ويسن أن يطيب مريد الإحرام بدنه ذكرا أم غيره، شابه أم عجوزا، خلية أم لا، للاتباع، ولا بأس باستدامته: أى الطيب بعد الإحرام. ويسن أن تخضب المرأة غير المحدة للإحرام يدها (31) . ويتجرد الرجل عن المخيط فى إزار ورداء أبيضين ونعلين، لما روى ابن عمر - رضى الله تعالى عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليحرم أحدكم فى أزار ورداء ونعلين، والمستحب أن يكون ذلك بياضا لما روى ابن عباس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إلبسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خيار ثيابكم ".
والمستحب أن يتطيب فى بدنه لما روت عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت: " كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ويصلى المحرم ركعتين لما روى ابن عباس رضى الله تعالى عنه وجابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى فى ذى الحليفة ركعتين ثم أحرم.
قال الشافعى فى مذهبه القديم: الأفضل أن يحرم عقيب الركعتين (32) فينوى بقلبه وجوبا دخوله فى حج أو عمرة أو كليهما أو ما يصلح لشيء منهما، وهو الإحرام المطلق، ويلبى مع النية فينوى بقلبه ويقول بلسانه: نويت الحج مثلا، وأحرمت به الله تعالى، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. ولا يجهر بهذه التلبية. ويندب أن يذكر فى هذه التلبية لا غيرها ما أحرم به، وهو الأوجه، وتبعه فى الأذكار ونقله فى الإيضاح عن الجوينى وأقره، والعبرة بما نواه لا بما ذكره فى تلبيته.
ويُسَن أن يتلفظ بما يريده وأن يستقبل القبلة عند إحرامه وأن يقول: اللهم أحرم لك شعرى وبشرى ولحمى ودمى، فإن لبى بلا نية لم ينعقد إحرامه لخبر " إنما الأعمال بالنيات "، وإن نوى ولم يلب انعقد على الصحيح كسائر العبادات.
ويندب لمريد الإحرام التنظيف بإزالة نحو شعر إبط وعانة وظفر ووسخ وغسل رأسه بسدر ونحوه، والقياس كما قاله الإسنوى تقديم هذه الأمور على الغسل (33) .
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: ويسن لمن يريد الإحرام تجرد من مخيط لأنه صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله، وأن يحرم فى أزار ورداء أبيضين نظيفين ونعلين لقوله صلى الله عليه وسلم: " وليحرم أحدكم فى ازأر ورداء ونعلين "، هذا إذا كان المحرم رجلا، أما المرأة فلها ليس المخيط فى الإحرام إلا القفازين، وأن يكون إحرامه عقب صلاة مكتوبة أو صلاة ركعتين نفلا (34) .
ويسن له أن يغتسل ذكرا كان أو أنثى، ولو حائضا أو نفساء، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس، وهى نفساء، أن تغتسل، وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهى حائض، ويستحب لهما تأخير الغسل أن توقعتا الطهر قبل الخروج من الميقات وإلا اغتسلتا، ويحل التيمم محل الغسل عند عدم الماء أو تعذر استعماله.
ويسن له أيضا أن يتنظف بإزالة الشعر كحلق العانة وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقطع الرائحة الكريهة، وان يطيب بدنه لا ثوبه بمسك أو بخور أو ماء ورد، ويستحب للمرأة الخضاب بالحناء.
ويسن للمحرم أن يلبس ثوبين أبيضين نظيفين: إزار فى وسطه ورداء على كتفه. ويجوز إحرامه فى ثوب واحد، وعلى مريد الإحرام أن يتجرد عن المخيط ويلبس نعلين.
ويبن أن يحرم عقب صلاة مكتوبة أو صلاة نفل ركعتين ندبا (35) . ويستقبل القبلة عند إحرامه.
ويسن أن يعين نسكا من حج أو عمرة أو قران، ويلفظ به، فيقول: اللهم أنى أريد النسك (الحج مثلا) فيسره لى وتقبله منى، ونية النسك كافية فلا يحتاج معها إلى تلبية ولا سوق هدى، فلو لبى أو ساق الهدى من غير نية لم ينعقد احرامه.
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: يتجرد من يريد الحج أو العمرة إن كان رجلا من ثيابه فلا يلبس القميص ولا السراويل ولا العمامة ولا القلنسوة ولا جبة ولا برنسا ولا خفين ولا قفازين البتة. لكن يلتحف فيما شاء من كساء أو ملحفة أو رداء ويتزر ويكشف رأسه ويابس نعليه ولا يحل له أن يتزر ولا أن يلتحف فى ثوب صبغ كله أو بعضه بورس أو زعفران أو عصفر، فإن كان امرأة فلتلبس ما شاءت من كل ما ذكرنا أنه لا يلبسه الرجل وتغطى رأسها، إلا إنها لا تنتقب أصلا، لكن إما أن تكشف وجهها وأما أن تسدل عليه ثوبا من فوق رأسها فذلك لها إن شاءت ولا يحل لها أن تلبس شيئا صبغ كله أو بعض الورس أو زعفران ولها أن تلبس الخفاف والمعصفر، فإن لم يجد الرجل إزار فليلبس السراويل كما هى إن لم يجد نعلين فليقطع خفيه تحت الكعبين ولابد، ويلبسها كذلك.
واستدل على هذأ كله بأحاديث، وقال ويستحب الغسل عند الإحرام للرجال والنساء، وليس فرضا إلا على النفساء وحدها لما روى عن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه بالبيداء فذكر أبو بكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " مرها فلتغتسل ثم تهل ".
ويستحب للمرأة والرجل أن يتطيبا عند الإحرام بأطيب ما يجدانه من الغالية والبخور بالعنبر وغيره، ثم لا يزيلانه عن أنفسهما ما بقى عليهما (36) ويستحب أن يكثر من التلبية الإحرام فما بعده دائما فى حال وعلى كل حال يرفع الرجل والمرآة صوتهما بها وهو فرض ولو مرة (37)
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: يندب قبل الإحرام ستة أمور: قلم الظفر ونتف الإبط،وحلق الشعر والعانة، أو التيمم للعذر المانع من الغسل والتيمم لغير الحائض،ويندب لها الغسل ولو كانت حائضا، لآن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس لما وصلت إلى ذى الحليفة فولدت محمد بن أبى بكر، فسألت رسول صلى علية وسلم: كيف أصنع، فقال لها: " اغتسلى واستثفرى بثوب وأحرمى"
وقال لعائشة - رضى الله عنها - حين حاضت وكانت مهله بعمرة "انقضى رأسك،أو مشطى واغتسلى "،ثم بعد الغسل لبس جديد إن وجده، أو غسيل إن لم يجد الجديد ويكون ذلك إزارا وداء أبيضين أو مصبوغين بغير زينة وأن يكون عقد إحرامه عقب صلاة فرض وإن لم يتفق الفرض فركعتان يصليهما بعد الغسل ولبس ثوبى إحرامه. ثم يقول بعد الصلاة اللهم إني أريد الحج والقرآن أو العمرة متمتعا بها إلى الحج،فيسر ذلك بها إلى الحج، فيسر ذلك لى وتقبله منى ثم قال فى شرح الأزهار: ولابد مع النية من تلبية لفعله صلي الله عليه وسلم حين نوى وقوله لعائشة رضى الله عنها " امتشطى وأهلى " والإهلال التلبية، وأكثر العترة على أن التلبية لا تتعين، بل يغنى عتها أى ذكر وتعظيم، إذ القصد الذكر المقتضى للتعظيم، والأصل فى النية المقارنة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " والباء للمصاحبة والإلصاق، وتجزىء المخالطة للتلبية والمقارنة أن يكون آخر جزء من النية مقارنا لأول الآية إذ لا يتصور خلافه (38)
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: الكيفية تشتمل على الواجب والندب. والواجب ثلاثة. النية وهى أن يقصد بقلبه إلى الجنس من الحج أو العمرة، والنوع من التمتع أو غيره، والصفة من وأجب أو غيره.
الثانى: التلبيات الأربع، ولا ينعقد الإحرام للمفرد والمتمتع إلا بها، وأما القارن فله أن يعقد بها أو بالأشعار أو التقليد على الأظهر، وما زاد على الأربع مستحب
الثالث: لبس ثوبى الإحرام وهما واجبان، والمعتبر ما يصح الصلاة فيه للرجل، ويجوز لبس القباء مع عدمها مقلوبا، وفى جواز لبس الحرير للمرآة روايتان للمرأة أشهرهما المنع، ويجوز أن يلبس أكثر من ثوبين وأن يبدل ثياب إحرامه ولا يطوف إلا فيهما استحبابا.
والندب رفع الصوت بالتلبية للرجل إذا علت راحلته البيداء، وإن كان راجلا فحيث يحرم، وتكرارها إلى يوم عرفة عند الزوال للحاج وللمعتمر بالمتعة حتى يشاهد بيوت مكة.
وللمفرد إذا دخل الحرم إن كان أحرم من خارجه، وحتى يشاهد الكعبة إن أحرم من الحرم، والتلفظ بما يعزم عليه والاشتراط أن يحله حيث حبسه وأن يحرم فى الثياب القطن، وأفضله البيض، وإذا أحرم الولى بالصبى فعل به ما يلزم المحرم (39) .
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: وسن اغتسال الإحرام بحج أو عمرة أو بهما وجوز الوضوء فقط ولبس ثوبين جديدين أو غسيلين لم يلبسا يعد غسلهما لا مخيطين ولا ضير بثياب لبست لا متنجسة إلا أن أحرم بلا صلاة عند مجيز ذلك، وركعتان إن لم يحضر وقت مكتوبة، وجاز أثرها ويعقد نية الإحرام، ويلبى ثلاثا فى مجلسه ثم يقوم، ومن لم يلب لم يدخل فى حج ولم يصح إحرامه، فالتلبية افتتاحه كالتكبير فى الصلاة وكيفية لبس الثوبين أن يبسطهما ثم يلتحف بهما جميعا ولا بلبس أحدهما ويلتحف عليه بالآخر لأن ذلك يشبه الاحتزام به وإن لبس إزارا وهو ما كان من الحقو لا أسفل، ورداء وهو ما عم البدن كله فوقه جاز، وتجوز
المغالاة فى ثياب الإحرام، ويحظر الإعجاب والتكبر، وينبغى الإحرام فى ثوبين وأن يكون ذلك بثياب طاهرة لا مخيطين دخل فى خياطتهما، وإن لم يدخل فى خياطة الثوب فلا بأس مثل أن يكون وجها لجبة أو القميص من جهة واحدة أو يجعل عمة البرنوس خلف بلا إدخال رأسه ولو ضمهما بيده قدامه وجمعهما، ولا ضير بثياب لبست وان دنست وكانت على جسده حتي أحرم بها ويلبس نعلين (40)
مواقيت الإحرام
وهى الأماكن التي تقال على مواقيت الإحرام التي لا يصح أن يتجاوزها الحاج أو المعتمر إلا محرما، وهى بهذا المعني متفق عليها بين المذاهب آلا فى بعض الفروع.
مذهب الشافعية:
قال الحنفية: الميقات المكانى يختلف باختلاف الناس فإنهم ثلاثة أصناف: آفاقى وحلى، وهو من كان داخل المواقيت، وحرمى، وهى خمسة مواقيت: ذو الحليفة، وذات عرق، وجحفة، وقرن، ويلملم. للمدنى والعراقى والشامى والنجدى واليمنى على نفس الترتيب، وكذا هى لمن مر بها من غير أهلها كالشامى يمر بميقات أهل المدينة فهو ميقاته لحديث النبى صلى الله عليه وسلم على ما يرويه ابن عباس - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل العراق ذات عرق، وقال صلى الله عليه وسلم:" هن لأهلهن ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ".
وهذه المواقيت لأهل الأفاق وهم الذين منازلهم خارج المواقيت، وهم الصنف الأول، وأما الصنف الثانى فميقاتهم للحج أو العمرة دويرة أهلهم (والدويرة الدار) أو حيث شاءوا من الحل يبن دويرة أهلهم وبين الحرم لقول الله عز وجل: (وأتموا الحج والعمرة لله ((41)
عن على وابن مسعود - رضى الله عنهما - أنهما قالا حين سئلا عن هذه الآية الكريمة إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، فلا يجوز لهم أن يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة إلا محرمين.
والحل الذى بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشىء واحد، فيجوز إحرامهم إلى آخر أجزاء الحل، كما يجوز إحرام الآفاقى من دويرة أهله إلى آخر أجزاء ميقاته، وأما الصنف الثالث فميقاتهم للحج الحرم وللعمرة الحل للإجماع، فيحرم المكى من دويرة أهله للحج، أو حيث شاء من الحرم ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أو غيره.
أما الحج فللآية وهى قول الله عز وجل: (وأتموا الحج والعمرة لله (، ومما جاء فيها عن على وابن مسعود - رضى الله عنهما - وأما العمرة فلما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الإفاضة من مكة دخل. على عائشة رضى الله عنها وهى تبكى فقالت أكُل نسائك يرجعن بنسكين وأنا أرجع بنسك واحد، فأمر أخاها عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما إن يعتمر بها من التنعيم، ولأن من شأن الإحرام أن يجتمع فى أفعاله الحل والحرم فلو أحرم المكى بالعمرة من مكة وأفعال العمرة تؤدى بمكة لم يجتمع فى أفعالها الحل والحرم، بل يجتمع كل أفعالها فى الحرم، وهذا خلاف عمل الإحرام فى الشرع والأفضل أن يحرم من التنعيم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم منه، وكذا أصحابه رضى الله عنهم كانوا يحرمون بعمرتهم منه، وكذلك من حصل فى الحرم من غير أهله فأراد الحج أو العمرة فحكمه حكم أهل الحرم، لأنه صار منهم، ولو مر صاحب ميقات من المواقيت بميقاتين فإحرامه من الأبعد أفضل ولو أخره إلى الثانى لا شىء عليه فى المذهب، ومن سلك بين ميقاتين فى البر أو البحر اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتا منهما ومن كان خارج الميقات وأراد أن يدخل مكة فعليه أن يحرم وإن لم يقصد الحج أو العمرة لما رواه ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام " لتعظيم هذه البقعة الشريفة، فيستوى فيه التاجر والمعتمر وغيرهما ومن كان داخل الميقات ولا يريد الحج أو العمرة فله أن يدخل مكة بغير إحرام لحاجته لأنه يكثر دخوله مكة، وفى إيجاب الإحرام فى كل مرة حرج بين فألحقوا بأهل مكة حيث يباح لهم الدخول بغير إحرام بعدما خرجوا منها لحاجة، لأنهم حاضروا المسجد الحرام، وجاز تقديم الإحرام على المواقيت، بل هو الأفضل، ولا يجوز عكسه وهو تأخيره عن هذه المواقيت على ما يجىء فى موضعه (42) .
وما روى عن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوما فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، لا يستدل به علي إسقاط الإحرام عمن كان خارج الميقات، ولم يقصد الحج أو العمرة لأن ما رواه جابر كان مختصا بتلك الساعة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم: " مكة حرام لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدى، وإنما أحلت لى ساعة من نهار ثم عادت حراما " يعنى الدخول بغير إحرام، لإجماع المسلمين على حل الدخول بعد النبى صلي الله عليه وسيم للقتال.
مذهب المالكية:
قال المالكية: ومكانه - أى الإحرام للحج غير القرآن - يختلف باختلاف الحاجين، فهو بالنسبة لمن بمكة سواء كان من أهلها ام لا، وأقام بها إقامة لا تقطع حكم السفر، مكة، أى الأولى له أن يحرم من مكة فى أى مكان منها ومثله من فى منزله فى الحرم خارجها، وندب إحرامه بالمسجد الحرام أى فيه موضع صلاته،. وندب خروج الأفاقى المقيم بها ذى النفس أى الذى معه نفس، أى سعة زمن يمكن الخروج فيه لميقاته وأدرك الحج لميقاته ليحرم منه، فإن لم يخرج فلا شىء عليه،. ومكانه للعمرة لمن بمكة وللقران أى الإحرام للعسرة والحج معا الحل ليجمع فى إحرامه لها بين الحل والحرم إذ هو شرط فى كل إحرام، ويصح الإحرام لها وللقرآن بالحرم وإن لم يجز ابتداء وخرج وجوبا للحل للجمع فى إحرامه بين الحل والحرم ومكانه لغير من بمكة من أهل الأفاق للحج والعمرة ذو الحليفة (تصغير حلفة بالنسبة لمدنى ومن وراءه ممن يأتى علي أهل المدينة، والجحفة للمصرى ومثله أهل المغرب والسودان والروم والشام، ويلملم لليمن والهند، وقرن (بسكون الراء المهملة لنجد، وذات عرق بكسر العين وسكون الراء) للعراق وخراسان ونحوهما كفارس والمشرق ومن وراءهم ومكانه لهما مسكن من أى بالنسبة لمن يسكن بين هذه المواقيت وبين مكة، وكان خارج الحرم أو فى الحرم وافرد، فإن قرن أو اعتمر خرج منه آلي الحل لأن كل إحرام لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم.
والمفرد يقف بعرفة وهى من الحل ومكانه أيضا حيث حاذى المار وأحدا من هذه المواقيت كرابغ، فإنها تحاذى الجحفة على المعتمد، أو مر به وان لم يكن من أهله ولو كان المحاذى ببحر كالمسافر من جهة مصر ببحر السويس فإنه يحاذى الجحفة قبل وصوله جدة فيحرم بالبحر حين المحاذاة إلا كمصرى من كل من ميقاته الجحفة يمر ابتداء بالحليفة ميقات أهل المدينة فيندب له الإحرام منها، ولا يجب، لأنه يمر على ميقات الجحفة بخلاف غيره، ولذا لو أراد المصرى أن يمر من طريق أخرى غير طريق الجحفة لوجب عليه الإحرام من ذى الحليفة كغيره.
ثم قال: وواجب على كل مكلف حر أراد دخول مكة ألا يدخلها إلا بإحرام لأحد النسكين.
ثم قال الخرشى: يندب لمريد الإحرام من أى ميقات أن يحرم من أوله ولا يؤخره لأخره، لأن المبادرة بالطاعة أولى (43)
مذهب الشافعية:
ثم قال الشافعية: الميقات المكانى للحج ولو بقران فى حق من بمكة وان لم يكن من أهلها نفس مكة وقيل كل الحرم لأن مكة وسائر الحرم فى الحرمة سواء (44) . وأما غيره وهو من لم يكن بمكة عند إرادته الحج فميقاته مختلف بحسب النواحى، فميقات المتوجه من المدينة ذو الحليفة، وهو المعروف الآن بأبيار على، وهو على نحو ثلاثة أميال من المدينة،
وقيل إنها علي ستة أميال والمتوجه من الشام ومصر والمغرب " الجحفة "، قرية كبيرة بين مكة والمدينة، وهى على ستة مراحل من مكة. ومن تهامة اليمن، وهى كل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز " يلملم "، وهى على مرحلتين من مكة ومن نجد اليمن ونجد الحجاز " قرن " وهو جبل على مرحلتين من مكة ومن المشرق العراق وغيره " ذات عرق " وهى قرية على مرحلتين من مكة.
