الطلاق فى حال الحيض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يقع الطلاق على المرأة إذا كانت حائضا؟
الجواب
قال تعالى {يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} الطلاق: ا، أى فى وقت عدتهن، وهى الأطهار كما هو رأى الشافعى ومالك ومن وافقهما، أو مستقبلات لعدتهن، وهى الحيض كما هو رأى أبى حنيفة ومن وافقه.
قال العلماء: الطلاق يكون سنيا إذا كان على المدخول بها غير الحامل وغير الصغيرة والآيسة، فى طهر غير مجامع فيه ولا فى حيض قبله، والطلاق البدعى هو إيقاع الطلاق على المدخول بها فى وقت الحيض أو فى طهر جامعها فيه وهى ممن تحمل، أو فى حيض قبله، وسمى بدعيا لمخالفته للسنة المشروعة.
روى مالك فى الموطأ أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهى حائض على عهد النبى صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله عن ذلك فقال "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التى أمر الله أن يُطلق لها النساء" ورواه البخارى ومسلم، وجاء فى رواية مسلم "مره فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت وهى حامل " ورواه البيهقى بوجه آخر، واسم امرأة ابن عمر آمنة بنت غفار كما قال النووى وغيره، وقيل اسمها النوار "نيل الأوطار".
ومع حرمة الطلاق هل يقع أو لا؟ فيه خلاف بين العلماء السلف والخلف، فقيل: يقع،وعليه الأئمة الأربعة، وقيل: لا يقع، وارتضى ابن القيم عدم وقوعه، وسماه بدعة، وساق حجج الأولين ورد عليها بتطويل يراجع فى كتابه "زاد المعاد! ج 2 ص 44 وما بعدها" والشيعة الإمامية وأهل الظاهر على هذا القول "انظر الجزء السادس من موسوعة: الأسرة تحت رعاية الإسلام "(9/475)
خياطة ملابس النساء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا سيدة أمتلك ماكينة خياطة هى مورد رزقى الوحيد، وأخيط للسيدات الملابس الموضة، فهل كسبى حرام؟
الجواب
ما دمت لا تتأكدين أن هذه الملابس ستكون للخروج والاختلاط بالناس الأجانب فخياطتها غير حرام، لأنه يجوز أن تلبسها المرأة فى بيتها لزوجها ومحارمها، كما يحتمل أنها تخرج بها، فالأمر غير مقطوع به، مثل ذلك مثل من يبيع العطور وأدوات الزينة للنساء، فإنها تستعمل فيما يحل وفيما يحرم، وكذلك أقمشة النساء، بل التعامل فى كل ما يستعمل للخير والشر لا يحرم على الإنسان، فليس هناك شيء يستعمل فى الخير خاصة ولا يمكن أن يستعمل فى الشر ولو بوجه من الوجوه.
أما إذا كانت الملابس التى تخاط لا تستعمل إلا فى الشر، ولا يوجد مكان لاستعمالها فى الخير، وتعلم الخيَّاطة أن هذا الثوب للأشياء المحرمة فيحرم عليها أن تخيط هذا الثوب، لأنها معونة على الشر، والدال على الشر أو المساعد عليه شريك فى الإثم. والأدلة كثيرة لا مجال لذكرها هنا(9/476)
حكم الزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما موقف الشريعة من مسلم يعيش حياته حتى الموت دون زواج لعدم توافر الإمكانات عنده؟
الجواب
الزواج فى أصله سنة الحياة من أجل بقاء النوع الإنسانى، وسنة الأديان التى تنزلت على الرسل {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية} الرعد: 38، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذى "أربع من سنن المرسلين: الحناء والتعطر والسواك والنكاح ".
وقد أمر الإسلام به من استطاعه، أما غير المستطيع فلا حرج عليه، بل يشغل نفسه بعبادة أخرى حتى لا يقع فى مكروه، قال تعالى {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله} النور: 33، وقال صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء" رواه البخارى ومسلم.
فما دام الإنسان غير مستطيع فلا ذنب عليه، أما إذا استطاع ولم يتزوج فإن خاف على نفسه الزنى وجب عليه أن يتزوج، وإن لم يخف كان الزواج بالنسبة له سنة يثاب عليه ولا يعاقب على تركه.
ويقول النووى فى المفاضلة بين الزواج وتركه: إن الناس فيه أربعة أقسام:
ا-قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن، فيستحب النكاح.
ب -وقسم لا تتوق -أى نفسه -ولا يجد المؤن، فيكره الزواج.
جـ -وقسم تتوق -أى نفسه - ولا يجد المؤن، فيكره له، وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان.
د-وقسم يجد المؤن ولا تتوق: فمذهب الشافعى وجمهور أصحابنا أن ترك النكاح لهذا والتخلى للعبادة أفضل، ولا يقال:
النكاح مكروه، بل تركه أفضل، ومذهب أبى حنيفة وبعض أصحاب الشافعى وبعض أصحاب مالك أن النكاح له أفضل والله أعلم(9/477)
تحويل الجنس إلى جنس آخر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فيما نشر وما ينشر من تحول بعض الناس من جنس إلى جنس أخر عن طريق العلاج الطبى والعمليات الجراحية؟
الجواب
إن الذكورة لها أعضاؤها التى من أهمها القُبُل والخصية وما يتصل بها من حبل منوى وبروستاتا، ومن الآثار الغالبة للذكورة عند البلوغ الميل إلى الأنثى، وخشونة الصوت ونبات شعر اللحية والشارب وصغر الثديين. .. وللأنوثة أعضاؤها التى من أهمها المهبل والرحم والمبيض وما يتصل بها من قناة فالوب وغيرها، ومن آثارها الغالبة عند البلوغ الميل إلى الذكر ونعومة الصوت وبروز الثديين وعدم نبات شعر اللحية والدورة الشهرية.
وقد يولد شخص به أجهزة الجنسين، فيقال له: خنثى، وقد تتغلب أعضاء الذكورة وتبرز بعملية جراحية وغيرها فيصير ذكرا، يتزوج أنثى وقد ينجب. وقد تتغلب أعضاء الأنوثة وتبرز بعملية جراحية وغيرها فيصير أنثى تتزوج رجلا وقد تنجب.
أما مجرد الميول الأنوثية عند رجل كامل الأجهزة المحددة لنوعه فهى أعراض نفسية لا تنقله إلى حقيقة الأنثى، وقد تكون الميول اختيارية مصطنعة عن طريق التشبه فتقع فى دائرة المحظور بحديث لعن المتشبه من أحد الجنسين بالآخر، وقد تكون اضطرارية يجب العلاج منها بما يمكن، وقد يفلح العلاج وقد يفشل، وهو مرهون بإرادة الله سبحانه. كما أن مجرد الميول الذكرية عند امرأة كاملة الأجهزة المحددة لنوعها لا تعدو أن تكون أعراضا لا تنقلها إلى حقيقة الذكورة فتقع فى دائرة المحظور إن كانت اختيارية ويجب العلاج منها إن كانت اضطرارية.
هذا، وقد رفع طلب إلى دار الإفتاء المصرية فأجاب عنه الشيخ جاد الحق على جاد الحق بتاريخ 27 من يونية 1981 م بما خلاصته أن الإسلام أمر بالتداوى، ومنه إجراء العمليات الجراحية بناء على حديث رواه مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم أرسل طبيبا إلى أبىِّ بن كعب فقطع عرقا وكواه،وأنه نهى عن التخنث المتعمد المتكلف كما رواه البخارى ومسلم ثم قرر أنه يجوز إجراء عملية جراحية يتحول بها الرجل إلى امرأة، أو المرأة إلى رجل متى انتهى رأى الطبيب الثقة إلى وجود الدواعى الخلقية فى ذات الجسد بعلامات الأنوثة المغمورة أو علامات الرجولة المغمورة، تداويا من علة جسدية لا تزول إلا بهذه الجراحة.
ومما يزكى هذا ما أشار إليه القسطلانى والعسقلانى فى شرحيهما لحديث المخنث من أن عليه أن يتكلف إزالة مظاهر الأنوثة. وهذا التكلف قد يكون بالمعالجة والجراحة علاج، بل لعله أنجح علاج.
لكن لا تجوز هذه الجراحة لمجرد الرغبة فى التغيير دون دواع جسدية صريحة غالبة، وإلا دخل فى حكم الحديث الشريف الذى رواه البخارى عن أنس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال "أخرجوهم من بيوتكم " فأخرج النبى فلانا وأخرج عمر فلانا.
وإذ كان ذلك جاز إجراء الجراحة لإبراز ما استتر من أعضاء الذكورة أو الأنوثة، بل إنه يصير واجبا باعتباره علاجا متى نصح بذلك الطبيب الثقة، ولا يجوز مثل هذا الأمر لمجرد الرغبة فى تغيير نوع الإنسان من امرأة إلى رجل، أو من رجل إلى امرأة "الفتاوى الإسلامية - المجلد العاشر-ص 3501"(9/478)
الحجاب بين أمر الله وإرادة البشر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل توافق الزوجة على أمر زوجها لها بخلع الحجاب؟ وهل يجوز للفتاة المتحجبة خلع الحجاب ليلة الزفاف؟
الجواب
حجاب المرأة مفروض بالكتاب والسنة، وإذا كان الله ورسوله قد أمرا به فلا يتوقف التنفيذ على إذن أحد من البشر، والزوج الذى يأمر زوجته بخلعه عاص لأنه يأمرها بمعصية، كقوله لها لا تصلى ولا تصومى، وذلك إثم عظيم لأنه يأمر بالمنكر، وبالتالى يحرم على الزوجة أن تطيعه فى ذلك، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
وطاعة الزوجة لزوجها فى المقصود الأصلى من الزواج، وهو المتعة ورعاية البيت والاستقرار فيه، ولا سلطان عليها فيما عدا ذلك من الأمور العامة التى يشترك فيها الرجال والنساء، فالله هو الذى يأمر وينهى.
ولا يقال: إنها مكرهة على ذلك فتعفى من المسئولية، فغاية عصيانه أنه سيطلقها ورزقها ليس عليه بل على الله سبحانه، وسيهيئ لها من يرعاها ويحميها فى غير هذا البيت الذى تنتهك فيه حرمات الله، ولا خوف على أولادها منه، فهو المتكفل بالإنفاق عليهم وعلى أمهم الحاضنة لهم.
ولتعلم الزوجة أنها لو أطاعته فى خلع الحجاب -وهو عنوان الشرف. والعفاف - فسيسهل عليها طاعته فيما هو أخطر من ذلك لأن مثل هذا الزوج لا غيرة عنده ولا كرامة وستجره المدنية إلى تجاوز حدود الدين حتى لا يعاب بالرجعية إن لم تكن زوجته مجارية للعرف الحديث بما فيه من أمور يأباها الدين.
فليتق الله أمثال هذا الزوج، وليحمدوا ربهم أن أعطاهم زوجات عفيفات محافظات على شرفهن وعلى شرفهم، ولا يستهينوا بسفور الزوجة زاعمين أنه شيء بسيط، فإن معظم النار من مستصغر الشرر.
أما خلع العروس حجابها ليلة الزفاف فهو حرام ما دام هناك أجنبى، فلم يرد الشرع ولم يقل أحد من العلماء باستثناء هذه المناسبة، ولا يجوز أن نطوِّع الدين لهذا السلوك الوافد علينا ممن لا يدينون بالإسلام، فقد كانت العروس تظهر بكامل زينتها فى الماضى البعيد والقريب ما دام المحتفلون بها هم النساء والأقارب المحارم كالأب والأخ والعم والخال، وذلك بمعزل عن الرجال الأجانب.
وما يعمل الآن فى الأماكن العامة التى يختلط فيها الرجال مع النساء دون التزام بالحجاب الشرعى لا يقره الإسلام، ومن شارك فيه فهو مخطئ مهما كانت شخصيته ولا ينتظرن أحد أن يفتى عالم ديني بجوازه للضرورة أو الحاجة، فليست هناك ضرورة ولا حاجة، والزوجة للزوج لا لغيره، وزينتها له لا لغيره، ومن خرج على حدود الدين فهو آثم، والحلال بيِّن والحرام بيِّن، ولأن يرتكب الحرام على أنه حرام أخف من أن يرتكب على أنه حلال، وإن كان الكل عصيانا لله، وعصيان يفضى إلى توبة أخف من عصيان يفضى إلى كفر(9/479)
المرأة فى الإسلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى يوم 4 من مارس 1984 نشرت كاتبة بجريدة الواشنطن بوست مقالا عرضت فيه صورة غير دقيقة عن وضع المرأة فى الإسلام، وردَّت عليها نائبة رئيس الجمعية الإسلامية الدولية فى فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية وتطلب رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
من الملاحظ أن كثيرا ممن يكتبون من الأجانب عن الإسلام غير فاهمين له فهما صحيحا، كما أن بعضهم يكون غير منصف فيما يكتب، وذلك لغرض من أغراض كثيرة تكشف الأيام عن بعضها، وتنبه المسلمون إلى اليقظة لما يدور حولهم من أفكار وحركات.
ومن الملاحظ أيضا أنهم يحكمون على الإسلام بالصورة التى عليها بعض المجتمعات الإسلامية أى يحكمون بالسلوك والممارسة على المبدأ ذاته، وهذا خطأ فقد يكون المبدأ صحيحا والتطبيق خطأ، إما لعدم الفهم أو عدم الالتزام وما جاء به الدين حق. والناس قد يلتزمون به أو لا يلتزمون.
والحقيقة التى لا يشك فيها منصف أن الإسلام وضع المرأة فى موضعها اللائق بها شأنه فى كل ما جاء به من هداية، لأنها تنزيل من حكيم حميد، فصحح كثيرا من الأفكار الخاطئة التى كانت مأخوذة عنها فى الفلسفات القديمة، وفى كلام من ينتسبون إلى الأديان.
وردَّ لها اعتبارها وكرَّمها غاية التكريم، ومع ذلك وضع إطارا واحتياطات تصون هذا التكريم وتمنع سوء استغلاله والناظر فى هذا الإطار وهذه الاحتياطات يجدها حكيمة كل الحكمة لأنها من صنع الله الحكيم الذى يعلم سر مخلوقاته، مراعًى فيها أن كل حرية مقيدة بما يحقق المصلحة ويدفع الضرر، وأن كل حق يقابله واجب، ضرورة أن النشاط البشرى نشاط اجتماعى. بل إن الإنسان مع نفسه له حق وعليه واجب، ليمكن أن يعيش فى وضع كريم.
ومن الخطأ أن يحاول بعض الناس إخضاع أحكام الدين لأهوائهم، أو صبغها باللون الثقافى الذى عاشوا فيه، مع أن العكس هو الصحيح، فالواجب هو إخضاع الأهواء والثقافات للدين.
وإذا كان بعض المسلمين فى بعض العصور أو البيئات تشددوا فى تطبيق الاحتياطات حتى أدى ذلك إلى حرمان المرأة من بعض حقوقها، فإن بعض المسلمين اليوم ينادون بإلغاء هذه الاحتياطات، حتى تنطلق المرأة بفكرها وسلوكها، وتتساوى مع الرجل أو تنافسه فى كل ميدان.
وهؤلاء وهؤلاء مخطئون، والنصوص فى التوسط والاعتدال، والموازنة بين الحقوق والواجبات ووضع الشخص المناسب فى المكان المناسب -كثيرة، والواجب على من يكتب عن الإسلام أو غيره أن يقرأ ويفهم كل شىء عنه، ليستطيع أن يصل إلى حكم صحيح أو قريب من الصحة(9/480)
العلاقة بين الخطيبين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
خطبت فتاة قريبة وأحببت أن أجلس معها وأحدثها ليتعرف كل منا أخلاق الآخر فمنعنى أقاربها، فهل الدين يحرم ذلك؟
الجواب
أباح الإسلام بل ندب للخطيب أن ينظر إلى خطيبته فى حدود الوجه والكفين ليرى منها ما يرغِّبه فى زواجها، وذلك بشرط أن يكون جادا فى خطبتها،ودليله قول النبى صلى الله عليه وسلم وفعله، أما قوله فمنه ما رواه مسلم أن رجلا تزوج امرأة من الأنصار فقال له "أنظرت إليها"؟ قال لا،،قال "فاذهب فانظر إليها فإن فى أعين الأنصار شيئا". وروى الترمذى وحسَّنه والنسائى وابن ماجة من حديث المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال له النبى "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" أى تحصل الموافقة والملاءمة بينكما.
وأما فعله فقد روى البخارى في سهل بن سعد أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسى، فنظر إليها فصعَّد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه. . . . . .
ويجوز عند أحمد بن حنبل النظر إلى أكثر من الوجه والكفين، مما لا يخدش حياء أو يثير فتنة، بناء على الحديث الذى رواه، وهو "إذا خطب أحدكم المرأة فقدر على أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " ولذلك قال ابن الجوزى فى كتابه "صيد الخاطر" ومن قدر على مناطقة المرأة أو مكالمتها بما يوجب التنبيه ثم ليرى ذلك منها، فإن الحسن فى الفم والعينين - فليفعل هذا.
هذا هو الطريق لمعرفة جمالها وصحتها، أما معرفة أفكارها وثقافتها وأخلاقها فيكون إما بسؤال أهل الثقة والخبرة، وإما بمعرفة ذلك بنفسه عن طريق المحادثة والمجالسة والمحادثة نفسها لا مانع منها شرعا، والمحرم منها هو لين الكلام أو اشتماله على محرم، أما المجالسة فلا تجوز أن تكون فى خلوة بل لا بد من وجود طرف آخر يمنع وسوسة الشيطان لهما بالسوء على حد قول الحديث الشريف الذى رواه الطبرانى "إياك والخلوة بالنساء، فوالذى نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا ودخل الشيطان بينهما" وقد صح فى تحريم الخلوة "لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذى محرم " رواه البخارى ومسلم فإذا وجد المحرم أى القريب الذى يحرم زواجه منها كالأب والأخ والعم والخال فلا حرمة.
أما ما وراء النظر والمجالسة مع المحرم من مثل التلامس باليدين بدون حائل، أو ما هو أكبر من تلامس اليدين فهو حرام، وإذا كان هناك اجتماع عام كما هو فى الشوارع أو الأسواق بحيث يطلع الناس على الخطيبين فلا يعد ذلك خلوة، بل هو جائز. هذا هو الشرع فى حدوده التى وضعها لتلاقى الخطيبين، وهى حدود معتدلة ليس فيها تزمت ولا تفريط، فالذين يمنعون النظر إلى الوجه والكفين والكلام العادى بحضور محرم -مخالفون للشريعة، والذين يبيحون النظر بدون حدود والكلام واللقاء الحر بدون ضوابط -مخالفون للشريعة. والخير فى اتباع الهدى النبوى، حماية للشرف وصيانة للعرض، ومنعا للتهمة وسوء الظن، وإذا كان لبعض الناس عرف يخالف ذلك فالدين يحكم على العرف لوجود النص فى المسألة، ولا يجوز للعرف أن يحرِّم ما أحل الله أو يحلل ما حرَّم الله، "انظر الجزء الأول والثانى من موسوعة:
الأسرة تحت رعاية الإسلام "(9/481)
نكاح الشغار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
شاب له أخت يريد أن يتزوج أخت شاب آخر على أن يتزوج هذا الشاب أخته "تبادل " فهل هذا جائز؟
الجواب
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا شغار فى الإسلام " وصورته أن يزوج الرجل ابنته أو قريبته إلى رجل على أن يزوجه هو ابنته أو قريبته وليس بينهما صداق.
وسمى بذلك لخلوه من المهر وعدم معاوضة البضع، مأخوذ من شغر البلد إذا خلا من الناس، وليس فى هذا النوع عيب إلا خلوه من الصداق، فهو لا يمس العرض والشرف.
وقد أبطله الإسلام لأن البضع جعل مقابل البضع فلم تستفد منه المرأة شيئا، وقال ببطلانه الإمام الشافعى، أما أبو حنيفة فقد أجازه وألزم كلاًّ بمهر المثل،. وحكى ذلك عن عطاء والزهرى والليث بن سعد وغيرهم.
لكن لو جعل كل رجل مهرًا لمن يريد أن يتزوجها فالزواج صحيح لا غبار عليه. وهناك نوع من الزواج كانت العرب فى الجاهلية تمارسه أيضا وهو نكاح البدل أو المبادلة وصورته أن يقول رجل لآخر: خذ زوجتى وأعطنى زوجتك. روى الدارقطنى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كان البدل فى الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: انزل لى عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتى أزيدك فأنزل الله عز وجل {ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} الأحزاب: 152.
وذكر دخول عيينة بن حصن الفزارى على الرسول وعرض عليه أن ينزل له عن أحسن من عائشة، فقال له "إن الله قد حرم هذا" وأنكر الطبرانى أن يكون هذا النوع قد حدث عند العربى لكن القرطبى قال: إن هذه الحادثة تدل على أنه كان موجودا "تفسير القرطبى ج 14 ص 221"(9/482)
الصداق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل فى الإسلام شىء عن مؤخر ومقدم الصداق، وما رأى الدين فى حالة تنازل المرأة عنه، وما حكم المغالاة فى المهور؟
الجواب
الصداق عِوَض يدفع للمرأة عند النكاح، وهو ملك لها لا يجوز لوليها أو زوجها أن يأخذ شيئا منه إلا برضاها، كما قال تعالى {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} النساء:
4، وقال {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا " وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} النساء: 20، 21.
المهر يجوز أن يدفع مرة واحدة، وأن يدفع على أقساط، وذلك حسب الاتفاق وهو يجب بمجرد العقد ويتأكد بالدخول، ولو طلقها قبل الدخول كان لها النصف، كما قال تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح} البقرة: 337، أما الطلاق بعد الدخول فلا يبيح له استرداد شيء منه، وما دام المهر ملكا للزوجة فهى حرة التصرف فيه ما دامت عاقلة رشيدة، ويجوز لها أن تتنازل عنه كله أو بعضه،. كما تنص عليه الآية المذكورة، وكما يجوز عند الخلع أن تتنازل عنه كله أو بعضه بل تعطيه أكثر مما دفع كما ذهب إليه بعض الفقهاء، ودليله حديث حبيبة بنت سهل الأنصارية وقد اختلعت من زوجها ثابت بن قيس وردت إليه مهرها وهو حديقة أو حديقتان على خلاف فى الروايات وكان ذلك بأمر النبى صلى الله عليه وسلم ما رواه البخارى، وذلك بعد قوله تعالى {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} البقرة: 229.
وليس للصداق حد أدنى فيجوز أن يكون بكل ما يُموَّل، لحديث "التمس ولو خاتما من حديد" ورأى بعض الفقهاء ألا يقل عن ربع دينار، وبعضهم ألا يقل عن عشرة دراهم، بل يجوز أن يكون منفعة.
ولا حد لأكثره بدليل آية {وآتيتم إحداهن قنطارا" وقد ندب النبى صلى الله عليه وسلم إلى عدم المغالاة فيه، فقد روى أحمد والبيهقى بإسناد جيد حديث "من يمن المرأة أن تتيسر خطبتها وأن يتيسر صداقها وأن يتيسر رحمها "يعنى بالولادة، ولم يرض لفقير أن يكلف نفسه فوق طاقته فيدفع مهرا كبيرا بالنسبة إليه، فقد روى مسلم حديث الرجل الذى تزوج على أربع أواق فاستنكره النبى صلى الله عليه وسلم وقال "كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك فى بعث تصيب منه ... " فالمدار كله على طاقة الزوج والناس مختلفون فى ذلك، والغالب أن المغالاة فى المهور تكون من جهة الزوجة، إلى جانب ما يطلب من شبكة وهدايا ومصاريف أخرى، وهو أمر له نتائجه الخطيرة، فهو يقلل من الإقبال على الزواج وبخاصة فى الظروف الاقتصادية الحرجة ولو استدان الزوج قد يعجز عن الوفاء، وذلك له أثره على حياتها الزوجية، قد يحس بالنفور والامتعاض من الزوجة التى تسببت له فى الهم بالليل والذل بالنهار.
ومن أجل هذا نهى عمر عن المغالاة فى المهور بما يشبه أن يكون قرارا يسرى على الجميع، غير أن امرأة ذكرته بقوله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا} فرجع عن فكرته.
ومن الواجب أن يكون هناك تعاون بين الطرفين فى تيسير أمر الزواج بل على المجتمع ممثلا فى المسئولين أن يتدخل من أجل مصلحة الجميع(9/483)
عطر المرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها بعطر خفيف تقصد به إزالة رائحة العرق؟
الجواب
ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهى زانية، وكل عين زانية" رواه النسائى وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحيهما، ورواه الحاكم أيضا وقال: صحيح.
كما رواه أبو داود والترمذى بلفظ "كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس كذا وكذا" يعنى زانية، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وفى المأثور: خير عطر المرأة ما ظهر لونه وخفى ريحه.
يفهم من هذا أن وصف المرأة بأنها زانية أى تشبُّها، يقوم على وضعها العطر بقصد أن يجد الناس ريحها، وهذا واضح لا يشك أحد فى أنه مذموم، فالقصد به حينئذ الفتنة والإغراء، ولا يكون كذلك إلا إذا كان العطر نفَّاذا أو قويا، أما الخفيف الذى لا تجاوز رائحته مكانه إلا قليلا، والذى لا يقصد به الإغراء، بل إخفاء رائحة العرق مثلا فلا توصف المرأة معه بأنها كالزانية، وذلك لانتفاء المقصد ومع ذلك أرى أنه مكروه على الأقل، فإن الرائحة حتى لو كانت خفيفة فستجد من يتأثر بها من الرجال الذين تزدحم بهم الطرق والأسواق والمواصلات فأولى للمرأة الحرة العفيفة أن تبتعد عن كل ما يثير الفتنة من قريب أو بعيد.
وإزالة رائحة العرق تمكن بالاستحمام أو غسل المواضع التى يتكاثر فيها العرق ولا يحتاج إلى وضع روائح، فإن الخفيف منها يجر إلى الكثير القوى.
وهذا كله عند وجود رجال أجانب خارج البيت أو داخله، أما مع المحارم أو الزوج أو النساء فلا مانع من الروائح، وذلك لعدم فتنة المحارم بها ولإدخال السرور على قلب زوجها، وعدم انتقاد النساء لها.
وضمير المرأة له دخل كبير فى هذا الموضوع(9/484)
الإحداد على الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل لبس السواد حزنًا على الميت حرام؟
الجواب
ليكن معلوما أن الإحداد على الميت مشروع للنساء لا للرجال، وليس كل النساء فيه سواء، فهو واجب على الزوجة لوفاة زوجها مدة العدة، وجائز لها على غير زوجها ثلاثة أيام فقط، ويمنع بعدها، فقد روى البخارى ومسلم أن زينب بنت أبى سلمة دخلت على أم حبيبة رضى الله عنها زوج النبى صلى الله عليه وسلم حين توفى والدها أبو سفيان فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة، خلوق أو غيره، فدهنت به جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لى بالطيب من حاجة، غير أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تُحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" وورد مثل ذلك عن زينب بنت جحش وأم سلمة رضى الله عنهما، وإذا كان هذا محرما على النساء فهو على الرجال أولى.
ومن مظاهر الإحداد لبس الملابس التى لا تدل على الفرح والسرور، والناس مختلفون فى أعرافهم فى هذا الموضوع، ففى بعض البلاد يحدون على موتاهم بلبس الملابس البيضاء وغيرهم يحدون بالملابس السوداء، وهكذا.
والمهم أن إحداد المرأة على غير زوجها لا يجوز أن يتعدى ثلاثة أيام، والتى لم يمت لها قريب لا يجوز أن تجامل امرأة أخرى فى لبس السواد إذا كان إحدادها غير مشروع، فإن المجاملة فيها نوع من الرضا أو فيها عون على غير ما شرع الله، والرجال أولى بمراعاة هذا الحكم من النساء(9/485)
مكان العدة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تعتد المرأة عند الفرقة فى البيت الذى كانت فيه؟ .
وهل لها أن تخرج منه؟
الجواب
تعتد المرأة فى البيت الذى كانت تسكنه عند موت زوجها، سواء أكان البيت مملوكا لزوجها أم مؤجرا أم معارا، وهو مذهب الجمهور، ودليله حديث الفريعة بنت مالك بن سنان أخت أبى سعيد الخدرى لما مات زوجها خارج المدينة سألت النبى صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها، لأنه لم يتركها فى مسكن يملكه ولا نفقة، فقال لها أخيرا "اسكنى فى بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " رواه الترمذى وقال: حسن صحيح.
وملازمة البيت واجب عليها إن تركه لها الورثة ولم يكن عليها فيه ضرر، أو كان المسكن لها، فلو حوَّلها الوارث أو طلب أجرا لا تقدر عليه جاز لها أن تتحول إلى غيره.
وقال جماعة من الصحابة منهم عائشة وجابر: إن المتوفى عنها لا يلزم أن تعتد فى بيت الزوجية، بل يجوز لها أن تقضيها فى أى بيت، لأن الله حين أمرها بها لم يعين بيتا خاصا.
وقال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت، وإن شاءت خرجت، لقول الله عز وجل {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن من معروف} البقرة: 240.
وفى اعتداد المطلقة جاء قوله تعالى {يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} الطلاق: 1، أى ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت فى العدة ولا يجوز لها الخروج أيضا إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة، ودليله حديث مسلم عن جابر أن خالته لما طلقت وأرادت أن تخرج لتقطع ثمر نخلها زجرها رجل، فسألت النبى صلى الله عليه وسلم فقال "بلى، فجذِّى نخلك فإنك عسى أن تصدقى أو تفعلى معروفا".
يقول القرطبى فى تفسير الآية: والرجعية والمبتوتة فى هذا سواء، وإضافة البيوت إليهن إضافة إسكان وليس إضافة تمليك، ثم قال فى التعليق على الحديث: فى هذا دليل لمالك والشافعى وابن حنبل والليث على قولهم: إن المعتدة تخرج بالنهار فى حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل، وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة.
وقال الشافعى فى الرجعية: لا تخرج ليلا ولا نهارا، وإنما تخرج المبتوتة نهارا.
وقال أبو حنيفة: ذلك فى المتوفى عنها زوجها، وأما المطلقة فلا تخرج ليلا ولا نهارا، والحديث يرد عليه.
ثم ذكر القرطبى حديث الصحيحين فى طلاق فاطمة بنت قيس طلاقا بائنا، أن النبى صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تنتقل من بيتها الذى كانت فيه إلى بيت عبد الله ابن أم مكتوم لتعتد فيه لخوفها على نفسها فى البيت الأول كما جاء فى بعض روايات الصحيحين، ولما اعترض البعض على ذلك ردت عليهم بأن عدم الخروج إنما هو فى الطلاق الرجعى لأن زوجها قد يراجعها ما دامت فى عدتها، أما البائن فليس له شىء من ذلك.
فالخلاصة: أن المتوفى عنها زوجها تعتد فى بيت زوجها ولا تتركه إلا لعذر مقبول وذلك على رأى الجمهور.
وأجاز لها البعض الخيار فى أن تعتد فى أى مكان تشاء، ولها أن تخرج نهارا لكسب عيشها.
وأما المطلقة طلاقا رجعيا فتعتد في بيت مطلقها وتبيت فيه ليلا وأما خروجها نهارا لحاجة ففيه خلاف.
وأما المطلقة طلاقا بائنا فتعتد فى بيت مطلقها أيضا، ولا تتركه إلا لعذر، وقيل يجوز لها أن تعتد فى غيره كما فى حديث فاطمة بنت قيس ولها الخروج نهارا للحاجة.
هذا، وما دام الأمر خلافيا فيجوز الأخذ بأحد الآراء دون تعصب له، فالرأى الاجتهادى صواب يحتمل الخطأ، أو خطأ يحتمل الصواب، بهذا لا يكون هناك تناقض ولا تضارب فى أحكام الشريعة المنصوص عليها والمتفق على صحتها(9/486)
من أحكام الحائض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للحائض أن تذبح الطيور وتغسل ملابس زوجها التى يصلى فيها؟
الجواب
جاء فى سفر اللاويين "الإصحاح الخامس عشر كله " حديث طويل عن الدم. ومنه أن المرأة بعد سبعة أيام من انقطاع حيضها تقرب يمامتين أو فرخى حمام للكاهن، ويكفر عنها الكاهن أمام الرب من سيل نجاستها، وذكر القرطبى فى تفسيره أن من قبائل العرب من كانت الحائض عندهم مبغوضة، فقد كان بنو سليح أهل بلد الحضر-وهم من قضاعة - نصارى، إن حاضت المرأة أخرجوها من المدينة إلى الربض -ما حول البلد-حتى تطهر، وفعلوا ذلك بنصرة بنت الضيزن ملك الحضر، فكانت الحال مظنة حيرة للمسلمين فى هذا الأمر وتبعث على السؤال عنه.
وجاء فى صحيح مسلم "ج 3 ص 211" عن أنس رضى الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن فى البيوت - أى لا يجتمعون معهن - فسأل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم - الرسول فأنزل الله تعالى {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} البقرة: 222.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اصنعوا كل شىء إلا النكاح " فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله اليهود تقول كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما -أى غضب - فخرجا فاستقبلهما هدية من اللبن إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأرسل فى آثارهما فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما.
وجاء أبو الدحداح فى نفر من الصحابة فقالوا: يا رسول الله، البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيَّض، فقال "إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن ". ومن هنا نقول: يجوز للحائض أن تذبح الطيور وتذكر اسم الله، وتغسل ملابس زوجها وله أن يصلى فيها، وكل ذلك مع الاعتراف بأن الحائض تعتريها تغيرات فسيولوجية ربما نتعرض لها إن شاء الله(9/487)
وجه المرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول البعض: أن الحديث الذى روته السيدة عائشة عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذى يحل ظهور كفَّى المرأة ووجهها فقط حديث ضعيف. لأن الآية التى تتحدث عن الحجاب نزلت بعد هذا الحديث، وأن اللذين رويا هذا الحديث أحدهما لم يكن موجودا فى حياة السيدة عائشة والآخر كذاب، فما صحة هذا القول؟
الجواب
حديث السيدة عائشة رواه أبو داود وابن مردويه والبيهقى عن خالد بن دريك عنها، وهو أن أسماء بنت أبى بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " وأشار إلى وجهه وكفيه.
يقول الحافظ المنذرى فى " الترغيب والترهيب ج 3 ص 33": هذا مرسل، وخالد بن دريك لم يدرك عائشة، وذكره القرطبى فى تفسيره وقال: إنه منقطع. وقال ابن قدامة فى " المغنى ": إن صح هذا الحديث فيكون قبل نزول الحجاب.
وبناء على هذا لا يوجد دليل يستثنى وجه المرأة وكفيها من وجوب سترهما.
ويؤكد ذلك الشوكانى بأن المسلمين من قديم الزمان على ذلك، ويميل إلى هذا فى زمن يكثر فيه الفساق. والخلاف موجود بين الأئمة، وفى قول فى مذهب مالك: للمرأة أن تكشف وجهها وعلى الرجل أن يغض بصره، وقيل: يجب ستره، وقيل: يفرق بين الجميلة فيجب وبين غيرها، فيستحب.
وجاء فى "خليل " وشرحه ومحشِّيه كراهة انتقاب المرأة فى الصلاة وغيرها، لأنه من الغلو فى الدين، إذ لم ترد به السمحة، ما لم يكن من عادتهم ذلك.
وفى الموطأ جواز أكل المرأة مع غير ذى رحم. وقال ابن القطان: فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبى، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا، وقد أبقاه الباجى على ظاهره.
وتوجد نصوص أخرى للمالكية فى قولهم بجواز كشف المرأة وجهها أمام الأجانب " يراجع ذلك فى الجزء الثانى من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ".
وما دام الأمر خلافيا فلا يحكم ببطلان رأى ولا يجوز التعصب لغيره، وللإنسان حرية الاختيار، وكل هذا الخلاف ينتهى إذا كان وجه المرأة جميلا تخشى منه الفتنة فيجب ستره(9/488)
طلاق المدهوش والسكران
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يقع طلاق المدهوش والمُكره والسكران؟
الجواب
المدهوش هو الذى اعترته حالة انفعال لا يدرى فيها ما يقول ويفعل، أو يصل به الانفعال إلى درجة يغلب معها الخلل والاضطراب فى أقواله وأفعاله، وذلك بسبب فرط الخوف أو الحزن أو الغضب، ويلحق به من اختل إدراكه لكبر أو مرض. وهذا لا يقع طلاقه. والمكره لا يقع طلاقه عند الأئمة الثلاثة، اعتمادا على حديث " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " رواه أصحاب السنن برجال ثقات. .
وذلك لأن الإكراه يغلق على المكره طريق الإرادة، ولو نطق بالكفر لا يكفر، لقوله تعالى {إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان} النحل: 106، وأبو حنيفة يوقع طلاق المكره، معتمدا على حديث "لا قيلولة فى الطلاق " وهو حديث مطعون فيه. ورأى الجمهور هو المعتمد لقوة دليله.
والسكران هو الذى غطى على عقله بسبب تناول الخمر وما شاكلها حتى صار يهذى ويخلط فى كلامه ولا يعى بعد إفاقته ما كان منه حال سكره.
وفى الحكم على طلاقه تفصيل، فإن كان سكره من شىء حلال، أو من شىء حرام ولكن تحت الضغط والإكراه فلا يقع طلاقه، أما إن كان سكره بشىء حرام وهو متعمد له فإن طلاقه يقع، على الرغم من تغطية عقله، وذلك عقوبة له على عصيانه.
وكانت المحاكم الشرعية قبل صدور قانون 25 لسنة 1929 م تحكم بوقوع طلاق السكران والمكره كما قال الحنفية، لكن نص القانون فى المادة الأولى منه على أنه لا يقع طلاقهما، والفتوى عليه "انظر كتاب الأحوال الشخصية، للشيخ عبد الرحمن تاج "(9/489)
تبرج الجاهلية الأولى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الجاهلية الأولى، وماذا كانت عليه من التبرج المنهى عنه؟
الجواب
قال تعالى {وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} الأحزاب:
32، الآية مذكورة فى سياق النداء لنساء النبى صلى الله عليه وسلم.
ترشدهن إلى الاستقرار فى بيوتهن وعدم التبرج كما كان عند الجاهلية الأولى.
والتبرج قيل: هو المشى مع تبختر وتكسر، وقيل: هو أن تلقى المرأة خمارها على رأسها ولا تشده، فتنكشف قلائدها وقرطها وعنقها، وقيل: هو أن تبدى من محاسنها ما يجب ستره. وهو مأخوذ من البَرَج -بفتح الباء والراء -أى السعة، كما توصف العين الحسنة بالسعة، وكما يقال فى أسنانه برج، إذا كانت متفرقة. وقيل: هو من البرج -بضم الباء، أى القصر العالى.
ومعنى تبرجت ظهرت من برجها، وهو بهذا المعنى يجعل جملة "ولا تبرجن " مؤكدة لجملة "وقرن ".
والجاهلية الأولى مختلف فى تحديد زمنها. وملخص الأقوال كما فى تفسير القرطبى "ج 14 ص 179 ":
ا -ما بين آدم ونوح. وهى ثمانمائة سنة. قاله الحكم بن عيينة.
2 -ما بين نوح وإدريس، كما قاله ابن عباس.
3-ما بين نوح وإبراهيم، كما قاله الكلبى.
4 -ما بين موسى وعيسى، كما قاله جماعة.
5 -ما بين داود وسليمان. كما قاله أبو العالية.
6-ما بين عيسى ومحمد، كما قاله الشعبى.
وكلها أقوال لا يسندها دليل صحيح. فالقدر المتفق عليه أنها قبل البعثة النبوية بزمن طويل، لأن وصفها بالأولى يشعر بأن هناك جاهلية ثانية أتت بعدها، وهى أقرب منها إلى البعثة.
وكانت المرأة فى الجاهلية الأولى تلبس الدرع من اللؤلؤ، أو القميص من الدر غير مخيط الجانبين، وتلبس الرقاق من الثياب ولا توارى بدنها، فتمشى وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال.
وهذا يشعر بأن ذلك العهد عهد ترف، فهل كان فى أيام عاد وثمود حيث جاء فى القرآن الكريم ما يدل على أن هؤلاء كان فيهم حضارة وقوة وترف يبنون بكل مكان آية على قوتهم يعبثون ولا يجدّون بشكر الله. ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون. وأمدهم الله بأنعام وبنين وجنات وعيون، وينحتون من الجبال بيوتا فارهين؟ ربما يكون ذلك هو عهد الجاهلية الأولى، ومهما يكن من شىء فإن الجاهلية الثانية المتصلة ببعثة النبى صلى الله عليه وسلم ما كانت بهذا الثراء الفاحش، لكن كان فى بعض نسائها بعض مظاهر التبرج، الذى قد يصل إلى العرى الكامل فى بعض الأحيان. فقد ذكر مسلم فى صحيحه "كتاب التفسير" أن المرأة كانت تطوف بالبيت وهى عريانة - وفى لسان العرب: إلا أنها كانت تلبس رهطا من سيور-فتقول: من يعيرنى تطوافا-بفتح التاء وكسرها-تجعله على عورتها وتقول:
اليومَ يبدو بعضُه أوكلُّهُ * فما بدا منه فلا أُحِلُّهُ فنزل قوله تعالى {يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} الأعراف: 31 وكان إعطاء المرأة ما تطوف به يُعد من البر.
ووصف التبرج بأنه تبرج الجاهلية الأولى، لا يعنى أن المنهى عنه هو ما كان على هذه الصورة الفاضحة، بل هذا الوصف لبيان الواقع وليس قيدا لإخراج ما عداه من الحكم. ويراد به بيان شناعته ومضادته للذوق والفطرة السليمة.
فلا يقال: إن التبرج البسيط معفو عنه ما دام لم يكن فاضحا حسب العرف الذى يحدده، ومثاله قوله تعالى فى الربا {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} فالمراد النهى عنه مطلقا حتى لو كان بسيطا، لكن ذلك هو ما كان عليه العرب كمظهر من مظاهر الجشع والاستغلال.
والتبرج المنهى عنه فى الإسلام هو كشف العورة التى يختلف حجمها أو مساحتها باختلاف من يطلعون عليها، فمع المحارم كالأب والابن والأخ، هى ما بين السرة والركبة، ومع الرجال الأجانب هى جميع البدن ما عدا الوجه والكفين، والخدم الموجودون الآن رجال أجانب، وعورة المرأة مع المرأة كعورتها مع المحارم. وليس من المحارم ابن العم وابن العمة وابن الخال وابن الخالة، وأخو الزوج وكل أقاربه ما عدا والده.
وإذا جاز لها كشف الوجه مع الأجانب فليكن من غير أصباغ ومغريات فاتنة، فالمقصود من النهى عن التبرج هو عدم الفتنة وسد باب الفساد.
وإذا كان النهى موجها. إلى نساء النبى فغيرهن أولى، لعدم وجود ما لديهن من الشرف والحصانة والانتساب للرسول والبيئة الصالحة.
ويتبع كشف العورة لين الكلام والتعطر والخلوة والتلامس وكل ما يدعو إلى الفتنة(9/490)
أسبوع المولود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أيهما أفضل: عمل ما يسمى بالسبوع أم العقيقة بعد الولادة؟
الجواب
كلمة السبوع فى لغة العامة مأخوذة من العدد سبعة، الذى ورد أن الإنسان يسن أن يسمى ولده ويعق عنه ويحلق شعره ويتصدق بمثله فضة أو ذهبا يوم السابع.
فروى أصحاب السنن قوله صلى الله عليه وسلم "الغلام مرتهن بعقيقة تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه " وهو حديث صحيح كما قال الترمذى.
وروى الترمذى أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق.
ومعنى مرتهن لا ينمو نمو مثله، ولا يأمن من الأذى. وقيل إن المعنى لا يشفع لوالده إن مات صغيرا.
وإن لم يتيسر الذبح يوم السابع ففى اليوم الرابع عشر، وإلا ففى اليوم الحادى والعشرين، وإلا ففى أى يوم.
هذا، وما يعمل يوم السابع من رَشِّ الملح وإيقاد الشموع والدق بالهاون والكلمات المخصوصة التى ترجع إلى أفكار غير صحيحة لا أصل له فى الدين.
مع التنبيه على مراعاة الآداب عند اجتماع الأهل والأصحاب للاحتفال بالمولود يوم سابعه أو فى مناسبات أخرى(9/491)
ما تمسه الحائض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يعتبر كل ما تلمسه الحائض نجسا إذا لم يتم تطهيره بغسله سبع مرات مع التلفظ بالشهادة؟
الجواب
هذه نظرة قديمة كانت عند بعض عرب الجاهلية تأثروا فيها باليهود الذين كانوا يقولون. إن أى شىء تمسه الحائض ينجس، ويجب غسله، فإن مست لحم القربان أحرق بالنار، ومن مسها أو مس شيئا من ثيابها وجب عليه الغسل، وما عجنته أو طبخته أو غسلته فهو نجس وحرام على الطاهرين حلال للحيَّض، ذكر ذلك المقريزى فى خططه "ج 4 ص 373". ولو أردت أن تعرف مقدار تحرجهم منها فاقرأ سفر اللاويين "إصحاح 15 " كله، ففيه حديث طويل عن الدم [راجع ص 50 من الجزء الثالث من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام] .
أبطل الإسلام ذلك وكرَّم المرأة بما لم تكرم به من قبل ولا من بعد.
ويمكن الرجوع إلى عنوان "التعامل مع الحائض " لمعرفة طرف من ذلك، وما دامت يد الحائض طاهرة من النجس فإن ما تمسه لا يتنجس أبدا ودم الحيض لا ينجس إلا المكان الذى خرج منه أو أصابه من الجسم أو الثياب. ولا داعى لتطهير ما لمسته، لا مرة ولا سبع مرات(9/492)
المرأة التى لا ترد يد لامس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: شكا رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم أن امرأته لا ترد يد لامس، فقال "طلقها" قال: إنى أخاف أن تتبعها نفسى، فقال " استمتع بها"؟ وقد قرأت أن ابن القيم يقول: أى أنها لا تجذب نفسها ممن لاعبها ووضع يده عليها أو جذب ثوبها ونحو ذلك، فإن من النساء من تلين عند الحديث واللعب ونحوه "روضة المحبين ص 130 "؟
الجواب
هذا الحديث رواه أبو داود عن ابن عباس، ورواه الترمذى والبزار، ورجاله ثقات، وأخرجه النسائى من وجه آخر، وقال عنه: إنه مرسل وليس بثابت، وقال أحمد: حديث منكر، وذكره ابن الجوزى فى الموضوعات "الإحياء ج 2 ص 34" وذكره صاحب "المطالب العالية ج 2 ص 53" وقال: رواه أحمد بن منيع بسند ضعيف كما قاله البوصيرى.
وعلى فرض ثبوته اختلف فى معناه، فاختار أحمد أن عيبها اقتصادى وليس خلقيا يتصل بالشرف، أى أنها تعطى من يطلب منها إحسانا ولا ترد أحدا يلتمس منها ذلك، وهذا يؤثر على الحالة الاقتصادية للزوج، ولما علم الرسول أنه يحبها أمره بإمساكها، فربما تميل إليها نفسه بالمعصية.
وقيل: إن عيبها خلقى لا تتورع عن الفاحشة، ولكن كيف يأمره النبى بإمساكها وهو الذى ذم الديوث الذى يقر السوء على أهله؟ قيل:
إن النبى صلى الله عليه وسلم أمره أولا بطلاقها، ولما وجد تعلقه بها أمره بإمساكها من أجل تربية الأولاد أو عدم الصبر على الاتصال بها إن طلقها، لكن ذلك كله يتنافى مع الشرف الذى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحمايته.
وقيل: إن طبعها هو ذلك لكنه لم يقع منها شىء، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يقر الفاحشة، ولعل هذا التفسير أقرب، يقول فيه على وابن مسعود:
إذا جاءكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذى هو أهدى وأتقى"تفسير ابن كثير لسورة النور، ونهاية ابن الأثير"(9/493)
عدد الرضعات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو عدد الرضعات التى يحرم بسببها الزواج؟
الجواب
قال تعالى فى آية المحرمات من النساء {وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} النساء: 23.
والرضاع المحرم للمصاهرة اختلف الفقهاء فى عدد مراته، ويتلخص ذلك فيما يلى:
1 - قليل الرضاع وكثيره سواء فى التحريم، أى بالمرة الواحدة والمرات الكثيرة، وبالقدر القليل فى الرضعة الواحدة والكثير منها، وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة، وزعم الليث بن سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم فى المهد ما يفطر به الصائم، وهذا القول رواية عن أحمد.
وحجتهم أن الله علَّق التحريم باسم الرضاعة، فحيث وجد اسمها وجد حكمها، ولأنه فعل يتعلق به التحريم فاستوى قليله وكثيره، وذلك للاحتياط فى الأبضاع بالذات، ولأن إنشاز العظم وإنبات اللحم يحصل بالقليل والكثير، ولأن القائلين بالعدد اختلفت أقوالهم فى الرضعة وحقيقتها، ولأن النبى صلى الله عليه وسلم لما رفعت له قضية عقبة بن الحارث الذى تزوج أم يحيى بنت أبى إهاب، وجاءت أَمة سوداء فقالت: قد أرضعتهما، لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدد الرضعات، وهو فى الصحيحين عن عائشة.
2 - لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث رضعات، وهو رواية ثانية عن أحمد بن حنبل، ودليل هذا الرأى حديث " لا تحرِّم المصة ولا المصتان " وفى رواية "لا تحرم الإملاجة والإملاجتان " رواه مسلم عن عائشة، وأقل مرتبة فى التحريم بالعدد بعد المرتين هو الثلاثة.
3- لا يثبت التحريم بأقل من خمس رضعات، وهو مذهب الشافعى وأحمد فى ظاهر مذهبه، وقول ابن حزم الذى خالف داود الظاهرى فى هذه المسألة، وهو أحد الروايات الثلاث عن عائشة، والرواية الثانية عنها أنه لا يحرم بأقل من سبع رضعات، والثالثة لا يحرم بأقل من عشر.
وحجة القائلين بالخمس حديث عائشة فى الصحيحين البخارى ومسلم:
كان فيما نزل من القرآن "عشر رضعات يحرمن " ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن، وما رواه مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لسهلة بنت سهيل "أرضعى سالما خمس رضعات تحرمى عليه ".
قالوا: عائشة أعلم الأمة بحكم هذه المسألة هى ونساء النبى صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة إذا أرادت أن تدخل عليها أحدا أمرت إحدى بنات إخوتها أو أخواتها أن ترضعه خمس رضعات، وقالوا أيضا: نفى التحريم بالرضعة والرضعتين صريح فى عدم تعليق التحريم بالقليل والكثير، وهى ثلاثة أحاديث صحيحة صريحة، والتعليق بالخمس لا يخالف نصًا، وإنما هو تقييد للمطلق، فهو بيان للقراَن لا نسخ ولا تخصيص.
ومن علق التحريم بالثلاث خالف أحاديث الخمس، واختار القضاء المصرى هذا الرأى وعليه الفتوى.
ثم إن القائلين بالرأيين الأولين ردوا حديث عائشة، لأنها نقلته نقل قرآن، ولا يقبل فيه الآحاد، بل لابد فى قبوله من التواتر، وعلى هذا لا يثبت به حكم ما دام غير قرآن، ورد عليهم أصحاب الرأى الثالث بأن خبرها يقبل قبول الأحاديث ويكفى فيه خبر الواحد، لأنه ما دام لم يقبل كقرآن فليس هناك إلا أن يقبل كحديث نبوى، لأنه لا يصح نسبته إليها كقول خاص بها، فإن هذا الأمر لا يقال فيه بالرأى، ولذلك عده رجال الحديث من السنة النبوية. والموضوع مبسوط فى كتاب "زاد المعاد" لابن القيم ج 4 ص 167 - 182 وملخص فى الجزء الأول من "موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام " ص 361.
هذا، واشترط القائلون بالتحريم بتعدد الرضعات أن يكون العدد متيقنا، ولو حدث شك فى ذلك لا يثبت التحريم، ومن هنا أنبه من تقوم بإرضاع غير طفلها أن تسجل ذلك أو تُعْلِمَ به عددا من الناس حتى يشتهر أمره، حتى لا يتم فى المستقبل زواج بين أخوين من الرضاعة فى غيبة الأم المرضع أو نسيانها.
وأرى أنه عند الشك - وإن كان لا يثبت به التحريم -ألا يتم الزواج، ما لم تكن ضرورة أو حاجة مُلِحة(9/494)
رضاع المسلم من كافرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يحرم أن يرضع مسلم من كافرة وهل يكون كافرا لو رضع منها؟
الجواب
الإنسان قبل البلوغ تابع فى الدين لأشرف الأبوين دينا، فإن كان أبوه مسلما وأمه يهودية أو نصرانية فهو مسلم، وإن كان أبوه مجوسيا وأمه يهودية أو نصرانية فهو يهودى أو نصرانى تبعا لأمه، لأن دينها أشرف من دين أبيه.
فإذا بلغ الصبى صار مكلفا وجرى عليه هذا الحكم الذى كان عليه، فإذا تحول عنه صار مرتدا.
وكل ذلك فى الأبوة والأمومة النسبية، أما الأبوة أو الأمومة بسبب الرضاع، وإن كانت لها أحكام فى الزواج وما يتصل به، فلا ينسحب حكمها على الرضيع من جهة الدين ولا يحرم أن يرضع طفل مسلم من غير مسلمة لعدم وجود دليل على التحريم، وبخاصة إذا لم يوجد غيرها، وإذا رضع بقى على دينه مسلما، ولو رضع طفل مسيحى أو يهودى من مسلمة بقى على دين اليهودية أو النصرانية.
وعليه فالرضيع المسلم من امرأة يهودية أو نصرانية يحرم عليه أن يتزوج ممن أرضعته، لأنها أمه من الرضاعة، والزواج منها محرم، ويجوز له لمسها والجلوس معها فى خلوة والنظر إلى غير ما بين السرة والركبة كأنها أمه النسبية فى هذه الأحكام أما دينه فلا يتأثر بهذا الرضاع(9/495)
مرضع عجوز
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
امرأة كبيرة فى السن لا يوجد بثديها لبن وكانت تلقمه لطفلة صغيرة حتى تسكت من البكاء، فهل تعتبر هذه الطفلة ابنتها من الرضاع؟
الجواب
الرضاع المحرم للمصاهرة هو ما أنبت اللحم وأنشز العظم كما هو شأنه، بمعنى أن يكون بالمرضع لبن فعلاً يتغذى به الرضيع، فإذا كانت المرضع كبيرة فى السن وليس بثديها لبن بالفعل، فإن الطفلة لم تتغذ بلبن، وإنما سكتت عن البكاء كأنها ترضع، وذلك أشبه بما يوضع فى فم الطفل من حلمة صناعية يخيل إليه أنه يرضع منها فيسكت أو ينام، وعليه فلا تثبت حرمة بهذا الرضاع الخالى من اللبن.
ولو كانت فتاة لم تتزوج ولا يوجد فى ثديها لبن أو أى سائل لو رضعت منه طفلة أو طفل لا يثبت به تحريم، أما لو كان فى ثديها لبن بأى شكل من الأشكال فالتحريم يثبت بالرضاع منه. جاء فى كفاية الأخيار فى فقه الشافعية "ج 2 ص 121 " ولا فرق فى المرضعة بين كونها مزوجة أم لا، ولا بين كونها بكرا أم لا، وقيل: لا يحرم لبن البكر، والصحيح أنه يحرم، ونص عليه الشافعى.
وجاء فى تحفة المحتاج لشرح المنهاج "ج 8 ص. 28" فى فقه الشافعية أن المرضع إذا كانت - صغيرة أو آيسة وتأكدت أن ما ينزل من ثديها ليس له وصف اللبن ولكن هو ما يسمى عرفا بالمصل أو المِش الحصير، فإنه لا يترتب عليه تحريم، أما لو كان له وصف اللبن حتى لو كان نقطة واحدة فإن التحريم يثبت بذلك ولا يشترط كون الرضعات مشبعات "الفتاوى الإسلامية ج 9 ص 2365، 3274".
هذا، والصغيرة التى لا يعتبر رضاعها هى التى لم تبلغ تسع سنين كما قال الشافعية، لأنها لا تحتمل البلوغ ولا الولادة، واللبن المحرِّم فرع ذلك "الشرقاوى على التحرير ج 2 ص 340"(9/496)
الحائض وسوط اللبن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هلا صحيح أن المرأة الحائض لو وضعت يدها فى اللبن الحليب تَخثر؟
الجواب
ذكر ابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث "ص 231 " أن المرأة الطامث "الحائض " تدنو من اللبن لتسوطه - تخلطه - وهى منظفة الكف والثوب فيفسد اللبن، وقد تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس فيه من غير أن تمسها.
وجاء فى كتاب "محاضرات الأدباء " للراغب الأصبهانى "ج 1 ص 200" أنهم قالوا: إن الطامث تدنو من إناء اللبن لتسوطه فتفسده.
ومن أجل ما عند الحائض من إفرازات ضارة كان اليهود يقولون: إن أى شىء تمسه الحائض ينجس ويجب غسله، فإن مست لحم القربان أحرق بالنار، ومن مسها أو مس شيئا من ثيابها وجب عليه الغسل، وما عجنته أو طبخته أو غسلته فهو نجس حرام على الطاهرين حل للحيّض "خطط المقريزى ج 4 ص 373".
ولعل مما يفسر هذه الظواهر ما نشرته مجلة "الحوادث " اللبنانية بتاريخ أول نوفمبر سنة 1974 ص69: أن المجلة الطبية البريطانية "ذى لانسيت " ذكرت القصة التالية: تسلم أحد الأطباء باقة زهور، فأمر الممرضة بوضعها فى الماء فامتنعت، ثم أرغمها على وضعها.
وبعد بضع ساعات ذبلت الزهور، وأخبرت الممرضة الطبيب بأن هذا سبب امتناعها عن وضعها فى الماء، فإن الزهور تذبل كلما مستها وهى حائض.
والتفسير العلمى لذلك أن جلد المرأة الحائض يفرز مادة تسمم النبات، ويعتقد بعضهم أن هذه المادة شبيهة بمادة "أوكسيخو لستريف " وزعم بعض الأطباء أيضا أنهم لاحظوا ظاهرة غريبة لدى بعض النساء وقت الحيض، وهى أن جلد الأصابع يكتسى ببقعة سوداء تحت محبس الزواج "كذا" ولاحظوا أيضا أن المرأة المنقبضة النفس قد تفرز مادة خاصة مضرة للأزهار أيضا، وجاء فى " عجائب المخلوقات " للقزوينى غرائب مماثلة عن الحائض، وذلك كله يفسر معنى الأذى فى الحيض والأمر باعتزال القربان حتى ينتفى، ولزيادة المعلومات يرجع إلى الجزء الثالث من كتاب "الأسرة تحت رعاية الإسلام "(9/497)
البكر والثيب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الحد الفاصل بين البكر والثيب وأحكام كل منهما؟
الجواب
البكر هى المرأة التى لم تزل بكارتها بوطء حلال أو شبهة أو زنا والثيب هى التى زالت بكارتها بشىء من ذلك، والبكارة هى الغشاء الخاص الموجود فى فرج المرأة، جاء فى "كفاية الأخيار " فى فقه الشافعية "ج 2 ص 47 " أن الثيوبة لو حصلت بالسقطة أو بأصبع أو حدة الطمث وهو الحيض، أو طول التعنيس، وهو بقاوها زمانا بعد أن بلغت حد التزويج ولم تزوج فالصحيح أنها كالأبكار، ولو وطئت مكرهة أو نائمة أو مجنونة فالأصح أنها كالثيب، وقيل كالبكر، ولو خلقت بدون بكارة فهى بكر.
وجاء فى المصدر نفسه أن المرأة لو ادعت البكارة أو الثيوبة فالصيمرى والماوردى قطعا بأن القول قولها، ولا يكشف حالها، لأنها أعلم، قال الماوردى: ولا تسأل عن الوطء ولا يشترط أن يكون لها زوج، قال الشاشى: وفى هذا نظر، لأنها ربما أذهبت بكارتها بأصبعها،فله أن يسألها، فإن اتهمها حلَّفها.
قلت: طبع النساء نزاع إلى ادعاء نفى ما يجر إلى العار، فينبغى مراجعة القوابل فى ذلك وإن كان الأصل البكارة، لأن الزمان قد كثر فساده فلابد من مراجعة القوابل ولا يكفى السكوت، احتياطا للأبضاع والأنساب.
ومن أهم الأحكام المترتبة على ذلك أن البكر عندما تستأذن فى الزواج يكفى سكوتها، أما الثيب فلابد من نطقها بالقبول أو الرفض، روى مسلم أن النبى قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها ".
ومن الأحكام أن الزوج لو تزوج بأخرى خصها بسبع ليال إن كانت بكرا، أما إن كانت ثيبا فيخصها بثلاث ليال فقط، ثم يسوى بين الجميع بعد ذلك فى القَسْمِ، لقول أنس رضى الله عنه "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم " قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنَسًا رفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم، رواه البخارى ومسلم.
ولو تزوج المرأة على أنها بكر فبانت ثيبا فالنكاح صحيح، وهو بالخيار إن شاء أمسك وإن شاء طلق، مع العلم بأن كتمانها ذلك حرام، لأنه غش والغش حرام(9/498)
دبلة الخطوبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن دبلة الخطوبة بدعه وحرام؟
الجواب
خاتم الخطوبة أو الزواج له قصة ترجع إلى آلاف السنين، فقد قيل: إن أول من ابتدعها الفراعنة، ثم ظهرت عند الإغريق، وقيل إن أصلها مأخوذ من عادة قديمة، هى أنه عند الخطبة توضع يد الفتاة فى يد الفتى ويضمهما قيد حديدى عند خروجهما من بيت أبيها، ثم يركب هو براده وهى سائرة خلفه ماشية مع هذا الرباط حتى يصلا إلى بيت الزوجية، وقد تطول المسافة بين البيتين، ثم أصبحت عادة الخاتم تقليدا مرعيا فى العالم كله.
وعادة لبسها فى بنصر اليسرى مأخوذة عن اعتقاد الإغريق أن عرق القلب يمر فى هذا الإصبع، وأشد الناس حرصا على ذلك هم الإنجليز وقيل: أن خاتم الخطوبة تقليد نصرانى.
والمسلمون أخذوا هذه العادة، بصرف النظر عن الدافع إليها، وحرصوا على أن يلبسها الطرفان، ويتشاءمون إذا خلعت أو غير وضعها، وهذا كله لا يقره الدين.
والمهم أن نعرف حكم لبسها.
أما اللبس فى حد ذاته فليس محرما حيث لم يرد نص فى التحريم، ولم يقصد التشبه بالكفار، فالتشبه ممنوع وبخاصة إذا كان فى معنى دينى لا يرضاه الإسلام، ثم نقول: إن كانت الدبلة من فضة فلا بأس بها للرجال والنساء، أما إن كانت من ذهب فهى حرام على الرجال حلال للنساء، وذلك لعدة أحاديث وردت فى ذلك، منها حديث رواه الترمذى بإسناد حسن "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتى وأحل لإناثهم " وحديث مسلم "ونهأنا عن خواتم - أو عن تختم - بالذهب " وحديثه أيضا "يعمد أحدكم إلى جمرة نار فيجعلها فى يده "؟ وذلك عندما رأى خاتما من ذهب فى يد رجل، فنزعه فطرحه.
ومن أراد التوسع فى معرفة تاريخ الدبلة والباعث عليها والعبارات المكتوبة عليها وغير ذلك فليرجع إلى الجزء الأول من كتابنا "موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام "(9/499)
عقد الزواج بالمسرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يصح عقد الزواج عن طريق التليفون بين الزوجين والشهود؟
الجواب
لا بد لصحة عقد الزواج من وجود الشاهدين مع الزوجين مجلس العقد، وذلك للتأكد من شخصية الزوجين وسماع الصيغة، وقد يحصل التأكد إذا أرسل الزوج كتابا إلى الزوجة بأنه تزوجها وقبلت هى وشهد على قبولها شاهدان،فالكتاب الموقع عليه منه يقوم مقام النطق بالصيغة كما قال بعض العلماء.
أما الكلام فى المسرة "التليفون " فالتحقق فيه من صوت الزوج فيه عسر، لإمكان التقليد والمحاكاة للأصوات، وإذا سمعته الزوجة فالشاهدان ربما لا يسمعانه، اللهم إلا إذا كانت الزوجة والشاهدان يسمعون من سماعة واحدة بالآلات الحديثة، ومع ذلك ففيه عسر فى التأكد. ويمكن أن يقال: إنه بتطور آلات الاتصال التى تنقل بها الصورة مع الصوت قد يحصل التأكد من شخصية الطرفين وكلامهما بالإيجاب والقبول، وتجرى هذه الرؤية عن بعد مجرى الحضور فى المجلس الواحد الذى اشترطه الفقهاء. وهنا يكون العقد صحيحا. "راجع كتاب: أحكام الأسرة فى الإسلام، للدكتور محمد مصطفى شلبى".
وجاء فى كتاب الأحوال الشخصية للدكتور الشيخ عبد الرحمن تاج "ص 24": أن أحد المتعاقدين إذا كان غير حاضر مع الآخر فى مجلس واحد فإنه يمكن أن يتعاقد بوساطة رسول أو كتاب، وتقوم عبارة الرسول وما سطر فى الكتاب مقام تلفظ العاقد الحاضر، والشهادة اللازمة لصحة العقد يلزم توافرها فى مجلس القبول الذى يصدر من المرسل إليه أو المبعوث إليه الكتاب. ولا يلزم أن يُشهِد صاحب الكتاب على كتابه، بل يكفى أن يشهد الشهود فى مجلس القبول على هذا القبول، وعلى ما جاء فى الكتاب بعد قراءته عليهم أو إخبارهم بما فيه، فإن ذلك يقوم مقام حضور صاحب الكتاب وتلفظه فى المجلس. ويجب التنبيه على التثبت من أن الكتاب هو كتاب فلان وذلك بشهادة من قرأوه أو علموا بما فيه، فإنه قد ينكر، وهنا لا يثبت الزواج، وتنص لائحة المحاكم الشرعية على أنه لا تسمع عند الإنكار دعوى الزوجية إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة رسمية(9/500)
العدة فى الطلاق الغيابى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
زوج طلبت زوجته من المحكمة الطلاق منه فحكمت بطلاقها، ثم استأنف الزوج الحكم، فمتى تبدأ عدة المطلقة؟
الجواب
تبدأ عدهَ الطلاق من تاريخه سواء أكان المطلق هو الزوج أو المحكمة، وفى الطلاق الغيابى الصادر من المحكمة لا تبدأ العدة إلا إذا صار نهائيا، وذلك إن مضت مدة المعارضة والاستئناف ولم يعارض ولم يستأنف، أو استأنف وتأيد الحكم. أما إذا لم يصر الحكم بالطلاق نهائيا فلا تترتب عليه آثاره ومنه العدة حتى يكون نهائيا " الفتاوى الإسلامية " المجلد 6 ص 2193 "(10/1)
نية الطلاق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تحدثنى نفسى بأننى أطلق زوجتى، وأحيانا أطلقها بقلبى دون أن أتلفظ بالطلاق، فهل يقع الطلاق بالنية والحديث النفسى؟
الجواب
أثار القرطبى فى تفسيره "ج 8 ص 210" هذه المسألة فقال:
العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به، قاله علماؤنا -أى المالكية- وقال الشافعى وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به، وهو القول الأخر لعلمائنا. قال ابن العربى - المالكى - والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك -وقد سئل: إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه -فقال: يلزمه، كما يكون مؤمنا بقلبه وكافرا بقلبه.
قال ابن العربى: وهذا أصل بديع، وتحرير أن يقال:
عقد لا يفتقر فيه المز إلى غيره فى التزامه فانعقد عليه بنية، أصله الإيمان والكفر.
قلت -أى القرطبى- وحجة القول الثانى ما رواه مسلم عن أبى هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " ورواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم: أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به، قال أبو عمر: ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه، فليس بشىء.
هذا هو الأشهر عن مالك، وقد روى عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه، كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه. والأول أصح فى النظر وطريق الأثر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "تجاوز الله لأمتى عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد". فالخلاصة أن نية الطلاق لا يقع بها طلاق عند جمهور العلماء(10/2)
من آداب الحياة الزوجية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نقرأ فى الكتب والصحف عن تجارب المفكرين فى وسائل محافظة الزوجة على قلب زوجها أشياء كثيرة قد تكون صدى لإحساس خاص، أو نَضْحًا لبيئة بعرفها المناسب لها، فهل فى الإسلام شىء من هذه الوسائل التى تستعين بها الزوجة على سعادة زوجها والأسرة؟
الجواب
الإسلام وهو الدين الذى أكمله الله وأتم به النعمة فيه تبيان كل شىء يحقق السعادة للفرد والمجتمع فى الدنيا والآخرة، وكل تشريعاته العامة والخاصة لها صلة كبيرة بإسعاد الحياة الزوجية، ومع ما عرفناه مأثور العرب فى وصايا بناتهم عند الزواج نورد بعضا من هذه الآداب:
1- أن تكون الزوجة صورة حسنة فى عين زوجها تجذب قلبه إليها، وذلك بالعناية بجمالها، وقد مر الحديث عنه وموقف الإسلام منه.
2 -تنسيق البيت بشكل يدخل السرور على قلب الزوج، وتجديد هذا التنسيق حتى يتجدد شعوره بالسرور، ولا تسير الحياة على وتيرة واحدة.
3-توفير الجو الهادى له ليستريح من عناء عمله، وبخاصة فى أيام الراحة، التى لا ينبغى أن تشغلها بما يصرفها عنه، ولا تترك الأولاد يعكرون صفو هذا الجو.
4 -مشاركته فى فرحه وفى حزنه، ومحاولة التسرية عنه بكلام طيب أو عمل سار، كما كانت السيدة خديجة رضى الله عنها مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم أن جاء من الغار يرجف فؤاده، فطمأنته بأن الله لا يخزيه أبدا.
5 -معرفة مواعيد أكله ونومه وعمل الحساب لكل منها، وذلك بإعداد طعامه الذى يشتهيه والهدوء التام عند نومه الذى يحب أن يهدأ الجو من حوله ليشعر بالراحة.
6-عدم إظهار الاشمئزاز منه لعيب وجد فيه كمرض وفقر وكبر سن، ومحاولة تخفيف هذه الآلام عنه بالقول أو الفعل، فهذا ضرب من الوفاء له.
7 - الأدب معه فى الحديث، واختيار الألفاظ المحببة إلى قلبه، وعدم مراجعته بصورة تثير غضبه، أو تجرح شعوره، فقد يكون من وراء ذلك هدم الأسرة.
8 - عدم المن والتطاول عليه بغناها أو حسبها أو منصبها مثلا، وعدم ذكره بالسوء والشكاية منه إلا فى أضيق الحدود، لدفع شر يتوقع مثلا، جاء فى إحياء علوم الدين للغزالى أن الأصمعى قال: دخلت البادية فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس وجها، وزوجها من أقبح الناس وجها فقلت لها: يا هذه أترضين لنفسك أن تكونى زوجة له؟ فقالت: اسكت يا هذا، فقد أسأت فى قولك، لعله أحسن فيما بينه وبين الله فجعلنى ثوابه. أو لعلنى أسأت فيما بينى وبين ربى فجعله عقوبتى، أفلا أرضى بما رضى الله لى؟ .
تلك وأمثالها آداب يقرها الإسلام ويدعو إليها، وأولى أن نتبعها بدل أن نتبع التقاليد الأخرى التى لا تناسبنا، فلكلٍّ شرعة ومنهاج(10/3)
الوفاء للزوج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مضى على زواجنا عشرون سنة وأنا متمتعة بحياة زوجة سعيدة، ولكن زوجى مرضى مرضا أحسست بأننى لا أطيق البقاء معه، لقيامى على خدمته وضيق ذات اليد عندنا، فهل من الجائز أن أطلب الانفصال عنه، أو الأفضل أن أظل معه مع المعاناة الشديدة التى أعيش فيها؟
الجواب
لا شك أن الحياة متقلبة بين اليسر والعسر، والصحة، والمرض، والمؤمن الصادق يثبت جدارته بالحياة فى كل الأحوال، كما جاء فى الحديث الذى رواه مسلم " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ".
والزوجة تقر بأنها عاشت مع زوجها أياما سعيدة عندما كان صحيح الجسم وافر الثراء، فهل من المروءة والإنسانية أن تتركه فى محنته لتتزوج غيره تكمل معه مشوار حياتها سعيدة كما بدأته.
إن التى تفكر فى ذلك تدخل تحت حكم الحديث الذى ينهى عن كفران العشير، فقد نسيت ما قدمه لها زوجها من خير، وتبخر بسرعة ما نعمت به سنوات طوالا، وقد صح فى الحديث الذى رواه مسلم عن أمر النبى صلى الله عليه وسلم النساء يوم العيد بكثرة التصدق، لأن أكثرهن حطب جهنم، بسبب كثرة الشكاة وكفران العشير "لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط ".
إن الزوجة الصالحة تعين زوجها على نوائب الدهر لا أن تتخلى عنه، وكفى بالسيدة خديجة رضى الله عنها مثالا رائعا فى صدق معونتها للنبى صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل والمال. وبهاجر أم إسماعيل التى تحملت الوحدة وقاست البعد والألم طاعة لأمر الله وأمر زوجها إبراهيم، وبأم الدحداح التى شجعت زوجها على التصدق بالحديقة فى سبيل الله، وبزينب الثقفية التى ساعدت زوجها ابن مسعود بمالها فى حال إعساره، وبزينب بنت النبى صلى الله عليه وسلم التى وفت لزوجها فخلصته من الأسر بأعز ما تملكه.
إن النبى صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تطلب الطلاق من زوجها إلا إذا كان هناك سبب قاهر يجعل الحياة متعذرة أو متعسرة، ففى الحديث الحسن الذى رواه الترمذى وأبو داود وابن ماجه "أيما امرأة سالت زوجها طلاقا من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة ".
وفقر الزوج المريض إن وصل إلى حد الإعسار بالنفقة الواجبة، هل يجيز لها طلب التفريق أو لا؟ مذاهب الفقهاء فى ذلك مختلفة، فقيل: يجبر على طلاقها عند إعساره أو امتناعه، وقيل: يؤجل شهرا ثم يطلق عليه الحاكم، وقيل: تخير إن شاءت أقامت وإن شاءت فسخت، وقيل ليس لها الفسخ ولكن تَرْفَعُ يده عنها لتكتسب، وليس عليها أن تمكنه من الاستمتاع بها، والاحتجاج لكل هذه الآراء طويل يمكن الرجوع إليه فى كتاب زاد المعاد لابن القيم، الذى قال فى ختام بحثه: والذى تقتضيه أصول الشريعة أن الرجل إذا غرر بالمرأة قبل الزواج بأنه ذو مال ثم ظهر أنه مفلس، أو كان ذا مال وترك الإنفاق عليها ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها أو بالحاكم فلها الفسخ، وإن تزوجته وهى عالمة بعسره أو كان موسرا ثم أعسر فلا فسخ لها.
وهذا رأى جميل يضم إليه أن ترفع يده عنها لتكتسب وتبقى على عصمته، ولها أن تمتنع عن تمكينه من التمتع بها، فإن عجزت عن الاكتساب أو وجدت عنتا فيه فأرى أنها تخير بعد ذلك فى البقاء معه أو الانفصال عنه إذا لاح لها فى الأفق ما يوفر لها الحياة الكريمة(10/4)
إعفاف الزوجة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن يسافر ويترك زوجته مدة طويلة، وبخاصة إذا كانت شابة، هل تتحمل هذا البعد أو تطلب الفراق منه؟
الجواب
لا شك أن من أهم مقاصد الزواج تنظيم نشاط الغريزة الجنسية، الذى يكون من آثاره عفة الزوج والزوجة عن الحرام، والذرية التى تتربى فى ظل الأسرة المستقرة، فكما أن له حقا فى اتصاله بها كذلك هى لها حق فى الاتصال به، وإن كان الحياء يكفها عن المطالبة به بطريق مباشر فى غالب الأحيان، فهى مثله مخلوق بشرى تتحرك فيه الغريزة، والزواج هو الفرصة المشروعة لتلبية ندائها، ومن هنا لم يرض النبى صلى الله عليه وسلم عمن عزم ألا يتزوج، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص الذى صرفته عبادته عن حق زوجته، وعن أبى الدرداء الذى ترك زوجته مكتئبة بملابسها المبتذلة، لانشغاله بصيام النهار وقيام الليل، وكل ذلك وردت به الأحاديث الصحيحة.
إن كلا من الزوجين حين يبتعد أحدهما عن الآخر يحس بالفراغ وينتابه القلق ويتعطش للاطمئنان على نصفه الاخر، ويغذى هذا الشعور أمران:
أحدهما يحتاجه الجسد، والآخر يحتاجه القلب، وإذا طال أمد البعد قوى ألم الفراق، وربما أورث مرضا أو أمراضا، وعند طلب العلاج قد يكون الزلل إن لم يكن هناك عاصم من دين وحصانة من أخلاق؟ وقد جاء فى المأثور أن عمر رضى الله عنه سمع -وهو يتفقد أحوال رعيته ليلا-زوجة تنشد شعرا تشكو فيه بُعْدَ زوجها عنها لغيابه مع المجاهدين، وتضمن شعرها تمسكها بدينها وبوفائها لزوجها، ولولا ذلك لهان عليها بعده، وذلك بآخر يؤنسها فى غيبة الزوج.
فرق عمر لحالها، وقرر لكل غائب أمدا يعود بعده إلى أهله. ولكن هل لهذا الإعفاف حد أو ميقات؟ الأقوال فى ذلك كثيرة يقوم أكثرها على الاجتهاد. لكن الأوفق أن يراعى فى ذلك حال الزوج والزوجة، من وجود الداعى إليه والقدرة عليه وعدم المانع منه، فقد امتنع النبى صلى الله عليه وسلم عن نسائه شهرا، وخيرهن بين البقاء معه والفراق، وينبغى ألا تزيد فترة البعد على أربعة أشهر، وهى المدة التى ضربها الإسلام لِلْمولى من امرأته، أى الذى يحلف ألا يقربها، قال تعالى {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم. وان عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} البقرة: 226، 227، فإنه يطالب بعد هذه المدة بأحد أمرين:
الفىء أى الرجوع عن حلفه، فيباشر زوجته، أو الطلاق. بل جعل أبو حنيفة الشهور الأربعة أجلا لوقوع الطلاق، تطلق الزوجة بمجرد انقضائها إن لم يرجع إليها زوجها.
إن بعد الزوج عن زوجته -حتى لو وافقت عليه حياء أو مشاركة فى كسب يفيدهما معا-يختلف فى أثره عليها، ولا تساوى فيه الشابة مع غيرها، ولا المتدينة مع غيرها، ولا من تعيش تحت رعاية أبويها مع من تعيش وحدها دون رقيب، وإذا كنت أنصح الزوجة بتحمل بعض الآلام لقاء ما يعانيه الزوج أيضا من بعد عنها فيه مصلحتهما معا، فإنى أيضا أنصح الزوج بألا يتمادى فى البعد، فإن الذى ينفقه حين يعود إليها فى فترات قريبة سيوفر لها ولأولاده سعادة نفسية وعصمة خلقية لا توفرها المادة التى سافر من أجلها، فالواجب هو الموازنة بين الكسبين، وشرف الإنسان أغلى من كل شىء فى هذه الحياة، وإبعاد الشبه والظنون عن كل منهما يجب أن يعمل له حسابه الكبير.
ولئن كان عمر رضى الله عنه بعد سؤاله حفصة أم المؤمنين بنته قد جعل أجل الغياب عن الزوجة أربعة أشهر (مصنف عبد الرزاق وتفسير للقرطبى "ج 3 ص 108 والسيوطى فى تاريخ الخلقاء ص 96 وابن الجوزى فى سيرة عمر ص 59) فإن ذلك كان مراعى فيه العرف والطبيعة إذ ذاك، أما وقد تغيرت الأعراف واختلفت الطباع، فيجب أن تراعى المصلحة فى تقدير هذه المدة، وبخاصة بعد سهولة المواصلات وتعدد وسائلها.
ومهما يكن من شىء فإن الشابة إذا خافت الفتنة على نفسها بسبب غياب زوجها فلها الحق فى رفع أمرها إلى القضاء لإجراء اللازم نحو عودته أو تطليقها، حفاظا على الأعراض، ومنعا للفساد، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار(10/5)
احترام ملكية المرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل للزوج حق فى أن يستولى على الكسب الخاص لزوجته، بحجة التعاون على مطالب الأسرة؟
الجواب
يقول الله سبحانه {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} النساء: 4.
ويقول {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا. وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} النساء: 20، 21، ويقول {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} النساء: 19.
تشير هذه الآيات إلى وجوب احترام الرجل لملكية المرأة، فحرم على الزوج أو ولى أمرها أن يأخذ من صداقها شيئا إلا عن طيب نفس، وذلك إبطال لما كان الناس عليه فى الجاهلية.
والحكمة فى ذلك تقرير مبدأ الحرية للمرأة فى التملك والتصرف فيما تملك، وكذلك رفع قيمة الرجل وتكريم رجولته وتحقيق قوامته عليها، فمهما اشتدت حاجته لا ينبغى أن يطمع فى مال زوجته الغنية حتى لا يكون عبدا لإحسانها إن أعطته بطيب خاطر.
وقد قرر الإسلام لها هذا الحق قبل أن تقرره المدنيات الحديثة بعدة قرون.
ولذلك يجوز للزوجة أن تتاجر فى مالها الخاص وأن تتصرف فيه بدون إذن زوجها ما دام ذلك فى حدود المشروع، وإذا كان لها أن تتصدق وتتبرع فليكن الأولى أن يكون لمصلحة الأسرة بمعونة زوجها إن أحست الحاجة إلى المساعدة، فهو نوع من الوفاء والتعاون على الخير.
والإسلام قد نفر من الإقدام على زواج المرأة الغنية من أجل غناها فقط والطمع في ماليا، دون اهتمام بالمقياس الخلقى والدينى للزوجة، لكن لو كان هناك اتفاق سابق على الزواج أن يتعاونا معا على الأسرة، أو أذن لها الزوج أن تعمل لقاء اشتراكها فى ذلك كان لا بد من تنفيذ الاتفاق، فالمؤمنون عند شروطهم، وكان لا بد من النزول على حكم العرف إن كان العرف يقضى بذلك. وبدون هذا لا يحق للزوج أن يأخذ شيئا من مالها الخاص، ويا حبذا لو كان هناك تحديد واضح بينهما من أجل ذلك حتى لا يكون نزاع قد يفضى إلى هدم الأسرة(10/6)
المحافظة على شرفها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى الزوج الذى يسىء الظن بزوجته ويفرط فى الغيرة عليها حتى يمنعها من كثير مما أحل الله للنساء وللناس جميعا؟
الجواب
من المسلم به أن الرجل مسئول عن المحافظة على سمعته وسمعة الأسرة عامة، وسمعة زوجته التى اختارها شريكة لحياته، والحديث الشريف يقول "والرجل راع فى أهله ومسئول عن رعيته " ومن الرعاية أن يراقب سلوكها كما يراقب سلوك أولاده، لكن هذه المراقبة لها حدود حتى لا تنتج نتيجة عكسية، فالمرأة إن لم تكن عندها حصانة من خلق ودين يمكنها أن تتفلت من هذه المراقبة بوسائل قد تتفنن فيها، وقد قالها عزيز مصر منذ آلاف السنين، وسجلها القرآن الكريم {إن كيدكن عظيم} يوسف: 128.
وإذا كان الحديث قد حذر من التهاون فى مراقبة سلوكها، ومن ترك الحبل لها على الغارب بقوله صلى الله عليه وسلم، كما رواه النسائى والبزار وصححه الحاكم "ثلاثة لا يدخلون الجنة، العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء" - فإنه وجهه إلى الاعتدال والتوسط فى ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم، كما رواه أبو داود والنسائى وابن حبان "إن من الغيرة غيرة يبغضها الله عز وجل وهى غيرة الرجل على أهله من غير ريبة " ذلك أن شدة الغيرة تجلب على المرأة سُبَّة، فسيقول الناس، إن صدقا وان كذبا، ما اشتد عليها زوجها إلا لعلمه بأنها غير شريفة، أو فيها ريبة، يقول الإمام على: لا تكثر الغيرة على أهلك فترمى بالسوء من أجلك.
إن هذه الغيرة الشديدة تحمله على كثرة الظن السيئ وعلى التجسس، وذلك منهى عنه فى القرآن والسنة، وقد نهى الحديث عن إحدى صوره، وهى الطروق ليلا للمسافر، أى مباغتته لأهله عند قدومه من السفر دون علم منهم، فقد روى مسلم عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا لئلا يخونهم أو يطلب عثراتهم. وروى البخارى ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم "إذا قدم أحدكم ليلا فلا يأتين أهله طروقا، حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة".
فالخلاصة أن الرجل لابد أن يغار على زوجته، ولكن يجب أن يكون ذلك فى اعتدال، وخير ما يساعده على ذلك أن يختارها ذات خلق ودين(10/7)
المحافظة على شعورها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الإسلام أن تعيش المرأة فى البيت كمَّا مهملا، ينظر إليها بمنظار أسود، وتعامل كجارية لا إحساس لها ولا شعور؟
الجواب
من ميزة الإسلام أنه كرم المرأة وأزال الصورة القاتمة التى صورت بها من قبل. وقرر لها كثيرا من الحقوق التى أضاعتها هذه الصورة، واعتد بإنسانيتها التى سلبتها إياها بعض الأفكار وطبقها بعض الرسول - والله سبحانه أمر بمعاشرتها بالمعروف كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، ومن أهم مظاهر هذه المعاشرة التى تتصل بإحساسها وشعورها:
1 - صون اللسان عن رميها بالعيوب التى تكره أن تعاب بها، سواء أكانت خِلقية لا تملك من أمر تغييرها شينا كدمامة وقصر، أم كانت خُلقية لها دخل فيها كتباطؤ فى إنجاز العمل، أو ثرثرة كثيرة، فالله نهى بوجه عام عن السخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب والسباب، والنبى صلى الله عليه وسلم قال فيما يخص المرأة، كما رواه أبو داود بإسناد حسن "ولا تضرب الوجه ولا تقبح "أى لا تقل لها: قبَّحك الله، يقول الحافظ المنذرى بعد ذكر هذا الحديث: أى لا تسمعها المكروه ولا تشتمها ولا تقل قبحك الله.
2 - ومع عدم رميها بالعيوب، لا ينبغى الاشمئزاز وإظهار النفور منها، ولتكن النظرة إليها بعينين لا بعين واحدة، فكما أن فيها عيوبا فيها محاسن ينبغى ألا تغفل وتنسى، والله سبحانه يقول {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} النساء: 19، والحديث يقول كما رواه مسلم "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضى منها آخر" ويعجبنى فى هذا المقام ما جاء فى "الأحكام السلطانية للماوردى" أن عمر بن الخطاب رأى رجلا يطوف حول الكعبة وعلى عاتقه امرأة حسناء، وهو يقول:
عُدْت لهذى جملا ذلولا * مُوطَّأً أتبع السهولا أعدلها بالكف أن تميل * أحذر أن تسقط أو تميلا أرجو بذاك نائلا جزيلا فقال له: من هذه التى وهبت لها حجك؟ فقال: امرأتى يا أمير المؤمنين، وإنها حمقاء مرغامة، أكول قمامة، لا يبقى لها خامة. فقال له: لم لا تطلقها؟ لا قال: إنها حسناء لا تُفْرَك، وأم صبيان لا تُترك.
قال: فشأنك بها.
3 - عدم ذكر محاسن غيرها من النساء أمامها بقصد إغاظتها، فليس أقتل لشعور المرأة من ذلك وبخاصة إذا كانت هذه المرأة ضرتها أو جارتها أو لزوجها صلة بها أيا كانت هذه الصلة اللهم إلا إذا كان يقصد بمدح غيرها تأديبها وتوجيهها لتكون مثلها. روى البخارى ومسلم عن عائشة قالت:
ما غرت على أحد من نساء النبى صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها فى صدائق خديجة فربما قلت له: كأن لم يكن فى الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت. . . . وكان لى منها ولد".
4 - حفظ أسرارها وبخاصة ما يكون من الأمور الداخلية التى لا يعرفها إلا زوجها. يقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضى إلى امرأته وتفض إليه ثم ينشر سرها". أراد بعض الصالحين أن يطلق امرأته فقيل له: ما الذى يريبك منها؟ فقال: العاقل لا يهتك ستر امرأته. فلما طلقها قيل له: لم طلقتها؟ فقال: ما لى ولامرأة غيرى؟ (الإحياء ج 2 ص 52) 5 -نداؤها بلفظ يشعر بكرامتها مثل: يا أم فلان، والعرف مختلف فى ذلك.
6 -إلقاء السلام عليها عند دخول البيت، لإيناسها واطمئنانها، ففى حديث الترمذى وصححه "يا بنى، إذا دخلت على أهلك فسلِّم يكن سلامك بركة عليك وعلى أهل بيتك ".
تلك بعض المظاهر التى تدل على احترام الإسلام لشعور المرأة، ليعاملها زوجها على ضوئها معاملة كريمة، وهناك أكثر وأوضح من ذلك فى كتاب "الأسرة تحت رعاية الإسلام -الجزء الثالث "(10/8)
وطء شبهة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن أرسل رجلا نائبا عنه لعقد النكاح، ثم سأفر فى اليوم نفسه، ولما عاد وقع على خطيبته ظانا أن نائبه عقد له عليها،وظهر أنه لم يعقد عليها وحملت منه، فهل يعتبر الحمل منسوبا إليه أم لا؟
الجواب
الاتصال الجنسى بين الرجل والمرأة على ثلاثة أضرب، ضرب حلال وضرب حرام وضرب ليس بحلال ولا بحرام، أما الحلال فهو ما كان بعقد نكاح صحيح مستوف للأركان والشروط، أو كان تمتعا بملك اليمين للأمة غير الحرة، والحرام ما كان على غير هذه الصورة مع عدم وجود شبهة ومع العلم والاختيار، قال تعالى فى صفات المؤمنين المفلحين {والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} المؤمنون:5-7، وفى الحرام عقوبة بالجلد والتغريب لغير المُحْصَنِ، وبالرجم للمحصن.
وأما الاتصال الذى لا يوصف بحل ولا حرمة فهو ما كان فيه شبهة، كأن جامع الرجل امرأة يظن أنها زوجته فبانت أجنبية عنه، وهذا لا حَدَّ ولا عقوبة فيه. لكن من جهة لحوق النسب فى الحمل فالمولود ينسب إلى أمه فى الأضرب الثلاثة لأنها هى التى حملت وولدت، وذلك لا خلاف فيه بين العلماء. أما نسبُه للرجل فهو ثابت له فى الاتصال الحلال، غير ثابت له لى الاتصال الحرام، وأما فى الاتصال بشبهة فإن كانت الموطوءة على فراش رجل آخر-يعنى متزوجة-فالولد يلحق الزوج، لحديث "الولد للفراش وللعاهر الحجر" إلا إذا نفاه عنه باللعان المذكور فى أوائل سورة النور فلا يلحقه، وإن كانت غير متزوجة فإن الولد يلحق من وطئها، وذلك على رأى جمهور الفقهاء.
جاء فى كتاب "المغنى" لابن قدامة "ج 9 ص 57" أنه لو وطىء رجل امرأة لا زوج لها بشبهة فأتت بولد لحقه نسبه، وهذا قول الشافعى وأبى حنيفة، وقال أحمد بن حنبل كل من درأتُ عنه الحدَّ ألحقت به الولد، ولأنة وطء اعتقد الواطئ حِلَّهُ فلحق به النسب، كالوطء فى النكاح الفاسد - أى الذى اختل أحد أركانه أو شروطه - وفارق وطء الزنا -أى فى عدم لحوق النسب به -فإنه لا يعتقد الحل فيه، ولو تزوج رجلان أختين فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة منهما إلى زوج الأخرى فوطئها وحملت منه لحق الولد بالواطئ، لأنه يعتقد حله فلحق به النسب كالوطء في نكاح فاسد.
وجاء مثل هذا الكلام فى حاشية الشرقاوى على التحرير فى فقه الشافعية "ج 2 ص 219، 271 " وذكر أن شبهة الفاعل تمنع الحد وتوجب مهر المثل، ولا يوصف بها الوطء بحل ولا حرمة، ويثبت به النسب، وتثبت به العدة. من هذا يعرف جواب السؤال وهو لحوق الحمل بهذا الرجل الذى ظن أن من جامعها هى زوجته(10/9)
الخلوة بين الجنسين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا فتاة ملتزمة للحجاب الشرعى، وأعمل سكرتيرة لأحد رجال الأعمال، وفى بعض الأحيان نمض ساعات وحدنا لمراجعة الأعمال، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
ليكن معلوما أن الحجاب الشرعى ليس قاصرا على تغطية الجسم بما يمنع رويته للأجنبى، بل إن من مقوماته التى تتعاون كلها على منع الفتنة وصيانة المجتمع من الفساد-عدم خلوة المرأة برجل أجنبى عنها، فالأحاديث كثيرة فى النهى عنها لخطورتها، ومنها ما رواه البخارى ومسلم " لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذى محرم " وما رواه الطبرانى "إياك والخلوة بالنساء، فو الذى نفسى بيده ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما".
إن الغريزة الجنسية تتحين أية فرصة للاستجابة لرغبتها، ومن أجل ذلك حرم الإسلام النظر واللمس والخضوع بالقول، والخلوة، أخرج أبو داود والنسائى أن رجلا من الأنصار مرض حتى صار جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية تعوده وحدها فهشَّ لها ووقع عليها، فدخل عليه رجال من قومه يعودونه فأخبرهم بما حصل منه وطلب الاستفتاء من النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا لرسول الله: ما رأينا بأحد من الضر مثل ما الذى هو به، ولو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلدة على عظم، فأمر رسول الله: بإقامة الحد عليه، بضربه بمائة شمراخ ضربة واحدة.
إن فرص الخلوة بين الجنسين كثيرة فى هذه الأيام، فقد تكون فى البيوت والفنادق والمكاتب ودواوين القطارات المغلقة، والسيارات الخاصة والمصاعد الكهربائية، حتى فى الأماكن الخلوية البعيدة عن الأنظار.
إن مجرد الخلوة حرام حتى لو لم يكن معها سفور أو كلام مثير، وتتحقق باجتماع رجل وامرأة فقط، أو باجتماع امرأة برجلين، أو باجتماع امرأتين مع رجل على بعض الأقوال، فإن كان الاجتماع رباعيا أو أكثر، فإن كان رجل مع نساء جاز، وكذلك إن تساوى العدد فى الطرفين، وإن كانت امرأة مع رجال جاز إن أمن تواطؤهم على الفاحشة، هكذا حقق الفقهاء.
والخلوة لا تجوز إلا للضرورة، وليس من الضرورة كسب العيش بالعمل الذى يستلزمها ولو فى بعض الأحيان، كما أنه ليس من الضرورة خلوة المدرس الخصوصى بالمتعلمة، فقد يكون الشيطان أقوى سلطانا على النفس من العلم، ومن مأثور السلف قول عمر بن عبد العزيز: لا تخلون بامرأة وإن علمتها سورة من القرآن (المستطرف ج 2 ص 2) وليس من الضرورة خلوة المخدومة بخادمها، أو المخدوم بخادمته، فكم من مآسٍ ارتكبت بسبب ذلك، وليس هؤلاء الخدم مملوكين ملك اليمين حتى يكون لهم مع سادتهم وضع خاص، بل هم أجانب تجرى عليهم كل أحكام سائر الناس.
وفى حكم الخلوة سائقو السيارات الخاصة، المترددون على النساء كثيرا فى البيوت، دون أن يكون هناك من يخشى معهم السوء.
هذا، ولا يعتبر من الخلوة المحرمة وجود الطالبات مع الطلبة فى أماكن الدراسة، كما لا تتحقق الخلوة فى الشوارع والمحال التجارية والمواصلات التى تغص بالرجال والنساء، وإنما المطلوب هو الحشمة فى الملابس والأدب فى الكلام، وعدم الاحتكاك بين الطرفين، وبخاصة فى الزحام، وحديث الطبرانى يقول "لأن يزحم رجل خنزيرا متلطخا بطين أو حمأة خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له " وحديثه أيضا "أن يطعن فى رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " وحديث البيهقى "إذا استقبلتك المرأتان فلا تمر بينهما، خذ يمنة أو يسرة".
هذا، والرحلات المختلطة إذا أمنت فيها الفتنة وكانت تحت رقابة مؤمنة يقظة، وكانت النساء ملتزمات بالآداب الشرعية فى الستر والجدية والعفاف، لا بأس بها، وإلا حرمت والأولى أن تكون الرحلات؟ لنوع واحد، اطمئنانًا للقلب وصيانة للشرف ومنعا للتهم والظنون(10/10)
شعر المرأة والباروكة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تقصر شعرها، وما حكم لبس الشعر المستعار "الباروكة "؟
الجواب
من المعلوم أن الجمال محبب للنفس إذا وصف به أى كائن فى الوجود، وله حاسة جعلها المفكرون مستقلة عن الحواس الخمس، وجالت فى فنونه أقلام الكتاب وآراء الباحثين، ولا عجب فى ذلك، فالله جميل يحب الجمال، كما فى الحديث الذى رواه مسلم.
وجمال المرأة بالذات له خطره وأهميته فى حيلة الأفراد والأمم، فكم ربط بين جماعتين على أثر إعجاب تَمَّ بزواج، وكم فرق بينهما إثر تنافس انتهى بقتال، وكم جدت فى الأسر مشاكل غيرة منه وتحزُّبا ضده، وكم أطلق ألسنة العشاق بروائع المنظوم والمنثور، وكم خلدت آثار فى الفن والأدب كان هو ملهمها الأول، وواضع قصتها ومخرج مشاهدها على مسرح الوجود.
وتجمل الزوجة لزوجها من أهم الوسائل لكمال متعته بها وحبه لها، والحديث الذى رواه ابن ماجه يقول "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن اقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته فى نفسها وماله ".
ومظاهر التجمل كثيرة، منها جمال الشعر الذى لا ينكر أثره فى إعجاب الرجل بالمرأة، وفى تفنن الشعراء والأدباء فى التغنى والغزل به، فما حرك أساطيل اليونان قديما فى حرب "طروادة" إلا الشعر المعقوص المضفر بشرائط الذهب لهيلانة الجميلة، وما سحر البلاط الفرنسى ورجال الأدب والسياسة والدين إلا شعر مدام بومبادور، وما نسى فحل الشعراء فى الجاهلية أن يضمن معلقته غزلا فى شعر كهداب الدمقس المفتل، وما كان لأمير الشعراء فى العصر الحديث ليلان إلا عند جارة الوادى، فرعها والدجى.
والإسلام عنى بجمال الشعر: ترجيلا أى تمشيطا، وتصفيفا أى تنظيما فى ضفائر وغدائر ونحوها، وتهذيبا بالتقصير والتطويل والتلميع، وتطييبا بالدهن المعطر والروائح الطيبة، فهو القائل فى الحديث الصحيح الذى رواه أبو داود "إذا كان لأحدكم شعر فليكرمه " وهو عام فى الرجال والنساء.
أما قص الشعر للسيدة فليس هناك ما يمنعه شرعا، فقد كان أزواج النبى صلى الله عليه وسلم يأخذن من شعر رءوسهن حتى تكون كالوفرة، كما رواه مسلم. والوفرة ما قصر عن اللمة أو طال عنها، واللمة ما يلم من الشعر بالمنكبين كما قاله الأصمعى. [هناك خلاف فى تحديد معنى الوفرة واللمة والجمة موجود فى "نيل الأوطار"ج 1 ص 137 وثلاثيات أحمد ج 2 ص 207] وقد قصر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم من شعورهن بعد وفاته، لتركهن التزين واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفا لمئونة رءوسهن كما قاله القاضى عياض وغيره، ولم يكن ذلك فى حياته.
هذا، وقد روى النسائى عن على رضى الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها. والحلق هو إزالته بالمرة، وذلك لا يليق بالمرأة فهو من خصائص زينتها، أو المراد النهى عن حلقه عند المصائب كالحزن على وفاة زوج أو ولد.
لكن محل جواز تقصير شعرها إذا كان بإذن الزوج، فهو صاحب حق فيه لمتعته، وألا يكون التقصير بيد رجل أجنبى أو اطلاعه عليه، وإلا تقصد به التشبه بالرجال، فالأعمال بالنيات.
والشعر المستعار "الباروكة " ورد فيه أن امرأة قالت للنبى صلى الله عليه وسلم: إن لى ابنة عُرَيِّسًا-تصغير عروس -أصابتها حصبة فتمزق شعرها، أفأصله؟ فقال "لعن الله الواصلة والمستوصلة" رواه البخارى ومسلم. وبعد كلام العلماء فى شرح هذا الحديث وما يماثله نرى أن التحريم مبنى على الغش والتدليس، وهو ما يفهم من السبب الذى لعنت به الواصلة والمستوصلة، ومبنى أيضا على الفتنة والإغراء لجذب انتباه الرجال الأجانب. وهو ما أشارت إليه بعض الأحاديث بأنه كان سببا فى هلاك بنى إسرائيل حين اتخذه نساوهم. وكن يغشين بزينتهن المجتمعات العامة والمعابد كما رواه الطبرانى.
هذا، وجاء فى كتب الفقهاء: أن لبس الشعر المستعار حرام مطلقا عند مالك، وحرام عند الشافعية إن كان من شعر الآدمى، أو شعر حيوان نجس، أما الطاهر كشعر الغنم وكالخيوط الصناعية فهو جائز إذا كان بإذن الزوج، وأجاز بعضهم لبس الشعر الطبيعى بشرطين: عدم التدليس وعدم الإغراء، وذلك إذا كان بعلم الزوج وإذنه، وعدم استعماله لغيره هو.
ومن هذا يعلم أن تصفيف شعر المرأة عند "الكوافير "الرجل الأجنبى حرام، وأن لبسها "الباروكة" عند الخروج، أو عند مقابلة الزائرين الأجانب حرام(10/11)
الزواج من خالة الأم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يصح للرجل أن يتزوج من خاله أمه؟
الجواب
جاء فى كتاب الأحوال الشخصية للدكتور الشيخ عبد الرحمن تاج "ص 69" أن من المحرمات من النساء بسبب النسب فروع أجداده وجداته بمرتبة واحدة، وهن العمات والخالات لا غير، سواء كن عمات وخالات للشخص نفسه أم كن عمات وخالات لأبيه أو أمه أم لأحد أجداده وجداته، أما ما دون العمات والخالات من المراتب فلسن من المحرامات، فلا تحرم بنات العمات والأعمام ولا بنات الخالات والأخوال، ومن باب أولى إذا نزلت المراتب عن ذلك(10/12)
الولد الأسود لوالدين أبيضين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا وله طفل أسود من أبوين أبيضى اللون، فهل يعد ذلك دليلا على خيانة الزوجة؟
الجواب
لا تدل مخالفة لون الولد للون أبويه على أن هناك خيانة زوجية، فالمؤثر على الجنين قد يكون أمرا وراثيا من بعيد، وقد يكون عارضا بسبب تركيز الأم على لون أسود بأى سبب من أسباب التركيز فيظهر هذا فى الجنين.
ومما يدل على أن مخالفة اللون لا يجوز أن يتخذ دليلا على الخيانة الزوجية ما رواه مسلم أن رجلا من بنى فزارة قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إن امرأتى قد ولدت غلاما اسود، وفى رواية: وإنى أنكرته أى كرهته، فقال صلى الله عليه وسلم "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: " فما ألوانها؟ قال حمر" قال: " هل فيها من أورق؟ " أى أسود غير صافى السواد، قال " إن فيها لورقا" قال: " فأنى أتاها ذلك "؟ قال: " عسى أن يكون نزعه عرق "، قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق " يريد النبى بهذا أن يحافظ على العرض مما يشينه من شبهة لا أصل لها، فالعرض إذا خدش قل أن ترجع إليه سمعته الطيبة الأولى، إن الزجاجة كسرها لا يشعب ولا يجبر.
وهناك حوادث كثيرة تدل على أن الوحم العارض للحامل قد يؤثر على الجنين، فالصفات المكتسبة إذا أثرت تأثيرا عميقا فى الأعصاب والأحاسيس قد تورث فى الجنين، جاء فى ذيل تذكرة داود (ص 231) أن شبه الولد بوالديه قد يكون من التخيلات والأوهام ساعة الاتصال الجنسى أو من تخيلات الحامل زمن تخلق الجنين. وتحدث العلماء عن حمل الغيرة وهو الشعور بالحمل وانتفاخ البطن دون أن يكون فيه جنين.
ولعل مما يؤكد هذا-وإن أنكره البعض -ما جاء فى سفر التكوين (1ص ج 30) أن يعقوب وضع قضبانا من فروع الشجر مخططة فى مساقى الغنم لتتوحم عليها وتلد أغناما مخططة، وفى مختار تاريخ الجبرتى (ج 1 ص 107) أن امرأة ولدت ولدا يشبه الفيل وكان الفيل قد حضر لأول مرة (1ص10) فالخلاصة أنه لا يجوز اتهام الزوج لزوجته بالخيانة إذ ولدت ولدا لونه غير لونهما(10/13)
الأبناء وذنوب الآباء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يؤاخذ الله سبحانه وتعالى الأبناء بذنوب فعلها الآباء؟
الجواب
يقول الله سبحانه {ولاتزر وازرة وزر أخرى} الإسراء: 15، وقال {كل نفس بما كسبت رهينة} المدثر: 38، وقال {كل امرئ بما كسب رهين} الطور: 21، هذه الآيات وأمثالها التى تدل على أن الله لا يظلم أحدا فيعاقبه بما جناه غيره، متفق على أنها فى يوم القيامة عند الحساب والجزاء، لكن فى عقاب الدنيا قد يؤخذ البرىء بسبب معصية غيره عندما يجىء عقاب عام كالخسف والزلزال بسبب شيوع المعاصى، كما فى حديث البخارى ومسلم " يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على قدر نياتهم "ومنه ما جاء فى بعض الأدعية، (لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا) فالأبناء وغيرهم يؤخذون بذنوب آبائهم ومجرميهم إذا كثر الفساد، وذلك فى عقاب الدنيا، وسيعوض الله الأبرياء خيرا فى الآخرة، والآباء إذا كانوا مجرمين سرت العدوى إلى أولادهم بالتقليد والمحاكاة، وكرههم الناس لكراهتهم لآبائهم، فشؤم معصية آبائهم يلحقهم فى معاملات الدنيا طوعا أو كرها، أما الأعمال، فكل واحد مسئول عن عمله يوم القيامة أمام الله، وعلى ضوء هذا يفهم الحديث القدسى الذى رواه أحمد عن وهب (أنى إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتى نهاية، وإذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتى تبلغ السابع من الولد) ، وعلى شاكلة هذا لو اختار الرجل زوجة صالحة كان هناك أمل فى صلاح الأولاد، وبالعكس لو اختار الرجل زوجة غير صالحة نشأ الأولاد، وقد نزعهم عرق من الأم، ومن هنا كانت الوصية (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) ، وقال أبو الأسود الدولى لأولاده: قد أحسنت إليكم صغارا وكبارا وقبل أن تولدوا، حيث اخترت لكم أما لا تسبون بها، فجناية الآباء تصيب الأبناء فى مثل هذه الأمور الدنيوية(10/14)
المرأة على منصب القضاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم تولية المرأة للقضاء؟
الجواب
فى تولى المرأة للقضاء ثلاثة آراء:
الرأى الأول: وهو رأى الجمهور وعليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد، أنه لا يجوز، بناء على حديث رواه البخارى وغيره "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" لأن منعها من القضاء أولى من منعها من الولاية العامة، قال ابن حجر فى " فتح البارى ": وقد اتفقوا على اشتراط الذكورة فى القاضى إلا عند الحنفية، واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير.
الرأى الثانى: جوازه مطلقا فى كل الأمور، ونسب إلى ابن جرير الطبرى، بحجة أن الأصل أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز، إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى، ورد بأن شهادتها إذا كانت على النصف من شهادة الرجل بنص القرآن فهى لا تستقل بالحكم الذى هو نتيجة الشهادة، وعلق الماوردى فى كتابه "الأحكام السلطانية " على هذا الرأى بقوله: ولا اعتبار بقول يرده إجماع، هذا ونص أبو بكر بن العربى على أن نسبة هذا القول إلى ابن جرير كاذبة، كما قال الشيخ محمد الخضر حسين "الأهرام 27/ 6/1953" وانظر تفسير القرطبى ج 12 ص 184.
الرأى الثالث: جواز قضائها فيما تصح فيه شهادتها، وذلك فى غير الجنايات التى فيها حدود، وهو منسوب لأبى حنيفة.
وقال أبو بكر بن العربى: مراد أبى حنيفة ولايتها فى جزئية لا أن يصدر لها (مرسوم) بولاية القضاء العام.
ووضح بعضهم رأى أبى حنيفة بقوله:
هناك مسألتان:
أولاهما: تولية منصب القضاء وهو غير جائز، وذلك كرأى الجمهور.
وثانيهما: نفاذ حكمها لو وليت.
فقالوا: إذا أثم الحاكم فى توليتها فحكمت فإن حكمها ينفذ إلا فى الأمور التى لا تصح شهادتها فيها، وهى الحدود والقصاص " فتح القدير للكمال بن الهمام جـ 5 ص 486 " وأختار رأى الجمهور، وأنصح المرأة أن تبعد عن هذه المجالات الدقيقة المحتاجة إلى فكر عميق ودراسة واعية ووقت طويل، وهى بطبيعتها ومهمتها الأساسية تتحمل ما لا يطاق، مع عدم وجود ضرورة تدعو إلى المزاحمة فى هذا المجال فالجديرون به كثير، والمجالات الأخرى المناسبة لها كثيرة وفى غاية الأهمية، ولا يصلح المجتمع إلا بوضع الشخص المناسب فى المكان المناسب، أما إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فقد ضُيِّعت الأمانة وقربت الساعة(10/15)
توارث الزوجين بالعقد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عقد رجل قرانه على فتاة، وتوفى قبل الدخول بها، فكيف يكون ميراثها، وهل يحق لها أن ترث فى المعاش المستحق له فى التأمينات الاجتماعية، وهل يحق لابنه الزواج منها؟
الجواب
ما دام عقد الزواج قد تم فكل من الزوجين يرث الآخر عند الموت سواء كان قبل الدخول أو بعده، أما المعاش فله نظام خاص وإذا لم يعين المتوفى من يستفيد من معاشه يوزع كالميراث.
وليس لابنه أن يتزوج منها لأنها زوجة أبيه بمجرد العقد، قال تعالى:
{ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} النساء: 22، ويدخل فى النكاح هنا الزواج بلا وطء(10/16)
ملابس الحداد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يوجد نص فى الدين الإسلامى يشير إلى ضرورة ارتداء الملابس السوداء حدادا عند حدوث حالة وفاة؟
الجواب
الحزن على الميت شىء طبيعى أقره الدين الإسلامى ومن مظاهره الامتناع عن الزينة بالعطور وبالأصباغ سواء فى البدن أو فى الملابس، وهذا الامتناع واجب على المرأة عند وفاة زوجها حتى تضع الحمل إن كانت حاملا، وحتى تنتهى أربعة أشهر وعشرة أيام إن كانت غير حامل، وحرام على غير زوجها كأبيها وابنها أكثر من ثلاثة أيام، وهذا الامتناع يطلق عليه اسم الحداد أو الإحداد. وهو غير جائز للرجال بل هو خاص بالنساء، جاء فى البخارى ومسلم أن زينب بنت أبى سلمة دخلت على أم حبيبة رضى الله عنها زوج النبى صلى الله عليه وسلم حين توفى أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة -أى طيب فيه لون كالخلوق المعروف عندهم- فدهنت به جارية، ثم مست بعارضيها -أى صفحتى وجهها- ثم قالت: والله ما لى بالطيب من حاجة، غير أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا".
ومن مظاهر الإحداد بالنسبة للملابس الامتناع عن لبس ما يتنافى مع الحزن، وذلك يختلف فى الشكل واللون والنوع باختلاف الأعراف، وقد ذكرت كتب التاريخ والرحلات أن الملابس البيضاء هى المختارة للحداد فى بعض البلاد. والنبى صلى الله عليه وسلم ضرب مثلا لما كان عند العرب فنهى عن الثوب المصبوغ بالعصفر لأنه من ملابس الزينة التى لا تتناسب مع الحداد.
وإذا كان اللون الأسود فى الثياب هو المختار فى بعض البلاد للحداد فليس ذلك لوجود نص عليه فى الدين، وإنما هو راجع للعرف والعادة، وقد ذكر الإمام السيوطى فى كتابه "الأوائل " أن أول ما لبس العباسيون السواد حين قتل مروانُ الأموى إبراهيمَ الإمام الذى ادعى الخلافة، وصار السواد شعارا لهم، وقيل إن المصريين اختاروا الملابس السوداء للحزن حدادا على شهداء الأقباط فى عصر "دقلديانوس " حيث ذبح مائة وثمانين ألف مسيحى فى يوم واحد، فلبست نساؤهم الملابس السوداء.
والخلاصة أنه لا يوجد نص دينى فى القرآن والسنة يشير إلى ارتداء الملابس السوداء حدادا على المتوفى، وإنما الموجود هو النهى عن الملابس التى تتنافى مع الحزن، ويُترك تحديد ذلك للعرف، مع التنبيه على أن الحداد خاص بالنساء وجوبا لفقد الزوج، وجوازا لفقد أى قريب آخر، ولا حداد للرجل فعقله أقوى من عاطفته(10/17)
عدة الفراق والإحداد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى المدة التى تنتظرها الزوجة بعد فراق زوجها لتتزوج غيره؟ وما هو المطلوب منها حال العدة؟
الجواب
يقول الله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} البقرة: 228، ويقول {واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} الطلاق: 4، وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل ان تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} الأحزاب:
49، وقال تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} البقرة: 234.
العدة مدة تتربص فيها المرأة ولا تتزوج حتى تنتهى، وذلك عند انتهاء الحياة الزوجية، وانتهاؤها يكون بالفراق أو الموت.
فإذا حصل فراق بالطلاق إن كان قبل الدخول فلا عدة على الزوجة، وإن كان بعد الدخول وجبت العدة وهى ثلاثة قروء، أى أطهار أو حيضات على خلاف للفقهاء فى معنى القرء، وذلك إن كانت ممن تحيض، أو ثلاثة أشهر إن كانت ممن لا تحيض كالصغيرة والآيسة، وإن كانت حاملا فعدتها بوضع الحمل، وإذا حصل الفراق بموت الزوجة فلا عدة على الرجل عند الجمهور، وإذا حصل بموته كانت عدة الحامل وضع الحمل، يعنى تنتهى بوضع الحمل، وعدة غير الحامل أربعة أشهر وعشرة أيام.
وذلك من أجل التأكد من براءة الرحم والوفاء للحياة الزوجية والعشرة السابقة.
والفراق يلزمه الإحداد وهو الامتناع عن الزينة مدة العدة، وعدة الوفاة مجمع على وجوب الإحداد فيها، أما عدة الطلاق فالإحداد فيها اختلفت الأقوال فيه، ما بين الوجوب وعدمه، وما بين الوجوب فى الطلاق البائن وعدمه فى الرجعى.
ومظاهر الإحداد الامتناع عن كل ما يتنافى عقلا وشرعا وعرفا مع الحزن والأسف على الفراق، وذلك كالطيب والأصباغ والمساحيق والاكتحال وما إلى ذلك مما كانت تتجمل به لزوجها حال حياته، جاء فى سنن أبى داود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة. .. ولا تكتحل ولا تختضب "، إلا إذا كانت هناك ضرورة لما منعت منه فى مثل الدواء.
وهذا الإحداد الواجب هو على موت الزوج فقط، أما على موت غيره من أب أو أخ أو ابن مثلا فلا يجب هذا الإحداد، وإنما يجوز لها لمدة ثلاثة أيام فقط، ويمتنع أكثر من ذلك، بدليل ما ورد فى الصحيحين أن زينب بنت أم سلمة دخلت على أم حبيبة زوج النبى حين توفى والدها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت به جارية، ثم مست بعارضيها ثم قالت: والله ما لى بالطيب من حاجة، غير أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" وفى هذا دليل على حرمة ما تلتزم به النساء من الحزن والإحداد على موت غير الزوج عاما أو أعواما وإذا حرم على المرأة حرم على الرجل، فليس عليه إحداد لموت أحد لا زوجته ولا غيرها.
وبهذه المناسبة نقول: إن تجديد الحزن بعد موت الميت بخمسة عشر يوما أو أربعين يوما إو إقامة الميعاد السنوى وغير ذلك ليس من الدين فى شىء، فالتعزية بعد ثلاثة أيام غير مشروعة، وأكثر هذه المظاهر ميراث فرعونى قديم (تاريخ الحضارة المصرية للدكتور مراد كامل ج 2 ص 291.) وكذلك عادة المبيت فى القبور وكسر أوانى الفخار عقب خروج الجنازة حتى لا تعود روحه وذبح الثور عند القبر (المرجع نفسه ج اص 234.)(10/18)
العدة بين الرجل والمرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل للرجل المطلق عدة كما للمرأة؟
الجواب
العدة مشروعة للمرأة للتأكد من براءة رحمها إذا كانت مطلقة وللإحداد على زوجها إذا كان متوفى عنها، والأيات كلها تتحدث عن عدة المرأة.
{والمطلقات يتربصن بأنفسض ثلاثة قروء} البقرة: 228، {يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} الطلاق:1، {واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} الطلاق: 4، {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} البقرة: 234.
فالمرأة لا يجوز لها أن تتزوج غير زوجها إذا كانت فى العدة، كما قال تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} البقرة: 235.
فإذا كان الطلاق رجعيا ولم تنته العدة جاز للرجل أن يعيدها إلى عصمته بالرجعة قولا أو فعلا.
وما يقال إن على الرجل عدة فذلك ليس بعدة شرعية واجبة عليه، وإنما هى عدة المرأة، غاية الأمر أن الرجل المطلق لا يجوز له أن يتزوج أخت المطلقة ولا عمتها ولا خالتها ما دامت زوجته المطلقة طلاقا رجعيا لم تنته عدتها، لأنها فى حكم الزوجة، وكذلك لو كان متزوجا بأربع نسوة ثم طلق إحداهن طلاقا رجعيا لا يجوز له أن يتزوج خامسة حتى تنتهى عدتها.
فمنعه من الزواج فى هاتين الحالتين حتى تنتهى عدة المرأة، يطلق عليه بعض الناس أن الرجل عليه عدة، وليس كذلك، إنما هو انتظار منه حتى تنتهى عدة المرأة(10/19)
مزاحمة الرجال النساء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "لأن يزحم أحدكم خنزيرا متلطخا بالطين خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له "؟
الجواب
هذا حديث رواه الطبرانى عن أبى أمامة وقال عنه: إنه غريب، أى رواه راو واحد، وظاهر الحديث أن المزاحمة بالمناكب مع سترها ممنوعة فكيف إذا كانت غير مستورة؟ والحديث يدل على خطر الاحتكاك بين الجنسين بأية وسيلة من الوسائل، فهو يؤدى إلى الفحشاء التى وضع الإسلام لها احتياطات كثيرة، كغض البصر وعدم الكلام اللين وعدم الخلوة.
ويؤيد ذلك حديث "أن يطعن فى رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من ان يمس امرأة لا تحل له " رواه الطبرانى والبيهقى عن معقل ابن يسار، ورجال الطبرانى ثقات رجال الصحيح(10/20)
القواعد من النساء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المراد بالقواعد من النساء المذكورات فى القرآن الكريم؟
الجواب
سورة النور نزلت فيها أحكام كثيرة خاصة بالمحافظة على الأعراض، من وضع عقوبات رادعة للتعدى عليها، ومن آداب تتبع للوقاية من الوقوع فى الفاحشة المنكرة، وقد أمر الله فيها ألا يبدى النساء زينتهن إلا ما ظهر منها، وأن يضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الداخلية التى من شأنها أن تستر -إلا لجماعة مخصوصين لا يخشى منهم السوء غالبا، كالمحارم- وكل ذلك للحفاظ على المرأة وعلى سمعتها وسمعة أهلها، وبعدا بالمجتمع عن الفوضى والفساد.
والمرأة يجب عليها ستر كل جسمها عن الأجانب بما لا يصف ولا يشف، مع آراء فى كشف الوجه والكفين عند عدم الفتنة، وكل ذلك فى الشابة أو غير المتقدمة فى السن. أما العجوز فقد جاء فيها قوله تعالى {والقواعد من النساء اللاتى لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم} النور:65.
والقواعد جمع قاعد، وهى العجوز التى قعدت عن التصرف من أجل كبر السن، وقعدت عن الولد والعادة الشهرية كما قال أكثر العلماء، وقال ربيعة: هى التى إذا رأيتها تستقذرها من كبرها. ومعنى وضع الثياب: خلعها، والمراد أن العجوز لا حرج عليها فى أن تتخفف من بعض ثيابها الكثيفة التى كانت معتادة عند الخروج لزيادة التصون والستر، بمعنى أنه يجوز لها أن تخلع خمارها الذى يستر رأسها، أولا لثقله عليها وهى المسنة، وثانيا لأن شيب شعرها لا يفتن من يقع نظره عليه، وبخاصة أنها فى الغالب ملازمة للبيت لا تخرج منه لغير ضرورة، وقد يدخل رجل أجنبى فلا عليها أن يرى بعض شعرها، ومع ذلك فالاستعفاف بدوام الستر أفضل، وكل هذا بشرط ألا يكون هناك تبرج وظهور بالزينة المغرية، كوضع أصباغ وغيرها من أجل لفت الأنظار إليها على الرغم من كبر سنها، فإن ذلك حرام لسوء القصد.
ومع ذلك فقد قال بعض العلماء: إن العجوز كالشابة فى وجوب الستر الكامل، ومعنى وضع ثيابها هو خلع الجلباب أو العباءة التى فوق غطاء الرأس للتخفيف مع بقاء الرأس مستورا، ومهما يكن من شىء فليكن هناك حساب للفتنة وحساب للقصد والنية وأثر التطور والظروف فى ذلك(10/21)
المرأة والانتخاب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى إعطاء المرأة حق الانتخاب والترشيح للمجالس التشريعية؟
الجواب
من ضمن ما حصلت عليه المرأة المسلمة حديثا حق إعطاء صوتها لمن يرشح لبعض المجالس، فى ظل الحكم الديمقراطى، وليس فى إعطائها هذا الحق أو ممارسته ما يمنعه شرعا، وبخاصة إذا طلب منها ذلك، فهو لا يعدو أن يكون شهادة بصلاحية شخص أو عدم صلاحيته، وقضية التواصى بالحق والتناصح تؤكد هذا الحق.
لكن العلماء اشترطوا فيمن يختارون الخليفة: العدالة الجامعة لشروطها، والعلم الذى يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها، والرأى والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو أصلح للامامة وبتدبير المصالح أقوم وأعرف.
وإذا كانت هذه الشروط لم تتحقق حتى فى الرجال، حيث إن الانتخاب فى الدساتير المعمول بها فى كثير من البلاد الإسلامية لا يحتم وجودها، فهل يمكن أن تتحقق فى النساء؟ وإذا أمكن أن تتحقق فهل يوجد ذلك فى عالم الواقع، ذلك يحتاج إلى نظر. "الأحكام السلطانية للماوردى ص 6 ".
أقول هذا لأن الدساتير الحالية تعطى حق الترشيح لمن أعطى حق التصويت، فلو أن الأمر اقتصر على إعطاء صوتها إذا وجدت فيها المواصفات التى ذكرها الماوردى ما كان هناك اعتراض، لكن الذين ينادون بإعطائها هذا الحق يربطون بينه وبين حق الترشيح لتمثيل الشعب فى المجالس التشريعية، وبالتالى إذا اشتركت فى انتخاب الإمام أو الحاكم جاز لها الترشيح لهذا المنصب، فالتصويت سلم للترشيح، والقوانين الوضعية لا تلتزم حدود الدين فى الوقوف عند منح امتياز معين.
ومن هنا لا يجوز القول بجواز تصويتها لأنه وسيلة إلى ممنوع، كما قررته لجنة الفتوى بالأزهر ونشر فى المجلة فى يونية 1952 م، ونصها مذكور فى ص 448 من الجزء الثانى من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، وجاء فيها: أن وسيلة الشىء تأخذ حكمه، وأن حركة عائشة ضد على رضى الله عنه لا تعد تشريعا وقد خالفها فيها كثيرون، وأن مبايعة النساء للنبى لا تثبت زعامة ولا رياسة ولا حكما للرسول، بل هى مبايعة على الالتزام بأوامر الدين ثم ذكرت اللجنة عدم جواز ترشيح المرأة للمجالس التشريعية، لأن فيه معنى الولاية العامة وهى ممنوعة بحديث البخارى وغيره: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وهذا ما فهمه أصحاب الرسول وجميع أئمة السلف، ووضحت المبررات لذلك، ثم ذكرت أن منع المرأة من التصويت والترشيح لم ينظر فيه إلى شىء آخر وراء طبيعة هذين الأمرين، أما ما يلازم عملية الانتخاب المعروفة والترشيح لعضوية البرلمان من مبدأ التفكير إلى نهايته فإننا نجد سلسلة من الاجتماعات والاختلاطات والأسفار للدعاية والمقابلات وما إلى ذلك، مما نشفق على المرأة أن تزج بنفسها فيها، ويجب تقدير الأمور وتقدير الأحكام على أساس الواقع الذى لا ينبغى إغفاله أو التغافل عنه.
هذا ما قررته لجنة الفتوى بالأزهر سنة 1952، فهل يقبل فى هذه الأيام أو يرفض؟ وهل للمادة الثانية فى الدستور المصرى اعتبار فى التشريع؟(10/22)
الوعد بالزواج وقراءة الفاتحة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
خطبنى شاب فوافق أبى عليه وقرأ الفاتحة معه،ثم تبين أنه ليس على ما كنا نظن فيه، فهل يجوز نقض الفاتحة وفسخ الخطبة أم أن ذلك حرام؟
الجواب
الوعد بالزواج لا يلزم الوفاء به، وبخاصة إذا ظهر ما يبرره، وفترة الخطبة فترة اختبار وامتحان واستطلاع، لا تترتب عليها حقوق، ويجوز لكل من الطرفين أن يعدل عن الوعد على الرغم من قراءة الفاتحة، فالفاتحة ليست عقدا، ولكن قراءتها من باب التبرك بها.
ومهما يكن من شىء فإن الوفاء بالوعد -كما قال ابن حجرالهيتمى فى كتابه "الزواجر" الجزء الأول ص 109- مندوب عند الشافعية وليس بواجب، ومخالفة المندوب جائزة ليست حرمة ولا عقوبة عليها، والنصوص الواردة بالأمر بالوفاء هى فى العهود والعقود، والفرق بينهما وبين الوعود يرجع فيه إلى الكتاب المذكور(10/23)
زواج المسلم بالكتابية فى الكنيسة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى بعض البلاد غير الإسلامية يصرون على أن المسلم لو تزوج بكتابية فلا بد من عقد الزواج بالكنيسة، فهل يعتبر ذلك حراما، مع أنه لم ينطق بكلمة مما يقوله القسيس؟
الجواب
إذا تم زواج المسلم بالمسيحية على الطريقة المدنية - بإيجاب وقبول وحضور شاهدين مسلمين كان الزواج صحيحا شرعا، أما إجراوه فى الكنيسة على الطريقة المعهودة عندهم فلا يصح، وإذا تحتم العقد فى الكنيسة فليكن بعد إجراء العقد على الطريقة الشرعية فى أى مكان آخر، وإلا فليكن العقد بعد الانتهاء من إجراءات الكنيسة، أما إذا لم يتحتم العقد فى الكنيسة فلا حاجة إلى الذهاب إليها والعقد بها.
"الفتاوى الإسلامية - المجلد الخامس ص 1927 "(10/24)
عقد الزواج فى شهر المحرم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إن عقد الزواج فى شهر المحرم حرام أو شؤم، فهل هذا صحيح؟
الجواب
روى البخارى من طريق عروة أن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت: تزوجنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شوال، وبنى بى فى شوال، فأى نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده منى؟ قال عروة: وكانت عائشة تستحب أن تُدخل نساءَها فى شوال.
لقد حرص كثير من الناس على تحرى عقد الزواج فى يوم معين من الأسبوع، أو شهر معين من السنة، تحريا يترتب عليه أحيانا نزاع أو تشاؤم ورجم بالغيب عن فشل الزواج إن خولف فيه المعتاد من هذه الأوقات.
وهذه عادة جاهلية ترد على بطلانها السيدة عائشة بهذا الحديث، فقد كانوا يتطيرون أى يتشاءمون من شهر شوال، لما فى اسمه من معنى الإشالة والرفع، فيقال عندهم: شال لبن الناقة أى ارتفع وقَلَّ، ويقال: شالت الناقة بذنبها إذا امتنعت عن الفحل أن يطرقها. فهم يخافون أن تمتنع الزوجة عن زوجها إذا أرادها، ويقال: شالت نعامتهم إذا ماتوا وتفرقوا، والنعامة يراد بها الجماعة، فالمهم أنهم كانوا يتطيرون بهذا الشهر ويمتنعون عن الزواج فيه.
وقد ذكرت كتب السيرة أن النبى صلى الله عليه وسلم عقد لفاطمة بنته عَلَى عِلىٍّ بن أبى طالب بعد بنائه بعائشة بأربعة أشهر ونصف الشهر، وحيث قد علمنا أن زواجه وبناءه بعائشة كان فى شوال فيكون زواج فاطمة فى شهر صفر، وذكر بعضهم أنه كان فى أوائل المحرم.
ومهما يكن من شىء فلا ينبغى التشاؤم بالعقد فى أى يوم ولا فى أى شهر، لا فى شوال ولا فى المحرم ولا فى صفر ولا فى غير ذلك، حيث لم يرد نص يمنع الزواج فى أى وقت من الأوقات ما عدا الإحرام بالحج أو العمرة(10/25)
سكن المطلق مع مطلقته
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل طلق زوجته طلاقا بائنا ولم يجد مسكنا لأولاده حيث ستكون هى حاضنة لهم، إلا السكن الذى هو فيه، فهل يجوز أن يسكن هو فى هذا البيت أم لا بد من الفصل بينه وبينها بمسكن آخر؟
الجواب
إذا حدث الطلاق صارت المرأة أجنبية عن زوجها فى بعض الأحكام. وإذا كان الطلاق بائنا بينونة صغرى أو كبرى فلا يحل له أن يتمتع بها بأى نوع من أنواع التمتع بل يحرم عليه أن يختلى بها أو ينظر إلى غير وجهها وكفيها، أما إذا كان الطلاق رجعيا فله كل ذلك ما دامت فى العدة، لأنها فى حكم الزوجة.
ومن المقرر شرعا أن المطلقة طلاقا بائنا لها الحق فى حضانة أولادها الصغار ما لم تتزوج، ونفقتهم ونفقة حضانتها على أبيهم، ومن النفقة إعداد المسكن اللائق لذلك، وهو مسكن لها ولا صلة للمطلق به. فإن لم يجد لها مسكنا أو لم يجد هو لنفسه مسكنا يستقل فيه بعيدا عن مسكنها فلولى الأمر تمكينه من البقاء فى مسكن الزوجية السابقة، وذلك بصفة مؤقتة - نظرا لأزمة المساكن فى بعض البلاد- حتى يجعل الله له من بعد عسر يسرا، على شرط أن يكون وجوده فى هذا المسكن المشترك كالرجل الغريب تماما عنها، وذلك من حيث حرمة النظر والخلوة والملامسة وغيرها. فلكل منهما غرفة أو جزء من المسكن مستقل، كأنهما نازلان فى فندق، وإن كان الالتزام بذلك صعبا جدا.
وهذا -كما قلت- إجراء مؤقت حتى يستقل كل منهما بمسكن، وللضرورة أحكام ولا تظهر هذه الصعوبة إلا إذا كان هناك أولاد يحق لها حضانتهم، التى قد تستمر سنوات طوالا، أما إذا لم يوجد أولاد للحضانة فالأمر سهل، وهذا إجراء يجب أن يعطينا درسا فى التفكير أكثر من مرة عند الزواج وعند الطلاق. "انظر فتوى الشيخ أحمد هريدى سنة 1965 فى الفتاوى الإسلامية- المجلد السادس ص 2200"(10/26)
الزوجة تكون فى الجنة لآخر أزواجها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تزوجت امرأة فى حياتها أكثر من زوج، أحدهم بعد الآخر، فإذا ماتت ستكون زوجة للأول أم للآخر؟
الجواب
هناك رأيان للعلماء فى ذلك، رأى يقول: إنها لآخر أزواجها، ودليله أن هجيمة بنت حُيى الأوصابية أم الدرداء الصغرى خطبها معاوية بن أبى سفيان، فأبت وقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المرأة لآخر أزواجها" ولست أريد بأبى الدرداء بديلا، وهو حديث صحيح رواه الطبرانى وأبو يعلى برجال ثقات ولفظه: "أيما امرأة توفى عنها زوجها فتزوجت بعده فهى لآخر أزواجها" "المطالب العالية لابن حجر ج 2 ص 67، والجامع الصغير". وكما فعلت أم الدرداء فعلت زوجة حذيفة "تفسير القرطبى سورة الأحزاب ص 229".
ورأى يقول: إنها ستكون لأحسنهم خلقا، وإن خيرت بينهم اختارته، واستأنس هذا الرأى بحديث رواه الطبرانى فى معجمه الكبير، عن أنس قال:
قالت أم حبيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت المرأة يكون لها زوجان فى الدنيا فتموت ويموتان ويدخلون الجنة، لأيهما تكون؟ قال "لأحسنهما خلقا كان عندها فى الدنيا، يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخيرى الدنيا والآخرة" إحياء علوم الدين ج 3 ص 45، فلنترك الأمر إلى الله، فهو من المغيبات التى لا نلتزم فى اعتقادها إلا بخبر قاطع فى ثبوته ودلالته، ولعل القول بأنها تكون لأحسنهم خلقا أنسب لما تكون عليه الجنة من نعيم عظيم لا غل فيه ولا هم ولا حزن(10/27)
نفقة علاج الزوجة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجب على الزوج نفقة علاج زوجته، أم أن النفقة عليها هى؟
الجواب
قال الله تعالى {وعاشروهن بالمعروف} النساء: 19 وقال صلى الله علية وسلم "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. " رواه مسلم، وحذر من التقصير فى ذلك فقال "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يَقُوت " رواه أبو داود وروى مثله مسلم.
وقد فصل العلماء هذه المعاشرة المطلوبة وأنواع النفقة اللازمة، من غذاء وكساء ومسكن ومتعة وخدمة، وما يعتاد فى المواسم والمناسبات "يراجع الجزء الثالث من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ص 203".
ومن جهة علاجها قال الذين أوجبوا لها ما تطلبه الحامل أثناء الوحم، بوجوب علاجها من المرض، فإن المرض له دخل كبير فى التأثير على تمتعه بها، وعلاجها فهو من المعاشرة بالمعرف، وللفقهاء اجتهاد فى ذلك. وفقهاء الشافعية "الإقناع للخطيب ج 2 ص 191 " لا يوجبون على الزوج ثمن الدواء ولا أجر الطبيب، متعللين بأن ذلك لحفظ الأصل ولا صلة له به، وكيف يقال ذلك والمرض مانع أو منغص على الزوج متعته وما يلزمها وما تقوم به الزوجة من واجبات الأسرة؟ مثل الشافعية قال الحنابلة "معجم المغنى ص 970 ".
وفى القانون المصرى للأحوال الشخصية رقم 44 لسنة 1979 م نصت المادة 2/ 4 على أن النفقة تشمل الغذاء والكساء والمسكن ومصاريف العلاج وغير ذلك مما يقض به العرف "الفتاوى الإسلامية - المجلد الرابع ص 1387 ".
وتجهيزها من الموت إلى الدفن بدون إسراف ولا تبذير يكون على الزوج كما ذهب إليه أبو يوسف من الأحناف، وصدر به قانون المواريث رقم 77 لسنة 1943 " مادة 4 " الفتاوى الإسلامية - المجلد الخامس ص 1938(10/28)
طلاق زوجة الغائب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى شاب عقد قرانه علي ابنة عمه وسافر إلي الخارج منذ خمس سنوات ولم يدخل بها، وفى كل عام يرسل خطابا يقول إنه سوف يحضر ثم لا يحضر فهل لها حق الطلاق؟
الجواب
إذا غاب الزوج ولم تصبر الزوجة ولم تتحمل وخيف عليها من السوء كان لها أن تطلب التفريق، ويجيبها القاضى إلى مطلبها بطلاق بائن، بعد عمل الإجراءات اللازمة.
واختلف أصحاب الإمام مالك القائلون بذلك فى الحد الأدنى للغيبة التى تعتبر إضرارا بالزوجة وتسوغ لها طلب التفريق، فقدَرها بعضهم بثلاث سنين، وقدرها آخرون بسنة، وبهذا الرأى جاء القانون رقم 25 لسنة 1929م كما يلى:
مادة (12) -إذا غاب الزوج سنة فأكثر بلا عذر مقبول جاز لزوجته أن تطلب إلى القاضى طلاقها بائنا إذا تضررت من بُعده عنها ولو كان له مال يستطيع الإنفاق منه.
مادة (13) - إذا أمكن وصول الرسائل إلى الغائب وضرب له أجلا وأعذر إليه بأنه يطلقها عليه إن لم يحضر للإقامة معها أو ينقلها إليه - فإذا انقضى الأجل ولم يفعل ولا يُبد عذرا مقبولا فرق القاضى بينهما بتطليقة بائنة، وإن لم يمكن وصول الرسائل إلى الغائب طلقها القاضى عليه بلا إعذار وضرب أجل(10/29)
عقد الزواج بالإشارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى حاله زواج مسلم من كتابية لا تتحدث باللغة العربية وليس لها ولى، هل يكتفى بأخذ موافقتها فقط بالإشارة كالإيماء برأسها، أم أخذ شهادة اثنين من أهل الكتاب حيث لا يوجد شهود مسلمون؟
الجواب
جمهور الفقهاء على أنه لا يشترط فى عقد الزواج أن يكون باللغة العربية، بل يصح باللغة التى يفهم بها كل طرف ما يقوله الطرف الآخر.
أما الولى فهو ضرورى عند الجمهور، وعند الحنفية يجوز للمرأة الرشيدة أن تزوج نفسها بدون ولى.
والقادر على الكلام لا يصح عقد زواجه بالكتابة فقط ولا بالإشارة وحدها، أما العاجز عن الكلام فإن كان لا يحسن الكتابة ينعقد الزواج بالإشارة المعروفة، لأنه لا سبيل إلى التعبير عن إرادته إلا بها.
أما إن كان يحسن الكتابة فعند أبى حنيفة روايتان: الأولى- يصح العقد، لأن المقصود معرفة الغرض بأية وسيلة، ويستوى فى ذلك الإشارة والكتابة، والرواية الثانية: لا يصح العقد بالإشارة ولا بد من الكتابة، والعمل فى مصر على الرواية الثانية.
وإذا لم يتيسر وجود شاهدين مسلمين صح العقد بشاهدين كتابيين عند أبى حنيفة وأبى يوسف، ولا يصح عند الأئمة الثلاثة ومحمد بن الحسن ونفر من الحنفية، والعمل فى مصر على رأى أبى حنيفة وأبى يوسف "أحكام الأسرة فى الإسلام ص 102، 104، 105، 128"(10/30)
الاختلاط فى العمل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى العمل بالشركات مع الرجال والنساء الأجانب غير الملتزمات بالملابس التى تراعى الآداب والأخلاقيات، وإذا لم أجد عملا إلا فى هذا الجو فماذا أفعل؟
الجواب
العمل بأية مؤسسة فيها رجال ونساء مثل المشى فى الطرقات وارتياد الأسواق والاجتماعات العامة، وعلى كل جنس أن يلتزم بالآداب الموضوعة فى الشريعة، التى من أهمها ما جاء فى قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} النور: 30، وقوله: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن. . .} النور: 31، وما جاء فى السنة النبوية من عدم الخلوة المريبة والملامسة المثيرة والكلام الخاضع والعطر النفاذ والتزاحم إلى غير ذلك من الآداب.
ومع حفاظ كل جنس على الآداب المطلوبة عليه أن يوجه من يخالفها، من منطلق قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} التوبة: 71، وذلك بأسلوب حكيم يرجى منه الأمثال، أو على الأقل تبرأ به ذمته من وجوب الوعظ على كل حال كما قال تعالى: {واذ قالت أمة منهم لِمَ تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} الأعراف: 164.
ولا يجوز السكوت على مخالفة الآداب اعتمادا على قوله تعالى {عليكم أنفسكم. لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} المائدة: 105، فالاهتداء لا يكون إلا بعد القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما جاء فى نصوص أخرى، وإن لم ينتج النصح ثمرة وجب الإنكار بالقلب، وهو يظهر فى معاملة المخالفين معاملة تشعرهم بعدم الرضا عنهم، فقد يفكرون فى تعديل سلوكهم.
ومن العسير أن يترك الإنسان العمل فى مثل هذا المجال المختلط، فالمجالات كلها أو أكثرها فيها هذا الاختلاط، سواء على المستوى المحلى أو العالمى، فعلى من يلجا إلى هذا العمل أن يلتزم بالآداب مع القيام بواجب النصح بالحكمة والموعظة الحسنة(10/31)
المرأة رئيسة فى العمل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن تكون المرأة رئيسة على الرجل فى العمل مع أن الله يقول {الرجال قوامون على النساء} ؟
الجواب
رئاسة المرأة للرجل فى أى عمل لا تكون ممنوعة إلا فى الرئاسة أو الولاية العامة التى جاء فيها الحديث الصحيح "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخارى وغيره. وذلك أمر اتفق عليه العلماء، لخطورة هذه الولاية وحاجتها إلى مواصفات عالية فيمن يتولاها، وبدون نقاش "الرجال اقدر من النساء فى هذا المجال " وليس هذا تحيزا أو تعصبا، فالحياة أساسها التعاون ولا يتم الخير إلا بوضع الشخص المناسب فى المكان المناسب، كما سبق أن ذكرناه فى حق المرأة فى العمل.
وآية {الرجال قوامون على النساء} النساء: 34 تفيد معنى المسئولية الواجبة على الرجال نحو النساء إن كن بنات أو زوجات بالذات، وذلك لوجوب الإنفاق والرعاية، ومؤهلات هذه المنزلة مذكورة فى الآية نفسها، {بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} والواجب هو الاعتراف بالواقع الفعلى الذى خلق عليه الرجل والمرأة وبالنصوص المؤكدة لذلك.
ومهما أعطى من معنى "القوامة" بأنها رئاسة أو غيرها فإن المرأة لا تمنع منها إلا كما قلت فى الولاية العامة، وبشرط أن تكون محافظة على جميع الآداب الشرعية عند خروجها لأى عمل من الأعمال، حفاظا عليها وعلى غيرها مما لا يمكن تجامله.
والرئاسة فى الأعمال الأخرى مدارها على الكفاية والخبرة والأمانة التى لخصها سيدنا يوسف فى قوله {قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم} يوسف:55، وأشارت بها بنت شعيب عليه لاستئجار موسى {إن خير من استأجرت القوى الأمين} القصص: 26.
والنصوص فى شرط الكفاءة فى مزاولة أى عمل كثيرة، يستوى فى ذلك الرجل والمرأة وفى الحديث "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" قيل: وكيف إضاعتها؟ قال "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" رواه البخارى(10/32)
المرأة وكحل العين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تخرج وهى مكحلة العينين يراها الأجانب؟
الجواب
كان الكحل معروفا عند العرب قبل الإسلام، يستعمله الرجل والنساء للدواء والزينة، والإسلام فى احتياطه لصيانة الأعراض ومنع الفتنة أمر بالامتناع عن كل ما يغرى بالسوء، وأمر المرأة بالذات بستر مفاتنها فقال تعالى {ولا يبدين زينته ق إلا ما ظهر منها} النور: 31، والظاهر المعفو عنه فيه خلاف للمفسرين، يقول القرطبى:
الزينة قسمان، خلقية ومكتسبة، فالخلقية وجهها، والمكتسبة كالثياب والحلى والخضاب والكحل، ومنه قوله تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} الأعراف: 31، وعلى هذا فالكحل فى العينين من الزينة الظاهرة المعفو عنها، وذلك للحاجة إلى كشف العينين بالذات تبعا لكشف الوجه الذى جاء الترخيص به وبكشف الكفين.
غير أنى أنبه إلى أن الكحل إذا كان زينة معفوا عن إبدائها فالمراد به ما لا يكون مبالغا فيه يلفت النظر، وما لا يقصد به الفتنة، لأن الكحل العادى قد تكون العين فى غير حاجة إليه إذا كانت جميلة بالطبيعة بما يعرف باسم "الكَحَل " أما ما يزيد على ذلك مما يتفنن فيه نساء العصر فإن المقصود منه غالبا ليس تحسين العين لذات التحسين، بل الفتنة والإعجاب بما استحدث من أصباغ ذات ظلال وألوان خاصة للجفون وما يتبعها من أهداب صناعية وغيرها، وكل هذا لا يقر الإسلام أن يطلع عليه الرجال الأجانب، إلى جانب النية التى جاء فيها الحديث "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" رواه البخارى ومسلم، والقياس على التعطر الذى يقصد به أن يجد الرجال ريحها وهو دليل الفساد.
فليتق الله النساء فإنهن بغير زينة فتنة ما بعدها فتنة، وليحس كل رجل مسئوليته نحو أهله، فإن الله سائل كل راع عما استرعاه {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة} التحريم: 6(10/33)
فاطمة ورأيها فى الاختلاط
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقال إن السيدة فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم ترى وجوب الفصل بين الرجل والمرأة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن عليا رضى الله عنه سيتزوج على ابنته فاطمة لم يوافق على ذلك وقال "فاطمة بضعة منى يريبنى ما راباها ويؤذينى ما آذاها " وروى البزار والدارقطنى من حديث على رضى الله عنه أنه قال: كنت ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أى شىء خير للمرأة"؟ فسكتنا جميعا ولما رجعت سألت فاطمة فقالت: ألا ترى رجلا، ولا يراها رجل. ثم أخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "من علَّمك هذا"؟ فقلت: فاطمة قال "إنها بضعة منى" وفى بعض الروايات أن النبى صلى الله عليه وسلم هو الذى سألها ذلك، ولما أجابت ضمها إليه وقال "ذرية بعضها من بعض " يقول العراقى فى تخريج أحاديث "إحياء علوم الدين " للإمام الغزالى ج 2 ص 43 إن سنده ضعيف.
فالحديث وإن كان معناه صحيحا إلى حد كبير، إلا أن نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نسبة ضعيفة السند، وليس كل معنى مقبول يلزم أن يكون صادرا عمن نسب إليه، فأما كون فاطمة بضعة من أبيها عليه السلام فذلك صحيح لا شك فيه، وأما كون الرأى وهو عدم اختلاط الرجال بالنساء إلا فى أضيق الحدود، مقبولا فإن الواقع يشهد له، والأدلة فى القرآن والسنة بعمومها تؤيده، وإن كانت نسبته إلى السيدة فاطمة رضى الله عنها غير مجزوم بها.
هذا، وما جاء فى الكتب المطبوعة حديثا من أن هذا الحديث صححه الترمذى وابن حبان وأخرجه الأربعة لا يطابق الواقع بعد البحث والتحرى، ويرجى تدارك ذلك فى المستقبل إن شاء الله "موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام - ج 2 ص 93 "، "الصبان على هامش مشارق الأنوار" ص 162(10/34)
خضراء الدمن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هن الحديث ما يقال "إياكم وخضراء الدمن "قالوا:
وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال "المرأة الحسناء فى المنبت السوء"؟
الجواب
هذا الحديث رواه الدارقطنى، وذكره الإمام الغزالى فى كتابه "الإحياء " ورواه العسكرى فى كتابه "الأمثال " من طريق أبى سعيد الخدرى، وقد تفرد به الواقدى. وقال العراقى فى تخريج أحاديث الإحياء: إنه حديث ضعيف.
والدمن جمع دِمْنَة وهى-كما قال ابن الأثير فى النهاية - ما تدمنه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها، أى تلبده فى مرابطها، وربما نبت فيها النبات الحسن النضير.
والمراد من الحديث النهى عن تزوج المرأة لمجرد الإعجاب بحسنها وجمالها دون النظر إلى دينها وخلقها، فهى تشبه النبتة الرائعة فى مظهرها ولكنها تعيش فى وسط قذر، أو تستمد جياتها من منبع غير كريم، ومثل هذه المرأة لا تؤمن الحياة الزوجية معها.
وقد جاء فى حديث البخارى ومسلم "تنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " وهو دعاء عليه بالفقر والتصاق يده بالتراب إن لم يفعل ذلك(10/35)
شهادة الكتابى على زواج المسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجوز شهادة غير المسلم على عقد زواج المسلم؟
الجواب
يشترط فى الولى والشاهدين على عقد الزواج الإسلام، والأئمة متفقون على شرط الإسلام فى الولى إلا إذا كانت الزوجة كتابية، فيجوز أن يكون وليها غير مسلم.
وأما فى الشهادة فالأكثرون على اشتراط الإسلام حتى لو كانت الزوجة كتابية، وأبو حنيفة وأبو يوسف أجازا أن يكون الشاهدان غير مسلمين فى هذه الحالة، ويقال: إن نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان ابن عفان رضى الله هذه كان وليها أخاها "ضبا" وكان مسلما كما ذكره ابن قتيبة فى كتابة "عيون الأخبار"ج 4 ص 46.
والدليل على رأى الفقهاء فى اشتراط الإسلام فى الشاهدان أن الشهادة فيها معنى الولاية، وقد قال تعال {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} النساء: 141، وهو دليل على رأى الجمهور فى اشتراطه حتى لو كانت الزوجة غير مسلمة، وذلك لمنع ولاية غير المسلم على عقد فيه مسلم. واعتمد أبو حنيفة وأبو يوسف على أن الشهادة هى على الزوجة، فلا توجد ولاية لغير مسلم على مسلم. ورده الجمهور باشتراك الزوج فى هذه الشهادة، وبأن الإشهار والإعلان لا يتحقق بين المسلمين بغير المسلمين.
هذا، وعمل المحاكم المصرية على رأى أبى حنيفة وأبى يوسف(10/36)
بالرفاء والبنين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سعنا أنه لا يجوز أن يقال فى التهنئة بالزواج بالرفاء والبنين، فهل هذا صحيح، وما معنا هذه الكلمة؟
الجواب
من السنة أن يتقدم الناس بتهنئة العروسين والدعاء لهما بالبركة، بناء على التوجيهات العامة بالمشاركة الوجدانية بين المسلمين، أى الفرح لفرحهم والحزن لحزنهم، ففى سنن الترمذى وأبى داود وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تزوج الإنسان قال له "بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما فى خير " وهذا الحديث كما يقول الترمذى:
حسن صحيح.
ويكره عند التهنئة أن يقال: بالرفاء والبنين، كما ذكره النووى فى كتابه "الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار" ص 281، فقد تزوج عقيل ابن أبى طالب امرأة من بنى جشم ولما ذهبوا إليه ليهنئوه قالوا: بالرفاء والبنين، فقال لهم: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لهم وبارك عليهم " رواه النسائى وابن ماجه وروى أحمد مثله، وفى رواية له "لا تقولوا ذلك، قولا بارك الله لها فيك، وبارك فيها".
يقول ابن الأثير فى "النهاية". الرفأ هو الالتئام والاتفاق والبركة والنماء، ومنه قولهم: رفأت الثوب رفءا، ورفوته رفوا، وإنما نهى عنه كراهية لأنه كان من عادتهم، ذكر ذلك الشوكانى فى "نيل الأوطار" وابن مفلح فى "الآداب الشرعية".
والخلاصة أن الكلمة معناها جميل، لأنها دعاء بالوفاق والبركة بين الزوجين، ودعاء بذرية البنين، وهو خير، والدعاء بالخير غير ممنوع، لكن قال العلماء بكراهة هذه العبارة، لأنها كانت من عادات الجاهلية، وبخاصة الدعاء للبنين الذى يدل على ما كان عندهم من كراهية البنات، والأولى أن يقال ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم(10/37)
سر الزوجين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للزوج أو الزوجة أن يفشى السر الخاص بينهما لطلب مشورة أو حل مشكله؟
الجواب
إفشاء السر له خطورته، وبخاصة إذا كان فى الأمور الهامة، على المستوى العام كأسرار الدول والحكومات، وعلى المستوى الخاص كأسرار الأسر والشركات والجماعات، وإفشاء السر منهى عنه لما فيه من الإيذاء والتهاون بحقوق الغير، فى الحديث الذى رواه أبو داود والترمذى وحسَّنه "إذا حدَّث الرجل الحديث ثم التفت فهى أمانة" وفى تاريخ الإسلام أحداث كان إفشاء السر فيها خطيرا، من ذلك نقل حاطب بن أبى بلتعة سر مسيرة النبى وصحبه لغزو مكة، ولم يعصمه من القتل إلا أنه قد شهد بدرا، وكان قصده حسنا، ونقل بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم حديثه إلى بعضهن كما قال تعالى {وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرَّف بعضه وأعرض عن بعض} التحريم: 3.
ومن الأسرار التى لها حرمتها ما يحصل بين الزوج وزوجته فى الخلوة الخاصة، وقد أخرج أحمد بن حنبل عن أسماء بنت يزيد بن السكن أنها كانت عند الرسول والرجال والنساء قعود عنده فقال "لعل رجلا يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها" فأرمَّ القوم، أى سكتوا، فقالت يا رسول الله، إى والله إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، فقال ما معناه: "فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقى شيطانة فكان منهما ما كان والناس ينظرون " وروى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفض إلى المرأة وتفضى إليه، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه ".
هذا فى السر الخاص، أما الأسرار الأخرى للبيوت فلا ينبغى إفشاؤها لغير من تهمهم مصلحة الأسرة من الأقارب، بل إن البيوت الكريمة تحاول أن تخفى أسرارها حتى عن أقرب الناس إليها، لأن السر إذا خرج أوغر الصدر، إلى جانب ما يترتب عليه من آثار ضارة، أقلها الشماتة عند معرفة العيوب التى يشكو منها أحد الزوجين، وكثير من الناس يتصيدون أخبار البيوت للإفساد، وللنساء فى مجالسهن الخاصة أحاديث متشعبة وخبر أم زرع بشأن النسوة اللاتى تحدثن عن أزواجهن معروف.
على أنه لا بأس بإفشاء بعض الأسرار عند الحاجة بقصد الإصلاح، كما شكت هند إلى النبى تقتير زوجها أبى سفيان، وذلك عند التقاضى، أما الحديث لمن لا يرجى عنده إصلاح فممنوع، ففى حديث مسلم "ومن ستر مسلما ستر الله فى الدنيا والآخرة" ومن كتم سره كان الخيار بيده(10/38)
غياب الزوج عن زوجته
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يسافر بعض الأزواج إلى بلد آخر لطلب العلم أو كسب العيش ويترك زوجته وأولاده، فما موقف الدين من ذلك؟
الجواب
معلوم أن الزواج شركة يتعاون فيها الزوجان على توفير الأمن والراحة والسكن لكل منهما ولمن يأتى من ذريتهما، وحتى يكون هذا التعاون نابعا من الأعماق قوى الرسوخ فى النفس ربط الله بينهما برباط وثيق هو الشهوة والعاطفة، وبخاصة حين يحسان أن ثمرة اللقاء ستكون مولودا يشبعان به عاطفة الأبوة والأمومة، ويقدمان له أعز ما عندهما ويستعذبان فى سبيل توفير الراحة والسعادة له كل صعب وشاق.
