وقت الفجر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن الفجر الكاذب هو المدون توقيته بالنتائج، أما الفجر الصادق فهو بعده بعشر دقائق أو عشرين دقيقة، ولذلك لا يصلون الصبح ولا يمسكون عن الطعام فى الصيام إلا بعد طلوع هذا الفجر فما حكم الشرع فى ذلك؟
الجواب
مبدئيا: نقول: هناك فجر كاذب وفجر صادق، فقد روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال - أو قال نداء بلال - من سحوره، فإنه يؤذن - أو قال ينادى بليل - ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم " وقال "إن الفجر ليس الذى يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض - ولكن الذى يقول هكذا ... " ووضع المسبحة على المسبحة، ومد يده. وجاء توضيح ذلك بقوله "هو المعترض وليس بالمستطيل " وبقوله "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا" يعنى معترضا.
إن تعيين الفجر الصادق والكاذب تعيينا مستمدا من الحديث النبوى والأرصاد الحديثة قام به المختصون، وانتهوا إلى أن الفجر الصادق هو الذى يرفع له الأذان، ولا بد من اتباع ذلك ما لم يظهر شيء آخر يقوم على حقائق علمية وأرصاد يقينية صحيحة.
والكلام الذى جاء فى السؤال حدث منذ سنوات قليلة، ولعل من قالوا به قرؤوا ما جاء فى تفسير القرطبى "ج 2 ص 319" من أن طائفة قالت: إن حل الصلاة تحريم الطعام يكون بعد طلوع الفجر وتبينه فى الطرق والبيوت، وروى ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن على وعطاء بن أبى رباح. وروى النسائى عن عاصم عن زر قال: قلنا لحذيفة: أى ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع.
وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة: قال الطبرى: والذى دعاهم إلى هذا أن الصوم إنما هو فى النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، وآخره غروبها.
هذا وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية بتاريخ 22 من نوفمبر 1981 م بما نصه: إن الحساب الفلكى لمواقيت الصلاة الذى تصدره هيئة المساحة المصرية عُرِضَ على لجنة متخصصة من رجال الفلك والشريعة فانتهت إلى أن الأسلوب المتبع فى حساب مواقيت الصلاة فى جمهورية مصر العربية يتفق من الناحية الشرعية والفلكية مع رأى قدامى علماء الفلك من المسلمين.
واستيثاقا لذلك ستشكل لجنة أخرى لمتابعة البحث، وقرر المفتى الالتزام بالمواقيت المذكورة، لأنها موافقة لما جاء فى الأحاديث التى رواها أصحاب السنن مما علمه جبريل للنبى صلى الله عليه وسلم وأمر المفتى من يقولون فى الدين بغير علم أن يتقوا الله حتى لا يضلوا الناس فى دينهم، وألا يلبسوا الدين بأغراض أخرى يبتغونها، فالحق أحق أن يتبع "الفتاوى الإسلامية ج 8 ص 2733 "(9/37)
ترك العمل لصلاة الجماعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى العمال الذين يتركون أعمالهم ليصلوا الظهر جماعة؟
الجواب
لا شك أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد، وأن الصلاة فى أول الوقت أفضل من الصلاة في غيره، فيسن للإنسان أن يبادر بالصلاة فى أول وقتها، وأن يصليها فى جماعة. وذلك إذا لم يكن مرتبطا بعمل آخر له أهميته، ولو تركه لفسد العمل أو نقص أثره نقصا واضحا، وهذا فى عمله أما عمله لغيره فلا يحل له أن يتركه لهذه الفضيلة التى لا عقاب على تركها إلا إذا أذن له صاحب العمل لأن أداء العمل لقاء أجر عقد واجب التنفيذ لا يجوز التقصير فيه، أما الجماعة وأول الوقت فسنة، والواجب مقدم على السنة، فإذا سمح صاحب العمل فى فسحة من أجل الصلاة جاز ذلك، على ألا يساء استعمال هذه الفسحة، فتتخذ وسيلة إلى التزويغ أو قضاء مصالح أو غير ذلك أكثر من الصلاة.
والنبى صلى الله عليه وسلم حينما حدد جبريل له أوقات الصلاة - صلى به فى أول الوقت، ثم صلى ثانيا فى آخر الوقت وقال "الوقت ما بين هذين الوقتين " وذلك من باب التيسير، فإذا كان الإنسان حرا غير مرتبط بعمل لغيره فمن السنة المبادرة بالصلاة جماعة فى أول وقتها، أما إذا كان مرتبطا فيتوقف ذلك على إذن صاحب العمل.
وأعتقد أن أصحاب الأعمال المسلمين لا يمنعون أحدا من ذلك، فالمتدين سيحافظ على العمل ويتقنه ولا يتهاون فيه، غير أنه - كما قلت - لا ينبغى إساءة استعمال هذا الإذن، فالعمل نفسه طاعة لله ما دامت النية فيه طيبة، وليتعاون أرباب العمل مع العمال على المصلحة المشتركة.
هذا كله ما دام فى الوقت متسع، أما إذا ضاق الوقت وخيف أن تفوت الصلاة وجب ترك العمل من أجل إدراك الصلاة، ولا يتوقف ذلك على إذن صاحب العمل، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
ولو فرض أن صاحب العمل شديد لا يسمح لأحد بترك العمل لأجل الصلاة، وإن تركه عاقبه عقوبة تؤثر تأثيرًا شديدا على العامل فيجوز له أن يجمع فرضين بعضهما مع بعض يصليهما بعد الانتهاء من العمل، الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء كما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل(9/38)
صفوف الجماعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرجو توضيح النصوص الواردة فى فضيلة الصفوف الأولى للرجال والصفوف الأخيرة للنساء فى صلاة الجماعة؟
الجواب
روى البخارى وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" وروى البخارى وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لو يعلم الناس ما فى الأذان والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" أى لو يعلم الناس ثواب الصف الأول لحكَّموا القرعة بينهم عند كثرة من يرغبون فيه. وروى مسلم وغيره أنه قال "ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربها"؟ قلنا: يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ فقال " يتمون الصف الأول ويتراصون فى الصف " وروى أحمد بإسناد جيد أنه قال " إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول " وصلاة الله رحمة وصلاة الملائكة استغفار، وروى مسلم وغيره أنه قال "ليَلنى منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " وروى أحمد وأبو داود عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه.
تدل هذه الأحاديث على فضل الصفوف الأولى للرجال فى صلاة الجماعة، وعلى فضل الصفوف الأخيرة للنساء، وعلى أفضلية الصف الأول من هذه الصفوف، وعلى أفضلية أن تكون الصفوف الأولى من ذوى العقول المستنيرة والمتفقهين فى الدين.
والحكمة فى كون هؤلاء أولى بالصفوف الأولى تظهر فى أمور، منها أنهم أقدر على الأخذ والفهم لما يقوله الرسول ويفعله، وأقدر على تعليم غيرهم ما تعلموه منه، وأنهم يستطيعون تنبيهه إذا حدث ما يدعو إلى التنبيه، أو الفتح عليه عند التوقف عن القراءة وأنهم أولى بالإمامة إذا أراد استخلاف أحد لعذر من الأعذار.
والحكمة فى جعل النساء فى الصفوف الخلفية تظهر فى أمور، منها:
ا - أن المرأة ليست فى مستوى الرجال وبخاصة أولوا الأحلام والنهى فيما يتميزون به مما سبق ذكره.
2 -أن تقدمها أمام الرجال فيه صورة إمامتها لهم، وهى ممنوعة باتفاق الأئمة.
3- أنها تشغل الرجال عن الخشوع فى الصلاة بمجرد وجودها أمامهم، وذلك أمر طبيعي وعند ركوعها وسجودها يكون الانشغال أشد، وهو ما يفسر به حديث قطع المرأة للصلاة إذا مرت أمام المصلى عند جمهور الفقهاء.
4 -ألا تختلط صفوف الرجال بالنساء إذا تخللن صفوفهم فيكون انصرافهن بعد انتهاء الصلاة أيسر، وكان من المأثور أن النبى صلى الله عليه وسلم كان لا ينصرف عقب الصلاة مباشرة بل ينتظر هو وأصحابه حتى ينصرف النساء أولا.
هذا، وكان من المتبع فى ترتيب الصفوف فى الجماعة أن يكون الرجال فى الصفوف الأولى ثم يليهم الصبيان ثم يليهم النساء، كما رواه أحمد. وتوسط الصبيان فيه شدة حيطة من انشغال الرجال بالنساء، فمن الجائز أن بعض من فى الصف الذى يليه صف النساء إذا ركع لمح بنظره بعض النساء، ولا شك أن الخشوع فى الصلاة أساس قبولها كما قال تعالى {قد أفلح المؤمنون. الذين هم فى صلاتهم خاشعون} المؤمنون: 1، 2(9/39)
صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ورد سؤال من مدينة سعرت بتركيا يقول: فى مدينتنا تؤدى فريضة الظهر جماعة بعد أداء صلاة الجمعة. فهل هذا من الدين؟
الجواب
المعروف أن صلاة الجمعة بدل من صلاة الظهر، فلو أديت الجمعة على وجهها الصحيح أغنت عن صلاة الظهر، وإذا لم تؤد، أو أديت على غير وجهها الصحيح وجبت صلاة الظهر.
والأصل أن تقام جمعة واحدة فى مكان واحد، لسماع الخطبة الموحَّدة من الإمام حيث يستمعون إلى نصائحه وتوجيهاته، وتبلغهم دعوة الدين فلا يكون لهم عذر فى التقصير.
وكان العمل على ذلك أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فى المدينة، حيث كان المسجد النبوى يسع المصلين، وحيث كان الخليفة هو الذى يؤمهم ويخطبهم، ولما اتسع العمران وانتشر المسلمون وضاق المسجد الجامع فى الأمصار عن استيعاب كل المصلين أقيمت جمعة أخرى فى مسجد آخر، وهنا اختلف العلماء فى هذا الوضع، هل هو جائز أو لا وإذا جاز هل صحت الجمعتان أو صحت جمعة واحدة؟ وعلى فرض صحتهما أو صحة إحداهما هل هناك محل لصلاة الظهر أو لا؟ جاء فى كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" الذي أخرجته وزارة الأوقاف المصرية ما يأتى:
1- الحنفية قالوا: تصح إقامة الجمعة فى مواضع كثيرة فى المصر أو فى فنائه على الأصح، فتعدد الجمعة فى المساجد لا يضر، ولو سبق أحدها الآخر فى الصلاة على الصحيح. إلا أن الأحوط أن يصلى أربع ركعات بنية آخر ظهر، والأفضل أن يصليها فى منزله حتى لا يعتقد العامة فرضيتها، فإن تيقن أنه سُبِق بالصلاة فى مسجد آخر كانت هذه الصلاة واجبة، وإن شك كانت هذه الصلاة مندوبة.
2 - والشافعية قالوا: إن تعددت الجمعة لحاجة كضيق المسجد الواحد عن استيعاب عدد المصلين فكلها صحيحة، وتسن مع ذلك صلاة الظهر ولا تجب، أما إن تعددت الجمعة لغير حاجة، فإن تيقن سبق واحدة صحت وبطل غيرها، وعلى من بطلت صلاتهم أن يصلوها ظهَرا إن لم يمكنهم أداؤها خلف الجمعة السابقة - والعبرة فى السبق بتكبيرة الإحرام، وإن تيقن أن الجمع كلها متقارنة ليس فيها سبق واحدة على الأخرى بطلت الجُمَعُ كلها، ويجب عليهم الاجتماع لإعادتها إن أمكن، وإلا صلوها ظهرا وكذلك الحكم لو حصل الشك فى السبق والمقارنة. .
3- والمالكية قالوا: لا تصح الجمعة إلا فى الجامع القديم، وتصح فى المسجد الجديد الذى ينشأ بعد القديم بشرط ألا يُهجر القديم، وأن تكون هناك حاجة لبناء هذا المسجد الجديد، كضيق القديم وعدم إمكان توسعته وكعداوة فى ناحيتين من البلد يخشى من اجتماع الناس فى مسجد واحد أن تكون فتنة، وكذلك تصح فى المسجد الجديد إن حكم الحاكم بصحتها فيه، ولو اختل شرط بطلت الجمعة ووجبت صلاة الظهر.
4 - والحنابلة قالوا مثل ما قال الشافعية أو قريبا منه.
وعلى هذا لو تعددت الجمعة لحاجة فهى صحيحة، ومع ذلك قال الحنفية: الأحوط صلاة الظهر بعدها فى المنزل، وقال الشافعية: تسن صلاة الظهر. ولم يقل أحد تبطل صلاة الظهر وتحرم فى هذه الحالة، فمن شاء صلاها ومن شاء تركها.
هذا هو ما فى كتب الفقه، وهو اجتهاد غير منصوص عليه فى قرآن أو سنة، فمتى صحت الجمعة بالشروط المنصوص عليها فى القرآن والسنة وما تركه الخلفاء الراشدون فلا تجب صلاة الظهر عند تعدد الجمعة ولا عند عدم تعددها(9/40)
صلاة الاستخارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف تؤدى صلاة الاستخارة، وما دعاؤها؟
الجواب
صلاة الاستخارة ركعتان يُدْعَى بعدهما بالدعاء الذى جاء فى حديث البخارى عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة فى الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول " إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إنى أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى- أو قال عاجل أمرى وآجله - فاقدره لى ويسره لى ثم بارك لى فيه -وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى- أو قال عاجل أمرى واجله - فاصرفه عنى واصرفنى عنه، واقدر لى الخير حيث كان ثم رضِّنى به " قال: ويسمى حاجته. يعنى يقول مثلا: إن كنت تعلم أن زواجى من فلانة. . . أو سفرى إلى بلد كذا. . . أو التحاقى بكلية كذا. . .
والركعتان عاديتان ليس فيهما سور مخصوصة، وقال العلماء:
يستحب قراءة " قل يا آيها الكافرون " فى الركعة الأولى، وفى الثانية "قل هو الله أحد".
قال النووى فى كتابه " الأذكار": وإذا استخار مضى بعدها لما ينشرح له صدره، وينبغى ألا يعتمد على انشراح كان فيه هوى قبل الاستخارة، وإنما يترك اختياره رأسا. وإلا فلا يكون مستخيرًا لله. بل يكون غير صادق فى طلب الخيرة وفى التبرى من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق فى ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه.
مع مراعاة أن الدعاء الذى تسبقه الصلاة قد يستجاب وقد يردُ، والمدار هو على إتقان الصلاة والدعاء مع توافر عامل الخشوع والرهبة والرغبة، ومع كون العبد مطيعا قريبا منه، بعيدا عن المعاصى وبخاصة أكل الحرام الذى يحول دون قبول الدعاء.
ولا يلزم أن يرى الإنسان بعدها رؤيا منامية، فقد يحصل القبول أو النفور بدونها(9/41)
سجدة التلاوة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
حين يقرأ الإنسان القرآن ثم تصادفه آية فيها كلمة السجود، هل يترك المصحف ويقوم ليسجد، أم يفعل ذلك بعد الانتهاء من قراءة القرآن؟
الجواب
من قرأ آية فيها سجدة أو سمعها يستحب له أن يسجد للتلاوة، ولو لم يسجد لا عقوبة عليه،وأوجبها أبو حنيفة فلو تركها عوقب عليها.
ويرى جمهور الفقهاء أن السجود يكون عقب قراءة الآية مباشرة أو عقب سماعها، فإن أخَّر السجود وطال الفصل سقطت السجدة ولا تقضى، وإن كان الفصل قليلا شرعت السجدة.
ومن هذا يعلم أن القارئ إذا وصل إلى آية السجدة وقرأها يترك المصحف أو القراءة ويسجد، ثم بعد ذلك يتم قراءته إذا أراد، ويدل عليه ما جاء فى البخارى أن عمر رضى الله عنه قرأ على المنبر يوم الجمعة سورة النحل، حتى جاء السجدة-يعنى الآية التى فيها السجدة رقم 49 -فنزل وسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنا لم نؤمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه.
هذا، ويشترط لسجود التلاوة ما يشترط للصلاة، من الطهارة واستقبال القبلة وستر العورة، وذلك ما رآه جمهور الفقهاء. وكان ابن عمر يسجد بدون وضوء كما رواه البخارى ولم يوافقه عليه إلا الشعبى كما قال صاحب الفتح، أما الطهارة من الجنابة فلازمة لأن القراءة بدونها ممنوعة.
أما ما يقال فى سجود التلاوة من الذكر فلم يصح فيه إلا حديث رواه الخمسة إلا ابن ماجه. فعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول صلى الله عليه وسلم يقول فى سجود القرآن: سجد وجهى للذى خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين(9/42)
سجدة الشكر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى صلاة الشكر، وكيف تصلى؟
الجواب
المشروع عند الجمهور هو سجود الشكر إذا حصل للإنسان نعمة ينبغى أن يشكر الله عليها، ومن مظاهر الشكر السجود لله سبحانه، وهو سجود واحد، فعن أبى بكرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسرّه أو بُشَر به خر ساجدًا شكرًا لله تعالى، رواه أبو داود وابن ماجه والترمذى وحسنه، كما روى البيهقى أنه سجد شكرًا لله عندما وصل خبر إسلام همدان. وروى أحمد والحاكم أنه سجد شكرًا لله عندما بشره جبريل بأن الله يصلى ويسلم على من يصلى ويسلم عليه.
ويشترط لسجود الشكر ما يشترط لسجود الصلاة من طهارة واستقبال للقبلة وستر للعورة.. . وذلك عند جمهور الفقهاء، وهى تكبيرة مع النية ثم سجود ثم سلام. والمالكية قالوا: ليس هناك سجود للشكر، ولكن المستحب.هو صلاة ركعتين عند حدوث نعمة أو اندفاع نقمة.
هذا، ولم يشترط بعض العلماء لسجود الشكر ما يشترط لسجود الصلاة، قال فى فتح العلام: وهو الأقرب. وقال الشوكانى: وليس فى أحاديث الباب ما يدل على اشتراط الوضوء وطهارة الثوب والمكان لسجود الشكر، وليس فيه ما يدل على التكبير، وقال بعضهم:
يُكبِّر. ولا يكون سجود الشكر فى الصلاة أبدا(9/43)
الصلاة بين موسى ومحمد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأنا فى بعض المجلات بمناسبة كلام موسى مع النبى حين أخبره بأن الصلاة فرضت عليه خمسين [أن موسى لم يكن وصيا على الرسول حتى يقول له ارجع إلى ربك اكثر من مرة، فهذا الحديث دخيل إسرائيلى يبين أن منزله موسى رفيعة، وأنه هو الذى وجّه نبيكم محمدا - عليه الصلاة والسلام - للتخفيف عنكم] فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
حديث الإسراء والمعراج رواه البخارى ومسلم وغيرهما، وهو بهذا فى أعلى درجات الصحة، وجاء فيه أن الله عندما فرض على النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة خمسين أشار عليه سيدنا موسى أن يسأل ربه التخفيف، فخففت حتى صارت خمسا فى العمل وخمسين فى الأجر.
ويجب أن يلاحظ أن هذا الحديث فى موضوع خارق للعادة وفوق مستوى العقل البشرى، ويجب التصديق به وعدم تكذيبه، كما عليه أكثر العلماء من أن الخبر يفيد العلم اليقينى إذا كان متواتراً، أو كان حديث آحاد ثبتت صحته.
كما يلاحظ أن الواجب هو تصديق الخبر من هذا النوع بجملته، وإن ترك -وهذا ما لا يجوز-يترك كله، ولا يصدق بعضه ويرفض بعضه الآخر.
إن فرض الصلاة ليلة الإسراء والمعراج على هذا النحو لم يعارض فيه أحد من شراح الحديث، وما جرؤ واحد منهم على أن يقول: إن تردد محمد صلى الله عليه وسلم بين ربه وموسى لسؤاله التخفيف -أمر دخيل على السنة وأنه من صنع اليهود ليثبتوا به الوصاية لموسى على محمد-بل إنهم آمنوا به إيمانا عميقا جعلهم يبنون على هذه الفقرة من الحديث قاعدة أصولية، وهى هل يجوز النسخ قبل الفعل أو لا يجوز؟ .
ثم لماذا يقال: إن هذه الفقرة تسلل إسرائيلى لصالح اليهود، ولا يقال إنها ترتيب إلهى يسجل صورة من تمرد اليهود على موسى من ضمن صور التمرد، التى حدثت منهم، وهذا ما يدل عليه قول موسى للرسول عليه الصلاة والسلام فى الحديث "فإنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم "يقول الشراح: أى علمت منهم عدم الوفاء بذلك مع قوة أجسادهم وطول أعمارهم فلم أجد لهم صبرا على ذلك فكيف حال أمتك.
وقال القرطبى: الحكمة فى تخصيص موسى بمراجعة النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر الصلوات يحتمل أن تكون لكون أمة موسى عليه السلام كلفت من الصلوات ما لم يكلف به غيرها من الأمم قبلها فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك، ويشير إليه قوله: إنى جربت الناس قبلك.
"الزرقانى على المواهب اللدنية ج 6 ص 123 ". وهناك توضيحات كثيرة لهذه النقطة لم يجر فيها نقد لها أو مجرد شبهة أنها دخيل إسرائيلى.
إن الأنبياء جميعا إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم، وليس بعيدا أن يشير أخ على أخيه بما يحقق له ولأمته المصلحة، ثم ماذا يقول من يرفضون هذه القطعة من الحديث خوفا أن يظن أن هناك وصاية من موسى على محمد فى تكريم محمد لموسى وعيسى ويونس وغيرهم من الأنبياء، وقد ثبت فى الحديث الصحيح قوله "وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه ليس بينى وبينه نبى" وقوله عن موسى "لا تخيرونى على موسى فان الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق قبلى أم كان ممن استثنى الله " وقوله "ما ينبغى لعبد أن يقول: أنا خير من يونس" وماذا يقول فى قول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الأنبياء فى سورة الأنعام: 90، {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} هل كانت لهم وصاية عليه صلى الله عليه وسلم؟ .
ليس هناك وجه صحيح أبدا لرفض هذه المحادثة التى جرت بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، إن وجدنا فهما ممكنا وقريبا على وجه يبعد هذه الشبهة عن علاقة موسى بمحمد، وأخشى أن تتحكم بعض الأفهام فى النصوص الثابتة فترفضها لوجهة نظر قد غلبتها ظروف قائمة، مع أن مخارج الفهم الصحيح لها كثيرة، ولولا أن القرآن الكريم قطعى الثبوت لقال بعض الناس فى قوله تعالى: عن القرآن الكريم {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربى مبين. وإنه لفى زبر الأولين. أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل} الشعراء: 192 - 197، كيف يحيل الله التصديق بالقرآن أو بمحمد على علماء بنى إسرائيل، أليس فى ذلك وصاية منهم على القرآن ومحمد؟ وكيف يجعل لهؤلاء سلطانا وشهادة على ذلك فى قوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} النحل: 43، ومهما قيل فى هؤلاء فإن المقصود بهم من آمنوا منهم بالرسول والقرآن، فيكفى أن الله شهيد على صدق محمد فى رسالته ومعجزته، ولا حاجة لهؤلاء.
إن حديث الإسراء والمعراج حديث الغرائب، وهو صحيح فى جملته وتفصيله كما رواه البخارى ومسلم، ولم يجرحه أحد من المحدثين لا فى متنه ولا فى سنده، ولم يقل أحد من الشراح إن فيه تسللا إسرائيليا فى مشهد من مشاهده أو موقف من مواقفه بل إن إعجابهم بهذا الموقف جعلهم يكثرون من التعليق عليه بألوان شتى تؤكد صدقه وحكمته المقصودة من ورائه ليفهمها من يصعب عليهم الفهم بعد أربعة عشر قرنا وضع فيها هذا الحديث على بساط البحث أمام مئات وآلاف عباقرة الإسلام المتخصصين الغيورين ولم يدر بخلد واحد منهم ما يدور اليوم بخلد غيرهم ممن يعجزون عن إقامة الدليل الصحيح المقنع على ما يدعون {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا} النجم: 28.
لئن كان هذا فهما لغير مسلم لهان الأمر وقلنا "شنشنة أعرفها من أخزم " وجزء من حملة التشكيك فى السنة ذريعة للتشكيك فى القرآن، فكيف إذا كان هذا فهما لمسلم؟ لئن كان القصد سليما فإن رد الفعل على عقول وأفهام الكثيرين رد يخشى منه على نظرة البسطاء للسنة وللدين بوجه عام {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} النمل: 64(9/44)
المرأة والمسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أيهما أفضل للمرأة، صلاتها فى بيتها أم صلاتها فى المسجد؟
الجواب
وردت عدة أحاديث ترغِّب المرأة فى صلاتها فى بيتها، منها:
1 - قالت أم حميد امرأة أبى حميد الساعدى: يا رسول الله إنى أحب الصلاة معك فقال "قد علمت أنك تحبين الصلاة معى، وصلاتك فى بيتك خير من صلاتك فى حجرتك، وصلاتك فى حجرتك خير من صلاتك فى دارك وصلاتك فى دارك خير من صلاتك فى مسجد قومك، وصلاتك فى مسجد قومك خير من صلاتك فى مسجدى "قال الراوى "فأمرت فبنى لها مسجد فى أقصى شيء من بيتها وأظلمه وكانت تصلى فيه حتى لقيت الله عز وجل " رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحيهما وبوَّب عليه ابن خزيمة "باب اختيار صلاة المرأة فى حجرتها على صلاتها فى دارها وصلاتها فى مسجد قومها على صلاتها فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم وإن كانت الصلاة فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم تعدل ألف صلاة فى غيره من المساجد ما عدا المسجد الحرام ".
وفيه دليل على أن قول النبى صلى الله عليه وسلم "صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد" إنما أريد به صلاة الرجل دون صلاة النساء، انتهى كلامه.
2 - "خير مساجد النساء مقر بيوتهن " رواه أحمد والطبرانى وابن خزيمة والحاكم وصححه.
3-"صلاة المرأة فى بيتها خير من صلاتها فى حجرتها، وصلاتها فى حجرتها خير من صلاتها فى دارها، وصلاتها فى دارها خير من صلاتها فى مسجد قومها " رواه الطبرانى بإسناد جيد، وهو قريب من الحديث الأول.
4 -"ما صلت المرأة من صلاة أحب إلى الله من أشد مكان فى بيتها ظلمة" رواه الطبرانى وابن خزيمة فى صحيحه.
5 - "لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن " رواه أبو داود عن ابن عمر.
هذه الأحاديث وغيرها تدل على جواز صلاة المرأة فى المسجد لكن صلاتها في بيتها أفضل، وكلما كانت بعيدة عن العيون كان أفضل.
هذا فى الصلاة، أما ذهابها إلى المسجد لتعلم العلم أو سماع خطبة الجمعة مثلا فذلك شيء آخر، فإذا لم يتيسر لها التعلم فى بيتها عن طريق القراءة أو سماع الأحاديث الدينية أو مشاهدتها فى الإذاعة المسموعة والمرئية كان لها أن تذهب إلى المسجد أو المدرسة للتعلم وعليه يحمل الحديث الأخير فى النهى عن منع النساء من الذهاب إلى المساجد، ومثله حديث رواه مسلم " إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن " وكل ذلك بشرط إذن الزوج وعدم الخوف عليها من الفتنة والتزامها الآداب الشرعية المعروفة، وكانت المرأة أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ملتزمة ذلك. لكن بعد وفاته قصر بعضهن ولذلك قالت السيدة عائشة رضى الله عنها-كما رواه مسلم -لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بنى إسرائيل. ويفسر النووى ما أحدثه النساء بالزينة والطيب وحسن الثياب، ولذلك جاء فى حديث رواه أحمد وأبو داود "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات " أى غير متزينات، وفى حديث مسلم " إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا" وفى حديث ابن خزيمة فى صحيحه "لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل "(9/45)
الصلاة الوسطى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الصلاة الوسطى؟
الجواب
قال الله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} البقرة: 238.
اختلف العلماء فى تعيين الصلاة الوسطى على عشرة أقوال، يمكن الرجوع إليها فى كتب التفسير، ومن أصح الأقوال أنها صلاة العصر، وعليه جمهور الفقهاء، محتجين بأحاديث رواها مسلم وغيره، ومنها حديث الترمذى الذى قال: إنه حديث حسن صحيح عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم "الصلاة الوسطى صلاة العصر".
وسائر الأقوال أدلتها استنباطية وليست منصوصة، ولهذا قال ابن عمر والربيع بن هيثم إنها غير معينة، خبأها الله فى الصلوات كما خبأ ليلة القدر فى رمضان، وساعة يوم الجمعة وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء.
روى مسلم فى صحيحه عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} فقال رجل: هى إذًا صلاة العصر؟ قال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى.
وقد ارتضى القرطبى فى تفسيره أنها مبهمة لتعارض الأدلة وعدم الترجيح، فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها فى أوقاتها(9/46)
درجات المنبر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
انتشرت فى المساجد الصغيرة منابر ذات درجات ثلاثة، فهل المنابر العالية بدعه منكرة؟
الجواب
صح فى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر نجارا أن يعمل له منبرا يجلس عليه إذا خطب، فلما عمل من طرفاء الغابة يقول سهل بن سعد الساعدى: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى فسجد فى أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتى "ج 2 ص 12 ".
لقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بجوار جذع من النخل يستند إليه، ولما كان طول الوقوف شاقا عليه أمر بصنع المنبر، وكان ثلاث درجات، إلى أن زاد فيه مروان ست درجات، وجدد أكثر من مرة بعد احتراق المسجد، وكان لأمراء مصر فضل كبير فى تجديد المنابر، واستمر الناس يخطبون على هذه المنابر بدرجاتها التسع دون أن ينكر عليهم أحد، وحاول الخليفة العباسى سنة: 165 هـ أن يعيد المنبر كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فنصحه الإمام مالك بعدم التغيير فيه، ولو كانت المنابر الجديدة بدعة وضلالة ما كان للإمام مالك أن يقرها وينهى الخليفة عن تغييرها.
لقد اتخذ الرسول المنبر من أجل المصلحة، ولم يكتف بالخطبة عليه. بل استعمله للصلاة ليكون بارزا وظاهرا لمن يصلون خلفه، وقال المؤرخون: إن الزيادة فى درجاته كانت بسبب كثرة الناس وحاجتهم إلى سماع الخطبة، حيث كان يستعان على ذلك بارتفاع مكان الخطيب، ومن هنا نعلم أن كل ما يؤدى إلى خير عام ولا يصادم نصا صريحا ولا حكما مقررا، لا ينبغى أن نبادر بالإنكار عليه ووصفه ببدعة الضلالة المؤدية إلى النار، وهل كان المسلمون طوال هذه القرون على جهل بدينهم، وفيهم أئمة كبار حين أقروا ارتفاع المنابر فوق ما كان عليه المنبر النبوى؟ .
إن درجات المنبر لم يرد فى تحديدها قول من النبى صلى الله عليه وسلم حتى نلزم به ونعصى عند مخالفته، فالأمر يدور على المصلحة، وإذا وجدت المصلحة، فثم شرع الله كما قال المحققون. إن درجات المنابر فى أيامنا الحاضرة تساوى قليلها بكثيرها، لوجود مكبرات الصوت التى وفرت على الخطيب كثيرا من الجهد، ومكنت من الاستماع إلى الخطبة أكبر عدد من المسلمين، فهل نحكم على هذه المكبرات بأنها بدعة وضلالة فى النار، وهى تؤدى الغرض الذى من أجله أمر رسول الله أن يقام له المنبر؟ إن الدين يحتاج إلى من يفهمه على وجهه الصحيح، وليست العبرة بالمنابر ودرجاتها الصامتة إنما العبرة بما يلقى من فوقها من علم يجب أن يرقى عشرات الدرجات فى الصدق والإجادة والإتقان. نسأل الله أن يلهمنا الرشد والصواب إنه سميع مجيب، ومنه الهداية والتوفيق(9/47)
ساعة يوم الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هناك اعتقاد شائع بين العامة أن فى يوم الجمعة ساعة نحس،فهل هذا صحيح؟
الجواب
وردت أحاديث كثيرة تبين أن يوم الجمعة قد هدانا الله إليه وأضل عنه من قبلنا وأن له فضلا على غيره من أيام الأسبوع، ففيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة كما رواه مسلم، وفيه تاب الله على آدم وفيه مات كما رواه مالك فى الموطأ وفيه غير ذلك مما وردت به أحاديث لم يُجزم بصحتها.
ولم يرد دليل يعتد به على أن فيه ساعة نحس، بل العكس هو الصحيح، فقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن فيه ساعة إجابة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلى يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه كما رواه مسلم.
وهذه الساعة ليست ساعة زمنية "60 دقيقة" بل هى فترة من الزمن لا يعلم قدرها إلا الله، وقد كثرت الأقوال فى تعيينها بناء على النصوص الواردة فيها، حتى أوصلها ابن القيم إلى أحد عشر قولا. ومن أقوى النصوص أنها ما بين أن يجلس الخطيب على المنبر إلى انتهاء صلاة الجمعة كما رواه مسلم. ولعل الحكمة فى النص على هذه الفترة التنبيه على وجوب الإنصات والاستماع للخطبة التى قد يكون فيها دعاء يطلب له التأمين فترجى الاستجابة.
وقيل إنها بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس كما رواه الترمذى، أو آخر ساعة بعد العصر كما رواه أبو داود والنسائى، وقيل بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقيل غير ذلك ويمكن الرجوع فى معرفة الأقوال إلى صحيح مسلم بشرح النووى "ج 6 ص 40 " وزاد المعاد لابن القيم "ج 1 ص 104 " ونيل الأوطار للثسوكانى "ج 3 ص 255" والترغيب والترهيب للمنذرى "ج 1 ص 193 ".
ولعل الحكمة فى عدم تعيينها بالضبط أن نجعل يومنا كله طاعة لله ودعاء، وهذا يتنافى مع اعتقاد بعض العامة أن فى يوم الجمعة ساعة نحس، يفتعلون فيها الغضب والمشاجرات ويلصقون سببها بيوم الجمعة، وذلك غير صحيح(9/48)
تكبير العيدين والإجازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا نكبر فى عيد الأضحى أكثر مما نكبر فى عيد الفطر وما هى أيام التشريق ولماذا سميت بذلك؟
الجواب
التكبير فى العيدين سنة عند جمهور الفقهاء، قال تعالى فى آيات الصيام {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} البقرة: 18، وحمل التكبير على تكبير عيد الفطر، وقال فى آيات الحج {واذكروا الله فى أيام معدودات} البقرة: 203، وقال {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} الحج: 28، وقال تعالى {كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم} الحج: 37، وحمل الذكر والتكبير على ما يكون فى عيد الأضحى.
وجمهور العلماء على أن التكبير فى عيد الفطر من وقت الخروج إلى الصلاة إلى ابتداء الخطبة، وبه قال مالك وأحمد، وقال قوم: إن التكبير يكون من ليلة الفطر حتى يخرج الإمام إلى الصلاة أو حتى يدخل فيها.
ووقت التكبير فى عيد الأضحى من صبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق وهى الحادى عشر والثانى عشر والثالث عشر من ذى الحجة، ولم يثبت فى ذلك تحديد عن النبى صلى الله عليه وسلم، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول على وابن مسعود: إنه من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام مِنًى، وبهذا أخذ الشافعى وأحمد.
وإذا كان أصل التكبير فى عيد الأضحى هو للحُجاج، لأنهم يذبحون الهدى والفداء، ويكبرون الله ويذكرونه عند الذبح وكذلك عند رمى الجمرات، فإن غير الحجاج يكبرون أيضا كما هو وارد عن النبى صلى الله عليه وسلم ففى حديث مسلم عن أم عطية فى خروج النساء إلى مصلى العيد فى الفطر والأضحى، تقول: والحيِّض يكن خلف الناس يكبرن مع الناس، وللبخارى عنها أيضا: كنا نؤمر أن نخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم.
يؤخذ من هذا أن التكبير فى العيدين سنة، وكانت مدته فى الفطر أقل من الأضحى لأن القربة إلى الله فى عيد الفطر كان أهمها الصلاة وإخراج زكاة الفطر، أما فى عيد الأضحى فالقربة برمى الجمار والذبح ممتدة إلى ثلاثة أيام بعد يوم العيد.
وسميت أيام التشريق بذلك الاسم لأن العرب كانوا يشققون اللحم لكثرته ويعرضونه لحرارة الشمس حتى يجف، ثم يحملونه معهم بعد عودتهم من الموسم، وتلك كانت طريقة حفظ اللحوم إذ ذاك. وقيل: سميت بهذا الاسم أخذا من قولهم: أشرق ثبير كيما نغير. وثبير جبل بمنى كما يقول ابن الأثير فى النهاية، والمعنى: ادخل أيها الجبل فى الشروق وهو ضوء الشمس، كيما نغير، أى ندفع للنحر، وقيل: لأن الهدى لا ينحر حتى تشرق الشمس، وقيل غير ذلك.
أما الإجازة أى تعطيل الأعمال فى المصالح بمناسبة العيدين، فهى تنظيم متروك لأولياء الأمور، يعطون الفرصة للعاملين ليتمكنوا من الاحتفال بالعيدين بالفرح والسرور وبالمظاهر التى أباحها الشرع، أو جعلها شعارا للعيدين.
واختلافها راجع لكمية مظاهر الاحتفال بهما. ففى عيد الفطر شرع الله الصلاة وإخراج زكاة الفطر، وذلك فى يوم واحد، وجعل من تمام الفرح عدم صيام هذا اليوم لأننا فى ضيافة الله يكرمنا بعد اجتيازنا امتحان الصيام بنجاح، وفى عيد الأضحى تشرع فى يومه الصلاة والأضحية، وقبله الوقوف بعرفة، وبعده رمى الجمرات وذبح الهدى فكانت المدة المناسبة أكبر من مدة عيد الفطر، والصيام حرام فى يوم العيد وثلاثة أيام بعده نكبر ونذبح ونفرح بما أنعم الله علينا. فالحجاج فى ضيافة الله فى يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، ونحن هنا نشارك الحجاج فرحتهم بما نقدر عليه من مظاهر مشروعة.
والإجازة كما سبق، تنظيم دنيوى تقرره البلاد الإسلامية للمشاركة فى الاحتفال بالأعياد، ومنها يوم الجمعة: وهو عيد أسبوعي، له صلاة مخصوصة، ويحرم أو يكره إفراده بالصيام(9/49)
المصافحة بعد الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم مصافحة المصلين بعضهم لبعض بعد الصلاة وقولهم "حرما "؟
الجواب
المصافحة فى حد ذاتها مباحة، بل قيل إنها مسنونة كمظهر من مظاهر الحب والاحترام والألفة وتقوية الرابطة، وقد رويت فى فضلها عدة أحاديث، بعضها بطريق حسن، من أمثلها، عن قتادة قلت لأنس بن مالك رضى الله عنه: أكانت المصافحة فى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
نعم. رواه البخارى والترمذى، وعن حذيفة بن اليمان عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن المؤمن إذا لقى المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر" رواه الطبرانى فى الأوسط. يقول المنذرى فى كتابه الترغيب والترهيب: ورواته لا أعلم فيهم مجروحا. وعن سلمان الفارسى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن المسلم إذا لقى أخاه فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة فى يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحر" رواه الطبرانى بإسناد حسن.
أما كون المصافحة بعد الانتهاء من الصلاة فلم تكن موجودة أيام النبى صلى الله عليه وسلم ولا فى أيام الخلفاء الراشدين، والأحاديث المذكورة هى فى لقاء الأخ لأخيه، ولذلك قال ابن تيمية بكراهتها، لكن قال العز بن عبد السلام بإباحتها لعدم وجود ما ينهى عنها، بل قال النووى: أصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها فى بعض الأحوال لا يخرجها عن الندب، لكن جاء فى كتاب "غذاء الألباب للسفارينى "ج اص 283 أن بعضهم يحرمها.
وأرى أن الخلاف فى الآراء راجع إلى الخلاف فى تعريف البدعة، وقد سبق بيانه وما دام الأمر خلافيا فلا ينبغى التعصب فيه لرأى.
أما قول "حرما" فهو اختصار من دعاء هو "ندعو الله أن نلتقى فى الحرم لنصلى فيه " لأن الصلاة فى الحرم يضاعف ثوابها. فهى دعاء بزيارة الحرم للحج أو العمرة والصلاة فيه، وليس هناك دليل يحرم هذا القول، فلا داعى للإنكار عليه(9/50)
سجود التلاوة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ماذا يجب علينا إذا سمعنا آية قرآنية بها سجود ونحن نسير فى الطريق العام؟
الجواب
من قرأ أو سمع آية فيها سجود يسن له عند جمهور الفقهاء أن يسجد سجدة التلاوة، فإن لم يسجد فلا عقوبة عليه، لأنها سنة وليست واجبة إلا عند أبى حنيفة فقد جعلها واجبة. فإن كان طاهرا حين سمعها أو قرأها وجب عليه أن يسجد، وإلا فهى فى ذمته يجب عليه أن يسجد بعد أن يتطهر.
فلو كان الإنسان ماشيا فى الطريق العام وهو متوضئ وسمع آية فيها سجدة يسن له أن يسجد على أى مكان طاهر يكون قريبا منه، فإن لم يسجد فلا ذنب عليه ويقوم مقامها عند الشافعية أن يقول (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم) أربع مرات، فذلك يجزئه عن سجدة التلاوة حتى لو كان متطهرا. وعلى رأى أبى حنيفة إن لم يتمكن من السجود فى الطريق فليسجد عندما يصل إلى مكان يسهل عليه أداؤه فيه، فإن وجوبها موسع عنده فى هذه الحالة، والعمر كله فرصة لأدائها.