والأصل فى المواقيت خبر الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم.
وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك، فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة، وتوقيت عمر رضى الله عنه ذات عرق لأهل العراق اجتهاد منه وأفق النص (45)
والأفضل أن يحرم من أول الميقات وهو طرفه الأبعد عن مكة لا من وسطه ولا أخره ليقطع الباقى محرما.
قال السبكى: إلا ذا الحليفة فينبغى أن. يكون إحرامه من المسجد الذى أحرم منه النبى صلى الله عليه وسلم أفضل0قال الأذرعى: وهذا حق، إن علم أن ذلك المسجد هو الموجود آثاره اليوم، والظاهر أنه هو، ويجوز من آخره لوقوع الاسم عليه، ومن سلك طريقا لا ينتهى إلى ميقات مما ذكر فإن حاذى ميقاتا منها يمنة أو يسرة سواء أكان فى البر أم فى البحر لا من ظهره أو وجهه لأن الأول وراءه، والثانى إمامه أحرم من محاذاته لما صح أن عمر - رضى الله عنه - حد لأهل العراق ذات عرق لما قالوا له إن قرنا المؤقت لأهل نجد جور أى مائل عن طريقنا وان أردناه شق علينا ولم ينكره عليه أحد فإن أشكل عليه الميقات أو موضع محاذاته تحرى إن لم يجد من يخبره عن علم ولا يقلد غيره فى التحرى إلا أن يعجز عنه كالأعمى.
والأفضل لمن فوق الميقات أن يحرم من دويرة أهله لأنه كثر عملا، إلا الحائض ونحوها، فالأفضل لها الإحرام من الميقات وفى قول الأفضل أن يحرم من الميقات تأسيا به صلى الله عليه وسلم فى الإحرام منه (46) .
ومن حاذى ميقاتين على الترتيب أحرم من الأول أو معا أحرم من أقربهما إليه، وإن كان الآخر أبعد إلى مكة إذ لو كان أمامه ميقات فإنه ميقاته وأن حاذى ميقاتا أبعد فكذا ما هو بقربه، فإن استويا فى القرب إليه فالأصح أنه يحرم من محاذاة أبعدهما من مكة، وإن حاذى الأقرب إليها أولا كان كأن الأبعد مشرفا أو وعرا، فإن استويا فى القرب إليها وإليه أحرم من محاذاتهما أن لم يحاذ أحدهم قبل الآخر وإلا فمن محاذاة الأول ولا ينتظر محاذاة لآخر كما أنه ليس للمار علي ذى الحليفة أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة ومقابل الأصح فى كلام المصنف انه يتخير، فإن شاء احرم من الموضع المحاذى لأبعدهما، وإن شاء لأقربهما (47)
ولما صح أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بحجته وبعمرة الحديبية من الحليفة، وإنما جاز قبل الميقات المكانى دون الزمانى لأن تعلق العبادة بالوقت أشد منه بالمكان ولأن المكانى يختلف باختلاف البلاد بخلاف الزمانى، والأفضل للمكى الإحرام منها، وألا يحرم من خارجها من جهة اليمن، وينبغى ألا يكون إحرام المصريين من رابغ مفضولا، وأن كانت قبل الميقات لأنه لعذر وهو إبهام الجحفة على أكثرهم وعدم وجود ماء فيها وخشية من قصدها علي ماله ونحوه.
وميقات العمرة المكانى لمن هو خارج الحرم ميقات الحج للخبر المار فيمن أراد الحج والعمرة. ومن هو بالحرم مكيا أو غيره يلزمه الخروج إلى أدنى الحل ولو بخطوة (أى بقليل) من أى جانب شاء للجمع فيها بين الحل والحرم، لما صح من أمره صلى الله عليه وسلم عائشة بالخروج إليه للإحرام بالعمرة مع ضيق الوقت برحيل الحاج فإن لم بخرج إلى أدنى الحل وأتى بأفعال العمرة بعد إحرامه بها فى الحرم انعقدت عمرته جزما وأجزأته هذه العمرة عن عمرته فى الأظهر لانعقاد إحرامه وإتيانه بالواجبات (48)
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة الميقات المكانى، ميقات أهل المدينة من ذى الحليفة وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة وأهل اليمن من يلملم وأهل الطائف ونجد من قرن وأهل المشرق والعراق وخراسان ذات عرق وميقات أهل نجد اليمن ونجد الحجاز 0 والطائف من قرن، وهذه المواقيت كلها ثابتة بنص حديث ابن عباس السابق ذكره وهى لأهلها المذكورين ولمن مر عليها من غير أهلها ومن كان منزله دون الميقات فميقاته من موضعه، يعني إذا كان مسكنه اقرب إلى مكة من الميقات كان ميقاته مسكنه، وإذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكان آخر فموضع الإحرام من الأولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية لأن الحكم تعلق بذلك أرضع فلا يزول بخرابه.
وقد رأى سعيد بن جبير - رضى الله عنه- رجلا يريد أن يحرم من ذات عرق فأخذ بيده حتى خرج من البيوت وقطع الوادى فأتى به المقابر، فقال: هذه ذات عرق الأولى. وميقات أهل مكة أو من كان بها إذا أرادوا الإحرام بالحج هو مكة فإذا أرادوا العمرة فمن الحل لا نعلم فى هذا خلافا ولذلك أمر النبى صلي الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما أن يعمر عائشة من التنعيم متفق عليه فإن أحرم أهل مكة، وحرمها من مكة أو من الحرم انعقد إحرامهم بالعمرة لأهليتهم له، ومخالفة الميقات لا تمنع الانعقاد. ثم إن خرج إلى الحل قبل إتمام العمرة ولو بعد الطواف أجزأته عمرته عن عمرة الإسلام، فإن أحرم من مكة أو الحرم قارنا فلا دم عليه لأجل إحرامه بالعمرة من مكة تغليبا للحج على العمرة، ومن لم يمر بميقات أحرم إذا علم أنه حاذى أقربها منه لقول عمر - رضى الله عنه-: " انظروا إلى خدرها من قديد" (واد وموضع) .
والأفضل الإحرام من أوقات، فإن أحرم قبله فلا خلاف فى أنه يصير محرما تثبت فى حقه أحكام الإحرام.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم علي أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، ولكن يكره له ذلك.
أما من أراد دخول الحرم إلى مكة أو غيرها، فإن كان يدخلها لقتال مباح أو خوف أو حاجة متكررة كالحشاش والحطاب وناقل الميرة فلا إحرام عليه. أما المكلف الذى يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم إلا أن من لا حج عليه كالعبد والصبى والكافر إذا اسلم الكافر أو عتق العبد أو بلغ الصبى بعد مجاوزته الميقات وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم لأنهم أحرموا من الموضع الذى وجب عليهم الإحرام منه، فأشبهوا المكى (49)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: للحج والعمرة مواضع تسمى المواقيت، لا يحل لأحد أن يحرم بالحج ولا بالعمرة قبلها، وهى لمن جاء من جميع البلاد على طريق المدينة أو كان من أهل المدينة ذو الحليفة، ولمن جاء من جميع البلاد أو من الشام أو من مصر على طريق مصر أو على طريق الشام الجحفة، ولمن جاء من طريق العراق منها ومن جميع البلاد ذات عرق، ولمن جاء على طريق نجد من جميع البلاد كلها قرن، ولمن جاء عن طريق اليمن منها أو من جميع البلاد يلملم.
برهان ذلك ما روى عن عائشة - رضى الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل اليمن يلملم.
وعن ابن عباس رضى أن عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر المواقيت ومنها، ولأهل نجد قرن المنازل، أما من جاوزه وهو لا يريد حجا ولا عمرة، فليس عليه أن يحرم، فإن تجاوزه بقليل أو بكثير ثم بدا له فى الحج أو فى العمرة فليحرم من حيث بدا له فى الحج أو العمرة وليس عليه أن يرجع إلى الميقات، ولا يجوز الرجوع إليه وميقاته حينئذ الموضع الذى بدا له فى الحج أو العمرة فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما، أما من كان منزله بين الميقات ومكة فميقاته من منزله أو من الموضع الذى بدا له أن يحج منه أو يعتمر ومن كان طريقه لا تمر بشىء من هذه المواقيت فليحرم من حيث شاء.
ودخول مكة بلا إحرام جائز، لأن النبى "صلى الله عليه وسلم" إنما جعل المواقيت لمن مر بهن يريد حجا أو عمرة ولم يجعلها لمن لم يرد حجا ولا عمرة، فلم يأمر الله تعالى قط ولا رسوله "صلى الله عليه وسلم" بألا يدخل مكة إلا بإحرام، فهو إلزام ما لم يأت فى الشرع إلزامه.
والدليل ماروى أن ابن عمر رضى الله عنه أنه رجع من بعض الطريق فدخل مكة غير محرم.
وعن ابن شهاب: لا بأس بدخول مكة بغير إحرام، ومن أراد العمرة وهو بمكة إما من أهلها أو من غير أهلها ففرض عليه أن يخرج للإحرام بها إلى الحل ولابد، فيخرج إلى أى حل شاء ويهل بها لأن رسول الله" صلى الله عليه وسلم" أمر عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما بالخروج من مكة إلى التنعيم ليعتمر منه واعتمر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" من الجعرانة فوجب ذلك فى العمرة خاصة (50)
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: الميقات المكانى عندهم هو ذو الحليفة لمن جاء من ناحية المدينة، والجحفة للشامى، وقرن للنجدى، ويلملم لليمنى، وذات عرق للعراقى، والحرم للحرمى المكى، ولمن كان مسكنه خلف هذه المواقيت (أى بينها وبين مكة) أن يجعل ميقاته داره..
وهذه المواقيت هى لأهل هذه البلاد التى ضربت لهم ولمن ورد عليها من غير أهلها فهى ميقات له كذلك.
وميقات المكى مكة يهلون منها، لقوله صلى الله عليه وسلم: " أهل مكة يهلون من مكة " والأفضل من باب داره أو قرب الكعبة.
وميقات المعتمر الحل، والأفضل من الجعرانة لإحرام النبى "صلى الله عليه وسلم " منها سنة موازن، ثم التنعيم، ثم الحديبية، إذا أراد أن يعتمر منها ثم مساجد عائشة. أو مسجد الشجرة، وقيل الحديبية أفضلها لبعده 0
وإن أحرم لها من مكة فوجهان، ومن لزمه الحج بعد ترك هذه المواقيت كصبى يبلغ أو كافر يسلم فإن ميقاته موضعه، فإن كان بمكة أحر م منها، وأن كان بمنى استحب له الرجوع إلى مكة ليحرم منها إذا كان لا يخشى فوات الوقوف بذلك وإلا أحرم منها. ويجوز تقديم الإحرام على مكانه إلا لمانع، وهو أن يخشى أن يقع فى شىء من المحظورات لطول المدة فإنه لا يجوز له التقديم، والدائم على الخروج والدخول آلي مكة كالحطاب وجالب اللبن ونحوهم.
واختلف فى الدائم فقال فى الانتصار هو من يدخل فى الشهر مرة، وعن المهدى من يدخلها فى العشر مرة، فهذا لا إحرام عليه، كما أنه لا إحرام على الإمام إذا دخل لحرب الكفار وقد التجئوا إلى مكة ومن كان عليه طواف الزيارة وأراد الدخول لقضائه فإنه لا يلزمه الإحرام (51)
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: المواقيت التى وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الآفاق ستة: ذو الحليفة، وهو الحلفة، والمراد الموضع الذى فيه الماء وبه مسجد الشجرة والإحرام منه أفضل وأحوط للتأسى، وقيل بل يتعين منه لتفسير ذى الحليفة به فى بعض الأخبار، والجحفة وهى الآن لأهل مصر، ويلملم لليمن،، وقرن المنازل للطائف، والعقيق، وهو واد طويل يزيد على بريدين للعراق، وأفضله المالخ، وهو أوله من جهة العراق، ثم يليه فى الفضل غمرة، وهو فى وسط الوادى، ثم ذات عرق وهى آخره إلى جهة المغرب، وميقات حج التمتع مكة وحج الأفراد منزله لأنه أقرب إلى عرفات من الميقات مطلقا، وكل من حج على ميقات كالشامى يمر بذى الحليفة فهو له وان لم يكن من أهله.
ولو تعددت المواقيت فى الطريق الواحد كذى الحليفة والجحفة والعقيق بطريق المدنى أحرم من أولها مع الاختيار، ومن ثانيها مع الاضطرار كمرض يشق معه التجريد وكشف الرأس أو ضعف أو حر أو برد بحيث لا يتحمل ذلك عادة، ولو حج على غير ميقات كفته المحاذاة للميقات وهى مسامتته إلى قاصد مكة عرفا إن اتفقت ولو لم يحاذ ميقاته أحرم من قدر تشترك فيه المواقيت، ولا يصح الإحرام قبل الميقات ألا بالنذر وشبهه من العهد واليمين (52)
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: المواقيت لأهل المدينة ومن سلك طريقهم ذو الحليفة، ولأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن ومن سلك طريقهم يلملم، ولأهل العراق ذات عرق عند الجمهور، وقيل ميقاتهم العقيق، ولا خلاف فى لزوم الإحرام منها، أى من المواقيت، أى من إحداها، لمار بها إذا أراد حجا أو عمرة. وإلا فقيل: يلزمه إن لم يكثر ترددا كحطاب، وقيل مطلقا.
ومن حاذى ميقاتا فى بر أو بحر فميقاته المحاذاة، فالجحفة مثلا ميقات من سلك من أهل المغرب طريق الساحل، فمن مر بها أو عن يمينها أو يسارها أو فى البر أو فى البحر.
وهذه المواقيت المذكورة لغير مكى يقيم بها، ولو أقام اقل من سنة أما من كان مكيا أو مقيما بها فيحرم بحج من مكة، ويحرم للعمرة إلى الحل من التنعيم أو من الجعرانة أو من الحديبية وهو الأفضل. ومن قصدها لتجر أو لغيره كقراءة بغير إحرام أساء ولا دم، وقيل أساء وعليه دم، وهو قول الربيع. وعلى الحطاب ومن كثر تردده طواف بعد أن يدخل مكة بلا إحرام، وقيل لا إساءة ولا دم، وجاز لأهل كل ناحية أن يحرم وإن كان إحرامه من ميقات غيره سواء جاء من ناحية ميقات غيره بدون أن يجاوز ميقات نفسه أو جاوز ميقاته ثم أحرم من ميقات غيره (53) .
الميقات الزمانى للإحرام
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: أشهر الإحرام بالحج هى أشهر الحج وهى شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذى الحجة عند الإمام ومحمد - رضى الله عنهما- لما روى عن العبادلة الثلاثة وهم: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، كذلك عن عبد الله بن الزبير.
وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يوم الحج اكبر هو يوم النحر "، فكيف يكون يوم الحج الأكبر ولا يكون من شهره، ولأن وقت الركن وهو طواف الزيارة يدخل وقته بطلوع الفجر من يوم النحر، فكيف يدخل وقت ركن والحج يعدما خرج الوقت.
وعن أبى يوسف رحمه الله قال: شوال وذو القعدة وعشر ليال وتسعة أيام من ذى الحجة، لأن من لم يدرك بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فحجه فائت "، ولو كان وقته باقيا لما فات، وعشرة من ذى الحجة التي رويت، ولم يذكر فيها المعدود يحتمل أن يراد بها الأيام، ويحتمل أن يراد بها الليإلى كما هى القاعدة اللازمة فى تذكير أحد وتأنيثه.
أما الإحرام بالعمرة فليس له أشهر معينة لما روى عن عطاء رحمه الله أنه قال من أحرم بالحج قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة (54)
وندبت فى رمضان لما روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما -: " عمرة فى رمضان تعدل حجة"
وكرهت تحريما يوم عرفة قبل الزوال وبعده وهو المذهب، خلافا لما روى عن أبى يوسف رحمه الله أنها لا تكره فيه قبل الزوال، ويكره أيضا انشاؤها بالإحرام أربعة أيام بعدها، أى بعد عرفة، ويزاد على الأيام الخمسة كراهة فعلها فى أشهر الحج لأهل مكة ومن بمعناهم، أى من المقيمين ومن فى داخل الميقات، لأن الغالب عليهم أن يحجوا فى سنتهم فيكونوا متمتعين وهم عن التمتع ممنوعون، وبالنسبة للمكى لا منع له عن العمرة المفردة فى أشهر للحج إذا لم يحج فى تلك السنة (55)
مذهب المالكية:
ووقت الإحرام المأذون فيه شرعا للحج أى ابتداء وقته شوال من أول ليلة عيد الفطر ويمتد لفجر يوم النحر، فمن احرم قبل فجره بلحظة وهو بعرفة فقد أدرك الحج وبقى عليه الإفاضة والسعى بعدها ووقت الإحرام للعمرة أبدا، أى فى أى وقت من العام إلا المحرم بحج فلا يصح إحرامه بعمرة إلا إذا فرغ من جميع أفعاله من طواف وسعى ورمى لجميع الجمرات، إن لم يتعجل وبقدر رميها من اليوم الرابع بعد الزوال إن تعجل، وكره الإحرام بها بعده، أى بعد رميه اليوم الرابع للغروب منه فإن أحرم بها بعده وقبل الغروب صح إحرامه وأخر وجوبا طوافها وسعيها بعده، أى الغروب، وإلا لم يعتد بفعله على المذهب وأعادهما بعده، وإلا فهو باق علي إحرامه أبدا.
وقد جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه تعليقا علي قول خليل ووقته للحج شوال لفجر يوم النحر ويمتد زمن الإحلال منه لأخر الحجة، وليس المراد أن جميع الزمن الذى ذكر وقت لجواز الإحرام لأنه يكره بعد فجر يوم النحر لأنه حينئذ إحرام للعام القابل قبل وقته (56)
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: وقت إحرام الحج لمكى أو غيره شوال وذو القعدة وعشر ليال بالأيام بينها وهى تسعة. فقد قال الشافعى فى مختصر المزنى: أشهر الحج شوال وذو القعدة وتسع من ذى الحجة، وهو يوم عرفة، فمن لم يدركه إلى الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج.
وجميع السنة وقت لإحرام العمرة، وجميع أفعالها لخبر الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث مرات متفرقات فى ذى القعدة، أى فى ثلاثة أعوام، وأنه اعتمر عمرة فى رجب كما رواه ابن عمر، وأنه قال: " عمرة فى رمضان تعدل حجة"، وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر فى رمضان وفى شوال فدلت السنة على عدم التأقيت (57) .
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة، فيوم النحر منها، وهو يوم الحج الأكبر.
وقال صاحب كشاف القناع: من طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة ولو لعذر فاته الحج (58) .