وحين يبتعد أحد الزوجين عن الآخر يحس بالفراغ وينتابه القلق للاطمئنان على نصفه الآخر، ويغذى هذا الشعور أمران أحدهما يحتاجه الجسد والآخر يحتاجه القلب، وإذا طال أمد البعد قوى ألم الفراق، وربما أحدث مرضا أو أمراضا، وعند طلب العلاج قد يكون الزلل إن لم يكن هناك عاصم من دين، وحصانة من أخلاق.
جاء فى المأثور أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سمع -وهو يتفقد أحوال الرعية ليلا-زوجة تنشد شعرا تشكو فيه بعد زوجها عنها لغيابه مع المجاهدين، ولولا تمسكها بدينها ووفاؤها لزوجها لانحرفت، فرقَ عمر لحالها، وقرر لكل غائب أمدا يعود بعده إلى أهله.
وبالرغم من ترك الغائب لأهله النفقة اللازمة، فإن عليه حقوقا لزوجته وأولاده غير ذلك، والناس مختلفون فى الشعور بأداء هذا الحق، ولئن كان عمر جعل أمد البعد أربعة أشهر فى بعض الروايات فلعل ذلك كان مناسبا للبيئة والظروف التى ينفذ فيها هذا القرار، والبيئات والظروف مختلفة، والشعور بالبعد يختلف بين الشباب والكبار، ويختلف من زوجة فيها دين وخلق قوى إلى من ليس عندها ذلك، والزوج هو الذى يعرف ذلك ويقدره.
وإذا كنت أنصح بتحمل بعض الآلام لمصلحة الأسرة ماديا فإني أنصح الزوج أيضا بألا يتمادى فى البعد، فالسعادة النفسية باللقاء على فترات متقاربة لها أثرها فى سعادة الأسرة.
ويراجع فى الجز الثالث من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام توضيح حق إعفاف الزوج لزوجته(10/39)
عودة الزوج الغائب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى زواج امرأة بعد سفر زوجها، وانقطعت صلته بها عشر سنوات ولكنه عاد بعد زواجها بسنتين؟
الجواب
إذا غاب الزوج لا يجوز للزوجة أن تتزوج إلا بعد رفع أمرها إلى القضاء ليتخذ الإجراءات اللازمة لاستدعائه أو للحكم بفقده، أما أن تتزوج هى بغير ذلك فإن زواجها باطل، وتبقى على ذمة زوجها الأول، تعود إليه عند عودته حتى لو تزوجت بغيره، لأن الزواج باطل.
وإذا حكم القاضى بفقد الزوج بعد الإجراءات المعروفة ثم تزوجت وعاد زوجها فالقضاء يعيدها إلى زوجها الأول إن لم يكن الزوج الثانى قد دخل بها، فإن عاد بعد الدخول بها يخير بين أخذها وأخذ صداقها وتبقى للزوج الثانى، على تفصيل يرجع إليه فى قانون الأحوال الشخصية. والمهم أن زواجها قبل رفع الأمر للقاضى باطل، ولو عاد زوجها كان له الحق فيها دون الثانى(10/40)
الاستئذان بين الآباء والأبناء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الأوقات التى لا يجوز فيها دخول الأبناء على الآباء دون استئذان والأوقات التى لا يجوز فيها دخول الآباء على الأبناء؟
الجواب
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة للفجر وحتى تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاه العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم. وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم} النور: 58، 59.
يؤخذ من هاتين الآيتين أن الاستئذان مطلوب من الخدم والأطفال الذين يعيشون مع الأسرة، وذلك فى الأوقات التى يغلب فيها النوم والإخلاد للراحة، بما يتبع ذلك من تخفيف الملابس وتعرض العورات للانكشاف وهى:
1 - قبل صلاة الفجر، لأنه وقت النوم المستغرق غالبا.
2 -وقت الظهيرة وتغلب فيه القيلولة والتخفيف من الملابس وطلب الراحة بالنوم.
3-بعد صلاة العشاء، لأنه وقت الاستعداد للنوم.
وقد ورد عن ابن عباس أن الناس فرطوا فى هذا الأدب، وعلله بأنهم أولا كانوا لا يضعون ستورا على أبوابهم وحجالهم - مخادعهم - فربما يفاجىء الخادم أو الطفل الرجل مع أهله، لكن لما أثروا واتخذوا الستور والمخادع الخاصة تهاونوا فى الإذن، ظنا أنه لا حاجة إليه.
قال المحققون: هذه الآية محكمة لم تنسخ بآية {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} النور: 59.
لأن البالغ يستأذن قى كل وقت، أما الأطفال ففى هذه الأوقات الثلاثة.
والآباء يدخلون على الأبناء الصغار لرعاية مصالحهم ولا حاجة إلى استئذانهم، فإذا بلغوا روعى معهم الاستئذان كما روعى استئذانهم على آبائهم(10/41)
الإيلاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا حلف الرجل ألا يقترب من متعة من متع الحياة مثل معاشرة زوجته ولم يستطع فهل عليه كفارة؟
الجواب
نعم من حلف على فعل شيء أو تركه ولم يستطيع تنفيذ ما حلف عليه وجبت عليه كفارة يمين وهى المذكورة فى قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم} المائدة: 89 ولا يشترط أن تكون الأيام متتابعة.
وإذا كان حلفه على الامتناع عن زوجته فذلك يعتبر إيلاء إن زاد الحلف على أربعة أشهر، فهنا يطالب بواحد من اثنين، هما: قربان زوجته مع الكفارة المذكورة أو طلاقها، قال تعالى {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} البقرة: 226، 227 أما إن كان الامتناع لأقل من أربعة أشهر فلا يجرى عليه حكم الإيلاء، إن رجع عن حلفه أى فاء فى هذه المدة المحلوف عليها وجبت عليه الكفارة، وإن لم يفىء فلا شىء عليه.
قال عبد الله بن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون به إيذاء المرأة عند المساءة، فوقِّت لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمى، وذكر القرطبى "ج 3 ص 103 " فى تفسيره أن النبى صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه، لأنهن سألنه من النفقة ما ليس عنده كما فى صحيح مسلم. هذا فى الحلف على عدم قربانها، فإن امتنع بدون يمين حلفها، وذلك للإضرار بها أُمر بقربانها، فإن أبى وأصر على امتناعه مضرا بها فرق القاضى بينه وبينها من غير ضرب أجل، وقيل يضرب أجل الإيلاء.
وقيل لا يدخل على الرجل الإيلاء فى هجره لزوجته وإن أقام سنين لا يغشاها، ولكنه يوعظ ويؤمر بتقوى الله فى ألا يمسكها ضرارا.
هذا، والجمهور على أن مدة الإيلاء وهي أربعة أشهر إذا انقضت ولم يرجع المولى، لا تطلق زوجته إلا إذا طلقها، وعند أبي حنيفة تطلق ولا سبيل له عليها إلا بإذنها كالمعتدة بالشهور والأقراء، إذا انتهت فلا سبيل له عليها "تفسير القرطبى ج 3 ص 11 "(10/42)
المخطوبة التائبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف تكفر الفتاة عن ذنوب تتعلق بجوانب أخلاقية ارتكبتها قبل زواجها، وهل لها أن تصارح من تقدم لخطبتها بتلك الذنوب أم ماذا تفعل؟
الجواب
التوبة من المعصية واجبة لقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} النور: 31 وهى تكفر الذنوب إذا كانت نصوحا كما قال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفِّر عنكم سيئاتكم. . .} التحريم: 8.
والتوبة النصوح تقوم على الإقلاع عن المعصية والندم على العصيان والعزم الأكيد على عدم العود إليه، مع رد الحقوق إلى أصحابها أو تنازلهم عنها. والذنب مهما كبر فالتوبة إن شاء الله تغفره ما عدا الشرك كما قال سبحانه {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48 وينبغى ألا يدخل اليأس قلب العاصى ويظن أن الله لا يغفر له، فهو القائل {قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} الزمر: 53.
وإذا لم تشتهر الفتاة العاصية بانحرافها ولم يعلم به إلا هى أو خاصة أهلها فلا حاجة إلى إخبار من يتقدم لخطبتها بماضيها، وقد نهى عمر رضى الله عنه رجلا أن يفضح بنته بما حدث منها عندما أراد أن يزوجها، وذلك فى الانحراف الذى لا غش فيه، فإن كان انحرافا ضاعت به بكارتها وقامت بعملية ترقيع أو إبدال فهو غش سينكشف أمره، وهنا يكون للخاطب الخيار بعد العقد فى إتمام الزواج أو فسخ العقد.
ولو سألها الخاطب عن ماضيها أو عيوبها، فلا بد أن تخبره بها، ولعله إن عرف صدقها فى التوبة أنس إلى صراحتها وتزوجها.
وأحذِّر ثم أحذر من يساعدون على تغطية الانحراف فى الشرف بالعمليات المعروفة وبخاصة إذا لم يكن هناك عذر لمن حدث لها ذلك، أحذرهم من القيام بهذه العمليات مهما كان الإغراء المادى، ففى ذلك تشجيع على الانحراف بضياع أعز ما يحرص عليه كل إنسان كريم(10/43)
عورة المسلمة مع غير المسلمة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمرأة المسلمة أن تظهر من جسمها شعرها وصدرها وذراعيها أمام غير المسلمة؟
الجواب
إذا كان الإسلام قد أباح التعامل مع غير المسلمين بمثل قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} الممتحنة: 8 فإن لهذا التعامل حدودا لا يجوز الخروج عليها، ومن ذلك تحديد العورة التى لا يجوز كشفها من المرأة المسلمة أمام امرأة غير مسلمة مهما كانت العلاقة بينهما فهى معها كالرجل الأجنبى.
يقول القرطبى فى تفسيره "ج 12 ص 233": لا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئا من بدنها أمام امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى {أو ما ملكت أيمانهن} النور: 31 وكان ابن جريج وعبادة بن نُسى وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها، ويتأولون {أو نسائهن} يعنى المسلمات، وقال عبادة بن نُسَىٍّ: وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى عبيدة بن الجراح: أنه بلغنى أن نساء أهل الذمة دخلن الحمامات مع نساء المسلمين، فامنع من ذلك وحل دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة -ما يعرى منها وينكشف- قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه: وقال ابن عباس رضى الله عنهما: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية لئلا تصفها لزوجها، وفى هذه المسألة خلاف، فإن كانت الكافرة أمة لمسلمة جاز أن تنظر إلى سيدتها، وأما غيرها فلا، لانقطاع الولاية بين أهل الكتاب وأهل الكفر لما ذكرنا(10/44)
استثناءات الحرمة بين الرضاعة والنسب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ورد حديث يقول "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ولكن فيه بعض مسائل مستثناة من هذه القاعدة، فما هى؟
الجواب
هذا الحديث رواه البخارى ومسلم، ولكن جاء فى شرح الدردير لأقرب المسالك أن هناك ست مسائل مستثناة من هذه القاعدة وهى:
1- أم الأخ أو أم الأخت، لأنها من النسب إما أمك وإما امرأة أبيك، وكلاهما محرمتان، لكن أم الأخ من الرضاع لا تحرم وكذلك أم الأخت.
2- أم ولد ولدك من الرضاع، لأنها من النسب إما بنتك أو زوجة ولدك.
3- جدة الولد من الرضاع، لأنها إما أمك أو أم زوجتك.
4- أخت الولد من الرضاع، لأنها إما ابنتك وإما بنت زوجتك.
5- أم عمك وعمتك من الرضاع، لأنها إما جدتك أو زوجة جدك.
6- أم خالك أو خالتك من الرضاع، لأنها إما جدتك أم أمك أو زوجة جدك أبى أمك، "مجلة الإسلام - المجلد الرابع، العدد السابع عشر"(10/45)
الرضاع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كم عدد الرضعات التى تحرم الزواج وهل يشترط أن يكون فى الصغر؟
الجواب
هناك محرمات من النساء لا يجوز التزوج منهن، ومن أسباب التحريم الرضاع، كما قال تعالى فيمن حُرمن {وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} النساء: 23 وإذا كانت الآية قد نصت على تحريم الأم والأخت من الرضاعة، فإن الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " يدخل محرمات أكثر بسبب الرضاع كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وغيرهن.
وقد ثبت فى الحديث الذى رواه مسلم أنه "لا تحرم المصة ولا المصتان،وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرِّمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن. ومهما يكن من خلاف الفقهاء فى عدد الرضعات فإن الفتوى فى مصر على مذهب الإمام الشافعى، وهو خمس رضعات، والشرط أن يكن معلومات متيقنات، والشك لا يبنى عليه تحريم، وليس للرضعة مقدار معين كما رآه الشافعى، واشترط الفقهاء أن يكون الرضاع فى مدة الحولين، وذلك لقول النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه الترمذى وصححه "لا تحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء وكان فى الثدى قبل الفطام " وقوله كما رواه الدارقطنى بإسناد صحيح "لا رضاع إلا فيما كان فى الحولين ".
وجمهور الفقهاء على أن الرضاع بعد الحولين أو ما قاربهما لا يثبت التحريم، غير أن هناك جماعة من السلف والخلف قالوا: الرضاع يحرم ولو كان الذى رضع شيخا كبيرا، وحجتهم فى ذلك حديث رواه مسلم عن سهلة بنت سهيل التى قالت للنبى صلى الله عليه وسلم إنى أرى فى وجه أبى حذيفة وهو زوجها، من دخول سالم وهو حليفه، يعنى يغار من دخوله البيت ورؤيتها، فقال لها "أرضعيه تحرمى عليه " فقالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم وقال "قد علمت أنه كبير" وظاهر هذا أن رضاع الكبير يثبت به التحريم، وعليها أن تتصرف فى كيفية الرضاع، إما أن تحلب له اللبن ليشربه حتى لا يرى ولا يلمس شيئا من جسمها، وإما أن يكون الرضاع المباشر من ثديها ضرورة والضرورات تبيح المحظورات.
وأكدت عائشة هذا الرأى لأم سلمة كما رواه مسلم، وفى رواية أبى داود أن عائشة كانت تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت هى أن يراها ويدخل عليها حتى لو كان كبيرا، لتكون عائشة عمة الرضيع أو خالته، لكن سائر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم لم يوافقنها على هذا الرأى، ويرين كما يرى الجمهور أن الرضاع المحرم لا يكون إلا فى الصغر، وقلن لعائشة:
لعل مسألة سهيلة وسالم كانت رخصة خاصة ليست لسائر الناس. والخلاصة:
أن لكل من الرأيين دليله ووجهة نظر، وقد ارتضى الفقهاء أن إرضاع الكبير لا يحرم الزواج، فلتكن عليه الفتوى(10/46)
التعقيم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم ربط المبايض والتعقيم كوسيلة من وسائل تنظيم النسل؟
الجواب
خلق الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى، وجعل لكل منهما خصائص من أجل التناسل والتعاون على عمارة الأرض، وتعقيم واحد منهما معناه جعل الرجل أو المرأة عقيما لا يلد ولا يولد له، ويتم ذلك بوسائل متعددة، كان منها فى الزمن القديم سل الخصيتين من الرجل، وفى الزمن الحديث ربط الحبل المنوى، أو جراحة أو إعطاء دواء يمنع إفراز الحيوانات المنوية أو يبطل مفعولها، وتعقيم المرأة يكون بتعطيل المبيضين بجراحة أو دواء يمنع إفراز البويضات، أو بسد قناة فالوب، أو استئصال الرحم أو غير ذلك من الوسائل.
وإذا جاز من الناحية الصحية أو غيرها تأجيل الحمل مدة معينة، مع بقاء الاستعداد للقدرة على الإنجاب عندما تتاح الفرصة، فإنه لا يجوز مطلقا تعطيل الجهازين تعطيلا كاملا عن أداء وظيفتهما، إلا إذا دعت إلى ذلك ضرورة قصوى. ففى ذلك مضادة لحكمة خلق الله للنوعين، مع ما ينتج عنه من فقد كل من الرجل أو المرأة بعض الخصائص المميزة لهما فى الصوت والشعور والإحساس وتأثير ذلك على السلوك ولو إلى حد ما.
ومن هنا نهى الإسلام عن خصاء الرجل لما فى حديث البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه حيث سأل النبى صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فى الخصاء لعدم وجود ما يتزوج به وهو شاب يخاف على نفسه الوقوع فى الإثم.
وكما فى حديث أحمد فى النهى عنه للغزاة الذين ليس معهم زوجاتهم، وفى قول النبى صلى الله عليه وسلم لرجل استأذنه فى الخصاء، "خصاء أمتى الصيام والقيام " رواه أحمد والطبرانى.
وتعقيم المرأة كالخصاء للرجل فى الحكم وهو الحرمة، وقد قرر المختصون أن عملية الحمل ضرورية لتوازن الحيوية فى المرأة، والوقوف ضدها عناد للطبيعة، وبهذا يكون ربط المبايض حراما كما قاله جمهور الفقهاء، ومن كانت عندها أولاد تريد الاكتفاء بهم فتعقم نفسها، هل تضمن تصاريف القدر بالنسبة لهؤلاء الأولاد، مع أن هناك وسائل لتأجيل الحمل لا لمنعه، فيها مندوحة عن التورط فى أمر يكون من ورائه الندم حيث لا ينفع، وإذا كان الإمام أحمد أجاز شرب المرأة الدواء لقطع دم الحيض فلعله لغرض آخر غير التعقيم، ومع ذلك لا يصح أن يلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى كتحقق الوراثة لمرض خبيث أعيا الطب علاجه، والضرورة تقدر بقدرها(10/47)
الجنين الحى فى بطن أم ميتة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز إخراج الجنين من بطن أمه، إذا توفيت وأثبت الأطباء أن الجنين مازال حيّا؟ وهل شق البطن فى هذه الحالة يعتبر تعديا على حرمة جسد الميت؟
الجواب
قال ابن قدامة فى المغنى: والمذهب -أى الحنبلى- أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها، مسلمة كانت أو ذمية، وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركة، وإن لم يوجد نساء لم يسط الرجل عليه وتترك أمه حتى يتيقن موته ثم تدفن، ومذهب مالك وإسحاق قريب من هذا، ويحتمل أن يشق بطن الأم إن غلب على الظن أن الجنين يحيا، وهو مذهب الشافعى، لأنه -أى الشق - إتلاف جزء من الميت لإبقاء حى فجاز، كما لو خرج بعضه حيا ولم يمكن خروج بقيته إلا بشق، ولأنه يشق لإخراج المال منه، فلإبقاء الحى أولى.
ويرد ابن قدامة رأى الشافعى فيقول: ولنا أن هذا الولد لا يعيش عادة ولا يتحقق أنه يحيا، فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم،وقال النبى صلى الله عليه وسلم "كسر عظم الميت ككسره حيا" وفيه مثلة وقد نهى النبى عن المثلة اهـ.
وأظن أن هذا النقل كاف للإجابة عن هذا السؤال، وقد يقبل كلام الحنابلة فى منع شق البطن إذا كانت حياة الجنين متوهمة غير راجحة أو متيقنة، أما لو أثبت الأطباء أن الجنين ما زال حيًّا فإن رأى الشافعى يكون قويا جدًا(10/48)
حدود الاختلاط بين الجيران
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى مقاطعة الجيران بدعوى أن الاقتصار فى الاختلاط بالآخرين عبادة؟
الجواب
لا تجوز مقاطعة الجيران إلا إذا تحقق الضرر من جهتهم ولم يمكن دفعه، فإذا أمكن إصلاح الفاسد منهم وجب ذلك قيامًا بواجب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.
كما ينبغى تقديم حسن الظن وعدم التصرف بناء على وهم أو ظن غير راجح وليعلم الجميع أن الجار قد يكون أقرب وأنفع من الأقارب إذا كانوا بعيدين عن المسكن واستغاث الإنسان فلا يغيثه إلا جاره.
فلتكن صلتنا بجيراننا طيبة، لادخارهم لمثل هذه الظروف، ولا يلزم من حسن الجوار كثرة الزيارات والاختلاط، فكل شىء له حد معقول لو زاد عنه قد يضر.
وأقل ما يجب نحو الجار كف الأذى عنه، وما زاد على ذلك من تقديم الخير له فهو مندوب مستحب، إلا إذا كان فى حاجة أو ضرورة فالواجب تقديم ما يحتاجه ويدفع ضرورته(10/49)
الملابس الضيقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى ارتداء المرأة للملابس الطويلة والحجاب، ولكنها ضيقة توضح أعضاء الجسم، وهل يعتبر هذا الزى ساترا لجسد المرأة؟
الجواب
الشرط فى ملابس المرأة التى تسترها وتمنع الفتنة بها ألا تصف وألا تشف، يعنى ألا تكون ضيقة تصف أجزاء الجسم وتبرز المفاتن.
وألا تكون رقيقة شفافة لا تمنع رؤية لون البشرة، ومن النصوص التى تنهى عن لبس ما يصف جسم المرأة ما رواه أحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم أهدى أسامة بن زيد قبطية كثيفة، فأعطاها لامرأته فقال له "مرها أن تجعل تحتها غلالة، فإنى أخاف أن تصف حجم عظامها" والقبطية لباس من صنع مصر يلتصق بالجسم،والغلالة شعار يلبس تحت الثوب.
وأخرج أبو داود نحوه عن دحية الكلبى. وفى رواية للبيهقى أن عمر رضى الله عنه لما أعطى الناس الثياب القباطى نهى عن لبس النساء لها، لأنها إن لم تشف فإنها تصف.
واخرج ابن سعد بسند صحيح أن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما ردت ثوبا أهدى إليها من ثياب "مرو" وقيل لها: إنه لا يشف فقالت: لكنه يصف.
وبهذا يعلم أن ثياب المرأة حتى لو لم تكن رقيقة شفافة، وحتى لو كانت سابغة تغطى كل جسمها حتى قدميها، لو كانت محددة لأجزاء جسمها ضيقة تبرز مفاتنها فهى محرمة، لأنها لا تحقق الحكمة من مشروعية الحجاب وهى عدم الفتنة.
وأحذر من الاغترار بالإعلانات عن الأزياء الخاصة بالمحجبات فإن فيها لمسة فتنة لا تخفى على أى إنسان، والعبرة فى التنفيذ ليس بالشكل ولكن بتحقيق الهدف منه(10/50)
تعليم المرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى تعليم المرأة؟
الجواب
التكاليف الشرعية موجهة للرجال والنساء جميعا، وإن كان أكثر النصوص فى القرآن والسنة تتحدث عن الرجل، لأنه الأصل وكل من بعده تبع له {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} النساء: 1 وفى بعض الأحيان تنزل نصوص تتحدث عن الجنسين لوجود سبب يدعو إلى ذلك، كما جاء فى رواية أحمد والنسائى أن أم سلمة قالت للرسول: ما لنا لا نذكر فى القرآن كما يذكر الرجال؟ فتلا قوله تعالى وهو على المنبر يا أيها الناس الله يقول {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} إلى آخر الآية الأحزاب: 35، وفى رواية الترمذى أنها سألته: لِمَ لم تذكر النساء فى الهجرة؟ فنزل قوله تعالى {فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ... } إلى آخر الآية آل عمران:195،.
وذلك كله مع مراعاة التناسب فى التكليف بين طبيعة كل من الجنسين، وطلب العلم واجب لمعرفة ما أمرنا الله باتباعه مما أنزله على رسله المبشرين والمنذرين، وتلك حقيقة لا تحتاج إلى دليل، وأكثر النصوص الواردة تبين فضل المتعلم على غيره بأساليب كثيرة والرجل والمرأة فى ذلك سواء، وإذا كان قد جاء فى حديث ضعيف "طلب العلم فريضة على كل مسلم " دون لفظ "ومسلمة" فهي مضافة حكما لا رواية والواقع يشهد لذلك، فقد صح فى البخارى ومسلم طلب النساء من النبى تخصيص يوم لهن للتعلم، وأن كثيرات منهن سألنه فى أمور دقيقة قالت فى شأنها السيدة عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن فى الدين، بل جاء فى رواية البخارى ومسلم "أيما رجل كانت عنده وليدة- أى أمة رقيقة-فعلَّمها فأحسن تعليمها، وأدَّبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " وإذا كان هذا فى تعليم الأمة فكيف بالحرة؟ والنصوص عامة للجميع، لقد قال الفقهاء - كما جاء فى إحياء علوم الدين للإمام الغزالى وغيره -يجب على الزوج أن يعلم زوجته القدر الضرورى الذى تصحح به عبادتها وتؤدى به واجبها المنوط بها، وذلك إما بنفسه هو أو بمن يستعين به، فإن لم يفعل كان لها أن تخرج لطلب العلم الواجب ولا يجوز أن يمنعها منه.
وقد صح فى الحديث نهى الرجال عن منع النساء من الذهاب إلى المسجد، وذلك من أجل التعلم، لأن صلاتهن فى بيتهن أفضل.
فإذا كان للمرأة أن تخرج لطلب العلم فعليها أن تلتزم بكل الآداب الواجبة لكل خروج من بيتها، من الحشمة والعفة والأدب وعدم المغريات من عطر نفاذ أو قول خاضع، أو خلوة مريبة، أو تزاحم متعمد، مع التأكد من الأمن عليها من الفتنة والفساد.
وعلى المجتمع كله أن يوفر الجو الآمن لتحقيق الغرض من التعليم ومنع الفساد بأى وجه يكون. وبالفهم الجيد لنصوص الدين وروح الشريعة يمكن الحكم على أى عمل حكما صحيحا،بعيدا عن التخبط والانحراف(10/51)
فى الهندسة الوراثية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يمكن الآن تنشيط رحم المرأة بالهرمونات بعد سن اليأس ليصبح رحمها معدَّا لحضانة بويضة ملقحة، وبذلك تحمل بويضة لغيرها لأن جسمها توقف عن التبويض، فما الحكم، هل يكون الولد لها أم لصاحبة البويضة؟
الجواب
هذه الصورة يطلق عليها اسم "الرحم المؤجَّر" أو "الأم الحاضنة" حيث إن البويضة الملقحة التى وضعت فى رحمها ليست بويضتها، والحكم هو التحريم، لأن فيها صورة الزنا، والزنا محرم بالكتاب والسنة والإجماع وذلك لأمور، من أهمها أمران:
ا- المحافظة على الأنساب إذا كان الرجل والمرأة قابلين للإنجاب، بصلاحية مائه وصلاحية بويضتها، فلا يدرى لمن ينسب المولود ويكون مصيره الضياع، وقد صح فى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
ب - صيانة الأعراض عن الانتهاك وحماية الحقوق لكل من الرجل والمرأة، وفى الزنا وقعت المتعة الجنسية بغير الطريق الشرعى الذى يدل عليه قول الله تعالى فى صفات المؤمنين المفلحين {والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} المؤمنون: 5-7.
وتظهر الحكمة الثانية فى تحريم الزنا إذا كان أحد الطرفين غير صالح للإنجاب كما فى الصورة المذكورة فى السؤال، حيث توقف جسم المرأة عن التبويض فإذا كان مجرد دخول ماء الرجل الغريب عن المرأة فى رحمها حراما فكيف بدخول ماء وبويضة "بويضة ملقحة بمائه" أى دخول جنين أو أصل جنين غريب عنها؟! إن الحرمة تكون من باب أولى.
السؤال الثانى- أصبح من الممكن الآن تلقيح بويضة بحيوان منوى وتجميد هذا الجنين لعدة سنوات حتى تحتاج إليه المرأة فيوضع فى رحمها وتحمل وتلد، ويطرح هذا التطور عدة أسئلة عن حالات واقعية:
أولا: يقوم زوجان بتلقيح بويضة من الزوجة بحيوانات منوية من الزوج قبل إقدام أحدهما على تناول العلاج الكيماوى أو الإشعاعى أو غيرهما من العلاجات التى لا تسمح للزوجين بالإنجاب، وبعد الانتهاء من العلاج تحمل الزوجة بهذه البويضة الملقحة.
ثانيا: قد يتوفى الزوج أثناء العلاج أو لأى سبب، فتلقح الزوجة بعد الوفاة بهذه البويضة وتحمل من زوجها الذى توفى.
ثالثا: تتوفى الزوجة فتلقح امرأة أخرى "أم حاضنة" بهذه البويضة فتحمل وتسلم الوليد للزوج.
والجواب:
أولاً: ما دامت الزوجية قائمة فلا مانع من وضع البويضة الملقحة من ماء زوجها فى رحمها وهى صاحبة البويضة، ويكون الجنين الذى حملته ووضعته منسوبا شرعا إلى الزوج والزوجة وهذه الصورة هى من صور التلقيح الصناعي الذي يتم فيه التلقيح بين الماء والبويضة خارج الرحم، ثم تعاد البويضة إلى الزوجة صاحبتها، وذلك مشروع لا مانع منه مع اتخاذ الاحتياطيات اللازمة.
ثانيا: إذا توفى الزوج انقطعت العلاقة الزوجية من الناحية الجنسية بالذات بينه وبين زوجته، ووضع هذه البويضة الملقحة فى رحمها أصبح وضعا لشىء غريب منفصل عنها، فالمرأة صارت غريبة عنه، ولذلك يحل لها أن تتزوج من غيره بعد الانتهاء من العدة المضروبة لوفاة الزوج، وهى قبل انتهاء العدة أشبه بالمطلقة طلاقا بائنا، حيث لا يجوز أن تكون بينهما معاشرة زوجية تعتبر رجعة بالفعل فى بعض المذاهب الفقهية، بل لا بد أن يكون ذلك بعقد جديد، وهو فى هذه الصورة غير ممكن لوفاة الزوج، فلو وضعت المرأة - بعد وفاة الرجل - بويضتها الملقحة منه قبل وفاته فى رحمها وحملت وولدت كان الولد غير منسوب إليه كولد الزنا، وإنما ينسب إليها هى، مع حرمة هذه العملية.
ثالثا: إذا توفيت الزوجة فوضعت بويضتها الملقحة من ماء زوجها فى رحم امرأة أخرى التى يطلق عليها اسم "الأم الحاضنة" صاحبة الرحم المؤجَّر كان ذلك حراما، لما سبق ذكره فى السؤال الأول من أنه زنا، حتى لو سلمت الولد للزوج.
السؤال الثالث: من المعتقد أن الطب الحديث سيتمكن قريبا من تجميد الحيوانات المنوية، ويطرح البعض فكرة جديدة لتنظيم الحمل، وبعد الاحتفاظ بهذه الحيوانات المنوية المجمدة للرجل، ثم تعقيمه بربط الحبل المنوى عنده، بحيث لا تحتاج زوجته إلى استعمال وسائل منع الحمل مثل الحبوب وغيرها، فإذا أرادا الإنجاب استعملا بعض الحيوانات المنوية المجمدة، أى أنه على الرغم من انقطاع قدرة الرجل على الإنجاب من ناحية، فإنه يحتفظ خارج جسمه برصيد من الحيوانات المنوية المجمدة، يمكنه من الإنجاب، حتى لو طلق زوجته وتزوج بأخرى، فما حكم هذه العملية؟ الجواب: يجوز للزوجة فى هذه الحالة عند رغبتها فى الحمل أن تستعمل بعض هذه الحيوانات المجمدة لتحمل بها، لأنها من ماء زوجها والزوجية قائمة، ويكون الجنين منسوبا إلى الزوج على الرغم من تعقيمه.
ولو طلق زوجته أو لم يطلقها وتزوج بأخرى ولقَّحها من منيه المجمد كان ذلك جائزا، وينسب المولود إليه لأنه من مائه، وكذلك ينسب إلى الزوجة الأخرى شرعا، لأنه من بويضتها الملقحة بماء زوجها. السؤال الرابع: الموقف السابق يطرح نفسه بالنسبة للزوجة وتجميد بويضاتها، فما حكمه؟ الجواب: ما دامت البويضة المجمدة هى لزوجته يجوز أن يلقحها بمائه هو ما دامت الزوجية قائمة، ولو طلقت منه وتزوجت بآخر جاز للزوج الآخر أن يلقح بويضة هذه الزوجة بمائه، حيث لا يوجد شىء غريب بين الطرفين.
السؤال الخامس - فكرة الأم الحاضنة، أو الرحم المؤجر، بأن تلقح بويضة من الزوجة بحيوان منوى من الزوج، ثم تدخل هذه البويضة الملقحة فى رحم امرأة أخرى، ثم تمر بمراحل الحمل حتى تلد فتسلم المولود الى الزوجين الأصليين، هذه الطريقة يكون فيها المولود حاملا لكل الخصائص الوراثية من الزوجين، ولا علاقة للأم الحاضنة بالطفل إلا علاقة إنماء الجنين عن طريق دمائها وجسمها، والسؤال هنا: هل يمكن اعتبار الأم الحاضنة أمًا فى الرضاعة، حيث هناك تشابه كبير بين الحالتين، فالأم فى الرضاعة ينمى لبنها جسم الطفل كثيرا، ويحدث رباط عاطفى بينهما؟ وإذا كان ذلك لا يجوز فلماذا مادامت ليست هناك شبهة زنا أو اختلاط فى الأنساب؟ والجواب: فكرة الأم الحاضنة أو الرحم المؤجر محرمة كما سبق ذكره فى إجابة السؤال الأول، لأن فيها صورة الزنا، حيث أدخلت الأم الحاضنة فى رحمها جنينا مكونا من ماء وبويضة ليس لها فيهما شىء.
وقد قرر العلماء أن الحمل من الزنا ينسب لأمه الحامل به لتحقق ولادتها منه، كما صح فى البخارى ومسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق الولد بالأم فى قضية رجل وامرأة تلاعنا فى زمنه، عندما اتهم الزوج زوجته بأن حملها ليس منه، ولا ينسب لمن زنى بها عند جمهور الفقهاء.
ومحل ذلك إذا كان للمرأه الزانية اشتراك فى تكوين الجنين عن طريق بويضتها، وفى صورة الأم الحاضنة ليس لها هذا الاشتراك إذا كانت عقيما لا تفرز بويضات فلا ينسب لها الولد، لكن ينسب لصاحبى البويضة الملقحة، وإن كان لحملها تأثير أيضا على تكوينه من جهة البيئة التى تربى فيها كما يقول المختصون، فالولد يتأثر بمؤثرين، أحدهما الوراثة والثانى البيئة، كالمرضعة التى ترضع ولد غيرها بلبنها، لأن لها تأثيرا إلى حد ما على الرضيع، والحامل لجنين غيرها فى بطنها وقد غذته بدمها كما تغذى كل جزء من أجزاء جسمها لا تعدو أن تكون كالمرضعة، وعمل المرضعة مشروع، غير أن هناك فرقا بينهما، فالحامل أدخلت رحمها شيئا غريبا عنه كما قدمنا، فعملها محرم، والمرضعة عملها حلال، والولد فى كلتا الحالتين منسوب لأبويه بالأصالة فى تكوينه وبولادة أمه له فى صورة الإرضاع بالاتفاق، وفى صورة الرحم المؤجر على ما رجحته من الأقوال.
السؤال السادس - إذا كان الرجل متزوجا من زوجتين، الأولى لا ينتج جسمها بويضات لسبب أو لآخر، أو لا يمكن أن تحمل باستعمال بويضاتها هى، فهل يمكن أن تؤخذ بويضة من الزوجة الثانية تلقح بحيوان منوى من زوج المرأتين، ثم يوضع الجنين فى رحم الزوجة الأولى لتحمل وتلد، هل يجوز ذلك؟ وإذا كان لا يجوز فلماذا ما دام الأب واحدا والعملية كلها تتم داخل إطار علاقة زوجية مشتركة؟ والجواب: إذا أخذت بويضة الزوجة الثانية الملقحة بمنى زوجها ووضعت بدون إذنها وموافقتها فى رحم ضرتها الأولى كان ذلك حراما، لأنه اعتداء على حق الغير بدون إذنه، والكل يعلم ما بين الضرائر من حساسية شديدة، وأثر ذلك على الأسرة.
وإن كان بإذنها وموافقتها يثار هذا السؤال: لماذا يلجأ الزوج إلى هذه العملية؟ إن كان لمصلحة تعود عليه هو مثل كثرة الإنجاب الحاصل من زوجتين لا من زوجة واحدة فقد يكون ذلك مقبولا إن دعت إليه حاجة أو ضرورة، مع التأكد من القيام بواجب الرعاية الصحيحة، ومع ذلك لا أوافق عليه لما سيأتى بعد من العلاقة بين الإخوة الأشقاء والإخوة غير الأشقاء.
وإن كان لمصلحة تعود على الزوجين، فإن المصلحة العائدة على الزوجة الثانية الصالحة للإنجاب ليست ذات قيمة، بل قد يكون فى ذلك ضرر على أولادها عند تقصير الأب عن الوفاء بحق هذه الكثرة من الأولاد، أو بضآلة نصيب أولادها من ميراث أبيهم حيث يوزع على عدد كبير من أولاده.
وإذا كانت المصلحة عائدة على الزوجة الأولى التى لا تنجب فإنها تتمثل فى أمرين هامين، أولهما إرضاء عاطفة الأمومة وعدم الشعور بنقصها بالنسبة لضرتها،لكنها لا تتحقق إلا إذا كان أولادها ينسبون إليها، وقد تقرر-كما سبق ذكره- أنها مجرد أم حاضنة وما ينتج منها فهو لزوجها ولضرتها صاحبة البويضة، فإذا عرفت أن من يولد منها فهو لضرتها فلماذا تتعب نفسها بالحمل والوضع دون فائدة لها؟ إذًا ليست هناك مصلحة لها قيمتها من هذه العملية لكلتا الزوجتين ولا يجوز للزوج أبدا أن يجعل ما تلده الزوجة الأولى الحاضنة أولاداً لها، لمعارضته ما سبق ذكره ولأنهم سيكونون بذلك بالنسبة لأولاد الزوجة الثانية صاحبة البويضة إخوة غير أشقاء، أى إخوة من أب فقط، وهذا له أثره فى الميراث إذا توفى أحد الإخوة، فالأخ الشقيق يحجب الأخ لأب، والحاضنة إذا ماتت لا يحق لها شرعا أن ترث ممن ولدتهم ولا أن يرثوا منها، فالأمومة النسبية مقطوعة، وذلك إلى جانب ما يكون بين الأولاد من كل من الزوجتين من حساسيات معروفة لها اثار غير طيبة.
وهنا يمكن أن نقول إن المفاسد المترتبة على هذه العملية أكبر من المصلحة العائدة على الزوج والزوجتين والقاعدة الشرعية تقول:
درء المفاسد مقدَّم على جلب،المصالح. ولهذا أرجح عدم جواز هذه العملية، وإذا كان للزوج رغبة فى كثره الإنجاب فأمامه الوسائل المشروعة الأخرى، مع مراعاة واجب العدل فى معاملة الزوجات والأولاد.
السؤال السابع - فى الحالة نفسها وهى حالة زوج الاثنتين، هل يجوز أن تكون إحدى الزوجتين أمًا حاضنة لبويضة ملقحة هى لزوجة الأخرى؟ الجواب: قلنا: إن الأم الحاضنة لا يجوز لها أن تدخل رحمها ماء غير ماء زوجها، وفى الصورة المذكورة وإن كان الماء ماء زوجها فإن للبويضة ليست لها، وعلى فرض التجاوز فى ذلك إذا كانت حضانتها للبويضة بإذن صاحبتها فإن الآثار المترتبة عليها والتى سبق بيانها فى إجابة السؤال السابق تجعلنى أرجح عدم الجواز.
السؤال الثامن - يقوم الأطباء الآن باختيار جنس الجنين عن طريقة دراسة مواصفات الحيوانات المنوية الذكرية والحيوانات المنوية الأنثوية، وعزل الحيوان المطلوب لتلقيح بويضة الزوجة به، والسبب فى محاولات تحديد جنس الجنين مسبقا يكون غالبا لأن بعض الأمراض الوراثية لدى الزوجين يتوارثها الذكور فقط، فيحاول الزوجان تفادى إنجاب الذكور، تفاديا لولادة أطفال معوقين أو مشوهين بدرجة كبيرة، وفى بعض الأحوال يكون الزوجان قد أنجبا عدة ذكور ويريدان إنجاب أنثى أو العكس، فيلجآن إلى الطب لإنجاب ما يريدان، فما هو الحكم فى ذلك؟ وهل يعتبر تدخلا فى الإرادة الإلهية واعتداء على التوازن البشرى، أم هو مجرد استغلال لما هو متاح من خلق الله؟ والجواب: قضية التحكم فى جنس الجنين شغلت العالم قديما وحديثا، ولهم فى ذلك طرق متعددة وأغراض متنوعة، والمدار فى الحكم على ذلك هو اتباع النص إن وجد، فإن لم يوجد كان المدار على معرفة الغاية والوسائل المتبعة لبلوغها، فيحرِّم الحرام ويحل الحلال من ذلك، ومعلوم ان الله سبحانه خلق آدم وخلق له حواء، وذلك من أجل التناسل وعمارة الكون، والتنوع لابد منه لحركة الحياة، قال تعالى {ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} الذاريات: 49 والتناسب بين نوعى الذكورة والأنوثة مطلوب، وطغيان أحدهما على الآخر ليس من المصلحة.
والناس من قديم الزمان وقبل مجىء الإسلام يؤثرون الذكر على الأنثى لعوامل تتناسب مع أغراضهم وظروف حياتهم، ونظرا لما كان عليه العرب قبل الإسلام من تفضيل الذكر على الأنثى وما أدى إليه من وأد البنات وحرمانهن من كثير من الحقوق جاء قول الله تعالى {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} الشورى: 49، 50.
وعلى الرغم من تقرير الإسلام لذلك ما تزال المحاولات جادة فى هذا السبيل، ويتلخص موقف الدين منها فيما يأتى:
1 - إذا كانت المحاولات يسيطر عليها الغرور بالعلم لحل المشكلات وعدم الإيمان بأن إرادة الله غالبة، كما هو شأن الماديين، كانت محرمة باتفاق، لأنها إن لم تكن كفرا فهى تؤدى إليه.
2 - وإذا كانت المحاولات تحت مظلة الإيمان بالله، واستغلال الفرص المتاحة للخير، لمجرد أنها أسباب ومقدمات، والآثار والنتائج مرهونة بإرادة الله، كالتداوى من الأمراض مع الإيمان بأن الشفاء هو من الله - فينظر إلى أمرين، الأول الهدف والغرض والنية الباعثة على ذلك، والثانى الأسباب والوسائل التى يتوصل بها إلى تحقيق الأهداف، ذلك لأن الأعمال بالنيات، والوسائل تعطى حكم المقاصد، والأمثلة على ذلك كثيرة، واقتصارا على موضوع السؤال نقول:
ا - إذا كان الغرض من هذه العملية تجنُب وراثة بعض الأمراض فى الذكور أو الإناث، وكان ذلك بطريقة علمية مؤكدة ليس فيها ارتكاب محرَّم فلا أرى مانعا من ذلك، لأن الوقاية خير من العلاج. والقرآن ينهانا عن الإلقاء بأيدينا إلى التهلكة والحديث يحذرنا من العدوى والتعرض لها، فلا ندخل بلدا سمعنا أن فيه طاعونا، ولا نخرج منه إذا وقع ونحن فيه، وينهانا عن الأكل مع المجذوم، وعن التعامل مع أى شىء فيه ضرر، فلا ضرر ولا ضرار فى الإسلام، إلى غير ذلك من النصوص.
ب - إذا كان الغرض من هذه العملية هو الإكثار من أحد النوعين إلى الحد الذى يختل فيه التوازن ويؤدى إلى ارتكاب الفواحش والمنكرات كالمتعة بين الجنس الواحد، أو يؤدى إلى إرهاب الغير بكثرة الذكور مثلا، أو إلى استغلال النوع الآخر لأغراض خبيثة كان ذلك حراما لا شك فيه، ويكفى فى ذلك قول الله تعالى فى حق بعض الكفار المناوئين لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم {أن كان ذا مال وبنين. إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطيرالأولين} القلم: 14، 15 وما جاء فى قوم لوط ومن يكرهون فتياتهم على البغاء لابتغاء عرض الحياة الدنيا.
ج - وإذا كان من وسائل التحكم فى نوع،الجنين التعقيم النهائى الذى لا يكون بعده إنجاب كان ذلك محرما، لأن فيه تعطيلا لقوة لازمة لعمارة الكون، وتظهر فيه المعارضة لحكم الله وتقديره، ومن أجل ذلك. منع الحديث الذى رواه البخارى وغيره خصاء الرجال من الناس، وكذلك إذا كان التحكم فى جنس الجنين عن طريق إجهاض الحامل يكون محرما حتى فى أيام الحمل الأولى كما قال به كثير من الفقهاء فالخلاصة أن هذه المحاولات إن كان الغرض منها مشروعا، وكانت الوسائل مشروعة فلا مانع منها، وبغير ذلك تكون ممنوعة. السؤال التاسع - هناك طريقة حديثة أخرى تعتبر امتدادًا للطريقة السابقة وتأكيدًا لاحتمالاتها، ويجرى ذلك بتلقيح عدة بويضات من الزوجة بحيوانات منوية من الزوج، وتترك هذه فترة لتوالد الخلايا، ثم تؤخذ عينة منها وتحلل مكوناتها للتعرف على الكروموسومات، وبذلك يتعرف الطبيب على مواصفات الجنين فى هذه المرحلة المبكرة، وما إذا كانت ذكرا أو أنثى، ثم يوضع الجنين المطلوب فى رحم الزوجة لتحمل وتلد، وتترك الأجنَّة الأخرى فتموت، فهل يعتبر هذا إجهاضا لتلك الأجنة الأخيرة، رغم أن عمرها يكون عدة ساعات فقط؟ والجواب: عرَّف العلماء الإجهاض بأنه إنزال الجنين من بطن أمه قبل تمام نموه الطبيعى، وما دامت هذه البويضات الملقحة لم تكن فى بطن المرأة فلا يصدق على التخلص منها معنى الإجهاض، وقد جاء ذلك مصرحا به فى بعض أقوالهم ومع ذلك تدخل هذه العملية فى حكم العملية المذكورة فى السؤال السابق، وهو النظر إلى الغاية والوسيلة(10/52)
التسمية بأسماء عزيز وكريم وسيد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن تسمية الولد باسم عزيز أو كريم أو سيد حرام، لأن هذه الأسماء من أسماء الله تعالى، فهل هذا صحيح؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى"ج 4 ص 77" عند شرح قوله تعالى عن يحيى {وسيدا} أن فى ذلك دلالة على جواز تسمية الإنسان "سيدا" كما يجوز أن يسمى: عزيزا أو كريما، وذكر ما قلناه فى صفحة 163 من المجلد الأول من بيان عدم حرمة قولنا "سيدنا محمد" لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لبنى قريظة فى استقبال سعد بن معاذ "قوموا إلى سيدكم " وقال عن الحسن - كما رواه البخارى ومسلم "إن ابنى هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ".
وكره العلماء التسمية بهذه الأسماء إذا كانت معرفة بأل مثل:
العزيز - الكريم - السيد(10/53)
الطلاق فى بلد لا تعترف به
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تزوجت امرأة زواجا شرعيا لكنه لم يسجل حسب القوانين المعمول بها فى بلد، لعدم اعترافه به، وقد ظهر للمرأة أن استمرار هذا الزواج فى غير صالحها، ولهذا تترك زوجها وتسافر للإقامة فى بلد آخر فما هى الطريقة لتخليص نفسها من الزوج الذى لا يرضى أن يطلقها ولو عن طريق الخلع، ويقصد بذلك إضرارها حتى لا تتزوج من غيره؟
الجواب
إذا كان الزوج موفيا لها بحقوقها من النفقة والإعفاف فحرام عليها أن تتركه وتسافر بدون إذن، وعليها أن توسِّط أهل الخير ليطلقها إن أرادت ذلك.
أما إذا قصَّر فى الإنفاق عليها فلها أن ترفع الأمر إلى القضاء لتطلب التطليق، وحيث إن دعواها لا تسمع لعدم توثيق الزواج فلها أن ترفع أمرها إلى جهة دينية معترف بها لتتولى بحث الموضوع، وبعد التأكد من صحة الدعوى وامتناع الزوج عن الإنفاق بعد محاولة التوفيق تطلقها هذه الجهة طلقة واحدة رجعية على مذهب الإمام أحمد.
وإذا كان التقصير فى إعفافها ومضى على ذلك أربعة أشهر اعتبر الامتناع بمثابة الإيلاء عند مالك وأحمد، فيطالب من الجهة الدينية بالعودة إلى إعفافها أو تطليقها طلقة بائنة، وإذا امتنع عنهما انفسخ النكاح بدون أية إجراءات على مذهب الإمام أبى حنيفة ولا مخلص إلا ذلك منعا للضرر.
ونحذر من تريد الزواج من رجل زواجا عرفيا غير موثق أن تقع فى مثل هذا المأزق ولهذا ننصحها، -إن تحتم الزواج العرفى -أن تشترط أن تكون عصمتها بيدها على ما رآه الإمام أبو حنيفة، حتى إذا لم توفق فى هذا الزواج أمكنها أن تطلق نفسها منه بدون اللجوء الى القضاء، لأنه لا يسمع دعواها، وبدون لجوء إلى لجنة وغيرها.
تنبيه: الإجابة على السؤال تمت بعد بحث الموضوع مع فضيلة الشيخ عبد الله المشد رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف فى تاريخ نشرها بمجلة منبر الإسلام عدد ذى الحجة 1403 هـ(10/54)
عدة الزوجة التى أسلمت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
زوجة اعتنقت الإسلام وحصلت على حكم بالطلاق فكيف تحتسب عدتها؟
الجواب
الزوجة التى أشهرت إسلامها ولم يسلم زوجها وحكم القاضى بطلاقها تحسب عدتها من وقت الحكم لا من وقت إسلامها، ذلك لأن امتناع الزوج عن الإسلام يعتبر نوعا من أنواع الفراق التى تتوقف على القضاء كما هو فى مذهب أبى حنيفة، الذى أخذ منه قانون الأحوال الشخصية فى مصر"الأحوال الشخصية للشيخ عبد الرحمن تاج ص 241" ولو أسلم الزوج قبل أن تنتهى عدتها من وقت إسلامها تبقى هى على ذمته، وهناك جماعة تقول: لا تعتبر العدة أجلا مضروبا لإسلامه أو عدم إسلامه، فلا يحكم بالطلاق إلا إذا حكم القاضى بذلك مهما طال الفصل بين إسلامها وحكم القاضى.
والموضوع مبسوط فى "زاد المعاد لابن القيم ج 4 ص 13 "(10/55)
الذهب للنساء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "من أحب أن يحلِّق حبيبته بحلقة من نار فليحلقها حلقة من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبته طوقا من نار فليطوقها طوقا من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبته سوارا من نار فليسورها سوارا من ذهب، ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها، العبوا بها" لأننى سمعت بعض العلماء يحرم الذهب على النساء؟
الجواب
هذا الحديث ذكره الحافظ المنذرى "الترغيب والترهيب " بلفظ "حبيبة" وليس "حبيبته " ورواه أبو داود بإسناد صحيح، قال المنذرى:
الأحاديث التى ورد فيها الوعيد على تحلى النساء بالذهب تحتمل وجوها من التأويل:
أحدها: أنه منسوخ فإنه قد ثبت إباحة تحلى النساء بالذهب، والثانى: أن هذا فى حق من لا يؤدى زكاته دون من أداها، كما نص عليه الحديث، والثالث: أنه فى حق من تزينت به وأظهرته. انتهى.
وإذا كان الذهب محرما على الرجال فهل يجوز لهم أن يلبسوه الأولاد الصغار غير المكلفين؟ قيل: يحرم، لأن الحديث فى حق من يلبس الأولاد، فقد ورد بلفظ "من أحب أن يسور ولده بسوار من نار فليسوره سوارا من ذهب، ولكن الفضة العبوا بها كيف شئتم " رواه أحمد وأبو داود. وقيل: لا يحرم لأنهم غير مكلفين، "نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 86".
هذا، وأرجو ألا يتعجل بعض الناس فى إصدار الحكم على شىء لمجرد أنهم قرءوا حديثا واحدا، ولم يستوعبوا ما ورد فى الموضوع وما تحدث به العلماء المختصون الذين اطلعوا على روايات متعددة وخلصوا منها إلى الحكم الصحيح(10/56)
العلاج بين الجنسين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن يتولى علاج المرأة وتوليدها رجل أجنبى؟
الجواب
من القواعد الفقهية أن الضرورات تبيح المحظورات، ومعلوم أن المرأة لا يجوز لها أن تكشف عن شىء من جسمها لرجل أجنبى-فيما عدا الوجه والكفين على تفصيل فى ذلك - وبالتالى لا يجوز اللمس بدون حائل، أما عند الضرورة المصورة بعدم وجود زوج أو محرم أو امرأة مسلمة تقوم بذلك فلا مانع من النظر واللمس، مع مراعاة القاعدة الفقهية الأخرى وهى: أن الضرورة تقدر بقدرها.
ولهذا الاستثناء احتياطات وآداب نورد فيها بعض ما قاله العلماء.
جاء فى كتاب "الإقناع فى شرح متن أبى شجاع" للشيخ الخطيب فى فقه الشافعية "ج 2 ص 120" أن النظر للمداواة يجوز إلى المواضع التى يحتاج إليها فقط، لأن فى التحريم حينئذ حرجا، فللرجل مداواه المرأة وعكسه، وليكن ذلك بحضرة محرم أو زوج أو امرأة ثقة إن جوزنا خلوة أجنبى بامرأتين وهو الراجح، ويشترط عدم امرأة يمكنها تعاطى ذلك من امرأة، وعكسه كما صححه كما فى زيادة "الروضة" وألا يكون ذميًا مع وجود مسلم، وقياسه -كما قال الأذرعى- ألا تكون كافرة أجنبية مع وجود مسلمة على الأصح، ولو لم نجد لعلاج المرأة إلا كافرة ومسلما فالظاهر أن الكافرة تقدم، لأن نظرها ومسها أخف من الرجل، بل الأشبه عند الشيخين أنها تنظر منها ما يبدو عند المهنة، بخلاف الرجل. وقيد -فى الكافى- الطبيب بالأمين، فلا يعدل إلى غيره مع وجوده، ثم قال:
وشرط الماوردى أن يأمن الافتتان ولا يكشف إلا قدر الحاجة، وفى معنى ما ذكر نظر الخاتن إلى فرج من يختنه، ونظر القابلة إلى فرج التى تولدها. ويعتبر فى النظر إلى الوجه والكفين مطلق الحاجة، وفى غيرهما -ما عدا السوأتين- تأكدها، بأن يكون مما يبيح التيمم كشدة الضنا، وفى السوأتين مزيد تأكدها، بألا يعد التكشف بسببها هتكا للمروءة.
وفى حاشية عوض على شرح الخطيب المذكور ما يدل على أن المباح فى العلاج ما كان بالنظر، أما اللمس فيجوز عند الحاجة، وإلا فلا، وجاء فيها: رتب البلقينى المعالج فى المرأة بأن يقدم أولا المرأة المسلمة فى مسلمة، ثم صبى مسلم غير مراهق،ثم كافر غير مراهق، ثم مراهق مسلم، ثم مراهق كافر ثم المحرم المسلم، ثم المحرم الكافر، ثم الممسوح المسلم، ثم المرأة الكافرة، ثم الممسوح الكافر، ثم المسلم الأجنبى، ثم الكافر الأجنبى، والزوج مقدم على الكل. انتهى(10/57)
صورة من الخلوة بين الجنسين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز ركوب امرأة أو مجموعة من النساء مع سائق أجنبى عنهم ليوصلهن إلى مكان قريب داخل المدينة أو فى سفر طويل؟
الجواب
الخلوة المنهى عنها والتى هى مظنة الغلط تكون باجتماع رجل مع امرأة أجنبية فى مكان واحد لا يراهما فيه أحد، أما الاجتماع فى الطريق والأماكن العامة كالأسواق ودور العلم ووسائل المواصلات فلا تتحقق به الخلوة المحرمة، وإن تحقق به محظور آخر، كالسفور والنظر إلى المفاتن والكلام اللين والملامسة ونحوها.
ومحصل ما قاله العلماء فى اجتماع الجنسين هو:
1- إذا كان الاجتماع ثنائيا، أى بين رجل وامرأة فقط، فإن كان الرجل، زوجا أو محرما جاز وإن كان أجنبيا حرم.
2 - وإذا كان الاجتماع ثلاثيا، فإما أن يكون بين امرأة ورجلين، وإما أن يكون بين امرأتين ورجل، فإن كان الأول جاز إن كان أحدهما زوجا أو محرما، وإلا حرم "النووى على مسلم ج 9 ص 159 " وإن كان الثانى فإن كانت إحداهما محرما جاز وإلا ففيه قولان، وقد ذكر النووى فى شرح المهذب والخطيب على متن أبى شجاع "ج 2 ص 120 " جواز الخلوة بامرأتين.
3-وإن كان الاجتماع رباعيا فأكثر فإن كان رجل مع نساء جاز، وكذلك إذا تساوى العدد فى الطرفين، وإن كانت امرأة مع رجال جاز إن أمن تواطؤهم على الفاحشة، كمن دخلوا على زوجة أبى بكر الصديق أسماء بنت عميس وكان غائبا، وإلا حرم.
ويشترط فى المحرم الذى تجوز الخلوة بالأجنبى مع حضوره ألا يكون صغيرا لا يستحيا منه، كابن سنة أو سنتين، وقال بعض العلماء:
تجوز الخلوة بالأجنبية إذا كانت عجوزا لا تراد، ولكن مع الكراهة، أما الشابة مع كبير السن من غير أولى الإربة فقيل لا تجوز الخلوة به، وقيل:
تجوز مع الكراهة.
هذا ملخص ما قاله العلماء فى الخلوة ومنه يعرف أن السائق الذى يوصل امرأة واحدة إن كان فى طريق مكشوف والناس ينظرون فلا حرمة فى ذلك، وإن كان معه مجموعة من النساء فلا حرمة أيضا، أما الطريق الخالى من الناس كطرق الصحراء وغيرها فيحرم سفر امرأة واحدة مع سائق أجنبى، أما مع مجموعة فينظر التفصيل السابق. ومثل السائق المدرس الخصوصى للبنت والبنات، حتى لو كان يعلمهن القرآن الكريم(10/58)
طلاق المكره
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تزوجت وأحسست بالراحة والتوفيق فى زواجى، ولكن والدى يرغمنى على طلاق زوجتى، مهددًا لى بعدم الرضا عنى وحرمانى من الميراث فماذا أفعل؟
الجواب
فى حديث حسَّنه النووى من رواية ابن ماجه وابن حبان يقول النبى صلى الله عليه وسلم "رُفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وفى رواية لأبى داود وابن ماجه "لا طلاق فى إغلاق" أى إكراه كما فسره علماء الغريب وروى سعيد بن منصور وأبو عبيد القاسم ابن سلام أن رجلا على عهد عمر تدلى بحبل ليجنى عسلا من خلية نحلٍ، فهددته زوجته بقطع الحبل ليسقط ميتا إن لم يطلقها، فطلقها لإنقاذ حياته، فلم يجعله عمر طلاقا لأنه مكروه.
بذلك قال جمهور الفقهاء خلافا لأبى حنيفة وأصحابه، فالله قد عفا عن النطق بكلمة الكفر ما دام القلب مطمئنا بالإيمان، والطلاق أخف من الكفر فالعفو عند الإكراه عليه أولى.
غير أن للإكراه شروطا منها أن يكون ظلما وبعقوبة عاجلة لا مستقبلة، وأن يكون المكره غالبا قادرا على تنفيذ التهديد، بولاية أو تغلب أو هجوم مثلا، وأن يكون المكره عاجزا عن دفع الإكراه بنحو هرب أو مقاومة أو استغاثة، وأن يغلب على ظنه وقوع ما هدَّد به إن لم يُطلِّق، وألا يظهر منه ما يدل على اختياره كأن أكره على التطليق منجزا فطلق معلقا.
ثم قال الفقهاء: إن المعفو عنه فى الإكراه هو التلفظ فقط بالطلاق فلو نواه بقلبه مع التلفظ وقع، لأن ذلك يدل على اختياره، وقالوا: إن أسلوب الإكراه يختلف بالأشخاص وما هُدِّد به، فهو يتحقق بالتهديد بكل ما يؤثر العاقل أن يُطلِّق ولا يقع ما هدَّد به، كالقتل والضرب الشديد والحبس الطويل وإتلاف المال الكثير ومثله الضرب اليسير والحبس القصير عند أهل المروءات، وإتلاف المال اليسير عند الفقير، وكذلك تهديد الوجيه بشتمه والتشهير به أمام الملأ كما قال الشافعية.
هذا، وليس من الإكراه المعفو عنه تهديد الوالد لولده بعدم الرضا عنه إن لم يطلق امرأته أو بحرمانه من الميراث مثلا، وليس من بر الوالدين طاعتهما فى ذلك إذا كان لأغراض شخصية لا تمس الخلق والدين، وعليه فأقول لصاحب السؤال: لا تطلق زوجتك لإكراه والدك لك بمثل ما جاء فى سؤالك، ولو طلقت وقع الطلاق. وأنصح الوالدين بالتخلى عن مثل هذه الأساليب التى تخرب البيوت فأبغض الحلال إلى الله الطلاق، وقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمر بطاعة أبيه فى تطليق زوجته كما رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه، وقال الترمذى:
حسن صحيح. لكن رفعت مثل هذه القضية إلى الإمام أحمد بن حنبل فلم يأمر الولد بطلاق زوجته إرضاء لوالده قائلا، ليس كل الناس كعمر، لأن عمر كان ينظر إلى المصلحة الدينية، أما الدوافع الشخصية والدنيوية فلا تلزم الاستجابة لها ما دامت الناحية الدينية موفورة(10/59)
قص شعر المولود فى اليوم السابع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب قص شعر المولود فى اليوم السابع من ولادته والتصدق بالفضة أو الذهب بما يساوى وزن الشعر الذى تم تقصيره؟
الجواب
يُسَنُّ -ولا يجب- حلق رأس المولود والتصدق بوزن شعره ذهبا أو فضة، يستوى فى ذلك الذكر والأنثى، وذلك لحديث رواه البيهقى أن فاطمة رضى الله عنها وزنت شعر الحسن والحسين، وزينب وأم كلثوم رضى الله عنهم، فتصدقت بوزنه فضة "نيل الأوطار ج 5 ص 145".
وأما تلطيخ رأس المولود بدم الذبيحة التى يطلق عليها اسم العقيقة فباطل، لأن الدم أذى، والنبى صلى الله عليه وسلم قال "أميطوا الأذى" وكان المتبع عند العرب أن تستقبل أوداج الذبيحة بصوفة منها ثم توضع على يافوخ المولود حتى يسيل منها خيط الدم على رأسه، ثم يغسل بعد ذلك ويحلق.
وجاء فى بعض روايات الحديث "ويدمى" وقد طعن المحققون فى هذا الحديث من جهة الإسناد، أو من جهة تصحيف كلمة "يسمى" إلى "يدمى" ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتاب زاد المعاد ج 2 ص 3 وما بعدها"(10/60)
عدة المسافرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا سافرت المطلقة إلى دولة يختلف توقيتها عن البلدة التى تم طلاقها فيها فكيف تحسب مدة العدة؟ وإذا ردها زوجها قبل إتمام العدة طبقا لتوقيت الدولة التى طلقت فيها وبفارق زمنى ساعة واحدة هل يعتبر عقد زواجها من شخص آخر باطلا؟
الجواب
مدة العدة لمن يأتيها الحيض هى ثلاثة قروء، وهذه لا دخل لاختلاف المواقت فيها أبدا، فقد تطول مدتها وقد تقصر.
أما إذا كانت العدة بالأشهر كاليائسة فهى ثلاثة أشهر قمرية، أى نحو تسعين يوما إذا كانت الأشهر كاملة العدد، أى ثلاثين يوما لكل شهر، لكنها قد تكون تسعة وعشرين يوما فى بعض الأشهر.
وهذه الأشهر أيضا قد تختلف باختلاف الأماكن حسب ظهور الهلال، ومعلوم أن كل يوم من الشهر مدته أربع وعشرون ساعة، سواء كان الليل أطول من النهار أو العكس.
وعلى هذا لا يظهر معنى لما جاء فى السؤال، اللهم إلا إذا كان يحسب الزمن مثلا بأن بدء الحيضة أو بدء الطهر منها -على الخلاف فى تفسير القرء- كان فى الساعة العاشرة صباحا فى بلدة، أى قبل وقت الظهر بنحو ساعتين، وعندما يسافر إلى بلد شرقى يحين وقت الظهر فيها قبل وقت الظهر فى بلده الأصلى -بحكم الفرق فى التوقيت - هذه المسألة تشبه مسألة الصيام، هل يفطر الإنسان على توقيت بلده الأصلى أو على توقيت البلد الذى سافر إليه؟ والصحيح أنه يأخذ بتوقيت المكان الذى غربت فيه الشمس فيفطر عند غروبها فيه حتى لو كان قبل غروبها فى بلده أو بعد غروبها فيه إن سافر إلى الغرب وقد يعمل بهذا فى المسألة التى معنا، لكن الأولى الاحتياط للأبضاع، وبخاصة أن الفرق ساعة أو ساعات قليلة لا يصعب انتظاره(10/61)
صيغة علىَّ الطلاق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يكثر على ألسنة الناس قولهم علىَّ الطلاق، فهل يقع الطلاق بهذه الصيغة؟
الجواب
قال العلماء: إن هذه الصيغة وهى: علىَّ الطلاق أو يلزمنى الطلاق، تعتبر يمين طلاق يقصد به إثبات شىء أو نفيه، أو الحث على فعل شىء أو تركه، كقول القائل: علىَّ الطلاق أو يلزمنى الطلاق إن كان إبراهيم قد حضر أمس، أو: علىَّ الطلاق لأفعلن كذا أو أتركن كذا. وقد أفتى بعض الحنفية كأبى السعود بعدم وقوع الطلاق بمثل هذه الصيغة، اعتمادا منه على أن شرط صحة الطلاق أن يكون مضافا إلى المرأة أو إلى جزء شائع منها، وهذا اللفظ لا إضافة فيه إليها، فهو ليس من صريح الطلاق ولا من كنايته، فلا يقع به الطلاق.
ويرى المحققون من الحنفية أن مثل هذا الطلاق واقع، لاشتهاره فى معنى التطليق وجريان العرف بذلك، والأيمان مبنية على العرف، وهو وإن كان بصورة ظاهرة فى اليمين إلا أن المتبادر منه أنه تعليق فى المعنى على فعل المحلوف عليه وإن لم يكن فيه أداة تعليق صريحة. ويرى الإمام على وشريح وعطاء والحكم بن عيينة وداود الظاهرى والقفال من الشافعية وابن حزم - أن تعليقات الطلاق لاغية، وصح عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس أنه قال فيها: إنها من خطوات الشيطان لا يلزم بها شىء، وروى عن طاووس أنه قال: ليس الحلف بالطلاق شيئا والشافعية يقيدون هذا من صيغ الطلاق ويوقعونه بها.
والعمل الآن فى المحاكم المصرية حسب القانون رقم 25 لسنة 1929م - كما تنص عليه المادة الثانية منه- على أن الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شىء أو تركه لا غير لا يقع. وقد سبق فى ص 279 من المجلد الثانى من هذه الفتاوى توضيح ذلك فيرجع إليه(10/62)
زواج الصغيرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى بعض البلاد يزوجون البنات وهن صغيرات غير بالغات، سواء أكان القانون يمنع أو يجيز فما حكم موافقة البنت على تزويج وليها لها؟
الجواب
من المعلوم أن عقد الزواج يشترط فى صحته تمييز المتعاقدين، فإن كان أحدهما مجنونا أو صغيرا لا يميز فإن الزواج لا ينعقد، وهنا يكون للولى الحق فى عقد الزواج، فالصغيرة إن كانت مميزة لابد من استئذانها وموافقتها، أما إن كانت غير مميزة فإنه يجوز للأب والجد تزويجها بغير إذنها، لأن الغالب أنهما يرعيانها ويريدان لها الخير، وقد زوج أبو بكر الصديق رضى الله عنه ابنته عائشة من الرسول صلى الله عليه وسلم وهى صغيرة دون إذنها، حيث لم تكن فى سن يعتبر فيها إذنها، وليس لها الخيار إذا بلغت، فكان سنُّها ست سنوات.
ومن أجل هذا استحب الشافعية ألا يزوجها الأب أو الجد حتى تبلغ ويستأذنها، ولا يجوز لغير الأب والجد أن يزوج الصغيرة كما رآه الجمهور، فإن زوجها لم يصح الزواج، لكن أبا حنيفة وجماعة من السلف أجازوا لجميع الأولياء وقالوا بصحة الزواج، ولها الخيار إذا بلغت، وذلك لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم زوَّج أمامة بنت حمزة - وهى صغيرة- وجعل لها الخيار إذا بلغت، وهو لم يزوجها بوصفه نبيا، بل لأنها قريبته وهو وليها لأنها بنت عمه، ولو زوجها بوصفه نبيا لم يكن لها الخيار، كما قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الأحزاب: 36 وقال بهذا الرأى عمر وعلى وابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة.
أما الكبيرة فلا يجوز إكراهها على الزواج كما تقدم توضيحه فى صفحة 593 من المجلد الأول من هذه الفتاوى(10/63)
التعامل مع المطلقة رجعيا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
طلقت زوجتى طلقة أولى رجعية وفى أثناء قضائها للعدة فى المنزل كانت تعاملنى كزوج في عدم تحجبها منى، وخدمتها لى، فهل هذا حرام؟
الجواب
الإجابة على هذا السؤال مبنية على الخلاف فى أن الطلاق الرجعى يرفع عقد الزواج أو لا يرفعه، يقول الجمهور: إن الطلاق الرجعى لا يمنع الاستمتاع بالمطلقة، ولا تترتب عليه آثاره ما دامت المطلقة فى العدة، فهو لا يمنع استمتاعه بها، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر، والنفقة عليها واجبة، ويلحقها الطلاق والظهار والإِيلاء، وله الحق أن يراجعها دون رضاها، كما لا يشترط الإشهاد على الرجعة وإن كان مستحبا، وهى تحصل بالقول مثل: راجعتك، وبالفعل مثل الجماع والقبلة واللمس.
والإمام الشافعى يرى أن الطلاق الرجعى يزيل للنكاح، ولا بد لرجوعها أثناء العدة من القول الصريح،ولا يصح بالوطء ودواعيه. ويشترط ابن حزم مع ذلك الإشهاد لقوله تعالى {وأشهدوا ذوى عدل منكم} الطلاق: 2.
ومن هنا يجوز على رأى الجمهور أن تتزين المطلقة الرجعية لزوجها وتتطيب له وتلبس الحلى وتضع الكحل، لكن لا يدخل عليها إلا أن تعلم بدخوله بقول أو حركة كالتنحنح مثلا.
والشافعى قال: هى محرمة عليه تحريما قاطعا كالأجنبية تماما، وقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلا بإذنها ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معها غيرها، وقيل: إنه رجع عن القول بإباحة الأكل معه.
وقد قلنا فى أكثر من موضع: إن الأمر إذا كان فيه خلاف، فللإنسان أن يأخذ بما شاء من الآراء حسب الظروف التى تحقق المصلحة(10/64)
خروج المعتدة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
طلقنى زوجا طلاقا بائنا ولزمت البيت فى العدة وأنا أعمل لكسب عيشى فهل أنقطع عنه، ومن أين آكل إذا لم أخرج؟
الجواب
سبق فى صفحة 337- من المجلد الثالث من هذه الفتاوى الكلام عن المكان الذى تعتد فيه المطلقة والمتوفى عنها زوجها، وحكم خروجها من مكان العدة، ولزيادة الإِيضاح أقول بالنسبة إلى خروجها من المنزل:
يقول الله تعالى: {يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرا} الطلاق: 1 اختلف الفقهاء فى خروج المعتدة من المكان الذى تعتد فيه، فذهب الأحناف إلى أنه لا يجوز للمطلقة الرجعية ولا البائن أن تخرج من بيتها ليلا ولا نهارا، أما المتوفى عنها زوجها فتخرج نهارا وبعض الليل، ولكن لا تبيت إلا فى بيتها. والفرق بينهما أن المطلقة نفقتها فى مال زوجها فلا يجوز لها الخروج كالزوجة، بخلاف المتوفى عنها زوجها فإنها لا نفقه لها، فلا بد أن تخرج بالنهار لكسب عيشها وقضاء مصالحها. وكانت عائشة رضى الله عنها تفُتى المتوفى عنها زوجها بالخروج فى عدتها، وخرجت بأختها أم كلثوم حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله لعمل عمرة.
وذهب الشافعية إلى عدم خروج المطلقة رجعيا لا ليلا ولا نهارا. أما المبتوتة فتخرج نهارا فقط، وذهب المالكية إلى جواز خروج المطلقة بالنهار سواء أكان الطلاق رجعيا أم بائنا، فقد روى مسلم عن جابر أن خالته لما طلقت وأرادت أن تخرج لتقطع ثمر نخلها زجرها رجل، فسألت النبى صلى الله عليه وسلم فقال " بلى، فجذى نخلك فإنك عسى أن تصدقى أو تفعلى معروفا " وكان طلاقها ثلاثا.
والحنابلة أجازوا خروجها نهارا، سواء أكان الطلاق رجعيا أم بائنا. أما المتوفى عنها زوجها فلها الخروج نهارا فقط. فعندما استشهد رجال يوم أحد جاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يا رسول الله نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال " تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها " وليس لها المبيت فى غير بيتها ولا الخروج ليلا إلا للضرورة، لأن الليل مظنة الفساد.
وأقول لصاحبة السؤال: ما دام الطلاق بائنا فلك الخروج بالنهار أثناء العدة على أن يكون المبيت بالمنزل، وذلك على رأى الجمهور(10/65)
دية المرأة والكتابى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا قتلت امرأة هل تكون ديتها كدية الرجل أو على النصف من ديته كالميراث وما هى دية الكتابى؟
الجواب
ذهب أكثر العلماء إلى أن دية المرأة إذا قتلت تكون على النصف من دية الرجل، فقد روى ذلك عن عمر وعلى وابن مسعود وزيد بن ثابت رضى الله عنهم أجمعين، ولم ينقل أنه أنكر عليهم أحد فيكون إجماعا، وذلك قياسا على نصيبها فى الميراث، وعلى شهادتها فهى على النصف من نصيب الرجل وشهادته، وليس فى ذلك نص فى القرآن أو السنة الصحيحة.
أما دية الكتابى وهو اليهودى والنصرانى فهى عند أبى حنيفة كدية المسلم لقول الله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلَّمة إلى أهله وتحرير رقبة} النساء: 92 قال الزهرى: كانت كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة، حتى كان معاوية فجعلها على النصف يعطى له، ويوضع النصف الثانى فى بيت المال، ولما جاء عمر بن عبد العزيز ألغى النصف الذى يوضع فى بيت المال.
وديته عند مالك على النصف عن دية المسلم، أما الشافعى فقال: إنها على الثلث ونساء أهل الكتاب ديتهن على النصف من دية الرجل منهم، وقال أحمد بن حنبل فى رواية عنه: دية الذمى مثل دية المسلم إن قتل عمدا، وإلا فنصف دية، والأدلة والمناقشة يرجع إليها فى " نيل الأوطار للشوكانى ج 7 ص 68 - 72"(10/66)
سن الزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك سن محددة لصحة عقد الزواج، ولماذا قررت بعض الدول سنَّا معينة لذلك؟
الجواب
ذكرت فى ص 357 من الجزء الأول من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإِسلام أن التشريعات القديمة لم تهتم بتحديد سن للزواج، حتى جاء فى أوروبا "جوستنيان" فحدده باثنتى عشرة سنة للبنت وبأربع عشرة للولد، وإن كان ذلك لم يحترم بعد دخول النصرانية أوروبا، كما حدث فى زواج مارى ستيوارت بهنرى الثامن وسنها ست سنوات.
والزواج المبكر كان منتشرا فى بعض البلاد الشرقية وما تزال صورته فى العصر الحديث كالهند التى تزوج الأجنة فى البطون، بناء على فلسفة دينية فيها أن مجرد اسم الابن يخلص أباه من جهنم ثم انتهى الأمر عندهم إلى تحديده.
ومجاراة لسنة التطور لجأت الدول إلى وضع سن محددة للزواج، وإن كان الناس يتحايلون على عدم احترام ذلك بطرق شتى.
والإِسلام لم يضع سنًّا محددة للزواج، وإنما وضع حدًّا للتكليف بوجه عام. وهو البلوغ إما بالعلامة الطبيعية أو بمرور خمس عشرة سنة قمرية، وللظروف أثرها فى العلامة الطبيعية، غير أن هذه السن لم يجعلها الإِسلام أساسا لصحة العقد، فقد أجازه قبل ذلك عن طريق أولياء الأمور.
وعلى الرغم من عدم تحديد سن الزواج فيستحسن أن يبكر به بأن يكون فى أوائل سنوات البلوغ حيث يكون نضج الفتى والفتاة، وذلك لعصمتهما من الانحراف، ومع ذلك فى التبكير الشديد إرهاق بالتكاليف التى تحتاج إلى عقل ورشد، ومن هنا أرى أن قيام بعض الحكومات بتحديد سن الزواج فيه خير، على أن يراعى فى التحديد كل الظروف، وتجب طاعة أولى الأمر فى تنفيذ القوانين والقرارات ما دامت فيها مصلحة، فالله يقول: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} النساء: 59(10/67)
صلاة المرأة على الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تصلى على الجنازة؟
الجواب
نعم يجوز، حيث لا يوجد دليل بمنعها بل أقرها الصحابة حيث صلت النساء على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الرجال عليه، والروايات ضعيفة، ولكن لم يثبت أن النساء مُنعن من الصلاة عليه وقد أمرت عائشة -رضى الله عنها- أن يؤتى بسعد بن أبى وقاص لتصلى عليه، وذكر ابن الأثير فى أسد الغابة فى ترجمته أن أزواج النبى صلى الله عليه وسلم صلين عليه.
وقال النووى: ينبغى أن تسن لهن الجماعة كما تسن فى غيرها، وبه قال الحسن بن صالح وسفيان الثورى وأحمد والأحناف، وقال مالك: يصلين فرادى.
فالمهم أنه لا مانع من صلاة المرأة على الجنازة وذلك باتفاق الأئمة(10/68)
العداوة فى الأسرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد تفسير قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} وكيف يتناسب ذلك مع ما ورد فى الزواج من سكن ومودة ورحمة؟
الجواب
الأسرة تقوم على الزوج والزوجة والأولاد، وهى إذا أحسن توجيهها حققت السكن والمودة والرحمة، لكن ليست كل الأسر تستطيع الالتزام بتوجيهات الدين، ومن هنا يأتى القلق والبغض والقسوة، وتكون المساءلة الشديدة أمام الله سبحانه، ولذلك أوصى الإِسلام ببناء الأسرة على أسس القيم الرفيعة الموجودة فى الرجل والمرأة، فتُختار المرأة ذات الدين والخُلق، ويُختار الرجل ذو الدين والأمانة كما جاء فى السنة النبوية.
وإذا وجب على الأسرة أن تتعاون لتحقيق أهدافها فكيف تكون العداوة أو من أين تأتى؟ إن الآية الكريمة تبين أن بعض الأزواج -الزوجات- وبعض الأولاد قد يكونون أعداء للزوج والوالد، وليس الكل أعداء، وإلا ما كانت هناك حاجة إلى الزواج، ولذلك عبرت الآية بلفظ " مِنْ " التى تفيد التبعيض.
والعداوة تأتى من مخالفة الوصية بحسن المعاشرة، وعدم التزام أفراد الأسرة بالواجبات المفروضة عليها، والاهتمام بالحقوق أكثر من الواجبات، قال تعالى {وعاشروهن بالمعروف} النساء: 19 وقال: {ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} البقرة: 228 وقال {الرجال قوَّامون على النساء بما فضًل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} النساء: 34 وقال: {وبالوالدين إحسانا} الإِسراء: 23 إلى غير ذلك من النصوص التى تبين الحقوق والواجبات.
جاء فى سبب نزول الآية التى فى السؤال أن بعض الرجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فى المدينة، فأبى أزواجهم وأولادهم، فلما أتوا النبى صلى الله عليه وسلم ورأوا الناس قد تفقهوا فى الدين همُّوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم، رواه الترمذى بسند حسن صحيح فنزلت الآية ولذلك جاء فى آخر الأية {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} والعفو هو ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح هو إزالة أثره من النفس، يقال: صفح عنه أعرض عن ذنبه، وضرب عنه صفحا أى أعرض عنه وتركه، والغفر هو الستر.
وقيل: نزلت فى عوف بن مالك الأشجعى، كان إذا أراد الغزو بكت الزوجة والأولاد ورققوه قائلين: إلى من تتركنا؟ فيرق لهم. وفى حديث ضعيف "يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأولاده، يعيّرونه بالفقر فيركب الصعب من أجلهم".
ومن جهاد الزوج لهم ما فى البخارى أن الشيطان قعد لابن آدم -وسْوس أو أغرى زوجته وأولاده ليقولوا له- فى طريق الإيمان فقال: أتؤمن بالله وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه فآمن، فقعد له فى طريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر، فقعد له فى طريق الجهاد فقال: أتجاهد فتقتل نفسك وتنكح زوجاتك ويقسم مالك؟ فخالفه وجاهد، فحق على الله أن يدخله الجنة وفي الحديث "الأولاد مَجبنة مبخلة" أو " مُجَبِّنَةٌ مُبَخِّلةٌ" رواه البغوى. وأخرج الترمذى عن خولة بنت حكيم قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مُختَضِنٌ أحد ابني بنته وهو يقول "إنكم لتبخِّلون وتجبِّنون وتجهلون، وإنكم لمن ريحان الله ". أى تحملون على البخل على غيركم إيثارا لكم، وتحملون على الجبن والقعود عن الجهاد، وتحملون على الاعتداء على غيركم دفاعا عنكم.
والموضوع مبسوط فى كتابنا "تربية الأولاد فى الإِسلام" وفى هذا القدر كفاية(10/69)
شهادة المرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن الإسلام لم ينصف المرأة بمساواتها للرجل فى الشهادة حيث جعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل، فكيف نرد عليهم؟
الجواب
يقول الله سبحانه {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} البقرة: 282.
وأبادر فأقول: إن مساواة المرأة بالرجل ليست على إطلاقها فى أى دين من الأديان، بل ولا فى الشرائع المنصفة العاقلة، فذلك أمر مستحيل لاختلاف النوعين فى التكوين والاستعداد، وهو صنع الله سبحانه لإمكان تحقيق الإنسان للخلافة فى الأرض، وهو يعلم المصلحة، ولا نعلم نحن ما يعلمه الله سبحانه.
وفى موضوع الشهادة قررت الآية السبب فى كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل وهو تعرضها للنسيان كثيرا عند تحمل الشهادة وعند أدائها، ولا بد من التسليم بما قاله القرآن فى ذلك، وقد أثبت العلم أو أكد صحة هذا السبب، وشرحه الدكتور السيد الجميلى "مجلة الأزهر عدد ربيع الأول 1415 هـ " حيث تحدث عن مرض "الهستريا" الذى يكثر عند النساء، ومن مظاهره سرعة الانفعال والتحول من حال إلى حال قد يكون على النقيض، وقد يفضى إلى الانفصام، وكان القدماء يرون أن سمات هذه الهستريا لصيقة بالنساء لا تزايلهن، لكن الواقع يؤكد إصابة الرجل بها أيضا لكن فى أضيق الحدود.
ولما كان للشهادة قيمتها فى إثبات الحقوق احتاط لها الشارع منعا للظلم وإقرارًا للعدل، وقرر الفقهاء فى هذا الخصوص أن لشهادة المرأة مجالات.
1 -ففى مجال الأمور الخاصة بالنساء والتى لا يطَّلع عليها الرجال فى الغالب كالولادة والبكارة تقبل شهادة المرأة ولا حاجة إلى شهادة الرجل معها، وروى فى ذلك حديث "شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه " وهذا لا يمنع قبول شهادة الرجال، كالأطباء الممارسين لأعمال التوليد والجراحة، سواء أكانوا منفردين أم كان معهم نساء ومع قبول المرأة فى هذا المجال اختلف الفقهاء فى العدد اللازم لاعتمادها، فقيل: تكفى شهادة امرأة واحدة، وقيل: لا يكفى أقل من اثنتين إلا فى حالتين خاصتين وهما: استهلال المولود للحياة، وحالة الرضاع.
وقيل: لا بد من شهادة أربع من النساء إلا فى حالة الرضاع فتكفى شهادة امرأة واحدة.
2 - فى مجال الأمور المتصلة بالأسرة كالزواج، رأى جمهور الفقهاء عدم قبول شهادة المرأة، بل لابد من رجلين على الأقل، كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} المائدة: 106 وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل " رواه ابن حبان فى صحيحه، وأجاز الحنفية شهادة رجل وامرأتين قياسا لشئون الأسرة على الشئون المالية.
3-وفى مجال المعاملات المالية نصت آية الدَّين على قبول شهادة المرأة مع الرجل، وهى مذكورة فى أول الإجابة، والتعليل كما سبق ذكره ليس فيه إهانة للمرأة، بل هو تقرير للحقيقة من أجل الحفاظ على الحقوق، وذلك هو الغالب فى النساء بالفطرة.
4 - وفى مجال الحدود والقصاص ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم قبول شهادتها فيها، وذلك لخطورتها، حيث تدرأ الحدود بالشبهات، وتقر القوانين أن الشك يفسر لصالح المتهم، وقد تحملها رقتها فى هذا المجال على التغيير لصالح المتهم، وأجاز ابن حزم شهادة النساء منفردات فى هذا المجال عدا حد الزنا "ملخص من مقال الدكتور عبد السميع أبو الخير فى المجلة المذكورة ".
ومن أراد الاستزادة فليرجع إليها لتوضيح الرأى الطبى والفقهى(10/70)
الرضاع من ميتة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الحكم لو رضع طفل من امرأة ميتة، هل يثبت به التحريم أو لا يثبت
الجواب
معلوم أن الرضاع فى الحولين يثبت حرمة بين الطفل وبين من رضع منها، وتمتد الحرمة إلى من يتصل بها على قاعدة " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " مع الخلاف فى عدد الرضعات التى تسبب التحريم، والوسيلة التى وصل بها اللبن إلى جوف الطفل.
والرضاع من المرأة الميتة، إما أن يكون بعد موتها، بأن يؤخذ منها اللبن أو يرضع منها الطفل وهى ميتة، وإما أن يكون اللبن قد أخذ منها قبل موتها ثم رضعه الطفل بعد أن ماتت، ففى الحالة الأولى يقول جمهور الفقهاء - الحنفية والمالكية والحنابلة - وأهل الظاهر: يقع التحريم برضاع اللبن المأخوذ من المرأة الميتة، لأن المقصود من اللبن التغذى وقد حصل، يستوى فى ذلك أن تكون المرضع حية أو ميتة، وأما الشافعية فيرون أن هذا الرضاع لا يثبت التحريم، لأن اللبن من جثة منفكة عن الحل والحرمة كالبهيمة " الخطيب ج 2 ص 183 والمغنى ج 9 ص 198 ".
وفى الحالة الثانية التى حلب فيها اللبن وهى حية ثم شربه الطفل بعد موتها، فالجميع متفقون على أنه يثبت التحريم(10/71)
مدة الرضاع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم من يرضع وسنه أكبر من سنتين، هل يثبت التحريم برضاعه؟
الجواب
اتفق الفقهاء على أن الرضاع المثبت للتحريم يكون فى مدة الرضاع ولو رضع بعد ذلك لا يثبت برضاعه تحريم، ولم يخالف أحد من العلماء فى ذلك، لكن جاء أن السيدة عائشة رضى الله عنها تثبت به التحريم وتبعها داود الظاهرى وابن حزم فى ذلك.
وما هى مدة الرضاع التى يثبت التحريم فى أثنائها؟ الاتفاق بين الأئمة على أن الرضاع فى الحولين يثبت التحريم، إذا كان الطفل لم يفطم أما إذا فطم فى أثناء الحولين، ورضع قبل انتهائهما، أو رضع بعد الحولين، أو رضع وهو كبير ففيه خلاف.
أما رضاع الكبير الذى جاوز ثلاثين شهرا فالكل متفق على أنه لا يثبت به تحريم وخالف فى ذلك أهل الظاهر كما سبق ذكره، فإن لم يجاوز الثلاثين شهرا ورضع ثبت برضاعه التحريم حتى لو فطم قبل الرضاع على رأى أبي حنيفة، لأن المدة عنده ثلاثون شهرا بناء على قوله تعالى {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} الأحقاف:15 حيث فسر الحمل بالحمل باليد وفى الحجر، وليس حمل الجنين فى البطن، وأما قوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} البقرة: 233 فمحله عند تنازع الوالدين على أجرة الرضاع عند الطلاق، وقال بعض الأحناف: إن المدة ثلاثة أعوام وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبى حنيفة قالا: المدة حولان تكمل ثلاثين شهرا مع مدة الحمل وهى ستة أشهر، ويقال: إن أبا حنيفة رجع عن قوله ليطابق قول الصاحبين وقول سائر الأئمة فى أن من جاوز الحولين لا يثبت برضاعه تحريم.
وأجابوا عن رأى عائشة الذى تابعها فيه داود وابن حزم بأنه منسوخ بحديث " لا رضاع إلا ما كان فى الحولين " رواه الدارقطنى.
والمالكية زادوا على الحولين شهرا أو شهرين ما دام الطفل يعتمد على الرضاعة، أو يتناول معه شيئا يضره الاقتصار عليه، ولو فطم يوما أو يومين ثم عاد إلى الرضاعة يثبت التحريم. والشافعية جعلوا المدة حولين قمريين وكذلك قال الحنابلة وذكر الشوكانى " نيل الأوطارج 6 ص 333" تسعة أقوال فى تقدير المدة يرجع إليها من شاء.
وأما رأى الظاهرية وابن حزم فمعتمد على حديث رواه مسلم وأحمد أن أم المؤمنين أم سلمة قالت لعائشة رضى الله عنهما: إنه يدخل.
عليك الغلام الأيفع - المقارب للبلوغ - الذى ما أحب أن يدخل علىَّ، فقالت عائشة: أما لك فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟ وقالت:إن امرأة أبى حذيفة قالت: يا رسول الله إن سالما يدخل علىَّ وهو رجل، وفى نفس أبى حذيفة منه شىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرضعيه حتى يدخل عليك " وفى رواية عن أم سلمة أنها قالت: أبَى سائر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا. ولم يأخذوا بخصوصية ذلك لسالم مولى أبى حذيفة، فهو رأى وليس حديثا لكن الجمهور قال: إن هذه خَصوصية، والحكم العام هو عدم تحريم رضاع الكبير، والشوكانى فى نيل الأوطار: "ج 6 ص 332" تحمس لرأى ابن حزم وقال: إنه مذهب على بن أبى طالب(10/72)
الطلاق السنى والبدعى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الطلاق السنى والطلاق البدعى. وما معنى الطلاق البائن؟
الجواب
الطلاق السنى فى عرف الفقهاء هو طلاق المرأة فى غير طهر جامعها فيه وليست حاملا ولا آيسة ولا صغيرة، والطلاق البدعى هو طلاق المرأة المد خول بها فى الحيض أو فى النفاس أو فى طهر جامعها فيه ولم يتبين حملها.
والطلاق البدعى وإن كان مكروها أو محرما يقع على رأى جمهور الفقهاء، وقد صح أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما طلق زوجته وهى حائض، فسأل عمر الرسول عن ذلك فقال " مُرهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يجامع ".
وللعلماء كلام طويل حول هذا الحديث، رأى بعضهم أن الطلاق وقع لأن الرسول أمره بمراجعتها، والمراجعة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق، ورأى بعضهم عدم وقوعه. ويمكن الرجوع إلى توضيح ذلك فى كتاب " زاد المعاد " لابن القيم.
هذا، والطلاق البائن نوعان، الأول بائن بينونة صغرى، وهو ما كان قبل الدخول، أو كان بعده وطلقها على عوض وهو الخلع، أو طلقها طلاقا رجعيا للمرة الأولى أو الثانية ثم انتهت عدتها. وهذا النوع لا بد فيه من عقد جديد مستوف للأركان، والشروط إذا أراد المطلق أن يعيدها إلى عصمته، والنوع الثانى بائن بينونة كبرى، وهو الطلاق المكمل للثلاث، وهو يحتاج إلى زواج آخر صحيح بنية التأبيد لا التحليل حتى يمكن أن يعيدها إلى عصمته، قال تعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ..} البقرة: 229 ثم قال بعد ذلك {فإن طقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} البقرة 230] . وبشرط المباشرة الجنسية كما نص عليه الحديث الشريف، ويمكن الرجوع في توضيح ذلك إلى عنوان زواج التحليل فى صفحة 555 من المجلد الثانى من هذه الفتاوى(10/73)
الرضاع وحقن اللبن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الحكم لو وصل لبن المرأة إلى الطفل بطريق الحقنة وليس بطريق الرضاع، هل يثبت به التحريم فى الزواج؟
الجواب
النصوص الواردة قى القراَن والسنة عبَّرت بالرضاع، والرضاع معروف أنه مَصُّ اللبن من الثدى، أما وصول اللبن إلى الطفل بغير ذلك ففى حكمه خلاف، يرى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أن حكم الرضاع يثبت بمص اللبن من الثدى، وبصبه فى الفم، وهو ما يعبر عنه بالوجور، وكذلك بالسعوط وهو صبه فى الأنف، ومثله ما لو عمل اللبن جبنا وأكله الطفل، وأبو حنيفة يخالف فى مسألة الجبن، لزوال اسم اللبن عنه.
أما داود وابن حزم الظاهريان فقصرا الرضاع المحرم على المص بالفم فقط، واستدل الجمهور بأن الغرض من الرضاع وهو طرد الجوع، وإنبات اللحم ونشز العظم يحصل بأية وسيلة تكون، كما جاء التعبير عن الغرض فى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التى رواها البخارى وغيره.
وإذا وصل اللبن إلى جوف الطفل بحقنة شرجية لم يحرِّم عند أبى حنيفة ومالك واحمد، ويحرِّم عند الشافعى، كما يفطر به الصوم. وله رأى آخر كالجمهور، لأن الحقنة فى الشرج ليست للتغذية ولكن للإسهال.
ورأى الظاهرية معتمد على النص على الرضاعة وهى لا تكون إلا بمص اللبن من الثدى، فهم ملتزمون بالنص، والآخرون ناظرون إلى الحكمة، والوسائل فى تغير وتطور(10/74)
أدب النساء فى الطرق والمجالس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى سير النساء ووجودهن فى الأماكن العامة مرتديات ملابس تثير غرائز الشباب؟
الجواب
إذا خرجت المرأة من بيتها وكان هناك أحد أجنبى عنها وجب عليها أن تستر ما أمر الله بستره بملابس سابغة ليست محددة ولا شفافة، وأن تبتعد عن الزينة اللافتة للنظر، وعن العطور النفاذة، وان تلتزم الأدب فى مشيها وكلامها وفى كل أحوالها، كما نصت عليه الآيات والأحاديث.
والمقصرة فى ذلك تسىء إلى نفسها بالتعرض لها أو التحرش بها، وتسئ إلى أسرتها وتسئ أيضا إلى المجتمع كله، والحديث الذى رواه البخارى ومسلم يقول " ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء" وعلى المسئولين من الأباء والأزواج بالذات أن يراقبوا ذلك منعا للضرر وحفاظا على الشرف، فالله يقول {نما أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة} التحريم: 6 والنبى صلى الله عليه وسلم يقول فى الحديث المتفق عليه " والرجل راع فى أهله ومسئول عن رعيته ".
وإذا كان على الرجال أن يراعوا أمر الله من الحفاظ على الشرف والحرمات فكذلك على النساء أن يراعين ذلك. فعندما قال عن الرجال {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} النور:
30 قال عن النساء {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن. . .} النور:31.
وإذا كانت القوانين الوضعية - كالقوانين الدينية - تحرم الاغتصاب فعليها أيضا أن تحرم الخروج على الآداب من الطرف الاخر، ليتعاون الجميع على تحقيق الغرض من التشريع. ورحم الله مصطفى صادق الرافعى الذى قال: إذا عاقبت الفتى مرة فإنى أعاقب الفتاة مرتين، لأنها كشفت اللحم للقط.
إن الإصلاح لا يكون من طرف واحد، بل لابد من تعاون كل الأطراف، وعدم المبالاة والسكوت على الباطل يأباهما الدين، والله يقول {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} الأنفال: 25](10/75)
الطلاق بالرجال
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: الطلاق بالرجال، وكيف تكون العصمة بيد المرأة؟
الجواب
روى ابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إنما الطلاق لمن أخذ بالساق " يقول ابن عباس: أتى رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله، سيدى زوجنى أمته وهو يريد أن يفرق بينى وبينها، فصعد النبى صلى الله عليه وسلم المنبر فقال " يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن " يفرق بينهما؟ إنما الطلاق لمن أخذ بالساق " قال ابن القيم عن هذا الحديث: فى إسناده مقال ولكن القران يعضده. وذكره السيوطى فى الجامع الصغير ورمز له بأنه حسن من رواية الطبرانى عن ابن عباس، وقال لمناوى فى " فيض القدير" رمز المصنف بحسنه ليس فى محله.
ولمهم -بيان أن الطلاق يكون بيد الرجل، لأن الله جعل له القيام على المرأة بسبب مواهبه وبما كلف به من دفع المهر لها والإنفاق عليها، قال تعالى {الرجال قوامون على لنساء بما فضَل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالمهم} النساء: 34 ومن لوازم هذا أن تكون العصمة بيده، إن شاء أمسك وإن شاء طلق. ولقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم لمؤمنات ثم طلقتموهن} لأحزاب: 49 وقوله {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} البقرة: 131 حيث جعل الله الطلاق لمن ينكح، إن شاء أمسك وإن شاء طلق. ولأن الرجل أعقل من المرأة وأضبط لعواطفه وأدرى بالتبعات التى تترتب على الطلاق، وقد أفاض ابن القيم فى بيان حكمة التشريع فى جعل الطلاق بيد الرجل، وذلك فى كتابه" زاد المعاد" ج 4 ص70، 13 2 فمن الصواب أن يكون الطلاق بيده.
ومع كون الطلاق حقا للرجال أجاز بعض العلماء أن ينيب غيره فيه بأن يجعل له حق تطليق زوجته استنادا إلى تخيير النبى صلى الله عليه وسلم لنسائه وقد مَرَّ توضيح،ذلك فى صفحة 591من المجلد الأول من هذه الفتاوى فليرجع إليه(10/76)
تقبيل زوجة الابن وأم الزوجة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للرجل أن يقبل زوجات أبنائه، وما حكم الدين إذا صاحب ذلك نوع من الشهوة؟
الجواب
زوجة الابن من المحرمات على الأب بمجرد عقده عليها، فهى كبنته فى الحرمة، قال تعالى فى آية التحريم فى النساء: 23 {وحلائل أبنائكم الظين من أصلابكم} فإذا كانت قبلته لبنته رحمة وحنانا وتكريما فلا حرج فى ذلك، والرحمة والحنان والتكريم يتنافى مع القصد الخبيث الذى يثير الشهوة، فإذا كانت القبلة بشهوة كانت محرمة دون شك فى ذلك، لأنها فتنة، وقد يستغل تحريم الزواج بها استغلالا سيئا، وبخاصة إذا كانت جميلة وهو لم يزل فى سِن لا تحول بينه وبين إشباع رغبته المعروفة، حتى لقد قال العلماء: إن تقبيل الولد لأمه إذا كان بشهوة فهو محرم.
ومن أجل الخطورة فى مثل هذه الحالة حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول على النساء فى غيبة أزواجهن، ولما سأله واحد: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال " الحمو الموت " والحمو هو قريب الزوج كأخيه وقريب الزوجة كابن عمها وابن خالها. رواه مسلم.
هذا، ويقال مثل ذلك فى تقبيل الرجل لأم زوجته، فهو جائز بدون قصد الشهوة لأنها بمنزلة أمه، فهى من المحرمات عليه بمجرد العقد على بنتها قال تعالى {وأمهات نسائكم} النساء: 23 وكذلك تقبيل المرأة لزوج بنتها حلال لحرمة زواجه منها، فهو كابنها، ولكن أحذر من أن يكون ذلك بشهوة، وبخاصة إذا كانت المرأة غير متزوجة وفى سِن تحس فيه بالحاجة إلى ما تحس به كل امرأة، أو كان زوجها غائبا عنها مدة تحس فيها بألم الفراق.
وقد يخفى الألم فى نفسه من يرى أن أباه يقبِّل زوجته، ومن يرى أن زوجته تقبل زوج بنته أو يقبلها، وبعض الزوجات الشابات يشكون من تقبيل أزواجهن لأمهاتهن وبخاصة إذا كان فى التقبيل مبالغة أو صاحبته أحضان، فالواجب مراعاة ذلك مع الإيمان بأن الله يعلم النيات، ولكل امرئ ما نوى(10/77)
لبن الفحل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل له زوجتان، رضعت من إحدى هاتين الزوجتين، فهل يصح لى أن أتزوج بنت هذا الرجل من زوجته للأخرى التى لم أرضع منها؟
الجواب
المعلوم أن الولد إذا رضع من امرأة فى مدة الحولين خمس رضعات معلومات صار- على رأى الشافعى وهو المختار للفتوى - اخا لكل أولادها، يستوى فى ذلك من رضع معه ومن رضع قبله أو بعده - فلا يصح أن يتزوج من إحدى بناتها لأنهن أخواته، ولا من أخوات المرضع لأنهن خالات له، وكذلك لو رضعت بنت من امرأة حرم عليها كل أولادها لأنهم أخوتها، وحرم عليها إخوة المرضع لأنهم أخوالها، وقد جاء فى الحديث المتفق عليه "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
لكن هل يصير زوج المرضع أبا للرضيع أو لا؟ هذه مسألة اختلف فيها الفقهاء قديما وحديثا، وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة، على أن الرضاع يثبت أبوة زوج المرضع للرضيع، فهو الذى تسبب فى نزول لبنها الذى رضعه، وعليه يكون جميع أولاد هذا الزوج إخوة وأخوات للرضيع يستوى فى ذلك أولاده من الزوجة التى أرضعت الرضيع، وأولاده من الزوجة الأخرى التى لم يرضع منها.
ودليلهم فى ذلك ما رواه البخارى ومسلم وغيرهما عن عائشة رضى الله عنها قالت: دخل علىَّ أفلح أخو أبى القعيس، فاستترت منه ولم اذن له، فقال:
أتستترى منى وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال:أرضتك امرأة أخى، فقلت: إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه، فقال: " إنه عمك فليدخل عليك ".
ومن أدلتهم كذلك ما رواه البخارى أن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما جارية، والأخرى غلاما، فهل يتزوجان؟ فقال: لا، اللقاح واحد.
يقول النووى: لم يخالف فى هذه المسألة إلا أهل الظاهر وقليل،ودليلهم عقلى أكثر منه نقليا، فما احتجوا به ليس نصا فى دعواهم.
وتفريعا على رأى الجمهور فى ترتب التحريم على لبن الفحل وهو زوج المرضعة، قد يكون الأخوان من الرضاع شقيقين إذا رضعا من زوجة رجل واحد، وقد يكونان أخوين لأم، إذا أرضعت أحدهما بعد ولادتها من زوج، ثم أرضعت الاخر بعد ولادتها من زوج اخر، وقد يكونان أخوين لأب، إذا كان لرجل زوجتان، رضع أحدهما من زوجة والاَخر من زوجته الأخرى.
وعلى هذا نقول لصاحب السؤال: لا يجوز لك ان تتزوج من بنت هذا الرجل من زوجته الأخرى، غير زوجته التى أرضعتك فهى أختك من الأب(10/78)
الزغاريد فى الأفراح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم زغاريد النساء فى الأفراح؟
الجواب
زغاريد النساء فى الأفراح تعطى حكم صوت المرأة وغنائها، فإذا كانت بنبرات عادية غير فاتنة فلا بأس بها، وبخاصة إذا كانت فى محيط النساء لا تصل إلى الرجال الأجانب، أما إن كانت بنبرات فيها إثارة أو فتنة، فالشرع لا يوافق عليها إذا وصل صوتها إلى الرجال الأجانب كما هو الغالب فى أفراح اليوم(10/79)
نقوط الفرح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى المجاملات بين الناس فى حالات الزواج وغيرها بتبادل الهدايا والأموال بما يسمى "النقطة " بغرض المساعدة، وكثيرا ما ينتظر الناس هداياهم وأموالهم وقد يطالبون بردها؟ وهل تعد هذه الهدايا والأموال دينا إذا توفى الشخص المتلقى للهدايا والأموال، فيقوم أهله بردها؟
الجواب
النقوط الذى اعتاد الناس تقديمه بمناسبة الزواج - قال عنه علماء الشافعية:
إنه من باب الإعارة، يرجع به صاحبه سواء أكان مأكولا أم غير مأكول "حاشية عوض على الخطيب فى باب الهبة" وعلى هذا الرأى تكون الهدايا دينًا يلزم الوفاء به فى حياة الإنسان وبعد مماته، ويخرج ذلك من التركة قبل توزيعها كما نص القراَن الكريم فى آيات المواريث {من بعد وصية يوصى بها أو دين} وبعض الناس يحرصون على رده أورد مثله فى مناسبة مماثلة، وقد يسبب التقصير فى ذلك مشاكل كبيرة، والأعراف على كل حال تختلف.
فيرجع إلى العرف ليحكم عليه بأنه هبة للمساعدة والمجاملة، لا ينظر إلى ردها، أو بأنه إعارة أو سُلفة لابد من ردها أو رد مثلها، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطا.
وأرجو أن يدفع بسخاء نفس ولا ينظر إلى رده، فقد تحول الظروف دون ذلك، وقد تختلف القوه الشرائية فيكون الهمس والتعليق الذى يحز فى النفس. إن قصد الهبة قصد طيب يحقق معنى التعاون على البر، واجرها كبير عند الله، والأعمال بالنيات(10/80)
ما يثبت به الرضاع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الوسائل التى يثبت بها الرضاع؟
الجواب
لا شك أن الرضاع من موجبات التحريم فى الزواج، بنص القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف. كما أنه يحتاط فى الأبضاع ما لا يحتاط فى غيرها.
وإذا كان هناك خلاف فى عدد الرضعات المحرِّمة فإن الأحوط قبل الزواج أن يؤخذ بالقول الذى يحرم برضعة واحدة، وإن جاز الزواج على أقوال أخرى، كما أن الأحوط بعد الزواج، وبخاصة إذا كانت هناك ذرية، أن تبقى الأسرة على وضعها بناء على القول الذى لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات أو أكثر، وإن وجب التفريق على أقوال أخرى.
والملاحظ أن أمر الرضاع يطلع عليه النساء أكثر من الرجال، ولذلك قبل فيه بعض الأئمة شهادة النساء دون حاجة معهن إلى الرجال، فيثبت بشهادة أربع نسوة.
كما يلاحظ أن بعض النساء اللاتى لسن على الدرجة المطلوبة من خوف الله، إذا رغبن فى زواج رجل وامرأة ينكرن حدوث رضاع بينهما، وإذا لم يرغبن فى هذا الزواج، سواء أكان قبل إتمامه أو بعده يؤكدن أنه حدث بينهما رضاع،وهنا تكون المشكلة.
وقد تحدث العلماء عما يثبت به الرضاع، فقالوا يثبت بالإقرار أو البينة.
الإقرار:
يراد بالإقرار اعتراف الطرفين، أو أحدهما، وهذا الإقرار قد يكون قبل الزواج أو بعده.
1 - فإذا أقر رجل بأن هذه المرأة أخته من الرضاع فإن صدقته فى إقراره ثبتت الحرمة بينهما بهذا التصادق، سواء أكان قبل الزواج أو بعده، وكذلك إذا أقرت المرأة وصدقها الرجل.
وعند الافتراق قبل الدخول فلا شىء لها من المهر، وإن كان بعد الدخول وجب الأقل من المهر المسمى ومهر المثل، وذلك شأن كل نكاح فاسد أعقبه دخول، ولا تجب لها نفقة فى عدتها ولا سكنى.
2 - وإذا أقر الرجل وكذبته المرأة ثبت التحريم أيضا ووجب التفريق بعد الزواج، فإذا كان قبل الدخول وجب لها نصف المهر، وإذا كان بعد الدخول وجب المهر كله، إذا كان مسمى، كما أن لها النفقة والسكنى فى مدة العدة، لأن إقراره حجة قاصرة عليه، ولا يتعدى إلى حقوق المرأة بالإبطال ما دامت مكذِّبة له.
فإذا رجع عن إقراره بالرضاع يقبل رجوعه بشرط ألا يكون قد أكد إقراره الأول بما يفيد اليقين. ولو كان رجوعه بعد العقد يبقى العقد قائما كما كان.
3- وإذا أقرت المرأة بالرضاع وكذبها الرجل فلا يجوز لها أن تتزوجه فإذا رجعت عن إقرارها يجوز لها الزواج، أما إن كان الإقرار بعد الزواج وكذبها الزوج فلا عبرة بإقرارهما حتى لو أصرت عليه لأنها متهمة فيه، فقد يكون لها غرض فى التخلص منه بهذا الادعاء، بخلاف إقراره هو فإنه يقبل ولا عبرة بإنكارها، لأنه غير متهم فى إقراره بأنه يريد التخلص منها، لأن تخلصه منها ممكن بالطلاق الذى يملكه، دون حاجة إلى الإقرار بالرضاع ولدوران الحكم على التهمة لو كان أمرها بيدها فى الطلاق تصدق فى إقرارها بالرضاع.
البينة إذا كان هناك اتفاق بين العلماء على اعتبار البينة فى ثبوت الرضاع فإن بينهم خلافا فى قدر هذه البينة والعدد الذى يعتبر فيها.
فمنهم من اكتفى بشهادة النساء وحدهن، وهؤلاء منهم من يكتفى بامرأة واحدة إذا كانت معروفة بالصدق والعدالة، ومنهم من يشترط العدد، وهو امرأتان على الأقل، ومنهم من يشترط أربع نساء، ومنهم من لا يكتفى بشهادة النساء وحدهن، فالرضاعة لا تثبت عندهم إلا برجلين، أو رجل وامرأتين.
1 - فالذين يكتفون بشهادة امرأة واحدة هم الحنابلة، وهو رواية عن مالك، وهذا القول مروى عن عثمان وابن عباس والزهرى والحسن وإسحاق والأوزاعى ومروى كذلك عن أبى عبيد إلا أنه قال: يجب على الرجل أن يعمل بقول المرأة فيفارق زوجته، لكن لا يجب على الحاكم أن يحكم بشهادتها وحدها إذا رفع الأمر إليه. واستدل هؤلاء بحديث رواه البخارى وغيره أن عقبة بن الحارث تزوج أم يحى بنت إهاب، فجاءت بأمة سوداء وأخبرتهما بأنها أرضعتهما، ولما رفع الأمر إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أبره أن يفارقها على الرغم من أن عقبة يظنها كاذبة، ولما كرر عقبة على الرسول هذا الخبر قال له "كيف وقد قيل، دعها عنك ".
فدل هذا على أن الزواج وقع فاسدا وتجب المفارقة. ولو كان قد وقع صحيحا وأراد له النبى أن يفارقها استحبابا لا وجوبا لقال له:
طلِّقها، ولم يقل له ذلك.
ثم قال أصحاب هذا الرأى، ردًّا على من يشترطون العدد فى الشهادة إن قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} البقرة: 282، قول عام يخصص بحديث عقبة المذكور.
وردوا أيضا على ما روى أن عليًّا وابن عباس والمغيرة لم يفرقوا بين الزوجين بسبب شهادة واحدة على الرضاع بأن المقرر أن أقوال بعض الصحابة ليست بحجة على فرض عدم معارضتها لما ثبت عن الرسول، فكيف تكون حجة وهى معارضة لما ثبت عنه.
2 -والجمهور على عدم الاكتفاء بشهادة واحدة على الرضاع، ومن هؤلاء من اكتفى بشهادة امرأتين، وهو الإمام مالك ومنهم من اشترط أن يشهد رجلان أو امرأتان وهو أبو حنيفة، ومنهم من أجاز الشهادة من أربع نسوة وهو الشافعى.
هذا، وقد قال الشوكانى فى نيل الأوطار، (ج 6 ص 338) : حكى فى البحر عن الهادوية والشافعية والحنفية أنه يجب العمل بالظن الغالب فى النكاح تَحريما، ويجب على الزوج الطلاق إن لم تكتمل الشهادة، بدليل حديث الأمة التى شهدت برضاع عقبة وأم يحيى، وقال الإمام يحيى: الخبر محمول على الاستحباب، ويمكن الرجوع فى ذلك إلى كتاب "أحكام الأسرة فى الإسلام " للدكتور محمد شلبى(10/81)
الطلاق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن الطلاق محرم فى الأديان الأخرى فلماذا أباحه الإسلام؟
الجواب
الانفصال بين الزوجين معروف من قديم الزمان فى الشرائع الوضعية والأديان السماوية، لأن الزواج تكوين لشركة تتعاون على تحقيق الهدف منه وهو السكن والمودة ورعاية النسل، وكل شركة لا توفَّق فى تحقيق أهدافها بعد محاولة إصلاحها كان من الأوفق أن تنحل، ويسعى أصحابها للبحث عن شركاء آخرين صالحين لإنتاج الخير.
وجاء الإسلام وهو خاتمة الرسالات فأبقى على هذا المبدأ ونظمه ووضع له ضوابط لعدم إساءة استعماله، فأباح للزوجة إن كانت كارهة لزوجها أن تفتدى منه بمال، وأباح للزوج إن تضرر من زوجته ولم يطق صبرا على ما يراه منها أن ينفصل عنها بعد محاولة التوفيق بين الطرفين، وحفظ الحقوق "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ".
ومن وجوه الحكمة فى تقرير مبدأ الطلاق:
1 -قد تكون الزوجة عقيما والرجل يريد نسلا، وطلب النسل مشروع وهو الهدف الأول من الزواج، ولا ترضى الزوجة بأن يضم إليها أخرى.
أو لا يستطيع هو أن ينفق على زوجتين، وبالمثل قد يكون بالزوج عيب يمنع من وجود النسل، وهى تتوق لإشباع غريزة الأمومة، فلا سبيل إلا الطلاق.
2 - وقد يكون بأحدهما مرض معد يحيل الحياة إلى متاعب وآلام، فيكون العلاج بالطلاق.
3-قد يكون الزوج سيئ العشرة خشن المعاملة لا يجدى معه النصح، وقد تكون هى كذلك فلا مفر من الفراق.
وقد تكون هناك أسباب أخرى منه أو منها فيكون الطلاق أمرا لابد منه، والواقع يقرر أن للطلاق مضار بجوار ما فيه من منافع، فله أثره على المرأة إذا لم يكن لها مورد رزق تعتمد عليه ويخشى أن تسلك مسالك غير شريفة، وله أثره على الرجل فى تحمل تبعاته المالية والنفسية إذا لم يجد من تعيش معه إذا كان الطلاق بسببه، كما يتضرر به الأولاد الذين لا يجدون الرعاية الصحيحة فى كنف الوالدين، فإما أن يعيشوا تحت رعاية زوج أمهم أو تحت رعاية زوجة أبيهم، وإما أن يتشردوا فلا يجدوا ما يحميهم من الانحراف، وفى ذلك كله ضرر على المجتمع.
من أجل هذا جعله الإسلام فى أضيق الحدود، ونهاية المطاف فى محاولة التوفيق، وقرر أنه أبغض الحلال إلى الله، وبيَّن الحديث الشريف أنه من أهم العوامل التى يستعين بها إبليس على إفساد الحياة البشرية، فقال عليه الصلاة والسلام "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة، يجئ أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول له: ما صنعت شيئا، قال ويجئ أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، قال فيدنيه، أو قال: فيلتزم ويقول: نعم أنت " رواه مسلم. وكما حذر منه الرجل حذَر المرأة فقال: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقا فى غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة" رواه أبو داود والترمذى وقال: حسن. وكان من هدى الإسلام فى الحد منه إلى جانب ما ذكر:
1 -أنه وصف الزواج بالميثاق الغليظ وذلك يدعو إلى احترامه وعدم التفكير فى حله، قال تعالى {وكيف تأخذونه وقد أفض بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} النساء: 21.
2 -جعل الطلاق على مراحل من أجل التجربة فلم يحكم بهدم الحياة الزوجية من أول نزاع بين الزوجين، بل جعله على ثلاث مرات يملك بعد كل من الأولى والثانية أن يراجعها، ولا تحل له بعد الثالثة حتى تتزوج غيره، قال تعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} إلى أن قال {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} البقرة: 229، 230.
3- ندب إلى إمساك الزوجة وعدم طلاقها إن كرهها لأمر وفيها أمور تدعو إلى إمساكها، قال تعالى {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} النساء: 19، وقال صلى الله عليه وسلم " لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضى منها آخر " رواه مسلم.
4 - أمر الزوج بضبط أعصابه والتريث فى تقويم زوجته، قال تعالى {واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا} النساء: 34.
5 -إذا لم يستطع الطرفان علاج المشكلة تدخلت عناصر للعلاج تهمها مصلحة الزوجين قال تعالى {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفِّق الله بينهما. إن الله كان عليما خبيرا} النساء: 35.
6 - صان قداسة الزوجية من العبث فحذر من صدور كلمة الطلاق حتى على سبيل الهزل. ففى الحديث " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة" رواه أبو داود.
7-لم يحكم بطلاق المجنون والمكره عليه ففى الحديث "رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبى حتى يدرك ومن النائم حتى يستيقظ " رواه أبو داود وصححه وفيه أيضا "إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " رواه أصحاب السنن برجال ثقات وليس فيه علة قادحة، وفيه "لا طلاق ولا عتاق فى إغلاق " رواه أبو داود والحاكم وصححه. وفسر الإغلاق بالإكراه كما فسر بالغضب وألحق بعض العلماء السكران بالمجنون.
8 - لا يقع الطلاق بحديث النفس دون تلفظ به، ففى الحديث "إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " رواه البخارى ومسلم.
9 -حرم على المرأة أن تشترط لزواجها أن يطلق الزوج من هى تحت يده، ففى الحديث "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ ما فى صحفتها، فان لها ما قدِّر لها" رواه البخارى ومسلم.
10 - جعل العصمة أصلا بيد الرجل، لأنه هو الذى دفع المهر، ويتكفل بنفقة الزوجية وهو أضبط لعواطفه وأدرى بالتبعات التى تترتب عليه. وفى دليله مقال.
11 - وهناك تشريعات أخرى كعدم وقوع الطلاق قبل النكاح، والطلاق المعلق الذى لا يقصد به التطليق، وما يسمى بالطلاق السنى والبدعى، وفيها نصوص وخلاف للعلماء.
هذه بعض التشريعات التى تساعد على الحد من الطلاق، وقد علمنا أنه حل يلجأ إليه عند تعذر الإصلاح،. وأخذت به كل التشريعات قديمها وحديثها، وما لجأت إليه بعض الدول من تحريمه وإباحة التفريق الجسدى أدى إلى أخطار كثيرة وانحرافات شكا منها المصلحون.
ومحاولات بعض الدعاة للتجديد وتحرير المرأة للحد منه باقتراحات وإجراءات قضائية، قد تزيد المشكلة تفاقما، وتقضى على فرصة العودة بعد تجربة الفراق وتكشف ما كان ينبغى أن يبقى مستورا، بل جعلت بعض الشباب يحجم أو يتأخر عن الزواج خشية تبعاته وتبعات الفراق، وفى ذلك إضرار بالمرأة أيضا من حيث يظن المتحررون أنهم يخدمونها.
وفى اتباع هدى الإسلام تشريعات وخلقا، مع الإخلاص المتبادل، ما يغنى عن كل هذه الاقتراحات، التى لا يعدم من لا ضمير عنده أن يتحايل حتى لا يقع تحت طائلتها، والواقع يشهد بذلك، فلنحرص على التمسك بالدين ولنتعلم ما جاء عن الله ورسوله بفهم دقيق وإحاطة وشمول ففيه الخير كله {ومن يعتصم بالله فقد هُدى إلى صراط مستقيم} آل عمران: 101.
هذا، وهناك أحكام كثيرة تتعلق بالطلاق لا مجال لذكرها هنا، والمقصود هو بيان حكمة مشروعيته ورفع الاعتراض عن تقرير الإسلام له، أما ما تختلف فيه القوانين المعمول بها فى البلاد الإسلامية فهو فى مسائل فرعية وللاجتهاد فيها مجال كبير، وذلك لا يضر ما دام الأصل سليما وهو مشروعيته وعدم إبطاله. فهو تشريع حق عادل منصف لا عيب فيه، وإنما العيب على من يجهلونه أو يسيئون تطبيقه.
وقد بحث موضوع الطلاق فى المؤتمر الثانى لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد فى سنة 1385 هـ (1965 م) وانتهى فى قرارته إلى أن الطلاق مباح فى حدود ما جاءت به الشريعة الإسلامية، وأن طلاق الزوج يقع دون حاجة إلى إذن القاضى.
وللاستزادة بعد كتب الفقه يمكن الرجوع إلى:
1 -كتاب الأحوال الشخصية للشيخ عبد الرحمن تاج.
2-أحكام الأسرة فى الإسلام للدكتور محمد مصطفى شلبى.
3-بحث تنظيم الأسرة للشيخ (محمد أبو زهره) من بحوث المؤتمر الثانى لمجمع البحوث الإسلامية.
4 -الأسرة تحت رعاية الإسلام -الجزء السادس(10/82)
نكاح الزانية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما علاقة الزنا بالشرك فى قوله تعالى {الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة} وما سبب نزول هذه الآية؟
الجواب
يقول الله تعالى {الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرِّم ذلك على المؤمنين} النور: 3، جاء فى تفسير القرطبى لهذه الآية أن "مرثدا الغنوى" وكان يحمل الأسارى بمكة - استأذن النبى صلى الله عليه وسلم فى نكاح "عناق " وكانت بغيا - تحترف الزنا - فقرأ عليه هذه الآية وقال "لا تنكحها" رواه أبو داود والترمذى والنسائى والحاكم. قال الخطابى: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة أما الزانية المسلمة فإن العقد عليها صحيح لا ينفسخ وقال الشافعى: قال عكرمة: معنى الآية أن الزانى لا يريد ولا يقصد إلا نكاح زانية. وقال سعيد بن المسيب وغيره: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} النور: 32، فهى عامة.
ومن شرط فى صحة العقد عدم الزنا قال: إن هذه الآية غير منسوخة، لان النبى صلى الله عليه وسلم حث على نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان، وهو العفة لأن زواجها يؤدى إلى فساد أخلاق الرجل ودينه، فتلحق به غير ولده، أو تنشئ أولاده على الفساد.
وقد رأى ابن القيم حرمة الزواج بالزانية وقال فى كتابه "زاد المعاد" إن الزواج بها خبيث لقوله تعالى {الخبيثات للخبيثين} النور: 26، لكن قال فى كتابه "بدائع الفوائد" لو زنى بامرأة ثم أراد أن يتزوجها لا يصح إلا بعد علمه بتوبتها.
وبناء على هذا لا أرى بأسا بزواج من كانت زانية إذا علمت توبتها، ولا بأس بزواج رجل زنى بامرأة ثم تاب بامرأة عفيفة، وتفصيل ذلك فى الجزء الأول من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام "ص 333"(10/83)
اغتصاب المرأة وحملها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى حمل امرأة مسلمة اغتصبها عدو فى الحرب، هل يجوز لها أن تسقطه ولمن ينسب هذا الحمل؟
الجواب
من حملت باغتصاب حملا غير شرعى فهو ابنها ينسب إليها لأنه تكوَّن من بويضتها، وولدته من بطنها، ولا يجوز نسبته إلى أحد إذا كانت غير متزوجة، وعليها أن ترعاه رعاية كاملة إذا وضعته، أما إن كانت متزوجة ولم تكن حاملا وقت الاغتصاب فحملت، فالولد ولدها أيضا ترعاه بعد الولادة رعاية كاملة.
ولزوجها إن لم يستلحقه أن يتبرأ منه، وإن كانت حاملة من زوجها الشرعى واغتصبت فالولد ينسب إلى الزوج. لأن الولد للفراش كما ثبت فى الحديث المتفق عليه. وقد قال العلماء فى الحمل غير الشرعى:
لا يجوز إجهاضه ولا التخلص منه بعد نفخ الروح فيه،أى بعد أربعة أشهر من الحمل، لأنه نفس بريئة يحرم قتلها بغير حق، ما لم يكن هناك خطر على الحامل من تمام الحمل، أما قبل نفخ الروح فيه فهناك وجهات نظر مختلفة للعلماء سبق الكلام عليها فى ص 480 من المجلد الأول من هذه الفتاوى. فبعضهم حرم الإجهاض مطلقا، وبعضهم أباحه مطلقا، وبعضهم كرهه مطلقا، ومنهم من قيد ذلك بعدم وجود العذر.
ومن هنا يجوز لمن حملت من اغتصاب أن تتخلص من الحمل قبل نفخ الروح فيه على رأى من الآراء المذكورة(10/84)
الزوجة التى لا تصلى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ماذا على الزوج أن يفعل مع زوجته التى لا تؤدى الصلاة ولا تلتزم الزى الشرعى، وإذا رفضت الالتزام بهما فهل له أن يطلقها؟
الجواب
ثبت فى الحديث أن الرجل راع فى أهله ومسئول عن رعيته، فعلى الزوج أن ينصح زوجته بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال رب العزة لنبيه صلى الله عليه وسلم {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} طه: 132، ذلك لأنها مقصِّره فى حقوق الله سبحانه، ويهددها بما يستطيع من التهديد إن ظن أن فى ذلك فائدة، كالهجر وعدم الاستجابة لرغباتها الكمالية. يقول الإمام الغزالى فى الإحياء "ج 2 ص 45" له حملها على الصلاة قهرا، ورأى صاحب "الفروع " أن الزوج لا يملك حق تعزيرها على الحقوق المتمحضة لله تعالى، فذلك من اختصاص الحاكم، وجاء فى معجم المغنى لابن قدامة الحنبلى أن للزوج ضرب امرأته على ترك الفرائض، وإن لم تصلِّ احتمل ألا يحل له الإقامة معها.
ومن هذا نعرف أن الرأى الغالب أنه يعظها باللسان، فإن لم يفلح أنكر عليها تهاونها فى الواجب لله، وعاملها معاملة تدل على كرهه وبغضه لها، ولا يتحتم عليه أن يطلقها من أجل ترك الصلاة، لأن المسلمة المقصِّرة ليست أقل شأنا من الكتابية.
وتركها للحجاب كذلك لا يحتم عليه طلاقها إلا إذا تأكد أن عدم التزامها بالزى الشرعى سيؤدى إلى الفاحشة وهى مصرَّة على ذلك فمن الخير أن يفارقها "انظر ص 25 من المجلد من هذه الفتاوى"(10/85)
الكذب بين الزوجين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
متى يباح للزوجة أن تكذب على زوجها، وهل هناك من الحديث الشريف ما يؤيد ذلك؟
الجواب
تقدم فى ص 605 من المجلد الأول من هذه الفتاوى أن الكذب لا يجوز إلا عند الضرورة كالحالات الثلاثة المذكورة فى الحديث، ومنها الكذب بين الزوجين، وهذا الكذب المسموح به بين الزوجين هو فى مثل قوله لها أو قولها له: أنا أحبك، وقد يكون الواقع غير ذلك، او فى مثل قوله عند طلب شىء منه لا يستطيعه: سأحضره لك، وذلك لتطييب خاطرها فقط. جاء فى إحياء علوم الدين للإمام الغزالى "ج 3 ص 120 " أن ابن أبى عذرة الدولى حلف على زوجته أن تصدقه فى أنها تحبه أو لا تحبه، فأخبرته أنها لا تحبه، فاختصما إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فسألها: هل تحدثت أنك تبغضين زوجك؟ قالت: نعم، لأنه أنشدنى الله. أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فاكذبى، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، أقل البيوت الذى يبنى على الحب.
وذكر القرطبى فى تفسيره "ج 5ص 209" خبر عبد الله بن رواحة الذى كذب على زوجته فى أنه باشر جاريته عندما رآها تحمل شفره -سكينا-لضربه حين رأته معها، وقال شعرا يوهمها بأنه قرآن، والجنب لا يقرأ القرآن، وعلم الرسول بذلك فضحك حتى بدت نواجذه، كما ذكر هذه القصة أيضا ابن القيم، في كتابه "إغاثة اللهفان ص 208، 257" ومن هنا يعلم أن الترخيص فى الكذب بين الزوجين يكون فى أضيق الحدود، وفيما يوثق العلاقة بينهما، ويوفر الاستقرار فى الأسرة، أما الكذب فى الأمور التى تهدد كيان الأسرة، كغيابها أو غيابه عن البيت فى متعة حرام، وادعاء أن الغياب كان بحكم العمل أو لقضاء مصالح، والواقع خلاف ذلك فهو حرام لا شك فيه، ومن أجل هذه الناحية وغيرها أرشد الإسلام إلى تلمس ناحية التدين فى كل من الرجل والمرأة عند الإقدام على الزواج، والنصوص فى ذلك معروفة(10/86)
التمريض بين الرجل والمرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى مهنة التمريض حيث تنكشف عورات المرضى أثناء علاجهم؟
الجواب
سبق الكلام على العلاج بين الجنسين فى ص 135 من المجلد الخامس، وأؤكد هنا أن أى عمل فيه اطلاع على العورات حرام، ولا يجوز إلا عند الضرورة حيث لا يوجد الجنس الذى يعالج جنسه، ومعلوم أن الضرورة تقدر بقدرها فلا يجوز تجاوز الحد فى استعمال هذه الرخصة، ومما يدل على تمريض الجنس للجنس الأخر عند الضرورة أن النبى صلى الله عليه وسلم أذن لامرأة أن يحجمها رجل، وجاء فى "فتح القدير" ج 8 ص 98 أن عبد الله بن الزبير استأجر عجوزا تمرضه، وكانت تغمز رجليه وتنظف رأسه وقال ابن مفلح فى كتابه "الآداب الشرعية" فإن مرضت امرأة ولم يوجد من يطبها غير رجل جاز له منها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره منها حتى الفرجين، وكذا الرجل مع المرأة، ونقل عن ابن حمدان وغيره مثل هذا الكلام، وقد أذن النبى لامرأة أن يحجمها رجل اسمه أبو طيبة.
هذا، وإذا لم يوجد الجنس الماهر فى العلاج، أو وجد ولكن لم يكن ماهرا فلا مانع من العلاج عند الجنس الآخر الماهر، فالخطأ فى العلاج خطير، والدين حذر من تعريض النفس للتهلكة كما هو معروف(10/87)
الإشهاد فى عقد الزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى شهادة شخصين أجنبيين غير ناطقين باللغة العربية على زواج مسلم من مسلمة ناطقين باللغة العربية وإشهار وإتمام هذا الزواج فى دولة أجنبية، وهل يشترط كتابة عقد الزواج؟
الجواب
فى هذا السؤال عدة نقط:
1 - مبدأ اشتراط الشهادة على عقد الزواج قال به جمهور الفقهاء، ومنهم الأئمة الأربعة. وذلك لحديث أحمد والدارقطنى"لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل " والشيعة الجعفرية لا يشترطون الشهادة فى عقد الزواج، فهو عندهم صحيح بدونها، لكنه أمر مستحب فقط كالإعلان، لأن القرآن لم يشترط الشهادة فى النكاح، والحديث المذكور لم يثبت عندهم، وصرح الباقر والصادق من أئمتهم بعدم اشتراطها.
2 -هذا الزواج بين مسلم ومسلمة، فيشترط فى الشاهدين الإسلام، لأن الشهادة فيها معنى الولاية والله يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} النساء: 141، فإذا كان الشاهدان على هذا الزواج غير مسلمين بطل العقد.
3- يشترط فى الشاهدين أن يفهما المراد من كلام العاقدين إجمالا وإن لم يفهما معانى المفردات. فلو كانا لا يفهمان المراد فلا يصح العقد، ويشترط سماعهما لكلام العاقدين إن كان العقد بالكلام، أما لو كان بالإشارة فلا بد من فهم المقصود من الإشارة.
وكتب الحنفية فيها خلاف لفقهائهم فى شرط السماع والفهم، فمنهم من جعل الشرط هو حضور الشاهدين فقط وإن لم يسمعا، ومنهم من يقول: لابد من السماع، وهو الأصح. ومنهم من لم يشترط فهم الشاهدين للغة العقد، لكن الأصح أنه يشترط فهمهما للغة العقد ووفق بعض الفقهاء بين القولين "اشترط الفهم وعدمه " فقال: إن اشتراط الفهم محمول على فهم المقصود إجمالا من كلام العاقدين وانهما يقصدان عقد الزواج، وعدم اشتراطه محمول على فهم معانى الألفاظ بعد فهم أن المراد عقد الزواج، فيكون الأصح فى المذهب اشتراط السماع والفهم إجمالا للمقصود ولا يشترط فهم معانى الألفاظ، بل يكفى أن هذا اللفظ يقصد به الزواج " أحكام الأسرة فى الإسلام للدكتور محمد مصطفى شلبى".
4 - أما إشهار وإتمام هذا الزواج فى دولة أجنبية فلا دخل له فى صحة الزواج وكذلك كتابة عقد الزواج ليست شرطا فى صحته، فقد كانت عقود الزواج فى القرون الماضية لا تسجل، لكن فى هذه الأيام لابد من الكتابة، لا لصحة المعاشرة الزوجية، بل لحفظ الحقوق وعدم التقصير فى أداء واجب.
بعد هذا نقول: إن كان الشاهدان يفهمان إجمالا ما يحصل من كلام المتعاقدين الدال على الزواج فالزواج صحيح، وعلى رأى عند بعض الأحناف يصح الزواج بمجرد حضورهما وإن لم يفهما ما يقوله المتعاقدان(10/88)
عقم الزوجة والزوج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعد أن تزوجت وتأخر حمل الزوجة عدة سنوات عرضتها على الأطباء المختصين فقرروا أنها لن تنجب لوجود عيب خلقى يمنع الإنجاب فهل عقد الزواج صحيح وهل ينفسخ بعد ظهور العيب أو لا ينفسخ؟ وما الحكم إذا ظهر أن الزوج لا يستطيع الإنجاب؟
الجواب
لقد تحدث الفقهاء عن العيوب التى تعطى الزوج الحق فى فسخ النكاح ومنها البرص والجذام والجنون والرتق - أى انسداد مدخل الذكر من الفرج -والقرن شىء يبرز فى الفرج كقرن الشاة أو غدة تمنع المخالطة. وقال بذلك الأئمة الثلاثة دون أبى حنيفة.
واتفق الفقهاء على أن عقم المرأة وعدم إنجابها ليس عيبا فيها يمنع استمتاع الزوج بها، فليس له خيار الفسخ لأن الإنجاب يرجع إلى إرادة الله سبحانه.؟ ومن هنا لا ينفسخ العقد بظهور عدم إنجاب الزوجة. ولكن له الحق فى طلاقها وتترتب أحكام الطلاق فى هذه الحالة، كأية حالة أخرى، فما دام الزوج قد دخل بها فلو طلقها كان لها مؤخر الصداق، ونفقة العدة وليس له أن يلزمها بإبرائه أو التنازل عن شىء من حقوقها إلا إذا طلبت هى الطلاق فيمكن التفاهم على ما تتنازل عنه، وهذا ما يجرى عليه العمل فى المحاكم المصرية طبقا للقانون رقم 78 لسنة 1931 م.
وإذا ظهر أن بالزوج عيبا يمنع الإنجاب. كأن كان مجبوبا -أى مقطوع الذكر-أو عنينا - أى غير قادر على الجماع لضعف خلقى أو كبر السن مثلا-أو خصيا-أى مقطوع الخصيتين -فللزوجة أن ترفع الأمر إلى القضاء لطلب التفريق بينه وبينها، وإذا ثبت ذلك عند القاضى بأى طريق من طرق الإثبات أمر الزوج بتطليقها، فإن لم يطلقها ناب عنه القاضى فى تطليقها منعا للضرر الذى يلحقها -وهذا الطلاق يكون بائنا بينونة صغرى.
لكن التفريق مشروط بعدم علمها بحالته قبل الزواج، وبألا يوجد منها ما يفيد رضاها بالمكث معه بعد الزواج والعلم بحاله.
والتفريق بسبب الجب فى الحال لا يحتاج إلى ضرب أجل، وبسبب العنة يمهل الزوج سنة لعله يقوى بالعلاج أو بغيره على الجماع،وبسبب الخصاء يمهل الزوج سنة. والتفريق بسبب الجب والعنة والخصاء يعتبر طلاقا عند الحنفية والمالكية وأكثر العلماء.
هذا وإذا فرق بين الزوجة وزوجها العنين أو الخصى وكان قد خلا بها، فإنها تستحق جميع المهر، لأنها خلوة صحيحة وعليها العدة للاحتياط، وإذا كان مجبوبا وخلا بزوجته ثم فرق بينهما كان لها جميع المهر أيضا عند أبى حنيفة، ولها نصفه عند أبى يوسف ومحمد صاحبيه، وعليها العدة باتفاق الجميع بذلك للاحتياط. "الأحوال الشخصية للشيخ عبد الرحمن تاج ص 347 - 350 "(10/89)
وحم الحامل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رأيت فى بعض كتب الفقه أن من ضمن نفقة الزوج لزوجته إحضار ما تتوحم عليه أثناء الحمل. فهل هذا صحيح، وهل الوحم نفسه صحيح؟
الجواب
إن إنفاق الزوج على زوجته معروف أنه واجب والنصوص فيه كثيرة، وأهم أنواعها الطعام والكسوة والمسكن، وقد قرر بعض الفقهاء، ومنهم الشافعية، أن من المعاشرة بالمعروف التى أمر الله بها الأزواج توفير الكماليات لها مما تقض به العادة، وقد جاء فى حاشية الشيخ عوض على شرح الخطيب "الإقناع " لمتن أبى شجاع فى فقه الشافعية "ج 2 ص 190 " أنه يجب عليه لها فطرة العيد وكحك العيد وسمكه ولحم الأضحية وحبوب العشر والبيض فى خميس البيض وما تحتاجه عند الوحم.. .
إن من المشاهد أن الحامل إذا توحمت على شىء ظهر أثره فى تكوين الجنين بصور مختلفة، بل إنها إذا توحمت عليه أثناء رضاعة الطفل ظهر الأثر أيضا. وقد أنكر كثير من الباحثين ذلك. لكن شوهد أن بعض النساء تأتى بمولود فيه شبه بأحد الناس أو بأحد الحيوانات، دون أن يكون هناك اتصال جنسى بينهما، أو اتصال بنسب ينحدر منه هذا الشبه، فهل يمكن أن يقال: إن التأثرات النفسية العصبية قد تكون بمثابة رسل أو وسائط توصل هذه الانطباعات إلى جسم الجنين أو الرضيع عن طريق اللبن؟ .
رأيت فى سفر التكوين "إصحاح 30" ما يبين قدم هذه الظاهرة ومحاولة استغلالها وهى أن يعقوب وضع قضبانا من فروع الشجر مخططة فى مساقى الغنم، لتتوحم عليها وتلد أغناما مخططة. فليتأمل.
وهذا يؤيد الرأى القائل: إن الصفات المكتسبة تورث إذا أثرت تأثيرا عميقا فى الأغصاب والأحاسيس. وفى ذيل تذكرة داود الأنطاكى "ص 31 " أن شبه الولد بوالديه قد يكون من التخيلات والأوهام ساعة الاتصال الجنسى، أو من تخيلات الحامل زمن تخلق الجنين.
وتحدث العلماء عن حمل الغيرة، لأنها عبارة عن انفعال عصبى شديد يؤدى إلى حدوث انفعالات فى خلايا المخ -تؤثر بدورها على جزء منه يسمى " الهيبوتلاس " فتزداد إشارته العصبية الموجهة إلى الغدة النخامية فيزداد بالتالى إفرازها للهرمونات التى تساعد على حدوث التبويض "دكتور إسماعيل صبرى - الأهرام 27 / 12 / 1981 ".
كما تحدثوا عن الحمل الكاذب وأثره. فى تغيرات الجسم، يقول الدكتور أحمد زكى:
إن المرأة شديدة الرغبة فى الحمل أو شديدة الخوف منه تحدث لها أعراض الحمل وليس بها حمل، فينقطع حيضها ويثقل ثدياها، وتعرض لها فترة من الوحم والقىء ويكبر بطنها رويدا رويدا، كأن فيه جنينا ينمو شهرًا بعد شهر، ولو استمر ذلك الأمر حتى تبلغ أشهر الحمل لجاءها مخاض كاذب، بل استدعاء وطلق كالولادة غير أنها لا تلد شيئا.
كل هذا دليل على ما للحالة النفسية من أثر، لا على العقل الواعى فحسب ولكن حتى فيما لا إرادة فيه ولا وعى كهذه الأعراض "مجلة العربى يونية 1968 ص 139 ".
ويقول ابن القيم: الحجَّام يرى الخرَّاج فيشمئز منه فيخرج له مثله، ومداوى رمد يقشعر فيحصل له مثله، كالتثاؤب لمن يرى متثائبا "زاد المعاد - الاستفراغ بالقىء"، ويمكن الرجوع فى هذا الموضوع إلى الجزء الرابع من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام "ص. 27".
والخلاصة أن ظاهرة الوحم معروفة من قديم الزمان، والعلم يشهد لها. ومن المعاشرة بالمعروف أن يهيئ الزوج لزوجته الحامل ما تميل إليه نفسها أثناء فترة الوحم. لأن له تأثيرا على الجنين، وأن يهبىء لها الجو الذى يدخل على نفسها البهجة وبخاصة أثناء الحمل والرضاعة(10/90)
الشروط فى عقد الزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعض الحركات التحرريه للنهوض بالمرأة تتجه الآن إلى وضع قيود فى عقود الزواج تضمن للزوجة حقها وتساعدها على الإسهام بحرية فى تنمية المجتمع. فهل فى الشريعة الإسلامية ما يكفل للمرأة ذلك؟
الجواب
إلى جانب ما تقدم ذكره فى صفحة 351 من المجلد الثالث من هذه الفتاوى وكذلك فى صفحة 254 من المجلد الرابع، وفى صفحة 260 من المجلد الأول، وفى غير ذلك من المواضع التى تبين إنصاف الإسلام للمرأة والإشادة بدورها فى حياة الأسرة والمجتمع.
والضمانات التى تصون عن الانحراف فى الحقوق والواجبات - إلى جانب ذلك أقول:
1 -إن الجهل بالإسلام يؤدى إلى الانحراف فى كل شىء، وإلى التردى فى هواية التقليد الأعمى. ثم نسبة ذلك إلى الإسلام وهو منه برئ.
إن التشريع الإسلامى نظم العلاقة بين الرجل والمرأة مراعيا الاستعداد الطبيعى لكل منهما، والمهمة الأساسية التى خلقا من أجلها، والمكان المناسب الذى يباشر فيه كل منهما نشاطه، بروح التعاون والاشتراك فى المسئولية لصالح الطرفين ولصالح المجتمع.
3 -إن عدم الفهم الصحيح لهذا الإطار التعاونى ولإمكانات كل من الطرفين. يتيح الفرصة للتأثر بالآراء المتطرفة. ويحمل المرأة بالذات على النضال من أجل المساواة الكاملة بينها وبين الرجل، مع التغاضى عن التفاوت فى القدرات ونسيان شرف المهمة الأساسية المناسبة لها، وهذا يحول الرجل من شعوره بالحب نحو المرأة والعطف عليها لضعفها ورقتها، إلى الشعور بالكراهية والنفور، وإلى الغلظة والقسوة فى معاملتها، شأن كل عدوين يناضلان فى معركة حامية وجها لوجه.
وتنقلب الحياة الزوجية بالذات من السكن والمودة اللتين جعلهما الله آية من آيات حكمته ونعمة من أكبر نعمه فى خلق المرأة للرجل والتزاوج لتكوين أسرة مستقرة هى اللبنة الأساسية فى بناء المجتمع والخلية الأولى فى جسم الجنس البشرى المؤهل لتحقيق الخلافة فى الأرض - تنقلب إلى جحيم يصلاه كل منهما ويصلاه النسل والمجتمع كله.
وبهذا التحول فى الشعور نحو الطرفين سيكون أول من يكوى بناره هو المرأة التى بدأت المعركة وحاولت أن تصمد فيها على الرغم من شعورها بقسوة المعاناة، وحينئذ يصدق عليها المثل القائل: "على نفسها جنت براقش " وصدق الله إذ يقول: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} الطلاق: 1، ويقول: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} الفتح: 10، ويقول: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} الشورى:
35.
4 -إن خلق المرأة للرجل وعدم استغناء أحد منهما عن الآخر أمر ضرورى للتكاثر وبقاء الجنس البشرى، ضمن القانون العام الذى قال الله فيه {ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} الذاريات: 49.
5 -إن التناسل البشرى ليس كالتناسل الآخر يجتمع فيه أى ذكر مع أية أنثى وينتج عن ذلك نسل ضائع بينهما، بل إن هناك تنظيما للقاء بين الرجل والمرأة أساسه الزواج الشرعى الذى تحدد فيه الحقوق والواجبات بالنسبة لكل منهما وبالنسبة للنسل الذى ينتج عنهما، ومن هنا أبطل الإسلام، بل أبطلت كل الأديان السماوية، أى لقاء بين الرجل والمرأة لا تلزم فيه الشروط والقواعد التى جاء بها الدين.
والشروط الشرعية لصحة عقد الزواج معروفة. وأى إخلال بها يفسد العقد أو يعطى الفرصة لفسخه لمخالفته لحكمة الزواج وتكوين الأسرة.
6 -بعد هذا أقول: إن أى شرط فى عقد الزواج يتنافى مع حكمته أو مع نص شرعى أو أمر مجمع عليه يكون باطلا، وذلك لحديث "المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلال " رواه الحاكم وصححه بلفظ " المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك " ولحديث البخارى ومسلم "إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج ".
وقد اتفق العلماء على عدم الوفاء باشتراط ترك الوطء وترك الإنفاق والخلو من المهر، واختلفوا فى شرط الإقامة فى بلد الزوجة وألا يتسرَّى عليها أو لا يتزوج أخرى عليها.
إن اشتراط عدم زواج الزوج بزوجة أخرى ممنوع ولا يصح أن يفرضه الحاكم، ولأنه يؤدى إلى مفسدة بل مفاسد. ذلك أن المحتاج إلى زوجة أخرى، وشرط عليه الامتناع سيلجأ إلى أحد أمور كلها صعبة، إما الطلاق وإما الكبت والحرمان إن كان متدينا وإما الانحراف بالزنا إن لم يعصمه دين، وإما إلى الزواج العرفى الذى لا تقيم له الجهات الرسمية وزنا، وإما إلى التحايل لإيجاد مبررات كاختلاق عيوب فى زوجته قد يطول تحقيق هذا الاختلاق، مع ما فيه من كشف للأسرار والسوءات، فالمنع لا يحل المشكلة إن كانت مشكلة بل يزيدها تعقيدا "ج 6 ص 155 من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ".
يقول النووى: حديث الوفاء بالشرط هو فيما يقتضيه النكاح من نفقة وعشرة بالمعروف إلى آخره، لكن ما يخالف مقصود النكاح لا يجب الوفاء به كألاَّ يقسم لها-أى يعطيها نصيبها عند تعدد الزوجات - ولا يتسرى عليها-أى لا يتمتع بأمة يملكها- ولا يسافر بها، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل " رواه البزار والطبرانى عن ابن عباس وصححه، وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشروط مطلقا لعموم الحديث.
يقول ابن قدامة فى كتاب المغنى "ج 7 ص 448 - 451 " عن حكم الشروط فى النكاح ما ملخصة. هناك ثلاثة أنواع من الشروط:
الأول: ما يلزم الوفاء به، وهو ما يعود إلى الزوجة نفعه، مثل أن يشترط لها ألا يخرجها من دارها أو بلدها، فإن لم يف لها فلها الفسخ، فإن شرطت عليه أن يطلق ضرتها لم يصح الشرط، وقيل:هو شرط لازم، لأنه لا ينافى العقد، ولها فيه فائدة.
والثانى: ما يبطل الشرط ويصح العقد، كأن يشترط أن لا مهر لها، أو لا ينفق عليها، أو تشترط هى ألا يطأها، أو أن يكون لها النهار دون الليل، أو تنفق هى عليه فكلها شروط باطلة، أما العقد فهو صحيح.
والثالث: ما يبطل النكاح من أصله، كما لو اشترط تأقيت النكاح، أو أن يطلقها لوقت بعينه، أو أن يعلق النكاح على شرط، كأن يقول: إن رضيت أمها.
ومما أثر من اختلاف جهات النظر فى ذلك ما رواه الترمذى أن عمر رضى الله عنه قال: إذا تزوج الرجل المرأة وشرط لها ألا يخرجها من مصرها-بلدها-فليس له أن يخرجها بغير رضاها. ورفع رجل إلى عمر قضية زوجته التى شرط لها دارها، وعزم على الرحيل إلى أرض أخرى، فقال له: لها شرطها، فقال الرجل: هلك الرجال، إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها، إلا طلقت، فقال عمر: المؤمنون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم.
وعن على رضى الله عنه أنه سئل عن ذلك فقال: شرط الله قبل شرطها. أخرجه الترمذى أيضا. وابن حجر فى "فتح البارى ج 9 ص 124 " تحدث عن الشروط فى النكاح وقول البخارى: قال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط، وذكر قول الخطابى:
إن الشروط فى النكاح مختلفة، فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا، وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث -وهو: أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج - ومنها ما لا يوفى به اتفاقا، كسؤال طلاق أختها، ومنها ما اختلف فيه كاشتراط ألا يتزوج عليها أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله.
وذكر ابن حجر أن أحمد يقول: بوجوب الوفاء بالشروط مطلقا- وأن عمر تضادت الروايات عنه فى رجل شرط لامرأته ألا يخرجها من دارها، فمرة قال: المرأة مع زوجها ومرة قال:لها شرطها.
هذا بعض ما فى كتب الفقه، يتبين منه أن الاشتراط فئ عقد الزواج إذا كان ينافى مقصود النكاح فهو باطل، والبطلان إما للعقد وإما المشرط مع صحة العقد، أما ما لا ينافى مقصود النكاح مثل سفرها معه أو زيارتها لأهلها: فلا يبطل العقد، أما الوفاء به ففيه خلاف، قيل بوجوب الوفاء كما قال أحمد وقيل بعدم وجوبه كما قال الشافعى.
وإذا كان الفقهاء قد ضربوا أمثلة من واقع حياتهم وعصورهم فالأمثلة تختلف باختلاف البيئات والعصور، وينظر فيها على ضوء القواعد الأساسية القديمة المشار إليها فيما ذكر(10/91)
ماء الزنا لا حرمة له
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الإنسان لو زنى بامرأة فولدت منه بنتا يجوز له أن يتزوج هذه البنت وأنه من زنى بأخت زوجته حرمت عليه زوجته؟
الجواب
يقول النبى صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش وللعاهر الحجر" رواه البخارى ومسلم. جمهور الفقهاء على أن الزنا لا يثبت به نسب الولد للزانى، بل ينسب إلى أمه بالولادة، وعليه فيجوز للزانى أن يتزوج من البنت التى نتجت من زناه، ويرى الحسن البصرى أن الولد ينسب إلى الزانى، وتحمس ابن القيم لهذا الرأى قائلا: إن القياس الصحيح يقتضيه، فإن الأب أحد الزانيين، وهو إذا كان يلحق بأمه وينسب إليها وترثه ويرثها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زانية به، وشد وجد الولد من ماء الزانيين وقد اشتركا فيه واتفقا على أنه ابنهما-فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدَّعه غيره؟ فهذا محض القياس، وكان الشافعى يقول بذلك فى مذهبه القديم. أما فى الجديد فماء الزنا لا حرمة له ولا يثبت به نسب.
"زاد المعاد ج 4 ص 173 " وما بعدها وتفسير القرطبى ج 5ص114 " والأدلة والمناقشة متوفرة فيهما.
ومن زنى بأخت زوجته أو أمها أو بنتها لا تحرم عليه زوجته عند جمهور الفقهاء وعقد النكاح باق على صحته، لأن النكاح الذى يحرم ذلك هو النكاح القائم على العقد الصحيح، وليس مجرد الوطء، ولأن الزنا لا صداق فيه ولا عدة ولا ميراث، وقال به ابن عباس فى رواية وعن سعيد بن المسيب وعروه والزهرى فقد أجازوا أن يقيم الرجل مع امرأته ولو زنى بأمها أو أختها، قال ابن عبد البر: أجمع أهل الفتوى من الأمصار على أنه لا يحرم على الزانى تزوج من زنى بها فنكاح أمها أو أختها أجوز، أى أولى بالجواز. وقال الزهرى: قال على: لا يحرم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا زنى بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها، وقال به أحمد، وهو رواية عن مالك. ورواية عن ابن عباس لكن الرواية ضعيفة: ففى حديث أخرجه ابن أبى شيبة "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا بنتها" وإسناده مجهول كما قال البيهقى. وهؤلاء عمموا فى التحريم الخلوة والقبلة بشهوة " فتح البارى ج 9 ص 57 "(10/92)
القتال فى الإسلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى الحديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " فكيف يتفق هذا مع قوله تعالى " لا إكراه فى الدين "؟
الجواب
ليس المراد من الحديث أن القتال وسيلة من وسائل دخول الناس فى الإسلام، بل المراد أن الإسلام الذى يستدل عليه بالنطق بالشهادتين مانع من القتال، لا أنه غاية أو هدف له، ومثل ذلك قوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} التوبة: 29، فليس المراد أن إعطاء الجزية هو الهدف من القتال ولكنه مانع منه.
وإذا كان بعض الناس يفهم من الحديث أن الإسلام قد انتشر بالسيف فإن هذا الفهم غير صحيح. لأن العقائد لا تغرس أبدا بالإكراه، وذلك أمر معروف فى تاريخ الرسالات، قال الله تعالى على لسان نوح عليه السلام {أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} هود: 28، وقال تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} الكهف: 29، وقال تعالى: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس: 99، وقال تعالى {لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى} البقرة: 256، والنصوص والحوادث فى ذلك كثيرة.
وأين كان السيف فى مكة عندما أسلم السابقون الأولون؟ لقد كان موجودا ولكن كان عليهم لا لهم. وقد أثر عن عمر رضى الله عنه أن عجوزا جاءته فى حاجة فعرض عليها الإسلام فأبت، وتركها عمر وخشى أن يكون فى قوله - وهو أمير المؤمنين -إكراه لها، فاتجه إلى ربه ضارعا معتذرا: اللهم أرشدت ولم أكره، ثم تلا قوله تعالى {لا إكراه فى الدين} ويراجع فى رد اتهام الإسلام بأنه انتشر بالسيف كتاب " الدعوة الإسلامية دعوة عالمية "(10/93)
الجندى وأسرار الحرب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ماذا يفعل المجاهد الحريص على الجنة حينما يحيط به العدو ويخشى أن يقع أسيرا فى أيديهم وربما تكون معه أسرار تجعله حريصا على عدم حصول العدو على شىء منها بوسائل التعذيب الشديدة؟
الجواب
يجب على الجندى أن يبذل أقصى جهده فى الدفاع عن نفسه حتى لا يقع أسيرا، إلا بعد نفاذ كل وسيلة للخلاص من العدو، فإن أسر كان عليه أن يحافط على الأسرار الخطرة التى يضر إفشاؤها بمصلحة المسلمين، والكذب فى هذه الأحوال جائز، فإن الحرب خدعة كما ثبت فى الحديث، والإكراه يرفع المسئولية كما قال سبحانه {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} النحل: 106.