"انظر صفحة 168 من هذا المجلد"(9/51)
صلاة الحاجة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأت حديثا عن صلاة الحاجة وفيها قراءة للقرآن الكريم أثناء السجود مع أننى قرأت أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن القراءة فى الركوع والسجود، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
إن الله سبحانه هو خالقنا والمنعم علينا، لا نعبد إلا إياه، ولا نستعين بأحد سواه، وقد أمرنا أن ندعوه ليحقق مطلبنا، ووعدنا بالإجابة كما قال سبحانه {وقال ربكم ادعونى أستجب لكم} وللدعاء أوقات وأماكن يكون فيها أقرب إلى الاستجابة، ومنها وقت السجود فى الصلاة كما صح فى الحديث " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء" ومن الخير أن نقدم للدعاء بعمل صالح كصدقة أو صلاة كما دعا أصحاب الغار ربهم بصالح أعمالهم ففرَّج عنهم، وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال كما رواه أحمد "من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله ما يسأل معجلا أو مؤخرا) وفى حديث عثمان ابن حنيف أن الرسول قال للأعمى الذى طلب منه أن يدعو الله ليكشف عن بصره: انطلق فتوضأ ثم صل ركعتين، وعلمه الدعاء الذى يدعو الله به.
وقد رويت أحاديث فى كيفية صلاة الحاجة تتناقض مع الأحاديث الصحيحة، منها حديث ابن مسعود الذى جاء فيه صلاة ثنتى عشرة ركعة، يقرأ فى السجود فاتحة الكتاب سبع مرات وآية الكرسى سبع مرات، مع ذكر ودعاء، وقد جرب الناس هذه الصلاة فوجدوها حقا.
والناظر فى هذا الحديث يجده متعارضا مع النهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، فقد روى مسلم وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "ألا وإنى نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فى الدعاء فقمن - بفتح القاف وكسر الميم - أن يستجاب لكم " وروى مسلم وغيره أيضا عن على رضى الله عنه قوله:
نهانى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا.
يقول الشوكانى: هذا النهى يدل على تحريم قراءة القرآن فى الركوع والسجود. وفى بطلان الصلاة بذلك خلاف.
وما دام الحديث الصحيح ينهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود فهو مقدَّم على حديث صلاة الحاجة الذى تقدم ذكره عن ابن مسعود، وقال الحاكم الذى رواه: تفرد به عامر وهو ثقة مأمون، يقول الحافظ المنذرى: أما عامر فهو النيسابورى قال شيخنا الحافظ أبو الحسن:
كان صاحب مناكير، وقد تفرد به عن عمر بن مهدى وحده فيما أعلم، والاعتماد فى مثل هذا على التجربة لا على الإسناد.
بعد هذا أنصح بالتثبت مما يعبد الإنسان به ربه، وعدم الجرى وراء أى شيء يظن أن فيه تحقيق رغبته، فالله لا يُعبد إلا بما شرع، ولا يُطلب ما عنده إلا بما صح فى القرآن والسنة، وهو كثير، وبالله التوفيق(9/52)
صلاة الضحى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى الحديث الذى قاله النبى صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: " ابن آدم اركع لى من أول النهار أربع ركعات أكفك آخره "
الجواب
روى أحمد والترمذى وغيرهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم صل لى أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره " وجاء بألفاظ أخرى متقاربة.
والمراد بذلك الترغيب فى صلاة الضحى، وجاء مثل ذلك فى حديث رواه مسلم "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة.، وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى".
وقد يوضح هذا الحديث الحديث الأول بل يوضحه أكثر رواية أحمد وأبى داود وابن خزيمة وابن حبان، "فى الإنسان ستون وثلثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل صدقة" قالوا: فمن يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: "النخامة فى المسجد تدفنها والشيء تنحِّيه عن الطريق، فإن لم تقدر فركعتا الضحى تجزىء عنك "(9/53)
الإسراء وفرض الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل كان الإسراء فى أول البعثة، وهل فرضت الصلاة من أول عهد النبوة؟
الجواب
الصلوات الخمس المعروفة فرضت ليلة الإسراء وهذا باتفاق، لكن متى كان الإسراء،وهل كانت هناك صلاة قبل الإسراء؟ أما الإسراء فقد اختلف فى وقته اختلافا كبيرا، فقيل إنه كان قبل البعثة، كما فهم من رواية شريك عن أنس.
ولم يرتضى هذا القول الأكثرون، وحملوه على أنه كان إسراء بالروح فقط، كما كانت الرؤيا الصالحة سابقة للوحى فى أول عهد النبوة.
وصحت أحاديث برؤى منامية فيها مشاهد كالتى تروى فى قصة الإسراء، وقيل كان بعد البعثة ولكن فى أى عام؟ الأقوال كثيرة.
والذى عليه الجمهور أنه كان قبيل الهجرة بعام أو نحوه ولم يكن فى مبدأ البعثة، وفى هذا الإسراء وحده فرضت الصلوات المعروفة.
وأما أن هناك. صلاة كانت قبل المفروضة ليلة الإسراء فنعم، ولكن يجب أن يعلم أن الصلاة فى القرآن قد تطلق على معناها اللغوى وهو الدعاء ومنه قوله تعالى {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} التوبة: 153، وقوله تعالى {إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب: 56.
فالصلاة فى هذه الآية لا يمكن أن تكون هى الصلاة المعروفة ذات الركوع والسجود، وإنما هى دعاء أو استغفار أو رحمة.
والعرب فى الجاهلية كانت لهم صلاة وهى دعاء يدعون به عند التلبية والحج.
كما كانت لهم صلاة من نوع آخر يدل عليه قوله تعالى {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} الأنفال: 35، والمكاء هو الصفير، والتصدية هى التصفيق.
فقيل: إن ذلك كان عبادة يتقربون بها، وقيل: إنه ضرب من التشويش على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يصلى.
ويحتمل أن يكون الدعاء هو المراد من الصلاة فى قوله تعالى {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} الإسراء: 115.
كما يحتمل أن يراد بها القراءة، وقد جاء هذا التفسير فى روايات صحيحة، ومن إطلاق الصلاة على القراءة الحديث القدسى الصحيح "قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل، فإذا قال:
الحمد لله رب العالمين ... } فأطلق الصلاة على قراءة الفاتحة.
وكان قيام الليل فى أول مشروعيته بالقراءة، كما فى صدر سورة المزمل.
وحملوا الصلاة على الدعاء أو القراءة أيضا ما جاء فى حديث أحمد بسند صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى بمنى حين مالت الشمس وصلت خلفه خديجة وعلى، ذلك أن الثابت من حديث عائشة أن خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وكانت وفاتها على الصحيح فى السنة العاشرة من النبوة.
ورأى جماعة أنه كانت هناك صلاة قبل الخمس التى فرضت ليلة الإسراء، وهى ركعتان بالعشى وركعتان بالإبكار، على ما يدل عليه قوله سبحانه {وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار} غافر:55.
لكن ليس هناك دليل قوى على أن هذا التسبيح يراد به الصلاة ذات الركوع والسجود فلم لا يكون تسبيحا باللسان فقط ويدخل ضمن الدعاء الذى يطلق عليه اسم الصلاة.
وورد أن النبى صلى الله عليه وسلم عقب عودته من الطائف بموضع يقال له "نخلة" صلى الفجر مع بعض أصحابه، وذلك كان قبل ليلة الإسراء فما هذه الصلاة؟ قيل إنها من المفروضة أول النهار وآخره، وتسميتها بالفجر لوقوعها فى حينه أو قريبا منه، أو كانت صلاة ليل وقعت حول هذا الوقت، وقد يراد بها الدعاء، فليس ذلك دليلا على أن الصلوات الخمس فرضت قبل ليلة الإسراء.
يقول بعض الكاتبين: إن ابن مسعود حفظ سورة الإسراء التى فيها:
{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} وكان قد هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى سنة خمس من النبوة.
وعليه يكون الإسراء قد حصل قبل هذا التاريخ.
وبنوا هذا على أن ابن مسعود لم يتصل بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى الحبشة إلا بعد الهجرة إلى المدينة حيث شهد غزوة بدر معه.
لكن ما الذى يقطع بعدم اتصاله به بعد هجرته إلى الحبشة؟ لقد جاء فى سيرة ابن هشام أن المهاجرين الأولين -إلى الحبشة عادوا لما جاءتهم أخبار بهدوء الحالة فى مكة، ولكن لما عرفوا أن الخبر غير صحيح رجعوا إلى الحبشة مرة ثانية، ومكث بعضهم فى مكة ولم يعد واستمر مع النبى حتى هاجر معه إلى المدينة.
وابن مسعود كان ممن بقى بمكة فلعله حفظ سورة الإسراء بعد عودته من الحبشة.
وابن هشام قال إنه بقى ولم يعد إلى الحبشة، وإن كانت بعض كتب السيرة والرجال تقول: إن هناك قولا أنه هاجر هجرتين إلى الحبشة.
والاحتجاج بحفظ ابن مسعود لسورة الإسراء وفيها الآية المذكورة قد يفيد إذا تعين أن الصلاة هى الصلاة المعروفة، ولكن تقدم أنه أريد بها الدعاء أو القراءة.
وقال بعض أيضا إن الزهرى قال: إن الإسراء وقع بعد البعثة بخمس سنين فالصلاة فرضت فى هذا الوقت، لكن النقل عن الزهرى مختلف، ففى نسخ أخرى غير ذلك.
وجاء فى فتح البارى لابن حجر عن الزهرى، أن الإسراء قبل الهجرة بخمس سنين فيكون بعد البعثة بثمان، وصحح بعضهم ذلك بأن السنوات الثلاث التى كانت الدعوة فيها سرا لم تحسب. وعلى هذا يكون الإسراء بعد البعثة بإحدى عشرة سنة.
بعد هذا أقول: إن تحديد عام الإسراء أو شهره أو ليلته ليس فيه كبير فائدة فى حياتنا الدينية.، فالإسراء قد حدث قطعا والصلوات الخمس قد فرضت قطعا، والخلاف فيما وراء ذلك لا طائل تحته.
واختيار المسلمين ليلة السابع والعشرين من رجب لذكرى الإسراء لا داعى للعدول عنه إلى موعد آخر، فالسؤال وارد أيضا على الاختيار الجديد.
ونحن على كل حال لم نكلف بمناسبة الإسراء بعبادة خاصة، وهى ليلة كانت مزيدا لتشريف النبى صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته، والله أعلم(9/54)
الجمع بين صلاتين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض الناس يجمعون بين الصلاتين بدون سفر ولا مرض ولا مطر ويقولون إن الدين يسر فهل لذلك أصل فى الشرع؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:
صلى النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعا وثمانيا، الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفى لفظ الجماعة إلا البخارى وابن ماجه: جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر. وعند مسلم فى هذا الحديث من طريق سعيد بن جبير قال: فقلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أحدا من أمته. وأخرج الطبرانى مثله عن ابن مسعود مرفوعا، ولفظه: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل له فى ذلك فقال "صنعت هذا لئلا تحرج أمتى".
والحديث ورد بلفظ: من غير خوف ولا سفر، وبلفظ: من غير خوف ولا مطر، ولم يقع مجموعا بالثلاثة فى شيء من كتب الحديث أى بلفظ: من غير خوف ولا سفر ولا مطر. والمشهور من غير خوف ولا سفر.
وجاء فى رواية البخارى ومسلم عن ابن عباس فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعا وثمانيا أن أيوب السختيانى سأل أبا الشعثاء جابر بن زيد الراوى عن ابن عباس وقال له: لعله فى ليلة مطيرة: قال عسى.
وابن عباس كان يفعل كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم فإن أبا الشعثاء يقول -كما رواه النسائى - إن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى " الظهر" والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شىء، فعل ذلك من شغل. وفيه رفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم وفى رواية مسلم أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة. وأنه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم "دخل الليل " ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبى هريرة لابن عباس فى رفعه.
هذا بعض ما ورد من -الأحاديث والآثار فى الجمع بين الصلاتين والعلماء فى ذلك فريقان:
(ا) فذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر حديث ابن عباس فجوزوا الجمع فى الحضر، أى فى غير السفر، للحاجة مطلقا، ولكن بشرط، ألا يتخذ عادة وخلقا، قال ابن حجر فى فتح البارى: وممن قال به ابن سيرين وربيعة وابن المنذر والقفال الكبير، وحكاه الخطابى عن جماعة من أصحاب الحديث، وقال الشوكانى فى نيل الأوطار:
رواه فى البحر عن الإمامية، وروى عن على وزيد بن على. والحجة فى ذلك نفى الحرج ما دامت هناك حاجة، وكان منها شغل ابن عباس بالخطبة.
(ب) وذهب جمهور الأئمة إلى منع الجمع بين صلاتين إلا لعذر، وحكى عن البعض أنه إجماع، ولا عبرة بمن شذ بعد الإجماع الأول، وحجتهم فى ذلك أخبار المواقيت التى حددت أوقات الصلاة، ولا يخرج عنها إلا لعذر، ومن الأعذار ما هو منصوص عليه كالسفر، وقد ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين فى السفر وكالمرض، فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال للمستحاضة -والاستحاضة نوع مرض - "وإن قويت على أن تؤخرى الظهر وتعجلى العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين " ومثله بين المغرب والعشاء، وكالمطر فقد جاء فى موطأ مالك عن نافع عن ابن عمر، كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء فى المطر جمع معهم، وأخرج الأثرم فى سننه عن أبى سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء. وهناك أعذار أخرى قيست على هذه الأعذار، أو هى فى معناها. كما سيأتى.
وأجاب الجمهور على حديث ابن عباس الذى يقول بالجمع من غير عذر بأجوبة لا يسلم بعضها من المناقشة وعدم التسليم، لكن أحسنها هو أن الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، الذي فعله النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير سفر ولا مرض ولا مطر، كان جمعا صوريا، بمعنى أنه أخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها فصلاها ثم جعل صلاة العصر فى أول وقتها ليس بينهما إلا قدر يسير، فيظن الرائى أنه جمع بين الصلاتين فى وقت واحد لإحداهما، والحقيقة أن كل صلاة وقعت فى وقتها المحدود لها، لأن لكل صلاة وقتا له أول وله آخر، ولما كان أداء الصلاة في وقتها له فضله كان يحرص عليه الصحابة، لكن ربما تكون هناك أعذار تمنع من المبادرة إلى الصلاة أول الوقت ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أحيانا ليرفع الحرج عن أمته، وليعرفوا أن الصلاة في آخر وقتها وقعت أداء ولا حرج فى التأخير ما دامت هناك حاجة.
وهذا الجواب ارتضاه ابن حجر فى "الفتح " وقال: قد استحسنه القرطبى ورجحه إمام الحرمين، وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوى، وقواه ابن سيد الناس بأن أبا الشعثاء، - وهو راوى الحديث عن ابن عباس -قد قال به. ثم قال ابن حجر: ويقوى ما ذكر من الجمع الصورى أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع فإما أن يحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن يحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، فالجمع الصورى أولى اهـ.
ومما يدل على أن هذا الجمع بالمدينة لغير عذر كان صوريا ما أخرجه النسائى عن ابن عباس بلفظ جاء فيه: صليت -مع النبى صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، فابن عباس راوى الحديث صرح بأنه جمع صورى، وكذلك ما رواه الشيخان عن عمرو بن دينار أنه قال: يا أبا الشعثاء، أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه:
وأبو الشعثاء هو راوي حديث ابن عباس في الجمع، ومما يؤيد أن الجمع كان صوريا ما أخرجه مالك فى الموطأ والبخارى وأبو داود والنسائى عن ابن مسعود قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين، جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.. .
فحصر ابن مسعود الجمع فى مزدلفة، مع أنه روى حديث الجمع بالمدينة، وهذا يدل على أنه كان صوريا وإلا لتناقضت روايتاه، والجمع ما أمكن المصير إليه هو الواجب. كما يؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما، وهذا جمع صورى وابن عمر هو ممن روى جمع الرسول بالمدينة كما أخرج ذلك عبد الرزاق عنه فيحمل عليه.
هذا بعض ما قيل فى بيان أن الجمع كان صوريا، وأنه لا يجوز تقديم صلاة على وقتها ولا تأخيرها عن وقتها إلا لعذر، وقد عنى بعض العلماء بتوضيح هذه المسألة وأطال فى ذلك كما فعله ابن القيم فى كتابه " تشنيف السمع بإبطال أدلة الجمع ".
وتكميلا لهذا الموضع أذكر رأى الأئمة الأربعة فى الجمع باختصار:
ا - فعند المالكية يجوز الجمع للسفر طال أو قصر، وللمريض الذى يخاف حصول إغماء أو دوخة تمنعه من أداء الصلاة عند دخول وقت الثانية فيجوز له تقديمها وكذلك الجمع للمطر والطين مع الظلمة آخر الشهر، فيجمع بين المغرب والعشاء تقديما بشرط أن تكون الصلاة فى المسجد جماعة، وكذلك يجوز الجمع للحاج بعرفة أو مزدلفة.
2 - وعند الشافعية، يجوز الجمع بسبب السفر الطويل، وبسبب المطر تقديما فقط، إذا كانت الصلاة للجماعة فى مسجد بعيد- عرفا -مشقة بالذهاب إليه -ما عدا الإمام فله الجمع ولو لم يتأذ بالمطر- ولا يجمع بسبب المرض على المشهور، لكن الراجح جواز الجمع للمريض تقديما وتأخيرا.
3-وعند الحنفية. لا يجوز الجمع تقديما إلا فى عرفة للحاج بشرط الجماعة مع الإمام العام أو نائبه، ولا يجوز تأخيرا إلا فى المزدلفة للحاج أيضا، فيصلى العصر فى وقت الظهر بعرفة، والمغرب فى وقت العشاء بالمزدلفة.
4 -وعند الحنابلة يسن الجمع تقديما بعرفة وتأخيرا بالمزدلفة، ولا يجمع فى السفر إلا إذا بلغ مسافة القصر، ويجوز للمريض الجمع إذا شق عليه الصلاة فى وقتها، وكذلك للمرضع المستحاضة دفعا لمشقة الطهارة عند كل صلاة "ومثلهما من به سلس بول " ويجوز الجمع للعاجز عن معرفة أول الوقت كالأعمى أو الساكن تحت الأرض كعمال المناجم مثلا، ولمن خاف على نفسه أو ماله أو عرضه أو يخاف ضررا يلحقه فى معيشته بترك الجمع -وفى ذلك تيسير على العمال الذين يستحيل عليهم ترك العمل لأداء كل صلاة فى وقتها- كما قالوا: يجوز الجمع بين المغرب والعشاء خاصة بسبب الثلج والبرد والجليد والوحل والريح الباردة والمطر الذى يبل الثوب وتحصل به المشقة، ولا فرق فى ذلك بين أن يصلى فى داره أو بالمسجد ولو كان طريقه مسقوفا، والأفضل أن يختار الأسهل عليه من التقديم والتأخير، مع شروط وضعوها لجواز التقديم والتأخير كالترتيب ونية الجمع والموالاة ودوام العذر ... لا مجال لتوضيحها هنا.
انظر فتح البارى لابن حجر ج 2 ص 164 " ونيل الأوطار للشوكانى ج 3 ص 264 والفقه على المذاهب الأربعة(9/55)
صلاة الغائب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يسأل كثيرون عن صلاة الجنازة على الغائب، هل هى مشروعة أم لا؟
الجواب
صلاة الغائب هى صلاة الجنازة على ميت غائب عن المصلى وقد اختلف الفقهاء فى مشروعيتها.
فقال الشافعى وأحمد وابن حزم: إنها مشروعة، ولهم فى ذلك أدلة:
(ا) ما رواه البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشى حين نعى إليه، وصلى معه أصحابه.
(ب) أن صلاة الجنازة قوامها الدعاء، والدعاء لا يشترط فيه حضور المدعو له.
(ج) ما قاله ابن حزم من أنه لم يرد عن الصحابة منع منها.
وقال أبو حنيفة ومالك وآخرون بعدم مشروعيتها، والحجة عندهم أنه لا يدل عليها دليل، لكن كيف يعملون برواية الصحيحين فى حادث النجاشى؟ أولوها بأنه يجوز أن النجاشى لم يصلِّ عليه أحد فصلى عليه النبى، أو بأن هذه الصلاة على الغائب من خصوصيات النبى. أو بأنه لم يصل على غائب، بل رفعت له الجنازة فشاهدها وصلى عليها صلاة الحاضر.
لكن الأولين ردوا على ذلك بأن الدليل ثابت، وبعدم التسليم بهذه التأويلات، فإن عدم صلاة أحد عليه لا يمنع صلاتها لمن صلى عليه، وادعاء خصوصية النبى بالصلاة على الغائب لا دليل عليه، وكونها رفعت له وشاهدها لا دليل عليه أيضا.
ويتبين من هذا رجحان القول بمشروعيتها، وما دام لم يثبت نهى عنها فتبقى على جوازها لأن المقصود منها الدعاء(9/56)
وقت صلاة الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كنت فى بعض دول الخليج فرأيت جماعة يقيمون صلاة الجمعة قبل الزوال بنحو ساعة ولما ناقشتهم فى ذلك قالوا: إن هذا جائز، فهل هذا صحيح؟
الجواب
اتفق الأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة والشافعى على أن وقت صلاة الجمعة هو وقت صلاة الظهر، الذى يدخل بزوال الشمس، وانفرد أحمد بن حنبل بالقول بدخول وقتها قبل الزوال.
وحجة الجمهور: أن فريضة الجمعة بدل فريضة الظهر، فهى خامسة يومها وليست فريضة زائدة، فوقتها هو وقت ما كانت بدلا عنه وهو الظهر. ويؤكد ذلك فعل النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بدليل ما يأتى:
(ا) عن أنس رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الجمعة حين تميل الشمس. رواه البخارى وأحمد وأبو داود والترمذى.
(ب) عن أنس أيضا قال: كنا نصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم نرجع القائلة فنقيل. رواه البخارى وأحمد، والقائلة هى القيلولة، أى النوم أو الاستراحة بعد الظهر.
(ب) عن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتبع الفىء، رواه البخارى، والفىء هو الظل.
(د) عن سويد بن غفلة أنه صلى مع أبى بكر وعمر حين تزول الشمس، رواه ابن أبى شيبة وإسناده قوى.
(هـ) صحت الروايات عن على والنعمان بن بشير وعمرو بن حريث رضى الله عنهم أن صلاة الجمعة بعد الزوال.
وقد جاء فى بعض الروايات: أحيانا نجد فيئا، وأحيانا لا نجد، فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن صلاة الجمعة يدخل وقتها بالزوال كالمعتاد فى وقت صلاة الظهر. وتتبعهم الفىء الذى يجدونه أحيانا وأحيانا لا يجدونه يشير إلى مبادرتهم بصلاتهم الجمعة عقب الزوال، وأن الظل كان قصيرا لقصر البيوت، ولقصره كأنه غير موجود لعدم وقايته من حرارة الشمس.
واستدل الحنابلة بظاهر بعض الروايات الصحيحة، وبروايات أخر. . . ليست قوية منها:
(ا) عن أنس قال: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة، رواه البخارى، وفى لفظ له أيضا: كنا نصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم تكون القائلة، فظاهر الحديث أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، أى أوله، قال الحافظ ابن حجر ردا على هذا الاستدلال ليلتقى مع الروايات الأخرى: لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر أن التبكير يطلق على فعل الشيء فى أول وقته أو تقديمه على غيره، وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدءون الصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت عادتهم فى صلاة الظهر فى الحر، فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون، لمشروعية الإبراد، أى تأخير صلاة الظهر حتى يتلطف الجو.
(ب) عن أنس قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعنى الجمعة، رواه البخارى، قالوا:
إن التبكير يفهم من فعلها قبل الزوال، وأجيب بما أجيب به فى الحديث السابق، وقوله يعنى الجمعة، يحتمل أن يكون من كلام التابعى الذى روى عن أنس، أو من هو دون التابعى، فهو ليس من كلام أنس، لأن الروايات عن أنس، أنه كان يبكر بها مطلقا، كما أخرجه الإسماعيلى وليس فيه قوله:
يعنى الجمعة.
(ي) عن سهل بن سعد قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، رواه الجماعة وزاد أحمد ومسلم والترمذى، فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم قالوا: إن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال، وحكوا عن ابن قتيبة أنه قال:
لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال. وأجيب بأن القيلولة هى نوم نصف النهار بسبب شدة الحر، وذلك يكون بعد الزوال، وكيف يكون غداء قيلولة قبل الزوال. وقد اختلف أصحاب أحمد فى الوقت الذى تصح فيه قبل الزوال، هل هو الساعة السادسة أو الخامسة، أو وقت دخول صلاة العيد فى أول النهار؟ (د) عن جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس، رواه مسلم وأحمد والنسائى قالوا: إن راحة الجمال حين الزوال بعد صلاة الجمعة دليل على أنها صليت قبل الزوال. وأجيب بأن قوله: حين تزول الشمس أى فى أول وقت زوالها أو قريبا منه مما يدل على شدة التبكير بالصلاة فى أول وقتها.
(ط) ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين ويجلس بينها يقرأ القرآن ويذكِّر الناس، كما فى صحيح مسلم من حديث أم هشام بنت حارثة أخت عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: ما حفظت "ق والقرآن المجيد" إلا من فى "فم " رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرؤها على المنبر كل جمعة، وعند ابن ماجه من حديث أبي بن كعب أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة "تبارك " وهو قائم يذكر بأيام الله. وكان يصلى بسورة الجمعة والمنافقين كما ثبت ذلك عند مسلم من حديث على وأبى هريرة وابن عباس، قالوا: لو كانت خطبته وصلاته بعد الزوال ما انصرف منها إلا وقد صار للحيطان ظل يستظل به. وأجيب بعدم التسليم بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يخطب دائما بسورة "ق أو تبارك " وإن كان قد تكرر منه، لكن الغالب أنه كان ينتهى من الصلاة مبكرا حتى لا يشتد الحر على المصلين وهم عائدون إلى بيوتهم.
(و) عن عبد الله بن سيدان السلمى قال: شهدت الجمعة مع أبى بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره، رواه الدارقطنى وأحمد فى رواية ابنه عبد الله، وأجيب بأن ابن سيدان غير معروف العدالة على الرغم من أنه تابعى كبير، قال ابن عدى عنه: شبه المجهول، وقال البخارى:
لا يتابع على حديثه. وحكى فى الميزان عن بعض العلماء أنه قال: هو مجهول لا حجة فيه. على أنه لو سلم بصحة الرواية ما معنى أن خطبة عثمان وصلاته استمرتا حتى زوال النهار، هل تعدى بهما الوقت حتى دخل وقت العصر وغابت الشمس أو كادت؟ إن الكلام فيه مبالغة ظاهرة، فينبغى أن يحمل التبكير على أنه فى أول وقتها وهو الزوال، والتأخير على أنه قبيل دخول وقت العصر.
(ز) روى عن ابن مسعود أنه صلى الجمعة ضحى وقال: خشيت عليكم الحر، كما أخرجه ابن أبى شيبة من طريق عبد الله بن سلمة، ورد بأن شعبة وغيره قالوا: إن عبد الله هذا وإن كان صدوقا إلا أنه تغير لما كبر كما روى عن معاوية أنه صلى الجمعة أيضا ضحى، كما أخرجه ابن أبى شيبة من طريق سعيد بن سويد، ورد بأن سعيدا هذا ذكره ابن عدى فى الضعفاء. ومثل ذلك قيل فيما روى عن جابر وسعيد بن زيد وسعد بن أبى وقاص، فإن الروايات عنهم لا تعارض ما هو أقوى منها.
(ح) قال الحنابلة: إن النبى صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة "إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين " فلما سماه عيدا جازت الصلاة فيه وقت صلاة العيد "الفطر والأضحى" ورد بأن التسمية لا تقتضى التشبيه فى كل شىء، ألا ترى أن يوم العيد يحرم صومه، أما يوم الجمعة فلا وبخاصة إذا سبق بصيام يوم الخميس أو أتبع بصيام يوم السبت؟ هذه هى أدلة الجمهور وأدلة أحمد، وقد رأيت أن أدلة الجمهور أقوى، وإن كان الشوكانى قال فى الجمع بين الرأيين: إن أدلة الجمهور لا تنفى جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، أى ليس فيها أسلوب الحصر الذى يمنع ما عداه، وأنا أميل إلى أن وقت صلاة الجمعة هو وقت صلاة الظهر، وإن كان من الممكن صلاتها قبل الزوال بوقت قصير عند الضرورة كالحر الشديد ونحوه، والضرورة تقدر بقدرها. ولكل بلد ظروفه ولكل زمن ما يناسبه، والله أعلم، "راجع فتح البارى لابن حجر ج 3 ص 37 ونيل الأوطار للشوكانى ج 3 ص 330 والمغنى لابن قدامة "(9/57)
تشبيك الأصابع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا جلس الإنسان فى المسجد وشبك بين أصابعه هل هذا منهى عنه وما الحكمة فى ذلك؟
الجواب
ثبت فى صحيح البخارى وغيره عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه وجاءت رواية تبين أن التشبيك كان فى معرض البيان والتمثيل لإبراز المعنى بصورة واضحة محسوسة فعن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه، كما جاءت رواية أخرى عن أبى هريرة فى حديث السهو فى الصلاة حيث قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة فى المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه.
يقول الحافظ ابن حجر "فتح البارى ج 2 ص 111 " تعليقا على ذلك: فيه جواز التشبيك فى المسجد وغيره، وهناك مراسيل -سقط منها الصحابى-ومسندة من طرق غير ثابتة فى النهى عن التشبيك فى المسجد، ومن ذلك حديث أبى داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن كعب بن عجرة. وفى إسناده اختلاف ضعفه بعضهم بسببه "إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه، فإنه فى صلاة" وروى ابن أبى شيبة حديث "إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال فى صلاة ما دام فى المسجد حتى يخرج منه " وفى إسناده ضعيف ومجهول.
ثم قال ابن حجر نقلا عن ابن المنير: التحقيق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض، إذ المنهى عنه فعله على وجه العبث، والذى فى الحديث - المؤمن للمؤمن -إنما المقصود هو التمثيل وتصوير المعنى فى النفس بصورة الحس، وجمع الإسماعيلى بأن النهى مقيد بما إذا كان فى الصلاة أو قاصدا لها إذ منتظر الصلاة فى حكم المصلى وأحاديث الباب الدالة على الجواز خالية من ذلك لأن حديث أبى هريرة كان تشبيك النبى صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء الصلاة وليس فى صلاة أو قبلها، والرواية التى فيها النهى عن ذلك ما دام فى المسجد ضعيفة.
ثم قال أخيرا: والحكمة فى النهى قيل لكونه من الشيطان، وقيل: لأنه يجلب النوم وهو من مظان الحدث، وقيل لأن التشبيك فيه صورة الاختلاف اهـ.
وأقول: إن الأمر أهون من أن يثار حوله خلاف والنية لها دخل فى الحكم، والعرف كذلك ينبغى أن يراعى فى الآداب العامة غير المنصوص عليها، وقد علمت أن أحاديث النهى عن التشبيك غير صحيحة، ولذا قال البعض إن التشبيك مكروه وليس بمحرم وسيأتى مزيد كلام عليه(9/58)
الزينة لدخول المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أرجو تفسير قوله تعالى {يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق} الأعراف: 31، 32
الجواب
أمر الله المؤمنين إذا ذهبوا للصلاة أن يستروا عوراتهم بالملابس، خلافا لما كان عليه العرب من خلع ملابسهم والطواف حول البيت عراة.
وقيل أن المراد بالزينة هو ما زاد على ستر العورة من التطيب وحسن الهندام واختيار الملابس النظيفة ذات اللون الأبيض الذى حث عليه النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض الأحاديث، أو أى لون آخر، كما يتزين بتقليم الأظافر وتهذيب الشعر وتنظيمه حسب العرف الذى لا يخالف الشرع.
وفى هذا التشريع جمع بين مطالب الروح والجسد فى اعتدال وتوسط، وقد أنكر الله على من يحرمون التزين والتمتع بالمباحات فى الحدود المعقولة، من أكل وشرب ولبس وغيرها. والرسول صلى الله عليه وسلم " نفسه كان - على رقة حاله - نموذجا صالحا فى التزين بما يتاح ويباح.
ومأثوراته فى ذلك كثيرة لا يتسع لها المقام. ويكفى من ذلك حديث صلاة الجمعة " من اغتسل يوم الجمعة ومَسَّ من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتى المسجد فيركع ما بدا له، ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت حتى يصلى كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى" رواه أحمد ورواته ثقات، وكتب التفسير فيها مزيد لمن أراد(9/59)
مسجد الضرار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو مسجد الضرار، وهل ينطبق عر بعض مساجدنا فى هذا العصر؟
الجواب
قال تعالى {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقاً بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} التوبة: 107.
نزلت فى جماعة من المدينة أرادوا أن يبنوا مسجدا يصلى فيه الرسول ويباركه كما صلى فى مسجد قباء وباركه، فلما بنوه دعوا الرسول للصلاة فيه، وكان خارجا لغزوة تبوك فوعدهم إن عاد، فأخبره الله بأن المسجد ليس خالصا لله، بل بنى للضرار والانصراف عن الصلاة فى مسجد الرسول واستقبال أبى عامر الراهب الذى فر إلى الروم وتنصر وطلبوا عودته، فأمر الرسول بإحراق المسجد وهدمه.
يقول القرطبى فى تفسيره: قال علماؤنا-أى المالكية- لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه لئلا يصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفى أهلها مسجد واحد، فيبنى حينئذ إذا لم يتيسر له مكان بعيد عنه يبنى فيه.
وقالوا: كل مسجد بنى على ضرار أو رياء وسمعة-فهو فى حكم مسجد الضرار لا يجوز الصلاة فيه. ثم ذكر القرطبى أن من فعل أى شىء بقصد الإضرار بالغير وجب منعه.
وهدم مسجد الضرار له حيثيات، وهى الإضرار والكفر والتفريق وإيواء المحاربين لله ورسوله، ومن هنا إذا بنى مسجد فى منطقة- وبخاصة إذا كانت مساجدها كافية - يراد بذلك تفريق كلمة المسلمين والإضرار بالناس بأى لون من ألوان الضرر عقيدة أو سلوكا، وتجتمع فيه جماعة خارجة عن حدود الدين، لأنهم يكفِّرون غيرهم مثلا أو يستحلون حرماتهم، أو يريدون بذلك رياء وسمعة-فهو فى حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه على ما رآه علماء المالكية كما ذكره القرطبى.. .
وبهذا لابد من اعتبار النية والنظر إلى الأثر المترتب على بناء هذه المساجد.
والأمر يحتاج إلى دقة وحكمة فى المعالجة. والتوعية لها دخل كبير فى هذا الموضوع(9/60)
الزيادة فى الأذان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى الزيادة فى الأذان بعد "لا إله إلا الله "؟
الجواب
الزيادة على الأذان أكثرها الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، ويلحق بها الدعاء لبعض الأولياء.
ا -أما الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم فقد سبقت الإجابة عليها، وقلنا: ليس هناك نص صحيح بمنعها من المؤذن، وهناك رأيان اجتهاديان، أحدهما يقول: لا مانع منها، والآخر يقول: إنها ممنوعة حتى لا يُظن أنها من الأذان، ولا داعى للتعصب لأحد الرأيين.
2 - أما الزيادة على ذلك فينبغى عدم فعلها وعدم الإكثار من ذكر المشايخ وغيرهم.
وقد جاء فى كتاب " بلغة السالك لأقرب المسالك " فى فقه المالكية "ج 1 ص 86" أنه قيل: إن الصلاة على النبى بدعة حسنة، وكان أول حدوثها زمن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 781 هـ فى ربيع الأول.
وكانت أولا تزاد بعد أذان العشاء ليلتى الاثنين والجمعة. ثم بعد عشر سنين زيدت عند كل أذان إلا المغرب. لكن ذكر الشيخ أحمد البشبيشى فى رسالته " التحفة السنية فى أجوبة الأسئلة المرضية "أن أول ما زيدت الصلاة والسلام على النبى بعد كل أذان على المنابر زمن السلطان المنصور حاجى بن الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر بن محمد بن المنصور قلاوون، وذلك فى شعبان سنة 791 هـ، وكان قد حدث قبل ذلك فى أيام صلاح الدين بن أيوب أن يقال قبل أذان الفجر فى كل ليلة بمصر والشام: السلام على رسول الله، واستمر ذلك إلى سنة 777 هـ فزيد فيه بأمر المحتسب صلاح الدين البرلسى أن يقال: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، ثم جعل ذلك عقب كل أذان سنة 791 هـ " حاشية الدسوقى ج 1 ص 193 "(9/61)
موعد ختم الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يفضل ختم الصلاة بعد أداء الفريضة مباشرة أم بعد ركعتى السنة؟
الجواب
ختم الصلاة جاءت فيه أحاديث بعبارة " دُبُر الصلاة أو خلف الصلاة" وجمهور العلماء على أن ختم الصلاة بالذكر الوارد فيه هذه العبارة يكون عقب الانصراف من الصلاة المكتوبة بالتسليم مباشرة، لدلالة العبارة عليه، ويقويها فعل النبى صلى الله عليه وسلم، حيث كانت الصفوف الأخيرة فى صلاة الجماعة تعرف انتهاء النبى منها بالتكبير أى بالذكر بعد الصلاة.
ورأى بعض العلماء أن الختم يكون له فضله إذا كان بعد الانتهاء من السنة الراتبة التابعة للفريضة. وهم الحنفية كما فى فقه المذاهب الأربعة جاء فى فتح البارى "ج 2 ص 382" فى باب الذكر بعد الصلاة قوله: ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ فإن كان يسيرا بحيث لا يُعَدُ مُعْرِضًا أو كان ناسيا أو متشاغلا بما ورد أيضا بعد الصلاة كآية الكرسى فلا يضر، ثم قال: هل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلا بين المكتوبة والذكر أو لا؟ محل نظر، والله أعلم(9/62)
قطع الصلاة للخطر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز قطع الصلاة إذا تعرض المصلى للخطر من حيوان مؤذ كالعقرب والثعبان مثلا، وهل للإنسان أن يكمل الصلاة بعد التخلص من الخطر أو عليه أن يصليها من جديد؟
الجواب
من رأى عقربا تقترب وهو مصلٍّ ويخشى أن تلدغه وجب عليه أن يقتلها، لحديث "اقتلوا الأسودين فى الصلاة، الحية والعقرب " رواه أحمد وأصحاب السنن بسند صحيح. ولا تبطل الصلاة بهذا العمل لأنه للضرورة.
وجاء فى نيل الأوطار للشوكانى "ج 2 ص 354" أن الحديث يدل على جواز قتل الحية والعقرب فى الصلاة من غير كراهة، وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء كما قال العراقى. وعن قتادة أنه قال: إذا لم تتعرض لك فلا تقتلها، بل روى عن ابن عمر أنه رأى ريشة وهو يصلى فحسب أنها عقرب فضربها بنعله. ومنع بعض العلماء ذلك محتجين بحديث "اسكنوا فى الصلاة " وحديث " إن فى الصلاة لشغلا" رواه أبو داود. ولكن الجمهور ردوا عليهم بأن هذه الأحوال مخصصة لعموم هذا الحديث.
وهكذا يقال فى كل فعل كبير ورد الإذن به، كحديث حمله صلى الله عليه وسلم لأمامة فى الصلاة، وكذلك خلعه لنعله، وصلاته على المنبر ونزوله للسجود ورجوعه بعد ذلك، وحديث أمره بدرء المار أمام المصلى وإن أفضى إلى المقاتلة، وحديث مشيه لفتح الباب لعائشة وكان مغلقا، وكان الباب جهة القبلة، وبعد الفتح عاد إلى مقامه(9/63)
صلاة من يسبق الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى المصلين الذين يسبقون الإمام فى الركوع والسجود؟
الجواب
فى حديث رواه أحمد وأبو داود " إنما الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا قبل أن يركع، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد" وفى حديث رواه الجماعة " أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحوِّل الله رأسه رأس حمار، أو يحول الله صورته صورة حمار".
وللفقهاء خلاف فى حكم السبق، ففى مذهب الحنفية لو ركع المأموم قبل الإمام وانتظر حتى ركع الإمام وشاركه معه فى الطمأنينة لا تبطل الصلاة، أما إذا رفع المأموم رأسه من الركوع قبل أن يركع الإمام ولم يركع معه بطلت صلاته. وكذلك قال المالكية، والشافعية قالوا: إن السبق المبطل لصلاة المأموم يكون بركنين لا بركن واحد، فلو سجد المأموم وكان الإمام ما يزال قائما للقراءة بطلت صلاته إن كان متعمدا، فإن كان ناسيا أو جاهلا وجب أن يعود لموافقة الإمام عند الذكر أو العلم، وإلا بطلت صلاته.