وميقات العمرة الزمانى جميع العام لعدم المخصص لها بوقت دون آخر، ولا يلزمه الإحرام بالعمرة يوم النحر ولا يوم عرفة ولا أيام التشريق (59)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: وأشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة. قال الله تعالى "الحج أشهر معلومات " (60) ، ولا يطلق على شهرين وبعض آخر أشهر، وأيضا فإن رمى الجمار- وهو من أعمال الحج يعمل اليوم الثالث عشر من ذى الحجة، وطواف الإفاضة- وهو من فرائض الحج يعمل فى ذى الحجة كله بلا خلاف منهم، فصح أنها ثلاثة أشهر، وظاهر من أن الحج عرفة أن وقت الإحرام يمتد آلي ما قبل وقت الوقوف بعرفة كما سيأتى بعد فى كلامه عن الإحرام قبل أشهر الحج، أما العمرة فهى جائزة فى كل وقّتّ من أوقات السنة، وفى كل يوم من أيام السنة وفى كل ليلة من لياليها لا تحاش شيئا برهان ذلك ما روى عن عائشة - رضى الله عنها - أنها اعتمرت ثلاث مرات فى عام واحد (61)
مذهب الزيدية:
قال الزيديه: الميقات الزمانى، قال فى البحر: ووقته شوال والقعدة وكل العشر الأولى من ذى الحجة، وأما ميقات العمرة الزمانى فقال فى البحر: ولا تكره فى وقت من الأوقات إلا فى أشهر الحج وأيام التشريق، وذلك لغير المتمتع والقارن، فلا تكره لهما إلا فى أشهر الحج (62)
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: أشهر الحج هى شوال وذو القعدة وذو الحجة، وقيل وعشر من ذى الحجة، وقيل تسع، وحاصل الخلاف إنشاء الحج فى الزمان الذى يعلم إدراك المناسك فيه، وما زاد يصح أن يقع فيه بعض أفعال الحج كالطواف والسعى والذبح وأن يأتى بالحج والعمرة فى عام واحد (63)
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: الميقات الزمانى أصله قول الله تعالى: (الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولى الألباب (
فقيل شوال وذو القعدة وذو الحجة وقيل شهران وعشرة أيام، أى ليال من ذى الحجة، أو غلب الأيام، والمقصود الليإلى بدخول ليلة العاشر وأما العمرة فيصح الإحرام بها فى كل شهر من شهور السنة (64) .
الإحرام قبل أشهر الحج
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: ويكره الإحرام للحج قبل أشهره، وإن أمن على نفسه من المحظور، وإطلاق الكراهة يفيد التحريم وبه قيدها القهستانى ونقل عن التحفة الإجماع على الكراهة، وبه صرح فى البحر من غير تفصيل بين خوف الوقوع فى محظور أولا 0
قال: ومن فصل كصاحب الظهيرية قياسا على الميقات المكانى فقد أخطأ، لكن نقل القهستانى أيضا عن المحيط التفصيل ثم قال: وفى النظم عنه أنه يكره ألا عند أبى يوسف رحمه الله (65)
مذهب المالكية:
قال المالكية: كره الإحرام له (أى للحج) قبل شوال، وانعقد كمكانه كما يكره الإحرام قبل مكانه (66)
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: لو أحرم بالحج فى غير وقته كرمضان أو أحرم مطلقا انعقد إحرامه بذلك عمرة مجزئة عن عمرة الإسلام على الصحيح سواء أكان عالما أم جاهلا لشدة تعلق الإحرام ولزومه، فإذا لم يقبل الوقت ما أحر م به انصرف لما يقبله وهو العمرة، ولأنه إذا بطل قصد الحج فيما إذا نواه بقى مطلق الإحرام، والعمرة تنعقد بمجرد الإحرام والثانى لا ينعقد عمرة (67) .
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: يكره أن يحرم بالحج قبل أشهره لقول ابن عباس - رضى الله عنه - من السنة ألا يحرم بالحج إلا فى أشهر الحج، ولأنه أحرم بالعبادة قبل وقتها فأشبه ما لو أحرم قبل الميقات المكانى، فإن فعل بأن أحر م قبل الميقات المكانى أو الزمانى فهو محرم ولا ينعقد، أى ينقلب إحرامه بالحج قبل ميقاته المكانى أو الزمانى عمرة (68) .
مذهب الظاهرية:
قال ابن حز م الظاهرى: الحج لا يجوز شىء من عمله إلا فى أوقاته المنصوصة، ولا يحل الإحرام به ألا فى اشهر الحج قبل وقت الوقوف بعرفة لقول الله تعالى: (الحج أشهر معلومات (فنص عز وجل على أنها أشهر معلومات، ولما روى عن عطاء وطاووس ومجاهد قالوا: لا ينبغى لأحد أن يحرم بالحج فى غير أشهر الحج (69)
مذهب الزيدية:
قال الزيديه: يكره بالحج الإحرام الحج قبل أشهره ولكنه ينعقد إجماعا.
وقال فى شرح الأزهار: ويجوز تقديم الإحرام على وقته إلا لمانع، وهو أن يخشى أن يقع فى شىء من المحظورات لطول المدة فلا يجوز له التقدم، فإن فعل أثم وأجزأ (70)
مذهب الإمامية الشيعة الإمامية: لا يصح الإحرام بالحج بجميع أنواعه أو عمرة التمتع إلا فى أشهر الحج (71)
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: لا يصح الإحرام بالحج إلا فى أشهره، فإن قدم الإحرام علي وقته الزمانى كان عمرة لصحتها فى كل شهر (72)
مجاوزة الميقات بغير إحرام
مذهب الحنفية:
قسم الحنفية المحرمين إلى ثلاثة أصناف كما سبق أما الصنف الأول فميقاتهم ما وقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يجوز لأحد منهم أن يجاوز ميقاته إذا أراد الحج أو العمرة إلا محرما، فلو جاوز ميقاتا من المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة فجاوزه بغير إحرام، ثم عاد قبل أن يحرم وأحرم من الميقات وجاوزه محرما لا يجب عليه دم بالإجماع، لأنه لما عاد إلى الميقات قبل أن يحرم وأحر م التحقت تلك المجاوزة.
بالعدم، وصار ابتداء إحرام منه، ولو أحرم بعد ما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئا من أفعال الحج ثم عاد إلى الميقات ولبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لا يسقط، وهذا قول أبى حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف ومحمد يسقط لبى أو لم يلب. وقال زفر: لا يسقط لبى أو لم يلب، وجه قول زفرأن وجوب الدم بجنايته علي الميقات بمجاوزته إياه من غير إحرام، وجنايته لا تنعدم بعوده، قلا يسقط الدم الذى وجب.
ووجه قولهما أن حق الميقات فى مجاوزته إياه محرما لا فى إنشاء الإحرام منه، بدليل أنه لو أحرم من دويرة أهله وجاوز الميقات ولم يلب لا شىء عليه، فدل أن حق الميقات فى مجاوزته إياه محرما لا فى إنشاء الإحرام منه، وبعدما عاد إليه محرما فقد جاوزه حرما فلا يلزم الدم.
ولأبى حنيفة رحمه الله ما روينا عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال للذى أحرم بعد الميقات: أرجع إلى الميقات فلب، وإلا فلا حج لك، أوجب التلبية من الميقات فلزم اعتبارها، ولأن الفائت بالمجاوزة هو التلبية فلا يقع تدارك الفائى إلا بالتلبية بخلاف ما إذا أحرم من دويرة أهله ثم جاوز الميقات من غير إنشاء الإحرام لأنه إذا أحرم من دويرة أهله صار ذلك ميقاتا له، وقد لبى منه، فلا يلزمه تلبية.
وإذا لم يحرم من دويرة أهله كان ميقاته المكان الذي تجب التلبية منه وهو الميقات المعهود، وما قاله زفر أن الدم إنما وجب عليه بجنايته على الميقات مسلم لكن لما عاد قبل دخوله فى أفعال الحج فما جنى عليه، بل ترك حقه فى الحال، فيحتاج إلى التدارك، وقد تداركه بالعود إلى التلبية، ولو جاوز الميقات بغير إحرام فأحرم ولم يعد إلى الميقات حتى طاف شوطا أو شوطين، أو وقف بعرفة أو كان إحرامه بالحج ثم عاد إلى الميقات لا يسقط عنه الدم، لأنه لما اتصل الإحرام بأفعال الحج تأكد عليه الدم فلا يسقط بالعود. ولو عاد إلى ميقات آخر غير الذى جاوزه قبل أن يفعل شيئا من أفعال الحج سقط عنه الدم وعوده إلى هذا الميقات وإلى ميقات آخر سواء وعلى قول زفر لا يسقط على ما ذكرنا وروى عن أبى يوسف رحمه الله أنه فصل فى ذلك تفصيلا، فقال إن كان الميقات الذى عاد إليه يحاذى الميقات الأول أو أبعد من الحرم يسقط عنه الدم وإلا فلا، والصحيح جوا ب ظاهر الرواية لما ذكرنا أن كل واحد من هذه المواقيت الخمسة ميقات لأهله ولغير أهله بالنص مطلقا عن اعتبار المحاذاة ولو لم يعد إلى الميقات لكنه افسد إحرامه بالجماع قبل طواف العمرة إن كان إحرامه بالعمرة أو قبل الوقوف بعرفة إن كان إحرامه بالحج سقط عنه ذلك الدم لأنه يجب عليه القضاء وانجبر ذلك كله بالقضاء.
وكذلك إذا فاته الحج فإنه يتحلل بالعمرة وعليه قضاء الحج وسقط عنه ذلك الدم عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر لا يسقط، ولو جاوز الميقات بعد دخول مكة أو الحرم من غير إحرام يلزمه إما حجة وإما عمرة لأن مجاوزة الميقات على قصد دخول مكة أو الحرم بدون الإحرام لما كان حراما كانت المجاوزة التزاما للإحرام دلالة كأنه قال: لله على إحرام، ولو قال ذلك يلزمه حجة أو عمرة.
وكذا إذا فعل ما يدل على الالتزام كمن شرع فى صلاة التطوع فإن أحرم بالحج أو بالعمرة قضاء لما عليه من ذلك لمجاوزته الميقات ولم يرجع إلى الميقات فعليه دم، لأنه جنى على الميقات لمجاوزته إياه من غير إحرام ولم يتداركه فليزمه الدم جبرا.
فإن أقام بمكة حتى تحولت السنة ثم احرم يريد قضاء ما وجب عليه بدخول مكة بغير إحرام أجزأه فى ذلك ميقات أهل مكة فى الحج بالحرم وفى العمرة الحل، لأنه لما أقام بمكة صار فى حكم أهل مكة فيجزئه إحرامه من ميقاتهم، فإن كان حين دخل مكة عاد فى تلك السنة إلى الميقات فأحرم بحجة عليه من حجة الإسلام أو حجة نذر أو عمرة نذر سقط ما وجب عليه لدخول مكة بغير إحرام استحسانا، والقياس ألا يسقط ألا أن ينوى ما وجب علية لدخول مكة وهو قول زفر ولا خلاف فى انه إذا خولت السنة ثم عاد إلى الميقات ثم أحرم حجة الإسلام أنه لا يجزئه عما لزمه إلا بتعيين النية.
هذا إذا جاوز أحد هذه المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة أو دخول مكة أو الحرم بغير إحرام.
فأما إذا لم يرد ذلك وإنما أراد أن يأتى بستان بنى عامر أو غيره مما هو داخل الميقات لحاجة فلا شىء عليه، لأن لزوم الحج أو العمرة بالمجاوزة من غير إحرام لحرمة الميقات تعظيما للبقعة وتمييزا لها من بين بئر البقاع فى الشرف والفضيلة فيصير ملتزما للإحرام منه، فإذا لم يرد البيت لم يصر ملتزما للإحرام فلا يلزمه شىء، فإن حصل فى البستان أو فيما وراءه من الحل، ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة من غير إحرام فله ذلك لأنه بوصوله إلى أهل البستان صار كواحد من أهل البستان ولأهل البستان إن يدخلوا مكة لحاجة من غير إحرام، فكذا له 0
وقيل أن هذا هو الحيلة فى إسقاط الإحرام عن نفسه.
وروى عن أبى يوسف رحمه الله انه لا يسقط عنه الإحرام ولا يجوز له أن يدخل مكة بغير إحرام ما لم يجاوز الميقات بنية أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما فصاعدا لأنه لا يثبت للبستان حكم الوطن فى حقه ألا بنية مدة الإقامة.
وإما الصنف الثانى: فميقاتهم للحج والعمرة دويرة أهلهم فلا يجوز لهم أن يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة إلا محرمين، والحل الذى بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشىء وأحد، فيجوز إحرامهم إلى آخر أجزاء الحل، كما يجوز إحرام الأفاقى من دويرة أهله إلى آخر أجزاء ميقاته، فلو جاوز أحد منهم ميقاته يريد الحج أو العمرة فدخل الحرم من غير إحرام فعليه دم، ولو عاد إلى الميقات قبل أن يحرم أو يعد ما أحرم فهو على التفصيل والاتفاق، والاختلاف الذى ذكرنا فى الأفاقى إذا جاوز الميقات بغير إحرام، وكذلك الأفاقى إذا حصل فى البستان أو المكى إذا خرج إليه فأراد أن يحج أو يعتمر فحكمه حكم أهل البستان. وكذلك البستاني أو المكي إذا خرج إلى الأفاق لا تجوز مجاوزته ميقات أهل الآفاق وهو يريد الحج أو العمرة إلا محرما لما روينا من الحديث، ويجوز لمن كان من أهل الميقات وما بعده دخول مكة لغير الحج أو العمرة بغير إحرام عندنا لما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم انه رخص للحطابين أن يدخلوا مكة بغير إحرام وعادة الحطابين انهم لا يتجاوزون الميقات.
وروى عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أنه خرج من مكة إلى قديد فبلغه خبر فتنة بالمدينة فرجع ودخل مكة بغير إحرام.
وأما الصنف الثالث: فميقاتهما للحج الحج والعمرة لله " ا. وان شاء أحرم من دويرة أهله للحج أو حيث شاء من الحرم، ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أو غيره.
أما الحج فلقول الله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " (73) أن شاء أحرم من الأبطح أو حيث شاء من الحرم، لكن من بالمسجد أولى لأن الإحرام عبادة وإتيان العبادة فى المسجد أولى كالصلاة.
وأما العمرة فلما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الإفاضة من مكة دخل على عائشة - رضى الله عنها - وهى تبكى، فقالت: أكل نسائك يرجعن بنسكين وأنا أرجع بنسك واحد.
فأمر أخاها عبد الرحمن بن أبى بكر - رضى الله عنه - أن يعتمر بها من التنعيم.
ولو ترك المكى ميقاته فأحرم للحج من الحل وللعمرة من الحرم يجب عليه الدم إلا إذا عاد وجدد التلبية أو لم يجدد على التفصيل والاختلاف الذى ذكرنا فى الأفاقى، ولو خرج من الحرم إلى الحل ولم يجاوز الميقات ثم أراد أن يعود إلى مكة له أن يعود إليها من غير إحرام لأن أهل مكة يحتاجون إلى الخروج إلى الحل للاحتطاب والاحتشاش والعود إليها، فلو ألزمناهم الإحرام عند كل خروج لوقعوا فى الحرج (74)
مذهب المالكية:
قال المالكية: وجب على المحرم المكلف الحر إذا أراد دخول مكة فلا يدخلها إلا بإحرام بأحد النسكين وجوبا ولا يجوز له تعدى الميقات بلا إحرام إلا أن يكون من المترددين أو يعود لها بعد خروج منها من مكان قريب لم يمكث فيه كثيرا فلا يجب عليه كالعبد وغير المكلف كصبى ومجنون ومتي تعدى الميقات بلا إحرام وجب عليه الرجوع إلى الميقات ليحرم منه كما يجب عليه أيضا الرجوع أن دخل مكة ما لم يحرم بعد تعدى الميقات، فإن أحرم لم يلزمه الرجوع وعليه الدم لتعدية الميقات حلالا ولا يسقط عنه الدم برجوعه له بعد الإحرام ولا دم عليه إذا رجع للميقات فأحرم منه إذا لم يحرم بعد تعدية.
ويستثنى من وجوب الرجوع أن يمنعه من الرجوع عذر كخوف فوات لحجه أو فوات رفقة أو خاف على نفس أو مال أو عدم قدرة علي الرجوع فلا يجب عليه الرجوع، ويلزمه الدم لتعدية الميقات حلالا، وكراجع له بعد إحرامه عليه الدم ولا ينفعه الرجوع بعده، فأولى إذا لم يرجع فمتعدى الميقات حلالا إذا لم يرجع له قبل إحرامه يلزمه الدم فى جميع الحالات ولو فسد حجه أو كان عدم الرجوع لعذر إلا أن يفوته الحج بطلوع فجر يوم النحر قبل وصوله عرفه فتحلل منه بعمرة بأن نوى التحلل منه بفعل عمرة وطاف وسعى وحلق بنيتها (أى بنية العمرة) فلا دم عليه للتعدى فإن لم يتحلل بالعمرة وبقى علي إحرامه لقابل لم يسقط عنه (75) .
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: من جاوز ميقاتا من المواقيت المنصوص عليها أو موضعا جعل ميقاتا، وإن لم يكن ميقاتا اصليا غير مريد نسكا ثم أراده فميقاته موضعه، ولا يكلفه العود إلى الميقات، ومن وصل إليه مريدا نسكا لم تجز مجاوزته إلى جهة الحرم بغير إحرام إجماعا، ويجوز مجاوزته بلا إحرام آلي جهة اليمنة أو اليسرة عندئذ ويحرم إذا أراد الاتجاه إلى الحرم من مثل ميقات بلده أو ابعد كما ذكره الماوردى فإن خالفه وفعل ما منع منه بأن جاوزه إلي جهة الحرم لزمه العود ليحرم منه، لأن الإحرام منه كان واجبا عليه فتركه، وقد أمكنه تداركه فيأتى به فلو عاد إلى مثل مسافته من ميقات آخر جاز قاله الماوردى وغيره.
ولا يجب تأخير الإحرام إلى العود بل يجوز له أن يحرم حيث هو قبل العودة ويعود إلى الميقات محرما ويسقط عنه الدم عملا بالأصح كما تقدم ولا فرق فى المجاوزة بين العمد والسهو والعلم والجهل إذ المأمورات لا يفترق فيها الحال بين العمد وغيره كنية الصلاة لكن لا آثم علي الجاهل والناسى ولا يقدح فيما ذكر فى الساهى أنه بسهوه عن الإحرام يستحيل كونه فى تلك الحالة مريدا للنسك إذ يمكن تصويره بمن أنشأ سفره من محله قاصدا له وقصده مستمر فسها عنه حين المجاوزة، واستثنى من لزوم العود ما إذا كان هناك عذر كضيق الوقت أو خوف الطريق أو وجود مرض شاق أو خوف انقطاع عن رفقته، فلا يلزمه العود حينئذ، بل يريق دما..
والأوجه ما قاله "الأذرعى" من تحريم العود عليه لو علم أنه لو عاد لفاته الحج ولو كان ماشيا ولم يتضرر بالممشى، فهل يلزمه العود أم لا. قضية كلامهم لزومه ونظر فيه الإسنوى وقال المتجه أنه أن كان على دون مسافة القصر لزمه وإلا فلا كما قلنا فى الحج ماشيا فإن لم يعد لعذر أو غيره لزمه بتركه الإحرام من الميقات دم لقول ابن عباس رضى، الله عنه من نسى من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما رواه مالك وغيره بإسناد صحيح.