فليبذل غاية جهده فى الدفاع عن النفس وحفظ السر، والضرورات تبيح المحظورات، ولا يجوز أن يفكر فيما يفكر فيه بعض الناس من الالتجاء إلى الانتحار خوف التعذيب لاستخراج الأسرار، فإن ذلك محرم أشد التحريم، وتعذيبهم للأسير لإفشاء الأسرار أمر مظنون غير محقق، فربما لا يلجأ العدو إلى ذلك، فالانتحار من أجل ضرر مظنون غير محقق لا يجوز(10/94)
لقمان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل لقمان نبى أم ولى، وفى أى عصر كان يعيش؟
الجواب
يقول الله سبحانه {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} لقمان:
112، أنزل الله فى القرآن سميت باسم لقمان، ونصت الآية على أن الله سبحانه آتاه الحكمة، كما ذكرت ال وصيته لابنه، وذلك لأهميتها.
والخلاف فى نسبه ونشأته كبير، وليس لأى قول فى ذلك دليل قوى، فمثلا قال محمد بن إسحاق: هو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح، وهو آزر أبو إبراهيم، وقال السهيلى: هو لقمان بن عنقاء بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة، وقال الزمخشرى: هو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته، عاش ألف سنة وأدركه داود وأخذ عنه العلم، وقال الواقدى:
كان قاضيا فى بنى إسرائيل، وقال سعيد بن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر.
واختلف فى صنعته، فقيل كان خياطا، وقيل حطابا، وقيل: كان راعيا، وقيل: كان نجارا كما اختلف فى شكله فقيل: كان أسود مشقق الرجلين ذا مشافر، أى عظيم الشفتين وكل ذلك كلام لا دليل عليه يطمئن إليه القلب، لكن المهم أن نعرف هل كان نبيا أو وليا أى رجلا صالحا؟ .
المتفق عليه أن الله آتاه الحكمة وسجل وصيته فى القرآن إشادة بها وتقريرا لها، وجمهور العلماء على أنه كان وليا ولم يكن نبيا، وقال بنبوته عكرمة والشعبى لأنها هى الحكمة التى آتاها الله إياه، ولكن الصواب كما ذكره القرطبى فى تفسيره لل " ج 14 ص 59 " أنه رجل حكيم بحكمة الله تعالى.
ومهما يكن من شىء فلا يضرنا الجهل بذلك، والمهم هو الإقتداء بسيرته والأخذ بحكمته(10/95)
النحت والرسم والتصوير
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم التصوير والرسم والنحت؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: احيوا ما خلقتم ".
ورويا أيضا عن عائشة رضى الله عنها قالت: قدم علينا رسول صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة- الطاق فى الحائط يوضع فيه الشىء وقيل غيره -بقرام - ستر -فيه تماثيل. فلما رآه تلوَّن وجهه وقال لا يا عائشة، أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله " قالت: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين.
ورويا أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلم " قال " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تملثيل " وفى رواية البخارى (صورة) بدله (تماثيل) .
اختلف الفقهاء فى حكم الصور والتماثيل وإليك ملخص ما قيل:
أولا- حكم اقتنائها: اتفق العلماء على حرمة اقتنائها إذا كان الغرض منها العبادة أو التقديس، لأنها رجس والله يقول {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} الجج: 30 وإن لم يكن الغرض منها ما ذكر فهو حرام أيضا إذا توافرت هذه الشروط:
1 - أن تكون التماثيل تامة الأجزاء الظاهرية.
2 - ألا تكون هناك مصلحة تدعو إلى اقتنائها.
3- أن تكون من مادة تبقى مدة طويلة كالخشب والمعدن والحجر.
وذلك للأحاديث السابقة، ولسد الذريعة إلى عبادة الأصنام، وعدم التشبه بمن يحرصون على تقديسها، كما مزق النبى صلى الله عليه وسلم ثوبا فيه تصاليب، لأنها ترمز إلى عقيدة جعلها بعض الناس من أصول دينهم. وبمقتضى هذه الشروط يقال:
(أ) لو كان التمثال نصفيا أو نقص منه جز لو كان التمثال حيا لا يعيش بدونه كالرأس أو البطن، جاز اقتناؤه وإن كان ذلك مكروها. ونقل عن المالكية جواز اتخاذ التمثال التام إذا كان فيه ثقب فى مكان بحيث تمتنع معه الحياة حتى لو كان الثقب صغيرا، واشترط الحنفية والحنابلة فى هذا الثقب أن يكون كبيرا حتى يجوز اقتناؤه.
(ب) ولو كانت هناك مصلحة فى اتخاذ التمثال كلعب البنات أو كوسيلة إيضاح فى التعليم جاز ذلك، لان النبى صلى الله عليه وسلم أقر وجود العرائس عند عائشة كما فى الصحيحين. وعلل العلماء هذا بأن فيها تمرينا للبنات على المستقبل الذى ينتظرهن، وهو اسثشاء من عموم النهى عن الصور. وتوسع بعض العلماء فأجاز التماثيل التى تقام لتخليد ذكرى العظماء، وإن كان ذلك مكروها فى نظرهم، لأنه قد يجر إلى عبادتها، كما عبدت تماثيل (وَدّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر) وكانت فى الأصل لتخليد ذكرى قوم صالحين كما ورد فى الحديث، ولان الأوْلى فى تخليد العظماء أن يكون بالمنشآت المفيدة كالمدارس والمصحات.
(ج) ولو كانت التماثيل مصنوعة من نحو حلوى أو عجين فقد أجاز أصبغ بن الفرج المالكى اتخاذها.
وذكر القرطبى جواز ذلك عند تفسير قوله تعالى فى سبأ {يعملون له ما يشاء من محاريب وتملثيل. . .} .
ثانيا- حكم صنعها: اتفق العلماء على أن صنع هذه التماثيل حرام، وهو من الكبائر إذا قصد من عملها العبادة أو التعظيم على وجه يشعر بالشرك، وذلك للأحاديث السابقة، أما إذا لم يقصد بصنعها ذلك فيحرم إن كانت تامة وليس هناك غرض صحيح من صنعها، وكانت مادتها مما يطول بقاؤه عادة. وذلك لعموم الأحاديث الواردة فى النهى عنه، وقصر بعض العلماء الحرمة على ما قصد به مضاهاة خلق الله.
وبهذا يعرف أن صنع التماثيل الناقصة غير محرم وكذلك وسائل الإِيضاج وتماثيل الحلوى والعجين.
هذا هو حكم النحت، أما الرسم والنقش والتصوير للإنسان وكل ما فيه روح فهناك أربعة أقوال فى الصنع والاقتناء:
ا - التحريم مطلقا، سواء أكانت تامة أم ناقصة فى ظاهرها، وسواء أكانت مكرمة لكونها على ستار أو جدار مثلا أم ممتهنة لكونها فى بساط مفروش مثلا - وذلك لعموم النهى فى الأحاديث المتقدمة.
2 -تحريمها إذا كانت تامة لا ناقصة.
3- تحريم إذا كانت مكرمة غير ممتهنة 4 - جوازها مطلقا، وهو منقول عن القاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة السبعة.
على أنهم استثنوا التصوير الشمسى، لأنه حبس ظل بمعالجة كيماوية على نحو خاص، وليست فيه معالجة الرسم المعروفة.
هذا وأما تصوير ما لا روح فيه كالنباتات فلا مانع منه مطلقا، وهو من الفنون الجميلة التى لم يرد نهى عنها لذاتها.
وقد تمنع الصور الحية إذا كان فيها كشف لما أمر الله بستره، أو كان فيها إغراء أو قصد بها ابتزا أو نحو ذلك(10/96)
العجز عن الوفاء بالنذر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نذرت أن أذبح كبش إذا نجح ابنى، ولكننى لم أستطع أن أوفى بالنذر فماذا أفعل؟
الجواب
النذر تعهد بعمل طاعة ليست واجبة فتجب على الناذر، كصلاة ركعتين للَّه، وذبح شاة للفقراء، وقراءة القرآن، والواجب هو الوفاء بالنذر كما قال سبحانه {وليوفوا نذورهم} الحج: 29، وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " رواه البخارى ومسلم.
فمن نذر ذبح كبش إذا نجح ولده انعقد النذر ووجب الوفاء به، وليس الذبح مقيدا بوقت فهو فى ذمته ما دام حيا، والأولى التعجيل به كالدين، فإن لم يستطيع الوفاء به عند نجاح ولده فليكن فى أى وقت شاء، فإن وجوب الوفاء المطلق هو على التراخى، وذلك ما دام يرجى أن يجد ثمنه فى أى يوم من الأيام، كالمريض الذى أفطر فى رمضان عليه أن يقض ما دام مرضه يرجى شفاؤه.
أما إذا تأكد أنه لن يجد ثمن النذر أبدا -أو مرض مرضا لا يرجى شفاؤه لا يستطيع معه الوفاء بالنذر مثل من نذر أن يقرأ القرآن كله كل أسبوع، فله أن يتحلل من النذر، أى من الالتزام بالوفاء به، وذلك - يسمى بالحنث كالحنث فى اليمين، والكفارة هى كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام لا يشترط فيها التتابع، كما نص عليه القرآن الكريم فى المائدة، الآية: 89.
وكما جاء فى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " كفارة النذر كفارة يمين " قال النووى فى شرح هذا الحديث: اختلف العلماء فى المراد بهذا الحديث، فحمله جمهور أصحابنا - الشافعية - على نذر اللجاج - أى غير المجازاة أو المشروط بحصول شىء - فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة، وحمله مالك والأكثر ون على النذر المطلق، كقوله: علىَّ نذر، وحمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذور وقالوا: هو مخير فى جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة اليمين. (ج 11 ص 154) يقول الشوكانى فى " نيل الأوطار " ج 8 ص 256: والظاهر اختصاص الحديث بالنذر الذى لم يسم، وأما النذور المسماة إن كانت طاعة فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين، وإن كانت مقدورة وجب الوفاء بها، سواء كانت متعلقة بالبدن أو المال.
والذى أختاره بعد كل ذلك: أن صاحب هذا النذر عليه أن يذبح كبش فى أى وقت من الأوقات يتيسر فيه الحصول عليه ولو بعد سنين، أما إذا أراد أن يتحلل منه فعليه أن يكفر كفارة يمين على الوجه المذكور فى المائدة، وعليه أيضا أن يتوب من هذا الذنب، ويعزم ألا يعود إلى التورط فيما لا يقدر عليه(10/97)
الجن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيحا لعالم الجن، وهل يمس الإنسان بِشَرِّ؟
الجواب
1 -الجن -كما يقوك الدميرى فى كتابه "حياة الحيوان الكبرى" - أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة. لها عقول وإفهام وقدرة على الأعمال الشاقة.
2 - وهم خلق موجودون بالنصوص الثابتة فى القرآن والسنة، وبالإجماع، والعقل لا يحيل ذلك.
3- وهم أصناف، فقد روى الطبرانى بإسناد حسن عن أبى ثعلبة الخشنى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " الجن ثلاثة أصناف، فصنف لهم أجنحة يطيرون بها فى الهواء، وصنف حيَّات، وصنف يَحُلُّون ويظعنون " أى يمشون ويتحركون، وكذلك رواه الحاكم وقال: صحيح الإِسناد. وجاء فى حديث رواه ابن أبى الدنيا عن أبى الدرداء رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " خلق الله الجن ثلاثة أصناف، صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح فى الهواء، وصنف كبنى آدم، عليهم الحساب والعقاب ".
وإذا كان اسم الجن يطلق على الهوام المؤذية فيمكن فهم هذا الحديث بسهولة، وهو ما رواه مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم " نهى عن إرسال الأطفال بعد غروب الشمس إلى العشاء، لأن الشياطين تنبعث فى هذه الفترة. وكذلك ما رواه البخارى ومسلم عن أبى لبابة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجِنَان التى فى البيوت إلا الأبتر وذا الطُّفيتين، فإنهما اللذان يخطفان البصر ويطرحان أولاد النساء. والطفيتان - بضم الطاء - الخطان الأبيضان على ظهر الحية. والأبتر قصير الذَّنب. وقال النضر بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب، ولا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها " حياة الحيوان - للدميرى ".
4 - والجن مستترون، وقد يتشكلون بأشكال مختلفة، وتحكم عليهم الصورة كما قال العلماء، قال تعالى {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} الأعراف: 27. وقد تشكل شيطان فى صورة لص أراد أن يسرق من الصدقة التى كان يحرسها الصحابى، ولما أخبر النبىَّ به عرَفَه أنه شيطان رواه البخارى.
وهم من ذرية إبليس على المشهور، قال تعالى {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو} الكهف: 50.
5 - الجن مكلفون كالبشر ومحاسبون على أعمالهم كما يحاسب بنو آدم، وجاء ذلك فى القرآن الكريم فى مثل قوله تعالى {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم أياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا} الأنعام: 130، وقوله {سنفرغ لكم أيها الثقلان} الرحمن: 31، وقد ثبت أنهم سمعوا القرآن من النبى صلى الله عليه وسلم، وأن منهم من آمن ومنهم من كفر، قال تعالى {قل أوحى إلَّى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} الجن: 1، 2، وقال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستعمون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا. .
} الأحقاف: 25، وقال على لسانهم {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا} الجن: 11 وثبت فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم وتحدث معهم. ففى صحيح مسلم أنه قال " أتانى داعى الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن " وفيه أنهم سألوه الزاد فقال " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، تأخذونه فيقع فى أيديكم أوفر ما كان لحما وكل بَعْرٍ علَفٌ لدوابكم " ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه " فلا تستنجوا بهما فانهما طعام إخوانكم ".
6 -إن عدم رؤيتنا للجن إنما هو فى رؤيتهم على حقيقتهم، وقد يخص الله نبيه بأن يراهم كذلك أحيانا، وقد قيل: إنه لم يرهم فى أول الآمر ولم يحس بأنهم يستمعون القرآن منه، والله هو الذى أخبره بأنهم يستمعون، ثم بعد ذلك رآهم وكلمهم حين ذهب إليهم، إمَّا على حقيقتهم وإما بأشكال أخرى، وذلك ممكن لغير النبى صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكره فى رؤية أبى هريرة له وهو يريد أن يسرق من زكاة رمضان، وروى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن عفريتا من الجن تفلَّت عل البارحة يريد أن يقطع علىَّ صلاتى، فَذعْتُه - أى خنقته - وأردت أن أربطه فى سارية من سوارى المسجد، فذكرت قول أخى سليمان، فأطلقته " وجاء فى رواية مسلم قوله " والله لولا دعوة أخى سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة " كما جاء فى رواية النسائى بإسناد جَيد أنه خنقه حتى وجد برد لسانه على يده.
7 - إن إبليس أقسم حين طرد من الجنة أن يُغوى الناس أجمعين إلا عباد الله المخلصين، وقد حذرنا الله منه بمثل قوله تعالى {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} فاطر: 6،. وقوله تعالى {ألم أعهد إليكم يا بنى آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} يس: 60.
وثبت أن كل إنسان يُوَكَّل به شيطان يطلق عليه اسم القرين. ففى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن " قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال " وإياى، إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم، فلا يأمرنى إلا بخير ".
8- والشيطان كما يضر الأنسان بالإِغواء والفتنة، يمكنه أن يؤذيه بأى نوع من الأذى الحسى أو المعنوى، شأن الإِنسان مع الإِنسان، وإذا ثبت أن منهم الكافرين والمؤمنين، وأن منهم الطائعين والعاصين، كما جاء فى قوله تعالى {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} فإن العقل لا يحيل أن يؤذى الجن الإِنس بأى أذى، وليس هناك دليل صحيح يحيل هذا الأذى، فالجن قد سرق من الزكاة كما سبق وهو يشارك الإِنسان فى الطعام وغيره، ولذلك حثنا النبى صلى الله عليه وسلم أن نسَمِّى الله عند الأكَل وعند دخول البيت، بل عند إرادة اللقاء مع الزوجة.
9-واتقاء شره فى الوسوسة يكون بمثل ما جاء فى قوله تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} الأعراف: 200، كما يستعان عليه بقوة الإِيمان بالله والمواظبة على العبادة والسلوك الحسن، حتى يكون الإِنسان من عباد الله المخلصين، الذين نجأهم الله من سلطان إبليس.
10 -والمسألة التى يسأل عنها كثيرا هى: هل يستطيع الجن أن يلبس جسم الإِنسان ويصيبه بما يسمى الصرع؟ .
الجواب أنه لا يوجد دليل صحيح يمنع ذلك، وقال بعض الناس: إن ذلك ممنوع، لأن طبيعة الجن النارية لا يمكن أن تتصل بطببيعة الإِنس الترابية أو تلبسها وتعيش معها، وإلا أحرقتها، لكن هذا الاحتجاج مردود، لأن الطبيعة الأولى للجن والإِنس ذهبت عنها بعض خصائصها، بدليل الحديث السابق، فى إمساك الرسول للعفريت وخنقه وإحساسه ببرد لعابه على يده،، فلو كانت طبيعة النار باقية لأصابت يده الشريفة صلى الله عليه وسلم، ولاشتعل البيت والمكان والملابس نارا إذا أوى إليها الشيطان عندما لم يسم الإِنسان عند دخول البيت والأكل من الطعام.
وفى هذا يقول ابن القيم فى كتابه زاد المعاد فى " الطب ": الصرع، صرعان، صرع من الأرواح الأرضية الخبيثة، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثانى هو الذى يتكلم فيه الأطباء، فى سببه وعلاجه، وأما صرع الأرواح فأثمتهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية، لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدفع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها، ثم يقول ابن القيم: لا ينكر هذا النوع من الصرع إلا من ليس له حظ وافر من معرفة الأسرار الروحية. وأورد بعض الحوادث التى حدثت أيام النبى صلى الله عليه وسلم وأثر قوة الروح وصدق العزيمة فى علاجها، وأفاض فى النعى على من ينكرون ذلك(10/98)
القرعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قد تلجا بعض الجهات إلى عمل قرعة لتوزيع جائزة على بعض من قدموا عملا يستحق الجائزة، فهل هذا مشروع؟
الجواب
القرعة جائزة شرعا، لأنها تُعَينَ، لا تحرم ولا تحلل وهى معروفة من قديم الزمان، ومن حوادثها:
أ- القرعة فيمن يكفل مريم، كما قال تعالى {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} آل عمران: 44.
ب - القرعة فيمن يرمونه من السفينة التى ركبها يونس. فى قال تعالى {فساهم فكان من المدحضين} الصافات 141.
ج - صح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج عليها السهم سافر بها.
د - وروى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم عرض علي، قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم فى اليمين أيهم يحلف.
ط -جاء فى السنن ومسند أحمد أن رجلين تداعيا فى دابة ليس لواحد منهما بينة، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسهما على اليمين، أحبا أو كرها.
و وفيهما أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها فليستهما عليها ".
ز- وجاء فى السنن عن أم سلمة رضى الله عنها: أن رجلين اختصما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فى مواريث بينهما درست، ليس بينهما بينة، فقال "إنكم تختصمون إلى، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقض بينكم على نحو ما أسمع، من قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه،، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتى بها أسطاما فى عنقه يوم القيامة " فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقى لأخى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما عليه، ثم ليتحلل كل منكما صاحبه " الاسطام جمع سطام وهو حد السيف.
ح - وأقرع سعد بن أبى وقاص يوم القادسية بين المؤذنين " بدائع الفوائد لابن القيم " هذا، وهناك قرعة تجرى بين المتسابقين لأخذ جائزة، أو لإعطاء هدايا لمن يشترون بضاعة بثمن معين من محل تجارة، أو لأى غرض مباح، وهذه حلال لا حرمة فيها.
جاء فى تفسير القرطبى (ج 4 ص 86) أن القرعة أصل فى شرعنا لكل من أراد العدل فى القسمة، وهى سنة عند جمهور الفقهاء فى المستويين فى الحجة، ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه وردوا الأحاديث الواردة فيها وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التى نهى الله عنها، وحكى ابن المنذر عن أبى حنيفة أنه جوزها، وقال: القرعة فى القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس فى ذلك وأخذنا بالأَثار والسنة، قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وذكريا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن المنذر: استعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها.
وقد ترجم البخارى فى آخر كَتاب الشهادات " باب القرعة فى المشكلات " وقول الله عز وجل {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} وساق حديث النعمان بن بشير فى مثل القائم فى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة. وحديث أم العلاء الذىَ جاء فيه:
أن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه فى السكتى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين، وحديث عائشة: كان النبى إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها.
ثم يقول القرطبى: وقد اختلفت الرواية عن مالك فى ذلك أى فى القرعة بين النساء فى السفر فقال مرة بالقرعة لحديث عائشة، وقال مرة:
يسافر بأوفقهن له فى السفر ثم ذكر القرطبى حديث " لو يعلم الناس ما فى النداء - الأذان - والصف الأول - فى صلاة الجماعة -ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا " أى أجروا القرعة، والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة.
ثم تحدث عن رأى أبى حنيفة فى شأن زكريا وأزواج الرسول بأن القرعة كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز، قال ابن العربي: وهذا ضعيف لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفى عند التشاح - التنازع -ولا يصح لأحد أن يقول: إن القرعة تجرى مع موضع التراضى، فإنها لا تكون أبدا مع التراضى، بل تكون فيما يتشاح الناس فيه ويُضَنَّ به(10/99)
عقوبة السجن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن الحكم بالحبس أو السجن ليس فى الإسلام، فهل هذا صحيح؟
الجواب
فكرة العقوبة بالسجن معروفة قبل الإسلام، وفى القرآن الكريم ما يدل على أن عزيز مصر كان عنده سجن ودخله يوسف عليه السلام، ودخل معه فتيان دعاهما إلى توحيد الله " انظر سورة يوسف 36- 42 " وفيه أيضا أن فرعون الذى أرسل إليه موسى كان له سجن هدده بإدخاله فيه، {قال لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين} الشعراء: 29.
وفكرة السجن موجودة فى الإسلام ولم تكن أيام النبى صلى الله عليه وسلم بالمعنى المتبادر إلى الذهن من اتخاذ دار خاصة يوضع فيها من استحق عقوبة، ولم تكن كذلك أيام أبى بكر رضى الله عنه، ولكن كان هناك "حبس" بمعنى تعويق الشخص ومنعه من التصرف الحر حتى يقضى دينا وجب عليه، أو يرد حقا اغتصبه، وكان الذى يلازم المحبوس هو الخصم أو وكيله، ولهذا سماه النبى صلى الله عليه وسلم أسيرا، وروى أحمد أنه عليه الصلاة والسلام حبس فى تهمة، وكذا رواه أبو داود والترمذى والنسائى، قال الترمذى: حسن. وزاد هو والنسائى: ثم خلى عنه. والحاكم صحح هذا الحديث، وله شاهد آخر من حديث أبى هريرة يقوى حديث بَهْزَ بن حكيم الذكور. وجاء فى حديث أبى هريرة أن الحبس كان يوما وليلة استظهارا وطلبا لإظهار الحق بالاعتراف.
وروى البيهقى أن عبدا كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه، فحبسه النبى صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمة له " وهذا الحديث وإن كان فيه انقطاع فإنه روى من طريق أخرىَ عن عبد الله بن مسعود مرفوعا. والبخارى فى صحيحه جعل بابا بعنوان "باب الربط والحبس فى الحرم " قال ابن حجر فى شرح البخارى " فتح البارى ": كأنه أشار بهذا التبويب إلى رد ما نقل عن طاوس أنه كان يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغى لبيت عذاب أن يكون فى بيت رحمة.
ويقال إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه هو أول من اتخذ دار للسجن فى مكة، اشتراها من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، وكان ذلك بمعرفة عامله على مكة "نافع بن عبد الحرث الخزاعى" وقيل: إن أول مرن اتخذ دارا للسجن هو معاوية بن أبى سفيان: كما ذكره المقريزى "الخطط ج 3 ص 303 ". وكان القاضى شريح هو أول من حبس فى الدين.
ومن وقائع الحبس أيام عمر رضى الله عنه، أنه حبس الحطيئة الشاعر الهجاء لتطاوله على ابن بدر، عامل عمر، أو هدده بالحبس حتى تضرع له بقصيدة معروفة منها قوله:
ماذا تقول لأفراخ بذى مرخ * زغب الحواصل لا ماء ولا شجر * ألقيت كاسبهم فى قعر مظلمة * فاغفر عليك سلام الله يا عمر فعفا عنه.
وكذلك حبس أبا محجن الثقفى، لما جلده على السكر ونفاه إلى جزيرة فى البحر فهرب من الرجل الذى كان يصحبه، ولحق بسعد بن أبى وقاص وهو يحارب، فكتب عمر إلى سعد أن يحبسه، وبعد نفيه إلى رابغ وهروبه منها قبض عليه وسجن قرب القادسية أسفل قصر الإمارة، وتوسل إلى سلمى بنت حفصة زوجة سعد فأطلقته واشترك فى الحرب وأبلى بلاء حسنا ثم عاد إلى القيد، وفى النهاية أفرج عنه بعد توبته، وأيضا معن بن زائدة، أمر المغيرة بن شعبة بحبسه فى حادث تزوير فى أوراق رسمية، ولما هرب من السجن عاد إلى عمر تائبا وفى النهاية عفا عنه.
وعثمان بن عفان رضى الله عنه أقر عقوبة الحبس، ومن سجنائه جنائى بن الحرث الذى هجا بنى جرول.
ويلاحظ أنه لم يكن له مكان خاص، بل كان يسجن أحيانا فى السجن ودهاليز البيوت.
وأما على بن أبى طالب فيقال إنه حبس الغاصب وآكل مال اليتيم ظلما والخائن فى الأمانة، وخصص للسجن مكانا، وكان أولا من أعواد القصب، ثم بنى غيره محكما، ويقول البلاذرى والمسعودى: إن معاوية أربى على الخلفاء فى إعداد السجون والاهتمام بها.
ومن أنواع السجن النفى، لأنه فصل عن المجتمع الذى كان يعيش فيه المَنفِى، ومنه قوله تعالى فى جزاء المحاربين المفسدين {أو ينفوا من الأرض} المائدة: 33.
وقد قرر الفقهاء إيقاع الحبس على المشترك فى جناية حتى يفصل فيها، وكذلك أجازوا التعزير للردع وللديون حتى ترد، وللتأديب الذى يراه الحاكم، فالسجن الموجود الآن نوع من التعزيرات التى لم تحدد فى الإسلام لاَ كما ولا كيفا، بل ترك أمرها إلى القاضى ليقرر ما يراه مناسبا للجريمة أو المخالفة بوجه عام.
ونظرًا لبعض المعاملات القاسية التى تتخذ مع المسجونين الآن، رأى بعض العلماء عدم جوازه، رجوعا إلى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وخليفته أبى بكر، مع استبدال إجراءات أخرى به تضمن رد الحقوق إلى أصحابها ومنع الضرر عن الناس.
هذا، وقد تطورت السجون فى التشريعات الحديثة لدى بعض الدول، فجعلت كمؤسسة تربوية، يعامل فيها المسجون كمريض تدرس أحواله، ويعالج بطرق خاصة، لتجعل منه مواطنا صالحا بعد الانتهاء من مدة إحتجازة. والشوكانى فى نيل الأوطار "ج 9 ص 218 " يقول بعد بحث الموضوع " والحاصل أن الحبس وقع فى زمن النبوة وفى أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن فى جميع الإعصار والأمصار، من دون إنكار. وفيه من المصالح ما لا يخفى. . . " وأخذ يعدد هذه المصالح إلى أن قال. . وقد استدل البخارى على جواز الربط بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من ربط ثمامة بن أثال بسارية من سوارى مسجده الشريف، كما فى القصة المشهورة فى الصحيح. "يراجع نيل الأوطار ج 7 ص 160، قضايا عصرية للشيخ جاد الحق ج 5 ص 269 "(10/100)
على كرم الله وجهه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا إذا ذكر الإمام على بن أبى طالب قيل: كرم الله وجهه أو عليه السلام؟
الجواب
ذكر ابن كثير أنه قد غلب فى عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد على رضى الله عنه بأن يقال: عليه السلام، من دون الصحابة، أو كرم الله وجهه، وهذا وإن كان معناه صحيحا لكن ينبغى أن يسوى بين الصحابة فى ذلك، فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، والشيخان - أبو بكر وعمر- وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه. نقله السفارينى عنه " غذاء الألباب ج 1 ص 23 " ثم قال: قد ذاع ذلك وشاع وملأ الطروس والأسماع، قال الأشياخ: وإنما خص على رضى الله عنه بقول: كرم الله وجهه لأنه ما سجد إلى صنم قط، وهذا إن شاء الله تعالى لا بأس به.
هذا ما قيل، وقد يكون السبب غير ذلك، ولا يوجد سند صحيح لما يقال(10/101)
قتل الحيوان المريض لإراحته
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى قتل الحيوانات التى لا يؤكل لحمها إذا مرضت أو عجزت وأصبحت غير نافعة؟
الجواب
أخرج الشافعى وأبو داود والحاكم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا - أى إلى صلى الله عليه وسلم - وقال صحيح الإسناد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها " قال: يا رسول الله وما حقها؟ قال: " يذبحها ويأكلها ولا يقطع رأسها ويطرحها " نيل الأوطار ج 8 ص 142. فإذا كان قتل العصفور - وهو مأكول اللحم - لغير أكلها منهيا عنه فإن قتل ما لا يؤكل لحمه أولى بالنهى.
وقد نص الشافعية على أنه لا يجوز ذبح ما لا يحل أكله كالحمار الزَّمن - العجوز- ولو لإراحته عند تضرره من الحياة " حاشية الشرقاوى على التحرير ج 2 ص 459 " " كتاب الفقه على المذاهب الأربعة لوزارة الأوقاف ص 607 ".
وأرى أنه لو ذبح لأخد جلده والانتفاع به بعد دبغه فلا حرمة فى ذلك، لأنه ذبح لغرض مشروع. وكذلك لو قدم لحمه طعاما لبعض الحيوانات الموجودة فى حدائق الحيوان فلا مانع منه، لأن هذه الحدائق لها أغراض مشروعة، منها دراسة طبائع وأحوال الحيوانات المتوحشة التى لا يتيسر رويتها للكثيرين.
ومن ذلك أيضا اصطياد الحيوانات البرية للانتفاع بفروها أو عظامها أو أظلافها أو أى شىء منها. فهذه كلها أغراض مشروعة، يقتل الحيوان لها سواء أكان مريضا أم غير مريض، فالمنهى عنه هو القتل الذى لا فائدة منه، كاتخاذ حيوان أو طير غرضا للتسابق فى الرمى بالنبل أو الرصاص، ففى صحيح مسلم " لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا " وفيه أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا وهم يرمونه، وجعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم - فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه روح غرضا(10/102)
الصيد بالبنادق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى صيد الطيور المأكولة كاليمام والعصافير، وهل يحل أكلها إذا ماتت قبل أن تذبح؟
الجواب
(أ) روى البخارى ومسلم عن عدى بن حاتم أنه سأل النبى صلى الله عليه وسلم وقال: فإنى أرمى بالمعراض الصيد فأصيد. قال: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكل، وما أصاب بعرضه فلا تأكل) .
المعراض قيل هو السهم الذى لا ريش له ولا نصل، قيل هو خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها وشد لا يحدد، واختاره النووى تبعا لعياض. وقال ابن التين: المعراض عصا فى طرفها حديدة يرمى بها الصائد، فما أصاب بحده فهو ذكى فيؤكل، وما أصاب بغير حده فهو وقيذ. وخزق أى نفذ. وجاء بلفظ وخسق أى خدس.
(ب) وروى البخارى ومسلم أيضا عن عبد الله بن المغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، وقال: (إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين) الخذف أى الرمى بحصاة أو نواة بواسطة المخذفة وهى كالمقلاع.
(ج) وروى أحمد عن عدى أيضا أنه قال: يا رسول الله، إنا قوم نرمى، فما يحل لنا؟ قال: (يحل لكم ما ذكيتم، وما ذكرتم الله عليه وخزقتم فكلوا منه) .
(د) وروى أحمد مرسلا عن عدى عن النبى صلى الله عليه وسلم: (ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت) والبندقة تتخذ من طين وتيبس.
نستنتج من هذه الأحاديث ما يأتى:
1 - إذا أدرك المصيد حيا حياة مستقرة وذبح فهو حلأل بالاتفاق. واشترط التسمية أو عدم اشتراطها عند الذبح فيه خلأف بين الفقهاء، وهو يكون فى الصيد المذبوح وفى غير الصيد 0 2 -إذا مات الصيد قبل أن يذبح، وكان موته بشىء محدد كالسهم الذى يجرح أو يخترق، فهو حلال، واشترط بعضهم التسمية ولم يشترطها بعضهم عند إطلاق السهم.
3-إذا مات الصيد قبل أن يذبح وكان موته بشىء محدد أى لم يجرح ولم ينفذ كالحجر والبندقة فإن الجمهور يقول بحرمته، وعن الأوزاعى وغيرة من فقهاء الشام أنه يحل مطلقا كل صيد، سواء أكان بمحدد أم بغير محدد، ولكن النصوص تشهد لقول الجمهور.
والرصاص الذى يطلق من البنادق والمسدسات هل يعد كالسهم فيحل صيده؟ رأى جماعة أنه كالسهم لأنه يخترق جسم الصيد وينفذ منه بل هو أشد منه. وعلى هذا فيحل الصيد به، ورأى آخرون أن الرصاص ليس محددا جارحا كالسكين والسهم بل يقتل الصيد بثقله الشديد، وعلى هذا فلا يحل أكله.
وأختار أن الصيد بالرصاص يحل أكل ما صيد به، والأحوط أن يذكر اسم الله عند إطلاق الرصاص، خروجا من خلاف من أوجبه(10/103)
شعر الغزل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
الشعر الذى يتغزل فى النساء، منهى عنه، فكيف يسمعه النبى صلى الله عليه وسلم من كعب بن زهير؟
الجواب
كان من عادة الشعراء العرب أن يبدأوا قصائدهم بالغزل، وقد تكون القصيدة كلها قائمة عليه، وروت كتب السيرة أن كعب بن زهير ابن أبى سلمى لما قدم على النبى صلى الله عليه وسلم تائبا قال قصيدته التى جاء فيها:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول * متيم أثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين اذ رحلوا * إلا أغن غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض ذى ظلم اذا ابتسمت * كأنه منهل بالراح معلول ويقال: إن النبى صلى الله عليه وسلم أعجب بها والبسه بردته.
وثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم سمع الشعر فى المسجد من حسان بن ثابت، ودعا أن يؤيده الله بروح القدس كما رواه البخارى، وجاء فى الأدب المفرد للبخارى أنه عليه الصلاة والسلام استنشد عمرو بن الشريد من شعر أمية بن أبى الصلت، فأنشده مائة قافية، وروى أنه كان يستزيده عقب كل قافية بقوله:
هيه، كما رواه مسلم، وكاد أمية أن يسلم، أى فى شعره، كما رواه البخارى ومسلم. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن من الشعر لحكمة " كما رواه البخارى، وقال فى شعر لبيد بن ربيعة: أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل، كما رواه البخارى ومسلم 0 ومن الصحابة، غير حسان، قال الشعر عبد الله بن رواحة وغيره، ولم ينكر عليهم أحد.
وإلى جانب هذه النصوص التى تفيد جواز قول الشعر وسماعه، جاءت نصوص تفيد كذلك النهى عنه والتنفير منه، فقد روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لأن يمتلىء جوف رجل قيحا يريه خير من أن يمتلىء شعرا " معنى يريه يأكل جوفه ويفسده، مأخوذ من الورى، وهو داء يفسد الجوف. وروى البغوى من حديث مالك بن عمير السلمى أنه سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الشعر فنهاه عنه. وجاء فيه "فإن رابك منه شىء فأشبب بامرأتك وامدح راحلتك " 0 وفى الأدب المفرد اللبخارى حديث " أن أعظم الناس فرية الشاعر يهجو القبيلة بأسرها" وسنده حسن. وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ " أعظم الناس فرية رجل هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها " وصححه ابن حبان.
كذلك وردت فى الشعر نصوص تفصل حكمه، فقد أخرج أبو يعلى بإسناد جيد مرفوعا " الشعر كلام، فحسنه حسن وفى وقبحة قبيج " وقريب من هذا الكلام جاء عن عائشة وعبد الله بن عمر كما رواه البخارى فى الأدب المفرد، واشتهر عن الإمام الشافعى.
إزاء هذه المجموعات الثلاث من النصوص لم يقل العلماء بمدح الشعر مطلقا ولا بذمه مطلقا بل حملوا المطلق على المقيد، أو العام على الخاص، فقالوا: ما كان منه حسنا فهو حسن، وما كان منه قبيحا فهو قبيح، ويحدد الحسن والقبيح من الشعر قول ابن حجر فى فتح البارى "ج 13 ص 155 ": والذى يتحصل من كلام العلماء فى حد الشعر الجائز أنه إذا لم يكثر منه فى المسجد وخلا عن هجو وعن الإغراق فى المدح والكذب المحض والتغزل بمن لا يحل، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك.
وبناء على هذا يكون ما سمعه النبى صلى الله عليه وسلم من الشعر هو ما كان حسنا، وشعر كعب بن زهير وإن كان فيه تغزل فهو تغزل حلال. وقد تحدث العلماء فى الغزل الحلال، وخلاصة كلامهم: أن الشاعر إذا لم يقصد بالتشبيب امرأة معينة، أى كان مرسلا، أو اختلق لها اسما كسعاد وسلمى غير مقصود به معينة فهو جائز، فإن قصد به امرأة معينة وكانت على قيد الحياة فهو حرام إن كانت أجنبية عنه، لأنه يهيج إليها، كما يحرم وصف الخمر وصفا يغرى بها، وقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن تنعت المرأة المرأة لزوجها، أما غير الأجنبية كزوجته فقد اختلف العلماء فى حكمه، وأختار القول بجوازه، على ألا يتخذ الشعر ديدنا يقصر عليه أكثر أوقاته، فإن المواظبة على اللهو جناية، وكما أن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة كذلك بعض المباحات(10/104)
حكم التمثيل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم دراسة فن التمثيل واحترافه؟
الجواب
التمثيل هو تقليد أو حكاية لشخصيات ذات أحداث وقعت، أو أحداث متخيلة فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل. وهو أسلوب للتثقيف والترفيه. وليس هو الوسيلة الوحيدة لذلك حتى يتجاوز عما فيه من بعض السلبيات. فهناك القراءة والرحلات وغيرها.
وقد يكون التمثيل لشخصيات تاريخية يصور حياتها بالقول والفعل، أى بالكلمة والحركة، فإن كان صادقا شكلا وموضوعا، ويستهدف غرضا شريفا أعطى حكم الخبر الصادق، وهو الجواز، وإن كان غير صادق فى شكله كيفا أو كمًّا، أو فى موضوعه قولا أو فعلا أعطى حكم الخبر الكاذب وهو المنع، ولا يستباح هذا الكذب حتى لو كان الغرض صحيحا، فهو ليس من الضرورات التى تباح من أجلها المحظورات.
وإن كانت الشخصيات اختراعيه، كما هو الشأن فى القصص الذى لا يعنى شخصا معينا، وقد يكون على لسان بعض الحيوانات كما فى كتاب " كليلة ودمنة " فإن كان الهدف صحيحا، والمادة لا تحوى أمرا محظورا، والأداء نفسه يكون ملتزما بالآداب الإسلامية، ولم يؤد تعلمه أو احترافه إلى تقصير فى واجب أو ضرر بدنى أو عقلى أو مالى أو خلقى أو غير ذلك من الأضرار كان التمثيل حلالا، يستعان به على إبراز المعانى بصورة محسوسة كأنها حقيقية.
هذه قيود دقيقة لضبط التمثيل المقبول من غيره، والخروج على أى واحد منها يجعله ممنوعا بقدر ما يكون عليه الخروج من حرمة أو كراهة.
فلو كان الهدف منه استهزاء بشخصية محترمة، أو دعوة إلى مبدأ مخالف للدين والخلق، أو كانت المادة محرمة ككذب أو اختلاق حديث نبوى مثلا، أو كان الأداء غير ملتزم بالآداب كالتخنث وكشف المفاتن، وتشبه المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة، وكالقبلات بين الجنسين وما شاكل ذلك، أو أدى الاشتغال بالتمثيل إلى تقصير فى واجب دينى أو وطنى مثلا، أو أدى إلى فتنة أو ضرر لا يحتمل كان ممنوعا.
ولا يقال إن القبلات أو شرب المحرمات أو الرقص هو لتصوير حال بعض الناس وليس المراد من ذلك حقيقة ما يعمل، بل هو تمثيل. لا يقال ذلك لأن الغاية لا تبرر الوسيلة، والغاية يمكن التوصل إليها بطرق مشروعة، كحكاية الخبر بالأسلوب المقروء أو المسموع، كما فى الكتب المشحونة بالقصص وحكاية أحوال السابقين بكل ما فيها.
كما لا يقال إن هذه الأمور هى من وسائل الإيضاح، فوسائل الإيضاح المباحة موجودة وليس ذلك ضرورة كما قلنا، فحياة المسلمين بالذات قامت فى أزهى عصورها على الثقافة الأصيلة والترفيه الحلال، ولم تعرف تمثيلا رخيصا أو هابطا كما يشاهد فى هذه الأيام.
هذا فى تمثيل الشخصيات العادية، أما فى تمثيل الرسل والصحابة فقد مر حكمه(10/105)
المخدرات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل المخدرات التى اكتشفت بعد الخمر تعطى حكمها؟
الجواب
من المعلوم من الدين بالضرورة أن الخمر المتخذة من عصير العنب محرمة ومن أكبر الكبائر، ويكفر مستحلها، ويحد شاربها، والنصوص فى ذلك كثيرة، منها قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} المائدة: 90، 91، وقوله صلى الله عليه وسلم " ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " رواه البخارى ومسلم.
والعلة أو الحكمة فى تحريمها صيانة العقل الذى كرم الله به الإنسان وجعله مناط التكليف، وبالتعدى على العقل أمكن التورط فى فعل المنكرات والاستجابة للشهوات كما نصت عليه الآية السابقة والحديث الذى رواه الحاكم وصححه " اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر " والذى رواه ابن حجات فى صحيحه " اجتنبوا أم الخبائث " وفيه أنها حملت على القتل والزنى.
ومن أجل خطورتها حرم الإسلام الاشتراك فيها بأى نوع من الاشتراك، وجاء فى ذلك حديث أنس ابن مالك رضى الله عنه قال "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشترى لها والمشترى له " رواه ابن ماجه والترمذى واللفظ له وقال: حديث غريب، أى رواه راو واحد فقط. قال الحافظ المنذرى: ورواته ثقات.
حتى الجلوس مع شاربى الخمر منهى عنه قال تعالى {وقد نزل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذا مثلهم} النساء: 140، وقد قرأ هذه الآية عمر بن عبد العزيز عندما أمر أن يُحَدَّ جماعة كانوا فى مجلس خمر، فقالوا له: إن فلانا لم يشرب لأنه صائم، فقال ابدءوا به، يقول القرطبى فى تفسير هذه الآية: فكل من جلس فى مجلس معصية ولم ينكر عليهم: يكون معهم فى الوزر سواء، فان لم يقدر على النكير عليهم فينبغى أن يقوم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
ومثل الخمر فى الحرمة كل ما اشترك معها فى مخامرة العقل أى تغطيته من أية مادة كانت، روى البخارى ومسلم عن عمر رضى الله عنه أنه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الخمر قد حرمت وهى من خمسة، من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.
والنبى صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر دون قصره على مادة معينة، روى البخارى أن أبا موسى الاشعرى رضى الله عنه سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن البِتْع والمِزْر، فقال " كل مسكر حرام " والبتع نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير. روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأشربة التى تنتبذ من العسل والذرة والشعير فأجاب " كل مسكر خمر وكل خمر حرام ". ويدخل فى ذلك المواد الطبيعية والمصنعة.
وتغيير اسم المشروب المسكر لا يغير من الحكم كما لا تغيره المادة المسكرة، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء، وقد ورد فى ذلك حديث رواه ابن ماجه وابن حبان فى صحيحه " يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات - المغنيات - يخسف الله بهم الأرض ويجعل الله منهم القردة والخنازير.
ويستوى فى الحكم كل وسائل التناول للمسكر، من شرب أو أكل أو شم أو تدخين أو حقن أو غير ذلك.
والحشيش، وإن كان لم يعرف فى العالم الإسلامى إلا حوالى القرن السادس أو السابع الهجرى عند ظهور التتار، إلا أنه كان معروفا فى التاريخ القديم فى الشرق والغرب ولما عرفه المسلمون ولمسوا آثاره طبقوا عليه عموم الحديث الذى حرم كل مسكر وكذلك عموم قول أم سلمة رضى الله عنها: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر ومفتر، كما رواه أبو داود فى سننه. فهو محرم إما بالنص وإما بالقياس، وقد نقل الإجماع على حرمته غير واحد من الأئمة، منهم القرافى وابن تيمية، وقد جمع بعض الباحثين القدامى نحو مائة وعشرين مضرة دينية وبدنية فى الحشيش، ولهذا أكد ابن تيمية حرمته وقال: إن مستحله يكفر، وصرح فى كتابه " السياسة الشرعية " بأنه أخبث من الخمر من جهة أنه يفسد العقل والمزاج حتى يصير فى الرجل تخنث، وهو داخل فيما حرمه الله ورسوله من اخمر والمسكر لفظا ومعنى. وابن القيم فى كتابه " زاد المعاد " قال: إن الخمر يدخل معها كل مسكر، مائعا كان أو جامدا، عصيرا أو مطبوخا.
وإذا كانت هذه المسكرات أو المخدرات أو المفترات محرمة كالخمر، فإن عقوبتها المنصوص عليها فى الأحاديث تشملها أيضا، وهى عقوبة أخروية شديدة، والقليل من المسكر حرام كما نص عليه الحديث الذى رواه النسائى وأبو داود وقال الترمذى: إنه حسن " ما أسكر كثيره فقليله حرام ". وفى رواية للنسائى " أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره " وإسناده صحيح.
فمن شرب المسكر - وهو مسلم بالغ عاقل مختار عالم بأنه مسكر وعالم بتحريمه -وجب عليه الحد، سواء سكر أم لا، والحد الأدنى فى العقوبة أن يجلد أربعين كما روأه مسلم من فعل النبى صلى الله عليه وسلم، وروى مسلم أيضا أن عبد الله بن جعفر جلد الوليد بين يدى عثمان وعلى يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، ثم قال: " جلد النبى صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعثمان ثمانين والكل سنة، وهذا أحب إلى " فإذا رأى الإمام أن يبلغ بالحد ثمانين فعل لما رواه مسلم عن عمر جعله ثمانين، وقال على لعمر: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفترى ثمانون، فأخذ به عمر ولم ينكره أحد 0 واتفق الصحابة على ذلك، فالعقوبة مقررة بصرف النظر عن الخلاف فى كون الحد أربعين وما زاد على ذلك فهو تعزيز.
والعقوبة لا تنفذ حال السكر حتى يحس بها، ولو نفذت حال السكر، قيل يعتد بها وقيل لا يعتد. " كفاية الأخيار ج 2 ص 116 ".
وعقوبة الحد مقررة لمن شرب الخمر، أما من تعاطى غيرها من المائعات أو الجوامد فعقوبته الحد كالخمر عند بعض العلماء ومنهم ابن تيمية، أو التعزير كما قال آخرون. مع مراعاة أن الحد لا يجوز العفو عنه، أما التعزير فيجوز، ومع مراعاة الخلاف فى أن التعزيز يصل إلى الحد أو لا يصل، وأجاز أبو حنيفة أن يصل، التعزير إلى حد القتل، تاركا تحديده لما يراه القاضى أو الحاكم حسب مقتضيات الأحوال(10/106)
اللقطة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ماذا يفعل الإنسان إذا وجد شيئا أو مالا، وقد أعلن عنه مرارا ولم يستدل على صاحبه؟
الجواب
هذا المال من اللقطة، وهى كل مال معصوم معرض للضياع لا يعرف مالكه، وهذه اللقطة يستحب التقاطها أى أخذها وقيل يجب، وذلك لصيانتها من التلف أو الضياع، وفى الوقت نفسه يجب على من التقطها أن يعلن عنها رجاء أن يعرفها صاحبها، والإعلام أو التعريف يكون لمدة يغلب على الظن أن صاحبها يبحث عنها، وذلك يختلف باختلاف قيمة اللقطة وأهميتها عند صاحبها. وجاء فى الحديث أن مدة التعريف بها سنة، فان جاء صاحبها وعرف علاماتها دفعها له، وإن لم يجىء بعد سنة حلَّ له أن ينتفع بها أو يتصدق بها، جاء فى صحيح البخارى وغيره أن رجلا وجد صرة فيها مائة دينار، فسأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "عرِّفها حولا " فعرفها حولا فلم يجد صاحبها فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم " احفظ وعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها " والوعاء هو الشىء الذى تكون فيها اللقطة كالصندوق والكيس، والوكاء هو الخيط الذى يربط به الكيس، والمراد تمييز هذه اللقطة حتى لا تختلط بماله وأمتعته. وإذا وجد الملتقط مشقة فى حفظها والإعلان عنها فليسلمها إلى الحكومة الأمينة التى عندها محل لهذه الأمانات لتتولى هى التعريف عنها والتصرف فيها. وإذا كانت اللقطة شيئا مأكولا يخاف عليه التلف لو حفظه الملتقط وعرَّف عنه جاز أكله، وقيل يضمن ثمنه لو طلبه صاحبه، وقيل لا يضمن. وإذا كانت شيئا تافها لا يسأل عنه صاحبه جاز الانتفاع به بعد تعريفه مدة تتناسب مع أهميته. روى أحمد وأبو داود أن جابر بن عبد اللَّه قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العصا والسوط والحبل وأشباهه، يلتقطه الرجل ينتفع به. هذا فى غير لقطة الحرم بمكة، أما لقطته فيحرم أخذها إلا لتعريفها، ولا يجوز تملكها أو التصرف فيها، ويمكن تسليمها لحكومة الحرم لتتولاها، ففى الحديث عن مكة " ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها "(10/107)
حلقات الذكر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى حلقات الذكر التى يبدو الناس فيها كأنهم يرقصون؟
الجواب
ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى ومسلم أنه قال " يقول اللَّه: أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم " وروى مسلم وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا يقعد قوم يذكرون اللَّه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم اللَّه فيمن عنده " وروى البخارى ومسلم حديثا جاء فيه " أن لله ملائكة سيارة يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وأن اللَّه قد غفر لهؤلاء الذاكرين ولمن جلس معهم " هم القوم لا يشقى جليسهم ". يؤخذ من هذا أن مجالس الذكر مشروعة، وأن الله يبارك أهلها ويرضى عمن يشارك فيها ولو بمجرد-الحضور دون ذكر، وقد قال المحققون: إن الذكر كأية عبادة لا يقبل إلا إذا كان خالصا لوجه الله، لا رياء فيه ولا سمعة، وإذا كان نابعا من القلب يعبر عنه اللسان، أما اللسانى فقط مع الغفلة عن معنى الذكر وعدم الإحساس بجلال من يذكره الذاكر فلا أثر له فى الوجدان والسلوك، والله وحده هو الذي يقدره، وكذلك إذا صحب الذكر أصوات صاخبة أو حركات خاصة تذهب الخشوع كان عبادة ظاهرية جوفاء خالية من الروح، ومثل ذلك يقال إذا كانت هذه المجالس تؤذى الغير كالمرضى المحتاجين إلى الراحة أو المشتغلين بمذاكرة علم أو عبادة أخرى، فقد روى أحمد عن أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتكف فى المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة وهم في قبة لهم، فكشف الستور وقال " ألا إن كلكم مناج لربه، فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءة"(10/108)
التداوى بالمحرم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم أذن لبعض المرضى أن يشربوا أبوال الإبل، وإذا صح فكيف يتفق ذلك مع قوله: لم يجعل اللَّه شفاء أمتى فيما حرم عليها؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن ناسا من قبيلة عُكْل أو عُريْنَة قدموا المدينة فمرضوا لعدم ملاءمة جوها لهم، فوصف لهم النبى صلى الله عليه وسلم " أن يخرجوا منها إلى المراعى وأن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، ففعلوا فصحت أجسادهم ". وروى مسلم عن طارق بن سويد الحضرمى أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم "إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها فقال " لا " فراجعه وقال: إنا نستشفى للمريض، فقال " إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء". وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها " وروى ابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى أم سلمة تَغلِى نبيذا لتداوى به ابنتها فقال " إن اللَّه تعالى لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها ". وروى الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " يا عباد الله تداووا، فان الله لم يضع داء إلا وضع له دواء " وفى رواية لأبى داود " فتداووا ولا تتداووا بالمحرم ".
وروى أيضا النهى عن الدواء الخبيث، والخمر أم الخبائث.
إزاء هذه النصوص تحدث العلماء عن التداوي بالمحرم، وبخصوص الخمر اتفق العلماء على أنه لا يجوز شربها إلا للضرورة القصوى كإنقاذ حياته من الموت لشدة العطش، أو من لقمة غُصَّ بها فى حلقه، ولا يجد شيئا حلالا أو أخف حرمة يرويه أو يمنع الغصة، وذلك قياسا على ما نص عليه من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها ثم قال تعالى فى الآية نفسها {فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} المائدة: 3، وهى الأصل الذى أخذت منه القاعدة المعروفة: الضرورات تبيح المحظورات. أما استعمال الخمر فى غير ذلك فالجمهور على منعه حتى لو تعينت الخمر ولا يوجد غيرها من الحلال، بناء على ظاهر الأحاديث التى نصت على حرمتها مطلقا، ولا يقاس التداوى بها على شربها للعطش أو الغصة، لأن فائدتها فيهما محققة، أما فى غيرهما فمظنونة غير مقطوع بها، وأجاز بعضهم التداوى بها عند الضرورة قياسا على أكل الميتة والدم ولحم الخنزير بشرط أن يخبر بذلك طبيب مسلم عدل، وألا يوجد دواء حلال أو شىء أخف حرمة يقوم مقام الخمر، سئل ابن تيمية عن التداوى بالخمر فقالع ما نصه: وأما التداوى بالخمر فإنه حرام عند جماهير الأئمة، كمالك وأحمد وأبى حنيفة، وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى. انتهى.
ولو خلطت الخمر بالماء أو أضيف المخدر إلى مادة أخرى فالتناول والتداوى حرام، أما العقوبة بالحد فتكون إذا غلب المخدر أو تساوى مع ما أضيف إليه، فإن كان أقل فلا يعاقب بالحد إلا عند السكر " مجلة الأزهر- المجلد الثالث ص 0 49، 91 4 ". أما التداوى بالنجس غير الخمر، وتناول النجس حرام، فقد قال العلماء: إنه لا يجوز إلا عند الضرورة، أما عند الاختيار وتوافر الدواء الحلال فلا يجوز. والحديث الذى ذكر أن الخمر ليست دواء ولكنها داء، وأن اللَّه لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها هو خاص بالخمر، أما المحرمات الأخرى فيجوز أن يكون فيها الشفاء ويمكن التداوى بها عند الضرورة، فقد روى ابن المنذر عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم " إن فى أبوال الإبل شفاء للذَّرِبَة بطونهم " أى الفاسدة معدتهم، ولعل ذلك لما ترعاه من الشيح والقيصوم ونباتات البادية التى تعالج بها بعض الأمراض، ومع ذلك لا يعالج بها إلا عند الضرورة، كما رخص الرسول صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام بلبس الحرير لوجود حِكَّة فى جسده. وكل هذا الخلاف في التداوى بالبول بناء على القول بنجاسته، وهو ما ذهب إليه الشافعى وغيره من القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلها، سواء أكانت من مأكول اللحم أم من غيره، محتجين بعموم الحديث الصحيح الذى أخبر عن عذاب الميت لأنه كان لا يستبرئ من بوله، ووضع الرسول على قبره جريدة لعل اللَّه يخفف بها من عذابه. لكن ذهب فريق من العلماء إلى أن أبوال الإبل وغيرها من مأكول اللحم طاهرة، وهو قول مالك وأحمد وطائفة من السلف، محتجين بهذا الحديث، وهو عام ليس خاصا بالقوم الدين مرضوا فى المدينة، لعدم الدليل على الخصوصية. وأرى أن التداوى بالخمر ممنوع فليس فيها شفاء، والحلال متوفر، أما المحرمات الأخرى فلا مانع من التداوى بها إذا لم يوجد الحلال أو ما هو أخف حرمة(10/109)
آكل لحم الآدمى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يدخل أكل لحم الآدمى فى حكم المضطر إلى التداوى بالحرام؟
الجواب
أثار القرطبى فى تفسيره " ج 2 ص 229 " مسألة قال فيها: إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولحم ابن آدم أكل الميتة لأنها حلال أى فى حال - والخنزير وابن اَدم لا يحل بحال، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، وهذا هو الضابط للأحكام، ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا - أى المالكية - وبه قال أحمد وداود، احتج أحمد بقوله عليه السلام " كسر عظم الميت ككسره حيا ". وقال الشافعى: يأكل لحم ابن آدم ولا يجوز له أن يقتل ذميا، لأنه محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرًا لأنه مال الغير، فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه. وشنَّع داود على المزنى- صاحب الشافعى - بأن قال:
قد أبحت أكل لحوم الأنبياء. فغلب عليه ابن سريج بأن قال: فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر. قال ابن العربى: الصحيح عندى ألا يأكل الآدمى إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه. وجاء فى " الفتاوى الإسلامية ج 10 ص 3711" قول الشيخ جاد الحق على جاد الحق: وفى جواز أكل لحم الآدمى عند الضرورة قال فقهاء الحنفية-على ما جاء فى الدر المختار للحصكفى وحاشية رد المحتار لابن عابدين فى الجزء الخامس -إن لحم الإنسان لا يباح فى حال الاضطرار ولو كان ميتا، لكرامته المقررة بقول الله تعالى {ولقد كرمنا بنى آدم} الإسراء: 70، وكذلك لا يجوز للمضطر قتل إنسان حى وأكله ولو كان مباح الدم كالحربى والمرتد والزانى المحْصَن، لأن تكريم الله لبنى آدم متعلق بالإنسانية ذاتها، فتشمل معصوم الدم وغيره، وبهذا أيضا قال الظاهرية بتعليل آخر غير ما قال به الحنفية. ويقول الفقه المالكى: إنه لا يجوز أن يأكل المضطر لحم آدمى، وهذا أمر تَعَبُّدى، وصحح بعض المالكية أنه يجوز للمضطر أكل الآدمى إذا كان ميتا، بناء على أن العلة فى تحريمه ليست تعبدية وإنما لشرفه، وهذا لا يمنع الاضطرار، على ما أشار إليه فى الشرح الصغير بحاشية الصاوى فى الجزء الأول. وأجاز الفقه الشافعى والزيدى أن يأكل المضطر لحم إنسان ميت بشروط منها: ألا يجد غيره، كما أجاز للإنسان أن يقتطع جزء نفسه كلحم من فخذه ليأكله، استبقاء للكل. بزوال البعض، كقطع العضو المتاَكل الذى يخشى من بقائه على بقية البدن، وهذا بشرط ألا يجد محرما آخر كالميتة مثلا، وأن يكون الضرر الناشىء من قطع الجزء أقل من الضرر الناشىء من تركه الأكل، فإن كأن مثله أو أكثر لم يجز قطع الجزء، ولا يجوز للمضطر قطع جزء من آدمى آخر معصوم الدم، كما لا يجوز للآخرأن يقطع عضوا من جسده ليقدمه للمضطر ليأكله. وفى الفقه الحنبلى: إنه لا يباح للمضطر قتل إنسان معصوم الدم ليأكله فى حال الاضطرار، ولا إتلاف عضو منه، مسلما كان أو غير مسلم، أما الإنسان الميت ففى إباحة الأكل منه فى حال الضرورة قولان، أحدهما لا يباح والآخر يباح الأكل منه، لأن حرمة الحى أعظم من حرمة الميت. قال ابن قدامة فى " المغنى " إن هذا القول هو الأولى.. ثم قال الشيخ جاد الحق فى " ص 3712 " ونخلص إلى أنه يجوز اضطراراً أكل لحم إنسان ميت فى قول فقهاء الشافعية والزيدية، وقول فى مذهب المالكية ومذهب الحنابلة، ويجوز أيضا عند الشافعية والزيدية أن يقطع الإنسان من جسمه فلذة ليأكلها حال الاضطرار بالشروط السابق ذكرها. كان هذا ما خلص إليه فى فتواه فى 5 من ديسمبر 1979 م، وفى فتواه فى 16 من يناير 1980 م قال بالنص: والذى نختاره للإفتاء هو قول الحنفية والظاهرية وبعض فقهاء المالكية والحنابلة القائلين بعدم جواز أكل لحم الآدمى الميت عند الضرورة لكرامته، والضرورة هى دفع الهلاك وحفظ الحياة(10/110)
العلاقة بين المسلم وغيره
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى حدود المعاملة بين المسلم وغيره أو كيف نظم الإسلام العلاقة عند اختلاف الأديان؟
الجواب
من المعلوم أن الناس مختلفون فى الرأى والعقيدة والسلوك بحكم طبيعتهم البشرية التى تخطىء وتصيب، قال تعالى {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} هود: 118، 119، وقد أمدهم اللَّه بهدى من عنده عرَّفهم فيه الخير ودعاهم إليه وعرفهم فيه الشر وحذرهم منه، وقال لآدم ومن معه حين أهبطهم إلى الأرض {فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} طه: 123، وأرسل إليهم الرسل تترى لينبهوهم إلى هذه الحقيقة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، حتى جاء خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فأكد ما دعوا إليه من العقائد الأساسية، وبيَّن أنه ليس غريبا عنهم فى هذه الدعوة، وقرر وجوب الإيمان بهم جميعا {لا نفرق بين أحد من رسله} البقرة: 136،. وكانت دعوة الإسلام عامة غير خاصة بزمان أو مكان، فهى لكل الناس، سواء منهم من كان على دين سابق ومن ليس على دين، قال تعالى {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاَخرة من الخاسرين} آل عمران: 85، وكان عرض الدعوة على ضوء قوله تعالى {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} آل عمران: 20، فليس هناك إكراه، لأن العقائد لا تغرس إلا بالاقتناع، وما على الرسول إلا البلاغ {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، الكهف: 28، {لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى} البقرة: 256، وحينما أرسل الرسول الكتب لدعوة الملوك والرؤساء عرض عليهم الإيمان ولم يلزمهم به، فإن أسلموا فبها، وإن أبوا طلب منهم الاعتراف بالوضع الجديد للإسلام وعدم التعدى عليه، ففى بعض الكتب {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} آل عمران: 64، وعندما خرجت قوافل الدعوة ومرت على جماعة عرضت عليهم الإسلام، فإن أسلموا فبها، وإلا طلبوا منهم عدم التعرض لمسيرتهم وتركوهم وما يدينون، وتعهدوا بحمايتهم وضمان حريتهم لقاء مقابل رمزى يطلق عليه اسم الجزية، وهؤلاء معاهَدون، فإن تعرضوا للمسلمين كانوا حربيين، يقاتلون ليفسحوا لهم الطريق، فإذا انتشر الإسلام فى إقليم أو دار أو جماعة وبقى بعضهم على دينه كانوا ذميين، لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات الاجتماعية مثل من يعيشون معهم من المسلمين.
يتبين من هذا أن غير المسلمين ثلاثة أصناف، صنف محارب، وضنف معاهد، وصنف ذمى، والمحارب لا نبدؤه بحرب ولكن نرد عليه إن حاربنا، وحربه ضرورة تقدر بقدرها قال تعالى {وقاتلوا فى سبيل اللَّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن اللَّه لا يحب المعتدين} البقرة: 190، وقال تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للَّه، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} البقرة: 193،. وهؤلاء تحرم مودتهم وموالاتهم ضد المسلمين كما قال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق} الممتحنة: 1، وقال أيضا {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللَّه فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم اللَّه نفسه وإلى الله المصير} آل عمران: 28،.
والمعاهد من لم يقبل الإسلام وتعهد بعدم حرب المسلمين، وهؤلاء يحترم عهدهم، لا يحاربون إلا إذا نكثوا العهد، قال تعالى {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} . التوبة: 7، وقال تعالى {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} التوبة: 12.
وحذر النبى صلى الله عليه وسلم من الغدر بهذا العهد وأمر المسلمين باحترامه، وهو الذى ردَّ أبا جندل وقد فر هاربا من أهل مكة وأسلم، لأن العهد فى الحديبية كان يقضى برده، وقال فى ذلك: " نفى لهم بعهدهم ونستعين اللَّه عليهم " وقال مثل ذلك فى أبى بصير، وقال فى احترام العهد " من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة لما رواه أبو داود، وعهد عمر لأهل إيلياء معروف، وفيه الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وعدم إكراههم على الدين وعدم الإضرار بهم.
والذمى هو من عاش بين المسلمين. فهو مواطن معهم، له ما لهم وعليه ما عليهم، ولا يأس بالتعاون مع الذميين على الخير ومن برهم ومجاملتهم فى الحدود المشروعة، كما كان اليهود فى المدينة أيام النبى صلى الله عليه وسلم، والمعاهدة معهم معروفة.
وفى هولاء وغيرهم من المعاهدين جاء الحديث الذى رواه البغوى " إن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذى فرض عليهم " وفيهم أيضا يقول اللَّه سبحانه {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} الممتحنة: 8، 9.
والنبى صلى الله عليه وسلم تعامل مع اليهود واقترض منهم الطعام، ولم يرض للمسلم أن يتعدى على اليهودى الذى فضَّل موسى عليه، ونهى عن تفضيله على الأنبياء، مع أنه أفضلهم، وذلك منعا للفتنة. وقال فى حديث رواه مسلم " الأنبياء إخوة من عَلاَّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه ليس بينى وبينه نبى " ورأى عمر يهوديا ضريرا يسأل، فجعل له من بيت المال ما يكفيه، وكتب للولاة بمعونة الذميين الفقراء، وكانت هذه المعاملة لغير المسلمين من منطلق أن الإسلام دين السلام، لا يبدأ أحدا بحرب ما دام مسالما، قال {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللَّه} الأنفال: 61.
وبخصوص أهل الكتاب من اليهود والنصارى أباح التزوج من نسائهم وأكل ذبائحهم ولا يقال: إن أخذ الجزية من أهل الذمة ظلم لهم أو جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، فإنها تقابل الزكاة التى فرضت على المسلمين، وكلتاهما لمصلحة المواطنين جميعا، وهى مفروضة بنسب بسيطة على الذكور القادرين فقط. وهناك حوادث كثيرة فى أيام الرسول وخلفائه، ونصوص وتشريعات كثيرة فى القرآن والسنة تدل على العدل والإنصاف والرحمة والسلام فى تعامل المسلمين مع غيرهم، وضعت فيها تآليف خاصة. جاء فى كتب الأحكام السلطانية للماوردى "ص 145 " أن عقد الجزية مع الذميين يشترط فيه شرطان، أحدهما مستحق والاَخر مستحب، وذكر أن المستحق فيه ستة شروط:
أحدها: ألا يذكروا كتاب اللَّه تعالى بطعن فيه ولا تحريف له.
والثانى: ألا يذكروا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتكذيب له ولا ازدراء.
والثالث: ألا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه. والرابع: ألا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح. والخامس: ألا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا لدينه.
والسادس: ألا يعينوا أهل الحرب ولا يودوا أغنياءهم، فهذه حقوق ملتزمة فتلزمهم بغير شرط، وإنما تشترط إشعاراً لهم وتأكيداً لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم. وتحدث الماوردى عن الأمور المستحبة التى تتعلق بالملابس والأبنية والنواقيس والمجاهرة بالمعاصى، وما يتعلق بالموتى ووسائل، الانتقال، وقال إنها لا تلزم حتى تشترط، ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم، لكن يؤدبون عليها زجرا، ولا يؤدبون إن لم تشترط، ثم تحدث عن كنائسهم إنشاءً أو تعميرا، ولو نقضوا العهد لم يستبح بذلك قتلهم ولا غنم أموالهم ولا سبى ذراريهم ما لم يقاتلوا، ووجب إخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنهم من أدنى بلاد الشرك، فإن لم يخرجوا طوعا أخرجوا كرها. وجاء فى كتاب " غذاء الألباب للسفارينى "ج 1 ص 12 كلام طويل عن التعامل معهم وموقف أحمد بن حنبل منهم لا داعى لذكره فيرجع إليه من شاء. إن عقد الذمة يجوز مع من يعيشون معنا فى بلاد الإسلام، كما يجوز مع من لا يقيمون فيها، فقد عقد الرسول عقدا مع نصارى نجران مع بقائهم فى أماكنهم وديارهم دون أن يكون معهم أحد من المسلمين(10/111)
سد الأسنان بالذهب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الإسلام فى استبدال الإنسان لبعض أسنان الفم التالفة أو المشوهة بأخرى مصنوعة من الفضة أو الذهب؟
الجواب
حشو الأسنان بالذهب أو الفضة أو عمل سنٍّ منهما جائز عند الضرورة إذا كان غير الذهب والفضة لا يفيد، ففى مسند أحمد أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب " حرب " فاتخذ أنفا من فضة فأنتن، فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن يتخذ أنفا من ذهب، وثبت أن كثيرا من الأئمة قد شد أسنانه بالذهب، مثل موسى بن طلحة وأبى رافع وإسماعيل بن زيد بن ثابت، ورخص فيه الحسن البصرى وأئمة الحنفية. جاء فى فتوى للشيخ حسنين مخلوف بتاريخ 18 نوفمبر 1946 ما نصه: فالحشو والغطاء والسلك من الذهب أو الفضة جائز، سواء أخذنا ما روى عن الإمام أحمد من إجازة اليسير منهما أو على مذهب الإمام محمد بن الحسن من أئمة الحنفية، أو أخذنا بجهة الضرورة المبيحة لاستعمالهما، والبلاتين ونحوه من المعادن غير الذهب والفضة لم يرد فيها ما يمنع جواز استعمالها. " الفتاوى الإسلامية ج 4 ص 1302، ج 10 ص 1710 " و " وغذاء الألباب للسفارينى ج 2 ص 174 "(10/112)
زرع الشعر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز لشاب مصاب بالصلع الشديد أن يجرى عملية زرع شعر أو يلبس شعرا مستعارا، أو يستخدم دهانات لتثبيت ونمو الشعر؟
الجواب
هذا العمل يدخل تحت حديث " لعن الله الواصلة والمستوصلة " وقد مر الحكم فى علميات التجميل، وخلاصته كما قال المحققون كابن الجوزى وغيره أن زرع الشعر إذا كان يدوم كالشعر العادى فلا غش فيه ولا خداع، أما إذا كان ينبت مؤقتا لمدة ثم يختفى فهو كالباروكة إن قصد به التدليس والغش عندما يريد الزواج مثلا، أوقصد به فتنة الجنس الاَخر للوقوع فى الإثم فهو حرام لا شك فيه. . أما إذا لم يقصد شيئا من ذلك فلا حرمة فيه(10/113)
الفيديو والتلفزيون والراديو
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم اقتناء الفيديو والتليفزيون والراديو ومشاهدة وسماع ما يذاع فيها؟
الجواب
هذه الأجهزة الحديثة كأى جهاز يستعمل فى الخير والشر، كالقلم نكتب به درسا علميا ونكتب به سبًّا وإشاعة، وكالكوب، تشرب فيه ماء وشرابا حلالا، وتشرب فيه شرابا حراما. ولهذه الأجهزة فوائد عظيمة إذا استعملت فى الخير تسجيلا أو إذاعة أو مشاهدة أو سماعا، وذلك إذا أمكن للإنسان أن يتحكم فيها، أما إذا لم يتمكن من التحكم فعلى من يذيعون ويعرضون أن يتقوا اللَّه ويختاروا ما هو أنفع وأجدى، وأن يبتعدوا عن كل ما يتنافى مع الدين والذوق، وعلى القاعدة المستقبلة لما يذاع ويعرض أن تنبه المسئولين عن البث إلى مراعاة ذلك، على ضوء قوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} النحل:
125(10/114)
الإطعام فى كفارة القتل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى كفارة القتل تحرير الرقبة، وعند العجز صيام شهرين متتابعين فما هو الحكم لو عجز عن الصيام؟
الجواب
قال تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من اللَّه، وكان الله عليما حكيما} النساء: 92. تفيد الآية أن كفارة القتل هى تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجدها القاتل أو لم يجد ثمنها انتقل إلى صيام شهرين متتابعين. هذا هو منطوق الآية، ولكن ما حكم ما لو عجز عن الصيام؟ اختلف الفقهاء فى ذلك فقال الحنفية والمالكية والشافعية فى الأظهر من مذهبهم، والحنابلة فى رواية: يثبت الصيام فى ذمته ولا يجب الإطعام كما يجب فى كفارة الظهار، وحجتهم فى ذلك أن اللَّه لم يذكر الإطعام ولو كان واجبا لذكره حيث لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما قالوا: إنه من المقادير، والمقادير لا تعرف إلا سماعا. وفى رواية عن أحمد والظاهر من مذهب الشافعية أنه يطعم ستين مسكينا، قياسا على كفارة الظهار وكفارة الفطر فى رمضان. وأرى أنه من المصلحة الأخذ بالرأى الثانى، ففيه تحقيق المقصود من شرعية الكفارة، وهو شعور الإنسان بخطئه فسنزجر عن معاودة الإثم، وذلك بالقياس على جريمة أخرى انتقل فيها العاجز عن الصيام إلى الإطعام(10/115)
الكبائر والصغائر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى بعض التعبيرات عن الذنوب بأن منها كبائر، فهل هناك من ضابط تميز به الكبائر عن الصغائر؟
الجواب
اختلف السلف فى انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، فذهب الجمهور إلى ذلك، ومنعه جماعة منهم الإسفرايينى، ونقله عن ابن عباس، وحكاه القاضى عياض عن المحققين. ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية. وحجتهم أن المخالفة بالنسبة إلى جلال اللَّه كبيرة على كل حال. أما الجمهور فحجتهم قوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} النساء: 31، وقوله تعالى {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} النجم: 32، وحديث تكفير الذنوب الوارد فى الصلاة والوضوء مقيد باجتناب الكبائر. وبهذا ثبت أن من الذنوب ما يكفر بالطاعات العامة ومنها ما لا يكفر بها، ولهذا قال الإمام الغزالى: إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه. ثم إن مراتب الصغائر والكبائر تختلف بحسب تفاوت مفاسدها، قال الطيبى: الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان، فلابد من أمر يضافان إليه، وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة والمعصية والثواب، فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا فهو من الصغائر، وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهى كبيرة، وأما الثواب ففاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة، فقد وقعت المعاتبة فى حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية. انتهى. قال النووى: واختلفوا فى ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا، فروى عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه اللَّه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصرى. وقال آخرون: هى ما أوعد اللَّه عليه بنار فى الآخرة أو أوجب فيه جزاء فى الدنيا.
يقول الشوكانى فى نيل الأوطار "ج 8 ص 222" وممن نص على هذا الإمام أحمد، ومن الشافعية الماوردى، ولفظه: الكبيرة ما أوجبت فيها الحدود أو توجه إليها الوعيد. وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخر، منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، وقال الحليمى: كل محرم لعينه منهى عنه لمعنى فى نفسه، وقال الرافعى: هى ما أوجب الحد، وقيل: هى ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة. وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كعقوق الوالدين، وأجيب بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة، أما العقوق مثلا فقد صح فيه حديث أنه من أكبر الكبائر. قال ابن عباس فى القواعد: لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بذنبه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها، قال الحافظ:
وهو ضابط جيد. هذا، وقد قال ابن عباس رضى الله عنهما: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار، والإصرار قيل هو التسويف، أى أن يقول:
أتوب غدا. وقيل هو الثبات على المعصية، وقيل هو أن ينوى ألا يتوب، وهو بالمعنى الذى قبله، وروى فى الحديث " لا توبة مع إصرار " القرطبى ج 4 ص 211". أما عدد الكبائر فمختلف فيه، وما جاء منها فى بعض الأحاديث فليس للحصر، وروى الطبرانى عن ابن عباس أنها إلى السبعين أقرب، ويمكن الرجوع فى ذلك إلى مقدمة كتاب الزواجر لابن حجر الهيتمى(10/116)
تحلية الخنجر بالفضة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض الرجال يعتزون بحمل الخناجر أو السيوف أو اقتنائها، ونرى على بعضها حلية من الفضة. فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
روى أبو داود والترمذى بإسناد حسن أن قبيعة سيف النبى صلى الله عليه وسلم كانت من الفضة. والقبيعة هى التى على رأس قائم السيف، وهى التى يدخل القائم فيها، وربما اتخذت من فضة على رأس السكين، وقيل: ما تحت شاربى السيف مما يكون فوق الغمد، فيجىء مع قائم السيف. والشاربان أنفان طويلان أسفل القائم، أحدهما من هذا الجانب والآخر من هذا الجانب. وقيل: قبيعة السيف رأسه الذى فيه منتهى اليد إليه، وقيل: قبيعته ما كان على طرف مقبضه من فضة أو حديد. وقال هشام بن عروة: كان سيف الزبير محلى بالفضة، أنا رأيته "المغنى لابن قدامة ج 8 ص 323 ". قال الأثرم: قيل لأبى عبد الله:
الحلية لحمائل السيف؟ فسهل فيها، وقال: قد روى: سيف محلى؟ ولأنه من حلية السيف فأشبه القبيعة، ولذلك يخرج فى حلية الدرع والمغفر والحوذة والخف والران، ولأنه فى معناه.
قال أحمد: قد روى أنه كان لعمر رضى الله عنه سيف فيه سبائك من ذهب.
وروى الترمذى بإسناده من مزيدة العصرى قال: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة. وقال: هذا حديث غريب.
ولا يباح الذهب فى غير هذا إلا لضرورة كأنف الذهب وما ربط به أسنانه إذا تحركت(10/117)
الرق فى نظر الإسلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تحدث القرآن والسنة عن ملك اليمين، ويعيب بعض الناس ذلك لأنه يتنافى مع كرامة الإنسان، فكيف نرد عليهم؟
الجواب
الرق فى نظر الإسلام موضوع درست أحكامه فى الكتب الدينية، وألفت فيه كتب خاصة اهتمت ببيان أصل مشروعيته وموقف الإسلام منه، والرد على الشبه المثارة حوله. والرقيق قوة بشرية كان لها أثرها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية قى الأزمان الغابرة، وجاء الإسلام فوجد الرق موجودا فى كل أنحاء الدنيا، وكانت وسائله متعددة، بعضها يقوم على الخطف والسرقة، فلم يشأ الإسلام أن يمنعه مرة واحدة حتى لا تكون هناك هزة، وهو فى الوقت نفسه ظاهرة موجودة عند كل الأمم عندما تقوم الحروب بينها ويقع فيها أسرى من الجانبين يساوم كل على فدائهم. فضيق الإسلام منابع الرق وحصرها فى الحرب المشروعة التى تقوم بين المسلمين والكفار، وكذلك فيما يتوالد من الأرقاء السابقين. وجعل ضرب الرق على الأسير بأمر الحاكم إن رأى فيه المصلحة. ثم وسع أبواب الحرية بالعتق قى مخالفات كثيرة، كالفطر فى رمضان والظهار والقتل والقسم أى الحلف وغير ذلك، كما حبب فى العتق بدون سبب موجب، ورغب فيه ترغيبا كبيرا، وإذا ضاق المنبع واتسع المصب كانت النتيجة قضاء على الرق بالتدريج. وفى المسافة التى بين الرق والعتق أمر الإِسلام بالإِِحسان إلى الرقيق، ونصوصه فى ذلك كثيرة جاء فيها التعبيرعن المملوكين بأنهم إخوان من ملكوهم، وهى إخوة فى الإِنسانية تقتضى الرحمة والحفاظ على كرامتهم، حتى كان عتق العبد كفارة عن ضربه وإهانته، ولعل هذه الطيبة قى معاملتهم تكون دعاية للإِسلام ومبادئه الإِنسانية العظيمة، على يد من يعتقون. وموقف الإِسلام بهذه الخطوات الثلاثة الحكيمة: تضييق منابع الرق، وتوسيع منافذ الحرية، والإِحسان إلى المملوك والترغيب فى عتقه - موقف شريف يزرى بالأساليب التى كانت موجودة قبل الإِسلام فى بلاد الحضارة، وبالأساليب التى اتخذها تجار الرقيق قى القرون الأخيرة لتعمير الأراضى المكتشفة، وحين اشتد التنافس بين الدول فى هذه التجارة قرروا الاتفاق على منعها، متذرعين - صدقا أو كذبا - بأنها منافية لكرامة الإِنسان، واستبدلوا به رقا آخر بالاستعمار وبسط النفوذ المسلمون من أول 17 والتحكم فى مصائر الشعوب الضعيفة، وكانت من وافقوا على منع هذه التجارة، وإن كانت له اَثار قليلة باقية. وفى النهاية نهتف مباهين بالإِسلام وتشريعه وأسلوبه فى معالجة المشكلات، مؤمنين حقا بقول اللَّه سبحانه {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء: 107، والموضوع كل موجود فى رسالتى "الرق فى نظر الإسلام "(10/118)
دار الإسلام ودار الحرب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المقصود بدار الحرب، ومتى يطلق على منطقة بأنها دار حرب، وهل تقام فيها الحدود؟
الجواب
جاء فى كتاب " بيان للناس من الأزهر الشريف، ج 1 ص 248 " أن تقسيم البلاد إلى دار كفر وإسلام أمر اجتهادى من واقع الحال فى زمان الأئمة المجتهدين، وليس هناك نص فيه من قرآن أو سنة. والمحققون من العلماء قالوا: إن مدار الحكم على بلد بأنه بلد إسلام أو بلد حرب هو الأمن على الدين. حتى لو عاش المسلم فى بلد ليس له دين أو دينه غير دين الإسلام، ومارس شعائر دينه بحرية فهو فى دار إسلام، بمعنى أنه لا تجب عليه الهجرة منها. وذكر المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة فى رسالة عن نظرية الحرب فى الإسلام " ص 38" رأيين للفقهاء فى دار الإسلام ودار الحرب. ثم اختار رأى أبى حنيفة وهو: أن مدار الحكم هو أمن المسلم، فإن كان اَمنا بوصف كونه مسلما فالدار دار إسلام وإلا فهى دار حرب. وقال: إنه الأقرب إلى معنى الإسلام، ويوافق الأصل فى فكرة الحروب الإسلامية وأنها لدفع الاعتداء. انتهى. وبخصوص الحدود قال فريق من الفقهاء منهم أبو حنيفة: إذا غزا أمير أرض الحرب فإنه لا يقيم الحد على أحد من جنوده فى عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبه ذلك، فيقيم الحدود فى عسكره، وحجتهم أن إقامتها فى دار الحرب قد تحمل المحدود على الالتحاق بالكفر. وقد نص على عدم إقامتها أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعى وغيرهم، وعليه إجماع الصحابة. وكان أبو محجن الثقفى لا يطيق الصبر عن شرب الخمر، فشربها بالقادسية فحبسه أمير الجيش سعد بن أبى وقاص وأمر بتقييده، ثم طلب من امرأة سعد أن تطلقه ليشترك فى المعركة وتعهد بالعودة إلى الحبس، وكان ذلك، ولما عرف سعد بلاءه فى الحرب عفا عنه فتاب عن الحمر. ورأى جماعة آخرون عدم الفرق بين إقامة الحدود فى دار الإسلام وغيرها، ومنهم مالك والليث بن سعد.
وبعد، فهذا سؤال تقليدى عن الحدود قضت به ظروف كان المسلمون فيها أصحاب قوة وسلطان يفتحون البلاد بالإسلام، فهل يمكن فى ظروفنا الحاضرة أن يكون لنا هذا الوضع؟ هذا، ويثار هنا سؤال عن حكم إقامة المسلم فى بلاد المشركين، ورأى الإسلام فى الجاليات الإسلامية. روى أبو داود والترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " أنا برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ". وهذا الحديث يلتقى مع الآيات التى تحث على الهجرة من مكة إلى المدينة، وتنعى على من يستطيعون الهجرة ولا يهاجرون، ومنها قوله تعالى {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} النساء: 97،. والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، لكن هل هى واجبة أم مندوبة؟ قال العلماء: إن خاف المسلم على دينه وخلقه أو على ماله وجب أن يهاجر، وإن لم يخف لم تجب الهجرة، وتكون سنة. لكن قال المحققون: إذا وجد المسلم أن بقاءه فى دار الكفر يفيد المسلمين الموجودين فى دار الإسلام، أو يفيد المسلمين الموجودين فى دار الكفر بمثل تعليمهم وقضاء مصالحهم، أو يفيد الإسلام نفسه بنشر مبادئه والرد على الشبه الموجهة إليه - كان وجوده فى هذا المجتمع أفضل من هجره، ويتطلب ذلك أن يكون قوى الإيمان والشخصية والنفوذ حتى يمكنه أن يقوم بهذه المهمة.
وقد كان لبعض الدعاة والتجار فى الزمن الأول أثر كبير فى نشر الإِسلام فى بلاد الكفر " انظر الجزء الأول من كتاب بيان للناس من الأزهر الشريف "(10/119)
حد عمر لابنه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ضرب عمر ابنه بسبب الخمر حتى مات؟
الجواب
هذه الحكاية تتردد كثيرا على ألسنة المتحدثين عن عدالة عمر ابن الخطاب رضى الله عنه وعدم محاباته فى تطبيق الشريعة، وسيدنا عمر- وإن كان معروفا أنه يمثل العدالة فى أسمى معانيها أو يكاد، إلا أنه وكذلك كثير من المشهورين فى التاريخ - قد نسبت إليه أمور لم يصح سندها، يحكيها الناس توكيدا لعدله.
ونشرت فى مجلة إسلامية فتوى حول هذا الموضوع جاء فيها: إن أبا الفرج عبد الرحمن بن الجوز ذكر فى كتابه " سيرة عمر بن الخطاب " أن عبد الرحمن بن عمر ومعه أبو الروعة عقبة بن الحارث، وهو من أهل بدر، كانا فى مصر وشربا نبيذا، وظنا أنه لا يسكر، فسكرا، وكان يكفيهما الإحساس بخطئهما والتوبة إلى اللَّه، غير أنهما غضبا للَّه على أنفسهما، فذهبا إلى عمرو بن العاصى وهو والى مصر، وطلبا منه إقامة الحد عليهما. وقد كان عبد الله بن عمر سمع أن أخله شرب، ثم علم أنه رفع أمره إلى عمرو بن العاصى، فذهب معه وشهد إقامة الحد عليهما فى دار عمرو. ثم سمع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إلى عمرو خطابا شديد اللهجة، يذكر فيه محاباته لابنه، حيث لم يقم الحد عليه فى مكان عام مكشوف، كما يقام على غيره من عامة الناس، وطلب منه أن يرسله إليه بالمدينة فى ثوب خشن،1717 أوعلى مركب خشن فلما حضر مع أخيه عبد الله وسأله عمر عما حدث: أقر واعترف فغضب منه وضربه وعبد الرحمن يستغيث وهو لا يرحمه، ثم حبسه بعد أن انتهى من ضربه، ثم مرض عبد الرحمن ومات. وأخرج الديلمى فى كتابه " المنتقى " كما حكاه صاحب " الرياض النضرة " أن حادثة الحد كانت عن زنى عبد الرحمن بجارية فى حائط - بستان - بنى النجار، وكان سكران من خمر شربه عند يهودى اسمه "نسيك " كما نقله الشبلنجى فى كتابه " نور البصائر والأبصار ". والكتب الصحيحة لم تشر إلى هذه الحادثة، وقد قال ابن الجوزى فى كتابه: إن عمر لم يقم الحد على ابنه، فإن ضربه ليس حدا، بل غضبا وتأديبا، لأن الحد لا يتكرر، ثم يقول: وقد أخذ هذا الحديث قوم من القصاص فبدأوا فيه وأعادوا، فتارة يجعلون هذا مضروبا على شرب الخمر، وتارة على الزنى ويذكرون كلاما ملفقا يبكى العوام لا يجوز أن يصدر عن مثل عمر، وقد ذكرت الحديث بطرقه فى كتاب "الموضوعات " ونزهت هذا الكتاب عنه " ص 167 ". وأرى أن مثل هذه الأمور التى تمس الشخصيات الكريمة ينبغى أن يحتاط فى الحديث عنها مهما كان الغرض من الحديث، وبخاصة الخلفاء الراشدون الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهديهم(10/120)
الحدود زواجر أم جوابر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا أقيم الحد على الزانى، هل هذا الحكم يكفى لمحو الذنب عنه أم أن الله يعاقبه عليه فى الآخرة؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن عبادة بن الصامت فى حديث المبايعة على عدم الشرك والسرقة والزنى والقتل أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " فمن وفى منكم فأجره على اللَّه، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فى الدنيا فهو كفارة له لما وروى مسلم حديث الجهنية التى أقيم عليها حد الزنى، وصلى عليها النبى صلى الله عليه وسلم وقال جوابا عن استفهام: " لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها للَّه " وروى الترمذى والحاكم وصححه حديث: " من أصاب ذنبا فعوقب به فى الدنيا فاللَّه أكرم من أن يثنى العقوبة على عبده فى الآخرة ". بناء على هذه الأحاديث رأى أكثر العلماء أن الحدود كفارات للذنوب أى جوابر لا يعاقب اللَّه عليها بعد ذلك، ولكن قال بعض التابعين والمعتزلة وابن حزم: الحدود زواجر لا جوابر، وعلى من أقيم عليه الحد أن يتوب إلى اللَّه توبة نصوحا حتى يكفر الله ذنبه. وتوقف جماعة فى الحكم بناء على حديث رواه الحاكم وقال عنه الحافظ ابن حجر: إنه صحيح على شرط الشيخين، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا أدرى: الحد كفارة لأهلها أم لا ".
ولكن الرأى الأول أرجح، لأن أدلته أقوى، وهذا كله فى الحق الخالص للَّه، الذى ليست له علاقة بحقوق العباد، أما ما فيه حق للعباد فمع الحد والتوبة لا بد من رد هذه الحقوق أو طلب العفو والتنازل عنها، فإن لم يفعل ذلك طالبه أهل الحقوق بحقوقهم يوم القيامة، وإن كان صادق التوبة فى الدنيا مع الله، وحاول رد الحقوق لأصحابها، أو طلب العفو منهم ولم يستطع فالمرجو من اللَّه - ورحمته واسعة - أن يطلب له العفو منهم، والله أعلم(10/121)
دهن الخنزير
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أكل ما طبخ يدهن الخنزير للضرورة، كان كان الإنسان فى الجيش أو فى طريق لا يوجد فيه أكل آخر؟
الجواب
شحم الخنزير كلحمه محرم لقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} المائدة: 3، فلا يجوز أكل اللحم أو الشحم أو ما طبخ به، وذلك بشرط الاختيار بأن يكون هناك طعام حلال آخر، ولم يكرهه على تناوله أحد. فإن لم يوجد إلا لحم الخنزير أو ما طبخ بشحمه، أو أكرهه على تناوله من هو أقوى منه جاز أكله، لأن هذه حالة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، بدليل قوله تعالى فى الآية نفسها {فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن اللَّه غفور رحيم} وحكم الاضطرار هذا راجع إلى جميع المحرمات المذكورة فى الآية. والمخمصة هى الجوع الشديد والتجانف هو تجاوز الحد الأدنى فى الأكل، أو هو العصيان فى السفر على اختلاف للفقهاء فى ذلك. فالآية تدل على تناول لحم الخنزير أو شحمه عند الضرورة بشرط ألا يزيد على ما يمسك الرمق، فإن الضرورة تقدر بقدرها. والحال الواردة فى السؤال وهى وجود الشخص فى الجيش، إن كان فى الجيش طعام آخر ليس فيه لحم أو شحم الخنزير، ويمكن الحصول عليه ولو بالشراء لا يجوز أكل الخنزير. فإن لم يوجد إلا هو ولا يمكن الحصول على غيره جاز له تناوله بقدر يسير. وكذلك من كان فى طريق لا يوجد فيه غير لحم الخنزير أو ما طبخ بشحمه، يجوز له أن يأكل منه بقدر الضرورة حتى يصل إلى مكان فيه طعام حلال(10/122)
الجهاد فى الإسلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى حكمة مشروعية الجهاد فى الإسلام؟
الجواب
الجهاد من الكلمات التى أُسىء استعمالها لعدم فهم معناها فهما صحيحا، فالجهاد مأخوذ من الجَهْد وهو التعب، أو الجُهد وهو القوة، فالمجاهد يبذل جُهْدا يحس فيه بِجَهْد، أي يبذل قوة يحس فيها بتعب، ومعنى الجهاد بذل الجهد لنيل مرغوب فيه أو دفع مرغوب عنه، يعنى لجلب نفع أو منع ضر، وهو يكون بأية وسيلة وفى أى ميدان حسى أو معنوى، ومنه جهاد النفس والشيطان وجهاد الفقر والجهل والمرض وجهاد البشر. والنصوص فى ذلك كثيرة، وجهاد البشر يكون بدفع الصائل المعتدى على النفس أو المال أو العرض، والميت فى هذا الجهاد شهيد كما صح فى الحديث، كما يكون الجهاد عند الاعتداء على الأوطان والحرمات، أو الوقوف ضد الدعوة إلى الخير. والجهاد فى سبيل الله عرف فى الشرع بما يرادف الحرب لإعلاء كلمة اللَّه، ووسيلته حمل السلاح وما يساعد عليه ويتصل به من إعداد وتمويل وتخطيط، ويشترك فيه عدد كبير من الناس، من زراع وصناع وتجار وأطباء ومهندسين وعمال ورجال أمن ودعاة وكُتَّاب، وكل من يسهم فى المعركة من قريب أو بعيد.
وكان هذا الجهاد هو الشغل الشاغل للمسلمين فى بدء تكوين المجتمع الإسلامى وأكثر آيات القراَن وأكثر الأحاديث كانت للأمر به والتشجيع عليه: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل اللَّه} التوبة: 41، وهو فرض عين على كل قادر عليه إن أغار علينا العدو، وفرض كفاية إن لم تكن إغارة علينا، وإذا استنفر الإمام القوة وجب الخروج، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض. . .} التوبة: 38، وحديث البخارى ومسلم " وإذا استنفرتم فانفروا " لقد كان هناك انتقال بالدعوة لنشرها فى ربوع العالم حيث يقوم بذلك جماعة من القادرين نيابة عن غيرهم ما دامت فيهم كفاية، وكل مسلم يجب أن يكون مستعدًّا لإجابة الداعى إلى الجهاد، وعليهم جميعا أن يكونوا على أقصى درجات الاستعداد {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. . . .} الأنفال: 60،. لكن: هل حمل السلاح هو الوسيلة الوحيدة لنشر الدعوة؟ إن مهمة حمل السلاح كانت لغرضين أساسيين، أولهما رد العدوان الواقع أو المنتظر، والثانى تأمين طريق الدعوة. ورَدُ العدوان ظهر فى غزوات بدر وأحد والخندق وغيرها، وكان عدوانا حقيقيا واقعا، ومنه إغاثة المظلومين: {وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر. . .
} الأنفال: 72، أما رد العدوان المنتظر فكان فى فتح مكة حيث نقضت قريش عهدها الذى أبرمته مع النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديبية، وفى غزوة تبوك وغيرها. وتأمين الطريق كان فى تحرك المسلمين خارج حدود المدينة لنشر الدعوة فى أنحاء العالم، لأنها دعوة عالمية للناس جميعا. إن الإسلام إذا كان قد فرض القتال، والرسول عليه الصلاة والسلام إذا أخبر أنه بعث بالسيف، وجُعل رزقه تحت ظل رمحه، كما رواه أحمد عن ابن عمر، فإن الواجب أن نفهم أن الإسلام أمر بالقوة، بل دعا إلى أن يكونوا فى أعلى درجاتها، والسبب فى ذلك أن الإسلام قوة جديدة فالمنتظر أن تحاربها القوات القائمة إذا ذاك حتى لا تزاحمها فى سلطانها، وذلك شأن الناس فى كل العصور، فلا بد من الدفاع عن الكيان الجديد ليثبت وجوده ويؤدى رسالته، ولو أن الإسلام كان دعوة محلية أو مؤقتة لكانت مهمة التسلح هى من أجل الدفاع، لكنه دعوة عالمية لابد أن تبلغ للعالم كله، والوسيلة إذ ذاك هى السفر والضرب فى الأرض، والسفر كان وما يزال تحفُّه المخاطر، فكان لا بد من التسلح حتى لا يقف الأعداء فى طريق الدعوة.
وإذا كان السيف لابد منه لتأمين طريق الدعوة فى الماضى، فإنه فى هذه الأيام لا مهمة له إلا الدفاع ضد من يريدون شرًّا بالإسلام وأهله، أما نشره فله عدة وسائل لا تحتاج إلى سفر ولا تخشى معه مخاطر لطريق، فالصحف والمكاتبات وما إليها أصبحت تتخطى الحدود، ولئن أمكن التحكم فيها إلى حد ما، فإن الإذاعات اليوم أصبحت من القوة والانتشار، بحيث لاحقت الناس وهم في بيوتهم وعلى أسِرّةِ نومهم لا تمنعها سلطة ولا تقف دونها حدود ولا أبواب. هذا، وما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة قبل الهجرة " أما والذى نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح " كما رواه الطبرانى- فهو حديث ضعيف يرده العقل والنقل، أما الأول فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يصرح بذلك فى بدء الدعوة وهو منفر لها لا مرغب فيها؟ وكيف يقوله وهو ضعيف لا يستطيع حماية نفسه فضلا عن حمايته لأتباعه القلة؟ ولماذا تركته قريش وهم يعلمون ما جاء به من الذبح ليحقق ما يريد، ولم يتغدوا به قبل أن يتعشى بهم؟ وأما الثانى فلمنافاته لآية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء: 107، وحديث " إنما أنا رحمة مهداة" رواه الحاكم والطبرانى، وما يماثله من نصوص وأحداث تدل على رقة قلبه وعظيم رحمته. ولو كان النبى صلى الله عليه وسلم متعطشا للدماء، وبخاصة من قريش ما عفا عنهم عند فتح مكة وهو القادر على الانتقام منهم، كما أن الحديث لا يراد به قهرهم على الإسلام فهو يتنافى مع طبيعة الدعوة. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم الذى رواه أحمد بسند صحيح " جُعل رزقى تحت ظل رمحى" أن رزقه من الغنائم التى يحصل عليها المسلمون من الحروب التى كان يباشر أكثرها بنفسه، وكفاية رئيس الدولة توفر من الخرينة العامة بمواردها المتعددة، ومنها الغنائم، وهو مبدأ إسلامى أقره الصحابة لأبى بكر وعمر والخلفاء. إن الفهم السطحى لمشروعية القتال بالآيات والآحاديث ربما يوحى بأن الإسلام قد انتشر بقوة السلاح، ولولا ذلك ما كان له وجود أو ما كان بهذه المساحة الكبيرة من الأرض، أو من نفوس الناس، وكيف يقال ذلك والإسلام دين الرحمة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو الذى قال {ادخلوا فى السلم كافة} البقرة: 208، {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللَّه} الأنفال: 61، " لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " رواه البخارى ومسلم. إن الدعوة الإسلامية للعرض لا للفرض، فما كانت العقائد تغرس بالإكراه أبدا، لا فى القديم ولا فى الحديث، والله يقول عن نوح {أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} هود: 28، ويقول لمحمد عليه الصلاة والسلام {أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس: 99، إلى غير ذلك من النصوص. وعندما أرسل النبى صلى الله عليه وسلم عليًّا لقتال يهود خيبر قال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ يعنى أرغمهم على الإسلام، فقال له " انفذ على رِسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإِسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللَّه فيه، فواللَّه لأن يهدى اُلله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَم " رواه مسلم. وإذا جاءت نصوص تدل بظاهرها على الأمر المطلق بالقتال فهناك نصوص أخرى تقيدها بما إذا كان ذلك ردًّا لعدوان وقع، أو جزاء على نكث العهد، أو منعا لعدوان سيحدث، قال تعالى {وقاتلوا فى سبيل اللَّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} البقرة: 190، وقال تعالى {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر} التوبة: 14، فيُقَيَّدُ بذلك قوله تعالى {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} التوبة: 36، وقوله {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} البقرة: 191، {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} البقرة: 193،. ولو جاءت نصوص تفيد فى ظاهرها أن القتال لأجل الإِسلام فالمراد أن القتال ينتهى لو أعلن الناس، الإِسلام، ويسر خوض المعركة أساسا من أجل أن يسلموا، وذلك مثل حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، فاذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه " رواه البخارى ومسلم، وكذلك قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللَّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية. . .} التوبة: 29، فلم يكن أخذ الجزية باعثا على القتال ولكن كان غاية ينتهى عندها إذا دفعوها، ويؤكد أن الغرض من القتال ليس مادة أن أبا عبيدة ردَّ على أهل المدن ما أخذه منهم جزية حين استدعوا إلى مقابلة الروم فى اليرموك، لأنها كانت فى مقابل حمايتهم، وحيث إنهم تخلوا عنها فلامعنى لبقائها فى حوزتهم كما ذكره أبو يوسف فى كتابه " الخراج ". هذا، ولعل الذين ينادون بالجهاد عن طريق حمل السلاح يقصدون الجهاد لتغيير الوضع الحالى للمجتمعات الإِسلامية، وقد قلنا: إن وسيلة الإِصلاح لن تؤمن عاقبتها إذا كانت قائمة على العنف، فإن للقوة إعدادها وتخطيطها الكبير الجبار، وكذلك لدراسة كل الظروف القائمة أهميتها فى القيام بمثل هذه الحركة، ولا يجوز أن يفهم من هذا أننا نهوشّ من شأن الجهاد بمعناه العام، فإنه ماض إلى يوم القيامة فى ميادينه الواسعة وبأساليبه المتعددة، لحديث " والجهاد ماض مذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل " رواه أبو داود، فإنه يدل بعمومه على بقاء الجهاد فى الميادين السلمية، ويدخل فيه الجهاد المسلح دخولا أوليا، وقد يرشح دلالته عليه بخاصة ذكر فتال الدجال بعد.
وإذا كان الجهاد مفروضا بالسلاح لتأمين طريق الدعوة والدفاع عن الحرمات، فذلك واضح فى الجهاد ضد الكفار، أما الجهاد بين الدول الإِسلامية فلا يجوز مطلقا أن يكون للعدوان على الحقوق، بل لرد العدوان، ولا يلجأ إليه إلا إذا فشلت كل الطرق السلمية، على حد قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله. . .} الحجرات: 9، وفى الدفاع يقول الحديث " من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد. " رواه أبو داود، ويُحَذر من العدوان على الأفراد أو الجماعات أو الدول بين المسلمين فيقول " إخا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار " قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال " كان حريصا على قتل صاحبه " رواه البخارى ومسلم(10/123)
الانتفاع بالمشيمة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل جمع فضلات الإنسان كالدم والشعر والسن والمشيمة لاستخراج مواد طبية منها حرام أم حلال؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى "ج 2 ص 102 " أن الحكيم الترمذى ذكر فى " نوادر الأصول " أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " قصوا أظافيركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقُّوا براجمكم، ونظفوا لثاتكم من الطعام، وتسنَّنوا ولا تدخلوا علىَّ فُخْرًا بخْرًا " (المحفوظ -كما فى تفسير القرطبى "ج 2 ص 154 " قُحْلاً وقلحا. والقُحل جمع أقلح وهو الذى اصفرت أسنانه حتى بخرت وأنتنت رائحتها والتسنن تنظيف الأسنان بالسواك.) ثم تكلم عليه فأحسن. وفى شرحه لدفن القلامات قال: إن جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم، فيحق عليه أن يدفنه، كما أنه لو مات دفن، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه، كيلا يتفرق ولا يقع فى النار أو فى مزابل قذرة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن دمه حيث احتجم كيلا تبحث عنه الكلاب.
ثم ذكر حديثا عن عائشة رضى اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بدفن سبعة أشياء من الإِنسان: الشعر والظفر والذم والحيضة والسن والقلفة والبشيمة.
لم يذكر سند هذا الحديث حتى يمكن الاستشهاد به، وقد تحدث العلماء عن دفن الشعر والظفر والدم فقالوا: إنه سنة، وجاء فى كتاب "غذاء الألباب للسفارينى ج 1 ص 382" نقلا عن " الإِقناع " أن الخلاَّل روى بإسناده عن مثل بنت بشرح الأشعرية قالت: رأيت أبى يقلم أظفاره ويدفنها ويقول: رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. وعن ابن جريج عن النبى صلى الله عليه وسلم كان يعجبه دفن الدم. وقال مهنا:
سألت أحمد ابن حنبل عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قلت: بلغك فيه شىء؟ قال: كان ابن عمر يفعله.
فدفن فضلات الإِنسان سنة: لتكريم الإِنسان بتكريم أجزائه، وللنظافة بمواراتها وعدم التلوث بها، وصونا لها عن استخدامها فيما يضر كما كان يفعله المشتغلون بالسحر واستخدام آثار الإنسان فى ذلك.
وقد ذكر ابن حجر فى أخذ معاوية لقصة الشعر أن دفنها ليس بواجب.
لكن لو لم تدفن هذه الأشياء فلا يعاقب عليها، لأن المكروه وهو مقابل السنة لا عقاب عليه.
ومحل ذلك إذا لم تكن هناك فائدة ترجى من وراء هذه الفضلات.
وبفضل التقدم العلمى أمكن الانتفاع بهذه الفضلات، وهذا أولى من إهدارها، وكما يقال: إذا وجدت المصلحة فثم شرع اللَّه، وذلك فيما لم يرد فيه نص قاطع ولم يعارض حكما مقررا.
ولذلك أرى أنه لا مانع من استغلال هذه الفضلات فى المنفعة(10/124)
الإنسان مسير أم مخير
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الإنسان مسير أم مخير؟
الجواب
الله سبحانه خلق الإنسان وعلم ما سيكون عليه من خير وشر، وجعله قابلا للطاعة والمعصية، وكلفه بأمور ينفذها وترك له الحرية في اختيار التنفيذ وعدم التنفيذ، ليكون محاسبا أمام اللَّه على ما فعله بحريته واختياره من طاعة أو معصية، والإنسان لا يعلم ما قدر له في علم اللَّه إلا بعد وقوع المقدر، ولو أقدم على فعل محرم متعللا بأنه مقدر عليه فهو مخطئ فى هذا التعلل، لأنه ربما يحول بينه وبين فعل المحرم حائل يمنعه، وهنا يعلم أنه لم يُقدر عليه.
فالإنسان مخير في الأمور التكليفية التى يستطيع فعلها أو تركها بحريته واختياره، أما الأمور التى لا تقع تحت حريته واختياره، كالكوارث العامة من الزلازل والبراكين والعواصف والسيول وغيرها فهو فيها مسير.
ثم أقول: لماذا يكثر السؤال فى هذا الموضوع، وبخاصة من يقول: إن المعاصى مقدرة علينا فلماذا نعاقب عليها ونحن مرغمون لا مفر لنا من القضاء والقدر؟ إن اللَّه سبحانه علم أن أبا لهب لن يؤمن بسيدنا محمد، ومع ذلك أمر اللَّه نبيه أن يطلب منه الإيمان، ليكون إيمانه وعدم إيمانه بحريته واختياره، فاختار أبو لهب الكفر، واستمر على ذلك حتى مات كافرا، وهنا علم تماما أن اللَّه سبحانه قضى في علمه أن أبا لهب سيختار الكفر ويموت عليه.
ثم أقول: لماذا يسأل الناس عن تقدير المعاصى لتبرير فعلها لأنها قضاء اللَّه حتى لا يعاقب عليها، ولا يسأل عن تقدير الطاعات، ويطالب بالثواب عليها، مع أن المعاصى والطاعات مقدرة فى علم اللَّه؟ إن الإنسان هنا فى الطاعات حريص على أن ينال الثواب على طاعته لأنها عمله. وفى المعاصى حريص على أن يفر من العقاب على معصيته لأنها ليست عمله - فى ادعائه -بل مقدرة عليه.
لا ينبغى أن يغالط الإنسان نفسه، فهو مسئول عن كل شيء فعله بحريته واختياره من خير أو شر، قال تعالى {كل امرئ بما كسب رهين} الطور:
21، وقال تعالى {كل نفس بما كسبت رهينة} المدثر: 38، إن الأمر لو كان كما يريد هؤلاء من تقدير كل الأمور علينا وعدم الحساب عليها ما كانت هناك حاجة إلى إرسال الرسل ولا إلى البعث ولا إلى الحساب ولا إلى الجنة والنار(10/125)
يأجوج ومأجوج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأت أن يأجوج ومأجوج خلقا من نطفة آدم التى امتزجت بالتراب، كما قرأت عنهم أمورا غريبة. والمرجو توضيح الحقيقة حتى لا تختلط بالخيال؟
الجواب
معرفة الحقيقة فى هذه الأمور لا تكون إلا عن طريق صحيح من القرآن والسنة، وكونهما من نطفة آدم المخلوطة بالتراب قول حكاه النووى فى شرح مسلم عن بعض الناس، وهو قول غريب لا دليل عليه من نقل أو عقل، ولا يجوز الاعتماد على ما يحكيه بعض أهل الكتاب من هذه الغرائب.
ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم كما ورد فى الصحيحين، وجاء فيهما أن الله يطلب من آدم أن يبعث بعث النار، ويقول: إن فيكم أمتين ما كانتا فى شىء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج. وجاء فى الصحيحين حديث: "ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا ". وذكر مسلم حديث خروجهم فى آخر الزمان وأن عيسى يدعو عليهم فيرسل اللَّه عليهم النغف -وهو دود يكون فى أنود الإبل والغنم -ثم يرسل الطير لتأكل جثثهم. .
وجاءت أحاديث موقوفة عن أشكالهم وإفسادهم عند الخروج لا يعتمد على كثير منها والخلاصة أنهم من خلق آدم، وكانوا موجودين أيام ذى القرنين، وسيخرجون آخر الزمان، وهذا القدر كاف فى معرفتهم، وما وراء ذلك لا داعى إليه، ولا يضر الجهل به، والاهتمام بغير ذلك مما يفيد واقع المسلمين الآن أولى، واللَّه أعلم.
وأما السد الذى أقامه ذو القرنين فسيذكر مع السؤال الخاص بذى القرنين(10/126)
المهدى المنتظر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يوجد تضارب كبير فى ظهور المهدى المنتظر فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
سنذكر كلمة موجزة عن المهدى المنتظر ملخصة من عدة كتب ومقالات قديمة وحديثة. فنقول:
ظهور المهدى فيه أربعة أقوال:
القول الأول:
أن المهدى هو المسيح ابن مريم عليهما السلام، ودليله حديث ابن ماجه، "لا مهدى إلا عيسى بن مريم " وهو حديث ضعيف، لتفرد محمد بن خالد به، ولورود أحاديث بوجود المهدى وصلاته مع عيسى ابن مريم تمنع الحصر الوارد فى هذا الحديث فى عدم وجود مهدى إلا عيسى.
على أن هذا الحديث لو صح لم تكن فيه حجة، لأن سيدنا عيسى عليه السلام أعظم مهدى بين يدى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والساعة، فيكون الحصر إضافيا، والمراد لا مهدى كاملا إلا عيسى عليه السلام.
القول الثانى:
أن المهدى رجل من آل البيت من ولد الحسين بن على، يخرج آخر الزمان ليملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، وأكثر الأحاديث تدل على هذا، وهى وإن كانت ضعيفة يقوى بعضها بعضا، وقد صحح بعضهم بعضها، منها حديث أحمد وأبى داود والترمذى وابن ماجه "لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله فيه رجلا من أهل البيت يملأها عدلا كما ملئت جورا" ورواية أبى داود هذه وثقها الهيتمى فى مجمع الزوائد القول الثالث:
أنه المهدى الذى تولى الخلافة فى الدولة العباسية فى القرن الثانى الهجرى، والأحاديث التى رويت فى هذا ضعيفة، وعلى فرض صحتها فالمهدى هذا أحد المهديين، وهناك غيره، ويصح أن يقال: إن عمر ابن عبد العزبز كان مهديا، بل هو أولى بهذه التسمية من مهدى بنى العباس.
القول الرابع:
الأقوال السابقة هى لأهل السنة، وهذا القول هو للشيعة الإمامية، حيث يقولون: إنه محمد بن الحسن العسكرى المنتظر، من ولد الحسين بن على، ويقولون فى صفته: الحاضر فى الأمصار، الغائب عن الأبصار، وأنه دخل سردابا فى "سامرا" وقيل فى مدينة تدعى "جابلقا" وهى مدينة وهمية ليس لها وجود. وزعم أحمد الأحسائى الممهد للبهائية أنه فى السماء وليس فى الأرض. .
دخلها وكان طفلا صغيرا منذ أكثر من خمسمائة عام، فلم تره بعد ذلك عين ولن يحس فيه بخبر، وهم ينتظرونه كل يوم، يقفون بالخيل على باب السرداب، ويصيحون بأن يخرج إليهم ثم يرجعون، وقال فى ذلك بعض الشعراء:
ما آن للسرداب أن يلد الذى * كلمتموه بجهلكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فإنكم * ثلثتم العنقاء والغيلانا هذا، وهناك مهديون كثيرون ظهروا في التاريخ، فى الشرق وفى الغرب، واليهود ينتظرون الذى يخرج آخر الزمان، لتعلو كلمتهم وينصروا به على سائر الأمم، ويعتقد هذا سبعون ألفا من يهود أصفهان، وكذلك النصارى ينتظرون المسيح يوم القيامة، وبهذا تكون الملل الثلاثة منتظرة للمهدى.
إن المهدى وردت فيه أحاديث كثيرة صحح بعضها وضعف الكثير منها، ويؤخذ من مجموعها أنه من اَل البيت، وسيخرج آخر الزمان، ويلتقى مع سيدنا عيسى عليه السلام.
فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لو لم يبق من الدهر إلا يوم واحد لبعث اللَّه فيه رجلا من عترتى يملؤها عدلا كما ملئت جورا".
ويؤخذ من الأحاديث أن اسمه "محمد" وأن اسم والده "عبد الله " كاسم والد النبي صلى الله عليه وسلم وتقول الشيعة إنه اختفى بعد موت والده، وذكر محيى الدين بن العربى فى "فتوحاته " أن والده هو الإمام حسن العسكرى، وساق نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ابن حجر فى "الصواعق " أن ظهوره يكون بعد أنه يخسف القمر في أول ليلة من رمضان، وتكسف الشمس في النصف منه، وذلك لم يوجد منذ أن خلق الله السماوات والأرض كما قرره علماء الفلك، فهل سيكون ذلك من باب الإعجاز؟ .
بل ذكر الشعرانى فى " اليواقيت والجواهر" أنه يولد فى ليلة النصف من شعبان سنة1255 هـ قائلا: إنه تلقى ذلك من الشيخ حسن العراقى ووافق عليه الخواص.
هذه صور من أفكار المسلمين عن المهدى، وفى بعضها بُعد يصعب تعقله، ولا يجوز أن نبنى العقائد على مثل هذه القواعد غير الثابتة.
لقد استغل كثير من الناس قضية المهدى فتكونت دول وظهرت شخصيات على مسرح التاريخ، وقامت دعوات تتمسح بها، وكل يدعى أن آخر الزمان المقصود فى الكلام عنه هو زمانه الذى كثر فيه الظلم، وكل زمان لا يخلو من ذلك كما يتصوره بعض الناس.
لقد استغلها الفاطميون وأقاموا دولتهم أولا بالمغرب، ثم انتلقت إلى مصر واتسع نطاقها، استغلها "ابن تومرت " فأسس دولة الموحدين بنى عبد المؤمن، وفى أيام الدولة المرينية بفاس قام رجل اسمه "التوبرزى" مدعيا أنه المهدى أيضا، كما ادعاها مغربى من طرابلس قابل نابليون بين دمنهور ورشيد، وقيل إن المهدى صاحب ثورة السودان كان أتباعه يطلقون عليه المهدى المنتظر.. .
يقول القلقشندى فى ادعاء الشيعة الإمامية لوجود المهدى: إنهم يقفون عند باب السرداب بغلة ملجمة من الغروب إلى مغيب الشفق، وينادونه ليخرج حتى يقضى على الظلم الذي عم البلاد.
ويروى ياقوت أنهم كانوا فى "كاشان " من بلاد الفرس يركبون كل صباح للقائه وذلك فى أواخر القرن الخامس الهجرى، ويروى مثل ذلك ابن بطوطة، والكيسانية يدعون أنه "محمد ابن الحنفية " وكان من العادات فى زمن ملوك الصفوية فى فارس إعداد فرسين مسرجين دائما فى القصر لاستقبال المهدى وعيسى. .
وهذا يشبه عمل المتهوسين من الإفرنج فى القدس الذين ينتظرون مجىء المسيح يوم الدينونة. يقول "هوارت " الفرنسى فى " تاريخ العرب ":
إن إنكليزيا ذهب إلى بيت المقدس وأقام بالوادى الذى ستكون فيه الدينونة، وفى كل صباح يقرع الطبل منتظرا للحشر.
وجاءت امرأة إنكليزية إلى القدس، وكانت تعد الشاى كل يوم لتحيى به المسيح عند ظهوره. ويقول " لامرتين " عند زيارته لجبل لبنان: إنه رأى في قرية "جفن " السيدة " استير ستاتهوب " بنت أخى"بيت " الوزير الإنكليزى الشهير، رأى عندها فرسا مسرجا، زعمت أنها تعده ليركبه المسيح.
إن ظهور المهدى ليس له دليل صريح فى القرآن الكريم، وقد رأى ابن خلدون عدم ظهوره كما جاء فى الفصل الذى عقده فى مقدمته خاصا بذلك والشوكانى ألف كتابا سماه "التوضيح فى تواتر ما جاء فى المنتطر والدجال المسيح " جاء فيه أن الأحاديث الواردة فى المهدى التى أمكن الوقوف عليها، منها خمسون حديثا فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبروهى متواترة بلا شك ولا شبهة.
ومهما يكن من شيء فإن ظهوره ليس ممنوعا عقلا، ولم تثبت استحالته بدليل قاطع كما أن أدلة ظهوره لم تسلم من المناقشة، والعقائد لا ثثبت بمثل هذه الأدلة على ما رآه المحققون. فمن أثبت فهو حر فيما يرى، لكن لا يجوز أن يفرض رأيه على غيره، ومن نفى لم يخرج من الإيمان إلى الكفر. .
وأولى لنا أن نتناقش فى أمر عملى يعيد لنا قوتنا الأولى، أو على الأقل يخلص المسلمين من الوضع الذى هم فيه الآن والعقائد الأساسية واضحة، وأدلتها موفورة.
يمكن الرجوع للاستزادة إلى:
1- المنار لابن القيم.
2- صبح الأعشى للقلقشندى.
3-التوضيح للشوكانى.
4-مقالات الصديق الغمارى فى مجلة الإسلام في السنوات الأولى.
5- سيد البشر يتحدث عن المهدى المنتظر، جمع حامد ليمود.
6-القطرة من بحار ومناقب النبى والعترة والعثرة رضى الدين الموسيوى التبريزى.
7-القول المختصر فى علامات المهدى المنتظر. لابن حجر الهيتمى.
8-المشرب الوردى فى أخبار المهدى لملا على القارى(10/127)
المسيح الدجال
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هو المسيخ الدجال ومتى يظهر؟
الجواب
من أصح ما ورد بشأن المسيخ الدجال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله كثيرا من فتنته، وفى صحيح مسلم أن خروجه هو أول علامات الساعة الكبرى وأنه يخرج من ناحية المشرق، وسيمكث أربعين يوما يفتن الناس عن الإيمان باللَّه، يوم منها كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر الأيام كالأيام العادية.
وفى اليوم الذى هو كسنة لا تكفى فيه خمس صلوات، بل يجب أن يقدر كل أربع وعشرين ساعة لخمس صلوات كما فى الحديث المذكور " اقدروا قدره " وسيقتله سيدنا عيسى عليه السلام عند باب " لُدّ " كما في صحيح مسلم "ج 18 ص 65-76 ".
وجاء فى كتاب " مشارق الأنوار " للشيخ العدوى كلام كثير عنه بروايات صحيحة وغير صحيحة وتحدث عن أتباعه، وهل ولد أيام الرسول أم سيولد قرب قيام الساعة.
وتحدث عن علامات خروجه وتشويه شكله، والخوارق التى يقوم بها، ومكتوب بين عينيه " كافر" وأنه لا يستطيع دخول مكة والمدينة لحراسة الملائكة لهما، وأن معه مغريات كثيرة يمتحن بها الناس ليؤمنوا به، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قابله وعرض عليه الإسلام.
فارجع إلى هذا الكتاب لتعرف كثيرا عنه، ويكفينا ما ثبت فى الصحيح(10/128)
المبشرون بالجنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هم المبشرون بالجنة، ولماذا؟
الجواب
المؤمنون الذين سبقوا بالإيمان وتحملوا المشاق في سبيل الحفاظ على العقيدة وطاعة اللَّه فى كل المجالات مبشرون جميعا بالجنة، كما قال تعالى {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار} ، البقرة: 25، وكما قال سبحانه {إن الذين قالوا ربنا اللَّه ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} ، فصلت: 30.
وأدنى تكريم بالبشارة بالجنة أن المؤمن سيموت على الإيمان وتلك هى الخاتمة الحسنة، حتى لو كانت عليه ذنوب لم يغفرها اللَّه سيعذب عليها فى النار بقدرها إن لم تكن شفاعة تحول دون دخولها أو تخفف من المدة التى سيمكثها فيها، وسيخرج منها ويدخل الجنة، أما التكريم الذى فوق ذلك لمن بشر بالجنة فهو أنه سيموت على الإيمان وسيغفر الله له ذنوبه ولن يدخل النار إلا تحلة القسم كما قال سبحانه {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} مريم: 71، 72، على الرأى المختار فى معنى ورود النار.
وأكثر المبشرين بالجنة هم من خير القرون، وهو قرن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث ومع ذلك فقد بشر الرسول جماعة من أصحابه بوجه خاص بأنهم من أهل الجنة، وهم عشرة، وردت فى بعضهم أحاديث خاصة بهم، كما وردت فيهم جميعا بعض الأحاديث، منها حديث سعيد بن زيد-وهو أحدهم -الذى يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "عشرة فى الجنة: أبو بكر فى الجنة، وعمر فى الجنة، وعثمان وعلى والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبى وقاص " وسكت عن العاشر ولما سألوه أخبر عن نفسه. رواه الترمذي.
وقال البخارى: هو أصح من حديث عبد الرحمن بن عوف. والخلفاء الأربعة معروفون، وما كتب عنهم كثير. أما الزبير فهو ابن العوام، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم "لكل نبى حوارى وحواريى الزبير" كان أول من سَلَّ سيفا فى سبيل اللَّه، وقال له الرسول يوم الأحزاب "فداك أبى وأمى" توفى سنة 36 هـ.
وطلحة هو ابن عبيد اللَّه، لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم على ظهره إلى صخرة فى أحد دعا له وقال "أوجب طلحة" أى وجبت له الجنة-توفى سنة 36 هـ.
وعبد الرحمن بن عوف كثر ماله بعد الهجرة وأنفق منه على الكثيرين وتوفى سنة 30 أو 32 هـ.
وأبو عبيدة هو عامر بن الجراح، لقَّبه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمين الأمة، عندما أرسله مع وفد نصارى نجران، وتوفى سنة 18 هـ في طاعون عمواس.
وسعد بن أبى وقاص كان أول من رمى بسهم فى سبيل اللَّه. وكان مستجاب الدعوة، قال له النبى صلى الله عليه وسلم فى يوم أحد"ارم فداك أبى وأمى" وهو بطل معركة القادسية، توفى سنة 55هـ.
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، كان مستجاب الدعوة، توفى سنة 51 هـ(10/129)
إفساد اليهود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
وردت آيات فى القرآن تدل على أن اليهود أفسدوا مرتين، نريد تفسير هذه الآيات، وهل إفسادهم انتهى بالمرتين أم يمكن أن يستمر؟
الجواب
قال الله تعالى {وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن فى الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فاذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} ، الإسراء: 4 -8، المهم في هذه الآيات هو معرفة المرتين اللتين أفسد فيهما بنو إسرائيل، وهناك كلام طويل وخلاف كبير بين العلماء في ذلك، ومن أقرب الأقوال أنهم أفسدوا أولاً بقتل النبى زكريا عليه السلام كما قال ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم، أو بقتل النبى أشعياء كما يقول ابن إسحاق، أو بتكذيب النبى أرمياء كما نقل عن ابن عباس، فأرسل الله عليهم غزاة من فارس "سنحاريب أو بختنصر" فعذبوهم وأسروا منهم كثيرا وساقوهم إلى بابل. ولما تابوا خلصهم اللَّه من الأسر، وأمدهم بالنعيم والقوة، محذرا لهم من العودة إلى الإفساد فأفسدوا مرة ثانية، وذلك بقتل النبى يحيى بن زكريا، فسلط اللَّه عليهم من انتقم منهم، واختلف فى الذى انتقم منهم، فقيل: أحد ملوك بابل "خردوس " وقيل كما فى حديث نسب إلى الرسول - قيصر الروم، حيث سبى منهم وقتل، وأخذ النساء والأموال، وأودع حُلِىَّ بيت المقدس فى مكان ينتظر من يرده قرب قيام الساعة.
هذا ما فى تفسير القرطبى، ويدل على أن المرتين اللتين أفسد فيهما بنو إسرائيل قد انتهتا قبل ظهور الإسلام، المرة الأولى كانت قبل رسالة عيسى، والثانية بعدها.
ويا تُرى هل المكتوب عليهم من الإفساد هو مرتان فقط، أو سيكون منهم إفساد آخر، لأن العبارة لا تقتضى الحصر؟ قيل بالثانى أى سيحصل منهم إفساد آخر بدليل قوله تعالى {وإن عدتم عدنا} .
وقيل فى تفسيرها: إنهم أفسدوا فسلط الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأجلاهم المسلمون عن جزيرة العرب، وامتلكوا بيت المقدس، وفر اليهود تائهين فى أقطار الأرض.
وعلى فرض أنهم سيعودون كما عادوا من قبل إلى بيت المقدس فإن القرار الإلهى {وإن عدتم عدنا} باق، فإن أفسدوا فسيسلط اللَّه عليهم من ينتقم منهم من عباد اللَّه أولى البأس الشديد.
لكن من هم أولو البأس الشديد؟ هل يكونون هم العرب والمسلمون أو غيرهم؟ اللَّه أعلم(10/130)
ليلة النصف من شعبان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ليلة النصف من شعبان لها فضل وهل كان النبى صلى الله عليه وسلم يحتفل بها، وهل هناك صلاة مخصوصة أو دعاء مخصوص يقال فيها؟
الجواب
الكلام هنا فى ثلاث نقط:
1 -النقطة الأولى: هل ليلة النصف من شعبان لها فضل؟ والجواب: قد ورد فى فضلها أحاديث صحح بعض العلماء بعضا منها وضعفها آخرون وإن أجازوا الأخذ بها فى فضائل الأعمال. ومنها حديث رواه أحمد والطبرانى "إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان فيغفر لأكثر من شعر غنم بنى كلب، وهى قبيلة فيها غنم كثير".
وقال الترمذى: إن البخارى ضعفه، ومنها حديث عائشة رضى الله عنها، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك، فرجعت، فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته قال: "يا عائشة- أو يا حميراء-ظننت أن النبى صلى الله عليه وسلم -قد خاس بك "؟ أى لم يعطك حقك.
قلت: لا والله يا رسول الله ولكن ظننت أنك قد قبضت لطول سجودك، فقال: "أتدرين أى ليلة هذه"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال "هذه ليلة النصف من شعبان، إن الله عز وجل يطلع على عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين.
ويؤخر أهل الحقد كما هم " رواه البيهقى عن طريق العلاء بن الحارث عنها، وقال: هذا مرسل جيد. يعنى أن العلاء لم يسمع من عائشة.
وروى ابن ماجه فى سننه بإسناد ضعيف عن على رضى الله عنه مرفوعا- أى إلى النبى صلى الله عليه وسلم "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر".
بهذه الأحاديث وغيرها يمكن أن يقال: إن لليلة النصف من شعبان فضلا، وليس هناك نص يمنع ذلك، فشهر شعبان له فضله روى النسائى عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما أنه سأل النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور، ما تصوم من شعبان قال "ذاك شهر تغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملى وأنا صائم ".
ا-النقطة الثانية هل كان النبى صلى الله عليه وسلم يحتفل بليلة النصف من شعبان؟ ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام احتفل بشهر شعبان، وكان احتفاله بالصوم، أما قيام الليل فالرسول عليه الصلاة والسلام كان كثير القيام بالليل فى كل الشهر، وقيامه ليلة النصف كقيامه قى أية ليلة.
ويؤيد ذلك ما ورد من الأحاديث السابقة وإن كانت ضعيفة فيؤخذ بها فى فضائل الأعمال، فقد أمر بقيامها، وقام هو بالفعل على النحو الذى ذكرته عائشة.
وكان هذا الاحتفال شخصيا، يعنى لم يكن فى جماعة، والصورة التى يحتفل بها الناس اليوم لم تكن فى أيامه ولا فى أيام الصحابة، ولكن حدثت فى عهد التابعين. يذكر القسطلانى فى كتابه "المواهب اللدنية"ج 2 ص 259 أن التابعين من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول كانوا يجتهدون ليلة النصف من شعبان فى العبادة، وعنهم أخذ الناس تعظيمها، ويقال أنهم بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية. فلما اشتهر ذلك عنهم اختلف الناس، فمنهم من قبله منهم، وقد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء وابن أبى مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة، ثم يقول القسطلانى:
اختلف علماء أهل الشام فى صفة إحيائها على قولين، أحدهما أنه يستحب إحياؤها جماعة فى المسجد، وكان خالد بن معدان ولقمان ابن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون فى المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك وقال فى قيامها فى المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرمانى فى مسائله. والثانى أنه يكره الاجتماع فى المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلى الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعى إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم.
ولا يعرف للإمام أحمد كلام فى ليلة النصف من شعبان، ويتحرج فى استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه فى قيام ليلتى العيد، فإنه فى رواية لم يستحب قيامها جماعة، لأنه لم ينقل عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه فعلها، واستحبها فى رواية لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود لذلك، وهو من التابعين، وكذلك قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شيء عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، إنما ثبت عن جماعة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام، انتهى. ملخصا من اللطائف. هذا كلام القسطلانى فى المواهب، وخلاصته أن إحياء ليلة النصف جماعة قال به بعض العلماء ولم يقل به البعض الآخر، وما دام خلافيا فيصح الأخذ بأحد الرأيين دون تعصب ضد الرأى الآخر.
والإحياء شخصيا أو جماعيا يكون بالصلاة والدعاء وذكر الله سبحانه، وقد رأى بعض المعاصرين أن يكون الاحتفال فى هذه الليلة ليس على هذا النسق وليس لهذا الغرض وهو التقرب إلى الله بالعبادة، وإنما يكون لتخليد ذكرى من الذكريات الإسلامية، وهى تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى مكة، مع عدم الجزم بأنه كان فى هذه الليلة فهناك أقوال بأنه كان فى غيرها، والاحتفال بالذكريات له حكمه.
والذى أراه هو عدم المنع ما دام الأسلوب مشروعا، والهدف خالصا للَّه سبحانه.
1- النقطة الثالثة: هل هناك أسلوب معين لإحيائها وهل الصلاة بنية طول العمر أو سعة الرزق مشروعة، وهل الدعاء له صيغة خاصة؟ إن الصلاة بنية التقرب إلى الله لا مانع منها فهى خير موضوع، ويسن التنفل بين المغرب والعشاء عند بعض الفقهاء، كما يسن بعد العشاء ومنه قيام الليل، أما أن يكون التنفل بنية طول العمر أو غير ذلك فليس عليه دليل مقبول يدعو إليه أو يستحسنه، فليكن نفلا مطلقا.
قال النووى فى كتابه المجموع: الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهى ثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا تغتر بذكرهما فى كتاب قوت القلوب - لأبى طالب المكى-وإحياء علوم الدين - للإمام الغزالى - ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات فى استحبابهما فإنه غالط فى ذلك. وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسى كتابا نفيسا فى إبطالهما فأحسن فيه وأجاد. "مجلة الأزهر - المجلد الثانى ص 515 ".
والدعاء فى هذه الليلة لم يرد فيه شيء عن النبى صلى الله عليه وسلم، لأن مبدأ الاحتفال ليس ثابتا بطريق صحيح عند الأكثرين، ومما أثر فى ذلك عن عائشة رضى الله عنها سمعته يقول فى السجود "أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " رواه البيهقى من طريق العلاء كما تقدم.
والدعاء الذى يكثر السؤال عنه فى هذه الأيام هو: اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، لا إله إلا أنت ظهر اللاجئين وجار المستجيرين وأمان الخائفين، اللهم إن كنت كتبتنى عندك فى أم الكتاب شقيا أو محروما أو مطرودا أو مقترا على فى الرزق فامح اللهم بفضلك شقاوتى وحرمانى وطردى وإقتار رزقى.. .
... وجاء فيه: إلهى بالتجلى الأعظم فى ليلة النصف من شهر شعبان المعظم، التى يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم ... . .. وهى من زيادة الشيخ ماء العينين الشنقيطى فى كتاب "نعت البدايات ".
وهو دعاء لم يرد عن النبى صلى الله عليه وسلم قال بعض العلماء إنه منقول بأسانيد صحيحة عن صحابيين جليلين، هما عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهما، وعمر-من الخلفاء الراشدين الذى أمرنا الحديث بالأخذ بسنتهم، ونص على الاقتداء به وبأبى بكر الصديق فى حديث آخر، وأصحاب الرسول كالنجوم فى الاقتداء بهم كما روى فى حديث يقبل فى فضائل الأعمال.
ولكن الذى ينقصنا هو التثبت من أن هذا الدعاء ورد عن عمر وابن مسعود ولم ينكره أحد من الصحابة،كما ينقصنا المثبت من قول ابن عمر وابن مسعود عن هذا الدعاء: ما دعا عبد قط به إلا وسع الله فى مشيئته أخرجه ابن أبى شيبة وابن أبى الدنيا.
ومهما يكن من شىء فإن أى دعاء بأية صيغة يشترط فيه ألايكون معارضا ولا منافيا للصحيح من العقائد والأحكام. وقد تحدث العلماء عن نقطتين هامتين فى هذا الدعاء، أولاهما ما جاء فيه من المحو والإثبات فى أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ وهو سجل علم الله تعالى الذى لا يتغير ولا يتبدل، فقال: إن المكتوب فى اللوح هو ما قدره الله على عباده ومنه ما هو مشروط بدعاء أو عمل وهو المعلق والله يعلم أن صاحبه يدعو أو يعمله وما هو غير مشروط وهو المبرم، والدعاء والعمل ينفع فى الأول لأنه معلق عليه، وأما نفعه فى الثانى فهو التخفيف، كما يقال: اللهم إنى لا أسألك رد القضاء بل أسألك اللطف فيه وقد جاء فى الحديث "إن الدعاء ينفع فيما نزل وما لم ينزل " والنفع هو على النحو المذكور.
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل: فيم العمل اليوم؟ أفيم جفت به الأقلام وجرت به المقادر أم فيما يستقبل؟ قال "بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قالوا: ففيم العمل؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له "وفى رواية: أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، اعملوا فكل ميسر ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى *وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى} الليل 5 - 10، ولم يرتض بعض العلماء هذا التفسير للمحو والإثبات فى اللوح المحفوظ، فذلك يكون فى صحف الملائكة لا فى علم الله سبحانه ولوحه المحفوظ، ذكره الآلوسى والفخر الرازى فى التفسير.
والنقطة الثانية: ما جاء فيه من أن ليلة النصف من شعبان هى التى يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم. فهو ليس بصحيح، فقد قال عكرمة:
من قال ذلك فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها فى رمضان، فالليلة المباركة التى يفرق فيها كل أمر حكيم نزل فيها القرآن، والقران نزل قى ليلة القدر. وفى شهر رمضان. ومن قال: هناك حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم يقول "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه فى الموتى" فالحديث مرسل، ومثله لا تعارض به النصوص "المواهب اللدنية ج 2 ص 260 " وإن حاول بعضهم التوفيق بينهما بأن ما يحصل فى شعبان هو نقل ما فى اللوح المحفوظ إلى صحف الملائكة.
ولا داعى لذلك فالدعاء المأثور فى الكتاب والسنة أفضل.
وللاستزادة يمكن الرجوع إلى مجلة الأزهر، المجلد الثانى ص 515 والمجلد الثالث ص 501ومجلة الإسلام المجلد الثالث، العددان 35، 36(10/131)
أطفال الأنابيب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الشرع فيما يسمى الآن أطفال الأنابيب؟
الجواب
أطفال الأنابيب هم الذين تخلقوا بطريق غير طريق الاتصال الجنسى المباشر بين الذكر والأنثى، ويسمى بالتلقيح الصناعى، الذى أجريت تجربته الأولى بين الآدميين سنة 1799 م على يد الطبيب الإنجليزى دكتور "جون هنتر".
وحكم الشرع في هذه العملية أنها إذا تمت بين الزوج وزوجته، أى بين مائه وبويضتها وكان التلقيح فى رحمها مباشرة أو فى أنبوبة خارجية ثم نقل إلى رحمها لاستكمال نموه، لا مانع منها، مع التنبيه على الحيطة والحذر عند القيام بهذه العملية فى الأنبوبة أو الحقنة أو غيرهما، حتى لا يكون هناك اختلاط بمادة أجنبية عن الزوج والزوجة.
أما إذا كان التلقيح بغير ماء الزوج وبويضة الزوجة أو رحم آخر فهو حرام لأنه فى حكم الزنى، وإن لم يكن زنى موجبا للحد، سواء أكان ذلك برضاهما أم بغير رضاهما ولولا أن صورته تختلف عن صورة الزنى -وهو اللقاء الجنسى المباشر- لوجب فيه الحد.
ويمكن الرجوع إلى الجزء الأول من موسوعة "الأسرة تحت رعاية الإسلام " لمعرفة الكثير عن هذا الموضوع(10/132)
النظر إلى صورة المرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم النظر إلى الصورة الشمسية للمرأة أو إلى صورتها فى المرآة، هل هو مماثل للنظر إلى صورتها الحقيقية؟
الجواب
معلوم أن الإسلام حرم النظر إلى أى جزء من جسم المرأة الأجنبية حتى الوجه والكفين إذا كان النظر بشهوة، لأن النظر بريد الزنى، والنصوص فى ذلك كثيرة، أما لو كان النظر بغير شهوة فيجوز فقط إلى الوجه والكفين عند بعض العلماء، ورأى بعضهم عدم جواز النظر إليهما فى كل الأحوال، إلا ما هو مستثنى لعلاج ونحوه مما هو مفصل فى موضعه " الجزء الثانى من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ".
هذا هو حكم النظر إلى الأصل، أما النظر إلى الصورة فقد مثل لها القدامى بالنظر إلى صورتها فى المرآة أو فى المياه، واختلفوا فى قياس الصورة على الأصل وعدم قياسها، بناء على تصورهم أن الرؤية تحصل من أشعة خارجة من العين، أو أشعة منعكسة من المرئى على العين، والثانى هو الرأى الصحيح الذى أثبته العلم.
ومهما يكن من شىء فإن صورة المرأة لا يجوز النظر إليها بشهوة باتفاق الجميع كما لا يجوز النظر إلى أى شيء يثير الفتنة، لأن حكمة التشريع موجودة فى الأصل والصورة.
وتشتد الحرمة إذا كان النظر إليها فى الصور المتحركة، فإنها لا تقل فتنة عن النظر إلى الأصل، إن لم تكن أقوى، وبخاصة فى الأوضاع التى لا تليق ذوقا وشرعا.
يقول الشيخ طه حبيب "عضو المحكمة العليا الشرعية سابقا " ما نصه.
والذى تسكن إليه النفس ويطمئن له القلب هو أن النظر إلى المرأة الأجنبية إنما كان محرما بسبب أنه داع وذريعة إلى الوقوع فيما هو أشد منه حرمة، وهو الوقوع فى المعصية الكبرى، وعليه فالنظر إلى المرأة الأجنبية المعينة بواسطة المرآة بقصد الشهوة غير جائز، لأنه ذريعة إلى محرم،، وكل ما كان كذلك فهو حرام، سواء أكان ذلك مباشرة أم بواسطة المرآة، انتهى "مجلة الأزهر- المجلد الثالث، صفحة 393"(10/133)
الوقوف تحية للقادم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم قيام التلاميذ تحية للمدرس عندما يدخل الفصل؟
الجواب
القيام للقادم من أجل التعظيم والاحترام إذا كان يستحقه لا بأس به، كالإمام العادل والوالدين والعلماء، وكذلك للقادم من السفر ولكبير السن والمدرس وغيرهم ممن ينبغى أن نوفر لهم الاحترام.
جاء فى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للأنصار لما جاء سعد بن معاذ راكبا على حمار وكان جريحا " قوموا لسيدكم " ولم يكن القيام لأجل معاونته فقط، فقد كان رجال من بنى الأشهل يقولون: قمنا له على أرجلنا صفين، يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقام طلحة رضى الله عنه لكعب بن مالك رضى الله عنه لما تاب الله عليه ولم ينكر عليه النبى ذلك، كما رواه البخارى ومسلم.
وروى الترمذى بسند صحيح قوله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا" وروى أحمد قوله أيضا " ليس من أمتى من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ".
وروى أبو داود بإسناد جيد حديث " إن من إجلال الله تعالى إكرام ذى الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالى فيه والمتجافى عنه وذى سلطان مقسط " وقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت عليه ابنته فاطمة قام إليها وأخذ بيدها وقبلها وأجلسها فى مجلسه رواه النسائى والترمذى عن عائشة وقال: حسن صحيح. وكان يقوم لعبد الله بن أم مكتوم كلما أقبل عليه ويقول "مرحبا بمن عاتبنى فيه ربى".
ويكره القيام تحية لمن لا يستحق التكريم، وبخاصة إذا طلبه، اللهم إذا خاف الإنسان بطشه، فيرفع عنه شره بالقيام له، ويحمل على ذلك حديث حسن لأبى داود والترمذى "من أحب أن يتمثل له الرجِال قياما فليتبوأ مقعده من النار " وحديث أبى داود وابن ماجه بإسناد حسن عن أبى أمامة الباهلى رضى الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا إليه فقال:"لا تقوموا كما تقوم الأعاجم -لعظم بعضهم بعضا" قال العراقى فى تخريج أحاديث الإحياء: فى سنده أبو العديس وهو مجهول. وذكر ابن حجر فى الفتح عن الطبرى بأنه ضعيف.
جاء فى كتاب "غذاء الألباب للسفارينى ج 1 ص 275 وما بعدها " أن أبا الوليد بن رشد قال: القيام يقع على أربعة أوجه.
الأول: محظور وهو أن يقع لمن يريد أن يقام له تكبرا وتعاظما على القائمين إليه.
الثانى: مكروه وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة.
الثالث: جائز، وهو أن يقع على سبيل الإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة.
الرابع: مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه، ليسلم عليه أو إلى من تجددت له نعمة فيهنيه، أو مصيبة فيعزيه، انتهى.
وجاء فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم تلقى جعفر بن أبى طالب لما قدم من الحبشة فالتزمه وقبل ما بين عينيه. وروى البيهقى عن الصحابى واثلة بن الخطاب أن رجلا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فتحرك له النبى، فقال رجل: إن فى المكان سعة، فقال " للمؤمن - أو للمسلم - حق لا كما روى البيهقى من طريق الواقدى بسنده مرفوعا والحاكم فى المستدرك ورواه مالك عن الزهرى مرسلا، أن عكرمة بن أبى جهل لما دخل على النبى صلى الله عليه وسلم مسلما مهاجرا قام إليه فرحا بقدومه. وروى الترمذى وحسنه عن عائشة رضى الله عنها قالت: دخل زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتى فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه،. والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبَّله.
وجاء فيه أيضا أن أبا داود روى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فى المجلس يحدثنا، فإذا قام قمنا قياما حتى نراه قد دخل بيوت أزواجه. .
وروى أبو داود عن عمرو بن السائب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه أبوه من الرضاعة فأجلسه على بعض ثوبه، ثم أقبلت أمه فوضع شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلسه بين يديه، وهو حديث مرسل جيد.
ثم ذكر السفارينى أن مجد الدين بن تيمية تحدث فى "منتقى الأحكام " عن قيام المغيرة بن شعبة على رأس النبى صلى الله عليه وسلم بالسيف فى صلح الحديبية، وقال: فيه استحباب الفخر والخيلاء فى الحرب لإرهاب العدو، وأنه ليس بداخل فى ذمه لمن أحب أن يتمثل له الرجال قياما، وكذا قال غيره: وقال الخطابى:
فيه دليل على أن إقامة الرئيس الرجال على رأسه فى مقام الخوف ومواطن الحروب جائز، وأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أراد أن يتمثل له الرجال صفوفا فليتبوأ مقعده من النار" إنما هو فيمن قصد به الكبر وذهب مذهب النخوة والجبرية. انتهى كلامه.
وجاء فى إحياء علوم الدين للإمام الغزالى "ج 2 ص 268": والقيام عند الدخول للداخل لم يكن من عادة العرب، بل كان الصحابة رضى الله عنهم لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض الأحوال كما رواه أنس رضى الله عنه [رواه الترمذى وقال: حسن صحيح، ولكن إذا لم يثبت فيه نهى عام فلا نرى به بأسا فى البلاد التى جرت العادة فيها بإكرام الداخل بالقيام فإن المقصود منه الاحترام والإكرام وتطييب القلب به.
وجا فى الأذكار للنووى (ص 267) أنه قال: وأما إكرام الداخل بالقيام فالذى نختاره أنه مستحب لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو شرف أو ولاية ونحو ذلك ويكون هذا القيام للبر والإكرام والاحترام، لا للرياء والإعظام، وعلى هذا استمر عمل السلف والخلف.
هذا عرض لبعض ما قيل فى الوقوف للتحية، وللتوفيق بين النصوص المجيزة والمانعة أختار ما نقله السفارينى عن ابن رشد من التفصيل، وللنيات وظرف الأحوال دخل فى تكييف الحكم(10/134)
الرد على تحية المذيع والكاتب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب رد التحية إذا سمعها الإنسان من المتحدث فى المذياع أو التلفاز أو قرأها فى كتاب أو صحيفة؟
الجواب
ذكر النووى فى كتابه "الأذكار ص 245 " عن أبى سعد المتولى أن الإنسان إذا كتب كتابا فيه: السلام عليك يا فلان، أو السلام على فلان فبلغه الكتاب وجب عليه أن يرد السلام، وكذا ذكر الواحدى وغيره أيضا أنه يجب على المكتوب إليه رد السلام إذا بلغه السلام. وقال النووى فى شرح صحيح مسلم، لو بلغه سلام فى ورقة من غائب وجب عليه أن يرد السلام باللفظ على الفور إذا قرأه.
وهذا ظاهر فى وصول السلام مكتوبا أو مبلغا على لسان أحد إلى إنسان أو جماعة مقصودة، فيجب الرد على من أرسل إليه الكتاب وفيه السلام، ومثل الكتابة التسجيل على شريط، فيجب على من يستمع إلى التسجيل أن يرد.
أما التسجيل على الشريط لحديث بدئ أو ختم بالسلام، فهل يجب على المستمعين للسلام فيه أن يردوا التحية، وهل يجب على المشاهدين لما يعرض على الشاشة أنْ يردوا التحية؟ ومن يلقى عليهم السلام ليسوا جماعة مخصوصين، فهل يعطون حكم الشخص المعين أو الجماعة المعينة فى شريط التسجيل؟ لا أستطيع أن أجزم بالحكم وإن كنت قد قرأت فى فقه المذاهب الاربعة أن اَية السجدة لو كانت مسجلة على شريط أو سمعها إنسان لا ينبغى ولا يُسنُّ أن يسجد للتلاوة، وإن كان تعليلهم مختلفا، فقال بعضهم: السبب عدم صحة التلاوة لفقد التمييز من الآية المسجل عليها القرآن، وقال بعضهم: السبب أن التلاوة من غير اَدمى، وقال بعضهم: السبب أن القراءة من الحاكى - الفونوغراف -غير مقصودة.
ولو قسنا السلام على قراءة آية السجدة فلا ينبغى رد السلام على للشريط المذاع أو المعروض. وفى نفسى شيء من هذا الحكم الذى لم أعثر على دليل يؤيده.
لكن ما هو الرأى فى المذيع أو المتحدث على الهواء مباسرة دون تسجيل سابق، ومثله ناشر الكتاب أو المقال؟ يبدو أنه يجب الرد، لأن الصوت صادر من إنسان قاصد للتحية، والراديو أو التليفزيون ومثلهما الكتاب والصحيفة كلها ناقلة فقط كالميكروفون الذى يبلغ سلام المتكلم لمن يبعدون عنه ولا يرونه فى المسجد الكبير أو الحفل الكبير، فإذا أعيدت إذاعة هذا الحديث أو عرضه لأنه سجل، أعطى حكم الشريط المسجل فلا ينبغى رد التحية بناء على ما سبق بيانه فى سجود التلاوة.
وقد يقال: إن المذيع أو المتحدث المباشر أو الناشر لا يسلم على أشخاص حقيقيين بل متخيَّلين فى ذهنه وتصوره، لأنه لا يرى ولا يحس بأناس معه، ومن هنا لا يجب الرد.
لكن إذا وجب رد السلام على من ألقيت عليه التحية قال العلماء:
أقل ما يؤدى به الواجب أن يرفع صوته بحيث يسمعه المسلِّم، فإن لم يسمعه لم يسقط عنه فرض الرد. نقله النووى فى "الأذكار" عن المتولى، ولم يعقب عليه.
وعلى هذا فإن رد المستمعين إلى الإذاعة أو المشاهدين للتلفزيون السلام على من سلَّم عليهم واجب، حتى لو لم يسمعه المذيعون - ولن يسمعوه قطعا-كما تقدم فى أول الكلام أن من بلغه سلام فى كتاب وجب الرد، ومعلوم أن المرسل لن يسمعه.
هذا، ولما كان رد التحية الملقاة على جماعة واجبا وجوبا كفائيا، فإنه لو قام به البعض سقط الطلب عن الباقين.
وأغلب الظن - إن لم يكن يقينا - أن الآلاف أو الملايين من المستمعين أو المشاهدين سيرد منهم واحد على الأقل على هذه التحية، فيغنى ذلك عن رد الآخرين والله أعلم(10/135)
تحية السلام مع غير المسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يصح أن أحيى غير المسلم بتحية الإسلام، وهل يجب على أن أرد عليه التحية؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " وروى مسلم أيضا أنه قال "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام " قال الإمام ابن القيم. اختلف السلف والخلف فى ذلك، فقال أكثرهم: لا يبدءون.أى لا يلقى عليهم السلام ابتداء وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم وجواز الرد عليهم، وروى ذلك عن ابن عباس وأبى أمامة وغيرهما، وهو وجه فى مذهب الشافعى، على أن يكون بلفظ "السلام عليك " بدون ذكر الرحمة وبلفظ الإفراد، وقالت طائفة: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجة تكون إليه أو خوف من أذاه، أو لسبب يقتضى ذلك.
وجاء فى "الأذكار للنووى" مثل هذا، ثم نقل عن أبى سعد أنه لو أراد أن يحبى ذميًّا: حياه بغير السلام، بأن يقول: هداك الله، أو أنعم الله صباحك، ثم قال النووى: هذا الذى قاله أبو سعد لا بأس به إذا احتاج إليه فيقول: صبحت بالخير أو بالسعادة أو بالعافية، أو صبحك الله بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرة أو ما أشبه ذلك، وأما إذا لم يحتج إليه فالاختيار ألا يقول شيئا.
وما دام الأمر خلافيا فى ابتدائهم بالسلام والرد عليهم فليكن ذلك مرهونا بالظروف التى تحقق مصلحة أو تدفع مضرة، ودين الله يسر، وكما هو معروف: إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله. ولو أن حديث النهى عن تحيتهم كان قاطعا وعاما ما حدث خلاف بين العلماء على النحو الذى ذكره ابن القيم وذكره النووى(10/136)
الإشارة باليد عند السلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن يكتفى الإنسان إذا مر على شخص أو جماعة بالإشارة باليد بدلا من التلفظ بالسلام؟
الجواب
روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت: مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نسوة فسلم علينا، وفى رواية قالت: مر رسول الله فى المسجد يوما ونحن عصبة من النساء، فلوى بيده بالتسليم، رواه الترمذى وقال: حديث حسن. وله شاهد من حديث جابر عن أحمد.
إن التحية بالسلام تكون باللفظ ولا تكفى الإشارة دون تلفظ، ولكنها تكون علامة عليه ومساعدة على شعور الناس بإلقاء السلام عليهم، فلا مانع من ذلك، أما الاكتفاء بالإشارة باليد دون تلفظ بالتحية فلا تحصل بها السنة، ومثل ذلك رد التحية، تكون الإشارة علامة ومساعدة ولكن لا يكتفى بها وحدها.
جاء فى كتاب "الأذكار للنووى" ص 244 روينا فى كتاب الترمذى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا النصارى. فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف ". قال الترمذى: إسناده ضعيفا(10/137)
التعليم فى كليات الحقوق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعت أن الانتساب إلى كليات الحقوق بالجامعات حرام لأنها تدرس القوانين الوضعية، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الدراسة كمعرفة لا بأس بها أبدا، والمهم هو أثرها على العقيدة والسلوك، وتطبيقها فى المجالات النافعة، وموقف الدين من الحث على العلم وتكريم العلماء معروف، والواجب هو الاستفادة منه بتعميق الإيمان بالله واستثمار خيرات الأرض لتحقيق خلافة الإنسان فيها وقد قال الله تعالى فى سورة فاطر بعد ذكر مجالات مختلفة للعلم فى السماء والأرض بالنبات والجبال والإنسان والحيوان {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فاطر: 28.
فإذا استخدمت مواد كليات الحقوق فى التعاون على الخير، بالوصول إلى الحق ودفع الظلم كان ذلك خيرا، بل طاعة لله سبحانه يثاب عليها، وإن استخدمت فى غير ذلك كانت إما عبثا وإما فسادا والحًق هو ما قرره الشرع فى مصادره المعروفة، والظلم ما سوى ذلك، كما أن دراستها لو كانت للمقارنة بينها وبين الشرع ليتبين الحق من الباطل، وليظهر سمو التشريع الإسلامى فهى دراسة مشروعة يثاب عليها بمقدار النية الباعثة عليها، كما قالوا فى جواز تعلم السحر لمعرفة الفرق بينه وبين المعجزة، وفى تعلم الشر من أجل البعد عنه، كما جاء فى القول المشهور:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه * ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه.