واختر لنفسك من هذه الأقوال ما يطمئن إليه قلبك " الفقه على المذاهب الأربعة"(9/64)
تنبيه الخطيب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى تصفيق أحد المصلين لتنبيه الإمام لأنه أطال فى خطبة الجمعة؟
الجواب
مبدأ الاعتراض على الخطيب بأى وجه من الوجوه ليس ممنوعا، ولكن ينبغى أن يكون بأسلوب حكيم. وقد ثبت أن امرأة اعترضت على عمر رضى الله عنه فى خطبته وهو ينهى عن المغالاة فى المهور، وأن رجلا قال له: والله لا سمعنا قولك ولا أطعنا أمرك، عندما قال لهم: اسمعوا قولى وأطيعوا أمرى، إلى غير ذلك من الحوادث.
ومن هنا لا نجد مانعًا من تصحيح خطأ أو وضع وقع فيه الخطيب، سواء أكان ذلك بالكلام أو التصفيق أو غيرهما، بشرط ألا يترتب عليه لغط أو تشويش يتنافى مع جلال الموقف، فإن استجاب فبها، وإلا فلا يجوز الإلحاح فى التنبيه فقد يكون لذلك رد فعل سيئ بأى وجه يكون.
ونوصى الخطيب بتقصير الخطبة كما هو هدى النبى صلى الله عليه وسلم، وليس للتطويل ولا للتقصير حد معين، فهما يرجعان إلى أهمية الموضوع وإلى الظروف الأخرى كالحر والبرد والمطر والسفر وغيرها. مع العلم بأن فى المستمعين ذوى أعذار، فالتقصير أفضل، وإذا كان للموضوع توضيح فليكن بعد الصلاة لمن أراد أن يستزيد من المعرفة(9/65)
الجهر بالنية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن التلفظ بالنية فى الصلاة بدعة، فالنية محلها القلب، فهل لو تلفظ بها المصلى تبطل صلاته أو يضيع ثوابها؟
الجواب
النية معناها القصد، والقصد عمل قلبى، فلا يجب التلفظ بها فى الصلاة وغيرها، ولا يتوقف قبول الصلاة على التلفظ بها سرا أو جهرا.
وقد قال الشافعية: لا بأس بالتلفظ بها، بل يُسَنُّ، وذلك ليساعد اللسان القلب، فلو ترك التلفظ بها فالصلاة صحيحة ومقبولة إن شاء الله، إذا توافرت فيها عوامل القبول بعد الأداء الشكلى، ومنها الخشوع والإخلاص.
وجاء فى "فقه المذاهب الأربعة" أن المالكية قالوا: التلفظ بالنية خلاف الأولى إلا للموسوس فإنه مندوب، دفعا للوسوسة. وقال الأحناف: إن التلفظ بدعة. إذ لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا عن أصحابه.
ويستحسن دفعا للوسوسة.
فالخلاصة أن النية فى الصلاة محلها القلب، ولا يشترط التلفظ بها. بل قال الأحناف: إنه بدعة، وقال المالكية: إنه خلاف الأولى، وذلك لغير الموسوس فيكون التلفظ مندوبا أو مستحسنا. وقال الشافعية: إنه سنة.
وابن القيم فى كتابه "زاد المعاد" ج 1 ص 51 نعى بشدة على من يقول بجواز النطق بالنية، وصحح رأى الشافعية فى ذلك فقال: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر، ولم يقل شيئا قبلها، ولا يلفظ بالنية البتة، ولا قال: أصلى له صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما، ولا قال: أداء ولا قضاء ولا فرض الوقت.
وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة، بل ولا عن أحد من أصحابه، ولا استحسنه أحد من التابعين ولا الأئمة، وإنما غرَّ بعض المتأخرين قول الشافعى رضى الله عنه فى الصلاة إنها ليست كالصيام ولا يدخل أحد فيها إلا بذكر، فظن أن الذكر تلفظ المصلى بالنية، وإنما أراد الشافعى رحمه الله بالذكر تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعى أمرا لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم فى صلاة واحدة ولا أحد من خلفائه وأصحابه؟ هذا هو رأى ابن القيم، وللأئمة آراؤهم، والحكم على ما ذكر بأنه بدعة ليس مسلَّما على طول الخط أنه ضلالة، فقد قال به علماء أفاضل، وجعلوه سنة أو مستحبا ومندوبا فى بعض الحالات كالوسوسة، مع العلم بأن التلفظ بها لا يضر وقد ينفع(9/66)
إمامة اللقيط
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تربى ولد فى الملجأ حتى تخرج فى المدارس ونال قسطا من التعليم الدينى، فأراد جماعة بنوا مسجدًا أن يجعلوه إماما لهم فى الصلاة، فقيل لهم: هذا لا يجوز، فما هو رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
اللقيط يغلب أن يكون نتاج علاقة جنسية غير مشروعة، وأوجب الفقهاء التقاطه ورعايته، لأنه لا ذنب له فى هذا المصير، وقد يكون له شأن فى التاريخ.
والقرطبى فى تفسيره "ج 1 ص 355" أثار مسألة إمامته فى الصلاة، وقال:
إن الإمام مالكا يكره أن يكون راتبا، أى إماما دائما معينا لذلك، وكذلك كرهه عمر بن عبد العزيز، وكان عطاء بن أبى رباح يقول: له أن يؤم إذا كان مرضيا، وهو قول الحسن البصرى والزهرى والنَخعى وسفيان الثورى والأوزاعى وأحمد بن حنبل وإسحاق. وتجزىء الصلاة خلفه عند أصحاب الرأى "أبى حنيفة وأصحابه" وغيره أحب إليهم، والشافعى قال: أكره أن ينصَّب إماما راتبا مَن لا يُعرف أبوه، ومن صلى خلفه أجزأه. وقال عيسى بن دينار: لا أقول بقول مالك فى إمامة ولد الزنى، وليس عليه من ذنب أبويه شىء، ونحوه قال ابن عبد الحكم إذا كان فى نفسه أهلا للإمامة، قال ابن المنذر: يؤم، لدخوله فى جملة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "يؤم القوم أقرؤهم " وقال أبو عمر: ليس فى شىء من الآثار الواردة فى شرط الإمامة ما يدل على مراعاة نسب، وإنما فيها الدلالة على الفقه والقراءة والصلاح فى الدين.
بعد هذا العرض لآراء الفقهاء نرى أن إمامته جائزة والصلاة خلفه صحيحة بالاتفاق، وأن الجمهور على ذلك إذا كان حسن السير والسلوك متفقها فى الدين، فليست العبرة فى الإمامة بالأنساب بل بالفقه والصلاح، وهو متفق مع قوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وعموم الحديث الذى يقدم فى الإمامة من هو أفقه وأقرأ.
والقليلون كرهوا أن يكون إماما راتبا، ولم يكرهوا أن يؤم الناس فى بعض الأحيان، وهو إحساس عاطفى أكثر منه عقليا(9/67)
كوب ماء لخطيب الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للإمام أن يطلب كوب ماء إذا شعر بالتعب فوق المنبر؟
الجواب
لا مانع من طلب الخطيب ماء ليشربه أو دواء ليتناوله، وقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم نزل من فوق المنبر وأخذ الحسن الذى كان يتعثر فى قميصه وأجلسه إلى جواره وهو يخطب، فالخطبة لا تبطل بشىء من ذلك، لا بالأكل والشرب، ولا بالكلام العادى ولا بالحركة مطلقا، والأولى أن يكون ذلك عند الحاجة وفى أضيق الحدود، وللعرف دخل كبير فى هذا الموضوع(9/68)
قراءة سورة المسد فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل حرام أن يقرأ الإنسان فى الصلاة سورة المسد؟
الجواب
لم يرد دليل يمنع قراءة المسد فى الصلاة، فالقرآن كله كلام الله يتلى فى كل حين، سواء أكان داخل الصلاة أم خارجها، وعاطفة بعض الناس التى تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتأذى من قراءتها لأنها فى حق عمه أبى لهب -عاطفة لا وزن لها أبدا، فما لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم منه لم يلقه من أحد من أقاربه، ولم يرد عنه أنه لم يقرأها فى الصلاة أو أنه نهى الناس عن قراءتها فيها(9/69)
سلطة الحاكم فى تعيين الخطباء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى فى بعض المساجد، وبخاصة الزوايا الصغيرة، بعض الخطباء يتناولون موضوعات فيها إثارة كاد بعض المستمعين أن يقاطعه فيها، فلماذا لا توجد رقابة على من يقومون بالإرشاد والتوجيه؟
الجواب
إن بعض من يعتلى المنابر أو يتصدر مجالس الوعظ قد يكونون على غير دراية صحيحة بما يتحدثون فيه فيُضلون ويُضَلُّون.
وقد يكونون على دراية ولكن يختارون موضوعات خلافية يقصدون بها الإثارة أو لفت الأنظار إليهم والالتفاف حولهم، وهؤلاء مراءون أو مجافون لأسلوب الدعوة كما وجه الله رسوله إليه {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن} النحل:125.
وغير العالم بالحكم الصحيح يجب أن يمنع حتى يتعلم ويفقه، ومثير الفتنة يجب أن يمنع من إثارتها والمساجد أو الزوايا التى تحتضن هؤلاء يجوز أن تمنع إقامة الجمعة ودروس الوعظ منها. ولا يصح أن يقال: إن ذلك المنع منهى عنه لقوله تعالى {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابها} البقرة: 114، فقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بإحراق مسجد الضرار الذى اتخذه بعض المنافقين لمناهضة الدعوة وتفريق الصفوف كما قال سبحانه {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} التوبة: 107.
وقد أمر علىّ رضى الله عنه بإخراج القُصَّاص الذين لا يتحرون الدقة فى قصصهم -من مسجد البصرة، ولم يترك إلا الحسن البصرى لاستقامة كلامه.
ويرى الإمام أبو حنيفة أنه لا يجوز أن يخطب الجمعة إلا من هو أهل لذلك، والذى يقدِّر هذه الأهلية هو الحاكم أو ولى الأمر أو المسئول عن المنابر، الذى يعطى الخطيب إذنا أو شهادة بذلك.
وقد وضح ذلك الماوردى فى "الأحكام السلطانية" ص 188، 248 وجاء فى تفسير القرطبى "ج 8 ص 254" ما نصه: قال علماؤنا: وكل مسجد بنى على ضرار أو رياء وسمعة فهو فى حكم مسجد الضرار، لا تجوز الصلاة فيه(9/70)
مساجد وأسماء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى إطلاق أسماء بعض الحكام والأغنياء وذوى الشهرة على المساجد التى أنفقوا على إنشائها، وهل هذا يتنافى مع قول الله تعالى {وأن المساجد لله} الجن: 18؟
الجواب
لا مانع من إطلاق أسماء بعض الناس على المساجد، وهذا الإطلاق قد يكون من غير من بنى المسجد، وذلك لتخليد اسم شخص عالم أو حاكم أو مصلح، وقد يكون هو الذى بنى المسجد وميزه باسمه.
أما تخليد أسماء بعض الناس بنسبة المساجد إليهم فلا مانع منه إذا كان هذا الشخص يستحق ذلك، وإذا كانت نية من قاموا بهذا العمل حسنه.
وأما كتابة بانى المسجد اسمه عليه فيرجع فيه أيضا إلى نيته، فإن كان لمجرد تمييزه عن غيرة وسهولة الاستدلال عليه أو عمل الإجراءات اللازمة له فلا مانع، وإن كان للفخر والرياء فممنوع، والنصوص فى وجوب الإخلاص لله وتحريم الرياء كنيرة، والحديث معروف " إنما الأعمال بالنيات ".
وإذا كان القصد من إطلاق اسم بانى المسجد عليه إثارة الحماس فى نفوس الأغنياء أن يقيموا منشأة دينية مثله فربما يكون أهلا للتقدير والاحترام، والله سبحانه هو الذى يقدر نيته، على غرار ما كان من تنافس الصحابة فى تمويل غزوة العسرة، ومحاولة بعضهم أن يكون نصيبه فيها أكثر، ومدح الرسول لعثمان الذى قدم كثيرا، والله يقول فى مثل هذه الظروف {إن تبدوا الصدقات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} البقرة:
271.
ولا صلة لنسبة المسجد لبعض الناس بقوله تعالى {وأن المساجد لله} فالمعنى أن المساجد بيوت الله لا يعبد فيها سواه كما كان يعبد المشركون الأصنام فى مسجد مكة، وهو بيت الله سبحانه(9/71)
الصلاة بحضرة الطعام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "إذا وضع العشاء فقدموه على العِشاء "؟
الجواب
روى مسلم وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا وضع العَشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعَشَاء".. .
وروى البخارى عن نافع أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما كان يوضع الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه يسمع قراءة الإمام.
يقول الخطابى: إنما أمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يُبْدأ بالطعام لتأخذ النفس حاجتها منه، فيدخل المصلى فى صلاته وهو ساكن الجأش - القلب - لا تنازعه نفسه شهوة الطعام، فيُعْجِلُه ذلك عن إتمام ركوعها وسجودها وإيفاء حقوقها. اهـ فالحديث ليس خاصا بصلاة العشاء، وإنما هو عام فى كل صلاة ينبغى أن يدخلها الإنسان خاليا من المؤثرات التى تشده عن الخشوع فيها، وقد مر شرح ذلك فى شرود الذهن فى الصلاة وعلاجه(9/72)
نسيان الفاتحة فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم من نسى قراءة الفاتحة فى الركعة الأولى من الصلاة؟
الجواب
قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة عند جمهور الفقهاء، للحديث الصحيح "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " ومن تركها عمدا بطلت صلاته، فإن تركها ناسيا وتذكر قبل أن يصل إلى مثلها من الركعة التالية وجب عليه أن يعود إلى القيام ويقرأها، فإن تذكر وهو يقرؤها فى الركعة التالية ضاعت عليه الركعة السابقة وعليه أن يأتى ببدلها.
وعند أبى حنيفة لو تركها سهوا يجب عليه أن يسجد للسهو، فإن لم يسجد وجبت عليه إعادة الصلاة، فإن لم يعدها كانت صحيحة وعليه الإثم.
هذا، وإذا كانت الصلاة باطلة فهى غير مقبولة.
ولو صحت عند أبى حنيفة عند عدم إعادتها أو عدم سجود السهو كان عليه ذنب يذهب بثواب الصلاة أو يقلله.
كل هذا فى الإمام والمنفرد، أما المأموم فإن نسيان الفاتحة أو تركها عمدا لا يبطل الصلاة عند أبى حنيفة لتحريمه قراءتها خلف الإمام، وكذا عند بعض الأئمة، وقد مر ذلك واضحا(9/73)
الصلاة والزينة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول الله تعالى {يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} الأعراف: 21، فهل يجوز للمرأة أن تصلى بالماكياج؟
الجواب
جاء فى سبب نزول هذه الآية ما رواه مسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهى عريانة وتقول: من يعيرنى تِطْوافًا؟ تجعله على فرجها، وتقول.
اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه * وما بدا منه فلا أُحِلُّه فنزلت هذه الآية {خذوا زينتكم عند كل مسجد} وقال القاضى عياض:
هذه المرأة هى ضُباعة بنت عامر بن قُرْط، وفى صحيح مسلم أيضا: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحُمْس: قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا، فيعطى الرجالُ الرجالَ، والنساءُ النساءَ، وكانت الحمس يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات.
وفى غير مسلم: ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا ينبغى لأحد من العرب أن يطوف إلا فى ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا، فمن لم يكن له من العربى صديق بمكة يعيره ثوبا، ولا يسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريان، وإما أن يطوف فى ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد، وكان ذلك الثوب يسمى اللَّقَى، قال قائل من العرب:
كَفَى حَزَنًا كَدِّى عليه كأنه * لَقًى بين أيدى الطائفين حريم فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} الآية. وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يطوف بالبيت عريان.
ومعنى هذا أن الطواف بالمسجد الحرام لابد فيه من أخذ الزينة، وهى ستر العورة، لكن الآية لا تتحدث عن المسجد الحرام الذى لا يصح الطواف إلا فيه، بل قالت "كل مسجد" ولهذا قال بعض المفسرين: المراد إذا ذهبتم للصلاة فى أى مسجد فخذوا زينتكم.
ويصح أن يراد بالزينة ستر العورة فى الصلاة، وكانوا لا يهتمون بها، فقد صح فى البخارى والنسائى عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومى من عند النبى صلى الله عليه وسلم قالوا: قال "ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن " قال:
فدَعَوْنى فعلَّمونى الركوع والسجود، فكنت أصلى بهم - وكان صبيًّا - وكانت علىَّ بردة مفتوقة-ثوب مشقوق -وكانوا يقولون لأبى: ألا تغطى عنا است ابنك -ألا تغطى عورته -هذا لفظ النسائى.
وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كان الرجال عاقدى أزرهم فى أعناقهم من ضيق الأزر، خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الصلاة كأمثال الصبيان، فقال قائل: يا معشر النساء لا ترفعن رءوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخارى والنسائى وأبو داود.
ورأى جماعة أن زينة الصلاة هى النعال، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم "خذوا زينة الصلاة " فسألوه: وما زينة الصلاة؟ قال " البسوا نعالكم فصلوا فيها" قال القرطبى: رواه أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم ولم يصح "ج 7 ص 189، 190 " وذكر ابن كثير أن تفسير الزينة بالنعال فيه نظر فى صحته عن النبى صلى الله عليه وسلم، وذكر أن من السنة التجمل عند الصلاة ولاسيما يوم الجمعة، ومنه الطيب والثياب البيض.
وأورد فيها حديثًا بإسناد حسن رواه أهل السنن وكان بعض السلف إذا توجه إلى المسجد أخذ كل أدوات الزينة تنفيذًا لأمر الله تعالى.
بعد هذا نقول:
إن من زينة المرأة ما تستعمله من أصباغ ودهون وعطور، فهل يجوز لها أن تصلى بها؟ نعم يجوز ما دامت صلاتها فى بيتها أو فى مكان ليس فيه رجال أجانب. بشرط أن يكون " الماكياج " بعد الوضوء أو الغسل، أما قبل ذلك فلابد من إزالته حتى يصح التطهر ولا يجوز بعد الصلاة أيضا أن تظهر للأجانب بهذه الزينة حتى لا يضيع ثواب الصلاة أو يقل(9/74)
الترقية بين يدى الخطيب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى بعض المساجد إذا أذن المؤذن بين يدى خطيب الجمعة نصح الناس بالإنصات والخشوع، وتلا حديثا فى ذلك، فهل هذا بدعة مذمومة؟
الجواب
لم يثبت أن ذلك كان أيام النبى صلى الله عليه وسلم أو فى عهد التشريع، ويدخل فى باب النصيحة، وذلك قبل أن يشرع الخطيب فى الخطبة، ولا أجد نصا ينهى عن ذلك، فالإنصات المطلوب هو أثناء إلقاء الخطبة عند الجمهور.
جاء فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة:
أن أبا حنيفة قال: إن الترقية مكروهة كراهة تحريم، لأن الكلام ممنوع بعد خروج الإمام من خلوته إلى أن ينتهى من الصلاة، حتى لو كان ذكرا، أما صاحباه فقالا: لا يكره الكلام إلا حال الخطبة، وعليه فالترقية جائزة عندهما.
والشافعية قالوا: إن الترقية بدعة حسنة، لأنها لا تخلو من حث على الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وتحذير من الكلام أثناء الخطبة.
والمالكية قالوا: إنها بدعة مكروهة لا يجوز فعلها، إلا إذا شرطها الواقف فى وقفه فتجوز. .
والحنابلة قالوا: لا بأس بالكلام مطلقا قبل الخطبتين، وعليه فالترقية جائزة.
والخلاصة أن الترقية جائزة عند صاحبى أبى حنيفة وعند الشافعى وأحمد، ومكروهة عند المالكية إذا لم يشترطها الواقف، فالجمهور على الجواز. وابن الحاج تعجب من مالك حيث يعمل بعمل أهل المدينة مع أنهم كانوا يقلدون فيها أهل الشام، تعجب كيف ينكرها هو وهم يجيزونها "الزرقانى على المواهب اللدنية ج 7 ص 394 ".
هذا، والشيخ محمد عبده تعصب لمذهب أبى حنيفة، وحمل حملة عنيفة على من يقولون بجوازها، مع أنها بدعة، وكل بدعة فى الدين ضلالة، ولا عبرة بمن يقول: إن البدعة قد تكون حسنة "الفتاوى الإسلامية ج 1 ص 39 والتاريخ 14من رمضان 1321 هـ " ولم هذا التعصب وجمهور الأئمة قال بالجواز، وليس فيها ضرر؟(9/75)
السلام وتحية المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا دخل الإنسان المسجد ووجد شخصًا أو جماعة جالسين هل يبدأ بالسلام عليهم، أم يبدأ بتحية المسجد؟
الجواب
يقول النووى فى كتابه "الأذكار ص 249": السنة أن المسلم يبدأ بالسلام قبل كل كلام، والأحاديث الصحيحة وعمل سلف الأمة وخلفها على وفق ذلك مشهورة فهذا هو المعتمد فى دليل الفصل، يعنى البدء بالسلام قبل كل شىء.
ثم قال: وأما الحديث الذى رويناه فى كتاب الترمذى عن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " السلام قبل الكلام " فهو حديث ضعيف، قال الترمذى: هذا حديث منكر.
يقول ابن علان شارح كتاب الأذكار فى تعليل البدء بالسلام: أى لأنه تحية يبدأ به، فيفوت بالافتتاح بالكلام، كتحية المسجد فإنها قبل الجلوس وتفوت به. انتهى يؤخذ من هذا أن الداخل للمسجد الذى فيه شخص أو جماعة مطلوب منه سُنتان: تحية المسجد وتحية المسلم، فبأيهما يبدأ؟ لعل البعض يقول: تحية المسجد أوَّلاً لأنه بيت الله فكأنها تحية لله، وتحية الله مقدمة على تحية الإنسان. لكن لا يغيب عنا أن السلام يفوت بالانشغال بأى شىء قبله، سواء أكان كلاما أم عملا، كما تقدم من الاستدلال على ذلك، فلو صلى تحية المسجد فلا معنى لتحية المسلم بالسلام بعدها لأنها فاتت، ومن هنا يكون الأفضل البدء بتحية السلام ثم يأتى بتحية المسجد لأنها لا تفوت إلا بالجلوس، والداخل ما زال قائما لم يجلس، فيسلم على الحاضرين ثم يصلى تحية المسجد، وهنا يكون قد جمع بين التحيتين، والأساس كما قلت:إن تحية السلام تفوت بالانشغال بأى شىء، وتحية المسجد لا تفوت إلا بالجلوس.
هذا، وما كنت أحب أن أشغل القارئ بهذه المسألة لولا أن كثيرا يثيرونها والله أعلم بغرضهم من ذلك، وأمامنا ما هو أهم بالبحث(9/76)
المؤذن والمقيم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن يقوم بالأذان شخص، وأن يقيم للصلاة شخص آخر؟
الجواب
تحدث القرطبى فى تفسيره "ج 6 ص 229" عن اختلاف العلماء فى هذه المسألة، فقال: ذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أنه لا بأس بأن يؤذن شخص ويقيم غيره. لحديث محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إذ رأى النداء فى النوم -أن يلقيه على بلال، فأذن بلال، ثم أمر عبد الله بن زيد فأقام. رواه أحمد وأبو داود.
وقال الثورى والليث والشافعى: من أذن فهو يقيم، لحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم عن زياد بن نُعَيْم عن زياد بن الحارث الصدائى قال. أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان أول الصبح أمرنى فأذنت، ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أخا صداء أذَّن، ومن أذَّن فهو يقيم " قال أبو عمر: عبد الرحمن بن زياد هو الإفريقى، وأكثرهم يضعِّفونه، وليس يروى هذا الحديث غيره، والأول أحسن إسنادا إن شاء الله.
والمناقشات طويلة فى نيل الأوطار "ج 2 ص 58 ".
ثم انتهى القرطبى إلى قوله: ومع هذا فإنى أستحب إذا كان المؤذن واحدا راتبا أن يتولى الإقامة، فإن أقامها غيره فالصلاة ماضية بإجماع.
يؤخذ من هذا أن العلماء فريقان، وذلك كله فى الأفضلية، أما الصحة فهى متفق عليها، سواء أقام المؤذن أم أقام غيره، والأمر لا يحتاج إلى تعصب ولا طول بحث(9/77)
أفراح العيد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى اللعب واللهو والسهر أيام العيد؟
الجواب
فى الأعياد المشروعة كعيد الفطر وعيد الأضحى لا بأس بالتمتع بالطيبات المشروعة وإظهار الفرح والسرور على تمام النعمة بالصيام وبالحج.
ومن المتع المشروعة الغناء الطيب العفيف الذى لا يثير فتنة عقلية أو خلقية، وقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم استمع وأجاز لعائشة أن تسمع الأغانى فى يوم العيد. ولما استنكر أبوها أبو بكر ذلك بيَّن له الرسول صلى الله عليه وسلم أن اليوم عيد، ولكل قوم عيد، وفى بعض الروايات "لتعلم يهود أن فى ديننا فسحة ".
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم نظر هو والسيدة عائشة إلى لعب الحبشة بالحراب فى مسجده، وفى الحديث "إن لربك عليك حقا ولبدنك عليك حقا" وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لحنظلة الذى يكون عنده فى روحانية، فإذا خرج من عنده شغل بأهله وماله "يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا.
فالمتعة إذا كانت فى حدود المشروع لا مانع منها أبدا، على أن تكون بقدر، أما الخروج على الآداب والانطلاق فى التمتع بما يتنافى مع الدين والأدب فهو ممنوع قطعا.
وتوضيح ذلك موجود عند الحديث عن الموسيقى والغناء(9/78)
الهوى إلى السجود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الأفضل عند الهوى إلى السجود هل نقدم اليدين أم الركبتين؟
الجواب
أخرج أحمد وأبو داود والنسائى عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه ثم ركبتيه ".
وروى الخمسة إلا أحمد عن وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.
جمهور الفقهاء على وضع الركبتين قبل اليدين، ومالك والأوزاعى والشيعة يميلون إلى وضع اليدين قبل الركبتين.
قال ابن القيم فى كتابه "زاد المعاد" حديث أبى هريرة انقلب متنه على بعض الرواة، ولعله "وليضع ركبتيه قبل يديه " وقد جاء مرويا فى مسند أبى بكر بن أبى شيبة "إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل " وقال ابن القيم أيضا: حديث أبى هريرة متناقض أوله مع آخره، لأنه نهى عن بروك البعير، ووضع اليدين أولا هو كبروك البعير.
قال النووى: لا يظهر له ترجيح أحد المشاهدين. وابن القيم رجح حديث وائل وأطال الكلام فى ذلك، وذكر عشر مرجحات.
وما دام الأمر خلافيا بين الفقهاء فلا يصح التمادى فى التعصب لرأى من الآراء(9/79)
الصلاة فى زيادات الحرمين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحرص كثير من زوار المسجد الحرام والمسجد النبوى على الصلاة فى المساحة التى كانت أيام النبى صلى الله عليه وسلم لأنها المقصودة بزيادة الثواب فيها، ولكن الواقع لا يمكِّنْ كل الزوار من ذلك، فهل لو صلينا فى الزيادات المضافة للمسجد الأصل يكون ثوابنا مضاعفا أيضا؟
الجواب
صح فى الحديث أن الصلاة فى المسجد الحرام بمكة بمائة ألف صلاة فيما سواه، كما رواه الطبرانى وابن خزيمة، وفى المسجد النبوى بالمدينة بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام كما رواه مسلم.
وهذا واضح فى مساحة المسجد التى كانت موجودة فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم لكن طرأت على المسجدين زيادات فى عصور متعددة، كما كثر عدد المترددين عليهما للصلاة، فكيف يفعل من لم يستطع أن يجد له مكانا فى المساحة المحدودة؟ اختلف العلماء فى فضل الصلاة فى الزيادة الطارئة على الأصل، فقال النووى: الفضل خاص بالأصل دون الزيادة، مستدلا بقول النبى صلى الله عليه وسلم "فى مسجدى هذا" فالإشارة إلى ما بناه هو وحدده، لا ما بناه غيره فيما بعد. لكن قد يُرَدُّ عليه بأن الحديث قال هذه العبارة ليخرج المساجد الأخرى، لا ليخرج الزيادة فى مسجده والنووى وحده هو صاحب هذا الرأى، وقيل: رجع عنه.
وجمهور العلماء على أن كل زيادة فى المسجدين لها هذا الحكم، فقد سئل مالك رحمه الله عن ذلك فقال: النبى صلى الله عليه وسلم تحدث بما سيكون بعده فزويت له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها، ولولا تحدثه بما يكون بعده ما استجاز الخلفاء أن يزيدوا فى مسجده بحضرة الصحابة، دون أن ينكر عليهم أحد "خلاصة الوفا للسمهودى " ص 97. قال ابن تيمية: وهو الذى يدل عليه كلام المتقدمين وعملهم، وكان الأمر عليه زمن عمر وعثمان، فزادوا فى قبلة المسجد، وكان وقوفهما فى الصلوات وفى الصف الأول فى الزيادة، وما بلغنى عن أحد من السلف خلاف هذا، ويشهد له روايات للديلمى وغيره "لو مُدَّ هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدى" وسنده واهٍ، وعن عمر رضى الله عنه: لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجد الرسول.
وفى سنده متروك. ويقاس على مسجد المدينة مسجد مكة.
هذا فضل الصلاة فى المسجد وزياداته، أما الصلاة خارج هذه الزيادات فلا تعطى هذا الثواب، وإلا لصلَّى الناس فى بيوتهم، وبخاصة أن الحرم يتجاوز مكة التى قد يتسع عمرانها، ويدخل فيه المزدلفة، وله حدود معينة.
وأرى أن صفوف المصلين خارج المسجد لو اتصلت بالصفوف التى داخله يرجى لها ثواب الصلاة فى المسجد، وإن كان الحرص على الصلاة داخل المسجد يجعل الإنسان يبادر بالذهاب إليه حتى يجد مكانا فيه، والمبادرة لحضور الصلاة مطلوبة(9/80)
هدم المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندنا مسجد آيل للسقوط، هل يجوز هدمه وتعطيله؟
الجواب
إذا كان المسجد آيلا للسقوط وأريد ترميمه أو هدمه وبناء غيره فلا مانع من ذلك، لكن لو كان المسجد صالحا للصلاة فيه بدون ضرر فلا يجوز هدمه ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلة كما يقول علماء المالكية "تفسير القرطبى ج 2 ص 78 ".
ويجوز منع بناء المسجد، وهدمه بعد بنائه إذا قصد به الشقاق والخلاف، كبنائه بجوار مسجد أو بقربه دون حاجة إليه، كما يقول المالكية "المرجع السابق " ولذلك لا يجوز عندهم أن يكون فى المصر جامعان، ولا لمسجد واحد إمامان، ولا يصلى فى مسجد جماعتان.
يؤخذ من أقوال الفقهاء أنه يجوز الانتفاع بالمسجد القديم الآيل للسقوط فى إعادة بنائه أو فى مسجد آخر فى مكان آخر، أما استعماله لغير ذلك فلا يجوز، ويبقى متعطلا " الفتاوى الإسلامية - المجلد السادس ص 2156 والسابع ص 3256، 3260"(9/81)
الرقابة على المساجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز لأحد من المسئولين أن يمنع أحدا من الخطابة والوعظ فى المساجد؟
الجواب
جاء فى كتاب الأحكام السلطانية للماوردى "ص 188 "قوله: وأما جلوس العلماء والفقهاء فى الجوامع والمساجد والتصدى للتدريس والفتيا فعلى كل واحد منهم زاجر من نفسه ألا يتصدى لما ليس به بأهل، فيضل به المستهدى ويزل به المسترشد، وقد جاء فى الأثر "أجروكم على الفتيا أجروكم على جراثيم جهنم " - حديث مرسل رواه الدارمى عن عبد الله بن أبى جعفر.
وللسلطان فيهم من النظر ما يوجبه الاختيار من إقرار أو إنكار، فإذا أراد من هو لذلك أهل أن يترتب - يوظف - فى أحد المساجد لتدريس أو فتيا نُظِرَ حال المسجد، فإن كان من مساجد المحال - الأهلية - التى لا يترتب الأئمة فيها من جهة السلطان لم يلزم من ترتب فيه للتدريس والفتيا استئذان السلطان فى جلوسه، كما لا يلزم أن يستأذنه فيه من ترتب للإمامة. وإن كان من الجوامع وكبار المساجد التى ترتب الأئمة فيها بتقليد السلطان روعى فى ذلك عرف البلد وعادته فى جلوس أمثاله، فإن كان للسلطان فى جلوس مثله نظر لم يكن له أن يترتب للجلوس فيه إلا عن إذنه، كما لا يترتب للإمامة فيه إلا عن إذنه، لئلا يفتات عليه فى ولايته، وإن لم يكن للسلطان فى مثله نظر معهود لم يلزم استئذانه للترتيب فيه وصار كغيره من المساجد.
وإذا ارتسم بموضح من جامع أو مسجد فقد جعله الإمام مالك أحق بالموضع إذا عرف به، والذى عليه جمهور الفقهاء أن هذا يستعمل فى عرف الاستحسان، وليس بحق مشروع، وإذا قام عنه زال حقه منه، وكان السابق إليه أحق، لقول الله تعالى {سواء العاكف فيه والباد} الحج:25.
ويمنع الناس فى الجوامع والمساجد من استطراق - اختراق - حلق الفقهاء والقراء، صيانة لحرمتها، وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم "لاحمى إلا فى ثلاث: ثُلَّة البئر، وطَوْلُ الفرس، وحلقة القوم " فأما ثلة البئر فهو منتهى حريمها، وأما طول الفرس فهو ما دار فيه بمقوده إذا كان مربوطا، وأما حلقة القوم فهو استدارتهم فى الجلوس للتشاور والحديث.
وإذا تنازع أهل المذاهب المختلفة فيما يسوغ فيه الاجتهاد لم يعترض عليهم فيه، إلا أن يحدث بينهم تنافر فيكفوا عنه، وإن حدث منازع ارتكب مالا يسوغ فيه الاجتهاد كف عنه ومنع منه، فإن أقام عليه وتظاهر باستغواء من يدعو إليه لزم السلطان أن يحسم بزواجر السلطنة ظهور بدعته، ويوضح بدلائل الشرع فساد مقالته، فإن لكل بدعة مستمعا، وكل مُستغو متبعا، وإذا تظاهر بالصلاح من استبطن ما سواه ترك، وإذا تظاهر بالعلم من عرى منه هتك، لأن الداعى إلى صلاح ليس فيه مصلح، والداعى إلى علم ليس فيه مضل. انتهى.
وقال فى صفحة 100: إن المساجد ضربان: مساجد سلطانية ومساجد عامية - أهلية - فأما المساجد السلطانية فهى المساجد والجوامع والمشاهد، وما عظم وكثر أهله من المساجد التى يقوم السلطان بمراعاتها، فلا يجوز أن ينتدب للإمامة فيها إلا من ندبه السلطان لها، وقلَّده الإمامة فيها، لئلا يفتات الرعية فيما هو موكول إليه، فإذا قلد السلطان فيها إماما كان أحق بالإمامة فيها من غيره وإن كان أفضل منه وأعلم، وهذه الولاية طريقها طريق الأولى لا طريق اللزوم والوجوب.
ثم قال: وإذا صلى إمام هذا المسجد بجماعة وحضر من لم يدرك تلك الجماعة لم يكن لهم أن يصلوا فيه جماعة وصلَّوا فيه فرادى، لما فيه من إظهار المباينة والتهمة بالمشاقة والمخالفة.
ثم قال: وإذا قلد السلطان لهذا المسجد إمامين وأطلق التقييد من غير تخصيص كل واحد منهما ببعض الصلوات كانا فى الإمامة سواء، وأيهما سبق إليها كان أحق بها، ولم يكن للآخر أن يؤم فى تلك الصلاة بقوم آخرين، لأنه لا يجوز أن يقام فى المساجد السلطانية جماعتان فى صلاة واحدة.
ثم ذكر أن للإمام أن يعمل برأيه واجتهاده فى أحكام صلاته، ولم يكن للسلطان أن ينهاه عن ذلك، ولا للمأمومين أن ينكروه عليه، كالشافعى الذى يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويقنت فى الصبح، والحنفى الذى يترك البسملة والقنوت.
ثم ذكر أنه يجوز أن يأخذ الإمام رزقا على الإمامة من بيت المال من سهم المصالح، ومنع أبو حنيفة من ذلك.
وأما المساجد العامية التى يبنيها أهل الشوارع والقبائل فى شوارعهم وقبائلهم فلا اعتراض للسلطان عليهم فى أئمة مساجدهم، وتكون الإمامة فيها لمن اتفقوا على الرضا بإمامته، وإذا اختلف أهل المسجد فى اختيار إمام عمل على قول الأكثرين، فإن تكافا المختلفون - أى تساووا - اختار السلطان لهم إماما يكون أحسن دينا وقراءة وتفقها وأكبر سنا، وذلك لقطع تشاجرهم.
وهذا فى الإمامة فى الصلوات اليومية، أما فى صلاة الجمعة فقال الماوردى:
ذهب أبو حنيفة إلى أنها من الولايات الواجبة، فلا تصح صلاة الجمعة إلا بحضور السلطان أو من يستنيبه فيها، وذهب الشافعى وفقهاء الحجاز إلى أن التقليد-أى التعيين - فيها ندب، وأن حضور السلطان ليس بشرط فيها، فإن أقامها المصلون على شرائطها انعقدت وصحت.
بعد هذه النقول عن الماوردى المتوفى سنة 450 هجرية: نرى أهمية التدريس والخطابة والوعظ فى المساجد، وأهمية الإمامة فيها، وبخاصة المساجد الحكومية، فلا يعين فيها ولا يتصدر لهذه المهمة إلا من كان أهلا لها، وإذا كان للمساجد الأهلية حرية فى تعيبن الإمام جاز لولى الأمر التدخل فى ذلك للمصلحة.
ونرى أن حرية الرأى مكفولة فيما يسوغ فيه الاجتهاد، مع المحافظة على وحدة الصف وعدم تفرق الجماعة، وإمام المسجد هو المسئول عن ذلك، ولا يُعترض على ما يراه هو، وعلى المأمومين أن يتبعوه.
وإذا تعدد الأئمة فى المسجد الواحد وجبت عليهم مراعاة الوحدة وعدم الخلاف.
هذه تنظيمات مشروعة قال بها العلماء منذ ألف سنة وهى جديرة بمراعاتها فى عصرنا الحاضر، من أجل المعرفة الصحيحة بأمور الدين، والحيلولة دون المغرضين أو الجاهلين أن يشوهوا الوجه المشرق للإسلام، أو يفرقوا كلمة المسلمين(9/82)
إعراب الأذان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا مؤذنا يقول: الله اكبر الله أكبر فى نفس واحد، ولكن بفتح الراء من " أكبر " فهل أذانه صحيح؟
الجواب
عبارة "الله أكبر" يجوز الوقف على أخرها وذلك بإسكان الراء، فإذا وصلها بغيرها مثل "الله أكبر الله أكبر" يجوز إسكان الراء، لأن الوقف هو الأصل وهو يكون بالإسكان. ويجوز أن تحرك الراء بالضم، على الإعراب، لأن "أكبر" خبر لمبتدأ وهو مرفوع. ويجوز أن تحرك الراء بالفتح، إما بنقل حركة الحرف الذى بعدها، وإما للتخلص من التقاء الساكنين، وإن كان الأصل فيه أن يكون بالكسر، لكن اختير الفتح بدل الكسر للتفخيم، هكذا قال الإمام الراغب فى كتابه "بغية الراغب ودفينة الطالب " ص 5(9/83)
أعضاء السجود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض الناس أثناء السجود يكون أحد قدميه نائما غير منتصب وأحيانا يكون القدمان نائمين، فهل صلاتهم صحيحة؟
الجواب
السجود فى الصلاة ركن من أهم أركانها، وهو فرض بالنص والإجماع، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا. . .} الحج: 77، ولا بد فيه من الطمأنينة كما علَّم النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة لرجل رآه يسىء صلاته، حيث قال له "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا" رواه البخارى ومسلم. وأجمعت الأمة على ذلك والطمأنينة أقلها زمن يسع " سبحان الله " ولم يقل بفرضيتها أبو حنيفة، لعدم ذكرها فى القرآن، ولم يعتد بالحديث المذكور.
والحد الأدنى فى السجود أن يضع جزءا من جبهته على الأرض عند الجمهور، وأوجب أبو حنيفة وضع أكثر الجبهة مع التحامل عليها، للحديث الذى رواه ابن حبان فى صحيحه "إذا سجدت فمكِّن جبهتك من الأرض ولا تنقر نقرا " ولا بد أن تكون الجبهة مكشوفة غير مغطاة وقد تقدم الكلام فى ذلك.
وهل يجب السجود على أعضاء أخرى غير الجبهة؟ روى البخارى ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت بالسجود على سبعة أعظم: اليدين والركبتين والقدمين والجبهة " هناك للشافعية قولان، الأظهر عند الرافعى لا يجب السجود على غير الجبهة، والأظهر عند النووى الوجوب، وعلى ما صححه النووى، الاعتبار بباطن الكف فى اليدين، وببطون الأصابع فى القدمين، ولا يكفى ظهر الكف ولا ظهر الأصابع، ويكفى وضع جزء من كل هذه الأعضاء كإصبع واحدة.
والحنفية قالوا: الواجب هو إحدى اليدين وإحدى الركبتين وإحدى القدمين. والسنة أن يكون السجود بالكل.