ولو مر صبى أو عبد بالميقات غير محرم مريدا للنسك ثم بلغ أو عتق قبل الوقوف فلا دم عليه على الصحيح، أفاده البدر ابن شهبة فى العبد، وابن قاسم فيهما فى شرحيهما الكتاب وإن أحرم من جاوز الميقات غير محرم ثم عاد له، فالأصح أنه عاد إليه قبل تلبسه بنسك سقط الدم عنه، وإلا بأن عاد بعد تلبسه بنسك وأو طواف قدوم فلا يسقط الدم عنه لتأدى النسك بإحرام ناقص، وحيث لم يجب يعوده لم تكن مجاوزته محرمة كما جزم به المحاملي والرويانى (76)
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: من جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه أن أمكنه سواء تجاوزه عالما به أو جاهلا علم تحريم ذلك أو جهله، فإن رجع إليه فأحرم منه فلا شىء عليه لا نعلم فى ذلك خلافا وبه يقول جابر بن يزيد والحسن وسعيد بن جبير لأنه أحرم من الميقات الذى أمر بالإحرام منه فلم يلزمه شىء كأنه لم يتجاوزه، وإن أحرم بعد الميقات فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع لما روى ابن عباس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: " من ترك نسكا فعليه دم " ولأنه أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الدم كما لو لم يرجع وفارق ما إذا رجع قبل إحرامه فأحرم منه فإنه لم يترك الإحرام منه ولم يهتكه ولو أفسد من أحرم من دون الميقات له لم يسقط عنه الدم لأنه واجب عليه بموجب هذا الإحرام فلم يسقط بوجوب القضاء كبقية المناسك، وإما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك فعلى قسمين:
أحدهما: لا يريد دخول الحرم بل يريد حاجة فيما سواه، فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف، ولا شىء عليه فى ترك الإحرام، وقد أتى النبى صلى الله عليه وسلم بدرا مرتين، وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذى الحليفة فلا يحرمون ولا يرون بذلك بأسا. ثم متى بدا له الإحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه ولا شىء عليه، هذا ظاهر كلام الخرقى. وحكى ابن المنذر عن أحمد فى الرجل يخرج لحاجته وهو لايريد الحج فجاوز ذا الحليفة، ثم أراد الحج يرجع إلى ذى الحليفة فيحرم، وبه قال إسحاق. ولأنه أحرم بعد الميقات فلزمه الدم كالذى يربد دخول الحرم. قال فى المغنى: والأول أصح.
والقسم الثانى: من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم علي ثلاثة أضرب:
أحدها: من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة فهؤلاء لا إحرام
عليهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر، وكذلك أصحابه، ولم نعلم أحدا منهم احرم من يومئذ 0
والنوع الثانى: من لا يكلف الحج كالعبد والصبى والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو تحق العبد ... وبلغ الصبى وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم.
والنوع الثالث: المكلف الذى يدخل لغير قتال ولا حاجة، فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم منه، ومن دخل الحرم بغير إحرام ممن يجب عليه الإحرام فلا قضاء عليه، ومن كان منزله دون الميقات خارجا من الحرم فحكمه فى مجاوزة قريته إلى ما يلى الحرم حكم المجاوز للميقات فى هذه الأحوال الثلاثة، لأن موضعه ميقاته ومن جاوز الميقات غير محرم فخشى أن رجع آلي الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم، وإنما أبحنا له الإحرام من موضعه مراعاة لأدراك الحج (77)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: كل من مر على أحد هذه المواضع (أى المواقيت) وهو يريد الحج أو العمرة فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما، فإن لم يحرم منه فلا إحرام له ولا حج له ولا عمرة له، ألا أن يرجع آلي الميقات الذى مر عليه فينوى الإحرام منه فيصح حينئذ إحرامه وحجه وعمرته.
ومن كان من أهل الشام أو مصر فما خلفهما، فأخذ على طريق المدينة، وهو يريد حجا أو عمرة، فلا يحل له تأخير الإحرام من ذى الحليفة ليحرم من الجحفة فإن فعل فلا حج له ولا إحرام له ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى ذى الحليفة فيجدد منها إحراما فيصح حينئذ إحرامه وحجه وعمرته فمن مر على أحد هذه المواقيت وهو لا يريد حجا ولا عمرة فليس عليه أن يحرم فإن تجاوزه بقليل أو بكثير، ثم بدا له فى الحج أو فى العمرة فليحرم من حيث بدا له فى الحج أو العمرة، وليس عليه أن يرجع آلي الميقات، ولا يجوز له الرجوع إليه وميقاته حينئذ الموضع الذى بدا له فى الحج أو العمرة، فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما، فإن فعل ذلك فلا إحرام له ولا حج له ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى ذلك الموضع فيجدد منه إحراما (78) .
أما من أراد دخول مكة بلا إحرام فذلك جائز، لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما جعل المواقيت لمن مر بهن يريد حجا أو عمرة ولم يجعلها لمن لم يرد حجا ولا عمرة فلم يأمر الله تعالى قط ولا رسوله عليه الصلاة والسلام بألا يدخل مكة ألا بإحرام فهو إلزام ما لم يأت فى الشرع إلزامه.
والدليل ما روى عن ابن عمر أنه رجع من بعض الطريق فدخل مكة غير محرم. وعن ابن شهاب لا بأس بدخول مكة بغير إحرام (79)
مذهب الزيدية:
قال الزيدية لا يجوز الأفاقى الحر المسلم مجاوزة الميقات إلى الحرم إلا بإحرام، أما غير الأفاقى، وهو من كانت داره بعد الميقات، فإنه يجوز له دخول مكة من غير إحرام إذا لم يدخل لأحد النسكين إلا أن يأتى من خارج الميقات يريد دخول مكة، وأما العبد فإنه يجوز له دخول مكة لو كان آفاقيا من غير إحرام إذا منعه سيده.
وأما الكافر فإنه لا يحرم لدخول مكة لأنه لا ينعقد إحرامه مع الكفر ولا يلزمه دما عندنا، ومن جاوز الميقات غير قاصد لدخول الحرم المحرم بل قصده أن يصل دونه ويرجع، فإن هذا لا يلزمه الإحرام لمجاوزة الميقات، فلو عزم على دخول مكة بعد أن جاوز الميقات فلا يلزمه أن يحرم للدخول عند بعضهم، وهو المختار فى الأزهار، لأن الشرط أن يكون مريدا عند مجاوزته الميقات أن يقصد مجاوزته إلى الحرم، وهذا غير قاصد، ومن لزمه الإحرام وجاوز الميقات من غير إحرام، فقد عصى، ولزمه دم، لأجل. المجاوزة، ولو عاد آلي الميقات بعد المجاوزة لم يسقط عنه الدم إن كان قد أحرم بعد مجاوزة الميقات، أما لو عاد آلي الميقات قبل أن يحرم ثم أحرم من الميقات سقط وجوب الدم وإن فاته عامه الذى جاوز الميقات فيه من غير إحرام ثم بقى علي ترك الإحرام حتى خرج ذلك العام فإنه يلزمه قضاؤه فى المستقبل بأن يحرم ناويا قضاء ما فاته من الإحرام الذى وجب عليه بمجاوزة الميقات (80) .
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: لا يجوز لمكلف أن يتجاوز الميقات بغير إحرام عدا من يتكرر دخوله ومن دخلها بقتال، ومن ليس بقاصد مكة عند مروره على الميقات ومتى تجاوزه غير هؤلاء بغير إحرام فيجب الرجوع إليه مع الإمكان، فلو تعذر بطل نسكه إن تعمد مجاوزته بغير إحرام عالما بوجوبه، ووجب عليه قضاؤه وإن لم يكن مستطيعا بل كان سببه إرادة الدخول فإن ذلك موجب له كالمنذور.
نعم، لو رجع قبل دخول الحرم فلا قضاء عليه وان أثم بتأخير الإحرام وألا يكن متعمدا بل نسى أو جهل ولم يكن قاصدا مكة، ثم بدا له قصدها أحرم من حيث أمكن ولو دخل مكة معذورا ثم زال عذره بذكره وعلمه ونحوهما، خرج إلى أدنى الحل وهو ماء خرج عن منتهى الحرم إن لم يمكنه الوصول إلى أحد المواقيت فإن تعذر الخروج إلى أدنى الحل فمن موضعه بمكة ولو أمكن الرجوع إلى الميقات وجب لأنه الواجب بالأصالة وإنما قام غيره مقامه للضرورة، ومع إمكان الرجوع إليه لا ضرورة، ومن اكتملت أهليته بالبلوغ والعتق بعد تجاوز الميقات فكمن لا يريد النسك (81)
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: من جاوز الميقات ولم يحرم لزمه الرجوع والإحرام منه، ذاكرا أو ناسيا، عالما أو جاهلا، وإذا رجع وأحرم منها فلا دم عليه، وقيل عليه دم، وان خاف لفوت الحج أو منعه مانع عن الرجوع فليحرم حيث ذكر من نسيان أو علم من جمل أو تاب من عمد فى الحرم، ولو فى مكة أو قبله ولزمه دم، هذا مذهبنا.
ومن ترك الإحرام أصلا لزمه دم، وقيل أن كان لحج فسد حجه وهو الصحيح، وهو مذهبنا.
وفى التاج من جاوز ميقاتا يريد حجاً أو عمرة لم يجز له، ولزمه دم، ويرجع إليه ويحرم منه وقيل لا دم عليه، إن رجع قبل أن يدخل الحرم، وقيل ولو دخله ما لم يدخل بيوت مكة لا دم عليه إن رجع قبل الطواف بالبيت، وقيل ومن عتق داخل الميقات أو بلغ وقد احرم منه أجزأه وألا بأن لم يكن كذلك وأراد الإحرام بحج أو عمرة رجع إليه، وأجيز أن يحرم من محله.
ثم قال فى التاج أيضا: من جاوز ميقاتا غير مريد الحج أو العمرة ثم أراد أحدهما فليحرم من حيث أراد أحدهما، وهو الأصح. وقيل عليه الرجوع ومن قصد مكة لتجارة أو غيرها كقراءة ولم يحرم أساء ولا دم عليه وقيل أساء وعليه دم، ثم قال: وجاز لأهل كل ناحية أن يحرموا ولو من ميقات غيرهم سواء جاءوا من ناحية ميقات غيرهم بدون أن يجاوزوا ميقات أنفسهم أو جاوزوا ميقاتهم، ثم أحرموا من ميقات غيرهم مثل أن يترك المدنى ذا الحليفة ويحرم من الجحفة وأما إذا كان يجاوز ميقاته ويمر بعد ذلك فى طريقه على ميقات آخر لحاجة دعته للمرور عليه فله أن يؤخر الإحرام إلى الثانى (82)
ما يحظر وما لا يحظر فى الإحرام
قال فى البدائع: إن محظورات الإحرام " فى الأصل " نوعان: نوع لا يوجب فساد الحج، ونوع يوجب فساده، أما الذى لا يوجب فساد الحج فأنواع، بعضها يرجع إلى اللباس وبعضها يرجع إلى الطيب. وما يجرى مجراه من إزالة الشعث وقضاء التفث، وبعضها يرجع إلى توابع الجماع، وبعضها يرجع إلى الصيد.
أما الأول: فالمحرم لا يلبس المخيط جملة ولا قميصا ولا قباء ولا جبة ولا سراويل ولا عمامة ولا قلنسوة، ولا يلبس خفين إلا ألا يجد نعلين فلا بأس أن يقطعهما أسفل الكعبين فيلبسهما، ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس، وإنما يمنع المحرم من لبس المخيط إذا لباسه على الوجه المعتاد، فإما إذا لبسه لا على الوجه المعتاد فلا يمنع منه بأن أتشح بالقميص أو أتزر بالسراويل لأن معنى الارتفاق بمرافق المقيمين والترفه فى اللبس لا يحصل به، ولأن لبس القميص والسراويل على هذا الوجه فى معنى الارتداء والإتزار لأنه يحتاج فى حفظه إلى تكلف كما يحتاج إلى التكلف فى حفظ الرداء والإزار، وهذا غير ممنوع عنه، ولو أدخل منكبيه فى القباء ولم يجعل يديه فى كميه جاز له ذلك فى قول أصحابنا الثلاثة.
وقال زفر: لا يجوز، ولا يلبس الجوربين لأنهما فى معنى الخفين ولا يغطى رأسه بالعمامة ولا غيرها مما يقصد به التغطية لأن المحرم ممنوع عن تغطية رأسه بما يقصد به التغطية ولو حمل على رأسه شيئا، فإن كان مما يقصد به. التغطية من لباس الناس لا يجوز له ذلك لأنه كاللبس وأن كان مما لا يقصد به التغطية فلا بأس بذلك لأنه لا يعد ذلك لبسا ولا تغطية، وكذا لا يغطى الرجل وجهه عندنا، وإما المرآة فلا تغطى وجهها، وكذا لا بأس أن تسدل على وجهها بثوب وتجافيه عن وجهها ولا يلبس ثوبا صبغ بورس أو زعفران وأن لم يكن مخيطا، ولأن الورس والزعفران طيب، والمحرم ممنوع من استعمال الطيب فى بدنه، ولا يلبس المعصفر وهو المصبوغ بالعصفر عندنا هذا إذا لم يكن مغسولا، فإما إذا كان قد غسل حتى صار لا ينفض فلا بأس به لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال لا بأس أن يحرم الرجل فى ثوب مصبوغ بورس أو زعفران قد غسل وليس له نفض ولا ردغ.
وقال أبو يوسف رحمه الله فى الإملاء:
لا ينبغى للمحرم أن يتوسد ثوبا مصبوغا بالزعفران. ولا الورس ولا ينام عليه لأنه يصير مستعملا للطيب، فكان كاللبس ولا بأس بلبس الخز (وهو ما نسج من حرير وصوف) والصوف والغصب والبردى وان كان ملونا كالعدنى وغيره لأنه ليس فيه اكثر من الزينة، والمحرم غير ممنوع من ذلك، ولا بأس أن يلبى الطيلسان لأن الطيلسان ليس بمخيط، ولا يزره، ويكره أن يخلل الإزار بالخلال، ومن يعقد الإزار، لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى محرما قد عقد ثوبه بحبل فقال له " انزع الحبل ".
ولا بأس أن يتحزم بعمامة يشمل بها ولا يعقدها، لأن اشتمال العمامة عليه اشتمال غير المخيط، فأشبه الاتشاح بقميص، فإن عقدها كره له ذلك لأنه يشبه المخيط كعقد الإزار، ولا بأس بالهميان وهو وعاء للدراهم والمنطقة للمحرم سواء كان فى الهميان نفقته أو نفقة نجيره وسواء كان شد المنطقة بالأبزيم أو بالسيور.
وعن أبى يوسف رحمه الله فى المنطقة إن شده بالأبزيم يكره وإن شده بالسيور لا يكره، وجه رواية أبى يوسف إن الأبزيم مخيف فالشد به يكون كزر الإزار بخلاف السير، ولا بأس أن يستظل المحرم بالفسطاط عند عامة العلماء، ولنا ما روى عن عمر رضى الله عنه انه كان يلقى على شجرة ثوبا أو نطعا فيستظل به. وروى أنه ضرب لعثمان رضى الله عنه فسطاط بمنى فكان يستظل به.
ولأن الاستظلال بما لا يماسه بمنزلة الاستظلال بالسقف وذا غير ممنوع عنه، فإن دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه فإن كان الستر يصيب وجهه ورأسه يكره له ذلك لأنه يشبه ستر وجهه ورأسه بثوب، وإن كان متجافيا فلا يكره لأنه بمنزلة الدخول تحت ظله، ولا بأس أن تغطى المرأة سائر جسدها وهى محرمة بما شاءت. من الثياب المخيطة وغيرها، وأن تلبس الخفين غير أنها لا تغطى وجهها ولا بأس لها أن تلبس الحرير والذهب وتتحلى بأى حلية شاءت عند عامة العلماء.
وعن عطاء رضى الله عنه أنه كره ذلك. والصحيح قول عامة العلماء لما روى أن ابن عمر رضى الله عنه كان يلبس نساءه الذهب والحرير فى الإحرام، والمرآة تتساوى مع الرجل فى الطيب، أما لبس القفازين فلا يكره عندنا وهو قول على وعائشة- رضى الله عنهما-.
ولنا ما روى أن سعد بن أبى وقاص رضى الله عته كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين، ولأن لبس القفازين ليس إلا تغطية يديها بالمخيط، وأنها غير ممنوعة عن ذلك فإن لها أن تغطيهما بقميصها وأن كان مخيطا فكذا بمخيط آخر بخلاف وجهها فإنها لا تنتقب.
وأما الذى يرجع إلى الطيب، وما يجرى مجراه، من إزالة الشعث وقضاء التفت، أما الطيب فنقول: لا يتطيب المحرم لقول النبى صلي الله عليه وسلم: " المحرم الأشعث الأغبر " والطيب ينافى الشعث.
وروى أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وعليه مقطعان مضمخان بالخلوق فقال: ما اصنع فى حجتى يا رسول الله.
فسكت النبى صلى الله عليه وسلم حتي أوحى الله تعالى إليه، فلما سرى عنه قال النبى صلى الله عليه وسلم: " أين السائل " فقال الرجل: أنا فقال: " اغسل هذا الطيب عنك واصنع فى حجتك ما كنت صانعا فى عمرتك ". وروينا أن محرما وقصت به ناقته فقال النبى صلي الله عليه وسلم: " لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا"، جعل كونه محرما علة حرمة تخمير الرأس والتطيب فى حقه ولا بأس أن يحتجم المحرم ويقتصد ويبط القرحة ويعصب عليه الخرقة ويجبر الكسر وينزع الضرس إذا اشتكى منه، ويدخل الحمام ويغتسل، لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم بالقاحة والفصد وبط القرحة والجرح فى معنى الحجامة، ولأنه ليس فى هذه الأشياء إلا شق الجلدة والمحرمة غير ممنوع عن ذلك ولأنها من باب التداوى والإحرام لا يمنع من التداوى، وكذا جبر الكسر من باب العلاج والمحرم لا يمنع منه، وكذا قلع الضرس وهو أيضا من باب إزالة الضرر، فيشبه قطع اليد من الآكلة وذا لا يمنع المحرم، كذا هذا.
وأما الاغتسال، فلما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغتسل وهو محرم وللمحرم أن يكتحل بكحل ليس فيه طيب وقال ابن أبى ليلى هو طيب وليس للمحرم أن يكتحل به. وهذا غير سديد لأنه ليس له رائحة طيبة فلا يكون طيبا.
وأما ما يجرى مجرى الطيب من إزالة الشعث وقضاء التفث خلق الشعر وقلم الظفر، أما الحلق فنقول لا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه قبل يوم النحر لقول الله تعالى: " ولا تحلقوا رءوسكم حتي يبلغ الهدى محله، فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ... الآية " (83) .