وأنبه الدارسين للقوانين بوجه عام إلى قول الله سبحانه {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} النساء: 107، وقوله تعالى {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا} النساء: 109، وقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والطبرانى بإسناد جيد "من خاصم فى باطل وهو يعلم -وفى رواية أو أعان عليه -لم يزل فى سخط الله حتى ينزع لما وقول الله سبحانه {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} المائدة: 44،وفى آية أخرى {فأولئك هم الظالمون} وفى آية أخرى {فأولئك هم الفاسقون} المائدة:45 -47(10/138)
الغش فى الامتحان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى محاولات الطلاب للغش أثناء الامتحانات، وهل يجوز للملاحظين أن يساعدوهم نظرا لصعوبة الامتحان؟
الجواب
من المقرر أن الغش فى أى شىء حرام،والحديث واضح فى ذلك "من غشنا فليس منا"رواه مسلم وهو حكم عام لكل شىء فيه ما يخالف الحقيقة، فالذى يغش ارتكب معصية، والذى يساعده على الغش شريك له فى الإثم. ولا يصح أن تكون صعوبة الامتحان مبررة للغش، فقد جعل الامتحان لتمييز المجتهد من غيره، والدين لا يسوى بينهما فى المعاملة، وكذلك العقل السليم لا يرضى بهده التسوية، قال تعالى {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} ص: 28 وبخصوص العلم قال {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون} الزمر: 9.
وانتشار الغش فى الامتحانات وغيرها رذيلة من أخطر الرذائل على المجتمع، حيث يسود فيه الباطل وينحسر الحق، ولا يعيش مجتمع بانقلاب الموازين الذى تسند فيه الأمور إلى غير أهلها، وهو ضياع للأمانة، وأحد علامات الساعة كما صح فى الحديث الشريف.
والذى تولى عملا يحتاج إلى مؤهل يشهد بكفاءته، وقد نال الشهادة بالغش يحرم عليه ما كسبه من وراء ذلك، وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به وقد يصدق عليه قول الله تعالى {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} آل عمران: 188.
وإذا كان قد أدى عملا فله أجر عمله كجهد بذله أى عامل، وليس مرتبطا بقيمة المؤهل، وهو ما يعرف بأجر المثل فى الإجارة الفاسدة، وما وراء ذلك فهو حرام(10/139)
الترضى على الصحابة والصالحين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من المشروع أن يقول الإنسان عند ذكر صحابى أو واحد من الصالحين:
رضى الله عنه؟
الجواب
عبارة "رضى الله عن فلان " دعاء من الإنسان أن يرضى الله عن فلان، فهى جملة خبرية تفيد الإشارة بالدعاء، كأن الإنسان قال: اللهم ارض عن فلان، مثل قولنا: صلى الله على محمد يعنى: اللهم صلى على محمد، أى ندعوك يا رب أن ترحم محمدا.
جاء فى كتاب "الأذكار" للنووى ص 121: يستحب الترضى والترحم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء العباد وسائر الأخيار: فيقال: رضى الله عنه أو رحمه الله ونحو ذلك، وأما ما قاله بعض العلماء: إن قوله رضى الله عنه مخصوص بالصحابة ويقال فى غيرهم "رحمه الله " فقط فليس كما قال ولا يوافق عليه، بل الصحيح الذى عليه الجمهور استحبابه.
ودلائله أكثر من أن تحصر، فإن كان المذكور صحابيا ابن صحابى قال: قال ابن عمر رضى الله عنهما، وكذا ابن عباس وابن الزبير وابن جعفر وأسامة بن زيد ونحوهم، لتشكله وأباه جميعا.
فإن قيل: إذا ذكر لقمان ومريم هل يصلى عليهما كالأنبياء أم يترضى كالصحابة والأولياء أم يقول: عليهما السلام: فالجواب أن الجماهير من العلماء على أنهما ليسا نبيين، وقد شذ من قال: نبيان.
ولا التفات إليه ولا تعريج عليه. وقد أوضحت ذلك فى كتاب "تهذيب الأسماء".
فإذا عرف ذلك فقد قال بعض العلماء كلامًا يفهم منه أنه يقول: قال لقمان أو مريم صلى الله على الأنبياء وعليه -أو عليها -وسلم. قال: لأنهما يرتفعان عن حال من يقال: رضى الله عنه، لما فى القرآن مما يرفعهما 0 والذى أراه أن هذا لا بأس به، وأن الأرجح أن يقال: رضى الله عنه، أو عنها، لأن هذا مرتبة غير الأنبياء، ولم يثبت كونهما نبيين،وقد نقل إمام الحرمين إجماع العلماء على أن مريم ليست نبية، ذكره فى الإرشاد، ولو قال: عليه السلام أو عليها، فالظاهر أنه لا بأس به، والله أعلم، انتهى ما قاله النووى وفيه كفاية(10/140)
كوافير السيدات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز لى أن أقوم بقص الشعر وتزيين السيدات بالألوان وغيرها؟
الجواب
إذا كان الرجل هو الذى يقوم بهذا العمل، يكون آثما، لأن فيه نظرا لعورة المرأة بالنسبة للرجل الأجنبى، ولأن فيه لمسا لما لا يحل له، ولأن فيه إعانة على المحرم إذا كان يعرف أنها تتزين لمن لا يحل له أن يطلع عليها، وكل ذلك وردت به النصوص.
وإذا كانت المرأة هى التى تقوم بذلك للمرأة بعيدا عن أعين الأجانب ومنهم صاحب المحل الذى تزاول فيه هذه المهنة، فلا مانع من ذلك إلا إذا علمت أنها تتزين للأجانب أو لما لا يحل لها من عمل يتطلب إظهار زينتها، فيكون ممنوعا لما فيه من الإعانة على الممنوع.
وإذا كانت المرأة تقوم بقص الشعر وتزيين الرجال فعملها حرام، من أجل النظر لما لا يحل ولمس ما لا يحل. ومن النصوص فى ذلك ما رواه مسلم " العينان تزنيان وزناهما النظر واليد تزنى وزناها البطش " وفسر بالتلامس.
ولا يقبل تبرير ذلك بالحاجة إلى كسب العيش، فالوسائل الحلال لكسب العيش متوفرة والرضا بالقليل من الحلال خير من الكثير من الحرام(10/141)
تغيير محل النذر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نذرت أن أتصدق على فقراء بلد معين، أو أشخاص معينين، فوجدت أن هناك من هم أشد حاجة منهم، فهل يجوز لى أن أوجه النذر إليهم؟
الجواب
ذهب جمهور العلماء إلى وجوب الالتزام بما نذره الناذر فى العين وفى المصرف، ويجوز عند أبى حنيفة تغيير محل الصرف إذا رأى فى ذلك مصلحة، لأن المال خرج من ذمته تقربا إلى الله، فلا فرق بين أن يعطيه لفلان أو لفلان، إلا إذا كان فيما عيَّنه زيادة قربة كالأقارب، فإن الصدقة عليهم صدقة وصلة رحم، وكلك إذا رأى أن بناء مسجد أو مدرسة لتحفيظ القرآن وتعليم الدين، أو مصحة لعلاج الفقراء أحسن من إعطاء كل فقير مبلغا ينفقه فى مصلحة وقتية غير دائمة النفع، فإن توجيه النذر للفقراء إلى هذه المرافق العامة المفيدة أفضل، وهو رأى طيب لا مانع من الأخذ به، بناء على رجحان المصلحة.
ومثل ذلك ما لو نذر أن يصلى الضحى أو التراويح فى مسجد معين، فإنه على رأى أبى حنيفة: يجوز له أن يصلى فى أى مسجد آخر، فالأرض كلها مسجد، وكل المساجد بيوت الله، اللهم إلا إذا نذر أن يصلى فى المسجد الحرام أو مسجد المدينة أو المسجد الأقصى فإنه لا يجوز أن يصلى فى أى مسجد سواها، لما لها من الفضل الذى وردت به الأحاديث(10/142)
الزنى لا يكفره الزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن من زنى بامرأة وتزوج بها يغفر الله له هذا الذنب؟
الجواب
ما دام الزنى قد حصل وجب فيه الحد، وهو الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن فإن أقيم عليه الحد كان ذلك توبة يرفع الله بها الإثم. كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الجهنية التى رجمت للزنى وصلى عليها "إنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أعظم من أن جادت بنفسها للَّه "؟ .
وإذا لم يقم الحد على الزانى، وهو مستعد له راض به، فلا يغفر الذنب إلا بالتوبة النصوح القائمة على الإقلاع عنه والندم عليه والعزم الأكيد على عدم العود للعصيان وطلب العفو والسماح ممن اغتصبها بغير رضاها. إذا حدث ذلك يرجى أن يغفر الله هذا الذنب، وبدون ذلك لا يكون مجرد الزواج بها مسقطا للعقوبة، لا عقوبة الدنيا ولا عقوبة الآخرة، وإذا كان الزواج بها مظهرا من مظاهر التوبة، فالله سبحانه هو وحده الذى يقدرها.
أما حكم العقد على الزانية وحملها من الزانى فسيذكر بعد إن شاء الله(10/143)
خصاء الحيوانات ووسمه بالنار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقوم بعض الذين يربون المواشى بخصاء بعض الحيوانات من الغنم والماعز وغيرها بقصد تسمينها كما يشاهد آثار الكى على أجسام بعض الحيوانات،فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى عند قوله تعالى {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} النساء: 119، عن خصاء الحيوان أنه رخص فيه جماعة إذا قصدت به المنفعة لسمن أو غيره، والجمهور على جواز التضحية بالخصى، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن. ومنهم منكره خصاء الذكر وذلك لحديث "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " ولنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل، وجاء فى الموطأ عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء، ويقول: فيه تمام الخلق، أى فى ترك الإخصاء تمام الخلق، وروى نماء الخلق، وروى الدارقطنى"لا تخصوا ما ينمى خلق الله ".
أما خصاء الآدمى فمصيبة، لأنه يقطع النسل المأمور به وقد يفضى إلى الهلاك وفيه مثلة.
أما عن الوسم وهو الكى بالنار فقد أخرج مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بحمار وسم فى وجهه فقال: "لعن الله الذى وسمه " فهو حرام إن كان للتعذيب، ويجوز إن كان للتمييز والتعريف فقد قال فيه القرطبى: إن الرسول أجازه، استثناء من تعذيب الحيوان بالنار.
ثبت فى مسلم عن أنس قال: رأيت فى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم، وهو يسم إبل الصدقة والفىء وغير ذلك، حتى يعرف كل مال فيؤدى فيه حقه ولا يتجاوز به إلى غيره. ولا يجوز فى الوجه، وذلك لشرفه، وهو مقر الحسن والجمال، وبه قوام الحيوان، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم من كان يضرب عبده وقال "اتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته " أى على صورة المضروب، أى أن وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم، فينبغى أن يحترم لشبهه(10/144)
قراءة كتب الفلسفة والكفر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى دراسة المواد الفلسفية لعلماء مسلمين وغير مسلمين، وما مدى الضرر أو النفع من هذه الدراسات؟
الجواب
لا مانع من دراسة المواد الفلسفية أبدا، إذا كانت الدراسة للإحاطة بالأفكار ومقارنتها بالدين، فإن كانت متفقة معه قبلت وإلا رفضت، مع بيان وجه رفضها، وعلى هذا الأساس ألفت كتب فى الملل والنحل والعقائد المختلفة "الصحيح منها والباطل " وناقشها العلماء مناقشة علمية على ضوء الدين والعقل الصحيح.
أما دراستها لمن لا يعرف الحق من الباطل، وترك الباطل منها دون بيان بطلانه ففيها ضرر كبير.
والقرآن الكريم نفسه ذكر عقائد المشركين، والمنكرين لوجود الله والدهريين والمنكرين للبعث والحساب وغيرهم، وذكر الأدلة على بطلان ما يعتقدون، كما ذكر الأدلة على العقائد الصحيحة التى جاء بها الإسلام.
وقد أثيرت قديما مسألة تعلم علم المنطق الذى وضعه قدامى اليونان، فكان لعلماء المسلمين منه مواقف بالجواز والمنع، وسجل ذلك بعض المؤلفين بقوله:
فابن الصلاح والنووى حرما * وقال قوم ينبغى أن يعلما.
والقولة المشهورة الصحيحة * جوازه لكامل القريحة.
أى لمن عنده قدرة على تمييز الطيب من الخبيث من هذه المواد، وعيب بعض المؤلفات التى تدرس فى بعض مراحل التعليم الآن أنها تعرض الأفكار ولا تناقشها مناقشة علمية على ضوء الدين، فيحسبها البعض أنها أمور مسلمة ما دامت منسوبة لكبار العلماء،، وكم فى هذه الآراء مما يتنافى مع مقررات الدين، ولا يتفق ومكارم الأخلاق.
وللإمام الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين " كلام طويل فى العلوم المحمودة والعلوم المذمومة، وهو نفسه ألف فى الرد على الفلاسفة بعد دراسة مذاهبهم(10/145)
إبليس والجن والشياطين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الفرق بين الجن والشيطان وإبليس، ولماذا خلقهم الله سبحانه؟
الجواب
جاء في تفسير القرطبى لسورة الجن أن أهل العلم اختلفوا فى أصل الجن، فقال الحسن البصرى: إن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء فى الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولى الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.
وقال ابن عباس: الجن هو ولد الجان، وليسوا بشياطين وهم يموتون ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. انتهى.
وجاء فى تفسير سورة الناس أن قتادة قال: إن من الجن شياطين وإن من الإنس شياطين، وهو يعزز رأى الحسن البصرى المذكور- قال تعالى {وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس والجن} الأنعام: 112.
وجاء فى "حياة الحيوان الكبرى " للدميرى عن الجن أن المشهور أن جميع الجن من ذرية إبليس وقيل: الجن جنس وإبليس واحد منهم ولا شك أن الجن ذريته بنص القرآن الكريم. يريد قوله تعالى {أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو} الكهف:55،ومن كفر من الجن يقال له شيطان.
وجاء فى " آكام المرجان فى أحكام الجان " للمحدث الشبلى "ص 6 " أن الجن تشمل الملائكة وغيرهم ممن اجتنَّ -أى استتر-عن الأبصار، قال تعالى {وجعلوا بينه وبين الجِنة نسبا} الصافات: 58، لأن المشركين ادعوا أن الملائكة بنات الله وقال: الشياطين هم العصاة من الجن وهم ولد إبليس، والمردة هم أعتاهم وأغواهم بقوا، الجوهرى: كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان، والعرب تسمى الحية شيطانا.
هذا ما قيل عن الجن والشيطان وإبليس، أما الحكمة من خلقهم فهى امتحان بنمط آدم هل يستجيبون لأمر الله أو لأمر الشيطان، وإيمان المؤمن لا تكون له قيمته إذا كان نابعا منه ذاتيا بحكم أنه خلق مؤمنا كالملائكة، فان استقر الإيمان بعد الانتصار فى معركة الشيطان الذى أقسم أن يغوى الناس أجمعين -كان جزاء هذا المؤمن عظيما، لأنه حصل بتعب وكد ومجاهدة دفع بها أجر الحصول على تكريم الله له.
قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} العنكبوت: 69.
والحياة الدنيا لابد فيها من معركة بين الخير والشر، لتتناسب مع خلق الله لآدم على وضع يتقلب فيه بين الطاعة والمعصية، وقد تزعَّم الشيطان هذه المعركة انتقاما من آدم الذى طرد الشيطان من الجنة بسبب عدم السجود له. فقال كما جاء فى القرآن الكريم.
{قال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} الأعراف: 16، 17،وحذر الله الإنسان من طاعة الشيطان فقال {ألم أعهد إليكم يا بنى آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} يس: 60، وقال {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} فاطر: 6.
فمجاهدة الشيطان بعصيانه لها ثواب، ووجوده يساعد على الحركة القائمة على المتقابلات والحركة سر الحياة، وقد سئل أحد العلماء:
لماذا خلق الله إبليس؟ فقال: لنتقرب إلى الله بالاستعاذة منه وعصيانه، فكل خير فيه شر ولو بقدره(10/146)
اللحوم المستوردة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أكل اللحوم المستوردة مع عدم العلم بأنها ذبحت على الطريقة الشرعية؟
الجواب
اللحوم المحفوظة والمستوردة إذا علمنا بطريق موثوق به أنها ذبحت على غير الطريقة الإسلامية فلا يجوز أكلها قطعا، أما إذا علمنا أنها ذبحت على الطريقة الإسلامية جاز أكلها دون حرج، فإذا لم نعلم طريقة ذبحها فإذا كانت هناك أمارات ترجح أن ذبحها شرعى جاز أكلها، ومن هذه الأمارات أن يكتب عليها عبارة " مذبوح على الطريقة الإسلامية " أو تكون هذه الذبائح مستوردة من بلاد تدين باليهودية أو النصرانية، للنص على حل ذبائحهم فى قوله تعالى {وطعام للذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} المائدة:5. وبعض النشرات التى تحذر من تناول هذه اللحوم لا يصح أن تكون دليلا قاطعا على أنها لم تذبح على الطريقة الشرعية، وعلى ذوى الاختصاص أن يثبتوا إن كانت هذه اللحوم مستوفية لشروط الذبح الشرعى أولا، وإلى أن يحصل هذا التثبت يكون العمل بالقاعدة الشرعية وهى: الأصل فى الأشياء الإباحة، واليقين لا يزول بالشك.
هذا، ويغلب على البلاد التى تدين باليهودية أو النصرانية أن تكون صادراتها، للبلاد الإسلامية من الذبائح مذكاة حسب شريعتهم فهى حلال، أما البلاد التى لا تدين باليهودية أو النصرانية فيقال: إن ما أعد للتصدير منها إلى البلاد الإسلامية يتولى ذبحه كتابى، ويكتب عليه: مذبوح على الطريقة الإسلامية.
ويمكن الاعتماد على ما كتب عليه، أما ما لا يكتب عليه ذلك فلا يطمأن إليه، وعلى المسئولين مراقبة ذلك عند الاستيراد وزيادة فى الإيضاح لهذا الموضوع ننقل لك ما نشر فى الجزء الثانى من كتاب "بيان للناس من الأزهر الشريف ":
أثيرت فى هذا الموضوع عدة مسائل نذكر أهمها فيما يلى:
1 - تخدير الحيوان قبل ذبحه:
قال تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللَّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} المائدة: 3، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " إن اللَّه كتب الإحسان على كل شىء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " رواه مسلم وغيره.
فإذا كانت الصدمة الكهربائية أو غيرها من طرق التخدير تساعد على التمكن من ذبح الحيوان بأضعاف مقاومته وقت الذبح، وكانت لا تؤثر فى حياته، بمعنى أنه لو ترك بعدها دون ذبح عاد إلى حياته الطبيعية - جاز استعمال الصدمة الكهربائية أو غيرها من طرق التخدير بهذا المفهوم قبل الذبح، وحلت الذبيحة بهذه الطريقة.
أما إذا كانت تؤثر فى حياته بحيث لو ترك بعدها دون ذبح فقد حياته، فإن الذبح وقتئذ يكون قد ورد على ميتة، فلا يحل أكلها فى الإسلام، لاحتمال موت الحيوان بالصدمة الكهربائية أو التخدير قبل الذبح. إذ تقضى نصوص فقه الشريعة الإسلامية أنه إذا اجتمع فى الذبيحة سبب محرم وآخر مبيح تكون محرمة، كما إذا رمى شخص طائرا فجرحه فسقط فى الماء فانتشله الصائد ميتا فإنه لا يحل أكله لاحتمال موته غرقا لا بجرح الصيد.
2 - ضرب الحيوان على رأسه بحديدة أو تفريغ شحنة مسدس قاتل فيها، أو صعقه بتيار الكهرباء وإلقاؤه فى ماء مغلى ليلفظ أنفاسه:
إذا مات الحيوان بهذه الطرق فهو ميتة، والميتة محرمة بنص القرآن الكريم، وهى ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح، أو ما مات حكما من الحيوان حتف أنفه من غير قتل بذكاة، أو مقتولا بغير ذكاة.
والميتة بهذه الطرق هى الموقوذة التى ورد النص بتحريمها فى آية المائدة المذكورة فى المسألة السابقة " رقم 1 ". والوقذ شدة الضرب قال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه، وقال الضحاك: كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها. وفى صحيح مسلم عن عدى بن حاتم قال: قلت: يا رسول اللَّه فإنى أرمى بالمعراض الصيد فأصيب. فقال " إذا رميت بالمعراض فخزقه فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله " وفى رواية " فإنه وقيذ " المعراض سهم يصيب بعرض عوده دون حده، خزق السهم أى نفذ فى الرمية، والمعنى نفذ وأسال الدم، لأنه ربما قتل بعرضه ولا يجوز.
والفقهاء اتفقوا على أنه تصح تذكية الحيوان الحى غير الميئوس من بقائه، فإن أصابه ما يوئس من بقائه مثل أن يكون موقوذا أو منخنقا فقد اختلفوا فى استباحته بالزكاة.
ففى فقه الإمام أبى حنيفة: وإن علمت حياتها -وإن قلَّت -وقت الذبح أكلت مطلقا بكل حال. وفى إحدى روايتين عن الإمام مالك، وأظهر الروايتين عن الإمام أحمد: متى علم مستمر العادة أنه لا يعيش حرم أكله ولا تصح تذكيته، وفى الرواية الأخرى عن الإمام مالك: أن الزكاة تبيح منه ما وجد فيه حياة مستقرة. وينافى الحياة عنده أن يندق عنقه أو دماغه. وفى فقه الإمام الشافعى: أنه متى كانت فيه حيلة مستقرة تصح تذكيته، وبها يحل أكله باتفاق فقهاء المذهب.
والذكاة فى كلام العرب الذبح وفى الشرع عبارة عن إنهار الدم وفرى الأوداج فى المذبوح، والنحر فى المنحور، والعقر فى غير المقدور عليه.
واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة، والذى جرى عليه جمهور العلماء أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج فهو آلة للذبح، ما عدا الظفر والسن، إذا كانا غير منزوعين، لأن الذبح بهما قائمين فى الجسد من باب الخنق.
كما اختلفوا فى العروق التى يتم الذبح بقطعها، بعد الاتفاق على أن كماله بقطع أربعة، هى: الحلقوم والمرىء والودجان.
واتفقوا كذلك على أن موضع الذبح الاختيارى، بين مبدأ الحلق إلى مبدأ الصدر.
وإذا كان ذلك، كان الذبح الاختيارى الذى يحل به لحم الحيوان المباح أكله فى شريعة الإسلام، هو ما كان فى رقبة الحيوان فيما بين الحلق والصدر، وأن يكون بآلة ذات حد تقطع أو تخزق بحدها لا بثقلها، سواء كانت هذه الآلة من الحديد أو الحجر، على هيئة سكين أو سيف أو بلطة أو كانت من الخشب بهذه الهيئة أيضا. لقول النبى عليه الصلاة والسلام " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ما لم يكن سنًّا أو ظفرا " فإذا ثبت قطعا أن اللحوم والدواجن والطيور المستوردة لا تذبح بهذه الطريقة التى قررها الإسلام، وإنما تضرب على رأسها بحديدة ثقيلة، أو يفرغ فى رأسها محتوى مسدس مميت، أو تصعق بتيار الكهرباء ثم تلقى فى ماء مغلى تلفظ فيه أنفاسها-إذا ثبت هذا دخلت فى نطاق المنخنقة والموقوذة المحرمة بنص الآية الكريمة.
3 - المؤلفات والنشرات التى توصى بمنع استيراد اللحوم المذبوحة فى الخارج:
ما ينقل عن بعض الكتب والنشرات عن طريقة الذبح لا يكفى لرفع الحل الثابت أصلا بعموم نص الآية الكريمة: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} المائدة: 5، وليس فى هذه النشرات ما يدل حتما على أن المطروح فى أسواقنا من اللحوم والدواجن والطيور مستورد من تلك البلاد التى وصف طرق الذبح فيها من نقل عنهم، ولابد أن يثبت أن الاستيراد من هذه البلاد التى لا تستعمل سوى هذه الطرق، ومع هذا فإن الطب - فيما أعلم -يستطيع استجلاء هذا الأمر وبيان ما إذا كانت هذه اللحوم والطيور والدواجن المستوردة قد أزهقت أرواحها بالطرق المذكورة فى المسألة السابقة " رقم 2 ".
فإذا كان الطب البيطرى أو الشرعى يستطيع علميا بيان هذا على وجه الثبوت، كان على القائمين بأمر هذه السلع استظهار حالها بهذا الطريق أو بغيرها من الطرق المجدية لأن الحلال والحرام من أمور الإسلام التى قطع فيها بالنصوص الواضحة. فكما قال الله سبحانه {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال سبحانه قبل هذا {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللَّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} .
وقد جاء فى " أحكام القرآن " لابن عربى فى تفسيره للآية الأولى: فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس، فالجواب أن هذه ميتة، وهى حرام بالنص.
وهذا يدل على أنه متى تأكدنا أن الحيوان قد أزهقت روحه بالخنق أو حطم الرأس أو الوقذ كان ميتة ومحرما بالنص. والصعق بالكهرباء حتى الموت من باب الخنق، فلا يحل ما انتهت حياته بهذا الطريق.
أما إذا كانت كهربة الحيوان لا تؤثر على حياته، بمعنى أنه يبقى فيه حياة مستقرة ثم يذبح كان لحمه حلالا فى رأى جمهور الفقهاء، أو أى حياة وإن قلت فى مذهب الإمام أبى حنيفة.
وعملية الكهرباء فى ذاتها إذا كان الغرض منها فقط إضعاف مقاومة الحيوان والوصول إلى التغلب عليه وإمكان ذبحه، جائزة ولا بأس، وان لم يكن الغرض منها هذا أصبحت نوعا من تعذيب الحيوان قبل ذبحه، وهو مكروه، دون تأثير فى حله إذا ذبح بالطريقة الشرعية حال وجوده فى حياة مستقرة. أما إذا مات صعقا بالكهرباء فهو ميتة غير مباحة ومحرمة قطعا.
فالفيصل فى الموضوع أن يثبت على وجه قاطع أن اللحوم والدواجن والطيور المستوردة المتداولة فى أسواقنا قد ذبحت بواحد من الطرق التى تصيرها من المحرمات المعدودات فى آية المائدة. وما فى الكتب والنشرات لا يعتمد عليه فى ذلك. وعلى الجهات المعنية أن تتثبت من ذلك، وإلى أن تتثبت يكون العمل بالقاعدة الشرعية:
الأصل فى الأشياء الإباحة، واليقين لا يزول بالشك، امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم الذى أخرجه البزار الطبرانى من حديث أبى الدرداء بسند حسن " ما أحل اللَّه فهو حلال، وماحرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من اللَّه عافيته، فإن اللَّه لم يكن لينسى شيئا ".
وحديث أبى ثعلبة الذى رواه الطبرانى " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها "وفى لفظ "وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها، رحمة لكم فاقبلوها " وروى الترمذى وابن ماجه من حديث سلمان أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجبن والسمن والغراء التى يصنعها غير المسلمين فقال " الحلال ما أحل اللَّه فى كتابه، والحرام ما حرم اللَّه فى كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " وثبت فى الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة امرأة مشركة، ولم يسألها عن دباغها ولا عن غسلها واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
4 - ذبائح أهل الكتاب:
أهل الكتاب هم اليهود والنصارى لأنهم فى الأصل أهل توحيد، وقد جاء حكم الله فى الآية بإباحة طعامهم للمسلمين، وإباحة طعام المسلمين لهم فى قوله سبحانه {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} . وكلمة طعام عامة تشمل الذبائح والأطعمة المصنوعة من مواد مباحة، وجمهور المفسرين والفقهاء على أن المراد من الطعام فى هذه الآية الذبائح أو اللحوم، لأنها هى التى كانت موضع الشك، أما باقى أنواع المأكولات فقد كانت حلالا بحكم الأصل.
وتثار فى ذبائحهم نقطتان، الأولى طريقة ذبحهم، والثانية التسمية عند الذبح.
أما فى الأولى فقد اشترط أكثر فقهاء المسلمين لحل ذبائحهم أن يكون الذبح على الوجه الذى ورد به الإسلام. وقال بعض فقهاء المالكية: إن كانت ذبائحهم وسائر أطعمتهم مما يعتبرونه مذكى عندهم حل لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة صحيحة، وما لا يرونه مذكى عندهم لا يحل لنا، ثم استدرك هذا الفرق فقال: فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس؟ فالجواب أن هذه ميتة وحرام بالنص، فلا نأكلها نحن، كالخنزير فإنه حلال ومن طعامهم، وهو حرام علينا فهذه أمثله واللَّه أعلم، وفتوى الشيخ محمد عبده لأهل الترنسفال فى 6 من شعبان سنة 1321هـ لم تذكر هذا الاستدراك " الفتاوى الإسلامية- المجلد 4 ص 1298 ".
إن من القواعد التى قررها الفقهاء " ما غاب عنا لا نسأل عنه " وهى مأخوذة من نصوص فقهية. ففى فقه الإمام أبى حنيفة: إنما تؤكل ذبيحة الكتابى إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شىء، أو سمع وشهد منه تسمية الله تعالى وحده. وقد روى عن الإمام على بن أبى طالب حين سئل عن ذبائح أهل الكتاب قوله: قد أحل اللَّه ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وفى فقه الإمام الشافعى: لو أخبر فاسق أو كتابى أنه ذكى هذه الشاة قبلناه، لأنه من أهل الذكاة.
فإذا ذكرت شائعات فإنه عندئذ يلزمنا التحرى. وفى هذه الحالة استفاضت الشائعات أن أوروبا (وهى أهل كتاب) تستعمل وسائل غير الذبح، فلا يصح إهمال ذلك بعدم السؤال، بل ينبغى التحرى.
وأما فى النقطة الثانية وهى التسمية عند الذبح، فقد جاء حديث البخارى فى اللحم الذى لا يدرى: هل سمى عليه اللَّه أو لا، " سموا اللَّه أنتم وكلوا ". وقد حفلت كتب السنة والسيرة بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأكل من ذبائح اليهود دون أن يسأل هل سموا اللَّه عند الذبح أم لا، وكذلك الصحابة رضوان اللَّه عليهم، وقد مر قول الإمام على: قد أحل اللَّه ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. اهـ.
هذا، ولو سمعنا ذكر اسم غير الله عند الذبح فالجمهور على عدم الأكل من هذه الذبيحة، حتى من قال منهم بأن التسمية سنة غير واجبة، أما إذا لم نسمع تسمية فالذبيحة حلال للنصوص المذكورة.
والبلاد التى تدين باليهودية أو النصرانية يغلب أن تكون صادراتها من الذبائح مذكاة حسب شريعتهم فهى حلال، أما البلاد التى لا تدين باليهودية أو النصرانية فيقال إن ما أعد للتصدير منها إلى البلاد الإسلامية يتولى ذبحه كتابى، ويكتب عليه مذبوح على الطريقة الإسلامية، ويمكن الاعتماد على ما كتب عليه، أما ما لم يكتب عليه ذلك فلا يطمأن إليه، وعلى المسئولين مراقبة ذلك عند الاستيراد، حتى نعتمد على أنفسنا بتوفير ما نحتاج إليه دون حاجة إلى استيراد ما فيه شبهة.
ومن يعيش أو يزور بلادا كتابية يطمئن إلى ما يذبح فيها إلا إذا رأى بعينيه أنه لم يذبح وكان من المحرمات المذكورة فى آية المائدة على الوجه المبين فيما سبق، أو أخبره بذلك ثقة وصدقه. والذى يزور بلادا ليست كتابية أو يعيش فيها يجب عليه أن يستوثق مما يأكله من ذبائحهم، فالغالب عليه أنه لم يذبح كما يذبح الكتابيون والمسلمون. ولا يكفى عدم العلم بحال هذا المطعوم، بخلاف البلاد الكتابية فيكفى فيها عدم العلم، لأن الغالب أنهم يذبحون(10/147)
تحضير الأرواح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تحضير الأرواح صحيح؟
الجواب
تقرر الأديان كلها أن الإنسان مادة وروح. قال تعالى: {إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين} ص: 71، 72، وأنه أحد العوالم الثلاثة التى كلفها الله بعبادته، وهى: الملائكة والإنس والجن، وكلها مادة وروح وإن كانت مادة الملائكة هى النور، ومادة الإنس هى الطين، ومادة الجن هى النار.
والروح سرها عجيب لا يدرك الإنسان منه إلا قليلا، على الرغم من إدراكه الكثير من سر المادة، قال تعالى {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} الإسراء:85، واهتم علماء المسلمين بدراستها وبيان أثرها فى الحياة وفى الفكر وفى السلوك وفى مصيرها بعد خروجها من البدن بالموت. ومن الكتب المؤلفة فى ذلك كتاب الروح لابن القيم.
وعلى الرغم من الاتجاه المادى للعالم الغربى نشطت أخيرا الدراسات الروحية، فى كليات أو معاهد خاصة، وتكونت جمعيات تمارس أنشطة متصلة بالروح، كبعض الأنشطة التى مارسها بعض المسلمين وغيرهم، باسم السحر وتحضير الأرواح، وما إلى ذلك، ونريد هنا أن نبين موقف الإسلام من تحضير الأرواح.
إن الأرواح هى لثلاثة أصناف من العوالم، الملائكة، والإنس ومعهم الحيوانات والطيور وكل ما يدب على الأرض، والجن.
فما هى صلة الإنسان بهذه الأرواح؟ .
1 - الملائكة عالم شفاف مخلوق من نور، يعطيهم الله القدرة على التشكل بالأشكال المختلفة، ولئن كان الله سخَّرهم لصالح البشر فى مهمات وكلها إليهم كتبليغ الوحى وتسجيل ما يقع من الناس من أقوال وأفعال، ومعونة المؤمنين فى الحرب وغيرها، فإن كل أنشطتهم بأمر الله وتوجيهه، لا سلطان لأحد غيره عليهم، ولا يستطيع إنسان أن يتسلط عليهم ولا أن يستعين بهم مباشرة، إلا بأمر الله سبحانه، ولما فتر الوحى عن النبى صلى الله عليه وسلم كان يشتاق لنزول جبريل عليه، فلم ينزل إلا عندما أذن الله له. فقد روى البخارى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل: " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا "؟ فنزلت {وما تتنزل إلا بأمر ربك} مريم: 64، ومن هنا لا يمكن لبشر أن يحضر ملكا أو يحضر روحه.
2 - الإنسان عندما تفارق روحه جسده لا يعرف بالضبط مكانها إلا الله سبحانه، وإن جاءت الأخبار بأن لها صلة بالميت بقدر ما يسمع ويجيب على سؤال الملكين، ويحس بالنعيم والعذاب ويرد السلام على من سلم عليه، أو بقدر أكبر من ذلك كما قيل عن الأنبياء فى قبورهم، وكما قيل عن الشهداء فى قوله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} آل عمران: 169، فقد روى مسلم وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: "أرواحهم فى جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أى شىء نشتهى ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ فعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا فى أجسادنا حتى نقتل فى سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا".
وستظل الأرواح محبوسة عند الله لا ترد إلى الأجساد إلا عند البعث من القبور للحساب. قال تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون.
لعلى أعمل صالحا فيما تركت، كلا إنها كلمة هو قائلها من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} المؤمنون: 99،100، ولا يمكن لبشر أن يتسلط على روح الميت ويحضرها ويتحدث إليها لتخبره بما هى فيه من نعيم أو عذاب، أو بأحداث فى الكون غائبة عنه، وقد يحدث الاتصال بها-دون تسلط عليها-فى الرؤى والأحلام، ويقول المهتمون بتعبير الرؤيا: إن أحوال الميت وما يقوله ويخبر به حق، لأنه انتقل من دار الباطل إلى دار الحق. وقد سبق بيان قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى ومسلم " من رآنى فى المنام فسيرانى فى اليقظة- أو كأنما رآنى فى اليقظة- لا يتمثل الشيطان بى " لكن هذه الرؤى ليست باختيار الإنسان، وليس فيها تسلط على الأرواح.
3 - الجن عالم شفاف خلق من نار، يعطيهم الله القدرة على التشكل بالأشكال المختلفة، وكما لا ترى الملائكة فى حالتها النورانية، إلا بإعجاز من الله تعالى كما قيل فى رؤية النبى صلى الله عليه وسلم لجبريل فى الغار وليلة المعراج، لا يرى الجن فى حالتهم الشفافة، كما قال تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} الأعراف:
27، ولهم عالمهم الخاص من الأكل والشرب والتزاوج، وسائر الأنشطة التى تنظم حياتهم ومنهم الصالحون وغير الصالحين، كما قال سبحانه: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا} الجن: 11،. وقد التقى النبى صلى الله عليه وسلم ببعضهم واستمعوا القرآن وآمنوا، كما جاء فى الأحقاف (الآية: 29 وما بعدها) .
وتسلط الإنس على الجن لم يكن لأحد إلا لسيدنا سليمان عليه السلام بأمر ربه، حيث سخَر الله له الريح والشياطين كما فى قوله تعالى: {قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى،إنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب. والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين فى الأصفاد} ص: 35-38، وقد روى البخارى ومسلم،أن عفريتا من الجن تفلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يقطع عليه صلاته، فأمسك به وخنقه، وأراد أن يربطه فى سارية من سوارى المسجد، لكنه تذكر دعوة أخيه سليمان، فأطلقه. وجاء فى رواية مسلم قوله: "والله لولا دعوة أخى سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة " وفى رواية النسائى بإسناد جيد أنه خنقه حتى وجد برد لسانه على يده.
ومن هنا لا يمكن لبشر أن يتسلط على الجن بتحضيره وقهره على عمل معين، لكن الجن يتسلطون على الأنس ويقهرونهم على سلوك معين، إلا من أعطاه الله القوة فنجاه منهم، قال تعالى على لسان إبليس: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} ص: 82، 83،. كما أن المتمردين منهم يمكنهم بغير الوسوسة والإغواء أن يضروا الإنس بأى نوع من الضرر، حيث لا دليل يمنع من ذلك.
وقد صح أن كل واحد من بنى آدم له قرين يلازمه من يوم ميلاده إلى أن يموت، روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه " ثم قال أبو هريرة راوى الحديث: اقرءوا إن شئتم {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} آل عمران: 36،. ويتسلط هذا القرين على صاحبه يحاول إفساد حياته عليه، إلا العباد المخلصين كما التزم وهو أمام الله بقضاء منه سبحانه {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} الحجر: 42،. يقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن " قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: " وإياى، إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم، فلا يأمرنى إلا بخير " أى فأسلم القرين، أو فأسلم أنا من القرين لأن الله أعاننى عليه.
غير أن الإنسان إذا لم يستطع التسلط على الجن إلا بإذن الله، فليس ذلك بمانع أن يتصل به ويتعاون معه ليحقق له بعض الأغراض وهذا الاتصال يتم بعدة أساليب، ووقع ذلك لبعض الناس فى القديم والحديث، وعرف منهم الكهان والعرافون والسحرة. وكان من هذا الاتصال ما يسمى الآن بتحضير الأرواح. وهذا التحضير كما سبق ذكره لا يكون لأرواح الملائكة ولا الآدميين بعد موتهم، وإنما هو لهذه الأرواح المعروفة بالجن. والقرين من الجن له قدرة على تقليد صاحبه فى صوته وقد يتشكل بشكله، وهو على دراية واسعة بحاله الظاهرة، وقد يكون بحاله الباطنة أيضا مما تدل عليه الظواهر، وللقرناء صلة ببعضهم يعرفون عن طريقها الأخبار التى تحدث للناس، فيمكن لقرين سعد مثلا أن يعرف أحوال سعيد عن طريق سؤال قرينه، ومن هنا يمكن لقرين سعد أن يخبر سعدا بحال سعيد، إما بصوت يسمعه ولا يرى صاحبه، وهو ما يعرف باسم الهاتف، وإما بطريق آخر من طرق الأخبار، وقد يكون هذا القرين مساعدا لصاحبه فى بعض الأعمال فتسهل عليه، وقد يكون على العكس مشاكسا فيضع العراقيل فى طريقه فيحس بالضيق والألم وقد يحصل غير ذلك فإن عالم الجن عالم غريب يخفى علينا الكثير من أحواله. وكل هذه التصرفات فى دائرة الإمكان.
فإذا قام إنسان -على مواصفات معينة وبطرق مختلفة-بتحضير روح إنسان فهو يحضر روح قرينه، الذى يستطيع أن يقلد صوته ويخبر عن كثير من أحواله، وعن أمور غائبة عرفها القرناء وتبادلوا أخبارها، فيحسب الإنسان أن الروح التى تتكلم هى روح آدمى، وهى روح قرينه، التى لا تستطيع أبدا أن تخبر عن المستقبل فمجالها هو الحاضر الذى يخفى على بعض الناس. ذلك أن الجن لا يعلمون الغيب أبدا، قال تعالى: {قل لا يعلم من فى السماوات والأرض الغيب إلا الله} النمل: 65، وقال عن جن سليمان بعد موته {فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين} سبأ: 14، وقد يكذب القرناء فى أخبارهم، فيقول قرين الكافر مثلا إنه فى نعيم، وهو بنص القرآن فى عذاب أليم، والروح الحقيقية لأى إنسان لا تكذب بعد الموت، فهو فى دار الحق التى لا كذب فيها، ولم يحدث أن ادعى من يزاولون تحضير الأرواح أنهم أحضروا روح نبى من الأنبياء، وذلك لأن الشياطين لا تتمثل بهم ولا تستطيع تقليد أصواتهم، كما يحدث من القرناء مع بقية البشر.
فالخلاصة أن تحضير الأرواح هو تحضير لأرواح الجن وليس لأرواح الملائكة أو البشر، ولا يجوز الاعتماد على ما تخبر به هذه الأرواح، فقد تكون صادقة وقد تكون كاذبة فيما تقول. وتحضير أرواح الجن أمر ممكن غير مستحيل، لعدم ورود ما يمنعه، ولحدوثه واقعا والذى لا يمكن ويسمى خرافة هو تحضير أرواح الملائكة وأرواح بنى آدم.
ومن الواجب ألا يستغل إمكان تحضير الجن استغلالا سيئا، كما يفعل الدجالون والمشعوذون، كما أن من الواجب ألا يخرج بنا الحماس فى مقاومة الدجل والشعوذة إلى حد الإنكار لوجود الجن، فهم موجودون ومكلفون مثل البشر، وهم يستطيعون الإضرار بالناس بإذن الله، كما يضر الناس بعضهم بعضا، وليس هذا الإضرار قاصرا فقط على الوسوسة والإغواء، بل منه ما يكون فى الماديات التى تتعلق بالإنسان فى مأكله ومشربه وملبسه، بل وفى جسمه، فليس هناك دليل على منعه، والأمر بالتسمية لطرد الشيطان معروف.
والواجب أن نتحصن بقوة الإيمان والثقة بالله، والإقبال على طاعته والبعد عن معصيته ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وأن نزن أمورنا بميزان العقل الذى كرمنا الله به، وأن نحكمه فيما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة، وما استعصى علينا فهمه ينبغى ألا نبادر بإنكاره، بل علينا التريث والتدبر حتى تتضح الأمور وتظهر الأدلة القاطعة على صدقه أو كذبه(10/148)
الإضراب عن الطعام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن يضرب عن الطعام إذا وقع عليه ظلم وكيف يكون التصرف معه؟
الجواب
ليس فى الدين شىء اسمه الإضراب عن الطعام أو الشراب لتحقيق غرض من الأغراض، فهو وسيلة سلبية يجب ألا يأخذ بها أحد، والوسائل المشروعة كثيرة.
ومن سلك هنا المسلك فقد أضر نفسه بالجوع والعطش فى غير طاعة، والحديث معروف (لا ضرر ولا ضرار" وفى الوقت نفسه عرَّض نفسه للموت والله يقول {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} البقرة: 195،. ومن مات بهذا الإضراب يكون منتحرا، والانتحار من كبائر الذنوب، فإن استحله كان كافرا، لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن فى مقابر المسلمين(10/149)
حبس الطيور والأسماك للزينة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز حبس الطيور فى أقفاص للتمتع بمنظرها أو صوتها؟
الجواب
بعض الطيور فيها جمال فى أصل الخلقة أو فى الألوان أو فى الأصوات أو فى غيرها، والجمال محبب إلى كل نفس سوية، وهو من نعم الله التى يجب أن تشكر، كما قال تعالى {قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق} الأعراف: 22، وقال {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} النحل: 8.
وإذا كانت الزينة التى خلقها الله وأخرجها لعباده فى الحيوانات والنباتات وغيرها مباحة وغير محرمة، فكذلك التزين - وهو فعل الزينة - ليس ممنوعا فى كل الأحوال، وإذا كان ممنوعا عند التكبر والخيلاء أو الإسراف فهو غير ممنوع إن خلا من هذه الأشياء جاء فى تفسير القرطبى "ج 7 ص 97 " ليس كل ما تهواه النفس يذم وليس كل ما يتزين به الناس يكره، وإنما ينهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو كان على وجه الرياء فى باب الدين، فإن الإنسان يُحِب أن يُرىَ جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه، ولهذا يسرح شعره، وينظر فى المرآة، ويسوى عمامته، ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج، وليس فى شىء من هذا ما يحرم أو يذم.
وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفى الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر فى الماء ويسوى لحيته وشعره، فقلت: يا رسول الله وأنت تفعل هذا؟ قال " نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال ".
وفى صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر " فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ".
بعد هذه المقدمة فى الزينة وأن الأصل فيها الحل، وفى أهمية الجمال فى حيلة الناس، وموقف الإسلام الرائع فى تشريعه العادل الذى لا يهمل الفطرة الإنسانية إهمالا تاما ولكن يوجهها ويهذبها - بعد هذه المقدمة أقول: إن صنع الزينة واستعمالها والاتجار فيها لا بأس به فى حد ذاته، ومن الزينة بعض الطيور والأسماك، فيجوز اقتناؤها وبيعها ما دام ذلك فى حدود الشرع وبشروط، ومن هذه الشروط:
1 - ألا يقصد بها التفاخر والخيلاء، كما هو دأب المترفين، والأعمال بالنيات.
2 - ألا يلهى التمتع بها أو الانشغال برعايتها واستثمارها عن واجب من الواجبات.
3 - ألا يهمل فى رعايتها بالتقصير فى تغذيتها مثلا، فالحديث معروف فى تعذيب الله للمرأة التى حبست القطة دون أن تطعمها أو تسقيها. هذا، وقد ورد فى الصحيحين عن أنس رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وكان لى أخ لأمى فطيم يقال له عمير، فكان رسول الله @ إذا جاءنا قال "يا أبا عمير ما فعل النُّغَير "؟ وعمير تصغير عمر أو عمرو. والفطيم بمعنى المفطوم، والنغير تصغير نُغَر وهو طير كالعصافير حمر المناقير، وأهل المدينة يسمونه البلبل.
قال الدميرى فى كتابه " حياة الحيوان الكبرى ": فى الحديث دليل على جواز لعب الصغير بالطير الصغير. وقال العلامة أبو العباس القرطبى: لكن الذى أجازه العلماء هو أن يمسك له وأن يلهو بحبسه، وأما تعذيبه والعبث به فلا يجوز، لأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان إلا لمأكله.
وقال غيره: معنى قوله. يلعب به، يتلهى بحبسه وإمساكه، وفيه دليل على جواز حبس الطير فى القفص والتلهى به لهذا الغرض وغيره. ومنع ابن عقيل الحنبلى من ذلك، وجعله سفها وتعذيبا، لقول أبى الدرداء رضى الله عنه:
تجئ العصافير - يوم القيامة تتعلق بالعبد الذىَ كان يحبسها فى القفص عن طلب أرزاقها وتقول: يا رب هذا عذبنى فى الدنيا.
والجواب أن هذا فيمن منعها المأكول والمشروب، وقد سئل القفال عن ذلك فقال -: إذا كفاها المؤونة جاز، بل فى الحديث دليل على جواز قنصها - صيدها - للعب الصبيان بها، وكان بعض الصحابة يكره ذلك، ورأيت لأبى العباس أحمد بن القاص مصنفا حسنا على هذا ويؤخذ مما ذكره الدميرى أن حبس الطيور للزينة وغيرها جائز ما دام يكفيها مؤونتها، وما دام لا يعذبها، ومن كره ذلك من بعض العلماء محله عند التقصير والإيذاء، والكراهة على كل حال لا تعنى الحرمة، فالحرام معصية يعاقب عليها، والمكروه ليس معصية ولا يعاقب عليه.
وحكم الطير يسرى على الأسماك المتخذة للزينة فى أحواض ضيقة ليست فى سعة الأنهار، والبحار، وكذلك على الحيوانات فى الحدائق المعدة لها، وقد حبست فى أقفاص أو أبنية ليست فى سعة الصحراء والغابات التى كانت تعيش فيها من قبل(10/150)
اقتناء الكلاب والاتجار فيها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم تربية الكلاب والاتجار فيها؟
الجواب
أولا: حكم اقتناء الكلاب:
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل " وروى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من اقتنى كلبا، إلا كلب ماشية أو ضارٍ نقص من عمله كل يوم قيراطان " وفى رواية " إلا كلب صيد أو ماشية " وفى رواية إلا كلب ضارية أو ماشية " وفى رواية "إلا كلب ماشية أو كلب صيد " وفى رواية " إلا كلب زرع أو غنم أو صيد "0 وجاء فى بعض الروايات "نقص من عمله كل يوم قيراط ".
وروى أبو داود والنسائى وابن حبان فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب ".
يؤخذ من هذا حرمة اقتناء الكلاب التى لا فائدة فيها، كما نصت الأحاديث على استثناء ما فيه فائدة، وهى كلاب الصيد، وكلاب حراسة الزرع، وكلاب حراسة الماشية، وقد يقاس عليها الكلاب البوليسية لأن لها منفعة، قال النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 10 ص 236 ": وأما اقتناء الكلاب فمذهبنا-الشافعية- أنه يحرم اقتناء الكلب بغير حاجة. ويجوز اقتناؤه للصيد وللزرع وللماشية، وهل يجوز لحفظ الدور والدروب ونحوها؟ فيه وجهان أحدهما لا يجوز لظواهر الأحاديث فإنها مصرحة بالنهى إلا لزرع أو صيد أو ماشية، وأصحهما يجوز، قياسا على الثلاثة، عملا بالعلة المفهومة من الأحاديث وهى الحاجة، وهل يجوز اقتناء الجرو وتربيته للصيد أو الزرع أو الماشية؟ فيه وجهان لأصحابنا - الشافعية - أصحهما جوازه.
والكلب الضارى هو المعلَّم الصيد المعتاد له، ويترتب على حرمتها عدم دخول ملائكة الرحمة للبيت الذى هى فيه أما الحفظة فلا يفارقون الإنسان بأى حال من الأحوال ونقصان الثواب الذى يستحقه المرء على عمله فى كل يوم بمقدار اختلفت فيه الروايات ما بين قيراط وقيراطين، والقيراط قدر معلوم عند الله تعالى، وقيل عن نقص القيراط أو القيراطين أن ذلك فى نوع يكون أذاه أشد من النوع الآخر، فيزيد نقص الثواب، وقيل نقص القيراطين لكلاب المدن والقرى، ونقص القيراط لكلاب البوادى، وقيل كان النقص قيراطا فأراد النبى التغليظ فأخبر أنه قيراطان، والمهم أن ثواب العمل ينقص سواء مما مضى أو مما يستقبل وذكر العلماء أن سبب نقصان الأجر هو امتناع الملائكة من دخول البيت بسبب الكلب لأن رائحته كريهة والملائكة تكره للرائحة الخبيثة، ولأن بعض الكلاب يسمى شيطانا كما جاء فى الحديث، والملائكة ضِدَّ الشياطين، وقيل لما يلحق المارين من الأذى من ترويع الكلب لهم، وقيل عقوبة لاتخاذ ما نهى عن اتخاذه وعصيانه فى ذلك، وقيل لما يبتلى به من ولوغه فى غفلة صاحبه ولا يغسله بالماء والتراب " انظر: الإسلام ومشاكل الحياة ص 258 ".
ثانيا: الاتجار فيها:
روى مسلم عن أبى مسعود الأنصارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغى وحلوان الكاهن، وفى رواية عن رافع بن خَدِيج أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول " شر الكسب مهر البغى وثمن الكلب وكسب الحجام " وفى رواية " ثمن الكلب خبيث ومهر البغى خبيث، وكسب الحجام خبيث ".
ومهر البغى هو ما تأخذه فى مقابل الزنا بها، وسمى مهرا لكونه على صورته، وهو حرام بالإجماع، وحُلْوان الكاهن ما يعطاه على كهانته،وسمى بذلك لأنه سهل من غير كلفة فله حلاوة معنوية، وهو حرام بالإجماع لأنه عوض عن محرم وأكلٌ لأموال الناس بالباطل.
يقول الدميرى فى كتابه " حياة الحيوان الكبرى " ج 2 ص 261: لا يصح بيع الكلاب عندنا - أى الشافعية - خلاَفا لمالك فإنه، أباح بيعها حتى قال سُحْنُون: ويحج بثمنها، وقال أبو حنيفة: يجوز بيع غير العقور.
ويقول النووى " شرح صحيح مسلم ج 10 ص 232 " وأما النهى عن ثمن الكلب وكونه من شر الكسب وكونه خبيثا فيدل على تحريم بيعه، وأنه لا يصح بيعه ولا يحل ثمنه، ولا قيمة على متلفه، سواء كان مما يجوز اقتناؤه أم لا. وبهذا قال جماهير العلماء ومنهم الشافعى وأحمد، وقال أبو حنيفة يصح بيع الكلاب التى فيها منفعة، وتجب القيمة على متلفها. وحكى ابن المنذر عن جابر وعطاء والنخعى جواز بيع كلب الصيد دون غيره. وعن مالك روايات إحداها لا يجوز بيعه ولكن تجب القيمة على متلفه ودليل الجمهور هذه الأحاديث. وأما الأحاديث الواردة فى النهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد وفى رواية إلا كلبا ضاريا، وأن عثمان غَرَّم إنسانا ثمن كلب قتله عشرين بعيرا، وعن ابن عمرو بن العاص التغريم فى إتلافه فكلها ضعيفة باتفاق أئمة الحديث.
وجاء فى كتاب " نيل الأوطار للشوكانى "ج 5 ص 153 تعليقا على حديث الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب: فيه دليل على تحريم بيع الكلب، وظاهره عدم الفرق بين المعلَّم وغيره، سواء كان مما يجوز أو مما لا يجوز، وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: يجوز، وقال عطاء والنخعى: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره.
ويدل عليه ما أخرجه النسائى من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. وفى هذا الحديث مقال.
يؤخذ من كل ما سبق أن الاتجار فى الكلاب جائز عند الإمام مالك فى رواية كما قال سحنون. وكذلك عند أبى حنيفة فيما لا يضر، وغير جائز عند الشافعى مطلقا.
هذا، وحكم قتل الكلاب الضالة سيأتى بعد عند الكلام على قتل الحيوانات والطيور الضارة(10/151)
السحر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى السحر؟
الجواب
يقول الله تعالى {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} البقرة:
102.
مادة السحر التى وردت فى القرآن الكريم ستين مره تعطى فيما تعطى من المعانى: الغرابة والخروج على المألوف بما يجذب الانتباه ويثير العجب، ومنه القول المأثور: إن من البيان لسحرا، وله أنواع وأساليب ذكرها الفخر الرازى فى تفسيره.
وقد أشار القرآن الكريم إلى اشتهار المصريين القدماء به، وذكر موقفهم من دعوة موسى عليه السلام، ومعجزة العصا التى انقلبت حية وابتلعت حبال السحرة وعصيهم التى يخيل لمن يراها أنها تسعى، كما مارسته بابل القديمة حتى ضرب به المثل فى كل جميل غريب فيقال: " سحر بابلى ". وعرفه العرب قبل الإسلام، وما يزال معروفا إلى الآن.
وتفيد الآية الكريمة المذكورة عدة أمور:
(أ) أن السحر حقيقة تاريخية موجودة، بصرف النظر عن كونه تخييلا يجعل الإنسان ينظر إلى الشىء على غير حقيقته، أو كونه يقلب الشىء عن حقيقته ويحوله إلى حقيقة أخرى، والذى يجب الإيمان به أن ما كان من انقلاَب عصا موسى إلى حية ليس سحرا، وإنما هو معجزة من صنع الله تعالى، خرق بها العادة، وحول حقيقة العصا الجامدة الميتة إلى حية متحركة بقدرته سبحانه، سم أعادها بقدرته أيضا إلى حقيقتها الأولى.
وجاء تعبير القرآن الكريم عما فعله السحرة بقوله {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم} الأعراف: 116، وقوله تعالى {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} سورة طه: 66.
(ب) أن للسحر تأثيرا بالنفع والضر {يفرقون به بين المرء وزوجه} .
(ج) أن تأثيره لا يكون إلا بإذن الله " {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} .
(د) أن السحر كفر {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر، {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} فما هو متعلق الكفر فيه، هل هو تعليمه وتعلمه، أو هو العمل به، أو هو اعتقاد أنه يؤثر بنفسه دون تدخل إرادة الله؟ .
حول هذه الأسئلة الثلاثة ثار اجدل واحتدم النقاش وتعددت الآراء وذلك مبسوط فى كتب التفسير، وعلى الأخص تفسير الفخر الرازى، وفى كتاب الزواجر لابن حجر الهيتمى من علماء القرن العاشر الهجرى.
ومن بين هذه الآراء يمكن اختيار ما يأتى:
1 - أن اعتقاد تأثيره بعيدا عن إرادة الله تعالى كفر، وذلك محل اتفاق.
2 - أن ممارسته من أجل الإضرار بالناس حرام، حتى مع اعتقاد أنه يؤثر بإذن الله، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار.
3- أن ممارسته لتحقيق مصلحة مع اعتقاد أنه يؤثر بإذن الله لا حرمة فيها.
قال القرطبى: هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور؟ قال البخارى:
عن سعيد بن المسيب رضى الله عنه يجوز وإليه مال المارزى، وكرهه الحسن البصرى. وقال الشعبى: لا بأس بالنشرة، وفسرت بالرقية لعلاج المسحور (الزواجر لابن حجر: ج 2 ص 104) .
4 - أن تعلمه أو تعليمه يرجع فيه إلى المقصود منه، فإن كان خيرا كمعرفة الفرق بينه وبين المعجزة -كما جاء فى أمثلة العلماء-أو استعماله للمصلحة فلا حرمة فيه، كنوع من الثقافة التى عبر عنها بعض الحكماء بقوله:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه * ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه.
وإن كان المقصود من ذلك شرا فهو حرام، فالأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
وبهذا يفهم حديث البخارى ومسلم الذى جعل السحر من السبع الموبقات، أى كبائر الذنوب، والوسائل التى تستخدم فى السحر يعرفها الممارسون له والخبراء به - فقد تكون بالاستعانة بالجن، وقد تكون بمعرفة خواص بعض الكائنات، وقد تكون بالإيحاء والاستهواء، وبغير ذلك، فالوسائل إما من ذات الساحر، وإما من غيره، وهذا الغير إما كائن حى أو غير حى، وقد ذكر الفخر الرازى منها ثمانية أنواع جاء فيها أنه قد يكون من أصحاب النفوس القوية بالتسلط على أصحاب النفوس الضعيفة، وقد يكون بالاستعانة بالجن والعزائم والبخور، وقد يكون بما يقال عنه الآن خفة اليد، يلهى العين بعمل شىء ليعمل غيره، وقد يكون بالفن والصنعة التى تخلب الألباب - ومنه حيل التصوير السينمائى -، وقد يكون باستعمال أدوية لها خواص معينة كالتى يدهنون بها أجسادهم فلا تحرقهم النار.
هذا، وقد تحدث العلماء عن الحديث الذى ورد فى البخارى ومسلم أن رجلا من بنى زريق حليف لليهود اسمه لبيد بن الأعصم سحر النبى @ فأثبته جماعة، وقالوا: ذلك جائز، فهو مرض من الأمراض التى تصيب الإنسان، وهو لم يؤثر عليه من ناحية تبليغ الرسالة والتزام أحكامها، وأولوا قوله تعالى {والله يعصمك من الناس} المائدة: 67، بعصمة القلب والإيمان دون الجسد، فقد شج وجهه وكسرت رباعيته وآذاه جماعة من قريش.
والجصاص من أئمة الحنفية قد نفى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر، على الرغم من صحة الحديث، وذلك استنادا إلى الآية، ولعدم فتح الباب للطعن فيما بلغه من الرسالة.- وقد وضح ابن القيم ذلك فى كتابه: " زاد المعاد " كما وضحه النووى فى شرح صحيح مسلم بما يثبت العصمة للنبى صلى الله عليه وسلم فى أمور التبليغ، ويجيز تأثره بما يتأثر به الناس من الأمراض التى لا تخل بهذه العصمة.
وخلاصة ما فى زاد المعاد (ج 3 ص 104) : قد أنكر هذا طائفة من الناص وقالوا لا يجوز هذا عليه وظنوه نقصا وعيبا، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما، وقد ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتى نساءه ولم يأتهن، وذلك أشد ما يكون من السحر، قال القاضى عياض: والسحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح فى نبوته، وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشىء ولم يفعله فليس فى هذا ما يدخل عليه داخلة فى شىء من صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هنا فيما يجوز طروؤه عليه فى أمر دنياه التى لم يبعث لسببها ولا فصل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلى عنه كما كان انتهى.
هذا، وقد تأثر موسى عليه السلام بما فعله السحرة، فقال تعالى {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. فأوجس فى نفسه خيفة موسى} وليس ذلك قادحا فى رسالته عليه السلام. ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى:
1 - تفسير الفخر الرازى وابن كثير والقرطبى فى سورة البقرة والمعوذتين.
2- زاد المعاد لابن القيم.
3- مفتاح دار السعادة لابن القيم.
4- حياة الحيوان الكبرى للدميرى " مادة كلب "(10/152)
الرشوة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو التحديد الشرعى للرشوة وما حكمها؟
الجواب
الرشوة فعلها رشا يرشو، وهى إما مصدر وإما اسم للشىء الذى يرشى به، ويقال أيضا أرشاه يرشيه أى قدم له الرشوة، فالفعل إما ثلاثى وإما رباعى " مختار الصحاح ".
1 - قال ابن الأثير فى " النهاية " الرشوة ما يتوصل به إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرِّشَا الذى يتوصل به إلى الماء، فالراشى من يعطى الذى يعينه على الباطل، والمرتشى هو الآخذ، والرائش هو الذى يسعى بينهما، يستزيد لهذا ويستنقص لهذا، فأما ما يُعْطَى توصلا إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه، يروى أن ابن مسعود أخذ بأرض الحبشة فى شىء، فأعْطَى دينارين حتى خلى سبيله، وروى عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم.
جاء فى تاج العروس وحاشية الطحطاوى على الدر "ج 3 ص 177 " أن الرشوة فى الإصطلاح ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل.
وأرى أنها تطلق فى العرف الجارى على ما يدفع لنيل ما يصعب الحصول عليه، وذلك إما لأنه ممنوع شرعا أو قانونا، وإما لأنه غير ممنوع ولكن يحتاج إلى جهد للحصول عليه، فالأول كالقضاء له بشىء لا يستحقه، أو بظلم أحد لا يستحق الظلم، والثانى كحصوله على حقه ويحتاج إلى دفع شىء للتعجيل به وعدم التسويف فيه أو محاولة منعه، وكدفع ظلم عنه لا يمكن إلا بما يقدم لمن يستطيع دفع هذا الظلم.
2 - والرشوة فى النوع الأول حرام لأن الممنوع شرعا أو عقلا حرام، وكل ما يوصل إلى الحرام فهو حرام، سواء كان ذلك بين الأفراد بعضهم مع بعض، أم بين الأفراد ومن بيدهم سلطان قضائى أو تنفيذى، وذلك من أجل أن ينال هذا الشىء الحرام من الأول بالحكم ومن الثانى بالتنفيذ، قال تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} البقرة: 58، وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} النساء: 29.
وورد فى السنة عن عبد اللَّه بن عمرو قال: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الراشى والمرتشى. رواه أبو داود والترمذى، وقال: حسن صحيح.
وعن أبى هريرة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشى والمرتشى والرائش، يعنى الذى يسعى بينهما، رواه الترمذى وحسَّنه، وابن حبان فى صحيحه والحاكم، وجاء فى بعض الروايات: والمرتشى فى الحكم وفيه حديث ابن اللتبية الذى كان يعمل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الصدقات ورجع بالصدقات وبهدايا، فغضب الرسول وقال " هلا قعد فى بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته "؟ ونص الحديث: عن أبى حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدى قال: استعمل النبى صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له " ابن اللتبية " على الصدقة، فلما قدم قال هذا لكم وهذا اهدى إلى، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال " أما بعد، فإنى أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولانى اللَّه فيأتى ويقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلى، أفلا جلس فى بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، واللَّه لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقى الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن واحدا منكم لقى اللَّه يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار، أو شاة تَيْعَر " ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه فقال " اللهم هل بلَّغت " رواه البخارى ومسلم.
3- بعد هذا أنقل شيئا مما قاله العلماء فى موضوع الرشوة:
(أ) جاء فى كتاب " الآداب الشرعية والمنح المرعية " لشمس الدين أبى عبد اللَّه محمد بن مفلح المقدسى الحنبلى المتوفى بتاريخ 2 من رجب سنة 762 هـ عن الهدية ما ملخصه:
حرم ابن تيمية الهدية فى كل شفاعة فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم، وفى شفاعة عند ولى أمر ليوليه ولاية أو يستخدمه فى المقاتلة وهو مستحق لذلك. أو ليعطيه من الموقوف على الفقراء أو القراء أو الفقهاء أو غيرهم وهو من أهل الاستحقاق، وهذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، وقد رخص بعض الفقهاء المتأخرين فى ذلك، وجعل هذا من باب الجعالة، يعنى الشافعية.
قال: وهو مخالف للسنة وأقوال الصحابة والأئمة وهو غلط، لأن مثل هذا من المصالح العامة التى يكون القيام بها فرض عين أو كفاية، فيلزم من اخذ الجعل فيه ترك الحق، والمنفعة ليست للباذل بل للناس، وطلب الولاية منهى عنه فكيف بالعوض فهذا من بلب الفساد. انتهى كلامه.
والخبر الذى احتج به هو: روى أبو داود فى سننه " باب الهدية للحاجة " ثم روى عن أبى أمامة مرفوعا للنبى صلى الله عليه وسلم " من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا " ضعفه بعضهم [جاء فى بلوغ المرام " ص 177 " أن ابن حجر قال: فى إسناده مقال، يعنى حديث ضعيف] لكن نص أحمد رضى الله عنه.
على أنه لو قال: اقترض لى مائة ولك عشرة أنه يصح، قال أصحابنا:
لأنه جعالة على فعل مباح، وقالوا: يجوز للإمام أن يبذل جعلا لمن يدل على ما فيه مصلحة للمسلمين، وأن المجعول له لا يستحق الجعل، مسلما كان أو كافرا، وقاسو على أجرة الدليل [أى دليل النبى صلى الله عليه وسلم " فى الهجرة، وكان كافرا] .
(ب) والإمام الغزالى فى كتابه إحياء علوم الدين "ج 2 ص 136 طبعة عثمان خليفة " فصَّل الموضوع تفصيلا لا مزيد عليه فى الفرق بين الرشوة والهدية، وسأحاول تلخيص ما قال فيما يأتى:
باذل المال لا يبذله قط إلا لغرض، ولكن الغرض إما اَجل كالثواب وإما عاجل، والعاجل إما مال وإما فعل وإعانة على مقصود معين، وإما تقرب إلى قلب المهدى إليه بطلب محبته، إما للمحبه فى عينها وإما للتوصل بالمحبة إلى غرض وراءها، فالأقسام خمسة:
الأول: ما غرضه الثواب فى الآخرة، كأن يهدى لمحتاج أو عالم، أو ذى نسب دينى أو صالح متدين، فلا بأس، وعلى هؤلاء ألا يأخذوا ذلك إلا إذا كان بهذه الصفة التى من أجلها أهدى الناس إليهم.
الثانى: ما يقصد به فى العاجل غرض معين، كالفقير الذى يهدى إلى الغنى طمعا فى غناه، فهذه هبة بشرط الثواب لا يخفى حكمها، وإنما تحل عند الوفاء بالثواب المطموع فيه.
الثالث: أن يكون المراد إعانة بفعل معين. كالمحتاج إلى السلطان يهدى إلى وكيل السلطان وخاصته ومن له مكانة عنده، فهذه هدية بشرط ثواب يعرف بقرينة الحال فينظر لهذا العمل الذى هو الثواب، فان كان حراما، بأخذ ما لا يستحق أو بظلم غيره حرم الأخذ، وإن كان العمل الذى هو الثواب واجبا، كدفع ظلم متعين على من يقدر عليه أو بشهادة متعينة فيحرم عليه ما يأخذه، وهى الرشوة التى لا يشك فى تحريمها، وإن كان مباحا لا واجبا ولا حراما وكان فيه تعب بحيث لو عرف لجاز الاستئجار عليه فما يأخذه حلال إن وفى بالغرض، وهو كالجعالة، مثل اقترح على فلان أن يعيننى فى غرض كذا أو ينعم على بكذا، وكان ذلك يحتاج إلى كلام وجهد فهذه جعالة، كما يأخذ الوكيل بالخصومة " المحامى " بين يدى للقاضى، فليس بحرام إذا كان لا يسعى فى حرام، أما إن كان مقصوده يحصل بكلمة لا تعب فيها، ولكن تلك الكلمة أو كانت تلك الفعلة من ذى جاه تفيد، كقوله للبواب:
لا تغلق دونه باب السلطان، وكوضعه قصته بين يدى السلطان فقط فهذا حرام، لأنه عوض عن الجاه ولم يثبت فى الشرع جواز ذلك، بل ثبت ما يدل على النهى عنه، كما سيأتى فى هدايا الملوك، ومثل ذلك أخذ الطبيب العوض على كلمة واحدة ينبه بها على دواء ينفرد بمعرفته، فلا يذكره إلا بعوض، فإن عمله وهو التلفظ غير متقوم، كحبة من سمسم، فلا يجوز أخذ العوض عليه ولا على علمه، إذ ليس ينتقل علمه إلى غيره، وإنما يحصل لغيره مثل علمه ويبقى هو عالما به، وهذا غير الحاذق فى الصناعة، كالذى يصقل السيف أو المرآة بدقة واحدة لحسن معرفته بموضع الخلل ولحذقه بإصابته، فقد يزيد بدقة واحدة مال كثير فى قيمة السيف والمرآة، فهذا لا أرى بأسا بأخذ الأجرة عليه، لأن مثل هذه الصناعات يتعب الرجل فى تعلمها ليكتسب بها، ويخفف عن نفسه كثرة العمل (فى رأيى لا فرق بين الصانع والطبيب، لأن الطبيب بذل جهدا فى تعلم الطب ليكتسب به أيضا كالصانع، ولولا دلالته على الدواء لكان أخطر) .
الرابع: ما يقصد به المحبة وجَلبها من قبل المهدى إليه لا لغرض معين، بل لتأكيد الصحبة وتودد القلوب، فهذا مندوب إليه عقلا وشرعا، لحديث " تهادوا تحابوا " رواه البخارى فى الأدب المفرد، والبيهقى، قال الحافظ: إسناده حسن وضعفه ابن عدى كما قاله العراقى وحتى لو كانت المحبة لا تطلب لذات المحبة بل لما وراءها فان ما وراءها غير معلوم، فتسمى هدية ويحل أخذها.
الخامس: أن يطلب التقرب إلى قلبه ليتوصل بجاهه إلى أغراض لولا جاهه ما أهداه شيئا، فإن كان جاهه لأجل علم أو نسب فالأمر فيه أخف، وأخذه مكروه، فإن فيه مشابهة الرشوة ولكنها هدية فى ظاهرها فإن كان جاهه بولاية تولاها من قضاء أو عمل أو ولاية صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية فهذه رشوة فى شكل هدية، ولولا سلطانه ما أهدى إليه، بدليل أنه لو عزل من سلطانه دفعت الهدية إلى من يخلفه، وهذا متفق على كراهته الشديدة.
لكن اختلفوا فى كونه حراما والمعنى فيه متعارضا، لأنه دائر بين الهدية المحضة والرشوة المبذولة لغرض، وإذا تعارضت المشابهة القياسية وعضدت الأخبار والآثار أحدهما تعين الميل إليه، وقد دلت الأخبار على تشديد الأمر فى ذلك، لحديث " يأتى على الناس زمان يستحل فيه السحت بالهدية والقتل بالموعظة، يقتل البرئ لتوعظ به العامة" [قال العراقى: لم أقف له على أصل] وأورد حوادث منها: أن مسروق بن الأجدع [من التابعين] شفع شفاعة فأهدى له المشفوع له جارية، فغضب وردها، وسئل طاووس [من التابعين] عن هدايا السلطان فقال: سحت، وأخذ عمر ربح مال القراض الذى أخذه ولداه من بيت المال وقال: إنما أعطيتما لمكانكما منى. وأهدت امرأة أبى عبيدة ابن الجراح إلي " ماتون " ملكة الروم خَلُوقًا - طيبا - فكافأتها بجوهر، فأخذه عمر فباعه وأعطاها ثمن الخلوق ورد باقيه لبيت المال ولما رد عمر بن عبد العزيز هدية قيل له: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، فقال: كان ذلك له هدية ولنا رشوة " تاريخ السيوطى ص 157 " أى كان يتقرب به إليه لنبوته لا لولايته، ثم ذكر الغزالى حديث ابن اللتبية الذى سبق ذكره. انتهى ملخصا.
(ج) ومما يؤثر فى هذا الموضوع أن محمد بن مسلمة عندما أرسله عمر بن الخطاب ليشاطر عمرو بن العاص ماله امتنع عن الأكل عنده وعده رشوة " العقد الفريد لابن عبد ربه ج 1 ص 14 ".
(د) وبعث النبى صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه بن رواحة إلى أهل خيبر ليقدر الزكاة الواجبة عليهم، فأرادوا أن يرشوه فقال:
تطعمونى السحت؟ واللَّه لقد جئتكم من عند أحب الناس إلى، ولأنتم أبغض إلىَّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملنى بغضى لكم وحبى إياه ألا أعدل بينكم فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض " زاد المعاد لابن القيم ج 1 ص 119".
(هـ) وجاء فى تفسير القرطبى"ج 6 ص 183 "عن عمر رضى اللَّه عنه قوله: رشوة الحاكم سحت، وعن النبى صلى الله عليه وسلم " كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به " قالوا: يا رسول اللَّه وما السحت؟ قال " الرشوة فى الحكم " (رواه ابن جرير عن عمر كما فى الجامع الكبير للسيوطى ولم يحكم عليه) وقيل لوهب بن منبه: الرشوة حرام فى كل شىء؟ قال لا إنما يكره من الرشوة أن ترشى لتعطى ما ليس لك، أو تدفع حقا قد لزمك، فأما أن ترشى لتدفع عن دينك ومالك ودمك فليس بحرام، قال أبو الليث السمرقندى الفقيه: وبهذا نأخذ، لا بأس أن يدفع الرجل -عن نفسه وماله بالرشوة، وهذا كما روى عن عبد اللَّه بن مسعود أنه كان بالحبشة، فرشا بدينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع.
(و) جاء فى فتاوى الإمام النووى المسماة بالمسائل المنثورة (ص 85) ملحق مجلة الأزهر صفر 1411 ما نصه:
(192) مسألة: إذا كان الإنسان فى حبس السلطان أو غيره من المتعذرين حبس ظلما، فبذل مالا لمن يتكلم فى خلاصه بجاهه أو بغيره هل يجوز، وهل نص عليه أحد من العلماء؟ " والجواب " نعم يجوز، وصرح به جماعة منهم القاضى حسين فى أول باب الربا من تعليقه، ونقله عن القفال المروزى قال: هذه جعالة مباحة، قال: وليس هو من باب الرشوة، بل هذا العوض حلال كسائر الجعالات.
(ز) وجاء قى كتاب " مفيد العلوم ومبيد الهموم " للخوارزمى ص 162 بيان للفرق بين الهدية والرشوة بما لا يخرج عما قاله الإمام الغزالى فى الإحياء، ثم قال أخيرا: متى كان هذا الفعل الحرام مثل الظلم وسماع بينة الزور وتقوية الظالم فكل ما يأخذه حرام، وكذا إذا كان الفعل متعينا عليه مثل دفع الظالم وسماع بينة الحق فكل ما يأخذه سحت.
(ح) وذكر ابن القيم فى كتابه " بدائع الفوائد "ج 3 ص 195:
أن يحمى بن معين لما دخل مصر استقبلته هدايا أبى صالح كاتب الليث، ومعها جارية ومائة دينار، فقبلها ودخل مصر، فلما تأمل حديثه قال لا تكتبوا عن أبى صالح، ذكره الحاكم فى كتابه " الجامع لذكر أئمة الأمصار المزكين لرواة الأخبار ".
(ط) جاء فى فتاوى ابن تيمية " المجلد 31 ص 286 " أن ابن مسعود سئل عن السحت فقال هو أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدى لك هدية فتقبلها، فقال له: أرأيت إن كانت هدية فى باطل؟ فقال: ذلك كفر {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك.هم الكافرون} .ثم قال ابن تيمية ما ملخصه: من أهدى هدية لولى أمر ليفعل معه ما لا يجوز: كان حراما على المهدى والمهدى إليه، وهذه من الرشوة المنهى عنها، وتسمى البرطيل.
فأما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت حراما على الآخذ وجاز للدافع أن يدفعها إليه، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول " إنى لأعطى أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا " قيل: يا رسول اللَّه فَلِمَ تعطيهم؟ قال " يأبون إلا أن يسألونى ويأبى اللَّه لى البخل ".
" انظر فتوى شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق على جاد الحق. فى مجلة الأزهر عدد ربيع الأول 1413 سبتمبر 1992 ".
3- والرشوة فى النوع الثانى رأى جماعة حرمتها لعموم الخبر الذى جاء فيه لَعْن الراشى والمرتشى والرائش، ونقله الشوكانى عن الإمام المهدى، لكن قال آخرون، وهو قول معقول،: إن كان هذا الأمر فى يد من لا سلطان له، وسيبذل جهدا متبرعا به غير واجب عليه، فإعطاء شىء فى مقابل ذلك.حلال لا بأس به، وأخذ هذا الوسيط له لا بأس به أيضا،. فهو من باب الجعالة، أى جعل عوض معلوم على عمل غير معلوم تفصيلا وإن كان معلوما إجمالا، كمن يقول: من رد لى الشىء الضائع منى فله كذا، ومن بحث لى عن عمل طيب فله كذا أما إذا كان هذا الأمر فى يد من له ولاية عليه، كرئيس مصلحة ينجز للشخص عملا هو من حقه، وتحت سلطان هذا الرئيس، فإنَّ إعطاء شىء له لتسهيل الإجراءات للوصول إلى الحق جائز، لكن أخذ الرئيس له حرام، لأن المفروض أنه يؤدى واجبه المشروع بدون وساطة أو مقابل ورأى البعض أن إعطاءه حرام لأنه يساعده على الحرام.
ومثل ذلك ما إذا كان ذو السلطان ظالما ويريد الإنسان أن يدفع ظلمه عنه فيعطيه شيئا فذلك لا بأس به، وعلى الظالم الإثم فى أخذه.
وكل ذلك إذا كان فيه اتفاق سابق على العمل فى مقابل الرشوة، أما إذا لم يكن اتفاق مشروط أو معروف عرفا، وبعد إنجاز المهمة المشروعة أعطاه صاحب الحاجة شيئا فلا حرمة فيه.
ثم قال العلماء: إن للقاضى حكما فى هذا الموضوع غير ما يكون للسلطة التنفيذية ويريدون بذلك المحافظة على نزاهة القاضى وعدم تأثره بأى شىء يجعله يميل فى الحكم، فيمنعون عنه كل ما فيه شبهة فقالوا: إذا كانت للمهدى قضية عند القاضى فلا يجوز مطلقا أن يقبلها القاضى، سواء أكانت هناك مهاداة سابقة بين الطرفين أم لا، أما إذا لم تكن هناك قضية وأراد أن يهديه. هدية، فإن لم تكن هناك مهاداة سابقة فلا يجوز للقاضى أخذها، لأن الداعى لها هو توليه القضاء، رجاء أن يكون فى صفِّه إذا عرضت أمامه قضية تخصه، فإن كانت هناك مهاداة سابقة كان من الظاهر جواز دفعها وقبولها، لكنهم قالوا أيضا من باب الاحتياط لنزاهة القاضى: إن زادت الهدية عن المعتاد السابق كانت غير جائزة، لأن زيادتها هى لغرض، فإن لم تزد فلا حرج فيها(10/153)
نقل الأعضاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز نقل عضو من شخص إلى آخر؟
الجواب
اختلفت آراء الفقهاء ورجال القانون فى هذا الموضوع، وبعد استعراض أدلتهم وما جاء فى كتب الفقه نرى ما يأتى:
أولا: إذا كان المنقول منه ميتا، فإن كان قد أوصى أو أذن قبل وفاته بهذا النقل فلا مانع من ذلك حيث لا يوجد دليل يعتمد عليه فى التحريم وكرامة أجزاء الميت لا تمنع من انتفاع الحى بها، تقديما للأهم على المهم، والضرورات تبيح المحظورات كما هو مقرر.
وإن لم يوص أو لم يأذن قبل موته، فإن أذن أولياؤه جاز، وإن لم يأذنوا: قيل بالمنع وقيل بالجواز، ولا شك أن الضرورة فى إنقاذ الحى تبيح المحظور. وهذا النقل لا يصار إليه إلا للضرورة.
ثانيا: إذا كان المنقول منه حيا، فإن كان الجزء المنقول يفضى إلى موته مثل القلب كان النقل حراما مطلقا، أى سواء أذن فيه أم لم يأذن، لأنه إن أذن كان انتحارا، وإن لم يأذن كان قتلا لنفس بغير حق، وكلاهما محرم كما هو معروف.
وإن لم يكن الجزء المنقول مفضيا إلى موته، على معنى أنه يمكن أن يعيش بدونه فينظر: إن كان فيه تعطيل له عن واجب، أو إعانة على محرَّم كان حراما، وذلك كاليدين معا أو الرجلين معا، بحيث يعجز عن كسب عيشه أو يسلك سبلا غير مشروعة وفى هذه الحالة يستوى فى الحرمة الإذن وعدم الإذن.
وإن لم يكن فيه ذلك كنقل إحدى الكليتين أو العينين أو الأسنان أو بعض الدم، فإن كان النقل بغير إذنه حرم، ووجب فيه العوض، على ما هو مفصل فى كتب الفقه فى الجناية على النفس والأعضاء، وإن كان بإذنه قال جماعة بالتحريم، واحتج بعضهم عليه بكرامة الآدمى التى تتنافى مع انتفاع الغير بأجزائه، وبأن ما يقطع منه يجب دفنه.
يقول النووى فى حرمة وصل الشعر بشعر الآدمى: لأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمى وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه (المجموع ج 3 ص 149، شرح مسلم ج 14 ص 103) . ويمكن الرد على ذلك بأن وصل الشعر بالشعر مختلف فى حرمته إذا كان لغير الغش والتدليس أو الفتنة. وبأن وجوب دفنه ليس عليه دليل صحيح. قال ابن حجر: وفى حديث جواز إبقاء الشعر وعدم وجوب دفنه (فتح البارى ج 12 ص 497) ، وبأن الضرورات تبيح المحظورات.
واحتج بعض هؤلاء المحرمين أيضا بأن جسم الإنسان ليس ملكا له فلا يجوز التصرف فيه. وهذا كلام غير محرر، وليس عليه دليل مسلم فإن الذى لا يملكه الإنسان هو حياته وروحه، فلا يجوز الانتحار ولا إلقاء النفس فى التهلكة إلا للضرورة القصوى وهى الجهاد والدفاع عن النفس فقد أمر به الإسلام، أما الإنسان من حيث أجزاؤه المادية فهو مالكها، له أن يتصرف فيها بما لا يضره ضررا لا يحتمل، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار.
هذا هو ملخص الحكم فى الموضوع. على أن الحكم فى بقاء الجسم وعدمه بعد نقل العضو منه يرجع فيه إلى الثقات المختصين.
وعلى أن يكون هناك يقين أو ظن غالب بانتفاع المنقول إليه بهذه الأجزاء، وإلا كان النقل عبثا وإيلاما لغير حاجة، ونحن نعلم أن.
بعض الأجسام ترفض الأجزاء المنقولة إليها، ويحاول العلم أن يتغلب على هذا الرفض، بالمنع أو الحد منه.
وإذا كنا نختار جواز النقل للأعضاء فهل يجوز أن يؤخذ عوض للعضو المنقول؟ يرى جماعة عدم جوازه، محتجين بحرمة بيع الآدمى الحر، كله أو بعضه، لحديث " قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى ولم يوفه " (رواه البخارى وغيره) ويرى آخرون جواز أخذ العوض كثمن أو هبة، قياسا على بيع المرضع لبنها، ولعدم ورود دليل يحرمه، والحديث المذكور هو للنهى عن ضرب الرق على غير الرقيق والاتجار فيه بالبيع كما كان يحصل فى الجاهلية من خطف الأحرار وبيعهم. وهل لو كان المنقول منه عبدا وباع عضوا منه لآخر هل يأخذ سيده ثمنه بناء على أنه يملك رقبته؟ والحديث فى بيع الحر وليس فى بيع العبد، كما أن الذى يأكَل ثمن الحر هو من اعتبده وباعه وليس هو الحر نفسه الذى يأكل ثمنه، فالاستدلال بالحديث المذكور غير مسلم.
ومهما يكن من شىء فإن الأفضل عدم المساومة على العضو المنقول، فإن إنقاذ حياة المحتاج إليه لا يعدله أى عوض، لكن لا مانع من قبول الهدية التى تعطى بسخاء نفس دون شروط سابق (الإسلام ومشاكل الحياة ص 21)(10/154)
التقبيل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى التقبيل؟
الجواب
موضوع التقبيل، تاريخا وموضعا، وغرضا وحكما بين الجنس الواحد وبين الجنسين موضوع طويل ذكرت كثيرا منه فى الجزء الثانى من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، ورجعت فيه إلى عدة مراجع منها " غذاء الألباب للسفارينى " وكتب التفسير والأدب، ورسالة " رحيق الفردوس فى حكم الريق والبوس " لإبراهيم الجنينى المتوفى 1108 هـ ورسالة " إعلام النبيل بجواز التقبيل " للصديق الغمارى المغربى.
وهذه خلاصة مركزة لما جاء عنه، مجردة عن الأدلة ومناقشتها:
إن كان التقبيل بين الجنس الواحد، كالرجل للرجل والمرأة للمرأة فلا مانع منه شرعا بشرطين، الأول ألا يكون فيه لذة، والثانى ألا يكون لغرض فاسد، ومنه تقبيل يد الفاسق لتكريمه، أما إن كان خوفا من بطشه فهو جائز للضرورة، ومما أثر فى ذلك:
1 - أن النبى صلى الله عليه وسلم تلقى جعفر بن أبى طالب عند عودته من الحبشة فالتزمه وقبل ما بين عينيه.
2 - لما دخل زيد بن حارثة عليه فى بيت عائشة قام إليه عرْيًا يجر ثوبه، كما تقول عائشة: والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده، فاعتنقه وقبله.
3- لما عاد الغزاة من " مؤتة " قبَّلوا يد النبى صلى الله عليه وسلم.
4 - لما تاب الله على الذين خلفوا عن غزوة تبوك قبلوا يد النبى صلى الله عليه وسلم 5 - سمح النبى صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس أن يقبِّلوا يده، بل ورجله.
6- سمح لأسيد بن حضير أن يقبله حين طلب أن يكشف عن جسمه ليقتص منه لما طعنه بعود، وكان ذلك تبركا.
7 - سأله يهوديان عن تسع آيات بينات، فلما بينها لهما قبَّلا يده ورجله وأسلما.
8- لما قدم عمر بن الخطاب الشام قبَّل أبو عبيدة يده، وجاء فى رواية أن أبا عبيدة أراد أن يقبلها فقبضها عمر فتناول أبو عبيدة رجله وقبلها.
9 - قبَّل زيد بن ثابت يد عبد اللَّه بن عباس حين أخذ بركابه وهو يركب احتراما للعلماء، فقبلها زيد احتراما لآل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
10 - قبل الناس يد سلمة بن الأكوع لما علموا أنه بايع النبى صلى الله عليه وسلم بها.
والذى رخص فى التقبيل للتكريم والتدين أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة، أما مالك وجماعة آخرون فقد كرهوه، أى كرهوا مَدَّ اليد ليقبلها الناس، لأن ذلك مظهر من مظاهر العجب والكبرياء، واستأنسوا فى المنع بقبض عمر يده لما أراد أبو عبيدة تقبيلها أما التقبيل بين الجنسين فحكمه يتحدد بسبب الغرض منه، وبحسب موضع التقبيل، فقد يكون للعطف والحنو، كتقبيل الوالد لبنته والوالدة لابنها، والأخ لأخته والأخت لأخيها، وذلك لا مانع منه ما لم يكن بشهوة، وقد جاء من ذلك:
1 - أن النبى صلى الله عليه وسلم قبَّل بنته فاطمة حين دخلت عليه فقام إليها وقبلها وأجلسها فى مجلسه، بل صرحت بعض الروايات أنه قبلها فى فمها، كما قبلها وهو فى مرضه الأخير.
2 - لما دخل أبو بكر على أهله وكانت عائشة مضطجعة قد أصابتها حمى، قبلها فى خدها. وكذلك قبل خالد بن الوليد أخته.
وقد يكون التقبيل للتكريم كتقبيل الولد لأمه والبنت لأبيها، وتقبيل الكبير من العمات والخالات. وهو يكون غالبا فى الرأس أو اليد، ولا مانع منه، لكنه مكروه فى المواضع الحساسة كالخد والفم إن كان بغير شهوة، فإن كان بشهوة كان حراما.
وقد يكون التقبيل بين الجنسين للذة، وهو بين الزوجين لا مانع منه فإن ما هو أكبر من ذلك حلال لهما. أما بين الأجانب فهو حرام.
هذا هو ملخص حكم التقبيل، ومع كونه مباحا فى بعض الصور فيستحسن الإقلال منه، والبعد عن الفم وما قد يكون منه ضرر صحى كما نصح الأطباء. وللاستزادة يرجع إلى المراجع المذكورة(10/155)
قتل الحيوانات الضارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى قتل الحيوانات الضارة؟
الجواب
الحيوانات الضارة منها ما يكون الضرر من طبيعته ولذلك يعيش غالبا بعيدا عن الإنسان فى الغابات والجبال كالسباع والذئاب، أو يعيش مع الإنسان مع أخذ الحذر منه كالعقارب والحيات، ومنها ما لا يكون الضرر من طبيعته ولذلك يعيش غالبا مع الإنسان أو قريبا منه، ولكن قد يجئ منه الضرر لعارض يعرض له، كالكلاب والقطط.
والحكم المبدئى العام أن النوع الأول وهو ما يكون الضرر من طبيعته يجوز قتله، إما للدفاع عن النفس وإما للانتفاع بجلده أو عظمه مثلا، وأن النوع الثانى الذى لا يكون الضرر من طبيعته ولكن قد يطرأ عليه يجوز قتله إذا خيف منه الضرر كالكلب العقور والكلب الكَلِب، أى الذى يصيبه داء الكلَب، وكالقط الخائن الذى يخطف الدجاج أو الحمام مثلا، والدليل على ذلك هو حديث " لا ضرر ولا ضرار " فلا يجوز لأحد التعرض للضرر ولا إلحاقه بالغير، إلى جانب وجوب أخذ الحذر وعدم تعريض النفس للتهلكة، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} النساء: 71، وقال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} البقرة: 195.
وهناك أنواع من الحيوانات نص الحديث على قتلها بخصوصها، روى مسلم وغيره قوله صلى الله عليه وسلم "خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم، الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحُدَيَّا " أى الحدأة، وفى رواية لأبى داود ذكر العقرب بدل الغراب، وفى رواية لأحمد ذكر الغراب بدل الحدأة، وليس فيها وصف الغراب بالأبقع - وقد تحدث الدميرى فى كتابه " حياة الحيوان الكبرى " عن كل نوع على حدة وأورد ما جاء فيه من الآثار وحكم قتلها والأحكام الأخرى.
وفيما عدا ما نص على قتله نتحدث عن حكمه فيما يلى:
1- الكلاب:جاء فى صحيح مسلم بشرح النووى"ج 10 ص 234 " عن عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، فأرسل فى أقطار المدينة أن تقتل. قال: فنبعث فى المدينة وأطرافها فلا ندع كلبا إلا قتلناه حتى إنا لنقتل كلب المُرية يتبعها، والمُرية تصغير امرأة، وفى رواية عن عبد اللَّه بن عمر أيضا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية. فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، فقال ابن عمر: إن لأبى هريرة زرعا - مع ترك الخلاف فى كون أبى هريرة سمع ذلك من النبى أو كان قياسا منه لكلب للزرع على كلب الصيد والماشية.
وعن جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله -ثم نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن قتلها وقال "عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فانه شيطان " وعن عبد اللَّه بن المُغَفَل قال: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال " ما بالهم وبال الكلاب " ثم رخص فى كلب الصيد والغنم.
يؤخذ من هذه الروايات أن الكلب غير الضار أى غير العقور والكلِب. إن كانت فيه فائدة فلا يقتل، ككلب الحراسة للماشية أو الزرع أو المسكن وكلب الصيد. ومثله الكلب البوليسى لفائدته المعروفة.
أما إن لم تكن فيه فائدة، كالكلاب الضالة فبعض الروايات تأمر بقتلها وتشدد فى التنفيذ، وبعضها ينهى عن قتلها. ويأمر بقتل الأسود البهيم فقط. فما هو الحكم المختار الذى استقر عليه الأمر أخيرا؟ إليكم نموذجا مما قاله شراح الحديث فى ذلك.
(ا) يقول النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 10 ص 235 ": أجمع العلماء على قتل الكلب الكَلِب والكلب العقور. واختلفوا فى قتل ما لا ضرر فيه، فقال إمام الحرمين من أصحابنا - الشافعية -: أمر النبى صلى الله عليه وسلم أولا بقتلها كلها، ثم نسخ ذلك ونهى عن قتلها إلا الأسود البهيم.
ثم استقر الشرع على النهى عن قتل جميع الكلاب التى لا ضرر فيها سواء الأسود وغيره، ويستدل لما ذكره بحديث ابن المغفل.
وقال القاضى عياض. ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث فى قتل الكلاب إلا ما استثنى من كلب الصيد وغيره، قال: وهذا مذهب مالك وأصحابه وذهب آخرون إلى جواز اتخاذ جميعها ونسخ الأمر بقتلها والنهى عن اقتنائها إلا الأسود البهيم.
قال القاضى: وعندى أن النهى أولا كان نهيا عاما عن اقتناء جميعها وأمر بقتل جميعها، ثم نهى عن قتلها ما سوى الأسود، ومنع - الاقتناء فى جميعها إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية. يقول النووى:
وهذا الذى قاله القاضى هو ظاهر الأحاديث، ويكون حديث ابن المغفل مخصوصا بما سوى الأسود.
(ب) ويقول الدميرى، بعد ذكر الأحاديث الواردة فى قتل الكلاب حمل الأصحاب الأمر بقتلها على الكلب الكلِب والكلب العقور، واختلفوا فى قتل ما لا ضرر فيه منها، فقال القاضى حسين وإمام الحرمين والماوردى فى باب " بيع الكلاب " والنووى فى أول البيع من شرحى المهذب ومسلم: لا يجوز قتلها، وقال فى باب " محرمات الإحرام ": إنه الأصح، وإن الأمر بقتلها منسوخ، وعلى الكراهة اقتصر الرافعى فى الشرح وتبعه فى الروضة، وزاد أنها كراهة تنزيه لا تحريم. لكن قال الشافعى فى " الأم " فى باب الخلاف فى ثمن الكلاب: واقتلوا الكلاب التى لا نفع فيها حيث وجدتموها، وهذا هو الراجح انتهى.
نستخلص من كل ما سبق أن الكلاب التى فيها فائدة كالصيد والحراسة لا يجوز قتلها، والكلاب التى لا فائدة لها إن كانت تضر كالكلب العقور يجوز قتلها، وإن كانت لا تضر ففيها رأيان، رأى بعدم قتلها فيكون القتل حراما أو مكروها كراهة تنزيه، ورأى بجواز قتلها.
والكلاب الضالة غير المقتناة إن كانت تؤذى بتخويف المارة وبخاصة الأطفال، أو بالبول والبراز وإتلاف أشياء لها قيمتها يجوز قتلها. هذا هو حكم قتلها، أما نجاستها فقد تقدم الحديث عنها، وكذلك عن اقتنائها والاتجار فيها.
2 - للقطط: خلاصة أحكامها فيما بأتى:
(1) هى طاهرة ليست نجسة كالكلاب، فقد روى أحمد والدارقطنى والحاكم والبيهقى أن النبى صلى الله عليه وسلم دُعِىَ إلى دار قوم فأجاب، وإلى دار آخرين فلم يجب، فقيل له فى ذلك فقال " إن فى دار فلان كلبا " فقيل له: وإن فى دار فلان هرة، فقال صلى الله عليه وسلم " الهرة ليست نجسة إنما هى من الطوافين عليكم والطوافات " وفى السنن الأربعة وصححه البخارى من حديث كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت بعض ولد أبى قتادة-أن أبا قتادة رضى الله عنه دخل فسكبت له وَضُوءًا فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فراَنى أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخى؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات " أى كالخدم المماليك فى البيوت، وفى سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال " الهرة لا تقطع الصلاة، إنما هى من متاع البيت ".
(ب) ذكر النووى فى شرح المهذب أن بيع الهرة الأهلية جائز بلا خلاف عند الشافعية إلا ما حكاه البغوى فى شرح مختصر المزنى عن ابن القاص أنه قال: لا يجوز وهذا شاذ باطل، والمشهور عنه جوازه وبه قال جماهير العلماء. قال ابن المنذر: أجمعت الأمة على جواز اتخاذها، ورخَّص فى بيعها ابن عباس والحسن وابن سيرين وحماد ومالك والثورى والشافعى وإسحاق وأبو حنيفة وسائر أصحاب الرأى.
وكرهت طائفة بيعها، منهم أبو هريرة وطاووس ومجاهد وجابر بن زيد روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور، أى القط.
يقول النووى: إن النهى هنا يراد به الهرة الوحشية، فلا يصح بيعها لعدم الانتفاع بها، إلا على وجه ضعيف فى جواز أكلها، أو المراد له النهى التنزيه لا التحريم.
(ج) يقول الدميرى فى كتابه " حياة الحيوان الكبرى ": إذا كانت الهرة ضارية بالإفساد فقتلها إنسان فى حال إفسادها دَفْعًا جاز ولا ضمان عليه، كقتل الصائل دفعا،وينبغى تقييد ذلك بما إذا لم تكن حاملا، لأن فى قتل الحامل قتل أولادها ولم تتحقق منهم جناية. وأما قتلها فى غير حالة الإفساد ففيه وجهان، أصحهما عدم الجواز ويضمنها.وقال القاضى حسين: يجوز قتلها ولا ضمان عليه فيها، وتلحق بالفواسق الخمس فيجوز قتلها، ولا تختص بحال ظهور الشر.
وكلام الدميرى فى مسألة خطف هرة لحمامة أو غيرها وهى حيه.
لكن لو حدث من الهرة إفساد آخر بخطف الطعام أو التبرز على الفراش أو فى مكان هام، واعتادت ذلك على الرغم من مطاردتها فلا وجه لتحريم قتلها، لأنه من باب دفع الضرر، مثلها فى ذلك مثل الكلاب الضالة المؤذية.
3 - الطيور: من الطيور ما هو ضار بطبيعته فيجوز قتله كما مثل له الحديث بالغراب والحدأة. وهى بطبيعتها لا تستأنس، وهناك طيور لسيت ضارة تطعيعتها منها ما يستأنس كالحمام، ومنها ما لا يستأنس كالعصافير، والنوع الأول يذبح ليؤكل وكذلك الثانى يصاد ليؤكل وما لا يحل أكله لا يقتل إن كانت فيه فائدة مثل " أبى قردان " صديق الفلاح كما يقولون.
لكن قد يثار هنا سؤالان، أحدهما عن الحمام الذى يسقط على الأجران التى تدرس فيها الحبوب ويأكل منها كثيرا، وثانيهما عن العصافير التى تهجم على المحصولات كالقمح والشعير وتلتهم منها كثيرا وهى مازالت فى طور نموها أو نضجها. فهل يجوز قتلها من أجل ضررها؟ .
أما الحمام فضرره بسيط يمكن أن يطارد دون اصطياد، ولو صيد هل يضمن ثمنه لصاحبه؟ إن لم يعرف له صاحب بيقين فلا ضمان، وإن عرف صاحبه بيقين ضمن، لأن حبس الطيور أمر عسير، فلابد لها من التجوال، ويعتبر صاحبها غير مقصر فلا يضمن ما أتلفته من طعام غيره، وإن اشتبه عليه أمر الحمام أو اختلط فيه المملوك لأصحابه وغير المملوك، فالأشبه عدم الضمان.
ومع ذلك فأفضل عدم اصطياده، لأن غالب بيوت القرى فيها حمام، وهو يطلب رزقه من كل المواقع، فحمام الكل يأكل من طعام الكل غالبا، والأمر متبادل بين البيوت، والتسامح فى ذلك من وسائل التواد والتراحم والتعاون على الخير، فلنحرص على هذه الروح السمحة، ولا نتورط فى شىء قد يكون من ورائه ما لا تحمد عقباه، مذكرا للناس بهذا الحديث الصحيح " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة " رواه مسلم.
وأما العصافير-وهى غير مملوكة لأحد فيكتفى بطردها إن أمكن، أما إذا لم يمكن طردها فلتوضع لها شباك تصاد بها وينتفع بلحمها، أو تصاد بالرصاص الخارق -على رأى بعض العلماء -ويقوم ذلك مقام ذبحها والصيد بالشباك للانتفاع بالعصافير، بدل إبادتها وضياع الاستفادة من لحمها هو ما أشار إليه النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائى والحاكم وصححه لقوله "ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها لغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها " قيل: يا رسول اللَّه وما حقها؟ قال "يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها ويرمى بها " وفيما رواه النسائى وابن حبان فى صحيحه بقوله " من قتل عصفورا عبثا عج إلى اللَّه يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانا قتلنى عبثا ولم يقتلنى منفعة".
وهذا توجيه اقتصادى إسلامى إلى عدم ضياع المنفعة من الشىء فى الوقت الذى يدافع فيه ضرر هذا الشىء، وهذا كما يقال: ضرب عصفورين بحجر واحد. دفعنا الشر واستفدنا مما فيه من خير.
فإن كانت بشكل "وبائى" ولا يفيد معها الاصطياد فهل يمكن قتلها بمثل المواد الكيماوية أو بطريقة أخرى؟ نعم لا مانع من ذلك لدفع ضررها، وحماية لقوت الإنسان منها، فحياته ومصلحته مقدمة على حياة أى مخلوق دونه وعلى مصلحته، وهى كلها جعلت من أجل الإنسان لتبقى حياته ويستطيع أن يؤدى رسالته، وبمثل ذلك قال الدميرى فى الجراد.
وفى مثل هذه الحالة الاستثنائية التى تكاثرت فيها العصافير وأكلت جزءا كبيرا من المحصولات، قامت بعض الدول، فى شكل جماعى بمطاردتها طول النهار حتى اضطرت إلى الأشجار العالية وباتت ليلها جائعة، تساقط بعضها ميتا فى أوال ليلة ثم قضى عليها فى أيام قلائل.
وقد يشبه هذا الحكم فى العصافير حكم مكافحة الجراد، وهو من نوع الحشرات الطائرة ويحل أكله كما نص عليه الحديث " أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، الكبد والطحال " رواه الشافعى وأحمد والدارقطنى والبيهقى مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وروى موقوفا على ابن عمر وهو الأصح - وروى البخارى وغيره عن عبد اللَّه بن أبى أوفى: غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد. ولو أبيد بأية طريقة حل أكله ما لم يكن فيه ضرر بسبب المواد التى أبيد بها.
جاء فى " حياة الحيوان الكبرى- جراد " روى الطبرانى والبيهقى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال " لا تقتلوا الجراد فانه جند الله الأعظم " قلت: هذا وإن صح أراد به ما لم يتعرض لإفساد الزرع وغيره، فإن تعرض لذلك جاز دفعه بالقتل وغيره.
4 - الحشرات: الحشرات منها ما يدب على الأرض كالحيات والعقارب ومنها ما يطير فى الجو كالنحل والزنابير، ونص الحديث على قتل الحيات والعقارب والفأرة، وقد تحدث الدميرى فى كتابه "حياة الحيوان الكبرى " عن كل أنواعها، كما تحدث عن كل ما يعرفه من المخلوقات الحية، وبين حكم كل منها، وبخاصة فى إبادتها وفى حث الدين على مكافحتها حماية للإنسان من شرها، ففى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم " من قتل وزغة من أول ضربة فله مائة حسنة، ومن قتلها فى الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة دون الأولى ومن قتلها فى الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الثانية " والوزغة هى سام أبرص المعروف بالبُرْص. " حياة الحيوان -وزغة " وجاء فى تعليل الاهتمام بقتلها حديث البخارى وابن ماجه وأحمد أنها كانت تنفخ النار على إبراهيم ليزداد اشتعالها.
وهنا يثار سؤالان، أحدهما عن النحل والثانى عن النمل. هل يجوز قتل النحل أو لا يجوز، وهل يجوز قتل النمل بالنار أو لا يجوز؟ .
(1) أما النحل فمن الحشرات التى تفيد الإنسان بالعسل الذى تحدثت النصوص فى القرآن والسنة عن فوائده، لكنه مع ذلك يلسع ويؤذى فهل يجوز قتله؟ قال الدميرى: كره مجاهد قتل النحل، ويحرم أكلها على الأصح وإن كان عسلها حلالا، كالآدمية لبنها حلال ولحمها حرام. وأباح بعض السلف أكلها كالجرادة وهو وجه ضعيف فى المذهب، ويحرم قتلها. والدليل على الحرمة نهى.
النبى صلى الله عليه وسلم عن قتلها. ثم قال: كان القياس جواز قتل النحل لأنه من ذوات الإبر، وما فيه من المنفعة يعارض بالضرر، لأنه يصول ويلدغ الآدمى وغيره، فالمضرة التى فيها مبيحة لقتلها ولم يجعلوا المنفعة التى فيها عاصمة من القتل، لكن الرسول نهى عن قتل النحل وليس فى قوله إلا طاعة اللَّه بالتسليم لأمره صلى الله عليه وسلم انتهى.
فالخلاصة أن بعض العلماء كره قتل النحل، وبعضهم حرمه، والخلاف مفرع على منع أكله، فإن أبيح جاز قتله كالجراد، وإن لم يبح أكله منع قتله على وجه الكراهة أو التحريم.
(ب) وأما النمل فقد جاء فى " حياة الحيوان الكبرى " أن هناك حديثا رواه البخارى ومسلم جاء فيه أن نبيا من الأنبياء نزل تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها وأمر بها فأحرقت بالنار، فأوحى اللَّه إليه: فهلا نملة واحدة. قال الترمذى الحكيم فى نوادر الأصول: لم يعاتبه اللَّه على تحريقها وإنما عاتبه على كونه أخذ البرى بغير البرى، وقال القرطبى: إن هذا النبى هو موسى، وليس فى الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر فى قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه نفسك، ولا أحد من خلق الله أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بضرب أو قتل، على ما له من المقدار فكيف بالهوام والدواب التى قد سخرت للمؤمن، وسلط عليها وسلطت عليه فإذا آذته أبيح له قتلها. وقيل إن شرع هذا النبى كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة، وهو بخلاف شرعنا، فإن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان بالنار، وقال " ولا يعذب بالنار إلا اللَّه تعالى " فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار إلا إذا أحرق إنسانا فمات بالإحراق، فلوارثه الاقتصاص بالإحراق للجانى.
ثم قال: وأما قتل النمل فمذهبنا لا يجوز، لحديث ان عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب:.النملة والنحلة والهدهد والصُرَد. رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين، والمراد النمل الكبير السليمانى كما قاله الخطالى والبغوى فى شرح السنة.
وأما النمل الصغير المسمى بالذر فقتله جائز، وكره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل، وأطلق ابن زيد جواز قتل النمل إذا آذت. "يراجع القرطبى فى سورة النمل ".
هذا، وفى حالة الجواز لقتل ما يستحق القتل يراعى الإحسان الذى نبَّه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله " إن اللَّه تعالى كتب الإحسان على كل شىء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة، ولْيُحدَّ أحدكم شفرته ولْيُرحْ ذبيحته " رواه مسلم وأبو داود والترمذى وغيرهم(10/156)
الكذب الأبيض وكذبة أبريل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يتعمد بعض الناس أن يقولوا غير الحق مدعين أنه كذب أبيض، فما حكم هذا الكذب؟
الجواب
من الأمور المتفق عليها في الأديان والعقول السليمة أن الصدق فضيلة والكذب رذيلة، والصدق هو التعبير المطابق للواقع قولا أو فعلا، والكذب هو التعبير المخالف للواقع، قولا أو فعلا، ومن أخطر الكذب في القول شهادة الزور، وفى الفعل النفاق، والوعيد عليهما شديد في القرآن والسنة.
ولا يرخص في الكذب إلا لضرورة شأن كل حرام، فالضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بقدرها، بمعنى أن يكون ذلك في أضيق الحدود إذا لم توجد وسيلة أخرى تحقق الغرض وتمنع الضرر، ومن هذه الوسائل المشروعة ما يسمى بالمعاريض حيث تستعمل كلمة تحتمل معنيين، يفرض على الإنسان أن يقولها، فيقولها بالمعنى الحلال لا بالحرام، ومثلوا لها بما إذا قيل للإنسان: اكفر بالله، فيقول: كفرت باللاهى، ويريد الشيطان وما يشبهه من كل ما يلهى وقد صح في الحديث جواز الكذب لتحقيق مصلحة دون مضرة للغير تذكر، وذلك فيما رواه البخارى ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمى خيرا أو يقول خيرا" وفى رواية زيادة هى: قالت: ولم أسمعه يرخص في شىء مما يقول الناس إلا فى ثلاث، تعنى الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. والمراد بالحديث بين الزوجين هو عن الحب الذي يساعد على دوام العشرة، والشواهد عليه كثيرة وليس في أمور أخرى تضر بالحياة الزوجية.
ورأى بعض العلماء الاقتصار في جواز الكذب على ما ورد به النص في الحديث، ولكن جوزه المحققون في كل ما فيه مصلحة دون مضرة للغير، يقول ابن الجوزى ما نصه:
وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحا، وإن كان واجبا فهو واجب. وقال ابن القيم في "زاد المعاد"ج 2 ص 145: يجوز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المشركين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب،، وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التى حصلت بالكذب.
إلى أن قال: ونظير هذا الإمام والحاكم يوهم الخصم خلاف الحق ليتوصل بذلك إلى استعمال الحق، كما أوهم سليمان بن داود عليهما السلام إحدى المرأتين بشق الولد نصفين، حتى يتوصل بذلك إلى معرفة عين أمه. انتهى.
ومنه كذب عبد الله بن عمرو بن العاص على الرجل الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، فلازمه أياما ليعرف حاله، وادعى أنه مغاضب لأبيه، رواه أحمد بسند مقبول " الترغيب والترهيب ج 3 ص 219 " ويقاس عليه حلف اليمين لإنجاء معصوم من هلكة، واستدل عليه بخبر سويد بن حنظلة أن وائل بن حجر أخذه عدو له فحلف أنه أخوه، ثم ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " صدقت، المسلم أخو المسلم " الآداب الشرعية لابن مفلح. ويمكن الرجوع في استيضاح هذه النقطة إلى "نيل الأوطار للشوكانى ج 8 ص 85 " وإلى "إحياء علوم الدين للإمام الغزالى ج 7 ص 119 ".
ومن هذا الباب كذبات إبراهيم عليه السلام، وهي معاريض، حيث قال عندما كسر الأصنام "بل فعله كبيرهم هذا " وعندما طلب لمشاركتهم في العيد "إنى سقيم " وقوله عن زوجته: إنها أخته لينقذها من ظلم فرعون "مصابيح السنة للبغوى ج 25 ص 157 " الموضوع طويل وله جوانب متعددة، ونخلص إلى أن الكذب الأبيض هو الذي لا يترتب عليه ضرر وتتحقق به مصلحة مشروعة، وهو جائز ولكن ينبغى أن يكون في أضيق الحدود. لما فيه من ضرر للغير ولو كان بسيطا في نظر الكاذب فقد يكون كبيرا في نظر المكذوب عليه. وفي المعاريض مندوحة عنه. وكذلك في المداراة التى هي بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهى خلاف المداهنة التى يمكن معرفة الفرق بينهما من كتاب: المواهب اللدنية للقسطلانى "ج 1 ص 291 " وسراج الملوك للطرطوشى "ص 79" وإحياء علوم الدين للغزالى "ج 3 ص 138 " هذا ونقل عن الغرب ما يعرف بكذبة أبريل وتورط فيها بعض المسلمين والروايات -في أصلها كثيرة، فقيل إن أول من اخترعها أحد ملوك فرنسا في القرن السادس عشر، وهو شارل التاسع الذي قرر أن تكون بداية السنة في أول يناير بدلا من أول أبريل كما كانت، فقابل الناس ذلك بالتذمر، لأن من عادتهم فيه تبادل الهدايا، لأنه رأس السنة، فاضطروا خوفا من الملك أن يتبادلوها في أول يناير مع استمرارهم في تقديمها أول أبريل التى جعلوها تافهة، وقيل إنها في فرنسا تدعى "سمكة أبريل " لأن موسم الصيد يبدأ في أبريل، لكن الأسماك تكون قليلة وهزيلة، وقد يرمى الصياد شبكته فلا يخرج شيئا أو يخرج شيئا تافها. ومن هناك كانت تسمية سمكة أبريل تقال للشيء التافة أو للكذب، وقيل غير ذلك.
والمهم أن نعلم أن الكذب لا يجوز إلا في أضيق الحدود حيث تحقق المصلحة به لا بوسيلة أخرى من غير مضرة كبيرة للغير، والأولى البعد عنه حتى لا يعتاده اللسان، وفي المعاريض مندوحة عنه كما تقدم. وأساس المعاريض حسن استخدام الألفاظ ذات المعانى المتعددة المتقابلة. كالذي يقول: أنا أحب الفتنة، ويريد المال، وأكره الحق، ويريد الموت، وكمن يصف عسل النحل بلفظ تتقزز النفس منه، كما جاء في كتاب "مفتاح دار السعادة"ج 1 ص 141:
تقول: هذا جنى للنحل تمدحه * وإن تشأ قلت: ذاقىء الزنابير مدحا وذما وما جاوزت وصفهما * والحق قد يعتريه سو تعبير(10/157)
الحياة على الكواكب الأخرى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول الله سبحانه {ومن آيايه خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} الشورى: 29، ألا تدل هذه للآية على أن هناك كائنات حية فى غير الأرض التى نعيش عليها؟
الجواب
لقد نشط البحث عن الحياة فى الكواكب الأخرى خلال الأربعين سنة الماضية، واستخدمت منذ ثمان عشرة سنة الموجات اللاسلكية لهذا الغرض، ومنذ ستة أعوام اهتم الفلكيون بالتسمع على الكون لالتقاط الإشارات الصادرة منه، وذلك فى مختبر الدفع النفاث فى " باسادونا " ومركز الأبحاث " آميس " التابع لمؤسسة " ناسا " بكاليفورنيا. ومؤسسة " سيتى" وهى رمز لمشروع البحث عن المخلوق الذكى الموجود خارج الأرض، والدى يضم أكثر من مليون يد عاملة تعاون فيه الخبراء الأمريكيون والروس على تحليل ألف ساعة من الإشارات التى تم استقبالها من الفضاء الخارجى بأجهزة إليكترونية معقدة وشديدة الحساسية.
وقد قرروا أنه لا يتم لهم النجاح إلا إذا استطاعوا إرسال إشارة يمكن للعالم الخارجى التقاطها. لكن النجوم الهائلة العدد لا يمكن أن تسلط أشعة على نجم منها مرة ثانية إلا بعد مرور مائة ألف عام على المرة الأولى، وهذا كله فى نجوم مجرتنا فقط " التبانة " فكم من الزمن يكفى لتسليط أشعة على نجوم المجرات الأخرى وما أكثرها؟ .
ذكرت هذه المقدمة لترى أيها القارئ أن سعة الكون وتعدد نجومه والاكتفاء مرة واحدة بتسليط الأشعة على كل نجم، كل ذلك لا يكفى للاعتقاد أو غلبة الظن أن فى الكَون حياة من جنس حياتنا البشرية، أو من جنس آخر.
ومهما يكن من شيء فإن هذه الأبحاث متروكة لعقل الإنسان، وموقف الإسلام منها موقف المشجع على النظر فى ملكوت السموات والأرض، ونصوصه أشهر من أن تذكر، والإنصاف فى البحث سيؤدى إلى تعميق الإيمان بالله، كما قال سبحانه فى ختام الآيتين اللتين تتحدثان عن النظر فى الكون أرضه وسمائه بمائه ونباته ومعادنه وحيوانه وإنسانه {إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء} فاطر: 27.
والقرآن يكفيه أن يضع دستور البحث ويشجع عليه، وليس من شأنه أن يدون جزئيات العلوم فى أكثرها، وعلى امتداد الحياة البشرية ستكشف أمور تتطلبها حاجة الإنسان فى نموه المطرد، وما دام اللَّه هو الحق، وهو خالق العالم على هذا النظام البديع فإن كلامه لا يتعارض مع قوانينه أبدا، وإذا توصل الباحثون إلى ما يوهم التعارض مع القراَن فلا يجوز أن نسرع بالشك أو التأويل ما دامت النتائج لم تصل إلى مرتبة الحقائق العلمية التى لا يتطرق إليها الشك، ولست موافقا على مسلك بعض الكتاب الذين يسرعون إلى الربط بين القرآن والعلم كلما لاح فى الأفق كشف جديد، وقد يسرفون فى التأويل والتوفيق ثم تظهر البحوث التالية فساد ما سبق من نتائج ظلمنا القراَن بحمل آياته عليها ومع إحسان ظنى بأن كثيرًا من الباحثين عندهم غيرة دينيهَ حملتهم على هذا الربط فإنى أدعوهم إلى التريث، أو إلى جعل الأمر محل الاحتمال بعيدا عن القطع والجزم به.
والمفسرون للقرآن سلكوا فى مثل هذه المواقف مسلك الحيطة والحذر فلجأوا إلى القول بالاحتمال وعدم المانع، يقول النسفى فى قوله تعالى {ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} الدابة تكون فى الأرض وحدها، لكن يجوز أن ينسب الشىء إلى جميع المذكور أى السموات والأرض -وإن كان متلبسا ببعض، كما يقال:
بنو تميم فيهم شاعر مجيد، وإنما هو فى فخذ من أفخاذهم، ومنه قوله تعالى {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} وإنما يخرج من الملح، ولا يبعد أن يخلق فى السموات حيوانات يمشون فيها مشى الأناسى على الأرض ويكون للملائكة مشى مع الطيران، فوصفوا بالدبيب كما وصف الأناسى انتهى.
انظر إلى قوله: ولا يبعد أن يخلق فى السماوات حيوانات. هذا هو الموقف العلمى الصحيح من كل ما لا يجزم به الإنسان، فإذا تحقق أن فى السموات كائنات حية فظاهر الآية {وما بث فيهما من دابة} تحقق أن فى السموات كائنات حية فظاهر الآية {وما بث فيهما من دابة} لا يتعارض مع هذه الحقيقة، وإذا لم يتحقق وجود كائنات حية فيها فالآية باقية على معناها على النحو الذى وضحه المفسر من أن النسبة إلى الجزء نسبة إلى الكل، وهو أسلوب معروف عند العرب الذين نزل القراَن بلغتهم، ففى مجموع السماوات والأرض دواب، وفى مجموع المياه العذبة والملحة لؤلؤ ومرجان.
وإن كانت الدواب فى الأرض واللؤلؤ والمرجان من البحر الملح.
وبعد، فإن الموضوع ليس عقيدة نحاسب عليها، ولا يترتب على الجهل بها شيء، ونحن لم نحل مشاكل الأرض ولم نأت على نهاية العلم بأسرارها حتى نهتم بأسرار الكائنات العليا، ويكفينا أن القرآن وهو أصدق خبر يحدثنا عما يهمنا منها، والقرآن كلام اللَّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن وجد كشف جديد يزيدنا يقينا بصدقه فذاك وإلا فهو صادق على الرغم من عجزنا نحن {لكن اللَّه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا}(10/158)
الصحابى الذى اهتز له العرش
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هو الصحابى الذى اهتز له عرش الرحمن، وما معنى الاهتزاز؟
الجواب
ذلك الصحابى هو سعد بن معاذ رضى الله عنه زعيم الأوس إحدى قبائل الأنصار فى المدينة، روى مسلم فى صحيحه عن جابر رضى اللَّه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم - "اهتز لها عرش الرحمن " وجاء مثله من رواية أنس بن مالك رضى اللَّه عنه.
قال النووى فى شرح هذا الحديث "ج 16 ص 22": اختلف العلماء فى تأويله، فقالت طائفة هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحركه فرحا بقدوم روح سعد، وجعل الله فى العرش تمييزا حصل به هذا، ولا مانع منه، كما قال تعالى - عن الحجارة - {وإن منها لما يهبط من خشية اللَّه} البقرة:
74، ولهذا القول هو ظاهر الحديث وهو المختار.
وقال المازرى: قال بعضهم هو على حقيقته وأن العرش تحرك لموته، قال:
وهذا لا ينكر من جهة العقل، لأن العرش جسم من الأجسام يقبل الحركة والسكون. قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك، إلا أن يقال: إن اللَّه تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته.
وقال آخرون: المراد اهتزاز أهل العرش وهم حملته وغيرهم من الملائكة، فحذف المضاف - وهو أهل - والمراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول. ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها وإقباله عليها.
وقال الحربى: هو كناية عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشىء المعظم إلى أعظم الأشياء فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة.
وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة وهو النعش، وهذا القول باطل يرده صريح هذه الروايات التى ذكرها مسلم: اهتز لموته عرش الرحمن، وإنما قال هؤلاء هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم هذه الروايات التى فى مسلم، والله أعلم(10/159)
الاحتفال بالأعياد القومية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى احتفال بعض الدول بأعياد مثل أعياد النصر وعيد العمال وعيد رأس السنة وغيرها؟
الجواب
فى بحث طويل فى الجزء الثانى من كتاب " بيان للناس من الأزهر الشريف " جاء أن كلمة الأعياد تطلق على ما يعود ويتكرر، ويغلب أن يكون على مستوى الجماعة، سواء أكانت الجماعة أسرة أو أهل قرية أو أهل أقليم، والاحتفال بهذه الأعياد معناه الاهتمام بها، والمناسبات التى يحتفل بها قد تكون دنيوية محضة وقد تكون دينية أو عليها مسحة دينية، والإسلام بالنسبة إلى ما هو دنيوى لا يمنع منه ما دام القصد طيبا، والمظاهر فى حدود المشروع، وبالنسبة إلى ما هو دينى قد يكون الاحتفال منصوصا عليه كعيدى الفطر والأضحى، وقد يكون غير منصوص عليه كالهجرة والإسراء والمعراج والمولد النبوى، فما كان منصوصا عليه فهو مشروع بشرط أن يؤدى على الوجه الذى شرع، ولا يخرج عن حدود الدين، وما لم يكن منصوصا عليه، فللناس فيه موقفان، موقف المنع لأنه بدعة، وموقف الجواز لعدم النص على منعه، ويحتج أصحاب الموقف المانع بحديث النسائى وابن حبان بسند صحيح أن أنسًا رضى الله عنه قال: قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال " قد أبدلكم اللَّه تعالى بهما خيرا منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى " فكل ما سوى هذين العيدين بدعة، ويرد عليه بأن الحديث لم يحصر الأعياد فيهما، بل ذكر فضلهما على أعياد أهل المدينة التى نقلوها عن الفرس، ومنها عيد النيروز فى مطلع السنة الجديدة فى فصل الربيع، وعيد المهرجان فى فضل الخريف كما ذكره النويرى فى " نهاية الأرب " وبدليل أنه سمى يوم الجمعة عيدا.
ولم يرد نص يمنع الفرح والسرور فى غير هذين العيدين، فقد سجل القرآن فرح المؤمنين بنصر اللَّه لغلبة الروم على غيرهم بعد أن كانوا مغلوبين " أوائل سورة الروم ".
كما يردُّ بأنه ليس كل جديد بدعة مذمومة، فقد قال عمر فى اجتماع المسلمين فى صلاة التراويح على إمام واحد " نعمت البدعة هذه ".
فالخلاصة أن الاحتفال بأية مناسبة طيبة لا بأس به ما دام الغرض مشروعا والأسلوب فى حدود الدين، ولا ضير فى تسمية الاحتفالات بالأعياد، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء(10/160)
من أدب الدعوة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى جماعات تجوب البلاد وتترك عملها لتدعو إلى الله؟
الجواب
لكل جماعة منهج،ولا يصح الحكم عليها إلا بعد معرفته معرفة جيدة، دون الاعتماد على ما يقال عنها فقد يكون غير صحيح، ومع ذلك فأقول بالنسبة لأى فرد أو جماعة تقوم بالدعوة إلى الله:
ا - لا يصح أن يدعو أحد بما لم يفهمه فهما صحيحا من أحكام الدين.
2 -لا يصح التعصب لرأى اجتهادى فيه خلاف بين العلماء.
3 - لا يصح أن يُغيَّر المنكر بأسلوب يؤدى إلى منكر آخر، وإلا لضاعت فائدة الدعوة التى تستهدف الإصلاح.
4 - الدعوة فرض كفاية وليست فرض عين، فإذا قام بها البعض سقط الطلب عن الباقين، وذلك إذا وجد غير واحد يصلح لها، قال تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} آل عمران: 104، وقال {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} التوبة: 122.
5 -ترك عمل واجب مهم من أجل الدعوة التى يمكن أن يقوم بها الغير-أمر لا يجوز.
6 - العمل نفسه ما دام فى الخير فهو طاعة، والدعوة طاعة، ويجب التنسيق والتخصص "اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
7-يمكن أن تمارس الدعوة أثناء العمل بين الزملاء، فيفوز الشخص بالحسنيين.
8 - إذا كان الله يقول {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} التوبة: 71، فذلك فيما يعرفه الشخص ويستطيعه، أما مالا يعرفه بصدق ولا يستطيعه فسيقوم به غيره ممن يعرف ويستطيع(10/161)
الرياضة البدنية فى نظر الإسلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما مدى علاقة الدين بالرياضة البدنية، وما تأثير ذلك على الإنتاج، وما هى أنواع الرياضات التى يحلها الإسلام؟
الجواب
ا - الرياضة مصدر راض، يقال: راض المهر يروضه رياضا ورياضة فهو مروض أى ذلله وأسلس قياده، ورياضة البدن معالجته بألوان من الحركة لتهيئة أعضائه لأداء وظائفها بسهولة، وقد قال المختصون: إن هذه الرياضة توفر للجسم قوته وتزيل عنه أمراضا ومخلفات ضارة بطريقة طبيعية هى أحسن الطرق فى هذا المجال.
2 -والناس من قديم الزمان لهم طرق وأساليب فى تقوية أجسامهم بالرياضة، وكل أمة أخذت منها ما يناسب وضعها ويتصل بأهدافها، فالأمة الحربية مثلا عنيت بحمل الأثقال وبالرمى واللعب بالسلاح، والأمة التى تكثر فها السواحل تعنى بالسباحة.
والأمة المسالمة الوادعة تعنى بالتمرينات الحركية للأعضاء بمثل ما يطلق عليه الألعاب السويدية. وهكذا ... واشتهر بين الناس هذه الأيام اسم الألعاب الأوليمبية، وهى لقاءات تتم كل أربع سنوات بين الرياضيين من جميع أنحاء العالم، واسمها منسوب إلى أولمبيا واد فى بلاد اليونان أقيمت فيه أول الألعاب سنة 776 قبل الميلاد، وكانت تقام عندهم بوحى من عقيدة دينية وسياسية، واعتبروها الوسيلة الوحيدة لقوة الجسم فى نظر الشعب وإلى حكم الشعب فى نظر الزعماء.
وكانت للعرب، كغيرهم من الأمم -أنواع من الرياضة أمْلَتها عليهم ظروف معيشتهم التى تعتمد على الرحلات والصيد والغارات والثارات.
3- والإسلام لا يمنع تقوية الجسم بمثل هذه الرياضات، فهو يريد أن يكون أبناؤه أقوياء فى أجسامهم وفى عقولهم وأخلاقهم وأرواحهم لأنه يمجِّد القوة، فهى وصف كمال لله تعالى ذى القوة المتين، والحديث الشريف يقول "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف " رواه مسلم، والجسم القوى أقدر على أداء التكاليف الدينية والدنيوية، والإسلام لا يشرع ما فيه إضعاف الجسم إضعافا يعجزه عن أداء هذه التكاليف، بل خفف من بعض التشريعات إبقاء على صحة الجسم، فأجاز أداء الصلاة من قعود لمن عجز عن القيام، وأباح الفطر لغير القادرين على الصيام، ووضع الحج والجهاد وغيرهما عن غير المستطيع، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص. وقد أرهق نفسه بالعبادة صياما وقياما " صم وأفطر وقم ونم، فإن لبدنك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا" رواه البخارى ومسلم.
وقد ذكر ابن القيم فى كتابه زاد المعاد عند الكلام على الرياضة، أن الحركة هى عماد الرياضة، وهى تخلص الجسم من رواسب وفضلات الطعام بشكل طبيعى، وتعود البدن الخفة والنشاط وتجعله قابلا للغذاء وتصلب المفاصل وتقوى الأوتار والرباطات وتؤمن جميع الأمراض المادية وأكثر الأمراض المزاجية، إذا استعمل القدر المعتدل منها فى دقة وكلن التدبير يأتى صوابا، وقال: كل عضو له رياضة خاصة يقوى بها، وأما ركوب الخيل ورمى النشاب والصراع والمسابقة على الأقدام فرياضة للبدن كله، وهى قالعة لأمراض مزمنة.
3 - مظاهر الرياضة البدنية فى الإسلام كثيرة، والتكاليف الإسلامية نفسها يشتمل كثير منها على رياضات للأعضاء إلى جانب إفادتها رياضة للروح واستقامة للسلوك، فالصلاة بما فيها من طهارة وحركات لمعظم أجزاء الجسم، والحج بمناسكه المتعددة، وزيارة الإخوان وعيادة المرضى والمشى إلى المساجد وأنواع النشاط الاجتماعى كلها تمرين لأعضاء الجسم وتقوية له ما دامت فى الحد المعقول.
وهناك فى غير العبادات والتكاليف الشرعية رياضات تشبه إلى حد كبير كثيرا مما تواضع عليه للناس فى هذا العصر، أقرها الإسلام وشجعها وإليك صورا لها:
ا -العَدْوُ: وهو تدريب على سرعة المشى، يلزم للأسفار من أجل الجهاد ونشر الدعوة والسعى لتحصيل الرزق وغير ذلك، ويذكر التاريخ العداء المشهور " فيديبدس " من قرية ماراثون باليونان وما كان له من أثر فى إخطار البلاد بهجوم الجيش الفارسى عليهم فى سبتمبر سنة 490 قبل الميلاد وفى انتصارهم على العدو، وقد خلد اسمه بعد ذلك بسباق ماراثون.
والعدو داخل ضمنا تحت الأمر بالمسارعة إلى الخير، فهى مسارعة روحية وجسمية، وقد روى أحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم سابق عائشة فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، فقال: هذه بتلك، وجاء فى بعض الروايات أن سبقه لها فى المرة الثانية كان لثقل جسمها وسمنتها، وروى الطبرانى أنه عليه الصلاة والسلام قال " من مشى بين الغرضين -علامتين لتحديد المسافة-كان له بكل خطوة حسنة".
وقد اشتهر من العرب فى سرعة العدو حذيفة بن بدر، وكان قد أغار على هجائن النعمان بن المنذر بن ماء السماء، وسار فى ليلة مسير ثمان، فقال قيس بن الحطيم:
هممنا بالإقامة ثم سرنا * كسير حذيفة الخير بن بدر وكذلك من العدائين المشهورين ذكوان مولى آل عمر بن الخطاب فقد سار من مكة إلى المدينة فى يوم وليلة "المسافة حوالى 500 كيلو متر" ولما قدم على أبى هريرة خليفة مروان على المدينة وصلى العتمة قال أبو هريرة: حاج غير مقبول منه. فقال: ولم؟ قال: لأنك نقرت قبل الزوال، -ظن أنه خرج من مكة قبل أن يرمى الجمرة التى يدخل وقتها بالزوال - فأخرج له كتاب مروان بعد الزوال وقال:
ألم ترنى كلفتهم سير ليلة * من آل منى نصا إلى آل يثرب فأقسمت لا تنفك ما عشت سيرتى * حديثا لمن وافى بجمع المحصب 2 - ركوب الخيل والحيوانات الأخرى والمسابقة عليها، والعرب من قديم الزمان مشهورون بالفروسية، وكان الناشئ منهم لا يصل إلى الثامنة حتى يتحتم عليه أن يتعلم ركوب الخيل، والله سبحانه وتعالى قد نوَّه بها فى قوله تعالى {والعاديات ضبحا. فالموريات قدحا.
فالمغيرات صبحا. فأثرن به نقعا. فوسطن به جمعا} العاديات: ا - 5، فهى من أهم أدوات الحرب، كما نوه بها فى السلم فقال سبحانه {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} النحل: 8، وأوصى رسوله بالعناية بها فقال {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} الأنفال: 60، ورباط الخيل تعهدها بما يحفظ عليها قوتها، ويجعلها دائما على استعداد للغزو وغيره، وقد ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التى قد أضمرت، فأرسلها من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع والمسافة نحو ستة أميال أو سبعة، وسابق بين الخيل التى لم تضمر، فأرسلها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق، والمسافة نحو ميل (تضمير الخيل هو إعطاؤها علفا قليلا بعد سمنها من كثرة العلف، وكانت عادة العرب أن تعلف الفرس حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت أى الأكل العادى. كما يقال إن تضمير الخيل يكون بأن تشد عليها سروجها وتجلل بالأجلة حتى تعرق تحتها فيذهب رهلها ويشتد لحمها، ويحمل عليها غلمان خفاف يجرونها ولا يعنفون بها إذا فعل بها ذلك أمن عليها البهر الشديد عند حضرها، أى لا تنهج عند العدو) . وابن عمر قد سابق فى هذا السباق، رواه البخارى، وفى مسلم أن رسول الله قال يوم حنين: يا خيل الله اركبى، وقال "اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل " وقد سابق النبى أيضا على الجمال فسابق على ناقته العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابى على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين فقال النبى صلى الله عليه وسلم "إن حقا على الله ألا يرفع من الدنيا شيئا إلا وضعه " رواه البخارى.
وذكر الجاحظ فى البيان والتبيين أن عمر أرسل كتابه إلى الأمصار يقول فيه:
علموا أولادكم السباحة، والفروسية. وفى رواية ومروهم يثبوا على الخيل وثبا، ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر.
3-الرماية، عن عقبة بن عامر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. .. " "ألا إن القوة الرمى، ألا إن القوة الرمى" رواه مسلم، وعن سلمة بن الأكوع أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون بالسوق، فقال: "ارموا بنى إسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بنى فلان، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله ما لكم لا ترمون؟ فقلنا كيف نرمى وأنت معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم " رواه البخارى ومسلم. وعن عقبة أيضا: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب فى صنعته الخير، والرامى به، ومنبله، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا، ومن ترك الرمى بعد ما علمه رغبة عنه فإنه نعمة تركها، أو قال: كرها" رواه أبو داود والنسائى والحاكم وصححه. وفى رواية أن فقيما اليخمى قال لعقبة: تختلف بين هذين الغرضين وأنت كبير يشق عليك؟ فقال عقبة: لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعانه، والكلام الذى سمعه هو "من علم الرمى ثم تركه فليس منى. أو فقد عصا " رواه مسلم.
4 -اللعب بالسلاح - الشيش: وكان معروفا عند العرب باسم "النقاف " وهو أصل المبارزة بالسلاح المعروفة فى شكلها الحالى، وكان من صوره رقص الحبشة الذى رآه النبى صلى الله عليه وسلم منهم فى المسجد، فكان عبارة عن حركات رياضية تصاحبها السهام، ففى رواية عن أبى سلمة أن الحبشة كانوا يزفنون ويلعبون بحرابهم يتلقونها. وكانت المبارزة تتقدم الحروب والغزوات أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أشهر المبارزين على بن أبى طالب ومواقفه فى بدر والخندق وغيرهما معروفة.
والتحطيب المعروف عندهم باسم "اللبج " أو "اللبخ " يشبه اللعب بالسيوف لأنه محاولة للأخذ قوامها هجوم ودفاع بالعصى.
5 - المصارعة ومثلها الملاكمة: وقد صارع النبى جماعة، منهم ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب، وكان بمكة ويحسن الصراع ويأتيه الناس من البلاد فيصرعهم، قال ابن إسحاق: لقيه النبى صلى الله عليه وسلم فى شعب من شعاب مكة فقال له: يا ركانة، ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه؟ فقال: يا محمد هل لك من شاهد يدل على صدقك؟ فقال: أرأيت إن صرعتك أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم. وقال البلاذرى: إن السائل للمصارعة هو ركانة، فقال له: تهيأ للمصارعة، فقال: تهيأت، فدنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم صرعه، فتعجب من ذلك ركانة، ثم سأله الإقالة مما توافقا عليه، وهو الإيمان والعودة إلى المصارعة، ففعل به ذلك ثانيا وثالثا: فوقف ركانة متعجبا وقال: إن شأنك لعجيب، وأسلم عقبها، وقيل أسلم فى فتح مكة.
رواه الحاكم وأبو داود والترمذى، كما صارع النبى ابن ركانة واسمه يزيد، فقد جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومعه ثلثمائة من الغنم، فقال:
يا محمد هل لك أن تصارعنى؟ قال: وما تجعل لى إن صرعتك؟ قال: مائة من الغنم، فصارعه فصرعه، ثم قال: هل لك فى العود؟ قال: وما تجعل؟ قال: مائة أخرى. فصارعه فصرعه، وذكر الثالثة، فقال: يا محمد، ما وضع جنبى فى الأرض أحد قبلك، ثم أسلم ورد عليه غنمه، روى عنه أنه قال: ماذا أقول لأهلى؟ شاة افترسها الذئب، وشاة شذت منى، فماذا أقول فى الثالثة؟ فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: ما كنا لنجمع عليك فنصرعك فنغرمك، خذ غنمك وانصرف (ذكره الزرقانى فى شرح المواهب ج 4 ص 293) وكذلك صارع النبى أبا الأسود الجمحى، وكان رجلا شديدا بلغ من قوته أنه كان يقف على جلد البقرة ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتفرى الجلد ولم يتزحزح عنه، وكان من المشهورين بالمصارعة فى الإسلام محمد بن الحنفية، جلس كالجبل يحركه رسول الروم لمعاوية يتحدى به أقوياءه، فأقر رسول الروم بقوة محمد، ثم رفعه محمد مرات وجلد به الأرض.
6- رفع الأثقال ومثله ألعاب القوى: وكان يعرف عند العرب باسم "الربع " وهو أن يُشال الحجر باليد، يفعل ذلك لتعرف شدة الرجل، والربيعة والمربوع هو الحجر الذى يرفع، وفى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقوم يربعون حجرا أو يتربعون فقال: عمال الله أقوى من هؤلاء (ذكره فى لسان العرب) وأول من فكر فى تلك اللعبة جابر بن عبد الله الأنصاري، وكان مشهورا بقوته البدنية، وقد اشتهر بالقوة البدنية على بن أبى طالب فإنه فى غزوة خيبر لما ضاع ترسه أمسك بباب كان عند الحصن فتترس به عن نفسه، وكان سبعة نفر ينوءون بحمله (ذكره فى الروض الأنف ج 2 ص 239) .
7 - القفز أو الوثب العالى: وكان يعرف أيضا عند العرب باسم " القفيزى" حيث كانت توضع عارضة خشبية يتقافزون عليها ولها نظام خاص لإجادتها (عيون الأخبار لابن قتيبة ج اص 133) .
8-الكرة: وهى تشبه لعبة البولو فى هذه الأيام، وقد وضعوا لها آدابا مذكورة فى كتب الأدب، قال الحارثة بن رافع. كنت ألاعب الحسن والحسين بالمداحى، والدحو رمى اللاعب بالحجر والجوز وغيره، والمداحى حجارة كشكل القرصة، وتحفر حفرة فترسل تلك القرص نحوها، فمن وقعت قرصته فيها فهو الغالب، وذكر أن ابن المسيب سئل عن الدحو بالحجارة فقال لا بأس به.
9 -السباحة: عن عطاء بن أبى رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصارى يرميان فملَّ أحدهما فجلس فقال له الآخر:
كسلت؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال. مشى الرجل بين الغرضين، وتأديبه لفرسه وملاعبته أهله، وتعليم السباحة" رواه الطبرانى بإسناد جيد، وروى البيهقى بسند ضعيف من حديث أبى رافع: حق الولد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمى. وعن ابن عباس قال: ربما قال لى عمر بن الخطاب: تعال أباقيك فى الماء، أينا أطول نفسا ونحن محرمون.
وفى تاريخ الخلفاء للسيوطى (ص 264) عندما تغلب معز الدولة أحمد بن بويه على بغداد شجع السباحة والمصارعة، حتى كان السبَّاح يحمل الموقد عليه القدر باللحم إلى أن ينضج. وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم سبح وهو صغير عندما زارت به أمه أخواله فى المدينة، فإنه عليه الصلاة والسلام لما هاجر ونظر إلى دار التابعة حيث دفن أبوه قال: هاهنا نزلت بى أمى وأحسنت العوم في بئر بنى عدى بن النجار، واستدل به السيوطى على أن النبى عَامَ وذكر أنه روى أبو القاسم البغوى وغيره عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم سبح هو وأصحابه فى غدير، فقال ليسبح كل رجل إلى صاحبه، فسبح صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر حتى عانقه، وقال: أنا وصاحبى (الزرقانى على المواهب اللدنية ج اص 164) .
هذه نماذج للتربية الرياضية أقرها الإسلام، وشجع عليها. تعرف بها مدى مرونة الإسلام وشمول هدايته لكل مظاهر الحضارة الصحيحة. وفى الإطار العادل الذى وضعه للمصلحة، ويلاحظ أن التربية الرياضية لا تثمر ثمرتها المرجوة إلا إذا صحبتها الرياضة الروحية الأخلاقية، وإذا كانت هناك مباريات يجب أن يحافظ على آدابها، التى من أهمها عدم التعصب الممقوت فإذا حدث انتصار لفرد أو فريق وكان الفرح بذلك على ما تقتضيه الطبيعة البشرية، وجب أن يكون فى أدب وذوق، فالقدر قد يخبئ للإنسان ما لا يسره، وقد تكون الجولات المستقبلة فى غير صالح الفائز الآن. ولا يحب أن تكون هناك شماتة به، فيجب عليه أن يحب للناس ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، وقد رأيتم أن الأعرابى سبق بقعوده ناقة النبى التى كانت لا تُسبق، ولما شق على المسلمين ذلك تمثلت الروح الرياضية الصحيحة-كما يعبر المتحدثون -عند النبى صلى الله عليه وسلم فقال: إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه، وذلك ليهدىء من ثائرة المتحمسين له. وقد سبق أنه قال لعائشة لما سبقها: هذه بتلك.
والأدب الإسلامى عند الخصومة والمنافسة يحتم عدم نسيان الشرف والذوق؟ وعدم الفجور فى المخاصمة فتلك من خصال المنافقين، ففى حديث البخارى ومسلم "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا. ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
والإسلام لا يرضى الانحراف عن هذه الآداب فى ممارسة الرياضة وفى إقامة المباريات.
(ا) لا يرضى أن يلهو الشباب بها إلى حد نسيان الواجبات الدينية والوطنية والواجبات الأخرى، ولا يرضى أن نصرف لها اهتماما كبيرا يغطى على ما هو أهم منها بكثير.
(ب) لا يرضى أن نمارس الرياضة بشكل يؤذى الغير، كما يمارس البعض لعب الكرة فى الأماكن الخاصة بالمرور أو حاجات الناس، وفى أوقات ينبغى أن توفر فيها الراحة للمحتاجين إليها. والإسلام نهى عن الضرر والضرار.
(جـ) لا يرضى التحزب الممقوت، الذي فرق بين الأحبة، وباعد بين الأخوة، وجعل فى الأمة أحزابًا وشيعا، والإسلام يدعو إلى الاتحاد ويمقت النزاع والخلاف.
(د) لا يرضى أن توجه الكلمات النابية من فريق لآخر ويكره التصرفات الشاذة التى لا تليق بإنسان له كرامته. وبشخص يشجع عملا فيه الخير لتكوين المواطن الصالح جسميا وخلقيا.
(ر) لا يرضى عن الألعاب الجماعية التى يشترك فيها الجنسان ويحدث فيها كشف للعورات أو أمور ينهى عنها الدين.
(و) لا يرضى عن الألعاب التى تثير الشهوة وتحدث الفتنة، كرياضة الرقص من النساء حين تعرض على الجماهير.
(ز) لا يرضى لجنس أن يزاول ألعاب جنس آخر تليق به ولا تتناسب مع غيره فى تكوينه وفى مهمته ورسالته فى الحياة.
ذلك أن الإسلام حين يبيح شيئا ويجيزه يجعل له حدودا تمنع خروجه عن حد الاعتدال وتحافظ على الآداب وتتسق مع الحكمة العامة للتشريع، وفى إطار هذه الحدود يجب أن تمارس الرياضة، وإلا كان ضررها أكبر من نفعها، وذلك مناط تحريمها، كما هى القاعدة العامة للتشريع. ويشير إلى ذلك كله قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} المائدة: 87، فالآية بعموم لفظها تحرم الاعتداء فى كل تصرف سواء أكان ذلك مطعومًا أم ملبوسًا أم شيئا آخر وراء ذلك، والاعتداء هو تجاوز الحد المعقول الذى شرعه الدين(10/162)
أدوات اللعب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم اللعب بالطاولة والشطرنج والكوتشينة والدومينو والسيجة؟
الجواب
الكلام الوافى عن هذه الأشياء موجود فى كتب كثيرة من أهمها، الزواجر لابن حجر الهيثمى، ونيل الأوطار للشوكانى، وحياة الحيوان الكبرى للدميرى " مادة عقرب " وتفسير القرطبى لآية {فماذا بعد الحق إلا الضلال} يونس:
32، وتواريخها أشرت إليه فى الجزء الثالث من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، أما حكمها فهناك شبه اتفاق على أن ممارستها محرَّمة إن كان فيها قمار، أو صاحبها محرم كشرب خمر أو سفور أو خلوة أو سباب، أو ترتب عليها ضياع واجب، أو ضرر أيا كان هذا الضرر.
والذى ذكرته الكتب القديمة من هذه الأشياء ووضحت حكمه من واقع النصوص الواردة هو النرد "الطاولة" والشطرنج وإليك خلاصة ما قيل فيهما:
1 - النرد المعروف بالطاولة ورد فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده فى دم خنزير " رواه مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه. وقال النووى فى التعليق عليه: قال العلماء: النردشير هو النرد، فالنرد عجمى معرب و"شير" معناه حلو. وهذا الحديث حجة للشافعى والجمهور فى تحريم اللعب بالنرد، وقال أبو إسحاق المروزى من أصحابنا:
يكره ولا يحرم "شرح مسلم ج 15 ص 15 ".
وجاء فيه أيضا حديث "من لعب بنرد أو نردشير فقد عصى الله ورسوله " رواه مالك عن أبى موسى الأشعرى واللفظ له، ورواه أبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقى، ولم يقولوا: أو نردشير،. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، أى الشيخين البخارى ومسلم "تفسير القرطبى "ج 8 ص 338"".
وجاء فى "الترغيب والترهيب "ج 4 ص 4 قال الحافظ: ذهب جمهور العلماء إلى أن اللعب بالنرد حرام، ونقل بعض مشايخنا الإجماع على تحريمه.
2 -أما الشطرنج فقد قال فيه النووى وأما الشطرنج فمذهبنا أنه مكروه وليس بحرام، وهو مروى عن جماعة من التابعين. وقال مالك وأحمد: حرام، قال مالك: هو شر من النرد وألهى عن الخير، وقاسوه على النرد، وأصحابنا يمنعون القياس ويقولون: هو دونه. "شرح صحيح مسلم ج 15 ص 15 ".
وقال الحافظ - بعد ذكر حكم النرد-: واختلفوا فى اللعب بالشطرنج، فذهب بعضهم إلى إباحته، لأنه يستعان به فى أمور الحرب، ومنهم سعيد بن جبير والشعبى، ولكن بشروط ثلاثة، عدم القمار، وعدم الإلهاء عن وقت صلاة، وحفظ اللسان حال اللعب عن الفحش، وكرهه الشافعى تنزيها، وذهب جماعات من العلماء إلى تحريمه كالنرد، وقد ورد فى الشطرنج أحاديث لا أعلم لشيء منها إسنادا صحيحا ولا حسنا "الترغيب والترهيب ج 4 ص 4 ".
هذا، ومن تظرف الباحثين فى النرد والشطرنج قول بعض المتكلمين -علماء التوحيد والكلام -النرد مجبر والشطرنج معتزلى، فالأول مجبر بحظه، والثانى مختار بفعله "مختارات الأدباء للأصفهانى ج اص 448 "(10/163)
حكم مشاهدة التلفزيون
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم مشاهدة التلفاز >؟
الجواب
التلفزيون هو جهاز الرؤية من بُعد، ينقل الصوت والصورة معا، بل ينقل الصورة متحركة كأنها حية، وتاريخ اختراعه مشار إليه فى الجزء الثالث من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، وهو يعرض أمورا متعددة، كما يذيع الراديو مواد مختلفة قد يصعب على الكثيرين الحصول عليها لو لم تكن هذه الأجهزة فما كان من هذه الأمور والمواد حلالا فى أصله، ولم يؤثر تأثيرا سيئا على العقيدة أو الأخلاق، ولم يترتب عليه ضياع واجب كان السماع حلالاً والمشاهدة أيضا حلالا، وما خالف ذلك كان ممنوعا يتحمل تبعته المذيعون والمستقبلون. وأكثر ما يسأل عنه هو النظر إلى النساء الراقصات أو الممثلات أو غيرهن ممن يبدين زينتهن ويكشفن ما أمر الله بستره، فقد يقال:
إن الناظر لا ينظر امرأة ولكن ينظر صورتها، وقد تحدَّث الفقهاء قبل أن يظهر التلفزيون عن حكم النظر إلى صورة المرأة فى المرآة، هل يعطى حكم النظر إليها أو لا؟ ووضحه الكمال بن الهمام، ونقله الشيخ طه حبيب فى فتوى نشرت له بمجلة الأزهر "نور الإسلام " عام 1932 فى المجلد الثالث ص 492 وقال ما نصه: والذى تسكن إليه النفس ويطمئن له القلب هو أن النظر إلى المرأة الأجنبية إنما كان محرما بسبب أنه داع وذريعة إلى الوقوع فيما هو أشد منه حرمة، وهو الوقوع فى المعصية الكبرى، وعليه فالنظر إلى المرأة الأجنبية المعينة بواسطة المرآة بقصد الشهوة غير جائز لأنه ذريعة إلى محرَّم، وكل ما كان كذلك فهو حرام، سواء أكان ذلك مباشرة أو بواسطة المرآة. انتهى.
وإذا كانت هذه الفتوى بشأن الصورة الجامدة التى يخشى من النظر إليها الفتنة، فإن النظر إلى الصورة المتحركة أولى بالمنع لشدة الفتنة بها، وإذا كان المقياس هو الفتنة فالناس مختلفون فيما يفتن وما لا يفتن وكل أدرى بنفسه.
ومما يشهد لجواز مشاهدة المسرحيات والألعاب البريئة ما رواه البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترنى بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون وأنا جارية، فاقدروا قدر الجارية العَرِبَة - المحبة للعب - الحديثة السن. وفى رواية فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قال "تشتهين تنظرين "؟ فقلت:
نعم فأقامنى وراءه خدِّى على خده، وهو يقول "دونكم يا بنى أرفدة" حتى إذا مللت قال "حسبك " قلت: نعم، قال "فاذهبى" وبنو أرفدة لقب للحبشة، ولفظ "دونكم " يفيد الإغراء والاستزادة، وكان لعب الحبشة بإلقاء الحراب وتلقيها كما ورد فى رواية أبى سلمة ويحى بن عبد الرحمن بن حاطب "صفوة التصوف للمقدسى" وجاء فى المطالب العالية لابن حجر "ج 4 ص 128 " أن عائشة كانت تتفرج على "الدركلة" وهى ضرب من لعب الصبيان، وقيل:
هو الرقص. وفى تأكيد سماحة الإسلام فى-التمتع البرىء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وهو ينهى الجوارى عن الغناء لعائشة يوم العيد "دعهن يا أبا بكر فإنها أيام عيد، لتعلم اليهود أن فى ديننا فسحة، وإنى أرسلت بالحنيفية السمحة" رواه أحمد عن عائشة، وذكر الحافظ ابن حجر فى فتح البارى رواية ذلك عن ابن السراج عن عائشة "فتح البارى ج 2 ص 515" وما جاء فى الجامع الصغير للسيوطى أن هذا القول كان بمناسبة لعب الحبشة فضعيف.
ولا داعى للقول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز لها مشاهدة لعب الحبشة وسماع الأغانى، لأنها كانت صغيرة غير بالغة، أو أن ذلك كان قبل أن يفرض الحجاب ويُحرم اللهو، فإن ذلك احتمال لا يفيد القطع، وإلا ما كان هناك خلاف للفقهاء فى هذه الأحكام "انظر موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ج 3 ص 138 "(10/164)
موقف الإسلام من السياحة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو موقف الإسلام من السياحة كمورد هام للدخل القومى؟
الجواب
السياحة وهى الانتقال من مكان إلى مكان آخر لمشاهدة ما فيه من آثار أو للتنزه والتمتع بما فيه من مناظر أو مظاهر- أمر لا يمنعه - الدين فى حد ذاته، بل يأمر به إذا كان الغرض شريفا، فقد أمرت الآيات الكثيرة بالسير فى الأرض للاعتبار بما حدث للسابقين {أفلم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمِّر الله عليهم وللكافرين أمثالها} محمد: 15، {قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} النمل: 69.
والحج نفسه سياحة دينية وعبادة مفروضة، وشد الرحال إلى المسجد الحرام بمكة، وإلى المسجد النبوى بالمدينة، وإلى المسجد الأقصى بالشام مرغوب فيه كما جاء فى الحديث الصحيح، وذلك للعبادة وزيادة الأجر، والأمر بزيارة الإخوان والرحلة لطلب العلم وللتجارة كل ذلك سياحة مشروعة، ونسب إلى الإمام الشافعى- ورحلته فى طلب العلم معروفة-دعوته إلى السفر لأن فيه خمس فوائد هي:
تفرج واكتساب معيشة * وعلم وآداب وصحبة ماجد ورحلات الصحابة والتابعين والسلف الصالح للجهاد والتجارة والأغراض العلمية معروفة، وكذلك أخبار الرحالة المسلمين كابن بطوطة وابن جبير لها كتب مدون فيها علم كثير، ولا شك أن البلاد التى يرد إليها السائحون تكسب كثيرا من الناحية المادية والناحية الأدبية، وتحرص كثيرا على أن يفد إليها السائحون، وإذا كان الواقع يشهد بذلك فقد أشار إليه قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم {ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} إبراهيم: 370.