والمالكية قالوا: السجود على غير الجبهة سنة غير واجب، والحنابلة قالوا مثل ما قال الشافعية، فإذا عجز عن السجود على بعض هذه الأعضاء سجد على بقيتها "الفقه على المذاهب الأربعة".
وفى السجود على طرف الأنف خلاف. فالجمهور على عدم الوجوب، وعند أحمد روايتان، إحداهما بالوجوب بدليل حديث البخارى ومسلم فى الأمر بالسجود على سبعة أعظم أن النبى صلى الله عليه وسلم عند ذكر الجبهة أشار بيديه إلى أنفه، والثانية بعدم الوجوب "المغنى ج 1 ص 560، النووى على مسلم ج 4 ص 207، 208".
من هنا نرى الاتفاق على وجوب السجود على الجبهة، وما عدا ذلك من الأعضاء فيه خلاف، قيل بالندب، وقيل بوجوب إحدى اليدين وإحدى الركبتين وإحدى القدمين، والدين يسر(9/84)
التنكيس فى السجود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يشترط فى صحة السجود ألا يكون مكان الجبهة أعلى من مستوى الركبتين؟
الجواب
قال الحنفية: ارتفاع موضع الجبهة يكون ضارا إذا زاد على نصف ذراع، إلا لضرورة، كسجود المصلى على ظهر المصلى الذى أمامه عند الزحام، وذلك بشرط ألا يجد مكانا خاليا لوضع جبهته. على الأرض وأن يكون فى صلاة واحدة، وأن تكون ركبتاه على الأرض.
والشافعية قالوا: إن ارتفاع موضع الجبهة عن موضع الركبتين مبطل للصلاة إلا إذا رفع عجيزته وما حولها عن رأسه وكتفيه فتصح الصلاة، فالمدار عندهم على تنكيس البدن وهو رفع الجزء الأسفل من البدن على الجزء الأعلى منه فى السجود، وذلك حيث لا عذر، كالحامل، فالتنكيس غير واجب عليها إذا خافت الضرر.
والمالكية قالوا: إذا كان الارتفاع كثيرا ككرسى متصل بالأرض فالسجود لا يصح على المعتمد، وإن كان قليلا فلا يضر، "الفقه على المذاهب الأربعة"(9/85)
التفريج بين القدمين فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض المصلين يفرجون بين أقدامهم بدرجة كبيرة، وإذا كانوا فى جماعة ألصقوا أرجل بعضهم بأرجل البعض الآخر فتتسع المسافة بين قدمى المصلى بصورة لافتة للنظر، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
إذا كان الإنسان يصلى إماما أو منفردا كان من السنة ألا يضم قدميه عند القيام فى الصلاة، بل يفرج بينهما، وذلك باتفاق الأئمة، أما المسافة بين القدمين فقدرها الحنفية بأربع أصابع، فإن زاد أو نقص كان مكروها، وقدرها الشافعية بشبر، وقال المالكية والحنابلة يكون التفريج متوسطا، بحيث لا يضم القدمين ولا يوسعهما كثيرا حتى يتفاحش عرفا.
وإذا كان المصلى مأموما فى صف فمن السنة سد الفرج وتراصُّ الصفوف، وجاء فى ذلك حديث رواه البخارى ومسلم عن أنس رضى الله عنه قال:
أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال " أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإنى أراكم من وراء ظهرى " وجاء فى رواية البخارى: فكان أحدنا يلزِقُ منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه.
وجاء فى رواية أبى داود وابن خزيمة فى صحيحه عن النعمان بن بشير قوله:
فلقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه. والكعب هو العظم الناتئ فى جانبى الرِّجْل عند ملتقى الساق بالقدم، لأنه هو الذى يمكن أن يلزق بالذى بجنبه، والقول بأن الكعب هو مؤخر القدم قول شاذ ينسب إلى بعض الحنفية ولم يثبته محققوهم كما جاء فى الفتح لابن حجر"ج 3 ص 147".
وإلزاق أو لزق المناكب يتبعه بسهولة إلزاق الكعوب، لكن لو تباعدت المناكب اقتضى إلزاق الكعوب التفريج بين الأقدام بمسافة كبيرة تتفاحش عرفا كما يقول المالكية والحنابلة، وتزيد على الشبر كما يقول الشافعية وعلى الأصابع الأربعة كما يقول الحنفية، وذلك مكروه.
وقد يحرص بعض الأشخاص على إلزاق الكعوب، على الرغم من تفاحش المسافة بين قدميه، فهو يريد فعل سنة فيقع فى مكروه، إلى جانب مضايقته لمن بجواره الذى يحاول ضم قدميه لكنه يلاحقه ويفرج بين قدميه بصورة لافتة للنظر وقد يضع رجله ويضغط عليها ومضايقة المصلى تذهب خشوعه أو تقلله، والإسلام نهى عن الضرر والضرار.
وتضرُّر بعض المصلين من إلزاق جاره رجله برجله ذكره أحد رواة الحديث وهو معمر فيما أخرجه الإسماعيلى، حيث قال: ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس. فأرجو التنبه لذلك، إبقاءً على المودة ومساعدة على الخشوع فى الصلاة(9/86)
مخالفة الطريق إلى المسجد يوم العيد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يندب للإنسان إذا صلى العيد فى مكان أن يعود إلا بيته من طريق آخر؟
الجواب
نعم يسن للإنسان إذا ذهب لصلاة العيد من طريق أن يعود من طريق آخر إلى بيته أو غيره، وذلك ليشهد له الطريقان، فقد روى البخارى عن جابر رضى الله عنه أنه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق، وروى مسلم وغيره عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال:
كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد يرجع فى غير الطريق الذى خرج وهذه المخالفة سنة ولست بواجبة، إن فعلها أخذ ثوابا، وإن لم يفعلها فلا عقاب عليه. وكان بعض الصحابة يرجع من الطريق الذى ذهب منه دون إنكار عليه(9/87)
فتح المأموم على الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى فتح المأموم على الإمام، وهل هو جائز أو غير جائز؟
الجواب
معنى فتح المأموم على الإمام تنبيهه إلى ما يقروه من السور أو الآيات بعد قراءة الفاتحة، وهذا التنبيه قد يكون تصحيحا لخطأ فى القراءة، وقد يكون تذكيرا له بما يريد أن يقرأه، وهو مشروع.
والأصل فى ذلك حديث رواه أبو داود عن مُسَوَّر بن يزيد المالكى قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك آية، فقال له رجل: يا رسول الله آية كذا وكذا، قال "فهلاَّ ذكرتنيها" وفى رواية له عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه، فلما انصرف قال لأبى "أصليت معنا"؟ قال: نعم، قال "فما منعك "؟ . وإسناده جيد كما قال الخطابى.
والمعنى أن النبى صلى الله عليه وسلم ترك آية فظن مسور أنها نسخت، فذكر له النبى صلى الله عليه وسلم أنها لم تنسخ وكان يود أني يذكره إياها. ومعنى "لبس " بفتح اللام والباء، التبس واختلط.
جاء فى نيل الأوطار للشوكانى "ج 2 ص 339 " أن الحديثين يدلان على مشروعية الفتح على الإمام، على خلاف فى ندبه أو وجوبه عند الشيعة، وقال أبو حنيفة فى رواية عنه: إنه مكروه ودليله ما أخرجه أبو داود عن على رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا على لا تفتح على الإمام فى الصلاة " وأخرجه عبد الرزاق فى مصنفه، وهو مطعون فيه، ولا يعارض ما ورد فى مشروعية الفتح.
وجاء فى المغنى لابن قدامة "ج 1 ص 711" أن الفتح على الإمام إذا أرتج عليه أو غلط فرُدَّ عليه لا بأس به فى الفرض والنفل، روى ذلك عن عثمان وعلى وابن عمر رضى الله عنهم، وكذلك بعض التابعين كالحسن وابن سيرين، وكرهه ابن مسعود من الصحابة، وشريح والشعبى. وقان أبو حنيفة: تبطل الصلاة به، وذكر الأحاديث السابقة ثم ذكر ابن قدامة أن الإمام إذا أرتج عليه فى الفاتحة لزم مَن وراءه الفتح عليه، كما لو نسى سجدة لزمهم تنبيهه بالتسبيح، فإن عجز عن إتمام الفاتحة فله أن يستخلف من يصلى بهم لأنه عذر كما لو سبقه الحدث.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة ما خلاصته:
1 -أن الحنفية قالوا: إذا نسى الإمام الآية كأن توقف فى القراءة أو تردد فيها فإنه يجوز للمأموم الذى يصلى خلفه أن يفتح عليه، ولكنه ينوى إرشاد إمامه لا التلاوة، لأن القراءة خلف الإمام مكروهة تحريما.
ويكره للمأموم المبادرة بالفتح على الإمام، كما يكره للإمام أن يلجئ المأموم على إرشاده، بل ينبغى له أن ينتقل إلى آية أخرى أو سورة أخرى، أو يركع إذا قرأ القدر المفروض والواجب.
2 -والمالكية قالوا: يفتح المأموم على إمامه إذا وقف عن القراءة وطلب الفتح بأن تردد فى القراءة، أما إذا وقف ولم يتردد فإنه يكره الفتح عليه، ويجب الفتح عليه فى الحالة الأولى إن ترتب عليه تحصيل الواجب لقراءة الفاتحة، ويُسَنُ إن أدَّى إلى إصلاح الآية الزائدة عن الفاتحة، ويندب إن أدى إلى إكمال السورة الذى هو مندوب.
3- والشافعية قالوا: يجوز للمأموم أن يفتح على إمامه بشرط أن يسكت عن القراءة، أما إذا تردد فى القراءة فإنه لا يفتح عليه ما دام مترددا، ولا بد لمن يفتح على إمامه أن يقصد القراءة وحدها، أو يقصد القراءة مع الفتح، أما إن قصد الفتح وحده، أو لم يقصد شيئا أصلا فإن صلاته تبطل على المعتمد.
4 - والحنابلة قالوا: يجوز للمصلى أن يفتح على إمامه إذا أرتج عليه (أى منع من القراءة) أو غلط فيها، ويكون الفتح واجبا إذا منع الإمام من القراءة أو غلط فى الفاتحة، لتوقف صحة الصلاة على ذلك.
هذا، ولعل ما نقلته من فقه المذاهب الأربعة يوضح ما نقلته عن نيل الأوطار للشوكانى وعن المغنى لابن قدامة. واختلاف الآراء رحمة، لأنه يتيح الفرصة للأخذ بأحدها دون تعصب(9/88)
التبليغ خلف الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى قيام أحد المأمومين برفع صوته بالتكبير ليسمع المأمومون ويتابعوا الإمام؟
الجواب
من السنة أن الإمام يجهر بالتكبير والتسميع والسلام، وذلك لإعلام المأمومين حتى يتابعوه، فإن كان المأمومون يسمعون ذلك منه كان التبليغ من غيره مكروها لعدم الحاجة إليه. فإن كان صوته ضعيفا لا يسمعهم فيُسَنُ لأحد المأمومين أن يقوم بالتبليغ، ففى حديث البخارى لما مرض النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى بالناس وأبو بكر يصلى بصلاته والناس يصلون بصلاة أبى بكر، فكان النبى إذا كبر كبر أبو بكر وكبر الناس بتكبيره، أى يقتدون بصوته.
وجاء مثل ذلك فى رواية مسلم أن النبى صلى قاعدا وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، وفى رواية له: فإذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا. وذكر النووى فى شرحه أن رفع الإمام صوته بالتكبير ليسمعه الناس ويتبعوه، وأن اتباع المقتدى صوت المكبر جائز فى مذهب الشافعية ومذهب الجمهور، ونقلوا فيه إجماع الصحابة والتابعين عليه وجرى العمل على هذا قديما. ويجب أن يقصد المبلغ، سواء أكان إماما أم غيره، الإحرام للصلاة بتكبيرة الإحرام، فلو قصد الإعلام والتبليغ فقط لم تنعقد صلاته.
بل قال الشافعية: لا تنعقد صلاته لو قصد الإعلام والإحرام.
هذا فى تكبيرة الإحرام، أما التكبيرات الأخرى وقول: سمع الله لمن حمده، والتحميد فإن قصد بها التبليغ فقط فلا تبطل صلاته، لكن فاته الثواب، لأن التبليغ مكروه، والشافعية يقولون فى غير تكبيرة الإحرام: إن قصد بهذه الأشياء مجرد التبليغ،أو لم يقصد شيئا بطلت صلاته، أما إن قصد التبليغ مع الذكر فصلاته صحيحة.
وللحنفية ملخص آخر فى هذا التبليغ فقالوا: إذا رفع المبلغ صوته بذلك وكان لصوته نغم وتفنن فيه قاصدا بذلك إعجاب الناس به فصلاته تفسد على الراجح. "فقه المذاهب الأربعة، "القول البليغ " للحموى(9/89)
متى يبدأ قصر الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جعل الله لنا رخصة فى قصر الصلاة بسبب السفر، فمتى يتحقق السفر ومتى يجوز القصر؟
الجواب
يقول الله سبحانه: {وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} النساء:
101، تفيد هذه الآية أن السفر يبيح للمسافر أن يصلى الصلاة الرباعية ركعتين، وهذا أمر مجمع عليه، فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون، وكل المسلمين فى جميع العصور.
ومع اختلاف العلماء فيما يتحقق به السفر المبيح للقصر، هل هو أى سفر ولو كان قصيرا أو هو السفر الطويل، وهل هناك تحديد للطول، مع اختلافهم فى ذلك قالوا: متى شرع فى السفر جاز القصر ولو بعد زمن قصير أو مسافة قصيرة جدا من البلد الذى بدأ منه السفر، وقالوا: إن مفارقة البلد تكون بتجاوز مبانيها كلها وتجاوز المرافق الملحقة بها. وهذه المفارقة فيها آراء.
ا - فالشافعية قالوا: لا بد أن يصل إلى محل يُعدُّ فيه مسافرا عرفا، وابتداء السفر لساكن الأبنية يحصل بمجاوزة سور مختص بالمكان الذى سافر منه إذا كان السور صوب الجهة التى يقصدها المسافر، ومثل السور الخندق والقنطرة، فإن لم يوجد سور ولا خندق ولا قنطرة فالعبرة بمجاوزة العمران أى المبانى، ومنها المقابر المتصلة بها، ولو تعددت القرى وهى متصلة فى وحدة محلية واحدة فلا بد من تجاوزها كلها، فإن لم تكن متصلة فالعبرة بمجاوزة القرية التى يسكنها.
هذا، إذا كان السفر برا، أما لو كان بحرا فالسفر يبدأ من أول تحرك السفينة من الميناء، وإذا كانت السفينة تسير محاذية للأبنية فلا يقصر حتى يجاوز الأبنية، ولو كان السفر جوا فلا يقصر حتى تتحرك الطائرة وتجاوز البلد.
2 - والحنفية قالوا: مثل ذلك فى مجاوزة الأبنية، ولم يشترطوا غيابها عن بصره ما دامت المجاوزة قد تحققت، كما نصوا على مجاوزة المرافق المتصلة بالبلد كالمدافن والملاعب وأمكنة القمامة، فإن كانت هذه المرافق منفصلة بمزرعة أو فضاء قدره أربعمائة ذراع فلا تشترط مجاوزته. ولم يأت فى فقه المذاهب الأربعة عنهم كلام على السفر فى البحر أو غيره.
3- والمالكية قالوا: لا بد من مجاوزة الأبنية والفضاء الذى حواليها والبساتين المسكونة بأهلها ولو فى بعض العام، بشرط اتصالها بالبلد حقيقة أو حكما بأن كان ساكنوها ينتفعون بأهل البلد. والعِزب المتصلة بالبلد لا بد من مجاوزتها ما دام بين سكانها ارتفاق بأهل البلد، لأنها كبلد واحد.
4 -والحنابلة قالوا: كلاما قريبا من هذا، وكلها أقوال اجتهادية لا نص فيها، وقد يكون للعرف دخل فى اعتبار السفر قد بدأ أو لم يبدأ. غير أنه روى عن بعض السلف أن من نوى السفر يقصر ولو فى بيته، ولم يوافق أحد من أصحاب المذاهب المشهورة عليه، لأنه ما دام فى بيته كيف يتحقق السفر، والنية ليست سفرا، فقد ينوى الإنسان قبل مغادرة البيت أو البلد بيوم أو ساعات طوال. فالأولى عدم العمل بهذا الرأى(9/90)
نقل المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تخرب مسجد وليس له ما يعمر به واستغنى الناس عنه لبناء مسجد آخر، أو تهدم فى زلزال أو سيول، فهل يجوز التصرف فى أرضه لغرض آخر، أو لبناء مسجد بدله؟
الجواب
إذا تحققت المسجدية فى أرض بالبناء والصلاة أصبح المسجد ملكا لله لا يجوز لأحد أن يتملكه أو يتصرف فيه بما يخرجه عن مهمته الدينية، لكن لو تخرب المسجد ولا يوجد ما يعمره، أو هاجر الناس من حوله واستغنوا عنه، إما قهرا واضطرارا كزلزال أو سيول، أو اختيارا كهجرة إلى مكان آخر، هنا اختلف الشيخان محمد وأبو يوسف صاحبا أبى حنيفة فى الحكم، فقال محمد: إنه يعود إلى ملك الواقف أو المتبرع إن كان حيا وإلى ورثته إن كان ميتا، لأنه عينه لقربة مخصوصة، فإذا انقطعت رجع إلى المالك، وإذا لم يعلم صاحبه ولا ورثته أو كان ملكا للجميع أقاموه بالجهود الذاتية جاز بيعه وصرف ثمنه فى مسجد آخر.
وقال أبو يوسف: على الرغم من ذلك فهو ما يزال مسجدا إلى يوم القيامة، ولا يعود إلى ملك أحد من الناس، لأنه صار ملكا لله وحده، ولا يجوز نقل أنقاضه ولوازمه إلى مسجد آخر، وبالطبع لا يجوز الانتفاع بأرضه فى أى عمل آخر، وللناس أن يبنوا فوق الأرض مسجدا جديدا.
وأكثر المشايخ على قول أبى يوسف، ورجحه الكمال بن الهمام، لكن روى عن أبى يوسف أيضا أنه وإن لم يعد المسجد إلى المالك يجوز أن تحول الأنقاض واللوازم إلى مسجد آخر، أو يباع ذلك بإذن القاضى ويصرف ثمنه فى أقرب مسجد له، وقد جزم بهذه الرواية صاحب "الإسعاف " وأفتى بها كثير من المتأخرين، لأن ترك الأنقاض وخلافها بدون صرفها إلى مسجد آخر يؤدى إلى ضياعها إذا طال الزمان.
أما أبو حنيفة فنقل عنه مثل قول محمد، ونقل أيضا عنه مثل قول أبى يوسف. انتهى ملخصا من فتوى الشيخ حسن مأمون فى 24 من مايو سنة 1960 "الفتاوى الإسلامية ج 6 ص 2156".
هذا، ووجه سؤال إلى الشيخ جاد الحق على جاد الحق سنة 1981م عن هدم مسجد آيل للسقوط لبناء مسجد جديد على قطعة منه وبناء عمارة على الباقى من أرضه فأجاب بتاريخ أول أبريل سنة 1981 م بما ملخصه:
أن الفقه الشافعى: نعى كما فى كتاب إعلام الساجد للزركشى- على أنه إذا تعطل المسجد بتفرق الناس عن البلد أو خرابها أو خراب المسجد فلا يعود مملوكا، ولا يجوز بيعه ولا التصرف فيه، خلافا لمحمد بن الحسن الحنفى.
والفقه المالكى: جرى على مثل ما ذهب إليه فقه الشافعية -كما فى كتاب التاج والإكليل على مختصر خليل، غير أنه أجاز فى المسجد إذا تخرب وخيف على أنقاضه من الفساد ولم ترج عمارته أن تباع ويوجه الثمن إلى مسجد آخر.
وأجاز فقه الحنابلة -كما فى المغنى لابن قدامة - بيع المسجد إذا صار غير صالح للغاية ال مقصودة منه، كأن ضاق على أهله ولم يمكن توسيعه ليسعهم، أو خربت الناحية التى فيها المسجد وصار غير مفيد، ويصرف ثمنه فى إنشاء مسجد آخر فى مكان يحتاج إليه فيه.
وفى الفقه الحنفى: أن المسجد إذا خرب ولم يكن له ما يعمر به واستغنى الناس عنه لبناء مسجد آخر، أو خرب ما حوله واستغنى عنه - يبقى مسجدا أبدا إلى يوم القيامة وذلك عند أبى حنيفة وأبى يوسف، وأما عند محمد بن الحسن فيعود إلى ملك من بناه، ونصوا على أنه إذا أراد أهل محلة نقض المسجد وبناءه أحسن من الأول إن كان من يريد بناءه من أهل المحلة كان لهم ذلك، وإلا لم يجز، كما نصوا على أن للقائم على المسجد أن يؤجر فناءه للتجار لصالح المسجد، ولفقراء المسلمين بإذن القاضى، أما فناء المسجد وحرمه فأعطاها بعضهم حكم مسجد آخر، وأتبعها آخرون للمسجد ذاته.
وبعد سرد أقوال المذاهب قال: يجوز هدم المسجد الآيل للسقوط أو المتخرب وجعل ثمن أنقاضه فى مصاريف تجديده لبقاء المسجدية له، ويجوز توسيعه من الفناء الملحق به، وإقامة عمارة على بعض الفناء يصرف عائدها أو تستعمل لصالح المسجد ولصالح الفقراء، وذلك بإذن القاضى. "الفتاوى الإسلامية ج 9 ص 3254"(9/91)
المنبر النبوى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى أوصاف المنبر الذى كان يخطب عليه النبى صلى الله عليه وسلم وما عدد درجاته؟
الجواب
جاء فى الصحيح أن مسجد النبى صلى الله عليه وسلم كان مسقوفا على جذوع من نخل، وكان النبى إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صُنع له المنبر فكان عليه سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، وللنسائى: اضطربت تلك السارية فحنت كحنين الناقة الخلوج، أى التى انترغ ولدها، ولأحمد وابن ماجه: فلما جاوز الجذع خار حتى تصدع وانشق، وفيه: فأخذ أبى بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد، فلم يزل عنده حتى بلى وعاد رفاتا. وعند الدارمى: فأمر به صلى الله عليه وسلم أن يحفر له ويدفن. ولابن زبالة: تحت المنبر، وقيل عن يساره وقيل شرقيه، وقيل فى موضعه الذى كان فيه.
وجاء فى مسند الدارمى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب فطال القيام عليه استند فاتكأ على الجذع، فبصر به رجل ورد المدينة فقال: لو أعلم أن محمدا يحمدنى فى شىء يرفق به لصنعت له مجلسا يقوم عليه، فإن شاء جلس ما شاء، وإن شاء قام. فبلغ النبى صلى الله عليه وسلم فقال "ائتونى به " فأتوه فأمره أن يصنع له المراقى الثلاث أو الأربع، وهى الآن فى مسجد المدينة، فوجد النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك راحة.
وبعد أن ذكر السمهودى هذا الكلام فى كتابه خلاصة الوفا "ص 162 وما بعدها" قال فى "ص 164 ": وأشهر الأقوال أن الذى صنع المنبر "باقوم " الذى بنى الكعبة لقريش، وقيل غيره، وذكر بعض أهل السير أنه كان يخطب على منبر من طين، وأن الصحابة صنعوا له مقعدا من طين يجلس عليه ليعرفه الناس الوافدون إليه، وكان يخطب عليه، وكان ذلك فى أول الهجرة، وفى قصة الإفك عبارة "ورسول الله قائم على المنبر". وذكر ابن سعد أن المنبر كان سنة سبع وأن ابن النجار جزم أنه كان سنة ثمان، كما ذكر آراء فى أنه كان درجتين أو ثلاثة، يجلس الرسول على الثالثة ويضع رجله على الثانية، فلما ولى أبو بكر كان يجلس على الثانية ويضع رجله على الدرجة السفلى وجاء عمر فجلس على الأولى ووضع رجله على الأرض، ولما جاء عثمان فعل ذلك ست سنوات ثم علا إلى موضع النبى صلى الله عليه وسلم فلما ولى معاوية جعل للمنبر ست درجات زيادة على الثلاثة، ولما قدم المهدى الخليفة العباسى إلى المدينة استشار الإمام مالكا أن، يعيده إلى ما كان عليه أيام الرسول فلم يوافق.
وكان ذلك سنة 160 هـ، واحترق المسجد سنة 654 هـ واشتركت مصر فى تعميره.
وفى عهد الملك الظاهر بيبرس البندقدارى كملت عمارة المسجد، ومن بعده الناصر قلاوون.
وأرسل الظاهر منبرا عدد درجاته تسع، كما أرسل من بعده منابر أخرى. " انظر الزرقانى على المواهب اللدنية ج 1 ص 371".
كما بنى أهل المدينة منبرا من الآجر والنورة بسبب حريق بالمسجد حتى سنة 688 هـ فبنى الأشرف قايتباى منبرا من الرخام، وتوالى التغيير على مدى الأزمان، ولم يعد للمنبر النبوى ذى الدرجات الثلاث أثر، واستمر الناس يخطبون على المنابر الجديدة ولم ينكر عليهم أحد.
إن أصل اتخاذ المنبر كان لظهور الخطيب أمام الناس، وكلما ارتفع أمكن أن يسمع صوته بوضوح،وظهرت فى مصر وغيرها منابر عالية فى مساجد واسعة يجتمع فيها الآلاف الذين لا يكاد البعيد منهم عن المنبر يسمع من يتحدث، وكان يخطب عليها كبار الشيوخ والعلماء، ومنبر مسجد الأزهرنفسه له درجات كثيرة، وما سمعنا مثل الصيحة فى السنوات الأخيرة التى ترمى المنابر العالية بانها بدعة، وبالتالى ضلالة، مع أنه لم يرد نهى عنها وليست من العبادات التى يتقرب بها إلى الله.
وأرى أن رفع المنابر إذا كان لإبلاغ الصوت هو الوسيلة الوحيدة فى الماضى فإن مكبرات الصوت أغنت عن ذلك، وليس أثر المنبر فى السامعين وفى تبليغ الدعوة مرتبطا بعدد درجاته بقدر ارتباطه بصحة المعلومات والحكمة فى إيصالها للسامعين.
وإذا كان ارتفاع المنابر لإسماع الناس بدعة فلماذا لا يكون استعمال مكبر الصوت بدعة أيضا وهو لم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح؟ أرجو أن نفهم الدين فهما صحيحا، وألا نتسرع بإصدار أحكام لا تخدم الدين بقدر ما تسىء إليه(9/92)
الشهيد تارك الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مات أحد الجنود فى معركة إسلامية ولم يكن يصلى، فهل يغفر الله له؟
الجواب
معلوم أن ترك الصلاة ورد فيه حديث مسلم "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" وأحسن ما قيل فيه ما ذكره النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 2 ص 70" أن تارك الصلاة إن كان منكرا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، خارج من ملة الإسلام، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه، وإن كان تركه تكاسلا مع اعتقاده وجوبها، كما هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه:
فذهب مالك والشافعى رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب، فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزانى المحصن، ولكنه يقتل بالسيف -لابالرجم- وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر، وهو مروى عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله، وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعى رضوان الله عليه. وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزنى صاحب الشافعى رحمهما الله إلى أنه لا يكفر ولا يقتل، بل يعزر ويحبس حتى يصلى.
احتج من قال بكفره بظاهر الحديث المذكور، وبالقياس على كلمة التوحيد. واحتج من قال لا يقتل بحديث "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث " وليس فيه الصلاة.
واحتج الجمهور على أنه لا يكفر بقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفرما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48 وبقوله صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" و"من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" "لا يلقى الله تعالى عبد بهما -أى الشهادتين- غير شاك فيحجب عن الجنة" و"حرم الله النار على من قال لا إله إلا الله " وغير ذلك.
واحتجوا على قتله بقوله تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} التوبة: 5 وقوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم " وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهى القتل، أو أنه محمول على المستحل، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر، أو أن فعله فعل الكفار. والله أعلم.
وذكر النووى أن الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد، وهو الكفر بالله تعالى، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبدة الأوثان وغيرها من المخلوقات، مع اعترافهم بالله تعالى، ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك، والله أعلم. وقال الماوردى فى "الأحكام السلطانية " ص 221:
تارك الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها يسأل عن تركه لها، فإن قال: تركتها لنسيان أمر بها قضاء فى وقت ذكرها، ولم ينتظر بها مثل وقتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها عنها فليصلها إذا ذكرها، ولا كفارة لها إلا ذلك " رواه مسلم وإن تركها لمرض صلاها بحسب طاقته من جلوس أو اضطجاع، قال تعالى {لا يكلف الله نفسا الا وسعها} البقرة: 286 وإن تركها جاحدا لوجوبها كان كافرا، حكمه حكم المرتد، يقتل بالردة إذا لم يتب، وإن تركها استثقالا لفعلها مع اعترافه بوجوبها فقد اختلف الفقهاء فى حكمه، فذهب أبو حنيفة إلى أنه يضرب فى وقت كل صلاة ولا يقتل. وقال أحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب الحديث. يصير بتركها كافرا يقتل بالردة. وذهب الشافعى إلى أنه لا يكفر بتركها ولا يقتل حدا ولا يصير مرتدا.
ولا يقتل إلا بعد الاستتابة، فإن تاب وأجاب إلى فعلها ترك وأمر بها فإن قال: أصليها فى منزلى وكلت إلى أمانته ولم يجبر على فعلها بمشهد من الناس، وإن امتنع من التوبة ولم يجب إلى فعل الصلاة قتل بتركها فى الحال على أحد القولين، وبعد ثلاثة أيام فى القول الثانى، ويقتل بسيف صبرا. وقال أبو العباس بن سريج، بقتله ضربا بالخشب حتى يموت، ويعدل عن السيف ليستدرك التوبة بتطاول المدى.
واختلف أصحاب الشافعى فى وجوب قتله بترك الصلوات الفوائت إذا امتنع من قضائها، فذهب بعضهم إلى أن قتله بها كالمؤقتات، وذهب آخرون إلى أنه لا يقتل بها، لاستقرارها فى الذمة بالفوات، ويصلى عليه بعد قتله، ويدفن فى مقابر المسلمين، لأنه منهم، ويكون ماله لورثته.
وإذ قد عرفنا حكم ترك الصلاة بأنه يدور بين الكفر والفسق، فإن الشهيد لو تركها جحدا كان كافرا، ولا تفيده الشهادة شيئا، فالجنة ونعيمها للمؤمنين خاصة وإن تركها كسلا كان فاسقا آثما، يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وإذا لم يشأ الله له المغفرة يعاقب على ترك الصلاة، وبخاصة اذا علمنا أنها دين له أى حق له، والحقوق لا تسقط فلابد من قضائها كما قال الترمذى "المواهب اللدنية للقسطلانى ج 2 ص 338". وقد صح فى الحديث الذى رواه مسلم "يغفر للشهيد كل شىء إلا الدَّيْن " فهل هو عام فى كل دين لله وللعباد، أو خاص بدين العباد لا يغفر إلا برده اليهم؟ .
قال النووى "شرح صحيح مسلم ج 13 ص 29": وأما قوله صلى الله عليه وسلم "إلا الدين " ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدمبين، وأن الجهاد والشهادة وغيرمما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى.
فنرجو أن يغفر الله للشهيد ترك الصلاة، لأنها ليست دينا وحقا للآدميين، ولعموم مغفرة ما دون الشرك لمن يشاء(9/93)
محاريب المساجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل المحاريب الموجودة الآن بالمساجد بدعة؟
الجواب
يقول الله تعالى {يعملون له مايشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات} سبأ: 113، وذلك خبر عن تسخير الجن لسيدنا سليمان عليه السلام وقيامهم بهذه الأعمال التى منها المحاريب.
والمحاريب جمع محراب، ومعناه فى اللغة كما فى القاموس المحيط: الغرفة وصدر البيت وأكرم مواضعه، ومقام الإمام من المسجد، والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن السلطان، وجاء فى نهاية ابن الأثير: المحراب هو الموضع العالى المشرف، وهو صدر المجلس أيضا، ومنه محراب المسجد، وهو صدره وأشرف موضع فيه. وجاء فى تفسير القرطبى -إلى جانب المعانى المذكورة- أنه ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة، كما قال "إذ تسوروا المحراب " وقوله "فخرج على قومه من المحراب " أى أشرف عليهم.
وفى نهاية ابن الأثير أن النبى صلى الله عليه وسلم أرسل عروة بن مسعود إلى قومه بالطائف، فأتاهم ودخل المحراب محرابا له، فأشرف عليهم عند الفجر، ثم أذن للصلاة. وجاء فيها أيضا ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يكره المحاريب، أى لم يكن يحب أن يجلس فى صدر المجلس، ويترفع عن الناس، كما جاء فيها أنه أتى برجل ارتد عن الإسلام فقال كعب:
أدخلوه المذبح، وضعوا التوراة، وحلفوه بالله، المذبح واحد المذابح وهى المقاصير، وقيل: المحاريب.
والمذبح عند أهل الكتاب مقصورة مرتفعة نحو متر ونصف المتر ذات أعمدة ليس بينهما حواجز، وفوقها سقف تحته خلاء توضع فيه القرابين. وهذه المقصورة داخل حجرة فسيحة أمام المعبد، يصعد إليها بسلم ذى درجات قليلة تسمى الهيكل، لا يدخله إلا الكهنة وأرباب الخطايا الذين يريدون المغفره.
وهذه المحاريب للكنائس وبيوت العبادة لأهل الكتاب، وكانت تتعبد فيها مريم كما جاء فى قوله تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجدعندها رزقا} آل عمران: 37 وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عنها، فقد جاء فى حديث رواه البيهقى: "اتقوا هذه المذابح " وفى رواية ابن أبى شيبة "لا تزال هذه الأمة -أو قال أمتى- بخير ما لم يتخذوا فى مساجدهم مذابح كمذابح النصارى ".
فهل محاريب المساجد الإسلامية الآن مثل محاريب النصارى؟ لا، لأنها ليست غرفا، وليست مرتفعة عن أرض المسجد، ولم يتميز بالجلوس فيها جماعة من المسلمين، وإنما هى علامات على اتجاه القبلة، وقد تكون مجوفة وغير مجوفة، تبين مقام الإمام من المأمومين، لأن السنة أن يقف الإمام إزاء وسط الصف.
فالحكم بكراهة اتخاذ المحاريب "مقاصير ومذابح النصارى " أساسه إما اختفاء الإمام عن المأمومين، وإما ارتفاعه عليهم بدون مبرر، وكان الصحابة يكرهون أن يكون الإمام مرتفعا عليهم، لأنه يوحى بالكبر.
ومحاريب المسلمين الآن لا صلة لها بهذه الأسباب، فهى -كما سبق- علامة على القبلة، وتعليم جهتها أمر مشروع، وقد غرز النبى صلى الله عليه وسلم خشبة فى مسجد قوم أسامة بعد أن خطه لهم، ليكون دليلا على القبلة. فدل هذا على مشروعية إرشاد المصلى إلى القبلة.
ولم يكن لمسجد النبى صلى الله عليه وسلم فى زمنه محراب، وأحدثه عمر بن عبد العزيز.
فهو ليس بدعة مذمومة "مجلة الأزهر- مجلد 6 ص 469، تفسير القرطبى ج 11 ص 84، 85".
وجاء فى "إعلام الساجد بأحكام المساجد" للزركشى ص 364: كره بعض السلف اتخاذ المحاريب فى المسجد، وفى مصنف عبد الرزاق عن الحسن أنه صلى واعتزل الطاق ان يصلى فيه، والطاق هو المحراب الذى يقف فيه الإمام.
وفى شرح الجامع الصغير للحنفية: لا بأس أن يكون مقام الإمام فى المسجد، وسجوده فى الطاق، ويكره أن يكون فى الطاق، لأنه يشبه اختلاف المكانين، ألا ترى أنه يكره الانفراد. اهـ والمشهور الجواز بلا كراهة، ولم يزل عمل الناس عليه من غير نكير.
بعد هذا أقول، إن محاريب المساجد اليوم ليست هى المحاريب والمقاصير التى فى معابد أهل الكتاب، وعلى هذا فلا كراهة فى عملها ولا فى الصلاة فيها، ويوجد فى بعض الكتب حملة عنيفة على المحاريب، لكن المقصود منها محاريب أهل الكتاب بأوصافها التى لا توجد فى محاريب المساجد "انظر كتاب غذاء الألباب للسفارينى الحنبلى ج 2 ص 273 ".
" تراجع مجلة الأزهر عدد ربيع الأول 1411 هـ، والمجلد السادس ص 469 ".
والمحراب المجوف فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم قيل أول من اتخذه عثمان ابن عفان سنة 26 هـ عند بنائه، وقيل مروان بن الحكم سنة 65 هـ أثناء تجديده، وقيل عمر بن عبد العزيز أيام إمارته على المدينة وتجديده للمسجد سنة 90 هـ(9/94)
النظر أثناء الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا كان الإنسان فى الصلاة هل ينظر أمامه أم إلى موضع سجوده أم إلى مكان آخر؟
الجواب
تحدث القرطبى فى تفسيره لقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} ج 2 ص 160 عن هذه المسألة فقال: فى هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه فى أن المصلى حكمه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، وقال الثورى وأبو حنيفة والشافعى والحسن بن حَىٍّ: يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده، وقال شريك القاضى: ينظر فى القيام إلى موضع السجود، وفى الركوع إلى موضع قدميه، وفى السجود إلى موضع أنفه، وفى القعود إلى حجره. قال ابن العربى: إنما ينظر أمامه، فإن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه فى الرأس وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج، وما جعل علينا فى الدين من حرج، أما أن ذلك أفضل فهو لمن قدر عليه. انتهى.
جاء فى نيل الأوطار للشوكانى "ج 2 ص 196 " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس فى التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره إشارته، رواه أحمد والنسائى وأبو داود، وجاء فيه أيضا بعد حديث النهى عن رفع الأبصار إلى السماء أن ابن بطال قال: فيه حجة لمالك فى أن نظر المصلى يكون إلى جهة القبلة، وقال الشافعى والكوفيون: يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده لأنه أقرب إلى الخشوع. ويدل عليه ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أم سلمة بنت أبى أمية، زوج النبى صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: كان الناس فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام المصلى يصلى لم يَعْدُ بصر أحدهم موضع قدميه، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلى لم يعد موضع جبهته فتوفى أبو بكر فكان عمر فكان الناس إذا قام أحدهم يصلى لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فكان عثمان وكانت الفتنة فتلفت الناس يمينا وشمالا.
ثم قال عن هذا الحديث: فى إسناده موسى بن عبد الله بن أبى أمية لم يخرج له من أهل الكتب الستة غير ابن ماجه.
فالإجابة على السؤال ليس فيها دليل يعتمد عليه، وإنما هى اجتهادات وآ راء، ومن وجهة نظرى أقول: كل مصل حر فى نظره ولكن يختار ما يساعد على الخشوع فى الصلاة، مع العلم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن رفع البصرإلى السماء فقد روى مسلم والنسائى وأحمد أنه قال "لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم فى الصلاة أو لتُخطفن أبصارهم ".
ونفى عن النظر إلى ما هو يلهى ويشغل المصلى عن صلاته. فقد روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها أنه صلى فى خميصة -كساء من خز أو صوف- لها أعلام، أى بها ألوان مخالفة، فقال "شغلتنى أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبى جهم -هو عامر ابن حذيفة- وأتونى بأنبجانيته " والأنبجانية كساء غليظ له وبر وليس له علم. وكان أبو جهم أهدى إلى الرسول الخميصة فطلب بدلها الأنبجانية.
وروى البخارى عن أنس قال: كان قِرام لعائشة -ستر رقيق- سترت به جانب بيتها فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم " أميطى قرامك، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لى فى صلاتى".
ومع العلم أيضا بأن تغميض العينين كرهه البعض وجوزه بعضهم بلا كراهة، لأن الحديث المروى فى الكراهة لم يصح.
قال ابن القيم: الصواب أن يقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل وإن كان يحول بينه وبين الخشوع -لما فى قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه- فهناك لا يكره التغميض قطعا. والقول باستحبابه فى هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بكراهته.
///(9/95)
الاعتكاف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المراد من الاعتكاف، وما الدليل على مشروعيته، وما هو الثواب المترتب عليه؟
الجواب
الاعتكاف معناه لزوم الشىء وحبس النفس عليه، سواء أكان خيرا أم شرا، قال تعالى: {ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون} الأنبياء: 52 أى مقيمون على عبادتها، والمراد به شرعا لزوم المسجد والإقامة فيه بنية التقرب إلى الله.
والإجماع منعقد على مشروعيته، فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يعتكف فى كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذى قبض فيه اعتكف عشرين يوما كما رواه البخارى، واعتكف أزواجه من بعده كما روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها.
وحكمه أنه سنة، ويكون واجبا عند النذر، ويتأكد فضله فى رمضان وفى العشر الأواخر منه.
والأحاديث التى وردت فى فضله لم يتفق على صحتها، وإن كانت تقبل فى فضائل الأعمال منها ما رواه الطبرانى والبيهقى والحاكم وصححه عن ابن عباس رضى الله عنهما "ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاتة خنادق، أبعد مما بين الخافقين " وما رواه البيهقى "من اعتكف عشرا فى رمضان كان كحجتين وعمرتين ".