وقول النبى صلى الله وسلم" المحرم الأشعث الأغبر "، وسئل رسول الله صلي الله عليه وسلم: من الحاج
فقال: " الشعث التفث " وحلق الرأس يزيل ولأنه الشعث والتفث، ولأنه من باب الارتفاق بمرافق المقيمين، والمحرم ممنوع عن ذلك، ولأنه نوع نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام فيحرم التعرض له كالنبات الذى استفاد الأمن بسبب الحرم، وكذا لا يطلى رأسه بنورة لأنه فى معنى الحلق، وكذا لا يزيل شعرة من شعر رأسه ولا يطليها بالنورة.
والمحرم كما هو ممنوع من حلق رأس نفسه، ممنوع من حلق رأس غيره ألا أنه لما حرم علية حلق رأس غيره يحرم عليه حلق رأس نفسه من طريق الأولى، وسواء
كان المحلوق حلالا أم حراما، أما قلم الظفر فنقول لا يجوز للمحرم قلم أظفاره لقول الله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم، وليطوفوا بالبيت العتيق ((84) .
وقلم الأظفار من قضاء التفث، رتب الله تعالى قضاء التفث على الذبح لأنه ذكره. بكلمة موضوعة للترتيب مع التراخى يقول الله عز وجل: (ليذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (ثم ليقضوا تفثهم فلا يجوز الذبح، ولأنه ارتفاق بمرافق المقيمين والمحرم ممنوع عن ذلك.
وأما الذى يرجع آلي توابع الجماع فيجب علي المحرم أن يجتنب الدواعى من التقبيل واللمس بشهوة والمباشرة والجماع فيما دون الفرج، لقول الله عز وجل: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله ((85) .
قيل فى بعض وجوه التأويل أن الرفث جميع حاجات الرجال إلي النساء.
وسئلت عائشة - رضى الله تعالى عنها - عما يحل للمحرم من امرأته. فقالت: يحرم عليه كل شىء إلا الكلام.
وأما الذى يرجع إلى الصيد فنقول لا يجوز للمحرم أن يتعرض لصيد البر المأكول وغير المأكول عندنا إلا المؤذى المبتدىء بالأذى غالبا.
والكلام فى هذا الفصل يقع فى مواضع فى تفسير الصيد أنه ما هو وفى بيان أنواعه وفى بيان ما يحل اصطياده للمحرم وما يحرم عليه وفى بيان حكم ما يحرم عليه اصطياده إذا اصطاده.
أما الأول فالصيد هو الممتنع المتوحش من العاس فى أصل الخلقة، أما بقوائمه أو بجناحه فلا يحرم على المحرم ذبح الإبل والبقر والغنم لأنها ليست بصيد لعدم الامتناع والتوحش من الناس، وكذا الدجاج والبط الذى يكون فى المنازل وهو المسمى بالبط الكسكرى لانعدام معنى الصيد فيهما، وهو الامتناع والتوحش.
فأما البط الذى يكون عند الناس ويطير فهو صيد لوجود معنى الصيد فيه، فالعبرة بالتوحش والاستئناس فى أصل الخلقة.
والكلب ليس بصيد ولا بأس بقتل البرغوث والذباب والحلم والقراد والزنبور لأنها ليست بصيد لانعدام التوحش والامتناع. إلا ترى أنها تطلب الإنسان مع امتناعه منها، وينظر تفصيل ذلك فى مصطلح"صيد".
وأما الذى يوجب فساد الحج، فالجماع لقول الله عز وجل: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله ((86) . عن ابن عباس وابن عمر- رضى الله عنهما- أنه الجماع وأنه مفسد للحج (87)
مذهب المالكية:
قال المالكية: يحرم على الأنثى لبس (بضم اللام) مخيط، حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة.
ويتعلق الخطاب بولى الصغيرة بسبب تلبثها بالإحرام بحج أو عمرة بكف لا بدن ورجل كقفاز وكيس تدخله فى كفها أو أصابع من أصابع يدها إلا الخاتم فيغتفر لها دون الرجل.
وحرم عليها ستر وجهها أو بعضه وأو بخمار أو منديل، وهذا معنى قولهم "إحرام المرأة فى وجهها وكفيها فقط " وحرمة ستر وجهها إلا لفتنة أى تعلق قلوب الرجال بها فلا يحرم، بل يجب عليها ستره أن ظنت الفتنة بها بلا غرز للساتر بإبرة ونحوها، وبلا ربط له برأسها كالبرقع تربط أطرافه بعقده بل المطلوب سدله على رأسها ووجهها أو تجعله كاللثام وتلقى طرفيه على رأسها بلا غرز ولا ربط.
ثم قال: ويحرم على الذكر ولو غير مكلف ويتعلق الخطاب بوليه ليس محيط (بضم الميم وبالمهملة (أى بأى عضو من أعضائه كيد ورجل وإصبع مطلقا، ورأس وأولى جميع البدن إذا كان محيطا بنسج أو خياطة أو صياغة ونحو ذلك.
بل وأن كأن محيطا يعقد أو زر كأن يعقد طرفى إزاره أو يجعل له أزرارا أو يربطه بحزام أو خلال بعود ونحوه كخاتم بإصبع رجل وحزام بحبل أو غيره وقباء بفتح القاف ممدودا. وقد يقصر وهو الفرجية من جوخ أو غيره وإن لم يدخل يده بكمه بل ألقاه على كتفيه مخرجا يديه من تحته.
وهذا إن جعل أعلاه على منكبيه علي العادة وحرم أيضا على الذكر ستر وجهه ورأسه بأى شىء، وإن بنوع خاص وهو المخيط.
ثم استثني من حرمة المخيط أمرين، الأول مقيد بقصدين، وثانيهما بواحد. فقال إلا الخف ونحوه مما يلبس فى الرجل كالجرموق والجورب فإنه مخيط. ولا يحرم على الذكر لبسه لفقد نعل أو غلوه فاحشا إن زاد ثمنه على قيمته عادة كثر من الثلث وهذا إشارة إلى القيد الأول فإن لم يجد نعلا أو وجده غاليا علوا فاحشا جاز له لبس الخف ولا فدية.
وأشار للقيد الثانى بقوله إن قطع أسفل من كعب، كما ورد فى السنة سواء كان القاطع له هو أو غيره أو كان من اصل صنعته وإلا الاحترام بثوب أو غيره لعمل أى لأجله فلا يحرم ولا فدية عليه، فإن فرغ عمله وجب نزعه وحرم عليهما (أى على الذكر والأنثى) بالإحرام دهن شعر لرأس أو لحية أودهن جسد لغير علة، وإلا جاز، لأن الضرورات تبيح المحظورات.
وإن كان الإدهان بغير مطيب فأولى بالمطيب، وحرم عليهما إبانة (أى إزالة) ظفر من يد أو رحل لغير عذر، أو إبانة شعر من سائر جسده بحلق أو قص أو نتف أو إبانة وسخ من سائر بدنه إلا ما تحت أظفاره أو غسل يديه بمزيله) (أى الوسخ) كالأسنان فلا يحرم عليهما أو إلا تساقط شعر من لحية أو رأس أو غيرهما لوضوء أو غسل أو لأجل ركوب الدابة فلا شئ عليه.
وحرم عليهما مس طيب كورس أو دهن مطيب بأى عضو من أعضائه، وإن ذهب ريحه (أى الطيب) فذهاب ريحه لا يسقط حرمة مسه، وإن سقطت الفدية أو كان فى طعام أو فى كحل أو مسه ولم يعلق به ألا إذا طبخ بطعام وأستهلك فى الطبخ بذهاب عينه فيه، ولم يبق سوى ريحه أو لونه كزعفران وورس فلا حرمة ولا فدية ولو صبغ الفم أو كان الطيب بقارورة سدت سدا محكما فلا شىء فيه أن حملها لأنه من الاستصحاب لا المس أو أصابه الطيب من إلقاء ريح أو غيره عليه فلا شىء عليه.
كما يحرم على المحرم قطع أو قلع ما ينبت من الأرض بنفسه كشجر الطرفاء والسلم والبقل البرى إلا الأذخر والسنا والسواك والعصا، وما قصد السكنى بموضعه للضرورة أو إصلاح الحوائط (أى ما قطع لاصلاحها) فإنه جائز.
وحرم بالإحرام تعرض لحيوان برى وكذا التعرض لبيضه ما دام وحشيا بل وأن استأنس.
ثم أستثنى من حرمة التعرض للبرى الفأرة، ويلحق بها ابن عرس وكل مايقرض الثياب من الدواب وإلا الحية والعقرب، ويلحق بها الزنبور، ولا فرق بين صغيرها وكبيرها والحدأة والغراب، فلا يحرم التعرض لما ذكر.
وحرم عليهما الجماع والإنزال ومقدماته ولو علم السلامة من منى ومذى.
وجاز للمحرم تظلل ببناء كحائط وسقيفة وخباء خيمة وشجر ومحارة (أى محمل) ومحفة ولو مكث فيها ساترا أو نازلا، لأن ما عليها من الساتر مسمر أو مشدود عليها بحبال فهى كالقباء.
وجاز له اتقاء شمس أو اتقاء ريح عن وجهه أو رأسه بيد بلا لصوق لليد علي ما ذكر لأنه لا يعد ساترا عرفا بخلاف لصوق اليد فإنه يعد ساترا.
وجاز اتقاء مطر أو برد عن رأسه بمرتفع عنه بلا لصوق من ثوب أو غيره وأولى اليد.
أما الدخول فى الخيمة ونحوها فجائز ولو لغير عذر. أما التظلل بالمرتفع غير اليد فلا يجوز كثوب يرفع على عصا ولو نازلا عند مالك.
ومن ذلك المسطح يجعل فيه أعوادا ويسدل عليها ثوب ونحوه للتظلل.
كما يجوز للمحرم حمل لشىء كحشيش وقفة وغرارة على رأسه لحاجة تتعلق به أو بدوابه كالعلف أو فقر، فيحمل شيئا لغيره بأجره لمعاشه بلا تجارة، الا منع وافتدى.
كما يجوز له شد منطقة بوسطه، والمراد بها يجعل كالكيس يوضع فيه الدراهم وجواز شدها بوسطه مقيد بقيدين أشار للأول بقوله: أن كان لنفقته التى ينفقها علي نفتقه وعياله ودوابه لا لنفقة غيره ولا لتجارة وأشار إلى الثانى بقوله: وكان الشد على جلده لا على إزاره أو ثوبه وجاز حينئذ إضافة نفقة غيره لها تبعا، كما يجوز للمحرم إبدال ثوبه الذى أحرم به بثوب آخر ولو لقمل فى الأول 0
وجاز له بيعه، وجاز له غسله لنجاسته بالماء الطهور فقط دون صابون ونحوه ولا شىء عليه حينئذ لو قتل شيئا من الهوام كالبرغوث، وألا بأن غسله لا لنجاسة أو لنجاسة ولكن ينحو صابون فلا يجوز فإن قتل شيئا أخرج ما فيه إلا أن يتحقق عدم دوابه فلا يحرم غسله بل يجوز مطلقا ولو ترفها أو لوسخ.
وجاز له بط جرح ودمل لإخراج ما فيه من قيح.
وجاز له حك ما خفى من بدنه كرأسه وظهره يرفق حتى لا يقع فى محظور. أما ما ظهر له من بدنه فيجوز حكه مطلقا ما لم يكن يوقعه ذلك فى محظور.
وجاز فصد لحاجة أن لم بعصبه وألا بأن عصبه بعصابة ولو لضرورة أفتدى.
وكره وضع وجهه على وسادة ونحوها لا وضع خده عليها وكره شم طيب مذكر وهو ما خفى أثره ويبقى ريحه كريحان وياسمين وورد وسائر أنواع الرياحين لا مجرد مسه فلا يكره، ولا مكث بمكان فيه ذلك ولا استصحابه.
وكره مكث بمكان فيه طيب مؤنث كمسك وعطر وزعفران.
وكره استصحابه فى خرج أو صندوقه، وكره شمه بلا مس له وألا حرم، وكره حجامة بلا عزر أن لم يزل شعرا، والإحرام لغير عذر.
وكره غمس رأس فى ماء خيفة قتل الدواب لغير غسل طلب وجوبا أو نديا أو استنانا 0
وكره تجفيف الرأس بقوة خوف قتل الدواب لا بخفة، فيجوز 0
وكره نظر فى مرآه مخافة أن يرى شيئا فيزيله، وفعل شىء من هذه لا فدية فيها وجاز للمحرم كل صيد صاده حل لحل لنفسه أو لغيره بخلاف ما صاده لمحرم (88) .
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: إذا احرم الرجل حرم عليه حلق الرأس لقول الله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله ((89)
ويحرم عليه حلق شعر سائر البدن لأنه حلق يتنظف به ويترفه به، فلم يجز كحلق الرأس.
ويجوز له إن يحلق شعر غير المحرم، لأن نفعه يعود إلى الحلال فلم يمنع منه، كما لو أراد يعممه أو يطيبه. ويحرم عليه أن يقلم أظفاره لأنة جزء ينمى، وفى قطعه ترفيه وتنظيف فمنع الإحرام منه كحلق الشعر.
ويحرم عليه ان يستر رأسه، لما روى ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فى المحرم الذى خر من بعيره (أى سقط من فوقه) " لا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ".
ويجوز إن يحمل على رأسه مكتلا (قفة أو نحوها) لا يقصد به الستر فلم يمنع منه.
ويجوز أن يترك يده على رأسه لأنه يحتاج آلي وضع اليد على الرأس فى المسح فعفى عنه.
ويحرم عليه لبس القميص، لما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فى المحرم " لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا العمامة ولا الخف، إلا ألا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران،، وتجب به الفدية لأنه فعل محظور فى الإحرام فتعلقت به الفدية كالحلق، ولا فرق بين أن يكون ما يلبسه من الخرق أو الجلود أو اللبود أو الورق، ولا فرق بين أن يكون مخيطا بالإبرة أو ملصقا بعضه إلى بعض، لأنه فى معنى المخيط والعباءة والدراعة كالقميص فيما ذكرناه لأنه فى معنى القميص.
ويحرم عليه ليس السراويل لحديث ابن عمر رضى الله عنه وإن شق الإزار وجعل له ذيلين وشدهما على ساقيه لم يجز، لأنهما كالسراويل.
ويجوز أن يعقد عليه إزاره لأن فيه. مصلحه له وهو أن يثبت عليه، ولا يعقد الرداء عليه لأنه لا حاجة به إليه، وله أن يغرز طرفيه فى إزاره وان جعل لإزاره حجزة وأدخل فيها التكة واتزر بها جاز، وإن اتزر وشد فوقه تكة جاز.
قال فى الإملاء: وإن زره أو خاطه أو شوكه لم يجز، لأنه يصير كالمخيط وإن لم يجد إزارا جاز أن يلبس السراويل، لما روى ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجد إزارا فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، فإن لم يجد رداء لم يلبس القميص لأنه يمكنه أن يرتدى به ولا يمكنه أن يتزر بالسراويل، فإن لبس السراويل ثم وجد الإزار لزمه خلعه ويحرم عليه لبس الخفين للخبر فإن لم يجد نعلين لبس الخفين بعد أن يقطعهما من أسفل الكعبين للخبر فإن لبس الخف
مقطوعا من اسفل الكعب مع وجود النعل لم يجز على المنصوص.
ومن أصحابنا من قال يجوز لأنه قد صار كالحل بدليل انه لا يجوز المسح عليه، وهذا خلاف المنصوص وخلاف السنة.
وما ذكره من المسح لا يصح لأنه وأن لم يجز المسح ألا أنه يترفه به فى دفع الحر والبرد والأذى، ولأنه يبطل بالخف المخرق فإنه لا يجوز المسح عليه ثم يمنع من لبسه ويحرم عليه لبس القفازين ولا يحرم عليه ستر الوجه، لقول النبى صلى الله عليه وسلم فى الذى سقط عن بعيره " لا تخمروا ر اسه، خص الرأس بالنهى.
ويحرم على المرأة ستر الوجه، لما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلي الله عليه وسلم نهى النساء فى إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب، وليلبسن بعد ذلك ما اختير من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلى أو سراويل أو قميص أو خف.
ويجوز أن تستر من وجهها ما لا يمكن ستر الرأس ألا بستر لأنه لا يمكن ستر الرأس ألا بسترة فعفى عن ستره، فإن أرادت ستر وجهها عن الناس سدلت علي وجهها شيئا لا يباشر الوجه، لما روت عائشة رضى الله عنها قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا، ولأن الوجه من المرآة كالرأس من الرجل ثم يجوز للرجل ستر الرأس من الشمس بما لا يقع عليه، فكذلك المرآة فى الوجه ولا يحرم عليها لبس القميص والسراويل والخف، لحديث ابن عمر- رضى الله عنه- ولأن جميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين فجاز لها ستره لما ذكرناه، وهل يجوز لها لبس القفازين؟ فيه قولان:
أحدهما: انه يجوز، لأنه عف ويجوز لها ستره بغير المخيط فجاز لها ستره بالمخيط كالرجل.
والثانى: لا يجوز للخبر، وهو حديث أبن عمر السابق، ولأنه عضو ليس بعورة منها فتعلق به حرمة الإحرام فى اللبس كالوجه، ويحرم عليه استعمال الطب فى ثيابه وبدنه لحديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عيه وسلم قال ولا تلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران، ولا يلبس ثوبا مبخرا بالطيب ولا ثوبا مصبوغا بالطيب وإن علق بخفه طيب لأنه ملبوس فهو كالثوب.
ويحرم عليه استعمال الطيب فى بدنه ولا يجوز أن يأكله ولا أن يكتحل به ولا يستعطيه ولا يحتقن به، فإن استعمله فى شىء من ذلك لزمته الفدية لأنه إذا وجب ذلك فيها يستعمله بالثياب فلأن يجب فيما يستعمله ببدنه أولى، وان كان الطيب فى طعام نظرت فإن ظهر ذلك فى طعمه أو رائحته لم يجز أكله، أما غير المطيب كالزيت والشيرج فإنه يجوز استعماله فى غير الرأس واللحية لأنه ليس فيه طيب ولا تزين. ويحرم استعماله فى شعر الرأس واللحية لأنه يرجل الشعر ويربيه فإن استعمله فى رأسه وهو أصلع جاز، لأنه ليس فيه تزين وإن استعمله فى رأسه وهو محلوق لم يجز لأنه يحسن الشعر إذا نبت.
ويجوز أن يجلس عند العطار فى موضع يبخر لأن فى المنع من ذلك مشقة ولأن ذلك ليس بطيب مقصود.
والمستحب أن يتوقى ذلك إلا أن يكون فى موضع قربة كالجلوس عند الكعبة وهى تجمر فلا يكره ذلك لأن الجلوس عندها قربة فلا يكره تركها لأمر مباح.
وله أن يحمل الطيب فى خرقة أو قارورة والمسك فى نافجة (وهو وعاء المسك) وأن مس طيبا فعبقت به رائحته ففيه قولان: أحدهما: لا فدية عليه لأنه رائحة عن مجاور فلم يكن لها حكم كالماء إذا تغيرت رائحته بجيفة بقربه.
والثانى: يجب، لأن المقصود من الطيب هو الرائحة وقد حصل ذلك وأن احتاج المحرم إلى اللبس لحر شديد أو برد شديد أو احتاج إلى الطيب لمرض أو إلى حلق الرأس للأذى أو إلى شعر رأسه بعصابة لجراحة عليه أو إلى ذبح الصيد للشجاعة لم يحرم عليه..