فأمره الله بأن يؤذن فى الناس بالحج، فأذن وأتوه من كل فج عميق، وعمر المكان وازدهر وسيظل كذلك إلى يوم الدين. وهذا الكسب يكون حلالا إذا لم يكن فيه ضرر سواء أكان هذا الضرر من السائحين أو من الجهة التى يزورونها، وسواء أكان الضرر ماديا أم أدبيا، فقد يكون بعضهم جواسيس أو أصحاب فكر أو سلوك شاذ يريدون نشره، وهنا يجب منع الضرر، فمن القواعد التشريعية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ومن تطبيقات هذه القاعدة قديما، إعلان أبى بكر رضى الله عنه وكان أميرا للحج فى السنة التاسعة من الهجرة ألا يحج بعد العام مشرك، وقد كان العرب يحرصون على الحج من أجل التجارة والمكاسب المادية وكان أهل مكة يستفيدون من ذلك كثيرا ويقومون بتسهيلات كثيرة للحجاج، وأنشئوا خدمات ثابتة من أجل ذلك كالسقاية والرفادة كانوا يتنافسون فيها ويتوارثونها فحرم الإسلام على أهل مكة تمكين المشركين من الحج على الرغم من ضياع الكسب المادى أو الرواج التجارى أو الانتعاش الاقتصادى الذى كانوا يفيدون منه وذكر أن الله سيعوضهم خيرا مما فاتهم بسبب هذا الخطر، وجاء فى ذلك قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله إن الله عليم حكيم} التوبة: 28.
قال المفسرون: لما منع المسلمون الكافرين من الموسم وكانوا يجلبون الأطعمة والتجارات قذف الشيطان فى قلوبهم. الخوف من الفقر وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله. قال عكرمة:
أغناهم الله بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض، فأخصبت بتَالة وجُرَش -بلدان باليمن فيهما خصب -وحملوا إلى مكة الطعام وكثر الخير وأسلمت العرب، أهل نجد وصنعاء، فكثر حجهم وازدادت تجارتهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم.
والواجب أن توضع قوانين لتنظيم السياحة منعا لما يكون فيها من ضرر، وأملا فى زيادة ما يكون وراءها من خير(10/165)
حكم نقل الخصية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز نقل خصية رجل إلى رجل آخر وما الحكم فيما لو كان فيها منى وحملت منه زوجة الرجل المنقول إليه؟
الجواب
من المقرر أن نقل الخصيتين معا من شخص إلى آخر لا يجوز، لأنه خصاء للمنقول منه، والخصاء حرام بنص حديث النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه البخارى حيث لم يأذن فيه لأبى هريرة الذى لم يجد ما يتزوج به وهو شاب يخاف الزنى. .
أما نقل خصية واحدة فهو كنقل إحدى الكليتين يجوز بشرطين هما مطلوبان فى نقل أى عضو من شخص إلى آخر، وهما عدم الضرر الكبير بالمنقول منه، وغلبة الظن فى استفادة المنقول إليه به، ولا شك أن الخصية هى المعمل الذى يفرز المادة المنوية ويتخلق منها الحيوان المنوى. وهذه المادة عندما تكثر لا بد من إفراغها بطريقة أو بأخرى، فإذا نقلت الخصية بما فيها من مادة مع افتراض أن الحيوانات المنوية بعد القطع ستبقى حية وزُرعت فى شخص آخر، وباشرت عملها من توليد المادة من الجسم الجديد كان فيها خليط من مادة الشخص الأول ومادة الشخص الثانى، فلو فرض تلقيح زوجة الثانى من هذا الخليط فلا يعرف للحمل من أى الشخصين يكون، وتحليل الدم أو الشبه فى الخلقة قد يحدد ذلك. ولو ثبت أنه للشخص الأول كان الاتصال الجنسى حراما، وتجيء هنا مشكلة نسبة المولود على فراش الزوجية وحق الزوج فى ادعائه ونفيه وما قيل فى التلقيح الصناعى.
ولذلك نختار منع عملية النقل أصلا، وذلك لعدم الضرورة إليها، فليس عقم الرجل مفضيا إلى هلاكه أو إلى إلحاق الضرر الشديد به، ولو تم النقل وجب أن تكون هناك فرصة لتفريغ المادة المخزونة فيها والاطمئنان إلى خلوها منها بمعرفة المختصين. وذلك أشبه بمدة الاستبراء والعدة حتى لا تختلط الأنساب بالزواج أو التمتع قبل انتهائها وما يقال فى نقل خصية الرجل يقال فى نقل مبيض المرأة(10/166)
مسئولية الطبيب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل على الطبيب مسئولية إذا أخطأ فى العلاج وتسببت عن الخطأ وفاة أو أضرار؟
الجواب
الكلام طويل فى نظرة الإسلام إلى الطب فى جناحيه الوقائى والعلاجى، ومن أهم الكتب المؤلفة فيه كتاب الطب النبوى، وهو أحد أقسام الكتاب الكبير "زاد المعاد" لابن القيم. الذى وضع تعليمات دقيقة تتصل بمن يقوم بالعلاج وبالمريض نفسه والدواء الذى يعالج به، لخصها فى عشرين نقطة.
وفيما يتصل بموضوع السؤال نقول: لقد حرص الإسلام على جدارة المعالج بمباشرة العلاج، وعلى اختيار الأفضل ممن يمارسون هذه المهنة، وذلك من باب الاطمئنان والحفاظ على الصحة والحياة، جاء فى موطأ الإمام مالك مرسلا -أى حديثا سقط من سنده الصحابى- أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجلين يمارسان مهنة الطب " أيكما أطب "؟ فقالا: يا رسول الله: وفى الطب خير؟ فقال "أنزل الداء الذى أنزل الدواء" وفى علاقة هذا الجواب بالسؤال كلام للعلماء يرجع فيه إليهم. وفى مجال هذه الجدارة قال "من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن " وهو حديث إسناده حسن.
يقول الخطابى: لا أعلم خلافا فى أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا، والمتعاطى علما أو عملا لا يعرفه متعد، فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القود-أى القصاص لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض، وجناية المتطبب فى قول عامة الفقهاء على العاقلة أى أقارب الجانى. انتهى.
ويقول ابن القيم: إن الذين يتعاطون العلاج خمسة أقسام:
ا -طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده، فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع ومن جهة من يطبه -أى يعالجه -تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة فهذا لا ضمان عليه اتفاقا.
2 - طبيب جاهل، إن علم المجنى عليه أنه جاهل وأذن له لم يضمن، وإن ظن أنه طبيب وأذن له ضمن.
3- حاذق أذن له وأعطى الصنعة حقها، لكن أخطأت يده وتعدت إلى عضو فأتلفه، يضمن لأنها جناية خطأ.
4 -حاذق اجتهد فوصف دواء فأخطأ فى اجتهاده فقتل، يضمن.
5 -حاذق أعطى الصنعة حقها فقطع سلعة بغير إذن، يضمن.
هذا، ومن لوازم الخبرة عدم الاعتماد على مؤلفات مجهولة قد تنسب زورا إلى غير المختصين، مثل كتاب "الرحمة فى الطب والحكمة" الذى نسب إلى السيوطى وهو من وضع الشيخ حكيم المقرى مهدى الصبرى الطحاوى - "مجلة الإسلام، السنة الخامسة عشرة، العدد الثالث والثلاثون - بتاريخ 3/ 8/ 1945 م ".
ومن لوازم الخبرة أيضا جواز مداواة أحد الجنسين للآخر عند الحاجة أو الضرورة بمثل عدم وجود الطبيب المختص الموثوق به(10/167)
التحية بالانحناء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز انحناء الممثل على المسرح أمام الجمهور عندما يحيونه؟
الجواب
روى الترمذى بإسناد حسن عن أنس رضى الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه وصديقه، أينحنى له؟ قال " لا " قال: أفيلزمه ويقبله؟ قال "لا" قال أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال "نعم ".
جاء فى الآداب الكبرى عن أبى المعالى أن التحية بانحناء الظهر جائزة، وقيل: هو سجود الملائكة لآدم، قال: ولما قدم ابن عمر الشام حياه أهل الذمة كذلك فلم ينههم. وقال: هذا تعظيم للمسلمين. ولعل مراده بالجواز عدم الحرمة، فلا ينافى الكراهة. قاله السفارينى فى كتابه "غذاء الألباب ج 1 ص 286".
يؤخذ من الحديث وما قاله العلماء أن التحية بالانحناء غير مرغوب فيها، وأقل درجة ذلك هو الكراهة، لعدم لياقته بالمسلم الكريم العزيز بإيمانه بالله تعالى. وقد تدخل النية فى تكييف الحكم، فإن كان يقصد المحتفل به بانحنائه الشكر وإظهار التواضع فلا بأس، مع التوصية بعدم المبالغة فيه.
والانحناء لون من ألوان التحية عند اللقاء فى بعض الجماعات، يقصد به تعظيم من قابله كما يفعل للملوك والسلاطين، أما ما يرد به الممثل على المعجبين به فليس كذلك تماما، وهذا يخفف من الحكم عليه(10/168)
كفارة اليمين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى كفارة الحنث فى اليمين، هل يمكن إخراج النقود بدل الطعام، وهل يشترط أن يكون الصيام متتابعا؟
الجواب
قال تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون} المائدة: 89.
تبين الآية كفارة الحنث فى اليمين، والممكن الآن فى أغلب البلاد الإسلامية- نظرا لإلغاء الرق - هو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام.
ومقدار الإطعام هو ما يكفى غداء وعشاء لكل مسكين من متوسط ما يتغذى به الإنسان الذى وجبت عليه الكفارة، وذلك يختلف باختلاف المستوى الاقتصادى، ولا يراعى فى ذلك وسط المساكين الذين يأخذون الكفارة- وكذلك الأمر فى الكسوة.
وأجاز أبو حنيفة أن يخرج الإنسان قيمة الطعام أو الكسوة، وقد يكون أحسن للمسكين فى بعض الأحوال، وما دمنا اعتبرنا الوسط الذى يعيش فيه من يخرج الكفارة تكون القيمة مختلفة من شخص إلى شخص، وليس لها قدر محدود يلتزمه كل إنسان.
وما جاء فى الكتب من تقدير فإنما ذلك كان بحسب الزمن الذى ألفت فيه، والآية عامة لكل زمان ومكان، فيرجع إلى المتعارف عليه لتقدير الوسط، ففى الأقوال القديمة كما ذكرها القرطبى فى تفسير الآية: أن أهل المدينة كانوا يطعمون مُدا وثلثا، وقال أبو حنيفة: يُخرج الحانث نصف صاع من البر، ومن التمر والشعير صاعا.
هذا، والصيام يجب أن يكون متتابعا كما قال أبو حنيفة والشافعى فى قول له، بناء على قراءة ابن مسعود "فصيام ثلاثة أيام متتابعات، ولا يجب التتابع عند مالك والقول الآخر للشافعى، لعدم النص أو القياس على المنصوص، وعليه فتترك الحرية لمن يصوم، والدين يسر(10/169)
ضرب التلميذ
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ضرب المدرس للتلميذ ضربا كثيرا حرام؟
الجواب
العقاب بالضرب موجود منذ القدم فى تأديب الأطفال فى البيوت وفى المدارس وقد رخص الإسلام فى ضرب الزوجة الناشز إذا لم تفلح الموعظة والهجر، وقد جاء فى الحديث الذى رواه أبو داود عن النبى صلى الله عليه وسلم "مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم فى المضاجع ".
غير أنه ينبغى ألا يكون الضرب مبرحا، وأن يستعمل عند من لا يصلحه إلا ذلك، دخل ولد لعمر بن الخطاب عليه وقد رجَّل شعره ولبس ثيابا حسنة، فضربه بالدرة حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم ضربته؟ فقال: أعجبته نفسه فأحببت أن أصغرها إليه "تاريخ الخلفاء للسيوطى ص 96"وثبت أن أمراء المؤمنين أذنوا لمؤدبى أولادهم أن يضربوهم عند اللزوم، وينبغى أن يكون الضرب من أجل التأديب وليس لدافع شخصى.
يقول ابن حجر الهيتمى المتوفى سنة 974 هـ: إن ضرب التلميذ يكون بعد إذن ولى أمره، وأن يظن أنه يفيد، وألا يكون مبرحا فإذا ظن أنه لا يفيد إلا الضرب الشديد الإيذاء فلا يجوز بالإجماع، لأن العقوبة شرعت لظن الإصلاح، فإذا جاء بها ضرر انتفت. وجاء فى مقدمة ابن خلدون "ص 399": قال أبو محمد بن أبى يزيد فى كتابه عن المعلمين والمتعلمين: لا ينبغى لمؤدبى الصبيان أن يزيدوا فى ضربهم - إذا احتاجوا إليه - على ثلاثة أشواط شيئا "انظر الجزء الرابع من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ص 333- 335 "(10/170)
ملك اليمين والخدم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المراد بملك اليمين فى قوله تعالى {والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين} المؤمنون: 5، 6
الجواب
ملك اليمين هم الأرقاء الذين ضرب عليهم الرق فى الحرب الإسلامية المشروعة، أو تناسلوا من أرقاء، فمن ملك أَمة جاز له -بعد استبرائها -أن يتمتع بها كما يتمتع الزوج بزوجته، دون حاجة إلى عقد أو مهر أو شهود.
وليس لهن عدد محدود يباح للرجل ألا يزيد عليه بخلاف الزواج من الحرائر فلا يزيد على أربع فى عصمة واحدة.
والتمتع بملك اليمين ربما يفهم بعض الناس من ظاهره أنه إطلاق لشهوة الرجال وزيادة فى التمتع ولكنه فى حقيقته وسيلة من وسائل تحرير الرقيق، لأن الأمة إذا حملت من سيدها لا يستطيع أن يبيعها أو يهبها، وإذا مات لا تورث كما يورث المتاع، بل تصير حرة، وابنها يكون حرا لا رقيقا.
أما المنهى عنه فهو الزواج من الإماء بعقد ومهر كالحرة، وهو لا يجوز إلا عند توفر أمرين، أولهما العجز عن مهر الحرة، والثانى خوف الزنا إن لم يتزوج، قال تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} إلى أن قال {ذلك لمن خشى العنت منكم وأن تصبروا خير لكم} النساء: 25.
وسر النهى عن نكاحهن بعقد ومهر وشهود أن الأولاد الناتجين من هذا الزواج يكونون أرقاء لا أحرارا، والإسلام لا يريد زيادة فى الأرقاء، بل يريد الزيادة فى الحرية، وله أساليبه الكثيرة فى ذلك.
فالآيتان اللتان فى السؤال تقولان إن المؤمنين يصونون أنفسهم عن العلاقات النسوية المحرمة، ولا يحل لهم إلا التمتع بالزوجات الحرائر عن طريق العقد المعروف، أو بالإماء عن طريق ملك اليمين.
هذا، وأما الخادمات فهن حرائر ولسن إماء، فلا يجوز التمتع بهن إلا بالزواج الصحيح. والرق قد بطل الآن باتفاق الدول، ولا يوجد منه إلا عدد قليل جدا فى الدول التى لم توقع على الاتفاقية الدولية(10/171)
العملية المرذولة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى ممارسة العادة السرية، وكيف يتجنبها الشباب؟
الجواب
تحدث العلماء عن هذه العملية المرذولة فى كتب التفسير والفقه،وبين حكمها الزبيدى فى شرحه للإحياء وتكلم عنها ابن القيم فى "بدائع الفوائد".
وخلاصة أقوال الفقهاء فيها وهو ما نختاره للفتوى، ما يأتى:
حرمها الشافعية والمالكية (شرح الإحياء) وحرمها الأحناف إذا كانت لاستجلاب الشهوة (التشريع الجنائى جـ 2 ص 36 وما بعدها) .
وقال الحنابلة: إنه جائز عند الحاجة. قال ابن قدامة من الحنابلة فى (المغنى ص 64 من المعجم) : من استمنى بيده فقد ارتكب محرما.
هذا، وقد ذكرت فى الجزء الأول من كتابى-"الأسرة تحت رعاية الإسلام " كل ما قيل فى هذه المسألة، وأكتفى الآن بإيراد فتوى الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتى الديار المصرية الأسبق نشرت فى مجلة الأزهر (المجلد 3 عدد المحرم 1391 هـ ص 91) انتهى فيها إلى قوله:
ومن هذا يظهر أن جمهور الأئمة يرون تحريم الاستمناء باليد، ويؤيدهم فى ذلك ما فيه من ضرر بالغ بالأعصاب والقوى والعقول، وذلك يوجب التحريم.
ومما يساعد على التخلص منها أمور، على رأسها المبادرة بالزواج عند الإمكان ولو كان بصورة مبسطة لا إسراف فيها ولا تعقيد، وكذلك الاعتدال فى الأكل والشرب حتى لا تثور الشهوة، والرسول فى هذا المقام أوصى بالصيام فى الحديث الصحيح "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ومنها البعد عن كل ما يهيج الشهوة كالاستماع إلى الأغانى الماجنة والنظر إلى الصور الخليعة، مما يوجد بكثرة فى الأفلام بالذات، ومنها توجيه الإحساس بالجمال إلى المجالات المباحة، كالرسم للزهور والمناظر الطبيعية غير المثيرة، ومنها تخير الأصدقاء المستقيمين والانشغال بالعبادة عامة، وعدم الاستسلام للأفكار، والاندماج في المجتمع بالأعمال التى تشغله عن التفكير فى الجنس، وعدم الرفاهية بالملابس الناعمة والروائح الخاصة التى تفنن فيها من يهمهم إرضاء الغرائز وإثارتها وكذلك عدم النوم فى فراش وثير يذكر باللقاء الجنسى، والبعد عن الاجتماعات المختلطة التى تظهر فيها المفاتن ولا تراعى الحدود.
وبهذا وأمثاله تعتدل الناحية الجنسية ولا تلجئ إلى هذه العادة التى تضر الجسم والعقل وتغرى بالسوء(10/172)
تغيير المنكر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الإسلام فى الشباب الذى يدعو إلى تغيير المنكر باليد واستخدام القسوة والعنف حتى استخدام الأسلحة النارية. وهل من حقه ذلك؟
الجواب
روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
فى هذا الحديث مراتب لتغيير المنكر، إذا عجز الإنسان عن إحداها استعمل الأخرى.
والتغيير باليد لمن له سلطان على مرتكب المنكر، كالوالد مع ولده، والزوج مع زوجته، والراعى فى رعيته، والوالد والزوج يغيران المنكر فى حدود سلطتهما التى لو تجاوزاها ارتكبا منكرا، أو أدى إلى ضرر بالغ أو منكر أكبر، أما الراعى فله السلطان الكامل.
والتغيير فى أية مرتبة من مراتبه لابد أن يكون بالحكمة، حتى لا يكون فيه ضرر على الشخص المنكِر ولا يؤدى إلى منكَر أشد أو فتنة تزيد بها المنكرات ولا تزول، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يَقْدِر فى مكة على تغيير المنكر، وهو عبادة الأصنام - بتحطيمها، وإلا لقضى المشركون على الرسول والقلة المؤمنة معه، وكانت نتيجة الدعوة عكسية، لم تحقق الغرض بل زادت الفساد.
وكم نزل من الآيات فى مكة تحث الرسول على الصبر على ما يقابل به من تكذيب واستهزاء واعتداء بأساليب مختلفة، بل إن الصلاة لما فرضت فى مكة كان يصليها عند الكعبة والأصنام منصوبة من حوله، لا يستطيع أن يمد يده إليها بأذى، فلما هاجر إلى المدينة وتكونت الدولة الإسلامية وقويت وفتح الله مكة على يد الرسول وأصحابه سنة 8 هـ حطم الرسول الأصنام ولم يعترض عليه أحد، لأن أهلها أسلموا ولا يستطيعون مقاومة القوة الإسلامية.
وكبار العلماء المسلمين السابقين الذين تركوا لنا تراثا فقهيا لا مثيل له، وعلى رأسهم حجة الإسلام الإمام الغزالى المتوفى 505 هـ وضعوا قواعد وإرشادات للدعوة مستخلصة من النصوص ومن روح الشريعة جاء فيها: أنه إذا عُلم حصول الفائدة من الدعوة ولم يخف ضررا.
وجبت الدعوة، وإن لم يعلم فائدة وخاف الضرر حرمت الدعوة، لأنها إلقاء للنفس فى التهلكة.
وبعض المتحمسين لتغيير المنكر لا يراعون الحكمة ولا الآداب فألقوا بأيديهم إلى التهلكة، والمنكر لم يتغير، ووقع الضرر عليهم وعلى ذويهم والبرآء ممن يتصلون بهم، أرجو الله أن يهديهم إلى طريق الصواب ويكفوا عن الأساليب الضارة، وعليهم الإنكار باللسان فى إطار الحكمة إن علموا فائدة ولم يخشوا ضررا، وإلا اكتفوا بالإنكار بالقلب الذى يترجم عنه السلوك حتى يغير الله الظروف وتأخذ الدعوة طريقا مناسبا. .
راجع رسالة الأوقاف فى هذا الموضوع، وكتاب (بيان للناس من الأزهر الشريف) الجزء الأول(10/173)
الرأى العام والشورى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى أهم العوامل التى تؤثر على الرأى العام؟
الجواب
الرأى العام له مؤثرات كثيرة، قد يكون الرأى العام نابعا من قوم لهم سلطان اقتصادى أو سلطان سياسى أو سلطان عنصرى يحاولون فرض رأيهم على كثيرين من الناس. وبالدعايات يقال إن الرأى العام فى هذه الدولة أو فى هذه المنطقة هو كذا.
الرأى العام أشبه ما يكون فى الفقه الإسلامى بالإجماع، والإجماع تكلم فيه الأصوليون كثيرا وقالوا: إن الإجماع بمعناه الحقيقى الأصيل لا يمكن أن يتحقق أبدا لأن المفروض فى الإجماع أن يؤخذ رأى كل فرد من المسلمين أو على الأقل كل فرد عنده صلاحية إبداء الرأى، ولم يحصل هذا أبدا فى المناطق الإسلامية ولذلك لم يعتبره كثير من الفقهاء ولا من الأصوليين. الرأى العام إذا قلنا إنه موجود مثلا فى الحضارة الإغريقية فمن الذى له رأى عام هناك؟ قرأت فى فلسفتهم وفى نظمهم أنهم يقولون: إن الإنسان الجدير بالحياة هو الإغريقى فقط وما عدا الإغريقى فهو من البربر-بل إن فلاسفة الثورة الفرنسية وما قبل الثورة الفرنسية، أثر عن بعضهم أنه قال: يستحيل مطلقا أن يجعل الله الروح الطاهرة الشريفة فى جسم إنسان أسود من رأسه إلى قدمه - هل الرأى العام الذى يؤخذ فى مثل هذه الأوساط له اعتباره؟ لا- الرأى العام لا يكون صحيحا ولا مطمأَنا إليه إلا إذا كان الشعب نفسه على تربية معينة تؤهله لأن يقول هذا الرأى العام - الرأى العام فى الإسلام لا بد أن يصدر عن مسلمين عندهم أصالة إسلامية فى الفكر والأمانة، ودون ذلك لا يعتبر رأيا عاما.
ما هى مواصفات الشخص المستشار؟ والشخص الذى نأخذ منه المشورة أو يعتبر رأيه؟ كل الصفات التى تقال فى الناخب والمنتخب فى المشير وفى من طلب المشورة كل ذلك مفصل فى كتاب اسمه الأحكام السلطانية للماوردى - ما ترك شاردة ولا واردة من أصول الحكم إلا تحدث عنها واستمد أدلتها من القرآن والسنة وعمل الصحابة وعمل السلف -وتحدث عمن يرشحون أنفسهم للخلافة وعمن يرشحهم وعن الذين يختارون هذا -وقالوا فى ضمن ما قالوا: هناك صفتان أساسيتان فى الذى يُنتخب والذى ينتخب هما العدالة والعلم أو العقل بمعنى أن يكون عند الذى يعطى المشورة ويعطى الرأى له علم وخبرة وفى الوقت نفسه عنده أمانة هذان الأساسان مأخوذان من قوله تعالى فى قول يوسف عن نفسه عندما طلب أن يجعل نفسه على خزائن الأرض لعزيز مصر {اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم} يوسف: 55، والحفظ معناه الأمانة والعلم معناه الخبرة، فلا ينبغى أبدا أن نأخذ مشورة من إنسان جاهل، هذا شيء لا يصدقه أى إنسان. إذا أردت فى خصوصيات نفسك أن تستشير أى إنسان فى مسألة رياضية أو مسألة هندسية أو مسألة دينية تطلبها من صاحب الاختصاص: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} النحل: 43، ومبدأ العلم بالذات ذكرنى بمجلس استشارى لسيدنا عمر. كان يجعل مجلسا استشاريا من كبار المهاجرين وكان يقحم معهم عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، هذا الحديث ثابت فى البخارى عندما كان كبار مشايخ المهاجرين وهم الصفوة الممتازة فى مجلس عمر رئيس الدولة ومعهم عبد الله بن عباس صاحب السن الصغيرة الفتى الشاب من الذى أجلسه هذا المجلس!؟! كانوا ينظرون إليه نظرة فهمها سيدنا عمر فأراد سيدنا عمر أن يبين لهم أنه اختاره لصفة فيه ربما تكون مفقودة فى الكثير منهم وليست العبرة بصغر السن ولا فى السبق بالإسلام وإنما العبرة فى هذا المجلس بالعلم والخبرة، طرح هذا السؤال ماذا تقولون فى قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح.
ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا} النصر: 1، 2، فكلهم هز رأسه وقال: هذه واضحة-الله يقول إذا جاءك يا محمد نصر الله، وفتح عليك فسبح بحمد ربك أى أكثر من التسبيح واستغفره لأن الله تواب، تفسير سطحى يعرفه كل إنسان، فنظر إلى عبد الله بن عباس وقال له: ما تقول فيها، قال أقول فى هذه السورة: إنها نعى رسول الله كأن الله قال: انتهت مهمتك وستموت وتلحق بى لأن النصر جاء وفتحت عليك مكة. انتهت مهمتك أو كادت فاستعد للقائى بشكر الله على النعمة وبالاستغفار من ذنب إن كان هناك ذنب إن الله كان توابا.
فلما قال هذا شهدوا لحكمة سيدنا عمر فى اختيار هذا المستشار لعقله ولعلمه، وكم فى المسلمين من لهم هذه الصفة.
وأما فى حديث مصابيح السنة للبغوى فى إيثار النبى عليه الصلاة والسلام -الاستشارة- بالرجلين العظيمين وهما سيدنا أبو بكر، وسيدنا عمر وقال: لو اتفقتما على أمر لم أخالفكما، ثم قال: لو أننى آمر أحدا بدون مشورتكما لأمَّرت ابن أم عبد -أى عبد الله بن مسعود- فالرسول عليه الصلاة والسلام طلب الرأى ممن عندهم خبرة ودراية وفى الوقت نفسه ممن عندهم ذمة وأمانة - هذان الأصلان يجب أن يوضعا فى رأس القائمة فى مواصفات كل من يقدم نفسه ليكون عضوا أو نائبا وفى كل من يدلى بصوته، إذا تحقق هذان الأصلان كانت المشورة فى موقعها(10/174)
تأمين الفكر الإسلامى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المراد بالفكر الإسلامى، وما هى وسائل تأمينه؟
الجواب
الفكر قد يراد به المعنى المصدرى وهو حركة العقل أى التفكير، وقد يراد به المعنى الحاصل بالمصدر، وهو القضايا الناتجة عن هذه الحركة وغيرها، ويجب أن نعلم أن فى الإسلام قضايا لا يصلح أن يطلق عليها اسم الفكر الإسلامى، وهى القضايا التى مصدرها الوحى بدءا أو نهاية، كاجتهاد الرسول الذى أقره الوحي الإلهى، وذلك كالعقائد وما عرف من الدين بالضرورة. وفيه قضايا هى نتاج العقل والنظر، سواء فى الأصول والفروع، كحكم مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أو كافر أو فى منزلة بينهما؟ وكالقدر الواجب مسحه من الرأس فى الوضوء، وغير ذلك مما فى كتب الكلام والفقه.
وتأمين القضايا الأولى يكون بتعلمها والتسليم بها، والنقاش حولها لا يكون بنقضها ولكن بدعمها وبيان حكمتها، مع التسليم بأن الجهل بالحكمة لا يغير الحكم، كالشأن فى الآيات المتشابهات إما أن يسلم بها كما هى، وإما أن تؤول على ضوء الآيات المحكمات.
أما القضايا الاجتهادية فتأمينها فى نظرى يكون بمدارستها واختيار أوفقها لروح الشريعة ولمسايرة العصر فيما ثبتت فائدته تحقيقا لحكمة التشريع فى رعاية المصلحة، مع بيان فضل هذا النتاج الفكرى وما ثبت من أصول على نتاج الأفكار والشرائع الأخرى.
وإذا أريد بالفكر الإسلامى حركة العقل أو منهج البحث فهناك تكون الخطورة، لأن السلوك وليد الفكر كما أثبته العلم -وسبق به الرسول فى قوله "ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب " رواه البخارى ومسلم. وتأمين هذا الفكر أو هذا التفكير فى الإسلام له مجالان، مجال وقائى ومجال علاجى.
ففى المجال الوقائى أضع هذه الوسائل باختصار:
ا - ترك النص الواضح جانبا والنظر فى غيره، فالحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، وهذه هى محل التفكير لبيان ما هو خير منها.
2 -عدم التقليد الأعمى فى العقائد والأفكار والسلوك لغير المعصوم، وكم فى القرآن من آيات تنص عليه. منها قوله تعالى {وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} الزخرف: 23، 24، وقوله {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} الأحزاب: 67.
3-طلب الدليل والبرهان لكل ما يؤخذ من قضايا، وفى القرآن قوله تعالى {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} النمل: 64، وقوله {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} الأنعام: 148.
4 - كون المقدمات التى يستدل بها يقينية فى العقائد بالذات لأنها هى التى توجه السلوك، قال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم} الإسراء: 36، وقال {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا} النجم: 28، وقال {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة} الحجرات: 6.
5 -عدم التعصب للرأى الاجتهادى فهو محتمل للخطأ، لأنه قد يتأثر بالهوى أو بمؤثرات أخرى، وأقوال الأئمة المجتهدين فى ذلك معروفة "إذا صح الحديث فهو مذهبى واضربوا بقولى عرض الحائط " "رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب "وقال الإمام الشافعى.
كلما أدبنى الدهر أرانى نقص عقلى * وإذا ما زدت علما زادنى علماً بجهلى 6 - محاولة أن يكون الاجتهاد جماعيا وهو المعروف بالشورى تضييقا لشقة الخلاف، وتنويرا للأذهان ومساعدة لها على الوصول إلى الحق أو القرب منه.
7-طلب العلم على المختصين، والقضاء على فكرة الحواجز التى يحاول المنحرفون أن يضعوها بين الشباب، وبين رجال العلم، والله يقول {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} النحل: 43.
8-وضع حد للفتاوى التى تصدر من غير ذوى الاختصاص، فمن قال فى القرآن برأيه ضل وفى الحديث المتفق عليه "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوهم بغير علم فضلوا وأضلوا" وأحب أن أقول هنا: إن الإسلام ليس فيه كهنوت أو عصمة جماعة عن الخطأ ينزل قولهم منزلة الوحى، ولكن فيه اختصاصا بالعلم والمعرفة، شأن كل علم فى أى قطاع لابد أن يؤخذ عن أهله، وباب العلم مفتوح لكل راغب، لكن الفتوى هى لمن بلغوا درجة منه تؤهلهم لها.
9 -الاهتمام بتحصين كل مسلم وبخاصة فى مراحل التعليم الأولى، وذلك بالعناية بالتعليم الدينى على وجه يجعل الشاب بالذات حذرا متيقظا ناقدا كل فكر طارئ، وبدون هذه الحصانة سيكون الانحراف والانجراف أمام التيارات العنيفة المحلية والخارجية(10/175)
مسئولية العضو المنقول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا اقترف شخص ذنبا بعد أن نقل إليه دم أو كلية، فهل ينال المتبرع جزء من الإثم والعقاب؟
الجواب
اعلم أن الثواب والعقاب لا يحصل لأجزاء الجسم من حيث كونها أجزاء قامت بعمل الخير أو الشر، بل مناط الجزاء هو قصد الإنسان ونيته وحريته واختياره فالأعضاء آلات مسيرة مسخرة لا اختيار لها فى العمل ما لم تدفعها إرادة الإنسان.
والشخص الذى نقل منه العضو انقطعت صلته بهذا العضو، وليس له سلطان عليه بإرادته وحريته، وإنما المسئول عن هذا العضو هو الشخص الذى استفاد منه، فهو الذى يحركه ويوجهه. وعلى هذا فلا صلة بين الشخصين فيما يعمله كل منهما من خير أو شر {كل نفس بما كسبت رهينة} المدثر:38، {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فاطر: 18.
ومثل العضو مثل سكينة باعها شخص إلى شخص آخر، لا مسئولية عليها ولكن على من يستعملها، وإذا كانت الأعضاء ستشهد أمام الله بما يعمل الإنسان، كما قال تعالى {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} النور: 24، فهى تشهد على من كانت متصلة به من كلا الشخصين(10/176)
البدعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الفرق بين البدعة الشرعية والبدعة اللغوية؟
الجواب
جاء فى كتاب "النهاية فى غريب الحديث والأثر" لابن الأثير فى مادة "بدع " وفى حديث عمر رضى الله عنه فى قيام رمضان: نعمت البدعة هذه: البدعة بدعتان بدعة هُدَى وبدعة ضلال، فما كان فى خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو فى حَيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه الله أو رسوله فهو فى حيز المدح وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك فى خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد جعل له فى ذلك ثوابا فقال "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها" وقال فى ضده "ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" وذلك إذا كان فى خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا النوع قول عمر رضى الله عنه "نعمت البدعة هذه " لما كانت من أفعال الخير وداخلة فى حيز المدح سماها بدعة ومدحها، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يُسنَّها لهم وإنما صلاها ليالى ثم تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت فى زمن أبى بكر، وإنما عمر رضى الله عنه جمع الناس عليها وندبهم إليها. فلهذا سماها بدعة وهى على الحقيقة سنة بقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" وقوله "اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر "كل محدثة بدعة" إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة. وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفا فى الذم، انتهى ما قاله ابن الأثير.
ثم أقول: إن تحديد المفاهيم عنصر هام من عناصر البحث فى أى موضوع، وبدونه تختلف الأحكام وتتضارب الأقوال، ويحدث التفرق.
وتحديد مفهوم البدعة التى هى ضلالة فى النار فيه صعوبة. ومن ركام التعريفات التى ملئت بها الكتب أستطيع أن أقول: إن للعلماء فى تعريف البدعة منهجين، أولهما لغوى عام، والآخر اصطلاحى خاص.
ا - فأصحاب المنهج الأول نظروا إلى مادة "البدعة " التى تدل على اختراع على غير مثال سبق فعرفوها بأنها ما أحدث بعد النبى صلى الله عليه وسلم وبعد القرون المشهود لها بالخير.
وهذا التعريف يدخل فيه ما كان خيرا وما كان شرا، وما كان عبادة وما كان غير عبادة، والذى حملهم على هذا التعريف الشامل ورود لفظ البدعة مرة محمولا عليه الذم، ومرة محمولا عليه المدح، وبهذا عرف أن البدعة قد تكون ممدوحة وقد تكون مذمومة، قال الشافعى رضى الله عنه: المحدثات من الأمور ضربان، أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة، والثانى ما أحدث من الخير وهذه محدثة غير مذمومة.
وعلى هذه الطريقة فى تعريف البدعة وشمولها للممدوح والمذموم جرى عز الدين بن عبد السلام، فقسم البدعة إلى واجبة كوضع العلوم العربية وتعليمها، وإلى مندوبة كإقامة المدارس، ومحرمة كتلحين القرآن بما يغير ألفاظه عن الوضع العربى، ومكروهة كتزويق المساجد ومباحة كوضع الأطعمة ألوانا على المائدة.
2- وأصحاب المنهج الثانى عرفوا البدعة بأنها الطريقة المخترعة على أنها من الدين وليست من الدين فى شىء، أو بأنها طريقة فى الدين مخترعة تضاهى الطريقة الشرعية ويقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، ويدخل فيها العبادات وغيرها وقصرها بعضهم على العبادات، وعلى هذا التعريف تكون البدعة مذمومة على كل حال ولا يدخل فى تقسيمها واجب ولا مندوب ولا مباح. وعلى هذا المعنى يحمل الحديث "كل بدعة ضلالة" ويحمل قول مالك رضى الله عنه: من ابتدع فى الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله قال {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا} المائدة: 3، وأصحاب هذا المنهج يحملون قول عمر فى صلاة التراويح على المعنى اللغوى.
وبعد، فإن موضوع البدعة دقيق، وفيه كلام طويل، ويمكن للاستزادة الرجوع إلى كتابى "قضايا معاصرة" أو "محاضرات البحوث الاجتماعية " للقسم العالى للدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر، ففيه أن اسم البدعة ظهر بوضوح فى زحمة الخلافات الفكرية، التى من أجلها ألف أبو الحسن الأشعرى المتوفى سنة 304 هـ كتابه "اللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع " ثم ظهرت مؤلفات فى البدع المتعلقة بالفروع وأن الإمام الغزالى فى الإحياء "ج 1 ص 248" قال: كم من محدث حسن كما قيل فى إقامة الجماعات فى التراويح إنها من محدثات عمر رضى الله عنه وإنها بدعة حسنة، وإنما البدعة المذمومة ما تصادم السنة القديمة أو ما يكاد يفضى إلى تغييرها، وأن البدعة المذمومة ما كانت فى الدين، أما أمور الدنيا فالناس أعلم بشئونها، مع صعوبة الفصل بين أمور الدين وأمور الدنيا، لأن دين الإسلام نظام شامل، الأمر الذى جعل بعض العلماء يقصرون البدعة على العبادى دون العادى، وعممها البعض الآخر.
وفى المرجع المذكور نرى البدعة تكون فى العقيدة وفى العبادة وفى المعاملات والأخلاق، وأن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة، هل تعد كلها سنة تتبع وجوبا وندبا، أو لا تعد كلها من هذا القبيل؟ وأن ما تركه هل نتأسى به فيه أو لا نتأسى وضربت أمثلة يكثر الحديث عن البدعة فيها، كالأذان الأول لصلاة الجمعة وزيادة درجات المنبر على ثلاث درجات، والركعتين قبل صلاة الجمعة، وقراءة سورة فى المسجد قبل صلاة الجمعة بصوت مرتفع،ورفع المؤذن صوته بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، ومصافحة المصلين بعضهم بعضا عقب الخروج من الصلاة، وقول سيدنا محمد فى الأذان والتشهد فى الصلاة، وحلق اللحية. ولكل من هذه الأمور بحث فى هذا الكتاب.
وأكدت على أن تقصر البدعة على ما يتصل بالدين، وتترك أمور الدنيا لمواكبة العصر فى التطور، وعلى أن العبرة بالمسميات لا بالأسماء، كجواز الاحتفال بيوم المولد وعدم جوازه بعيد المولد، وعلى تغيير المنكر إن أجمع على أنه منكر يكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وما يكون فيه اختلاف لا ينبغى أن يكون التخاصم والتنازع من أجله، وأن من انخدع برأيه وظن أو اعتقد أنه هو وحده الناجى وأن غيره هالك فهو أول الهالكين كما فى حديث رواه مسلم(10/177)
أكل لحم الخيل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل أكل لحم الخيل حلال؟
الجواب
أكل لحم الخيل حلال لحديث البخارى ومسلم عن جابر قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأرخص فى الخيل، ووردت عدة أحاديث صحيحة تدل على أن الصحابة كانوا يأكلون لحوم الخيل، منها حديث أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما فى البخارى ومسلم، قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناها. وفى رواية: ونحن بالمدينة.
ومن القائلين بحِلِّ لحم الخيل شريح القاضى والحسن البصرى وعطاء وسعيد بن جبير والليث بن سعد وسفيان الثورى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو ثور وغيرهم، وذهب أبو حنفية والأوزاعى ومالك إلى أنه مكروه، غير أن الكراهة عند مالك كراهة تنزيه لا كراهة تحريم، واستدلوا بما فى سنن أبى داود والنسائى وابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، لقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} النحل: 8.
وقال الشافعى ومن وافقه: ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه. وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، وأما الحديث الذى استدل به أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما فقال الإمام أحمد: ليس له إسناد جيد وفيه رجلان لا يعرفان، ولا ندع الأحاديث الصحيحة لهذا الحديث، وعلى هذا فأكل لحم الخيل حلال على أكثر المذاهب(10/178)
التصفيق للإعجاب والتحية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم التصفيق لتحية الضيف الوافد على الحفل أو الإعجاب بما يقول المتحدث؟
الجواب
يقول الله تعالى عن الكفار {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} الأنفال: 35، المكاء هو الصفير، والتصدية هى التصفيق كما قال ابن عمر والسُدِّى ومجاهد. وهناك أقوال أخرى فى تفسيرهما لا داعى لذكرها، قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون، فكان ذلك عبادة فى ظنهم.
من هذا يعرف أن الذين يتقربون إلى الله ويعبدونه بالتصفير والتصفيق، مخطئون، وقد أشار إلى ذلك القرطبى فى تفسيره، حيث نهى على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون، وقال: إنه منكر يتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. انتهى.
لكن التصفيق المذكور فى السؤال ليس عبادة، ولا يقصد به التقرب إلى الله، ليثيبهم على احترامهم لإنسان يستحق الاحترام، بل هو عرف وسلوك اختاروه ابتداء أو قلدوا فيه غيرهم ليظهروا الإعجاب بما يثير إعجابهم، وليس هناك ما يمنع ذلك شرعا.
وإن كنا نوصى بألا يكون ذلك فى الأحفال التى تقام فى المساجد، تنزها عن المشاركة للمشركين فى الصورة التى كانت تقع منهم فى المسجد للتقرب، وليكن الإعجاب بالتكبير مثلا أو بصيغة تتناسب وجلال المسجد، وقد روى بسند ضعيف أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للنابغة لما أنشده شعرا أعجبه "أحسنت يا أبا ليلى، لا يفضض الله فاك " وكذلك قال لعمه العباس لما مدحه بقصيدة شعرية "العراقى على الإحياء - كتاب آداب السماع "(10/179)
التشبه بين الجنسين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال؟
الجواب
روى البخارى وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.
وروى أبو داود والنسائى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل.
وروى أحمد والطبرانى أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه رأى أم سعيد بنت أبى جهل متقلدة سيفا وهى تمشى مشية الرجال فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه من النساء بالرجال ".
يؤخذ من هذه الأحاديث تحريم تشبه أحد من الجنسين بالجنس الآخر، ومحل الحرمة إذا تحقق أمران:
أولهما: أن يكون التشبه مقصودا، بأن يتعمد الرجل فعل ما يكون من شأن النساء وأن تتعمد المرأة فعل ما يكون من شأن الرجال، فإن هذا القصد فيه تمييع للخصائص أو إضعاف لها، والواجب أن تكون خصائص كل جنس فيه قوية، فذلك تقسيم الله لخلقه وتنسيقه فيما أودع فى كل منهما من خصائص لمصلحة المجموعة البشرية، أما مجرد التوافق بدون قصد وتعمد فلا حرج فيه، فالناس بأجناسها تتفق فى أمور مشتركة كاستعمال أدوات الأكل وركوب الطائرات وما إلى ذلك.
وهذا ما يعنيه لفظ "تشبه " ففيه عمل وقصد، أما إذا انتفى القصد فيكون تشابها لا تشبُّها، ولا حرج فى التشابه فيما لم يقصد.
والأمر الثانى:أن يكون التشبه فى شيء هو من خصائص الجنس الآخر، والذى يحدد ذلك إما أن يكون هو الدين، وإما أن يكون هو الطبع نفسه، أى الجبلة التى خلق عليها الإنسان، وإما أن يكون هو العرف والعادة، وكثير من التشبه يكون فى ذلك فى أول الأمر، حيث يوجد القصد والتعمد والإعجاب، ثم بعد ذلك يصير شيئا مألوفا لا شذوذ فيه، ولا يعد تشبها مذموما(10/180)
التحية بين الجنسين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى إلقاء المرأة السلام على الرجل أو العكس؟
الجواب
روى مسلم أن أم هانى بنت أبى طالب أتت النبى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح - وهو يغتسل وفاطمة تستره -فسلمت.
وروى ابن الجوزى عن عطاء الخراسانى قول النبى صلى الله عليه وسلم "ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام ".
بناء على هذا قال جماعة من العلماء بمنع التحية بين الرجال والنساء مطلقا، استنادا إلى حديث ابن الجوزى. لكن جمهور العلماء قالوا: إن كانت هناك فتنة بالسلام فلا يجوز الابتداء ولا الرد، فالمرأة الجميلة لا يجوز إلقاء السلام عليها، ولو سلم عليها الرجل لا يجب عليها الرد بل لا يجوز، وليس لها أن تسلم عليه ابتداء، فإن سلمت لا تستحق الرد، فإن أجابها كره له ذلك، أما إذا لم تُخش الفتنة بالسلام فيجوز، كالسلام على العجائز وذوات المحارم، استنادا إلى حديث أم هانىء.
هذا هو حكم السلام بين رجل واحد وامرأة واحدة، أما سلام الرجل على جمع من النساء فهو جائز بل قيل: يندب ويجب عليهن الرد، وذلك لعدم خشية الفتنة. ودليله أن النبى صلى الله عليه وسلم مر فى المسجد على جماعة من النساء قعود، فأشار بيده إليهن بالسلام، رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذى.
وأما سلام الرجال على المرأة الواحدة فلا يجوز إلا عند أمن الفتنة كأن تكون عجوزا مثلا، ودليله أن الصحابة كانوا ينصرفون من الجمعة فيمرون على عجوز فى طريقهم فيسلمون عليها فتقدم طعاما. .. رواه البخارى.
هذا فى مجرد إلقاء السلام، أما المصافحة بدون حائل فممنوعة كما تقدمت الإجابة على سؤالها حيث امتنع الرسول عنها عند مبايعة النساء، وهى أهم من مجرد التحية وقرر أن اليد تزنى وزناها البطش وهو مس المرأة الأجنبية بيده أو تقبيلها كما فسره النووى ولا يستثنى من ذلك إلا المحارم والعجائز، وقال البعض بالكراهة دون الحرمة، لكن دليله ضعيف كما نقله القرطبى عن ابن عربى فى تفسير الممتحنة(10/181)
الرجوع فى الإقرار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
اعترف رجل أمام الأمير بأنه زنى، وعندما جاء موعد تنفيذ الحد عليه رجع عن إقراره، فهل يقبل رجوعه ولا يقام عليه حد؟
الجواب
ثبت بالأحاديث الصحيحة أن النبى صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا والغامدية لإقرارهما بالزنى، وجاء فى بعض الروايات أن الرجل الذى أقر بالزنى أمر النبى صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يذهبوا به ليرجموه، فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركوه وأكملوا رجمه حتى مات، كما جاء فى رواية ثبتت بطريق حسن عند أحمد وابن ماجه والترمذى أن الصحابة لما أخبروا النبى صلى الله عليه وسلم بمحاولة الرجل الفرار من مس الحجارة قال لهم "فهلا تركتموه وجئتمونى به " وجاء فى "نيل الأوطار للشوكانى "ج 7 ص 108:
أن فى هذه الرواية دليلا على أنه يقبل من المقر الرجوع عن الإقرار، ويسقط الحد.
وهذا مذهب أحمد والشافعية والحنفية: وهو مروى عن مالك فى قول له. وفى رواية أخرى عن مالك وفى قول للشافعى لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار بعد كماله كغيره من الإقرارات.
وجاء فى كتاب "الأحكام السلطانية للماوردى" ص 224 قوله فى حد الزنى: وإذا وجب عليه الحد بإقراره ثم رجع عنه قبل الجلد سقط عنه الحد، وقال أبو حنيفة: لا يسقط الحد برجوعه عنه.
ومن هنا نرى أن الأمر خلافى، وللحاكم - إذا كانت الحدود تقام - أن يأخذ بأحد الرأيين؟ فحكم الحاكم يرفع الخلاف(10/182)
احتياط ضد الأخطار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما مدى صحة الحديث " أغلقوا الأبواب، وأوكوا السقاء واكفئوا الإناء وأطفئوا المصباح " وما تفسيره؟
الجواب
روى البخارى فى الأدب المفرد قوله صلى الله عليه وسلم "أغلقوا الباب، وأوكوا السقاء اكفئوا الإناء، وأطفئوا المصباح، فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يحل وعاء، ولا يكشف إناء، وإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم " ورواه ابن حبان فى صحيحه وفيه زيادة "وخمروا الإناء" بعد " اكفئوا الإناء ".
وجاء فى رواية لابن حبان أيضا عن جابر "أغلق بابك واذكر اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو بعود تعرضه عليه ".
وجاء فى رواية لمسلم وأحمد وأبى داود والترمذى عن جابر أيضا، "أغلقوا أبوابكم وخمروا آنيتكم وأطفئوا سرجكم وأوكئوا أسقيتكم، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا ولا يكشف غطاء ولا يحل وكاء، وإن الفويسقة تضرم البيت على أهله " ذكرها السيوطى كلها فى جامع الأحاديث.
وجاء فى رواية مسلم عن جابر "غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن فى السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، وسقاء ليس عليه وكاء إلا وقع فيه من ذلك الداء " ذكره ابن القيم فى "زاد المعاد" وعلق عليه بقوله:
وهذا مما لا تناله علوم الأطباء ومعارفهم، وقد عرفه من عرفه من عقلاء الناس بالتجربة. قال الليث بن سعد أحد رواة الحديث: الأعاجم عندنا يتقون تلك الليلة فى السنة فى كانون الأول منها، وصح عنه أنه أمر بتخمير الإناء ولو أن يعرض عليه عودا، وفى عرض العود عليه من الحكمة أنه لا ينسى تخميره بل يعتاده حتى بالعود، وفيه أنه ربما أراد الدبيب أن يسقط فيه فيمر على العود فيكون العود جسرا له يمنعه من السقوط فيه. وصح أنه أمر عند إيكاء الإناء بذكر اسم الله، فإن ذكر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشيطان، وإيكاؤه يطرد عنه الهوام، ولذلك أمر بذكر اسم الله فى هذين الموضعين لهذين المعنيين، انتهى.
يؤخذ من كل ما سبق أن الحديث وارد بدرجة الصحة فى بعض رواياته، وأن المراد بتخمير الإناء تغطيته إذا كان فيه طعام، بل حتى لو لم يكن فيه طعام، وذلك حتى لا تسقط فيه الحشرات أو يتعرض للتلوث، فإذا لم يكن هناك غطاء يكفأ الإناء الفارغ. وإيكاء السقاء معناه ربطه، وكان الماء يحفظ فى القرب عندهم أو المزادات - الزمزميات المصنوعة من جلد أو قماش لا ينفذ منه الماء - وذلك أيضا صيانة للماء من التلوث بأى شيء من حشرات وغيرها، وكذلك لحفظه أن ينسكب فيضيع أو يتلف شيئا، وكذلك منعا للوباء أن يصيبه فى المواعيد التى يكثر فيها كما عرف بالتجربة ونص عليه الحديث ووضَّح ابن القيم إمكان ذلك.
ومع القيام بهذه الاحتياطات يذكر اسم الله، وذلك لطرد الشيطان.
ويجوز أن يمنعه الله من دخول البيت الذى أغلق بابه، ومن الأكل والشرب مما فى الأوعية المغطاة والمربوطة، أو المراد أن الله يحفظ البيت والطعام والشراب من كل سوء ويبارك فيه.
ولفظ الشيطان يطلق أحيانا على الهوام والحشرات المؤذية، وكل ما أوصانا به النبى صلى الله عليه وسلم من باب الاحتياط والأخذ بالأسباب، والفويسقة هى الفأرة قد تجر السراج بناره فتحرق البيت، وكانت المصابيح تضاء بالزيت، والفأرة قد تجر إناء الزيت أو تصاب بالشعلة وهى تتناول الزيت فتجرى وتمر على الأمتعة فتحرقها، ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإطفاء المصابيح عند النوم لهذا المعنى.
أما مصابيحنا الكهربائية فإنارتها بالبيوت ليلا لا يحصل منها الخطر المذكور، وإن كان يمكن بوسيلة أخرى، والمهم هو الاحتياط حتى لا يحدث الخطر والناس نيام غير منتبهين فإذا استيقظوا وجدوا الخطر واقعا، وكل بلد أو منطقة لها ظروفها الجوية والصحية، وبالتجربة يعرف ما يلزم لاتقاء الأخطار(10/183)
القلب والروح والنفس والعقل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الفرق بين القلب والروح والنفس والعقل؟
الجواب
من أحسن من تكلم عن القلب والروح والنفس والعقل الإمام الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين " فى شرح عجائب القلب، وقال:
اعلم أن هذه الأسماء الأربعة تستعمل فى هذه الأبواب، ويقل فى فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامى واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها، وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامى واشتراكها بين مسميات مختلفة، ثم أخذ يتحدث عن كل منها بما موجزه:
1 -القلب يطلق لمعنيين:
أحدهما: اللحم المعروف الذى يضخ الدم.
والثانى: هو لطيفة ربانية روحانية لها تعلق بهذا القلب الجسمانى وهذه اللطيفة هى حقيقة الإنسان والمدرك العام العارف منه والمخاطب بالتكليف، والمجازى عليه ولم يستطع أن يدرك العلاقة بين هذين المعنيين للقلب لأن ذلك من علوم المكاشفة التى لا تفيد معها الحواس المعروفة، ولأنه يؤدى إلى إفشاء سر الروح الذى لم يتكلم فيه الرسول فغيره أولى.
وقال: إذا استعملنا لفظ القلب فى الكتابة والشرح فالمراد به اللطيفة الربانية لا القلب العضوى.
2- الروح لها معنيان:
أحدهما: جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسمانى يسرى فى جميع أجزاء البدن سريان نور السراج إلى كل أجزاء البيت، فالحياة مثل النور الواصل للجدران والروح مثل السراج، وسريان الروح وحركته فى الباطن مثل حركة السراج فى جوانب البيت. وهذا المعنى يهتم به الأطباء.
والمعنى الثانى للروح: هو لطيفة عالمة مدركة من الإنسان، وهو المعنى الثانى للقلب، وما أراده الله بقوله {قل الروح من أمر ربى} الإسراء: 85، وهو أمر عجيب ربانى تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقيقته.
3- النفس: لفظ مشترك بين عدة معان، يهمنا منها اثنان:
أحدهما: أن يراد به المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة فى الإنسان، ويهتم أهل التصوف بهذا المعنى، لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان فلابد من مجاهدتها.
والمعنى الثانى: هى اللطيفة التى ذكرناها، التى هى الإنسان بالحقيقة، وهى نفس الإنسان ذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها، فإذا سكنت تحت الأمر وفارقها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة، قال تعالى {يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعى إلى ربك راضية مرضية} الفجر: 27، والنفس بالمعنى الأول لا يتصور رجوعها إلى الله فهى مبعثرة عنه وهى من حزب الشيطان.
وإذ لم يتم سكونها ودافعت الشهوات واعترضت عليها سميت النفس اللوامة، وإن تركت المدافعة والاعتراض وأطاعت الشهوة والشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء.
4 - العقل: وهو أيضا مشترك لمعان مختلفة ذكرناها فى كتاب العلم، ويهمنا هنا معنيان.
أحدهما: أنه يراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون العقل عبارة عن صفة العلم الذى محله القلب.
والثانى: أنه المدرك للعلوم، فيكون هو القلب بمعنى اللطيفة الربانية المدركة العالمة.
ثم يقول الغزالى بعد ذلك: إن معانى هذه الأسماء موجودة، وهى القلب الجسمانى والروح الجسمانى والنفس الشهوانية والعلوم "كذا" فهذه أربعة معان يطلق عليها الألفاظ الأربعة، ومعنى خامس وهى اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، والألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها، فالمعانى خمسة والألفاظ أربعة وكل لفظ أطلق لمعنيين، وأكثر العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ وتواردها، فتراهم يتكلمون فى الخواطر ويقولون: هذا خاطر العقل وهذا خاطر الروح وهذا خاطر القلب وهذا خاطر النفس، وليس يدرى الناظر اختلاف معانى هذه الأسماء.
ثم يقول: وحيث ورد فى القرآن والسنة لفظ القلب فالمراد به المعنى الذى يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء، وقد يكنى عنه بالقلب الجسمانى الذى هو فى الصدر لأن بينهما علاقة.
هذا ملخص ما قاله الإمام الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين " لنعرف أن أى لفظ من هذه الألفاظ قد يراد به أى معنى من هذه المعانى، وللاجتهاد مجال فيه.
والذى يهتم بذلك هم العلماء النفسيون والتربويون، وفى ذلك دراسات مستفيضة متخصصة وتكفى هذه النبذة لمعرفة بعض ما يتعلق بهذه الألفاظ ومعانيها(10/184)
تحية القادم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إن من عاداتنا فى الريف أن نفترش الأرض ونتناول طعامنا فإذا قدم إلينا ضيف هل نقوم لتحيته، وماذا نفعل فى مثل هذا الموقف؟
الجواب
القيام للقادم ليس واجبا، بل هو مباح وقد يندب للتكريم إذا كان القادم والدا أو معلما أو شيخا كبيرا، لحديث الترمذى "ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا" ولحديث أبى داود "إن من إجلال الله تعالى إكرام ذى الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالى فيه والمتجافى عنه وذى سلطان مقسط ".
وعلى هذا لا حرج عليك فى عدم القيام للقادم عليك وأنت جالس للأكل، والأمر كله راجع للعرف والعادة، فإن وجدت أن القادم سيغضب وقد يضرك لو لم تقم له جاز لك القيام، وإلا فلا حاجة إليه(10/185)
الحاكم وتوحيد المذاهب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا قامت وحدة المسلمين فى العالم كله وأصبح لهم خليفة أو إمام واحد، فهل المسلمون كلهم يتقيدون بآراء ذلك الإمام فى المسائل الفرعية التى اختلف فيها الفقهاء والأئمة المجتهدون؟ وهل يجب حينئذ على المسلمين الذين تقيدوا بآراء إمام مذهبهم قبل الوحدة أن يتركوا مذهبهم وإلا فما معنى وحدة المسلمين حينئذ؟
الجواب
وحدة المسلمين الآن وقيام خليفة عليهم افتراض أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، ونحن نرى الصور المخزية تعرض علينا فى شريط طويل من زمن بعيد ملىء بمآسى التفرق والتناحر بين الدول التى تنتمى إلى الإسلام بعضها مع بعض، وبين أفراد كل دولة بعضهم مع بعض أيضا بآرائهم المتعددة ومذاهبهم المتخالفة وتعصبهم المقيت للأهواء والجنسيات والطبقات.
وكنت أود الإمساك عن ذكر أحكام وتنظيمات لشىء متخيل حتى تبدو فى الأفق علامات تبشر بوقوعه، وساعتها نضع الجواب على السؤال وهو ميسر فى كتب الإسلام التى لم تدع صغيرة ولا كبيرة إلا تحدثت عنها فى النظم السياسية والاقتصادية والقضائية والدولية، إلى جانب العبادات والعقائد وأصول الدين عامة.
وهذه المسألة من الفقه السياسى الذى ظهرت مسائله على مسرح الحياة الإسلامية عقب وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بقليل، ووجد من المسلمين من رفضوا بعض الأئمة وخرجوا عن طاعتهم، وكانت الاحتكاكات التى راح ضحيتها بعض من خيرة الصحابة والتابعين.
ولم يمض على الخلافة الإسلامية فى الشرق وقت طويل حتى قامت خلافة أخرى تناهضها فى الأندلس، ثم دب الضعف إلى هذه الخلافات وقامت دويلات مستقلة انفصلت عن الخلافة شكلا وموضوعا، وانتهت إلى الانقضاض عليها أو التآمر على تصفيتها مما وعاه التاريخ وامتلأت به بطون المؤلفات ذات الوجهات المختلفة والآراء التي داخلها كثير من الهوى، ومهما يكن من شىء فإن من المؤلفات الإسلامية ما عنى بنظام الدولة ككتاب الأحكام السلطانية للماوردى وكتب الحسبة التى ألفها علماء أجلاء، ومما جاء فيها:أن الإمام يلزمه حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود.
وأهم ما يعنى به الإمام العلاقات الاجتماعية والدولية، أما المعتقدات والآراء الخاصة والعبادات ذات الطابع الشخصى فليس للإمام دخل فيها إلا بمقدار أثرها على الجماعة، كما فى الحديث المعروف: من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد، فمن له رأيه ومعتقده فالله حسيبه ما دام لا يحدث به فتنة بين الناس، وهنا يتدخل الحاكم لحفظ الأمن ووحدة الصف.
وجاء فى كلام المتحدثين عن الحسبة وهى الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهى عن المنكر إذا ظهر فعله، أن المحتسب هل يجوز له حمل الناس فيما ينكره من الأمور التى اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟ على وجهين، أحدهما أن له حمل الناس على رأيه، وعلى هذا يجب أن يكون عالما من أهل الاجتهاد فى أحكام الدين والثانى ليس له حمل الناس على رأيه "الأحكام السلطانية للماوردى ص ا 24".
ثم تكلموا عن المعروف وقسموه إلى ما يتعلق بحق الله، وما يتعلق بحق الآدميين، وما هو مشترك بينهما، وذكروا أحكام كل بالتفصيل، ويؤخذ من كلامهم أن للإمام والمحتسب حمل الناس على المجمع عليه وبخاصة فيما يتعلق بحق المجتمع كإقامة الجمعة عند توافر شروطها المتفق عليها، وأنه لا يجوز له حمل الناس -على اعتقاده هو، ولا أن يأخذهم فى الدين برأيه مع تسويغ الاجتهاد فيه، وكذلك فى النهى لا ينهاهم عما فيه خلاف.
هذه بعض فقرات مما جاء فى كلامهم لا تعطى الإجابة الكافية على السؤال، وإنما أردت بذكرها أن أبين أن فى الإسلام وكتب المسلمين حلا لكل مشكل وحكما لكل قضية، ولا فائدة من بيان ذلك هنا والكتب مملوءة به وليست الحاجة ماسة إليه وإنما الفائدة أو ما ينبغى أن نهتم به هو واقعنا الحالى ومحاولة حل مشاكله، وما أكثر هذه المشاكل التى إن وجد لها حل فهو نظرى لم يأخذ حظه من التطبيق ... ويوم أن تحل المشاكل السياسية والاقتصادية بالذات يمكن التفكير فى وضع نظام للخلافة العامة والحكومة الواحدة بعد بذل الجهد الجبار في جمع الناس على عقيدة واحدة فى نظرتهم إلى الإمامة ومن هو أحق بها، وأنت تعلم أن أربعة عشر قرنا مضت وما يزال الخلاف على الخلافة يزداد سلطانا على كثير من المسلمين، كلما حاول بعض الغيورين على الوحدة الإسلامية أن يقربوا فيها بين وجهات النظر أغرق بعض المتعصبين فى التعصب لرأيه، والعدو بدوره يزيد الهوة اتساعا، ويسد المنافذ على الوحدة إن لاحت بعض بوارقها فى الأفق، ومع كل ذلك فلا أفقد الأمل فى رحمة الله(10/186)
الإمام وسلطة الشعب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز الخروج على الحاكم الذى لا يحكم بالشريعة الإسلامية، وما حكم من يخرج على السلطان بالسلاح؟
الجواب
هذه المسألة من الفقه السياسى، وهى شائكة إلى حد كبير، فقد كان لها دورها الخطير فى انقسام الجماعة الإسلامية ونشأة الفرق والأحزاب، وهى فى هذه الأيام بالذات أشد خطرا، لأن الأوضاع فى أكثر الدول الإسلامية لا تحكمها الشريعة حكما كاملا، سواء أكان ذلك فى طريقة تولى الإمامة أم فى الدستور الذى تحكم به. وبيان حكم الشرع فى فرع يكون أصله الأساسى غير شرعى هو ترقيع، أو على الأقل لا يكون له أثر عملى فى تغيير الواقع، ذلك أن القوانين المستمدة من دستور وضعى ترى ما يخالفها خروجا على نظام الدولة وفيه إخلال بالأمن أو خيانة للوطن ... والعقوبة قد تكون الإعدام.
والنظرات السياسية قديما وحديثا كان لها أثرها البارز فى تأويل النصوص وحملها على ما يؤيدها، بل كان لها أثرها أيضا فى وضع أحاديث وافترائها على النبى صلى الله عليه وسلم وبالأولى إلصاق أقوال وآراء بأئمة هم برآء منها، وكذلك أنكر المختلفون أحاديث صحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم لأنها تعارض رأيهم السياسى، وقبلوا أحاديث تؤيد مذاهبهم بغض النظر عن صدق نسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
والكتب المؤلفة فى مذاهب هذه الفرق السياسية كثيرة، والكتب الحديثة التى أحيت هذه المذاهب القديمة، وتبناها بعض الجماعات متوافرة أيضا، ولهذا سيكون أى رأى فى الإجابة على السؤال المطروح محل نزاع وجدل.
ومهما يكن من شىء فإنى سأعرض بعض النصوص عند أهل السنة المعتدلين وما قاله العلماء فيها دون التعرض لنقدها، أو ترجيح بعضها على بعض.
ا- قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} النساء: 59.
2 -عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا إن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان، رواه البخارى ومسلم. والبواح بضم الباء هو الصراح بضم الصاد الذى جاء فى رواية الطبرانى، وهو أيضا البراح بضم الباء وبالراء بدل الواو الذى جاء فى بعض الروايات، المراد به الظاهر البين الذى تشهد له النصوص ولا يقبل التأويل.
3-روى البخارى ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية" ومعنى ميتته جاهلية مثلها، لأنهم كانوا على ضلال وليس لهم إمام مطاع إذ كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافرا، بل يموت عاصيا، هكذا قالوا فى تفسيرها.
4 -روى مسلم عن عوف بن مالك الأشجعى قول النبى صلى الله عليه وسلم "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم " قال: قلنا يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة،ألا من ولى عليه وال فرآه يأتى شيئا من معصية الله فليذكره ما يأتى من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة" والصلاة فى الحديث معناها الدعاء، والمنابذة نزغ البيعة، أخذا من قوله تعالى {فانبذ إليهم على سواء} أى أعلمهم بنقض العهد بينك وبينهم.
5 -روى مسلم عن حذيفة بن اليمان قول النبى صلى الله عليه وسلم "يكون بعدى أئمة لا يهتدون بهديى، ولا يستنون بسنتى، وسيقوم منكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين فى جثمان إنس " قال فقلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال "تسمع وتطيع وإن ضُرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع " وفى الحديث إشارة إلى الثورات المغرضة التى يراد بها المصلحة الشخصية لا العامة. وفيه أمر بعدم الاشتراك فيها.
6-روى مسلم عن عرفجة الأشجعى قول النبى صلى الله عليه وسلم "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه " أى اقتلوا الثائر على الحاكم.
هذه هى بعض النصوص التى يصعب على ذوى الميول الثورية استساغة بعض ما فيها من عبارات، وقد استنتج العلماء منها أنه لا يجوز منابذة الأئمة والخروج عليهم ما داموا يقيمون للصلاة، وليس المراد أنهم يصلون بالناس كما كان أئمة السلف، بل المراد أنهم يسمحون بإقامتها ولا يضعون العراقيل فى سبيلها.
وحديث عبادة بن الصامت يدل على أنه لا تجوز المنابذة إلا عند ظهور الكفر الواضح الذى ليس له فيه شبهة. كإنكار الألوهية أو الطعن فى أن القرآن من عند الله، أو أنه غير صالح للحكم، أو اعتقاد حل ما أجمع على تحريمه كالربا والزنى وشرب الخمر. . فهو بهذا الاعتقاد يكون كافرا، أما ارتكاب المحرمات بغير اعتقاد حلها فهو عصيان لا يخرج به إلى الكفر، بل يكون فاسقا، فالمبرر للخروج عليه هو الكفر لا العصيان المجرد لكن النووى قال: المراد بالكفر هنا المعصية (فتح البارى ج 16 ص 114) وقال غيره: المراد بالإثم فى بعض الروايات ما يشمل المعصية والكفر. قال ابن حجر: والذى يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة فى الولاية، فلا ينازعه بما يقدح فى الولاية إلا إذا ارتكب الكفر. وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح فى الولاية نازعه فى المعصية، بأن ينكر عله برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف. ومحل ذلك إذا كان قادرا، وعلى ضوء ما قاله ابن حجر إن فسق الإمام ولم يكفر وجب نصحه بالأسلوب الذى يُرجى منه الخير ولا يؤدى إلى فتنة، كما قال تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم التى هى أحسن} النحل:125، وكان للسابقين أسلوب فى الإنكار يتناسب مع الظروف القائمة إذ ذاك، مع مراعاة أن روح التدين كانت موجودة بقوة فى الحاكمين والمحكومين، وهو ما أطمع بعض المعارضين فى القسوة أحيانا عند النصح، وما جعل الحكام يصيخون إلى ما يقولون، فهم نواب الشعب ومفاتيح السيطرة عليه، ومن الحكمة قبول ما يوجهونهم به وإن كان فى بعض الأساليب عنف سببه شدة الغيرة على الحق.
ومن الأساليب السليمة فى توجيه الحاكم، التى تقرها القوانين الوضعية الحالية، الخطابة والصحافة وإثارة الموضوع فى مجالس النيابة والتنظيمات المشروعة. والخير مرجو إذا كان ذوو اللسان والقلم مخلصين لوجه الله، وكان ممثلو الأمة مختارين على أساس دينى سليم، ومؤدين لأمانتهم على الوجه المطلوب.
أما الخروج بالسلاح لتغيير المنكر فهو غير مجد فى أكثر الدول الإسلامية، التى تضع مهمة التغيير والإصلاح على عاتق ممثلى الأمة، والتى تحرم حمل السلاح وتمنع التظاهر العنيف وتضع له اقسى العقوبات، لا يجدى هذا الخروج بالسلاح بوجه خاص إذا كان التسلح غير كاف، وقوى المواجهة غير متكافئة، فإن القضاء على الثائرين بغير حكمة سهل، والنتيجة أخطر مما كان يتوقعون.
ولو تحققت المنعة وتوافر السلاح المتكافئ فالطريق السليم هو التفاوض والحوار كما يقول التعبير الحديث، حيث يكون حوارا فيه تكافؤ قد يؤدى إلى الحل المعقول. وذلك كله من أجل منع الفتنة أو بعبارة حديثة "منع الحرب الأهلية" من جراء المواجهة بالسلاح وإراقة الدماء، وقد يذهب ضحيتها أبرياء، فشرط تغيير المنكر-كما قال العلماء -ألا يؤدى إلى منكر أشد.
فإن لم يتوصل إلى حل بالحوار والنصح فإن الأحاديث لا تجيز المواجهة المسلحة وليكن الواجب هو الإنكار باللسان إن أمكن، وإلا فالإنكار بالقلب، والاجتهاد فى تربية الشعب لاختيار ممثلين صالحين يتولون "دستوريا" تغيير المنكر. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وأكثر المعتزلة والروافض يرون جواز الخروج على السلطان والوزير، فإذا أخذ ربع دينار ظلما لا تجوز طاعته عندهم.
إن عرض الجواب على السؤال المذكور بهذه الصورة، ربما لا يرضى بعض المتحمسين لفكرة معينة، أو منهج خاص فى تعديل الأوضاع الفاسدة، ولكن واجب النصح يفرض علينا أن ننبه إلى وجوب تقدير الظروف المحيطة بنا الآن، وإلى أن العدو المتربص بنا لا يترك فرصة ثورية إلا انتهزها لنفسه، وإلى أن ارتباط بعض الحكام ببعض الدول الكبرى سيقضى على مثل هذه الحركات بسهولة، لأن صحوة الدين تضرهم، وبخاصة دين الإسلام، كما يجب أن تراعى أن قوة المسلمين الحربية بوسائلها الحديثة ليست كقوتهم وأننا لسنا مستقلين تمام الاستقلال عنهم، فإن كل وسائل التغيير أو أكثرها ما زالت محتكرة لهم.
ولا ينبغى أن يحمل هذا التوجيه على أنه من باب التخذيل، بل يجب أن تكون خططنا للإصلاح مدروسة دراسة وافية، لتكون حركات التغيير مرجوة النجاح بأقل تضحيات.
ومن الخير بعد هذا أن أسوق بعض النقول:
ا - جاء فى فتح البارى لابن حجر: نقل ابن التين عن الداوادى قال:
الذى عليه العلماء فى أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا فى جواز الخروج عليه، والصحيح المنع، إلا أن يكفر، فيجب الخروج عليه.
وجاء فى الكتاب نفسه: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته فى ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها، وجاء فى الكتاب المذكور. ينعزل بالكفر إجماعا،. فيجب على كل مسلم القيام بذلك، فمن قوى على ذلك فله الثواب، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض.
أقول بعد هذا النقل: إن ارتباط الخروج بالكفر يجب فيه الدقة فى الحكم بالكفر على المسلم فإن تكفير المسلم خطير، ومن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، وليس كل تصرف منه يبرر الحكم عليه بالكفر، وبيان ذلك له موضع آخر إن شاء الله.
كما أقول: إن نظرة العلماء فى الخروج على الإمام الجائر، مع اعتمادها على النصوص، مبنية على اعتبار الظروف وواقع المسلمين فى عهود بعض الفقهاء، وعلى كل حال فنظرتهم ترشدنا إلى أن نكون على بصيرة عند إصدارنا للأحكام الخطيرة بالذات، وإلى القيام بحركات الإصلاح.
2 - يقول الشوكانى فى نيل الأوطار: إن الذين خرجوا على الأئمة الظَّلمة أخذوا بمعلومات الكتاب والسنة من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا شك أن الأحاديث المذكورة مخصصة لتلك العمومات، وهى متواترة المعنى، ولكن لا ينبغى أن يحط من قدر السلف الخارجين على أئمة الجور، فقد كان ذلك باجتهاد منهم، كما لا ينبغى الركون إلى جمود الأحاديث كما فعل الكرامية والعيب على من قاوموا الظالمين. اهـ.
هذا، وأكرر التنبيه إلى وجوب التخطيط السليم لكل حركة إصلاح، وعدم اللجوء إلى العنف إن أمكن الوصول إلى الهدف سلميا، وإلى إتيان البيوت من أبوابها، وإلى أن القول المأثور "كما تكونون يولى عليكم " يحتم علينا إصلاح أنفسنا أولا ليكون من نرتضيهم ممثلين لنا، ومن يرتضونه حاكما علينا صالحين لأداء واجبهم ومحلا للرجاء فيهم، ولعل دراسة الحركات الإصلاحية فى المجتمع الإسلامى دراسة واعية، توصلنا إلى رسم الطريق الأمثل للإصلاح. والله ولى التوفيق(10/187)
إمام الدولة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تنصيب إمام للجماعة واجب، وما هى الإجراءات الدينية لذلك؟
الجواب
إقامة رئيس على جماعة أمر يرشد إليه العقل ويؤكده الشرع، فالناس فى حاجة إلى من يحتكمون إليه عند التنازع، ومن يسهر على مصالحهم بجلب الخير لهم ودفع الضر عنهم، وقديما قال الشاعر الجاهلى "الأفوه الأودى".
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم * ولا سراة إذا جهالهم سادوا ومن التوجيهات الإسلامية إذا كان هناك ثلاثة أن يؤمروا عليهم أحدهم فكيف بالجماعة الكبيرة؟ وفقهاء الإسلام مجمعون على وجوب إقامة إمام. مع اختلافهم فى كون هذا الوجوب عقليا أو شرعيا، وبصرف النظر عن أدلة كل فإن النتيجة هى وجوب إقامة إمام. وعلى من يأنس فى نفسه الأهلية أن يتولى الإمامة، فإن لم يتولها أحد خرج من الناس فريقان: أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماما، والثانى أهل الإمامة حتى يُنصَّب أحدهم إماما، أى ناخبون ومرشحون. ولابد أن يكون الناخبون عدولا عالمين بمن يختارونه، وذوى رأى وحكمة ليستطيعوا اختيار أفضل المرشحين ولابد أن يكون المرشحون عدولا أيضا،. لديهم مقدرة علمية للحاجة إليها فى النوازل والأحكام بالاجتهاد، وحواسهم سليمة كذلك أعضاؤهم التى يباشرون بها التنفيذ، وعلى رأى سديد يؤدى إلى حسن السياسة وتدبير المصالح، وقد اشترط بعض العلماء أن يكون المرشح قرشيا، للنص الوارد فى ذلك، ولكن محله إن وجد، فإن لم يوجد بشروطه رشح لها أصلح الموجودين مراعى فيه قوة مركزه وهيبته.
هذا ما قاله العلماء فى إمام الجماعة، والمسلمون المذكورون فى السؤال إن لم يجدوا من تتحقق فيه هذه الشروط فلا ينبغى أن يتركوا أمرهم سدى، وعليهم اختيار من هو أقرب إلى الخير ليكون رئيسا لهم وعليهم أن يتعاونوا معه بالنصح والتوجيه والطاعة فى المعروف، فإن استقام على الطريقة فبها، وإلا كان لهم عزله وتولية غيره.
هذا ما أراه من المخرج لحالتهم، مراعيا ارتكاب أخف الضررين، أو عدم سقوط الميسور بالمعسور، وظنى أن ذلك لا يتم إلا إذا كانت هذه الجماعة مستقلة استقلالا تاما عن المؤثرات الأخرى التى لا تترك لهم الحرية لتولية من يشاءون، والأمر يحتاج إلى تحرٍّ ودقة ودراسة لكل الظروف لمعرفة مدى إمكان النجاح لهذه العملية فى المناخ الواقع والجو المسيطر(10/188)
ليلة القدر وليلة المولد النبوى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أيهما أفضل، ليلة القدر أم ليلة المولد النبوى؟
الجواب
تحدثت كتب السيرة فى بيان هذه الأفضلية، ورجح الكثيرون أن ليلة المولد أفضل، لأنها السابقة على ليلة القدر وهى الأصل، وأن ليلة القدر شرفت بنزول القرآن والملائكة، وليلة المولد شرفت بظهور محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من الملائكة، والقرآن نزل عليه بعد ميلاده، وبغير ذلك من وجوه التفضيل، ولكنى أرى أن الجدل فى مثل هذه الأمور لا ينبغى إلا إذا كان من ورائه خير للمتجادلين فيه، وبناء على هذا أقول: إن ليلة المولد وليلة القدر باعتبار أن البعثة كانت فيها كلتاهما نعمة من الله كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشكر ربه عليهما بصيام يوم الاثنين من كل أسبوع، كما رواه مسلم.
ولم تشرع لنا عبادة بمناسبة المولد النبوى فى حين شرع لنا قيام ليلة القدر، فهى لنا فضل وبركة من هذه الوجهة، وإن كان مولده صلى الله عليه وسلم نعمة على العالم كله بمقتضى رسالته التى قال الله فيها: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء: 107(10/189)
منبع نهر النيل والفرات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا فى قصة الإسراء والمعراج أن النيل والفرات ينبعان من سدرة المنتهى فى السماء، فكيف يتفق ذلك مع ما هو معروف عن منابع كل منهما فى أفريقيا وآسيا؟
الجواب
جاء فى حديث البخارى ومسلم عن الإسراء والمعراج قوله صلى الله عليه وسلم "ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل فلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى،، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات " وجاء فى رواية للبخارى (فإذا فى أصلها أى سدرة المنتهى، أربعة أنهار) وعند مسلم (يخرج من أصلها) وعند مسلم أيضا من حديث أبى هريرة (أربعة أنهار من الجنة النيل والفرات وسيحان وجيحان) ووقع فى رواية شريك كما عند البخارى أنه رأى فى سماء الدنيا نهرين يطردان -يجريان - فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما. وجاء فى رواية البيهقى: (فإذا فيها -السماء السابعة- عين تجرى يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له: نهر الرحمة) وفى رواية لمسلم:
(سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة) ووقع فى حديث الطبرى عن أبى هريرة: (سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار، نهر من ماء غير آسن ونهر من لبن لم يتغير طعمه ونهر من خمر لذة للشاربين ونهر من عسل مصفى) .
هذه بعض الأحاديث بروايات مختلفة عن النيل والفرات وغيرهما من الأنهار المشهورة فى الدنيا، وقد كثر الكلام عليها وبخاصة فى تحديد المنابع، وهل النيل والفرات اللذان عند سدرة المنتهى هما النيل والفرات اللذان فى الأرض أو غيرهما؟ وكلام الشراح للأحاديث كله اجتهادى، وفيه تضارب، ومن الصعب التوفيق بين ما قالوه وبين ما يقوله علماء الجغرافيا فى تحديد منابع النيل والفرات، وأبادر فأقول:
إن المسألة ليست من العقائد التى يتوقف عليها الإيمان، وليست من الشريعة التى كلف بها المسلم، فجهلها لا يضر الدين، والقاعدة فى مثل هذه الأخبار التى يناقض ظاهرها العقل فى مسلماته الثابتة أن ينظر إلى الخبر فإن لم يكن ثبوته بوجه يقبل فى العقائد، وهو الصحة-على خلاف فى مراتبها - فلا داعى لمحاولة فهم النص والتوفيق ينه وبين العقل الذى يقدم عليه. وإن ثبت أن الخبر صحيح فيجب التسليم به ولا يجوز إنكاره وهنا يجب صرفه عن ظاهره بالتأويل ليتفق مع العقل فى قضاياه المسلمة أو الواقع فى مشاهدته المحسوسة، ولا ينبغى تأويله لصعوبة فهمه فقد تكشف الأيام والمكتشفات عن صدقه، وقد تسرع بعض الكُتَّاب فأنكر بعض هذه الأخبار أو أولها ثم ظهر بعد أنها صادقة فى معانيها التى جاءت بها، وإليك بعض النماذج من شرح هذا الحديث: قال النووى فى شرحه لصحيح مسلم: أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل السدرة، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها.
وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد. ثم يتابع النووى قوله فيقول: وقول عياض: الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى فى الأرض، لقوله: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها، وهما يخرجان من الأرض فيلزم منه أن أصل السدرة فى الأرض - متعقب. أن خروجهما من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض، والحاصل أن أصلهما من الجنة ويخرجان أولا من أصلها ثم يسيران إلى أن يستقرا فى الأرض ثم ينبعان. هذا كلام النووى الذى يقول: إن العقل لا يمنعه وما دام الخبر قد ثبت به فلنعتمده، صحيح أن العقل لا يمنعه فالله قادر على كل شىء، ولكنه صعب التصور، ولا نسلم به إلا لصحة الخبر به.
لكن الألفاظ الواردة فى الخبر قد تدل على معان يسهل على العقل تصورها، فقد قال القرطبى: وقيل: إنما أطلق على هذه الأنهار من الجنة تشبيها لها بأنهار الجنة لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة،. وهذا هو الذى تميل إليه النفس إذا كان المراد بالنيل والفرات نهرى مصر والعراق، أما إذا أريد بهما وبغيرهما أنهار الجنة حملت أسماء أنهار الدنيا حقيقة أو تشبيها كما يدل عليه حديث الطبرى عن أبى هريرة، وما جاء عن كعب الأحبار عند البيهقى فلا صعوبة فى فهم الأحاديث، ولزيادة المعلومات للترف العقلى راجع شرح الزرقانى للمواهب اللدنية للقسطلانى فى حديثه عن الإسراء والمعراج(10/190)
مرض الصرع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لى طفل تنتابه أحيانا حالة عصبية ويتشنج ثم يفيق، وقيل لى: اقرئى عليه قرآنا ليحفظه الله من هذا الصرع، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هناك أمراض عصبية ترجع إلى مؤثرات جسمية أو نفسية يعرفها الأطباء بالفحص ويعالجون مصدرها بالعقاقير والأدوية الحديثة أو الوسائل الأخرى التى يعرفها أهل الذكر، ولا بد من عرض المريض عليهم أولا: فإن شفى فبها، وإلا كان الصرع له مصدر آخر، وهذا المصدر الآخر يشك فيه كثير من الناس، وإن كانت الأحوال النفسية والروحية حقيقة واقعة لا مجال للشك فيها، ولها مدارسها المتخصصة الآن، وقد تحدث ابن القيم فى كتابه "زاد المعاد" عن الصرع. فقال:
الصرع صرعان، صرع من الأرواح الأرضية الخبيثة، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثانى هو الذى يتكلم فيه الأطباء سببه وعلاجه، وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدفع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها.
ثم قال ابن القيم: لا ينكر هذا النوع من الصرع إلا من ليس له حظ وافر من معرفة الأسرار الروحية، وأورد بعض الحوادث التى حدثت أيام النبى صلى الله عليه وسلم وأثر قوة الروح وصدق العزيمة فى علاجها، وأفاض فى النعى على من ينكرون ذلك.
هذا، وإذا كانت للصرع عدة أسباب، منها مادية ومنها نفسية أو روحية أو أخرى، فلا ينبغى أن ننكر ما نجهل، فالعالم مملوء بالأسرار، وقد بدأ العلم يكشف بعضها، وفى الوقت نفسه لا ينبغى أن يتخذ ذلك ذريعة للدجل والشعوذة واستغلال جهل الناس أو سذاجتهم، فلنلجأ إلى الوسائل المادية أولا، وهى كثيرة وسهلة التناول، فإن عجز المخلوق فلنتوجه إلى الخالق بالإيمان به وصدق الاستعانة والثقة به، كما استغاثه الأنبياء فكشف عنهم الضر ونجاهم من الغم، والقرآن خير شاهد على هذه الحقيقة -والله أعلم(10/191)
الرؤى والأحلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الفرق بين الرؤيا والحلم؟
الجواب
ا - الرؤى والأحلام ظاهرة موجودة منذ وجود الإنسان، ومن أشهرها ما حكاه القرآن الكريم من رؤيا إبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده إسماعيل، ورؤيا يوسف لسجود الكواكب له، ورؤيا فرعون البقر والسنابل، ورؤيا النبى صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام. .
2 - والناس مختلفون فى هذه الظاهرة كيف تحدث؟ فقال الماديون من قدامى الفلاسفة ومن بعض المعاصرين: إنها من الطبائع الأربعة الموجودة فى الإنسان، فإن غلبت عليه "السوداء " رأى القبور والسواد والأهوال،وان غلبت عليه "الصفراء " رأى النار والمصابيح والمصبوغات، وإن غلبت عليه "البلغم " رأى البياض والمياه والأمواج وإن غلبت عليه "الدم " رأى الشراب والرياحين والمزامير.
يقول النابلسى صاحب كتاب "تعطير الأنام فى تعبير المنام ": هذا الذى قالوه نوع من أنواع الرؤى وليست محصورة فيها، فهناك ما يكون من حديث النفس، وما يكون من غير ذلك.
ويقول النووى فى شرحه لصحيح مسلم "ج 15 ص 16"عند حديث "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ": إن الحُلْم - بضم الحاء وسكون اللام - فعله الماضى حَلَم - بفتح اللام - والرؤيا مقصورة مهموزة ويجوز ترك همزها، ونقل عن الإمام المازرى مذهب أهل السنة فى حقيقتها، وهو أن الله تعالى يخلق فى قلب النائم اعتقادات كما يخلقها فى قلب اليقظان، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، لا يمنعه نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها عَلَمًا - علامة - على أمور أخر يخلقها فى ثانى الحال..، أى فى وقت آخر لاحق - أو كان قد خلقها، فإذا خلق فى قلب النائم الطيران وليس بطائر، فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرا على خلاف ما هو، فيكون ذلك الاعتقاد علما -علامة -على غيره، كما يكون خلق الله سبحانه وتعالى الغيم علما على المطر، والجميع خلق الله تعالى، ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التى جعلها علما على ما يَسر بغير حضرة الشيطان -حضوره - ويخلق ما هو علم على ما يضر بحضرة الشيطان، فينسب إلى الشيطان مجازا لحضوره عندها، وإن كان لا فعل له حقيقة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان " لا على أن الشيطان يفعل شيئا، فالرؤيا اسم للمحبوب، والحلم اسم للمكروه، هذا كلام المازرى، وقال غيره: أضاف الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف، بخلاف المكروهة، وإن كانت جميعا من خلق الله تعالى وتدبيره وبإرادته ولا فعل للشيطان فيهما، لكنه يحضر المكروهة ويرتضيها ويسر بها اهـ.
ويقول النابلسى: يقول بعضهم: الرؤيا ثلاثة: بشرى من الله تعالى " وهى الرؤيا الصالحة، ورؤيا تحذير من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه، فرؤيا تحذير الشيطان هى الباطلة التى لا اعتبار لها، وفى الحديث الصحيح -رواه مسلم -أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: رأيت كأن رأسى قطع وأنا أتْبَعه - أى أجرى وراءه - فقال: "لا تتحدث بتلاعب الشيطان بك فى المنام " وأما الرؤيا التى هى من همة النفس فمثل أن يرى الإنسان نفسه مع من يحب قلبه، أو خاف من شىء فيراه، أو يكون جائعا فيرى أنه يأكل، أو ممتلئا فيرى أنه يتقايأ، أو ينام فى الشمس فيرى أنه فى نار تحرقه.
ثم ذكر النابلسى الأقسام السبعة للرؤيا الباطلة، وهى حديث النفس والهم،والتمنى، والحلم الذى يوجب الغُسل، وما يكون من تخويف الشيطان، وما يقوم به السحرة، ورؤيا الشيطان، ورؤيا الطبائع إذا اختلفت وتكدرت، ورؤيا الوجع والألم لشىء مضى.
وكلام النابلسى يلتقى مع من يفسرون ظاهرة الرؤيا فى هذه الأيام بأنها رغبات مكبوتة تطفو على السطح عند نوم الإنسان وما يتأثر به جسمه وتتطلبه طبيعته وحرم منه فى حال يقظته كالجوع والعطش والحر والبرد، وهذا ما لجأ إليه "سيجموند فرويد"! وغيره.
ثم يذكر النابلسى الأقسام الخمسة للرؤيا الحق، وهى رؤيا الأنبياء، وهى جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، قال تعالى عن إبراهيم {يا بُنىَّ إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى} الصافات: 102، وقال عن الرسول {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام. . .} الفتح: 27، وهذه الرؤيا صريحة لا يريها إلا الله دون وساطة ملك.
2 - والرؤيا الصالحة التى يبشر الله بها الصالحين، كما أن المكروهة زاجرة يزجرك بها.
3-ما يريها المَلَكُ على حسب ما علَّمه الله من أم الكتاب، وألهمه من ضرب الأمثال الحكيمة لكل شيء من الأشياء مثلا معلوما.
4-الرؤيا المرموزة وهى من الأرواح، كأن يرى الإنسان فى نومه ملكا من الملائكة فيخبره بخبر لا يدل بالصراحة بل بالرمز.
5 - والرؤيا التى تصح بالشاهد ويغلب الشاهد عليها، فيجعل الخير شرا والشر خيرا كالذى يرى أنه يقرأ القرآن فى الحمام، فإنه يشتهر بأمر فاحش، لأن الحمام موضع كشف العورات ولا تدخله الملائكة، كما أن الشيطان لا يدخل المسجد.
وتحدث النابلسى عن العملية التى تتم بها الرؤيا والأحلام - بعدما ذكرنا من كلام المازرى الذى نقلة النووى - يقول المعبرون للرؤيا من المسلمين: الرؤيا يراها الإنسان بالروح ويفهمها بالعقل، ومستقر الروح نقطات دم فى وسط القلب، ومستقر القلب فى رسوم الدماغ والروح معلق بالنفس، فإذا نام الإنسان امتد روحه مثل السراج أو الشمس فيرى بنور الله وضيائه ما يريه ملك الرؤيا، وذهابه ورجوعه إلى النفس مثل الشمس إذا غطاها السحاب وانكشف عنها، فإذا عادت الحواس باستيقاظها إلى أفعالها ذكر الروح ما أراه. الملك وخيَّل له اهـ.
وهذه تفسيرات اجتهادية بتصويرات تقربها إلى الفهم، لكن لا يعلم حقيقة الموضوع إلا الله سبحانه، فهو من عالم الغيب وأحوال النفوس والأرواح وعلاقتها بالعقل للواعى-والباطن. من الأمور التى كثرت فيها الاجتهادات ولا يضرنا ذلك ما دمنا نعلم أن الرؤى والأحلام حقيقة واقعة فى الوجود بصرف النظر عن الكيفية التى تتم بها.
وتعبير الرؤيا ليست له قواعد ثابتة، إنما هى ظنون تستخدم فيها وسائل كثيرة، وقد ألفت فيه كتب شتى، جمع أكثرها الشيخ عبد الغنى النابلسى فى كتابه "تعطير الأنام فى تعبير المنام " الذى طبع وبهامشه كتابان أحدهما لابن سيرين " منتخب الكلام فى تفسير الأحلام " والثانى لابن شاهين، "الإشارات فى علم العبارات " وأشار فى آخر مؤلفه إلى، الكتب المؤلفة فيه. وإلى كتاب "طبقات المعبرين " للحسن بن الحسين الجلال الذى ذكر أن هناك 7500 معبِّر تخير منهم 600 سماهم فى كتابه "تعبير الرؤيا" واقتصر على 105 من مشاهيرهم،وجعلهم 15طبقة.
وتطرق النابلسى إلى الكلام على عدة نقط، منها أن الحائض والجنب قد تكون رؤيتهما صحيحة، فقد عبَّر يوسف رؤيا فرعون، كما تصح رؤيا الصبيان، كرؤية يوسف لسجود الكواكب له، وأن الإنسان قد يرى الرؤيا فتكون له وقد تكون لغيرة من أقاربه وزملائه ومن تسموا باسمه، وذكر منها رؤيا أبى جهل أنه أسلم وبايع النبى صلى الله عليه وسلم فكانت لابنه عكرمة، وأن أم الفضل رأت أن قطعة من جسم النبى وضعت فى حجرها فأولها أن فاطمة ستلد ولدا من ابن عمها فولدت الحسن وأخذته أم الفضل فى حجرها.
كما تحدث عن أحسن الأوقات التى تصدقه فيها الرؤيا واختلاف الناس فيها، هل هى السَّحر أو النهار أو القيلولة. . . ونبَّه على أن من يريد أن تصدق رؤياه فليكن ملتزما للصدق فى حياته، وأن ينام على وضوء، وقال: إن المعبِّر للرؤيا لابد أن يكون ذا فراسة ودراية وأن يبدأ بقوله لصاحب الرؤيا: خير إن شاء الله، وأن تعبير الرؤيا يختلف من شخص إلى شخص ومن بيئة إلى بيئة ومن دين إلي دين ومن فصل زمنى إلى فصل آخر فالسفرجل عند الفرس عز وجمال، وعند العرب سفر وجلاء، وأكل الميتة نكد عند من يحرمونها، ورزق عند من يستحلونها، والتدفئة بالنار والشمس خير فى الشتاء، وشر في الصيف،والثلج والجليد غلاء وقحط فى البلاد الحارة، وخصب وسعة فى البلاد الباردة.. .
وذكر ما ينبغى أن يعمله الشخص إذا رأى شيئا يفزعه، وبعضها مأخوذ من أحاديث نبوية سأذكر بعضها فيما يلى كما فى صحيح مسلم "ج 15 ص 16 وما بعدها".
10 -"الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره " وجاءت روايات تعبر عن النفث بالتفل وبالبصق، أكثرها تعبر بالنفث،ولعل المراد به النفخ اللطيف بلا ريق،.ومعنى لا تضره أن الله جعل هذا سببا لسلامته من مكروه يترتب عليه، كما جعل الصدقة سببا لدفع البلاء ووقاية للمال.
2 - "الرؤيا الصالحة من الله، والرؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا فلينفث عن يساره، ليتعوذ بالله من الشيطان لا تضره، ولا يخبر بها أحدا، فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر إلا من يحب " وذلك حتى لا تقع عن تفسيره المكروهة، وحتى لا يستغلها عدوك فيفسرها بالسوء حتى يحزنك.
3- "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا - وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذى كان عليه ".
4- "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلاثة، فرؤيا صالحة بشرى من الله - ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس".
جاءت روايات بأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين، أو من سبعين، وفي روايات لغير "مسلم " من أربعين ومن تسعة وأربعين ومن خمسين، ومن ستة وعشرين، ومن أربعة وأربعين، وتوضيح ذلك مبسوط في الكتب "النووى على مسلم ج 15 ص 21" واقتراب الزمان قيل المراد به اعتدال الليل والنهار، وقيل قرب قيام الساعة".
5- "من رآنى فى المنام فقد رآنى فإن الشيطان لا يتمثل بى"(10/192)
موقف الإسلام من المخالف فى الرأى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز قتل الإنسان الذى يخالف رأى الدين؟
الجواب
كلمة الرأى كلمة عامة تشمل رأى من ليس مسلما، ورأى المسلم، ورأى المسلم قد يكون عقيدة وقد يكون حكما فى فروع الشريعة.
(أ) فرأى غير المسلم أقصاه الكفر بالإسلام، والكفر لا يبيح قتل الكافر ابتداء. وإنما يبيح رد العدوان الصادر منه، قال تعالى {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} التوبة: 17 وقال {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدِّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} الممتحنة: 8، فإن نكثوا العهد وظهرت بوادر العدوان أو بدءوه بالفعل، أو اعترضوا طريق الدعوة أباح الإسلام قتالهم، قال تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} التوبة: 12، وقال تعالى {وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} البقرة: 190 إلى غير ذلك من النصوص.
(ب) والمسلم المخالف فى-رأى عَقَدِى، أو فى عقيدة من العقائد الدينية، إما أن ينكر أمرا مجمعا عليه، أو لا، فإن أنكر أمرا مجمعا عليه كوحدانية الله ووجوب الصلاة وحرمة القتل كان مرتدا، وحكمه الاستتابة مدة اختلف العلماء فى تحديدها، فإن أصَّر على ردته قتل لقول النبى صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخارى.
وقد تقدم أن الذى ينفذ الحدود هو الحاكم أو من يأذن له، ولو نفذه أحد غيره أثم، وله عقوبة عند الله، ويجوز لولى الأمر أن يعزِّره على ذلك، والتعزير قد يكون بالقتل كما يراه الإمام أبو حنيفة.
وإذا لم ينكر أمرا مجمعا عليه فالواجب هو محاورته لبيان الحق، قياما بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا يجوز التعدى عليه أو قتاله إذا لم يرجع عن رأيه ما دام مسالما لم يبدأ بعدوان، لأنه ما زال مسلما ولا يخرج بخلافه عن دائرة الإيمان كالمعتزلة والخوارج، والحديث يقول " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " رواه مسلم.
فإن بدأ بعدوان وجب رده ففى الحديث الشريف " من قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون عِرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد" رواه أبو داود وللترمذى وقال: حديث حسن صحيح. فإن كان المخالفون جماعة وخرجوا على الحاكم فهم بغاة، وللحاكم أن يقاتلهم بعد التفاوض معهم، وذلك جمعا للكلمة وتوحيدا للصف، قال تعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله} الحجرات: 9.
(ج) وإذا كان الخلاف فى رأى فقهى من الأحكام الفرعية فلا يجوز التعدى بأى نوع من الاعتداء على المخالف، فضلا عن قتاله، فالإسلام عصم الدماء إلا بحقها، والحديث يقول " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، الثَّيِّبُ الزانى، والقاتل، والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه مسلم.
كما أجاز محاربة المسلم حتى لو لم يخالف فى عقيدة أو رأى فقهى إذا كان مفسدا قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خِلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم} المائدة: 33.
والخلاصة أن الدماء فى الأصل مصونة، لا يجوز إهدارها إلا لمبررات قوية، وهى محددة بيَّنها الكتاب والسنة. والقتل بدون وجه حق من أكبر الكبائر، جاء فى التحذير منه نصوص كثيرة، منها قوله تعالى {ومن يَقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابا عظيما} النساء: 93، وما دام هناك خلاف فى مسألة فالرأى فيها غير قطعى لا يجوز أن يكون مبررا للحكم بالردة وبالقتل فالحديث يقول: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم. . . "رواه أحمد والترمذى.
ومن أقوى علامات الشبهة عدم القطع به والاتفاق عليه. ولو استباح كل إنسان قتل من يخالفه فى رأى لهلكت البشرية كلها، فما يزال الاختلاف فى الأديان والعقائد والآراء سمة الناس بمقتضى طبيعتهم التى خلقهم الله عليها، قال تعالى {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} هود:118،119 وقال تعالى {ولو شاء ربك لآمن مَنْ فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس: 99. وإذا كان حديث البخارى المروى عن النبى صلى الله عليه وسلم يقول: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما " فما بالكم بقتل المسلم بغير وجه حق؟ ألا إن المخالفة فى الرأى يمكن معالجتها بالحوار المخلص والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتى هى أحسن كما أمر الله نبيَّه بذلك، وليس القتل وسيلة وحيدة للعلاج، فزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم، كما جاء فى صحيح مسلم(10/193)
الخدمة العسكرية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو موقف الإسلام من الخدمة العسكرية؟
الجواب
قال علماء الاجتماع قديما وحديثا إن الأمن من أهم أركان المجتمع السليم، وأن من واجب الحاكم حراسة الأمة من عدو أو باغ على نفس أو مال أو عرض، وهذا يقتضى تكوين جيش قوى لهذه المهمة.
والإسلام يدعو إلى ذلك من أجل إقرار الأمن والدفاع عن الحرمات، وجاء التعبير عنه فى القرآن والسنة باسم الجهاد، والجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض من القادرين عليه سقط الطلب عن الباقين، ويكون فرض عين على كل إنسان عند الهجوم علينا أو أمر ولى الأمر بالنَّفْر والخروج له، والنصوص فى ذلك كثيرة منها قوله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كُره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} البقرة: 216، وقوله تعالى {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله} التوبة: 41، ورغَّب فيه بمرغبات كثيرة منها قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون فى سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا فى التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} التوبة: 111، وقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى "إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ".
وحذر من التقاعد والتقاعس عنه فقال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا} التوبة: 38، 39.
ولأهمية القوة العسكرية كان الإسهام فيها بأى نوع من الإسهام له ثوابه العظيم، ففى الحديث "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم " رواه أبو داود بسند صحيح وفيه أيضا " من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا فى أهله بخير فقد غزا" رواه البخارى ومسلم.
ومن هنا جاء الأمر بالاستعداد القوى له فقال سبحانه {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} الأنفال: 60، وحث على التدريب على كل الأسلحة، وكان منها أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ركوب الخيل والرمى فقال " من ترك الرمى بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها" رواه أبو داود، وأمر بأن يعيش كل إنسان فى جو الاستعداد للطوارئ فقال " من لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق " رواه مسلم وقال " من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " رواه مسلم. والخدمة العسكرية تدريب واستعداد وأخذ بالحذر واحتياط للمفاجآت، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} النساء: 71، وقال تعالى {ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} النساء: 102، والمؤدى للخدمة العسكرية مُرَابط وفى الحديث " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه " رواه مسلم. وهى أمر تنظيمى إلى جانب أنه أمر إلهى دينى، فلابد من طاعة ولى الأمر فيه لأنه للمصلحة ولا معصية فيه.
إن المتهرب من الخدمة العسكرية واحد من اثنين، فهو إما جبان يخاف على نفسه أو ماله أو أهله، وإما جاسوس متواطئ على الأمة مع العدو المتربص، بصورة مباشرة أو غير مباشرة وهو سلبى والسلبية من أكبر عوامل الانهزام فى المعارك أيا كان ميدانها، ومن لم يهمه أمر المسلمين فليس منهم كما فى الحديث المقبول، فالفرار من المعركة من كبائر الذنوب، والتحايل على عدم المشاركة فى الجهاد من صفات المنافقين الجبناء والمتواطئين على الإسلام، فقد استأذن جماعة منهم عند خروج الرسول إلى الغزو متعللين بأسباب واهية كخوف الفتنة بنساء العدو كما قال سبحانه {ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. إن تصبك حسنة تسوءهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} التوبة: 49، 50، وفى ذلك بيان لسوء نيتهم وكراهية الخير للمسلمين، وذم الله تخلُّفَهم بدون عذر فقال {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} التوبة: 87، والخوالف هم المتخلفون الذين لم يحظوا بشرف الجهاد، من النساء والصبيان والمرضى وذوى العاهات، كما ذمهم بقوله {لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فَضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ... } النساء: 95.
لعل بعض المتهربين من شرف الخدمة العسكرية يقول: إن الجيوش الآن لا تقوم بالجهاد الحقيقى لنشر دين الإسلام، ونقول: إن الجهاد ليس هجومًا على الآمنين وإنما هو دفاع أو تأمين لطريق الدعوة، والبدء به ممنوع كما دلت على ذلك النصوص، فهو لدفع عدوان واقع أو مترقب دلَّت عليه القرائن ونقول لهؤلاء المتخلفين: من الذى يدافع عنكم إذا أغار عليكم العدو؟ هل تنتظرون من غيركم -وأنتم ترمونهم بالكفر أو الفجور-أن يدافعوا عنكم؟ وهل تستسلمون للعدو وأنتم لا تحسنون الدفاع عن أنفسكم؟ كيف غاب عنكم ما رواه مسلم أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم:
أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى؟ فقال له "فلا تعطه مالك " قال:
أرأيت إن قاتلنى؟ ؛ قال: "قاتلْه " قال: أرأيت إن قتلنى؟ قال: " فأنت شهيد" قال أرأيت إن قتلته؟ قال " هو فى النار " والحديث يقول أيضا "من قُتلَ دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" رواه أبو داود والترمذى وقال:
حديث حسن صحيح.إن الخدمة العسكرية تعلمك كيف تدفع العدو وتحمى نفسك ومالك وعرضك ودينك وكل المقدسات، وتنال بذلك شرف الشهادة.
ولعل بعض المتخلفين عن الخدمة بدون عذر يقول: إن الجهاد لا يجب تحت قيادة كافرة، ونقول له، أين أنت من قول النبى صلى الله عليه وسلم "والجهاد ماض منذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل " رواه أبو داود.
وهو يدل على صحة الجهاد تحت قيادة الفاجر، ولكل واحد جزاء عمله، وعلى الجندى طاعة قائده فى الأوامر العسكرية منعا للتفرق {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} الأنفال: 46، والنبى صلى الله عليه وسلم كان يولى قيادة الجيش مَنْ هو خبير بفنون القتال، أما عمله الخاص فهو له، وفى حديث البخارى ومسلم " إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " وذلك بمناسبة انتحار رجل يظهر الإسلام وقد أبلى بلاء حسنا فى المعركة، وأخبر عنه الرسول بأنه فى النار.
يقول ابن تيمية فى كتابه " السياسة الشرعية ": يقدَّم فى ولاية الحروب القوى الشجاع وإن كان فيه فجور، يقدم على الضعيف العاجز وإن كان أمينا، كما سئل أحمد بن حنبل عن رجلين فى الغزو، أحدهما قوى فاجر والآخر صالح ضعيف، فقال: أما الفاجر القوى فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فَيُغْزَى مع القوى الفاجر، والنبى صلى الله عليه وسلم وَلَّى خالد بن الوليد الذى قال عنه إنه سيف سَلَّه الله على المشركين مع أنه أحيانا كان يعمل ما ينكره عليه، ورفع مرة يديه إلى السماء وقال "اللهم إنى أبرأ إليك مما فعل خالد "وذلك حين أرسله إلى (جُذَيْمَةَ) فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة، فتحمل النبى صلى الله عليه وسلم دياتهم.
إن الجهاد شرف عظيم لا يفر منه إلا الجبناء أو المنافقون. ولشرفه كان الصحابة يتسابقون إليه، ومن لم يَفُز بهذا الشرف لعذر كان يحزن ويبكى ويحاول تقديم خدمة لأمته ولو بالعفو عن الحقوق التى له عندهم كما فعل عُلْبة بن زيد فى غزوة تبوك، وكان صغار الصحابة يتنافسون أمام الرسول لإظهار قوتهم حتى يقبلهم ضمن المقاتلين، وكان الرجل من السلف الصالح إذا خرج للغزو طلب من أهله أن يدعوا الله ألا يرجع إليهم، وذلك شوقا إلى الشهادة فى سبيل الله.
وإذا صح أن الإمام مالكا قال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فإن مما صلح به الأولون حب الجهاد وخدمة الإسلام بما يمكن من قوة ومال وجهد فى أى ميدان من ميادين الخير(10/194)
العدسات اللاصقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الإسلام فى العدسات اللاصقة الملونة التى يقصد بها الزينة؟
الجواب
أول ما سمعنا عن العدسات اللاصقة أنها بدل العدسات الموجودة فى المنظار (النظارة) يستغنى بها عن الإطارات (الشنابر) التى تؤثر على بعض مواضع فى الوجه، وقد تقع أو تضيع فتكون الحيرة عند من يعتادها.
وفى أول استعمال العدسات اللاصقة كانت تحتاج إلى إجراءات فى تركيبها وقد تحدث مضايقات للعين كجسم غريب ليس من جنسها، وحاول المختصون تسهيل هذه الإجراءات والتقليل من المضايقات وكان استعمالها أولا لإصلاح النظر الطويل أو القصير، ولم يعلق عليها الناس بمدح ولا ذم كما لا يعلقون على (النظارة العادية) .
ولكن جاء التعليق عليها عندما روعى فيها ناحية الجمال فاختيرت لها ألوان لتبدو العين فى شكل جذاب يلفت النظر ويزيد من عدد المعجبين بالعيون الخضراء التى لا يفرق الناظر إليها بين ما هو طبيعى وبين ما هو صناعى، فما هو موقف الدين من الإقبال على هذه العدسات اللاصقة ذات الألوان الجذابة؟ أعتقد أن الجنس الخشن إذا استعمل العدسات اللاصقة إنما يستعملها لإصلاح نظره، وهو استعمال طبى يعالج به -كما قلت - قصر النظر أو طوله، وهذا أمر مستساغ ومشروع، مثله مثل (النظارة العادية) وكذلك الجنس الثانى إذا استعملها طبيا فلا غبار عليها شرعا وعرفا.
لكن إذا استعملت للزينة ولفت الأنظار، فإن لهذا القصد دخلا فى تكييف الحكم عليها، مثلها مثل النظارات العادية قد تختار لها (شنابر) غالية وترصع ببعض الفصوص البراقة مع سلك ذهبى أو من معدن ثمين، وقد يكون أكثر من ذلك مما يَتفَنَّنُ فيه ذوو الخبرة الفاهمون لطبيعة الإنسان فى علاقته بالمجتمع.
فإذا كان القصد مباهاة وفخرا، أو جذبا لأنظار الجنس الآخر كان ذلك ممنوعا شرعا دون خلاف فى ذلك، والعدسات اللاصقة التى يختار لها اللون الأخضر تحرص عليها الفتيات بالذات، وهنا يدخل عامل النية والقصد فى الحكم، فإن كانت النية الفتنة والإغراء، أو كانت النية التدليس والتغرير فلا شك فى حرمتها، مثلها فى ذلك الأصباغ التى تلون بها وجهها والأهداب الصناعية والأظافر الملونة والعطور النفاذة وما يماثل ذلك.
والإسلام قد نهى عن التدليس والتغرير الذى يخفى الحقيقة ويخدع الناظر. ففى الحديث " من غشَّنا فليس منا " ونهى المرأة بالذات عن أن تبدى مفاتنها بأية صورة من الصور، وذلك لغير زوجها، مع التحفظ فيها لأقاربها ومحارمها، كما نهاها عن الخضوع بالقول الذى يوقظ الغرائز ويلهب المشاعر {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض} الأحزاب: 32، ونهاها عن التعطر ليعجب بها من تمر عليهم، والحديث يقول فى ذلك "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهى زانية" رواه أبو داود والترمذى وقال الترمذى: حسن صحيح وانظروا إلى كلمة "ليجدوا ريحها" لنعرف أن مناط الحكم فى التعطر أمام الأجانب هو قصد الإعجاب بها بشد أنوفهم إليها وبالتالى شد ما تريده من سوء، والقرآن الكريم قد ذكر المنطلق الذى تحرم به كل المغريات وهو قصد إبراز ما خفى من زينتها إلى جانب ما ظهر منها، فقال: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} النور: 31.
يتلخص من كل ذلك أن الإسلام يريد أن ينظم العلاقة بين الجنسين، ويجعلها فى حَيَزٍ ينتج الخير والمصلحة للطرفين، فالغريزة الجنسية من أقوى الغرائز-إن لم تكن أقواها - تأثيرا على سلوك الإنسان، والعدسات اللاصقة الملونة ومثلها كل زينة فى النظارات العادية أو فى غيرها، إن أريد بها العلاج فقط فلا ضرر فيها، وإن أريد بها الإغراء والفتنة أو التدليس والتغرير فهى محرمة، وإذا كانت المرأة تحرص عليها حرصها على كل زينة لافتة للنظر فإن الرجل لا يليق به أن يهبط إلى هذا المستوى، فالله قد لعن تشبه أحد الجنسين فيما هو من خصائص الجنس الآخر، وأقول للجنسين: نحن الآن فى وضع اقتصادى واجتماعى يدعونا إلى الجد والانصراف إلى العمل المنتج ووضع كل شىء فى موضعه اللائق به، والضرورات الملحَّة تشجب إهمالها وتشجب الانصراف عنها إلى العبث والإغراق فى المتع والكماليَّات(10/195)
العلاج عند غير المسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا مريض ولا يوجد فى بلدى متخصص فى علاج مرضى إلا طبيب أجنبى، هل يجوز أن أعالج عنده؟
الجواب
فى كتاب " الآداب الشرعية" لابن مفلح: قال الشيخ تقى الدين، إذا كان اليهودى أو النصرانى خبيرا بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطب، كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله، كما قال تعالى {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما} آل عمران: 75.
وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر عبد الله بن أريقط وكان مشركا، ليكون دليلا له فى الطريق لأنه ماهر خِرِّيت، وائتمنه على نفسه وماله، وكانت قبيلة خزاعة عينًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه، ومنهم المسلم والكافر، وقد روى أنه أمر أن يُستطب الحارث بن كلدة وكان كافرا، ومحل ذلك إذا كان غير متهم وليست فيه ريبة.
وإذا أمكن أن يستطب مسلما فلا ينبغى أن يعدل عنه ما دام كفءً اللعلاج(10/196)
الفتوى بغير علم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن يجترئون على الفتوى من غير أهل الاختصاص ويحدثون بلبلة بين الناس لتعصبهم لآرائهم؟
الجواب
يقول الله سبحانه {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} الإسراء: 88، ويقول {وفوق كل ذى علم عليم} يوسف: 76، ويقول {وقل رب زدنى علما} طه: 114، ويقول {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} النحل:
43، ويقول {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} النحل: 16.
ويقول النبى صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوهم بغير علم فضلوا وأضلوا" رواه البخارى ومسلم ويقول "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار " رواه الدارمى عن عبيد الله بن أبى جعفر مرسلا. ويقول "إن عيسى عليه السلام قال: إنما الأمور ثلاثة، أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالم " رواه الطبرانى فى الكبير بإسناد لا بأس به. ويقول "ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العى السؤال" رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطنى وصححه ابن السكن "بيان للناس " ج 1 ص 64".
هذه بعض النصوص التى تدل على أن الإنسان مهما بلغ من العلم فلن يحيط بكل شىء علما، وأن الجاهل بالحكم يجب عليه أن يسأل المختصين، ومن أفتى بغير علم فقد كذب على الله وعلى الرسول، ضل فى نفسه طريق الحق وأضل غيره عنه، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة كما فى الحديث الذى رواه مسلم.
ولهذا لا يجوز لأحد أن يفتى بغير علم،أو يتعصب لرأى لم يطلع على ما يخالفه من آراء المجتهدين.
والنبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الروح وعن أهل الكهف وعن ذى القرنين فلم يجب حتى نزل عليه الوحى، غير عابئ بما يقوله المشركون والأعداء عندما تأخر الوحى عن الإجابة، ولما سئل عن خير البقاع وشرها قال: حتى أسأل جبريل، كما رواه أحمد وهو بهذا يقف عند حد علمه، ويرسم للناس من بعده الطريق الأمثل لنشر العلم والإجابة على الأسئلة، وصح أنه قال لأميره "بريدة " إذا حاصر العدو أن ينزلهم على حكمه هو لا على حكم الله فإنه لا يدرى ما عند الله.
ونحن نعلم أن بعض الصحابة كانوا يسألون عن مسألة فيحيل على غيره، وأن أبا بكر قال: أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى وأين أذهب وكيف أصنع إذا قلت فى حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله تبارك وتعالى؟ وكان لعبارة "لا أدرى" عند القدامى منزلة وممارسة شائعة، فقد روى فيها خبر " العلم ثلاثة، كتاب ناطق وسنة قائمة ولا أدرى " رواه الخطيب موقوفا على ابن عمر.
وروى أبو داود وابن ماجه نحوه مرفوعا "العراقى على الإحياء ج 1 ص 61 ".
وقال ابن مسعود: جُنَّةُ العالم لا أدرى، فإن أخطأها فقد أصيبت مقاتله.
وكان ابن عمر يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت في تسع، والإمام مالك سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال فى اثنتين وثلاثين منها: لا أدرى.
هذه كلها صور مشرقة عن السلف ترينا إلى أى حد كانوا يخشون الفتوى بغير علم، على الرغم من الأمر بتبليغ الدعوة والتحذير من كتم العلم، أرجو أن تكون نبراسا لكل من عنده بعض العلم أن يقف عند حده، ولمن عنده رغبة فى نشر العلم أن يكون متثبتا مما يقول، وأن من عرف رأيا اجتهاديا لا ينبغى أن يتعصب له.
وعلى أن يكون النشاط العلمى تحت مظلة الإخلاص لله، بعيدا عن الرياء والشهرة، وبريئا عن أغراض سيئة تضر بنفسه أو تضر بغيره أو تضر بسمعة الدين نفسه. "ملخص من بحث لى عن الفتوى، ويمكن الرجوع إلى كتاب "الفقه الإسلامى - مرونته وتطوره " لشيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق على جاد الحق، نشر سنة 989 ام(10/197)
الكلب الأسود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل أرسل الله جبريل إلى النبى صلى الله عليه وسلم ليعاتب جماعة من أصحابه بصقوا على كلب أسود، اشمئزازا من منظره؟
الجواب
لم أجد حديثا صحيحا عن النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الموضوع، والثابت أنه عليه الصلاة والسلام كان يحذر من الكلب الأسود، وأمر بقتله، وأخبر أن مروره أمام المصلى يقطع الصلاة، أى يذهب ثوابها لعدم الخشوع فيها بسبب الخوف من الكلب الأسود الذى عبر عنه بأنه شيطان(10/198)
أول من تكلم العربية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هو أول من تكلم باللغة العربية؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى" ج 1 ص 283"قوله: واختلف فى أول من تكلم باللسان العربى، فروى عن كعب الأحبار أن أول من وضع الكتاب العربى والسريانى والكتب كلها وتكلم بالألسنة كلها آدم عليه السلام، وقاله غير كعب الأحبار.
فإن قيل: قد روى عن كعب الأحبار من وجه حسن قال: أول من تكلم بالعربية جبريل عليه السلام، وهو الذى ألقاها على لسان نوح عليه السلام، وألقاها نوح على لسان ابنه سام. ورواه ثور بن زيد عن خالد بن معدان عن كعب، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين " وقد روى أيضا: أن أول من تكلم بالعربية يَعْرُب بن قحطان، وقد روى غير ذلك.
قلنا: الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام، والقرآن يشهد له، قال الله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} واللغات كلها أسماء، فهى داخلة تحته، وبهذا جاءت السنة، قال صلى الله عليه وسلم " وعلم آدم الأسماء كلها حتى القصعة والقُصيعة" وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام، وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية، بدليل ما ذكرنا، والله أعلم، وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علَّمها الله آدم أو جبريل على ما تقدم.
والله أعلم.
وإذا كان القرطبى يرجح أن أول من تكلم بالعربية هو آدم، فقد ذكر أنه قال الشعر العربى الموزون، فنقل عن الثعلبى أنه قال عندما تغيرت الأحوال بسبب قتل قابيل لهابيل:
تغيرت البلاد ومن عليها * فوجه الأرض مُغبَرٌّ قبيح تغير كل ذى طعم ولون * وقَلَّ بشاشة الوجه المليح ثم قال: قال القشيرى وغيره قال ابن عباس: ما قال آدم الشعر، وإن محمدا والأنبياء كلهم فى النهى عن الشعر سواء، لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سريانى، فهى مرسية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال: إنك وصى فاحفظ منى هذا الكلام ليتوارث، فحفظت منه إلى زمان يعرب بن قحطان، فترجم عنه يعرب وجعله شعرا. اهـ وفى التعليق على تفسير القرطبى، قال الآلوسى: ذكر بعض علماء العربية أن فى ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة. والأولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة، وقال أبو حيان فى "البحر":
ويروى بنصب "بشاشة" من غير تنوين على التمييز، ورفع "الوجه المليح "وليس بلحن.
هذا ما قال العلماء، وليس فيه نص صحيح، إنما هو نقل غير مسند، واجتهاد واستنباط، وذلك لا يوصل إلى حقيقة، وجهلنا بأول من نطق العربية لا يضر العقيدة وعلمنا به لا يحل مشكلاتنا، فالأولى عدم الجدال فيه(10/199)
اليمين الغموس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى اليمين الغموس، ولم سميت بذلك، وما هى كفارتها؟
الجواب
اليمين الغموس هى التى تغمس صاحبها فى النار، وتسمى الصابرة كما وردت بها بعض الأحاديث، وهى اليمين الكاذبة المتعمدة تهضم بها الحقوق، أو يقصد بها الغش والخيانة، وإن كان بعض الفقهاء خصها بالتى تكون فى ساحة القضاء، لأنها تضلل العدالة.
واليمين الغموس من الكبائر، وكفارتها التوبة النصوح التى لا تتم إلا برد الحقوق إلى أصحابها أو عفوهم عنها، ومع التوبة قال الشافعى وأحمد: فيها كفارة، لأنها كذب. روى أحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبَهْتُ مؤمن -أى بالتهمة-ويمين صابرة يقطع بها مالا بغير حق " وروى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم " قال "الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس " وروى أبو داود حديث "من حلف على يمين مصبورة - أى ألزم بها- كاذبا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار"(10/200)
التوبة والاستتابة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعض الناس الرافضين لحد الردة يرفضون أيضا أن تطلب من المرتد توبة، فالله وحده هو الذى يقبلها، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
هناك فرق بين طلب التوبة أى الاستتابة، وبين قبول التوبة، فطلبها من العاصى حق لله وللرسول وحق للمؤمنين، فالله سبحانه أمر بها فى مثل قوله {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} التحريم: 8.
وقوله {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} النور: 31، وأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم فى مثل قوله "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإنى أتوب فى اليوم مائة مرة " رواه مسلم.
والمؤمن يجب عليه أن يطلب التوبة من العاصى قياما بواجب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فى ظل قوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} النحل: 125، وحذر الإسلام من السكوت على المعاصى، فالرضا بها مشاركة فى الإثم، ووضح الرسول معنى الآية {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} المائدة: 105، موضحا أن الاهتداء لا يكون إلا بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، كما رواه ابن ماجه والترمذى وحسَّنه وأبو داود "الترغيب ج 4 ص 28 ".
والمرتد ننصحه بالرجوع عن ردته ببيان الحق فيما يشك فيه لعله يهتدى، أما قبول التوبة فهو أيضا قدر مشترك بين الله سبحانه وبين العباد، فقبولها من الله مرهون بالإخلاص فيها وصدورها من القلب لا من اللسان فقط، فهو سبحانه لم يقبل من المنافقين ما لا يتفق ظاهرهم مع باطنهم، وذلك بعد استكمال مقوماتها المعروفة. وقبولها بالنسبة لنا هو معاملته معاملة المسلم بحسب ظاهره فقط، ولا شأن لنا بباطنه، والأحاديث فى ذلك واضحة، فالرسول قال لأسامة فى شأن من أسلم بلسانه "هلا شققت عن قلبه " مقررا أن علينا الأخذ بالظاهر لأنه المستطاع والله يتولى السرائر "بيان للناس من الأزهر الشريف ج 1 ص 141 - 146 ".
فقول القائل: إن التوبة حق لله يقبلها ويرفضها، وليس لأحد سواه هذا الحق نابع من عدم الفهم الصحيح، وتحريف للكلم عن مواضعه، والوعيد عليه شديد(10/201)
التائب من الذنب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف تكون التوبة إلى الله توبة خالصة، والعودة إلى الله بلا رجعة؟
الجواب
التوبة إلى الله مطلوبة، والآيات والأحاديث فى ذلك كثيرة، وشعور المؤمن بالنقص فى أداء الواجب لله يدعوه إلى الرجوع إليه، حتى لو كان التقصير فى مندوبات، فمن باب أولى تكون التوبة من التقصير فى الواجبات.
وقال العلماء: إن أركانها ثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فرط منه، والعزم على عدم العودة إليه، وإذا كان العصيان متعلقًا بحقوق الغير كالسرقة مثلا وجب رد المسروق إلى صاحبه أو طلب السماح منه.
ولا تقبل هذه التوبة إلا إذا كانت خالصة لله صادرة من أعماق القلب لا يكتفى فيها باللسان فقط.
ولو وقعت التوبة بهذه المواصفات يرجى قبولها، ويرجى استقامة السلوك بعدها.
وعدم العودة إلى المعصية أمر لا يجزم به الإنسان، فالإنسان معرض للخطأ غير معصوم، لكن لو صدق فى توبته ثم غلبه الشيطان وأخطأ، ثم بادر بالتوبة الخالصة يرجى أن يعفو الله عنه، فباب التوبة مفتوح إلى أن تقوم الساعة أو يحتضر الإنسان، والمهم هو الإخلاص فيها، والمبادرة بها عند المعصية(10/202)
العلاج بالزار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى حفلات الزار التى تقام كعلاج لبعض الأمراض؟
الجواب
الزار طقس خاص يقام للتخلص من التسلط الشيطانى كما يزعم المعتقدون فيه، وأصله عبادة وثنية قديمة تقوم على موسيقى عنيفة وحركات هيستيرية ورقص من المريض ومن يشاركه، مع بخور وأشياء أخرى.
والمريض الذى يعالج بالزار قد يكون مرضه بسبب اعتقاد تسلط الأرواح الشريرة عليه، أو بسبب إجهاد عقلى، أو بسبب وهْم حين تشير بعض الجاهلات على المريضة بأنها ممسوسة مثلا.
والعلاج يكون تابعا لمعرفة أسباب المرض، فالذى يصاب بمس روح شريرة يقول ابن القيم فى كتابه "الطب النبوى ": علاجه بقوة نفسه وصدق توجهه إلى الله والتعوذ الصحيح الصادر من القلب واللسان معا، وكذلك بتوسط رجل صالح يرقيه بالقرآن أو يدعو له، ويقول:
وأكثر مرضى الأرواح الخبيثة يكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من الذِّكْرِ والتحصينات النبوية والإيمانية.
ومن عنده إجهاد عقلى يعالج بالراحة والترويح. والوهم يعالج بالتخلص منه. والموسيقى التى يقوم عليها الزار قد تكون مؤثرة على الأعصاب وطريقا للشفاء الذى قام به أطباء الغرب لعلاج الصرع البدنى والعصبى، مع الإيحاء للمريض بالشفاء، لكن الرقص الجماعى الذى يختلط فيه الرجال بالنساء حرام، وذبح الطيور أو الحيوانات باسم الجان ميتة أُهِلَّ لغير الله بها فهى حرام، وشرب دمها حرام أيضا. وعلى العموم فحفلات الزار بوضعها الحالى لا يوافق عليها الدين "من المراجع التاريخية والعلمية: مجلة نهضة أفريقيا - العدد التاسع - يوليو 1951 م، رسالة للسيدة فاطمة المصرى للماجستير بجامعة الإسكندرية1945 م، ورسالة أخرى للسيدة هدى بدران "(10/203)
التاريخ الميلادى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى أخذ الدول الإسلامية بالتاريخ الميلادى، فى حين لا تأخذ بالتاريخ الهجرى فى التعاملات المحلية والخارجية؟
الجواب
ليس فى كتابة التاريخ الميلادى بأس، وبخاصة إذا كان عالميا، وإذا كان فى الأمور الموقوتة بزمن محدود لا يتغير، ذلك لأن التاريخ الهجرى موقوف كل شهر على رؤية الهلال، ونحن نعلم اختلاف الناس فيه، فقد نظن أن أول شهر هو يوم الثلاثاء فإذا به يكون - حسب الرؤية - هو الاثنين مثلا، وهذا يحدث ارتباكا فى الأمور المحسوبة بحساب دقيق من جهة الزمن. وهو نظام دنيوى لا حرج فى استعماله، ففى الحديث "أنتم أعلم بأمور دنياكم ".
أما التاريخ الهجرى فترتبط به العبادات كالصوم والحج والأيمان والنذور وغيرها، فلا بد من الحرص عليه فيها، ومن المستحسن ذكر التاريخين معا حتى لا ننسى حرمة تاريخنا وقداسته. فى غمرة الفتنة بالدنيا.
هذا، والتقويم الميلادى عدَّ ل عام 1582 فصار اليوم الرابع من أكتوبر هو اليوم الخامس عشر، وهو مبدأ التقويم الجريجورى وأخذت به مصر سنة 1875 "دائرة معارف الشعب -م 1 ص 224 "(10/204)
شجرة النخل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النخلة خلقت من بقايا الطينة التى خلق منها آدم فتكون عمتنا؟
الجواب
شجرة النخل ورد فيها حديث فى الصحيحين عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أُتى بجُمَّار نخلة فقال "إن من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم، لا يسقط ورقها، أخبرونى ما هى "؟ فوقع الناس فى شجر البوادى، ووقع فى نفسى أنها النخلة، فأردت أن أقول: هى النخلة، ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم سنًّا فَسَكَتُّ، فقال رسول الله "هى النخلة " فنقل ذلك إلى أبيه عمر، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا.
يقول ابن القيم "زاد المعاد ج 3 ص 193 " تعليقا على هذا الحديث:
فيه إلقاء العالم المسائل على أصحابه وتمرينهم واختبار ما عندهم، وفيه ضرب الأمثال والتشبيه، وفيه ما كان عليه الصحابة من الحياء من أكابرهم وأجلاَّئهم وإمساكهم عن الكلام بين أيديهم، وفيه فرح الرجل بإصابة ولده وتوفيقه للصواب، وفيه أنه لا يكره للولد أن يجيب بما عرف بحضرة أبيه وإن لم يعرفه الأب، وليس فى ذلك إساءة أدب عليه.
ثم قال: وأما حديث "أكرموا عماتكم النخل، فإنها خلقت من الطين الذى خلق منه آدم " فإن إسناده ليس صحيحا(10/205)
المسرح والسينما
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الذهاب إلى المسارح والسينما؟
الجواب
المكان الذى يع رض فيه الموضوع يسمى المسرح إن كان العرض حيا، ويسمى سينما أو خيالة إن كان العرض مصورا.
. وإذا تمخض الحضور لجنس واحد-كما فى بعض الدور التى يخصص فيها وقت للرجال وآخر للنساء-ينظر إلى موضوع الفيلم أو المسرحية ويعطى حكم الغناء فى مادته وأسلوبه وأثره، فيحرم إذا كانت المادة محرمة كدعوة إلى إلحاد أو فتنة أو خمر أو غير ذلك، أو إذا كان الأسلوب محرما ككشف العورات والتقبيل بين الجنسين أو الخضوع من المرأة بالقول أو غير ذلك من المحرمات، أو إذا كان التأثير سيئا على الفكر والسلوك، أو ألهى عن واجب؛ كان الذهاب إلى المسرح أو السينما حراما.
أما إذا كان الحضور مع اختلاط للرجال والنساء، فإن كان مع سفور وكشف لما أمر الله بستره حرم، وإن كان مع احتشام كامل وتحفظ بما هو معروف فى الحجاب الشرعى - ينظر إن ذهبت الزوجة بدون إذن زوجها حرم، وإن كان بإذنه وهو معها أو معها محرم كأخيها وابنها فلا حرمة، وكذلك مع الرفقة المأمونة.
والملاحظ: الآن أن دور اللهو لا تحترم هذه الآداب، واتُخذت ذريعة للعبث وقتل الوقت. والحلال بيِّن والحرام بيِّن. وقد قلَّل الإقبال عليها انتشار أجهزة التلفاز. ودخولها كل البيوت أو أكثرها، وصار أكثر رواد هذه الدور من الطبقات التى لا ترعى حرمة(10/206)
بين حدى الزنى والسرقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قال الله تعالى {الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} النور:
2، وقال {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} المائدة: 38، لماذا قدم الزانية على الزانى وعكس فى السارق، ولماذا لا يكون الحد هو القطع فيهما؟
الجواب
ذكر القرطبى فى المسألة السابعة والعشرين عند تفسير آية السرقة "ج 6 ص 175 " أن البدء بالزانية لأن شهوة الاستمتاع على النساء أغلب، وحب المال على الرجال أغلب، وذكر فى تفسير آية الزنى "ج 12 ص 160 " أن الزانية قُدمت حيث كان فى ذلك الزمان زنى النساء فاشٍ، وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكنَّ مجاهرات بذلك، ولأن العار بالنساء ألحق، إذ موضوعهن الحجب والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما.
وذكر أن الله جعل حد السرقة قطع اليد لأنها تتناول المال، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به كما هو واقع السرقة باليد، وذلك لثلاثة معان، أحدها أن للسارق مثل يده التى قطعت فإن انزجر بقطعها اعتاض بالثانية، وليس للزانى مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه، والثانى أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد فى السرقة ظاهر واضح للناس يتعظ به غيره، أما قطع الذكر فهو باطن مستور لا يراه غير الزانى فلا يكون الزجر المطلوب للغير، والثالث إن قطع الذكر فيه إبطال للنسل، وليس فى قطع اليد إبطاله(10/207)
قطع يد السارق والسارقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الإسلام هو الدين الوحيد الذى جاء بقطع يد السارق، أم أنه كان معروفا من قبل؟ وما الحكم لو وصلت اليد بعد قطعها؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى "ج 6 ص 160"أن القطع كان فى الجاهلية، وأول من حكم بذلك هو الوليد بن المغيرة، وأقره الإسلام، وكان أول سارق طبق عليه الحد من الرجال الخِيَار بن عَدِى بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مُرَّة بنت سفيان بن عبد الأسد من بنى مخزوم - وهى التى قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " ولم يقبل الشفاعة فيها كما كان فى الجاهلية يتركون إقامة الحد على ذوى الشرف - وأبو بكر قطع يد الرجل اليمنى الذى سرق عقدًا لأسماء بنت عميس زوجة أبى بكر. وقطع عمر يد ابن سمرة أخى عبد الرحمن بن سمرة.
ولأجل أن يكون قطع اليد عبرة للغير تعلق فى عنق السارق حتى يراها الناس، لأن موضع قطعها قد يوارى ويستر فلا يتعظ أحد، روى أبو داود والنسائى والترمذى وقال: حديث حسن غريب، أى رواه راو واحد فقط أن النبى صلى الله عليه وسلم جىء بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت فى عنقه.
وإذا كان قطع يد السارق حقا لله وحقا للمجتمع فهل يضيع حق المسروق منه؟ ذكر القرطبى "ج 6 ص 165 " أن العلماء اختلفوا هل يكون مع القطع غُرْم أو لا؟ فقال أبو حنيفة لا يجتمع الغرم مع القطع، وقال الشافعى:
يغرم قيمة السرقة موسرا كان أو معسرا، وهو قول أحمد وإسحاق، أما مالك وأصحابه فقالوا: إن كانت العين المسروقة قائمة وجب ردها، وإن تلفت فإن كان موسرا غرم، وإن كان معسرا فلا شىء عليه ولا تكون دينا يطالب به، وقيل: يتبع بها دينا مع القطع موسرا كان أو معسرا، وهو قول غير واحد من علماء أهل المدينة. لأنهما حقان لمستحقين فلا يسقط أحدهما الآخر كالدية مع الكفارة. ثم قال: والصحيح قول الشافعى ومن وافقه.
وهنا مسألة أثيرت أخيرا وهى: إذا قطعت يد السارق ثم عولجت بوصلها كما كانت هل يسقط الحد بقطعها أو لابد من قطعها ثانيا لأن حكمة القطع لم تتحقق؟ للعلماء رأيان، رأى بسقوط الحد بمجرد القطع، ورأى بمنعه من وصلها وقطعها إن وصلها، وجهة نظر الرأى الأول أن القطع تمَّ كما أمر الله وهذا كاف فى زجره هو، ولا يُهم إن كان سيتبدل بها يدا صناعية أو يصل يده التى قطعت، فالعقوبة وقعت ولو فى حدها الأدنى، وإذا نفذ القطع علنا كان النكال وكانت العبرة.
ووجهة نظر الرأى الثانى أن العقوبة إذا كانت زجرا له فهى زجر لغيره، ومن أجل ذلك كان تعليق يده بعنقه ليعتبر الناس، فلو وصل ما قطع ضاع معنى العبرة. بل ضاع المعنى فى زجر نفسه هو، إذا عرف أن إعادة يده ممكنة وإن كان فيها بعض الألم.
وقد يقال: إن الخزى حصل للسارق بإثبات السرقة بالشهود، وبإشهار القطع وإعلانه، وهذا كاف فى التأثير عليه وعلى غيره، ولا يهم بعد ذلك وصل يده أو تعويضها بيد صناعية، لكن أيضا يقال: إنه لو كرر السرقة تقطع اليد الأخرى لتعطيله عنها فلو صح الوصل لضاعت الحكمة.
الرأيان مطروحان للمناقشة، وللظروف دخل فى ترجيح أحدهما على الآخر إذا أعوز الدليل القوى(10/208)
إحياء الموات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى إحياء الموات وما حكمه فى الشرع؟
الجواب
ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضا ميتة فهى له" رواه أبو داود والنسائى والترمذى وقال: إنه حسن. وقال "من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر" رواه النسائى وصححه ابن حبان.
إحياء الموات هو استغلال الأرض بالزرع وغيره من أنواع الاستغلال، مأخوذ من قوله تعالى {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحيى الموتى} فصلت: 139.
والحديثان يبينان فضل إحياء الأرض الموات، وأن ما يُحيا منها فهو لمن أحيا لكن اشترط العلماء لاعتبار الأرض مواتا أن تكون بعيدة عن العمران، حتى لا تكون مرفقا من مرافقه، ولا يتوقع أن تكون من مرافقه. وفى الوقت نفسه اشترط بعض الفقهاء أن يأذن الحاكم فى إحيائها واستثمارها، ابتداء قبل العمل أو بعده، على خلاف فى ذلك.
وإحياء الموات يدل على حيوية التشريع الإسلامى بدعوته إلى الاستثمار والتعمير وإخصاب الحياة بالخير ليساعد ذلك على تحقيق خلافة الإنسان فى الأرض، بتعميق الإيمان بالله وشكره على نعمه، والتمتع بالحلال الطيب الذى يعطى القوة ويحقق الكرامة للإنسان.
ومن أساليب الدعوة إلى ذلك قوله تعالى {هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه} الملك:15 وقوله صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" رواه مسلم وقد تحدث الماوردى فى كتابه "الأحكام السلطانية" ص 190 عن أحكام الموات وإذن الإمام فى إحيائه، وإذا أهمل الإنسان فى ذلك بدون عذر سُلب الإذن منه، وكان غيره أحق به، ويمكن استيفاء معرفة أحكامه منه ومن كتب الفقه(10/209)
الحب حلال أو حرام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الحب حلال أو حرام؟
الجواب
يقول الله سبحانه {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} آل عمران: 31، ويقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه أصحاب السنن عن حبه لعائشة رضى الله عنها "اللهم هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك " ويقول فيما رواه مالك فى الموطأ " قال الله تعالى: وجبت محبتى للمتحابين فى، والمتجالسين فى، والمتزاورين فى" ويقول فيما رواه مسلم "الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف ".
الحب فى دنيا الناس تعلق قلبى يحس معه المحب لذة وراحة، وهو غذاء للروح، وشبع للغريزة، ورى للعاطفة، أفرده بالتأليف كثير من العلماء الأجلاء.
ومن جهة حكمه فإنه يعطى حكم ما تعلق به القلب فى موضوعه والغرض منه، فمنه حب الصالحين، وحب الوالد لأولاده، وحب الزوجين، وحب الأصدقاء، وحب الولد لوالديه، والطالب لمعلمه، وحب الطبيعة والمناظر الخلابة والأصوات الحسنة وكل شىء جميل.
ومن هنا قال العلماء: قد يكون الحب واجبا، كحب الله ورسوله، وقد يكون مندوبا كحب الصالحين، وقد يكون حراما كحب الخمر ولجنس المحرم.
وأكثر ما يسأل الناس عنه هو الحب بين الجنسين، وبخاصة بين الشباب، فقد يكون حبا قلبيا أى عاطفيا، وقد يكون حبا شهويا جنسيا، والفرق بينهما دقيق، وقد يتلازمان، ومهما يكن من شىء فإن الحب بنوعيه قد يولد سريعا من نظرة عابرة، بل قد يكون متولدا من فكر أو ذكر على الغيب دون مشاهدة، وهنا قد يزول وقد يبقى ويشتد إن تكرر أو طال السبب المولد له. وقد يولد الحب بعد تكرر سببه أو طول أمده، وهذا ما يظهر فيه فعل الإنسان وقصده واختياره.
ومن هنا لابد من معرفة السبب المولد للحب، فإن كان من النوع الأول الحادث من نظر الفجأة أو الخاطر وحديث النفس العابر فهو أمر لا تسلم منه الطبيعة البشرية، وقد يدخل تحت الاضطرار فلا يحكم عليه بحل ولا حرمة.
وإن كان من النوع الثانى الذى تكرر سببه أو طالت مدته فهو حرام بسبب حرمة السبب المؤدى له. وإذا تمكن الحب من القلب بسبب اضطر إليه، فإن أدى إلى محرم كخلوة بأجنبية أو مصافحة أو كلام مثير أو انشغال عن واجب كان حراما، وإن خلا من ذلك فلا حرمة فيه.
والحب الذى يتولد من طول فكر أو على الغيب عند الاستغراق فى تقويم صفات المحبوب إن أدى إلى محرم كان حراما، وإلا كان حلالا، وما تولد عن نظرة متعمدة أو محادثة أو ما أشبه ذلك من الممنوعات فهو غالبا يسلم إلى محرمات متلاحقة، وبالتالى يكون حراما فوق أن سببه محرم.
وعلى كل حال فأحذر الشباب من الجنسين أن يورطوا أنفسهم فى الوقوع فى خضم العواطف والشهوات الجنسية، فإن بحر الحب عميق متلاطم الأمواج شديد المخاطر، لا يسلم منه إلا قوى شديد بعقله وخلقه ودينه، وقَلَّ من وقع فى أسره أن يفلت منه، والعوامل التى تفك أسره تضعف كثيرا أمام جبروت العاطفة المشبوبة والشهوة الجامحة.
وبهذه المناسبة طُرِحَ هذا السؤال: أنا فتاة من أسرة متدينة، ولكن شعرت بقلبى يشد إلى شاب توسمت فيه كل خير، ولا أدرى إن كان يشعر نحوى بما أشعر به، فهل هذا الحب يتنافى مع الدين؟ إن الحب إذا لم يتعد دائرة الإعجاب ولم تكن معه محرمات فصاحبه معذور، ولكن إذا تطور وتخطى الحدود فهنا يكون الحظر والمنع. وإذا كان للفتاة أن تحب من يبادلها ذلك والتزمت الحدود الشرعية فقد ينتهى نهاية سعيدة بالزواج، وإذا كان للزوجة أن تحب فليكن حبها لزوجها وأولادها، إلى جانب حبها لأهلها، لكن لا يجوز أن يتعلق قلبها بشخص أجنبى غير زوجها، تعلقا يثير الغريزة، فقد يؤدى إلى النفور من الزوج والسعى إلى التفلت من سلطانه بطريق مشروع أو غير مشروع، والطريق المشروع هو الطلاق مع التضحية بما لها من حقوق، وهو ما يسمى بالخُلْع، فقد جاءت امرأة ثابت بن قيس ابن شماس -وهى حبيبة بنت سهل أو جميلة بنت سلول -إلى النبى صلى الله عليه وسلم تقول له: إن زوجها لا تعيب عليه فى خلق ولا دين، ولكنها تكره الكفر فى الإسلام، لأنها لا تحبه لدمامته، وقد جاء فى بعض الروايات أنها رأته فى جماعة من الناس فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها، فردت إليه الحديقة التى دفعها إليها مهرا وطلقها. رواه البخارى وغيره.
أما أن تستجيب الزوجة إلى صوت قلبها وغريزتها عن غير هذا الطريق فهو الخيانة الكبرى التى جعل الإسلام عقوبتها الإعدام فى أشنع صوره، وهى الرجم بالحجارة حتى تموت.
فلتتق الله الزوجة،. ولا تترك قلبها يتعلق بغير زوجها تعلقا عاطفيا، ولتحذر أن تذكر اسم من تحب أو تتحدث عنه أو تظهر لزوجها أى ميل نحوه، حتى لو كان الميل إعجابا بخلق، فإن الزوج يغار أن يكون فى حياة زوجته إنسان آخر مهما كان شأنه، والله سبحانه جعل من صفات الحور العين، لتكمل متعة الرجال بهن، عدم التطلع إلى غير أزواجهن فقال فيهن {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} الرحمن: 56، وقال تعالى {حور مقصورات فى الخيام} الرحمن: 77، وذلك لتحقق الزوجة قول الله تعالى {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} الروم: 21.
وأنتهز هذه الفرصة وأقول للفتاة غير المتزوجة، إذا ربطت علاقة الحب بين فتى وفتاة واتفقا على الزواج ينبغى أن يكون ذلك بعلم أولياء الأمور، لأنهم يعرفون مصلحتهما أكثر، ولأن الفتى والفتاة تدفعهما العاطفة الجارفة دون تعقل أو روية أو نظر بعيد إلى الآثار المترتبة على ذلك، فلابد من مساعدة أهل الطرفين، للاطمئنان على المصير وتقديم النصح اللازم، مع التنبيه إلى التزام كل الآداب الشرعية حتى يتم العقد، فربما لا تكون النهاية زواجا فتكون الشائعات والاتهامات.
والدين لا يوافق على حب لا تُلتزم فيه الحدود(10/210)
ذبح غير المأكول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا اصطدنا نمرا وذبحناه هل يجوز الانتفاع بجلده؟
الجواب
اتفق الفقهاء على أن جلد مأكول اللحم إذا ذبح طاهر يجوز الانتفاع به، كجلد الغنم والمعز والبقر والأرنب، أما إذا لم يذبح أى كان ميتة فإن جلده نجس يطهر بالدباغ لحديث مسلم " إذا دبغ الإهاب فقد طهر" وغير مأكول اللحم كالسباع والنمور إذا لم يذبح فجلده نجس يطهر بالدباغ، لعموم الحديث السابق، أما إذا ذبح فالجمهور على أن ذبحه لا يطهر جلده بل لا يطهر إلا بالدبغ، والحنفية يجعلون ذبحه مسوغا لطهارة جلده وإن حرم أكله.
وكل ذلك فيما عدا جل د الكلب والخنزير، فلا يطهرهما الدبغ عند الجمهور(10/211)
الولى والكرامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هو الذى يطلق عليه اسم الولى، وهل لابد أن تكون له كرامة؟
الجواب
الولى هو الذى تولى أوامر الله بالتنفيذ، وتولاه الله بالرعاية. قال تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمَنوا وكانوا يتقون.
لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} يونس: 62 - 64.
ففى هذه الآيات مواصفات الأولياء {آمَنوا وكانوا يتقون} حيث تولوا أوامره بالتنفيذ عقيدة وعملا، فالتقوى هى امتثال الأوامر واجتناب النواهى، فى كل قطاعات النشاط البشرى، فى العبادات والمعاملات والأخلاق وفى كل شىء.
وفيها جزاؤهم {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} لا يخافون من المستقبل ولا يحزنون على الماضى {لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة} حيث تولاهم الله برعايته رعاية شاملة فى حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة.
والكرامة أمر خارق للعادة يظهره الله على يد شخص صالح، أما ما يظهر على يد فاسق أو كافر فهو استدراج قال فيه رب العزة {فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملى لهم إن كيدى متين} القلم: 44، 45.
والكرامة للولى غير لازمة أن تكون فى الدنيا، فهى ليست للدعاية والكسب والتحدى، وقد يدخرها الله فى الآخرة، والأولياء الصالحون لا يطلبون كرامة ولا يحبون أن يعلنوها لو حدثت.
إن الحديث فى هذا الموضوع طويل ومن الكتب التى استوفته: الرسالة القشيرية(10/212)
الأظافر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فيمن تطيل أظافرها وتلونها، وفيمن يترك من أصابعه إصبعا يطيل ظفره؟
الجواب
تقليم الأظافر من سنن الفطرة التى جاءت فى قول النبى صلى الله عليه وسلم "خمس من الفطرة: الاختتان والاستحداد - حلق العانة - وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط " رواه البخارى ومسلم، وروى مسلم أيضا:
وقَّت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألا تترك أكثر من أربعين ليلة.
وحكمة الأمر بقص الأظافر منع تجمع الأوساخ التى هى مظنة وجود الميكروبات الضارة، التى يسهل انتقالها بالأيدى لمزاولتها شئون الطعام والشراب، كما أن تراكمها يمنع وصول الماء إلى البشرة عند التطهير بالوضوء أو الغسل، وطولها يخدش ويضر، يقول أبو أيوب الأنصارى:
جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فسأله عن خبر السماء، فنظر إليه النبى صلى الله عليه وسلم فرأى أظفاره طوالا فقال "يسأل أحدكم عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير يجمع فيها الجنابة والتفث " وهو الخبث.
"تفسير القرطبى ج 2 ص 102 ".
والحد المطلوب فى قص الظفر إزالة ما يزيد على ما يلامس رأس الإصبع، وذلك حتى لا يمنع الوسخ وصول الماء إلى البشرة فى الطهارة، ولو لم يصل بطل الوضوء.
ولم يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم خبر صحيح فى استحباب القص فى يوم معين ولا بكيفية معينة كالابتداء بإصبع معين من اليد اليمنى واليد اليسرى، وأرجحها نقلا ودليلا يوم الجمعة، "الزرقانى على المواهب ج 4 ص 214، 215"، "غذاء الألباب ج 1 ص 380"،" الإسفار فى قص الأظفار للسيوطى" وأنبه إلى عدم المبالغة فى قصها فذلك مؤلم وعائق عن العمل لمدة، بل هناك حالات تستحب فيها إطالة الأظفار إلى حد معقول كما قال عمر: وفروا الأظفار فى أرض العدو فإنها سلاح، وفسر ذلك بالحاجة إليها فى حل عقدة أو ربطها أو ما يشبه ذلك، وقد رفع أحمد هذا الأثر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما إطالتها إلى حد منفَر يعوق عن مزاولة الأعمال أو لطلائها للسيدات فغير مستحب. ووضع الأصباغ عليها يمنع من صحة الوضوء والغسل، كما يمنعها من مزاولة أعمال التنظيف بالماء حرصا عليها من الزوال فلا يلجأ إلى إطالتها وصبغها إلا نسوة مترفات أو خاملات، همهن الظهور فى المجتمعات بمظهر المتمدينات، أو الهروب من الأعمال المنزلية.
على أن بعض الظرفاء علَّل اهتمام نساء العصر بإطالة أظفارهن بأنها كأسلحة للدفاع عن نفسها أو الهجوم على زوجها إن فكر فى إيذائها، أو الهروب من مطالبتها، ويعجبنى قول القائل:
قل للجميلة أرسلت أظفارها * إنى - لخوف - كدت أمضى هاربا إن المخالب للوحوش نخالها * فمتى رأينا للظباء مخالبا بالأمس أنت قصصت شعرك غيلة * ونقلت عن وضع الطبيعة حاجبا وغدا نراك نقلت ثغرك للقفا * وأزحت أنفك رغم أنفك جانبا من علم الحسناء أن جمالها * فى أن تخالف خَلْقَها وتجانبا؟ إن الجمال من الطبيعة رسمه * إن شذ خطّ منه لم يك صائبا وإذا كانت المرأة تطيل أظفارها وتلونها، فلماذا يطيل بعض الرجال بعض أظافرهم؟ فى رأى أن السبب هو التقليد لا غير، وياليتنا نقلد فيما يفيد(10/213)
البيعة على الإسلام والهجرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى الأحاديث أن أعرابيا نقض البيعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام والهجرة، فهل يعتبر ذلك ردة، وإذا كان ردة فلماذا لم يقم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الحد؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن جابر بن عبد الله أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الأعرابى وعْكٌ بالمدينة، فقال: يا رسول الله أقلْنى بيعتى فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكرر الطلب والرفض ثلاث مرات، فخرج الأعرابى فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما المدينة كالكير، تنفى خَبئَها، وينْصعُ طيبها"والطيب بكسر الطاء هو الرائحة الحسنة، وبفتحها وتشديد الياء هو الطاهر.
لم تصرح رواية مسلم بما بايع الأعرابى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرحت رواية البخارى بأنه بايعه على الإسلام، وجاء فى شرح النووى على صحيح مسلم أن المبايعة كانت على الإسلام والهجرة، وجاء فى فتح البارى لابن حجر أن طلب الإقالة من الأعرابى هل كان عن الإسلام والهجرة أم عن الهجرة فقط؟ من المعلوم أن الهجرة إلى المدينة كانت واجبة قبل فتح مكة فى السنة الثامنة من الهجرة، ثم صارت بعد الفتح غير واجبة كما صح فى حديث البخارى ومسلم "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" فتركها قبل الفتح معصية، وبعد فتحها ليس بمعصية.
ومن المعلوم أيضا أن جو المدينة لم يلائم كثيرا من الوافدين عليها، وشكا بعض المهاجرين ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومنهم أبو بكر وبلال رضى الله عنهما، فدعا الرسول ربه أن يبارك فى المدينة كما بارك فى مكة أو أشد، كما رواه البخارى، ورغب في الصبر على شدتها وعدم مفارقتها.
والأعرابى الساكن فى البادية لما وفد إلى النبى بالمدينة وأسلم لم يعجبه جوها فطلب من الرسول إقالته فلم يُقِلْه، فخرج الأعرابى من المدينة، واختلف العلماء فيما طلب الإقالة منه: هل هو الإسلام والهجرة، أو الهجرة فقط؟ رجح جماعة أنه الهجرة فقط، وذلك بعد سقوط فرضيتها بفتح مكة، لكن قيل: إذا كانت الهجرة سقطت فرضيتها فلماذا لم يأذن له الرسول بترك المدينة؟ أجيب بأن الرسول يحب لمن سكنها ألا يتركها حتى لو كان تركها مباحا، والرجل حين خرج منها بعد طلب الإقالة لم يرتكب إثما، وإنما ارتكب خلاف الأولى، ولا عقوبة فى ذلك لا فى الآخرة ولا فى الدنيا.