وهناك ترغيب فى الاعتكاف أقل من يوم، فقد روى الخطيب وابن شاهين عن ثوبان أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "من اعتكف نفسه ما بين المغرب والعشاء فى مسجد جماعة لم يتكلم إلا بصلاة وقرآن كان حقا على الله تعالى أن يبنى له قصرا فى الجنة "(9/96)
الاعتكاف فى المنزل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل مريض بالشلل هل يجوز له أن يعتكف فى بيته لمشقة اعتكافه فى المسجد وهل يجوز للمرأة أن تعتكف في بيتها بدل أن تعتكف فى المسجد أيضا؟
الجواب
الاعتكاف سنة للرجال والنساء، على أن يكون اعتكافهن بإذن أزواجهن، فإن لم يأذن الأزواج جاز لهم إخراجهن من المسجد كما ذهب إليه الشافعى وأحمد، وقد صح أن أزواج النبى صلى الله عليه وسلم اعتكفن فى المسجد النبوى، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على أن الاعتكاف لا يصح إلا فى المسجد، كما قال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد} البقرة: 187 وإن كان الإخبار عن واقع الحال لا يفيد الشرطية وأى مسجد من المساجد يجوز فيه الاعتكاف، لعدم الدليل على تخصيص بعضها بالجواز.
وهذا ما رآه مالك والشافعى، لكن أبا حنيفة وأحمد اشترطا أن يكون المسجد جامعا عاما تقام فيه الصلوات الخمس وصلاة الجماعة.
والحديث الذى اعتمد عليه ضعيف، وهو ما رواه الدارقطنى "كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح " ومفهومه أن المسجد الخاص الذى لا يستقيم فيه الأذان وصلاة الجماعة لا يصح الاعتكاف فيه.
والمسجد الجامع على كل حال إن لم يكن مشروطا لصحة الاعتكاف فالاعتكاف فيه أفضل لإحراز ثواب الجماعة.
قال جمهور العلماء: لا يصح للمرأة أن تعتكف فى مسجد بيتها، لأنه لا يطلق عليه اسم المسجد عرفا، حيث يجوز بيعه، وهذا يصدق بالمكان المخصص فى البيت للصلاة، أما غير المخصص فلا يجوز فيه الاعتكاف من باب أولى.
لكن الحنفية أجازوا للمرأة بوجه خاص أن تعتكف فى مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة، وفيه قول قديم للشافعى، وجاء فى وجه للمالكية صحته للرجال والنساء فى مسجد البيت.
والمريض بالشلل يصح اعتكافه فى مسجد بيته على وجه للمالكية وأصحاب الشافعى، وكذلك على رأى محمد بن عمر بن لبابة المالكى كما ذكره ابن حجر فى "الفتح " ونقله الشوكانى فى "نيل الأوطار ج 4 ص 283" عند شرح حديث رواه أبو داود من قول عائشة "ولا اعتكاف إلا فى مسجد جامع "(9/97)
النوم فى المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم النوم فى المسجد؟
الجواب
قال الله تعالى {فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" النور: 36، 37. المساجد بيوت للعبادة يجب أن يحافظ فيها على الهدوء لتمكين المتعبدين من الخشوع، وأن تصان عن العبث واللهو احتراما لقدسيتها، وقد ثبت أن الملائكة تحب التردد على المساجد والأماكن التى يذكر فيها الله ويقرأ القرآن ويدرس العلم، وأنهم يرتاحون إلى الرائحة الطيبة وينفرون من الرائحة الكريهة، وإذا حضروا حضرت معهم الرحمة والبركة وإذا انصرفوا شهدوا عند ربهم بالخير لهؤلاء المتعبدين.
وأما النوم فى المسجد فقد جاء فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم رؤى مستلقيا فيه واضعا إحدى رجليه على الأخرى، كما صح أن عمر وعثمان كانا يستلقيان أحيانا بالمسجد النبوى، وروى البخارى وغيره أن ابن عمر كان ينام فى المسجد النبوى وهو عزب ومعه بعض الشبان ينامون ليلا ويقيلون وقت الظهيرة، كما أخرج البخارى أن عليا رضى الله عنه غاضب فاطمة رضى الله عنها فذهب إلى المسجد ونام، وسقط رداوه عنه وأصابه تراب، فجعل النبى يمسحه ويقول "قم أبا تراب " وكان فى المسجد النبوى صُفَة، أى مكان مظلل يأوى إليه المساكين، وينزل فيه ضيوف الرسول، كما صح فى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم ضرب قبة-أي خيمة-في المسجد على سعد بن معاذ لما أصيب يوم الخندق ليمرض فيها، وأنه جعل خيمة في المسجد للمرأة السوداء التي كانت ترفع القمامة منه، ولما أسر ثمامة بن أثال، وهو مشرك، ربط مدة بسارية فى المسجد النبوى.
وبناء على هذه الروايات ذهب جمهور العلماء إلى جواز النوم فى المسجد، وإذا جاز للكافر فجوازه للمسلم أولى، لكن ابن عباس كره النوم فى المسجد إلا لمن يستريح وقتا للاستعداد للصلاة، لكن ابن مسعود كره النوم فيه مطلقا، والإمام مالك أباح النوم فى المسجد لمن ليس له مسكن، أما من له مسكن فيكره نومه فى المسجد.
هذه هى الآراء فى حكم النوم، لكن ينبغى أن يصان المسجد عن الروائح الكريهة التى تطرد الملائكة، وعن التضييق على المصلين، كما ينبغى التحرز عن تعرض العورات للانكشاف، وخلاصة الموضوع أن النوم فى المسجد ليس حراما، لكنه مكروه. إن ترتب عليه تشويش أو تضييق، وليس مكروها عند الحاجة كالاعتكاف، والراحة اليسيرة، وعدم وجود مسكن(9/98)
البيع فى المسجد وعند النداء للجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى البيع والشراء وعقد الصفقات داخل المسجد وكذلك عند النداء لصلاة الجمعة، وهل المكسب من البيع عند النداء يعتبر مالآ حراما؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى (ج 12 ص 269) فى المسألة السادسة قوله وتصان المساجد أيضا عن البيع والشراء، وذكر حديث مسلم "إنما بنيت المساجد لما بنيت له " وقال: وهذا يدل على إن الأصل إلا يعمل فى المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن، كما جاء منصوصا عليه من قول النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث الأعرابى الذى بال فى المسجد وذكر فى ص. 27 من رواية الترمذى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار وعن البيع والشراء فيه. ثم قال: وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء فى المسجد وبه يقول أحمد وإسحاق. ثم قال فى الصفحة نفسها:
وقال الترمذى: وقد روى عن بعض أهل العلم من التابعين رخصة فى البيع والشراء فى المسجد وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى غير حديث رخصة فى إنشاد الشعر فى المسجد.
هذا ما جاء فى القرطبى، وجاء فى فقه المذاهب الأربعة أن الحنفية كرهوا إيقاع عقود للمبادلة بالمسجد كالبيع والشراء والإجارة، أما عقد الهبة ونحوها فإنه لا يكره. - والمالكية قالوا مثل الحنفية تقريبا.
أما الحنابلة فقالوا: يحرم البيع والشراء والإجارة فى المسجد، وإن وقع فهو باطل.
والشافعية قالوا: يحرم اتخاذ المسجد محلا للبيع والشراء على الدوام، وأما إن وقع ذلك نادرا فهو خلاف الأولى إلا إذا أدى إلى التضييق على مصلِّ فيحرم.
فالخلاصة أن عقد الصفقات فى المسجد فى بعض الأحيان مكروه أو خلاف الأولى عند الجمهور وحرام وباطل عند أحمد، واتخاذه لذلك على الدوام حرام عند الشافعية والحنابلة، وكذلك إذا أدى إلى التضييق على المصلى، وأرى حرمته إذا أخل بحرمه المسجد سواء أكان أحيانا أو على الدوام.
2 -أما عقد الصفقات عند النداء لصلاة الجمعة فقد جاء فيه قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} الجمعة: 9.
جاء فى تفسير القرطبى لهذه الآية: أن البيع عند النداء الصلاة الجمعة حرام على من كان مخاطبا بفرض الجمعة، أما من لا يجب عليه حضور الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء. ثم قال: وفى وقت التحريم قولان. الأول أنه من بعد الزوال إلى الفراغ منها.
والثانى أنه من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة كما قاله الشافعى.
ومذهب مالك أن يترك البيع إذا نودى للصلاة، ويفسخ عنده ما وقع من ذلك من البيع فى ذلك الوقت، ويرى ابن العربى فسخ كل العقود فكل أمر يشغل عن الجمعة حرام شرعا مفسوخ ردعا.
وقال الشافعى: إن البيع فى ذلك الوقت ليس بحرام لكنه مكروه، وهو ينعقد ولا يفسخ، ثم أنهى القرطبى ذلك بقوله، قلت: والصحيح فساده وفسخه، لقوله عليه الصلاة والسلام "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" أى مردود.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة أن الحنفية قالوا: يحرم البيع عند الأذان الواقع بعد الزوال إلى انتهاء الصلاة، وقال المالكية: إن عقد البيع فاسد ويفسخ.
وقال الحنابلة: لا ينعقد.
فالخلاصة: أن عقد الصفقات بعد أذان الجمعة حرام عند الجمهور والمال خبيث، ولا ينعقد عند بعضهم، مكروه عند الشافعية وينعقد(9/99)
دخول المسجد لمن بها عذر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمرأة فى عادتها الشهرية أن تدخل المسجد لحضور مجالس العلم؟
الجواب
الحائض والنفساء ومن عليه جنابة ولم يغتسل يحرم عليه المكث فى المسجد أما العبور فلا حرج فيه، بناء على قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا} النساء: 43 ولحديث عائشة رضى الله عنها الذى رواه أبو داود، قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة فى المسجد فقال "وجهوا هذه البيوت عن المسجد"ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا، رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال "وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإنى لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب " ولحديث أم سلمة رضى الله عنها الذى رواه ابن ماجه والطبرانى، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد-أى فناءه -فنادى بأعلى صوته "إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب " وعن جابر رضى الله عنه قال: كان أحدنا يمر فى المسجد جنبا مجتازا. رواه ابن أبى شيبة وسعيد بن منصور فى سننه، وجاءت روايات تدل على أن الذين كانت تصيبهم جنابة ولا يجدون طريقا إلى الماء إلا المسجد فكانوا يمرون منه.
ويؤكد أن المحرم هو المكث فقط وليس العبور ما رواه مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم "ناولينى الخمرة منى المسجد" فقلت: إنى حائض فقال "إن حيضتك ليست فى يدك " يعنى لن تلوث المسجد لأن يدك التى تتناولين بها الخمرة ليس بها دم.
وما رواه أحمد والنسائى عن ميمونة رضى الله -عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا وهى حائض. فيضع رأسه فى حجرها فيقرأ القرآن وهى حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها فى المسجد وهى حائض والخمرة هى السجادة التى يضعها تحت جبهته عند السجود.
فهذه النصوص تدل على حرمة دخول الحائض والنفساء ومن به جنابة- المسجد لسماع درس علم وغيره، فالمكث لذلك ممنوع، والعبور فقط لحاجة لا مانع منه، ولم يجوز مكث الحائض فى المسجد إلا زيد بن ثابت إذا أمن تلويثها للمسجد يقول الشوكانى "نيل الأوطار ج 1 ص 249 ":
وحكاه الخطابى عن مالك والشافعى وأحمد وأهل الظاهر، ومنع من دخولها سفيان وأصحاب الرأى وهو المشهور من مذهب مالك(9/100)
الصلاة فى وقت العمل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى منع صاحب العمل للعامل من الذهاب إلى المسجد للصلاة حتى لا يتعطل العمل، وإذا كان العامل وحده هل يجوز له ترك مكان العمل للصلاة وقد يتسبب فى قطع أجره؟
الجواب
لا يجوز لصاحب العمل منع أحد من العمال من أداء فرض الله تعالى، سواء أكان صلاة أم غيرها، ما دام أداء الفريضة ممكنا فى وقت العمل وغير ضارّ به.
فإذا جاء وقت الظهر مثلا، ووقته معروف يمتد حوالى ثلاث ساعات إلى العصر فى فصل الصيف، فصلاة الظهر تقع أداء فى أى وقت من هذه الساعات كما بينه النبى صلى الله عليه وسلم للأمة من واقع بيان جبريل له، وإن كانت المبادرة بأدائها فى أول الوقت أفضل للحديث الوارد فى ذلك. فإذا أمكن للعامل أن يصلى الظهر فى وقتها حاضرا قبل العصر، سواء أكان فى أثناء العمل أو بعد الانصراف منه وليس فى ذلك ضرر للعمل لم يجز لصاحب العمل أن يمنعه من الصلاة. أما إذا كان أداء العامل للصلاة يضر بالعمل فلابد من إذن صاحب العمل، فإن أذن فبها ونعمت، وإن لم يأذن جاز للعامل تأخير صلاة الظهر حتى يصليها مع العصر عند الانصراف من العمل. وذلك على مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
ومثل ذلك إذا كان صاحب العمل متشددا وهدد العامل بالفصل أو بخصم جز من أجره يتضرر منه إذا ذهب إلى الصلاة جاز جمع الصلاتين جمع تأخير.
ولى رجاء حتى تكون العلاقة طيبة بين صاحب العمل والعاملين أن يقتصر العاملون على أداء الصلاة فى أقل وقت، وألا ينتهزوا فرصة ترك العمل للصلاة بقضاء بعض مصالحهم أو تضييع بعض الوقت فى راحة أو تناول طعام أو شراب مثلا، فإن الوقت ثمين، وصاحب العمل يعطيهم الأجر على كل الوقت المخصص للعمل -ومن حقه أن يستوفى منهم العمل كاملا فى كل الوقت لكنه -إن كان طيبا-يسمح ببعض الوقت للصلاة فلا يجوز أن يكون هناك ضرر لأحد الطرفين والتفاهم ورقابة الضمير والإحساس بحاجة الوطن والأمة للعمل وزيادة الإنتاج - كل ذلك يساعد على تعاون الطرفين على الخير المشترك. وصاحب العمل إذا علم أن أداء الصلاة، ومثلها طاعة الله تساعد على إخلاص العامل فى عمله وعلى إتقانه وإجادته سيسمح بسخاء نفس ببعض الوقت لأداء الصلاة وبالتالى ينبغى أن يشكر العامل صاحب العمل على ذلك ويرد له المعروف زيادة فى الإخلاص فى العمل، واستغلال كل الوقت للإنتاج المثمر الذى ينتفع به الجميع(9/101)
عذاب المتكاسل عن الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم المتكاسل عن الصلاة فى الإسراء والمعراج مع أن الصلاة المكتوبة لم تكن فرضت بعد؟ .
وما نوع الصلاة من قبل؟
الجواب
الحديث الذى رأى فيه النبى صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة يعذب كان فى رويا رآها مناما-ورويا الأنبياء حق -وقد روى البخارى عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم من رويا فيقص عليه ما شاء الله أن يقص وأنه قال لنا ذات غداة: إنه أتانى الليلة آتيان وإنهما استتبعانى وانهما قالا لى:
انطلق، وإنى انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوى بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصلح رأسه كما كان، ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال قلت: سبحان الله ما هذا؟ . .. وبعد تمام قصة الرؤيا قالا له: أما الرجل الأول الذى أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.
فهذه الصورة كانت فى رؤيا، وكانت بعد فرض الصلاة، لكن هناك رواية للبزار وغيره عن أبى هريرة أن ذلك كان فى قصة الإسراء والإسراء كان فى مكة وحديث الرؤيا كان فى المدينة، حيث لم تكن فى مكة فرصة لحكاية ذلك فى جمع من أصحابه.
وعليه فتقدم رواية البخارى على رواية البزار والبيهقى والطبرانى.
ولو فرضنا أن ذلك كان ليلة الإسراء فقد تؤول على المستقبل، يعنى عندما تفرض الصلاة بعدُ، وقد تؤول على أن الصلاة كانت مفروضة قبل الإسراء ركعتين أول النهار وركعتين آخره، وما كان ليلة الإسراء فهو تحديدها بخمس صلوات.
وفى حديث البزار أيضا: عذاب من يبخلون بالزكاة، ويأكلون الربا وكل ذلك شرع فى المدينة بعد حادث الإسراء الذى وقع بمكة، فيؤول على المستقبل عندما تفرض هذه الأمور إن قبلنا هذه الروايات.
وهناك أيضا كلام كثير فى الصلاة التى صلاها الرسول بالأنبياء فى المسجد الأقصى ليلة الإسراء، لا مجال لذكره الآن(9/102)
إمامة مقطوع اليدين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز إمامة شخص مقطوع اليدين؟
الجواب
الصلاة خلف إمام مقطوع اليدين صحيحة وإن كانت مكروهة إذا وجد غيره، جاء فى تفسير القرطبى"ج 1 ص 354"ما نصه:ولا بأس بإمامة الأعمى والأعرج والأشل والأقطع والخصى والعبد إذا كان كل واحد منهم عالما بالصلاة، وقال ابن وهب: لا أرى أن يؤم الأقطع والأشل، لأنه منتقص عن درجة الكمال وكرهت إمامته لأجل النقص.
وخالفه جمهور أصحابه وهو الصحيح، لأنه عضو لا يمنع فقده فرضا من فروض الصلاة، فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعين. وقد روى أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى، وكذا الأعرج والأقطع والأشل والخصى قياسا ونظرا وقد روى عن أنس ابن مالك أنه قال فى الأعمى: وما حاجتهم إليه؟ وكان ابن عباس وعتبان بن مالك يؤمان وكلاهما أعمى، وعليه عامة العلماء. انتهى(9/103)
اعتماد الخطيب على السيف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى فى بعض البلاد أن خطيب الجمعة يمسك فى يده سيفا، فما هو الأصل فى ذلك؟
الجواب
جاء فى زاد المعاد لابن القيم "ج 1 ص 117 " أن النبى صلى الله عليه وسلم فى خطبة الجمعة لم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس وعصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان فى الحرب يعتمد على قوس وفى الجمعة يعتمد على عصا ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائما وأن -ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف فمن فرط جهله، فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ولا قوس ولا غيره، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفا ألبتة، وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس.
وجاء فى شرح الزرقانى على المواهب اللدنية "ج 7 ص 384" أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يخطب متوكئا على قوس تارة أو عصا تارة أخرى. وفى سنن أبى داود: كان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر، وفى سنن ابن ماجه وسنن البيهقى ومستدرك الحاكم أنه كان إذا خطب فى الحرب خطب على قوس وإذا خطب فى الجمعة خطب على عصا، وأشار إلى ما ذكره ابن القيم من رفض التعليل بأن الإسلام قام بالسيف.
وجاء فى مجلة الإسلام -المجلد الثالث -العدد 26 أن بعض العلماء قال: إن الخطيب يتقلد السيف ولا يمسكه كما عليه خطباء زماننا، وبعض العلماء قال: إنه يمسكه بيساره، أى يتقلده ويمسكه بيساره عند الحنفية، وعند الأئمة الثلاثة السنة الاعتماد وقت الخطبة على سيف أو عصا أو قوس أو نحو ذلك، ولا يتعين السيف عندهم.
هذه صورة من آراء العلماء. وفى إمساك الخطيب بسيف أو عصا أو اعتماده على أى شيء، وذلك كله لمعاونة الخطيب وشد أزره، وذلك بأى شىء يحقق ذلك ولو بالإمساك بحرف المنبر، وربما لا يحتاج إلى الاعتماد على أى شىء، والأمر أيسر وأهون من أن نختلف فيه أو نتعصب، والمهم أن ننفى فكرة أن الإسلام انتشر بالسيف وإذا كان لحمل السلاح أهميته فى الدعوة فى الأيام الأولى. فإن الدعوة الآن تحتاج إلى أسلحة مناسبة للعصر، ومنها سلاح العلم وتطبيقه فى كل المجالات على أساس من العقيدة الصحيحة والخلق الكريم(9/104)
زمن قيام الليل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
{يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} المزمل: 1 - 14. فهل هذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أم إلى المسلمين كافة، ولماذا حدد الله تعالى هذا الوقت خاصة؟
الجواب
هذا النداء للنبى صلى الله عليه وسلم وكان قيام الليل واجبا عليه أول الأمر، وقيل: بقى بالنسبة له على الوجوب، وقيل نسخ، وصار قيام الليل سنة للجميع كما قال تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرض وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه} المزمل: 20.
فليس هناك فرض على المسلمين إلا الصلوات الخمس.
وهذا التقدير بالزمن تخيير من الله للرسول أن يقوم نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه وما يستطيع أن بقومه، دون إجهاد.
"إن لربك عليك حقا ولبدنك عليك حقا".
جاء فى تفسير القرطبى أن الراجح أن قيام الليل كان فرضا، واختلف هل على الرسول فقط أو عليه وعلى أمته، والصحيح ما ورد عن عائشة أن الله عز وجل افترض قيام الليل فى أول سورة المزمل فقام هو وأصحابه حوله، وأمسك الله خاتمة السورة التى فيها: {إن ربك يعلم. . .} اثنى عشر شهرا فى السماء حتى أنزل الله عز وجل فى آخر السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. . . رواه مسلم.
وقيام الليل يكون بعد صلاة العشاء وبعد النوم ولو ثلث الليل، ففى حديث مسلم ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يمض ثلث الليل الأول فيقول: "أنا الملك أنا الملك، من ذا الذى يدعونى فأستجيب له، من ذا الذى يسألنى فأعطيه، من ذا الذى يستغفرنى فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضىء الفجر".
وهذا الحديث يدل على فضل قيام ثلثى الليل. . .
وهناك حديث رواه مسلم أيضا. . . يدل على فضل قيام نصف الليل وثلثه وهو إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله. . . ".
وجاء فى رواية النسائى النص على النصف "أن الله عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع يستجاب له.. . " وجاء فى رواية ابن ماجه النص على الثلث "ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألنى فأعطيه.. . ".
من هذه الروايات تعلم أن تحديد هذه الأوقات وارد عن الرسول، وكانت له حالات مختلفة، أحيانا يقوم الثلث وأحيانا النصف وأحيانا الثلثين(9/105)
التنفل لمن عليه فوائت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز لمن عليه قضاء صلوات مفروضة أن يشتغلا بصلاة النافلة؟
الجواب
فى هذا السؤال نقطتان:
الأولى: هل تجزئ صلاة النوافل عن قضاء الصلوات المفروضة.
والثانية: هل يجوز لمن عليه فوائت أن ينشغل عنها بصلاة النافلة.
أما الأولى: فإن صلاة النافلة مهما كثرت لا يمكن أن تغنى عن قضاء الصلوات المفروضة، فالنفل لا يسد مسد الفرض أبدا، وقد أخطأ بعض الناس فهم حديث ورد فى ذلك فقالوا: إن النوافل فيها تعويض عن الصلاة الفائتة، وهو حديث رواه الترمذى وغيره، وقال: حديث حسن غريب ذكره أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حريث بن قبيصة يقول عليه الصلاة والسلام "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته قال الله تعالى: انظروا هل لعبدى من تطوع يكمل به ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك " فالمعنى الصحيح أن بعض أعمال الصلاة إذا لم يؤدها المصلى أى كانت ناقصة يعوض النقص بالنوافل، وقيل إن النوافل تعوض نقص الخشوع لا نقص عمل أعمال الصلاة.
فالمهم أن النوافل لا تغنى عن الفريضة التى تركت، بل تجبر نقص الفريضة التى أديت، والجبر إما لعمل أو لخشوع.
وأما النقطة الثانية: فى السؤال، فإن من عليه صلوات مفروضة ووجب عليه قضاؤها الأفضل له أن يشغل كل وقته بأداء الدين الذى عليه، لأنه سيحاسب إن لم يقم بأدائه وأما النوافل فلا يحاسب على تركها، فالاشتغال بالواجب مقدم على الاشتغال بالمندوب، ذلك أن العمر ربما لا يكفى لأداء الصلوات المتروكة بقضائها، فليعجل بها بدلا من التنفل، فإذا فرغ من كل ما عليه من قضاء كانت الفرصة سانحة له بالتنفل كما يشاء ومع ذلك لا يحرم عليه أن يصلى النوافل مع أن عليه قضاء، وبخاصة النوافل المؤكدة كالعيدين والضحى والوتر والسنن الراتبة والتراويح، والحكم هنا اجتهادى لا يوجد فيه نص صريح، وإن كان يدل عليه حديث مسلم لمن نام عن صلاة أو سها عنها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " كما رواه بعضهم من أن القضاء فورى وليس على التراخى(9/106)
الصلاة مع كشف الرأس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجوز الصلاة للإمام أو المنفرد وهو عارى الرأس؟
الجواب
تغطية الرأس فى الصلاة لم يرد فيها حديث صحيح يدعو إليها، ولذلك ترك العرف تقديرها، فإن كان من المتعارف عليه أن تكون تغطية الرأس من الآداب العامة كانت مندوبة فى الصلاة نزولا على حكم العرف فيما لم يرد فيه نص، وإن كان العرف غير ذلك فلا حرج فى كشف الرأس "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ".
وروى ابن عساكر عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم كان ربما نزع قلنسوته فجعلها سترة بين يديه وهو يصلى حتى لا يمر أحد أمامه. والقلنسوة غطاء الرأس.
وعند الأحناف لا بأس بصلاة الرجل حاسر الرأس أى مكشوفا، واستحبوا ذلك إذا كان الكشف من أجل الخشوع(9/107)
تسوية الصفوف فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسمع الإمام يوصى المأمومين بتسوية الصفوف ووصل الأقدام والأكتاف، وكثيرا ما أحاول ذلك مع جارى فى الصف فيبتعد عنى، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
تسوية الصفوف فى الصلاة مندوبة، رغَّب فيها النبى صلى الله عليه وسلم كثيرا، وكذلك سَدُّ الفُرج، أو تضييق المسافة بين المصلى وجاره، وقد صح فى ذلك قوله "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدى إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان" رواه أبو داود بسند صحيح، وصح عند البخارى عن أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه.
إن المطلوب بهذه الإشارات أمران: أحدهما أن يكون الصف مستويا، وذلك يكون بمحاذاة المناكب والأقدام بعضها ببعض، أى تكون على خط واحد، وثانيهما سد الفرج وعدم وجود مسافة بين المصلى وأخيه، وهو التراص، وذلك يكون بقرب المناكب والأقدام بعضهما من بعض.
وليس المراد بلزق القدم وضع إحداهما على الأخرى، أو الضغط عليها ليتم أو يشتد الالتصاق، فإن هذه الحركة تذهب خشوع المصلى وتضايقه، والمبالغة فى ذلك تؤدى إلى نفور وغضب.
جاء في فقه المذاهب الأربعة -نشر أوقاف مصر- أنه يُسنُّ تفريج القدمين حال القيام، بحيث لا يقرن بينهما ولا يوسع إلا بعذر كَسِمَنٍ ونحوه، وقد اختلف في تقديره في المذاهب، فالحنفية قدروا التفريج بينهما بقدر أربع أصابع، فإن زاد أو نقص كره،، والشافعية قدروه بقدر شبر، ويكره أن يقرن بينهما أو يوسع أكثر من ذلك، والمالكية: قالوا: إن التفريج مندوب لا سنة، وقالوا: المندوب هو أن يكون بحالة متوسطة بحيث لا يضمهما ولا يوسعهما كثيرًا حتى يتفاحش عرفا، ووافقتهم الحنابلة على هذا التقدير، إلا أنه لا فرق عند الحنابلة بين تسميته مندوبا أو سنة(9/108)
قضاء الصلاة النافلة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
استيقظت من النوم بعد طلوع الشمس، فهل يجب علىَّ أن أصلى ركعتى الفجر مع قضاء صلاة الصبح؟
الجواب
الصلوات المفروضة هى التى يجب قضاؤها إذا خرج وقتها، سواء أكان ذلك عن سهو ونسيان ونوم أم عن قصد وتعمد، وذلك لحديث مسلم "من نام عن صلاة أو سها عنها فليصلها إذا ذكرها،لا كفارة لها إلا ذلك " وإذا كان القضاء بسبب السهو أو النوم واجبا فإن القضاء بسبب التعمد فى الترك أولى ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم "فدين الله أحق أن يقضى " وفى رواية البخارى "اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء" أما قضاء النوافل وهى الصلوات غير المفروضة فإن قضاءها غير واجب، لأنها فى الأصل غير واجبة الأداء، ولكن إذا لم يكن قضاؤها واجبا فهل يكون مندوبا يثاب عليه؟ للفقهاء فى ذلك خلاف، خلاصته أنهم أجمعوا على ندب قضاء ركعتى الفجر وذلك لأهميتهما، فقد ورد فيهما حديث "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" رواه مسلم وحديث عائشة:"لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم على شىء من النوافل اشد تعاهدا منه على ركعتى الفجر" رواه البخارى ومسلم،ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى قضائهما، "من لم يصل ركعتى الفجر حتى تطلع الشمس فليصلهما" رواه البيهقى وإسناده جيد، وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم كان فى مسير له فناموا عن صلاة الفجر فاستيقظوا بحر الشمس فارتفعوا قليلا حتى استقلت الشمس -ارتفعت- ثم أمر مؤذنا فأذن، فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام ثم صلى الفجر، أما غير ركعتى الفجر فقال الحنفية والمالكية لا يقضى، وقال الشافعية:كل صلاة لها وقت إذا خرج وقتها يُسْنُّ أن تقضى، والحنابلة قالوا: تقض الرواتب فقط والوتر(9/109)
التردد على المساجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل التردد على المساجد يتنافى مع وجوب العمل والسعى لكسب العيش؟
الجواب
وردت نصوص فى فضل التردد على بيوت الله، كقوله تعالى: {فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ... } النور: 36: 37 وقوله صلى الله عليه وسلم فى السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله "ورجل قلبه معلق بحب المساجد" رواه البخارى ومسلم، وإخباره عن الذين يخرجون من بيوتهم لصلاة الجماعة فى المسجد أن بكل خطوة حسنة، وأنهم فى صلاة ما دامت الصلاة تحبسهم فى المسجد منتظرين الجماعة، كما رواه البخارى ومسلم، وقوله فيما يمحو الله به الخطايا، ويرفع الدرجات "وانتظار الصلاة بعد الصلاة" كما رواه مسلم.
، وقوله "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له فى الجنة نزلا كلما غدا أو راح " رواه البخارى ومسلم.
والغرض من هذه النصوص أولا المحافظة على الصلوات، وثانيا أداؤها فى جماعة لتقوية الرابطة الاجتماعية، وثالثا تعمير المساجد وعدم هجرها، ورابعا البعد عن أماكن اللهو واستغلال وقت الفراغ فى الخير.
فإذا لم يكن هناك ما يشغل الإنسان من جهاد فى سبيل الله أو كسب عيش أو عمل خير فأفضل له أن يمضى أكثر وقته فى بيوت الله، لأنها خير البقاع كما جاء فى صحيح مسلم وغيره.
ولا يقصد بذلك ترك الواجبات الدينية الأخرى والدنيوية التى تحقق الخير للفرد والمجتمع، وداوم الصلاة فى المساجد فهو سبحانه القائل {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله} الجمعة: 10 والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعجبه لزوم أبى أمامة للمسجد فى غير أوقات الصلاة، بسبب همومه وديونه، ولكن علَّمه ذكرا يقوله وهو يسعى حتى يحقق الله له ما يريد. رواه أبو داود.
ولا يعنى فضل التردد على المساجد أن كل من يتردد عليها يكون مكرَّما عند الله، فإن العبرة بالنية كما نص الحديث، وكم من الناس يلازمونها ولهم أغراض غير مشروعة كما كان المنافقون أيام الرسول، والله قال فيمن يعمر مساجد الله {ولم يخش إلا الله} التوبة:
18 وقال فى المرائين بها {فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون} الماعون: 4 - 7 أى لم يستفيدوا منها شيئًا من الأخلاق الحسنة لأنهم لم يحسوا معناها الحقيقي وسهوا عن سر تشريعها {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت:45(9/110)
الأحق بإمامة الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يتنافس بعض المصلين على أن يكون إماما، فمن أحقهم بذلك؟
الجواب
بعد الشروط التى لا تصلح أى صلاة بدونها، وبعد الشروط التى يجب أن تتوافر فيمن يكون إماما مثل: السلامة من الأعذار، وصحة القراءة وغير ذلك مما اشترطه الفقهاء، هناك أولوية لمن يتقدم للإمامة، جاء فى حديث مسلم وغيره عن أبى سعيد الخدرى مرفوعا "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم " والمراد بالأقرأ الأكثر حفظا للقرآن، لما جاء فى حديث عمرو بن سلمة "ليؤمكم أكثركم قرآنا" وفى رواية أخرى لمسلم وغيره عن ابن مسعود مرفوعا "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سنا، ولا يؤمَّن الرجل الرجل فى سلطانه، ولا يقعد فى بيته على تكرمته إلا بإذنه" وفى رواية "لا يؤمن الرجل الرجل فى أهله ولا سلطانه " فالسلطان وصاحب البيت أولى بالإمامة إلا إذا أذن لغيره بها، ففى رواية أبى داود "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم" وهو عام فيما إذا وجد مثله أو أفضل منه، وما إذا لم يوجد.
وترتيب من لهم الأولوية فيه خلاف للفقهاء، لكن من المتفق عليه أن المتفقه فى دينه، العالم بأحكام الصلاة بالذات وحسن السيرة والمرضى عنه من قومه -ويجمع ذلك قراءة القرآن والعمل به- هو أولى من غيره ممن ليس له هذه المواصفات، ولو تقدم هذا صحت الصلاة خلفه وإن كان ثوابها أقل، روى ابن ماجه وابن حبان فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا، رجل أمَّ قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان" إن الذى ينافس غيره على الإمامة يدخله العجب والزهو، وذلك يقلل من ثواب الصلاة إن لم يذهب به أصلا، مع العلم بأن صلاة الجماعة ينال ثوابها كل من الإمام والمأمومين، فلا فضل لأحد منهم على الآخر، إلا بمقدار إخلاصه وخشوعه(9/111)
الغفلة عن سماع خطبة الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل حضر لصلاة الجمعة فأخذته سنة من النوم ولم يسمع من الخطبة شيئا، فهل تصح صلاته أو تبطل لأنه لم يسمع الخطبة؟
الجواب
قال الله تعالى: {فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} الأعراف: 204 تأمرنا الآية بالاستماع والإنصات لخطبة الجمعة لأن القرآن يتلى فيها، ووجوب الإنصات قال به جمهور العلماء، وجعله بعضهم سنة من آكد السنن، ومن هنا قالوا: إن الغفلة أو النوم وقت الخطبة منهى عنه، يقول ابن سيرين -وهو من كبار التابعين- كانوا يكرهون النوم والإمام يخطب ويقولون فيه قولا شديدا،يقولون: مثلهم كمَثل سرية أخفقوا، يعنى كمن رجعوا من الغزو بدون فائدة من قتال أو غنيمة، وروى فى الحرص على اليقظة عند الخطبة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا نعس أحدكم فليتحول إلى مقعد صاحبه وليتحول صاحبه إلى مقعده " ويؤخذ من هذا أن الذى ينبه جاره فى المسجد بغير كلام إذا غفل عن سماع الخطبة لا حرج عليه فى ذلك، لأنه لم ينصرف عن سماع الخطبة، ولم يشوش على أحد، بخلاف من يقول لغيره: أنصت، فإن فى الكلام تشويشا، وربما أثار عنادا عند الآخر فيكثر اللغو. أخرج القرطبى هذا الحديث فى تفسير سورة الجمعة من رواية سمرة بن جندب رضى الله عنه(9/112)
السجود مرتان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك حكمة فى كون الركوع واحدا والسجود اثنين فى الصلاة؟
الجواب
العبادات نظام اختاره الله ووضحه الرسول لنتقرب به إلى رب العزة سبحانه، ولذلك يجب فيها الاتباع والالتزام، وإذا كانت هناك حكمة منصوص عليها لهذا النظام كان بها، وإلا فإن عقل المؤمن يمكن أن يفكر ويستنبط الحكمة، وقد يصيب فيها وقد يخطىء، وذلك لا يغير من الحكم شيئا.
ولعل فى كون السجود فى الصلاة مرتين والركوع مرة واحدة إرغاما للشيطان، وإظهارا له أن ابن آدم الذى هو أبو البشر، والذى أمره الله بالسجود تحية له واحتراما - ابن آدم هذا أمره الله فى الصلاة أن يسجد فسجد، وكان سجوده مرتين تأكيدا لطاعته لله سبحانه، وعدم استكبار عليه كما استكبر إبليس ورفض أمر الله، فتكرار السجود تأكيد للامتثال، وذلك كما قال فى التلبية: لبيك اللهم لبيك، يعنى إجابة بعد إجابة.
ومن أجل ظهور الخضوع له بقوة فى السجود بكونه مرتين كان فضل الله عظيما للساجدين جاء فيه الحديث الذى رواه مسلم "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء".
ويؤكد أن تكرار السجود فيه إغاظة للشيطان قول النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم أيضا "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى ويقول يا ويلاه، أمر هذا بالسجود فسجد، وأمرت أنا بالسجود فعصيت، فلى النار" "الترغيب والترهيب للحافظ المنذرى ج 2 ص 137 ".
وإذا كان هذا حال الشيطان عندما يسجد ابن آدم لله سجدة واحدة إذا قرأ آية فيها سجدة -وربما لا تتيسر له هذه القراءة إلا فى فترات متباعدة- فكيف يكون حال الشيطان فى ذلته وحسرته إذا تكرر سجود ابن آدم فى اليوم الواحد أربعا وثلاثين مرة فى الصلوات المفروضة بل يتكرر أكثر من ذلك إذا صلى النوافل؟ ومن هنا نعلم أهمية السجود الذى جاء التعبير به أحيانا كمن الصلاة كلها.
فقد روى مسلم وغيره أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن أحب الأعمال إلى الله، أو عن عمل يدخله الجنة فقال له "عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك خطيئة" وروى مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لربيعة بن كعب، لما سأله الدعاء لله بمرافقته فى الجنة "فأعنِّى على ذلك بكثرة السجود" والمراد الصلاة.
وإذا كان الركوع مرة واحدة فهو كسائر أركان الصلاة يكون مرة واحدة فى كل ركعة، وذلك كله اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم القائل "صلوا كما رأيتمونى أصلى" رواه البخارى(9/113)
التنافس على الأذان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لما علم بعض الحاضرين فى المسجد ثواب المؤذن تنافسوا وتسابقوا من أجل الأذان، وكادت تقوم معركة، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
من المعلوم أن الأذان له فضل عظيم يكفى في بيانه قول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى ومسلم "لو يعلم الناس ما فى النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" والاستهام هو عمل القرعة.
وقوله فيما رواه مسلم "المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة" وفيما رواه البخارى "لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة".
وليس من المعقول أن يمكَّن أكثر من واحد من الأذان على مئذنة واحدة أو مكبر صوت واحد، فيكفى واحد لإقامة هذه السنة، التى قيل: إنها فرض كفاية، لو تركه أهل البلد أو المحلة لقوتلوا على تركه لأنه من العلامات التى تدل على أن الأهل مسلمون، وكان الرسول إذا بعث السرية يقول "إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مناديا -مؤذنا- فلا تقتلوا أحدا" رواه أحمد والترمذى وأبو داود وابن ماجه، وكان هو إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح، فإذا سمع أذانا أمسك، وإذا لم يسمع أذانا أغار بعد ما يصبح رواه البخارى.
ورعاية لحرص الكثيرين على الأذان لنيل فضله أوجد لهم الرسول مخرجا من التنافس والتزاحم فندب إلى ترديد ما يقول المؤذن، إلا عند حىَّ على الصلاة وحىَّ على الفلاح فيقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد روى الطبرانى حديثا حسنا يقول "من سمع المؤذن فقال مثل ما يقول فله مثل أجره " وروى مسلم وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىَّ، فإنه من صلى علىَّ صلاة صلى الله بها عليه عشرا ثم سلوا الله لى الوسيلة، فإنها منزلة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لى الوسيلة حلَّت له الشفاعة"(9/114)
العطاس والتثاؤب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمصلى إذا عطس أن يقول الحمد لله، ولماذا يكون الحمد فى العطس، وليس فى التثاؤب مثلا؟
الجواب
جاء فى كتاب "الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار" للنووى ما نصه:
إذا عطس فى صلاته يستحب أن يقول: الحمد لله ويسمع نفسه، هذا مذهبنا ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال، أحدها هذا واختاره ابن العربى، والثانى يحمد فى نفسه والثالث قاله سحنون: لا يحمد جهرا ولا فى نفسه.
وجاء فيه أيضا: إذا تثاءب فالسنة أن يرد ما استطاع، للحديث الصحيح الذى أخرجه البخارى: "إن الله تعالى يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله تعالى كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان ".
وفى صحيح مسلم "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه فإن الشيطان يدخل " يقول النووى: قلت: وسواء كان التثاؤب فى الصلاة أو خارجها يستحب وضع اليد على الفم، وإنما يكره للمصلى وضع يده على فمه فى الصلاة إذا لم تكن حاجة كالتثاؤب وشبهه.
والحمد يكون فى العطاس لأنه إخراج الأبخرة التى تكون فى الدماغ ويحس بألمها الإنسان، فإذا عطس استراح فيحمد الله على هذه النعمة وهى زوال الألم. أما التثاؤب فهو علامة الكسل والتثاقل، عبر عنه الحديث بدخول الشيطان فى الفم، وفيه فتح الفم الذى قد يستقبح الناس ما يرونه فيه، فالأولى أن يستر.