وإن نبت فى عينه شعرة فقلعها أو نزل شعر الرأس إلي عينه فغطاها فقطع ما غطى
العين أو انكسر شىء من ظفره فقطع ما أنكسر منه أو صال عليه صيد فقتله دفعا عن نفسه جاز.
ويحرم عليه أن يتزوج وان يزوج غيره بالوكالة والولاية الخاصة، فإن تزوج أو زوج فالنكاح باطل، لما روى عثمان رضى الله عته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينكح المحرم ولا يخطب ولا ينكح ". ولأنه عبادة تحرم الطيب فحرمت النكاح كالعدة.
ويحرم عليه الوطء فى الفرج لقول الله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج (.
قال ابن عباس: الرفث الجماع.
ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج، لأنه إذا حر م عليه النكاح فلأن تحرم المباشرة وهى أدعى إلى الوطء أولى.
ويحرم عليه الصيد المأكول من الوحش والطير، ولا يجوز له أخذه لقول الله تعالى: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما (، فإن أخذه لم يملكه بالأخذ لأن ما منع آخذه لحق الغير لم يملكه بالأخذ من غير أذنه كما لو غصب مال غيره.
وحرم عليه قتله. ويحرمه عليه أن يعين على قتله، بدلالة أو إعارة آلة، لأن ما حرم قتله حرمت الإعانة علي قتله كالآدمى، وان أعان على قتله بدلالة أو أعاره آلة فقتل لم يلزمه الجزاء، ولأن ما لا يلزمه حفظه لا يضمنه بالدلالة على إتلافه كمال الغير. ويحرم عليه أكل صيده، لما روى جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " الصيد حلال لهم ما لم تصيدوا أو يصاد لكم) .
ويحرم عليه آكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة، لما روى عبد الله بن أبى قتادة رضى الله عنه، قال: كان أبو قتادة فى قوم محرمين، وهو حلال فأبصر حمار وحش فاختلس من بعضهم سوطا فضربه حتي صرعه، ثم ذبحه وأكل هو وأصحابه فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هل أشار إليه أحد منكم ". قالوا: لا. فلم ير بأكله بأسا.
وإن كان الصيد غير مأكول نظرت فإن كان متولدا مما يؤكل كالسبع المتولد بين الذئب والضبع، والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل، فحكمه حكم ما يؤكل فى تحريم صيده، لأنه اجتمع فيه جهة التحليل والتحريم فغلب التحريم كما غلب جهة التحريم فى أكله، وان كان حيوانا لا يوكل ولا هو متولد مما يؤكل فالحلال والحرام فيه واحد لقول الله تعالى: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما (فحرم من الصيد ما يحرم بالإحرام، وهذا لا يكون إلا فيما يوكل، وهل يكره قتله أو لا يكره ينظر فيه فإن كان مما يضر ولا ينفع كالذئب والأسد والحية والعقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور والبق والبرغوث والقمل والزنبور، فالمستجب أن يقتله لأنه يدفع ضرره عن نفسه وعن غيره، وإن كان مما ينتفع به ويستضر به كالفهد والبازى، فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة، ولا يكره لما فيه من المضرة.
وإن كان مما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان فإنه يكره قتله ولا يحرم 0 وما حرم على المحرم من الصيد حرم عليه بيضه، ويكره المُحِرم أن يحك شعره بأظفاره حتى لا ينتثر شعره ويكره أن يفلى رأسه ولحيته.
ويكره أن يكتحل بما لا طيب فيه لأنه زينة، والحج أشعث أغبر، فإن احتاج إليه لم يكره لأنه إذا لم يكره ما يحرم من الحلق والطيب للحاجة فلأن لا يكره ما لا يحرم أولى.
ويجوز أن يدخل الحمام ويغتسل بالماء لما روى أبو أيوب رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم.
ويجوز أن يغسل شعره بالماء والسدر، لما روى ابن عباس- رضى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى المحرم الذى سقط عن بعيره: " اغسلوه بماء وسدر " ويجوز أن يحتجم ما لم يقطع شعرا، لما روى ابن عباس - رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ويجوز أن يقتصد أيضا، كما يجوز أن يحتجم ويجوز أن يستظل سائرا ونازلا، لما روى جابر - رضى الله عنه - أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فإذا ثبت جواز ذلك بالحرم نازلا، وجب أن يجوز سائرا قياسا عليه.
ويكره أن يلبس الثياب المصبغة، لما روى أن عمر رضى الله عنه رأى على طلحة رضى الله عنه ثوبين مصبوغين وهو حرام، فقال أيها الرهط أنتم أئمة يقتدى بكم ولو أن جاهلا رأى عليك ثوبيك لقال قد كان طلحة يلبس الثياب المصبغة وهو محرم فلا يلبس أحدكم من هذه الثياب المصبغة فى الإحرام شيئا.
ويكره أن يحمل بازا أو كلبا معلما لأنه ينفر به الصيد، وربما انفلت فقتل صيداً وينبغى أن ينزه إحرامه عن الخصومة والشتم والكلام القبيح لقول الله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله ((90) .
قال ابن عباس الفسوق المنابذة بالألقاب وتقول لأخيك: يا ظالم يا فاسق والجدال أن تمارى صاحبك حتى تغضبه.
وروى أبو هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حج لله عز وجل فلم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أمه " (91) .
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: المحظورات هى ما يحرم على المحرم فعلها بسبب الإحرام، وهى تسعة، أحدها: إزالة الشعر من جميع بدنه ولو من أنفه بحلق أو قلع أو نتف بلا عذر لقول الله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله ((92) ودخل فى الآية سائر شعر البدن لأنه فى معناه.
الثانى: تقليم الأظافر إلا من عذر، لأنه يحصل به الرفاهية فأشبه إزالة الشعر إلا من عذر، فيباح عند العذر، ويجوز له قص ظفر. الذى انكسر لأنه يؤذيه بقاؤه أو وقع بظفره مرض فيجوز له قصه، ويجوز له حك بدنه ورأسه برفق ما لم يقطع شعرا وله غسل رأسه وبدنه، وقد فعل ذلك عمر رضى الله عنه وابنه وأرخص فيه على وجابر رضى الله عنهما وللمحرم أيضا غسل رأسه بسدر وصابون وأشنان لقوله عليه الصلاة والسلام فى المحرم الذى وقصته راحلته: " اغسلوه بماء وسدر ".
الثالث: تغطية الرأس إجماعاً لنهيه صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم: وقوله فى المحرم الذى وقصته راحلته: " لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" والأذنان من الرأس، فما كان من الرأس حرام على الرجل تغطيته.
ويجوز تلبيد رأسه بعسل وصمغ ونحوه لئلا يدخله غبار أو دبيب لحديث ابن عمر- رضى الله عنه-: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا- متفق عليه - ولا شىء عليه لأنه لم يفعل محظورا. ولو كان فى رأسه طيب مما فعله قبل الإحرام لحديث ابن عباس - رضى الله عنه - كأنى أنظر إلى وبيص المسك فى رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، وكذلك إن حمل على رأسه شيئا أو وضع يده عليه لأن ذلك لا يدوم أو نصب حياله ثوبا لحر أو برد وسواء أمسكه إنسان أو رفعه يعود لما روت أم الحصين، قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت بلالا وأسامة رضى الله عنهما وأحدهما آخذ بخطا ناقته والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة، رواه مسلم وعليه اعتمد القاضى غيره لأنه يسير لا يراد للاستدامة بخلاف الاستظلال بالمحمل وإن استظل بخيمة أو شجر ولو طرح عليها شيئا يستظل به أو استظل بسقف وجدار ولو قصد به الستر فلا شىء عليه لحديث جابر - رضى الله عنه - أن النبى صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة بنمرة فنزلها، (رواه مسلم) ولأنه لا يقصد به الترفه فى البدن عادة، وكذا لو غطى الرجل وجهه فيجوز.
الرابع: لبس الرجل المخيط قل أو كثر فى بدنه، أو بعضه من قميص وعمامة وسراويل ونحوها: كالخفين أو أحدهما للرجلين، وكالقفازين لليدين، فإن لم يجد إزارا لبس السراويل، وإن عدم نعلين لبس خفين بلا فدية لقول ابن عباس - رضى الله عنه - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطب بعرفات يقول: " السراويل لمن لم يجد الإزار والخفان لمن لم يجد النعلين " - متفق عليه-
وإن أتزر المحرم بقميص فلا بأس به لأنه ليس لبسا للمخيط، ويحرم قطع الخفين وعنه يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين وجوزه جمع.
قال الموفق وغيره: الأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الاختلاف وإن لبس مقطوعا من خفه وغيره دون الكعبين مع وجود نعل حرم ويباح النعل ولو كانت بعقب.
ويجوز له شد وسطه بمنديل وحبل ونحوهما إذا لم يعقده.
قال الإمام أحمد فى محرم حزم عمامته على وسطه لا يعقدها ويدخل بعضها فى بعض لاندفاع الحاجة بذلك.
قال طاووس فعله ابن عمر - رضى الله عنه - إلا إزاره فله أن يعقده لحاجة ستر العورة وله أن يلتحف بقميص ويرتدى به وبرداء موصل لأن ذلك كله ليس بلبس المخيط المصنوع لمثله ولا يعقده ويتقلد المحرم بسيف للحاجة، ولا يجوز لغير حاجة.
الخامس: الطيب إجماعا لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمر بعلى بن أمية بغسل الطيب وقال فى المحرم الذى وقصته ناقته: " لا تحنطوه "، ولمسلم: " لا تمسوه بطيب " فيحرم على المحرم بعد إحرامه تطييب بدنه وثيابه ويحرم عليه ليس ما صبغ بزعفران أو ورس أو ما غمس فى ماء ورد أو بخر بعود ونحوه، وكذلك يحرم عليه الجلوس والنوم على ما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس فى ماء ورد أو بخر بعود، ويحرم كذلك الاكتحال بمطيب والاحتقان به وشم الأدهان المطيبة والأدهان بها.
ويحرم علي المحرم شم مسك وكافور، وعنبر وماء ورد.
ويحرم عليه كذلك أكل وشرب ما فيه طيب يظهر طعمه أو ريحه، ولو مطبوخا أو مسته النار حتى ولو ذهبت رائحته وبقى طعمه لأن الطعم مستلزم الرائحه فإن بقى اللون فقط دون الطعم والرائحة فلا بأس بأكله لذهاب المقصود منه وله شم الفواكه كلها، وكذا نبات الصحراء وما ينبته الآدمى لغير قصد الطيب كحناء وعصفر وقرنفل ونحوه.
أما ما ينبت لطيب كورد وبنفسج فيحرم شمه.
السادس: قتل صيد البر المأكول وذبحه إجماعا لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ((93) . وقول الله عز وجل (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ((94) . فيحرم صيده وأذاه، ويحرم الدلالة عليه والإشارة والإعانة ولو بإعارة سلاح ليقتله أو ليذبحه به.
ويحرم أكل المحرمة مما صاد أو صاده غيره بإعانته أو الدلالة عليه أو كان مما صيد لأجله.
السابع: عقد النكاح، فلا يتزوج المحرم ولا يزوج غيره بولاية ولا وكالة، لما روى مسلم عن عثمان - رضى الله عنه- مرفوعا: لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب. والاعتبار بحالة العقد فى الوكالة فلو وكل محرم حلالا فى عقد النكاح، فعقله بعد حله من إحرامه صح عقده لوقوعه حال حل الوكيل والموكل.
الثامن: الجماع فى القبل أو الدبر من أدمى أو غيره، لقول الله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ((95) .
قال ابن عباس رضى الله عنه: الرفث الجماع، لما ورد فى قول الله عز وجل: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ((96) .
التاسع: المباشرة فيما دون الفرج بشهوة، ولو بقبلة أو لمس، وكذا النظر لشهوة لأنه وسيلة إلى الوطء المحرم فكان حراما، وإحرام المرأة فيما تقدم كالرجل، فيحرم عليها ما يحرم عليه إلا فى اللباس (أى لباس المخيط) فلا يحرم عليها لبس المخيط وتغطية الرأس، وإنما إحرامها فى وجهها فيحرم عليها تغطيته لغير حاجة ببرقع أو نقاب أو غيره، لحديث ابن عمر - رضى الله عنه - " لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين "، فإذا كانت هناك حاجة تستدعى تغطية وجهها كمرور رجال قريبا منها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لفعل عائشة - رضى الله عنها -
ويجوز لها التحلى بالخلخال والسوار ونحوهما.
ويجوز للمحرم أن يتجر وان يصنع الصانع ما لم يشغله ذلك عن واجب أو مستحب، وأن يرتجع زوجته لأن الرجعة إمساك بدليل قول الله تعالى: (فامسكوهن بمعروف ((97) ، فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق. وللمحرم أن يقتل الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور، وكل ما عدا عليه أو آذاه، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الثورى وإسحاق وأصحاب الرأى، لما روت عائشة رضى الله عنها، قالت: أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق فى الحرم: الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور وعن ابن عمر- رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خمس من الدواب ليس على المحرم جناح فى قتلهن"، وذكر مثل حديث عائشة - رضى الله عنها - السابق.
ويحل للمحرم صيد البحر لقول الله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ((98)
واجمع أهل العلم على أن صيد البحر للمحرم مباح اصطياده وأكله وبيعه وشراؤه.
ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش، ولا بقطع ما أنكسر ولم يبن وإنما يحرم قطع الشوك والعوسج بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم: " لا يعضد شجرها ". وفى حديث أبى هريرة " لا يختلى شوكها ".
وقال القاضى وأبو الخطاب: لا يحرم وأجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم ونباته إلا الأذخر وما زرعه الإنسان ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها (99) .
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى (100) : يحرم على المحرم لبس القميص والسراويل والعمامة والقلنسوة والجبة والبرنس والخفين والقفازين البتة، ولا يحل له أن يتزر ولا أن يلتحف فى ثوب صبغ كله أو بعضه بورس أو زعفران أو عصفر.
أما بالنسبة للمرأة فلا تنتقب أصلا ولا يحل لها أن تلبس شيئا صبغ كله أو بعضه بورس أو زعفران، ولا أن تلبس قفازين فى يدها، برهان ذلك ما روى عن يحيى ابن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر - رضى الله عنه - قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه ومسلم ما يلبس المحرم من الثياب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران ولا الورس، ثم يجتنبان (101) تجديد قصد إلى الطيب فإن مسهما من طيب الكعبة شىء لم يضر، أما اجتناب القصد إلى الطيب فلا نعلم فيه خلافا، وأما إن مسه شىء من، طيب الكعبة أو غيرها من غير قصد فلأنه لم يأت فيه نهى.
ولا يحل للمحرم (102) بالعمرة أو بالحج تصيد شىء مما يصاد ليؤكل ولا وطء كان له حلالا قبل إحرامه ولا لباس شىء مما ذكرنا قبل أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن لباسه المحرمة.
قال الله تعالى: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ((103) وقول الله عز وجل: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ((104) . وكل من تعمد معصية (105) (أى معصية كانت وهو ذاكر لحجه، مذ يحرم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ويرمى الجمرة) فقد بطل حجه، فإن أتاها ناسيا لها أو ناسيا لإحرامه ودخوله فى الحج أو العمرة فلا شىء عليه فى نسيانها وحجه وعمرته تامان فى نسيانه كونه فيهما، وذلك لقول الله عز وجل: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ((106) فكان من شرط الله تعالى فى الحج براءته من الرفث والفسوق، فمن لم يتبرأ منهما فلم يحج كما أمر، ومن لم يحج كما أمر فلا حج له، ويبطل الحج (107) تعمد الوطء فى الحلال من الزوجة والأمة ذاكرا لحجه أو عمرته. وكذلك يبطل بتعمده أيضا حج الموطوءة وعمرتها، قال الله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ((108) والرفث الجماع وإن وطىء وعليه بقية من طواف الإفاضة أو شىء من رمى الجمرة فقد بطل حجة كما قلنا للآية السابقة.
ومن قتل صيدا (109) متصيدا له ذاكراً لإحرامه عامداً لقتله، فقد بطل حجه أو عمرته لبطلان إحرامه، قال الله عز وجل: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ((110) فحرم الله تعالى عليه أن يقتل الصيد متعمداً فى إحرامه، فإذا فعل فلم يحرم كما أمر لأن الله تعالى إنما أمره بإحرام ليس فيه تعمد قتل صيد، وهذا الإحرام هو بلا شك غير الإحرام الذى فيه تعمد قتل الصيد، فلم يأت بالإحرام الذى أمره الله تعالى به. وأيضا فإن الله تعالى قال: (الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ((111) ولا خلاف فى أن تعمد قتل الصيد فى الإحرام فسوق، فمن فسق فى حجه فلم يحج كما أمر، ومن لم يحج كما أمر فلم يحج.
قال أبو محمد (112) : وكل فسوق تعمده المحرم ذاكرا لإحرامه فقد بطل إحرامه وحجه وعمرته لقول الله عز وجل: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ((113) ، فصح أن من تعمد الفسوق ذاكرا لحجه أو عمرته فلم يحج كما أمر.
ويحرم على المحرم الجدال بالباطل (114) ، وفى الباطل عمدا، ذاكرا لإحرامه مبطل للإحرام وللحج للآية السابقة. ولا يحل لرجل (115) ولا لامرأة أن يتزوجا أو تتزوج، ولا أن يزوج الرجل غيره من وليته ولا أن يخطب خطبة نكاح مذ يحرمان إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر ويدخل وقت رمى جمرة العقبة، ويفسخ النكاح قبل الوقت المذكور كان فيه دخول وطول مدة وولادة أو لم يكن، فإذا دخل الوقت المذكور حل لهما النكاح والإنكاح، وله أن يراجع زوجته المطلقة ما دامت فى العدة فقط، وله أن يراجعها زوجها كذلك أيضا ما دامت فى العدة، لما روى: لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب.
وإن قتل المحرم الصيد (116) عامدا لقتله ذاكرا لإحرامه أو لأنه فى الحرم فهو عاص لله تعالى وحجه باطل وعمرته كذلك للآية السابقة، وهو قول الله عز وجل: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ((117)
فلو أمر محرم حلالا (118) بالتصيد فإن كان ممن يطيعه ويأتمر له، فالمحرم هو القاتل للصيد فهو حرام ولو اشترك حلال ومحرم فى قتل صيد كان ميتة لا يحل أكله، لأنه لم تصح فيه الذكاة خالصة، ولا يحل لأحد (119) قطع شىء من شجر الحرم بمكة والمدينة ولا شوكة فما فوقها ولا من حشيشه حاشا الأذخر عن برهان ذلك ما روى عن ابن عباس - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلى ولم يحل لى إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة لا يعضد شجره ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها ".
قال العباس رضى الله عنه: يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقينهم (120) ولبيوتهم.
فقال: إلا الأذخر. ويجوز للمحرم (121) أن يلتحفه بما شاء من كساء أو ملحفة أو رداء، ويتزر ويكشف رأسه ويلبس نعليه.