وإذا كان طلبه الإقالة من الهجرة قبل فتح مكة كان تركه للمدينة معصية، والرسول لا يسمح بارتكاب المعصية حتى لو كانت صغيرة، وهذه المعصية لا عقوبة عليها فى الدنيا مثل كثير من المعاصى كعقوق الوالدين والغيبة والنميمة وإن كانت لها عقوبة أخروية.
وقال جماعة: إن الأعرابى طلب الإقالة من الإسلام والهجرة، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رفض الإقالة من الهجرة على الوجه المبين من قبل، فإنه يرفض الإقالة من الإسلام، لأنها ردة.
وهنا يقال: لماذا لم يعاقبه الرسول على الردة؟ والجواب أن الأعرابى إذا خالف بالخروج من المدينة كما نص الحديث فإن رفضه للإسلام غير معلوم، لأنه لا تلازم بين الإثنين، وبخاصة أنه بيَّن فى طلبه عدم ملاءمة جو المدينة له فقط، فيجوز أن يخرج من المدينة إلى البادية طلبا للصحة مع بقائه على الإسلام بعقيدته وشريعته.
ورفض الإسلام الذى يكون ردة أمر متعلق بالقلب والباطن، لا يعلم إلا بقول يصرح فيه بالرفض والإنكار لأية عقيدة من عقائده، أو بفعل يدل على ذلك كسجود لصنم أو إهانة المصحف بإلقائه مثلا فى القاذورات، وبدون هذه الأمارات لا تعلم الردة، كالمنافقين الذين تكفر قلوبهم ولا يصدر منهم قول أو فعل يصرح بما فى قلوبهم، فكانوا يعاملون بظاهرهم معاملة المؤمنين.
والأعرابى لم يتبين للرسول منه ما يفيد رفضه للإسلام حتى يعامله معاملة المرتد، ومجرد خروجه من المدينة ونقض البيعة على الهجرة على فرض أنه من المعاصى الكبيرة لا يلزم منه الكفر، وحديث أبى ذر فى ذلك معروف، فإن المؤمن مصيره الجنة ولا يخلد فى النار كالكافرين حتى لو سرق وزنا "رغم أنف أبى ذر".
وما جاء من الأحاديث التى تنفى الإيمان عن مرتكب الكبائر مثل "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن. . . " قال فيه العلماء: إن نفى الإيمان إما أن يكون نفيا لكماله، وإما أن يكون نفيا لأصله إذا اعتقد أن الزنا حلال، فإن اعتقاد حِلَّ ما حرمه الله تحريما قاطعا كفر، ولم يُعْلَم أن الأعرابى اعتقد أن ترك المدينة حلال على فرض أنه حرام، ومن هنا لم يقم الرسول عليه حد الردة، ولا يصح أن تكون هذه الواقعة مُتَكأً لمن يرفضون أن الردة يعاقب عليها بالقتل، ويَدْعُون إلى الحرية فى اختيار أى دين، والتحول من دين إلى آخر، أو عدم التقيد بأى دين، تحقيقا للحرية المكفولة لكل إنسان. متجاهلين قول الله تعالى {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خاسرون} البقرة: 217، وقوله {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين} آل عمران: 85، وقول النبى صلى الله عليه وسلم "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى والقاتل والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه البخارى ومسلم، وقوله "من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخارى(10/214)
كتمان الشهادة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
حدث خطأ أنا شاهدته وعند التحقيق فيه بعدت عنه حتى لا أطلب للشهادة، خوفا من تعطيل مصالحى وانقطاعى عن عملى، أو خوفا على المخطئ أن يعاقب، فما حكم الدين فى ذلك، وماذا أعمل لو طلبت للشهادة؟
الجواب
شرع الله سبحانه فى التعامل بين الناس أن تكون هناك احتياطات لحفظ الحقوق وعدم الجحود، فإنهم ليسوا جميعا على قلب رجل واحد من الخوف من الله، ومن حب الخير للغير كما يحبونه لأنفسهم، ومن هذه الاحتياطات الإشهاد وكتابة الديون والدقة والأمانة وحسن اختيار الشهود، قال الله تعالى فى آية الدَّيْن {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} البقرة: 282، ثم قال تعالى {وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} البقرة: 283 هناك ثلاثة مواقف: التطوع بالشهادة، طلب الشهادة، أداء الشهادة.
يقول القرطبى عن الآية الأولى بالنسبة إلى الموقفين الأولين: قال ابن عطية:
والآية-كما قال الحسن -جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوى الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لاسيما إذا كانت محصلة وكان الدعاء لأدائها، فإن هذا الظرف آكد، لأنها قلادة فى العنق، وأمانة تقتضى الأداء، انتهى.
ومعنى هذا الكلام أن الإنسان يندب له أن يشهد متطوعا بدون أن يستدعيه أحد للشهادة، وله أن يتخلف عنها لعذر أو لغير ذلك، ومحل ذلك إذا كان هناك شهود آخرون ولا يضيع الحق بتخلفه، أما إذا لم يكن إلا هو والحد الأدنى لقبول الشهادة، وخيف ضياع الحق كان تقدمه للشهادة قوى الندب وقرب من أن يكون واجبا يحرم التخلف عنه، إما إذا علم أن الحق يضيع لو تخلف عن الشهادة وجب عليه التقدم لشهادة ما دام ذلك ممكنا، ويتأكد ذلك إذا طلب منه أن يشهد، أى يتحمل الشهادة لإثبات الواقعة، لأن ذلك من باب نصرة المظلوم كما ثبت فى الحديث "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" ولقوله تعالى {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} .
وعلى هذا لا يتعلل الشاهد بالتأخر عن عمله، أو بالخوف على المخطئ من العقوبة، إذا وجب عليه أن يشهد فى الصورة المتقدمة.
وتحمل الشهادة سواء تطوع بها أو دعى إليها لا يتنافى مع حديث الصحيحين عن خير القرون، الذى جاء فيه "ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون " فإنه محمول على ثلاثة أوجه كما قال القرطبى: أحدها أن يراد به شاهد الزور، فإنه يشهد بما لم يستشهد، أى بما يتحمله ولا حمله، ويؤيد هذا الوجه حديث فى فضل الصحابة ومن بعدهم جاء فيه "ثم يفشو الكذب وشهادة الزور" والوجه الثانى أن يراد به المتطفل الشره النهم على تنفيذ ما يشهد به فيبادر بها قبل أن يسألها، فذلك دليل على هوى غالب عليه، والوجه الثالث أنهم الغلمان الصغار كما قال النخعى.
أما الموقف الثالث للشهادة وهو أداوها عند القاضى فله حالتان، الأولى أن يتطوع بها أى يشهد دون أن يستدعى، والحالة الثانية أن يستدعى لأدائها، ففى الأولى يندب له أن يتقدم لأدائها، وفيه حديث رواه أصحاب السنن "خير الشهداء الذى يأتى بالشهادة قبل أن يُسألها" وله ألا يشهد ما دام لم يستدع وذلك على النحو الذى سبق فى تحمك الشهادة لا فى أدائها، فإذا وجد شاهد غيره ولم يكن هناك خوف على ضياع الحق كان حضوره لأدائها مندوبا لا واجبا، فإن تعين هو للشهادة وجب الحضور حتى لو لم يستدع، وفى الحالة الثانية إذا استدعى فلا يجوز له التخلف، لأن القضاء متوقف على الشهادة، والتخلف عنها ضياع للحق، ودليل ذلك قوله تعالى {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} فهو عام فى التحمل والأداء.
قال الحسن: جمعت هذه الآية أمرين، وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها، وحملها قتادة والربيع وابن عباس على تحملها وإثباتها فى الكتاب - أى الذى بين المتعاقدين - وحملها مجاهد على أدائها بعد تحصيلها أى تحملها، وقال: فأما إذا دعيت لتشهد أولا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا، وقاله جماعة آخرون وعليه فلا يجب على الشهود الحضور، عند المتعاقدين.
وإذا حضر الشاهد أمام القاضى ليشهد عند الاستدعاء وغيره وجب عليه أن يؤديها بأمانة كما تحملها، ولا يجوز له أن يكتمها وينكر أنه تحملها، قال تعالى {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} فالكتمان صادق بعدم أدائها، وبعدم الصدق فيها، أى بقول الزور.
والتعبير بقوله {آثم قلبه} إشارة إلى أن كاتم الشهادة وقع تحت تأثير قصد سيئ انطوى عليه قلبه، وأقل ما يكون من هذا القصد السيئ عدم حب الخير لأخيه، أو حب الشر له والإضرار به، وذلك يتنافى مع الإيمان ففى الحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " رواه البخارى ومسلم.
وإذا كان الكتمان ناشئا عن طمع فى نوال شىء من أحد الطرفين، أو عن خوف منه فإن الإيمان الحق يوجب أن يكون الرجاء هو فيما عند الله، فهو خير وأبقى، وأن يكون الخوف من الله وحده فهو القاهر فوق عباده، وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم العهد على أصحابه أنَ يقولوا الحق لا يخشون فيه لومة لائم، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} النساء:135(10/215)
الضيافة عند اليتيم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لو زرت صغارا يتامى وقدموا لى تحية الضيف هل يجوز تناولها أو لا؟
الجواب
يقول الله تعالى {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} النساء: 10.
هذه الآية تنهى عن أكل مال اليتيم ظلما أى بغير حق، فإن كان بحق فلا مانع منه، ويوضح هذا قوله تعالى فى آية سابقة فى السورة نفسها {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} الآية رقم: 6، فهى تعالج خطأ وقع فيه الناس وهو الطمع فى مال اليتيم، حيث كان الوصى يتصرف فيه لمصلحة نفسه لا لمصلحة اليتيم، حتى إذا كبر لم يجد له مالا، أو يجد ماله قد قَلَّ، لأن الوصى لم يتصرف فيه لصالحه، وقد أباح الله للوصى أن يأخذ من مال اليتيم ما يوازى إشرافه عليه، على أن يكون ذلك فى الحد المعقول، وذلك إذا كان محتاجا، أما إذا كان مستغنيا فالأولى أن يستعفف ولا يأخذ شيئا فى مقابل الإشراف عليه.
ولما كانت النصوص فى القرآن والسنة تحذر من أكل مال اليتيم بدون وجه حق تحرج الناس عن كفالته خشية الوقوع فى المحظور، وذلك أمر يترتب عليه إهمال اليتيم وضياعه، فأذن الله للناس أن يشرفوا على أموال اليتامى على أن يراقبوا الله، فلا يتصرفوا فى غير مصلحتهم.
قال تعالى {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم} البقرة:
220.
وإذا كان هذا فى حق الأوصياء فهو أيضا فى حق كل إنسان يطمع فى مال اليتيم، وقد يحدث أن الذين يتركهم الميت من الأولاد يكون فيهم كبار، فلا ينطبق عليهم أحكام اليتامى، لأنه لا يُتْم بعد الحُلُم، أى البلوغ، ومع الكبار يوجد صغار، وأموالهم مختلطة بعضها ببعض، وهنا نقطتان:
النقطة الأولى خاصة بمخالطة الأولاد الكبار لإخوتهم الصغار، فيجب التحرز من الطمع فى أموالهم أو التصرف فيها على وجه ليس فيه مصلحتهم، وحيث إن الأموال مختلطة فيصعب ذلك، ولهذا ترك الله الأمر لضمير الكبار ورقابتهم لله {والله يعلم المفسد من المصلح} .
والنقطة الثانية خاصة بعلاقة الأجانب بهؤلاء الأولاد، فى مثل زيارتهم وتناول ما يقدم تحية للزائر، وحيث إن أموال الكبار مختلطة بأموال الصغار فلا تمييز فيما يقدم للضيف، هل هو من نصيب الكبار فيجوز تناوله، أو من نصيب الصغار فلا يجوز؟ لا يمكن الحكم بحرمة تناول التحية، لأن مناط التحريم هو التيقن، ولا يوجد، وإذا لم يمكن الحكم بالحرمة فأقل ما يحكم به هو الكراهة التنزيهية، وذلك للشبهة، ومن اتقى الشبهات كان لدينه أورع، وقد يكون من المستحسن أن يتناول الضيف من التحية أقل شىء حتى لا يكون فى الامتناع الكلى بعض آلام نفسية لليتامى، وليكن أمامنا قول الله سبحانه {وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم} فلتكن هناك زيارة خالصة لله، تخفيفا على اليتامى، وليكن معها هدية لهم إن أمكن، حتى لا يرزأهم فى شىء لو تناول التحية، فالمندوب أن نعطى لهم ولا نأخذ منهم(10/216)
ضرب المتهم للإقرار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز ضرب المتهم ليقر بما ارتكبه من مخالفة، وهل يُعْتَد بهذا الإقرار؟
الجواب
جاء فى "الأحكام السلطانية" للمواردى ص. 22 أنه يجوز للأمير مع قوة التهمة أن يضرب المتهم ضرب التعزير لا ضرب الحد، ليأخذه بالصدق عن حاله فيما قرف به واتهم، فإن أقر وهو مضروب اعتبرت حاله فيما ضرب عليه، فإن ضرب ليقر لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم، وإن ضرب ليصدق عن حاله وأقر تحت الضرب قطع ضربه واستعيد إقراره، فإذا أعاده كان مأخوذا بالإقرار الثانى دون الأول.
فإن اقتصر على الإقرار الأول ولم يستعده لم يضيق عليه أن يعمل بالإقرار الأول وإن كرهناه.
والرأى المختار عند الأحناف والإمام الغزالى من الشافعية أن المتهم بالسرقة لا يُضرب، لاحتمال كونه بريئًا، فترك الضرب فى مذنب أهون من ضرب برىء وفى الحديث " لأن يخطئ الإمام فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة" وأجاز أصحاب الإمام مالك ضرب المتهم بالسرقة، وذلك لإظهار المسروق من جهة، وجعل السارق عبرة لغيره من جهة أخرى(10/217)
أنا ونحن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا يتحدث الله عن نفسه بقوله "نحن " مع أنها للجمع، فهل هناك معه إله آخر؟
الجواب
إن القرآن الكريم نزل من عند الله بلغة العرب التى هى لغة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد نزل فى أرقى درجات البلاغة والفصاحة {بلسان عربى مبين} الشعراء: 195.
ومما جرت به عادة العرب أن يعبر المتكلم عن نفسه بلفظ "أنا" فإذا كان معه غيره قال "نحن " كما أن لفظ "نحن " يستعمل عند تعظيم المتكلم لنفسه، وتعظيم الإنسان لنفسه له دواع تدعو إليه، فقد يكون ذا منصب أو جله أو حسب أو نسب فيتحدث عن نفسه تفاخرا وتكبرا من أجل التفاخر والتكبر، وقد يكون لإدخال الرهبة فى قلوب الآخرين، كأنه عدة أشخاص لا شخص واحد، وقد يعبر عن نفسه بلفظ "نحن " لتعدد مآثره أو مواهبه، كأنه عدة أشخاص فى شخص واحد، فالكثرة والتعدد بالنظر إلى الأثر لا إلى المؤثر.
وأسلوب التعظيم للمتكلم أو المخاطب موجود فى اللغات الأخرى وليس قاصرا على اللغة العربية، ويستعمل فى مثل الأغراض المذكورة.
فإذا كان رب العزة يقول {نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} الإنسان: 28، فالمقام مقام امتنان بالخلق والإنعام ومقام تخويف وإرهاب للكافرين، يتناسب معه ضمير التعظيم الذى يعطى معنى القوة والهيبة، وإذا كان يقول {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} الحجر: 9، فالمقام مقام الاقتدار الذى يدخل الطمأنينة على حفظ الله للقرآن الذى أنزله بقدرته وحكمته، وإذا كان يقول {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} غافر: 51، ففيه اطمئنان لحماية الله لرسله ونصرهم على أعدائهم، كأنها حمايات بوسائل متعددة.
وأعتقد أن المؤمن حين يقرأ القرآن وفيه أسلوب التعظيم لله لا يتسرب إلى نفسه أى شك فى وحدانيته سبحانه، وهو جدير بكل عظمة وإجلال لا يمكن أن يكون لغيره من القدرة والإنعام ما يصرف الناس عن عبادته وحده(10/218)
بيض الطائر الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ضرب شخص دجاجة فماتت،ولما فتح بطنها وجد فيها بيضة، فهل يحل أكل البيضة؟
الجواب
جاء فى كتاب "حياة الحيوان الكبرى" للدميرى عند كلامه على الدجاج ما نصه: "فرع " البيضة التى فى جوف الطائر الميت فيها ثلاثة أوجه حكاها الماوردى والرويانى والشاشى، أصحها - وهو قول ابن القطان وأبى الفياض وبه قطع الجمهور-إن تصلبت فطاهرة وإلا فنجسة، والثانى طاهرة مطلقا، وبه قال أبو حنيفة، لتميزها عنه، فصارت بالولد أشبه، الثالث نجسة مطلقا وبه قال مالك، لأنها قبل الانفصال جزء من الطائر، وحكاه المتولى عن نص الشافعى رضى الله تعالى عنه، وهو نقل غريب شاذ ضعيف.
وقال صاحب الحاوى والبحر: فلو وضعت هذه البيضة تحت طائر فصارت فرخا كان الفرخ طاهرا على الأوجه كلها كسائر الحيوان، ولا خلاف أن ظاهر البيضة نجس.
وأما البيضة الخارجة فى حال حياة الدجاجة فهل يحكم بنجاسة ظاهرها؟ فيه وجهان حكاهما الماوردى والرويانى والبغوى وغيرهم، بناء على الوجهين فى نجاسة رطوبة فرج المرأة، قال فى المهذب: إن المنصوص نجاسة رطوبة فرج المرأة، وقال الماوردى: إن الشافعى رضى الله تعالى عنه قد نص فى بعض كتبه على طهارتها، ثم حكى التنجيس عن ابن سريج، فملخص الخلاف فيها قولان لا وجهان.
وقال الإمام النووى: رطوبة الفرج طاهرة مطلقا، سواء كان الفرج من بهيمة أو امرأة، وهو الأصح، وإذا فرعنا على نجاسة رطوبة الفرج فنقل النووى فى شرح المهذب عن فتاوى ابن الصباغ ولم يخالفه أن المولود لا يجب غسله إجماعا، وقال فى آخر باب الآنية من الشرح المذكور:
إن فيه وجهين حكاهما الماوردى والرويانى، وقد حكاهما الشيخ أبو عمرو بن الصلاح فى فتاويه، ورأيت فى "الكافى" للخوارزمى أن الماء لا ينجس بوقوعه فيه، فيحتمل أن يكون الخلاف مفرعا على القول القديم بعدم وجوب الغسل لكونه نجسا معفوا عنه، وأما إذا انفصل الولد حيا بعد موتها فعينه طاهرة بلا خلاف، ويجب غسل ظاهره بلا خلاف، وأما البلل الخارج مع الولد أو غيره فنجس كما جزم به الرافعى فى الشرح الصغير والنووى فى شرح المهذب، وقال الإمام: لا شك فيه.
وأما الرطوبة الخارجة من باطن الفرج فإنها نجسة كما تقدم، وإنما قلنا بطهارة ذكر المجامع ونحوه على ذلك القول لأنا لا نقطع بخروجها، قال فى الكفاية: والفرق بين رطوبة فرج المرأة ورطوبة باطن الذكر لأنها لزجة لا تنفصل بنفسها ولا تمازج سائر رطوبات البدن، فلا حكم لها، قلت:
والرطوبة هى ماء أبيض متردد بين المذى والعرق، كما قاله فى شرح المهذب وغيره، انتهى ما قاله الدميرى فى ذلك(10/219)
الحزبية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى الأحزاب السياسية فى ظل الحكم الديموقراطى؟
الجواب
يقول الله سبحانه {ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} الروم: 31، 32، ويقول عن الكافرين {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} المجادلة: 19، ويقول عن المؤمنين {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} المجادلة: 22، الحزب هو الجماعة من الناس، والحزبية التعصب للحزب، وهذا الحزب له فكر معين يلزمه سلوك معين لتحقيق الهدف منه، واختلاف الناس فى الفكر المؤدى إلى الاختلاف فى السلوك أمر من طبيعة البشر، كما قال سبحانه {ولو شاء ربك لجعل للناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} هود: 118، 119، وكانت رسالة الرسل هى من أجل الدعوة إلى توحيد الفكر والعقيدة، وعلى رأسها الإيمان بإله واحد والرجوع إليه بعد الموت، ومع اتفاق الرسالات على هذه الدعوة كان لكل رسالة شريعة خاصة فى ظل هذه العقيدة تتناسب مع استعداد القوم وظروفهم، كما قال سبحانه {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} المائدة: 48، فأمر الاختلاف بين الأمم قائم، والدعوة إلى توحيد العقيدة مستمرة والنهى عن الاختلاف والتفرق إنما هو فى مجالى العقيدة فحسب، فمن كانوا من المؤمنين فهم حزب الله، ومن كانوا كافرين فهم حزب الشيطان، ولعدم صدق العقيدة عند الكافرين لم يجتمعوا على عقيدة واحدة، لأنها صدى لأفكارهم البحتة، والأفكار مختلفة، والتعصب للفكر شديد {ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} قال تعالى للمؤمنين {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} آل عمران: 102، إن الذى ينعى عليه الدين هو الاختلاف فى العقيدة، أما السلوك فإن كان منصوصا على تحديده وجب التزامه، وإلا كان الحكم عليه بمقدار اتصاله بالعقيدة وعدم الخروج عليها، وفى ظل هذا كان اختلاف بعض الصحابة والتابعين والفقهاء الذين جاءوا من بعدهم فى فهم النصوص واستخراج الأحكام لما لم ينص عليه، وكانت الحرية فى الأخذ بأى رأى ما دام لا يصادم نصا ولا يعارض المقررات الأساسية المجمع عليها.
ومن تنوع الأفكار وتعدد المذاهب كان الجميع كتلة واحدة فى تحقيق الخير للأمة والدفاع عنها، لا فرق بين عربى وغير عربى، ولا تعصب لجنس أو عرق أو قبيلة، فالله سبحانه يقول {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات: 13، والأحاديث كثيرة فى النهى على العصبية، والتفرق بسبب من الأسباب الذاتية أو العارضة كالغنى والنسب والعلم والجاه.
بعد هذا نأتى إلى الأحزاب السياسية القائمة فى ظل النظم الديمقراطية، التى من أهم مظاهرها حرية الفكر وإبداء الرأى، فمن أجل هذه الحرية اختلفت الآراء فى خدمة الوطن، كل جماعة ترى أن رأيها ومنهجها هو الذى يحقق الخير دون رأى غيرها.
ولو أن هذه الأحزاب تلاقت واتفقت على منهج سليم لخدمة الوطن لكان الخير مرجوا منها، لكن يعيبها أن كل حزب معتد بفكرته فى هذا المجال، ويعتقد أنه هو الجدير وحده بتسلم الزمام لقيادة الشعب، فالهدف أولا وبالذات هو الحكم، ثم بعد ذلك يكون التفكير فى الإجراءات اللازمة لخدمة الوطن، وقد توفق وقد تخفق بمقدار ما عندها من إخلاص للمصلحة العامة أو الخاصة.
مع أن كل حزب يمكنه أن يخدم وطنه بعيدا عن الحكم، ويقدم نصائحه بالحكمة والأسلوب الحضارى لمن يتولى القيادة، ولا يتم التوفيق لهذه الأحزاب إلا إذا صحت عقيدتها فى الله، والتزمت الأخلاق التى أجمعت عليها كل الأديان، وحافظت على الخطوط العريضة التى وضعتها الرسالات للإصلاح، كما قال سبحانه لآدم حين أهبطه إلى الأرض {فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} طه: 123، 124(10/220)
تحية العلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن تحية العلم شرك بالله، فلا يعظم إلا الله وحده، فهل هنا صحيح؟
الجواب
العَلَمُ رمز للوطن فى العصر الحديث، وكان عند العرب رمزا للقبيلة والجماعة، يسير خلفه ويحافظ عليه كل من ينتسب إلى القبيلة أو الجماعة، وكلما كان العلم مرفوعا دل على عزة أهله، وإذا انتكس دل على ذلهم، ويعرف عند العرب باسم الراية أو اللواء.
يقول ابن حجر فى غزوة خيبر: اللواء هو العلم الذى يحمل فى الحرب يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد صرح جماعة بترادف اللواء والراية، وقال آخرون بتغايرهما، فقد روى أحمد والترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض، وجزم بتغايرهما ابن العربى فقال: اللواء ما يعقد فى طرف الرمح ويلوى عليه، والراية ما يعقد منه ويترك حتى تصفقه الرياح، وقيل: اللواء العلم الضخم وهو علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب.
وفى شرح الزرقانى على المواهب اللدنية كلام كثير عن العلاقة بين الراية واللواء "ج 1 ص 390" وذكر فى غزوة تبوك أن حامل اللواء كان زيد بن حارثة، ولما قتل تناوله جعفر بن أبى طالب وقاتل حتى قتل، ثم تناوله عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، فأخذ اللواء ثابت بن أقرم العَجْلاَنى وتقدم به إلى خالد بن الوليد وسلمه إياه لجدارته كما ذكر أن جعفرا لما قطعت يده اليمنى حاملة اللواء أخذه بيده اليسرى، فلما قطعت يداه احتضنه بعضديه ثم قتل، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يعوضه الله بدل اليدين جناحين فى الجنة "ج اص 267 وما بعدها".
والمهم أن العلم أو الراية أو اللواء كان يحرص عليه من يحمله، وإذا وقع رفعه غيره للدلالة على أن فى الجيش قوة، ترفع بها معنوياتهم ليصمدوا.
فتحية العلم بالنشيد أو الإشارة باليد فى وضع معين إشعار بالولاء للوطن والالتفاف حول قيادته والحرص على حمايته، وذلك لا يدخل فى مفهوم العبادة له، فليس فيها صلاة ولا ذكر حتى يقال: إنها بدعة أو تقرب إلى غير الله(10/221)
التوبة من المال الحرام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لو كان عند الإنسان مال حرام وأراد أن يتوب إلى الله فكيف يتصرف فى هذا المال؟
الجواب
من المعلوم أن الله سبحانه نهانا عن أكل الحرام، وقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله لا يقبل التصدق إلا بالمال الحلال، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وأن القليل من الحرام فى بطن الإنسان أو على جسمه يمنع قبول الدعاء، ويؤدى فى الآخرة إلى النار، والمال الحرام يجب التخلص منه عند التوبة، وذلك برده إلى صاحبه أو إلى ورثته إن عرفوا، وإلا وجب التصدق به تبرؤا منه لا تبرعا للثواب.
قال الإمام الغزالى فى كتابه "الإحياء"ج 2 ص 116 فى خروج التائب عن المظالم المادية: فإن قيل: ما دليل جواز التصدق بما هو حرام، وكيف يتصدق بما لا يملك وقد ذهب جماعة إلى أن ذلك غير جائز لأنه حرام، وحكى عن الفضيل أنه وقع فى يديه درهمان فلما علم أنهما من غير وجههما رماهما بين الحجارة وقال: لا أتصدق إلا بالطيب، ولا أرضى لغيرى ما لا أرضاه لنفسى؟ .
فنقول: نعم ذلك له وجه احتمال، وإنما اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس.
فأما الخبر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق بالشاة المصلية التى قدمت إليه فكلمته بأنها حرام، إذ قال صلى الله عليه وسلم "أطعموها الأسارى" - والحديث قال فيه العراقى: رواه أحمد وإسناده جيد - ولما نزل قوله تعالى {الم. غلبت الروم} كذبه المشركون وقالوا للصحابة: ألا ترون ما يقول صاحبكم؟ يزعم أن الروم ستغلب، فخاطرهم - أى راهنهم - أبو بكر رضى الله عنه، بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حقق الله صدقه وجاء أبو بكر بما قامرهم به قال صلى الله عليه وسلم "هذا سحت فتصدق به " وفرح المؤمنون بنصر الله، وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن الرسول صلى الله عليه وسلم له فى المخاطرة مع الكفار.
وأما الأثر فإن ابن مسعود اشترى جارية فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن، فطلبه كثيرا فلم يجده، فتصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عنه إن رضى، وإلا فالأجر لى، وروى أن رجلا سولت له نفسه فَغَلَّ مائة دينار من الغنيمة ثم أتى أميره ليردها عليه فأبى أن يقبضها وقال له: تفرق الجيش، فأتى معاوية فأبى أن يقبض، فأتى بعض النساك فقال ادفع خمسها إلى معاوية وتصدق بما بقى. فلما بلغ معاوية قوله تلهف إذ لم يخطر له ذلك. وذهب أحمد بن حنبل والحارث المحاسبى وجماعة من الورعين إلى ذلك.
وأما القياس فهو أن يقال: إن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلى خير، إذ قد وقع اليأس من مالكه، وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى من إلقائه فى البحر، فإذا رميناه فى البحر فقد فوتناه على أنفسنا وعلى المالك ولم تحصل منه فائدة، وإذا رميناه فى يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركة دعائه، وحصل للفقير سَدُّ حاجته، وحصول الأجر للمالك بغير اختياره فى التصدق لا ينبغى أن ينكر، فإن فى الخبر الصحيح أن للغارس والزارع أجرا فى كل ما يصيبه الناس والطيور من ثماره وزرعه، وذلك بغير اختياره، وأما قول القائل:
لا نتصدق إلا بالطيب فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا، ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر، وترددنا بين التضييع وبين التصدق، ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع. انتهى.
وقد أخذ برأى الغزالى هذا -إجابة دار الفتوى على مثل هذا السؤال "الفتاوى الإسلامية - المجلد العاشر ص 3571".
ويستأنس للقول بجواز توجيه المال الحرام إلى منفعة المسلمين إذا لم يعرف صاحبه، بما فعله عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع المتسول الذى طلب منه طعاما فأحاله على صحابى فأطعمه، ثم عاد يسأل فوجده محترفا دون حاجة، ومعه زاد كثير، فأمر بطرحه أمام إبل الصدقة لأنها منفعة عامة للمسلمين.
وجاء فى تفسير القرطبى"ج 3 ص 366"ما نصه.
قال علماؤنا: إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن كان حاضرا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك فى أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر ولم يَدْرِ كَمْ الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذى أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع، إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى فى يده إلا أقل ما يجزئه فى الصلاة من اللباس، ما يستر العورة وهى من سرته إلى ركبته، وقوت يومه، لأنه الذى يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه وإن كره ذلك من يأخذه منه.
وفارق ها هنا المفلس فى قول أكثر العلماء، لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء، بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه، وأبو عبيدة وغيره يرى ألا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه فى الصلاة وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته، ثم كلما وقع بيد هذا شىء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه(10/222)
من آداب تغير المنكر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمسلم اقتحام منزل مسلم أو مسيحى إذا علم أن به خمرا، بقصد تغيير المنكر؟
الجواب
اشترط العلماء فى تغيير المنكر - كما جاء فى إحياء علوم الدين للإمام الغزالى - أربعة شروط: أن يكون منكرا، وأن يكون موجودا فى الحال، وأن يكون ظاهرا من غير تجسس، وأن يكون معلوما كونه منكرا بالاتفاق دون اجتهاد.
ودليل منع التجسس واقتحام المنزل الذى يمارس فيه منكر قوله تعالى {ولا تجسسوا} الحجرات: 12، وقوله صلى الله عليه وسلم "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو كان فى جوف بيته " رواه أبو داود والترمذى وقال:
حديث حسن.
قال الماوردى فى كتابه "الأحكام السلطانية": لا يجوز التجسس حتى للإمام والمحتسب - أى الموظف المنوط به الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر-إلا إذا غلب على ظنه استمرار قوم بالمعصية لأمارة وآثار ظهرت، ولو لم يتجسس لانتهكت حرمة يفوت استدراكها، كما لو أخبره ثقة عنده بخلو رجل بامرأة للزنى، أو برجل ليقتله، بل يجوز هذا لغير المحتسب(10/223)
مصارعة الثيران
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى مصارعة الثيران، حيث يقتل المصارع الثور، وقد يصرعه الثور، وهل يتساوى هذا بالصيد فى الصحراء حيث يطارد الصياد الحيوان وقد يقتله بالرمح أو البندقية، ويمكن أن يقتل الحيوان صائده؟
الجواب
المصارعة بين الإنسان والإنسان عمل قديم، ولها أغراض عدة، فإن كانت من أساليب الاستعداد للجهاد والدفاع عن الحرمات فهى مشروعة.
أما مصارعة الثيران فالظاهر فيها أنها من باب المفاخرة بالشجاعة، لأن قصد الخير فيها غير واضح، ولذلك فهى غير مشروعة لأمرين:
الأول: أن فيها إيذاء للحيوان بدون مبرر، بمعنى أنه سينتهى إلى موته، ولحمه لا يؤكل شرعا لأنه لم يذبح بالطريقة الشرعية، أخرج الشافعى وأبو داود والحاكم وصححه حديث؟ " ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها" قيل: وما حقها يا رسول الله؟ قال "يذبحها ويأكلها ولا يقطع رأسها ويرميها" نيل الأوطار للشوكانى "ج 8 ص 130، 142 ".
الثانى: أن مصارعة الثيران مخاطرة قد تؤدى إلى قتل الإنسان بدون هدف مشروع، والله يقول {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} البقرة: 195.
وذلك إلى جانب ما فيها من قصد الفخر والرياء وما يصاحبها من منكرات تلزم لإعداد الحلبة والشهود الذين يحضرون، مع عدم الحاجة إليها فإن التمرين على المصارعة الحلال موجود بدون هذه المخاطر(10/224)
النكتة والمزاح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فيما يسمى بالنكتة؟
الجواب
النكتة أو الفكاهة شىء من قول أو فعل يقصد به غالبا الضحك وإدخال السرور على النفس، وينظر فى حكمها إلى القصد منها وإلى أسلوبها، فإن كان المقصود بها استهزاء أو تحقيرا مثلا، أو كان فى أسلوبها كذب مثلا كانت ممنوعة، وإلا فلا وهى تلتقى مع المزاح فى المعنى، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا كما رواه أحمد، وجاء فى سنن الترمذى: قالوا إنك تداعبنا، قال "إى ولا أقول إلا حقا" وهو حديث حسن.
ومن حوادثه أن رجلا قال له: احملنى على بعير، فقال " بل نحملك على ابن البعير" فقال: ما أصنع به؟ إنه لا يحملنى، فقال صلى الله عليه وسلم " ما من بعير إلا وهو ابن بعير" رواه أبو داود والترمذى وصححه.
"الأذكار للنووى ص 322" وقيل إن السائل امرأة.
وأنبه إلى الإقلال من النكتة وعدم التمادى فيها، فقد تجر إلى المحرم، ففى الحديث "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوى بها سبعين خريفا فى النار" رواه الشيخان.
وقال عمر رضى الله عنه: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استُخف به. وقال عمر بن عبد العزيز: اتقوا الله وإياكم والمزاح، فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح. يقول النووى فى كتابه المذكور: قال العلماء: إن المزاح المنهى عنه هو الذى فيه إفراط ويداوم عليه، لأنه يورث قسوة القلب ويشغل عن ذكر الله ويؤول فى كثير من الأوقات إلى الإيذاء ويورث الأحقاد ويسقط المهابة والوقار، وما سلم من ذلك فلا مانع منه فقد كان الرسول يفعله نادرا للمصلحة وتطييب النفس والمؤانسة، وهذا لا مانع منه قطعا بل هو سنة مستحبة إذا كان بهذه الصفة، فاعتمد ما نقلناه عن العلماء وحققناه فى هذه الأحاديث وبيان أحكامها، فإنه مما يعظم الاحتياج إليه وبالله التوفيق(10/225)
نسب الفاطميين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قامت فى مصر دوله باسم الدولة الفاطمية وهى التى أنشأت الجامع الأزهر وبعض الناس يشككون فى نسب هذه الدولة إلى السيدة فاطمة رضى الله عنها فما رأيكم فى هذا؟
الجواب
هذه الدولة الفاطمية قامت بالفعل وكانت لها آثارها، ومن أهمها الجامع الأزهر الشريف، ثم انتهت هذه الدولة كما انتهى غيرها، والشيعة يذكرونها بالخير فى أمور خدمت مذهبهم، وكما هى العادة لم تسلم من النقد كما لم تسلم دولة أخرى.
والأدب الإسلامى بوجه عام يقض بالشكر لمن قدم خيرا للناس وللدين بوجه خاص، والتاريخ الإسلامى يقدر لهم هذه المأثرة وهى الجامع الأزهر الشريف، الذى شاء الله أن يكون منارة تشع على العالم كله المعرفة الصحيحة لمبادئ الدين، بعيدا عن التعصب لمذهب معين، وأن يكون منتجعا لطلاب العلم من كل الأمصار، وملاذا لكل من وفد إلى مصر من العلماء.
وإذا كانت هناك بعض السلبيات لهذه الدولة فلا ينبغى أن تطغى على الإيجابيات الأخرى، والإنصاف فى الحكم يقتضينا أن ننظر بعينين لا بعين واحدة، والذين حملوا على هذه الدولة شككوا فى نسبها الذى اتخذته منطلقا لدعوتها ومنافستها للخلافة العباسية فى مقرها بغداد.
وممن طعن فى إمامة الفاطميين الإمام السيوطى فى كتابه "تاريخ الخلفاء" وبرر ذلك بأمور منها:
1 - أنهم غير قرشيين وإنما سمتهم بالفاطميين جهلة العوام، وإلا فجدهم مجوسى.
2 - أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم من أظهر سب الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له.
3 -أن مبايعتهم صدرت والإمام العباسى قائم موجود سابق البيعة فلا تصح.
4 - أن الحديث ورد بأن هذا الأمر إذا وصل إلى بنى العباس لا يخرج منهم حتى يسلموه إلى عيسى بن مريم أو المهدى.
ذلك جزء مما عرفته عنهم، وأرى أن البحث فيه ليس له كبير فائدة فى هذه الأيام، بل قد يضر، فلنتركه لأن الله لا يحاسبنا عليه(10/226)
أوليات الخلفاء الراشدين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هناك أمور كان أول ظهورها على يد بعض الحكام المسلمين، فهل لهم أجر على ذلك؟
الجواب
معلوم أن الاجتماع البشرى فى تطور، تحدث فيه أشياء لم تكن من قبل.
دعت إليه الظروف واقتضتها الأحداث، فما كان منها خيرا كان لمن أحدثها ولمن سار عليها ثواب، وما كان غير ذلك كان فيه العقاب، فقد صح فى الحديث "من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء ومن سن فى الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شىء" رواه مسلم وغيره.
والمسلم يطمئن بوجه عام إلى ما أحدثه الخلفاء الراشدون من خير، لأننا مأمورون باتباع هديهم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم "وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ" رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحه. وقال الترمذى: حديث حسن صحيح. وهناك أمور حدثت أول ما حدثت على أيدى الخلفاء الراشدين فصارت سنة متبعة، منها ما ذكره السيوطى فى كتابه "تاريخ الخلفاء"ص 16، حيث قال:
قال العلماء: أول من اتخذ بيت المال، وأول من سمى المصحف مصحفا أبو بكر الصديق. وأول من أرخ بالهجرة، وأول من أمر بصلاة التراويح، وأول من وضع الديوان عمر بن الخطاب، وأول من زاد الأذان فى الجمعة، وأول من رزق المؤذنين عثمان بن عفان.
ثم ذكر السيوطى أوليات لكثير من الخلفاء والأمراء والملوك لا يلزم الاقتداء بهم فيها، فأكثرها دنيوى تنظيمى، يخضع لبيان حكم الشرع فيها من الأدلة المعتبرة(10/227)
أوانى الذهب والفضة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندى بعض هدايا من الفضة، وبعض من الذهب، أو مموه به فهل يحرم استعمالها؟
الجواب
يحرم الأكل والشرب فى الأوانى المتخذة من الذهب والفضة، وذلك لوجود النص فيها، فقد روى البخارى ومسلم عن حذيفة رضى الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا فى آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا فى صحافها، فإنها لهم فى الدنيا ولكم فى الآخرة" ورويا أيضا عن أم سلمة رضى الله عنها قوله صلى الله عليه وسلم "إن الذى يشرب فى آنية الفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم " ومعنى يجرجر يصب. وفى رواية مسلم "إن الذى يأكل أو يشرب فى إناء الذهب أو الفضة. .. " وهذا التحريم شامل للرجال والنساء، والمباح للنساء هو التحلى والتزين، وهو نص فى تحريم الأكل والشرب ورأى بعض الفقهاء كراهة ذلك دون التحريم، وأن الأحاديث الواردة فى النهى هى لمجرد التزهيد، لكن الحق هو التحريم، فالوعيد شديد فى رواية أم سلمة.
أما الاستعمالات الأخرى كأدوات التطيب والتكحل فهى ملحقة فى التحريم بالأكل والشرب عند جماعة من الفقهاء، أما المحققون فلم يحرموها، بل قالوا بالكراهة، مستدلين بحديث رواه أحمد وأبو داود "عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبا" وجاء فى "فتح العلاَّم "أن الحق هو عدم تحريم غير الأكل والشرب، ودعوى الإجماع غير صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوى بغيره، لأنه ورد بتحريم الأكل والشرب، فعدلوا عنه إلى الاستعمال، وهجروا العبارة النبوية، وجاءوا بلفظ عام من تلقاء أنفسهم.
هذا فى الاستعمال أما الاقتناء دون استعمال فالجمهور على منعه أيضا، ورخصت فيه طائفة. أما الأوانى والتحف والحلى من غير الذهب والفضة، سواء من الأحجار والمعادن مهما غلت قيمتها فلا حرمة فى اقتنائها واستعمالها، لأن الأصل فى الأشياء هو الحل، ولم يرد دليل بالتحريم(10/228)
الثور والأرض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما زالت بعض الكتب تذكر أن الأرض محمولة على قرن ثور، وأن الزلازل تكون عندما يغيِّر حملها فيقلها إلا قرنه الآخر، فهل لهذا الكلام أصل؟
الجواب
نعم لهذا الكلام أصل ولكنه كاذب وهو منقول عن وهب بن منبه الذى تنقل عنه أخبار عجيبة، وذكره صاحب كتاب "مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار" وذكر فيه غرائب فى كيفية حمل الثور للأرض، وأن له أربعة آلاف عين ومثلها أنوف وأفواه وقوائم، واسمه "كيوثا" وهو قائم على حوت كبير لو وضعت البحار كلها فى إحدى مناخره لكانت كخردلة فى فلاة، واسمه "بهموت ".
وكل هذا كلام لا دليل عليه من قرآن أو سنة صحيحة، ولم يقل به أحد من العلماء المختصين، وإن كان علمنا بالكون ما يزال ضئيلا، فنترك ذلك إلى الله، ولنحاول أن نستفيد مما سخره الله لنا فيه، ولنحذر كل الحذر مما تمتلئ به بطون الكتب القديمة من الخرافات والإسرائيليات "انظر مادة - ثور - فى كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميرى"(10/229)
الأكل على المائدة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
دعوت بعض زملائى إلى مأدبة، فلما هيأت لهم الطعام غضب أحدهم وقال الأكل على المائدة بدعة محرمة، وأبى أن يأكل وجلس على الأرض يتناول الطعام، ودار نقاش طويل حول هذا الموضوع، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
نبهنا كثيرا إلى عدم الجرأة فى الفتيا بغير علم، وعدم الإسراع بإطلاق اسم البدعة على كل شىء جديد فقد يكون له أصل قديم، وعدم الاستطراد فى الحكم على كل بدعة بأنها ضلالة، وكل ضلالة فى النار.
وكنت ناويا عدم التحدث فى هذا الموضوع الدنيوى الذى لم يرد فيه نهى بصريح القول، فى القرآن والسنة، لولا أن بعض الناس يجعلون من الحبة قبة، ويشغلون الناس بأمور مضت عدة قرون على حسم الخلاف فيها، ليضيعوا الوقت الثمين ويفرقوا بين الجماعة، ويعطوا الفرصة للأعداء لاتهام الدين بالجمود وعدم الصلاحية لقيادة الإنسانية إلى الخير كما يقول المسلمون.
وردت أحاديث فى هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى تناول الطعام، منها ما رواه قتادة عن أنس قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم خوان قط، فقال قتادة لأنس: فعلام كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر.
وهو حديث صحيح ثابت أخرجه الترمذى وقال فيه: حديث حسن غريب، أى رواه راو واحد فقط، وروى مسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لو كان الضب حراما ما أكل على مائدة النبى صلى الله عليه وسلم. وفى حديث خرَّجه الثقات عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تصلى الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة" ذكر ذلك القرطبى فى تفسيره " ج 6 ص 373، 4 37 ".
المائدة كل شىء يمد ويبسط، مثل المنديل والثوب، والخوان - بضم الخاء وكسرها-هو ما ارتفع عن الأرض بقوائمه، والسفرة-كما قال ابن الأثير فى النهاية - هى الطعام الذى يتخذه المسافر، وأكثر ما يحمل فى جلد مستدير، فنقل اسم الطعام إلى الجلد وسمى به، ومنه حديث عائشة رضى الله عنها:
صنعنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبى بكر سفرة فى جراب لما هاجرا، أى صنعنا طعاما لهما عند الهجرة.
من هذا نرى أن المائدة الشاملة للسفرة بلا قوائم كان يأكل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم والعرب فى أيامه، أما الخوان وهو ما له قوائم ترفعه عن الأرض فلم يأكل عليه. فهل يفهم من هذا أن الأكل على الخوان - المنضدة، الترابيزة. . . -بدعة إن لم تك محرمة فهى مكروهة؟ .
فى بحث واسع عن البدعة اختلف العلماء فى عدم الاقتداء بالرسول فى أفعاله، هل هو حرام أو مكروه، أو ما تركه هل يجب تركه أو يُسَنُّ تركه، وهل الشىء الجديد الذى لم يرد فيه أمر ولا نهى، يعتبر بدعة ضلالة تؤدى إلى النار؟ أنا أترك الحديث فى هذه النقطة لحجة الإسلام الإمام الغزالى الذى عالجها قبل أن يتوفى سنة 505 هجرية.
جاء فى كتابه الكبير "إحياء علوم الدين "ج 2 ص 3: أن من آداب الأكل أن يوضع الطعام على السفرة - المفروشة على الأرض - وذكر أن هناك أربعة أشياء حدثت بعد النبى صلى الله عليه وسلم، وهى الموائد والمناخل والأشنان -مثل الصابون -والشبع. ثم قال:
واعلم أنا وإن قلنا: الأكل على السفرة أولى، فلسنا نقول: الأكل على المائدة منهى عنه نهى كراهة أو تحريم، إذ لم يثبت فيه نهى، وما يقال: إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا، بل المنهى بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب فى بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب، وليس فى المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل، وأمثال ذلك مما لا كراهة فيه.
ثم قال:
والأربع التى جمعت فى أنها بدعة ليست متساوية، بل الأشنان حسن لما فيه من النظافة، فإن الغسل مستحب للنظافة، والأشنان أتم فى التنظيف، وكانوا لا يستعملونه لأنه ربما كان لا يعتاد عندهم، أو لا يتيسر، أو كانوا مشغولين بأمور أهم من المبالغة فى النظافة، فقد كانوا لا يغسلون اليد أيضا، وكانت مناديلهم أخمص أقدامهم -باطن الأقدام - وذلك لا يمنع كون الغسل مستحبا.
وأما المنخل فالمقصود منه تطييب الطعام، وذلك مباح ما لم ينته إلى التنعم المفرط، وأما المائدة فتيسير للأكل، وهو أيضا مباح ما لم ينته إلى الكبر والتعاظم، وأما الشبع فهو أشد هذه الأربعة، فإنه يدعو إلى تهييج الشهوات وتحريك الأدواء فى البطن. فلتدرك التفرقة بين هذه المبدعات.
أعتقد أنه ليس بعد كلام الإمام الغزالى كلام فى هذا الموضوع -بل وغيره من الموضوعات -فليفهم هذا من يفتون بغير علم، حتى لا يَضِلُّوا ولا يُضَلُّوا والله سبحانه وتعالى يقول {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} النحل: 43 والأنبياء: 7؟(10/230)
القصاص من الذكر للأنثى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتص منه بل تجب عليه الدية؟
الجواب
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الرجل إذا قتل امرأة فإنه يقتل بها، وحكى ابن المنذر الإجماع على ذلك. ونقل عن الحسن البصرى أن الرجل لا يقتل بالأنثى، وهو قول شاذ مردود، لأن كتاب عمرو بن حزم الذى تلقاه الناس بالقبول جاء فيه أن الذكر يقتل بالأنثى. ولا تجب الدية إلا عند العفو عن القصاص(10/231)
نزر وفرض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نذرت لله إن تحقق غرض أن أحج، فتحقق، والآن لم أكن، قد حججت فهل يكفى حج واحد عن النذر والفرض، أم لابد من حج لكل منهما، وبأيهما أبدا؟
الجواب
جمهور العلماء على أن الفرضين لا يتداخلان، بل لابد من حج لكل واحد منهما، وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه يكفى عنهما حج وأحد.
وعلى رأى الجمهور بأيهما يبدأ؟ قال الكثيرون: يبدأ بفريضة الحج، ثم يفى بالنذر بعد ذلك، لأن الحج مع الاستطاعة فريضة، والوفاء بالنذر واجب، والفرض أقوى من الواجب فيبدأ به، وهذا على رأى من يفرقون بينهما أما من لا يفرق فيترك الأمر فى الخيار للشخص(10/232)
نقل جزء من الخنزير إلى الإنسان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يفكر بعض العلماء فى نقل بنكرياس من خنزير بدل بنكرياس إنسان من أجل علاج مرضى السكر فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
على الرغم من قول جمهور الفقهاء بنجاسة الخنزير، وقول بعضهم بطهارته إنهم متفقون على أن ميتة الحيوانات نجسة، وهى التى لم تذبح ذبحا شرعيا أو كان أكلها حراما حتى لو ذبحت كالحمار مثلا. والنجاسة تشمل كل جزء من أجزاء الميتة، غير أن جلد الميتة يطهر بالدباغ إلا جلد الكلب والخنزير عند الجمهور، ورأى داود الظاهرى وأبو يوسف من الحنفية تعميم الطهارة بالدبغ لكل الحيوانات، لعموم الأحاديث الواردة فى ذلك.
أما غير الجلد من الميتة فلا يطهر بالدباغ ولا بأية مادة أخرى ويبقى على نجاسته، كما اتفق الفقهاء على أن ما يؤخذ من الحيوان حال حياته له حكم ميتته، مع استثناء شعر وصوف ووبر مأكول اللحم فهى طاهرة، قال تعالى: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين} النحل:85، وجاء فى الحديث الذى رواه الحاكم وصححه "ما قطع من حى فهو كميتته ".
ومن هنا نقول: إن الجزء الذى ينزع من الخنزير لوصله بجسم الإنسان نجس باتفاق الفقهاء، سواء نرغ منه وهو حى - لأن ما قطع من الحى فهو كميته وميتته نجسة باتفاق -أو نرغ منه بعد موته فهو نجس أيضا، وإذا كان رأى داود وأبى يوسف أن جلده يطهر بالدباغ، فأى جزء آخر غير الجلد لا يطهر بالدباغ.
وإذا كان الأمر كذلك وهو الاتفاق على نجاسة ما يؤخذ من الخنزير حيا أو ميتا فهل يجوز نقل جزء منه إلى جسم الإنسان للعلاج؟ سبق القول فى جبر عظم الإنسان بعظم نجس وخلاصته: أن فقهاء المالكية والحنابلة والشافعية قد صرحوا بأن مداواة الإنسان بشىء نجس جائز عند الضرورة التى صوروها بعدم وجود شىء طاهر، ولو فرض أنه لا توجد ضرورة وحصلت المداواة بالنجس وكان قلعه فيه ضرر لا ينزع وتصح الصلاة به، وهناك قول بأن الجزء النجس إذا اكتسى لحما لا ينزع وإن لم يخف الهلاك. كما أن الحنفية قالوا: إذا قضت الضرورة بوصل العظم المكسور بعظم نجس فلا حرج ولا إثم، ما دام يتعذر نزعه إلا بضرر.
بعد عرض هذه الأقوال [الملخصة من بحث الشيخ جاد الحق على جاد الحق] أقول: زرع بنكرياس خنزير مكان بنكرياس الإنسان لأنه علاج فعال لمرض منتشر لا يقوم غيره الآن مقامه، لا بأس به. والرأى القائل بالجواز وعدم النزع إذا اكتسى العظم لحما يؤيد ما أقول، وبخاصة أن البنكرياس سيزرع فى باطن الجسم لا فى ظاهره، وباطن الجسم مملوء بما نحكم عليه بالنجاسة لو خرج إلى الظاهر كالبول والبراز والدم، ونصلى ونحن حاملون لذلك لأننا لا نستغنى عنه بالطبيعة، فكيف لا يكون ما يزرع فى الداخل من الشىء النجس كهذه الأشياء؟ وإذا تحدث البعض عند الحكم وقال: تجوز الصلاة مع الوصل بالعظم النجس، ورتب الحكم على النجاسة، فإن من ابتلع شيئا نجسا محتاجا إليه فى العلاج كانت صلاته صحيحة ولا حاجة إلى تطهير شىء، اللهم إلا الفم الذى ابتلع منه الدواء وما وقع على ظاهر الجسم، بصرف النظر عن كون الابتلاع حراما أو حلالا، حسب الحاجة والضرورة وعدمها، لأن الابتلاع أكل أو شرب ينظر فيه إلى المادة إن كانت حراما أو حلالا. ولو دخلت المادة النجسة إلى الجسم بغير طريق الأكل والشرب - كالحقن فى الوريد أو العضل، أو تحت الجلد - هل يقال: إن ذلك حرام؟ ربما يقال ذلك لأن الحديث يقول "لم يجعل الله شفاء أمتى فيما حرم عليها"ولكن للضرورة أحكام، إن الأمر ما دام فيه احتمال للجواز لا ينبغى أن نجزم بحرمته، وبخاصة إذا ثبتت فائدة الدواء بصورة فعالة فى مرض يعانى منه الكثيرون. هذا هو رأيى فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمنى، وأرجو العفو منه سبحانه، والأعمال بالنيات(10/233)
من أحكام الردة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لو تاب المرتد هل يقضى ما فاته من واجبات زمن الردة، وإذا لم يتب هل يقتل عاجلا أو يؤجل قتله، وكيف يكون التصرف معه بعد قتله؟
الجواب
معلوم أن المرتد هو من ينكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، ويستوى فى ذلك من ولد مسلما ومن أسلم بعد كفر. ويستوى فى ذلك أيضا من اعتنق دينا يقر عليه أهله كاليهودية والنصرانية ومن لم يعتنق هذين الدينين. وقد جاء فى عقوبته الدنيوية قوله صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخارى ومسلم.
وبصورة موجزة ألخص ما قاله الماوردى فى كتابه "الأحكام السلطانية " ص 55، فقد جاء فيه: إن كان المرتدون أفرادا لم يتحيزوا بدار يتميزون بها عن المسلمين فلا نقاتلهم. وإنما نحاورهم، فإن ذكروا شبهة فى الدين أوضحت لهم بالحجج والأدلة حتى يتبين لهم الحق. وطلبنا منهم التوبة مما دخلوا فيه من الباطل، فإن تابوا قبلت توبتهم وعادوا إلى الإسلام كما كانوا، وعليهم بعد التوبة قضاء ما تركوه من الصلاة والصيام فى زمان الردة، لاعترافهم بوجوبه قبل الردة، وقال أبو حنيفة: لا قضاء عليهم كمن أسلم عن كفر. ومن كان من المرتدين قد حج فى الإسلام قبل الردة لم يبطل حجه بها ولم يلزمه قضاؤه بعد التوبة، وقال أبو حنيفة، قد بطل بالردة ولزمه القضاء بعد التوبة.
ومن أقام على ردته ولم يتب وجب قتله، رجلا كان أو امرأة. وقال أبو حنيفة: لا أقتل المرأة بالردة. وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالردة امرأة كانت تكنى "أم رومان ". ولا يجوز إقرار المرتد على ردته بجزية ولا عهد، ولا تؤكل ذبيحته، ولا تنكح منه امرأة.
واختلف الفقهاء فى قتل المرتدين هل يعجل فى الحال أو يؤجلون فيه ثلاثة أيام؟ هناك قولان، قول بتعجيل قتلهم فى الحال حتى لا يؤخر لله حق، وقول بإنظارهم ثلاثة أيام لعلهم يتوبون، وقد أنظر على كرم الله وجهه "المستورد العجلى" بالتوبة ثلاثة أيام ثم قتله بعدها، والقتل يكون بالسيف، وقال ابن سريج من أصحاب الشافعى: يضرب بالخشب حتى يموت، لأنه أبطأ قتلا من السيف، ولعله يستدرك بالتوبة، وإذا قتل لم يغسل ولم يصل عليه ولا يدفن فى مقابر المسلمين، بل ولا فى مقابر المشركين ويكون ماله فيئا فى بيت مال المسلمين، لأنه لا يرثه عنه مسلم ولا كافر. وقال أبو حنيفة: يورث عنه ما اكتسبه قبل الردة، ويكون ما اكتسبه بعد الردة فيئا وقال أبو يوسف يورث عنه ما اكتسبه قبل الردة وبعدها.
"تذييل ".
لا يقال إن الأمر بقتل المرتد مصادرة لحرية العقيدة، لأن المرتد عن الدين قد دخل فيه غالبا للكيد للمسلمين {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} آل عمران: 72، فقتله هو دفاع عن المسلمين.
أما الكافر الأصلى فالإسلام يعرض عليه دون إكراه، وإن لم يؤمن عاملناه على ضوء قوله تعالى {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} التوبة: 7(10/234)
تكرير السكر بالعظم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كانت مصانع السكر تستعين بالعظام المحروقة لتكريره، فهل يكون السكر نجسا؟
الجواب
رفع مثل هذا السؤال إلى مفتى مصر المرحوم الشيخ بكرى الصدفى سنة 1325 هجرية فأجاب بأن العظم إذا كان من ميتة فهو طاهر فى رواية، ما عدا ميتة الكلب والخنزير "الفتاوى الإسلامية " المجلد الثالث صفحة 826(10/235)
الأرضون السبع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل توصل العلماء إلى تحقيق أن الأرضين سبع كما قال الله تعالى {الله الذى خلق سبع سموات ومن الأرضى مثلهن} ؟
الجواب
إضافة إلى الإجابة المنشورة فى ص 133 من المجلد الثانى نقول: كلام الله صادق لا ريب فيه، ويجب الإيمان به كما يجب الإيمان بالغيب الذى لم نره، ولكن ذلك لا يمنع البحث فى تركيب الأرض لمعرفة طبقاتها، وسواء وصل البحث بطريقة علمية ثابتة إلى أن طبقات الأرض سبعة أم لم يصل فالإيمان بكلام الله واجب.
وقد نشر الدكتور محمود سراج الدين محمد عفيفى-بقسم الكيمياء بكلية العلوم بجامعة الأزهر- بحثا قال فيه: أثبتت الدراسات الجيوفيزيائية أن الجسم الصلب فى الأرض مكون من:
1 -القشرة الأرضية.
2 -طبقة من السليكات الخفيفة والثقيلة.
3 - طبقة من الأكاسيد والكبريتيدات.
4 -سائل من الحديد والنيكل.
5 - نواة الأرض المكونة أيضا من الحديد والنيكل، فإذا أضفنا إليها.
6 - الغلاف الجوى.
7 -الغلاف المائى، أصبح العدد سبعة.
وأيضا: بما أن المادة مكونة من ذرات تحمل كل صفات المادة فإننا نرى وحدانية الخالق فى مكونات الأرض وهى الذرات المختلفة للعناصر المكونة للأرضية ومن المعروف أن جميع الذرات تتكون من مدارات رئيسية هى:
K.L.
المبادئ
.N.O.P.
السؤال
هى أيضا سبعة تتنقل بينها الإليكترونات لتعطينا كل الصفات الكيماوية والطبيعية والرقم 7 لا يتوقف عند هذا، فإن جائزتى نوبل لعامى 63، 1975 م أعطيت لعلماء لأنهم اكتشفوا أمورا متعلقة بالتركيب المدارى لنواة الذرة، ظهر فيها رقم 7 "جريدة الأخبار: 19/5/ 1976 "(10/236)
الطريقة البرهامية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هناك كلام حول الطريقة البرهامية، نريد إلقاء الضوء عليها ورأى الدين فيها؟
الجواب
الطريقة البرهامية إحدى الطرق الصوفية، والطرق الصوفية بوجه عام مدارس تربوية، إن كان منهجها متفقا مع الدين عقيدة وشريعة فهى مشروعة، وإلا كانت غير مشروعة، ووجب تقويمها بالحكمة والموعظة الحسنة "راجع الجزء الثانى من كتاب: بيان للناس من الأزهر الشريف " وقد سبق الحديث عنها فى كتابنا هذا " أحسن الكلام فى الفتاوى والأحكام " " ص 246 من المجلد الأول ".
وقد ثار جدل حول الطريقة البرهامية ألخصه منقولا مما كتب عنها فيما يلى:
جاء فى كلام السيد/ عصمت أبو القاسم القاضى قنصل مصر بالخرطوم وفى كلام غيره نشر بجريدة الأهرام بتاريخ 6/ 2/ 1976 م أن الطريقة البرهامية المنسوبة إلى إبراهيم الدسوقى كانت منتشرة فى السودان، وخليفتها هو " ابن محمد البتيت " الذى توارثها عن أجداده، وحاول " محمد عثمان عبده " أن ينصب نفسه خليفة عليها، فرفع دعوى أمام محاكم السودان ضد " ابن محمد البتيت " يطلب تسليمه أمتعة الطريقة ولوازمها، فرفضت الدعوى، فأشاع أنه رأى فى المنام أن خصمه سيموت إذا لم يسلمه الخلافة، ولما لم ينجح استقل بطريقة أخرى سماها " البرهانية " فنجح وأثرى، وكون شركات وأخذ من المريدين أموالا كثيرة.
ومحمد عثمان عبده بدأ حياته عامل " بوفيه " فى قطارات السكة الحديد بين حلفا والشلال، ثم استطاع أن يمتلك مخبزا فى حلفا، وجاء إلى الخرطوم سنة 1930 م واستطاع بذكائه وتردده على القاهرة أن يجذب إليه كثيرا من الدراويش، وانتشرت دعوته بين الشباب، وبخاصة بعد الفراغ الروحى الذى أعقب نكسة 1967 م، وله مقر بالخرطوم بجانبه زاوية لأتباعه، ويحتاط لعدم دخول أجنبى عن الطريقة بينهم، وهو ذكى حلو الحديث، يسمح لأتباعه بشرب الدخان، وأما هو فيستعمل السعوط " النشوق ".
وللطريقة تنظيم داخلى سرى يقوم على خلايا محدودة العدد، وأعضاء الجماعة متعاونون فى تقديم الخدمات بعضهم لبعض. وقد صدر له كتاب " حكم مجمع البحوث الإسلامية بمخالفته للإسلام وتكفير من يعتقد ما فيه " وقد تورط بعض الكبار فأثنوا على هذا الرجل لكن لما عرفوا ما فى الكتاب تبرءوا منه.
والشيخ محمد حسنين مخلوف -مفتى مصر الأسبق -أصدر حكما على الكتاب الذى جمعه محمد عثمان عبده البرهانى بعنوان "تبرئة الذمة فى نصح الأمة " وقال: فيه حديث أو خطبة لعلى بن أبى طالب جاء فيه: أنا الرحمن، أنا حقيقة الأسرار، أنا خليل جبرائيل.. . وهو كلام مكذوب، فقد كرر فيه لفظ " أنا " 255 مرة ولا يعقل أن يصدر ذلك عن على كرم الله وجهه.
وفيه أنه جعل أهل البيت والخلفاء الأربعة والعبادلة الأربعة شفعاء للناس يوم القيامة، وهو باطل، وفيه ادعاء أن الله علَّم رسوله علما لم يعلمه أحد، ولا يعلم به إلا الأشخاص الذين سماهم فى الكتاب، وهذا لا دليل عليه. وهناك أحاديث غريبة ليست فى كتب السنة، مثل حديث أن جبريل رأى الرسول فى الأرض وفى البيت المعمور فى لحظة واحدة، وأن جبريل قال للرسول:
الأمر منك وإليك يا رسول الله، ففيم تعبى؟ فأجابه الرسول " للتشريع يا أخى جبريل " وهو افتراء على الرسول " الأهرام 13/2/1976م ".
هذا بعض ما عثرت عليه خاصا بهذه الطريقة، والعهدة على المصادر التى نقلت عنها من جهة التاريخ والرأى الدينى، ولم يتح لى أن أطلع على كل المعلومات الخاصة بها حتى أستطيع أن أكون رأيا فيها.
ومهما يكن من شىء فشرع الله واضح، ومن خفى عليه شىء منه فالعلماء أهل الذكر موجودون يمكن الأخذ منهم بسهولة، ولا داعى للتورط فيما فيه شبهة، وأحذر من استغلال الدين لمآرب غير مشروعة، ومن إقحام بعض من عندهم شىء من العلم أنفسهم فى تكوين جمعيات أو طرق تحمل اسم الدين وهم ليسوا من المتخصصين فيه، فذلك مدرجة للانحراف وتشويه لسمعة الدين وتفريق لصفوف المسلمين.
هذا، وقد نشرت أخبار اليوم " بتاريخ 9 من يوليو 1994 " أن المجلس الأعلى للطرق الصوفية أصدر قرارا بحظر نشاط شيخ الطريقة البرهانية وجميع أتباعه، لاستغلال بسطاء الناس، مخالفين بذلك تعاليم الدين الإسلامى(10/237)
أبو ذر فى الربذة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى الأخبار أن عثمان بن عفان رضى الله عنه نفى أبا ذر الغفارى لمكان يسمى الربذة، فهل هذا صحيح، وما سبب ذلك؟
الجواب
أبو ذر رضى الله عنه من كبار الصحابة وفضلائهم، وقديم فى الإسلام، يقال -كما قال ابن الأثير فى أسد الغابة- إنه أسلم بعد أربعة وكان خامسا ثم انصرف إلى بلاد قومه وأقام بها حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وتوفى بالربذة -موضع قريب من المدينة- سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين.
دعا له الرسول بقوله " يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويحشر وحده" روى البخارى عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا بأبى ذر، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية فى {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله} فقال معاوية: نزلت فى أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بينى وبينه فى ذلك، فكتب إلَى عثمان يشكونى، فكتب إلىَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر على الناس حتى كأنهم لم يرونى قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا، فذاك الذى أنزلنى هذا المنزل، ولو أمَّروا علىَّ حبشيا لسمعت وأطعت.
والكنز الذى جاء فيه الوعيد الشديد ليس هو ما دفن فى الأرض، بل هو ما لم تؤد زكاته حتى لو كان على سطح الأرض، وما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين كما قال ابن عمر وجابر بن عبد الله، وهو الصحيح من الأقوال، وقيل: الكنز ما فضل عن الحاجة، وهو مروى عن أبى ذر وذلك مذهبه، يقول الفرطبى "ج 8 ص 125" وهو من شدائده ومما انفرد به رضى الله عنه، ثم يقول: ويحتمل أن يكون مجمل ما روى عنه فى هذا ما روى أن الآية نزلت فى وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن فى بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، فنُهوا عن إمساك شىء من المال إلا على قدر الحاجة، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة فى مثل ذلك الوقت. فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب صلى الله عليه وسلم فى مائتى درهم خمسة دراهم وفى عشرين دينارا نصف دينار، ولم يوجب الكل، واعتبر مدة الاستنماء، فكان ذلك منه بيانا صلى الله عليه وسلم. انتهى(10/238)
أكل الجراد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل أكل الجراد حلال؟
الجواب
روى مسلم عن عبد الله بن أبى أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه، ولم يختلف العلماء فى أكله على الجملة، وأنه إذا أُخذ حيا وقطعت رأسه أنه حلال باتفاق، وأن ذلك يتنزل منه منزلة الزكاة فيه. وإنما اختلفوا: هل يحتاج إلى سبب يموت به إذا صيد أم لا، فعامتهم على أنه لا يحتاج إلى ذلك ويؤكل كيفما مات، وحكمه عندهم حكم الحيتان [الأسماك] ، وذهب مالك إلى أنه لا بد له من سبب يموت به، كقطع رأسه أو أرجله أو أجنحته إذا مات من ذلك، أو يصلق أو يطرح فى النار، لأنه عنده من حيوان البر فميتته محرمة، وروى الدارقطنى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أحل لنا ميتتان الحوت والجراد، ودمان الكبد والطحال " وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك: كان أزواج النبى صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الأطباق، وذكره ابن المنذر أيضا "تفسير القرطبى ج 7 ص 268 " وجاء فى حياة الحيوان الكبرى للدميرى زيادة على ذلك أن الإمام مالكا ذكر فى كتابه "الموطأ" عن ابن عمر أن عمر سئل عن الجراد فقال: وددت أن عندى قفة آكل منها، وروى البيهقى عن أبى أمامة الباهلى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن مريم بنت عمران عليها السلام سألت ربها أن يطعمها لحما لا دم له، فأطعمها الجراد، فقالت: اللهم أعشه بغير رضاع، وتابع بينه بغير شياع " والشياع هو الصوت. انتهى.
هذا فى حكم أكله، أما قتله وإبادته فقد مر الكلام عليه فى الجزء الأول "ص 473 " وزيادة عليه جاء فى حياة الحيوان أيضا أن ابن ماجه روى عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا على الجراد فقال "اللهم أهلك كباره وأفسد صغاره واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء" فقال رجل: يا رسول الله كيف تدعو على جند من أجناد الله تعالى بقطع دابره؟ فقال صلى الله عليه وسلم "إن الجراد نثرة الحوت من البحر" أى عطسته.
وبصرف النظر عن أصل الجراد كما ذكر الحديث فإن قتله جائز إذا حصل منه ضرر، كالغارات على المزارع والمحاصيل وقوت الناس، فمصلحة الإنسان قبل مصلحة أى حيوان، نذبحه لنأكله ونسخره لقضاء مصالحنا فى حدود الإحسان والآداب الشرعية.
وجاء فى تفسير القرطبى "ج 7 ص 268" أن أهل الفقه كلهم قالوا بقتل الجراد إذا حل بأرض فأفسد، وقد رخص النبى صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أراد أخذ ماله، فالجراد إذا أرادت فساد الأموال كانت أولى أن يجوز قتلها، ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه يجوز قتل الحية والعقرب لأنهما يؤذيان الناس؟ فكذلك الجراد(10/239)
حكم الأكل فى الطريق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى تناول الطعام فى الطريق العام وتناول الشراب أثناء الوقوف؟
الجواب
تناول الطعام فى الطريق العام لا حرمة فيه، لعدم الدليل الذى يمنع، وإن كان الأفضل تناوله بعيدا عن أعين الناس، منعا للنقد ولتلهف محتاج إليه محروم منه، وتحرزا من وقوع شىء منه على الأرض فيتلف ويصعب إصلاحه أو يكون منه التلوث. روى أحمد وابن ماجه والترمذى وصححه أن ابن عمر رضى الله عنهما قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشى، ونشرب ونحن قيام "غذاء الألباب ج 2 ص 123 ".
وتناول الشراب أثناء الوقوف لا حرمة فيه وإن كان مكروها، اتباعا لهدى النبى صلى الله عليه وسلم، حيث كان أكثر شربه قاعدا، وزجر عن الشرب قائما، وإن كان شرب مرة قائما، وذلك لبيان جواز الأمرين، أو لوجود عذر يمنعه من القعود، فقد أتى زمزم وهم يستقون منها، فأخذ الدلو وشرب قائما "زاد المعاد ج 1 ص 38"(10/240)
الأكل مع النذر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نذرت لله إن شفانى أن أذبح شاة، فهل يجوز أن آكل منها؟
الجواب
إذا نذر الإنسان شيئا خرج عن ملكه فيجب أن يوجهه إلى ما نُذر إليه، كما قال تعالى {وليوفوا نذورهم} الحج: 29، فمن نذر التصدق بشاة أو توزيع طعام وجب أن يكون التنسيق أو التوزيع على الفقراء والمساكين، ولا يجوز للناذر أن يأخذ شيئا من النذر، لا للأكل ولا لغيره كجلد الشاة للفراش أو الصلاة عليه، أو صوفها للانتفاع به، بل يخرج كل ما فيها لله سبحانه، حتى قال العلماء: لا يعطى شيئا منها أجرة للجزار الذى ذبحها، وإنما يجوز أن يعطيَه بعضها صدقة إذا كان الجزار فقيرا مستحقا لها.
وقد تحدث العلماء عن قوله تعالى فى الهدى فى الحج {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} الحج: 28، وعما ثبت من أن النبى صلى الله عليه وسلم ساق الهدى فى الحج وأكل منه أهله، فقسموا الهدى أربعة أقسام:
ا -هدى تطوع، ويكون لمن حج مفردا، أى نوى الحج فقط، وكذلك لمن اعتمر.
2 -هدى واجب لترك شىء من واجبات الحج، كرمى الجمار والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى، والإحرام من الميقات.
3-هدى واجب لارتكاب محظور، كالتطيب وحلق الشعر.
4-هدى واجب جزاء للصيد وما يماثله.
وقالوا: هدى التطوع يجوز لصاحبه أن يأكل منه. أما الهدى الواجب فقد اختلفت آراؤهم فيه:
أ -فأبو حنيفة لا يجيز الأكل من أى هدى واجب، واستثنى من ذلك هدى التمتع والقران فأجاز الأكل منه، مستدلا بالآية المذكورة وبفعل النبى صلى الله عليه وسلم، بناء على أنه كان فى حجه متمتعا أو قارنا.
2-وأحمد بن حنبل قال مثل قول أبى حنيفة.
وعلى رأيهما لا يجوز الأكل من الهدى المنذور، ولا من الكفارة.
3-ومالك بن أنس قال: لا يجوز الأكل من جزاء الصيد، وفدية الأذى التى تجب عند حلق الشعر من الأذى، والمنذور للمساكين.
ويجوز الأكل من هدى التمتع وفساد الحج وفواته، والأنواع الأخرى من الهدى.
4 -والشافعى قال: لا يجوز الأكل من أى هدى واجب مطلقا، ومنه النذر، فلا يجوز أكل شىء منه. وكذلك الكفارات.
جاء فى تفسير القرطبى"ج 2 ص 44": دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها، ومشهور مذهب مالك رضى الله عنه أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى. ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبا كان أو تطوعا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار.
ثم قال فى صفحة 46: قال الشافعى وأبو ثور: ما كان من الهدى أصله واجبا فلا يأكل منه وما كان تطوعا ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق. والمتعة والقران عنده نسك. ونحوه مذهب الأوزاعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدى المتعة والتطوع ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام. وحكى عن مالك: لا يأكل من دم الفساد، وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر كقول الشافعى والأوزاعى.
وذكر أن دليل مالك هو أن الله جعل جزاء الصيد للمساكين، وكذلك فدية الأذى، جعلها القرآن والحديث للمساكين، ونذر المساكين مصرح بعدم الأكل منه، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله تعالى {فكلوا منها} وقد أكل النبى صلى الله عليه وسلم وعلى من الهدى وكان عليه السلام قارنا فى أصح الأقوال والروايات، فكان هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح. انتهى بتصرف.
وجاء فى "المغنى لابن قدامة ج 3 ص 565" ما نصه: المذهب أنه يأكل من هدى التمتع والقران دون ما سواهما، نص عليه أحمد.. .
وهذا قول أصحاب الرأى أى أبى حنيفة وأصحابه - وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما.. . لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله لله، بخلاف غيرهما، وقال ابن أبى موسى:
لا يأكل أيضا من الكفارة ويأكل مما سوى هذه الثلاثة، ونحوه مذهب مالك، لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ولا مدخل للإطعام فيه، فأشبه التطوع. وقال الشافعى: لا يأكل من واجب، لأنه هدى وجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة.
يؤخذ من هذا العرض أن الطعام المنذور لا يجوز للناذر أن يأكل منه باتفاق الفقهاء. سواء كان النذر هديا فى الحج والعمرة أو كان غير ذلك وأجازه أحمد فى الأضحية فقط بل جعله مستحبا "المغنى ج 3 ص 1584(10/241)
الأدوية المسكنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تضاف إلى بعض الأدوية المسكنة للصداع أو السعال بعض المواد المخدرة، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
معلوم أن الله سبحانه لم يجعل شفاء أمة النبى صلى الله عليه وسلم فيما حرم عليها كما نص الحديث الشريف الذى رواه البخارى عن ابن مسعود، والبيهقى وصححه ابن حبان عن أم سلمة وكما جاء فى حديث آخر "يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يجعل داء إلا جعل له دواء، ولا تداووا بمحرم " رواه أبو داود والمواد المخدرة نفسها يحرم التداوى بها، سواء أكانت خمرا أم غير خمر، كما قاله ابن تيمية وذلك لورود النص بالحرمة، وذهب الجمهور إلى أن التداوى بغير الخمر من المخدرات ليس حراما، بل هو جائز للضرورة قياسا على تداوى العرنيين بأبوال الإبل، حيث رخص لهم النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك كما رواه البخارى ومسلم لكنهم اشترطوا ثلاثة شروط.
أولها: ألا يكون هناك دواء حلال.
والثانى: أن يقول بذلك طبيب مسلم.
الثالث: أن يكون القدر المخدر قليلا لا يسكر، قال النووى فى "المجموع": قال أصحابنا: يجوز شرب الدواء المزيل للعقل للحاجة، وقال الرويانى: والنبات الذى يسكر وليس فيه شدة مطربة يجوز استعماله فى الدواء وإن أفضى إلى سكر ما لم يكن منه بد.
وقال ابن رجب فى كتابه "جامع العلوم والحكم ": المسكر الذى يزيل العقل ويسكره إن لم يكن فيه طرب ولا لذة كالبنج قال أصحابنا:
إن تناوله لحاجة التداوى به وكان الغالب منه السلامة جاز.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة للجزيرى: أن المائعات النجسة التى تضاف إلى الأدوية والروائح العطرية لإصلاحها يعفى عن القدر الذى به الإصلاح، قياسا على الإنفحة المصلحة للجبن.
والقطرات القليلة غير الظاهرة والتى لا يكون من شأنها الإسكار إذا اختلطت بالدواء المركب لا تحرم، مثل القليل من الحرير فى الثوب.
أفاده فى المنار(10/242)
مشط العاج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن المشط المأخوذ من العاج وهو سن الفيل نجس؟
الجواب
روى الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ما يقطع من البهيمة وهى حية فهو ميتة " وقال: حديث حسن غريب، وبناء عليه قال جمهور الفقهاء: إن عظم الفيل نجس ولا يطهر بحال كما قال الشافعى ومالك وإسحاق، ورخص فى الانتفاع به محمد بن سيرين وابن جريج وغيرهما، لما روى أبو داود عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يشترى لفاطمة رضى الله عنها قلادة من عَصْب وسوارين من عاج، وروى البخارى عن الزهرى قال فى عظام الموتى نحو الفيل وغيره: أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدَّهنون فيها، ولا يرون به بأسا، والعَصْب ثياب يمنية، والعَصَب سن بعض الحيوانات يتخذ منه الخرز.
وجاء فى المغنى لابن قدامة "ج 1 ص 61" أما ما يتساقط من قرون الوعول فى حياتها يحتمل أنه طاهر لأنه أشبه بالشعر، وجاء فى هامش "ص 60" أطال شيخ الإسلام الكلام فى تصويب طهارة العظم والقرن والظفر، وذكر أنه مذهب أبى حنيفة وقول لمالك وأحمد.
هذا، وقد قال الدميرى فى كتابه "حياة الحيوان الكبرى - السلحفاة البحرية " ما نصه: "فائدة" كان للنبى صلى الله عليه وسلم مشط من العاج، والعاج الذبل، وهو شىء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية، يتخذ منه الأمشاط والأساور، وفى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم "أمر ثوبان رضى الله عنه أن يشترى لفاطمة رضى الله عنها سوارين من عاج" أما العاج الذى هو عظم الفيل فنجس عند الشافعى وطاهر عند أبى حنيفة، وعند مالك يطهر بصقله، فيجوز التسريح بمشط العاج وهو الذبل، وعليه يحمل ما وقع للنووى فى شرح المهذب من جواز التسريح به، فمراده بالعاج الذبل لا العاج الذى هو ناب الفيل.
وما دام عظم الفيل طاهرا عند بعض الأئمة فلا بأس باستعماله، واختلاف الآراء رحمة بالأمة(10/243)
عيادة المريض غير المسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مرض أحد جيراننا من غير المسلمين فأردت أن أزوره فمنعنى بعض الإخوان، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
بناء على مبدأ التعامل مع غير المسلمين المسالمين الذى سبق أن وضحناه بالأدلة من القرآن والسنة، وما جرى من تعامل النبى صلى الله عليه وسلم مع اليهود - تحدث العلماء عن حكم عيادة المريض منهم، ولخص النووى ذلك فى كتابه "الأذكار ص 254 " فقال: اعلم أن أصحابنا -الشافعية- اختلفوا فى عيادة الذمى، فاستحبها جماعة، ومنعها جماعة - وذكر الشاشى الاختلاف ثم قال: الصواب عندى أن يقال:
عيادة الكافر فى الجملة جائزة، والقربة -أى الثواب- فيها موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة. قال النووى: قلت هذا الذى ذكره الشاشى حسن، فقد روينا فى صحيح البخارى عن أنس رضى الله عنه قال: كان غلام يهودى يخدم النبى صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبى صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال:
أطع أبا القاسم، فأسلم فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذى أنقذه من النار ". وروينا فى صحيحى البخارى ومسلم عن المسيب بن حزن والد سعيد بن المسيب رضى الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا عم، قل لا إله إلا الله. . . " وذكر الحديث بطوله.
يقول النووى: فينبغى لعائد الذمى أن يرغبه فى الإسلام، ويبين له محاسنه، ويحثه عليه، ويحرضه على معالجته قبل أن يصير إلى حال لا ينفعه فيها توبته، وإن دعا له دعا بالهداية ونحوها. انتهى ما قاله النووى.
وبناء عليه لا مانع من عيادة المريض غير المسلم، فليست مكروهة ولا محرمة يعاقب عليها، والأجر من الله يكون إذا جاء أمر بها، وعيادة الجار من ضمن حقوقه المأمور بها، وكذلك الوالدان، حيث الأمر موجود بمصاحبتهما بالمعروف ومنه عيادتهما، قال تعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا} لقمان: 15(10/244)
القردة وبنو إسرائيل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى القرآن الكريم أن الله مسخ بعض اليهود قردة، فهل كانت القرود موجودة قبلهم، وهل بقى من نسلهم شىء الآن؟
الجواب
قال الله تعالى {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} البقرة:65 تحذر الآية اليهود الموجودين حين نزل القرآن وكذلك من بعدهم أن يكفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم محرفين الكلم عن مواضعه، حتى لا يعاقبهم الله كما عاقب اليهود الذين خالفوا أمره حين نهاهم عن الصيد فى يوم السبت فتحايلوا واستباحوا الصيد، فكان عقابهم أن مسخهم الله قردة وخنازير وجعلهم خاسئين أى مبعدين محتقرين مغضوبا عليهم والمفسرون لهم رأيان فى معنى المسخ، هل هو مسخ مادى أو مسخ معنوى، بمعنى هل تحول الذين اعتدوا إلى قردة وخنازير تحولا حقيقيا، أو تحولت أخلاقهم فكانت مثل أخلاق القردة والخنازير وتحولوا من تكريمهم كآدميين إلى احتقارهم كقردة وخنازير؟ القلة من المفسرين قالوا بالمسخ المعنوى، جاء فى تفسير القرطبى "ج اص 443 " أن هذا الرأى مروى عن مجاهد فى تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردت أفهامهم كأفهام القردة. ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم.
والأكثرون قالوا بالمسخ المادى. والقائلون به اختلفوا، هل تناسل هؤلاء بعد المسخ أو لم يتناسلوا؟ يقول القرطبى "ج 1 ص 440":
اختلف العلماء فى الممسوخ هل ينسل على قولين، قال الزجاج: قال قوم يجوز أن تكون هذه القردة منهم، واختاره القاضى أبو بكر بن العربى، وقال الجمهور: الممسوخ لا ينسل -بضم السين وكسرها- وأن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل، لأنه قد أصابهم السخط والعذاب، فلم يكن لهم قرار فى الدنيا بعد ثلاثة أيام.
قال ابن عباس: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. قال ابن عطية: وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم، وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
يقول القرطبى: هذا هو الصحيح من القولين.
واستدل القائلون ببقاء الممسوخين وتناسلهم بما رواه مسلم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "فُقدت أمة من بنى إسرائيل لا يدرى ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاة شربته " وبما رواه مسلم أيضا عن أبى سعيد وجابر أن النبى صلى الله عليه وسلم جىء إليه بضب فأبى أن يأكل منه وقال "لا أدرى لعله من القرون التى مُسخت " ورد الجمهور ذلك بأن كلام الرسول كان ظنا وحدسا واحتياطا قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلا، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ. كما استدل الأولون بما روى من أن قِرْدَة فى الجاهلية زنت فاجتمع عليها قِرَدَة ورجموها، واشترك معها رجل فى رجمها، ورد الجمهور بأن هذه الرواية ليست فى صحيح البخارى بل فى تاريخه، ودسها البعض على الصحيح، وراويها مما لا يحتج به، ولو صح الخبر لكانوا من الجن لأنهم كالإنس مكلفون، ولا تكليف على البهائم حتى يقام عليها حد الزنا "الكلام على رد هذه الرواية مفصل فى تفسير القرطبى ج اص 442 ".
أما دليل الجمهور على رأيهم فهو ما رواه مسلم فى كتاب "القدر" أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن القردة والخنازير: هل هى مما مسخ؟ فقال "إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك " وهو نص صريح صحيح رواه عبد الله بن مسعود وأخرجه مسلم وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم وعلى مائدته ولم ينكر. فدل ذلك على صحة ما اختاره القرطبى من القولين، وهو أن المسخ لا ينسل.
هذا فى مسخ المعتدين من اليهود قردة وخنازير على الحقيقة، أما مسخ الأخلاق والمكانة فهى محل اتفاق. وإن كان ذلك لمن اعتدوا فى السبت فهل هو لغيرهم أيضا؟ يرجع فى الإجابة على ذلك إلى النصوص ووقائع التاريخ فى القديم والحديث(10/245)
التاريخ الدولى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل اليوم فى التشريع الإسلامى يبدأ من الليل أو من النهار؟
الجواب
اليوم الكامل فى التاريخ عامة يتكون من ليل ونهار، وذلك فى الأماكن التى تشرق فيها الشمس وتغرب كل أربع وعشرين ساعة مرة.
ويبدأ اليوم بغروب الشمس فى التشريع الإسلامى، فالليل سابق على النهار، ذلك لأن دخول الشهر القمرى يكون برؤية الهلال بعد غروب الشمس والمتبع فى عرف الناس هو العكس، فالنهار سابق على الليل.
ذكر ذلك القرطبى "ج 7 ص 276" فى تفسير قوله تعالى {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} الأعراف: 42 ا، حيث قال: دلت الآية على أن التاريخ يكون بالليالى دون الأيام، لأن الليالى أوائل الشهور.
وبها كانت الصحابة رضى الله عنهم تخبر عن الأيام، حتى روى عنها أنها كانت تقول: صمنا خمسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -والصوم يكون بالنهار لا بالليل - والعجم -أى غير العرب- تخالف فى ذلك فتحسب بالأيام لأن معولها على الشمس يقول ابن العربى: حساب الشمس للمنافع وحساب القمر للمناسك. انتهى.
هذا، واليوم يطلق أحيانا على النهار، قال تعالى فى الريح التى أهلك بها عادا قوم هود {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما} الحاقة: 7، يقول القرطبى "ج 8 اص 260: لأنها بدأت طلوع -أى بطلوع- الشمس من أول يوم وانقطعت غروب الشمس - أى بغروبها- من آخر يوم.
وقد يعبر عن الأيام بالليالى كما قال تعالى فى شأن زكريا {قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} آل عمران: 41، {قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سويا} مريم وقد يعبر عن النهار باليوم إذا أريد به ما يقابل الليل كما فى الآية السابقة فى سورة الحاقة.
وللاصطلاح دخل كبير فى هذا الموضوع وقوله تعالى {كل يوم هو فى شأن} الرحمن: 29، أى كل وقت والمراد الدوام(10/246)
اجتماع حدين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا ارتكب إنسان ذنبين كبيرين يستحق فيهما عقوبة الرجم والقذف، فهل تنفذ عليه عقوبة القذف ثم الرجم أم ماذا يفعل؟
الجواب
قرر الإسلام عقوبات دنيوية على بعض الجرائم كالسرقة والزنا وشرب الخمر، وبعض هذه العقوبات يقضى على الحياة، كالقصاص فى القتل العمد، وكالرجم فى الزنا إذا وقع من المحصن وكالقتل للمرتد عن الدين. قال صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزانى والقاتل والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه البخارى ومسلم، وبعض العقوبات لا يفضى إلى الموت كقطع اليد فى السرقة والجلد فى شرب الخمر وفى القذف وفى الزنا إذا وقع من غير المحصن [والمحصن هو الذى سبق له زواج] .
فلو اجتمعت عقوبتان على إنسان، احداهما فيها قضاء على حياته والأخرى ليس فيها قضاء على حياته، فهل تنفذ العقوبتان، أو يكتفى بواحدة منهما؟ هناك رأيان للعلماء تحدثوا عنهما فى مثال، وهو الجمع بين الجلد والرجم، وذلك بناء على الأحاديث الواردة فيهما، فقال أبو حنيفة ومالك والشافعى: يكتفى بأغلظ العقوبتين وهى الرجم، وأما أحمد بن حنبل فعنه روايتان، الأولى كرأى الأئمة الثلاثة وهو أظهر الروايتين، والثانية يجمع بين العقوبتين، فيجلد أولا ثم يرجم.
دليل مذهب الجمهور أن النبى صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلد واحدا منهما، كما رواه أحمد، وقال لأنيس الأسلمى "فإن اعترفت فارجمها" ولم يأمر بالجلد كما رواه الجماعة.
أما الرواية الثانية عن أحمد فى الجمع بين العقوبتين، فدليلها ما رواه مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خذوا عنى، خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " وجاء عن على كرم الله وجهه أنه جلد امرأة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: أجلدها بكتاب الله وأرجمها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بهذا الرأى من التابعين الحسن البصرى، وقال به ابن حزم وإسحاق بن راهويه.
ولكن الجمهرر ردوا على ذلك بأن عدم الجمع بين العقوبتين هو من رواية أبى هريرة وهو متأخر فى الإسلام فيكون ناسخا لما سبق من إقامة الحدين. ويؤكد ذلك أن أبا بكر وعمر رضى الله عنهما لم يجمعا فى خلافتهما بين الحدين ما دام فى أحدهما إزهاق الروح، وهو أكبر ما تتحقق به حكمة العقوبة من الزجر عن ارتكابها ومن الجبر بعدم العقوبة الأخروية عليها.
وقد يفسر الجمع بببن العقوبتن بما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبى صلى الله عليه وسلم فجلد الحد، ثم أخبر أنه محصن فأمر به فرجم يعنى لم يعلم أولا أنه محصن فجلده، ولو علم أولا أنه محصن ربما لم يجلده بل يكتفى بالرجم.
والرأى المختار هو الاكتفاء بأغلظ العقوبتين ولا داعى للجمع بينهما(10/247)
حيث "ادرءوا الحدود بالشبهات "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن أية شبهة فى جريمة تسقط الحد؟
الجواب
روى ابن ماجه عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا" وروى الترمذى عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطىء فى العفو خير من أن يخطىء فى العقوبة" ذكر الترمذى أنه روى موقوفا وأن الوقف أصح، قال: وقد روى عن غير واحد من الصحابة رضى الله عنهم أنهم قالوا مثل ذلك.
يقول الشوكانى "نيل الأوطارج 7 ص 110 ": حديث ابن ماجه ضعيف، وحديث الترمذى عن عائشة فى إسناده راو ضعيف، قال البخارى عنه: إنه منكر الحديث، وقال النسائى متروك. والحديث المرفوع عن على "ادرءوا الحدود بالشبهات " فيه راو منكر الحديث كما قال البخارى.
وأصح ما فيه حديث سفيان الثورى عن عاصم عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود قال " ادرؤوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم " ورواه ابن حزم عن عمر موقوفا عليه، قال الحافظ: وإسناده صحيح.
وانتهى الشوكانى إلى القول بأن حديث الباب وإن كان فيه مقال فقد شد من عضده ما ذكرناه فيصلح بعد ذلك للاحتجاج على مشروعية درء الحدود بالشبهات المحتملة لا مطلق الشبهة، وقد أخرج البيهقى وعبد الرزاق عن عمر أنه عذر رجلا زنى فى الشام وادعى الجهل بتحريم الزنى، وكذا روى عنه وعن عثمان أنهما عذرا جارية زنت وهى أعجمية وادعت أنها لم تعلم التحريم(10/248)
دخول الكنائس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمسلم دخول الكنيسة الأثرية بغرض السياحة، وهل يجوز له حضور عقد زواج مسيحى فيها لمشاركته فى فرحه؟
الجواب
أما دخول الكنيسة من أجل السياحة فلا يوجد ما يمنعه وقد أجاز بعض التابعين الصلاة فيها. كالشعبى وعطاء وابن سيرين. كما صلى فيها بعض الصحابة منهم أبو موسى الأشعرى.
قال البخارى: كان ابن عباس رضى الله عنه يصلى فى بيعة، إلا بيعة فيها تماثيل. وقد كتب إلى عمر رضى الله عنه من نجران أنهم لم يجدوا مكانا أنظف ولا أجود من بيعة فكتب: انضحوها بماء وسدر وصلوا فيها. وعن الحنفية والشافعية القول بكراهة الصلاة فيها مطلقا.
وعلى هذا فالدخول لغير الصلاة ليس محرما، ومنه شهود حفل زواج، أو تعزية فى ميت، والشرط الأساسى ألا يمارس المسلم شيئا من الطقوس المخالفة للدين. والأولى عدمه إلا للحاجة، كمجاملة صديق أو جار، أو دفع مكروه عنه(10/249)
الليالى المفضلة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك تفضيل بين ليلة الإسراء والمعراج، وليله القدر، وليلة النصف من شعبان؟
الجواب
لكل ليلة من هذه الليالى قدرها، فليلة الإسراء لها فضل بإسراء الله برسوله فيها كما نصت عليه الآية، وليلة القدر كذلك لها فضل بنزول القرآن ورسالة النبى صلى الله عليه وسلم. وذلك بنص الآية، أما ليلة النصف من شعبان فلها فضل باعتبار كونها من شهر شعبان وورود بعض الأحاديث فى الترغيب فى قيامها وإن كان أكثرها ضعيفا.
وأما أفضلية بعض هذه الليالى على بعضها الآخر، فلتكن المفاضلة بين ما ثبت لها الفضل بطريق صحيح، وهما ليلة الإسراء وليلة القدر.
وللعلماء كلام كثير فى هذه المفاضلة، وإن كان البعض قد جمع بين أقوالهم فى ذلك فقال: ليلة الإسراء أفضل من غيرها بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لما ناله فيها من الشرف العظيم الذى لم يكن لغيره من الأنبياء والرسل، وبيان هذا الشرف يطول. وليلة القدر أفضل بالنسبة للأمة الإسلامية، لأنه نرل فيها القرآن، ولأنها تعبد الله عبادة صحيحة على ضوئه، وجعلت لها مكانة مرموقة فى العالم كله، وإن كان للرسول فيها نصيب باختياره للرسالة فى هذه الليلة، لكن الرسالة شاركه فيها غيره من الرسل، وكما نزل عليه الوحى نزل على رسل غيره. أما ليلة الإسراء فلم يشاركه فيها أحد، فهى أفضل الليالى بالنسبة له، وأرجو ألا يكون ذلك مثار جدل لا طائل تحته.
هذا، وقد أثار هذا السؤال ابن القيم فى كتابه "زاد المعاد ج 1 ص 11 " ونقل عن ابن تيمية أن فضل ليلة الإسراء إن كان من أجل العبادة فيها لا أصل له، لأنها غير معينة لنا، ولم يشرع فيها عبادة بمناسبتها، أما ليلة القدر فشرفها مقرر، ولها عبادة بثواب عظيم. ثم ذكر أن ليلة الإسراء أفضل للنبى وليلة القدر أفضل لأمته، وأرشد إلى عدم الخوض فى هذه الأمور، كما تطرق إلى المفاضلة بين يوم الجمعة ويوم عرفة، وذكر كلاما كثيرا من أراده فليرجع إلى "زاد المعاد"(10/250)
دعاء الثوب الجديد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك دعاء يدعو الإنسان به إذا لبس ثوبا جديدا؟
الجواب
جاء فى كتاب "الأذكار " للنووى عن أبى سعيد الخدرى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه -عمامة أو قميصا أو رداء- ثم يقول "اللهم لك الحمد، أنت كسوتنيه، أسالك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له" حديث صحيح رواه أبو داود والنسائى، ورواه الترمذى وقال: حديث حسن.
وروى الترمذى عن عمر رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من لبس ثوبا جديدا فقال: الحمد لله الذى كسانى ما أوارى به عورتى وأتجمل به في حياتى، ثم عمد إلى الثوب الذى أخلق فتصدق به كان فى حفظ الله وفى كنف الله عزوجل وفى سبييل الله حيا وميتا".
وفى "الترغيب والترهيب " للحافظ المنذرى حديث رواه الحاكم وصححه جاء فيه "ومن لبس ثوبا جديدا فقال: الحمد لله الذى كسانى هذا وألبسنيه من غير حول منى ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه "(10/251)
الزهد والغنى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف نوفق بين الدعوة إلى الزهد ودعاء الرسول بالغنى وما كان عليه بعض الصحابة من غنى؟
الجواب
معنى الزهد فى كلمة بسيطة: عدم امتلاك حب الدنيا للقلب امتلاكا يشغل الإنسان عن واجباته، حتى لا يكون كما عبر الحديث الذى رواه البخارى "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة". والزهد بهذا المعنى لا ينافى أن يكون الإنسان عظيم الثروة وافر المال مع معرفته بحق الله عليه، وحق الفقراء وغيرهم فى ماله، كما فى الحديث الذى رواه أحمد: "نعم المال الصالح للعبد الصالح ".
لقد كان أبو بكر رضى الله عنه من كبار الأغنياء، وأنفق أكثر أمواله فى سبيل الدعوة، وفيه قال النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه الترمذى "ما نفعنى مال أحد ما نفعنى مال أبى بكر".
وعثمان بن عفان رضى الله عنه جهز غزوة العسرة"تبوك " من ماله، وسر النبى صلى الله عليه وسلم بما قدمه وقال "ما ضر عثمان ما يفعل بعد هذا اليوم، غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما هو كائن إلى يوم القيامة ".
وتبرع عثمان أيضا بتجارته للفقراء عام القحط ولم يستجب لإغراء التجار له بالربح الوفير، وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه أنفق كثيرا وقال له النبى صلى الله عليه وسلم "بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " إلى غير ذلك من النماذج الغنية التى لم يقل الرسول عنها إنها غير زاهدة فى الدنيا، بل أثنى عليها خيرا.
فالزهد ليس مقياسه أو مظهره الفقر، فقد يكون الرجل فقيرا لكنه حريص شره جاد فى طلب الدنيا وإن لم ينل منها ما يريد. وللإمام القشيرى فى رسالته "ص 93" كلام كثير فى معناه ومظاهره فليرجع إليه من أراد التوسع، ومن هنا نعرف أن الزهد بمعناه الصحيح يدعو إليه الإسلام، وبدون ذلك يكون مذموما. كمن يؤثرون الفقر وهم قادرون على الغنى، وكمن لا يتمتعون بنعم الله وهى فى أيديهم، فالله يحب أن يرى اثر نعمته على عبده، وذلك فى تواضع وشكر(10/252)
تعلم السحر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: "تعلموا السحر ولا تعملوا به " وهل يتفق هذا مع قوله تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} البقرة: 102؟
الجواب
لم أعثر على حديث بهذا اللفظ، وليكن معلوما أن العلم بالسحر غير العمل به، وقد جاء فى حديث الصحيحين أن السحر من السبع الموبقات، أى من الكبائر فهل المقصود هو العمل به أو العلم رأى جماعة أن المحرم هو العمل به مطلقا فى الضر والنفع سدا للذريعة، ورأى آخرون جواز العمل به فى النفع، قال القرطبى فى تفسيره: واختلفوا،هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور؟ فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخارى، وإليه مال المزنى، وكرهه الحسن البصرى، وقال الشعبى: لا بأس بالنُّشرة، قال ابن بطال: وفى كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسى، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حُبس عن أهله، هكذا جاء فى تفسير القرطبى ونقله عنه ابن حجر الهيتمى فى كتابه "الزواجر" ولم يعترض عليه.
ومهما يكن من شىء فإن أية وسيلة تنتج خيرا ولا تنتج شرا وليس هناك نص قاطع يمنعها ولا تصادم أصلا مقررا تكون مشروعة والنهى عن السحر شديد، لأنهم كانوا يعتقدون أنه مؤثر بنفسه بعيدا عنه إرادة الله تعالى، وذلك هو الكفر الذى من أجله حرمه الإسلام وجاء فيه قوله تعالى: {وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله} البقرة: 102، هذا هو حكم العمل به.
أما تعلم السحر فرأى جماعة منعه مطلقا وروى فيه ابن مردويه حديثا بسند فيه ضعف وابن حبان فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات والزكاة، وكان فيه بيان لأكبر الكبائر، ومنها تعلم السحر، وذلك لأن تعلمه سيجره إلى العمل به وسيغريه بإيقاع الضرر بالناس، لكن جاء فى"الزواجر" لابن حجر ج 2 ص 103 قال الفخر: واتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور، لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون} الزمر: 9.
ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز معجزا واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتض أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا، وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا؟ ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتى حتى يعلم ما يقتل منه وما لا يقتل فيفتى به فى وجوب القصاص. انتهى.
وابن حجر لم يوافق على رأى الفخر الرازى الذى نقله عنه، وقرر أن تعلمه حرام، وتجب التوبة منه، ويرجع إلى الزواجر لمعرفة وجهة نظره، وإن كنت أختار رأى الفخر الرازى على حد قول القائل:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه * ومن لا يعرف الشر من الناس يلاقيه(10/253)
شروط استجابة الدعاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا كان رب العزة قال {ادعونى أستجب لكم} فلماذا أدعو كثيرا ولا يستجيب دعائى؟
الجواب
أمرنا الله بالدعاء ووعد بالإجابة فقال سبحانه {وقالى ربكم ادعونى استجب لكم} غافر: 60، وذكر القرآن الكريم أن بعض الناس دعوا ربهم فاستجاب لهم كقوله {وأيوب إذ نادى ربه أن مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} الأنبياء: 83، 84 وقوله {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين.
فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} الأنبياء: 89، 90 وكقوله فى غزوة بدر {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين} الأنفال: 9.
إذا كان هذا كلام الله وهو صادق فى الاستجابة لمن يدعوه، فما هو السر فى أن بعض الناس يدعون ولا يستجاب لهم؟ والجواب أن الطبيب إذا وصف دواء قد يكون مركبا من عدة مواد، ولا يكتفى بذلك بل يبين للمريض كيفية الاستعمال بتحديد المواعيد وتحديد ما يتناول من طعام وما يمتنع عنه، ولو نفذ المريض كل ذلك كان هناك أمل كبير فى الشفاء، وبخاصة إذا كان الطبيب مختصا وثقة المريض به قوية.
لقد ذكر الله حوادث فى استجابة الدعاء من مثل أيوب وزكريا وذى النون، ولكن ذكر عقب ذلك مباشرة لماذا كان دعاؤهم وسيلة لكشف ما بهم من ضر وتحقيق ما يرجون من خير فقال {إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} لأنبياء: 90.
لابد من امتثال أوامر الله كلها من عبادات وغيرها، مع إقبال النفس عليها والحب لها، ولابد من يكون الدعاء خالصا صادرا من أعماق النفس، مع استشعار عظمة الله ولطفه ورحمته، ومع خوفه العظيم أن يرسه خائبا، وأن يكون ذهنه حاضرا غير شارد، مركزًا غير مشتت، ومن تمام المسارعة فى الخيرات البعد عن الحرام، فالحرام من أخطر العوائق التى تحول دون استجابة الدعاء، وقد صح فى الحديث "أن الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام فأنى يستجاب له " رواه مسلم وكان من وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص أن يطيب مطعمه ليستجيب الله دعاءه كما رواه الطبرانى.
وإذا كان الداعى على هذه الصفة المطلوبة ولم يستجب له حالا بما دعا إليه، فلا يقل: دعوت فلم يستجب لى، فالحديث يقول "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لى" رواه البخارى ومسلم، وإذا تأخرت الاستجابة بالمطلوب فقد تكون الاستجابة ببديل خير منه، وقد تدخر ليوم القيامة وذلك أفضل من متعة الدنيا الزائلة، فقد روى أحمد والبزار. وأبو يعلى بأسانيد جيدة عن أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث، إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له فى الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذا نكثر، قال "الله أكثر" وروى أحمد والترمذى وقال حسن صحيح قريبا من ذلك.
هذا، وقد وجه سؤال إلى الصوفى إبراهيم بن أدهم: ما لنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ فأخبرهم أنهم قصروا فى طاعة الله وارتكبوا معاصيه.
وذكر أمثلة لذلك، وكلها وغيرها يدل على أن الداعى لابد أن يرضى الله أولا حتى يكافئه الله بقبول دعائه، وأن يكون قوى الإيمان والرجاء والثقة فى استجابة الدعاء، وألا يشك فى وعد الله، بل الأولى أن يشك فى نفسه هو، هل أدى الواجب لله أم لا؟ والموضوع مبسوط فى كتب الحديث والأخلاق يرجع إليها من يريد الاستزادة(10/254)
التمايل عند ذكر الله
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل كان الصحابة رضوان الله عليهم يتمايلون كما يتمايل الزرع كلما سمعوا ذكر الله تعالى؟
الجواب
يقول الله تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آيأته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} الأنفال: 20.
ذكر القرطبى عند تفسير هذه الآية أن وجل القلوب خوف من الله، وفيه أيضا اطمئنان عند ذكر الله كما قال تعالى {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} الزمر: 27، وليس منه ما يفعله الجهال والأرذال من الزعيق والزئير والنهاق.
ثم ذكر حديث الترمذى: وعظنا الرسول صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. . . ولم يقل العرباض بن سارية راوى الحديث: زعقنا ولا رقصنا. . .
والإمام الغزالى فى "الإحياء" تحدث عن الوجد والتأثر بالقرآن وذكر الله، ولذلك مظاهر: إما بكاء وإما تشنج وإما غير ذلك، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "شيبتنى هو وأخواتها" رواه الترمذى وحسَّنه. وذكر حديث بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قرأ عليه ابن مسعود {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} النساء:
41.
ثم ذكر بعض نقول عن وجْدِ الصحابة والتابعين عند سماع القرآن، فمنهم من صعق، ومنهم من غشى عليه، ومنهم من مات، وكلها أخبار بدون سند يعتمد عليه. ولكن يمكن أن تحدث، فالطبيعة البشرية تتأثر بأشياء كثيرة، وبعض الشعوب الآن أو بعض الأفراد عندما يسمعون شعرا أو كلاما أو غناء أو موسيقى يتحركون حركات مختلفة، إما بهز الرءوس أو تمايل الجسم أو الرقص أو غير ذلك، فلا مانع أن يكون بعض الصحابة وغيرهم قد تحرك جسمه عند سماع آيات من القرآن تؤثر بقوة على وجدانه وأعصابه "تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " وعند قشعريرة الجلد يظهر أثر على الأعصاب والعضلات بأية حركة.
ومع ذلك فالإسلام لا يقر شيئا يتنافى مع الآداب والرجولة والكرامة، كما لا يقر الرياء عند ذكر الله وعند الطاعة بوجه عام(10/255)
صبغ الشعر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للرجل أن يصبغ شعره إذا ابيض، وهل يجوز للمرأة ذلك أيضا؟
الجواب
فى حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم " "من كان له شعر فليكرمه " رواه أبو داود وتشهد له أحاديث أخرى، وصححه بعضهم، ووجوه الإكرام متعددة، وهو للرجل والمرأة، كل بما يليق به. كالترجيل والتمشيط والادهان ومنه تلوينه لإخفاء شيبه.
وقد تكلم العلماء قديما فى صبغ الشعر باللون الأسود، فمنعه الأكثرون، ولكن أدلتهم منصبة على الرجال، أو على حالة التدليس كالمرأه العجوز التى تريد أن تظهر شابة، ليرغب فى زواجها، أما المتزوجة التى يعلم ذلك زوجها فلا بأس بصبغ شعرها بما يروق لها، وله، بل إن ابن الجوزى أجازه للرجال، وما ورد من النهى عنه فمحمول على الإغراء والتهاون فى الطاعة التى ينبغى للشيخ أن يكثر منها استعدادا للقاء ربه.
قال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح المقدسى الحنبلى المتوفى فى 2 من رجب سنة 762 هـ وتلميذ ابن تيمية، فى كتابه "الآداب الشرعية والمنح المرعية": مذهب الحنابلة يُسَن تغيير الشيب، وفيه حديث الصحيحين "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " ويستحب بحناء وكتم، لفعل النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد ثقات، ولفعل أبى بكر وعمر متفق عليهما، ويكره بالسواد نص عليه أحمد قيل له: يكره الخصاب بالسواد؟ قال: إى والله لقول النبى صلى الله عليه وسلم عن والد أبى بكر "وجنبوه السواد" رواه مسلم والسبب - كما صرح به بعضهم -أن الشيخ الهرم إذا خضب شعره بالسواد يكون مُثْلة، ورخص فيه إسحاق بن راهويه للمرأة تتزين به لزوجها، ولا يكره للحرب، وعند الشافعية: يستحب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة ويحرم بالسواد على الأصح عندهم. انتهى.
ومما ورد فى النهى عن الصبغ بالسواد -إلى جانب حادثة والد أبى بكر- "يكون فى أخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة" رواه أبو داود والنسائى بإسناد جيد. والموضوع مستوفى فى الجز الثالث من موسوعة "الأسرة تحت رعاية الإسلام " ص 318-324-343-346"(10/256)
العمامة والعذبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن لبس العمامة سنة، وكذلك إرخاء العذبة بين الكتفين؟
الجواب
العمامة وهى غطاء الرأس يترك لكل جماعة ما يناسبهم مراعين فى ذلك الأجواء والظروف المختلفة، ولا يلتزم لون ولا شكل معين، وكانت العمامة عادة العرب لوقايتهم من الحر، وقد لبسها النبى صلى الله عليه وسلم كما اعتاد قومه، وأكثر ما ورد عنه فيها حكاية لأحواله، أما ما ورد من الأقوال فى التزامها فأكثره لا يصلح حجة فى ثبوت الأحكام ومنه ما روى عن عبد الله بن عمر مرفوعا"عليكم بالعمائم، فإنها سيما الملائكة وأرخوها خلف ظهوركم " (غذاء الألباب للسفارينى ج 2 ص 205) .
ومنه أيضا ما رواه الترمذى عن ركانة "إن فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس " (المواهب ج1 ص 327) وما رواه ابن عدى عن على "ايتو المساجد حسرا ومعممين، فإن العمائم تيجان المسلمين " (الجامع الصغير) وما رواه ابن عدى والبيهقى عن أسامة بن عمير "اعتموا تزدادوا حلما والعمائم تيجان العرب (الجامع الصغير) وما رواه ابن الطيالسى وابن أبى شيبة وأحمد بن منيع عن على أن النبى صلى الله عليه وسلم عممه يوم "غدير خم " وقال "إن العمامة حاجزة بين الكفر والإيمان " وفى رواية "حاجزة بين المسلمين والمشركين " (المطالب العالية ج2 257، 258) وذلك ضمن حديث "أن الله أمدنى يوم بدر وحنين بملائكة يعتمون بهذه العمة، إن العمامة حاجزة بين الكفر والإيمان " وما رواه الطبرانى عن أبى الدرداء "إن الله وملائكته يصلون على أصحاب العمائم يوم الجمعة" وكلها أحاديث ضعيفة.
لقد جعل ابن الحاج لبس العمامة من المباحات، لأن ذلك فعل للنبى صلى الله عليه وسلم لم يظهر فيه معنى القربة، بل يظهر معنى العادة والطبيعة كالأكل والشرب واللباس، وفيه خلاف فى التأسى به فيه " وجاء فى زاد المعاد (ج1،ص34) : أن النبى صلى الله عليه وسلم كان له عمامة تسمى السحاب، كساها عليا، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوه، وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه كما رواه مسلم فى صحيحه عن عمرو بن حريث.
وليس للعمامة لون خاص، ففي زاد المعاد (ج3 ص183) أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء، وأنه لم يلبس السواد لباسًا راتبًا ولا كان شعاره فى الأعياد والجمع والمجامع العظام ألبتة، وإنما اتفق له لبس العمامة السوداء يوم الفتح دون سائر للصحابة، ولم يكن سائر لباسه يومئذ السواد، بل كان لواؤه أبيض. وقد اعتم العباسيون بالسواد حدادًا على داعيتهم إبراهيم الذى قتله مروان آخر ملوك بنى أمية، وأول من لبسه منهم عبد الله بن على بن عبد الله بن عباس كما ذكره السيوطى فى أوائله (غذاء الألباب ج 2 ص 147) .
والذؤابة، وهى طرف العمامة، ارخاؤها عادة لا تعبد، روى الترمذى (زاد المعاد ج1 ص34) أن النبى لما رأى ربه فى المنام وسأله يا محمد: فيم اختصم الملأ الأعلى؟ فقال "لا أدرى" فوضع يده بين كتفيه فعلم ما بين السماء والأرض. . . فمن تكلم الغدوة أرخى النبى الذؤابة بين كتفيه، قال النووى: إن إسبال طرف العمامة مباح، ذكره فى شرح المهذب، وما ورد من أمر النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف بإرخائه عندما وجهه لسرية لا يعد تشريعا عامًا، وإسناده ليس بقوى، فقد رواه أبو يعلى والبزار والطبرانى. وقيل: إنه حسن -ولم يرد نهى عن العمامة بغير ذؤابة.
جاء فى زاد المعاد (ج1 ص34) : روى مسلم عن عمرو بن حريث قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه، وفى مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء، ولم يذكر فى حديث جابر "ذؤابة" فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه، وقد يقال: إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه،فلبس في كل موطن ما يناسبه.
والعمامة النبوية قماش كان يلفه على رأسه، وكان يثبتها بالتحنيك، أي لف طرفها تحت الحنك، وحمل توصية عمر بذلك على وقت الحرب لتثبيتها. ومن العجب أن الكمال بن الهمام من أئمة الحنفية قال فى "المسايرة" من استقبح من آخر جعل العمامة تحت حلقه كفر، ولم يرتض هذا المنصفون من أهل العلم.
وهذا الكلام ملخص من كلام طويل فى غذاء الألباب للسفارينى (ج2 ص 205) وأشار إليه ابن هشام فى السيرة النبوية (ج2 ص 362) ونيل الأوطار للشوكانى "ج 2 ص 111 ".
وفى بلوغ الأرب للآلوسى (ج3 ص 408) قيل لأعرابي إنك تكثر لبس العمامة، قال إن شيئا فيه السمع والبصر لجدير أن يوقى من القر- البرد- وقال فيها أبو الأسود الدؤلى: خيمة فى الحر ومكنة من الحر، ومدفأة من القر، ووقار فى الندى، وواقية من الأحداث وزيادة فى القامة، وهى من عادات العرب "انظر ابن حجر فى العمامة"(10/257)
جبر عظم الإنسان بعظم نجس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لو كسر عظم من الإنسان ولم نجد إلا عظم حيوان نجس فهل يصح جبره به؟
الجواب
جاء فى مجموع النووى: إذا انكسر عظم الإنسان ينبغى أن يجبر بعظم طاهر، قال أصحابنا: ولا يجوز أن يجبره بنجس مع قدرته على طاهر يقوم مقامه، فإن جبره بنجس نظر، إن كان محتاجا إلى الجبر ولم يجد طاهرا يقوم مقامه فهو معذور، وإن لم يحتج إليه أو وجد طاهرا يقوم مقامه أثم ووجب نزعه إن لم يخف منه تلف نفسه ولا تلف عضو ولم يوجد أحد الأعذار المذكورة فى التيمم، فإن لم يفعل أجبره السلطان، ولا تصح صلاته معه ولا يعذر بالألم إذا لم يخف منه سوءا، وسواء اكتسى العظم لحما أم لا، هذا هو المذهب، وهناك قول: أنه إذا اكتسى العظم لحما لا ينزع وإن لم يخف الهلاك، حكاه الرافعى ومال إليه إمام الحرمين والغزالى، وهو مذهب أبى حنيفة ومالك. وإن خاف من النزع هلاك النفس أو عضو أو فوات عضو لم يجب النزع على الصحيح من الوجهين.
ثم قال: فى مداواة الجرحى بدواء نجس وخياطته بخيط نجس كالوصل بعظم نجس.
وقال ابن قدامة فى المغنى: وإن جبر عظمه بعظم فجبر ثم مات لم ينزع إن كان طاهرا، وإن كان نجسا فأمكن إزالته من غير مُثلة أزيل، لأنه نجاسة مقدور على إزالتها من غير مضرة"ج 1 ص 733".
يؤخذ من هذا أن جبر العظم بعظم نجس لا يجوز إلا عند الضرورة، وإن لم توجد ضرورة وجب نزعه إلا إذا خاف من نزعه تلف نفس أو عضو أو فوات منفعة عضو، فإنه لا ينزع "الفتاوى الإسلامية - المجلد العاشر ص 3710"(10/258)
العمل بالكنيسة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يشترك فى بناء كنيسة أو فى خدمتها؟
الجواب
فى فقه الحنفية: لو آجر الإنسان نفسه لبناء كنيسة أو عمل شيء تعلق بعمارتها فالإجارة صحيحة، لأن ذلك من جنس الأعمال المباحة، وفى فتاوى قاضيخان: وكذا لو بنى بالأجر بيعة أو كنيسة لليهود والنصارى طاب الأجر.
وعندهم أن الفراش الذى يخدم الكنيسة يستحق الأجر ما دام أصل العمل مباحا وأما دق الناقوس للصلاة فلا يجوز.
وإن كان من توابع الخدمة فى الكنيسة حمل الخمر، فإن لم يكن الحمل بنية أن يعصى بشربها مسلم كانت الإجارة صحيحة، وطاب له الأخر عند أبى حنيفة خلافا لصاحبيه قال الكسائى فى "بدائع الصنائع " ج 4 ص190: ومن استأجر حمالا يحمل له الخمر فله الأجر فى قول أبى حنيفة، وعندهما-أى صاحبيه محمد وأبى يوسف -يكره، لهما- أى دليلهما - أن هذه إجارة على المعصية، لأن حمل الخمر معصية، لأنه إعانة على المعصية، وقد قال الله عز وجل "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ولهذا لعن الله عشرة، منهم حاملها والمحمولة إليه، ولأبي حنيفة أى دليله - أن نفس الحمل ليس بمعصية بدليل أن حملها للإراقة والتخليل مباح، وكذا ليس بسبب للمعصية وهو الشرب، لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار، وليس الحمل من ضرورات الشرب فكان سببا محضا، فلا حكم له كعصر العنب وقطفه، والحديث محمول على الحمل بنية الشرب، وبه نقول: إن ذلك معصية ويكره أكل أجرته.
يؤخذ من هذا أن أجير الكنيسة إذا كان قد تعاقد معهم على أخذ الأجرة فى نظير تعاطيه عملية الفراشة ودق الناقوس فالإجارة فاسدة، وأكل الأجرة مكروه، لأنه تعاقد معهم على عمل اقترن بمعصية وهى دق الناقوس، وينبغى له أن يترك هذا العمل ويبحث عن مرتزق أخر "مجلة الإسلام -المجلد الرابع -العدد الثالث "(10/259)
القصص والشعر الخيالى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يعمد بعض الكتاب إلا تأليف قصة خيالية، وكذلك بعض الشعراء لهم عبارات خيالية، فهل يدخل هذا فى ضمن الكذب غير المطابق للواقع؟
الجواب
لا بأس بكتابه قصص خيالى أو شعر خيالى إذا كان يستهدف خيرا، ويتفادى به شرا، وذلك كالقصص على لسان الحيوانات فى كتاب "كليلة ودمنة".
فالمقياس هو عدم تكذيب شىء ثابت، وبخاصة مقررات الدين، وعدم الوصول به إلى غرض سيئ أو ترتب نتيجة سيئة عليه، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار(10/260)
تحول التوائم إلى قطط
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إن المرأة إذا ولدت توأما فإن أرواح الولدين تتحول بالليل إلى قطط. فهل هذا صحيح؟
الجواب
الغالب فى النساء أن تلد المرأة مولودا واحدا فى كل حمل تحمله، وقَلَّ أو ندر أن تلد اثنين فى حمل واحد، ويطلق عليهما اسم التوأم أو التوأمان، وليست لهما خاصة مميزة عن غيرهما من سائر المولودين، فقانون الحياة واحد فى الجميع، وكل الناس مخلوقون بقدرة الله تعالى من أب وأم من الإنس والبشر وليسوا من عالم أخر.
ويبدو أن الغرابة فى ولادة التوأمين حملت بعض الناس على إلصاق الغرائب بهما، وذلك شأن كل غريب يبالغ فى الاهتمام به، وهذا الاهتمام قد يكون مشوبا بالعمل على حمايتهما وعدم التعرض لهما بسوء، وقد يكون مشوبا بالرحمة والعطف أحيانا، ومن هنا يختلف أسلوب الوالدين فى رعايتها، وفى ظل هذه الأفكار والأساليب ظهرت مقولة أن التوأمين ينقلبان بعد أربعين يوما إلى هيئة قطط تسرح بالليل في الشوارع والبيوت ومن الغريب أن يقال ذلك والتوأمان نائمان موجودان فى المهد، ولكن ما يزال اعتقاد بعض الناس أن أرواحهما إن لم تكن في أجسادهما تحل فى قطط، ومن هنا يحذر الناس أن يؤذوا هذه الحيوانات لأنها من جنس بنى آدم فى صورة قطط.
واستغل الدجالون هذه الخرافة وزعموا أنهم يستطيعون أن يحرسوا التوائم فلا تخرج بالليل على هيئة حيوانات، ويعملون ما يعملون من أحجبة وتعاويذ يبتزون بها أموال البسطاء. بل قد تستغل أم التوأمين هذه الفرصة لستجدى الناس بعض المال لرعايتهما.
وكل هذه الاعتقادات وما تجر إليه لا يوافق عليه الدين أبدا، بل ولا تقبله العقول السليمة، وفى التاريخ توائم عاشت عيشة طبيعية كسائر الناس، بل كان لبعضهم شأن كبير فى ميدان من الميادين المختلفة، والواجب علينا أن نقاوم هذه الخرافات عن طريق التوعية الصحيحة وفى هدى الإسلام متسع لمن أراد أن يتعلم ويعلِّم(10/261)
رفض الصلح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين في شخص أساء إلىَّ، وعندما أردت مصالحته ومددت يدى لأصافحه رفض وقال: لن أسلم عليك لو جاءنى النبى أو شيخك؟
الجواب
الهجران بين المسلمين لغير غرض شرعى ممنوع، والحديث صريح فى ذلك "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذى يبدأ بالسلام " رواه البخارى ومسلم.
وحذَر النبى صلى الله عليه وسلم من رفض الصلح فقال "ومن أتاه أخوه متنصلا فليقبل ذلك، محقا كان أو مبطلا، فإن لم يفعل لم يرد على الحوض " رواه الحاكم عن أبى هريرة بسند فيه مقال، ورواه الطبرانى عن عائشة بلفظ "ومن اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل عذره لم يرد على الحوض ". والخطورة فى هذا السؤال هي مع رفض الصلح، فى قول الرافض: لا أقبل السلام لو جاءنى النبى أو شيخك، ففيه استهانة بمقام الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو قبل أن يرفض توسط الرسول فى الصلح فأخشى أن يحكم عليه بما حكم به على من يقول: أكون يهوديا أو نصرانيا إن كنت فعلت هذا الشىء، فقد قال العلماء: لو كان مستعدا للدخول فى غير الإسلام عند حصول المعلق عليه كان مرتدا من وقت قوله هذا، أما إذا لم يكن مستعدا لذلك ولكنه يريد تأكيد الرفض فقد ارتكب إثما عظيما.
فأرجو الصفح والعفو وقبول الصلح وضبط الأعصاب حتى لا يكون تورط فى مثل هذه الكلمات(10/262)
تمنى المحرمات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى تمنى المحرمات وتخيلها، حيث يوسوس الشيطان للإنسان ويجعله يتخيل أشياء محرمة؟
الجواب
للنفس حركات منها الخاطر والهاجس وحديث النفس والهم والعزم. وقد صح الحديث بأن من همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب سيئة، فإن عملها كتبت سيئة واحدة.
والعزم هو الهم المصمم المقارب للتنفيذ وقد صح الحديث بالمؤاخذة عليه إذا كان فى سيئة، وجاء ذلك فى حديث المسلمين اللذين يلتقيان بسيفهما، وأن المقتول سيدخل النار أيضا كالقاتل، لأنه كان حريصا على قتل صاحبه.
والحركات النفسية التى قبل مرحلتى الهم والعزم لا مؤاخذة عليها، لأنها تعرض لكل الناس تقريبا، والمؤاخذة عليها تكليف بما لا يطاق، وقد صح فى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم ".
وبناء عليه نقول للسائل: إن تمنى المحرمات وتخيلها إن لم يصل إلى درجة الهم والعزم فلا مؤاخذة عليه. وأضع أمامه قول الله تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} فصلت: 36، وعليك أن تقطع التفكير فى السوء الذى تتشوف إليه نفسك وتتمناه، فقد يجر ذلك إلى أخذ خطوة لتنفيذه بالهم أو العزم(10/263)
مم خلق الحيوان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
خلق الله الإنسان من طين والملائكة من نور والجن من نار، فمن أى شىء خلق الحيوان؟
الجواب
لا يوجد نص قاطع عن المادة التى خلق منها الحيوان، وما يقال هو آراء للعلماء، ومما قيل إن الحيوان خلق مما خلق منه الإنسان وهو الأرض وهما يشتركان فى صفات كثيرة.
وعندما عرَف رجال المنطق والفلسفة الإنسان قالوا: إنه حيوان ناطق، أى زاد على الحيوان بأن له عقلا كرمه الله به ليسود كل ما خلق الله له فى الأرض.
وكانت الخلائق التى تعيش فى الأرض مخلوقة قبل آدم، ومما خلقت منه أخذ الله قطعة سواها آدم، ثم أهبطه من الجنة ليكون خليفة فى الأرض التى خلق منها.
فالحيوانات خلقت من الأرض كآدم، وتعامل معها بكل أنواع التعامل التى يفيد منها لتقارب الطبائع(10/264)
التشفى بالموت والمصائب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
توفى لنا زميل فى حادثة ففرح أحد الزملاء وقال:
الحمد لله، قد انتقم منه الله، لأنه حرمنى من علاوة بدون وجه حق، فهل هذا القول جائز؟
الجواب
لا شك أن الموت من أعظم ما يقع بالمؤمنين من الابتلاء له ولمن يتركهم بعده، وعند المصائب يجب الاعتبار والاتعاظ، والرحمة الإنسانية تحمل على الحزن بل والبكاء مهما كانت معاملة الميت، لقد قام النبى صلى الله عليه وسلم لجنازة، ولما قيل له: إنها ليهودى قال "أليست نفسا"؟ رواه البخارى ومسلم.
وليعلم كل إنسان أن التشفى بالموت ليس خلقا إنسانيا ولا دينيا، فكما مات غيره سيموت هو، وهل يسر الإنسان إذا قيل له: إن فلانا يسعده أن تموت؟ والنبى- صلى الله عليه وسلم قال "لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك "رواه الترمذى وحسَّنه.
إن الشماتة بالمصائب التي تقع للغير تتنافى مع الرحمة التى يفترض أنها تسود بين المسلمين والنبى صلى الله عليه وسلم -على الرغم من إيذاء أهل الطائف له - لم يشأ أن يدعو عليهم بالهلاك وقد خيره جبريل فى ذلك، ولكن قال فى نبل وسمو خلق "لا، بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا" ثم تسامى فى النبل والكرم فدعا لهم بالهداية والمغفرة.
ولما منع ثمامة بن أثال عن قريش إمدادهم بالطعام، وقد كانوا فى قحط، لم يظهر الرسول بهم شماتة ولم يفرح لما أصابهم، بل أمر بإمدادهم بما كان معتادا، عندما ناشدوه الله والرحم وسألوه بأخلاقه السمحة المعهودة فيه. وقد قال فى صفات المنافقين "وإذا خاصم فجز ومن الفجور الشماتة.
إن الشماتة بالغير خلق الكافرين والمنافقين الذين قال الله فيهم {إن تمسسكم حسنة تسؤهم. وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها. وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} آل عمران: 120، ألا فليعلم الشامتون بغيرهم أن الأيام دول والشاعر الحكيم يقول:
فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا قال الله تعالى عندما شمت الكافرون بالمسلمين فى غزوة أحد {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} آل عمران: 140(10/265)
أنواع النفس أو صفاتها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى القرآن أوصاف متعددة للنفس،فهل هى نفس واحدة أو عدة أنفس؟
الجواب
للنفس إطلاقات كثيرة، فقد تنطلق على الذات وعلى الدم كما يقول الفقهاء "وما لا نفس له سائلة إذا وقع فى الإناء ومات فيه فإنه لا ينجسه " وتطلق على غير ذلك، والذى يهمنا هو إطلاقها على اللطيفة الربانية التى هى الأصل الجامع لقوتى الغضب والشهوة فى الإنسان كما يقول أهل التصوف: لابد من مجاهدة النفس وكسرها، وكما يعبر عنه القول المشهور- وهو ليس بحديث - أعدى أعدائك نفسك التى بين جنبيك وقد يراد بالنفس ذات الإنسان وحقيقته، وهى على كل حال من أعظم الدلائل على قدرة الله فى خلقتها وأسرارها قال تعالى فى قسمه بها، وهو لا يقسم إلا بالعظيم الخطير {ونفس وما سواها.
فألهمها فجورها وتقواها. قد افلح من زكاها. وقد خاب من دساها} الشمس: 7-10، أى من دنسها بالمعاصى.
إن هذه النفس توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها، فإذا سكنت لأمر الله ولم تعارضها الشهوات سميت النفس المطمئنة، قال تعالى {يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعى إلى ربك راضية مرضية} الفجر: 27، 28.
وإذا قبلت أمر الله ومع ذلك قامت بمدافعة الشهوات واعترضت عليها سميت النفس اللوامة، لأنها تلوم صاحبها عند التقصير فى الطاعة، قال تعالى {ولا أقسم بالنفس اللوامة} القيامة: 2، فإن أذعنت للشهوات ولم تعترض عليها وأطاعت الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء قال تعالى {وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى} يوسف: 53.
فأحسن أنواعها هى النفس المطمئنة، ثم النفس اللوامة التى يعبر عنها أحيانا بالضمير حين يحاسب الإنسان بعد الفعل وعندما يتربى يرشده إلى الخير قبل الفعل، ويحرسه فى أثنائه ويرضى عنه بعد انتهائه.
ومهما يكن من شىء فهى ليست نفوسا منفصلة، ولكنها نفس واحدة لها عدة أحوال، ويمكن بالتربية الدينية أن يتغلب الإنسان على شهواته التى تدفعه إلى السوء وأن يجعل ضميره حيا يقظا يأمره بالخير وينهاه عن الشر، وأن يتصاعد فى التربية العملية حتى إلى حالة أو مقام تكون نفسه فيه راضية مطمئنة، وللمزيد من المعلومات يرجع إلى "إحياء علوم الدين للغزالى" وإلى كتب الأخلاق والتصوف(10/266)
الدين والطب النفسى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيح قوله تعالى {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} ؟
الجواب
إن غالب الأمراض النفسية يأتى من أفكار تتأثر بها أعصاب الإنسان وتتغير بها نظرته إلى الحياة، ويضطرب سلوكه بالتالى بوجه عام، وعلاج أى مرض يكون بعلاج أسبابه، وذلك بتصحيح الأفكار والعقائد، وقد صح فى الحديث المتفق عليه "ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب ".
فهو مستقر العقائد ومبعث الوجدان، والدين بعقائده وعباداته وأخلاقه علاج لكل الأمراض العقلية والنفسية بل والأمراض الجسدية، فهو يزيل الشك ويثبت اليقين، والتفقه فيه وممارسة مبادئه بصدق يمنع العقد النفسية، ويشفيها ويعالجها كما قال تعالى {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} الإسراء: 82، وقال {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور} يونس: 57.
والعبادات وقراءه القرآن وذكر الله والدعاء من أنفع أنواع العلاج للأمراض النفسية إن لم تكن أنفعها على الإطلاق، فهى دواء الله العليم بأحوال النفوس، والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبة -أو حزنه -أمر فزع إلى الصلاة. رواه أحمد، وهو القائل "وجعلت قرة عينى فى الصلاة" رواه النسائى والطبرانى والحاكم وصححه وقال الحافظ: إسناده جيد.
وقد ورد فى السنة النبوية أدعية لتفريج الهم والكرب وإزالة الخوف والقلق وغيره من أمراض النفوس، مذكور كثير منها فى كتاب "زاد المعاد" لابن القيم، وكتاب "الأذكار للنووى".
وكل ذلك مع الإيمان بأن الله حكيم فى قوله وفعله، وان قضاءه نافذ لا راد له والواجب هو الرضا والصبر، وفى ذلك راحة نفسية وانتظار للفرج وتكفير للسيئات أو رفع للدرجات {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} البقرة: 153، {وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} البقرة:155 -157(10/267)
الأصبع الزائدة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ولد لى ولد له إصبع فى يده زائدة وتركته حتى بلغ خمس سنوات فرأيت الصبيان يهزءون به من أجلها، فهل لو قطعتها يكون ذلك حراما؟
الجواب
يقول الله تعالى عن إبليس {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} النساء: 119 تحدث علماء التفسير عن معنى هذه الآية وتطرقوا إلى الكلام عن الإصبع الزائدة وعن اللحية إذا نبتت للمرأة، وقال جماعة من الفقهاء: لا يجوز تغيير ذلك مطلقا لنص الآية، وقال آخرون بالجواز مستندين إلى أمرين: الأمر الأول أن معنى تغيير خلق الله لم يتفق عليه، فإن بعض المفسرين قالوا: المراد منه ما تدل عليه الآية {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} المائدة: 103 وعلى هذا فهى ليست نصا قاطعا فى الدلالة على التحريم، والأمر الثانى أن إزالة الإصبع أو السن الزائدة ليس المراد به تغيير خلق الله، بل المراد التحسين والتجميل لما خلق الله، وذلك غير حرام.
وإذا كان الحديث الشريف لعن الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة ... وجاء فيه "المغيرات خلق الله " فإن اللعن يجوز أن يكون منصبا على التغرير والتدليس الذى يظهر به الشىء وقتا حسنا ثم يظهر قبيحا وقتا آخر، فيحصل به الغش، أو يراد به السوء والفتنة. وإذا انتفى ذلك فلا مانع.
والإصبع الزائدة لا شك أنها تؤذى صاحبها بدنيا أو نفسيا، وليس فى إزالتها تدليس ولا تغرير لأنها لا تنبت بعد ذلك، وهى ظاهرة مكشوفة للناس.
ثم قالوا لو أن إنسانا خلق وقلبه خارج صدره فهل يحرم إجراء عملية تعيد القلب إلى وضعه الطبيعى؟ أو لو خلق توأمان متصلان وأمكن فصلهما بدون ضرر على أحدهما هل يحرم ذلك؛ إنها حالات استثنائية ليس هناك ضرر من معالجتها، بل فى ذلك نفع وفائدة ومن هنا أختار الرأى القائل بإزالة الإصبع الزائدة، وقد نص على ذلك ابن حجر فى فتح البارى "ج 12 ص 500"(10/268)
استثناءات فى الغيبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الفاسق المجاهر بفسقه يجوز أن يغتابه الناس ولا حرمة فى ذلك؟
الجواب
معروف أن الغيبة - وهى ذكرك أخاك بما يكره وإن كان فيه - محرمة، والنصوص فى ذلك كثيرة، إلا أن العلماء استثنوا من ذلك أمورا جعلها الغزالى ستة:
1 - التظلم عند شكوى الظالم إلى القاضى يذكر عيوبه التى أدت إلى ظلمه مثل خيانة الأمانة وأخذ الرشوة، وذلك لحديث "إن لصاحب الحق مقالا" رواه البخارى ومسلم وحديث "مطل الغنى ظلم " رواه البخارى ومسلم وحديث "لَىَّ الواجد يحل عقوبته وعرضه " رواه أبو داود والنسائى وابن ماجه بإسناد صحيح. وحل العرض معناه الكلام عنه بما يكرهه.
2- الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصى إلى منهج الصلاح، كما روى أن عمر رضى الله عنه مر على عثمان -وقيل على طلحة- رضى الله عنه فسلَّم فلم يرد السلام، فذكر ذلك لأبى بكر رضى الله عنه.
فأصلح الأمر، فذكر عمر لأبى بكر أن عثمان لم يرد عليه السلام يكرهه عثمان، ولكن عمر أراد الإصلاح فتدخل أبو بكر لذلك، وكذلك لما بلغ عمر رضى الله عنه أن أبا جندل قد عاقر الخمر بالشام، فكتب إليه أول سورة غافر فتاب ولم يَعُدَّ ذلك عمر ممن أبلغه غيبة، لأن القصد من ذلك النصح والإصلاح والأعمال بالنيات فإن قصد التشهير أو غير ذلك كان حراما.
3- الاستفتاء كما يقول الإنسان للمفتى ظلمنى فلان فكيف الخلاص، قال الغزالى:
والأسلم التعريض بأن يقول: ما قولك فى رجل ظلمه أخوه، وإن كان التعيين مباحا بقدر الحاجة، دليله أن هند زوجة أبى سفيان شكت للنبى صلى الله عليه وسلم أنه رجل شحيح لا يعطيها ما يكفيها وولدها، فهل تأخذ منه بغير علمه، فأذن لها النبى أن تأخذ بالمعروف، رواه البخارى ومسلم فلأن النبى لم يزجرها لا يعد ذلك غيبة.
4- تحذير المسلم من الشر، كتحذير إنسان طيب من التردد أو التعامل مع فلان الشرير، وذلك للنصح، فلا يأثم بذكر مساوئ فلان بالقدر الضرورى، فإذا قصد الطعن أو التشفى أو الحسد كان حراما، فالأعمال بالنيات، ومثل ذلك الاستشارة فى الزواج وإيداع الأمانة، يقول النبى صلى الله عليه وسلم "أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اهتكوه حتى يعرفه الناس، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس " رواه الطبرانى وابن حبان فى الضعفاء، يقول الغزالى:
وكانوا يقولون: ثلاثة لا غيبة لهم، الإمام الجائر والمبتدع والمجاهر بفسقه.
5- أن يكون الإنسان معروفا، بلقب يُعرب عن عيبه، كالأعرج والأعمش، فلا إثم على من يقول: قابلت الأعمش أو الأعرج إذا كان معروفا. لأن صاحبه لا يكره أن يذكر به لتعوده، وإن كان الأفضل التعبير عنه بعبارة أخرى يمكن أن يعرف بها، ولذلك يقال للأعمى:
البصير عدولا عن اسم النقص.
6- أن يكون مجاهرا بالفسق كالمخنث ومدمن الخمر ولا يستنكف أن يذكر به، ففى الحديث "من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له " رواه ابن عدى وأبو الشيخ بسند ضعيف.
وقال عمر رضى الله عنه: ليس لفاجر حرمة، وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر "الإحياء ج 3 ص 132 " الزواجر لابن حجر ج 2 ص 15، الأذكار للنووى ص 338" ويؤخذ من هذا أن حديث "لا غيبة لفاسق " حديث منكر أو ضعيف النسبة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان الحكم صحيحا على الوجه المذكور(10/269)
مجالس المنكر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لى صديق دعانى إلى حفل بمناسبة عيد زواجه فوجدت أنه يقدم خمرا لبعض الحاضرين، فماذا أصنع وأنا لو انسحبت يعد ذلك إساءة؟
الجواب
من المقرر فى الدين أن المسلم يجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإذا رأى منكرا يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.
والجالس مع جماعة فى حفل أو مأدبة وفيهم من يشرب الخمر أو يفعل أى منكر يجب عليه أولا أن يقوم بالتغيير بما يستطيعه من عمل أو قول، وذلك إذا كانوا مسلمين فالخمر حرام عليهم، فإن لم ينتهوا وجب الانسحاب من الحفل، ولا يكتفى بأن يقول: اللهم هذا منكر لا يرضيك ويستمر جالسا معهم، فذلك إقرار لهم على فعلهم، أو على الأقل تشجيع لهم حيث لم يجدوا من هذا الشخص إنكارا.
وقد قرر العلماء أن إجابة الدعوة لوليمة العرس واجبة، إلا إذا وجد منكرا، فلا يجب عليه أن يلبى الدعوة بل عليه أن ينصرف إن لم يستطع تغيير المنكر.
وقد روى أن عمر بن عبد العزيز أقام حد الشرب على رجل حضر مجلسا فيه خمر، وقالوا لعمر، إنه لم يشرب لأنه صائم، فقال: ابدءوا به فاجلدوه، أوما سمعتم قول الله تعالى {وقد نَّزل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذا مثلهم} النساء: 140.
يقول القرطبى فى تفسيره لهذه الآية "ج 5 ص 418" فكل من جلس فى مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم فى الوزر سواء، وينبغى أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغى أن يقوم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وجاء فى "كفاية الأخبار" فى فقه الشافعية "ج 2 ص 6": هناك وجه يجوِّز الحضور مع المنكر ولا يسمع بل ينكر بقلبه، كما لو كان بجواره منكر كطرب، فلا يلزمه التحول وإن بلغه الصوت، قال النووى: هذا الوجه غلط، وهو خطأ ولا يعتبر بجلالة صاحب " التنبيه " وغيره ممن ذكره فعلى الصحيح لو لم يعلم المنكر حتى حضر نهاهم، فإن لم ينتهوا فليخرج، فإن قعد حرم عليه القعود على الصحيح، فإن تعذر الخروج بأن كان فى ليل وهو يخاف قعد وهو كاره ولا يستمع، فإن استمع فهو عاص، ولا يجامل بالحضور، فإن المجاملة لا تكون على حساب الدين، لما دعت فاطمة بنت رسول الله أباها ووجد عندها قراما -سترا فيه صور- رجع مغضبا لم يجامل ابنته(10/270)
التقارير السرية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أعمل بوظيفة توجب علىَّ أن أعمل تقارير سرية عما يدور فى مكان العمل إلى الرؤساء فهل هذه نميمة؟
الجواب
النميمة هى نقل أخبار وأحوال بقصد الإفساد والإضرار بالمنقول عنه، ونيل مرغوب فيه ضد المنقول إليه، ومن المعلوم أن النميمة مذمومة وعقابها شديد، وفى الحديث "لا يدخل الجنة نمام " رواه البخارى ومسلم، أى لا يدخلها أصلا إن اعتقد أنها حلال، أو لا يدخلها قبل أن يعذب فى النار إن لم يتب منها، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يبلِّغه أحد عن أصحابه شيئا مكروها، لأنه يحب أن يخرج إليهم وهو سليم الصدر. رواه أبو داود والترمذى. لكن إذا طُلب من الإنسان أن يرفع تقريرا عن العمل أو العامل بقصد الاطلاع وإصلاح العيوب فلا بد من وضع صورة صادقة عنه بدون تزيد ولا نقص، وبدون قصد الإضرار بالإنسان، وذلك كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يرسل الطلائع والسرايا لمعرفة أخبار العدو حتى يتخذ العدة لمقابلتهم، والأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
وليكن معلوما أن التقارير السرية شهادة فلابد أن تكون صادقة وعادلة لا يؤثر عليها ترغيب ولا ترهيب، ويكفى قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} النساء: 135 وقوله {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} الأنعام: 152 وقوله {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض أم نجعل المتقين كالفجار، ص: 28 وقوله {ولكلٍّ درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} الأحقاف: 19 وقوله {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا} النساء: 77(10/271)
الهدنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
متى يجوز عقد الهدنة مع الأعداء؟
الجواب
يقول الله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} الأنفال: 61 ويقول {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} براءة: 1.
معلوم أن الإسلام دين السلام، ولم يشرع الحرب إلا للدفاع وتأمين طريق الدعوة، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تطبيقا لمنهج الإسلام فى ذلك، يكره الحرب وينهى عن تمنى لقاء العدو، ويتمنى أن يعرض عليه المشركون خطة فيها إصلاح وعدم قتال، ورضى أن يعقد مع المشركين هدنة لوقف القتال ما دامت فى مصلحة المسلمين.
جاء فى المغنى لابن قدامة "ج 10 ص 517" فى معنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض، وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة وذلك جائز -وذكر الآيتين السابقتين-وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبى صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون. ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين -أى لمصلحتهم- إما أن يكون فيهم ضعف عن قتالهم وإما أن يطمع فى إسلامهم بهدنتهم أو فى أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة أو غير ذلك من المصالح.
إذا ثبت هذا فإنه لا تجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدة، لأنه يفضى إلى ترك الجهاد بالكلية، ولا يجوز أن يشترط نقضها لمن شاء منهما، لأنه يفضى إلى ضد المقصود منها، وإن شرط الإمام لنفسه ذلك دونهم لم يجز أيضا، ذكره أبو بكر، لأنه ينافى مقتضى العقد، فلم يصح كما لو شرط ذلك فى البيع والنكاح.
وقال القاضى والشافعى: يصح، لأن النبى صلى الله عليه وسلم صالح أهل خيبر على أن يقرهم ما أقرهم الله تعالى. ولا يصح هذا، فإنه عقد لازم فلا يجوز اشتراط نقضه كسائر العقود اللازمة، ولم يكن بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أهل خيبر هدنة، فإنه فتحها عنوة، وإنما ساقاهم وقال لهم ذلك، وليس هذا بهدنة اتفاقا.
ثم قال ابن قدامة: ولا يجوز عقد الهدنة إلا على مدة مقدرة معلومة، لما ذكرنا، وقال القاضى: وظاهر كلام أحمد أنها لا تجوز أكثر من عشر سنين، وهو اختيار أبى بكر ومذهب الشافعى، لأن قوله تعالى {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} عام خص منه مدة العشر، لمصالحة النبى صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية عشرا، ففيما زاد يبقى على مقتضى العموم، فعلى هذا إن زاد المدة على عشر بطل فى الزيادة، وهل تبطل فى العشر؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة.
وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنه يجوز على أكثر من عشر، على ما يراه الإمام من المصلحة، وبهذا قال أبو حنيفة، لأنه عقد يجوز فى العشر، فجازت الزيادة عليها كعقد الإجارة، والعام مخصوص فى العشر لمعنى موجود فيما زاد عليها، وهو أن المصلحة قد تكون فى الصلح أكثر منها فى الحرب.
ثم قال: وتجوز مهادنتهم على غير مال، لأن النبى صلى الله عليه وسلم هادنهم يوم الحديبية على غير مال، ويجوز ذلك على مال يأخذه منهم، فإنها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى. وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه، وهو مذهب الشافعى، لأن فيه صغارا للمسلمين، وهذا محمول على غير حال الضرورة، فأما إن دعت إليه ضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر فيجوز، لأنه للأسير فداء نفسه بالمال فكذا هنا، ولأن بذله المال إن كان فيه صغار فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه، وهو القتل والأسر وسبى الذرية الذين يفضى سبيهم إلى كفرهم.
ثم تحدث عن مشروع صلح النبى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب مع عيينة بن حصن على ثلث تمر المدينة، ورفض سعد بن معاذ وسعد بن عبادة لذلك، لأنه مذلة لهم بعد أن أعزهم الله بالإسلام، ولما طلب الحارث ابن عمرو الغطفاني من النبى صلى الله عليه وسلم نصف تمر المدينة، وإلا ملاها عليهم خيلا ورجلا، فقال له: حتى أشاور السعود، يعنى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وسعد بن زرارة، فشاورهم فرفضوا ما دام لم يكن ذلك أمرا من السماء ولا رأيا يحبه النبى وقالوا: ما كنا نعطيهم فى الجاهلية بسرة ولا تمرة إلا شراء أو قرى، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام؟ وجاء فى تفسير القرطبى "ج 8 ص 40" أن المسلمين إذا كانوا على عز وقوة ومنعة وجماعة عديدة وشده فلا يطلبون الصلح مع الكفار لقوله تعالى {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم} محمد:35 كما قال القائل:
فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا * وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم وإن كان للمسلمين مصلحة فى الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه.
ثم ذكر القرطبى أن القشيرى قال: إذا كانت القوة للمسلمين فينبغى ألا تبلغ الهدنة سنة، وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة، وقال الشافعى: لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبى صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهى منتقضة، وقال ابن حبيب عن مالك رضى الله عنه: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة ... وذكر القرطبى مشاورة النبى صلى الله عليه وسلم للسعدين فى مشروع الصلح يوم الأحزاب على ثلث تمر المدينة، ورفضهما لذلك وقولهما أخيرا:
والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسُر بذلك النبى صلى الله عليه وسلم وقال "أنتم وذاك " وقال لعيبنة والحارث "انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف " وتناول سعد الصحيفة التى فيها مشروع الصلح وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فمحاها.
وفى هذا دلالة واضحة على أن المشروعات التى تنعكس آثارها على مجموع الأمة لا ينفرد بالموافقة عليها الحاكم، بل لابد من إشراك الشعب فيها، وهذه هى الشورى المعبرة بصدق عما يسمى فى العصر الحديث بالحكم الديمقراطى، حيث نزل الرسول على رأى ممثلى الشعب هنا كما نزل على رأيهم فى دخول المعركة فى بدر، وفى مواقع أخرى.
هذا، ويمكن استيفاء الموضوع فى كتاب زاد المعاد لابن القيم فى أحكام صلح الحديبية والفتاوى الإسلامية- المجلد العاشر ص 1-36(10/272)
حكمة خلق الحشرات والوحوش
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا كانت الحشرات والوحوش ضارة للإنسان فلماذا خلقها الله سبحانه؟
الجواب
من صفات الله تعالى أنه حكيم عليم خبير، فهو سبحانه منزه عن العبث فى جميع تصرفاته، والعقل الإنسانى مهما كانت قوته محدود، فهو يجهل كثيرا من أسرار الخلق، بل وفيما كلف به من أعمال، قال تعالى {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} الإسراء: 85 وقال {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} البقرة: 216 وقد أمرنا بالبحث والنظر فى ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شىء وشجع العلم فى كل مجالاته، وكرم العلماء ورفعهم درجات، وقد أدرك السابقون بعضا من حكم الخلق وما يزال العلم الحديث يكشف عن حكم وأسرار.
إن وجود الحشرات والحيوانات المتوحشة فيه حفظ للتوازن بين المخلوقات، وقد ذكر الجاحظ فى كتابه "حياة الحيوان" أن من العجيب فى قسمة الأرزاق أن الثعلب يصيد القنفذ فيأكله، والقنفذ يصيد الأفعى ليأكلها، والأفعى تصيد العصفور لتأكله، والعصفور يصيد الجراد فيأكله ... إلى غير ذلك مما ذكره، كما أن وجودها فيه منافع تغيب عن أذهان الكثيرين، فإلى جانب منافعها الاقتصادية من جلود وعظام وشعر، وما تقوم به الحشرات من حمل اللقاح للنبات - هى جنود يسلط الله بعضها على بعض للقضاء عليها أو الحد من تكاثرها لفسح المجال للإنسان كما أنها جنود يعذب الله بها أقواما يعبدوه ولم يشكروا نعمته. ألم يقل الله فى عذاب قوم فرعون {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات} الأعراف: 133 وألم نعلم أنه لولا السوس مثلا لادخرنا الحبوب ومنعناها عن غيرنا ممن يحتاجونها؟ جاء فى حياة الحيوان الكبرى للدميرى "مادة ذباب" أن أبا جعفر المنصور كان جالسا فألح على وجهه ذباب حتى أضجره فاستدعى عالما فجىء له بمقاتل بن سليمان "توفى سنة155 هـ " فسأله: لماذا خلق الله الذباب؟ فقال: ليذل به الجبابرة فسكت المنصور، وقال الدميرى فى مناقب الشافعى "توفى سنة 204 هـ" إن المأمون سأله مثل هذا السؤال. فقال: مذلة للملوك.
فضحك المأمون وقال: رأيته وقد وقع على جسدى؟ فقال: نعم ولقد سألتنى عنه وما عندى جواب، فلما رأيته قد سقط منك بموضع لا يناله منك أحد فتح الله لى فيه الجواب، فقال: لله درك.
هكذا كان جواب العلماء فى حكمة خلق الذباب بما بدا لهم فى حينه، وصدق الله إذ يقول {وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} الحج: 73.
إن فى خلق كل شى حكمة وله فائدته، حتى إبليس نفسه، جعله الله عدوا مبينا لنا لنعبد الله بمجاهدته فنؤجر، ونستعيذ بالله منه فنثاب، ولولاه مع الغرائز ما كانت حركة الحياة، ولكنا ملائكة نمشى على الأرض فلا نستطيع تحقيق الخلافة فيها، فلنؤمن بأن الله حكيم فيما خلق وشرع ولنحاول أن نستفيد من خلقه بما يزيدنا إيمانا به(10/273)
الولاية بين المؤمن وغيره
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الولاية بين المؤمن وغيره من أهل الكتاب ومن المشركين؟
الجواب
يقول الله سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر} آل عمران: 118 وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا} النساء: 144 وقال {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} آل عمران: 28 وقال {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} المجادلة: 22 وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ... } إلى أن قال {ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل} الممتحنة: 1.
تدل هذه الآيات على حرمة اتخاذ المسلم بطانة من غير المسلمين، وحرمة اتخاذهم أولياء، وحرمة موادتهم ومحبتهم، وبينت مبررات هذا الحكم، وتوعدت من يخالف ذلك بأنه ضل سواء السبيل.
وفى الوقت نفسه جاءت آية تجيز التعامل مع غير المسلمين كقوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} الممتحنة: 8، 9 إلى جانب نصوص وحوادث كان المسلمون فيها يتعاملون مع غيرهم.
وللتوفيق بين ذلك قال العلماء: إن المحرم المنهى عنه هو الحب القلبى والمودة للإعجاب بما عندهم من عقائد وتشريعات. وكذلك الموالاة والنصرة والثقة بهم والاطمئنان الكامل للتعامل معهم، لأن الإعجاب قد يؤدى إلى الكفر، ولأن الموالاة قد تؤدى إلى إفشاء الأسرار لهم أو إطلاعهم على أسرار المسلمين لاستغلالها لمصلحتهم والنهى عن هذين الأمرين يشمل الكفار الحربيين وغير الحربيين، أما التعامل الظاهرى الخالى من الإعجاب والموالاة فلا مانع منه لغير الحربيين من المعاهدين والذميين، ويمكن الرجوع إلى توضيح ذلك فى عنوان:
العلاقة بين المسلم وغيره.