وقد ذكر النووى حكمة ذلك بقوله: قال العلماء: العطاس سببه محمود وهو خفة الجسم التى تكون لقلة الاختلاط وتخفيف الغذاء وهو أمر مندوب إليه لأنه يضعف الشهوة ويسهل الطاعة، والتثاؤب بضد ذلك والله أعلم اهـ.
وهذا الكلام يحتاج إلى وقفة لعل عند المختصين طبيا ما يوضحه(9/115)
خطبة الجمعة بالكاسيت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يكفى استماع خطبة الجمعة من شريط مسجل إذا لم يتوافر الخطيب الكفء؟
الجواب
لا يجوز الاكتفاء بسماع خطبة الجمعة من شريط مسجل أو من الإذاعة أو التليفزيون ثم تقام الصلاة، بل لابد من خطيب يؤدى الخطبة، وإذا تعذر من يجيدها أو من لا يخطئ فى القرآن فإن الخطبة عند بعض الأئمة تحصل بمجرد صيغة فيها ذكر لله حتى بقراءة {قل هو الله أحد} وبعضهم اكتفى بعبارة فيها ترغيب وترهيب، مثل اتقوا الله لعلكم تفلحون، وابتعدوا عن المعاصى حتى لا يعاقبكم الله.
فالخلاصة أن الخطبة أمرها سهل، ولا بد أن يؤديها واحد من الناس، حتى تصح صلاة الجمعة، ومن أراد بعد ذلك ثقافة دينية بسماع شريط مسجل مثلا فليكن بعد الانتهاء من الصلاة أو قبل الصلاة(9/116)
خطبة الجمعة شرط
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل خطبة الجمعة شرط أساسى فى صحة صلاتها؟
الجواب
قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} الجمعة: 9 وقال بعد ذلك {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما} .
يؤخذ من هذا أن من مقاصد تشريع صلاة الجمعة الاستماع إلى ذكر الله بالخطبة التى تلقى، أو ذكر الله بالصلاة نفسها، ففيها ذكر كثير، وذمَّ الله جماعة تركوا الرسول قائما يخطب وانصرفوا عنه إلى التجارة واللهو، وكانت الخطبة بعد الصلاة، ثم جعلت قبلها حتى يحبس الناس لسماعها.
وكل اجتماع سابق قبل الإسلام عند العرب فى المواسم والأسواق كان -لا يخلو غالبا من خطابة نثرية أو شعرية، فهو فرصة لعرض الآراء وطرح المشكلات واقتراح الحلول. وكعب بن لؤى أحد أجداد النبى صلى الله عليه وسلم كان يخطب فى قريش يوم العروبة وهو يوم الجمعة، ويذكرهم بمبعث رسول.
ولأهمية خطبة الجمعة حرص عليها النبى صلى الله عليه وسلم لأنها وسيلة من وسائل التبليغ الجماعى، وقال جمهور العلماء بأنها واجبة، لا تصح صلاة الجمعة بدونها، بناء على الأمر بالسعى إلى ذكر الله إذا نودى لصلاة الجمعة وعلى مواظبة النبى صلى الله عليه وسلم عليها ولقوله:
"صلوا كما رأيتمونى أصلى" رواه البخارى.
لكن قال الحسن البصرى وداود الظاهرى والجوينى وبعض علماء المالكية: إنها سنة لا واجبة، أى تصح صلاة الجمعة بدون الخطبة، لأن أدلة الوجوب ليست قاطعة الدلالة عليه فلا تفيد أكثر من الندب.
ومهما يكن من شىء فلا ينبغى تركها، وهى فى بعض المذاهب يسيرة، فالحنفية اكتفوا فيها بمجرد ذكر الله، كقول الخطيب، الحمد لله، قاصدا بذلك الخطبة والمالكية، قالوا: يكفى اشتمالها على موعظة من ترغيب ترهيب، مثل: اتقوا الله حتى يرضى عنكم، ولا تعصوه حتى لا يعذبكم، ولا داعى إلى التمسك بمذهب الشافعى الذى يحتم أن تكون مشتملة على خمسة أمور، حمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، والأمر بالتقوى فى كل من الخطبتين، وقراءة آية فى إحداهما والأولى أولى، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات فى الثانية ودين الله يسر(9/117)
جلسة الاستراحة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعض الناس يعيبون المصلى إذا لم يأت بجلسة الاستراحة، فما جزاء من يتركها؟
الجواب
الصلاة بأقوالها وأفعالها تشتمل على أركان واجبة الأداء لا تصح الصلاة إذا ترك واحد منها، وذلك كالركوع والسجود، كما تشتمل على سنن يندب ويستحب فعلها، وتصح الصلاة بدونها كالتسبيحات وتكبيرات الانتقال من ركن لآخر، فالأركان أساسية والمندوبات كمالية، وقد قسم العلماء المندوبات الكمالية إلى أقسام بعضها أهم من بعضها الآخر، ورأى بعضهم أن الأهم منها يعوَّض عند عدم الإتيان به بسجود السهو، وذلك كالقنوت فى الصبح والتشهد الأول، ومنها ما لا يعوَّض إن ترك كدعاء الاستفتاح ورفع اليدين عند التكبير للركوع وعند الرفع منه.
وذلك كله مأخوذ من أقوال النبى صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وهو القائل "صلوا كما رأيتمونى أصلى" رواه البخارى، والجلوس فى الصلاة قد يكون ركنًا أساسيا، كالجلوس بين السجدتين، والجلوس للتشهد الأخير، وقد يكون غير أساسى ومنه جلسة الاستراحة.
وهذه الجلسة تكون بعد الرفع من السجدة الثانية عند القيام للركعة التالية، وقد اختلف العلماء فى حكمها، بناء على اختلاف الأحاديث الواردة بشأنها، فقال بعضهم إنها من سنن الصلاة فيستحب للمصلى أن يأتى بها لينال ثوابا، ومن لم يأت بها لا تبطل صلاته، وقال بعضهم الآخر ليست من سنن الصلاة فلا ثواب على فعلها، ولكنها مباحة لمن يحتاج إليها، كالمتعب لمرض أو لكبر سن أو لسبب آخر.
والنبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها قولا، ولكن كان يفعلها أحيانا ويتركها أحيانا أخرى، بدليل أن الذين رووا صفة صلاته ذكرها بعضهم، ولم يذكرها بعضهم الآخر، ولو كانت هى من عادة النبى دائما فى صلاته ما أهمل هؤلاء الرواة ذكرها.
من هذا نرى أن جلسة الاستراحة مرخَّص فيها لمن احتاج إليها، أما ترتب ثواب على فعلها أو عدم ترتبه فليس فيه نص يعتمد عليه، وعلى هذا لا يجوز التعصب لها ولا عيب من يتركها بأنه مخالف للسنة، ولعل ترك النبى صلى الله عليه وسلم لها أحيانا دليل على سماحة الإسلام ويسره، مادامت الأساسيات مؤداة، ولكل أن يزداد من الخير بما يشاء مما شرعه الدين(9/118)
لا صلاة لحابس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "لا صلاة لحابس " وإن كان حديثا فما معناه؟
الجواب
روى أحمد وأبو داود والترمذى وقال: حديث حسن، عن ثوبان أن النبى قال "ثلاث لا تحل لأحد أن يفعلهن: لا يؤم رجل قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم فإن فعل فقد خانهم، ولا ينظر فى قعر بيت قبل أن يستأذن، فإن فعل فقد دخل -أى صار فى حكم الداخل بلا إذن- ولا يصلى وهو حاقن حتى يتخفف" وروى مسلم وغيره عن عائشة قالت:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يصلى أحد بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان " ومعنى حاقن: حابس البول، والأخبثان هما: البول والغائط.
وجاء فى الإقناع فى فقه الشافعية "ج 1 ص 131 " تكره الصلاة حاقنا بالبول - أو حاقبا بالغائط - أو حاذقا بالريح - أو حاقما بالبول والغائط.
والمقصود أن يكون الإنسان فى صلاته خاشعا متفرغا لفهم معنى ما يقول ويفعل ومدركا مقام الوقوف أمام الله، لا يشغل عن ذلك بأى شاغل من هذه الأمور، حتى لا يتوزع فكره ويذهب خشوعه أو يقل،بل ينبغى التخفيف بإزالة هذه الضواغط والشواغل(9/119)
البناء فوق المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز البناء فوق المسجد لأعمال الخير مثل تحفيظ القرآن الكريم أو عيادة طبية؟
الجواب
جاء فى فتوى الشيخ عبد المجيد سليم فى 20/ 11/ 1944 م أنه بعد تمام المسجدية لا يجوز البناء على المسجد ولو لمصالحه، حتى صرحوا بأنه لا يوضع الجذع، على جدار المسجد وإن كان من أوقافه " الفتاوى الإسلامية - المجلد 11 ص 3965 ".
وجاء فى فتوى الشيخ حسنين مخلوف فى5/12/1949 م أن ظاهر الرواية عند الحنفية أنه لو بنى فوق المسجد أو تحته بناء لينتفع به لم يصر بهذا مسجدا، وله أن يبيعه ويورث عنه، أما لو كان البناء لصالح المسجد فإنه يجوز ويصير مسجدا، وهذا قبل أن يصير مسجدا، أما بعده فلا يمكن أحد من البناء عليه مطلقا، ونقل عن الصاحبين أنه يجوز أن يكون أسفل المسجد أو علوه ملكا بكل حال ينتفع به البانى أو يخصص لصالح المسجد إذا اقتضت الضرورة ذلك، كما فى البلاد التى تضيق منازلها بسكانها.
وعلى هذا إذا كانت هناك ضروره تدعو إلى المشروع المسئول عنه فلا بأس بالأخذ بقول الصاحبين فى الرواية المذكورة عنهما، لأنها تتفق مع قواعد المذهب، كقاعدة الضرورات تبيح المحظورات وقاعدة: المشقة تجلب التيسير، وغيرهما، وهذا مقرر فى قول الله عز وجل {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} الحج: 78 "الفتاوى الإسلامية - المجلد الثانى ص 652 "(9/120)
الدفن فى المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بنى رجل مسجدا وأوصى أن يدفن فيه فهل تصح الوصية ويلزم تنفيذها؟
الجواب
أجاب الشيخ عبد المجيد سليم بتاريخ 22 من يونية 1940 م على مثل هذا السؤال بأن ابن تيمية أفتى بأنه لا يجوز أن يدفن فى المسجد ميت، لا صغير ولا كبير ولا جليل ولا غيره، فإن المساجد لا يجوز تشبيهها بالمقابر، وأن المسجد لو كان موجودا ثم دفن فيه ميت وجب أن يسوى القبر وينبش ويخرج منه الميت إن كان جديدا، وعلَّل ذلك بأن الدفن فى المسجد إخراج لجزء منه عما جعل له من الصلوات والذكر وتدريس العلم، وذلك غير جائز شرعا، وبأن إنشاء قبر فيه يؤدى إلى الصلاة إليه أو عنده، وذلك منهى عنه، وأورد فى كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم " ص 158 بعض الأدلة على النهى عن الصلاة عند القبور مطلقا واتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها، منها حديث مسلم "لا تجلسوا على القبور ولا تصلُّوا إليها" وقال ابن تيمية أيضا: لا يجتمع فى دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق.
إن هذا الحكم مبنى على مذهب الإمام أحمد الذى يأخذ به ابن تيمية وابن القيم، وعند الشافعية أن ذلك ليس بحرام ولكنه مكروه، قال النووى فى شرح المهذب "ص 316" قال الشافعى والأصحاب: وتكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحا أو غيره، قال الحافظ أبو موسى: قال الإمام الزعفرانى رحمه الله: ولا يصلى إلى قبر ولا عنده، تبركا به ولا إعظاما له، للأحاديث.
فالحكم عندهم هو الكراهة التنزيهية لا التحريمية ولا الحرمة، ومناط الحكم بذلك هو التبرك والإعظام، فإذا لم يكن تبرك ولا إعظام فلا كراهة على هذا.
أما الحنفية فالدفن فى المسجد أولى بالحظر من الصلاة على الجنازة فى المسجد، الوارد فيها حديث "من صلى على جنازة فى المسجد فلا أجر له" لأن فيها كما قال صاحب الهداية -إخراجا لجزء من المسجد عما جعل له من العبادة بالصلاة والذكر والعلم، وصلاة الجنازة فى المسجد مكروهة كراهة تحريم كما هو إحدى الروايتين وهى التى اختارها العلامة قاسم وغيره "الفتاوى الإسلامية المجلد الثانى صفحة 655" وهى سنة عند الشافعية وجائزة عند الحنابلة إن لم يخش تلويث المسجد.
هذا إذا كان الدفن داخل المسجد أما إذا كان بجواره خارجا عنه فلا حرمه ولا كراهة(9/121)
صلاة البردين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هذا القول من الحديث النبوى "من صلى البردين دخل الجنة" وما المقصود منهما؟
الجواب
هذا حديث صحيح رواه البخارى ومسلم، والبردان هما الصبح والعصر، لوقوعهما فى أول النهار وآخره، والمقصود هو الحث على المحافظة عليهما، فهما الوقتان اللذان تتبادل فيهما ملائكة الليل وملائكة النهار كما صح فى حديث البخارى ومسلم، حيث يسألهم ربهم: كيف تركتم عبادى؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون، فاغفر لهم يوم الدين. وليس المراد من الحديث أن الذى يصليهما ولو مرة واحدة يدخل الجنة، بل المراد التأكيد على المحافظة عليهما كما قال سبحانه {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} البقرة: 238 وكما قال فى صفات المؤمنين المفلحين {والذين هم على صلواتهم يحافظون} المؤمنون:9.
ومن حافظ على هاتين الصلاتين سيحافظ على غيرهما لأن الأولى تكون بعد النوم والنفس تتراخى عن القيام منه، فمن قام وأدَّاها فى وقتها الضيق خشية أن تفوته دل ذلك على عنايته بالصلاة وعدم تهاونه فيها، وكذلك الثانية تؤدى بعد جهد كبير طول النهار قد يكون طلب الراحة من العمل داعيا إلى إهمالها، فمن حافظ عليها كانت محافظته على غيرها أيسر، وقد نص على أنها هى الصلاة الوسطى التى ركز الله على الاهتمام بها والمحافظة عليها.
ومما جاء فى التأكيد على هاتين الصلاتين حديث رواه مسلم "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعنى الفجر والعصر" وحديث البخارى ومسلم "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله " وفى رواية "فكأنما وتر أهله وماله "(9/122)
الإمام الأبكم والأصم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجوز الصلاة خلف إمام أصم أبكم؟
الجواب
الإمام الأبكم الذى لا يقدر على الكلام لا يقرأ الفاتحة ولا يكبر للإحرام، فلا تصح إمامته، لأنه أنقص من المأمومين.
جاء فى فقه المذاهب الأربعة فى شروط الإمامة: القراءة بحيث يحسن الإمام قراءة ما لا تصح الصلاة إلا به إذا كان المأموم قارئا يحسن ذلك، فلا يجوز أن يقتدى قارئ بأمى، أما اقتداء أمِّى بمثله فصحيح. هذا، والأبكم أشد نقصا من الأمى الذى لا يحسن القراءة، فعدم إمامته أولى، أما الأصم فهو فاقد السمع فقط، وليس السمع شرطا فى صحة الجماعة، فيجوز أن يكون إماما(9/123)
قضاء الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فاتتنى صلاة رباعية وأنا فى السفر فهل أقضيها بعد السفر مقصورة أو تامة، ولو فاتتنا صلاة العصر وأردت قضاءها الليل هل أسر فيها أم أجهر؟
الجواب
من فاتته صلاة رباعية فى السفر له أن يقضيها ما دام السفر قائما، فيصليها مقصورة كما كانت تؤدى فى وقتها مقصورة، أما إذا لم يقضها حتى انقطع سفره فإن الحنفية والمالكية يقولون:
يقضيها مقصورة، أى على الحالة التى فاتته عليها، أما الشافعية والحنابلة فيقولون: يقضيها تامة، لأن سبب القصر قد زال بالإقامة فتعود إلى الحكم الأصلى وهو الإتمام.
أما إذا فاتته صلاة رباعية فى الحضر وأراد قضاءها فى السفر المبيح للقصر فيجب قضاؤها تامة غير مقصورة، وذلك باتفاق جميع المذاهب.
وإذا فاتته صلاة سرية كالظهر أو العصر وأراد قضاءها بالليل قال الحنفية والمالكية تقضى سرا، أى لا يجهر فيها القراءة، وإذا فاتته صلاة جهرية كالصبح أو المغرب أو العشاء وأراد قضاءها نهارا قضاها جهرا، فالعبرة عندهم بوقت فواتها لا بوقت قضائها والشافعية قالوا: العبرة بوقت القضاء سرا أو جهرا، فممن صلى الظهر قضاء بالليل جهر بالقراءة، ومن صلى المغرب قضاء بالنهار أسرَّ بالقراءة، والحنابلة قالوا: إذا كان القضاء نهارا فإفه يُسر مطلقا، سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية، وسواء أكان إماما أم منفردا، وإن كان القضاء ليلا فإنه يجهر فى الجهرية إذ اكان إماما، وذلك لشبه القضاء بالأداء فى هذه الحالة، أما إذا كانت سرية فإنه يسر مطلقا، وكذلك إذا كانت جهرية وهو يصلى منفردا فإنه يسر "الفقه على المذاهب الأربعة" إنها وجهات نظر مختلفة لا مانع من الأخذ بأىٍّ منها(9/124)
الاستخلاف فى الإمامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا أصيب الإمام أثناء الصلاة بألم ولم يستطع أن يكمل الصلاة فهل يجوز أن يختار من المصلين من يحل محله لإتمام صلاة المأمومين؟
الجواب
نعم، يجوز للإمام إذا أحس بألم أن يستخلف أحد المأمومين ليكمل الصلاة بدليل ما رواه البخارى أن عمر رضى الله عنه لما ضرب وهو يصلى أخذ عبد الرحمن بن عوف فقدمه فصلى بهم صلاة خفيفة، وكذلك روى سعيد بن منصور أن عليا كرم الله وجهه صلى ذات يوم فرعف - نزل دم من أنفه- فأخذ بيد رجل فقدمه، ثم انصرف(9/125)
إجازة المدارس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا كانت إجازة المدارس فى البلاد الإسلامية بعد ظهر الخميس ويوم الجمعة؟
الجواب
يقال: إن عمر رضى الله عنه لما شجع الكتاتيب لتحفيظ القرآن ومدارسته بإنشاء أول كُتَّاب بجوار الحرم النبوى كلف عامر بن عبد الله الخزاعى بتعليم الأولاد، على أن يكون ذلك بدرس بعد صلاة الصبح إلى الضحى،، ودرس بعد صلاة الظهر إلى العصر، ولما خرج إلى الشام وغاب شهرا خرج المسلمون على مسيرة يوم للقائه ومعهم الصبيان، فكان يوم الخميس، فتأخر عنهم إلى الغروب، ثم تعبوا يوم الجمعة ولم يحضروا إلى الكتَّاب فلما علم عمر بذلك أجازهم هذين اليومين من كل أسبوع (ص 2 من كتاب: نظام التعليم العربى، لآدم الألورى، وربما نقله من المدخل لابن الحاج ج 2 ص 227)(9/126)
حد السرقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تقطع يد السارق فى كل حالات السرقة، وكيف يكون القطع؟
الجواب
قطع يد السارق فى السرقة عقوبة حَديَّة وليست تعزيرية، ولابد من الاحتياط والتأكد من توافر أركان الجريمة، بناء على قوله صلى الله عليه وسلم "ادرءوا الحدود بالشبهات " وفى رواية "ادرءوا الحدود ما وجدتم لها موقعا" وفى موضع آخر من هذا الكتاب تخريج هذا الحديث.
ومن الشروط التى تتحقق بها السرقة الموجبة للحد بالنسبة للسارق البلوغ والعقل والاختيار وعدم وجود شبهة للسارق فى الشىء المسروق - وتوضيح الشبهة يطول، وأن يكون المسروق مما يتمول ويملك، مع اختلاف الفقهاء فى هذا المعنى، وأن يبلغ المسروق نصابا فى الزكاة "ثمن خمسة وثمانين جراما من الذهب عيار (21) أو ثمن ستمائة جرام من الفضة تقريبا" وأن يكون المسروق فى حرز يناسبه، وفى تحديده خلاف.
ويثبت الحد بإقرار السارق أو شهادة عدلين، وإذا ثبت الحد فلا شفاعة فيه، وحديث المخزومية التى سرقت فقطع النبى صلى الله عليه وسلم يدها معروف، حيث رفض الشفاعة فيه، وأقسم أن فاطمة بنته لو سرقت لقطع يدها.
وعند عدم وجود الشهود يندب للقاضى أن يلقن السارق المعترف ما يمنع عنه إقامة الحد، كإنكاره السرقة، أو ادعاء أن المسروق ملكه، فإن أصر على اعترافه أقيم عليه الحد، وإن رجع لا يقام عليه الحد ولكن توقع عليه عقوبة تعزيرية.
والعقوبة إذا استوفت السرقة شروطها وأركانها هى الحد وهو قطع اليد، كما قال تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} المائدة: 38 فتقطع يده اليمنى من المفصل وهو الكوع، فإذا سرق مرة ثانية تقطع رجله اليسرى، فإذا سرق مرة ثالثة قال أبو حنيفة: يعزر ويحبس، وقال الشافعى وغيره:
تقطع يده اليسرى فإن عاد قطعت رجله اليمنى، فإن عاد عزر وحبس.
قال العلماء: ومن التنكيل بالسارق وزجر غيره أمر الشارع بتعليق يده المقطوعة فى عنقه، روى أبو داود والنسائى والترمذى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت فى عنقه(9/127)
قول: فداك أبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل قول الإنسان لآخر يحبه أو يحترمه: فداك أبى جائز؟
الجواب
قال النووى فى كتابه "الأذكار" ص 369: المذهب الصحيح المختار أنه لا يكره قول الإنسان لغيره: فداك أبى وأمى، أو جعلنى الله فداك، وقد تظاهرت على جواز ذلك الأحاديث المشهورة فى الصحيحين وغيرهما، وسواء كان الأبوان مسلمين أو كافرين. وكره بعض العلماء ذلك إذا كانا مسلمين، وكره مالك بن أنس أن يقال: جعلنى الله فداك. وأجازه بعضهم، وقال القاضى عياض: ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك، سواء كان المفدَّى به مسلما أو كافرا، وأيد النووى ذلك لوجود أحاديث صحيحة كثيرة فى جوازه(9/128)
الطريقة الرفاعية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الطريقة الرفاعية وما هو منهجها؟
الجواب
الطريقة الرفاعية نسبة إلى الشيخ أحمد بن الحسين الرفاعى الذى ولد سنة 512 هـ فى بلدة "أم عبيدة" بأرض البطائح بالعراق، ومات بها يوم الخميس 12 من جمادى الأولى سنة 570هـ كما يقول الشعرانى فى" الطبقات الكبرى ج 1 ص 140 - 145 " أو سنة 572هـ كما تقول الدكتورة سعاد ماهر، ودفن هناك، أما الرفاعى الموجود فى مصر فمن نسله. وجاء فى الجزء الأول ص 304 من كتاب "مساجد مصر وأولياؤها" للدكتورة سعاد ماهر أنه ولد يتيما، وحفظ القرآن صغيرا، وتردد على مجالس العلماء والصوفية، وكسب قوته بعمله ويده، وكان يشترط على تلاميذه ومريديه أن يكون لهم عمل يكسبون منه العيش، وفى سن الخامسة والعشرين توفى خاله الشيخ منصور البطائحى بعد أن ولاه خلافة طريقته التى عبر عنها فى أقوال صريحة منها: طريقى دين بلا بدعة، وهمة بلا كسل، وعمل بلا رياء، وقلب بلا شغل، ونفس بلا شهوة.
أما ما ينسب إلى طريقته من إمساك الثعابين ووضع الأسياخ فى الجسد بدون دم ولا جرح فيقول ابن خلكان: لم نعثر فى ترجمة الرفاعى على ذلك أو إشارة لها من قريب أو بعيد. وعلق محمد فريد وجدى على أكلهم الحيَّات والجلوس على النار بأن ذلك لدخول الإنسان فى حالة غير اعتيادية، كما هو موجود عند الديانات الهندية القديمة. وذكر الصوفى ابن العربى نوعا من الرياضة الجسمانية والروحية تؤهل مزاوليها للقيام بأعمال خارقة.
ترك الرفاعى مؤلفات فى التوحيد والتفسير والحديث والتصوف والفقه، مثل كتاب: البهجة وشرح التنبيه فى الفقه الشافعى. ويمكن الرجوع إلى كتاب الطبقات للشعرانى لمعرفة كثير من الأقوال المأثورة عنه(9/129)
الغيبة والزنا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تعتبر الغيبة أشد جرما من الزنا؟
الجواب
جاء فى "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذرى: روى عن جابر ابن عبد الله وأبى سعيد الخدرى رضى الله عنهما قالا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الغيبة أشد من الزنا" قيل كيف؟ قال "الرجل يزنى ثم يتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه" رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب الغيبة، والطبرانى فى معجمه الأوسط والبيهقى، ورواه البيهقى أيضا عن رجل لم يُسَمَّ عن أنس، ورواه عن سفيان بن عيبنة غير مرفوع وهو الأشبه.
يعنى هذا الحديث ليس منسوبا إلى النبى صلى الله عليه وسلم بطريق صحيح، وهو من قول بعض الصحابة ولعله يريد بذلك التنفير والتحذير، والتعليل بعدم مغفرة الغيبة إلا بمغفرة من اغتيب موجود أيضا فى الزنا إذا كان بالغصب، فلا يغفر إلا بمسامحة المزنى بها أو من له حق من زوج أو ولى.
هذا، والمحرمات كلها معاصٍ يجب البعد عنها دون تفريق بين الصغائر والكبائر، ولا بين كبيرة وما هو أكبر منها، وعند التوبة من المعاصى لكل منها طريقة تختلف عن الأخرى وبخاصة الكبائر مع التنبيه على أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة(9/130)
تطويل الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للإمام أن يطيل فى الركعة حتى يدركه من يسمعه يقول: إن الله مع الصابرين؟
الجواب
لا مانع من إطالة الإمام فى الركعة الأولى حتى يدركه من يريدون الاقتداء به عند شعوره بقدومهم أو سماع قولهم: إن الله مع الصابرين. ففى حديث أبى قتادة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يطول فى الأولى، قال: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. وعن أبى سعيد قال: لقد كانت الصلاة تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته ثم يتوضأ ثم يأتى ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى الركعة الأولى مما يطولها، رواه مسلم وأحمد والنسائى وابن ماجه(9/131)
ستر العورة فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يشاهد فى بعض الأندية الرياضية توجُّهُ الشبان للصلاة بالشورت، فهل تصح بهذه الملابس؟
الجواب
الصلاة وقفة من العبد أمام الله سبحانه، يسبحه ويمجده ويطلب الهداية منه فى مناجاة بقراءة القرآن، وفى تذلل بالركوع والسجود، ومن أدب هذه العبادة ستر العورة إلى جانب الطهارة واستقبال القبلة، قال تعالى {يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} الأعراف: 21 والمراد بالزينة ما يستر العورة، وبالمسجد الصلاة فى بعض أقوال المفسرين، أى عليكم أن تستروا عوراتكم عند كل صلاة، وسترها يكون بشىء يحجب لون الجلد حتى لو كان ضيقا يحددها.
وتحديد العورة يختلف فيه الرجل عن المرأة، أما المرأة فعورتها جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها، لقوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} النور: 31 فصلاتها مع انكشاف شىء منها باطلة وتجب إعادتها، والمالكية جعلوا لها عورة مغلَّظة تبطل الصلاة بعدم سترها، وهى ما عدا الأطراف من جسمها، أما المخففة كالرأس وما تحت الركبة فتصح الصلاة مع كشفها وإن كان كشفها حراما أو مكروها، ويستحب إعادتها مستورة فى الوقت، وأما عورة الرجل فى الصلاة فالسوأتان تبطل الصلاة بعدم سترهما، وأما عداهما من الفخذ والسرة والركبة، فقد اختلفت فيه الآراء، فجمهور الفقهاء على أنه عورة يجب ستره لحديث رواه أحمد والحاكم والبخارى فى تاريخه أن النبى صلى الله عليه وسلم مرَّ على معمرٍ وفخذاه مكشوفتان فقال له "غطِّ فخذيك فإن الفخذين عورة" وقال مثل ذلك لرجل آخر كما رواه مالك وحسنه الترمذى.
ومن هنا يرى جمهور الفقهاء أن الصلاة بالشورت الذى يكشف عن الفخذين باطلة. ومعنى هذا أن الذين يمارسون الألعاب الرياضية بالملابس القصيرة لا تصح صلاتهم إلا بملابس ساترة عند الجمهور، ومن أجل الحاجة أو الضرورة يمكن أن يتبعوا رأى من يقول: إن الفخذ ليس بعورة استنادا إلى حديث رواه البخارى عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه أى كشفها حتى إنى لأنظر إلى بياض فخذه، وبهذا أخذ الإمام مالك رضى الله عنه.
لكن الأدب مع الله يقضى باتباع رأى الجمهور لأنه الأحوط، ولا يلجأ إلى غيره إلا عند الضرورة أو الحاجة كضيق الوقت وعدم وجود ثوب سابغ(9/132)
صلاة الجماعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا أسكن فى عمارة فى أسفلها زاوية للصلاة، هل يجوز لى أن أصلى وأنا فى مسكنى خلف الإمام الذى يصلى فى الزاوية مع العلم بأنى أعلم بكل أعماله فى الصلاة عن طريق مكبر الصوت؟
الجواب
صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد ببضع وعشرين درجة، وقد بيَّن الحديث سبب مضاعفة الثواب بقوله "وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلى عليه ما دام فى مُصَلاَّه ما لم يحدث: اللهم صَلِّ عليه اللهم ارحمه، ولا يزال فى صلاة ما انتظر الصلاة" فالحديث يحث على صلاة الجماعة فى المسجد حتى يضاعف الثواب بالخطوات والانتظار فيه حتى تقام الصلاة، وبعد الصلاة لختامها.
وهذه المضاعفة لا توجد فى صلاة المنفرد فى بيته بل لو صلاها جماعة فى بيته سيضيع منه ثواب الخطوات والمكث فى المسجد، إن كان للجماعة أيَّاً كان ثواب إن شاء الله.
وقد شرط العلماء لصحة صلاة الجماعة التمكن من ضبط أفعال الإمام إذا كان المأموم خارج المسجد الذى يصلى فيه الإمام وألا تزيد المسافة بينهما على ثلثمائة ذراع، وألا يكون بينهما حائل يمنع وصول المأموم إلى الإمام لو أراد بدون انحراف عن القبلة، بمعنى أن الذى يريد أن يصلى جماعة فى مسكن بالعمارة التى فى أسفلها مسجد فيه إمام يصلى هل يستطيع النزول إليه على السلم دون انحراف عن القبلة؟ إن أمكن صحت الجماعة وإلا فلا، هكذا قال الإمام الشافعى. ولكن الإمام مالكا يحكم بصحة الجماعة ما دام المأموم متمكنا من ضبط أفعال الإمام عن طريق مكبر الصوت.
والإمام أحمد يشترط رؤية المأموم للإمام أو مَن وراء الإمام، وهذا لا يحصل فى الصورة الواردة فى السؤال.
فالخلاصة أن صلاة الجماعة فى صورة السؤال صحيحة عند الإمام مالك، باطلة عند غيره(9/133)
إمامة الصبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندنا مسجد فى القرية ليس له إمام مخصوص، ولكن يوجد صبى يحفظ بعض القرآن الكريم يصلى بنا جماعة أحيانا فقال بعض المصلين: إن صلاته بهم لا تجوز لأنه صغير ولأن المأمومين أكبر منه، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
روى مسلم وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم" والمراد بالقراءة هنا كثرة الحفظ ومعرفة أحكام الدين، أى أفقههم كما قال بعض العلماء.
وروى البخارى وغيره أن عمرو بن سلمة نقل عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا" فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا منى فقدمونى بين أيديهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وجاء فى رواية النسائى أنه ابن ثمان سنين، وجاء فى رواية أحمد وأبى داود أنه قال: فما شهدت مجمعا من جَرْمٍ - وهم قومه- إلا كنت إمامهم إلى يومى هذا.
بناء على ما تقدم يجوز للصبى أن يكون إماما لمن هم أكبر منه سنًا، وبخاصة إذا تميز عنهم بالتفقه فى الدين، وهذا ما قال به الإمام الشافعى رضى الله عنه، أما الإمام مالك فقد كره أو منع ذلك فى الفرائض وأما أبو حنيفة وأحمد، فقد اختلفت الرواية عنهما، والمشهور عنهما كما قال ابن حجر فى كتابه "فتح البارى" أنهما يجوزان أن يكون الصبى إمامًا فى النوافل كالتراويح والعيدين دون الفرائض، لكن هذه التفرقة لا معنى لها، لأن حديث عمرو فيه أذان للصلاة ثم الإمامة، والأذان لا يكون إلا للفريضة دون النافلة.
والذين منعوا إمامة الصبى أو كرهوها فى الفريضة استندوا إلى أثر عن ابن مسعود بأنه لا يؤم الغلامُ حتى تجب عليه الحدود، أى حتى يكلَّف بالبلوغ، وكذلك أثرٌ مثله عن ابن عباس رواهما الأثرم فى سننه، وليسا مرفوعين إلى النبى صلى الله عليه وسلم بل هما رأيان لهما، وفى مثل هذا المقام يقدم الحديث المرفوع على الكلام الموقوف على الصحابى، كما يقدم ما رواه البخارى ومسلم على ما رواه الأثرم.
والموضوع موضح فى نيل الأوطار للشوكانى، وخلاصته أن إمامة الصبى فى الفرائض جائزة وصحيحة عند الشافعى ويمكن الأخذ به في الصبى يصلى بوالدته وإخوته وأخواته، والتلميذ يصلى بزملائه، لكنها غير جائزة عند الأئمة الاخرين، والبالغ إن وجد أولى من الصبى(9/134)
تغير المكان لكل صلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض الناس إذا انصرفوا من صلاة الجماعة لصلاة السنة تبادلوا الأمكنة التى كانوا فيها، ولا يصلون السنة فى المكان الذى صلوا فيه الفريضة، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
روى أحمد وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يوطِّن الرجلُ المكان فى المسجد كما يوطن البعير (فعله: أوْطَن أو وطَّن.) .
تحدث العلماء عن هذا الحديث وقالوا: يكره للرجل أن يتخذ له مكانا خاصا فى المسجد لأداء الصلاة فيه، بحيث يمنع غيره أن يصلى فيه، وقد يكون هذا المكان مفضلا كالروضة الشريفة فى المسجد النبوى، فلا يصح استئثار جماعة أو واحد به، بل يدع الفرصة لغيره أن ينال شرف الصلاة فيه.
والذى يغير مواضع صلاته فى المسجد ولا يلتزم مكانا معينا قد يخشى أن يقع تحت طائلة هذا الحديث. ولكن المعقول أنَّ تنقل المصلى فى عدة أماكن من المسجد يُقصد منه كثرة ما يشهد له يوم القيامة بعمل الخير، فإن الثابت أن أشياء كثيرة تكون شاهدة للإنسان أو عليه يوم القيامة، كما قال تعالى {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} النور: 24 وقال: {وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء} صح فى الحديث الذى رواه البخارى وغيره أن المؤذن لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة.
والرجل الذى يريد أن يصلى فى مواضع متعددة من المسجد أو من غيره يريد أن تكثر الشهود له يوم القيامة بالصلاة، والإنسان فى هذا اليوم محتاج إلى كل شاهد يشهد له بالخير ويشفع له. قال تعالى {إذا زلزلت الأرض زلزالها. وأخرجت الأرض أثقالها. وقال الإنسان مالها. يومئذ تحدث أخبارها. بأن ربك أوحى لها} يقول المفسرون: أى تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرٍّ يوم القيامة، وروى الترمذى بسند حسن صحيح، أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الأية قال "أتدرون ما أخبارها"؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا، كذا وكذا".
هذا وقد روى أبو داود وابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لا يصلى الإمام فى مقامه الذى صلَّى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه" كما رويا أنه قال "أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله" يعنى فى النفل، وفى إسناده هذين الحديثين مقال. "نيل الأوطار ج 3 ص 209" ولكن تغيير مكان الصلاة للنوافل مشروع رجاء تعدد مواضع السجود التى تشهد للمصلى(9/135)
إضافات للأذان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أنه كان فى زمن السلف سلام بعد الأذان على الخلفاء والأمراء؟
الجواب
الوارد فى التاريخ أن بلالا كان إذا فرغ من الأذان يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: السلام عليك يا رسول الله.
وربما قال: السلام عليك بأبى أنت وأمى يا رسول الله، حى على الصلاة، حى على الصلاة السلام عليك يا رسول الله. قاله الأستاذ الكتانى فى كتابه "التراتيب الإدارية" ج 1 ص 75.
فلما ولى أبو بكر رضى الله عنه كان المؤذن سعد القرظى يقف على بابه فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله ورحمة الله وبركاته، حى على الصلاة، حى على الفلاح الصلاة يا خليفة رسول الله، فلما استخلف عمر رضى الله عنه كان سعد يقف على بابه ويقول مثل ما يقول لأبى بكر. فلما قال عمر للناس: أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فدُعى أمير المؤمنين، صار المؤذن إذا أذن يقول بعد الأذان: السلام عليك يا أمير المؤمنين ... فلما ولى عثمان بن عفان رضى الله عنه كان العمل على هذا.
وما برح المؤذنون إذا أذنوا سلَّموا على الخلفاء، ثم يقيمون الصلاة بعد السلام، فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلى بالناس، هكذا كان العمل مدة أيام بنى أمية وبنى العباس فى مصر والشام والحجاز وسائر الأمصار.
وفى مصر، عندما ملك الفاطميون أمر جوهر الصقلى أن يكون الأذان على عمل آل البيت، فزيد فيه "حى على خير العمل " وأصله فى مسند ابن أبى شيبة، فكان المؤذن بعد الأذان يقف على باب القصر ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين. وربما قال بعد ذلك: الصلاة والسلام عليك يا أمير المؤمنين وعلى آبائك الطاهرين. فلما زالت دولة الفاطميين وجاءت الدولة الأيوبية نبذ صلاح الدين كل ما كان لهم من شعار، فبدَّل السلام على الخليفة بالسلام على رسول الله، فكان المؤذن بعد الأذان يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
وربما قال: الصلاة والسلام.
كان هذا العمل قاصرا على قصر الإمارة فقط، يعنى فى المسجد السلطانى ونحوه فلما كان أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوك الأيوبيين أمر جميع المؤذنين فى مصر والقاهرة أن يقولوا على المنابر عقب الأذان: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، وأن يقتصر فى ذلك بعد أذان العشاء الأخيرة، فظل العمل على هذا إلى زمن المنصور حاجى بن الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون، فأمر أن يقال ذلك بعد أذان الفجر وبعد كل أذان ما عدا المغرب، فما برح المؤذنون على ذلك إلى وقتنا هذا "مجلة الإسلام المجلد الثانى، العدد الحادى والأربعون، بقلم حسن محمد قاسم".
يؤخذ من هذا أنه لا بأس من الصلاة والسلام على النبى صلى الله عليه وسلم عقب الأذان ويكون من باب التثويب الذى استحسنه المتأخرون، مبالغة فى إعلام الناس بدخول الوقت وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. وجاء فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة أن بعض الخلف زادوا عقب الأذان وقبله أمورا، منها: الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم عقبه، ومنها التسابيح والاستغاثات قبله بالليل ونحو ذلك، وهى بدع مستحسنة، لأنه لم يرد، فى السنة ما يمنعها، وعموم النصوص يقتضيها، وقال الشافعية والحنابلة: إن الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم عقب الأذان سنة. وأكرر التنبيه على أنه لا تجوز المسارعة بالحكم بالبدعة على الشىء والواجب هو التريث والتأنى والبحث والدرس، حتى لا يتفرق المسلمون شيعا من أجل حكم شرعى فرعى فى أمر اختلفت فيه آراء الفقهاء الأعلام منذ القرون الأولى.
"راجع مقال الشيخ عبد الرحمن خليفة المنشور فى مجلة الإسلام المجلد الثانى - العدد 48 "(9/136)
التبليغ خلف الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى رفع بعض المأمومين صوته ليعلم المأمومون حركات الإمام؟
الجواب
التبليغ خلف الإمام مشروع، ودليله ما رواه مسلم عن جابر: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، وروى ذلك عن عائشة أيضا، وعلق النووى فى شرح صحيح مسلم على ذلك بجواز رفع الصوت بالتكبير ليسمعه الناس ويتبعوه، وأنه يجوز للمقتدى اتباع صوت المكبر، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور ونقلوا الإجماع فيه، وأراه يصح الإجماع فيه، فقد نقل القاضى عياض عن مذهبهم أن منهم من أبطل صلاة المقتدى، ومنهم من لا يبطلها، ومنهم من قال: إن أذن له الإمام فى الإسماع صح الاقتداء به، وإلا فلا، ومنهم من أبطل صلاة المستمع ومنهم من صححها، ومنهم من قال: إن تكلف صوتا بطلت صلاته وصلاة من ارتبط بصلاته. وهذا كله ضعيف والصواب جواز كل ذلك وصحة صلاة المسمع والسامع ولا يعتبر إذن الإمام. انتهى.