فإن كانت امرأة فلتلبس ما شاءت من كل ما ذكرنا لأنه لا يلبسه الرجل، وتغطى رأسها، لكن إما أن تكشف وجهها وإما أن تسدل عليه ثوبا من فوق رأسها فذلك لها إن شاءت، ولها أن تلبس الخفاف والمعصفر فإن لم يجد الرجل إزارا فليلبس السراويل كما هى، وأن لم يجد نعلين فليقطع خفيه تحت الكعبين ولابد، ويلبسهما كذلك.
ولا بأس أن يغطى الرجل وجهه بما هو ملتحف به أو بغير ذلك، ولا كراهة فى ذلك، ولا بأس أن تسدل المرأة الثوب من على رأسها على وجهها.
أما المرأة فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهاها عن النقاب، ولا يسمى السدل نقابا، فإن كان البرقع يسمى نقابا لم يحل لها لباسه (122) لحديث ابن عمر- رضى الله عنه- السابق " ما يلبس المحرم ... إلخ " ويجوز للمحرم الجدال فى واجب وحق فى الإحرام (123) قال الله عز وجل: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين ((124) . ومن جادل فى طلب حق له فقد دعا إلى سبيل ربه تعالى، وسعى فى إظهار الحق والمنع من الباطل، وهكذا كل من جادل فى حق لغيره أو لله عز وجل. وجائز للمحرمين من الرجال والنساء أن يتظلوا فى المحامل إذا نزلوا، والكلام مع الناس (125) فى الطواف جائز، وذكر الله أفضل لأن النص لم يأت يمنع من ذلك.
وقال الله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم ((126) ، فما لم يفصل تحريمه فهو حلال.
ومن تصيد صيدا (127) فقتله وهو محرم بعمرة أو بقران أو بحجة تمتع ما بين أول إحرامه إلى دخول وقت رميه جمرة العقبة أو قتله محرم أو محل فى الحرم، فإن فعل ذلك عامدا لقتله غير ذاكر لإحرامه أو لأنه فى الحرم أو غير عامد لقتله سواء كان ذاكرا لإحرامه أو لم يكن فلا شىء عليه، وذلك الصيد جيفة لا يحل أكله (128) وحلال للمحرم ذبح ما عدا الصيد مما يأكل الناس من الدجاج والأوز المتملك والبرك المتملك وهو طائر من طيور الماء) والحمام المتملك والإبل والبقر والغنم والخيل وكل ما ليس صيدا،الحل والحرم سواء، وهذا لا خلاف فيه من أحد.
وكذلك يذبح كل ما ذكرنا الحلال فى الحرم بلا خلاف أيضا، والنص لم يمنع من ذلك.
وجائز للمحرم (129) فى الحل والحرم وللمحل فى الحرم والحل قتل كل ما ليس بصيد من الخنازير والأسد والسباع والقمل والبراغيث وقردان بعيره أو غير بعيره والحلم (القراد العظيم) كذلك، ونستحب لهم قتل الحيات والفيران والحدأة والغربان والعقارب والكلاب العقورة صغار كل ذلك وكباره سواء، وكذلك الوزغ وسائر الهوام، فإن قتل ما نهى عن قتله من هدهد أو صرد أو ضفدع أو نمل فقد عمى، برهان ذلك ما ذكرنا أن الله عز وجل أباح قتل ما ذكرنا ثم لم ينه المحرم إلا عن قتل الصيد فقط ولا نهى إلا عن صيد الحرم فقط.
وجائز للمحرم (130) دخول الحمام والتدلك وغسل رأسه بالطين والخطمى والاكتحال والتسويك والنظر فى المرآة وشم الريحان وغسل ثيابه وقص أظفاره وشاربه ونتف إبطه والتنور ولا حرج فى شىء من ذلك ولا شىء عليه فيه لأنه لم يأت فى منعه من كل ما ذكرنا قرآن ولا سنة.
وكل ما صاده (131) المحل فى الحل فأدخله الحرم أو وهبه لمحرم أو اشتراه محرم فحلال للمحرم ولمن فى الحرم ملكه وذبحه وأكله. وكذلك من أحرم وفى يده صيد قد ملكه قبل ذلك أو فى منزله قريبا أو بعيداً أو فى قفص معه فهو حلال له كما كان كله وذبحه وملكه وبيعه. وإنما يحرم عليه ابتداء التصيد للصيد وتملكه وذبحه حينئذ، فلو ذبحه لكان ميتة ولو أنتزعه حلال من يده لكان للذى انتزعه ولا يملكه المحرم، وإن أحل إلا بأن يتحدث له تملكا بعد إحلاله، برهان ذلك أن الله تعالى قال (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ((132) .
فلو أمر محرم (133) حلالا بالتصيد فإن كان ممن لا يأتمر له ولا يطيعه فليس المحرم هنا قاتلا بل أمر بمباح حلال للمأمور ومباح للمحرم أن يقبل امرأته ويباشرها ما لم يولج لأن الله تعالى لم ينه إلا عن الرفث والرفث الجماع فقط وللمحرم أن يشد المنطقة (134) على إزاره إن شاء أو على جلده، ويحتزم بما شاء ويحمل خرجه على رأسه ويعقد إزاره عليه ورداءه إن شاء ويحمل ما شاء من الحمولة على رأسه ويعصب على رأسه لصداع أو لجرح ويجبر كسر ذراعه أو ساقه ويعصب على جراحه وخراجه وقرحه، ويحرم فى أى لون شاء حاشا ما صبغ بورس أو زعفران لأنه لم ينه عن شىء مما ذكرنا قرآن ولا سنة.
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: محظورات الإحرام عندهم أنواع أربعة:
الأول منها: هو الرفث، والمراد به منا الكلام الفاحش (وفى غيره الوطء) ، وكذلك الفسوق كالظلم والتعدى والتكبر والتجبر والجدال بالباطل فإن كان لإرشاد المخالف جاز.
ويحرم التزين بالكحل ونحوه من الأدهان التى فيها زينة.
ويحرم لبس ثياب الزينة كالحرير، والحلي فى حق المرأة عندنا والمعصفر والمزعفر والمورس، وكذلك فى حق الرجل. ولا يعقد المحرم لنفسه ولا لغيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ". ولا تحرم الشهادة من المحرم على زواج المحل، أما على زواج المحرم فمحظورة وكذلك لا تحرم الرجعة ولو بعقد ولأن الرجعة إمساك لا نكاح، ولم يرد النهى إلا فى النكاح.
والنوع الثانى من المحظورات الوطء ومقدماته من لمس أو تقبيل لشهوة، فذلك من غير إجماعا ويكره اللمس من غير ضرورة ولو لم تقارنه شهوة.
والنوع الثالث من المحظورات لبس الرجال المخيط، لما رواه سالم عن ابن عمر عن أبيه - رضى الله عنهما - قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يترك المحرم من اللباس فقال: " لا يلبس القميص والبرنس ولا السراويل ولا العمامة ولا ثوبا مسه ورس وزعفران ولا الخفين إلا ألا يجد نعلين، ومن لا يجد نعلين فلبس الخفين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين".
ويحرم تغطية رأس الرجل لأن إحرامه فى رأسه عندنا وتغطية وجه المرأة لأن إحرامها فى وجهها وتغطيتهما بأى مباشر لهما محظور، سواء كان الغطاء لباسا كالقلنسوة للرجل والنقاب والبرقع للمرأة أو غير لباس كالظلة إذا باشرت الرأس أو كالثوب إذا رفع ليستظل به، فباشر الرأس فأما إذا غطيا الرأس والوجه بشىء لا يباشرهما كالخيمة المرتفعة ونحو أن تعمم المرأة ثم ترسل النقاب فوق العمامة بحيث لا يمس الوجه فإن ذلك جائز.
ويحرم التماس الطيب ولا يجوز شمه ولا مسه إذا كان ينفصل ريحه وإلا جاز ولا يجوز أن يأكل طعاما مزعفرا إلا ما أذهبت النار ريحه ولا يلبس ثوبا مبخرا ويحرم أكل صيد البر فقط سواء اصطاده هو أم محرم غيره أم حلال اصطاده له أو لغيره فأكله محظور.
ولا يجوز تخضيب الأصابع من اليدين أو الرجلين، ولا تقصير كل أظافر أصابع اليدين والرجلين، ولا تخضيب أو تقصير خمس أصابع ولو كانت متفرقة فى اليدين أو الرجلين، ويحظر إزالة سن أو شعر من جسد المحرم سواء أزال ذلك بنفسه أو أزالها من جسد إنسان محرم غيره والنوع الرابع من المحظورات: قتل بعض الحيوان، وهو نوعان: أحدهما يستوى فيه العمد والخطأ، وهو قتل القمل، فإنه لا يجوز للمحرم. والنوع الثانى الذى يختلفا فيه العمد والخطأ هو قتل كل حيوان متوحش وإن تأهل، وإنما يحرم قتله بشرط أن يكون مأمون الضرر، أما لو خشى المحرم من ضرره جاز له قتله إذا خاف ضرره بأن يعدو عليه إلا ما أباح الشرع قتله فذلك جائز، وهى الحية والعقرب والفأرة والغراب والحدأة سواء كان القتل مباشرة أو تسببا إلا الصيد البحرى فإنه يجوز للمحرم قتله وأكله، وكذلك الصيد الأهلى من الحيوانات كالخيل وكل ما يؤكل لحمه (135) .
ويحظر على المحرم قتل صيد مكة والمدينة سواء ما يؤكل وما لا يؤكل إذا كان مأمون الضرر فإنه محرم قتلة، والعبرة بموضع الإصابة لا بموضع الموت. وكذلك يحرم قطع شجرهما ورعيه، وإنما يحظر قطع الشجر بشرط أن يكون أخضر فلو كان يابسا جاز قطعه، وبشرط أن يكون غير مؤذ، فلو كان مؤذيا كالعوسج ونحوه مما له شوك مؤذ فإنه يجوز قطعه، وبشرط ألا يكون مستثنى فلو كان مستثنى كالأذخر جاز قطعه وبشرط أن يكون أصله ثابتا فى الحرمين، وكذا لو كان بعض عروق أصله فى الحرم فلو كان أصله فى الحل وفروعه فى الحرم جاز قطعه وبشرط أن يكون نبت بنفسه كالأشجار دون الذرائع أو غرس ليبقى سنة فصاعدا كالعنب والتين فإنه لا يجوز قطعهما عندنا (136) .
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: من محظورات الإحرام صيد البر ومن المحرم الثعلب والأرنب ولا يختص التحريم بمباشرة قتلها، بل يحرم الإعانة عليه ولو دلالة عليها وإشارة إليها بأحد الأعضاء، ولا فرق فى تحريمها على المحرمة بين كون المدلول محرما ومحلا ولا بين الخفية والواضحة على تفصيل فى ذلك، ينظر فى مصطلح " صيد ".
ولا يحرم صيد البحر وهو ما يبيض ويفرخ معا فيه إلا إذا تخلف أحدهما. وإن لازم الماء كالبط، وهى ما سبق ذكره من الحية والعقرب إلخ.
والنساء بكل استمتاع من الجماع ومقدماته حتى العقد والشهادة عليه وإقامتها وإن تحملها محلا أو كان العقد بين محلين والاستمناء وهو استدعاء المنى بغير الجماع، ولبس المخيط وأن قلت الخياطة وشبهه مما أحاط الدرع المنسوج واللبد المعمول، كذلك وعقد الرداء وتخليله وزره ونحو ذلك دون عقد الإزار ونحوه فإنه جائز، واستثنى منه الهميان (137) فعفى عن خياطته ومطلق الطيب وهو الجسم ذو الريح المتخذ للسم غالبا غير الرياحين كالمسك والعنبر والزعفران وماء الورد. وخرج بقيد الاتخاذ للسم ما يطلب منه الأكل والتداوى غالبا كالقرنفل والدار صينى وسائر الأباريز الطيبة فلا يحرم شىء. وكذا ما لا ينبت للطيب كالحناء والمعصفر. وأما ما يقصد شمه من النبات الرطب كالورد والياسمين فهو ريحان والأقوى تحريم شمه أيضا. وأستثنى منه الشيح والخزامى والأذخر والقيصوم إن سميت ريحانا.
وخص الطيب بأربعة: المسك والعنبر والزعفران والورس، وفى قول آخر: ستة بإضافة العود والكافور إليها ويستثنى من الطيب خلوق- وهو نوع من الطيب - الكعبة والعطر فى المسعى والقبض من كريه الرائحة لكن لو فعل فلا شىء عليه غير الإثم بخلاف الطيب والاكتحال بالسواد والمطيب.
ويجوز أكل الدهن غير المطيب إجماعا، والجدال وهو قول لا والله، وبلى والله وقيل مطلق اليمين.
وإنما يحرم مع عدم الحاجة إليه، فلو أضطر إليه لإثبات حق أو نفى باطل فالأقوى جوازه.
والفسوق وهو الكذب مطلقا والسباب للمسلم وتحريمها ثابت فى الإحرام وغيره ولكنه فيه آكد كالصوم والاعتكاف والنظر فى المرآة.
وإخراج الدم اختيارا ولو بحك الجسد والسواك، واحترز بالاختيار عن إخراجه لضرورة كبط جرح وشق دمل وحجامة وقصد عند الحاجة إليها فيجوز إجماعا، وقلع الضرس والرواية مجهولة مقطوعة، ومن ثم إباحة جماعة خصوصا مع الحاجة نعم يحرم من جهة إخراج الدم وقص الظفر بل مطلق إزالته أو بعضه اختياراً فلو أنكسر فله إزالته وإزالة الشعر بحلق ونتف وغيرهما مع الاختيار، فلو اضطر كما لو نبت فى عينه جاز إزالته، ولو كان التأذى بكثرته لحر أو قمل جاز أيضا، لأنه محل المؤذى لا نفسه، والمعتبر إزالته بنفسه فلو كشط جلدة عليها شعر فلا شىء فى الشعر لأنه غير مقصود بالإبانة. وتغطية الرأس للرجل بثوب وغيره حتى بالطين والحناء والارتماس وحمل متاع يستره أو بعضه، نعم، يستثنى عصابة القربة وعصابة الصداع وما يستر منه بالوسادة وفى صدقه باليد وجهان، وقطع فى التذكرة بجوازه، وفى الدروس جعل تركه أولى، والأقوى الجواز لصحيح معاوية ابن عمار.
والمراد بالرأس هنا منابت الشعر حقيقة أو حكما، فالأذنان ليستا منه خلافا للتحرير.
وتغطية الوجه أو بعضه للمرأة ولا يصدق باليد كالرأس ولا بالنوم عليه، ويستثنى من الوجه ما يتم به ستر الرأس لأن مراعاة الستر أقوى وحق الصلاة أسبق.
ويجوز لها سدل القناع إلى طرف أنفها بغير إصابة وجهها على المشهور، والنص خال من اعتبار عدم الإصابة، ومعه لا يختص بالأنف بل يجوز الزيادة ويتخير الخنثى بين وظيفة الرجل والمرأة فيغطى الرأس أو الوجه، ولو جمعت بينهما كفرت.
والنقاب للمرأة وخصه مع دخوله فى تحريم تغطية الوجه تبعا للرواية، وإلا فهو كالمستغنى عنه والحناء للزينة لا للسنة سواء الرجل والمرأة، والمرجع فيهما إلى القصد أيضا ولبس المرأة ما لم تعتده من الحلى وإظهار المعتاد منه للزوج وغيره من المحا رم.
وكذا يحرم عليها لبسه للزينة مطلقا والقول بالتحريم كذلك هو المشهود. ولبس الخفين للرجل وما يستر ظهر قدميه مع تسميته لبسا، والظاهر أن بعض الظهر كالجميع إلا ما يتوقف عليه لبس النعلين.
والتظليل للرجل الصحيح سائرا فلا يحرم نازلا إجماعا ولا ماشيا إذا مر تحت المحمل ونحوه، والمعتبر منه ما كان فوق رأسه فلا، يحرم الكون فى ظل المحل عند ميل الشمس إلى أحد جانبيه.
وأحترز بالرجل عن المرأة والصبى فيجوز لهما الظل اتفاقا وبالصحيح عن العليل، ومن لا يتحمل الحر والبرد بحيث يشق عليه بما لا يتحمل عادة فيجوز له الظل ولبس السلاح اختيارا فى المشهور، ومع الحاجة إليه يباح قطعا.
وقطع شجر الحرم وحشيشة الأخضرين إلا الأذخر، وما ينبت فى ملكه وشجر الفواكه.
ويحرم ذلك على المحل أيضا، وقتل هوام الجسد وهى ثوابه ولا فرق بين قتله مباشرة وتسببا كوضع دواء يقتله (138) .
مذهب الإباضية
قال الإباضية: منع المحرم من استعمال الطيب وإلقاء تفث كظفر وشارب وشعر العانة وغير ذلك، والمراد بإلقائه نزعه، وجماع واصطياد ولبس مخيط للنهى عن القميص والسراويل والعمامة كعلة تغطية الرأس ومنع من لبس البرنوس وهو ثوب له رأس، والخف وإن لم يجد نعلا لبس خفا بعد قطعه من أسفل الكعبين علي خلاف فى ذلك.
ولا يلبس المحرم ولو امرأة القفازين، ونهى عن لبس مزعفر (أى مصبوغ بزعفران) كله أو بعضه، وذلك لرائحته.
ويجوز المصبوغ بغيره على أى لون، ومورس (مصبوغ فى ورس) كله أو بعضه، وهو نبات أصفر باليمن، وعن بعض أنه كالسمسم يزرع باليمن، ونهى المحرم عما جعل مستديرا ثوبا أو غيره ولو بلا خياطة، وعن تغطية رأس إن كان المحرم دجلا ووجهه مطلقا.
ولا يحمل علي رأسه شيئا ولا يستره، وقال بعضهم: لا بأس أن يحمل طعامه على رأسه، وإنما يكره له ما كان على وجه اللبس.
وقال: ولا يشد على جسده ولو على ذراعه أو أصبعه ولو بخيط ولا يحتزم وقيل يجوز أن يحتزم ولو بعقد بخيط أو حبل علي بطنه إذا أراد العمل، ولا يحتزم لغيره ولا يعقد ثوبه أو غيره على نفسه ولا يتقلد سيفا ولا قوسا.
ورخص فى شد نفقة على عقوبة أو غيرهما كصدره وعضده من داخله مما يلى جلده، ورخص باحتباء بثوب هو على جسده ملبوسا أى ليس كذلك، وتمنع المرأة المحرمة من ليس الحرير أو الذهب أو الحلى.