والواجب على المسلمين هو الحذر والحيطة، وللظروف دخل فى ذلك، ويحمل على هذا ما ورد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " رواه أبو داود، وقد نهى عمر رضى الله عنه عن استعمال غير المسلمين فى الكتابة والأمور الأخرى، وقوله فى ذلك لأبى موسى الأشعرى: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خوَّنهم الله. "يراجع تفسير القرطبى ج 4 ص 878" لتوضيح ذلك ويراجع غذاء الألباب للسفارينى ج 2 ص 12 وما بعدها(10/274)
مسئولية الطبيب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم ما لو قام الطبيب بعلاج مريض أو بعملية جراحية توفى بسببها المريض أو ترتب عليها ضرر له هل يضمن أو لا؟
الجواب
روى أبو داود والنسائى وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن " يقول ابن القيم فى زاد المعاد "ج 3 ص 109 "إن الطبيب الجاهل إذا تعاطى علم الطب وعمله ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان لذلك وهذا إجماع من أهل العلم، فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود، لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض.
ثم يقول: الطبيب الحاذق الذى يعطى الصنعة حقها ولم تجن يده فتولد من فعله المأذون من جهة الشارع ومن جهة من يطبه -يعالجه - تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة فهذا لا ضمان عليه اتفاقا، فإنها سراية مأذون فيه، ووضع قاعدة تقول: سراية الجناية مضمونة بالاتفاق وسراية الواجب مهدرة بالاتفاق وما بينهما ففيه النزاع.
والمتطبب الجاهل إن علم المريض أنه جاهل لا علم له وأذن له فى طبه لم يضمن وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له فى علاجه لأجل معرفته ضمن الطبيب ما جنت يده.
والطبيب الحاذق الذى أذن له المريض فى علاجه وأعطى الصنعة حقها لكن أخطأت يده فهذا يضمن، لأنها جناية خطأ.
والطبيب الحاذق الماهر بصناعته إذا اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ فى اجتهاده فقتله ضمن الدية، إما فى بيت المال وإما على عائلة الطبيب، أى أسرته [أو النقابة أو الرابطة التى ينتسب إليها] .
والطبيب الحاذق الذى أعطى الصنعة حقها فقطع جزءا من جسم المريض بغير إذنه يضمن، وإن كان بإذنه أو إذن وليه لا يضمن، وقيل: لا يضمن مطلقا لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل.
ثم تحدث ابن القيم عما يجب أن يراعيه الطبيب الحاذق وهو عشرون أمرا، نترك ذكرها ويمكن الرجوع إليها، وهى تتصل بواجبات المهنة، وهى قابلة للتغيير والتطور.
وجاء فى الفتاوى الإسلامية "ج 7 ص 2414" بعد عرض النصوص الفقهية فى كتب المذاهب المختلفة أن الفقهاء اتفقوا على أن الطبيب الذى يجرى جراحة لمريض ثم يترتب على إجرائها ضرر بالمريض لا يضمن إذا توفرت فيه الشروط الآتية:
1 -أن يكون ذا خبرة فى فنه وحذق فى صناعته، أى اختصاصيا، فإن لم يكن خبيرا ضمن بمجرد الفعل، بل ويعاقب على فعله، لأنه متعد، ومرتكب لمحرم شرعا ولو لم يقع منه خطأ فنى فى العمل.
2 -أن يكون مأذونا من المريض أو ممن له ولاية عليه، ويقول ابن قدامة الحنبلى فى كتابه "المغنى" إذا كان الإذن عامًّا كإذن الإمام فى قطع يد السارق يعتبر فعله حلالا لا يضمن ما يترتب عليه من السراية.
3- ألا يقع منه خطأ فنى فى العمل ولا إهمال فى الاحتياط لنجاح العملية وتلافى المضاعفات التى يحتمل حدوثها.
4 -ألا يجاوز الطبيب الموضع المعتاد للجراحة إلى غيره ولا القدر المحدد لها إلى أكثر منه.
فإن تخلف شرط من هذه الشروط كان ضامنا "الشيخ أحمد هريدى 22/ 4/ 1962 م " وجاء فى كتاب "التشريع الجنائى الإسلامى لعبد القادر عودة" ج 2 ص 522 خلاف العلماء فى سبب عدم المسئولية بين عدم قصد السوء، وإذن المريض وإذن الحاكم، وشروط عدم المسئولية كالتى ذكرها ابن القيم وقارن بين نظرة القوانين الوضعية فى ذلك وبين قواعد الشريعة، بما لا يخرج عما سبق ذكره(10/275)
رعاية ولد الزنا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا رأيت طفلا ملقى فى مكان مجهول هل أتركه أم آخذ5؟
الجواب
يغلب أن تلقى المرأة بولدها إن كان من زنا فى شارع أو مكان ليموت بعيدا عنها أو يأخذه إنسان يربيه، ومعلوم أن الزنا من أكبر الفواحش والموبقات التى أجمعت الأديان على تحريمها، والذى يرتكب هذه الفاحشة عامدا متعمدا يكفر إن اعتقد أنها حلال، لأن حرمتها معلومة من الدين بالضرورة، ثابتة بالقرآن والسنة والإجماع أما ارتكابها مع اعتقاد حرمتها فهو عصيان لا يخرج من الدين وعقوبتها الجلد مائة إن كان لم يسبق للزانى زواج أى غير محصن، والرجم إن سبق له زواج أى كان محصنا.
والذى يتحمل تبعة هذه الفاحشة هو من وقع فيها، أما الولد الناتج منها فلا مسئولية عليه، لأنه لا يد له فيها ولم يوجد بعد حتى يكلف، وهو إن أحسنت تربيته ربما نشأ مستقيما، وإن أهمل بأى نوع من الإهمال تعرض للموت أو الانحراف، شأن كل اللقطاء الذين لا يهتم بتربيتهم.
وإذا تخلص من ارتكب. هذه الفاحشة من ثمرة جريمته بإلقائه فى شارع أو مكان خال وجب التقاطه إن كان حيا، ووجب على المسلمين الذين تمثلهم السلطة أن يرعوا هؤلاء اللقطاء. ويحرم عليهم تركهم يتعرضون للموت أو الانحراف، فقد تكون منهم شخصيات بارزة تفيد منهم الإنسانية.
والدليل على وجوب حماية اللقيط أو المولود من زنى حادث المرأة الجهنية التى حملت من سفاح، وطلبت من النبى صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحد وهى حامل فأرجأه حتى تضع الجنين، بل حتى ترضعه ويفطم ويستغنى عنها، كما رواه مسلم.
وقد قرر الفقهاء وجوب التقاطه بناء على قوله تعالى {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} المائدة: 32 إلى جانب الأمر بعمل الخير فى قوله تعالى {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} الحج: 77 والأمر بالتعاون على البر فى قوله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى} المائدة: 2.
بل احتاط الإسلام فى رعاية هذا المنبوذ فاشترط الفقهاء فى لاقطه أو من يرعاه أن يكون صالحا لرعايته، أمينا رشيدا حسن السلوك، وقرروا له نفقة تكفى لرعايته رعاية حسنة، وحرموا رميه بأنه ابن زنا، فإنه لا ذنب له فى ذلك، وقرروا بناء على الحديث ضم ولد الملاعنة التى رماها زوجها بالزنا ونفى الولد عنه - إلى أمه، وذلك مظهر من مظاهر رعايته وعدم إهماله.
وجاء فى كتاب "كشف الغمة" للشعرانى ج 2 ص 138: لما تلاعن هلال وزوجته قضى النبى صلى الله عليه وسلم ألا يرمى ولدها -يعنى لا يقذف بأنه ابن زنا ومن رماه فعليه الحد. قال عكرمة: فكان الولد بعد ذلك أميرا على مصر-أى على بلد من البلاد- وما يدعى إلا لأمه.
"يراجع الجزء الرابع من موسوعة: الأسرة تحت رعاية الإسلام "(10/276)
صياح الديك
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا فى بعض الأقوال أن الديك يسمع ملكا يؤذن فيصيح هو عند سماعه، وأن هناك تحت العرش ديكا يؤذن للصلاة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
وردت عدة أحاديث حول الديك وصياحه ودلالته على أوقات الصلاة، وقد جاء فى كتاب "دفاع عن السنة" ص 146 أن كل الأحاديث فى ذلك موضوعة ما عدا حديثا واحدا، وإليك طائفة من هذه المرويات ذكرها الدميرى فى كتابه "حياة الحيوان الكبرى".
1 -روى عبد الحق بن نافع بإسناده إلى جابر بن أثوب - بسكون الثاء، وهو أثوب بن عتبة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "الديك الأبيض خليلى" وإسناده لا يثبت، ورواه غيره بلفظ "الديك الأبيض صديقى وعدو الشيطان، يحرس صاحبه وسبع دور خلفه " وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقتنيه فى البيت والمسجد.
2 - وفى التهذيب فى ترجمة "البزى" الراوى عن ابن كثير أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "الديك الأبيض الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي جبريل، يحرس بيته وستة عشر بيتا من جيرانه " وهو حديث ضعيف.
3- روى الشيخ محب الدين الطبرى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان له ديك أبيض، وكان الصحابة رضى الله عنهم يسافرون بالديكة لتعرفهم أوقات الصلاة.
4 - فى الصحيحين - البخارى ومسلم - وسنن أبى داود والترمذى والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانًا".
قال القاضي عياض: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء واستغفارهم وشهادتهم له بالإخلاص والتضرع والابتهال، وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم، وإنما أمرنا بالتعوذ من الشيطان عند نهيق الحمير، لأن الشيطان يخاف من شره عند حضوره فينبغي أن يتعوذ منه. انتهى.
5 - روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن زيد بن خالد الجهنى رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة" إسناده جيد، وفي لفظ "فإنه يدعو إلى الصلاة" قال الإمام الحليمي. فيه دليل على أن كل من استفيد منه خير لا ينبغي أن يسب ويستهان به، بل حقه أن يكرم ويشكر ويتلقى بالإحسان، وليس معنى دعاء الديك إلى الصلاة أنه يقول بصراحة: قد حانت الصلاة، بل معناه أن العادة قد جرت بأنه يصرخ صرخات متتابعة عند طلوع الفجر وعند الزوال، فطره الله عليها فيتذكر الناس بصراخه الصلاة ولا يجوز لهم أن يصلوا بصراخه من غير دلالة سواه، إلا من جرب منه ما لا يختلف، فيصير ذلك له إشارة، والله أعلم. انتهى.
6 - وروى الحاكم في المستدرك في أوائل كتاب الإيمان، والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن الله أذن لى أن أحدث عن ديك رجلاه فى الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك قال: فيرد عليه، ما يعلم ذلك من حلف بى كاذبا" وروى مثله أو قريبا منه الغريانى عن ثوبان عن الرسول، والطبرانى والبيهقى عن محمد بن المنكدر عن جابر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو فى كامل ابن عدى فى ترجمة على بن أبي على اللهبى، قال: وهو يروى أحاديث منكرة عن جابر رضى الله عنه.
7-وجاء فى معجم الطبرانى وتاريخ أصبهان وصف للديك وجناحيه الموشيين بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، وفى وصف صورة الديك جاء مثل ذلك فى قوت القلوب لأبى طالب المكى والإحياء للإمام الغزالى.
هذه بعض المرويات عن هذا الديك ذكرتها لتكون صورة عما يتخيله الرواة عنه، ولا يصح منها ولا يقبل إلا ما جاء من الأمر بالدعاء عند سماع صياحه لأنه رأى ملكا، ومن النهى عن سبه لأنه يوقظ للصلاة، وتقدم قول الحليمى فى ذلك، وكون الديك أو الحيوان يرى ملكا أو يحس به أمر ثابت من خبر أسيد بن حضير واضطراب فرسه عند قراءته للقرآن، لأنه رأى الملائكة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد أكد العلم الحديث إحساس بعض الحيوانات والطيور بأشياء فى الكون لا يحس بها الإنسان.
وما وراء ذلك من وصف الديك أهو ملك، أو اقتناه النبى فليس بثابت ولا تهمنا معرفته(10/277)
قتل الضفدع وأكله
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى أكل الضفادع أو شرب حسائها وهل تذبح قبل الأكل أم تعامل معاملة الأسماك؟
الجواب
جاء فى كتاب "حياة الحيوان الكبرى" للدميرى أنه يحرم أكل الضفادع، وذلك للنهى عن قتلها، فقد روى البيهقى فى سننه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل خمسة: النملة والنحلة والضفدع والصُّرَد والهدهد.
وروى أبو داود والنسائى والحاكم أن طبيبا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها فى دواء فنهاه عن قتلها، فدل ذلك على أن الضفادع يحرم أكلها، وأنها غير داخلة فيما أبيح من دواب الماء(10/278)
الأكل من زرع الغير
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى تناول الفقير بعض الثمار من حقل الغير ليشبع جوعه، دون أن يأخذ معه شيئا؟
الجواب
أخذ شىء من مال الغير بدون إذنه أو رضاه حرام، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به، واللقمة الحرام تمنع استجابة الدعاء، والتحذير من ذلك وردت فيه نصوص كثيرة.
والفقير الذى لا يجد ما يسد به جوعته يحق له أن يسأل الأغنياء ومن يملكون أن يعطوه ما يسد رمقه، والواجب عليهم إعطاؤه إن تأكدوا من حاجته، فإن قست القلوب وسدت الأبواب أمامه جاز له أن يأخذ من مال أى غنى-كثمرة من حقله أو لقمة من بيته -على قدر ما يسد به الرمق، وما زاد على ذلك فلا يجوز، فالضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها(10/279)
حضور حفلات بها خمر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى حضور الحفلات التى تنظمها الشركات والمؤسسات التى نعمل بها، مع عدم تناول الخمور التى تشم فى هذه الحفلات؟
الجواب
قال العلماء فى حضور الولائم والحفلات بمناسبة الزواج وغيره:
إذا وجد المدعو منكرا فى الحفل كشرب الخمر وجب عليه أن ينكره، لحديث مسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". فإن استجابوا له كان بها، وإلا وجب عليه أن يخرج من الحفل، فالخروج مظهر من مظاهر الإنكار بالقلب، أى كراهية هذا المنكر واحتقار مرتكبيه، فإن قعد معهم وهو كاره كان قعوده حراما على الرأى الصحيح، فإن تعذر خروجه بأن كان فى ليل وهو يخاف، أو لأى عذر آخر معقول، قعد وهو كاره دون أية مجاملة تدل على رضاه "شرح النووى على صحيح مسلم ج 9 ص 234 - 236 والخطيب على أبى شجاع ج 2 ص 339 ".
وروى أبو داود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا عُملت الخطيئة فى الأرض كان من شهدها فكرهها -أو فأنكرها- كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها"(10/280)
الانتفاع بطابع البريد مرتين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى استخدام طابع البريد على الخطابات المرسلة ولصقها على خطاب آخر ما دامت غير مختومة؟
الجواب
إذا لم يبطل طابع البريد الملصق على الخطاب بخاتم أو غيره فلا يجوز الانتفاع به مرة ثانية لمصلحة الإنسان الذى عثر عليه ولا لمصلحة إنسان آخر، لأنه فى مقابل خدمة أدتها مصلحة البريد، وقد دفع مرسل الخطاب ثمن هذا الطابع للمصلحة وقامت المصلحة بإرساله، فلو استعمل فى إرسال خطاب آخر فقد كلف مصلحة البريد - أو هيئة البريد- خدمة من غير مقابل، فعليه أن يدفع للمصلحة ثمن الطابع، ولكن ما هى الوسيلة لذلك؟ هو حرّ فى اختيار الوسيلة. وقد رأى بعض ذوى الرأى أن هذا الطابع يمكن استعماله مرة أخرى فى مصلحة أو خدمة للدولة وليست له منفعة شخصية فيها، كالتصدق بثمنه على فقير، أو إرسال خطاب لطالب استشارة أو فتوى يقدمها مجانا بدون مقابل، وذلك من باب التعاون على البر ونشر العلم وقضاء مصالح المسلمين. وهو رأى لا بأس به(10/281)
بيعة الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيما نقرؤه فى الكتب من أن من مات ولم يكن فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، ومن مات ولم يعرف إمام عصره مات ميتة جاهلية؟
الجواب
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" وفى رواية له "ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية" أى يموت على الضلالة كما يموت أهل الجاهلية عليها، لأنهم كانوا يستنكفون أن يدخلوا تحت طاعة أمير.
وحديث "من مات ولم يعرف إمام عصره مات ميتة جاهلية" المراد بالمعرفة هنا البيعة والدخول فى الطاعة وليس المراد معرفة اسمه، وإن كان من النادر أن يجهل اسم الإمام وقد ذكر هذا الحديث فى شرح المقاصد، "ج 5ص 239 ".
وجاء فى الجامع الكبير للسيوطى بلفظ "من مات وليست عليه طاعة مات ميتة جاهلية" رواه أحمد والطبرانى وبلفظ "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية" رواه الطبرانى وأبو نعيم فى الحلية(10/282)
مقاطعة العصاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى مقاطعة الشخص غير المتعاون والمتكبر وتارك الصلاة، وهل يعتبر ذلك من الخصام والهجران؟
الجواب
إذا كان الحديث ينهى المسلم عن أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فالمنهى عنه هو الهجر لأغراض شخصية لا دينية، أما إذا كان هناك غرض دينى من الهجر، كسوء السلوك أو خوف الضرر فلا حرمة فى المقاطعة، وقد صح أن الرسول والصحابة هجروا الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر خمسين يوما حتى تاب الله عليهم وقد قال الله تعالى {وقد نزَّل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره} النساء:
145.
وقد هجر النبى صلى الله عليه وسلم زوجاته شهرا فى حادث التخيير كما هو معروف، حيث غضب منهن لطلب أمور دنيوية فأمره الله أن يخيرهن.
قال بعض العلماء: تجوز مقاطعة العاصين إن كانت المقاطعة تفيد فى رجوعهم عن عصيانهم، وأطلق بعضهم جواز المقاطعة، سواء أكان هناك رجاء فى استقامتهم أم لا، قال السفارينى فى كتابه "غذاء الألباب" ج 1 ص 22: قال فى الآداب الكبرى: يُسن هجر من جهر بالمعاصى الفعلية والقولية والاعتقادية. وقيل يجب إن ارتدع به، وإلا كان مستحبا، وقيل يجب هجره مطلقا إلا من السلام بعد ثلاثة أيام، وقيل:
ترك السلام على من جهر بالمعاصى حتى يتوب فرض كفاية، ويكره لبقية الناس تركه. وظاهر كلام سيدنا الإمام أحمد رضى الله عنه ترك السلام والكلام مطلقا، وقال القاضى أبو حسين: ظاهر إطلاقه لا فرق بين المجاهر وغيره فى المبتدع والفاسق، فينبغى إن كنت متبعًا سنن من سلف أن كل من جاهر بمعاصى الله لا تعاضده ولا تساعده ولا تقاعده ولا تسلم عليه، بل اهجره(10/283)
مدح الإنسان نفسه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
في بعض الأحيان يضطر الإنسان إلى التعريف بنفسه إذا وجد فى جماعة يجهلونه حتى يعرفوا له قدره، فيذكر مركزه العلمى وإنتاجه ونسبه وما إلى ذلك فهل هذا يجوز؟
الجواب
من أحسن من أجاب على هذا السؤال الإمام النووى فى كتابه "الأذكار" فقال فى ص 276: قال الله تعالى {فلا تزكوا أنفسكم} النجم: 32 اعلم أن ذكر محاسن نفسه ضربان، مذموم ومحبوب، فالمذموم أن يذكره للافتخار وإظهار الارتفاع والتميز على الأقران وشبه ذلك. والمحبوب أن يكون فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمرا بالمعروف أو ناهيا عن منكر أو ناصحا أو مشيرا بمصلحة أو معلِّما أو مؤدبا أو واعظا ومذكرا أو مصلحا بين اثنين أو يدفع عن نفسه شرا أو نحو ذلك، فيذكر محاسنه ناويا بذلك أن يكون هذا أقرب إلى قبول قوله واعتماد ما يذكره، أو أن هذا الكلام الذى أقوله لا تجدونه عند غيرى فاحتفظوا به، أو نحو ذلك.
وقد جاء فى هذا المعنى ما لا يحصى من النصوص، كقول النبى صلى الله عليه وسلم "أنا النبى لا كذب، أنا سيد ولد آدم، أنا أول من تنشق عنه الأرض، أنا أعلمكم بالله وأتقاكم، إنى أبيت عند ربى" وأشباهه كثيرة، وقال يوسف صلى الله عليه وسلم {اجعلني على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم} يوسف: 55 وقال شعيب صلى الله عليه وسلم {ستجدنى إن شاء الله من الصالحين} القصص: 27 وقال عثمان رضى الله عنه حين حصر ما رويناه فى صحيح البخارى أن قال:
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من جهز جيش العسرة فله الجنة" فجهزتهم، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حفر بئر رُومة فله الجنة" فحفرتها فصدقوه بما قال: وروينا فى صحيحيهما عن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه أنه قال حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقالوا: لا يحسن يصلى، فقال سعد: والله إنى لأول رجل من العرب رمى بسهم فى سبيل الله تعالى ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وذكر تمام الحديث. وروينا فى صحيح مسلم عن على رضى الله عنه قال: والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يحبنى إلا مؤمن، ولا يبغضنى إلا منافق، ومعنى برأ: خلق، والنسمة: أى النفس، وفى البخارى ومسلم عن أبى وائل قال: خطبنا ابن مسعود رضى الله عنه فقال: والله لقد أخذت من فى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أى من فمه-بضعا وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى من أعلمهم بكتاب الله تعالى وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحدا أعلم منى لرحلت إليه، وفى صحيح مسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سئل عن البدنة إذا أزحفت - وقفت من الإعياء- فقال: على الخبير سقطت، يعنى نفسه، وذكر تمام الحديث، ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر.، وكلها محمولة على ما ذكرنا(10/284)
سعد بن معاذ
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا اهتز عرش الرحمن لسعد بن معاذ؟
الجواب
اهتزاز عرش الرحمن على المعانى التى فسر بها هو تكريم له، لأنه أبلى بلاء حسنا فى غزوة الخندق، حيث خرج إلى العدو وهو ينشد:
لَبِّثْ قليلا يلحق الهيجا حَمَلْ * لا بأس بالموت إذا حان الأجل فأصابه سهم العدو فى ذراعه التى لم يغطها الدرع فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها، فإنه لا قوم أحب إلىَّ أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لى شهادة ولا تمتنى حتى تقرعينى فى بنى قريظة وأمر له الرسول صلى الله عليه وسلم بخيمة يعالج فيها، وقال الرسول عند استقباله "قوموا إلى سيدكم" وحكم فى بنى قريظة بقتل جنودهم وسبى ذراريهم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "حكمت بحكم الملك " ولم تأخذه الرحمة وصلة الولاء أن يخفف عنهم.
ولما انفجر عِرْفُه احتضنه الرسول فجعل الدم يسيل عليه، وبكاه أبو بكر وعمر، ولما دفنه الرسول وانصرف جعلت دموعه تنزل على لحيته، ولما رأى أمه تندبه قال "كل نادبة كاذبة إلا نادبة سعد" ولما حملت جنازته قال المنافقون: ما أخف جنازته، وذلك لحكمه فى بنى قريظة، فقال صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة كانت تحمله ".
ذلك إلى جانب موقفه يوم بدر عندما استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال قولا عظيما يدل على حبه للرسول وعلى شجاعته وشوقه إلى الشهادة. هذا بعض من سيرة سعد ومقاماته وتكريم الله له(10/285)
القصاص من المسلم للكافر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لو قتل مسلم كافرا هل يقتص من المسلم ويقتل؟
الجواب
يقول الله سبحانه فى شأن اليهود والتوراة {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} المائدة: 45 ويقول فى المسلمين {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} البقرة: 178.
فالقصاص فى القتل مشروع فى الإسلام وقبل الإسلام، مشروع بين أهل كل دين فيما بينهم، النفس اليهودية بالنفس اليهودية، والنفس المسلمة بالنفس المسلمة، أما إذا قتل مسلم شخصا غير مسلم فهل يقتص منه بالقتل؟ يقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى وغيره عن على رضى الله عنه فى محتويات الصحيفة "لا يقتل مسلم بكافر" وفى رواية لأحمد والنسائى وأبى داود "ولا ذو عهد فى عهده" وروى أحمد وابن ماجه والترمذى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى ألا يقتل مسلم بكافر، وفى رواية ولا ذو عهد فى عهده. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى عن سالم عن أبيه أن مسلما قتل رجلا من أهل الذمة فرفع إلى عثمان رضى الله عنه فلم يقتله، وغلَّظ عليه الدية، قال ابن حزم: هذا فى غاية الصحة، فلا صح عن أحد من الصحابة شىء غير هذا، إلا ما رويناه عن عمر أنه كتب فى مثل ذلك أن يقاد به، ثم ألحقه كتابا فقال: لا تقتلوه ولكن اعتقلوه "نيل الأوطار للشوكاني ج 7 ص 10 " قال الشوكاني "ص 11 " فيه دليل على أن المسلم لا يقتل بالكافر. أما الكافر الحربى فذلك إجماع كما حكاه صاحب البحر. أما الذمى فذهب الجمهور إليه، لصدق اسم الكافر عليه. وذهب الشعبى والنخعى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقتل المسلم بالذمى. وفى هذا الاستدلال مناقشة.
فرأى الجمهور أقوى بدليل ما ذكره الشافعى فى "الأم" أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ذلك فى خطبة يوم الفتح بسبب القتيل الذى قتلته خزاعة وكان له عهد، فقال النبى صلى الله عليه وسلم "لو قتلت مسلما بكافر لقتلته به " وقال "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد فى عهده " فأشار بقوله "لا يقتل مسلم بكافر إلى تركه الاقتصاص من الخزاعى بالمعاهد الذى قتله، وبقوله "ولا ذو عهد بعهده" إلى النهى عن الإقدام على ما فعله القاتل المذكور، فيكون قوله "ولا فو عهد فى عهده" كلاما تاما لا يحتاج إلى تقدير.
ومما استدل به الحنفية قوله تعالى {أن النفس بالنفس} فهو حكم عام بين كل نفسين، ويرد عليه بأن هذا العموم الذى فى الآية مخصص بأحاديث الباب "عنوان الباب فى الكتاب".
ومن أدلتهم أيضا حديث أن النبى صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد، وقال "أنا أكرم من وفى بذمته" ويرد عليه بأنه حديث مرسل، وفى سنده من هو ضعيف.
ومن أدلة الجمهور من القرآن قوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} النساء: 141 وقوله {لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة} الحشر: 20 وكذلك من أدلتهم من السنة عدم القصاص من المسلم الذى لطم اليهودى القائل: لا والذى اصطفى موسى على البشر رواه مسلم وحديث "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه "وهو حديث فيه مقال، لكنه علقه البخارى فى صحيحة(10/286)
شبهات حول حد الردة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إن حديث "من بدَّل دينه فاقتلوه" معارض للقرآن الذى لم يجعل للردة حدا فى الدنيا، بل جعل له عقوبة فى الآخرة، ولذلك لا يعمل بالحديث، وبخاصة أنه حديث آحاد والحدود لا تثبت إلا بالحديث المتواتر، كما أن هذا الحديث لو أخذ به يطبق على من بدَّل دينه من غير المسلمين، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
أجاب: هذا السؤال فيه ثلاث نقط:
1- أين معارضة الحديث للقرآن؟ الواقع أنه لا تعارض، لأن القرآن إذا قرر عقوبة أخروية على معصية فلا يمنع أن تكون هناك عقوبة دنيوية، فقد قرر عقوبة القتل العمد بمثل قوله {ومن يقتل مؤمنًا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} النساء:
93 ومع ذلك قرر العقوبة فى الدنيا بالقصاص بمثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} البقرة: 178 وكذلك حرم السرقة لأنها ظلم وعقابه شديد فى الآخرة، فقال فى الغلول وهو صورة من السرقة {ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} آل عمران: 161 ومع ذلك قرر العقوبة فى الدنيا بقطع اليد، قال تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} المائدة: 38 وكذلك حرم الزنا فى آيات كثيرة وقرر له عقوبة فى الدنيا وهى الجلد مائة وحرم القذف للمحصنات المؤمنات الغافلات المؤمنات، وقرر له عقوبة فى الدنيا وهى الجلد ثمانين.. .
وعقوبة الآخرة هى لمن مات ولم يتب، ومن التوبة إقامة الحد على الرأى بأن الحدود جوابر، فهل القرآن يعارض بعضه بعضا؟ وإذا كان قد قرر عقوبة المرتد فى قوله {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} البقرة: 217 وكل العقوبات الأخروية لم تأت بصيغة الحصر فذلك لا يمنع من العقوبات الدنيوية.
2 -هل حديث الآحاد لا تثبت به الحدود؟ هذا خطأ، لأن العقائد هى التى لا تثبت بحديث الآحاد عند بعض العلماء، حيث إنها لا تفيد العلم القطعى، وإن قال الشافعى بأنها تفيد العلم القطعى، أما الأحكام العملية وفروع الشريعة فيؤخذ فيها بحديث الآحاد إذا كان صحيحا بأقسامه الثلاثة، الغريب والعزيز والمشهور، وكذلك إذا كان الحديث حسنا، ومن ذلك حد الرجم للزانى المحصن. فقد ثبت بالحديث غير المتواتر وهو ما رواه البخارى ومسلم "لا يحل دم امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث، الثيب الزانى والقاتل والتارك لدينه المفارق للجماعة" وما رواه مسلم "خذوا عنى خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وثبت فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر برجم امرأة زنى بها العسيف لما أقرت، وأمر برجم رجل أقر بالزنا بعد استيضاحه، وأكد رجم المحصن عمر، وأجمع عليه المسلمون.
وكذلك حد شرب الخمر ثبت بالحديث الذى رواه مسلم عن على:
جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إلى.
يؤخذ من هذا أن بعض الحدود ثبت بالسنة غير المتواترة كما فى شرب الخمر، وكما فى رجم الزانى المحصن، وإن كان البعض قد قال:
إن رجم المحصن حديثه متواتر.
3-إن حد الردة ثابت على المسلم الذى ترك الإسلام، وهذا شرعنا، ولا شأن لنا بشرع نسخه الإسلام، وكل إنسان غير مسلم لو ترك دينه وأسلم لا يؤاخذ بما حدث منه قبل الإسلام كما قال تعالى {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} الأنفال: 28 ولا شأن لنا بمن انتقل من دين غير الإسلام إلى دين آخر غيره، فالكفر كله ملة واحدة، فلا تلازم بين المسلم المرتد، وغير المسلم التارك لدينه، وقياسه عليه قياس مع الفارق كما يقولون.
والخلاصة أن عدم النص فى القرآن على عقوبة دنيوية إلى جانب العقوبة الأخروية لا يلزم منه منع العقبة الدنيوية إذا ثبتت بطريق السنة الصحيحة متواترة كانت أو غير متواترة، وأن الحدود تثبت بالسنة غير المتواترة، وأن حد الردة هو للمسلم التارك للإسلام وليس لغيره من الأديان الاخرى(10/287)
إعراب كلمة كافة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل التعبير بمثل "يقول كافة العلماء كذا" خطأ؟
الجواب
قال النووى فى شرحه لصحيح مسلم "ج 13 ص 142" عند قول سيدنا على رضى الله عنه: "ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان فى قراب سيفى هذا".
قال النووى: هكذا تستعمل "كافة" حالا. وأما ما يقع فى كثير من كتب المصنفين من استعمالها مضافة وبالتعريف كقولهم: هذا قول كافة العلماء، ومذهب الكافة - فهو خطأ معدود فى لحن العوام وتحريفهم(10/288)
الرفق بالحيوان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يزعم بعض رجال العصر أن الحضارة الغربية هى أول حضارة كونت جمعيات للرفق بالحيوان، فهل فى الإسلام ما يفند زعم هؤلاء؟
الجواب
من أعظم الصفات التى تميز بها النبى صلى الله عليه وسلم صفة الرحمة، والنصوص فى ذلك كثيرة، ولذلك حرص عليها ودعا إليها وقال فيما قال "من لا يَرحم لا يُرحم " رواه البخارى ومسلم، وقال "لا تنزع الرحمة إلا من شقى" رواه الترمذى وقال: حسن صحيح.
ومن مظاهر رحمته الشاملة رحمته بالحيوان الأعجم، الذى سخره الله لخدمة الإنسان، فمن الواجب صيانة هذه النعمة حتى يدوم الانتفاع بها، بل إن رحمته شملت الحيوانات الأخرى التى لا تظهر فيها المنفعة المباشرة فى الأمور الأساسية للحياة، لأنها على كل حال مخلوقات تحس بما يحس به كل حيوان، ولهذه الرحمة ألوان ومظاهر، منها:
1 -عدم حبس الطعام عنها وتجويعها وعدم العناية بها، وجاء فى ذلك حديث البخارى ومسلم "عذبت امرأة فى هرة حبستها، لا هى أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض " وحديث أبى داود أنه صلى الله عليه وسلم مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه، أى هزيل من الجوع، فقال "اتقوا الله فى هذه البهائم، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة".
2- تيسير إطعامها والعناية بها، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن رجلا نزل بئرا فسقى كلبا يلهث من شدة العطش،فشكر الله له فغفر له ولما سأله الصحابة عن الأجر فى سقى البهائم قال "فى كل ذات كبد رطبة أجر" رواه البخارى. وفى حديث رواه مسلم "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" وكان صلى الله عليه وسلم يصغى الإناء للهرة -أى يميله -حتى تشرب، ثم يتوضأ بما فضل منها كما رواه الدارقطنى عن عائشة، وقد يقال إن هناك تعارضا بين الترغيب في سقى الكلب والأمر بقتله، وقد تحدث عن ذلك ابن حجر فى فتح البارى "ج 5/ 52 " بأن قوله "فى كل ذات كبد رطبة أجر" مخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه، لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره، وكذا قال النووى: إن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم، وهو ما لم يؤمر بقتله، فيحصل الثواب بسقيه، ويلحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه، واستدل به على طهارة سؤر الكلب، وهو ما يتبقى فى الإناء بعد شربه منه.
3-عدم إلحاق ضرر بالحيوان أيَّا كان هذا الضرر، ومنه تحميله ما لا يطيق وإرهاقه فى السير، ففى مسلم وغيره قوله صلى الله عليه وسلم "إذا سافرتم فى الخصب فأعطوا الإبل حظًّا من الأرض" وروى عن أبى الدرداء قوله لبعير له عند الموت: يا أيها البعير لا تخاصمنى عند ربك، فإنى لم أكن أحملك فوق طاقتك، وأخرج الطبرانى عن على قال: إذا رأيتم ثلاثة على دابة فارجموهم حتى ينزل أحدهم.
4 -عدم اتخاذ الحيوان أداة للهو، كجعله غرضا للتسابق فى رميه بالسهام، ويشبهه ما يعرف اليوم بمصارعة الثيران، فقد مر عبد الله بن عمر رضى الله عنهما بفتيان من قريش نصبوا طيرا وهم يرمونه، وجعلوا لصاحبه كل خاطئة من نبلهم، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه روح غرضا، رواه البخارى ومسلم.
5 - الإحسان إلى الحيوان عند الذبح، وجاء فى ذلك حديث الطبرانى والحاكم وصححه: أن رجلا أضجع شاة ليذبحها وهو يحد شفرته، فقال صلى الله عليه وسلم "أتريد أن تميتها موتات، هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها"؟ وفى حديث آخر "إن الله كتب الإحسان فى كل شىء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" رواه مسلم. يقول ربيعة الرأى:
من الإحسان ألا تذبح ذبيحة وأخرى تنظر إليها.
6 - روى أبو داود أن النبى صلى الله عليه وسلم كان فى سفر ومعه بعض أصحابه، فذهب لبعض شأنه، فأخذ جماعة منهم فرخين لطائر يسمى "قبَّرة" فجعلت تحوم وتعلو وتهبط لتخلص ولديها منهم، فلما رآها صلى الله عليه وسلم قال "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولديها إليها".
تلك بعض المظاهر التى تدل على مدى رحمة الإسلام ونبى الإسلام بالحيوان، سبق به ما تنادوا به حديثا من وجوب الرفق بالحيوان، وهو دليل على أنه دين صالح لكل زمان ومكان يقوم بهذه الأعمال على أنها طاعة وقربة إلى الله يرجى عليها الأجر، وإذا كانت بعض الدول تحرص على الرفق بالحيوان كانجلترا التى تأسست بها جمعية لذلك سنة 1829 م فأولى أن يكون عندها رفق بالإنسان الذى يستعبدونه بالاستعمار ومظاهره التى تتنافى مع الإنسانية التى كرم الله بها آدم وذريته(10/289)
قوس قزح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من أين تتكون الألوان التى نراها فى القوس الذى يظهر فى الجو وقت المطر؟
الجواب
قوس قزح ظاهرة جوية تحدث عقب نزول المطر، قال أهل الذكر "عالمنا الذى نعيش فيه ص 29" إنه مجموعة من انعكاسات ضوئية يتحلل فيها الضوء إلى ألوان الطيف السبعة، تعبر عنه بعض اللغات بقوس فى السماء، أو قوس المطر، وتحدث عنه القزوينى المتوفى سنة 682 هـ فى كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ص 66" بما لا يبعد كثيرا عما قاله المحدثون.
ولا يوجد نص فى القرآن ولا فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم يتحدث عنه حديثا علميا، إنما النصوص الواردة هى فى الأمر بالنظر فى ملكوت السماوات والأرض، والمراد بالنظر هو التدبر والتفكر، لا مجرد النظر بالبصر مع غفلة القلب وذهول العقل، لأن نتيجة النظر المأمور به فى القرآن هى الإيمان بالله سبحانه لمن لا يكون مؤمنا، وتعميق الإيمان فى القلب لمن يكون مؤمنا، قال تعالى {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} ق: 6 -8.
فقوس قزح كظاهرة جوية من صنع الله سبحانه يرشد علماء الدين إلى رصدها وتدبرها ومحاولة الاستفادة منها فيما يصلح المعاش والمعاد، أى فى الدنيا والآخرة، ولا عبرة بما يظنه بعض الناس من ربط هذا القوس، بأحداث ستقع، فليس فيه أكثر من ارتباطه بالمطر، والمطر له أثره فى حياة الناس، إن نزل بقدر معلوم كان خيرا وبركة، وإن كان غزيرا كانت السيول المدمرة، والله وحده هو الذى يملك التصرف كما قال سبحانه: {وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء} النور: 43.
هذا، وقد ذكر النووى فى كتابه "الأذكار ص 366" أنه يكره أن يقال:
قوس قزح وأورد فى ذلك حديثا رواه أبو نعيم فى "الحلية" "لا تقولوا قوس قزح، فإن قزح شيطان ولكن قولوا قوس الله عز وجل فهو أمان لأهل الأرض "(10/290)
الدروس الخصوصية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى الدروس الخصوصية إذا كانت بناء على رغبة أولياء الأمور؟
الجواب
الدروس الخصوصية تعليم لا مانع من أخذ الأجرة عليه ما دام غير متعين على المعلم، وما دامت هناك رغبة فيه من أولياء أمور الطلاب. والمحظور هو تقصير المدرس فى أداء واجبه الأصلى فى المدرسة وحمله الطلاب على أخذ دروس خصوصية، وتكون الدروس عنده بالذات، كما أن استغلاله لإعطاء الدرس الخصوصى وربط نجاح الطالب به حتى لو لم يكن أهلا للنجاح -وذلك بوسائل معروفة - حرام، وأيضا التغالى فى تقدير الأجور، وبخاصة على من يعلم رقة حالتهم المادية لا يرضاه الدين.
وذلك إلى جانب المحاذير الأخرى فى الدروس الخصوصية مع اختلاف الجنس وفى ظروف يخشى منها الفساد(10/291)
الإصرار على الصغائر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى قولهم: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار؟
الجواب
الذنوب منها كبائر وصغائر، كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفِّر عنكم سيئاتكم} النساء: 31 وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" رواه مسلم وأحمد والترمذى. وكل من الكبائر والصغائر محرم وفيه عقوبة، بعضها مقرر فى الدنيا كالقصاص والحدود على القتل والسرقة والزنى والقذف وشرب الخمر، وبعضها عقوبة فى الآخرة بالنار إن لم يغفر الله له، ومغفرة الكبائر تكون بالتوبة النصوح، أو الحج المبرور على بعض الأقوال، ومغفرة الصغائر تكون بعمل أية حسنة من قول أو فعل كالذكر والاستغفار والصلاة والصدقة، كما قال تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات} هود: 114 وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" رواه الترمذي وقال: حسن.
والإصرار على الصغيرة وعدم تركها استهانة بأمرها وعدم اهتمام بالعقوبة عليها يرفعها إلى درجة الكبائر، لأن فيها تحديًا لأوامر الله، وستجر المداومة عليها إلى الوقوع فى الكبائر، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
فمعنى قوله: لا صغيرة مع الإصرار: لا تبقى الصغيرة صغيرة عند الإصرار عليها، بل تتحول إلى كبيرة، ومعنى قولهم: ولا كبيرة مع الاستغفار تكفَّر الكبيرة بالاستغفار أى التوبة المستكملة لشروطها من الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم على عدم العود، مع رد الحقوق لأصحابها، أو عفوهم عنها.
ولا ينبغى لأى مسلم أن يهتم عند السؤال عن المعصية بأن يعرف:
هل هى من الصغائر أم من الكبائر، فإن علم أنها صغيرة هان عليه أمرها، فكل معصية تعتبر كبيرة بالنسبة لمقام الله عز وجل، كما قال المحققون من علماء الأخلاق.
وعدم الاهتمام بالصغيرة هو الإصرار على عدم الإقلاع عنها، أو التوبة منها مع العزم على العود إليها.
والله يقول فى صفات المتقين الذين أعد لهم الجنة {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} آل عمران: 135(10/292)
العجز عن النذر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نذرت لله أن أصوم من كل أسبوع الإثنين والخميس وأن أختم القرآن كل أسبوع وبدأت فى ذلك حتى مرضت فلم أستطع الوفاء بالنذر فماذا أفعل؟
الجواب
معلوم أن النذر إذا كان فى طاعة لله واجب الوفاء به كما قال تعالى {وليوفوا نذورهم} الحج: 29 وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" ومن نذر صيام أيام معينة ثم عجز عن الصوم لمرض، فإن كان مرضه لا يرجى برؤه وجب أن يكفر عن هذا النذر الذى حنث فيه، وذلك بكفارة الحنث فى اليمين، وهى إطعام عشرة مساكين بما يكفى غداؤهم وعشاءهم أو كسوتهم، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام لا يشترط فيها التتابع، أما إن كان مرضه يرجى شفاؤه فالصوم متعلق بذمته حتى يبرأ من المرض ويصوم، فإن مات كان حكمه حكم من مات وعليه صيام رمضان، فذهب جماعة إلى الصيام عنه كما نص الحديث المتفق عليه، وذهب آخرون إلى الإطعام، لحديث رواه عبد الرزاق "لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم".
وفى نيل الأوطار للشوكانى "ج 8 ص 56" جاء فى صحيح مسلم عن عقبة بن عامر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "كفارة النذر كفارة يمين" وجاء فى رواية غير مسلم "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" وجاء فى سنن أبى داود عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا فى معصية فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا أطاقه فليف به " وهذا الحديث قال عنه النقاد: إن الأصح أنه موقوف على ابن عباس، وليس مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ورواه ابن ماجه، وفى إسناد ابن ماجه من لا يعتمد عليه.
ومهما يكن من شىء فإن النووى قال فى الحديث الأول -اختلف العلماء فى المراد بهذا الحديث. فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج -أى غير المجازاة- فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة وحمله مالك والأكثرون على النذر المطلق، كقوله "علىَّ نذر" وحمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذور وقالوا: هو مخيَّر فى جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة اليمين. انتهى يقول الشوكانى: والظاهر اختصاص الحديث بالنذر الذى لم يسم. وأما النذور المسماة إن كانت طاعة فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين، وإن كانت مقدورة وجب الوفاء بها، سواء كانت متعلقة بالبدن أو المال.
انتهى.
وبناء على هذا كان للعاجز عن الوفاء بنذر ختم القرآن كل أسبوع أن يخرج كفارة الحنث فى اليمين، وننبه إلى أن بعض العلماء كره النذر الذى فيه إلزام بطاعة غير واجبة فقد يعجز عنها ويخشى العاقبة، وبخاصة نذر المجازاة الذى يكون على مقابل، فهو أشبه بالمتاجرة(10/293)
إكرام الضيف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى حقوق الضيف فى الإسلام، وكيف كان الرسول والسلف الصالح يطبقونها؟
الجواب
إكرام الضيف خلق من الأخلاق الحميدة التى توارثها العرب واشتهروا بها وضرب المثل بكثير منهم فى هذا المجال فى الجاهلية كحاتم الطائى وهرم بن سنان وكعب بن مامة "العقد الفريد ج 1 ص 76" وفى الإسلام أيضا، وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذى كان يعطى عطاء من لا يخشى الفقر.
وقد أكد هذا المعنى الأصيل، وجعله سمة بارزة من سمات المؤمنين فقال فيما رواه البخارى ومسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " والعلاقة بين الإيمان وإكرام الضيف تظهر فى الإحساس بأن الضيف عبد من عباد الله لا يجوز أن يحرم من خير هو من فضل الله سبحانه، وأنه فى الوقت نفسه أخ فى الدين والإنسانية، والإخوة يجب عليهم أن يتحابوا ويتعاونوا، والزمان قُلَّب قد يوضع الإنسان يوما من الأيام فى موضع هذا الضيف فيحتاج إلى من يقريه ويقدم له ما ينبغى أن يقدم، وبخاصة إذا كان من بلد بعيد وانقطع به السبيل، والحديث المتفق عليه يقول "لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
لقد نظم الرسول صلى الله عليه وسلم واجب الضيافة فجعله فى أول يوم مفروضا لازما، ولثلاثة تطوعا مؤكدا وبعد ذلك أمرا عاديا يترك للحرية والاختيار روى البخارى ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه ".
والجملة الأخيرة لها أهميتها فى تنظيم الضيافة، فالإسلام إذا أوجب على الإنسان أن يكرم ضيفه فلا يجوز للضيف أن يسئ استغلال هذا الحق له عند من أمر بحسن استقباله، كأن يمكث مدة طويلة يثقل بها على صاحبه، ويرهقه من أمره عسرا، فربما لا يكون عنده من السعة ما يؤدى به الواجب، اللهم إلا إذا طلب هو ذلك بنفسه لمعنى من المعانى كقرابة أو صداقة أو نحوهما، ذكر ذلك الخطابى فى تعليقه على هذا الحديث، فقال عن رحيل الضيف بعد ثلاثة أيام: حتى لا يضيق صدره ويبطل أجره.
وبعض العلماء فسر ذلك بأن اليوم والليلة يكون إذا مرَّ به وسأله فليعطه كفايته لهذا اليوم وليلته، أما إذا قصده لينزل عنده فليكن ذلك فى حدود ثلاثة أيام.
ولشدة التأكيد على حق الضيف الغريب أباح الإسلام له أن يأخذ ما يحتاج إليه إن حرم منه، ودليل ذلك ما رواه أحمد برجال ثقات والحاكم وصححه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قِراه ولا حرج عليه" والقرى اسم لما يقدم للضيف، وجاء مثل هذا الحديث عند أبى داود وابن ماجه "ليلة الضيف حق على كل مسلم. فمن أصبح بفنائه -أى داره- فهو عليه دين. إن شاء قضى وإن شاء ترك".
ذلك هو موقف النبى صلى الله عليه وسلم من الضيف نظريا أو قولا، ومن الناحية التطبيقية وردت عدة حوادث تدل على أهمية هذا الحق، فروى مسلم أن رجلا جاء إليه صلى الله عليه وسلم متعبا، فأرسل إلى بعض نسائه يريد شيئا يقدمه إليه، فقالت: لا والذى بعثك بالحق ما عندى إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ما قالت الأولى، حتى قال كل نسائه مثل ذلك، فماذا فعل النبى صلى الله عليه وسلم؟ قال لأصحابه: من يضيف هذا الليلة رحمه الله، فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى رحله أى بيته، فقال لامرأته: هل عندك شىء؟ قالت: لا ما عندى إلا قوت صبيانى. قال فعلِّليهم بشىء، فإذا أرادوا العشاء فنوميهم. فإذا دخل ضيفنا فأطفئى السراج - وأريه أنَّا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف، وبات الرجل وزوجته طاويبن -أى جائعين- فلما أصبح ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن الله قد عجب من صنيعهما بضيفهما وفى ذلك نزل قوله تعالى {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} الحشر: 9.
هذه حادثة وحادثة أخرى، رواها أحمد بسند صحيح، أن وفد عبد القيس قدموا عليه صلى الله عليه وسلم وهم فرحون بلقائه، فاستقبلهم أصحابه خير استقبال، ورحَّب بهم ودعا لهم، ثم سألهم عن زعيمهم الأشج المنذر ابن عائذ، وأجلسه عن يمينه وسأله عن بلادهم، ثم التفت إلى الأنصار وقال لهم "أكرموا إخوانكم، فإنهم أشباهكم فى الإسلام، أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين" فقام الأنصار بواجبهم نحوهم، فلما أصبحوا أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يطمئن على ضيوفه فقال لهم "كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم وضيافتهم إياكم " فقالوا خيرا، ألانوا فرشنا وأطابوا مطعمنا وباتوا وأصبحوا يعلموننا كتاب الله تبارك وتعالى. فأعجب النبى بذلك وفرح. "الترغيب والترهيب ج 3 ص 153 "(10/294)
السلف والسلفية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
توجد الآن جماعة تطلق على نفسها اسم السلفية ويقصدون بهذه التسمية الرجوع إلى الأيام الأولى للإسلام، ويقاطعون كل شىء جديد بتهمة أنه بدعة، لم تكن أيام السلف، فما حكم الدين فى ذلك؟
الجواب
كثرت الفرق والجماعات فى التاريخ الإسلامى كما كثرت فى الأديان السابقة وإلى جانب الواقع الذى يشهد لذلك ورد حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم يقول "افترقت اليهود على إحدى وستين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وستين فرقة، وستفترق أمتى على ثلاث وستين فرقة، كلها فى النار إلا واحدة" قيل وما هى يا رسول الله؟ قال "هى التى على ما أنا عليه وأصحايى" رواه أحمد وأبو داود، وجاء فى بعض الروايات "سبعين بدل "ستين ".
وقد وجدت فرق كثيرة بقدر العدد المذكور فى الحديث وحاول بعض المؤلفين فى الفرق كالبغدادى وغيره أن يحصرها فى هذا العدد، وإن كان البعض يرى أن العدد لا مفهوم له وأن المراد هو بيان كثرة الفرق، على غرار ما قالوا فى تفسيره قوله تعالى {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} التوبة: 80.
والملاحظ أن كل فرقة فى العقائد أو الفروع تحاول أن تجعل نفسها الفرقة الناجية وذلك من آثار التعصب الذى تخلقه أو تساعد عليه عوامل كثيرة، وأهل السنة قالوا: نحن الفرقة الناجية، وهم أعدل الفرق وإن كانوا هم أيضا قد تفرقوا فرقا صغيرة، كالأشعرية والماتريدية. وقد ذم الله هذا التفرق فقال: {ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا. كل حزب بما لديهم فرحون} الروم: 31، 23 وقال {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شىء} الأنعام: 159.
وظهر أخيرا من يطلقون على أنفسهم "السلفية" نسبة إلى السلف أى القدامى وحددهم ابن حجر حين سئل عن عمل المولد النبوى بأنهم أهل القرون الثلاثة وشاعت هذه التسمية عند الوهابيين الذين يأخذون بمذهب محمد بن عبد الوهاب، الذى انتشر فى السعودية وصار مذهبا لهم، وذلك لتبرمهم بأن منبعهم هو هذا المذهب الجديد، الذى اهتموا فيه بآراء ابن تيمية، وعملوا على نشرها فى العالم الإسلامى كله.
والسلف الصالح ينبغى أن نحترمهم لأنهم خير القرون التى تلت قرن الصحابة واحترامهم يكون بالاقتداء بهم فى سلوكهم، أما منهجهم الفكرى فلا يجب التزامه فى كل شىء، ونحن نعلم أن السلف والخلف مختلفان فى موقفهم من الآيات المشتبهات التى فيها إثبات اليد والعين لله، فالسلف يؤمنون بها على ظاهرها مع اعتقاد أنه سبحانه ليس كمثله شىء، والخلف يؤولونها على معنى القدرة والعناية، أى بما يلزم هذه الأشياء وجاءت المقولة فى ذلك عند علماء الكلام: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم.
والإسلام لا يرضى التعصب لأى فكر ما دام هناك ما يخالفه، وهذا ما ينبغى مراعاته فى الآراء الاجتهادية بوجه عام، وإذا سلمت العقيدة فلا ضرر فى الأمور الفرعية أن يقتدى فيها بأى مذهب من المذاهب المعروفة.
هذا، ويبنغى التنبه إلى أن كثيرا من الفرق نشأت بأسماء مختلفة مع اتفاقها أو تقاربها فى المحتوى، ومع ذلك كل منها تدَّعى أنها الفرقة الناجية، وقد تصرح بأن غيرها لا يستحق النجاة، فنرجو الله الهداية للجميع، حتى لا يساعدوا العدو فيما يدبر لهم من سوء.
وأما موقف الإسلام من كل جديد فيرجع إليه فى بحث "البدعة"(10/295)
الوساطة والشفاعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يساعد إنسانا ضعيفا بأن يتوسط له عند الكبار لنيل خير أو دفع شر؟
الجواب
يقول الله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شىء مقيتا} النساء:85 وروى البخارى ومسلم عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال "اشفعوا تؤجروا، ويقضى الله على لسان نبيه ما أحب " وفى رواية "ما شاء" وفى رواية أبى داود "اشفعوا تؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما شاء".
وروى البخارى عن ابن عباس رضى الله عنهما فى قصة بريرة وزوجها قال: قال لها النبى صلى الله عليه وسلم "لو راجعتيه" قالت: يا رسول الله: تأمرنى؟ قال "إنما اشفع" قالت لا حاجة لى فيه.
وروى البخارى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما قدم عيينة ابن حصن بن حذيفة بن بدر نزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضى الله عنه، فقال عيينة: يا ابن أخى، لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لى عليه، فاستأذن فأذن له عمر، فلما دخل قال: هى يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ أن يوقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وأْمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} الأعراف: 199 وإن هذا من الجاهلين فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافا عند كتاب الله تعالى.
هذه نصوص وحوادث تحث على الشفاعة إلى ولاة الأمور وغيرهم من أصحاب الحقوق والمستوفين لها، ما لم تكن الشفاعة فى إسقاط حد أو تخفيفه أو فى أمر لا يجوز تركه، كالشفاعة إلى وصى أو ناظر على طفل أو مجنون أو وقف أو نحو ذلك فى ترك بعض الحقوق التى فى ولايته، فكلها شفاعة محرمة، تحرم على الشافع ويحرم على المشفوع إليه قبولها، ويحرم على غيرهما السعى فيها إذا علمها، والحديث صحيح فى رفض النبى صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة بن زيد فى عدم إقامة حد السرقة على المرأة الشريفة، وفى قَسَمِه أن فاطمة بنته لو سرقت لقطع يدها.
والكِفل الوارد فى الآية معناه الحظ والنصيب، ومعنى "مقيت" المقتدر والمقدَّر كما قاله ابن عباس وآخرون من المفسرين. وقال آخرون منهم المقيت هو الحفيظ، وقيل: هو الذى عليه قوت كل دابة ورزقها وقيل غير ذلك "الأذكار للنووى ص 323"(10/296)
المداحون
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك حديث يقول: احثوا فى وجوه المداحين التراب؟
الجواب
روى مسلم عن المقداد رضى الله عنه أن رجلا جعل يمدح عثمان رضى الله عنه. فجثا المقداد على ركبتيه وجعل يحثو فى وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأيتم المداحين فاحثوا فى وجوههم التراب" والحثو والحثى هو الحفن باليدين.
وروى البخارى ومسلم عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال:
سمع النبى صلى الله عليه وسلم رجلا يثنى على رجل ويطربه فى المدحة فقال "أهلكتم -أو قطعتم -ظهر الرجل" والإطراء هو المبالغة فى المدح وتجاوز الحد، وقيل: هو المدح. ورويا أيضا عن أبى بكر رضى الله عنه أن رجلا ذكر عند النبى صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبى صلى الله عليه وسلم "ويحك قطعت عنق صاحبك " يقوله مرارا "إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكى على الله أحدا" قال العلماء: إن مدح الإنسان والثناء عليه بجميل صفاته، قد يكون فى وجه الممدوح وقد يكون بغير حضوره، فأما الذى فى غير حضوره فلا منع منه، إلا أن يجازف المادح ويدخل فى الكذب فيحرم عليه بسبب الكذب، لا لكونه مدحا، ويستحب هذا المدح الذى لا كذب فيه إذا ترتب عليه مصلحة ولم يجر إلى مفسدة، بأن يبلغ الممدوح فيفتن به أو غير ذلك.
وأما المدح فى وجه الممدوح فقد جاءت فيه أحاديث تقتضى إباحته واستحبابه وأحاديث تقتضى المنع منه. قال العلماء: وطرق الجمع بين الأحاديث أن يقال: إن كان الممدوح عنده كمال إيمان وحسن يقين ورياضة نفس ومعرفة تامة بحيث لا يفتتن ولا يغتر بذلك ولا تلعب به نفسه فليس بحرام ولا مكروه، وإن خيف عليه شىء من هذه الأمور كره مدحه كراهة شديدة.
والأحاديث الواردة فى الإباحة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح لأبى بكر رضى الله عنه "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"؟ وفى الحديث الآخر "لست منهم" أى لست من الذين يلبسون أزرهم خيلاء، وفى الحديث الآخر "يا أبا بكر، لا تبك، إن أمن الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أمتى خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" وفى الحديث الآخر "أرجو أن تكون منهم" أى "من الذين يدعون من جميع أبواب الجنة لدخولها" وفى الحديث الآخر "ائذن له وبشره بالجنة" وفى الحديث الآخر "اثبت أُحد، فإنما عليك نبى وصدِّيق وشهيدان".
هذا فى أبى بكر وأما عمر رضى الله عنه فقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "دخلت الجنة فرأيت قصرا، فقلت لمن هذا؟ قالوا لعمر، فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك" فقال عمر رضى الله عنه: بأبى وأمى يا رسول الله، أعليك أغار، وفى الحديث الآخر "يا عمر ما لقيك الشيطان سالكا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك".
وفى شأن عثمان رضى الله عنه صح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "افتح لعثمان وبشره بالجنة" وفى شأن على رضى الله عنه صح أنه قال "أنت منى وأنا منك" وفى حديث آخر: "أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون وموسى".
وفى غير الخلفاء الراشدين جاء فى بلال قوله صلى الله عليه وسلم "سمعت دُف نعليك فى الجنة" وجاء فى أُبى بن كعب "ليهنك العلم أبا المنذر" وجاء فى عبد الله بن سلام "أنت على الإسلام حتى تموت" وجاء فى أنصاريين "ضحك الله عز وجل -أو عجب- من فعالكما" وجاء فى الأنصار "أنتم من أحب الناس إلى" وجاء فى أشج عبد القيس "إن فيك خصلتين يحبهما الله تعالى ورسوله: الحلم والأناة" وكل هذه الأحاديث مشهورة فى الصحيح كما ذكره النووى فى"الأذكار" ص 273 -375 ووردت آثار كثيرة فى مدح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء والأئمة الذين يقتدى بهم. وقال الإمام الغزالى فى آخر كتاب الزكاة من إحياء علوم الدين: إذا تصدق إنسان بصدقة فينبغي للآخذ منه أن ينظر:
فإن كان الدافع للصدقة ممن يحب الشكر عليها ونشرها فينبغى للآخذ أن يخفيها، لأن قضاء حقه ألا ينصره على الظلم وطلبه الشكر ظلم، وإن علم من حاله أنه لا يحب الشكر ولا يقصده فينبغى أن يشكره ويظهر صدقته، وقال سفيان الثورى رحمه الله: من عرف نفسه لم يضره مدح الناس(10/297)
الشكر على المعروف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن يصنع بعض الناس معروفا لى، ولكنى لا أستطيع أن أقابل معروفه بمعروف، فماذا أفعل؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: أتى النبى صلى الله عليه وسلم الخلاء -فوضعت له وضوءا -ماء يتطهر به- فلما خرج قال "من وضع هذا"؟ فأخبر فقال "اللهم فقهه فى الدين" وثبت فى صحيح مسلم أنه قال لأبى قتادة لملاحظته له فى السفر "حفظك الله بما حفظت به نبيه" وروى الترمذى بإسناد قال عنه: حسن صحيح قوله صلى الله عليه وسلم "من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ فى الثناء" وروى النسائى وابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم استقرض من عبد الله بن أبى ربيعة أربعين ألفا، فلما دفع إليه القرض دعا له وقال "بارك الله لك فى أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء".
من السنة إذا صنع للإنسان معروف أن يكافئ فاعله بمثل معروفه أو أحسن، بناء على قوله تعالى {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} النساء: 86 لكن ربما لا يستطيع الإنسان أن يقوم بذلك، وهنا يكفى أن يشكر الفاعل ويدعى له بالخير، فقد ورد فى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "من اصطنع إليكم معروفا فجازوه، فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له حتى تعلموا أن قد شكرتم فإن الله شاكر يحب الشاكرين " رواه أبو داود والنسائى ورواه الطبرانى باللفظ المذكور وروى أبو داود والنسائي أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله، ما رأينا قوما أحسن بذلا لكثير ولا أحسن مواساة فى قليل منهم، ولقد كفونا المؤنة، قال صلى الله عليه وسلم "أليس تثنون عليهم به وتدعون لهم"؟ قالوا: بلى، قال "فذاك بذاك".
وهنا سؤال: ماذا لو كان صانع المعروف غير مسلم كيف نشكره وندعو له؟ والإجابة: أن يدعى له بالهداية وصحة البدن والعافية، بدليل مارواه ابن السنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقى -يعنى طلب ماء يشربه- فسقاه يهودى، فقال له "جمَّلك الله " فما رأى الشيب حتى مات(10/298)
القصد فى الموعظة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن بعض الخطباء يطيلون فى الخطبة مما يجعل بعض الحاضرين يفكر فى الانصراف عن سماعها أو تنبيه الخطيب حتى يختصر فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
روى مسلم عن عمار بن ياسر رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة" ومعنى "مئنة" علامة دالة.
والمقصود من إطالة الصلاة بالنسبة إلى هذا الحديث الإطالة بالنسبة إلى الخطبة، وليس التطويل الذى يشق على المؤمنين، حتى يتفق مع الحديث: كانت خطبته قصدا وصلاته قصدا. فيستحب لمن وعظ جماعة أو ألقى عليهم علما أن يقتصد فى ذلك ولا يطيل تطويلا يملهم حتى لا يضجروا وتذهب حلاوة العلم، ويكرهوا سماع الخير فيقعوا فى المحظور، وكان الصحابة رضوان الله عليهم ملتزمين بهذا الهدى، فقد روى البخارى ومسلم عن شقيق بن سلمة قال: كان ابن مسعود يذكرنا فى كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم فقال: أما إنه يمنعنى من ذلك أنى أكره أن أملكم، وإنى أتخولكم بالموعظ كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا.
ومما يتصل بهذا من أدب الدعوة والإمامة ألا يطيل الإمام فى الصلاة مراعاة لظروف المأمومين، فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة وقد صح فى البخارى ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين اشتكى البعض طول صلاته "أفتَّان أنت يا معاذ" ثلاث مرات، والمعنى أن التطويل سبب لخروجهم من الصلاة، وسبب لكراهة صلاة الجماعة، وأنه عذاب لهم، والإسلام لا يحب ذلك.
ومن الأدب أن تكون الموعظة مفهومة بأسلوب مناسب،وليس فيها غرائب تحار فى فهمها العقول، روى البخارى عن على رضى الله عنه أنه قال: حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم(10/299)
الثعلب والقنفذ
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى قيام بعض الفلاحين باصطياد حيوانات من الحقول وذبحها وأكلها، مثل الثعلب والقنفذ؟
الجواب
الثعلب حلال أكله عند الشافعية، اعتمادا على عادة العرب فى ذلك، فيندرج تحت عموم قوله تعالى {يسألونك ماذا أُحل لهم قل أحل لكم الطيبات} المائدة: 4 قال ابن الصلاح: ليس فى حل الثعلب حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى تحريمه حديثان فى إسنادهما ضعف ... وبالحل قال طاووس وعطاء وقتادة وغيرهم من التابعين. وكره أبو حنيفة ومالك أكله، وأكثر الروايات عن أحمد تحريمه، لأنه سبع.
أما القنفذ فهو أيضا حلال عند الشافعية، للدليل السابق فى الثعلب، وقد أفتى ابن عمر بإباحته. وما رواه أبو داود عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى أنه خبيث وأن ابن عمر رجع عن قوله فى حله فرواته مجهولون. قال البيهقى: ولم يرو إلا من وجه واحد ضعيف لا يجوز الاحتجاج به.
وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يحل. وسئل عنه مالك فقال: لا أدرى راجع كتاب "حياة الحيوان الكبرى" للدميرى ففيه توضيح للأدلة(10/300)
زلة العالم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الحكم فيما لو فعل العالم فعلا يتناقض مع ما هو معروف فى الدين؟
الجواب
إن هذا السؤال يستلزم بيان نقطتين، الأولى موقف العالم من هذه الزلَّة، والثانى موقف الناس منه.
وقبل الإجابة نقرر أنه لا يوجد أحد معصوم من الخطأ إلا من عصم الله، فكل ابن آدم معرض لذلك، وخير الخطائين التوابون كما صح فى الحديث، كما نقرر أن فى الشريعة أمورا متفقا على حكمها من الحل أو الحرمة، وأمورا اختلفت فيها الأقوال، فما كان متفقا على حكمه لا تجوز مخالفته ويجب التنبيه على هذه المخالفة قياما بواجب النصح والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما كان فيه خلاف ينبغى لمن اختار رأيا والتزمه حتى ظن الناس أنه هو الصحيح. ثم اختار رأيا آخر أثار دهشة الناس أن يبين السبب فى ذلك ليعلم الناس أن الحكم الخلافى لا يجب التزام رأى واحد فيه، كما أن من علم أن المسألة فيها خلاف فى الحكم لا ينبغى أن يعترض على من اتبع أى رأى من الآراء.
وقد تحدث الإمام النووى فى كتابه "الأذكار" ص 319 عن ذلك فقال: اعلم أنه يستحب للعالم والمعلم والقاضى والمفتى والشيخ المربى وغيرهم ممن يقتدى به ويؤخذ عنه أن يجتنب الأفعال والأقوال والتصرفات التى ظاهرها خلاف الصواب وإن كان محقا فيها، لأنه إذا فعل ذلك ترتب عليه مفاسد.
من جملتها توهم كثير ممن يعلم ذلك منه أن هذا جائز على ظاهره بكل حال، وأن يبقى ذلك شرعا وأمرا معمولا به أبدا، ومنها وقوع الناس فيه بالتنقص واعتقادهم نقصه وإطلاق ألسنتهم بذلك، ومنها أن الناس يسيئون الظن به فينفرون عنه، وينفرون غيرهم عن أخذ العلم عنه، وتسقط رواياته وشهادته، ويبطل العمل بفتواه، ويذهب ركون النفوس إلى ما يقوله من العلوم، وهذه مفاسد ظاهرة، فيبنغى له اجتناب أفرادها فكيف بمجموعها؟ فإن احتاج إلى شىء من ذلك وكان محقا فى نفس الأمر لم يظهره، فإن أظهره أو ظهر، أو رأى المصلحة فى إظهاره ليعلم جوازه وحكم الشرع فيه فينبغى أن يقول: هذا الوجه الذى فعلته ليس بحرام، أو إنما فعلته لتعلموا انه ليس بحرام إذا كان على الوجه الذى فعلته، وهو كذا وكذا، ودليله كذا وكذا.
واستدل النووى على ذلك بما رواه البخارى ومسلم عن سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فكبَّر وكبر الناس وراءه، فقرأ وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر حتى فرغ من صلاته، ثم أقبل على الناس فقال "أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى" والأحاديث فى هذا الباب كثيره كحديث صفية حينما رآها مع الرسول على باب المسجد ليلة فظن بعض المارة سوءا فبادر وقال: "إنها صفية" أى ليست امرأة أجنبية، وبيَّن لهم أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، فربما سول لهم سوءا فى الظن، وجاء فى البخارى أن عليا رضى الله عنه شرب قائما وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتمونى فعلت.
والمسألة الثانية أن على التابعين الآخذين عن هذا الشيخ إذا رأوا منه شيئا فى ظاهره مخالفة لمعروف أن يسألوه عنه بنية الاسترشاد - لا بنية النقد والاعتراض - فإن كان قد فعله ناسيا تداركه، وإن كان فعله عامدا وهو صحيح فى نفس الأمر بيَّنه لهم، فقد روى البخارى ومسلم عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة -أى أفاض منها- حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ: فقلت: الصلاة يا رسول الله، فقال "الصلاة أمامك".
يقول النووى: إن أسامة قال ذلك لأنه ظن أن النبى صلى الله عليه وسلم نسى صلاة المغرب، وكان قد دخل وقتها وقرب خروجه.
كما روى البخارى ومسلم أن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال:
يا رسول الله مالك عن فلان، والله إنى لأراه مؤمنا؟ وروى مسلم عن بريدة أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، فقال عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه فقال "عمدا صنعته يا عمر" ونظائر هذا كثيرة فى الصحيح.
فالخلاصة أن العالم ومن يقتدى به إذا ظهر منه قول أو فعل يرى المتعلمون أنه مخالف، ينبغى أن يبين لهم وجه الصواب، وينبغى لهم أيضا أن يسألوه عن ذلك بأدب واحترام ولا يبادروا بإساءة الظن به، ولا يعارضوا بأسلوب غير لائق(10/301)
التثبت من القول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعض الناس يحب أن يخطب فى القرى ويجذب الانتباه إليه فيروي أحاديث دون أن يتثبت من صحتها، وحكايات قد تكون مختلقة، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
يقول الله سبحانه {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} الإسراء: 36 ويقول {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} ق: 18 وروى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "كفى بالمرء كذبا أن يحدِّث بكل ما سمع" وروى مسلم أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال "بحسب المرء من الكذب أن يحدِّث بكل ما سمع " وروى أبو داود بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال "بئس مطية الرجل زعموا".
هذه النصوص تنفر من الإسراع فى رواية حديث أو حكاية خبر أو إصدار حكم قبل أن يتثبت الإنسان منه. والله سبحانه سائل من تجرأ على ذلك يوم القيامة، ومطلع على نيته، وتشتد حرمة الكذب إذا نسب إلى الله سبحانه أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى يقول {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} النحل: 116 والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخارى ومسلم وكما يحرم الكذب فى نقل الآيات والأحاديث يحرم فى الحكم على الشىء بالحل أو الحرمة، لأن ذلك من اختصاص الله سبحانه وما أذن فيه للرسل، قال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} النحل: 116.
ونسبة أقوال أو أفعال إلى غير من لم تصدر عنه كذب عليه وفيه إيذاء وضرر والله يقول: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} الأحزاب: 58 وفى الحديث "لا ضرر ولا ضرار".
وأكثر من يلجئون إلى هذه الطريقة مراءون غير مخلصين لله، يريدون أن يتحدث الناس عنهم بكثرة العلم، أو ينالوا منهم مغنما دنيويا، والرياء شرك محبط للثواب والوعيد عليه شديد فى نصوص القرآن والسنة، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل لا يجيب إلا بما يعلم، فإن كان عنده علم أجاب، وإلا رجع إلى الله سبحانه، والوقائع شاهدة على ذلك، كما فى سؤالهم له عن الروح وذى القرنين وأصحاب الكهف، وعن خير البقاع وشرها، والحديث معروف فى قيام الجهلاء بالفتوى بعد موت العلماء، فضلوا وأضلوا(10/302)
الإرهاب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الإرهاب،وما موقف الإسلام منه؟
الجواب
الإرهاب هو التخويف، والرهبة هى الخوف، وكل العباد لابد أن يرهبوا الله أى يخافوه قال تعالى: {وإياى فارهبون} البقرة: 40 ومع تخويف الله بعقاب العاصين، يكون الرجاء بثواب الطائعين، قال تعالى {نبِّى عبادى أنى أنا الغفور الرحيم. وأن عذابى هو العذاب الأليم} الحجر: 49، 50 وهذان الأمران لابد أن يلازما كل إنسان فى حياته، وإن قال العلماء: ينبغى تغليب الخوف على الرجاء ووضح ذلك كبارهم فقالوا: ينبغى تغليب الخوف على الرجاء فى فترة الشباب وتوافر أسباب القوة التى قد تدعو إلى الانحراف، أما فى فترة الضعف بكبر السن وقرب الأجل فينبغى تغليب الرجاء على الخوف، قالوا ذلك عند شرح البيت الشعرى فى العقائد:
وغلِّب الخوف على الرجاء * وسر لمولاك بلا تناء والله سبحانه يرهبنا أى يخوفنا من عقابه إن انحرفنا فيقول {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} الإسراء: 59 والإنسان يرهب غيره بأساليب متنوعة ولأغراض متعددة فإن كان لغرض مشروع كالتأديب والنهى عن المنكر كان مشروعا، ومنه تأديب الصبى إذا ترك الصلاة، "واضربوهم عليها لعشر" وتأديب الزوجة الناشز {واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن} النساء: 34 ومنه إرهاب العدو منعا لعدوانه علينا، وذلك بالاستعداد لمقاومته وبوسائل أخرى كالدعاية لتخويفه، قال تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} الأنفال: 60. أما الإرهاب بدون سبب مشروع فهو محرم، ذلك أن الإسلام دين السلام، لا يبدأ بعدوان ويؤثر السلامة على المخاطرة التى لم نلجأ إليها، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} البقرة: 208 وهو دخول فى السلم بين المسلمين بعضهم مع بعض وبينهم وبين غيرهم، قال تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} الأنفال: 61 وموقف النبى صلى الله عليه وسلم فى صلح الحديبية تطبيق عملى لهذا المبدأ العظيم، ووعد إن جاءوه بخطة سلم قبلها منهم، وكانت شروط الصلح مؤكدة لذلك، حتى إن بعض الصحابة شعر فيها بشىء من الذلة والضعف ولكن حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم بددت كل ذلك، وهو القائل فى حديثه الذى رواه البخارى ومسلم، وقد انتظر العدو فى بعض أيامه حتى مالت الشمس "يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ".
وذلك كله إيثار للسلم والأمن الذى هو نعمة أساسية فى حياة الإنسان كما فى الحديث الذى رواه الترمذى "من أصبح آمنا فى سربه معافى فى بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
وقد امتن الله بالأمن على قريش فقال {الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} قريش: 4 وجعل مكة حرما آمنا، وأقسم أنها البلد الأمين، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وكذلك من آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أى شرك، وجعل سلب الأمن عقابا لمن كفر بأنعم الله، وشرف السلام فكان اسما من أسمائه وسمى به الجنة وجعله تحية المسلمين فيما بينهم وتحية الملائكة لهم فى الجنة وكان نزول القرآن فى ليلة السلام، وكل ذلك وردت به النصوص فى القرآن والسنة "انظر كتابنا: دراسات إسلامية لأهم القضايا المعاصرة".
ومن أجل الحفاظ على الأمن والسلام حرم الاعتداء على الحقوق ووضع لها عقوبات صارمة فحرم القتل والسرقة وانتهاك الأعراض بالزنا والقدح والاتهام، وحرم الإفساد فى الأرض وعده محاربة الله ورسوله، كما حرم الإسلام كل ما يقلق الأمن ويساعد على التفرق والمنازعات، كالربا والبخل والنميمة وشهادة الزور والخيانة والكبر والهجران، وإباء الصلح مع من طلبه والاعتداء على المخالف فى العقيدة {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} التوبة: 7 إلى غير ذلك من الإجراءات التى ذكرت كثيرا منها فى كتابى المشار إليه.
وبلغ من اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على أمن الناس أنه قال "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهى وإن كان أخاه لأبيه وأمه " رواه مسلم وقال "من أخاف مؤمنا كان حقا على الله ألا يؤمنه من فزع يوم القيامة" وروى أبو داود أن بعض الصحابة كان يسير مع النبى صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزغ فقال صلى الله عليه وسلم "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما" وفى حديث رواه الترمذى بنسد حسن "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا" وفى حديث رواه البزار والطبرانى وغيرهما عن عامر بن ربيعة أن رجلا أخذ نعل رجل فغيبها وهو يمزح فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم " وروى الطبرانى أن عبد الله بن عمر سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول "من أخاف مؤمنا كان حقا على الله ألا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة" بل إن النظرة المخيفة نهى عنها الحديث الذى رواه الطبرانى "من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه بها بغير حق أخافه الله يوم القيامة" وبخصوص الإرهاب بالسلاح جاء الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدرى لعل الشيطان يترع فى يده فيقع فى حفرة النار ومعنى "يترع " بكسر الراء وبالعين يرمى، وروى "ينزغ " بالزاى المفتوحة وبالغين، ومعناه أيضا يرمى ويفسد، وأصل الترع الطعن والفساد "الترغيب والترهيب للمنذرى ج 3 ص 198 ".
وتكفى هذه النصوص لبيان أن تخويف الآمن بدون وجه حق من المنكرات التى تتنافى مع الأخوة الإنسانية، والتى تحول دون التطور الذى يلزمه الهدوء والاطمئنان على الحقوق، تلك المنكرات التى تهوى بالإنسان الذى كرمه الله إلى درك الوحوش فى الغابات التى تسيرها الغرائز ويتحكم فيها منطق الأثرة والأنانية والقوة(10/303)
أعداء الإسلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو سبب العداء السافر بين الدول الغربية والإسلامية وكيف يتقى المسلم شر هذا العداء وأثره فى مجتمع للمسلمين؟
الجواب
السبب ببساطة - وذلك فى نظرى- أن الدول الآن قائمة على التنافس والغلب، والأجانب جميعا يعتقدون أن الإسلام فيه كل عناصر القوة، بدليل الواقع الذى لا يستطيعون إنكاره يوم أن كان المسلمون متمسكين بدينهم حق التمسك علما وعملا، وهم لا ينسون الحروب الصليبية، ولا ينسون العروش القديمة التى أزالها الإسلام.
وقد تمكن هؤلاء من الثأر من الإسلام بالتغلب على المسلمين واستعمار بلادهم، واجتهدوا فى تحويلهم عن الدين، أو إضعاف صلتهم به بكل وسيلة حتى لا تقوم لهم دولة كما كانت من قبل، وأذكر بهذه المناسبة أن مسلما إنجليزيا اسمه "خالد شالدريك" ألقى محاضرة فى جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة فى النصف الأول من القرن العشرين بيَّن فيها الأسباب التى دعته إلى اعتناق الإسلام، وكان منها أنه نظر إلى الحرب الشرسة الموجهة من العالم المتحضر إلى الإسلام وعدم اهتمام هؤلاء، بالأديان الأخرى، فعرفت أن المحاربين للإسلام يعتقدون أنه قلعة حصينة فيها كل عناصر القوة أما الأديان الأخرى فما أيسر الاستيلاء عليها ودكَّ حصونها إن كانت لها حصون. ومن هنا -يقول-اتجهت إلى دراسة الإسلام فعرفت أن فيه كل عناصر القوة والصدق، فأسرعت إلى الدخول فيه.
ومن هنا يجب على المسلمين جميعا، أفرادا وجماعات ودولا، أن ينتبهوا إلى ما يراد بهم، وأن يفيقوا من غفلتهم، وأن يعودوا إلى الإسلام عقيدة وشريعة، بالفهم الصحيح والتطبيق الدقيق الشامل فى كل الميادين، مؤمنين تماما بأن دينهم فيه كل عناصر القوة واستقلال الشخصية، والنصوص فى ذلك كثيرة "اقرأ: الدعوة الإسلامية دعوة عالمية"(10/304)
رابعة العدوية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هناك كلام كثير عن رابعة العدوية فى نشأتها الأولى وانتهاء حياتها بالتصوف، واشتهارها بالحب الإلهى، فهل من كلمة موجزة عنها؟
الجواب
رابعة هى بنت إسماعيل العدوية البصرية، ولقبها ابن خلكان بأم الخير، وذكر أنها مولاة آل عتيك، فخذ من قبيلة الأزد، كانت فى أول أمرها تعزف بالمعازف ثم تابت وقضت حياتها بالبصرة كأنها مسجونة وماتت بها فى سنٍّ لا تقل عن ثمانين سنة، وذلك فى عام 185 هـ (801م) ولم تكن وفاتها سنة135 هـ (752 م) لأن محمد بن سليمان الذى ولى البصرة من قبل العباسيين منذ سنة145 هـ- 172 هـ قد خطبها فأبت وتفرغت للعبادة، وقالوا: إنها ولدت فى العام الذى بدأ فيه الحسن البصرى مجالس تعليمه، وذلك سنة95 هـ أو 96 هـ، فأكثر الذين كتبوا عنها قالوا: إنها ولدت وعاشت فى القرن الثانى من الهجرة وماتت فى أخرياته.
كانت كثيرة العبادة تلبس الصوف وما إليه من ثياب الشعر، زاهدة فى الدنيا، ولعل أظهر ما تميزت به كلامها فى الحب والمحبة كما فى كتاب "مدارج الساكين" لابن القيم، ومن شعرها المأثور فى ذلك:
أحبك حبين، حب الهوى * وحبا لأنك أهل لذاكا فأما الذى هو حب الهوى * فشغلى بذكرك عمن سواكا وأما الذى أنت أهل له * فكشفك لى الحجب حتى أراكا فلا الحمد فى ذا ولا ذاك لى * ولكن لك الحمد فى ذا وذاكا ذكر الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين "أن محمد بن سليمان الهاشمى والى البصرة أرسل إليها كتابا يخطبها وذكر فيه مقدار غناه وأن مهرها سيكون كبيرا فردت عليه بعد المقدمة: اعلم أن الزهد فى الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فإذا أتاك كتابى هذا فهيئ زادك، وقدم لمعادك وكن وصى نفسك ولا تجعل الناس أوصياءك فيقتسموا تراثك، وصم عن الدنيا وليكن إفطارك على الموت. وأما أنا فلو أن أعطانى ما أعطاك وأمثاله ما سرنى أن أشتغل طرفة عين عن الله.
ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى دائرة المعارف الإسلامية "مادة تصوف" وتعليق الشيخ مصطفى عبد الرازق ص 357(10/305)
النص والاجتهاد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى قولهم: لا اجتهاد مع النص، وهل هذا يمنع الاجتهاد فيما يجُد من الأمور فى الحياة؟
الجواب
هذا التعبير يقصد به أن الإنسان إذا أراد أن يعرف حكما شرعيا ينبغى أن يرجع إلى الكتاب والسنة، فإن وجد فيها الحكم اقتنع به وأراح نفسه ولا يكلفها البحث عنه فى مصادر أخرى يقوم عليها الاجتهاد كالقياس ونحوه.
فالذى يريد أن يعرف وجوب الصلاة يكفيه قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} البقرة: 43 وقوله صلى الله عليه وسلم "بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة ... " رواه البخارى ومسلم.
والذي يريد أن يعرف عدد الصلوات المفروضة وعدد ركعات كل منها فليرجع إلى سنة النبى صلى الله عليه وسلم وفيها الكثير مما يدل على ذلك. وأى اجتهاد يخالف ما نص عليه القرآن والسنة فهو مرفوض. وهذا لا يمنع القول بجواز الاجتهاد فى النص بمعنى أنه إذا امتنع الاجتهاد لمعرفة الحكم مع وجود النص، فإن النص نفسه يجوز فيه الاجتهاد، لا لقبوله أو رفضه، ولكن لفهمه فهما دقيقا إذا كان فيه اشتباه مثلا، إن تشريع الوضوء للصلاة جاء صريحا فى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} المائدة: 6 فمسح الرأس مطلوب، لكن هل يجب مسح جميع الرأس أو يكفى مسح البعض؟ إن الباء التى تعدى بها الأمر بالمسح هى التى اجتهد فيها العلماء من أجل معرفة القدر الممسوح وذلك لأن لها عدة معان فى اللغة العربية والقرآن الكريم عربى يفسر عند عدم وجود النص على ضوء هذه اللغة فقال بعض الفقهاء بوجوب مسح كل الرأس، واكتفى البعض بمسح جزء من الرأس، وتوضيح ذلك ليس محله الآن.
فالخلاصة أن الاجتهاد لمعرفة الحكم ليس له محل ما دام النص موجودا، أما الاجتهاد فى النص لفهمه فهما دقيقا فيجوز على القواعد التى وضعها العلماء لذلك، وهى مذكورة فى موضع آخر من هذه الفتاوى(10/306)
حياك الله وبياك
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى: حياك الله وبياك، ومن الذى قالها؟
الجواب
جاء في كتاب "حياة الحيوان الكبرى للدميرى- الغراب" أن آدم حج إلى مكة وجعل قابيل وصيا على بنيه فقتل قابيل هابيل، فلما رجع آدم قال: أين هابيل؟ فقال لا أدرى، فقال آدم: اللهم العن أرضا شربت دمه، فمن ذلك الوقت لم تشرب الأرض دما.
ثم إن آدم بقى مائة عام لا يبتسم حتى جاءه ملك الموت فقال له: حياك الله يا آدم وبياك، قال: وما بياك؟ قال أضحكك(10/307)
النظم الاقتصادية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تشيع فى هذه الأيام ألفاظ تتحدث عن الاقتصاد مثل الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية فما هى مقومات كل منها، وما هى مقومات النظام الإسلامى؟
الجواب
الكلام على هذه المصطلحات طويل، ويكفى هنا أن نعرف مقومات كل منها باختصار حتى يمكننا أن نعرف الفرق بينها وبين النظام الإسلامى.
1- الاشتراكية تقوم على أركان أهمها:
أ- تقليل الفوارق الطبقية من أجل الوصول إلى المجتمع اللاطبقى.
ب- تسلم البروليتاريا للحكومة لإنشاء حكومة ديكتاتورية.
ج- تأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج الرأسمالية فى البلاد.
د- قيام التوزيع على قاعدة: كلٌّ حسب طاقته، ولكل حسب عمله.
2- والشيوعية تقوم على أركان أهمها:
أ- محو الملكية الخاصة فى الإنتاج والاستهلاك.
ب- تذويب الفوارق بحيث لا توجد طبقة متميزة.
ج- محو السلطة السياسية وتحرير المجتمع من الحكومة.
3- والرأسمالية تقوم على أركان أهمها:
أ- إقرار الملكية الخاصة بغير حدود.
ب- حرية الفرد واستقلال ملكيته وتنميتها.
ج- ضمان حرية الاستهلاك، وضمان حرية الاستغلال.
4- الاقتصاد الإسلامى يقوم على أركان أهمها:
أ- إقرار الملكية المزدوجة: الخاصة والعامة.
ب- الحرية الاقتصادية فى نطاق الإسلام خلقا وتشريعا.
ج- العدالة الاجتماعية بالتكافل والتوازن.
ويمكن الرجوع إلى كتاب: اشتراكية الإسلام للدكتور مصطفى السباعى لتوضيح ذلك(10/308)
علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين؟
الجواب
يقول القشيرى المتوفى بمدينة نيسابور يوم الأحد 16 من ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة من الهجرة فى رسالته فى التصوف: اليقين هو العلم الذى لا يتداخل صاحبه ريب على مطلق العرف، ولا يطلق فى وصف الحق سبحانه، لعدم التوقيف. فعلم اليقين هو اليقين، وكذلك عين اليقن نفس اليقين، وحق اليقين نفس اليقين.
فعلم اليقين على موجب اصطلاحهم ما كان بشرط البرهان. وعين اليقين ما كان بحكم البيان -أى بطريق الكشف- وحق اليقين ما كان بنعت العيان. فعلم اليقين لأرباب العقول، وعين اليقين لأصحاب العلوم، وحق اليقين لأصحاب المعارف "ص 74" والشيخ زكريا الأنصارى فى شرحه للرسالة يقول: هذه الألفاظ عبارات عن علوم جلية مع تفاوتها فى القوة، بناء على أن اليقين مقول على أفراده بالتشكيك، والثلاثة مذكورة فى القرآن، قال تعالى: {لو تعلمون علم اليقين} التكاثر: 5 وقال {لترونها عين اليقين} التكاثر: 7. وقال {إن هذا لهو حق اليقين} الواقعة: 95 وذكر القرطبى فى تفسيره "ج 17 ص 234 " لسورة الواقعة أن معنى حق اليقن محض اليقين وخالصه، وجاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما، قال المبرد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين فهو من باب إضافة الشىء إلى نفسه عند الكوفيين، وعند البصريين حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين. وقيل: هو توكيد، وقيل:
أصل اليقين أن يكون نعتا للحق، فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز كقوله "ولدار الآخرة ".
وذكر فى تفسير سورة التكاثر "ج 20 ص 174" أن علم اليقين بالنار يكون فى الدنيا عن طريق العقل والقلب، وعين اليقين يكون فى الآخرة عند المعاينة بعين الرأس والمشاهدة فيراها يقينا لا تغيب عن عينه(10/309)
الذكر واللهو
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيما نراه فى بعض حلقات الذكر من الضرب بالدفوف والمزامير وغيرها؟
الجواب
نقل القرطبى عن أبى بكر الطرطوشى رحمهما الله تعالى أنه سئل عن قوم يجتمعون فى مكان يقرءون شيئا من القرآن، ثم ينشد لهم منشد شيئا من الشعر فيرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشبابة، هل الحضور معهم حلال أم لا؟ فأجاب: مذهب الصوفية أن هذا بطالة وجهالة وضلالة إلى آخر كلامه، قلت: وقد رأيت أنه أجاب بلفظ غير هذا، وهو أنه قال:
مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإِسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامرى لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعبَّاد العجل، وإنما كان مجلس النبى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار. فينبغى للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور فى المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم.
هذا مذهب مالك والشافعى وأبى حنيفة وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين. "حياة الحيوان الكبرى للدميرى- العجل "(10/310)
شم النسيم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحتفل المصريون بيوم شم النسيم، فما هو أصل هذا الاحتفال، وما رأى الدين فيه؟
الجواب
النسيم هو الريح الطيبة، وشمه يعنى استنشاقه، وهل استنشاق الريح الطيبة له موسم معين حتى يتخذه الناس عيدا يخرجون فيه إلى الحدائق والمزارع، ويتمتعون بالهواء الطلق والمناظر الطبيعية البديعة، ويتناولون فيه أطايب الأطعمة أو أنواعا خاصة منها لها صلة بتقليد قديم أو اعتقاد معين؟ ذلك ما نحاول أن نجيب عليه فيما يأتى:
كان للفراعنة أعياد كثيرة، منها أعياد الزراعة التى تتصل بمواسمها، والتى ارتبط بها تقويمهم إلى حد كبير، فإن لسنتهم الشمسية التى حددوها باثنى عشر شهرا ثلاثة فصول، كل منها أربعة أشهر، وهى فصل الفيضان ثم فصل البذر، ثم فصل الحصاد. ومن هذه الأعياد عيد النيروز الذى كان أول سنتهم الفلكية بشهورها المذكورة وأسمائها القبطية المعروفة الآن.
وكذلك العيد الذى سمى فى العصر القبطى بشم النسيم، وكانوا يحتفلون به فى الاعتدال الربيعى عقب عواصف الشتاء وقبل هبوب الخماسين، وكانوا يعتقدون أن الخليقة خلقت فيه، وبدأ احتفالهم به عام 2700 ق. م وذلك فى يوم 27 برمودة، الذى مات فيه الإِله "ست" إله الشر وانتصر عليه إله الخير. وقيل منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.
وكان من عادتهم فى شم النسيم الاستيقاظ مبكرين، والذهاب إلى النيل للشرب منه وحمل مائه لغسل أراضى بيوتهم التى يزينون جدرانها بالزهور. وكانوا يذهبون إلى الحدائق للنزهة ويأكلون خضرًا كالملوخية والملانة والخس، ويتناولون الأسماك المملحة التى كانت تصاد من بحر يوسف وتملح فى مدينة "كانوس" وهى أبو قير الحالية كما يقول المؤرخ "سترابون" وكانوا يشمون البصل، ويعلقونه على منازلهم وحول أعناقهم للتبرك.
وإذا كان لهم مبرر للتمتع بالهواء والطبيعة وتقديس النيل الذى هو عماد حضارتهم فإن تناولهم لأطعمة خاصة بالذات واهتمامهم بالبصل لا مبرر له إلا خرافة آمنوا بها وحرصوا على تخليد ذكراها. لقد قال الباحثون:
إن أحد أبناء الفراعنة مرض وحارت الكهنة فى علاجه، وذات يوم دخل على فرعون كاهن نوبى معه بصلة أمر بوضعها قرب أنف المريض، بعد تقديم القرابين لإِله الموت "سكر" فشفى. وكان ذلك فى بداية الربيع، ففرح الأهالى بذلك وطافوا بالبلد والبصل حول أعناقهم كالعقود حول معابد الإله "سكر" وبمرور الزمن جدت أسطورة أخرى تقول: إن امرأة تخرج من النيل في ليلة شم النسيم يدعونها "ندَّاهة" تأخذ الأطفال من البيوت وتغرقهم، وقالوا: إنها لا تستطيع أن تدخل بيتا يعلق عليه البصل "محمد صالح -الأهرام: 30/ 4/1962م.
ثم حدث فى التاريخ المصرى حادثان، أولهما يتصل باليهود والثانى بالأقباط، أما اليهود فكانوا قبل خروجهم من مصر يحتفلون بعيد الربيع كالمصريين، فلما خرجوا منها أهملوا الاحتفال به، كما أهملوا كثيرا من عادات المصريين، شأن الكاره الذى يريد أن يتملص من الماضى البغيض وآثاره. لكن العادات القديمة لا يمكن التخلص منها نهائيا وبسهولة، فأحب اليهود أن يحتفلوا بالربيع لكن بعيدا عن مصر وتقويمها، فاحتفلوا به كما يحتفل البابليون، واتبعوا فى ذلك تقويمهم وشهورهم.
فالاحتفال بالربيع كان معروفا عند الأمم القديمة من الفراعنة والبابليين والأشوريين، وكذلك عرفه الرومان والجرمان، وإن كانت له أسماء مختلفة، فهو عند الفراعنة عيد شم النسيم، وعند البابليين والأشوريين عيد ذبح الخروف، وعند اليهود عيد الفصح، وعند الرومان عيد القمر، وعند الجرمان عيد "إستر" إلهة الربيع.
وأخذ احتفال اليهود به معنى دينيا هو شكر الله على نجاتهم من فرعون وقومه.
وأطلقوا عليه اسم "عيد بساح" الذى نقل إلى العربية باسم "عيد الفصح" وهو الخروج، ولعل مما يشير إلى هذا حديث رواه البخارى ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى أن اليهود تصوم عاشوراء، فقال لهم "ما هذا اليوم الذى تصومونه"؟ قالوا: هذا يوم عظيم، نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وفى رواية فنحن نصومه تعظيما له.
غير أن اليهود جعلوا موعدا غير الذى كان عند الفراعنة، فحددوا له يوم البدر الذى يحل فى الاعتدال الربيعى أو يعقبه مباشرة.
ولما ظهرت المسيحية فى الشام احتفل المسيح وقومه بعيد الفصح كما كان يحتفل اليهود. ثم تآمر اليهود على صلب المسيح وكان ذلك يوم الجمعة 7 من أبريل سنة 30 ميلادية، الذى يعقب عيد الفصح مباشرة، فاعتقد المسيحيون أنه صلب فى هذا اليوم، وأنه قام من بين الأموات بعد الصلب فى يوم الأحد التالى، فرأى بعض طوائفها أن يحتفلوا بذكرى الصلب فى يوم الفصح، ورأت طوائف أخرى أن يحتفلوا باليوم الذى قام فيه المسيح من بين الأموات، وهو عيد القيامة يوم الأحد الذى يعقب عيد الفصح مباشرة، وسارت كل طائفة على رأيها، وظل الحال على ذلك حتى رأى قسطنطين الأكبر إنهاء الخلاف فى "نيقية" سنة 325 ميلادية وقرر توحيد العيد، على أن يكون فى أول أحد بعد أول بدر يقع فى الاعتدال الربيعى أو يعقبه مباشرة، وحسب الاعتدال الربيعى وقتذاك فكان بناء على حسابهم فى يوم 21 من مارس "25 من برمهات" فأصبح عيد القيامة فى أول أحد بعد أول بدر وبعد هذا التاريخ أطلق عليه اسم عيد الفصح المسيحى تمييزا له عن عيد الفصح اليهودى.
هذا ما كان عند اليهود وتأثر المسيحيين به فى عيد الفصح. أما الأقباط وهم المصريون الذين اعتنقوا المسيحية فكانوا قبل مسيحيتهم يحتفلون بعيد شم النسيم كالعادة القديمة، أما بعد اعتناقهم للدين الجديد فقد وجدوا أن للاحتفال بعيد شم النسيم مظاهر وثنية لا يقرها الدين، وهم لا يستطيعون التخلص من التقاليد القديمة، فحاولوا تعديلها أو صبغها بصبغة تتفق مع الدين الجديد، فاعتبروا هذا اليوم يوما مباركا بدأت فيه الخليقة، وبشَّر فيه جبريل مريم العذراء بحملها للمسيح، وهو اليوم الذى تقوم فيه القيامة ويحشر الخلق، ويذكرنا هذا بحديث رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه دخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا فى يوم الجمعة "صحيح مسلم بشرح النووى" ج 6 ص 142".
فاحتفل أقباط مصر بشم النسيم قوميا باعتباره عيد الربيع، ودينيا باعتباره عيد البشارة، ومزجوا فيه بين التقاليد الفرعونية والتقاليد الدينية. وكان الأقباط يصومون أربعين يوما لذكرى الأربعين التى صامها المسيح عليه السلام، وكان هذا الصوم يبدأ عقب عيد الغطاس مباشرة، فنقله البطريرك الإِسكندرى ديمتريوس الكرام، وهو البطريرك الثامن عشر " 188 - 234 م " إلى ما قبل عيد القيامة مباشرة، وأدمج فى هذا الصوم صوم أسبوع الآلام، فبلغت عدته خمسة وخمسين يوما، وهو الصوم الكبير، وعمَّ ذلك فى أيام مجمع نيقيه " 325 م " وبهذا أصبح عيد الربيع يقع فى أيام الصوم إن لم يكن فى أسبوع الآلام، فحرم على المسيحيين أن يحتفلوا بهذا العيد كعادتهم القديمة فى تناول ما لذ وطاب من الطعام والشراب، ولما عز عليهم ترك ما درجوا عليه زمنا طويلا تخلصوا من هذا المأزق فجعلوا هذا العيد عيدين، أحدهما عيد البشارة يحتفل به دينيا فى موضعه، والثانى عيد الربيع ونقلوه إلى ما بعد عيد القيامة، لتكون لهم الحرية فى تناول ما يشاءون، فجعلوه يوم الاثنين التالى لعيد القيامة مباشرة، ويسمى كنسيًّا "اثنين الفصح" كما نقل الجرمانيون عيد الربيع ليحل فى أول شهر مايو.
من هذا نرى أن شم النسيم بعد أن كان عيدا فرعونيا قوميا يتصل بالزراعة جاءته مسحة دينية، وصار مرتبطا بالصوم الكبير وبعيد الفصح أو القيامة، حيث حدد له وقت معين قائم على اعتبار التقويم الشمسى والتقويم القمرى معا، ذلك أن الاعتدال الربيعى مرتبط بالتقويم الشمسى، والبدر مرتبط بالتقويم القمرى، وبينهما اختلاف كما هو معروف، وكان هذا سببا فى اختلاف موعده من عام لآخر، وفى زيادة الاختلاف حين تغير حساب السنة الشمسية من التقويم اليوليانى إلى التقويم الجريجورى. وبيان ذلك: أن التقويم القمرى كان شائعا فى الدولة الرومانية، فأبطله يوليوس قيصر، وأنشأ تقويما شمسيا، قدر فيه السنة ب 25، 365 يوما، واستخدم طريقة السنة الكبيسة مرة كل أربع سنوات، وأمر يوليوس قيصر باستخدام هذا التقويم رسميا فى عام 708 من تأسيس روما، وكان سنة 46 قبل الميلاد، وسمى بالتقويم اليوليانى، واستمر العمل به حتى سنة 1582 م حيث لاحظ الفلكيون فى عهد بابا روما جريجوريوس الثالث عشر خطأ فى الحساب الشمسى، وأن الفرق بين السنة المعمول بها والحساب الحقيقى هو 11 دقيقة، 14 ثانية، وهو يعادل يوما فى كل 128 عاما، وصحح البابا الخطأ المتراكم فأصبح يوم 5 من أكتوبر سنة 1582 هو يوم 15 أكتوبر سنة 1582 م وهو التقويم المعروف بالجريجورى السائد الآن. وعندما وضع الأقباط تاريخهم وضعوه من يوم 29 من أغسطس سنة 284 م الذى استشهد فيه كثيرون أيام " دقلديانوس" جعلوه قائما على الحساب اليوليانى الشمسى، لكن ربطوه دينيا بالتقويم القمرى، وقد بنى على قاعدة وضعها الفلكى "متيون" فى القرن الخامس قبل الميلاد، وهو أن كل 19 سنة شمسية تعادل 235 شهرا قمريا، واستخدم الأقباط هذه القاعدة منذ القرن الثالث الميلادى. وقد وضع قواعد تقويمهم المعمول به إلى الآن البطريرك ديمتريوس الكرام، وساعده فى ذلك الفلكى المصرى بطليموس.
وبهذا يحدد عيد القيامة "الذى يعقبه شم النسيم" بأنه الأحد التالى للقمر الكامل "البدر" الذى يلى الاعتدال الربيعى مباشرة. وقد أخذ الغربيون الحساب القائم على استخدام متوسط الشهر القمرى لحساب ظهور القمر الجديد وأوجهه لمئات السنين "وهو المسمى بحساب الألقطى" وطبقوه على التقويم الرومانى اليوليانى، فاتفقت الأعياد المسيحية عند جميع المسيحيين كما كان يحددها التقويم القبطى، واستمر ذلك حتى سنة 1582 م حين ضبط الغربيون تقويمهم بالتعديل الجريجورى. ومن هنا اختلف موعد الاحتفال بعيد القيامة وشم النسيم.
أستمحيك عفوا أيها القارئ الكريم إذْ أتعبتك بذكر تطورات التقويم وتغير مواعيد الأعياد، إذ قد لخصتها من عدة مواضع من كتاب "تاريخ الحضارة المصرية، ومن بحث للدكتور عبد الحميد لطفى فى مجلة الثقافة "عدد 121" لسنتها الثالثة فى 22 / 4 / 1941 م ومن منشورات بالصحف: الجمهورية 15/4/1985، الأهرام 20/4/1987، 11/4 /1988 فإنى قصدت بذلك أن تعرف أن عيد الربيع الحقيقى ثابت فى موعده كل عام، لارتباطه بالتقويم الشمسى. أما عيد شم النسيم فإنه موعد يتغير كل عام لاعتماده مع التقويم الشمسى على الدورة القمرية، وهو مرتبط بالأعياد الدينية غير الإسلامية، ولهذه الصفة الدينية زادت فيه طقوس ومظاهر على ما كان معهودا أيام الفراعنة وغيرهم، فحرص الناس فيه على أكل البيض والأسماك المملحة، وذلك ناشىء من تحريمها عليهم فى الصوم الذى يمسكون فيه عن كل ما فيه روح أو ناشىء منه، وحرصوا على تلوين البيض بالأحمر، ولعل ذلك لأنه رمز إلى دم المسيح على ما يعتقدون وقد تفنن الناس فى البيض وتلوينه حتى كان لبعضه شهرة فى التاريخ.
فقد قالوا: إن أشهر أنواع البيض بيضة هنرى الثانى التى بعث بها إلى "ديانادى بواتييه" فكانت علبة صدف على شكل بيضة بها عقد من اللؤلؤ الثمين، كما بعث لويس الرابع عشر للآنسة "دى لا فاليير" علبة بشكل بيضة ضمنها قطعة خشب من الصليب الذى صلب عليه المسيح، ولويس الخامس عشر أهدى خطيبته "مدام دى بارى" بيضة حقيقية من بيض الدجاج مكسوة بطبقة رقيقة من الذهب، وهى التى قال فيها الماركيز "بوفلر" لو أنها أكلت لوجب حفظ قشرتها "مهندس/ محمد حسن سعد - الأهرام 25 من أبريل 1938.
وقيصر روسيا "الإِسكندر الثالث" كلف الصائغ "كارل فابرج" بصناعة بيضة لزوجته 1884 م، استمر فى صنعها ستة أشهر كانت محلاة بالعقيق والياقوت، وبياضها من الفضة وصفارها من الذهب، وفى كل عام يهديها مثلها حتى أبطلتها الثورة الشيوعية 1917 م.
وبعد، فهذا هو عيد شم النسيم، الذى كان قوميا ثم صار دينيا، فما حكم احتفال المسلمين به؟ لا شك أن التمتع بمباهج الحياة من أكل وشرب وتنزه أمر مباح ما دام فى الإِطار المشروع، الذى لا ترتكب فيه معصية ولا تنتهك حرمة ولا ينبعث من عقيدة فاسدة. قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} المائدة: 87 وقال {قل من حرَّم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق} الأعراف: 32. لكن هل للتزين والتمتع بالطيبات يوم معين أو موسم خاص لا يجوز فى غيره، وهل لا يتحقق ذلك إلا بنوع معين من المأكولات والمشروبات، أو بظواهر خاصة؟ هذا ما نحب أن نلفت الأنظار إليه. إن الإِسلام يريد من المسلم أن يكون فى تصرفه على وعى صحيح وبُعد نظر، لا يندفع مع التيار فيسير حيث يسير ويميل حيث يميل، بل لا بد أن تكون له شخصية مستقلة فاهمة، حريصة على الخير بعيدة عن الشر والانزلاق إليه، وعن التقليد الأعمى، لا ينبغى أن يكون كما قال الحديث " إمَّعة " يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن يجب أن يوطِّن نفسه على أن يحسن إن أحسنوا، وألا يسىء إن أساءوا، وذلك حفاظًا على كرامته واستقلال شخصيته، غير مبال بما يوجه إليه من نقد أو استهزاء، والنبى صلى الله عليه وسلم نهانا عن التقليد الذى من هذا النوع فقال "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" رواه البخارى ومسلم.
فلماذا نحرص على شم النسيم فى هذا اليوم بعينه والنسيم موجود فى كل يوم؟ إنه لا يعدو أن يكون يوما عاديًّا من أيام الله حكمه كحكم سائرها، بل إن فيه شائبة تحمل على اليقظة والتبصر والحذر، وهى ارتباطه بعقائد لا يقرها الدين، حيث كان الزعم أن المسيح قام من قبره وشم نسيم الحياة بعد الموت.
ولماذا نحرص على طعام بعينه فى هذا اليوم، وقد رأينا ارتباطه بخرافات أو عقائد غير صحيحة، مع أن الحلال كثير وهو موجود فى كل وقت، وقد يكون فى هذا اليوم أردأ منه فى غيره أو أغلى ثمنا.
إن هذا الحرص يبرر لنا أن ننصح بعدم المشاركة فى الاحتفال به مع مراعاة أن المجاملة على حساب الدين والخلق والكرامة ممنوعة لا يقرها دين ولا عقل سليم، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول " من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكَّله الله إلى الناس " رواه الترمذى ورواه بمعناه ابن حبان فى صحيحه(10/311)
لبس الحرير
المفتي
عطية صقر - مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم ارتداء الملابس الحريرية المنسوجة من ألياف صناعية؟
الجواب
الحرير الذى وردت فيه النصوص هو الحرير الطبيعى المأخوذ من دودة القز، أما الحرير الصناعى فيشبهه فى النعومة ولكن لا يأخذ حكمه، روى ابن ماجه عن على رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله فى يمينه بذهبا فجعله فى شماله ثم قال "إن هذين حرام على ذكور أمتى، حل لإناثهم" وقد تقدم بيان حكم الذهب، أما الحرير فجاء فيه إلى جانب ما ذكر ما رواه البخارى ومسلم "لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة" وما روياه أيضًا "إنما يلبس الحرير من لا خلاق له" وروى البخارى عن حذيفة: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب فى آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيهما، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه.
ومحل الحرمة إذا لم تكن هناك ضرورة للبسه، كدواء من آفات أو حكة، فقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام بذلك كما رواه البخارى ومسلم. والسفارينى فى كتابه "غذاء الألباب" بيَّن الأشياء التى يباح استعمال الحرير فيها، ومذاهب الفقهاء بخصوصها، مثل كيس المصحف وأطراف الثوب والأزرار وما إليها بما لا يزيد على أربع أصابع كما رواه مسلم.
جاء فى"ج 2 ص 157" من غذاء الألباب: يحرم لبسه وافتراشه والاتكاء عليه وتوسده وتعليقه وستر الجدر به غير الكعبة المشرفة، كما تحرم التكة وخيط السبحة، وذكر الدميرى الشافعى فى شرح المنهاج أنه يجوز حشو الجبة والمخدة من الحرير والجلوس عليه إذا بسط فوقه ثوب، ويحل خيط السبحة، وتحرم بطانة الجبة من الحرير، وفى لبس الصبيان له رأيان.
والمحرم من الحرير هو الخالص أما المخلوط فيحرم إذا كان الحرير غالبا فى الوزن أو المظهر، وجاء فيه أن أول من لبس الحرير قوم لوط كما ذكره السيوطى فى كتابه "الأوائل" وأن أول من استخرجه من الديدان وتعلمه من الجن هو "جمشيد" وكان فى أول أمره ملكا عادلا ثم طغى فسلب ملكه وهرب إلى الهند ومات مجوسيا قتله الضحاك من ملوك اليمن، وذكر السيوطى أن أول اتخاذ الرجال الحرير فى هذه الأمة فى خلافة على رضى الله عنه الذى سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول "أوشك أن تستحل أمتى فروج النساء والحرير" وهذا أول حرير رأيته على المسلمين، وقد أخرج البخارى تعليقا. وأبو داود والنسائى قول النبى صلى الله عليه وسلم "ليكونن من أمتى يستحلون الحِر والحرير" والحر- بكسر الحاء - فرج المرأة.
وذكر كلاما كثيرا عن صناعة الحرير والاتجار فيه والترفه به والصلاة فيه وغير ذلك من المسائل يمكن الرجوع إليها فى هذا الكتاب، وهو "غذاء الألباب " للسفارينى الحنبلى المتوفى سنة 1188 هجرية من صفحة 157 -172 من الجزء الأول. وفيه معلومات طيبة.
وأرى أن لبس الحرير الصناعى الذى يقارب فى مادته أو هيئته الحرير الطبيعى لا يليق بالرجال، وإذا قصدت به المباهاة كان حراما من أجل ذلك(10/312)
العزلة والاختلاط
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى شاب لا يتعامل إلا مع المتعمقين فى الدين، ولا يصلى فى الجامع بل فى منزله خشية التعامل مع شباب قريته الذين لا يتورعون عن المعاصى كالغيبة والسباب، ولا يتعامل فى المدرسة إلا مع المتمسكين بالدين؟
الجواب
تحدث العلماء عن الاختلاط والعزلة أيهما أفضل، ووضح الإمام الغزالى ذلك فى كتابه "إحياء علوم الدين ".
وهذا الشاب إذا كان ضعيف الإرادة والعزيمة وخاف على نفسه الانحراف إذا تعامل مع جماعة فله الحق فى اعتزالهم، ولكن بعد أن يقوم بواجبه نحوهم، من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهنا يصدق عليه قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركّم من ضل إذا اهتديتم} المائدة: 105 والحديث الذى رواه أبو داود وابن ماجه والترمذى "ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك نفسك ودع عنك أمر العوام".
أما إذا كان إيمانه قويا وإرادته قوية فمن الخير أن يختلط بالناس، ولا يحرم نفسه من صلاة الجماعة فى المسجد، ويقوم فى الوقت نفسه بالنصح والإرشاد بالقدر المستطاع، فلعل الله يهدى به الضالين، ولأن يهدى الله به رجلا واحد خير له من حمر النعم كما فى الحديث الشريف(10/313)
حق الضيافة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مع اختلاف نظم الحياة والمجتمعات أصبحت بيوتنا لا تسمح بإقامة الضيوف فيها لعدة أيام، والإسلام أمرنا بإكرام الضيف وبخاصة مع أولى الأرحام، فما هى الأسس التى وضعها الإسلام لهذه العلاقات؟
الجواب
صح عن النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه البخارى ومسلم أنه قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" ومن إكرامه إطعامه وتقديم ما يلزمه، ومنه الإيواء فى مسكن مناسب.
ونظرا لتغير الظروف فى بعض البلاد والأزمان قد يصعب على الإِنسان تدبير مكان لائق للضيف يقيم به المدة المطلوبة، ولذلك فكر بعض الناس فى إعداد دار للضيافة تواجه بها مثل هذه الحالة كالفندق.
جاء فى كتاب "غذاء الألباب" للسفارينى "ج 2 ص 128" أن إبراهيم عليه السلام أول من بنى دار الضيافة وجعل فيها كسوة الشتاء والصيف ومائدة منصوبة عليها طعام. وأثنى السفارينى على ضيافة إبراهيم من أحد عشر وجها يمكن الرجوع إليها. ثم قال: ضيافة المسلم المسافر المجتاز واجبة على المسلم النازل به فى القرى والأمصار مجانا يوما وليلة، وذلك قدر كفايته، وللضيف حق المطالبة بذلك إذا امتنع عنها، وقال:
تُسَنُّ ثلاثة أيام، وجاء فى حديث رواه البخارى ومسلم وغيرهما قوله "ولا يحل له -أى للضيف - أن يثوى -يقيم- عنده حتى يحرجه".
إذا كانت صلة الرحم مطلوبة فهى فى نطاق الوسع، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وننصح الضيوف والأقارب عند زيارتهم لأصدقائهم أو أقاربهم أن يراعوا ظروفهم، وبخاصة فى البيوت الضيقة فلا يطيلوا الإِقامة عندهم.
وحبذا لو أقام أهل البلد أو الحى دارا لمثل هذه الظروف. وقد يكون فى الفنادق فى المدن منفذ للطوارئ وفيها مستويات تتناسب مع قدرة المضيف. وعلى كل حال فالذوق إحساس نبيل تنبغى مراعاته منعا للإِحراج فى الإِقامة بالذات ما دام هناك متسع فى أماكن خاصة لذلك(10/314)
بين الفتوى والقضاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعض الأحكام الشرعية قد تصدر أحيانا من جهات متعددة، وقد يكون الحكم فى المسألة الواحدة مختلفا من جهة إلى أخرى، فأى الجهات نصدق؟ وهل يجب الالتزام بالفتوى؟
الجواب
كانت الأحكام الشرعية سهلة المأخذ فى صدر الإِسلام، إما من القرآن وإما من السنة. فكان القرآن يجيب على الأسئلة وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجيب على ما يوجه إليه من أسئلة، وكان الصحابة والتابعون من بعدهم يعرفون الأحكام ويعلِّمون من لم يعرفها من الذين لم تتيسر لهم معرفتها مباشرة من الكتاب والسنة.
والمفروض فيمن يجهل حكما شرعيًّا أن يسأل عنه من يعرفه، والمفروض أيضا فيمن يعلم أن يعلِّم من لا يعلم، والنصوص فى ذلك معروفة.
ومن الأحكام الشرعية ما هو موضع اتفاق لا يختلف فيه اثنان، كصلاة الظهر أربع ركعات، ومنها ما فيه اختلاف لعدم ورود النص الصريح الواضح فيه، وقام المجتهدون بمحاولة معرفته من المصادر الأساسية حسب القواعد المعروفة للاستنباط. وذلك كقراءة الفاتحة خلف الإِمام. وفى هذا النوع قد تختلف الآراء، ويمكن لأى إنسان أن يأخذ بأى رأى منها دون حرج بعيدا عن التلفيق الذى تتتبع فيه الرخص ويُسْلِمُ إلى حكم فى المسألة لا يقول به أحد من المجتهدين كالزواج بغير صداق ولا ولى ولا شهود.
وكان فى الصحابة مجتهدون تختلف أنظارهم فى المسألة الواحدة، وكذلك كان فى التابعين مثلهم، وكان الاختلاف محدودا، ثم كثر بتقدم الزمن وكثرة الحوادث التى لم يرد فيها نص وليست لها نظائر سابقة يقاس عليها إن توافرت عوامل الصحة للقياس، وبانتشار العلماء فى الأقطار كان بعض الأقطار يميل إلى رأى العالم البارز فيها، وحدث فى بعض الأقطار أن اختار الحاكم فيها رأيا من آراء العلماء ليكون القضاء والفتوى على أساسه، وجاءت القاعدة التى قررها الأصوليون وهى "حكم الحاكم يرفع الخلاف" فطبقت فى بعض البلاد على المؤسسات الرسمية، وتركت لغيرها الحرية فى اتباع أى رأى من الآراء الاجتهادية واختياره للإجابة على الأسئلة التى توجه إليها. فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم كانت السلطات الثلاثة المعروفة حديثا فى يده عليه الصلاة والسلام، وهى السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية. ثم فصلت بعد ذلك بتطور النظم، ومن السلطة التشريعية كان منصب الإِفتاء، ومن القضائية كان منصب القضاء. وظهرت الصفة الرسمية لهذين المنصبين فى الدولة الإِسلامية فى عهد السلطان سليمان القانونى سنة 926 هـ (1520م) ونهض بأمور الدنيا والدين، ولما ضعفت الدولة العثمانية ظهر فى مصر نظام الامتياز ونشأت المحاكم المختلطة سنة 1875 م، وصدرت اللائحة الشرعية سنة 1880 م، وجرى نص المادة "25" منها بأن المحاكم الشرعية هى المختصة بنظر مواد الأحوال الشخصية وما يتفرع عنها، وكذا فى مواد القتل " ما يسمى الآن بالقانون الجنائى " ولذلك كان عرض الأحكام على "المفتى" واجبا، ثم جاءت المحاكم الأهلية سنة 1883 م التى صنعها الاستعمار، فضعف شأن المحاكم الشرعية واقتصرت على الأحوال الشخصية فقط.
كان الجامع الأزهر الشريف هو المرجع لمعرفة الأحكام الشرعية عند الحاجة إليها، فكانت المحاكم تطلب من شيخه الرأى فى المسألة الدينية ليستنير به القاضى فى الحكم، وصدر قرار رسمى بمنصب الإِفتاء مع منصب مشيخة الأزهر ثم أضيف منصب الإِفتاء إلى وزارة العدل فكان يختار المفتى من كبار القضاة ومن أعضاء المحكمة العليا الشرعية بالذات، ثم ألغى القضاء الشرعى سنة 1955 م، ومع ذلك بقى منصب المفتى إلى الآن، وحصرت مهمته الرسمية فى أمرين: إثبات أوائل الشهور العربية وبخاصة ما فيها مواسم، وأخذ الرأى فى الإعدام بالقصاص بعد إجراءات المحاكمة، ورأيه فى الأمر الأول ملزم كما كان رأى المحكمة العليا الشرعية قبل إلغائها ملزما، ورأيه فى الأمر الثانى استشارى غير ملزم.
وآراؤه فى المسائل الأخرى -بعد إلغاء الاحتفال بالمحمل وبوفاء النيل- ليست رسمية، وبالتالى ليست ملزمة، فهى كرأى أى عالم من علماء الدين، فى المسائل الفرعية والجزئية والمحلية أما المسائل الكبرى والقضايا الهامة التى تعم العالم الإِسلامى فالمرجع فيها هو شيخ الأزهر بوصفه رئيسا لمجمع البحوث الإِسلامية حسب القانون الأخير رقم 103 لسنة 1961م.
العلاقة بين الإِفتاء والقضاء:
قال الخبراء: إن هناك فرقا بين الإِفتاء والقضاء من جهتين، الأولى أن الفتوى لا تتعدى أن تكون إخبارا عن الله تعالى لمجرد بيان الحكم، وليس فيها إلزام بهذا الحكم، أما القضاء فهو إلى جانب الإخبار عن الله تعالى ببيان الحكم، فيه إلزام بهذا الحكم، وللقاضى حق إقامة الحدود والقصاص. وله الحبس والتعزير عند عدم الامتثال.
والثانية أن كل ما يتأتى فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى، يعنى كل ما فيه قضاء يمكن أن يكون فيه فتوى، وليس العكس، يعنى ليس كل ما فيه فتوى يمكن أن يكون فيه قضاء، فالأحكام الشرعية قسمان، قسم يقبل القضاء مع الفتوى كمسائل المعاملات والأحوال الشخصية فى الزواج والطلاق وما يتعلق بهما، وقسم لا يقبل إلا الفتوى كالعبادات فليس للقاضى أن يحكم بصحة الصلاة أو بطلانها.
وذلك إلى جانب أن القضاء يقوم على خصومة يستمع فيها القاضى إلى الدعوى وأدلتها، بخلاف الفتوى فليس لها ذلك، إذ هى واقعة يطلب صاحبها حكم الشرع فيها.
ثم قال الخبراء: قد تكون الفتوى ملزمة إذا التزم المستفتى بالعمل بها، أو شرع فى تنفيذ الحكم الذى كشفته الفتوى، أو اطمأن قلبه إلى صحتها، أو لم يجد إلا مفتيا واحدا، فلو وجد أكثر من مفت وتوافقت الفتويان لزم العمل بها، وإن اختلفتا فإن استبان له الحق فى إحداهما لزمه العمل بها، وإلا كان عليه العمل بفتوى من يطمئن إليه علما ودينا.
بعد هذا أقول للسائل: إن أى فتوى من عالم موثوق به توافق أى مذهب من المذاهب الفقهية المعروفة يجوز الأخذ بها، أيا كانت وظيفة العالم، كما يجوز له عدم الأخذ بها لأنها غير ملزمة إلا فى الأحوال التى سبق ذكرها، وذلك فيما عدا ما يصدر من المفتى الرسمى بخصوص مواعيد المناسبات الدينية التى كانت من اختصاص المحكمة العليا الشرعية، فذلك قضاء أو يشبهه، ويمكن الرجوع إلى الفتوى الخاصة بأن اختلافهم رحمة(10/315)
الغيبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من الأمراض الخلقية المتفشية بين الناس مرض الغيبة، نريد توضيحا لمعناها وما تتحقق به والباعث عليها وأثرها وما هو علاجها؟
الجواب
الكلام عن الغيبة يكون عن عدة أمور هى:
1 - تعريفها: هى ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل تدرون ما الغيبة"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال " ذكرك أخاك بما يكرهه " قيل: أرأيت إن كان فى أخى ما أقوله؟ قال "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّه " رواه مسلم وأبو داود والترمذى والنسائى، سواء فى ذلك أن يكون ما يكرهه الإِنسان فى بدنه أو نسبه أو خلقه أو قوله أو فعله أو فى غير ذلك، وقال الحسن: ذكر الغير على ثلاثة أنواع: الغيبة والبهتان والإِفك. فالغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإِفك أن تقول ما بلغك.
2 - ما تتحقق به الغيبة قد تكون باللسان، وقد تكون بالإِشارة، وقد تكون بالمحاكاة والتقليد، بل قد تكون بالقلب وانعقاده على العيب وهو سوء الظن قالت السيدة عائشة رضى الله عنها: دخلت علينا امرأة، فلما ولَّتْ أومأتُ بيدى أنها قصيرة، فقال عليه الصلاة والسلام "اغتبتيها" رواه ابن أبى الدنيا وابن مردويه. كما قالت عائشة: حاكيت إنسانا - يعنى قلدته، فقال لى النبى صلى الله عليه وسلم "ما يسرنى أنى حاكيت إنسانا ولى كذا وكذا" رواه الترمذى وصححه، يعنى: لو أعطيتُ شيئا كثيرا من المال فى مقابل أننى أقلِّد أحدا بما يكرهه، لا أفعل ذلك - ولو سمع إنسان شخصا يغتاب أحدا فرضى بكلامه واستلذه ولم ينكره كان شريكا فى الغيبة، لأنه رضى بذكر أخيه بالعيب.
3 - أثرها فى الدنيا: تفرق بين الناس، وتورث العداوة فيما بينهم، وفيها فضيحة وهتك أستار، وقد تجر إلى ما هو أسوأ من ذلك.
4 - الأسباب الباعثة عليها: أسبابها كثيرة، منها: الحقد والغضب، ومجاملة الأقران وموافقة الرفقاء، والتقدم عند الرئيس لهدم المغتاب، والهزل وإضاعة الوقت والتبرؤ من العيب لإِلصاقه بغيره والحسد السخرية والاحتقار، بل قد يبعث عليها الغضب لله، فقد روى أحمد بإسناد صحيح عن عامر بن واثلة أن رجلاً مرَّ على قوم فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم فسلَّم عليهم فردوا عليه السلام، فلما جاورهم قال رجل منهم إنى لأبغض هذا فى الله، فلما بلغه ذلك اشتكاه إلى النبى صلى الله عليه وسلم ليبين له لماذا يبغضه فى الله، فسأله فقال الرسول لماذا تبغضه؟ فقال: أنا جاره والله ما رأيته يصلى صلاة قط! إلا هذه المكتوبة، فقال الرجل: وهل رأيتنى أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها أو الركوع أو السجود؟ فقال لا، كما سأله عن مثل ذلك فى الصوم حيث لا يصوم إلا رمضان، وعن الزكاة فلا يتجاوزها إلى الصدقات الأخرى، فقال الرسول للرجل " قُمْ فلعله خير منك " والمراد أنه ما دام يقوم بالفرائض فلا يصح أن يعاب ويبغض لأنه لم يقم بالنوافل - " الإحياء ج 3 ص 128".
5 - صفات المغتاب: الذى يغتاب غيره فيه صفات ذميمة، فهو حقود، عديم المروءة، مفتخر، حسود، مُرَاءٍ، غافل عن الله، غافل عن عيوبه هو، فاسق لأن الغيبة من الكبائر، مضيع لحسناته لأن من اغتابه يأخذ منها، حامل لسيئات غيره، مشيع على المسلم ما ليس فيه من أجل أن يعيبه، وفى ذلك حديث رواه الطبرانى بإسناد جيد " من ذكر امرأ بشىء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله فى نار جهنم حتى يأتى بنفاد ما قال " وفى رواية " أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها برئ يشينه بها فى الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة فى النار حتى يأتى بنفاد ما قال" أى حتى يأتى بالدليل على ما اتهمه به، والمغتاب مسلم ناقص الإسلام، لحديث "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " رواه البخارى ومسلم.
6- أثرها على العبادة: رأى بعض الفقهاء أن الغيبة تبطل الصيام، فإن لم تبطله نقصت من ثوابه، للحديث الذى رواه أحمد فى الفتاتين اللتين كانتا تغتابان أثناء الصيام، حيث استقاءت كل منهما قيحًا ودما وصديدا ولحما وذلك أمام النبى صلى الله عليه وسلم فقال " إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان من لحوم الناس " وكان عطاء من كبار علماء التابعين يرى بطلان الوضوء والصلاة والصيام بالغيبة " الإِحياء ج 3 ص 124 " وحسنات المغتاب تنقل إلى من يغتابه، يقول الحسن لرجل قال له: لماذا تغتابنى، أنت لست عظيما حتى أحكمك فى حسناتى " ص 129 " وروى عن الحسن أن رجلا قال له: إن فلانا قد اغتابك، فبعث إليه رطبا على طبق، وقال له بلغنى أنك أهديت إلىَّ من حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرنى فإنى لا أقدر أن أكافئك على التمام " ص، 134 ".
7 -عقابها عند الله: المغتاب انتهك حرمة أخيه، والحديث يقول "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " رواه مسلم، وروى حديث ضعيف يقول إن الغيبة أشد من الزنى، (ص 207 ترغيب) وقد غضب النبى من سماع الغيبة، كما غضب على عائشة حين قالت عن صفية: إنها قصيرة، فقال لها " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " رواه أبو داود والترمذى وقال: حسن صحيح.
وجعلها القرآن كأكل لحم الميت فى قوله تعالى {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} الحجرات:
12 وعن عبد الله بن مسعود قال: كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فقام رجل فوقع فيه رجل من بعده فقال النبى صلى الله عليه وسلم " تَخَلَّلْ " فقال: ومِم أتخلل وما أكلت لحما؟ قال " إنك أكلت لحم أخيك" رواه الطبرانى ورواته رواة الصحيح، وفى حديث مقبول أن المغتابين يؤذون أهل النار برائحتهم ومنظرهم القبيح زيادة على ما هم فيه من الأذى، وجاء فى حديث أيضًا أن لحم الميت يقرب للمغتاب ويقال له كله ميتا كما أكلته حيا، كما جاء فى حديث رواه ابن حبان فى صحيحه أن أكل جيفة الحمار أهون من الغيبة، وجاء فى حديث أحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم مَرَّ ليلة الإِسراء على قوم يأكلون الجيف وأخبره جبريل أنهم الذين يأكلون لحوم الناس، وفى حديث رواه أبو داود أن المغتابين لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، كما رآهم النبى صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وفى حديث رواه أحمد أن ريحا منتنة ارتفعت فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بأنها رائحة الذين يغتابون المؤمنين، وأخرج أحمد بسند رجاله ثقات أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذَّبان، أى يعذب من فيهما، ووضع عليهما جريدة عسى أن يخفف الله بها عنهما، وذلك من أجل الغيبة والبول، أو فى النميمة والبول، "الترغيب ج 3 ص 208" والغيبة -كما سبق- تبطل العبادة عند بعض العلماء، وتأكل الحسنات، وتحمل صاحبها سيئات الناس الذين اغتابهم.
8-عدم المشاركة فيها: من سمع شخصا يغتاب غيره لا ينبغى أن يوافقه ويسكت ويرضى، فالله يقول فى شأن الصالحين {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} القصص: 55. ويقول {وإذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا فى حديث غيره.. .
} الأنعام: 68 ويجب الذب عن عرض أخيه، فقد جاء فى الحديث الذى رواه الترمذى وحسنه " من ردَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة".
9 -ما يباح من الغيبة: إذا كان ذكر الإنسان غيره بما يكرهه محرما لأنه غيبة، فقد تكون هناك حالات يجوز للإنسان أن يذكر عيوب غيره لا من أجل التحقير والاستهزاء، وذلك فى مثل التظلم لنيل الحق وعرض الظلامة بذكر ما يكرهه الظالم، قال تعالى {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} النساء: 148 حيث لا ينال الحق إلا بذكر الظالم بالرشوة أو التباطؤ فى العمل أو السرقة ... ففى الحديث " إن لصاحب الحق مقالا" رواه البخارى ومسلم، وفى حديثهما أيضا " مَطل الغنى ظلم " وروى أبو داود والنسائى وابن ماجه بإسناد صحيح قوله صلى الله عليه وسلم " لَىُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه " أى تأخر القادر عن سداد دينه يبيح لصاحب الدين طلب عقوبته والتحدث فى عرضه بما يكرهه.
ومنها التوسل بالغيبة لإِزالة منكر، وذلك بالدلالة عليه، كما بلغ زيد ابن أرقم إلى النبى صلى الله عليه وسلم ما قاله أبى بن خلف {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} المنافقون: 8 وعبد الله بن مسعود بلغ النبى صلى الله عليه وسلم عيب بعض المسلمين قسمته للمال، كما تباح الغيبة للفتوى، فقد قالت هند للنبى صلى الله عليه وسلم عن زوجها أبى سفيان: إنه شحيح ولا يعطيها ما يكفيها النفقة (متفق عليه) وذكر الصحابة أمام النبى امرأة تكثر من الصلاة والصيام ولكنها تؤذى جيرانها بلسانها، كما رواه ابن حبان وصححه الحاكم، فقال " هى فى النار " ولم ينكر عليهم أنهم عابوها بذلك. ومنها تحذير المسلمين من شره بذكر عيبه كقول النبى صلى الله عليه وسلم " بئس أخو العشيرة " متفق عليه، وقال الغزالى فى كتابه "الإِحياء ج 3 ص 132" يجوز كشف بدعة المبتدع وفسقه حتى لا ينخدع الناس به،ففيه توعية ونصيحة للمسلمين للبعد عن شره، ومنها المشورة عند شراء شىء فيذكر العارف بعيوبه ما فيه من عيوب، والمشورة عند الزواج أيضا لمعرفة حال العروسين، فالمستشار مؤتمن، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس عن معاوية بأنه صعلوك لا مال له، حين استشارته فى زواجها منه، وكذلك لو كان الشخص مجاهرا بفسقه ومعصيته ولا يبالى أن يذكره الناس بالسوء، فقد روى فى حديث "أترغبون عن ذكر الفاجر، اهتكوه حتى يعرفه الناس، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس" "الإِحياء ج 3 ص 132 " فمن ألقى جلباب الحياء عن وجهة فلا غيبة له، كما روى فى حديث ضعيف. وقال عمر " ليس لفاجر حرمة" ص 133. وجاء فى المصدر السابق ص 132:
كانوا يقولون: ثلاثة لا غيبة لهم، الإِمام الجائر، والمبتدع، والمجاهر بفسقه.
وليس من الغيبة أن يذكر الإِنسان غيره بلقب يعرف به ويشتهر، ولا يكاد يعرف بغيره، كالأعرج والأسود.
10- كفارة الغيبة: من وقعت منه غيبة يجب أن يتوب منها، وذلك بالندم والعزم على عدم العود إلى المعصية، وتتم التوبة باستحلال المظلوم وطلب العفو عنه، وكذلك بالاستغفار له، يقول ابن القيم:
لا يلزم استحلاله كالحقوق المالية، لعدم فائدة ذلك، ولأنه ربما يترتب عليه ضرر " غذاء الألباب ج 1 ص 93".
11 -علاج الغيبة: علاجها يكون بالتوعية من أخطارها الدنيوية والأخروية التى سبق بعضها، كما تعالج بانشغال الإِنسان بعيوب نفسه بدل الانشغال بعيوب الناس، وكذلك عدم مجاملة الناس بالاشتراك فيها، وخشية الله من الحقد والحسد وحب الذات وكراهة الخير للناس، ونهى المغتاب وعدم سماع غيبته، وتعويد اللسان على الكلام الطيب وعفته عن القول الخبيث، يقول مالك بن دينار:
مر عيسى عليه السلام ومعه الحواريون بجيفة كلب، فقال الحواريون:
ما أنتن ريح هذا الكلب، فقال عيسى عليه السلام: ما أشد بياض أسنانه، كأنه نهاهم عن غيبة الكلب وذكر القبيح " الإِحياء ج 3 ص 125".
يمكن الرجوع إلى "إحياء علوم الدين" ج 3 وإلى "الترغيب والترهيب" ج 3 وإلى "غذاء الألباب" ج 1(10/316)
النميمة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من الأمراض الخلقية الشائعة مرض النميمة، نريد كلمة جامعة عنها وما هو السبيل إلى علاجها؟
الجواب
الكلام عن النميمة يتناول عدة أمور هى:
1 -تعريفها: هى نقل الكلام بين طرفين لغرض الإِفساد. يقول الغزالى " الإحياء ج 3 ص 135 ": تطلق النميمة فى الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول: فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا، وتعرَّف النميمة أيضا بكشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو كرهه طرف ثالث وسواء كان الكشف بالقول أو الكتابة أو الرمز والإِيماء، فالنميمة إفشاء السر وكشف الستر عما يكره كشفه، وجاء فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم مر على قبرين يعذَّبان فوضع عليهما جريدة وقال إنهما يعذبان فى كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشى بالنميمة بين الناس. يقول ابن القيم: أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة والدماء، فمن ترك الاستبراء الذى هو مقدمة الصلاة، ومن نَمَّ والنميمة أصل العداوة المريقة للدماء، فحظهما العذاب الشديد " غذاء الألباب ج 1 ص 91 " ويقول الشاعر:
لى حيلة فيمن ينم وليس للكذاب حيلة * من كان يخلق ما يقول فحيلتى فيه قليلة 2 -مظاهرها: تكون النميمة بين الحبيبين وبين الزوجين، وبين الأسرتين، وبين الدولتين، وبين الرئيس والمرءوسين.
3 - آثارها: التفرقة بين الناس، قلق القلب، عار للناقل والسامع، حاملة على التجسس لمعرفة أخبار الناس، حاملة على القتل، وعلى قطع أرزاق الناس، جاء فى الحديث " لا يبلغنى أحد منكم عن أصحابى شيئا، فأنا أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر".
4 -صفات النمام: النمام ذليل، جاء فى إحياء علوم الدين "ج 3 ص 35 " أن رجلا سأل حكيما عن السماء وما أثقل منها؟ فقال:
البهتان على البرىء، وعن الأرض وما أوسع منها؟ فقال: الحق، وعن الصخر وما أقسى منه؟ فقال: قلب الكافر وعن النار وأحَرَّ منها؟ فقال: الحسد، وعن الزمهرير وما أبرد منه؟ فقال: الحاجة إلى القريب إذا لم تنجح. وعن البحر وما أغنى منه؟ فقال: القلب القانع، وعن اليتيم وما أذل منه؟ فقال: النمام إذا بان أمره، النمام كذاب، غشاش، مغتاب، خائن للسر، غادر للعهد، غال حسود، منافق، مفسد يحب الشر للناس، الصدق لا يذم من أحد إلا من النمام، ذو وجهين، متجسس، فاسق.
5 -أسبابها والغرض منها: إرادة السوء للمحكى عنه، وحب المحكى إليه والتزلف إليه، والتسلية والفضول.
6- عقابها: جاء فى الحديث " لا يدخل الجنة نمَّام " رواه البخارى ومسلم، عذابه فى القبر كما مر فى الحديث، حبسه فى جهنم حتى يأتى بالدليل على ما قاله، وقد مر فى موضوع الغيبة، هو ذو وجهين من أشد الناس عذابا يوم القيامة كما فى البخارى وقال تعالى {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم} النساء: 108 وفى حديث أحمد " شرار عباد الله المشاءون بالنميمة المفرِّقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب " وفى حديث أبى داود " من كان له وجهان فى الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة" النميمة تحلق الدين لأنها تفسد ذات البين، كما فى حديث أبى داود والترمذى وصححه، وجاء فى حديث الطبرانى أنه قيل لعبد الله بن عمر: إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره، فقال: كنا نعد ذلك نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ليس له قيمة أدبية كما قال الله فى الوليد أو غيره {ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم} القلم: 10، 11 النمام شؤم لا تنزل الرحمة على قوم هو فيهم، فقد جاء فى الإحياء "ج 3 ص 35" عن كعب الأحبار أن بنى إسرائيل أصيبوا بقحط، فاستسقى موسى عليه السلام مرات، فما سقاهم الله، فأوحى إليه أن السبب هو وجود نمَّام معكم، فقال موسى: ومن هو يا رب حتى أخرجه؟ فقال: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماما. والله أعلم بصحة هذا الخبر.
7-علاج النميمة: يكون بتوعية النمام بخطورة النميمة، بمثل ما سبق من الآيات والأحاديث والحكم، والتنفير منها بأنها صفة امرأة لوط، التى كانت تدل الفاسقين على الفجور، فعذبها الله كما عذبهم، وأنها صفة العتاة من المشركين كالوليد بن المغيرة الذى نهى الله نبيه عن طاعته، إلى غير ذلك من المنفرات لهذا المنكر، وحثه على التوبة منها قبل أن يقضى عليه.
وكذلك يكون علاجها من جهة السامع للنميمة، ببيان أنه أُذنٌ لا شخصية له، يقع فريسة لكل كلام ينقل إليه، وبيان أنه عدو للناس بسبب كلمة يسمعها، فيوقع عليهم الشر، أو يمنعهم الخير، وإظهار أنه كما يُنَمُّ له يُنَمَّ عليه، فالذى نقل إليه الكلام سينقل عنه الكلام، وأنه يحمل وزرا مع النمام لأنه يشجعه على ذلك.
واجب السامع عدم تصديق النميمة لأن النمام فاسق والفاسق مردود الشهادة، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} الحجرات:
6 كذلك يجب عليه أن ينصحه قياما بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن يبغضه لوجه الله لأنه مبغوض من الله والناس، وألا يظن سوءا بمن نقل عنه الكلام، فالله يقول {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} الحجرات: 12 وألا يحمله الكلام المنقول إليه على التجسس والبحث فالله قد نهى عن التجسس، وألا يحكى هذه النميمة حتى لا يكون نماما.
روى عن عمر بن عبد العزيز أنه دخل عليه رجل ذكر له شيئا عن رجل آخر، فقال له عمر: إن شئت نظرنا فى أمرك فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية {هماز مشاء بنميم} وإن شئت عفونا عنك، فقال العفو يا أمير المؤمنين ولا أعود لذلك أبدا.
وقال رجل لعبد الله بن عامر، وكان أميرا، بلغنى أن فلانا أعلم الأمير أنى ذكرته بسوء، قال: قد كان ذلك، قال: فأخبرنى بما قال لك حتى أظهر كذبه عندك، قال: ما أحب أن أشتم نفسى بلسانى، وحسبى أنى لم أصدقه فيما قال، وقال مصعب بن الزبير: نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية، لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شىء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعى، فلو كان صادقا فى قوله لكان لئيما فى صدقه، حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة.
والسعاية هى النميمة، إلا أنها إذا كانت إلى من يخاف جانبه سميت سعاية. دخل رجل على سليمان بن عبد الملك الأمير الأموى، فقال له: إنى مكلمك كلاما فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فأذن له فى الكلام فقال: إنه قد أحاط بك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك فى الله، ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، ولا تُصغ إليهم فيما استحفظك الله إياه ... أعلى قُرَبِهِمْ البغى والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة، وأنت مسئول عما أجرموا، وليسوا مسئولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره.
ورفع بعض النمامين إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم، ويحمله على أخذه لكثرته، فكتب على ظهر الرقعة: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، ابتعد عن العيب فالله أعلم بالغيب، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمرة الله، والساعى لعنه الله.
وللمزيد يمكن الرجوع إلى إحياء علوم الدين الجزء الثالث(10/317)
عجائب الدنيا السبع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى العجائب السبع التى يتحدث عنها الناس؟ وما موقف الدين منها؟
الجواب
الروايات كثيرة فى تعيين هذه العجائب، وهى روائع فنية معمارية اعتبرها القدماء بمثابة عجائب، وهى حسب أكثر الروايات شيوعا سبع:
1- أهرام الجيزة المصرية، أو الهرم الأكبر وحده الذى بناه "خوفو" فيما بين سنتى 3733، 3700 قبل الميلاد على أرجح الأقوال.
مساحة القاعدة 13 فدانا، وارتفاعه 146 مترا، له مدخل فى الجانب الشمالى يفضى إلى ممر ضيق منحدر، يمر خلال حجرات تنتهى إلى حجرة الدفن. استغرق بناؤه حوالى عشرين عاما، بحجارة يزن الواحد منها فى المتوسط طنين ونصف الطن، نقلت من الضفة الشرقية لنهر النيل إلى الغرب بجهد خارق للعادة. وهى ما تزال مزارا للعالم إلى يومنا هذا.
2 - حدائق بابل المعلقة، وهى حدائق مقامة على أسوار مدينة بابل على نهر الفرات فى أيام حكم الملك "نبوخذ نصر" وينطق " بختنصر" الذى امتد لمدة أربع وأربعين سنة من توليه الحكم سنة 604 قبل الميلاد، كانت المدينة محل إعجاب الزوار من جميع أرجاء العالم، وتحدث عنها المؤرخون القدماء" فى القرن الخامس قبل الميلاد، والحدائق شرفات متدرجة بعضها فوق بعض تميل إلى الداخل، وتصل بينها درجات من الرخام، وكانت تروى بنافورات تستمد الماء من خزان كبير فى أعلى طبقة يملأ من النهر برافعة حلزونية، وكانت تتصل بكل طبقة قاعات فسيحة للحفلات وأحواض للسباحة تملأ بماء ملون، مع نافورات ومساقط يختلط خريرها بتغريد الطيور. وبعض المؤرخين ينسب هذه الحدائق إلى الملكة "سميراميس".
3 - تمثال الإِله " زيوس " الأوليمبى، نحته الفنان الإغريقى "فيدياس" وطعَّمه بالياقوت والزبرجد، وجعل له ثيابا من الذهب، وأقامه فى معبد " زيوس " فى الغيضة المقدسة بأوليمبيا، وكاد يصل - عندما اكتمل فى سنة 457 قبل الميلاد - إلى سقف القاعة الذى كان ارتفاعه نحو عشرين مترا، وكانت هذه البقعة هى مركز الألعاب الأوليمبية التى كانت تعقد كل خمس سنوات، وقد نقله الإِمبراطور "تيودور" الأول إلى القسطنطينية فيما بعد، حيث قضى عليه حريق شب فى سنة475 ميلادية.
4 -ثمثال الشمس فى " رودس" كانت جزيرة رودس فى عهد الإِغريق مركزا للفنون والصناعات، وكان أهلها يعبدون إله الشمس "وهيليوس " فكرموه بتمثال صنعه أحد كبار النحّاتين " تشاريس " فى القرن الثالث قبل الميلاد، بحيث يشرف على مرفأ " رودس " استغرق نحته اثنى عشر عاما وكان من البرونز يزداد بريقه عندما تقع عليه أشعة الشمس، وارتفاعه يبلغ ثلاثةّ وثلاثين مترا، ويمسك بيمينه شعلة. لم يدم أكثر من ستين سنة أسقطه زلزال سنة 224 قبل الميلاد.
5 - معبد "ديانا" ويسمى معبد " أرتميس " ابنة الإِله " زيوس " التى يعدها الإِغريق ربة الطبيعة، ويقيمون لها سنويا حفلات كبيرة ويسميها الرومان " ديانا " أقاموا لها معبدا فى " أفسوس " كبرى اثنتى عشرة مدينة يونانية فى آسيا الصغرى. بناه المهندس المعمارى الإِغريقى "تشرسيفورن " فى القرن السادس قبل الميلاد، ثم أحرقه "هيروستراتوس " سنة 356 قبل الميلاد، فأعاد،الإغريق بناءه، فهدمه "القوط " ثانية عندما اجتاحوا المدينة سنة 262 قبل الميلاد، وقيل: إن الذى بناه هو المهندس المعمارى للإِسكندر الأكبر المقدونى "ديتوكراتيس " وكان المعبد مقاما على بعد ميل من مدينة " أفسوس " عرضه حوالى خمسين مترا، ويزيد طوله على مائة متر، وبه مائة عمود، ارتفاع الواحد منها ستون مترا، وسُمكه متران، وسقفه مكسو بالرخام وأبوابه مطعمة بالعاج والذهب.
6 - ضريح " هاليكارناسوس " بآسيا الصغرى، فقد كان يحكم بلاد " كاريا" قبل ميلاد المسيح بحوالى ثلثمائة سنة ملك يدعى "ماوسولوس " ولما مات حوالى سنة 353 قبل الميلاد أصرت زوجته "أرتميسيا" على عمل ضريح له فى مدينة " هاليكارناسوس " عاصمة ملكه. وضع تصميمه المهندس " بيثيوس " وماتت الزوجة قبل أن يتم الضريح فاستمر العمل حتى كمل وكان ارتفاعه نحو ثلاثة وأربعين مترا، ومحيطه الخارجى نحو 122 مترا، صنعت قاعدته من الحجر الأخضر المعرق بالرخام، وأقيم فوق قمته تمثال لعربة قتال، وظل المعبد قائما حتى هدمه زلزال قبيل القرن الخامس عشر الميلادى.
7 - منار الإِسكندرية، المشهور بمنار " فاروس " نسبة إلى جزيرة صغيرة أوصلها الإِسكندر بالشاطئ عندما أمر المهندس "ديتوكراتس " بإنشاء المدينة والمرفأ لهداية السفن بعد أن ارتطمت بالصخور فى الظلام سفينة كانت تحمل عروسا لأحد مساعديه وقد عهد إلى هذا المساعد بالذات ويدعى " سوستراتوس " ببنائه على شكل برج شاهق بلغ ارتفاعه 122 مترا من عدة طبقات، وفوق القمة قفص من حديد، به ثغرات واسعة، وكانت النار توقد فيه كل مساء. وفى بعض الروايات أن المنار أنشئ سنة 270 قبل الميلاد فى عهد بطليموس فيلا ديلفوس " بطليموس الثانى" وقد ظل قائما حوالى 1500 سنة ثم دمره زلزال فى القرن الرابع عشر الميلادى.
هذه المعلومات مختصرة من بحث فى دائرة معارف الشعب "المجلد الأول ص 95 -99" وقد انتهت هذه العجائب ولم يبق منها إلا الأهرام، وهى عجائب استرعت الانتباه فى أزمانها من حيث الهندسة والضخامة والمواد، وقد جدت فى العالم الآن عجائب وعجائب فى مجالات كثيرة لم تكتف بالأرض بل وصلت إلى الفضاء، والدين يقول إن هذه العجائب تدل على جبروت العقل الإِنسانى الذى فسح الله له المجال فى الكون كله، والمهم أن يستخدم ذلك فى شكر المنعم بها وهو الله، وفى خدمة الإنسان الذى جعله الله خليفة فى الأرض وأمره أن يعمرها بالخير، مع الإِيمان بأن كل شىء له نهاية، وأن غرور الإِنسان سيتحطم حتما {إذا الشمس سُرت وإذا النجوم انكدرت " وإذا الجبال سيِّرت} التكوير: 1 - 3 {فلينظر الإِنسان ممَّ خلق. خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب. إنه على رجعه لقادر. يوم تبلى السرائر. فما له من قوة ولا ناصر} الطارق: 5 - 10 {إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} ق: 37.
ومن العجائب التى بعد الميلاد: برج بيزا المائل، وسور الصين العظيم، وتمثال النبى موسى، وبرج إيفل، وضريح تاج محل، وتمثال عروس البحر فى فرجينيا، ومتحف الأرميتاج(10/318)
كرة القدم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
والدى يحرم علىَّ أن ألعب الكرة مع زملائي، ويقول: إنها من اللهو الذى نهى الله عنه، فهل هذا صحيح؟
الجواب
من المعلوم أن الأشياء التى لا ضرر فيها ولم يرد نص من الشرع يمنعها تبقى على الأصل وهو الحل الذى يدل عليه عموم قوله تعالى {هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا} البقرة: 29 وقوله {وسخَّر لكم ما فى السماوات وما فى الأرض جميعا منه} الجاثية:
13.
والتكاليف الشرعية هى فى حدود الوسع والطاقة، ولا تحرم الإنسان من التمتع بطيبات الحياة فى الحد المعقول، كما سبق ذكره فى الترويح عن النفس، ومن الترويح الألعاب الرياضية التى كان لكل جماعة اختيار ما يناسبها، وقد سبق الكلام عليها، وذكرنا آدابها "المجلد الثالث ص 196 وما بعدها".
وكرة القدم من الرياضات القديمة، جاء فى مجلة العربى الصغير "أكتوبر 1978 م " أنها بدأت فى الصين قبل نحو ثلاثة آلاف سنة أى قبل " كونفشيوس " ووضعوها فى البرامج العسكرية سنة 500 قبل الميلاد، وانتشرت فى اليونان أيام الإِغريق وذكرت فى شعر هوميروس صاحب الإِلياذة والأوديسا، ثم ورثها الرومان وانتشرت فى مستعمراتهم، ثم انتقلت إلى بريطانيا وشجعتها، إلا أنها منعت ثلاث مرات سنة 1314، 1349، 1447 بسبب أنها غطت على لعبة الفروسية المهمة، وأنها ألهت الشباب عن صلاة الأحد، ففقدت شعبيتها عدة قرون حتى أوائل القرن التاسع عشر فأحيوها وخاصة بين المدارس الثانوية، ثم غطت جميع أرجاء الكرة الأرضية تقريبا. وبالجملة فهى فى أصلها حلال، ويجب الاحتفاظ بالآداب المطلوبة فى الرياضة كلها، مع مراعاة عدم طغيان اللعب والمشاهدة على الواجبات(10/319)
الطب واختلاف الأديان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم أجاز للمريض أن يعالجه طبيب غير مسلم؟ وهل كان هناك أطباء فى زمانه؟
الجواب
الأطباء والعلماء المتخصصون فى فنون المعرفة موجودون فى كل عصور التاريخ، والدين الإِسلامى لا يعارض العلاج من الأمراض، بل يأمر به، كما ذكر فى الإجابة على بعض الأسئلة، والطب كغيره لابد أن يكون عند ذوى الاختصاص، وأول من درس الطب واشتغل به من العرب هو الحارث بن كَلَدَة الثقفى، عاش فى الجاهلية وأدرك الإسلام، تعلم الطب فى مدرسة جنديسابور التى أسسها كسرى الأول ملك فارس بإقليم خوزستان سنة 555 ميلادية، " دائرة معارف الشعب. المجلد الخامس ص 325".
روى أبو داود عن سعيد أنه قال: مرضت فأتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده على صدرى حتى وجدت بردها على فؤادى وقال " إنك مفئود" أى مريض بالقلب، إيت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه يتطبب.
جاء فى كتاب " الآداب الشرعية" لابن مفلح: أن اليهودى أو النصرانى إذا كان خبيرا بالطب ثقة عند الإِنسان جاز أن يُستطب، كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله.
وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلا هاديا خِرِّيتًا - ماهرا - واستأمنه على نفسه وماله. وذكر حديث الحارث بن كلدة، ثم قال: وإذا أمكنه أن يستطب مسلما فهو كما لو أمكنه أن يودعه ويعامله، فلا ينبغى أن يعدل عنه. وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابى أو استطبابه فله ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهى عنها.
وفى صلح الحديبية بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عينًا له من خزاعة وقبل خبره، وفى هذا دليل على جواز التداوى عند الكافر وقبول خبره فى وصف المرض ووصف دوائه إذا كان غير متهم فيما يصفه وغير مشكوك فى أمانته(10/320)
السر والعلن فى الصدقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الصدقة السرية خير من العلنية وما الدليل على ذلك؟
الجواب
المدار فى الخيرية على الإِخلاص فى العمل، فالسر خير من الجهر إن خاف المتصدق على نفسه الرياء، وعليه يحمل الحديث فى السبعة الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".
والجهر خير من السر إذا قصد المتصدق أن يقتدى به غيره، وأن يكون هناك تنافس فى الخير، كما حدث في التصدق لتمويل غزوة العسرة، حيث كانت المنافسة شديدة، ولم يعب الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا تصدق بأكثر مما تصدق به غيره ليكون أحسن منه، فقد ظن بعضهم أنه تصدق بما لم يستطع غيره أن يتصدق به ففوجئ بمن كان أحسن منه، وهو أبو بكر الصديق رضى الله عنه الذى دفع كل ما عنده من نقود وأبقى لعياله الله ورسوله، وكما حدث تنافس الصحابة لتقديم تموين للفقراء من مضر، وقال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم "من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".
قال تعالى {إن تبدوا الصدقات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} البقرة: 271 وجاء فى تفسير القرطبى لهذه الآية بعد ذكر الأقوال فى معناها قوله: والتحقيق فيه أن الحال فى الصدقة تختلف بحال المعطى لها والمعطى إياها والناس الشاهدين لها.