ذكر هذا السيد الحموى فى رسالته "القول البليغ فى حكم التبليغ" مجلة الإسلام -العدد 22 فى 30 أغسطس 1935.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة "نشر أوقاف مصر" أن من سنن الصلاة جهر الإمام بالتكبير والتسميع - سمع الله لمن حمده - والسلام، لإعلام من خلفه، فإن كان من خلفه يسمعه كره التبليغ من غيره، لعدم الاحتياج إليه. ويجب أن يقصد المبلغ -سواء كان إماما أو غيره - الإحرام للصلاة بتكبيرة الإحرام، فلو قصد الإعلام فقط لم تنعقد صلاته - الشافعية قالوا: إذا قصد بتكبيرة الإحرام الإعلام والإحرام لا تنعقد صلاته أيضا.
أما غير تكبيرة الإحرام من تكبيرات الانتقال والتسميع والتحميد فإن قصد بها التبليغ فقط فلا تبطل صلاته، وإنما يفوته الثواب والشافعية قالوا: إذا قصد بهذه الأشياء مجرد التبليغ أو لم يقصد شيئا بطلت صلاته.
أما إن قصد التبليغ مع الذكر فإن صلاته صحيحة، بخلاف تكبيرة الإحرام كما تقدم(9/137)
الدعاء فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى أحسن الأدعية التى تقال فى الصلاة؟
الجواب
الصلاة فى اللغة معناها الدعاء ومنه قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} أى ادع لهم بالبركة والنماء عند أخذ الزكاة، وهى فى الشرع أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.
فالصلاة التى نُصليها فيها إلى جانب الأفعال كالركوع والسجود أقوال كقراءة الفاتحة والتشهد والتسبيح والتكبير والدعاء فى السجود وغيره، فهناك علاقة وثيقة بين الدعاء والصلاة لأنها مناجاة لله مع حركات تشهد بالإخلاص فى هذه المناجاة.
وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة بما فيها من أقوال وأفعال، بيَّنها بفعله، وبقوله، وقال "صلوا كما رأيتمونى أصلى" رواه البخارى ونظم الدعاء والذكر وجعل له مواطن هو أولى وأجدر بها، وكتب السنة مملؤة بما كان يقوله صلى الله عليه وسلم فى كل ركن من أركان الصلاة.
وفى السجود بالذات حث النبى صلى الله عليه وسلم على كثرة الدعاء وقال فى سبب ذلك كما رواه مسلم "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء" لكن هل هناك دعاء فى غير السجود؟ نعم هناك دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام وصح منه: اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقنى من خطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
وفى الركوع ثبت أن النبى كان يقول "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لى" رواه البخارى ومسلم وفى الاعتدال من الركوع دعاء هو قنوت الصبح وقنوت الوتر، وفى الجلوس بين السجدتين كان يقول "رب اغفر لى وارحمنى واجبرنى وارفعنى وارزقنى واهدنى وعافنى" رواه البيهقى، وبعد التشهد الأخير ثبت أنه كان يقول: " اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم" رواه البخارى ومسلم، وهناك أدعية أخرى غير ذلك جمعها كتاب الأذكار للنووى.
فالصلاة من أولها إلى آخرها محل للدعاء، وأولى بالدعاء المواطن التى بيَّنها النبى صلى الله عليه وسلم كما سبق، وقد ثبت أنه فى صلاة طويلة كان يقرأ القرآن فإذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ومع ذلك لو دعا الله فى أى مكان فصلاته لا تبطل. غير أنى أنبه إلى أن بعض الفقهاء قال إن الصلاة تبطل لو دعا الإنسان بما يشبه كلام الناس، مثل اللهم زوجنى فلانة، فالأولى أن يكون بغير ذلك، سواء أكان مأثورا عن النبى صلى الله عليه وسلم أم غير مأثور مع مراعاة الخشوع فى الصلاة كلها، فهو أرجى لقبولها وقبول ما فيها من دعاء(9/138)
صلاة الصبح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم "من صلى الصبح فهو فى ذمة الله، فلا يطلبنه الله من ذمته بشىء، فإنه من يطلبه من ذمته بشىء يدركه، ثم يكبه على وجهه فى نار جهنم"؟
الجواب
روى هذا الحديث مسلم فى صحيحه، وجاء فى رواية لابن ماجه والطبرانى بسند صحيح قوله صلى الله عليه وسلم "من صلى الصبح فى جماعة فهو فى ذمة الله فمن أخفر ذمة الله كبه الله فى النار لوجهه ".
والذمة هى الأمان والعهد والضمان، والذى يصلى الصبح فى جماعة هو فى ضمان الله ووقايته، وكلمة خفر الثلاثية تفيد الحراسة والأمن والضمان، يقال: خفر الرجل الرجل إذا حرسه وأمنه وأخفر، بزيادة الهمزة تفيد عكس ما تفيده خفر الثلاثية، يقال: أخفر الرجل الرجل إذا أزال ضمانه ونقض عهده.
والحديث يبين فضل صلاه الصبح وبخاصة إذا كانت فى جماعة، والذى يحرص عليها يستيقظ مبكرا ليدركها قبل فوات وقتها بطلوع الشمس. والبكور فيه الخير والبركة وهو فترة النشاط التى يجب أن تستغل استغلالا طيبا، وقد دعا النبى صلى الله عليه وسلم لأمته أن يبارك الله لها فى بكورها.
فالذى يبكِّر ويصلى الصبح يكون فى حماية الله وحراسته من السوء جزاء محافظته على الصلاة التى يعارضها هوى النفس فى الكسل والتباطؤ وعدم مغادرة الفراش، ومن جاهد نفسه أول النهار استطاع أن يجاهد ما يعترضه طول النهار من فتن ومغريات، والله سبحانه يقول {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} :
العنكبوت: 69 فالله سبحانه يحذر أى إنسان أن ينال هذا الشخص بسوء لأنه فى حماية الله،ومن تعدى عليه طعن فى حراسة الله له ولم يحترم حماه،والله يغضب لذلك غضبا شديدا ومن غضب عليه أنزل به عقابه ولن يفلت منه، فهو يتعقبه كما يتعقب صاحب الدم من قتل قريبه، ليثأر له أو من أهان شرفه ليغسل العار عنه وعقاب الله لمن يخفر ذمته بالتعدى على من صلَّى الصبح سيكون بإذلاله وإهانته وكبه على وجهه فى النار.
واحتراما لهذا الحديث وخوفا من التهاون فيما جاء به ذكر التاريخ أن الحجاج بن يوسف الثقفى، وهو المعروف بشدة بطشه وجبروته أمر سالم بن عبد الله بن عمر أن يقتل رجلا، فسأل سالم هذا الرجل وقال له: هل صليت الصبح؟ قال نعم؟ فقال له: انطلق فلن أمسك بسوء، فلما سأله الحجاج: لِمَ لم تقتله؟ قال لأنه صلَّى الصبح فكان فى جوار الله فكرهت أن أقتل رجلا أجاره الله.
والحديث إذا كان يحثنا على المحافظة على الاستيقاظ المبكر لأداء صلاة الصبح فى وقتها فهو يحثنا أيضا على أداء كل الصلوات فى أوقاتها، ويحثنا على احترام من يحافظون على الصلوات فأولئك هم المؤمنون، والله سبحانه يقول: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} الحج: 38(9/139)
الحركة أثناء الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض المصلين يحرك يديه عدة مرات، فهل تبطل صلاته؟
الجواب
المفروض فى المصلِّى أن يحسَّ بأنه واقف بين يدى الله يناجيه بالمدح والثناء ويدعوه بالهداية والمغفرة، ويظهر له عمليا خضوعه وخشوعه وتواضعه بالركوع والسجود، ولا يوجد موقف للإنسان يستحق الاهتمام كهذا الموقف، ومن هنا كان عليه أن يكون ساكن الجوارح فى غير ما شرع له، لا يعبث بلحيته ولا ينسق من ملبسه مثلا، ولا يبرح مكانه ولا يعمل إلا ما أذن له فيه من مثل رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه، ومثل الركوع والسجود والالتفات عند الانصراف من الصلاة بالتسليم.
وللفقهاء كلام فى ضبط الأفعال التى تبطل الصلاة، فاتفقوا على أن من المبطلات العمل الكثير الذى ليس من جنس الصلاة، وهو ما يخيل إليه أن فاعله ليس فى الصلاة، وهذا العمل الكثير مبطل للصلاة سواء وقع عمدا أو سهوا، وأما ما دون ذلك فلا يبطلها، وجاء فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: أن الشافعية حددوا العمل الكثير بنحو ثلاث خطوات متواليات يقينا وما فى معنى هذا، كوثبة واحدة كبيرة، ومعنى تواليها ألا تُعدَّ إحداها منقطعة عن الأخرى على الراجح.
وأن الحنفية قالوا: العمل الكثير ما لا يشك الناظر إليه أن فاعله ليس فى الصلاة فإن اشتبه الناظر فهو قليل على الأصح.
وأن المالكية قالوا: ما دون العمل الكثير قسمان: قسم متوسط كالانصراف من الصلاة، وهذا يبطل عمده دون سهوه، وقسم يسير جدًّا كالإشارة وحك البشرة، وهذا لا يبطل عمده ولا سهوه(9/140)
تعدد الجماعات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز تعدد الجماعة فى وقت واحد وفى مسجد واحد؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى "ج 8 ص 257 " عند الكلام على مسجد الضرار الذى يفرق بين جماعة المسلمين أن الإمام مالكا، قال: لا تصلَّى جماعتان فى مسجد واحد بإمامين، خلافا لسائر العلماء: وقد روي عن الشافعى المنع، حيث كان تشتيتا للكلمة.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة "نشر وزارة الأوقاف المصرية" عن تكرار الجماعة فى المسجد الواحد -أن الحنابلة قالوا: إذا كان الإمام الراتب يصلى بجماعة فيحرم على غيره أن يصلى بجماعة أخرى وقت صلاته، كما يحرم أن تقوم جماعة قبل صلاة الإمام الراتب، بل لا يصح صلاه جماعة غير الإمام الراتب فى كلتا الحالتين، ومحل ذلك إذا كان بغير إذن الإمام الراتب، أما إذا كان بإذنه فلا يحرم.
والشافعية قالوا: تكره إقامة الجماعة فى مسجد بغير إذن إمامه الراتب مطلقا، قبله أو بعده أو معه، إلا إذا كان المسجد مطروقا أو ليس له إمام راتب أو له وضاق المسجد عن الجميع أو خيف خروج الوقت، وإلا فلا كراهة.
والمالكية قالوا: تحرم إقامة جماعة مع جماعة الإمام الراتب، لأن القاعدة عندهم أنه متى أقيمت الصلاة للإمام الراتب فلا يجوز أن تصلَّى صلاة أخرى، فرضا أو نفلا، لا جماعة ولا فرادى. ويتعين على من فى المسجد الدخول مع الإمام إذا كان لم يصل هذه الصلاة المقامة أو صلاها منفردا.
أما إذا كان قد صلاها جماعة فيتعين عليه الخروج من المسجد لئلا يطعن على الإمام.
وإذا وجد بمسجد واحد أئمة متعددة مرتبون، فإن صلوا فى وقت واحد حرم، لما فيه من التشويش، وإذا ترتبوا، بأن يصلى أحدهم فإذا انتهى من صلاته صلى الآخر وهكذا فهو مكروه على الراجح(9/141)
تشبيك الأصابع فى المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى أثناء انتظارى للصلاة فى المسجد شبكت أصابعي وأنا جالس فقال لي بعض الحاضرين: إن التشبيك ممنوع، فهل هذا صحيح؟
الجواب
روى البخارى عن أبى موسى الأشعرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبَّك بين أصابعه.
وروى البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتى العشاء، فصلى بنا ركعتين ثم سلَّم فقام إلى خشبة معروضة فى المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى علي اليسرى وشبك بين أصابعه. قال ابن حجر: حديث أبي موسى دالّ على جواز التشبيك مطلقًا، وحديث أبي هريرة دالٌّ على جوازه فى المسجد، فهو فى غيره أجوز، ووقع فى بعض نسخ البخارى قبل هذين الحديثين حديث آخر عن ابن عمر قال: شبَّك النبى صلى الله عليه وسلم أصابعه. قال مغلطاى: هذا الحديث ليس موجودا فى أكثر نسخ البخارى، وقال ابن حجر: هو ثابت فى رواية حماد بن شاكر عن البخارى. قال ابن بطال: المقصود من هذه الترجمة معارضة ما ورد فى النهى عن التشبيك فى المسجد، وقد وردت فيه مراسيل ومسند من طرق غير ثابتة. وقال ابن المنير: التحقيق أنه ليس بين الأحاديث تعارض، إذ النهى عنه فعله على وجه العبث. وجمع الإِسماعيلي بأن النهى مقيد بما إذا كان فى الصلاة أو قاصدا إليها، إذ منتظر الصلاة فى حكم الصلاة.
وقيل: إن حكمة النهى لمنتظر الصلاة أن التشبيك يجلب النوم، وهو من مظان الحدث، وقيل: إن صورته تشبه صورة الاختلاف، فكره ذلك لمن هو فى حكم الصلاة حتى لا يقع في النهى عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم للمصلين "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم".
وفى البخارى والبيهقى فى شعب الإِيمان عن ابن عمر رضى الله عنهما:
رأيت رسول الله بفناء الكعبة محتبيا بيده هكذا - زاد البيهقى: وشبَّك بين أصابعه، وقد شبك النبى صلى الله عليه وسلم بين يديه فى عدة أحاديث ليس هذا محل إيرادها. وثبت فى الصحيحين فى قصة ذى اليدين أنه صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه، وجزم فى "الإقناع" بأنه يكره له أن يشبك بين أصابعه من حين يخرج -يعنى للصلاة قال: وهو فى المسجد أشد كراهة، وفى الصلاة أشد وأشد. انتهى. ونقل فى الفروع كراهة تشبيك الأصابع فى الصلاة وأنها باتفاق الأئمة الأربعة.
واستدلوا بما رواه الترمذى وابن ماجه عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شبك أصابعه فى الصلاة ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.
قال السيوطى فى كتابه "حسن التسليك فى حكم التشبيك":
رخص فى التشبيك ابن عمر وسالم ابنه، فكانا يشبكان بين أصابعهما فى الصلاة، وقال مغلطاى: والتحقيق أنه ليس بين حديث النهى عن التشبيك وبين تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه معارضة، لأن النهى إنما ورد عن فعله فى الصلاة أو فى المضى إليها، وفعله صلى الله عليه وسلم للتشبيك ليس فى صلاة ولا فى المضى إليها، فلا معارضة إذن، وبقى كل حديث على حياله. انتهى.
وقسم بعض المتأخرين التشبيك إلى أقسام:
أحدها: إذا كان الإنسان فى الصلاة، ولا شك فى كراهته.
ثانيها: إذا كان فى المسجد منتظرًا للصلاة، أو وهو عامد إلى المسجد يريدها بعدما تطهر، والظاهر كراهته، كما رواه أحمد عن مولى لأبى سعيد الخدرى: بينما أنا مع أبى سعيد وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخلنا المسجد، فإذا رجل جالس وسط المسجد محتبيا مشبكا أصابعه، بعضها فى بعض، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفطن الرجل لإِشارته، فالتفت إلى أبى سعيد فقال "إذا كان أحدكم فى المسجد فلا يشبكن، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال فى صلاته ما كان فى المسجد حتى يخرج منه" ولحديث كعب بن عجرة " إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بيده فإنه فى صلاة" رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، ورواه ابن خزيمة والحاكم عن أبي هريرة وقال: صحيح على شرطهما، ورواه الترمذى وكذا ابن حبان.
ثالثها - أن يكون فى المسجد، بعد فراغه من الصلاة، وليس يريد صلاة أخرى ولا ينتظرها فلا يكره، لحديث ذى اليدين.
رابعا: فى غير المسجد فهو أولى بالإباحة وعدم الكراهة. انتهى. وبعد، فإن الموضوع لا يعْدُو مرتبة الكراهة، فهو ليس بمحرم، ومن شبك لا يعاقب على ذلك، ولا يجوز الإِنكار بشدة على من فعله، انظر: غذاء الألباب للسفارينى "ج 2 ص 263-266 "(9/142)
حديث عن الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: من بكَّر وابتكر وغسل واغتسل ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام ولم يتكلم، فله بكل خطوة يخطوها درجة وأجر سنة كاملة صيامها وقيامها؟
الجواب
قال النبى صلى الله عليه وسلم "من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها" رواه أحمد وأبو داود والترمذى عن أوس بن أوس الثقفى وقال: حديث حسن. ورواه النسائى وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحيهما والحاكم وصححه. ورواه الطبرانى فى معجمه الأوسط من حديث ابن عباس.
قال الخطابى: قوله عليه الصلاة والسلام " غسل واغتسل وبكر وابتكر" اختلف الناس فى معناه فمنهم من ذهب إلى أنه من الكلام المتظاهر الذى يراد به التوكيد، ولم تقع المخالفة بين المعنيين لاختلاف اللفظين، وقال: ألا تراه يقول فى هذا الحديث "ومشى ولم يركب" ومعناهما واحد.. .
وإلى هذا ذهب الأثرم صاحب أحمد بن حنبل.
وقال بعضهم: قوله "غسل" معناه غسل الرأس خاصة، وذلك لأن العرب لهم لِمَمٌ وشعور -واللمم جمع لمة، وهى الشعر الذى يجاوز شحمة الأذن- وفى غسلها مؤنة، فأراد غسل الرأس من أجل ذلك، وإلى هذا ذهب مكحول.
وقوله "واغتسل" معناه غسل سائر الجسد. وزعم بعضهم أن قوله "غسل " معناه أصاب أهله -بالجماع- قبل خروجه إلى الجمعة، ليكون أملك لنفسه وأحفظ فى طريقه لبصره. وقوله "وبكر وابتكر" زعم بعضهم أن معنى "بكر، أدرك باكورة الخطبة وهى أولها، ومعنى "ابتكر" قَدِم فى الوقت، وقال ابن الأنبارى: معنى " بكر " تصدق قبل خروجه، وتأول فى ذلك ما روى فى الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم "باكروا بالصدقة فان البلاء لا يتخطاها" ذكر ذلك الحافظ المنذرى فى كتابه "الترغيب والترهيب" فى كتاب الجمعة(9/143)
صلاة الكفارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قام بعض الناس بتوزيع ورقة مكتوب فيها: صلاة الكفارة، مع حديث طويل فى كيفيتها منسوب للنبى صلى الله عليه وسلم، جاء فيه أن من فاتته صلاة فى عمره ولم يحصها يصلى فى آخر جمعة من رمضان أربع ركعات بتشهد واحد يقرأ فى كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة القدر خمس عشرة مرة وسورة الكوثر كذلك، وهى كفارة أربعمائة سنة فى رواية أبا بكر وألف سنة فى رواية على، ولما كان ابن آدم يعيش ستين أو مائة سنة فالصلاة الزائدة تكون لأبويه وزوجته وأولاده وأقاربه وأهل البلد، وبعد الصلاة يصلى على النبى صلى الله عليه وسلم مائة مرة، ويدعو بهذا الدعاء، وهو دعاء بطلب المغفرة.. فهل هذا الحديث بما جاء فيه صحيح، وما الذى يكفر الصلاة؟
الجواب
لم أعثر على هذا الحديث فى الكتب الصحيحة، وعلامة الوضع فيه ظاهرة، فالصلاة التى تفوت الإنسان لا يكفرها إلا قضاؤها، وقد مر فى ص 612 من المجلد الثانى من هذه الفتاوى أن من ترك الصلاة ناسيا لا يكفرِّها إلا قضاؤها كما صح فى الحديث، وإذا كان هذا فى الصلاة التى نام عنها أو سها عنها الإنسان فكيف بالصلاة المتروكة عمدا؟ إن قضاءها أولى بالوجوب.
إن الكلام المذكور يغرى الناس بترك الصلاة حيث يكفيهم عنها صلاة واحدة فى آخر جمعة من رمضان، ولم يقل بهذا أحد من العلماء، بل إنهم على الرغم من قبولهم الأحاديث التى تقول إن الصلاة الواحدة فى مسجد مكة بمائة ألف صلاة فيما سواه، وفى مسجد المدينة بألف وفى المسجد الأقصى بخمسمائة، يقولون بأنها لا تغنى عن الصلوات المفروضة ولا تقوم مقام الصلوات الفائتة، وإنما المراد كثرة ثواب الصلاة فى هذه الأماكن المقدسة.
وأحذّر من يقومون بترويج هذه المنشورات من تبعة العمل بما يروجونه، فهو أولا كذب على الله وعلى رسوله، والله تعالى يقول {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} النحل: 116 والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " من كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخارى ومسلم.
وهو ثانيا سيتحمل وزر من يتهاونون فى الصلاة اكتفاء بصلاة الكفارة المزعومة {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} العنكبوت: 13 "ومن سَنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" رواه مسلم. والذين وضعوا هذا الكذب والمشاركون فى طبعه وتوزيعه داخلون فى هذه المسئولية(9/144)
التسول فى المساجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن يدخل المسجد فى يوم الجمعة أو فى المناسبات، ويطلب من الناس معونة متظاهرًا بالمرض أو الحاجة، هل يجوز له ذلك وهل يجوز أن نتصدق عليه؟
الجواب
لقد ألف الإِمام السيوطى رسالة فى هذا الموضوع بعنوان " بذل العسجد لسؤال المسجد" ولخص الحكم فى قوله: السؤال فى المسجد مكروه كراهة تنزيه، وإعطاء السائل قُربة يثاب عليها، وليس بمكروه فضلا عن أن يكون حراما. هذا هو المنقول والذى دلت عليه الأحاديث، وأورد حديثا رواه أبو داود بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا"؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل فوجدت كسرة فى يد عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه. ففيه دليل على أن السؤال فى المسجد ليس بحرام، وأن الصدقة عليه ليست مكروهة، حيث اطلع النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك بإخبار أبى بكر ولم ينكره، ولو كان حراما لم يقر عليه، بل كان يمنع السائل من العود إلى السؤال بالمسجد، ولو ثبت أن هناك نهيا عن السؤال بالمسجد لكان محمولا على الكراهة التنزيهية وكان حديث أبي بكر صارفًا له عن الحرمة.
وقد نص النووى فى شرح المهذب على أنه يكره رفع الصوت بالخصومة فى المسجد ولم يحكم عليه بالتحريم، وكذا رفع الصوت بالقراءة والذكر إذا آذى المصلين والنيام نصوا على كراهته لا تحريمه. فالحكم بالتحريم يحتاج إلى دليل واضح صحيح الإِسناد غير معارض، ثم إلى نص من أحد أئمة المذاهب، وكل من الأمرين لا سبيل إليه.
وهذا الحديث أخرجه الحاكم فى المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم، قال المنذرى: وقد أخرجه مسلم فى صحيحه والنسائى فى سننه، والبخارى فى أحكام المساجد للزركشى.
ومن الأدلة حديث آخر رواه الطبرانى فى الأوسط عن عمار بن ياسر قال: وقف على علىٍّ بن أبى طالب سائل وهو راكع فى تطوع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فنزلت {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} المائدة: 55 وذكر السيوطى طرقا أخرى لنزول هذه الآية وفيها تصدق علىٍّ وهو راكع، ثم ذكر حديثا للحاكم والبيهقى عن حذيفة بن اليمان قال: قام سائل على عهد النبى فسأله، فسكت القوم، ثم إن رجلا أعطاه فأعطاه القوم، فقال صلى الله عليه وسلم " من سَنَّ خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقص من أجورهم " وذكر أن الحديث الذى ذكره ابن الحاج فى كتابه "المدخل" وهو "من سأل فى المسجد فاحرموه" لا أصل له، وقال إن حكمنا بالكراهة مأخوذ من حديث النهى عن نشدان الضالة فى المسجد وقوله " إن المساجد لم تُبْن لهذا" قال النووى فى شرح مسلم: فى هذا الحديث النهى عن نشدان الضالة فى المسجد، ويلحق به ما فى معناه من البيع والشراء والإِجارة ونحوها وكراهة رفع الصوت فى المسجد بالعلم وغيره، وأجاز أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج الناس إليه لأنه مجمعهم فلا بد لهم منه اهـ.
وجاء فى " غذاء الألباب للسفارينى" "ج 2 ص 267" أن ابن تيمية سئل عن السؤال فى المسجد فقال: أصل السؤال محرَّم فى المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كانت ضرورة وسأل فى المسجد ولم يؤذ أحدًا كتخطيه رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله ولم يجهر جهرا يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون علما يشغلهم به ونحو ذلك جاز(9/145)
التكبير فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
متى يجب رفع اليدين عند التكبير فى الصلاة؟
الجواب
التكبير فى الصلاة إما واجب وإما مندوب، فالواجب أو الفرض أو الركن هو تكبيرة الإحرام للدخول فى الصلاة، أما فى غير ذلك فمندوب عند الركوع والهوى إلى السجود والرفع منه والقيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة.
أما رفع اليدين فهو سنة فى كل الأحوال، وليس بواجب، وذلك فى أربع حالات: الأولى عند تكبيرة الإِحرام، وذلك لفعل النبى صلى الله عليه وسلم، الذى رواه خمسون صحابيا منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقال الحاكم -كما رواه البيهقى- لا نعلم سنة اتفق على روايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة ثم العشرة المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من أصحابه -مع تفرقهم فى البلاد الشاسعة- غير هذه السنة.
والثانية والثالثة عند الركوع وعند الرفع منه، وذلك لفعل النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه اثنان وعشرون صحابيا، ففى البخارى ومسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذْوَ منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.
قال البخارى: ولا يفعل ذلك -أى رفع اليدين- حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود وقال مسلم مثل ذلك، أى لا يرفع يديه حين يرفع رأسه من السجود ولا بين السجدتين، وقال البيهقى: فما زالت تلك صلاته حتى لقى الله تعالى.
وأما الحالة الرابعة فعد القيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة كما رواه البخارى وغيره(9/146)
ما تعرف به القبلة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يشترط بعض الفقهاء استقبال عين الكعبة فى الصلاة، فكيف يعرفها من كان بعيدا عنها؟
الجواب
من كان فى القرى والأمصار التى فيها مساجد وبها محاريب لمعرفة القبلة كان عليه أن يلتزم الاتجاه إلى حيث تتجه المحاريب، وذلك خاص بالمحاريب التى نصبها الصحابة والتابعون، ولا يجوز الاتجاه إلى غيرها، وإلا بطلت صلاته، ومثلها المساجد التى اعتمد المسلمون محاريبها كما قال جمهور الفقهاء.
والمالكية خصصوا المحاريب التى لا يجوز التحرى مع وجودها بأربعة، التى هى: مسجد النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة ومسجد بنى أمية بالشام، ومسجد القيروان بشمالى أفريقيا ومسجد عمرو بن العاص بمصر القديمة.
أما غير هذه المحاريب، فإن كانت بالمصر -أى بالمدينة- وأقرها العارفون بالقبلة جاز لمن كان أهلا للاجتهاد والتحرى أن يقلدها، أما من لم يكن أهلا لذلك فيجب عليه أن يقلدها.
وإن كانت المحاريب بالقرى فلا يجوز لمن كان أهلا للاجتهاد والتحرى أن يقلدها، أما غيره فيقلدها وجوبا إن لم يجد مجتهدا يقلده.
والشافعية يجوِّزون -مع وجود المحاريب- الاستدلال على القبلة بالطرق المعروفة.
هذا الحكم هو بالنسبة للمحاريب الموجودة فى المساجد، فإذا لم توجد محاريب قال جمهور العلماء: يجب عليه أن يسأل أهل الثقة والخبرة إن وجدوا، وإلا اجتهد هو بنفسه، ولعل من أهل الثقة والخبرة " البوصلة " الحديثة المعتمدة من الخبراء، ومن وسائل الاجتهاد النظر فى مواقع الشمس والنجوم إن كان عالما بدلالتها، وللعلماء كلام كثير فى ذلك يطلب من مظانه.
والاجتهاد مهما كانت وسيلته ظنى لا يقينى، ولو تبين خطؤه بعد الصلاة فلا إعادة ولو كان التبين يقينا عند الجمهور، وتجب الإعادة عند الشافعية، أما تبين الخطأ أثناء الصلاة فإنه يضر، وهل يبطل الصلاة أو يلزم إتمامها على الظن الجديد؟ خلاف.
ثم قال العلماء: من ترك الاجتهاد وهو قادر عليه فصلاته باطلة عند الجمهور. هذا ملخص ما قاله العلماء فى فقه المذاهب، وجاء فى كتاب المغنى لابن قدامة "ج 1 ص 460، 461" قوله: قال بعض أصحابنا -أى الحنابلة- الناس فى استقبالها -أى القبلة- على أربعة أضرب:
1- فمنهم من يلزمه اليقين، وهو من كان معاينا للكعبة، أو كان بمكة من أهلها، أو ناشئا بها من وراء حائل محدث كالحيطان، ففرضه التوجه إلى عين الكعبة يقينا، وهكذا إن كان بمسجد النبى صلى الله عليه وسلم، لأنه متيقن صحة قبلته، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ.
2- ومنهم من فرضه الخبر -أى العلم- وهو من كان بمكة غائبا عن الكعبة من غير أهلها ووجد مخبرا يخبره، أو كان غريبا نزل بمكة فأخبره أهل الدار، وكذلك لو كان فى مِصْرٍ أو قرية، ففرضه التوجه إلى محاريبهم وقبلتهم المنصوبة، لأن هذه القبل ينصبها أهل الخبرة والمعرفة، فجرى ذلك مجرى الخبر فأغنى عن الاجتهاد، وإن أخبره مخبر من أهل المعرفة بالقبلة، إما من أهل البلد أو من غيره صار إلى خبره، وليس له الاجتهاد، كما يقبل الحاكم النص من المجتهد ولا يجتهد.
3-ومنهم من فرضه الاجتهاد، وهو من عدم هاتين الحالتين، وهو عالم بالأدلة.
4 -ومنهم من فرضه التقليد، وهو الأعمى ومن لا اجتهاد له وعدم الحالين، ففرضه تقليد المجتهدين. والواجب على هذين وسائر من بعد من مكة طلب جهة الكعبة دون إصابة العين.
قال أحمد: ما بين المشرق والمغرب قبلة. فإن انحرف عن القبلة قليلا لم يعد، ولكن يتحرى الوسط، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعى فى أحد قوليه كقولنا، والآخر: الفرض إصابة العين، لقول الله تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} ولأنه يجب عليه التوجه إلى الكعبة فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين.
ولنا -أى دليل الحنابلة- قول النبى صلى الله عليه وسلم " ما بين المشرق والمغرب قبلة" رواه الترمذى وقال: حسن صحيح، وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة، ولأنه لو كان الغرض إصابة العين لما صحت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو، ولا صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة، فإنه لا يجوز أن يتوجه إلى الكعبة مع طول الصف إلا بقدرها، وشطر البيت نحوه وقِبَلَه ثم ذكر ابن قدامة فى صفحة 495 أن دلالة المشرك على القبلة لا تتبع بحال من الأحوال، وذلك لأن الكافر لا يقبل خبره ولا روايته ولا شهادته، لأنه ليس بموضع أمانة، انتهى.
فهل معنى ذلك أن الآلات التى يعرف بها اتجاه القبلة، ومنها "البوصلة" والتى صنعها غير المسلمين لا يجوز الاعتماد عليها؟ الأمر يحتاج إلى نظر، وبخاصة أنها منتشرة إلى حد كبير.
وجاء فى نيل الأوطار للشوكانى "ج 2 ص 175" بعد ذكر حديث "ما بين المشرق والمغرب قبلة" قوله: والحديث يدل على أن الفرض على من بعد عن الكعبة هو الجهة لا العين، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد، وهو ظاهر ما نقله المزنى عن الشافعى، وقد قال الشافعى أيضًا: إن شطر البيت وتلقاءه وجهته واحد فى كلام العرب. ثم ذكر أن أظهر القولين للشافعى أن فرض من بعد عن مكة هو العين، وأنه يلزمه ذلك بالظن(9/147)
الصلاة والسلوك
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أى الشخصين أفضل، رجل لا يصلى ولكن أخلاقه وخدماته للناس كثيرة، أو رجل يصلى، ولكن معاملته مع الناس سيئة على الرغم من محافظته على الصلاة؟
الجواب
كلا الرجلين مخطئ، وتارك الصلاة معروف حكمه، إن تركها جحدا وإنكارا أو استهزاء فهو كافر، وأعماله الطيبة لا تنفعه فى الآخرة كما قال سبحانه {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} الفرقان: 23 وإن كانت خيراته عادت عليه بالخير فهو فى الدنيا فقط، وإن تركها كسلا وتهاونا فقد حكم بعض العلماء بكفره، وحكم بعضهم بفسقه، وإن مات على ذلك ولم يتب فأمره مفوض إلى ربه، وإن عذبه فى النار فمصيره الجنة.
وذلك كله بناء على حديث مسلم " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ".
والذي يصلى ولا يستقيم سلوكه مؤمن عاص أضاع ثواب صلاته، وردَّها الله عليه لأنها لم تثمر طيبا فى أخلاقه، والله سبحانه يقول {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت: 45 فالصلاة - كبقية العبادات - ليست علاقة خاصة بين العبد وربه، بل لابد أن ينعكس أثرها على السلوك الشخص والاجتماعى. وقد نعى الله على من يسهو عن الصلاة فيقصِّر فى أدائها، أو من يسهو عن معناها وحكمة مشروعيتها فلا يكون لها أثر فى حياته مع الناس، قال تعالى {فويل للمصلِّين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون} الماعون: 4 - 7.
وقد أكدت الأحاديث هذا المعنى، فقد صح أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها، قال " هى فى النار" رواه أحمد والبزار وابن حبان فى صحيحه والحاكم وصححه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتى، ولم يستطل على خلقى، ولم يبت مصرًّا على معصيتى، وقطع النهار فى ذكرى، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب. ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتى، وأستحفظه ملائكتى، أجعل له فى الظلمة نورا، وفى الجهالة حلما، ومثله فى خلقى كمثل الفردوس فى الجنة " رواه البزار من رواية عبد الله بن واقد الحرانى، وبقية رواته ثقات.
ومن هنا نحلم أهمية الصلاة فهى أهم أركان الإِسلام وأفضلها، والحديث يقول: " لا دين لمن لا صلاة له، إنما موضع الصلاة من الدين موضع الرأس من الجسد" رواه الطبرانى، ولم يتسامح فيها الرسول عليه الصلاة والسلام كما تسامح فى غيرها من التكاليف لمن أراد الدخول فى الإِسلام. فعندما جاء وفد ثقيف اشترطوا عليه ألا يخرجوا للجهاد، ولا تؤخذ منهم صدقة، ولا يجتمعوا للصلاة، ولا يولى عليهم أحد من غيرهم، فأجابهم إلى طلبهم مبدئيا ما عدا الصلاة حيث قال أخيرا " ولا خير فى دين لا ركوع فيه " رواه أحمد، ولما كان للصلاة أثرها القوى فى تثبيت الإِيمان فى القلوب وفى تقويم السلوك قال النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن هؤلاء الذين رضوا بالصلاة " إنهم سيصَّدقون ويجاهدون " أى أن الصلاة ستحملهم على عمل الخير الذى كانوا قد رغبوا عنه، وقد كان.
وبهذا يكون التارك للصلاة أو المتهاون فيها، والمستغنى عنها بعمل البر- مغرورا مخدوعا، وكذلك الذى يؤدى الصلاة شكليا دون إحساس بروحها، غير خاشع فيها ولا فاهم لمعناها ولا لهدفها، هو مغرور بظاهره، يخدع الناس برؤيتهم له محافظًا على الصلاة حتى يثقوا فيه، مع أنه لو طلبت منه معونة منع إعطاءها، لأن قلبه القاسى لم يتأثر بوقوفه أمام الله، فهو يناديه ويدعوه وهو غافل شارد الذهن، محروم من اللذة التى قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم " وجعلت قرة عينى فى الصلاة " رواه النسائى والطبرانى والحاكم وصححه، وقال الحافظ: إسناده جيد. ولحلاوتها وأثرها فى نفسه كان إذا حزَبه أو حزنه أمر فزع إلى الصلاة.
وبعد، فإن العبادات فُرضت لتقوية العلاقة بين الإِنسان وربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، فإن لم تثمر هذه العلاقات لم يكن لها عند الله وزن.
وفى تقديرى أن من يصلى-على الرغم من سوء معاملته - أقل خطرا ممن لا يصلى -على الرغم من حسن معاملته- فالأول مع الله ولو بسبب مَّا فعسى أن يتوب عليه والثانى منقطع عن الله فهل يصل نفسه به؟ "راجع قول ابن عطاء الله فى شرود الذهن فى الصلاة- المجلد الأول ص 72"(9/148)
علو الإمام أو المأموم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
توجد مساجد لها عدة طوابق يصلى الإمام فى أحدها والمأمومون يصلون فى طابق آخر فهل الجماعة صحيحة؟
الجواب
السنة أن يكون المأمومون مع الإمام فى طابق واحد لسهولة متابعته بالنظر أو السماع، وإن كان الصوت يصلهم عن طريق المبلغ أو مكبرات الصوت. روى الدارقطنى عن أبى مسعود الأنصارى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يقوم الإمام فوق شىء والناس خلفه. يعنى أسفل منه. وروى أبو داود والشافعى والبيهقى وابن خزيمة وابن حبان أن حذيفة أمَّ الناس بالمدائن -مدينة كانت بالعراق- على دكان -مكان مرتفع- فأخذه أبو مسعود بقميصه فجبذه -أخذه بشدة- فلما فرغ من صلاته قال، ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، فذكرت حين جذبتنى.
قال العلماء: إن كان فى علو الإِمام عن المأمومين فائدة فلا كراهة، فقد روى البخارى ومسلم عن سهل بن سعد الساعدى أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر أول يوم وضع، فكبَّر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقَرَى -إلى الخلف- وسجد فى أصل المنبر، ثم عاد. فلما فرغ أقبل على الناس فقال " أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى".
هذا فى ارتفاع الإِمام أنه مكروه إلا لحاجة، أما ارتفاع المأموم على الإمام فهو جائز، فقد صلى أبو هريرة على ظهر المسجد بصلاة الإِمام كما رواه الشافعى والبيهقى وسعيد بن منصور، وذكره البخارى تعليقا، وروى سعيد بن منصور أن أنس بن مالك كان يجمع فى دار أبى نافع عن يمين المسجد فى غرفة قدر قامة منها، لها باب مشرف على مسجد بالبصرة، فكان أنس يجمع فيها ويأتم بالإمام، وسكت عليه الصحابة.
يقول الشوكانى " نيل الأوطار ج 3 ص 207 ": وأما ارتفاع المؤتم فإن كان مفرطا بحيث يكون فوق ثلثمائة ذراع، على وجه لا يمكن المؤتم العلم بأفعال الإِمام فهو ممنوع بالإِجماع من غير فرق بين المسجد وغيره، وإن كان دون ذلك المقدار فالأصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع، ويعضد هذا الأصل فعل أبى هريرة المذكور ولم ينكر عليه انتهى.
يؤخذ من هذا أن المدار فى الجواز وعدمه هو علم المأموم بأفعال الإِمام، فلو حصل العلم بأية وسيلة ومنها مكبرات الصوت الآن صحت الجماعة فى أى طابق من الطوابق، أو فى أى مكان ما دامت الصفوف متواصلة فى المسجد وخارج المسجد، وعليه فلا مانع من صلاة الجماعة فى أى طابق من طوابق المسجد عند العلم بأفعال الإِمام.
وجاء فى شرح النووى لصحيح مسلم "ج 5ص 34" عند الكلام على اتخاذ المنبر فى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحديث فيه فوائد، منها: جواز صلاة الإمام على موضع أعلى من موضع المأمومين. ولكنه يكره ارتفاع الإمام على المأموم وارتفاع المأموم على الإمام لغير حاجة، فإن كان لحاجة لم يكره، بل يستحب، وكذا إن أراد المأموم إعلام المأمومين بصلاة الإمام واحتاج إلى الارتفاع(9/149)
مسافة القصر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يزعم بعض الناس أن أى سفر ولو كان عشرة كيلومترات يجيز للإنسان قصر الصلاة فهل هذا صحيح؟
الجواب
يقول الله تعالى {وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} النساء: 101 والخوف من الفتنة ليس شرطا لقصر الصلاة كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم، فهو صدقة تصدق الله بها علينا فلنقبل صدقته.
والسفر المبيح للقصر اختلف فى تقديره العلماء، يقول القرطبى فى تفسيره " ج 5 ص 353" قال داود: تقصر الصلاة فى كل سفر طويل أو قصير ولو كان ثلاثة أميال، متمسكا بحديث رواه مسلم عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شك من أحد رواة الحديث واسمه شعبة- صلى ركعتين. يقول القرطبى: وهذا لا حجة فيه، لأنه مشكوك فيه -أى فى المسافة التى رواها شعبة- وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التى بدأ منها السفر، وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك.