ولها أن ترخى علي وجهها ثويا إن لم يمسه، ومنع المحرم ذكرا أو أنثى من طيب ولو بثوبه ولا يضر إن غسل ولم يبق فيها ريح ولو بقى به لون أو منع من دهن خلط به الطيب ولا يشمه أو يلتذ بريحه وقيل لا يلزم بالسم والالتذاذ فى الطيب الغير المؤنث وأن وقع بثوبه أو جسده ولو ألقته عليه الريح أو طيب به وهو نائم أو مكره أو غافل، غسله من حينه أو نزعه من حينه وندب اجتناب الطيب قبل الإحرام بيومين، والطيب ضربان: ما غلب لونه رائحته، ويسمى الطيب المؤنث لأنه هو الذى تستعمله المرأة كمخلوق من الطيب يصنع من زعفران وغيره، وما لم يغلب لونه رائحته يسمى المذكر لأنه هو الذى يستعمله الرجل كالمسك. ولا تتزين المرأة وإن بكحل وكذا الرجل ورخص فى الكحل ولو لرجل. وكلام الدعائم أنه يجوز للرجل الاكتحال والدهن بما لا طيب فيه لأجل وجع بأثمد وإن كان مخلوطا بأشياء كثيرة مخلوطة لا بطيب
ومنع المحرم والمحل من صيد الحرم ولو من ماء مطر أو عين أو غيره تولد منه الحيوان.
ومنع المحرم من اصطياد فى بر ومن أكمل صيده (أى صيد البر) ولو صاده محل ولو من الحل أيضا، وإنما منع المحرم من اصطياد البر لما فيه من الفخر بخلاف صيد البحر فلا فخر فيه، ولا يحل وإن كان لمحل شجر الحرم وصيده ولقطته وحلت لمعرفها على أنه إن لم يجد صاحبها تصدق بهما، ولا يحل خلاؤه وهو الرطب من النبات لا يحتش ويجوز رعيه ويمنع للمحرم الاحتجام فى الحرم وهو الصحيح إلا لضرورة (139) وجاز للمحرم استظلال بعريش بيت من قصب أو غيره وما يجعل للعنب يعلوه ويفرش عليه وخيمة وقبة من بناء أو جلد أو غيرهما ومظلة من أى نوع كانت وعلى أى هيئة كانت وثوب على عصا أو شجرة، وليحذر فى ذلك كله مسه لرأسه أو وجهه، وقيل لا يجوز الاستظلال بالثوب على عصا ولا المظلة ولا يجوز لمن لم يكن على دابة ولا بأس للمحرم أن يلقى على نفسه ما شاء من الثياب والمسوح والقطائف من غير أن يغطى رأسه، وقيد بعض أصحابنا الارتداء بالقميص بعدم وجود لك داء، ولا بأس فى توسد الوسادة.
وجاز للمحرم الاستظلال بظل الإنسان وغيره وأجاز قومنا أن يجعل يده على رأسه أو وجهه للحر، وأجيز الحمل على الرأس، وقال بعض: لا يستظل بالمحمل ولا بأس عندنا باستظلاله بداخل البيت والفسطاط والخباء والقبة ومن عجز عن مس جبهته الأرض من شدة الحر سجد على ثوب من نبات أو من الصوف عند مجيز الصلاة عمى ما يصلى به ويجوز وضع الرأس على الحائط أو الأرض أو الفراش أو غير ذلك على وجه الارتياح أو غير ذلك، ولا خلاف فى جواز وضعه للنوم.
وجاز له احتطاب وشد محملة أى ربطه والعقد عليه لا على نفسه معه.
وجاز للمحرم أن يحتجم لضرورة، وروى: أن رسول الله صلى عليه وسلم احتجم وهو محرم.
وجاز له قتل كل مؤذ وإن بالحرم ولو ذبابا إن أذى أو زنبورا وغيرها.
ويجوز قتل الغراب والحدأة والفأر والعقرب والحية والكلب العقور ولو لم يخف منهن.
ويجوز له أن يدهن شقوق رجله أو وجهه أو يديه وغير ذلك مما لا طيب فيه ويكره له غمس رأسه فى الماء، وله غسل رأسه بالماء ولا يدلكه أو بدنه عند الغسل ولا يدلك رأسه إلا بإبهامه.
ورخص للمحرم فى القطع للأكل من شجر الحرم مما يؤكل كنبت وإن اختلط بما لا يؤكل ولا يحرث.
وقد يرخص فى الخارج فى الحرث للتعذر.
وجوز نزع السنا المكى بلا قطع أصله وأكله وشربه لإسهال أو لضرس أوجعته. وجوز نزع الحطب اليابس الميت والثمر الساقط.
ويجوز له الانتفاع بالعود أو الغصن أو الورقة أو أكثر من ذلك إذا نزعه غيره ولو عمدا، ولا يجوز لنازعه الانتفاع به. وقيل ان نزعه بلا عمد فله الانتفاع به، وكره له رعى شجره وإن رعى فعليه أن يتصدق. وأجاز بعضهم رعى نباته وهو الصحيح، ولا يضر حافرا قطع شجر صغير وأن من أصله إن صادفه بحفره لا عمداً ولو علم أنه إذا كان يحفر يقطع وذلك إذا أحتاج للحفر (140) .
__________
(1) لسان العرب للعلامة ابن منظور ج 49 مادة " حرم"، طبع دار بيروت للطباعة والنشر سنة 1375 هجرية وترتيب القاموس المحيط لطاهر الزاوى ج1 مادة " حر م، طبع مطبعة الاستقامة بالقاهرة الطبعة الأولى سنه 1959.
(2) فتح القدير وبهامشه شرح العناية على الهداية ج 2 ص134 طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر الطبعة الأولى سنة 1310 م.
(3) بلغة السالك لأقرب المسالك على الشرح الصغير للدردير ج1 ص250 طبع المطبعة التجارية الكبرى بمصر سنة 1223 هجرية.
(4) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لابن. شهاب الرملى ج 3 ص256 طبع مطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاد بمصر سنة 1357 هجرية.
(5) كشاف القناع وبهامشه منتهى الإرادات ج 1 ص564 طبع المطبعة العامرة الشرفية، الطبعة الأولى سنة 1319 هجرية.
(6) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص سنه 7 مسألة رقم 823، ص90 مسالة رقم 826 طبع أداره الطباعة المنيرية بمصر الطبعة الأولى سنة 1349 هجرية.
(7) البحر الزخار، الجامع لمذاهب علماء الأمصار ج 2 ص290، 291، 294، 295 طبع مطبعة العادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1367 هجرية.
(8) الروضة "البهية، شرح اللمعة الدمشقية للجبعى العاملى ج 1 ص 173طبع مطابع دار الكتاب العربى بمصر سنة 1379 هجرية.
(9) كتاب شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص 299، ص300، ص،ص301 طبع على ذمة يوسف البارونى وشركاه.
(10) رد المحتار على الدر المختار شرح تنوبر الأبصار لابن عابدين ج2 ص 202 ص 202 طبع المطبعة العثمانية سنة 1324 هجرية
(11) الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوى عليه ج1 ص 247 الطبعة السابقة.
(12) نهابة المحتاج ج3 ص256 الطبعة السابقة
(13) الشرح الكبير بهامش المغنى ج2 ص503،504 لابن قدامة المقدسى الطبعة الأولى مطبعة المنار بمصر فى سنة 1341 هجرية
(14) البحر الزخار ج 2 ص 294 الطبعة السابقة.
(15) الروضة البهية ج ص173، 179 الطبعة السابقة.
(16) كتاب الوضع لأبى زكريا الجناوى ج ص 206 طبع مطبعة الفجالة الجديد ة الطبعة الأولى.
(17) كتاب بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى ج 1ص 130 طبع مطبعة شركة المطبوعات العلمية يمصر الطبعة الأولى سنة 327 هجرية.
(18) الشرح الصغير للدردير ج 1 الطبعة السابقة
(19) نهاية المحتاج على الشبراملسى ج1 ص439، الطبعة السابقة، والمهذب للشيرازى ج1 ص70 طبع مصطفى عيسى البابى الحلبى وشركاه بصر.
(20) المغنى لابن قدامة المقدسى ج1 ص 511 الطبعة السابقة.
(21) المحلى لابن حزم الظاهرى ج3 ص 232، 232 الطبعة السابقة مسألة رقم 356.
(22) شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار فى فقه الأئمة الأطهار ج 1 ص 231، 232 طبع مطبعة حجارى بالقاهرة الطبعة الثانية سنة 1357 هجرية.
(23) المختصر النافع فى فقه الأمامية ص 53 طبع وزارة الأوقاف الطبعة الثانية.
(24) شرح النيل ج 1 ص 382، 383،،384 الطبعة السابقة
(25) سورة البقرة: 197
(26) تبين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعى مع حاشية الشلبى عليه ج2 ص8 وما بعدما طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر الطبعة الأولى سنة 313 هجرية
(27) الشرح الصغير على الدردير ج1 من ص 472 إلى ص 251 الطبعة السابقة
(28) الخرشى على مختصر خليل مع حاشية العدوى ج 2 ص 3234،424 طبع المطبعة الكبرى الأمهرية بمصر الطبعة الثانية سنة 1317 هجرية.
(29) الدردير مع حاسثيه الصاوى ج 1ص 251 الطبعة السابقة.
(30) المهذب للشيرازى ج1 ص 204 الطبعة السابقة.
(31) نهاية المحتاج للرملى ج 3 ص 262 الطبعة السابقة.
(32) المهذب للشيرازى ج1 ص204 الطبعة السابقة ونهابة المحتاج للرملى ج 3 ص263 الطبعة السابقة
(33) نهاية المحتاج ج 3 ص 259، 260، 261 الطبعة السابقة.
(34) كشاف القناع ج1 الطبعة السابقة، ص 564 الطبعة السابقة والروض المريع بشرح فى زاد المستنقع لمختصر المقنع ج1 ص 136طبع المطبعة السلفية ومكتبتها الطبعة السابقة
(35) كشاف القناع ج1 ص 564،565 الطبعة السابقة، والروض المربع ج1 ص136 الطبعة السابقة
(36) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص78، 79، 82، 82 مسالة رقم،83 مسالة رقم82 5
(37) المحلى لابن حزم ج7 ص93 مسالة رقم 829.
(38) شرح الإزهار ج2 ص74 وما بعدها الطبعة السابقة، والبحر الزخار ج2 ص294 الطبعة السابقة
(39) المختصر النافع ص 105، 106، 107 الطبعة السابقة
(40) شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص298، 299 الطبعة السابقة
(41) سورة البقرة:196
(42) حاشية ابن عابدين على الدر المختار ج 2 ص208، 209، 210 الطبعة السابقة، وبدائع الصنائع للكاسانى ج2 من ص 4 إلى صى167 الطبعة السابقة.
(43) حاشية الصاوى على الشرح الصغير ج1 ص247، 8،2 الطبعة السابقة، والخرشى على مختصر خليل ج2 ص 303 الطبعة السابقة.
(44) نهاية المحتاج للرملىج3 ص250 الطبعة السابقة
(45) نهاية المحتاج ج3 ص ا 25،252 الطبعة السابقة
(46) المرجع السابق ج3ص252، الطبعة السابقة
(47) نهاية المحتاج للرملى ج3 ص 252، 253 الطبعة السابقة.
(48) المرجع السابق ج3 ص255 الطبعة السابقة
(49) المغنى لابن قدامة المقدسى ج 3 من ص206 إلى ص 215 الطبعة السابقة، وكشاف القناع ومنتهى الإيرادات ج اص 561، 562 الطبعة السابقة والروض المريع ج ص 135 الطبعة السابقة
(50) المحلى لابن حزم ج 7 ص 69 مسألة رقم 822، ص70، 71، 98 مسألة رقم 832، ص266 مسألة رقم من904 الطبعة السابقة
(51) شرح الأزهار ج2 ص 75، 76،،5 1 الطبعة السابقة، والبحر الزخار ج 2 ص 28، 289 الطبعة السابقة.
(52) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج1 ص178، 179 الطبعة السابقة.
(53) شرح النيل وشفاء العليل ج2 من ص291 إلى ص 291 الطبعة السابقة وكتاب الوضع فى مختصر الأصول والفقه ص206، 207، 208 الطبعة السابقة.
(54) تبيين الحقائق للزيلعى ج 2 صفا، الطبعة السابقة.
(55) حاشية ابن عابدين على الدر المختار ج 2 ص207، 208 الطبعة السابقة.
(56) الشرح الصغير وحاشية الصاوى عليه ج اص 247، 248 الطبعة السابقة، والشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه ج 2 ص ا 2 الطبعة السابقة
(57) نهابة المحتاج للرملى ج 3 ص248، ص250 الطبعة السابقة.
(58) كشاف القناع ومنتهى الإيرادات ج اص 630 الطبعة السابقة.
(59) كشاف القناع ج ص564 الطبعة السابقة
(60) سورة البقرة 1970.
(61) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 7 ص 65 إلى ص 69 الطبعة السابقة.
(62) البحر الزخار ج 2 ص 292 الطبعة السابقة وشرح الأزهار ج 2 ص 75، ص76 الطبعة السابقة.
(63) المختصر النافع ص 103 الطبعة السابقة.
(64) شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص 291 وما بعدها الطبعة السابقة وكتاب الوضع فى مختصر الأصول والفقه ص206 وما بعدها، الطبعة السابقة.
(65) حاشية ابن عابدين على الدر المختارج61 ص2 الطبعة السابقة.
(66) الشرح الصغير وحاشية الصاوى عليه ج1 الطبعة السابقة
(67) نهاية المحتاج للرملى وحاشية الشبراملسى عليه ج 3 ص.25 الطبعة السابقة.
(68) كشاف القناع ومنتهى الإيرادات ج1 ص563، 564 الطبعة السابقة.
(69) المحلى لابن حزم الظاهرىج7 ص 65، 66 مسألة رقم 819 الطبعة السابقة.
(70) البحر الزخار ج 2 ص 292 11 الطبعة السابقة، وشرح الأزهار ج 2 ص77 الطبعة السابقة.
(71) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج 1 ص 172 الطبعة السابقة.
(72) شرح النيل وشفاء العليل ج ص297 الطبعة السابقة
(73) صورة البقرة: 0196
(74) بدائع الصنائع للكاسانى ج 2 من ص164 إلى 167 الطبعة السابقة.
(75) بلغة السالك لاقرب المسالك على الشرح الصغير للدردير ج اصح249: 250 الطبعة السابقة.
(76) نهاية المحتاج ج 3 ص 253،،254 الطبعة السابقة.
(77) المغنى لابن قدامة المقدسى ج 3 من ص 216 إلى ص 221 الطبعة السابقة.
(78) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص70، 71، الطبعة السابقة.
(79) المرجع السابق ج 7 ص266 الطبعة السابقة
(80) شرح الأزهار ج 2 ص154، 155 الطبعة السابقة.
(81) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج1 ص 177 وما بعدها، الطبعة السابقة.
(82) شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص294، 295 الطبعة السابقة.
(83) سورة البقرة: 196.
(84) سورة الحج: 29.
(85) سورة البقرة:197.
(86) سورة البقرة: 197.
(87) بدائع الصنائع للكاساتى ج 2 ص 83 1 إلى ص196،206
(88) الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوى عليه ج1 من ص 266 إلى ص الطبعة السابقة.
(89) سورة لبقرة: 196.
(90) سورة البقرة:197
(91) المهذب للشيرازى ج1 ص 207 إلى ص 214 الطبعة السابقة.
(92) سورة البقرة: 196.
(93) سورة المائدة: 95
(93) سورة المائدة: 96
(94) سورا البقرة:197.
(95) سورة البقرة: 187.
(96) سورة الطلاق: 2.
(97) المغنى لابن قدامة المقدسى ج 3 من ص337 إلى ص 396 الطبعة السابقة، وكشاف القناع ومنتهى الإرادات ج 1 من ص573 إلى ص 588 الطبعة السابقة
(98) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص 78، 79 مسألة رقم 823.
(99) المحلى ج7 ص 90 مسألة رقم 827.
(100) المرجع السابق ج7 ص 98 مسألة رقم 831، الطبعة السابقة.
(101) صورة المائدة: 95.
(102) سورة البقرة: 197.
(103) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 7 ص 18 مسألة رقم 850 الطبعة السابقة.
(104) المرجع السابق ج 7 ص189، مسألة رقم 855 الطبعة السابقة.
(105) المرجح السابق ج7 ص194 مسالة رقم 863
(106) المرجع السابق ج 7 ص 195 مسألة رقم 864
(107) المرجع السابق ج 7 ص196 مسألة رقم 865
(108) المرجع السابق ج7 ص 197، 198 مسألة رقم 869.
(109) المحلى لابن حزم ج 7 ص 214 مسألة رقم 876 الطبعة السابقة.
(110) المرجع السابق ج 7 ص 4 5 2 مسألة رقم 893
(111) المرجع السابق ب 7 ص 260، 261 مسألة رقم 897 الطبعة السابقة.
(112) القيون جمع قين وهو الحداد والصانع الذى بعمل بالكير- لسان العرب لابن منظور ج 56 ص 350 طبع بيروت.
(113) المحلى لابن حزم ج 7 من78، 79 مسألة رقم 823 الطبعة السابقة.
(114) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 7 ص 91 مسألة رقم 828 الطبعة السابقة.
(115) المرجع السابق ج 7 ص 196، 197 مسألة رقم 865 مسألة رقم867 الطبعة السابقة.
(116) سورة النحل: 125.
(117) المحلى لابن حزم ج 7 ص97 1 مسألة وقم 868 الطبعة السابقة.
(118) صورة الأنعام: 119.
(119) المحلى لابن حزم ج 7 ص 214 مسألة رقم 876 الطبعة السابقة.
(120) المرجع السابق ج7 ص 23، 239، مسألة رقم 9، 8 الطبعة السابقة.
(121) المرجع السابق ج7 ص 238 مسألة رقم 890 الطبيعة السابقة.
(122) المرجع السابق ج 7 ص 246 مسألة رقم 891 الطبعة السابقة.
(123) المرجع: السابق ج7 ص 248، 249 مسألة 892 الطبعة السابقة.
(124) سورة المائدة رقم 96
(125) المحلى ج 7 ص25، 255 مسألة رقم 893 الطبعة السابقة، مسألة رقم 894.
(126) المرجع السابق ج 7 ص 258، 259 مسألة رقم 896 الطبعه السابقة.
(127) شرح الأزهار ج 2 من ص 84 إلى94 الطبعة السابقة، والبحر الزخار ج 2 ص 310 الطبعة السابقة.
(128) المرجع السابق ج 2 من ص 101 إلى ص 104 الطبعة السابقة.
(129) الهميان (بالكسر) : شداد السراويل ووعاء الدراهم.
(130) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج1 ص 181، 182، 183 الطبعة السابقة.
(131) شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص310 إلى ص 328،ص337، عي 383 الطبعة السابقة
(132) كتاب شرح شفاء العليل ج 2 من ص310 إلى ص 342 الطبعة السابقة.
(133) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعى ج 2 ص 53، 56، 2 5، 58، الطبعة السابقة.
(134) المرجع السابق ج 2 من ص 52 إلى ص 55، ص 59 الطبعة السابقة.
(135) سورة البقرة: 197.
(136) تبيين الحقائق للزيلعى ج 2 ص 56 الطبعة السابقة..
(137) المرجع السابق ج 2 ص 52، ص 53، ص 54، الطبعة السابقة.
(138) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج 2 ص 286، ص287 الطبعة السابقة.
(139) سورة المائدة: 95.
(140) الزيلعى ج 2 ص 63 الطبعة السابقة.(1/66)