أما المعطى فله فيها فائدة إظهار السنة وثواب القدوة، وذلك لمن قويت حاله وحسنت نيته وأمن على نفسه الرياء، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسر له أفضل.
وأما المعطى إياها فإن السر له أسلم من احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف.
وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطى لها بالرياء، وعلى الآخذ لها بالاستغناء، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة، لكن هذا اليوم قليل.
ثم قال القرطبى ناقلا عن الكيا الطبرى: إن فى هذه الآية دلالة على قول إخفاء الصدقات مطلقا أولى، وأنها حق الفقير، وأنه يجوز لرب المال تفريقها بنفسه على ما هو أحد قولى الشافعى، وعلى القول الآخر ذكروا أن المراد بالصدقات هاهنا التطوع دون الفرض الذى إظهاره أولى، لئلا تلحقه تهمة، ولأجل ذلك قيل: صلاة النفل فرادى أفضل، والجماعة فى الفرض أبعد عن التهمة.
وذكر آراء أخرى وهى كلها اجتهادية، والأولى -كما سبق- أن يراعى ما فيه كثرة النفع فيعمل به، وما فيه قلته فلا يعمل به، والأنظار فى ذلك مختلفة. ومهما يكن من شىء فلابد فى كل صدقة مفروضة أو غير مفروضة من الإِخلاص لله وعدم الرياء، فالرياء شرك خفى(10/321)
حكمة تحريم الزنا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إذا كانت الحكمة من تحريم الزنا هى المحافظة على الأنساب من اختلاطها فهل يظل محرما إذا أمكنت السيطرة على الحمل بمنعه بالوسائل الحديثة، أو يجوز لأى شخص أن يباشر أية امرأة مع وجود هذه الموانع؟
الجواب
يقول الله سبحانه: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} الإِسراء: 32 إن الزنا هو مباشرة الرجل لامرأة بغير عقد زواج صحيح، وقد سمَّاه الله فاحشة والفواحش هى كبائر الذنوب، كما ذمه سبيلا إلى المتعة الجنسية، فالله سبحانه جعل فى الرجل والمرأة هذه الشهوة من أجل تكاثر الجنس البشرى، كما يحصل التكاثر والإِنتاج بعاملين لا بعامل واحد فى الحيوان والنبات وغيرهما، قال تعالى {ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} الذارايات: 49 وتكاثر الجنس البشرى لابد أن يكون منظما لينشأ الجيل فى بيئة مستقرة تؤهله لتحمل المسئولية بعد والديه، ولا تكون البيئة المستقرة إلا بالزواج الشرعى الذى تحدد فيه الحقوق والواجبات للزوجين وللذرية الناتجة منهما.
والاتصال الجنسى مع الموانع من الحمل لا يكون به تناسل إذا جاز لكل إنسان أن يلجأ إليه، وفيه تعطيل لحكمة الله فى خلق آدم وحواء لتحقيق الخلافة فى الأرض، كما أن الاتصال الجنسى بدون حدود لا يؤهل لهذه الخلافة.
ومن هنا تظهر الحكمة فى تحريم الزنا المتمثلة فيما يأتى:
1 - ضمان التناسل الجدير بتسلسل النوع البشرى وبقائه لتحقيق خلافة الإِنسان فى الأرض.
2 - حماية الغيرة الطبيعية الموجودة فى الإِنسان، وهو أجدر بها من بعض الحيوانات والطيور التى تغار فيها الذكور على إناثها، لأنها كلها مسخرة له بأمر الله فلا يكون أقل منها فى الغيرة.
3 - وقاية الإِنسان من أمراض خطيرة سببها الاتصال الجنسى غير المنظم، ويؤكد هذا ما ظهر أخيرا من انتشار مرض فقد المناعة المعروف بالإيدز، ويلتقى مع الحديث الشريف المقبول فى مثل هذه المواطن " يا معشر المهاجرين، خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة فى قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التى لم تكن فى أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين - أعوام القحط - وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاه أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما فى أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم " رواه البيهقى.
4 - حماية الأنفس من القتل بسبب الغيرة التى تأبى أن يتصل شخص بزوجة آخر أو بنته أو قريبته بغير عقد شرعى.
5 - ضمان التوارث الصحيح بين أعضاء الأسرة المعروفة بالنسب الصحيح، ومنع الدخيل من التوارث.
6 - عدم ضمان التناسل مع وجود الموانع من الحمل، فإرادة الله غالبة، وهنا يضيع النسل أو ينسب زوراً لغير أصله، والإِسلام حرم إلصاق الشخص نسبه بغير أصله، كما حرم التبنى.
7 -المحافظة على كرامة المرأة، حتى لا تكون سلعة مباحة يتداولها كل من يريد قضاء شهوته، كأى متاع آخر يعرض لمن يريد.
من هذا وغيره نعرف حكمة تحريم الزنا وأنها ليست قاصرة على حفظ الأنساب فقط، ولخطورة آثاره وصفه الله فى الآية بأنه فاحشة وساء سبيلا، وحرَّمته كل الأديان من أجل ذلك، وحتى القوانين الوضعية لم تبحه على إطلاقه، فالطبيعة البشرية السوية تأباه ولذلك جعل الإِسلام عقوبته قاسية، فهى للبكر مائة جلدة وللثيب الرجم حتى الموت. وقسوة هذه العقوبة تتضاءل أمام الأخطار الناشئة عن الزنا، وأمام الفوائد الناجمة عن تحريمه، والله سبحانه حكيم خبير فى تشريعه للناس قال تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} البقرة: 216(10/322)
التداوى والتوكل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن مريضا وصف له نقل كلية من صحيح، فقال له بعض الناس: لا داعى للعلاج، فأجله محدود، وليسلِّم أمره إلى الله فان أبا بكر رضى الله عنه عندما مرض قيل له: لو دعونا لك طبيبا، فقال:
الطبيب قد نظر إلىَّ وقال: إنى فعال لما أريد. فهل التداوى من الأمراض ينافى الرضا بقضاء الله؟
الجواب
قرأت العبارة المأثورة عن أبى بكر رضى الله عنه فى إحياء علوم الدين "ج 4 ص 346" عندما تحدث الإِمام الغزالى عن العلاقة بين التداوى والتوكل على الله، وذلك بعد كلامه عن السعى فى إزالة الضرر " ص 343" وقال: إن السبب الذى يقطع بأنه يزيل الضرر كالماء المزيل للعطش، والخبز المزيل لضرر الجوع - ليس من التوكل تركه، بل تركه حرام عند خوف الموت، أما السبب الذى يظن بأنه يزيل الضرر كالذى عند الأطباء ففعله ليس مناقضا للتوكل، ودلل على أن التداوى مشروع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، بل أمر به، وساق من قوله حديث "ما من داء إلا له دواء، عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام " رواه أحمد، وزاد عليه العراقى حديث البخارى " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" وحديث مسلم " لكل داء دواء" وساق الغزالى من فعل النبى صلى الله عليه وسلم أنه تداوى غير مرة من العقرب وغيرها، وذكر العراقى أن الطبرانى رواه بإسناد حسن، وكان إذا نزل عليه الوحى صدع رأسه فيغلفه بالحناء، كما رواه البزار وابن عدى فى الكامل، وكان إذا خرجت به قرحة جعل عليها الحناء كما رواه الترمذى وابن ماجه، وفى رواية البخارى جعل عليها التراب، وفصد عرقا لسعد بن معاذ كما رواه مسلم، وساق من الأمر به حديث " تداووا عباد الله فإن الله خلق الداء والدواء" رواه الترمذى وصححه وابن ماجه، وأمر غير واحد من الصحابة بالتداوى وبالحمية.
ثم ذكر الغزالى أن هذه الأدوية أسباب مسخَّرة بحكم الله فلا يضر استعمالها مع النظر إلى مسبب الأسباب وهو الله، دون الطبيب والدواء. وقال فى " ص 246" إن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون، ولكن جماعة من الأكابر تركوه كأبى بكر وأبى الدرداء وأبى ذر وقال: ليس فى تركهم الدواء مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون لبعضهم انكشاف بأن الدواء لا يمنع أجله، إما برؤية صادقة أو بحدس وظن أو بكشف محقق قد يكون منه ما حدث لأبى بكر حيث قال لعائشة فى أمر الميراث: إنما هن أختاك، وكانت لها أخت واحدة ولكن كانت امرأته حاملا فولدت أنثى، فلا يبعد مع هذا الكشف أن يكون قد كشف له أجله ولا حاجة إلى التداوى الذى شوهد الرسول يتداوى ويأمر به.
وقد يكون ببعض من لم يتداووا علة مزمنة لا يقطع بفائدة التداوى منها، وقد يكون لبعضهم أسباب أخرى يمكن الرجوع إلى معرفتها فى المرجع المذكور " ص 47، 48، 49 " ورد الغزالى على من يقولون: إن ترك التداوى أفضل فى كل الأحوال، بأن الرسول فعله وأمر به، وبأنه حذر من دخول بلد فيه الطاعون، ومن الخروج منه إذا وقع به، ونفذه عمر فى طاعون وقع بالشام، ولما قيل له:
أفرارا من قدر الله؟ قال: أفر من قدر الله إلى قدر الله؟ رواه البخارى مع مراعاة أن قوة الإِيمان لها دخل فى هذا الموضوع، وليس كل الناس سواء فى ذلك، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قال " فر من المجذوم فرارك من الأسد " رواه البخارى، فذلك تشريع لعامة الناس وهو الذى أكل مع المجذوم وقال " كل بسم الله ثقة بالله وتوكلا على الله " رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه وغيرهم " جمع الجوامع ص 628".
من هنا نعرف أن التداوى مأمور به، كسبب من أسباب الشفاء الذى هو من الله سبحانه، ومن كانت عندهم قدرة على التداوى وقصَّروا فقد خالفوا هدى النبى صلى الله عليه وسلم، وأن من أثر عنهم ترك التداوى وكان الأخذ عنهم تشريعا قد تكون لهم أسباب مقبولة، فلا يتخذ ما أثر عنهم حجة فى كل الأحوال، والحديث العام معروف " قيدها وتوكل " رواه ابن خزيمة والطبرانى بإسناد جيد.
ومن أراد التوسعة فى معرفة موقف الإِسلام من الصحة عامة فعليه بكتاب الطب النبوى لابن القيم وفى كتابنا "توجيهات دينية واجتماعية" لمحة عنه(10/323)
المصالح المرسلة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى المصالح المرسلة وما قيمتها فى التشريع؟
الجواب
المصادر الأساسية للتشريع هى القرآن والسنة بالاتفاق، ثم القياس والإجماع على رأى الجمهور. وما عدا ذلك من العرف والمصالح المرسلة والاستحسان وما إليها فيه خلاف كبير.
والمصالح المرسلة هى التى لم يشهد لها أصل معين، كما قضى عمر رضي اللْه عنه على محمد بن مسلمة أن يمر خليج جاره فى أرضه، لأنه ينفع جاره ولا يضر محمدا، فعلل الفتوى بأصل عام وهو إباحة النافع وحظر الضار.
وهذا الرأى إذا توسع فيه عاد بالضرر، لأنه قد يؤدى إلى ترك كثير من السنن التى لم يحط بها الإنسان علما مع تفرقها فى البلاد. والاستحسان ترك القياس على أصل معين، وذلك لأثر قد ورد، أو للرجوع إلى أصول عامة، أو أصل معين آخر، وهو عند أهل الرأى ليس قولا بمجرد الهوى، ويكثر استعمال المصالح المرسلة والاستحسان فى المعاملات والأمور الدنيوية وتنظيم المسائل السياسية والقضائية والحربية والعلاقات الدولية.
والمالكية لهم قسط كبير فى الاعتماد على المصالح المرسلة فى التشريع، ويليهم الحنابلة كما قال ابن دقيق العيد، يقول البغدادي فى "جنة الناظر" إن الإمام مالكا يقول: إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح فى جزئياته وكلياته، وأن لا مصلحة إلا وهى معتبرة فى جنسها، لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة.
ومن أمثلة الحكم بهذا الأصل من فتاوى السلف وأقضيتهم قضاء الصحابة بتضمين الصناع كالخياطين والصباغين الذين يدعون سرقة ما أعطى لهم لخياطته وصباغته ولم يقيموا بينة على أنه تلف بغير سبب منهم، فيقضى عليهم بالضمان، حتى يحتاطوا فى حفظ ما عندهم، ومنها قتل الجماعة بالواحد إذا لم يعينوا القاتل، ومنها فرض الضرائب على الأغنياء إذا لم تكف الموارد الشرعية من الزكاة ونحوها للجهاد فى سبيل الله.
وإذا كان العمل بالمصالح المرسلة يؤدى إلى الاختلاف فى الأحكام من بلد إلى بلد فلا مانع من ذلك، فالخلاف فى مثل هذه الأمور الفرعية الدنيوية لا يضر ما دامت الأصول مرعية "انظر مقال الشيخ محمد الخضر حسين - مجلة الأزهر- المجلد الثالث ص 159 "(10/324)
أسرى الحرب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يشكو الناس كثيرا من سوء معاملة الأسرى فى الحروب، حتى الحروب التى تقع بين المسلمين بعضهم مع بعض، نريد معرفة هدى الدين فى ذلك؟
الجواب
يقول الله تعالى {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يُثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم} الأنفال:
67-69.
ويقول: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مَنًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} محمد: 4.
ويقول {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا} الأحزاب: 26 صياصيهم: حصونهم.
نزلت هذه الآيات فى المدينة، والآية الأولى نزلت فى غزوة بدر، والثانية قيل: نزلت قبلها وقيل بعدها، والثالثة نزلت فى غزوة الأحزاب. ومعنى "يثخن فى الأرض" يكثر القتل ويبالغ فيه، ومعنى "عرض الدنيا" ما كان يريده البعض من الفداء بالمال، ولم يقصد به النبى صلى الله عليه وسلم ولا كبار الصحابة، ومعنى {لولا كتاب من الله سبق} سبق حكمه بأنه لا يعذب أحدا إلا بعد نهيه، لولا ذلك لعذبتكم، ثم أحلَّها الله فقال {فكلوا مما غنمتم حلالا} وقيل فى المعنى: لولا سبقكم بالإيمان بالكتاب وهو القرآن الذى استحققتم به الصفح والعفو، أو لولا أنه سبق فى اللوح المحفوظ أنه حلال لكم لعوقبتم. بل قال البعض:
إن هذه الآية ليس فيها إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها تعنى: ما كان لنبى قبلك أن يكون له ذلك، ولكنك خصصت بجوازه، كما فى الحديث الشريف "أحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى".
على أن الآية الثانية قد بررت ما فعله الرسول من اختياره بعد المشاورة رأى أبي بكر فى أخذ الفداء حيث تقول {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} وأقر الله النبى والصحابة على ما أخذوه، وأنزل تطييبا لبعض الأسرى الذين كانوا يريدون القتال بعد أن أخذ منهم الفداء {يا أيها النبى قل لمن فى أيديكم من الأسرى إن يعلم الله فى قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم} الأنفال:
70.
ومما ورد من الأحاديث فى شأن الأسرى أن النبى صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه فى أسارى بدر فأشار عليه أبو بكر رضى الله عنه بأن يأخذ منهم فدية يتقوى بها المسلمون ويطلقهم، لعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، وقال عمر رضى الله عنه:
أرى أن تمكَنَّا منهم يا رسول الله فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر، فمال الرسول إلى رأى أبى بكر، فلما كان من الغد أقبل عمر فإذا رسول الله يبكى هو وأبو بكر، فقال: من أى شى تبكى أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبكى للذى عرض علىَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض علىَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة.." وأنزل الله {ما كان لنبى ... } وقد تكلم العلماء فى أى الرأيين أصوب فرجحت طائفة قول عمر، بدليل هذا الحديث ورجحت طائفة أخرى قول أبي بكر، وذلك لاستقرار الأمر عليه وموافقته للكتاب الذى سبق من الله بإحلال ذلك لهم،ولموافقته للرحمة التى غلبته الغضب،ولتشبيه الرسول لأبى بكر فى ذلك بإبراهيم عليه السلام إذ قال {فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم} إبراهيم: 36 وبعيسى عليه السلام فى قوله {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} المائدة: 118 كما شبه عمر فى رأيه بنوح عليه السلام فى قوله {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} نوح: 26 وبموسى عليه السلام فى قوله {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} يونس: 88.
وبكاء النبى صلى الله عليه وسلم كان رحمة لنزول العذاب على من أراد بذلك وجه الدنيا، والرسول لم يرد هو ولا أبو بكر وجه الدنيا، ولكن العذاب لو نزل فسيعم الجميع.
وقد ثبت من الأحاديث والتاريخ الموثوق به أن النبى صلى الله عليه وسلم سلك مع الأسرى عدة طرق:
1 - فمنهم من أمسكه وضرب عليه الرق، سواء أكانوا من أولاد العرب أم من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.
2 -ومنهم من أمر بقتله، مثل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وذلك لشدة عداوتهما للنبى صلى الله عليه وسلم وكان ذلك فى رجوعه من غزوه بدر، وقال "لو كان المطعم بن عدى حيًّا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنَى لتركتهم له " وكيهود بنى قريظة.
3-ومنهم من فداه بالمال، كعمه العباس فى غزوة بدر، وقد استأذنه الأنصار أن يترك له فداءه، فقال "لا تدعوا منه درهما" كما رواه البخارى.
4 - ومنهم من جعل فداءه عملا يؤديه للمسلمين، كبعض أسرى بدر الذين افتدوا أنفسهم بتعليم أولاد الأنصار الكتابة، وكان منهم زيد ابن ثابت.
5 -ومنهم من مَنَّ عليه الرسول بغير مقابل، كأبى العاص بن الربيع زوج ابنته زينب وأبى عزة الجمحى الذى تركه بدون مال لما ذكر له كثرة بناته، وسبى هوازن ردَّهم بعد القسمة للغنائم واستطاب قلوب الغانمين فطيبوا له -أى وافقوا- ومن لم تطب نفسه بذلك عوَّضه بكل إنسان ستًّا من الأنعام فى الزكاة.
6 - وثبت أنه صلى الله عليه وسلم بادل أسرى المسلمين بأسرى الكفار، فقد استوهب من سلمة بن الأكوع جارية نفلها إياه أبو بكر فى غزوة فزارة كما رواه مسلم -فوهبها له، فبعث بها إلى مكة ففدى بها ناسا من المسلمين، وفدى رجلين من المسلمين برجل من عقيل.
وأسر ثمامة بن أثال سيد بنى حنيفة، فربطه فى سارية المسجد ثم أطلقه فأسلم،كما رواه مسلم، كما هبط عليه فى صلح الحديبية سبعون متسلحون يريدون غِرته فأسرهم ثم منَّ عليهم.
وإزاء هذه المرويات من فعل النبى صلى الله عليه وسلم اختلف الفقهاء فى الأسرى، فذهب الجمهور ومنهم الشافعي -إلى أن الإمام مخيَّر فيهم، إن شاء قتل كما فعل ببنى قريظة، وإن شاء فادى بمال كبعض أسرى بدر، وإن شاء منَّ بلا شىء وإن شاء استرقَّ من أسر. غير أن الأوزاعى وسفيان ومالكا يكرهون أخذ المال من الأسير، لما فى ذلك من تقوية العدو بالرجال.
وهذا التخيير متروك للإمام ليفعل ما فيه المصلحة، وقد روى عن على أن جبريل أمر النبى أن يخيِّر أصحابه فى الأسارى، إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء. ولكن الإمام أبا حنيفة يقول: إن التخيير قد نُسخ، والحكم الآن هو: إما القتل وإما الاسترقاق.
ويقول مجاهد من علماء التابعين: ليس اليوم منٌّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق.
ومنشأ الخلاف فى التخيير وعدمه هو آية {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فلما منًّا بعدُ وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} فقال أبو حنيفة: إن الحرب هنا فى الآية هى بدر، فالمن والفداء هو فى بدر فقط، وأما بعدها فالحكم هو القتل أو الرق، فالغاية على هذا هى للمن والفداء حتى يكون الحكم منسوخا، فإن جعلت الغاية للإثخان وشد الوثاق - أى القتل والأسر- كان المراد بالحرب جنسها، يعنى أى حرب كانت، لكن الجمهور يرى أن الغاية هى للمن والفداء مع إرادة جنس الحرب.
وقال العلماء أيضا: إن من أسلم قبل الأسر لم يسترق -أى لا يضرب عليه الرق -وأن النبى صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر لم يفد بمال، بل كان يمن أو يفادى أسيرا بأسير.
هذا وقد أوصى النبى صلى الله عليه وسلم بالأسرى خيرا، فقد ثبت أنه لما وزع الأسرى على الصحابة قال لهم "استوصوا بالأسرى خيرا" ويقول أحدهم -وهو أبو عزير بن عمير- كنت فى رهط من الأنصار حين أقبلوا بى من بدر فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم خصُّونى بالخبز وأكلوا التمر، لوصية الرسول إياهم بنا. وكان الفداء ما بين 1500، 4000 درهم كما يراه الرسول من حال الأسير.
هذا هو الحكم فى الأسرى من الكفار، أما أسرى الحروب بين المسلمين فلا تنطبق عليهم كل هذه الأحكام وبخاصة القتل والاسترقاق، والواجب معاملتهم بالحسنى فإن كثيرا منهم أو أكثرهم مضطر إلى خوض المعركة، لصرامة القوانين العسكرية.
"زاد المعاد لابن القيم فى باب الجهاد، وشرح الزرقانى على المواهب اللدنية فى غزوة بدر، وسيرة ابن هشام فى غزوة بدر، وشرح النووى على صحيح مسلم فى كتاب الجهاد وكتب التفسير والفقه(10/325)
الصحف والمجلات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نحن مضطرون إلى قراءة الصحف والمجلات للاطلاع على الأخبار وزيادة المعلومات، ولكن نجد فيها أمورا خارجة أحيانا عن الدين والذوق، كالصور الفاضحة والإعلانات عن سهرات راقصة، وترويج أفكار شاذة وغير ذلك، فهل نقاطع الصحف أم ماذا نفعل، وهل من الدين نشر هذه الأشياء؟
الجواب
يطلق الكتَّاب على الصحافة اسم السلطة الرابعة -بعد التشريعية والتنفيذية والقضائية- لقوة أثرها فى توجيه الشعب وفى إصدار الأحكام على الأشخاص والتصرفات، وتكوين الرأى العام، وهى تقوم على الإعلام والإخبار، وعلى الرأى والمعلومات المتنوعة.
والصحافة بهذا المفهوم لم يعرف أول نشأتها، فقيل: إن أقدم جريدة هى " كين بان " الصينية التى صدرت عام 911 قبل الميلاد، وقيل: هى " الوقائع الرسمية" الرومانية التى صدرت عام 58 قبل الميلاد، وكان مؤسسها هو " يوليوس قيصر" ثم دخلت الصحافة عصرها الحديث بعد اختراع الطباعة، فظهرت أول صحيفة باسم "لاغازيت " وكانت أسبوعية من ثمان صفحات لنشر أخبار فرنسا وأوروبا ثم انتشرت فى العالم " جريدة القبس 9 / 2 / 1975 م ".
ويذكر الدكتور خليل صابات أن أول صحيفة فى العالم العربى ظهرت هى: الوقائع المصرية بالقاهرة سنة 1828 م، وبريد الجزائر بالجزائر سنة 1830 م، وحديقة الأخبار ببيروت سنة 1858 م، والرائد التونسى بتونس سنة 1860 م، وسورية بدمشق سنة 1865 م وطرابلس غرب بطرابلس سنة 1866 م، وزوراء ببغداد سنة 1869 م، وصنعاء بصنعاء سنة 1877 م، وحجاز بمكة المكرمة سنة 1882 م، والمغرب بطنجة سنة 1889 م، والغازيتة السودانية بالخرطوم سنة 1899 م. وكان صدور العدد الأول من الوقائع المصرية في يوم الثلاثاء 24 أو 25 من جمادى الأولى سنة 1244 هـ " 3 من ديسمبر سنة 1828 م " " الأهرام 4 / 12 / 1978، 7 / 7 / 1984 ".
وكانت الأخبار فى الجاهلية تنشر عن طريق الشعراء والرواة والأسواق كعكاظ ومجنة وذى المجاز، وهى تحمل الصدق والكذب فى المدح والهجاء، وجاء فى ذلك قول الله تعالى {والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون.
وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظُلموا وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون} الشعراء: 224-227.
وتعددت وسائل الإِعلام وتطورت، وكثر منها فى هذه الأيام الصحافة بأنواعها المختلفة، والإِذاعة المسموعة والمرئية، والكتب والنشرات وما إليها، وهى -كما قلنا- تقوم على نشر الأخبار وعلى التعليق عليها أو على أشياء أخرى، وعلى نشر الأفكار ومناقشتها للتأييد أو الرفض إلى غير ذلك من الموضوعات، والواجب عليها الالتزام بالقيم والآداب والقوانين التى تضمن لها عدم الانحراف، وتضمن نجاحها فى رسالتها، ومن ذلك:
1 -التزام الصدق فى نقل الأخبار، بالتحرى عنها والتثبت منها، وعدم التعجل فى النشر للفوز بالسبق الصحفى، وأدلة ذلك مذكورة فى موضوع الإِشاعة.
2 - نشر المعلومات المفيدة التى تحكمها القيم الدينية والقوانين الصحيحة، والبعد عن ترويج الأفكار الشاذة والمنحرفة.
3-الحيدة فى التعليق ونقد الآراء وعدم التحيز والتعصب والخروج بذلك عن حدود الآداب.
4 - البعد عن نقد الثوابت من قواعد الدين، لأن ذلك يؤدى إلى رفضها وبلبلة الأفكار حولها، والنصوص فى ذلك كثيرة.
5 -إذا كانت القوانين تحمى حرية الرأى والصحافة فليس معنى ذلك أنها حرية مطلقة، ولكن هى مقيدة بقيود الثوابت من شعائر الدين والأخلاق والأعراف الصحيحة.
6 - الرقابة الشديدة على الصحافة ووسائل الإعلام لضمان عدم انحرافها، ووضع العقوبات الرادعة على المخالفات، وبخاصة على الإِشاعات والأخبار الخطيرة فى الحرب والسياسة مثلا.
7 - العناية الشديدة بالناحية الدينية تحريرا ونشرا ورقابة وجزاء، فللدين أثره الذى لا ينافس فى تصحيح الفكر وتقويم السلوك.
وعلى من يقرؤون الصحف ألا يسارعوا فى تصديق أخبارها الفردية التى لم تصدر عن جهة موثوق بها، والمبادرة بالرد على الأكاذيب من الأخبار والأفكار، ولا أقول بمقاطعتها تماما، فلا غنى عنها. وبالجملة فإن رسالة الصحافة والإِذاعة ووسائل الإِعلام الأخرى تقوم على أمور أربعة أساسية: نظافة النشر، ويقظة التلقى، وصدق الرقابة، وعدالة الجزاء.
وهى كلها متضامنة فى تحقيق رسالتها، والتقصير فى واحد منها يؤدى إلى انحرافها الذى يجرف أمامه المتهم والبرىء {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} الأنفال:25(10/326)
علاج المعاصى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نفسى تغلبنى كثيرا فارتكب المعصية ولا أقدر على منع نفسى منها، فهل من علاج لهذا المرض؟
الجواب
معروف أن الإنسان ليس عقلا فقط ولكنه عقل وروح وغرائز وشهوات، العقل يشده إلى العالم العلوى، عالم الطهر والكمال.
والغرائز تشده إلى العالم السفلى عالم الشهوات الذى تعيش فيه الحيوانات، والمعركة مستمرة بين القوتين، وبقدر انتصار إحداهما يكون الحكم على الإِنسان وتقديره، ومن رحمة الله تعالى به ساعده فى هذه المعركة لتتحقق كرامته، وذلك بإمداده بالوحى الذى تنزلت به الرسل، وبقدر تقبله لهذا المدد الإلهى يكون انتصاره، قال تعالى لآدم حين أهبطه من الجنة إلى الأرض {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا. ونحشره يوم القيامة أعمى} طه:
123، 124 وهذا القرار الحكيم ليس لشخص آدم فقط، بل له ولذريته من بعده إلى نهاية الدنيا، ولذلك جاء بعده قوله تعالى {وكذلك نجزى من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} طه: 127.
ومن رحمته أيضا بالإِنسان لم يكتب عليه الطرد من رحمته إلى الأبد لهزيمته فى معركة من المعارك، فالشيطان الذى حقت عليه اللعنة إلى يوم الدين بأول مخالفة عصى فيها ربه، أقسم ألا يترك بنى آدم ينعمون برحمة الله، فهو يعمل ليل نهار وبكل وسيلة لإغوائهم كما قال تعالى {قال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} الأعراف: 16، 17.
ولكن فتح باب الأمل لمن هزم فى معركة من المعارك المستمرة التى حشد فيها الشيطان جنوده من ذريته وممن حالفوه من الأعوان كالنفس بغرائزها والشهوات بقوتها، فأعذره إذا رجع إلى ربه، نادما على ضعفه وهزيمته، مادًا إليه يده طالبا المعونة منه، بل حثه على معاودة الجهاد وأمره بالتوبة ووعده إن أخلص فيها بالمغفرة والقبول، كما فعل بأبيه آدم {وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} طه: 121، 122 ذلك أن كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، كما قال صلى الله عليه وسلم.
من هنا نعلم أن علاج المعصية هو التوبة النصوح الصادقة، والأمل فى النصر بعد الهزيمة، ويساعد على ذلك دوام ذكر الله والإِيمان بأنه رقيب مطلع على السر والنجوى، فذلك يقويه على البعد عن المعصية إن سولت له بها نفسه، وعلى الرجوع إلى الله إن تورط فيها {قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم. وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} الزمر: 53، 54. ويعجبنى فى هذا المقام ما قرأته نقلا عن بعض الكتب القديمة أن رجلا قال لطبيب: أعندك دواء لداء الذنوب؟ فقال: نعم، قال وما هو؟ قال: خذ عروق الفقر، وزنجبيل الصبر، واخلطهما بسفوف الذكر، وامزجهما برقائق الفكر، واجعل معه إهليلج التواضع والخشوع، ودقه فى مهراس التوبة والخضوع، ولتَّه بماء الدموع وضعه فى طنجير التذلل، وأوقد تحته نار التوكل، وحرِّكه بملعقة الاستغفار، حتى يزبد زبد التوفيق والوقار، ثم اجعله فى آنية المحبة، وبرِّده بمروحة المودة، وصفِّه بمصفى الأحزان، وصب عليه عصير الأجفان، واجعل معه حقيقة الإِيمان، وامزجه بخوف الرحمن، وتغَذَّ قبل شربه بمر الصيام، ودم على هذا ما عشت من الأيام، وإياك أيها العليل أن تقرب فى أيام دوائك شيئا من الآثام، فإنها تجر عليك ما رجوت برأه من الأسقام، وتجنب فى دوائك العجب والرياء، والبس لباس الحياء، وشد على وسطك منطقة الصدق والوفاء، وإياك أن تدخل بيتك إلا من باب التوبة والصفاء، فإذا دمت على هذا الدواء صفا قلبك بين القلوب، وزالت عنك أوجاع الذنوب " قطوف لعلى الجندى -منبر الإِسلام عدد جمادى الآخرة سنة 1390 هـ "(10/327)
الحكمة والدبلوماسية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ذكرت كلمة الحكمة فى القرآن كثيرا، وقال بعض المعاصرين إنها تلتقى مع الدبلوماسية المعروفة الآن. فهل هذا صحيح؟
الجواب
الحكمة المذكورة فى القرآن لها عدة معان، تختلف بحسب المواضع العشرين التى ذكرت فيها، يقول الراغب الأصفهانى " 502هـ " فى مفرداته: الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات، وهذا هو الذى وصف به لقمان فى قوله عز وجل {ولقد آتينا لقمان الحكمة} لقمان: 12، ونبه على جملتها بما وصفه بها، فإذا قيل فى الله تعالى: هو حكيم، فمعناه بخلاف معناه إذا وصف به غيره. ومن هذا الوجه قال الله تعالى {أليس الله بأحكم الحاكمين} التين: 8 وإذا وصف به القرآن فلتضمنه الحكمة نحو {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} يونس: 1 وعلى ذلك قال تعالى {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر. حكمة بالغة} القمر: 4، 5.
ثم ذكر النسبة بين الحكم والحكمة، بأن الحكم أعم، فكل حكمة حكم وليس كل حكم حكمة، وجاء فى التفاسير أقوال كثيرة فى معنى الحكمة، ولا شك أن من معانيها وضع الشىء فى موضعه، فهى فى الرأى سداد، وفى القول صواب، وفى الفعل استقامة والشخص الذى عنده هذه المعانى يكون موفقا وسعيدا فى دنياه وأخراه كما قال تعالى {يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} البقرة: 219 ومنهم الأنبياء ومن على شاكلتهم.
وقد تلتقى مع الدبلوماسية فى هذا المعنى، وإن كانت مقاييس الدبلوماسية غير مقاييس الدين، ولعل من تقارب معناهما قوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن} النحل: 125 ومقومات الحكمة فى الدعوة مبسوطة فى كتابنا " الدين العالمى ومنهج الدعوة إليه " وكتابنا " الدعوة الإِسلامية دعوة عالمية ".
ولتمام التوضيح للعلاقة بين الحكمة والدبلوماسية ألخص هنا كلمة عنها للسيد / على سلطان سفير قطر فى القاهرة نشرت بجريدة البلاغ الكويتية فى 4 / 8 / 1974 جاء فيها: أن الدبلوماسية لفظ مشتق من اللفظ اليونانى " دبلوما" أى الوثيقة أو الشهادة التى تطوى على نفسها، والتى كانت تصدر عن الشخص الذى بيده السلطة العليا فى البلاد، وتخوِّل حاملها امتيازات خاصة.
ولم تدخل هذه اللفظة فى المعجم الدولى إلا منذ أواسط القرن السابع عشر، عندما حلت محل لفظة " المفاوضة " وتطور مدلولها مع الزمن وأصبح يشير إلى معان مختلفة:
1 -إما للدلالة على النهج السياسى فى زمن معين، فيقال مثلا:
تطورت الدبلوماسية العربية فى القرن الحالى، وصارت غير ما كانت عليه فى القرن الماضى.
2 -وإما للدلالة على اللباقة التى يتحلى بها شخص ما بالنسبة إلى علاقاته مع الغير، فيقال مثلا: فلان عنده دبلوماسية رفيعة.
3 -وإما للدلالة على المفاوضات وما يتبعها من مراسم، فيقال:
هذه المعضلة تحتاج إلى حل دبلوماسى.
4 - وإما للدلالة على مهنة السياسى الذى يقوم -على حد تعبير الأستاذ أرنست ساتو- بمهمة التوفيق بين مصالح بلاده ومصالح البلاد المعتمد لديها، وهذا المعنى هو السائد الآن.
والدبلوماسية تحتاج إلى استخدام الذكاء واللباقة فى إدارة دفة العلاقات الرسمية بين حكومات الدول المستقلة، ولذلك ينصحون الدبلوماسى بأن يكون قليل الكلام كثير الإِصغاء، حتى إذا اضطر إلى التعليق أو الإِجابة كان رأيه سديدا، لأنه بعد تفكير عميق. لقد كان "ميترنيخ " يتقن سبع لغات، ومع هذا فقد قيل عنه: إنه يتقن الصمت فى اللغات السبع.
وعند التفاوض يعرض الموضوع تدريجيا، ويقف عند الحد الذى يعرف فيه استعداد محدِّثه ودرجة قبوله لما يعرضه، وعندئذ يغير مجرى الحديث بالنسبة لما شاهده على وجه محدثه من استحسان أو استهجان. ومن المهم أن يعرض المفاوض أفكاره على مراحل، بحيث يجزئ الصعوبة ويحصل على موافقة الطرف الآخر على مختلف الأجزاء تباعا.
ومن المتعارف عليه فى لغات الدبلوماسيين: إذا قال الدبلوماسى: نعم، يعنى بذلك ربما، وإذا قال: ربما يعنى بذلك: كلا، وإذا قال: كلا يكون قد تخلى عن اللغة الدبلوماسية.
قال أحد الظرفاء: اكتشفت فن خداع الدبلوماسيين، ذلك أننى أتكلم الصدق، ومع ذلك أراهم لا يثقون فى قولى، وقال آخر:
الدبلوماسى هو الرجل الذى يفطن لعيد ميلاد السيدة ولكنه ينسى السن الذى بلغته.
هذا، ومظاهر الدبلوماسية فى الإِسلام التى تلتقى مع الحكمة فى مفهومها كثيرة، وميادينها متعددة، فهى تكون مع الرجل في بيته ومعه فى جيرانه ومعه فى أصدقائه، ومعه فى رؤسائه، ومعه فى المجتمع كله وتكون على المستوى الفردى والجماعى والدولى، وتوضيح ذلك يطول، ويمكن الرجوع إليه فى معالجة كل موضوع على حدة.
وبخاصة موضوع المداراة والكنية والتعريض(10/328)
لا سِيَّما
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يخطئ كثير من المتحدثين فى شكل الكلمة التى تلى تعبير "لاسيما" فهل من توضيح للنطق الصحيح؟
الجواب
معلوم أن القرآن الكريم نزل باللغة العربية، والحديث النبوى نقل إلينا باللغة العربية، واستنباط الأحكام الشرعية منهما لابد فيه من معرفة اللغة العربية نحوًا وصرفا، وبلاغة، فقد يكون الحكم صحيحا فى رفع آخر الكلمة، وخطأ فى نصبه أو جره، بل قد يؤدى الخطأ فى الإعراب إلى الكفر، كما قرأ بعض المسلمين " أن الله برىء من المشركين ورسوله " بجر اللام من " رسوله " والصواب رفعها، فالمعنى على الجر أن الله برىء من الرسول كما أنه برىء من المشركين، واعتقاد ذلك كفر.
والمعنى على الرفع أن الرسول برىء من المشركين كما أن الله برىء منهم، وهذا صحيح.
ومن أجل خطورة اللحن فى القرآن أشار علىّ رضى الله عنه على أبى الأسود الدؤلى بوضع قواعد علم النحو.
وأصبح تعلم النحو واجبًا لصحة القراءة وصواب استنباط الحكم والحماية من الخطأ.
وعبارة " لا سيما" قال العلماء فى إعرابها: "لا" نافية للجنس، و "سِىَّ" تشبه كلمة "مثل" وزنا ومعنى، وهى اسم "لا" وخبرها محذوف وجوبا، ويقدر بكلمة "ثابت" ومعنى "لا سيما" لا يوجد مثيل لما يأتى بعدها.
وأصل " سِىَّ" سِوْىْ، قلبت الواو ياء، لاجتماعها مع الياء وسبق إحداهما بالسكون، وأدغمت فى الياء.
ويجوز فى الإِسم الواقع بعد "ما" من عبارة "لا سيما" الجر والرفع مطلقا، والنصب إن كان نكرة. وقد روى بالأوجه الثلاثة قول امرئ القيس:
ألا رب يوم صالح لك منهما * ولا سيما يوم بدارة جلجل والجر أرجحها، وهو إضافة " سىَّ" إليه و "ما" زائدة بينهما، مثلها فى قوله تعالى {أيما الأجلين} القصص: 28.
وأما الرفع فهو على أنه خبر لمبتدأ محذوف و "ما" موصولة، أى اسم موصول، والجملة بعدها صلة للموصول لا محل لها من الإعراب أو تكون "ما" نكرة موصوفة بالجملة بعدها فهى فى محل جر، والتقدير ولا مثل شىء هو رفيقه و "سىَّ" مضاف، و"ما" مضاف إليه، فعلى كل من وجهى الجر والرفع تكون فتحة " سىَّ " فتحة إعراب، لأن اسم "لا" النافية للجنس إذا كان مضافا يكون منصوبا.
وأما نصب النكرة بعدها فعلى التمييز، و "ما" كافة عن الإِضافة والفتحة فتحة بناء، مثلها فى "لا رجل" والمعرفة لا يجوز نصبها عند الجمهور، وجوز بعضهم نصبها، بجعل "ما" كافة، و"لا سيما" بمنزلة "إلا" الاستثنائية، فما بعدها منصوب على الاستثناء، كما جاء فى حواشى الأشمونى:
وما يلى "لا سيما إن نكرا * فاجرر أو ارفع ثم نصبه اذكرا فى الجر "ما" زيدت وفى رفع ألف * وصْلٌ لهما وتنكيرٌ وصف وعند رفع مبتدا قدِّر وفى * رفع وجر أعربن "سى" تفى وانصب مميزا وقل "لا سيما * يوم" بأحوال ثلاث فاعلما والنصب إن يعرف اسم فامنعا * وبعد "سىِّ" جملة فوقعا أجاز ذا الرَّضى ولا تحذف "لا" * من "سيما" و"سى" خفف تفضلا وامنع على الصحيح الاستثنا بها * ثم الصلاة للنبى ذى البها " حاشية الصاوى على شرح الدردير للخريدة ".
أنا أعلم أن هناك صعوبة -عند البعض- فى فهم هذا الكلام، وبخاصة الشعر، فليكن رياضة ذهنية لمن يهتمون بذلك، أما غيرهم فيكفى أن يعرفوا أن الاسم الذى يأتى بعد "لا سيما" يجوز رفعه وجره مطلقا، أى إن كان نكرة أو معرفة، أما نصبه فلا يجوز إلا إذا كان نكرة. فإذا قلت: أنا أحب الطلاب ولا سيما المجتهد، جاز لك الرفع والجر فقط، وإذا قلت: أنا أحب الطلاب ولا سيما مجتهد، جاز لك الرفع والجر والنصب أيضًا(10/329)
حكم التحية بالسلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب على الإنسان إذا مر على غيره أن يلقى عليه السلام، وهل يجب على هذا الغير أن يرد عليه السلام، وما جزاء التقصير فى ذلك؟
الجواب
يقول الله سبحانه {فإذا دخلتم بيوتا فسلِّموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} النور: 61 ويقول {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلِّموا على أهلها} النور: 27 ويقول {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} النساء: 86 ويقول {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام} الذاريات: 24، 25.
1 -التحية بين الناس تقليد قديم ولهم فيها طقوس مختلفة يمكن الرجوع لمعرفة بعضها فى الجزء الثانى من موسوعة الأسرة. والتحية بصيغة السلام قديمة جدا، شرعها الله لأبينا آدم عليه السلام كما يدل عليه حديث البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "خلق الله عز وجل آدم على صورته، طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال:
اذهب فسلِّم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا:
السلام عليك ورحمة الله، فزادوا: ورحمة الله " والآيات تدل على أن السلام تحية أهل الجنة فيما بينهم، وتحية الملائكة لهم.
والآية الرابعة تدل على أن الملائكة سلمت على سيدنا إبراهيم عليه السلام، فرد عليهم السلام، والآية الأولى تدل على مشروعية التحية بالسلام فى شريعة الإِسلام، وأنها مأمور بها، والآية الثانية تنهى عن التهاون فيها، والآية الثالثة تأمر برد التحية على من يبدأ بها، وتحث على أن يكون الرد أحسن من البدء.
2 -ولا يشك عاقل فى أن التحية بالسلام من عوامل التآلف بين الناس، وإشاعة الأمن والمحبة فيما بينهم، ولذلك اختارها الله سبحانه لتكون تحية أهل الجنة بعضهم مع بعض وتحية الملائكة لهم، بعد تحية الله لهم عند دخولها، قال تعالى {تحيتهم يوم يلقونه سلام} الأحزاب:
44 وقال {ادخلوها بسلام آمنين} الحجر: 46 وقال {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} الرعد: 23، 24 وقال {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام} يونس: 10.
ولذلك حث عليها النبى صلى الله عليه وسلم فى أكثر من حديث، منها "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" رواه مسلم.
[" لا تؤمنوا " بحذف النون لغة صحيحة معروفة، أو مشاكلة للفعل المنصوب قبلها، كما فى شرح ابن علان لأذكار النووى] وروى البخارى ومسلم أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم: أي الإِسلام خير؟ فقال "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ".
3-والصيغة المشروعة للتحية هى فى الحد الأدنى أن يقول المبتدئ السلام عليك، ويسن أن يزيد: ورحمة الله وبركاته، وأن يكون بصيغة الجمع لقوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} وثواب الحد الأدنى عشر حسنات وكل زيادة بعشر. كما فى حديث رواه أبو داود والترمذى بإسناد حسن ويكره أن يقول المبتدئ: عليك السلام، فإنها تحية الموتى كما ورد فى حديث صحيح رواه الترمذى. وللفقهاء تفريعات يرجع إليها فى أذكار النووى.
4 - وإذا كانت التحية مشروعة ومأمورا بها، فما هى درجة الأمر، هل الوجوب أو الندب؟ قال العلماء: الابتداء مندوب يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه، والإجابة واجبة يثاب المرء على فعلها ويعاقب على تركها.
وإذا كان البادئ بالسلام جماعة كانت السنة على الكفاية، يكفى تسليم واحد منهم، والأفضل أن يسلموا جميعا، وأما رد السلام من الجماعة فيكون واجبا على الكفاية أى يكفى أن يرد واحد منهم، والأفضل أن يردوا جميعا، وإن تركوه جميعا أثموا. والدليل على ذلك حديث رواه أبو داود "يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم" وقد مر فى ص 653 من المجلد الثانى حكم التحية بالمراسلة أو الإِذاعة. كما مر فى ص 657 حكم الاكتفاء فى التحية بالإِشارة باليد، وروى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا جبريل يقرأ عليك السلام" قالت: قلت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته.
5 - وإذا كانت تحية السلام مشروعه فهناك أحوال استثنائية لا تشرع فيها، منها:
1 -إذا كان المسلَّم عليه مشغولا بالبول أو موجودا فى حمام فيكره إلقاء السلام عليه، ولا يستحق جوابا إن سلَّم، بل يكره.
2 -من كان نائما أو ناعسا لا يلقى عليه السلام.
3- وكذلك من كان مصليا أو مؤذنا فى حال الصلاة والأذان ويحرم على المصلى أن يرد بصيغة المخاطب "عليكم" وتبطل صلاته، ولا تبطل إن كان الرد بصيغة الغائب "وعليه" ويستحب الرد بالإِشارة لا بالكلام، وإن رد بعد الصلاة فلا بأس، ولا يكره للمؤذن أن يرد، لأنه شىء يسير لا يبطل الأذان ولا يخل به.
4 -إذا كان المسلَّم عليه يأكل واللقمة فى فمه. لا يسلَّم عليه ولا يستحق جوابا والرد مندوب أما إذا كان على الأكل وليست اللقمة فى فمه فلا بأس بالسلام عليه ويجب الجواب وكذلك فى حال المبايعة وسائر المعاملات يندب السلام وتجب الإجابة.
5 -السلام على من يستمعون خطبة الجمعة مكروه، لأنهم مأمورون بالإِنصات، فإن خالف وسلَّم لا يجب الرد، وعلى رأى من يقول:
إن الإِنصات سنة يرد عليه واحد فقط من الحاضرين.
6 - والمشتغل بقراءة القرآن يكره السلام عليه، فإن سلَّم فالراجح وجوب الرد، ثم استئناف القراءة، ولا يكتفى بالرد بالإِشارة كما قال البعض. ومثل قارئ القرآن المشتغل بالدعاء والاستغراق فيه، فيكره السلام عليه، كما يكره السلام على المشتغل بالتلبية فى الإِحرام.
7 - المرأة الأجنبية إن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لا يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، وهى لا تسلم عليه ابتداء، وإن سلمت لم تستحق جوابا، فإن أجابها كره له ذلك. وإن كانت عجوزا لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرجل، وعلى الرجل رد السلام عليها، وإذا كانت النساء جمعا فيسلم عليهن الرجل، أو كان الرجال جمعا كثيرا فسلموا على المرأة الواحدة جاز إذا لم يخف عليه ولا عليهن ولا عليها أو عليهم فتنة، وقد مر ذلك فى صفحة 363 من المجلد الثالث.
8-الفاسق بارتكاب منكر ولم يتب لا يسلَّم عليه ولا يرد عليه السلام، وقد مر ذلك.
9- غير المسلم لا يسلم عليه تحريما أو كراهة، وقد مر الكلام فى ذلك أيضًا.
وقد جمع بعض الشعراء الحالات المستثناة من السلام فى قوله:
رد السلام واجب إلا على * مَنْ بصلاة أو بأكل شغلا أو شرب وقراءة أو أدعية * أو ذكر، وفى خطبة أو تلبية أو فى قضاء حاجة الإنسان * أو فى إقامة أو الأذان أو سلَّم الطفل أو السكران * أو شابة يخثسى بها افتتان أو فاسق أو ناعس أو نائم * أو حالة الجماع أو تحاكم أو كان فى حمام أو مجنونا * فواحد من بعده عشرونا هذا، ويستحب للإِنسان إذا دخل بيته أن يسلم وإن لم يكن فيه أحد، وليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، وذلك للآيتين الأوليين المذكورتين فى أول الإجابة، وللحديث الحسن الصحيح الذى رواه الترمذى عن أنس قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلِّم تكن بركة عليك وعلى أهل بيتك ".
ومن أراد الاستزادة فى موضوع السلام فليرجع إلى "الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار" للإِمام النووى(10/330)
الوقت من ذهب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ظهرت ابتكارات حديثة لقتل الوقت وإلهاء الشباب عن العمل الجاد، فما موقف الدين من ذلك؟
الجواب
لا بد للإِجابة على ذلك من بيان قيمة الوقت فى نظر الإِسلام، ملخصا من كتابى "توجيهات دينية اجتماعية": إن الوقت هو الظرف الزمنى الذى يؤدى فيه الإِنسان نشاطه الذى يفيد منه فى حياته الدنيوية والأخروية، فضياع أى جزء منه خسارة كبيرة، ويندم يوم القيامة على التفريط فيه، كما قال تعالى فى أهل النار {ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل أوَلم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} فاطر: 37.
والزمن وهو أثر من أثار دورات الفلك لا يقع تحت إرادة الإِنسان، وهو إذا مضى لا يعود. كما يقول الحسن البصرى: ما من يوم ينبثق فجره إلا نادى مناد من قِبل الحق: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد: فتزود منى بعمل صالح فإنى لا أعود إلى يوم القيامة.
والعمر وهو رأس مال العبد الذى ينفق منه مهما كثر فهو قليل، ومهما طال فهو قصير، والآمال تخترمها الآجال، ومن هنا حث الإِسلام على المبادرة بالعمل الصالح وعدم ضياع أية لحظة من لحظات العمر فى غير ما يفيد، ومن مظاهر هذا ما جاء فى حديث البخارى "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ" وما جاء فى حديث حسن صحيح رواه الترمذى والبيهقى "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه" وما جاء فى حديث ابن أبي الدنيا بإسناد حسن "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " وما جاء فى خطبة أبى بكر الصديق رضي الله عنه: إنكم تغدون وتروحون فى أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضى الآجال وأنتم فى عمل الله -ولا تستطيعون ذلك إلا بالله- فسابقوا فى مهل بأعمالكم قبل أن تنقضى آجالكم فتردكم إلى سوء أعمالكم، فالوحا الوحا، النجاء النجاء، فإن وراءكم طالبا حثيثا أمره، سريعا سيره. وما قاله بعض البلغاء: من أمضى يومه فى غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثَّله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه.
وما قاله الإمام الشافعى، وهو النموذج الصالح لطلب العلم:
سهرى لتنقيح العلوم ألَذُّ لى * من وصل غانية وطيب عناق وتمايلى طربا لحل عويصة * أشهى وأعظم من مدامة ساق وألذ من نقر الفتاة لدفها * نقرى لألقى الرمل عن أوراقى وصرير أقلامى على صفحاتها * أبهى من الدوكاء والعشاق أأبيت سهران الدجى وتبيته * نوما وتبغى بعد ذاك لحاقى؟ وما قاله عمر بن الخطاب وهو نموذج صالح لكل العاملين والمسئولين، حين جاء معاوية بن خديج يبشره بفتح الإِسكندرية فوصل المدينة وقت القيلولة فظن أنه نائم يستريح ثم علم أنه لا ينام فى ذلك الوقت: ... لئن نمت النهار لأضيعن حق الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن حق الله، فكيف بالنوم بين هذين الحقَّين يا معاوية؟ بعد هذه السطور القليلة في بيان قيمة الوقت وخطورة التفريط فى استغلاله فى الخير نعلم أن الإِفراط فى اللهو بكل الوسائل الحديثة غير مشروع، وهو حرام إن ضيَّع واجبا لله أو للأسرة أو للنفس أو للمجتمع، وحرام إن كان على قمار ومراهنة، وحرام إن ترتب عليه ضرر دينى أو صحى أو اقتصادى، والنصوص فى ذلك كثيرة، ويمكن الرجوع إليها عند الإجابة على أحكام أدوات اللعب "ص 209 من المجلد الثالث من هذه الفتاوى" والرياضة البدنية "ص 196 من المجلد الثالث" والتليفزيون "ص 212 من المجلد الثالث" والموسيقى والغناء "ص 238 من المجلد الأول" وأجهزة الفيديو "ص 412 من المجلد الثانى"(10/331)
التجسس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول الله تعالى {ولا تجسسوا} فكيف نوفق بين النهى عن التجسس وما فعله النبى صلى الله عليه وسلم من إرسال من يتجسس على العدو لمعرفة أخباره؟ وما هو عقاب الجاسوس؟
الجواب
التجسس مأخوذ من الجس، وهو فى الأصل مَسُّ العرق وتعرُّف نبضه للحكم به على الصحة والسقم، كما فى مفردات الأصفهانى، ومنه اشتق الجاسوس، فالتجسس محاولة العلم بالشىء بطريقة سرية لا يفطن لها، أو البحث عما يكتم من الأمور، وقيل: هو والتحسس - بالحاء- بمعنى واحد، وقيل: إن الثانى هو طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل: هو تطلبها لنفسه، أما التجسس فهو طلبها لغيره، وقيل غير ذلك.
والتجسس على المسلم منهى عنه لأن فيه كشفا للعورات، ولذلك أجاز النبى صلى الله عليه وسلم أن تفقأ عين من نظر إلى بيت غيره من نافذة أو غيرها ليتعرف ما بداخله بغير إذنهم كما رواه البخارى ومسلم. وقال "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإِيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" رواه أبو داود بإسناد حسن وقال "من استمع خبر قوم وهم له كارهون صُبَّ له في أذنه الآنك يوم القيامة" رواه البخاري، والآنك هو الرصاص المذاب وقد أجازه بعض العلماء إذا كان فيه مصلحة مع جريمة ستقع، وهو أليق بالمسئولين عن الأمن إذا كانت الجريمة فيها ضرر لغير من يرتكبها، أما لو استتر بها وضررها يعود عليه فقط فلا يجوز التجسس، وحملت عليه بعض أحداث في أيام عمر رضي الله عنه ذكرها القرطبي في تفسيره "16 ص 333". أما التجسس على العدو للحذر منه والاستعداد لمقاومته فمشروع، روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بَسْبَسة بن عمرو الأنصاري عينا لتقصي أنباء عير أبي سفيان فى غزوة بدر، وقد ذهب صلى الله عليه وسلم بنفسه ومعه أبو بكر إلى بدر وقابلا رجلا وسألاه عن أخبار قريش وعرفا منه مكانهم، ولما كان الرجل قد شرط عليهما أن يعرف من هما قال النبي صلى الله عليه وسلم أخيرا "نحن من ماء" ثم انصرفا عنه، وحار الرجل في معرفة هذا النسب، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد أنهما خلقا من ماء. كما بعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص مع جماعة إلى بدر لهذا الغرض، وقبل خروجه إلى بدر أرسل طلحة بن عبيد الله وآخر لذلك، وكانت سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة -بين مكة والطائف- فى رجب من السنة الثانية للهجرة لاستطلاع أخبار قريش، وفي سنة أربع أو خمس من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بريدة بن الخصيب الأسلمي ليعرف أخبار بني المصطلق عند ماء يسمى "المريسيع".
وإذا كان التجسس على العدو مشروعًا، فإن التجسس له ونقل أخبار المسلمين إليه محظور، وحادث حاطب بن أبي بلتعة معروف، حيث أرسل خطابا إلى أهل مكة يخبرهم فيه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغزوهم وأعطاه لامرأة لحق بها في الطريق فأخذه منها من أرسلهم الرسول لذلك، وكان ضبطه في مكان يسمى "روضة خاخ " ولما سئل حاطب عن ذلك لم يكذب وأقر بأنه لم يفعله كفرا ولا رِدة، ولكن لمصلحة شخصية له، ولما أراد عمر قتله قال له الرسول عليه الصلاة والسلام "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ونزل في ذلك أول سورة الممتحنة.
الخبر طويل في كتب السيرة والتفسير مروى بطريق صحيح وجاء فى بعض رواياته أن الرسول أمر بضرب عنق المرأة حاملة الكتاب إن لم تدفعه لهم.
وهنا تحدث الفقهاء عن عقوبة الجاسوس، فقالوا: إن كان كافرا يقتل، في حال الحرب، وكذلك في حال السلم إن كان هناك عهد لأنه نقض للعهد، وإن كان مسلما أو ذميًّا يعاقبان تعزيرًا، إلا إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان. وقال مالك بقتله مطلقا لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض، وهو حد الحرابة "تفسير القرطبي "ج 18 ص 50 - 53 ".
وجاء فى زاد المعاد لابن القيم "ج 2 ص 170" تعليقا على ذلك قوله: فيه جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلما، والعفو عن حاطب لأن الله قد غفر لأهل بدر وهو منهم، فمن لم يكن كذلك جاز قتله، وهو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعى وأبو حنيفة لا يقتل، وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجان بقصة حاطب. والصحيح أن قتله راجع إلى رأى الإمام فإن رأى فى قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان بقاؤه أصلح استبقاه اهـ.
وهو رأى معقول يرجع فيه لتقدير المسئولين ومصلحة الأمة، وقتله إما حد وإما تعزير، وآية المحاربة والإفساد في الأرض فيها متسع للآراء.
هذا، ورجال المباحث والمخابرات المكلفون بالبحث عن المجرمين، وتتبع أخبار المتهمين أو المشبوهين تتحكم في الحكم عليهم نياتهم فالأعمال بالنيات، كما يتحكم فيه التزام الحق والعدل، والبعد عن الشبهات والإغراءات، والعلم بأن الله رقيب حسيب، وأن الآخرة خير وأبقى.
تنبيه: الطابور الخامس:
أول ما نشأ هذا التعبير أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي نشبت عام 1936 م واستمر ثلاث سنوات، وأول من أطلقه الجنرال الإسباني "كوبيو دنيلانو" وكان أحد قوات الثوار، وكان يتحدث عن قواته الزاحفة على مدريد، وكانت تتألف من أربعة طوابير من الثوار. ثم قال: إن هناك طابورًا خامسًا يعمل مع الثوار في قلب مدريد، ويقصد به مؤيدي الثورة من أهالى مدريد.
ثم أصبح هذا الوصف شائعا فى الجاسوسية وعمليات التخريب التى تتم داخل البلد بوساطة أعوان أعدائها، وزاد انتشاره بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1939 م واعتمد هتلر على كثير من الجواسيس داخل البلاد التى يحاربها، ثم استعمل "الطابور الخامس" لمروجى الإِشاعات ومنظمى الحروب النفسية، "اليقظة 9 / 15 / 1978". هذا، وقد ألف "كرايم كانت" كتابا فى الجاسوسية جاء فيه أنها فَنٌّ قديم معناه:
فن الحصول على معلومات من الأعداء بأسلوب سرى للاستفادة منها فى الحروب، وقد استخدمها المصريون حوالى سنة 3600 قبل الميلاد على يد القائد "ثيوت" وجاء فى التوراة أن موسى عليه السلام أرسل جواسيس إلى أرض كنعان، عاد منهم اثنان بمعلومات رفضها الإِسرائيليون فعاقبهم الله بالتيه أربعين عاما. لعل مما يشير إلى ذلك قولهم {إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} المائدة: 22 واستغلها اليونان وأشهر أساطيرهم فيها " حصان طروادة" ثم تطورت وتبادلت الدول السفراء - فهم إلى جانب سفارتهم جواسيس لدولهم، واعتمد عليهم يوليوس قيصر سنة 55 ق. م فى غزواته.
وفى العصور الوسطى كانت هناك جواسيس، وذكر من أشهرهم فى إنجلترا فى عهد إدوارد الأول "السير توماس توبر فيل" الذى أعدم لتجسسه عليها بعد أن تجسس لها ضد فرنسا. وتميزت العصور الوسطى بوجود جهازين، أحدهما للتجسس والثانى لمكافحته.
وأول بوليس سرى كان فى عهد الملكة الإنجليزية إليزابيث الأولى.
بفضل "فرنسيس والسينغهام" الذى كان يستخدم الشفرة فى تجسسه(10/332)
رعاية الشباب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يوجد اهتمام كبير فى بعض البلاد برعاية الشباب، وتنازعت عدة جهات هذه المهمة، ولكل منها برنامج، والواقع يشهد أن الجهود المبذولة لم تحقق الغرض المرجو منها، فهل فى الإسلام ما يعالج هذه القضية؟
الجواب
من المعلوم أن الإِسلام بما جاء به من قرآن وحديث يحقق الهدف الذى نص عليه فى عدة مواضع، وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، وهذه الهداية شاملة لكل الأنشطة التى تحقق السعادة فى الدارين، وكاملة لا تحتاج إلى إضافات لأصولها التى تتحقق بها صلاحيتها لكل زمان ومكان. ولبيان منهج الإِسلام فى رعاية الشباب لابد من معرفة أن الشباب -سواء أكان هذا اللفظ جمعا لمفرد هو شاب، أم مصدر الفعل شبَّيتصل بمرحلة من عمر الإنسان هى الحد المتوسط بين الطفولة الضعيفة الساذجة والشيخوخة المتميزة بخصائصها التى تشبه إلى حد كبير مرحلة الطفولة عند الكثيرين.
ومرحلة الشباب تتميز بالتفتح الذهنى والقوه البدنية وخصب العاطفة، والأمل الواسع والحرص الشديد على الأخذ من كل ألوان الحياة بأكبر نصيب. والشباب بهذه الميزات قوة لا تعد لها قوة فى إخصاب الحياة ونموها إذا أحسن استغلاله، والشبان فى كل العصور والبيئات موضع الفخر والاعتزاز للأفراد والجماعات.
ومن هنا كان من أوجب الواجبات أن يستغل استغلالا طيبا، فتنبه العقلاء إلى ذلك وجاءت الأديان مشجعة على الإفادة من هذه القوة الكبيرة، وكان للإسلام القدح المعلَّى فى هذا الميدان، ووضعت كتب فى التربية من أجل ذلك، ويهمنا أن نبين القواعد الأساسية لهذه التربية مختصره من كتابى "تربية الأولاد فى الإسلام" ضمن الموسوعة الكبرى للأسرة، وهى أربعة: التكامل، العناية بالعقل والخلق، التبكير بها، والتعاون عليها.
1 - لابد أن تكون تربية الشباب أو رعايتهم شاملة للجسم والعقل والخلق والروح، فهى كلها متضامنة فى تحديد معالم الشخصية للشباب وتوجيه السلوك. وفى الحديث " إن لربك عليك حقا ولبدنك عليك حقا" والذى يرجع إلى موضوع الرياضة فى الإسلام يتبين له ذلك بوضوح، وخير نموذج لتكامل الرعاية وصية لقمان لابنه التى سجلها القرآن الكريم، فهى شاملة للعقيدة التى لا تشرك مع الله شيئا، وبر الوالدين كرمز لشكر المنعم، ورقابة الله الذى يعلم السر وأخفى، وتوثيق العلاقة بالله عن طريق الصلاة، وكذلك العلاقة بين الناس بنشر العلم، مع التذرع بالصبر فى مجال الكفاح، والمعاملة بالتواضع ولين الجانب والأدب والحياء والسكينة والوقار [سورة لقمان: 13- 19] .
2 -يجب أن تحظى الرعاية العقلية والخلقية والروحية بقدر كبير من العناية، لأنها ستجر إلى الرعاية البدنية، وهى صمام أمن يقى الشباب المخاطر، ونور كاشف يضىء له الطريق، وفى الحديث الذى رواه الترمذى "ما نحل والد ولده من نحل أفضل من أدب حسن" والشاب المستقيم فى ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله كما فى حديث البخارى ومسلم. ولذلك كانت استقامة السلوك للأولاد هى موضع طلب الأنبياء من الله عندما سألوه الذرية، كما قال إبراهيم {رب هب لى من الصالحين} الصافات: 150 وكما قال زكريا {رب هب لى من لدنك ذرية طيبة} آل عمران: 38.
3-يجب أن تبدأ الرعاية من وقت مبكر ليتعودها الطفل ويشب عليها، فمن أدَّب ولده صغيرا سُرَّ به كبيرا كما قال ابن عباس.
4 -والتعاون على هذه الرعاية واجب، فهى عبء ثقيل ينوء به فرد واحد أو جهة خاصة، وألوانها الكثيرة تحتاج إلى تخصصات ودرايات كاملة، وهى كلها متضافرة فى التأثير على السلوك، فالبيت والمدرسة والنوادى والساحات والمنظمات ودور اللهو والصحافة والمناهج والنظم وخط السير الاقتصادى والسياسى والاجتماعى كل هؤلاء لا بد من تعاونهم على هذه المهمة، والتقصير فى بعضها سيؤثر حتما على النتيجة المرجوة، ولا بد من أمرين هامين فى هذه المهمة الجماعية: أولهما إخلاص كل جهة فى تنفيذ ما يخصها، وثانيهما: الشعور بالروح الجماعية وانعدام الأنانية واللامبالاة.
هذه هى الخطوط الأساسية لرعاية الشباب على ضوء الإِسلام، فهل يسير على نهجها كل من يتشوف أو يسارع إلى الاشتراك فى هذه المهمة الجليلة؟(10/333)
بروتوكولات حكماء صهيون
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسمع أخيرا أن هناك ما يسمى ببروتوكولات حكماء صهيون، فهل هى غير التلمود الذى وضعه اليهود منذ مئات السنين؟
الجواب
مما قرأت عن هذا الموضوع أقتطف بعضا من مقال الدكتور عبد الوهاب المسيرى المنشور بأهرام الجمعة 22 / 2 / 1974 م، حيث جاء فيه:
إن البروتوكولات البالغ عددها أربعة وعشرين: تذكر أن حاخامات اليهود وقادتهم عقدوا مؤتمرا سريا بهدف وضع خطة محكمة بالتعاون مع الماسونيين الأحرار ومع الليبراليين لإقامة وحده عالمية تخضع لسلطان اليهود، وتديرها حكومة يهودية عالمية يكون مقرها القدس.
والبروتوكولات تجعل اليهود مسئولين عن كل شىء، عن الخير والشر وعن الثورة والرجعية وعن الاشتراكية والرأسمالية. فالبروتوكول السادس مثلا يقول: كى نخرب العالم -أى نحن اليهود- سنزيد من أجور العمال -وهى اتجاهات اشتراكية- ولكننا فى الوقت ذاته سنرفع أثمان الضرورات الأولية فنسترد الأجور - وهى اتجاهات رأسمالية - ونعرض الصناعة للخراب والعمال للفوضى -وهى اتجاهات فوضوية- واليهود مسئولون عن كل الأفكار الحديثة وترويجها -اليمينى منها واليسارى- فالبروتوكول الثانى يقول: إن نجاح داروين وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل، وإن الأثر غير الأخلاقى لاتجاهات هذه العلوم لدى غير اليهود سيكون واضحا، ولكن ينبغى أن ندرس أثرها على أخلاق الأمم والجماعات.
والرأى السائد الآن أن البروتوكولات وثيقة مزورة، استفاد كاتبها من كتيب فرنسى كتبه صحفى مسيحى يدعى "موريس جول" بعنوان "حوار فى جهنم بين ميكيافيلى ومونتيسكيو" أو "السياسة فى القرن التاسع عشر" ونشر فى بروكسل عام 1864 م فتحول الحوار إلى مؤتمر، وتحول الفيلسوفان إلى حكماء صهيون.
وقد لاقت البروتوكولات رواجا كبيرا بعد نشوب الثورة البلشفية التى كان يسميها البعض إذ ذاك بالثورة اليهودية ثم انتقلت إلى غرب أوروبا، وبلغت قمة رواجها فى هزيمة ألمانيا وموقف هتلر من اليهود.
ثم انتهى الكاتب إلى قوله: إن الصهيونى والمعادى للسامية يشتركان فى إنكار القيم الإِنسانية، وينكران على اليهودى إنسانيته السوية، ولذلك فهما يسيران بجوار بعضهما، ولكن الفارق بينهما أن الصهيونى يعرف بالضبط ما يريد، أما المعادى للسامية -وبخاصة إذا كان غريبا- فهو أداته الطيعة السهلة دون أن يدرى ذلك.
هذا، ويمكن معرفة كثير عن اليهود وأثرهم فى الإِفساد- بالاطلاع على مقال أنيس منصور فى أخبار اليوم بتاريخ 6 / 10 / 1973، 11/ 3 / 1973 وفى آخر ساعة 29 / 1 / 1975 ومقال الدكتور حسين مؤنس فى مجلة آخر ساعة بتاريخ 21 / 8 / 1974.
وفى كلام للدكتور حسين مؤنس عن المافيا تحدث عن سريتهم فى كل أعمالهم، وذكر أن معظم الداعين إلى الإِلحاد من اليهود، ومنهم الكاتب الأمريكى صاحب كتاب "إن الله مات" ويدعون إلى التحلل والفساد، وثبت بالإِحصاء أن 80 % من أصحاب الملاهى المتبذلة وبيوت الدعارة ودور نشر المجلات والمطبوعات الجنسية هم يهود، وصاحب مجلة "بلاى بول" هو "عفنر" اليهودى ويقول " روجيه بريفيت ": إن اليهود إذا ذلوا كان وقع الذلة عليهم عظيما، وفشت الوشاية ضد بعضهم فكان معظم من قبض عليهم النازيون بسبب ذلك. فهم أنانيون لا يحب الواحد منهم إلا نفسه فى مثل هذه المواقف انتهى.
ولعل مما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} الحشر: 14.
ومن خطبة للرئيس الأمريكى "بنجامين فرانكلين" سنة 1879 م بمناسبة وضع دستور الولايات المتحدة ذكر خطر اليهود على البلاد - وخطابه لا تزال منه نسخة مخطوطة بمعهد فرانكلين فى بنسلفانيا على الرغم من سرقة اليهود للنسخة الأصلية، وجاء فى هذا الخطاب قوله:
أيها السادة،فى كل أرض حل بها اليهود أطاحوا بالمستوى الخلقى، وأفسدوا الذمة التجارية فيها، ولم يزالوا منعزلين لا يندمجون بغيرهم.
وقد أدى بهم الاضطهاد إلى العمل على خنق الشعوب ماليا كما هو الحال فى البرتغال وأسبانيا، فمنذ أكثر من 1700 عام وهم يندبون حظهم الأسيف، ويعنون بذلك أنهم قد طردوا من ديار آبائهم، ولكنهم أيها السادة لن يلبثوا إذا ردت إليهم الدول اليوم فلسطين أن يجدوا أسبابا تحملهم على ألا يعودوا إليها، لماذا؟ لأنهم طفيليات لا يعيش بعضهم على بعض، فلا بد من العيش بين المسيحيين وغيرهم ممن لا ينتمون لعرفهم. ثم يقول:
وإذا لم يبعد هؤلاء بنص الدستور عن الولايات المتحدة فإن سيلهم سيتدفق فى غضون مائة سنة إلى حدّ يقدرون معه على أن يحكموا شعبنا، ويدمروه ويغيروا شكل الحكم الذى بذلنا فى سبيله دماءنا، وضحينا له بأرواحنا وممتلكاتنا وحرياتنا الفردية، ثم يضيف:
لن تمضى مائة سنة حتى يكون مصير أحفادنا العمل فى الحقول لإِطعام اليهود، على حين يظل اليهود فى البيوتات المالية يفركون أيديهم مغتبطين، إننى أحذركم أيها السادة، أنكم إن لم تبعدوا اليهود نهائيا فلسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم فى قبوركم. إن اليهود لن يتخذوا مُثلنا العليا ولو عاشوا بين ظهرانينا عشرة أجيال، فإن الفهد لا يستطيع استبدال جلده الأرقط ... "مجلة البلاغ الكويتية فى10 / 8 / 1975 م"(10/334)
المافيا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تترد كلمة "المافيا" على الألسنة كثيرا، كقوة إرهابية، فمتى وكيف نشأت؟
الجواب
أمثال هذه الأمور يهتم بها المختصون، ومع ذلك ينبغى أن نعرف شيئا ولو قليلا عنها لنحذر من مخاطرها، على حد قول القائل:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه * ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه ومن مقال للدكتور حسين مؤنس جاء فيه أن المافيا تنظيم سرى لنفر من عتاة المجرمين فى صقلية والولايات المتحدة، ورجالها يعرفون فى إيطاليا باسم "المافيوزى" ظهروا أول مرة فى صقلية فى العقد الثالث من القرن الماضى "التاسع عشر" وذلك نتيجة غزو نابليون لصقلية وضمها لإِيطاليا، ولما انتهى نابليون سنة 1819 وانفصلت صقلية عن إيطاليا أصبح أمرها فوضى، فسيطر على الجزيرة جماعة إقطاعيون استعانوا بمن يجمع لهم الأموال من الفلاحين، فاعتمدوا على "المافيوزى" وبتطور الأمور أصبحوا قوة ذات تأثير كبير، بل صاروا دولة داخل دولة لها قوانينها، ومارسوا ما تحرمه الحكومة من بيع المخدرات والسطو على الآمنين وممارسة كل وسائل الإِجرام ولم يقض عليهم إلا موسولينى.
ولما اختفت من صقلية انتقلت فروع منها إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى أواخر القرن الماضى وعملت لحساب بعض الأغنياء، وتركزت بعد الحرب العالمية الأولى فى شيكاغو ونيويورك، وهنا تنبه اليهود إلى أهميتهم فاستعانوا بهم فنشطت الحكومة للقضاء عليهم، وكان من أساليبهم استخدام النساء والعشيقات ومن أشهرهن "فرجينيا هيلد" التى تنقلت بين عشاق كثيرين فقبض عليها ونفيت سنة 1934 م إلى النمسا وماتت فى 23 مارس 1966 م بعد أن كنبت تاريخ حياتها، وفيه تكوين هيئة اسمها هيئة قتلة المافيا شركة مساهمة، وكانت فى فندق بنيويورك سنة 1931 م وكل كبارها يهود. فهم أول من نظم جماعة من المافيا فى أمريكا. وبعد إنشاء هذه الشركة التى كانت لحماية أموالهم استخدمت لإِرهاب التجار المنافسين لهم.
وقد عجز البوليس عن الحد من إجرامهم، واستعمل اليهود المافيا فى فرض سلطانهم، ومعظم الوظائف الكبيرة قائمة على إرهابهم حتى أستاذية الجامعات والصحافة ووسائل الإعلام التى تفننوا فيها. وتنبه لشرهم "هنرى فورد" وألف كتابا فى مغالبهم، فحاولوا تدمير صناعة السيارات التى أنشأها، لكنه كان قويا فقاومهم، ثم جاء ابنه - وصالحهم فوقع تحت نفوذهم(10/335)
العرف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" وما هو الحكم فيما يراه كثير من المسلمين الآن مما يخالف الدين؟
الجواب
هذا الحديث ليس من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود، أى حديث موقوف غير مرفوع، رواه أحمد فى مسنده، وقال العلائى عنه: لم أجده مرفوعا فى كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو موقوف على ابن مسعود، وقد حسنه أحمد بن حنبل، كما أخرجه البزار والطيالسى والطبرانى وأبو نعيم فى ترجمة ابن مسعود من الحلية، وراجع "المقاصد الحسنة " ص 367 طبعة دار الأدب العربى.
وهذا الأثر استدل به جمهور العلماء على أن العرف حجة فى التشريع، ولكن بشرط عدم تعارضه مع النصوص الصريحة والأصول المقررة.
كالتقاليد العربية القديمة التى أبطلها الإِسلام. يقول السرخسى فى كتابه " المبسوط ج 12 ص 45 " إن هذا الأصل معروف، وهو أن ما تعارفه الناس وليس فى عينه نص يبطله جائز.
قال العلماء: إن العرف لا يؤخذ به إلا بشروط، منها أن يكون مطردًا أو غالبا أى شائعا بين الكثيرين، مع مراعاة أن لكل جماعة عرفها، ومنها ألا يكون مخالفا لنص شرعى كشرب الخمر ولعب الميسر والتعامل بالربا، ومنها أن يكون العرف قائما وموجودا عند التصرف، وليس عرفا باليا قديما متروكا، ومنها ألا يعارضه اتفاق أو تصريح يناقضه، كما إذا تم التعاقد بين شخصين على شىء مع سكوتهما عن العرف القائم فى مثل هذه المعاملة فإن العرف يطبق، فالمعروف عرفا كالمشروط شرطا، فإذا صرح المتعاقدان بما يخالف العرف وجب الالتزام بما تعاقدا عليه، لأنه لا عبرة بالدلالة له فى مواجهة النص الصريح "تراجع رسالة الدكتور أحمد فهمى أبو سنة فى هذا الموضوع"(10/336)
صوت الناقوس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن وضع الساعة الدقاقة فى المسجد أو المنزل ممنوع لأن الملائكة تنفر من صوت الجرس، فهل هذا صحيح؟
الجواب
روى مسلم وغيره عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس " وفى رواية "الجرس مزامير الشيطان" يقول النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 14 ص 95": الجرس بفتح الراء معروف -وهو الناقوس- وبإسكانها اسم للصوت، فأصل الجرس بالإِسكان الصوت الخفى، أما فقه الحديث ففيه كراهة استصحاب الكلب والجرس فى الأسفار، وأن الملائكة لا تصحب رفقة فيها أحدهما، والمراد بالملائكة ملائكة الرحمة والاستغفار لا الحفظة -فإنهم يدخلون فى كل بيت ولا يفارقون بنى آدم فى كل حال لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها كما وضحه فى ص 84 -وأما الجرس فقيل: سبب منافرة الملائكة له أنه شبيه بالنواقيس، أو لأنه من المعاليق المنهى عنها -كالتمائم- وقيل:
سببه كراهة صوتها، وتؤيده رواية مزامير الشيطان، وهذا الذى ذكرناه من كراهة الجرس على الإِطلاق هو مذهبنا ومذهب مالك وآخرين. وهى كراهة تنزيه. وقال جماعة من متقدمى علماء الشام:
يكره الجرس الكبير دون الصغير. انتهى.
وجاء فى كتاب "حياة الحيوان الكبرى للدميرى -مادة كلب- " قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح فى مناسكه فى قوله صلى الله عليه وسلم "لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس" فإن وقع ذلك من جهة غيره ولم يستطع إزالته فليقل: اللهم إنى أبرأ إليك مما فعله هؤلاء فلا تحرمنى ثمرة صحبة ملائكتك وبركتهم ومعونتهم أجمعين.
وفى نهاية ابن الأثير "مادة جرس" أن الجرس هو الجلجل الذى يعلق على الدواب وقيل: إنما كرهه -لأنه يدل على أصحابه بصوته، وكان عليه السلام يحب ألا يعلم العدوُّ به حتى يأتيهم فجأة، وقيل غير ذلك.
يدل ذلك على أن صوت الجرس مكروه، وقصر بعض العلماء الكراهة على الجرس الكبير، والكراهة كما فى الحديث إذا كان للجرس فى رفقة كقافلة مسافرة على الإبل أو الخيل مثلا وكان الغالب أن نعلِّق فى رقابها جلاجل -أجراس صغيرة- والعلة في الكراهة إما أن التعاليق على الحيوانات كانت عند العرب لمنع الحسد أو العلاج أو دفع المرض كالخرز والتمائم والودع وقد جاء النهى عنها فى الأحاديث لاعتقادهم أنها تؤثر بذاتها بعيدا عن إرادة الله، وإما أن أصوات الأجراس تنبه العدو فيتعرض للقافلة بالنهب أو الحرب مثلا، وإما لغير ذلك.
ومن هنا تكون كراهة الجرس فى السفر فقط، أو مع تعليقها على الدواب. أما صوت الجرس غير المعلق على الحيوانات، وفى غير السفر، كصوت الساعة الدقاقة فى البيوت أو المساجد، وكدق الأجراس لضبط المرور أو العمل أو غير ذلك -فهل يعطى هذا الحكم أو لا؟ البعض قال يعطى حكمه من الكراهة بناء على عموم رواية "الجرس مزامير الشيطان" الشاملة للرفقة وغيرها، وقال البعض: لا كراهة، وبخاصة فى الأجراس الصغيرة، كما قال متقدمو علماء الشام.
ومهما يكن من شىء فإن الأمر الخلافى يعطى الفرصة لاتباع أى رأى فيه دون تعصب له ضد غيره، والحكم الشرعى لا يتعدى الكراهة التنزيهية التى لا عقوبة فيها، فهو ليس بحرام يعاقب عليه(10/337)
أسامة والقصاص
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى القرآن أن أسامة بن زيد قتل رجلا قال لا إله إلا الله، فلماذا لم يقتص منه النبى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عَرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة} النساء: 94.
السبب فى نزول هذه الآية ما أخرجه البخارى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان رجل فى غُنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته. فأنزل الله هذه الآية. وفى غير البخارى أن الرسول صلى الله عليه وسلم حمل ديته إلى أهله وردَّ عليه غنيماته. واختلف فى تعيين القاتل والمقتول فى هذه الحادثة، فالذى عليه الأكثرون أن القاتل هو محلِّم بن جثامة، والمقتول هو عامر بن الأضبط، فدعا الرسول على محلِّم فمات بعد قليل، وفى سنن ابن ماجه عن عمران بن حُصين أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل القاتل "فهلا شققت عن بطنه فعلمت مما فى قلبه"؟ فقال: يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما فى قلبه؟ قال "لا، فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما فى قلبه" فمات القاتل بعد قليل.
وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد، والمقتول مرداس بن نهيك الغطفانى ثم الفزارى من بنى مُرة من أهل فدك، قاله ابن القاسم عن مالك.
وقيل: كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله. ولما عظَّم النبى صلى الله عليه وسلم الأمر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول: لا إله إلا الله جاء فى صحيح مسلم عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سرية فصبحنا الحرقَات من جهينة فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع فى نفسى من ذلك، فذكرته للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: "أقال لا إله إلا الله وقتلته "؟ قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح - فقال " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا"؟ .
وإذا كان هناك تعدد فى الحادثة فقد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فى بعضها بالدية كما تقدم وفى حادث أسامة يقول القرطبى في تفسيره "ج 5ص 324" لم يحكم عليه صلى الله عليه وسلم بقصاص ولا دية، ويقول: وروى عن أسامة أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لى بَعْدُ ثلاث مرات، وقال " أعتق رقبة " ولم يحكم بقصاص ولا دية، فقال علماؤنا: أما سقوط القصاص فواضح، إذ لم يكن القتل عدوانا، وأما سقوط الدية فلأوجه ثلاثة: الأول:
لأنه كان أذن له فى أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس محترمة غلطا، كالخاتن والطبيب أى ما دام مأذونا له فلا ضمان فى خطئه، كالذى يقوم بعملية الختان وكالطبيب لا يضمنان ما أخطآ فيه.
الثانى: لكونه من العدو، ولم يكن له ولىٌّ من المسلمين تكون له ديته، لقوله تعالى: {فإن كان من قوم عدوٍّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} النساء: 92 والمعنى عند ابن عباس وغيره: فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد آمن وبقى فى قومه وهم كفرة {عدو لكم} فلا دية له، وإنما كفارته تحرير الرقبة، وهو المشهور من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة. وسقطت الدية لوجهين، أحدهما أن أولياء القتيل كفار، فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها، والثانى أن حرمة هذا الذى آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية، لقوله تعالى {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا} الأنفال:
72.
وقالت طائفة: بل الوجه فى سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط، فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه - كفارته التحرير ولا دية فيه، إذ لا يصح دفعها إلى الكفار، ولو وجبت الدية لوجبت لبيت المال على بيت المال. فلا تجب الدية فى هذا الموضع وإن جرى القتل فى بلاد الإِسلام، وهذا قول الشافعى، وبه قال الأوزاعى والثورى وأبو ثور، وعلى القول الأول وإن قُتل المؤمن فى بلاد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة.
الثالث: من أوجه سقوط الدية عن أسامة أنه اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة، ولا تعقل العاقلة اعترافا -أى الدية لا تجب على أهل القاتل بالاعتراف بل لا بد من البينة- ولعل أسامة لم يكن له مال تكون فيه الدية هذا ما ذكره القرطبى فى توجيه عدم القصاص من أسامة وعدم وجوب الدية عليه(10/338)
الأمل والعمل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول الله تعالى فى حق الكفار {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} الحجر: 3 فهل الأمل من صفات الكافرين، وكيف يذمه القرآن ولا يستغنى عنه إنسان؟
الجواب
الأمل شىء مركوز فى الطبيعة البشرية ولولاه ما تحرك الإِنسان وما عمل، فهو يشيب ويهرم ويشيب ويهرم معه الأمل والحرص كما ثبت فى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم. وهو ضد اليأس الذى يغرى بالكسل والزهد فى الحياة وبتمنى الموت عند اشتداد الأزمات، يقول النبى صلى الله عليه وسلم "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا" رواه الطبرانى عن عبد الله بن جعفر "الجامع الكبير للسيوطى" يقول الطفرائى:
أعلل النفس بالآمال أرقبها * ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل والدين لا يحارب هذا الشىء المطبوع فى النفس ولكن يوجهه إلى الخير، والتوجيه يقوم على أمرين، أولهما عدم الاكتفاء بالأمل بل لابد معه من العمل من أجل الوصول إلى ما يؤمله الإِنسان وثانيهما أن يكون فى الوسع وبالقدر المستطاع.
وفى الأمر الأول جاء قول الله تعالى فى حق أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وفى حق المسلمين الذين يدَّعى كل فريق منهم بأن له الجنة {ليس بأمانيكم ولا أمانىِّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يُجْز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} النساء:
123، 124 وفى هذا المقام يقول الحسن البصرى: ليس الإِيمان بالتمنى ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل وإن قوما خرجوا من الدنيا ولا عمل لهم وقالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، مع ملاحظة أن الجهد المبذول يكون متناسبا مع درجة الأمل، فإن كان كبيرا كان الجهد كبيرا. والكبر جهد مع نية. روى مسلم أن ربيعة بن كعب الأسلمى خادم الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: أسألك مرافقتك فى الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام " فأعنى على ذلك بكثرة السجود" والشاعر الحكيم يقول:
ومن يطلب الحسناء لم يُغْلِهِ المهر * ولا بد دون الشهد من إبر النحل وفى الأمر الثانى ينظر إلى ما يؤمله الإنسان فهو إما أن يكون أمرا دنيويا وإما أن يكون أمرا أخرويا، أو بمعنى آخر إما أن يكون من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة، ففى أمور الدنيا لابد أن يكون الأمل محدودًا لأن أجل الإِنسان محدود لا يتسع لكل الآمال العريضة، وفى أمور الدين لابد من سعة الأمل، مع مراعاة الوسع والطاقة فى كلا الأمرين.
وفى أمور الدنيا يجىء الحديث الذى رواه البخارى عن عبد الله بن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم خط لهم خطا مربعا -أى رسم لهم شكل مربع- وخط وسطه خطا، وخط خطوطا إلى جنب الخط، وخط خطا خارجا ثم قال "أتدرون ما هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال "هذا الإِنسان" للخط الذى فى الوسط "وهذا الأجل" للخط المحيط به "وهذه الأعراض" للخطوط التى حوله " تنهشه، إن أخطأه هذا نهشه هذا، وذلك الأمل" ويعنى الخط الخارج. وهذا ما يعنيه قول القائل: الآمال تخترمها الآجال.
وفى أمور الدين يقول النبى صلى الله عليه وسلم " المؤمن لا يشبع من خير حتى يكون منتهاه الجنة " رواه الترمذى وابن حبان، ويقول: " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز " رواه مسلم، ويقول " إذا سألتم الله الجنة فأعظموا الرغبة واسألوا الفردوس الأعلى فإن الله لا يتعاظمه شىء" رواه البخارى ومسلم. من هذا نرى أن الأمل لا يكون مذموما فى كل حال، بل الذم يكون إذا لم يصحبه عمل ويكون لما هو دنيوى ولا يتناسب مع عمر الإِنسان وإمكاناته وكثرت النصوص والأقوال فى ذمه ليقف عند الحد المعقول، أما مدحه فالنصوص فيه قليلة لأن الطبيعة البشرية تدعو إليه بقوة، وفى المقابل يجىء التنفير القوى ليقف فى الحد الوسط المناسب، فلا يقضى عليه أبدا ولا تطلق له الحرية أبدا.
وكل ذلك محله فى الأمل فى الخير المشروع، أما الأمل فى الشر فذلك مذموم على كل حال، فإذا كانت الآية التى فى السؤال تذم الأمل فلا تذمه لذاته بل لأنه يلهى عن الله وعن الآخرة. وسيعلم الكفار عاقبة ذلك يوم القيامة. روى البزار فى مسنده عن أنس رضى الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أربعة من الشقاء: جمود العين - أى عدم البكاء- وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا" وروى حديث يقول "نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخرها بالبخل والأمل" ذكره القرطبى فى تفسيره ج 10 ص 2،3 " رواه ابن أبى الدنيا والخطيب "الجامع الكبير للسيوطى" وذكر كلاما عن أبى الدرداء والحسن البصرى فى التحذير من الأمل الدنيوى العريض(10/339)
شطحات الصوفية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نقرأ فى بعض الكتب الدينية عبارات على لسان بعض الصوفية كمدح الخمر والوصال والعشق، فما حكم الدين فى هذه العبارات؟
الجواب
تحدث الإمام الغزالى فى كتابه " إحياء علوم الدين ج 1 ص 32" عن هذا الكلام وعبر عنه بالشطح، وقال إنه يعنى صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية:
أحدهما الدعاوى الطويلة العريضة فى العشق مع الله تعالى والوصال المغنى عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهى قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب، والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب، فيقولون:
قيل لنا كذا وقلنا كذا، ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذى صُلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس، ويستشهدون بقوله: أنا الحق، وبما حكى عن أبى يزيد البسطامى أنه قال:
سبحانى سبحانى، وهذا فن من الكلام عظيم ضرره فى العوام، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوى، فإن هذا الكلام يستلذه الطبع، إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغنياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة. ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدل، والعلم حجاب والجدل عمل النفس، وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق. فهذا ومثله مما قد استطار فى البلاد شرره، وعظم فى العوام ضرره، حتى من نطق بشىء منه فقتله أفضل فى دين الله من إحياء عشرة، وأما أبو يزيد البسطامى رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى، وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل فى كلام يردده فى نفسه، كما لو سمع وهو يقول، إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى، فإنه ما كان ينبغى أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية.
والصنف الثانى من الشطح: كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة، وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل، وذلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط فى عقله وتشويش فى خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه، وهذا هو الأكثر، وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره، لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعانى بالألفاظ الرشيقة.
ويعلق الإِمام الغزالى على ذلك فيقول: ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام، إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان، أو يحمل على أن يفهم منها معانى ما أريدت بها، ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه، وقد قال صلى الله عليه وسلم "ما حدَّث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلا كان فتنة عليهم" وقد قال صلى الله عليه وسلم "كلموا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله"؟ .
وهذا فيما يفهمه صاحبه ولا يبلغه عقل المستمع، فكيف فيما لا يفهمه قائله، فإن كان يفهمه القائل دون المستمع فلا يحل ذكره، وقال عيسى عليه السلام: لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء فى موضع الداء، وفى لفظ آخر: من وضع الحكمة فى غير أهلها فقد جهل، ومن منعها أهلها فقد ظلم، إن للحكمة حقا، وإن لها أهلا، فأعط كل ذى حق حقه. انتهى.
تتمة: الحديث الأول كما قال العراقى حديث ضعيف، وجاء فى مقدمة صحيح مسلم أنه موقوف على ابن مسعود وليس مرفوعًا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، والحديث الثانى رواه البخارى موقوفًا على علىٍّ، ورفعه الديلمى من طريق أبى نعيم(10/340)
الشافعى عالم قريش
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقولون: إن الإمام الشافعى هو المقصود بالحديث: عالم قريش يملأ طباق الأرض علما. فهل هذا صحيح؟
الجواب
الإمام الشافعى فقيه معروف، وقد أوردت نبذة عنه فى ص 17 من المجلد الأول من هذه الفتاوى، وقد رويت عدة أحاديث فى قريش حملت عليه لاتصال نسبه بها، منها:
1 - حديث "لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما، اللهم أذقت أولهم عذابا فأذق آخرهم نوالا" أخرجه أبو داود الطيالسى فى مسنده، وأبو نعيم فى الحلية، والبيهقى عن أبى بكر بن فورك عن عبد الله بن جعفر بهذا الإِسناد. وفيه النضر بن معبد والجارود، أما النضر بن معبد فقد ذكره ابن حبان فى الثقات، وقال فيه أبو حاتم الرازى:
يكتب حديثه، وضعفه النسائى. وأما الجارود فقد قال ابن حجر فى "توالى التأسيس ": إن كان ابن زيد ففيه مقال، وإلا فلا أعرفه.
وهذا الحديث مروى عن عبد الله بن مسعود. ورواه أبو هريرة بلفظ "اللهم اهد قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما. اللهم كما أذقتهم عذابا فأذقهم نوالا" دعا بها ثلاث مرات. وفى إسناده عبد العزيز بن عبد الله، قال الحافظ ابن حجر: عبد العزيز ضعيف.
2 - حديث " لا تؤموا قريشا وائتموا بها، ولا تقدَّموا على قريش وقدِّموها، ولا تعلِّموا قريشا وتعلموا منها، فإن أمانة الأمين من قريش تعدل أمانة اثنين من غيرهم، وإن علم عالم قريش يسع طباق الأرض" وفى رواية "وإن علم عالم قريش مبسوط على الأرض" أخرجه الآبرى والحاكم عن ابن عباس، قال لى على بن أبى طالب يوم حروراء: اخرج إلى هؤلاء القوم فقل لهم: يقول لكم على بن أبى طالب: أتتهمونى على رسول الله؟ فأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ... .
وأخرج بعض هذا الحديث أبو بكر أحمد البزار فى مسنده "البحر الزاخر" وأبو بكر أحمد بن خيثمة فى تاريخه من طريق عدى بن الفضل، قال البزار: لا نعلم لأبى بكر ولا لأبيه غيره، وقال الحافظ ابن حجر فى المناقب: وهما مجهولان، وفى عدى بن الفضل مقال "حسن محمد قاسم - مجلة الإِسلام، المجلد الثالث العدد 13" من كتابه " المزارات المصرية ".
وحديث ابن عباس أخرجه أبو يعلى فى مسنده بلفظ " اللهم اهد قريشا، فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض، اللهم أذقت أولها نكالا فأذق آخرها نوالا " ورجال هذا الحديث رجال الصحيح إلا إسماعيل بن مسلم فقال فيه ابن حجر: فيه مقال، وأخرج بعضه أحمد ابن حنبل فى المسند بسند جيد من طريق سعيد بن جبير عنه، قال الحافظ فى "توالى التأسيس" نقلا عن البيهقى: إذا ضمت طرق هذا الحديث بعضها إلى بعض أفاد قوة وعرف أن للحديث أصلا، وتعقب الحافظ قوله هذا بقوله: وهو كما قال،لتعدد مخارجها وشهرتها فى كتب من ذكرنا من المصنفين.
ويدل على اشتهاره فى القدماء ما أخرجه البيهقى عن الربيع بن سليمان قال: ناظر الشافعى محمد بن الحسن، فبلغ الرشيد فقال: أما علم محمد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "قدِّموا قريشا فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض" وقال أبو نعيم الجرجانى: كل عالم من علماء قريش من الصحابة فمن بعدهم وإن كان علمه قد ظهر وانتشر لكنه لم يبلغ فى الشهرة والكثرة والانتشار فى جميع أقطار الأرض مع تباعدها ما وصل إليه علم الشافعى، حتى غلب على الظن أنه المراد بالحديث المذكور، وقد سبق إلى تنزيل هذا الحديث على الشافعى أحمد بن حنبل "المرجع السابق عدد 14".
هذا، وفى هذه الأحاديث تظهر رحمة النبى صلى الله عليه وسلم بقومه على الرغم مما أصابه منهم، كما يظهر فضل قريش ووجوب تكريمها بالإِمامة وغيرها، وذلك مرتبط بالعمل لا بالنسب، كما مر توضيحه فى حديث "الأئمة من قريش" ص 401 من المجلد الثالث من هذه الفتاوى(10/341)
عهد لرهبان سيناء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن هناك عهدا مكتوبا من النبى صلى الله عليه وسلم للرهبان فى طور سيناء ما زال موجودا إلى الآن، وهل هناك عهد من عمر أيضا لذلك؟
الجواب
يقول الأستاذ حسن محمد قاسم: يوجد فى صحراء سينا دير الروم الأرثوذكسى، بناه الإمبراطور "جستنياس" سنة 545 م، وهو فى سفح قمة على أحد فروع وادى الشيخ، ويعلو عن سطح الأرض بحوالى 5012 قدما ومساحة سور85 X75 مترا ويسكن فيه الآن (1934 م) ستون راهبا يرأسهم مطران وله وكيل. توجد فيه صورة عهد قديم منسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم -على زعمهم- كتبه لهم فى السنة الثانية للهجرة أمانًا لهم وللنصارى كافة. وأن السلطان سليم العثمانى عند فتحه لمصر سنة 923 هـ (1517 م) أخذه منهم وحمله إلى المكتبة السلطانية بالآستانة، وترك لهم صورة مع ترجمتها باللغة التركية، وتوجد منها عدة صور بالعربية والتركية، بعضها منسوخ فى كتاب صغير، وبعضها على رق غزال، وكل صورة منها تختلف بوضوح عن الأخرى، ويلى هذا العهد عهد آخر نسب إلى سيدنا عمر، وهو كالأول فى بنايته، ولذلك أنكر بعض الباحثين صحة ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم، ومنهم المحقق أحمد زكى باشا، وألقى فى ذلك محاضرة فى المؤتمر الدولى العام للمستشرقين.
ومما جاء فى فاتحة هذا العهد عن أصح صورة عندهم وأقدمها:
هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين بشيرا ونذيرا ومؤتمنا على وديعة الله فى خلقه، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما، كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها. وجاء فى آخره: وكتب على بن أبى طالب هذا العهد بخطه فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم بتاريخ الثالث من المحرم ثانى سنى الهجرة، وذكر فى أسماء الصحابة الذين وقعوا على هذا العهد: غاز بن ياسينى - معظم بن قرشى - عبد العظيم ابن حسن -ثابت بن نفيس من أسماء أخرى.
وجاء فى خاتمة العهد العمرى: تمت وسطرت هذه النسخة فى ثانى رجب المرجب سنة 968 (19 مارس 1561 م) ما تضمنته هذه العهدة تامة المنسوبة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فى حق طائفة القسس والرهبان على وفق الشروط، والله أعلم بالصواب (الختم) طه بن محمد سعد.
نص العهد العمرى هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينقص منها ولا خبزها ولا من صليبهم ولا من شىء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلِّى بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شىء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذى عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبى سفيان، وكتب وحفر سنة خمس عشرة "مجلة الرسالة الإِسلامية -بيروت فى 26 / 2 / 1979 م".
يقول الأستاذ حسن محمد قاسم: وقد اختلق الرهبان هذه الأساطير لدفع الظلم عنهم، وأيدوا ذلك بأربعة أسباب مهمة:
1 -لغة العهد الأولى والثانية تختلف عن لغة عصر النبوة، ففيها تراكيب لم تكن مألوفة حينذاك.
2 -هى مؤرخة فى السنة الثانية للهجرة، مع أن الهجرة لم يؤرخ بها إلا فى السنة الثانية عشرة، أى بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بسبع سنين، فضلا عن أن بعض الشهود كأبى هريرة وأبى الدرداء لم يكونوا قد أسلموا فى السنة الثانية للهجرة.
3 - مؤرخوا الإسلام الذين أحصوا كل آثار النبى صلى الله عليه وسلم لم يذكروها ولم يشيروا إليها، وغاية ما ورد وصية النبى صلى الله عليه وسلم بقبط مصر.
4 -ورود هذه الأسماء المجهولة فى ذيل العهدة، مع شهرة أسماء الصحابة.
هذا ما كتبه الأستاذ حسن محمد قاسم ونشره فى مجلة الإِسلام - العدد 45 من المجلد الثانى، ومهما يكن من شىء فإن الإسلام دين السماحة كما هو معروف، يعامل اليهود والنصارى بالذات كأهل كتاب، أفضل من معاملة غيرهم، وقد أحل للمسلمين أكل ذبائحهم وزواج نسائهم، كما نصت عليه الآية الخامسة من سورة المائدة، وكما هو موضح فى عدة مواضع من هذه الفتاوى، ومن الثابت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بفتح مصر وأوصى بقبطها خيرا فإن لهم ذمة ورحما، والقول الفصل فى معاملة غير المسلمين هو {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} التوبة: 7 ولا حاجة بعد ما جاء فى القرآن والسنة إلى مثل هذه العهود التى لم يثبت صحتها(10/342)
مراتب العلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نقرأ فى بعض الكتب عبارة علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، فهل هناك فرق بين هذه العبارات؟
الجواب
جاء فى غذاء الألباب للسفارينى "ج 1 ص 30" أن العلم صفة يميز المتصف بها تميزا جازما مطابقا للواقع، وله ثلاث مراتب: المرتبة الأولى علم اليقين، وهو انكشاف المعلوم للقلب بحيث يشاهده ولا يشك فيه، كانكشاف المرئى للبصر، المرتبة الثانية وهى مرتبة عين اليقين، ونسبتها إلى اليقين كنسبة الأولى للقلب، ثم تليها المرتبة الثالثة، وهى حق اليقين، وهى مباشرة المعلوم وإدراكه الإِدراك التام، فالأولى كعلمك أن فى هذا الوادى ماء، والثانية كرؤيته، والثالثة كالشرب منه.
ومن هذا قول حارثة أصبحت مؤمنا حقا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك"؟ قال: عزفت نفسى عن الدنيا وشهواتها، فأسهرت ليلى وأظمأت نهارى، وكأنى أنظر إلى عرش ربى بارزا، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم "عرفت فالزم، عبد نوَّر الله الإِيمان فى قلبه" ذكره ابن رجب فى: استنشاق نسيم الأنس، وقال: ضعيف، والإِمام ابن القيم فى مفتاح دار السعادة محتجا به. انتهى(10/343)
التبرك بآثار الصالحين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل التبرك بآثار الصالحين من الأولياء وغيرهم يتنافى مع الدين؟
الجواب
من المعروف أن الإنسان إذا أحب إنسانا آخر أحب كل شىء يتصل به، وتلك الحقيقة المركوزة فى فطرة الإنسان لا يعارضها الدين، وإنما يرشدها إلى الخير. وذلك فى أمرين أساسيين، هما اختيار من يستحق الحب، وعدم تجاوز الحدود الشرعية فى مظاهر هذا الحب وآثاره فنحن -كمسلمين -مأمورون بحمب الله وحب رسوله، والنصوص فى ذلك كثيرة، ومن لوازم حبهما طاعتهما وعدم عصيانهما {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} آل عمران: 31.
وطاعة الله ورسوله محدودة بقواعد تصحح الفكر وتقوِّم السلوك، وهى فى نطاق الميسور لا المعسور، والتوسط والاعتدال، والإخلاص والصدق. والأولياء الصالحون أكرمهم الله بتوفيقهم إلى الطاعة وبإحسان مجازاتهم كما قال سبحانه {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون 0 الذين آمنوا وكانوا يتقون 0 لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} يونس: 62 - 64 وبخصوص حب الصالحين والتبرك بآثارهم، يجب عدم التغالى فى هذا الحب حتى لا يرفع المحبوب فوق درجته، فقد أجب قوم أنبياءهم فأنزلوهم منزلة الله أو قريبا من ذلك، وقد حذر النبى صلى الله عليه وسلم من الإفراط فى حبه فقال " لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله " رواه البخارى.
وقد أذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يتبركوا بآثاره، ومن الأخبار فى ذلك:
1 - فى صلح الحديبية يقول أصحاب السير فى التفاف الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم: والله ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -بفتح الواو وهو فضلة الماء الذى توضأ به لا الزرقانى على المواهب ج 2 ص 192 لما.
2 -جاءت عدة روايات فى أن بعض الصحابة شرب دم الحجامة من النبى صلى الله عليه وسلم، وبعضهم شرب بوله. جاء فى المواهب اللدنية للقسطلانى "ج 1 ص 285" قوله: وفى هذه الأحاديث دلالة على طهارة بوله ودمه صلى الله عليه وسلم، قال النووى فى شرح المهذب: واستدل من قال بطهارتهما بالحديثين المعروفين أن أبا طَيْبَةَ الحجام حجمه صلى الله عليه وسلم وشرب دمه ولم ينكر عليه، وأن امرأة شربت بوله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليها، وحديث أبى طيبة ضعيف، وحديث شرب البول صحيح رواه الدارقطنى وقال:
هو حديث صحيح، وقيل إنه ضيف كما فى الزرقانى شارح المواهب "ج 4 ص 223 ".
3 - روى البخارى أن الناس جعلوا يأخذون يدى الرسول - وهو فى بطحاء مكة - فيمسحون بها وجوههم، وقال الراوى أبو جحيفة:
فأخذت بيده فوضعتها على وجهى فإذا هى أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك. وفى رواية أحمد أن الناس تزاحموا على الرسول بعد صلاة الصبح فى حجة الوداع، وأن أبا يزيد بن الأسود استطاع بشبابه وقوته أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويأخذ بيده ليضعها على وجهه وصدره فما وجد أطيب ولا أبرد منها لا نيل الأوطارج 2 ص 323، 4 32" يقول الشوكانى: فيه مشروعية التبرك بملامسة أهل الفضل لتقرير النبى صلى الله عليه وسلم لذلك.
4 -أثر عن الإمام أحمد أنه كان يحتفظ بشعرات من شعر النبى صلى الله عليه وسلم فى كُمِّ قميصه، وببركتها لم يحرق المعتصم هذا القميص فى فتنة القول بخلق القرآن، وأن الإمام الشافعى تبرك بغسالة قميص أحمد لما ثبته الله على الحق " حياة الحيوان الكبرى للدميرى ج 1 ص 100، 101 " والأخبار كثيرة فى تبرك الصحابة بالصلاة فى مصلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبوضع أيديهم على الموضع الذى كان يضع عليه يده من المنبر الشريف، إلى غير ذلك من الأخبار، وقد قال النووى فى حديث تحنيك النبى صلى الله عليه وسلم للمولود بمضغ تمرة ومجها فى فمه "شرح صحيح مسلم ج 4 1 ص 122 ": اتفق العلماء على استحباب التحنيك بالتمر وما فى معناه من كل حلو، وأن يكون المحنك من الصالحين وممن يتبرك به رجلا كان أو امرأة.
إن التبرك بآثار الصالحين دليل على الحب، ولا مانع منه ما دام فى الحد المعقول، ولا ننسى فى هذا المقام قول المجنون:
أمر على الديار ديار ليلى * أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبى * ولكن حب من سكن الديارا(10/344)
الإسلام هو الدين العالمى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون الإسلام دينا عاما للعالم كله، فلماذا انزل الديانات السماوية الأخرى؟
الجواب
الأديان السماوية رسالات إصلاح، والحكمة تقتضى أن يكون كل دين متناسبا مع حاجات العصر الذى نزل فيه، ومشكلات القوم الذين أرسل إليهم الرسول، والاجتماع البشرى فى تطور دائم، والاتصال بين الأمم والشعوب له مجاله المحدود وإمكاناتة المتناسبة مع الظروف، من أجل هذا كان الله سبحانه يرسل رسولا إلى قوم مخصوصين برسالة معينة لا يكلف بها غيرهم، وقد يحدث أن يبعث الله رسولين فى عصر واحد لجماعتين مختلفتين لاختلاف السلوك الفكرى والاجتماعى، وصعوبة مباشرة مهمة الإصلاح مع أكثر من جماعة.
ودين الإسلام جاء والاجتماع البشرى وصل إلى درجة كبيرة من الرقى فى عقله وثقافته وفى حضارته ومدنيته، وسهولة الاتصال بين وحداته المقيمة فى أماكن مختلفة بشكل أحسن من ذى قبل، ولهذا كان أسلوب الدعوة يخالف أسلوبها فى الأديان السابقة مخالفة كبيرة، فدعا محمد صلى الله عليه وسلم قومه بمعجزة القرآن التى لا يمكن للإنس والجن أن يأتوا بمثلها على مر العصور، وقد أكد الواقع ذلك، وكانت مبادئه متناسبة مع رقى البشرية ومتمشية معه إلى أن تقوم الساعة، وذلك بفضل القواعد والكليات التى يمكن تطبيقها فى كل عصر ومصر.
لهذا ولغيره كان الإسلام هو الدين العام الخالد، لا حاجة بعده إلى دين، وكان نزوله متناسبا مع عصره ومع كل العصور المتتالية، وقد نزل بعد أن بلغت البشرية رشدها وأصبح الاتصال بين بلادها القريبة والبعيدة ممكنا للبلاغ عن الله.
والخلاصة أن كل دين يأتى به رسول كان متناسبا مع ظروف قومه، ودين الإسلام جاء متناسبا مع عصره الراشد ومتابعا. رشده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن هنا جاء قوله تعالى {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين} ال عمران:
تلك إشارة بسيطة فى الإجابة عن السؤال، أما تفصيل ذلك فهو فى الكتب التى تناولت القضية، ومن أهمها كتاب " الدعوة الإسلامية دعوة عالمية "(10/345)
من أدب الكلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن قول الإنسان: اللهم اغفر لى إن شئت منهى عنه؟
الجواب
هناك ألفاظ وعبارات تحدث العلماء عن عدم لياقتها، وحذروا من أن تؤدى إلى الكفر من حيث لا يشعر الإنسان، ومن ذلك ما يأتى:
1 -يكره للانسان عند الدعاء أن يقول: اللهم اغفر لى إن شئت، لحديث رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة " لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لى إن شئت، اللهم ارحمنى إن شئت، ليعزم المسألة فإنه لا مكره له ".
وفى رواية لمسلم " ولكن لِيَعْزم ولْيعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شىء أعطاه " وفى رواية لهما عن أنس " إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن، اللهم إن شئت فأعطنى، فإنه لا مستكره له.
والكراهة فى هذا القول كراهة تنزيهية لا عقوبة فيها، كما صرح به النووى فى شرح صحيح مسلم، قال العلماء: سبب الكراهة أنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا فى حق من يتوجه عليه الإكراه، والله تعالى منزه عن ذلك، وهو معنى قوله فى الحديث لد فإنه لا مستكره.. إلخ "وقيل: سبب الكراهة أن فى هذا اللفظ صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه.
2 -ينبغى أن يقال فى المال المخرج فى طاعة الله تعالى: أنفقت أو صرفت فى حجى أو فى زواجى أو ضيافة ضيفانى ألفا أو ألفين مثلا، ولا يقول ما يقوله كثيرون من العوام: غرمت فى ضيافتى كذا، وخسرت فى حجتى كذا، وضيعت فى زواجى كذا، وذلك لأن عبارة أنفقت وشبهها تكون فى الطاعات، وعبارة خسرت ونحوها تكون فى المعاصى والمكروهات ولا تستعمل فى الطاعات، فإن الحاج لم يخسر، ومكرم الضيف لم يخسر، هكذا قال النووى فى الأذكار " ص 263 لما.
3-يكره التقعر فى الكلام بالتشدق وتكلف السجع والتصنع بالمقدمات التى يعتادها المتفاصحون -كما يعبر النووى - بل ينبغى مخاطبة الناس بما يفهمون مما يتناسب مع مستوياتهم، وذلك لحديث رواه أبو داود والترمذى " إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذى يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة" وهو حديث حسن، يلتقى مع حديث رواه مسلم " هلك المتنطعون " وهم المبالغون فى الأمور، وفى حديث رواه الترمذى " وإن أبغضكم إلىَّ وأبعدكم منى يوم القيامة الثرثارون وا لمتشدقون والمتفيهقون ".
وهو حديث حسن، والثرثار: هو الكثير الكلام، والمتشدق: من يتطاول على الناس فى الكلام ويبذو-من البذاءة - عليهم، والمتفيهقون: هم المتكبرون(10/346)
مجالس الغيبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ضمنى مجلس مع بعض الأصدقاء، فوجدتهم يتحدثون عن معايب بعض الغائبين عن المجلس وأنا اعلم انه برئ من ذلك فاستحييت أن اكذب كلامهم، ولما علم هذا الغائب بسكوتى قاطعنى فكيف أتصرف؟
الجواب
من المعلوم أن الغيبة محرمة، والنصوص فى ذلك كثيرة، ومن المعلوم أيضا أن المؤمن إذا رأى منكرا وجب عليه أن يقاومه بالوسيلة الممكنة من اليد واللسان والقلب كما صح فى الحديث، وكان من الواجب على من حضر مجلس المغتابين أن يقوم بواجبه نحو هذا المنكر، ولا يقتصر على بيان حرمة ارتكاب المنكر، بل ينبغى أن يرد ما تحدث به المغتابون إن كانوا كاذبين فهناك أمران مطلوبان، أحدهما نحو المغتابين والثانى نحو من اغتابوه، وبخاصة إن كان شخصا فاضلا أو له حق على الإنسان كالوالد والمعلم.
يقول الإمام النووى " الأذكار ص 340 ": اعلم أنه ينبغى لمن سمع غيبة مسلم أن يردها ويزجر قائلها، فإن لم يستطع فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق أو كان من أهل الفضل والصلاح كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر، وأورد حديثا رواه الترمذى وحسَّنه لا من رد عن عِرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة " وحديثا رواه البخارى ومسلم جاء فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم قام يصلِّى فسأل عن مالك بن الدخشم، فقال رجل: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم " لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله " وذكر دفاع معاذ بن جبل عن كعب بن مالك حين ذمه رجل من بنى سلمة فى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وإقرار النبى لمعاذ كما ذكر حديثا رواه أبو داود فى سننه " ما من امرئ يخذل امرأ مسلما فى موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله فى موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما فى موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله فى موطن يحب نصرته " كما ذكر حديثا رواه أبو داود " من حمى مؤمنا من منافق - أراه قال -بعث الله تعالى ملكا يحمى لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلما بشىء يريد شينه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال.
إن صاحب السؤال قد قصَّر فى حق المغتابين بالاستحياء من تكذيبهم، وقصر فى حق الغائب بعدم الدفاع عنه، وبهذا يكون قد ارتكب خطأين، إلى جانب خطأ ثالث وهو عدم ترك هذا المجلس الذى يرتكب فيه المنكر، وفيه إغراء للمغتابين على الاستمرار فيه، ودليل ولو فى الظاهر على أنه موافق لهم راض عن معصيتهم، والرضا بالمعصية إسهام فيها يجازى بالتالى عليها، والله سبحانه يقول: {وقد نزًّل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذًا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا} النساء:140 " انظر ص 336 من الأذكار" وقد مر توضيح ذلك فى ص 9 4 6 من المجلد الرابع.
ومن حق أخيك الذى لم تدافع عنه أيها السائل أن يعتب عليك لأنك قصرت فى حق المسلم على أخيه المسلم، وأرجو أن تعتذر له حتى تعود الصلة بينكما، كما أرجو من صديقه أن يقبل العذر حتى لا يدخل تحت الحديث " من أتاه أخوه متنصلا- معتذرا - فليقبل ذلك، محقا كان أو مبطلا، فإن لم يفعل لم يرد على الحوض" رواه الحاكم وصححه، وروى مثله تقريبا انطبرانى.
وأنصح السائل أن يختار أصدقاء من الصالحين، والحديث فى مثل الجليس الصالح والجليس السوء معروف(10/347)
من آداب الزيارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى بعضى الأحيان يأتى لزيارتى إنسان فى وقت أكون فيه محتاجا للراحة أو مشغولا بعمل هام وتنتابنا الحيرة بين السماح بالزيارة بما فيها من تعب لى بين الاعتذار الذى قد يجرنى إلى انتحال مبرر غير صحيح، فهل فى الدين ما ينظم الزيارة لتلافى هذا الإحراج؟
الجواب
من المعلوم أن زيارة الأخ لأخيه مستحبة لتقوية رابطة الأخوة، وتتأكد إن كانت معها مجاملة فى فرح أو عيادة فى مرض أو عزاء فى موت. روى مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أن رجلا زار أخًا له فى قرية فأرصد الله تعالى على مدرجته - طريقه - ملكا، فلما أتى عليه قال:
أين تريد؟ قال: أريد أخًا لى فى هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبّها؟ -تقوم بها وتسعى فى صلاحها-قال: لا، غير أنى أحببته فى الله، قال: فإنى رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته ". وروى ابن ماجه والترمذى وحسَّنه قوله صلى الله عليه وسلم " من عاد مريضا أو زار أخًا له فى الله ناداه منادٍ بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا ".
وحتى تكون الزيارة محققة لغرضها وضع الإسلام لها ادابًا منها:
1 - الاطمئنان على تقبل المزور لهذه الزيارة، وذلك بتحديد موعد لها عن طريق المسرة أو طريق اَخر، حتى يستعد لها المزور، بتنظيم مواعيد عمله، وإعداد ما يلزم للمقابلة، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلِّموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون} النور: 27 قال بعض العلماء: المراد بالاستئناس هو الاستئذان فى الزيارة قبل الذهاب بوقت كاف لعمل اللازم لها، وقال بعض آخر: المراد به الاستئذان وهو واقف أمام البيت.
2 - الاستئذان فى دخول البيت عند المفاجأة بالزيارة أو عدم الاستعداد للاستقبال، ويكون الاستئذان بوسائل تختلف باختلاف البيئات والعصور، كدق الباب بالإصبع أو دق الناقوس الكهربائى أو التنحنح أو الكلام أو إلقاء السلام أو غير ذلك. وكانت وسيلة الاستئذان أيام الرسول صلى الله عليه وسلم هى قول: السلام عليكم، أأدخل، فإن أذن له دخل وإلا رجع، قال تعالى {فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم} النور: 28 وروى البخارى ومسلم فى ذلك حديثا هو " الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك فادخل " وروى أبو داود بإسناد صحيح أن رجلا من بنى عامر استأذن على النبى صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت، فقال: ألِج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخادمه:
اخرج إلى هذا فعلَّمه الاستئذان، فقل له قل: السلام عليكم، أأدخل؟ فسمعه الرجل فقال ذلك فأذن له النبى صلى الله عليه وسلم فدخل.
يقول النووى فى الأذكار لا ص 259 ": وهذا الذى ذكرناه من تقديم السلام على الاستئذان هو الصحيح، وذكر الماوردى فيه ثلاثة أوجه، أحدها هذا، والثانى تقديم الاستئذان على السلام، والثالث - وهو اختياره -إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدَّم السلام، وإن لم تقع عليه عينه قدم الاستئذان. وإذا استأذن ثلاثا فلم يؤذن له وظن أنه لم يسمع فهل يزيد عليها؟ حكى الإمام أبو بكر بن العربى المالكى فيه ثلاثة مذاهب، أحدها: يعيده، والثانى: لايعيده، والثالث: إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده، وإن كان بغيره أعاده. قال: والأصح أنه لا يعيده بحال. وهذا الذى صححه هو الذى تقتضيه السنة.
3-من السنة ألا يقف الزائر أمام الباب مباشرة حتى لا تقع عينه على ما لا ينبغى أن يرى فالذى فى داخل البيوت هو من الأسرار التى لايحب أحد أن يطلع عليها الغير.
4 -إذا استأذن الزائر بالسلام أو دق الباب وقيل له: من أنت؟ ينبغى أن يسمى نفسه بوضوح ليقرر المزور ما يريد، ويكره أن يقول " أنا" فقط، أو أحد المحبين وما أشبه ذلك. روى البخارى ومسلم فى حديث الإسراء المشهور أن جبريل عليه السلام لما صعد إلى السماء الدنيا واستفتح أى طلب الفتح للدخول قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال محمد، وفى كل سماء كان يحصل هذا يقول الشراح: قول الملائكة لجبريل: ومن معك؟ يشعر بأنهم أحسوا أن معه أحدا غيره، وإلا لكان السؤال: أمعك أحد؟ وهذا الإحساس إما بمشاهدة، لكون السماء شفافة، وإما لأمر معنوى بزيارة الأنوار. .
وروى البخارى ومسلم أن جابرا رضى الله عنه أتى لزيارة النبى صلى الله عليه وسلم فدق الباب فقال الرسول " من ذا " فقال: أنا أنا،فقال الرسول: " أنا أنا " كأنه كرهها. ولا بأس أن يصف الزائر نفسه بما يعرف به إذا لم يعرفه المخاطب بغيره.
5 -تحين الوقت المناسب للزيارة، فلا تكون مبكرة فى الصباح مثلا، أو فى وقت الراحة ظهرا، أو بعد ساعات طويلة من الليل، والناس يختلفون فى تعيين الأوقات التى لا تستحب فيها الزيارة، وذلك باختلاف البيئات والظروف، وفى صحيح مسلم بشرح النووى "ج 6 ص 106 " زيارة جماعة لابن مسعود بعد صلاة الفجر وهو مستغرق فى التلاوة حتى بعد طلوع الشمس.
6 - الإقلال من الزيارة بعدم تكرارها قبل مرور وقت تشتاق فيه النفوس إليها، وقد روى حديث يقول " زر غِبًّا تزدد حبا" رواه الطبرانى عن عبد الله بن عمرو، ورواه البزار عن أبى هريرة، ثم قال: لا يعلم فيه حديث صحيح. يقول الحافظ المنذرى: وهذا الحديث قد روى عن جماعة من الصحابة، وقد اعتنى غير واحد من الحفاظ بجمع طرقه والكلام عليها، ولم أقف له على طريق صحيح كما قال البزار، بل له أسانيد حسان عند الطبرانى وغيره.
7 -تقليل زمن الزيارة ومراعاة ظروف المزور حتى لايمل من الزائرين، وبخاصة إذا كان مريضا أو مشغولا بأمور هامة وجاءت الزيارة مفاجئة لم يسبقها استعداد، والقران الكريم ينهى عن ذلك بما حدث من المدعوين لوليمة بمناسبة زواج النبى صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضى الله عنها قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إِناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحى منكم والله لا يستحى من الحق} الأحزاب: 53.
8-إذا لم يكن المزور موجودا فى بيته ينبغى ألا يدخل الزائرون حتى لو كانوا أقارب للزوجة، فقد كره أبو بكر ذلك عندما حضر فوجد جماعة من بنى هاشم دخلوا على أسماء بنت عُميس ولم يرإلا خيرا، وشكا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فأكد له براءتها ثم خطب على المنبر وقال "لايدخلن رجل بعد يومى هذا على مُغيَبة إلا ومعه رجل أو اثنان " والمغيبة هى التى غاب زوجها عن المنزل رواه مسلم لاج 14 ص 9 -ومن السنة أن يجلس الزائر فى المكان الذى يختاره له صاحب البيت، ولا يتمسك بمكان معين قد يطلع منه على بعض ما لايحب صاحب البيت أن يطلع عليه أحد!(10/348)
السيد أحمد البدوى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أين ولد السيد احمد البدوى، وبماذا اشتهر عند أهل مصر وهل صحيح أن من اعترض عليه يعطبه؟
الجواب
السيد أحمد البدوى هو أحمد بن على بن إبراهيم، ينتهى نسبه إلى الحسين بن على رضى الله عنهما كما قال الشبلنجى فى " نور الأبصار" ص 237، أجداده نزحوا من الحجاز فى أيام الحجاج بن يوسف الثقفى سنة 73 و، إلى بلاد المغرب، ولد بفاس سنة 96 5هـ وذهب مع أبيه وأمه فاطمة بنت محمد بن أحمد واخوته سنة 603 هـ للحج، فحج وعمره إحدى عشرة سنة عام 607 هـ وأقام بمكة. وعرف بالبدوى لكثرة ما كان يتلثم، عرض عليه أخوه الزواج فامتنع وأقبل على القرآن، واشتهر بمكة بالشجاعة وسمى العطاب والغضبان، ثم اعتزل الناس، ورأى فى المنام من يأمره بالسفر إلى طندتا " طنطا" فسار هو وأخوه حسن إلى العراق وقابل عبد القادر الجيلانى وأحمد الرفاعى ثم عادا إلى مكة ولزم الصيام والقيام، ثم سار من مكة سنة 634 هـ وأخيرا وصل مصر فنزل طندتا فى 14 من ربيع الأول سنة 637 هـ وحل بمنزل أحد مشايخ البلد واسمه " ابن شحيط " ساهرا على السطح، وكان من تلاميذه عبد العال ولازم السطح 12 سنة، وكان الظاهر بيبرس يزوره.
لما حفظ القراَن بمكة اشتغل بالعلم مدة على مذهب الإمام الشافعى قبل أن يتصوف، زاره فى طنطا تقى الدين بن دقيق العيد قاضى قضاة مصر واعترض على عدم صلاته مع الناس، ويقال إنه أطاره إلى مكان بعيد قابله فيه الخضر وأرشده إلى الاعتذار لأحمد البدوى الذى يصلى بالناس فى قبة معينة، ففعل فأعاده إلى بيته، وذكر الشعرانى له كرامات أخرى منها انه جاء بالأسير من بلاد الفرنجة مقيدا مغلولا سنة 645 توفى أحمد البدوى سنة675 هـ.
ومن أراد الزيادة فليرجع إلى الطبقات الكبرى للثسعرانى " ج 1 ص 183 " والله أعلم بالكرامات الذى ذكرها له، وإن كان أصل الكرامة للصالحين أمرا مُسلَّمًا به، لأنها من نوع المعجزات الخارقة للعاده التى تظهر على أيدى الأنبياء من أجل التحدى وإثبات صدق الرسالة(10/349)
السيد إبراهيم الدسوقى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الشيخ إبراهيم الد سوقى ينتسب إلى آل البيت؟
الجواب
ذكر الشعرانى فى الطبقات الكبرى " ج 1 ص 181 " أنه إبراهيم ابن أبى المجد بن قريش ينتهى نسبه إلى الحسين رضى الله عنه ولد فى دسوق سنة 623 هـ وأمه فاطمة أخت أبى الحسن الشاذلى، تفقه على مذهب الإمام الشافعى، ثم تصوف، وعاش من العمر ثلاثا وأربعين سنة لم يتزوج ولم يغفل عن مجاهدة نفسه حتى توفى سنة 676 هـ وذكر الشبلنجى فى " نور الأبصار " ص 242 نقلا عن طبقات المناوى أنه شيخ الطائفة البرهامية، صاحب المحاضرات القدسية والعلوم اللدنية، كان يتكلم عدة لغات ويعرف لغات الوحش والطير وعيَّنه الظاهر بيبرس شيخا للإسلام.
ومن كلامه: الشريعة أصل والحقيقة فرع، فالشريعة جامعة لكل علم مشروع، والحقيقة جامعة لكل علم خفى، وسرد له بعض الكرامات. ومقامه معروف فى مدينة دسوق بمصر، كان هو وأتباعه يلبسون العمامة الخضراء، كما كان أتباع السيد أحمد البدوى يلبسون العمامة الحمراء، وأتباع الرفاعى يلبسون العمامة السوداء(10/350)
السيد أبو الحسن الشاذلى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هو أبو الحسن الشاذلى وأين دفن؟
الجواب
هو أبو الحسن على الشاذلى بن عبد الله بن عبد الجبار، ينتهى نسبه إلى الحسن بن على رضى الله عنهما، نسب إلى " شاذلة" قرية قرب تونس ولد بقرية تسمى غماره قريبة من سبتة وطنجة بالمغرب سنة 593هـ وتلقى علومه الأولية بها، وسافر إلى العراق ثم عاد إلى بلده والتقى بعبد السلام بن مشيش إمام أهل المغرب فأشار عليه بالذهاب إلى شاذلة ثم انتقل إلى تونس ثم إلى مصر فنزل الإسكندرية ونشر بها مذهبه واحتفل الناس به، قرأ فى كتب التفسير والسيرة، وتفقه عليه العز ابن عبد السلام وابن دقيق العيد وعبد العظيم المنذرى وابن الصلاح وابن الحاجب. جاء فى كتاب نور الأبصار للشبلنجى " ص 244 " أن أهل المغرب نفوه وكتبوا إلى نائب الإسكندرية أنه زنديق فاحذروه، فآذاه أهل الإسكندرية، فلما ظهرت كراماته اعتقدوه. وذكر له عدة أقوال حكيمة وأدعية كثيرة توفى فى ذى القعدة 656 هـ هو قاصد الحج فى شهر رمضان، ودفن بصحراء لد عيذاب " فى " حميثرا" من الصعيد، وذكر ما نقله ابن بطوطة فى رحلته عن ياقوت العرش عن شيخه أبى العباس المرسى أن أبا الحسن الشاذلى كان يحج كل سنة، فلما كان فى آخر سنة خرج فيها قال لخادمه: استصحب فأسا وقفة وحنوطا، فقال له: لماذا؟ قال " فى حُمَيثرا سوف ترى " فلما بلغ حميثرا اغتسل الشيخ وصلى ركعتين فقبضه الله فى آخر سجدة ودفن هناك. ولم يترك مؤلفات.
ومن تلاميذه الذين ورثوا علمه أحمد أبو العباس المرسى توفى سنة 686 د وذكر له الشعرانى " الطبقات الكبرى"ج 2 ص 4 أقوالا حكيمة كثيرة، ولم يترك كتبا كشيخه الشاذلى. ومن تلاميذ المرسى ياقوت العرش المتوفى بالإسكندرية سنة 707 هـ، ومن تلاميذ ياقوت العرش ابن عطاء الله السكندرى المتوفى سنة 707 هـ الذى ألف عدة كتب منها: الحكم والتنوير فى إسقاط التدبير " انظر ص 20 من المرجع المذكور"(10/351)
ابن عطاء الله السكندرى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يمدح كثير من الناس كتاب "الحكم" لأبن عطاء الله السكندرى، فهن هو ابن عطاء الله، وكيف وصل إلى هذه المنزلة؟
الجواب
هو تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندرى، وهو من أصل عربى، ولد بالاسكندرية حيث كانت تقيم أسرته، ولم يعرف تاريخ مولده بالضبط، فهو ما بين سنة 8 5 6 هـ، 9 67 هـ، كان والده معاصرا لأبى الحسن الشاذلى، شغل ابن عطاء بالعلوم الدينية، وكان فى أول أمره شديد الإنكار على الصوفية، ثم عدل عن ذلك بعد لقائه بأبى العباس المرسى، وكان بعد وفاة أبى العباس المرسى سنة 686 وخليفة لطريقته، حتى ارتحل إلى القاهرة وتولى التدريس بالأزهر، وكانت له معرفة تامة بكلام أهل الحقائق وأرباب الطرائق كما يقول ابن تغرى بردى، وتتلمذ على يديه كثيرون منهم تقى الدين السبكى، وكان معاصرا لابن تيمية المتعصب ضد الصوفية.
توفى سنة 709 هـ ودفن بجبانة السيد على أبى الوفا تحت جبل المقطم وترك مصنفات كثيرة بلغت اثنين وعشرين، منها كتابه المشهور " الحكم " الذى شرحه ابن عجيبة(10/352)
الإمام الغزالى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى أى قرن عاش الإمام الغزالى، ولماذا أطلق عليه لقب حجة الإسلام؟
الجواب
الإمام الغزالى هو: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الطوسى الغزالى ولد بطوس سنة أربعمائة وخمسين من الهجرة " 455 هـ " وكان والده يغزل الصوف ويبيعه فى دكانه بطوس، ولما حضرته الوفاة أوصى به وبأخيه احمد إلى صديق له متصوف أن يعلِّمهما وينفق عليهما بسخاء حتى لو نفد كل ما تركه لهما.
ولما نفد ما تركه أبوهما وكان الوصى فقيرا أشار عليهما بالالتحاق بمدرسة كانت تنفق على طلابها، ففعلا.
وكان أبو حامد أفقه أقرانه، أما أخوه أحمد فكان واعظا، تفقه الغزالى فى صباه على أحمد بن محمد الراذكانى، ثم أخذ عن الإمام أبى نصر الإسماعيلى فى جر جان ثم رجع إلى طوس وأقبل على العلم وحفظه، ثم قدم نيسابور ولازم إمام الحرمين، حتى بع فى الفقه والمنطق والحكمة والفلسفة، وتصدى للرد على دعاوى المبطلين، وألف فى كل ذلك كتبا كثيرة، ولما مات إمام الحرمين خرج الغزالى إلى العسكر قاصدا الوزير نظام الملك، وناظر الأئمة والعلماء فى مجلسه فاعترفوا بفضله فولاَّه التدريس فى مدرسته ببغداد، فتوجه إليها سنة أربع وثمانين وأربعمائة " 484 هـ " ودرس بالمدرسة النظامية، فاشتهر بذكائه وعلمه وخلقه، إلى أن زهد فى مظاهر الدنيا، فقصد بيت الله للحج، ثم توجه إلى الشام فى ذى القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة " 488 هـ " واستناب أخاه فى التدريس، وجاور بيت المقدس ثم عاد إلى دمشق واعتكف فى زاويته بالجامع الأموى المعروفة بالغزالية، ولبس الثياب الخشنة وتصوَّف وأخذ فى تصنيف كتابه " الإحياء" ثم رجع إلى بغداد وعقد بها مجالس للوعظ، وأطلق عليه اسم الشافعى الثانى، ولم تعجب أهل المغرب طريقته فأحرقوا كتبه. ثم عاد الغزالى إلى خرا سان ودرس بالمدرسة النظامية بنيسابور مدة بسيطة ثم رجع إلى طوس، واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء ومكانا للصوفية " خانقاه " وانقطع للتدريس والعبادة حتى توفى بطوس يوم الإثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة "505س ".
ومن كتبه غير الإحياء: البسيط والوسيط والوجيز والخلاصة، والمستصفى والمنخول، وتحصين الأدلة وشفاء الغليل والأسماء الحسنى والرد على الباطنية، وتهافت الفلاسفة، والمنقذ من الضلال وفيصل التفرقة.
ألف فيه المستشرق " كارادفو" كتابا ذكر فيه أن الغزالى اجتمعت لديه صفات الخطيب والعالم النفسانى والواعظ الدينى، فهو يفيض بالأولى، ويحلل بالثانية، ويأسر النفوس بالثالثة، وذكر فى كتابه "مفكرو الإسلام " أن أسلوبه مخصب سهل لدن واضح، وأنه إذ يستعين بالصور الخيالية لا يغض الطرف عن الجانب العلمى، يستهوى القارئ ولا يتعبه، عقله متزن، إذا اقتبس من السنة فعل ذلك بدون إثقال أو إفراط، إنه يقسِّم ويفرع بعناية ووضوح، وبدون تصنع أو مباهلة، ومع كونه نفسانيا لا يهوى الدقة المغالية.
والغزالى نشأ فى عصر تضاربت فيه الأقوال نحو علم الكلام والفلسفة، فبعضهم حرم الاشتغال به وعده من أكبر الكبائر، وبعضهم جعله من الواجبات، وقال هو: إن علم الكلام مباح بل ضرورى وواجب فى بعض الظروف، وهو حرام إذا ركب الإنسان فيه هواه وغلبه العناد.
هذا، وقد كتب عنه شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغى واجمل رأيه فيه بقوله:
إذا ذكر ابن سينا أو الفارابى خطر بالبال فيلسوفان عظيمان، وإذا ذكر ابن العربى خطر بالبال رجل صوفى له فى التصوف آراء لها خطورتها، وإذا ذكر البخارى ومسلم وأحمد خطر بالبال رجال لهم أقدارهم فى الحفظ والصدق والأمانة والدقة ومعرفة الرجال، أما إذا ذكر الغزالى فقد تشعبت النواحى ولم يخطر بالبال رجل واحد، بل خطر بالبال رجال متعددون، لكل واحد قدره وقيمته، يخطر بالبال الغزالى الأصولى الماهر، والغزالى الفقيه الحر، والغزالى المتكلم إمام أهل السنة وحامى حماها، والغزالى الاجتماعى الخبير بأحوال العالم وخفيات الضمائر ومكنونات القلوب، والغزالى الفيلسوف، أو الذى ناهض الفلسفة وكشف عما فيها من زخرف وزيف، والغزالى الصوفى الزاهد وإن شئت فقل: إنه يخطر بالبال رجل هو دائرة معارف عصره.
" المضنون به على غير أهله، مجلة الأزهر- المجلد 11:
ص 398، 476، 1 لمجلد 6 1: ص 336"(10/353)
الخنافس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى الشباب الذين يرسلون شعورهم وسوالفهم ويبدون كأنهم نساء؟
الجواب
روى أبو داود عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من كان له شعر فليكرمه " قيل: إن الحديث ليس بقوى ولكن تشهد له الأحاديث الأخرى، ورواه البيهقى عن عائشة، وحكم عليه بالصحة، وروى أبو داود والترمذى بإسناد جيد عن جابر أن رجلا دخل على النبى صلى الله عليه وسلم ثائر الشعر أشعث اللحية فقال " أما كان لهذا دهن يسكن به شعره "؟ ثم قال: " يدخل أحدكم كأنه شيطان " وجاء رواية أن الرجل لما سمع هذا أصلح شعره فقال صلى الله عليه وسلم " أليس هذا خيرا من أن يأتى أحدكم ثائر الشعر كأنه شيطان ".
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسدل شعره ويكرمه ويرجِّله، وسدل الشعر إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة وكان المشركون يفرقون شعورهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشىء ثم فرق الرسول بعد ذلك كما أخرجه البخارى ومسلم.
وأرى أن السدل والفرق يرجع فيه إلى عادة أهل البلد، وما رؤى مخالفا لذلك بحيث يكون عيبا ينهى عنه كما فعل عمر بن عبد العزيز حيث كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزُّون ناصية كل من لم يفرق شعره، وهذا الأمر ليس من الأمور التى يتقرب بها إلى الله ولا يجب التأسى فيها بالرسول صلى الله عليه وسلم، حيث لم يرد فيها قول منه بطلب أو نهى، فهو من فعله، ولم يلتزم فيه حالة واحدة.
والمنهى عنه فى الشعر هو حلق بعضه وترك بعضه الآخر، وهو المسمى بالقرع كما رواه البخارى ومسلم، وفى رواية لأبى داود بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم رأى صبيا حلق بعض شعر رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال " احلقوه كله أو اتركوه كله " وجاء فى رواية لأبى داود أنه زى اليهود.
وذكر الأستاذ محمود شيت خطاب " مجلة الأزهر-ذو الحجة 1390هـ " أن إطالة السوالف تقليد يهودى قديم راجع إلى إلزام "بختنصر" لهم به ليعرف أنهم سَبْىٌ لد فى العراق، ثم توارث اليهود ذلك وقلدهم الفنانون، ومن أحسن ما قيل فى ذم خنافس اليوم وتشبههم بالنساء قصيدة للشاعر حسن جاد جاء فيها:
من مجيرى من الذين اللواتى * حِرْت فيهم بين الفتى والفتاة؟ عجبا للفتى يبدل خلقا * صاغه الله بارئ النسمات لم يدع من مفاتن للعذارى * أو يغادر لهن من مغريات يابنى الخنفساء كيف رضيتم * بانتساب لأحقر الحشرات؟ ومسختم ما أوع الله فيكم * من سجايا رجولة وسمات كيف يُرْجى غَدُ البلاد بجيل * نرجسى الميول والنزعات؟ لا رعى الله صنعكم من شباب * مغرم بالتقليد فى الترهات كدت والله حين صرتم بنات * أتمنى لو عاد وأد البنات يمكن الرجوع إلى القصيدة كلها والموضع كله فى الجزء الثالث من موسوعة " الأسرة تحت رعاية الإسلام " وما جاء من خطورة التشبه بالنساء، والتقليد الأعمى للغير، وبخاصة ما ليس فيه فائدة يحتاج إليها المسلمون فى ظروفهم الحاضرة(10/354)
الخدم وأسراء البيوت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سيدة تقول: عندها خادمة ماهرة، لكنها تنقل اسرارنا إلى أهلها وإلى الجيران، فهل لو طردتها أكون آثمة؟
الجواب
إذا كان الإسلام قد أوصى بالرحمة بالخدم بمثل قوله صلى الله عليه وسلم " هم إخوانكم وخَوَلكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم " رواه البخارى ومسلم، فإنه قد أوجب على الخدم أن يكونوا أمناء، لعموم قوله تعالى حكاية عن بنت شعيب وموسى {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين} القصص:
26] .
والأمانة المطلوبة من الخادم أبرز ميادينها ثلاثة: المال والعرض والسر. وبخصوص السر-بحكم وضعه وتمكنه من الاطلاع على الأمور الخفية-روى مسلم عن ثابت عن أنس قال: أتى علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنا ألعب مع الغلمان فسلَّم علينا، فبعثنى فى حاجته، فأبطأت على أمى، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا. قال أنس: والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك به يا ثابت، وروى البخارى بعضه.
وفى إرشاد أم أنس له بألا يفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه لأولياء الخادم فى عدم الإلحاح عليه أن يخبرهم بما يحدث له، أو ينقل أخبار مخدومه، كما أن موقف أنس فيه صلابة فى حفظ السر يجب أن تحتذى، حتى لو كان إفشاؤه لأعز الناس عنده وألصقهم به.
والخادم الذى يفشى أسرار البيوت خائن، لا حرمة فى الاستغناء عنه، اتقاء لضرره، ولعل طرده يكون عبرة له ليتوب، وعظة لغيره أن يلتزم بأدب المحافظة على الأسرار(10/355)
حكمة التشريع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نلاحظ أن بعضى المتهاونين فى تنفيذ أوامر الذين إذا نصحناهم بالامتثال قالوا: حتى نقتنع فما حكم الدين فى هؤلاء؟
الجواب
من المعلوم لكل مؤمن أن أفعال الله سبحانه لا تخلو من حكمة، ضرورة أنه حكيم عليم خبير، وقضية إيمان العبد بحكمة خالقه وسيده أن ينفذ أوامره دون سؤاله عن حكمة هذه الأوامر، لأن هذا يؤدى إلى أنه إذ لم يقنع رفض التنفيذ، وهذا هو موقف إبليس من أمر ربه له بالسجود لآدم، حيث إنه لم يقتنع بصواب هذا الأمر، وتناهى فى الغرور بنفسه وفكره فبرر الرفض بأنه أفضل من آدم جاء ذلك فى قوله تعالى {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين} الأعراف: 12 بل إن هذا الموقف يؤول إلى اعتبار العقل أقوى من الله، وإلى الاستجابة إلى الهوى ورفض ما لا يتفق معه، وفى ذلك يقول الله سبحانه {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} الجاثية: 23 وقد جاء فى الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " صححه النووى فى كتابه " الأربعين النووية" لكن البغوى فى " مشكاة المصابيح " قال: هذا وهم فالسند ضعيف، فيه نعيم بن حماد وهو ضعيف، وأعله الحافظ ابن رجب بغير هذه العلة، ورواه الحاكم ابن عساكر فى أربعينه وقال: حديث غريب.
إن بعض الأحكام الشرعية قد تخفى فيها حكمة التشريع، ولكن مادامت قد ثبتت فلا بد من امتثالها، يقول الله سبحانه {كتُب عليكم القتال وهو كُره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون} البقرة: 216 ولو أعمل الإنسان فكره فى أمثال هذه التكاليف الشاقة لعلم أنها حق، وقد يشير الله إلى ذلك فى بعض آيات أخرى مثل قوله تعالى {ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض} البقرة: 251.
ولعلم الله سبحانه بطبيعة الإنسان الذى يغريه بالعمل إيمانه بفائدته يبين كثيرا فى تشريعاته الحكم والفوائد المترتبة عليها بأسلوب يتناسب مع بلاغة القران، كما قال فى حكمة الصيام {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} البقرة: 183 فالحكمة هى التقوى وتوضيح ذلك يطول، وكما قال فى حكمة الصلاة {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت:45 وكما قال فى تشريع القصاص {ولكم فى القصاص حياة} البقرة: 179 وكما قال فى تحريم الخمر والميسر {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} المائدة: 90، 91.
وفى بعض الأحيان تأتى التكاليف مجردة عن بيان حكمتها، وذلك أسلوب من أساليب امتحان العبد لظهور مدى إيمانه بحكمة الله فى أوامره ونواهيه، فالمؤمن الصادق يسارع إلى الامتثال مطمئنا إلى عدالة التشريع، وغير الصادق يتوقف فإن فهم الحكمة فكَّر فى الامتثال، وإن لم يفهم سَوَّلت له نفسه الرفض أو التكاسل، ومن هنا يكون امتثاله شكليا كفعل المنافقين الذين قال الله فيهم {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} التوبة: 54.
يقول الإمام الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين ج 1 ص 111 ":
واجبات الشبع ثلاثة أقسام، قسم هو تعبُّدُ محْضُ لا مدخل للحظوظ والأغراض فيه، وذلك كرمى الجمرات مثلا، إذ لاحظَّ للجمرة فى وصول الحصاة لها، فمقصود الشرع فيه الابتلاء بالعمل، ليظهر العبد رقه وعبوديته بفعل ما لا يعقل له معنى، لأن ما يعقل معناه فقد يساعده الطبع عليه ويدعو إليه، فلا يظهر به خلوص الرق والعبودية. والقسم الثانى من واجبات الشرع المقصود منه حظ معقول، وليس يقصد منه التعبد، كقضاء دين الآدميين ورد المغصوب، فلا جرم لا يعتبر فيه فعله ونيته، ومهما وصل الحق إلى مستحقه بأخذ الحق أو ببدل عنه عند رضاه تأدى الوجوب وسقط خطاب الشرع، والقسم الثالث هو المركب الذى يقصد منه الأمران جميعا، وهو حظ العباد وامتحان المكلف بالاستعباد، فإن ورد الشرع به وجب الجمع بين المعنيين، ولا ينبغى أن ينسى أدق المعنيين وهو التعبد والاسترقاق بسبب أجلاهما، ولعل الأدق هو الأهم. . . والزكاة من هذا القبيل. . .
وقال فى صفحة 240: وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بيد الشرع، فيترددون فى أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبيرات فى تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق إلى مقتض الاسترقاق، وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات. انتهى.
بعد هذا البيان الشافى من كلام حجة الإسلام الإمام الغزالى لا يجوز لأحد يوجه إليه النصح بالالتزام بأحكام الدين أن يقول: حتى أقتنع، فذلك هو مسلك الشيطان، وقد حذرنا الله من اتباعه لأنه عدو مبين، إن كثيرا من التكاليف جاء النداء بها بوصف الإيمان {يا أيها الذين آمنوا} يعنى ما دمتم مؤمنين بالله فعليكم أن تتقبلوا كل تكاليفه بنفس راضية مطمئنة، تحقيقا لعبوديتكم الخالصة لله سبحانه وإيمانكم القوى بعدله وحكمته. ولنعلم جميعا أن رفض حكم الله كفر، وأن التهاون فيه مع الإيمان به عصيان وفسوق. وهو سبحانه يقول {إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور} الزمر: 7(10/356)
تعليم العلم لغير أهله
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا تعلموا أولاد السفلة العلم فإن علمتموهم فلا تولوهم القضاء والولاية"؟
الجواب
من المعلوم أن الإسلام أمر بالعلم وكرَّم أهله، بنصوص كثيرة فى القران والسنة، وقد وضح ذلك ابن القيم فى كتابه " مفتاح دار السعادة" وتحدث العلماء عن فضل نشر العلم وتعليمه والأسلوب الذى يناسب ذلك، ومنها مخاطبة الناس على لدر عقولهم، واختيار الذين يتلقون العلم حتى يصونوه بحسن التلقى وبالعمل به وبنشره.
ومما جاء فى ذلك حديث " نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم " رواه أبو الحسن التميمى فى كتاب العقل له بإسناده عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم، وخرَّجه الحافظ الضياء عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم. وقال البخارى قال على رضى الله عنه:
حدَّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ونقل السفارينى فى كتابه " غذاء الألباب "ج 1 ص 44 عن كتاب الآداب الكبرى أن شعبة قال: أتانى الأعمش وأنا أحدث قوما، فقال:
ويحك، تعلق اللؤلؤ فى أعناق الخنازير؟ قال مهنَّا للإمام أحمد رضى الله عنه: ما معنى قوله؟ قال: لا ينبغى أن يحدث من لا يستأهل، وقال عيسى ابن مريم عليه السلام: للحكمة أهل، فإن وضعتها فى غير أهلها ضيعت، وإن منعتها من أهلها ضيعت وقال عليه السلام: لا تطرح اللؤلؤ إلى الخنزير، فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئا، ولا تعط الحكمة من لا يريدها، فإن الحكمة خير من اللؤلؤ، ومن لا يريدها شر من الخنزير. وقال مالك: ذُلُّ وإهانة للعلم أن تتكلم به عند من يضيعه، ومن كلام الإمام الشافعى رضى الله عنه:
أأنثردرا بين سارحة النَّعم * أأنظم منثور الراعية الغنم إلى أن قال:
فمن منح الجهال علما أضاعه * ومن منع المستوجبين فقد ظلم فالعلم كالسيف إن أعطيته لتقىٍّ قاتل به فى سبيل الله، وإن ألقيته لشقى قطع به الطريق وأضل عباد الله، وهذا مستثنى من عموم قوله صلى الله عليه وسلم " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" رواه أصحاب السنن إلا النسائى، ورواه ابن حبان فى صحيحه والبيهقى.
وفى الصحيحين أن ابن عباس رضى الله عنهما قال لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن الموسم يجمع الرعاع والغوغاء، فأمهل حتى تقدم المدينة فتخلص بأهل الفقه، فقدمنا المدينة، فقبل عمر مشورة ابن عباس فلم يتكلم بذلك حتى قدم المدينة. قال الإمام ابن الجوزى: وفى هذا تنبيه على ألا يودع العلم عند غير أهله، ولا يحدث لقليل الفهم ما لا يحتمله فهمه، والرعاع السفلة، والغوغاء نحو ذلك، واصل الغوغاء صغار الجراد.
وسأل ابن المبارك سفيان الثورى بمكة عن الغوغاء فقال: الذين يكتبون الأحاديث يريدون أن يتأكلوا أموال الناس، وسأله عن السفلة فقال: الظلمة.
وجاء فى إحياء علوم الدين للإمام الغزالى "ج 1 ص 49" مثل هذا الكلام، وذكر قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما} النساء:5 وقال إن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى من حفظ المال، وليس الظلم فى إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم فى منع المستحق، وذكر الشعر السابق المنسوب إلى الإمام الشافعى. وذكر فى ص 11 قول عكرمة: إن لهذا العلم ثمنا، قيل: وما هو؟ قال: أن تضعه فيمن يحسن حمله ولايضيعه.
وجاء فى كتاب أدب الدنيا والدين للماوردى " ص 73 " أنه روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تمنعوا العلم أهله فتظلموا، ولا تضعوه فى غير أهله فتأثموا" ولم يخرج هذا الحديث كما جاء فيه حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم " واضع العلم فى غير أهله كمقلد الخنازير اللؤلؤ والجوهر والذهب " ولم يخرِّجه أيضا.
ثم جاءت أخبار تحذر من تعلم العلم لغير وجه الله منها " لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السفهاء ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو فى النار" وهو حديث رواه ابن ماجه بسند صحيح، ولا شك أن السفلة هم الذين يتعلمون من أجل ذلك.
من هذا نرى أن الحديث المسئول عنه لم يرد بنصه بطريق صحيح، لكن معناه ورد فى أحاديث وأقوال أخرى، وهو معنى صحيح.
هذا، وقد جاء فى تفسير القرطبى " ج 9 ص 23 " أن السفلة فى تعيينهم أقوال، فقيل هم الذين يتفلَّسون ويأتون أبواب القضاء والسلاطين يطلبون الشهادات، مأخوذ من التفليس وهو استقبال الولاة عند قدومهم بأصناف اللهو. وقيل: هم الذين يأكلون الدنيا بدينهم، وقيل: هم الذين يزاولون أعمالا حقيرة كالحياكة والحجامة والدباغة والكنس، وبخاصة إذا كانوا من غير العرب.
لكن للعرف رأى فى إطلاق هذا الاسم على بعض الناس(10/357)
الآل والأهل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك فرق بين آل فلان وأهل فلان؟
الجواب
قال ابن القيم فى كتاب " جلاء الأفهام ": قالت طائفة: يقال:
آل الرجل له نفسه، وآله لمن تبعه، وآله لأهله وأقاربه، فمن الأول قول النبى صلى الله عليه وسلم، لما جاءه أبو أوفى بصدقته: " اللهم صل على آل أبى أوفى" وقوله تعالى {سلام على آل ياسين} الصافات: 130 وقوله صلى الله عليه وسلم " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم " فآل إبراهيم هو إبراهيم، لأن الصلاة المطلوبة للنبى صلى الله عليه وسلم هى الصلاة على إبراهيم نفسه، وآله تبع له فيها.
ونازعهم فى ذلك آخرون وقالوا: لا يكون الآل إلا للأتباع والأقارب، وقالوا: وما ذكروا من الأدلة المراد بها الأقارب. ثم اختار من القولين أن الآل إن أفرد دخل فيه المضاف إليه كقوله {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} غافر: 46 وأما إن ذكر الرجل ثم ذكر آله لم يدخل فيهم.
واختلف فى آل النبى صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال:
فقيل: هم الذين حرِّمت عليهم الصدقة، وفيهم ثلاثة أقوال، أحدها: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، وهذا مذهب الشافعى وأحمد فى رواية عنه، والثانى: أنهم بنو هاشم خاصة، وهذا مذهب أبى حنيفة والرواية الثانية عن الإمام أحمد، وهى المذهب الذى لا يفتى بغيره عنده، والثالث: انهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى " غالب " فيدخل فيهم بنو المطلب وبنو أمية وبنو نوفل ومن فوقهم إلى " غالب " وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك.
والقول الثانى أن آل النبى صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة، حكاه ابن عبد البر فى لد التمهيد".
والقول الثالث: أن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، واختاره بعض الشافعية وغالب العلماء المتأخرين فى مقام الدعاء خاصة.
والقول الرابع: أن آله صلى الله عليه وسلم هم الأتقياء من أمته، حكاه القاضى حسين والراغب وجماعة.
هذا ما نقله السفارينى عن جلاء الأفهام لابن القيم ثم تحدث عن الصلة بين الآل والأهل، فقال: هل أصل آل أهل، ثم قلبت الهاء همزة فقيل: أأل، ثم سهلت على قياس أمثالها فقيل: آل، بدليل تصغيره على أهَيْل، أو أول من آل يؤول إذا رجع، فآل الرجل هم الذين يرجعون إليه ويضافون، ويؤولهم أى يسوسهم فيكون مآلهم إليه؟ ظاهر كلامه فى " جلاء الأفهام "ترجيح الثانى.
وجاء فى القاموس: آله أهل الرحم وأتباعه وأولياوه: ولا يستعمل إلا فيما فيه شرف غالبا، فلا يقال: آل الإسكاف كما يقال أهله. قال فى القاموس: وأصله أهل، وأبدلت الهاء همزة فصارت أأل، توالت همزتان فأبدلت الثانية ألفا، وتصغيره أويل وأهيل. انتهى(10/358)