ولم يذكر حد السفر الذى يقع به القصر لا فى القرآن ولا فى السنة، وإنما كان كذلك لأنها لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن، فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعا، وإن مشى ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعا، كما أنَّا نحكم على أن من مشى يوما وليلة كان مسافرا، لقول النبى صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذى محرم منها" وهذا هو الصحيح، لأنه وسط بين الحالين، وعليه عوَّل مالك، ولكنه لم يجد هذا الحديث منفقا عليه، وروى مرة " يوما وليلة " ومرة " ثلاثة أيام " فجاء إلى عبد الله ابن عمر فعوَّل على فعله، فإنه كان يقصر الصلاة إلى " رئمْ " -واد بالمدينة- وهى أربعة بردٌ: لأن ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم. قال غيره: وكافة العلماء على أن القصر إنما شرع تخفيفا، والتخفيف إنما يكون فى السفر الطويل الذى تلحق به المشقة غالبا، فراعى مالك والشافعى وأصحابهما والليث والأوزاعى وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما يوما تاما، وقول مالك يوما وليلة راجع إلى اليوم التام، لأنه لم يرد بقوله " مسيرة يوم وليلة " أن يسير النهار كله والليل كله، وإنما أراد أن يسير سيرا يبيت فيه بعيدا عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم. وفى البخارى: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران فى أربعة بُرد، وهى ستة عشر فرسخا، وهذا مذهب مالك. وقال الشافعى والطبرى: ستة وأربعون ميلا، وعن مالك روايتان، خمسة وأربعون ميلا، وستة وثلاثون ميلا.
وبعد كلام طويل فى تقدير المسافة قال أبو عمر: اضطربت الآثار المرفوعة فى هذا الباب كما ترى فى ألفاظها، ومجملها عندى -والله أعلم- أنها خرجت على أجوبة السائلين، فحدث كل واحد بمعنى ما سمع -وذلك فى حديث سفر المرأة بغير محرم-.
هذا ما نقلته من تفسير القرطبى باختصار وتصرف، وذكر ابن قدامة فى " المغنى "ج 2 ص 92 روايات عن جماعة من السلف أن القصر يجوز فى أقل من هذه المسافة، لكنها روايات مردود عليها.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة أن المسافة التى تقصر فيها الصلاة فى السفر هى ستة عشر فرسخا ذهابا فقط، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة آلاف ذراع بذراع اليد، وهذه المسافة تساوى ثمانين كيلو ونصف كيلو ومائة وأربعين مترا - مسيرة يوم وليلة بسير الإِبل المحملة بالأثقال سيرا معتادا - ولا يضر نقصان المسافة عن المقدار المبين بشىء قليل، كميل أو ميلين.
وأبو حنيفة لم يقدر المسافة بهذه المقاييس، بل قدرها بالزمن وهو ثلاثة أيام من أقصر أيام السنة يكفى أن يسافر فى كل يوم منها من الصباح إلى الزوال، والمعتبر السير الوسط.
والمالكية قالوا: إن نقصت المسافة عن القدر المبين بثمانية أميال وقصر الصلاة صحت صلاته ولا إعادة عليه على المشهور.
ويستثنى من اشتراط المسافة أهل مكة ومِنى ومزدلفة والمحصب إذا خرجوا فى موسم الحج للوقوف بعرفة فإنه يسن لهم القصر فى حال ذهابهم.
وكذلك فى حال إيابهم إذا بقى عليهم عمل من أعمال الحج التى تؤدى فى غير وطنهم، وإلا أتموا.
ثم قال العلماء: لا يشترط قطع المسافة المذكورة فى المدة المذكورة والمقدرة بالأيام، فلو قطعها فى أقل منها ولو فى لحظة صح القصر- كما هو الشأن فى السفر بالطائرات والقطارات والسيارات.
يؤخذ من هذا أن الرأى المتفق عليه بين الأئمة الأربعة أن يكون السفر طويلا، لا يقل عن ثمانين كيلو مترا تقريبا. هذا، وقد ذكر ابن قدامة فى " المغنى "ج 2 ص 96 أنه حكى عن عطاء وسليمان بن موسى أنهما أباحا القصر فى البلد لمن نوى السفر وكذلك حكى عن غيرهما ولا يوجد دليل صحيح لذلك.
[يضاف كلام ابن قدامة إلى ص 537 من المجلد الثانى](9/150)
التنفل قبل صلاة العيد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ذهبت إلى المسجد لصلاة العيد فأردت أن أصلى ركعتين تحية للمسجد فمنعنى بعض الناس وقالوا: لا تجوز أى صلاة قبل صلاة العيد، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هناك خلاف بين الفقهاء فى جواز التنفل قبل صلاة العيد يتلخص فيما يلى:
1 - قال المالكية: يكره ذلك قبل صلاة العيد وبعدها إن أديت الصلاة فى الصحراء كما هو السنة، وأما إذا أديت بالمسجد -على خلاف السنة- فلا يكره التنفل لا قبلها ولا بعدها.
2 - والحنابلة قالوا: بكراهة التنفل قبلها وبعدها بأى مكان صليت فيه صلاة العيد، أى فى المسجد وغيره.
3-والحنفية قالوا: يكره قبل صلاة العيد، فى المصلَّى وغيره، ويكره بعدها إذا كان فى المصلى فقط، أما فى البيت فلا يكره.
4 - والشافعية قالوا: بالتفصيل بين الإِمام والمأموم، فيكره للإمام أن يتنفل قبلها وبعدها، سواء أكانت الصلاة فى الصحراء أم فى غيرها، ولا يكره للمأموم التنفل قبلها مطلقا، ولا بعدها إن كان ممن لم يسمع الخطبة لصمم أو بُعْدٍ، وإلا كان التنفل له مكروها.
إن سبب الخلاف هو روايات لم يرد فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وإنما الثابت ما رواه ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلِّ قبل العيد ولا بعده، فالذين قالوا بالمنع كان دليلهم فعل الرسول لا قوله، والذين قالوا بالجواز استندوا إلى أنه لم يرد نهى عن ذلك، والحكم على الروايات وبيان وجهات النظر فى التنفل مشروح فى نيل الأوطار للشوكانى "ج 3 ص 319" مع الاتفاق على أنه لم تشرع سنة قبل صلاة العيد ولا بعدها، وإنما الخلاف فى صلاة التطوع أو سنة الوضوء أو تحية المسجد أو قضاء أو غير ذلك، فى الوقت الذى لا تكره فيه الصلاة.
ومن أحسن ما يقوى رأى القائلين بالجواز ما قاله العراقى فى شرح الترمذى من أنه ليس فيها نهى عن الصلاة فى هذه الأوقات، ولكن لما كان صلى الله عليه وسلم يتأخر فى مجيئه إلى الوقت الذى يصلى بهم فيه ويرجع عقب الخطبة روى عنه من روى من أصحابه أنه كان لا يصلى قبلها ولا بعدها، ولا يلزم من تركه لذلك لاشتغاله بما هو مشروع فى حقه من التأخر إلى وقت الصلاة -أن غيره لا يشرع ذلك له ولا يستحب، فقد روى عنه غير واحد من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلى الضحى، وصح ذلك عنهم، وكذلك لم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة الجمعة قبلها، لأنه إنما كان يؤذن للجمعة بين يديه وهو على المنبر، قال البيهقى: يوم العيد كسائر الأيام، والصلاة مباحة إذا ارتفعت الشمس حيث كان المصلى. ويدل على عدم الكراهة حديث أبى ذر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "الصلاة خير موضوع، فمن شاء استكثر ومن شاء استقل " رواه ابن حبان فى صحيحه.
قال الحافظ فى الفتح: والحاصل أن صلاة العيد لم تثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافا لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النقل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص، إلا إن كان ذلك فى وقت الكراهة فى جميع الأيام.
بعد هذا نقول: لم يرد حديث بِمنْع مطلق النفل قبل صلاة العيد، ولا بمنع ما ورد فيه دليل يخصه كتحية المسجد إذا أقيمت صلاة العيد في المسجد. وبهذا يعلم جواب السؤال(9/151)
وضع الإمام بعد الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من السنة إذا انتهى الإِمام من الصلاة أن يختم الصلاة وهو متوجه إلى القبلة أو يتحول عنها نحو المأمومين؟
الجواب
روى أبو داود وابن ماجه والترمذى وقال: حديث حسن، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يؤم الناس فينصرف على جانبيه جميعا، على يمينه وعلى شماله، وعن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " رواه مسلم وأحمد والترمذى وابن ماجه، وروى البخارى وأحمد عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضى تسليمه، وهو يمكث فى مكانه يسيرا قبل أن يقوم. قالت: فنرى -والله أعلم- أن ذلك كان لكى ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال.
من هذا نرى أن بقاء الإمام بعد السلام على هيئة استقبال القبلة ليختم الصلاة لا مانع منه، وأن تحوله عن القبلة جهة اليمين أو الشمال جائز أيضا لا مانع منه، ولا يصح أن نتعصب لحالة من الحالات، وقال العلماء: من السنة بعد سلام الإِمام أن يلتزم مجلسه مستقبلا للقبلة بعد صلاة المغرب والصبح، وذلك ليقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير، وذلك عشر مرات كما فى الحديث، لأن الفضيلة المترتبة على ذلك مقيدة بقولها قبل أن يثنى رجله.
والحديث هو ما رواه الترمذى وغيره عن أبى ذر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قال فى دبر صلاة الصبح وهو ثانٍ رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير، عشر مرات كتب له عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك فى حرز من كل مكروه، وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه فى ذلك اليوم، إلا الشرك بالله تعالى " قال الترمذى: هذا، حديث حسن وفى بعض النسخ صحيح وفى سنن أبى داود عن مسلم بن الحارث التميمى الصحابى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسَرَّ إليه فقال: " إذا انصرفت عن صلاة المغرب فقل: اللهم أجرنى من النار سبع مرات: فإنك إذا قلت ذلك ثم مت من ليلتك كتب له جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل كذلك فإنك إن مت من يومك كتب له جوار منها "(9/152)
صلاة التوبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك صلاة تسمى صلاة التوبة؟
الجواب
روى أبو داود والنسائى وابن ماجه والبيهقى والترمذى وقال:
حديث حسن عن أبى بكر رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلى -أى ركعتين- ثم يستغفر الله إلا غفر له " ثم قرأ هذه الآية {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} آل عمران:135، 136.
وروى الطبرانى فى معجمه الكبير بسند حسن عن أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى ركعتين أو أربعا، مكتوبة أو غير مكتوبة، يحسن فيهن الركوع والسجود ثم استغفر الله غفر له ".
هذه هى صلاة التوبة، والمهم فيها أن تكون التوبة والاستغفار عقب أية صلاة، فإن الدعاء وطلب المغفرة إذا كان بعد طاعة كصلاة أو قراءة قرآن كان مرجو القبول(9/153)
تعدد الوتر وقضاؤه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لا وتران فى ليلة" وهل يقضى الوتر إذا فات؟
الجواب
نعم، روى أبو داود والنسائى والترمذى وقال حديث حسن، أن عليًّا رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا وتران فى ليلة" وروى أحمد وأبو داود والترمذى عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يركع ركعتين بعد الوتر وهو جالس.
قال العلماء: من صلى الوتر بعد العشاء ثم أراد أن يقوم الليل فليصل ما شاء ولكن لا يجوز له أن يوتر، لأنه أوتر قبل ذلك. ومن المعلوم أن الوتر يمكن أن يصلى فى أى جزء من الليل بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وإذا خشى الإِنسان أن تفوته صلاة الوتر يستحب له أن يصليها فى أول الليل، وذلك لحديث رواه مسلم وأحمد والترمذى وابن ماجه "من ظن منكم ألا يستيقظ آخره -أى الليل- فليوتر أوله، ومن ظن منكم أنه يستيقظ آخره فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل محضورة وهى أفضل " ومعنى محضورة تحضرها الملائكة. ولما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه " متى توتر "؟ قال: أول الليل بعد العتمة-أى العشاء، ولما سأل عمر رضى الله عنه قال: آخر الليل، فقال " أما أنت يا أبا بكر فأخذت بالثقة -أى الحزم والحيطة- وأما أنت يا عمر فأخذت بالقوة " أى العزيمة على القيام آخر الليل. رواه أحمد وأبو داود، وصححه الحاكم على شرط مسلم.
هذا، وإذا فاتت صلاة الوتر يمكن قضاؤها كما ذهب إليه جمهور العلماء، وذلك لحديث رواه البيهقى وصححه الحاكم على شرط الشيخين "إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر" وروى أبو داود قوله صلى الله عليه وسلم "من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره" وإسناده صحيح كما قال العراقى.
ووقت القضاء مفتوح ليلا ونهارا عند الشافعى، ومنعه أبو حنيفة فى أوقات النهى عن الصلاة، وقال مالك وأحمد:
يقضى بعد الفجر ما لم تصل الصبح(9/154)
التشهد الأول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسيت التشهد الأول فى صلاة الظهر فهل تبطل صلاتى؟
الجواب
التشهد الأول فى الصلاة سنة عند جمهور العلماء، لو ترك عمدا أو سهوا لا تبطل الصلاة، وذلك شأن كل السنن، وعند تركه يجبر بسجود السهو، روى الجماعة أن النبى صلى الله عليه وسلم قام فى صلاة الظهر وعليه جلوس -أى نسى جلوس التشهد الأول- فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسى من الجلوس.
وعليه فمن ترك التشهد الأول سهوا صحت صلاته، ويجبر بسجود السهو، لأن ذلك هو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القائل "صلوا كما رأيتمونى أصلى" رواه البخارى وقد أخذ جماعة من هذا وجوب التشهد الأول لا سنيته، وقال الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: والدليل على أن سجود السهو لا ينوب عن الواجب أنه لو نسى تكبيرة الإِحرام لم تجبر فكذلك التشهد، ولأنه ذكر لا يجهر فيه بحال فلم يجب كدعاء الاستفتاح. وممن قال بوجوبه الليث بن سعد وأحمد بن حنبل فى المشهور، وهو قول للشافعى وفى رواية عند أبى حنيفة.
والخلاصة أن التشهد الأول قيل إنه سنة وقيل إنه واجب، وعلى كلا القولين لو ترك سهوا يجبر بسجود السهو، ولا تبطل الصلاة.
هذا، والتشهد الأول إذا ترك وصار الإِنسان إلى القيام أقرب منه إلى القعود لا يعود إليه، حتى لو نبهه المأمومون، بل يتم صلاته ثم يسجد للسهو، والدليل عليه حديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه " إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائما فليجلس، وإن استتم قائما فلا يجلس وسجد سجدتى السهو" ويسجد معه المأمومون " نيل الأوطار ج 3 ص 127 ".
أما التشهد الأخير فهو فرض باتفاق والاستدلال عليه مستوفى فى كتب الفقه ويراجع " نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 287 - 292"(9/155)
الصلاة قبل الصبح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعد أن صليت ركعتى الفجر وقبل الإقامة لصلاة الصبح قمت لأصلى ركعتين أشغل بهما الوقت فقال بعض الناس: إن الصلاة قبل الصبح ممنوعة، فما هو الرأى الصحيح فى ذلك؟
الجواب
معلوم أنه إذا دخل وقت الصبح بطلوع الفجر كان المطلوب صلاتين، صلاة الفريضة وهى الصبح، وصلاة السنة وهى الفجر، التى قال بعض الأئمة بوجوبها، وأية صلاة أخرى غير هاتين الصلاتين كالنفل والقضاء اختلف فى جوازها، فكره جماعة التطوع بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتى الفجر، بناء على حديث رواه أحمد وأبو داود، وهو ضعيف، لكنهم أخذوا به لتعدد طرفه فيقوى بها، وذهب الشافعى إلى جواز التنفل مطلقا بلا كراهة، وقصر مالك الجواز لمن فاتته صلاة الليل لعذر، لأنه بلغه أن عبد الله بن عباس وغيره أوتروا بعد الفجر. وكما قلنا كثيرا: ما دام هناك خلاف فى الرأى جاز الأخذ بأحد الآراء دون تعصب له أو ضده(9/156)
تأخير صلاة العشاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "من صلى العشاء فى جماعة كأنه قام نصف الليل" وما يقال " لو لم أشق على أمتى لأمرتهم بتأخير العشاء "؟ وهل هناك تعارض بينهما؟
الجواب
الحديث الأول رواه مسلم وغيره، وهو يدل على فضل صلاة العشاء فى جماعة، وأنه يعدل فى الثواب قيام نصف الليل، حتى لو كانت صلاتها فى أول وقتها أو فى آخر وقتها قرب طلوع الفجر.
أما الحديث الثانى فيدل على فضل التأخير لصلاة العشاء عن أول وقتها، وذلك ليتسنى للناس بعد الانتهاء من أعمالهم بعد غروب الشمس أن يجتمعوا ليصلوها فى جماعة معه صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أحمد وابن ماجه والترمذى " لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يواظب على التأخير لما فيه من المشقة على المصلين، فأحيانا كان يعجل، وأحيانا كان يؤجل، فقد روى البخارى ومسلم عن جابر رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى أحيانا يؤخرها وأحيانا يعجل، وإذا رآهم - أى الصحابة - اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر.
فالأمر متروك للظروف، ووقت العشاء يدخل بمغيب الشفق الأحمر، وينتهى بطلوع الفجر، ووقت الاختيار هو ثلث الليل أو نصفه، ووقت الجواز ممتد حتى طلوع الفجر، فقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال " أما إنه ليس فى النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجىء وقت الصلاة الأخرى" وهذا الحديث يدل على كل أوقات الصلوات المفروضة ما عدا صلاة الصبح فإن وقتها ينتهى بطلوع الشمس لا بوقت الظهر وذلك بالإجماع(9/157)
وضع المنبر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز وضع المنبر فى غير يمين القبلة، فى أى موضع من المسجد؟
الجواب
تحدث العلماء عن مصلَّى النبى صلى الله عليه وسلم، أى المكان الذى كان يلازم فيه الصلاة أو يكثرها فيه، وكان كثير من الناس وبخاصة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم يحرصون على الصلاة فى مصلاه.
أما المنبر فنحن نعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب أول الأمر واقفا، وإذا تعب استند إلى جذع نخلة، ثم انتهى الأمر إلى بناء منبر له يستريح عليه، وحدث تطور فى هذا المنبر، ولكن أين وضع؟ هل على يمين مصلى الرسول عليه الصلاة والسلام؟ يقول المطرى أحد المؤرخين للمسجد النبوى: ورد أن الواقف فى مصلى النبى صلى الله عليه وسلم تكون رمانة المنبر الشريف حذو منكبه الأيمن، وجاء فى "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالى أن المصلِّى فى مصلَّى الرسول -عليه الصلاة والسلام- يجعل عمود المنبر حذو منكبه الأيمن.
من هذا نرى أن منبر الرسول صلى الله عليه وسلم كان على يمين المصلَّى -القبلة أو المحراب- لكن هل هذا الوضع واجب الالتزام؟ لم يرد نص بالالتزام وإنما الكلام الوارد هو بيان موضع المنبر وهو لا يدل على الوجوب، وإن كان يدل على الندب اقتداء بما كان عليه الحال فى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس بحرام أن يوضع المنبر فى أى مكان.
والمهم هو وجود شىء مرتفع يساعد الخطيب على إسماع الناس، وقد يستغنى عنه بمكبر الصوت، وتؤدى الخطبة من وقوف على الأرض وجلسة على كرسى كما يحصل أحيانا فى بعض المساجد فى خطبة العيد.
إن الأمر سهل لا ينبغى أن يشتد فيه الخلاف، وإن كان من الأوفق أن يراعى المأثور عن السلف فى ذلك، وهو وضع المنبر على يمين المحراب(9/158)
ثواب مساجد الحكومة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا كان من بنى مسجدًا لله بنى الله له بيتا فى الجنة، فمن الذى يثاب عن بناء المساجد التى تقيمها الدولة وبعض المصالح الحكومية والهيئات؟
الجواب
يقول النبى صلى الله عليه وسلم " من بنى مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا فى الجنة " رواه البخارى ومسلم.
وإذا كان تمويل بناء المسجد من خزينة الدولة أو خزينة هيئة عامة فإن المنفذ يكون شخصا مسئولا عن عمله مسئولية مباشرة أمام الله تعالى، ومن المنفذين المهندسون والمقاولون والصناع والعمال الذين أسهموا فى إقامة المسجد، فلا مانع أن يتفضل الله عليهم برحمته، ويعطيهم أجرا على المعاونة فى بناء بيوت الله، إلى جانب الأجر الدنيوى على جهودهم، فهو قليل بالنسبة إلى ثوابه سبحانه. والنية لها دخل كبير فى استحقاق الثواب، فإذا قصد المساهم فى بنائها وجه الله وأتقن عمله بناء على ذلك صدق عليه حديث " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " رواه البخارى ومسلم. وهنا نقطة ينبغى أن تؤخذ فى الاعتبار، وهى أن المسئول فى الوزارة أو المصلحة قد يكون ممن يتحمسون لبناء المسجد فيدرجه فى الميزانية ويسهل الإجراءات للتنفيذ، وقد يكون من غير هؤلاء فيتجاهل أو يتعمد عدم بناء مسجد فيكره عليه، ويضطر إلى عمل الإِجراءات وقد يعرقل أو يتهاون، فهناك فرق بينهما، فالأول يعتبر بانيا للمسجد بطريق مباشر أو غير مباشر، والثاني لا يستحق أى أجر على ذلك، بل يجازيه الله بحسب نيته.
وعلى العموم نحن لا نستطيع أن نحدد معاملة الله للممولين والمشاركين والمنفذين لبناء المساجد، فله سبحانه تقديره لعلمه بالنيات، وفضله واسع يغرى بالإِقبال على عمل الصالحات والإسهام فى كل خير ولو بأدنى نصيب وبأى جهد يبذل.
وأما الشخص الاعتبارى وهو الدولة أو الهيئة فهو بأجهزته والعاملين بها وكلاء عن الممولين لبناء المساجد، ذلك ما أراه باجتهادى، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسى، وأرجو المعذرة فما أردت إلا الخير(9/159)
تاريخ بناء المسجد الأقصى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو تاريخ بناء المسجد الأقصى، ومن الذى أمر ببنائه؟
الجواب
الكلام عن تاريخ بناء المسجد الأقصى طويل، ولكن ألخص ما كتبه عنه ابن خلدون فى مقدمته، بادئًا بذكر حديث رواه مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم فقد سأله أبو ذر عن أول مسجد وضع فى الأرض فقال "المسجد الحرام " أى الذى فى مكة ثم سأله عن غيره فقال "المسجد الأقصى " فسأله:
كم بينهما؟ قال " أربعون عامًا".
وفى تفسير القرطبى أن المسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام كما أخرجه النسائى بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو.
ثم قال القرطبى: هناك إشكال بين الحديثين، لأن بين إبراهيم الذى رفع قواعد الكعبة وسليمان آمادا طويلة، قال أهل التاريخ أكثر من ألف سنة، فقيل إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما، وقد روى أن أول من بنى البيت -فى مكة-آدم عليه السلام، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عامًا، ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله.
وكلّ محتمل. انتهى ما نقل من القرطبى.
وجاء فى مقدمة ابن خلدون (ص 246) أن بيت المقدس قام داود وسليمان عليهما السلام ببنائه ونصب هياكله ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحاق عليه السلام حواليه، ثم قال: لما خرج موسى ببنى إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحاق من قبله وأقاموا بأرض التيه أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط، فنصبوها بين خيامهم يصلون إليها، ولما ملكوا الشام وبقيت تلك القبة قبلتهم وضعوها على الصخرة ببيت المقدس، وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم له ذلك وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام. ثم خربه بختنصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه، ولما أعادهم ملوك الفرس بناه عزير نبى بنى إسرائيل لعهده بحدود دون بناء سليمان. ثم تداولتهم ملوك يونان والفرس والروم، وبنى هيرودوس المسجد على بناء سليمان، فلما جاء طيطوس من ملوك الروم وغلبهم خرب المسجد، ثم دان الروم بعد ذلك بالمسيحية حتى جاء قسطنطين وتنصرت أمه هيلانه وارتحلت إلى بيت المقدس تطلب الخشبة التى صلب عليها المسيح بزعمهم، فاستخرجتها من القمامات وبنت مكانها كنيسة القمامة، ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو الذى ولد فيه عيسى.
وبقى الأمر على ذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصخرة فرأى عليها زِبْلاً وترابًا فكشف عنها وبنى المسجد بطريقة مبسطة.
ثم احتفل الوليد بن عبد الملك فى تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل بالمسجد الحرام والمسجد النبوى ومسجد دمشق.
- ولما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة فى آخرها وكانت فى ملك العبيديين خلفاء القاهرة من الشيعة واختل أمرهم - زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامة ثغور الشام، وبنوا على الصخرة المقدسة كنيسة كانوا يفتخرون ببنائها حتى قيَض الله للإسلام صلاح الدين الأيوبى فجاهد الفرنجة وطردهم من تلك المنطقة حوالى سنة 580من الهجرة، وهدم الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذى هو عليه اليوم (أيام ابن خلدون) وقد انتهى من وضع مقدمته فى منتصف عام 799 كما دونه فى آخر المقدمة.
هذه صورة تاريخية موجزة للمسجد الأقصى حتى القرن الثامن الهجرى، وما بعد ذلك يطلب من كتب التاريخ، وقد رأينا كيف تقلب به التاريخ حتى نكب بالاحتلال الصهيونى فى القرن الحاضر، ولا يعلم إلا الله ماذا سيكون أمره بعد ذلك(9/160)
الصلاة وقضاء الحاجات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى صلاة قضاء الحاجة؟
الجواب
قضاء الحاجة وبخاصة حاجة الدنيا له وسيلتان، الأولى طاعة الله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فهى فى حد ذاتها إن قبلت قض الله بها ما يتمناه المؤمن من خير، قال تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) الطلاق: 2، 3 وقال {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} النحل: 97 وقال {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} الأعراف: 96 وفى الحديث " ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة، والله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه " رواه مسلم إلى غير ذلك من النصوص، والوسيلة الثانية هى الدعاء بشروطه وآدابه التى من أهمها الخشوع والإخلاص والبعد عن الحرام، قال تعالى {وقال ربكم ادعونى أستجب لكم} غافر: 60 وقال {وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوه الداع إذا دعان} البقرة: 156 وفى الحديث القدسى " يا عبادى كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم، يا عبادى كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونى أكسكم. . . " رواه مسلم وهناك حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة وهم فى الغار، فدعوا ربهم بصالح أعمالهم فنجاهم الله، وهاتان الوسيلتان مؤكدتان لا خلاف فيهما.
وقد روى أحمد بسند صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله ما سأل معجَّلا أو مؤخرا" والناظر فى هذا الحديث يرى أن قضاء الحاجة وسيلته: عمل صالح وهو صلاة الركعتين -وكذلك الدعاء والسؤال، وأن قضاء الحاجة قد يكون معجلا وقد يكون مؤخرا، فينبغى عدم التعجل، ففى الحديث "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل " رواه أحمد وأبو داود والترمذن وقد يصرف الله بالدعاء من السوء ما يكون خيرا من الشىء الذى دعا به الداعى كما روى فى الحديث.
وهل هناك دعاء مخصوص لقضاء الحاجة؟ هناك حديث عثمان بن حنيف الذى رواه الترمذى وقال حسن صحيح كما رواه ابن ماجه والنسائى وابن خزيمة فى صحيحه، أن رجلا أعمى طلب من النبى صلى الله عليه وسلم أن يدعو له الله ليكشف له عن بصره، فعلَّمه أن يقول بعد الوضوء وصلاة ركعتين " اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيى محمد نبى الرحمة، يا محمد-إنى أتوجه إلى ربى بك أن يكشف لى عن بصرى، اللهم شفِّعه فى وشفعنى فى نفسى " فرجع وقد كشف الله عن بصره وعلَّمه عثمان لرجل كانت له حاجة عند عثمان بن عفان -وذكر اسم حاجته حين الدعاء فقض الله له حاجته، وهناك دعاء آخر بعد صلاة الركعتين والثناء على الله والصلاة على رسوله وهو: " لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لى ذنبا إلا غفرته يا أرحم الراحمين، ولا هماً-إلا فرجته، ولا حاجة هى لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين " ومع أن هذا الدعاء طيب إلا أن نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم فيها كلام، ويمكن الرجوع إلى أدعية أخرى فى كتب الحديث، كالترغيب والترهيب للمنذرى والأذكار للنووى(9/161)
النية سرا أو جهرا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تكفى النية سرا عند أداء الصلاة أم يجب التلفظ بها حتى يقبلها الله؟
الجواب
النية محلها القلب، ولا يجب التلفظ بها فى الصلاة وغيرها، ولا يتوقف قبول الصلاة على التلفظ بها.
وقد قال الشافعية: لا بأس بالتلفظ بها بل يُسَنَ، وذلك ليساعد اللسان القلب، فلو ترك التلفظ بها فالصلاة صحيحة ومقبولة إن شاء الله إن توافرت فيها عوامل القبول بعد الأداء الشكلى، ومنها الخشوع والإخلاص، وجاء فى فقه المذاهب الأربعة أن المالكية قالوا: التلفظ بالنية خلاف الأولى إلا للموسوس فإنه مندوب دفعا للوسوسة.
وقال الأحناف إن التلفظ بدعة، إذ لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ويستحسن دفعا للوسواس.
فالخلاصة أن النية فى الصلاة محلها القلب ولا يشترط التلفظ بها، بل قال الأحناف إنه بدعة وقال المالكية إنه خلاف الأولى، وذلك لغير الموسوس، وقال الشافعية سنة وابن القيم فى كتابه " زاد المعاد"ج 1ص 51 نعى بشدة على من يقول بجواز النطق بالنية وصحح رأى الشافعية فى ذلك فقال:
كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر، ولم يقل شيئا قبلها، ولا يلفظ بالنية البتة، ولا قال: أصلَّى لله صلاة كذا مستقبل القبلة.
أربع ركعات إماما أو مأمومًا، ولا قال: أداء ولا قضاء ولا فرض الوقت، وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولامرسل لفظ واحدة منها ألبته، بل ولا عن أحد من أصحابه ولا استحسنه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة، وإنما غرَّ بعض المتأخرين قول الشافعى رضى الله عنه فى الصلاة إنها ليست كالصيام ولا يدخل أحد فيها إلا بذكر، فظن أن الذكر تلفُّظ المصلى بالنية، وإنما أراد الشافعى رحمه الله بالذكر تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعى أمرا لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم فى صلاة واحدة ولا أحد من خلفائه وأصحابه.
هذا هو رأى ابن القيم، وللائمة آراؤهم، والحكم على ما ذكر بأنه بدعة ليس مسلما على طول الخط أنه ضلالة(9/162)
الصلاة المعادة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز لى أن أصلِّى فى المنزل إماما لوالدتى وأخواتى وأن أعتبر أن هذه صلاة نافلة، ثم أصلى نفس ا
الجواب
يجوز لك أن تصلى فى المنزل إماما والدتك وأخوتك. . . وقد سقطت عنك الفريضة بهذه الصلاة وإذا صليتها فى جماعة كانت الثانية نافلة لك، فهى صلاه معادة.
والدليل ما رواه الترمذى وأبو داود والنسائى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجلين: " إذا صليتهما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ".
قال ابن عبد البر: قال جمهور الفقهاء: إنما يعيد الصلاة مع الإمام فى جماعة من صلى وحده فى بيته أو فى غير بيته وأما من صلى فى جماعة وإن قلت فلا يعيد فى أخرى قلت أو كثرت، وممن قال بهذا مالك وأبو حنيفة والشافعى وأصحابهم، ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: " لا نصلِّى صلاة فى يوم مر بن حنبل بالجواز لأنها سنة، وردَّ على هذا الحديث بأن المنع إذا صلاها مرة ثانية على أنها فريضة أما صل فجائز لأن الحديث الأول جعلها نافلة.
وفى لفظ لأبى داود: " إذا صلى أحدكم فى رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة " وروى مسلم عن أبى ذر حديثا فيه " كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها "؟ وفيه فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة ".
والحديث صريح فى أن الصلاة المعادة تكون نافلة والأولى هى الفريضة، بصرف النظر عن كون الأولى جماعة أو وأخرج الترمذى وحسنه وابن حبان والحاكم والبيهقى عن أبى سعيد قال:
صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل رجل فقام يصلى الظهر فقال " ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى نيل الأوطار للشوكانى ج 3 ص 99 وراجع أيضا تفسير القرطبى (ج 1 ص 1 35) .
وهناك شروط لجواز إعادة الصلاة فيها اختلاف بين الفقهاء يمكن الرجوع إليها فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة منها مثلا عند الشافعية أن تكون الصلاة الثانية كلها فى جماعة وألا ينفرد وقت الإحرام بالصلاة الثانية عن الصف مع إمكان دخوله فيه فإن انفرد فلا تصح الإعادة وعند المالكية مثلا أن يصلى الثانية مأموما وليس إماما لمن لم يصل هذه الصلاة(9/163)
الصلاة التى لا تنهى عن الفحشاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك حديث معناه أنه لا خير فى الصلاة ما لم تنه عن الفحشاء والمنكر وإذا كان هذا صحيحا فهل يترك الشبان الصلاة لأنهم لا يستطيعون عصمة أنفسهم من المنكرات، أم الأفضل أن يصلوا حتى لو كانوا يرتكبون المعاصى؟
الجواب
قال الله تعالى: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} إن الصلاة إذا وقعت تامة ومعها خشوع صحيح ملأت قلب صاحبها نورا وأورثته الخوف من الله فلا يقع فى المعاصى وإن عصى بادر بالتوبة والله سبحانه بفضله لا يضيع كل ثوابها إذا خلت من الخشوع، ولكن أثرها فى تربية السلوك يكون ضيفا، وعلى قدر ما يكون فيها من خشوع يكون الثواب، ويكون الأثر فى السلوك. وعلى كل مصلٍّ أن يجتهد فى أداء الصلاة بعيدا عن الرياء والشواغل التى تصرف عقله وقلبه عن الإحساس بجلال الموقف مع الله. ولكل مجتهد نصيب.
ولا يجوز أبدا لمن يصلى ويعصى الله أن يترك الصلاة لأنها لم تؤثر فى تقويم سلوكه، فالصلاة واجبة وترك المعاصى واجب، وعلى كل إنسان أن يجتهد فى أداء هذين الواجبين، ولعل المحافظة على الصلاة تؤدى إلى الخشوع فيها وبالتالى إلى ترك المعاصى، وكل شىء بالتدريب والتمرين يمكن أن يتم على الوجه المطلوب، والله سبحانه يقول {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} التوبة: 102.
هذا، وهناك قول مأثور يقول "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا" ويمكن أن يكون معناه صحيحا وروى على أنه حديث مرسل صحيح إلى الحسن البصرى، رواه الطبرانى من قول ابن مسعود بإسناد صحيح وليس مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومهما يكن من شىء فهو حث على إتقان الصلاة والمحافظة عليها وعلى ربط العبادة بالسلوك ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. "راجع ص 555 من المجلد الأول "(9/164)
إمامة المفضول للفاضل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندما أقيم للصلاة وكان الإمام الراتب غائبا تقدم أحد الناس لإمامة المصلين، وبعد الإحرام للصلاة حضر الإمام وأحس به الإمام فخرج من الصلاة لياخذ الإمام الراتب مكانه فما حكم الدين فى ذلك؟
الجواب
إن صلاة الجماعة تصح خلف من تصح صلاته لنفسه بشرط ألا يكون أنقص من المأمومين بعيب يتجاوز عنه لتعذر إصلاحه، كالألثغ أو الفأفاء الذى لا يحسن القراءة فإن إمامته لا تجوز إلا لمن هو مثله، ولا تجوز للسليم من هذه الحالة.
وإذا كانت هناك سلامة من مثل هذه العيوب فيسن أن يقدم أفضلهم أو أحسنهم، كما صح فى الاحاديث التى منها ما رواه مسلم "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقروهم " ولو خولف ذلك فالصلاة صحيحة، (انظر ص 611 من المجلد الرابع) وبخصوص ما جاء فى السؤال روى البخارى ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بنى عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبى بكر فقال: أتصلى بالناس فأقيم؟ قال: نعم، قال: فصلى أبو بكر فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس فى الصلاة فتخلص حتى وقف فى الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت فى الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله، أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى فى الصف، وتقدم النبى صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف فقال "يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك " فقال أبو بكر: ما كان لابن أبى قحافة أن يصلَّى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما لى رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شىء فى صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء".
وجاء فى "نيل الأوطار للشوكانى ج 4 ص 158 " أن هذا الحديث فيه من العلم أن المشى من صف إلى صف يليه لا يبطل، وأن حمد الله لأمر يحدث والتنبيه بالتسبيح جائزان وأن الاستخلاف فى الصلاة لعذر جائز من طريق الأولى، لأن قصاراه وقوعها بإمامين.
ومن فوائد الحديث جواز كون المرء فى بعض صلاته إماما وفى بعضها مأموما، وجواز رفع اليدين فى الصلاة عند الدعاء والثناء، وجواز الالتفات للحاجة، وجواز مخاطبة المصلى بالإشارة، وجواز الحمد والشكر على الوجاهة فى الدين، وجواز إمامة المفضول للفاضل وجواز العمل القليل فى الصلاة وغير ذلك من الفوائد(9/165)
القراءة فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل استحسن الرسول صلى الله عليه وسلم بعض السور أو آيات من القرآن الكريم فى الصلوات الخمس أو النوافل؟
الجواب
جاء فى كتاب "الأذكار" للنووى: السنة أن تكون السورة-التى بعد الفاتحة - فى الصبح والظهر من طوال المفصل، أى السور الأخيرة من المصحف.
وتبدأ من سورة [ق أو الحجرات] على خلاف بلغ اثنى عشر قولا فى تعبين المفصَّل.
والمفصَّل أقسام منه طوال إلى سورة (عم) وأوساط إلى سورة الضحى، وقصار وهى إلى آخر سورة الناس.
وفى العصر والعشاء أوساط المفصل.
وفى المغرب من قصار المفصل.
والسنة أن يقرأ فى الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة سورة الم (السجدة) وفى الثانية (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) وأن يقرأ فى الركعة الأولى من صلاة الجمعة سورة الجمعة وفى الثانية سوره المنافقون. أو فى الأولى سورة الأعلى وفى الثانية سورة الغاشية.
والسنة أن يقرأ فى ركعتى سنة الفجر فى الأولى {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} البقرة: 136.
إلى آخر الآية، وفى الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء} آل عمران:64، إلى آخر الآية، وإن شاء فى الأولى: {قل يا أيها الكافرون} الكافرون: 1، وفى الثانية {قل هو الله أحد} الإخلاص: 1، فكلاهما صح، ففى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله. يقرأ فى سنة المغرب وركعتى الطواف والاستخارة. فى الأولى {قل يا أيها الكافرون} الكافرون: 1.
وفى الثانية: {قل هو الله أحد} الإخلاص: 1.
وفى الوتر فى الأولى سوره (الأعلى) وفى الثانية سوره (الكافرون) وفى الثالثة {قل هو الله أحد} والمعوذتين.
يقول النووى: وكل الذى ذكرناه جاءت به أحاديث فى الصحيح وغيره مشهورة.
وليكن معلوما أن سنة القراءة تحصل بآية مفهمة أو بعض آيات من أية سورة، ثم هو بالخيار أن يقرأ سورة أو يقرأ بعض السورة، والسورة القصيرة أفضل من آيات يقرؤها من السورة الطويلة.
والسنة أن يقرأ السورة على ترتيب المصحف، ولو خالف هذا جاز مع الكراهة، وقال الحافظ لم أقف على دليل ذلك(9/166)
صلاة الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
متى فرضت صلاة الجمعة وما هو العدد المشروط لصحتها، وهل يشترط لإقامتها وجود مسجد؟
الجواب
الجمعة فيها معنى الاجتماع، والاجتماع لابد فيه من عدد، ويوم الجمعة عيد أسبوعي للمسلمين، كما أن السبت عيد لليهود، والأحد عيد للنصارى، وله 32 خصوصية كما فى زاد المعاد لابن القيم نقل ابن حجر فى الفتح 26 منها.
وقد خص الله المسلمين بفضل هذا اليوم كما جاء فى مسند أحمد عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرت عنده اليهود قال:"إنهم لن يحسدونا على شىء كما يحسدونا على الجمعة التى هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التى هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام اَمين ".
ويوم الجمعة كان يسمى فى الجاهلية يوم العَروبة "بفتح العين " والعروبة معناها الرحمة، وجاء فى "الروض الأنف " للسهيلى على سيرة ابن هشام، ان كعب بن لؤى - أحد أجداد النبى صلى الله عليه وسلم - هو أول من جمَع يوم العروبة ولم تسم العروبة الجمعة إلا منذ جاء الإسلام فى قول بعضهم وقيل: هو أول من سماها الجمعة، فكانت قريش تجتمع إليه فى هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبى صلى الله عليه وسلم ويعلمهم أنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به، وقد ذكر الماوردى هذا الخبر عن كعب فى كتاب الأحكام السلطانية.
وصلاة الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة كما أخرجه الدارقطنى عن ابن عباس رضى الله عنهما، ولم يتمكن النبى صلى الله عليه وسلم من إقامتها بها، وذلك لقلة عدد المسلمين، أو لضعف شوكتهم أمام قوة المشركين، فلما هاجر من هاجر من الصحابة إلى المدينة. كتب إلى مصعب بن عمير - وهو أول من أوفده النبى صلى الله عليه وسلم من مكة مع المسلمين من الأنصار ليعلمهم، ثم قدم بعده عبد الله بن أم مكثوم -: أما بعد فانظر اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين.
وعلى هذا يكون مصعب أول من صلى بهم الجمعة فى المدينة، وكان عددهم اثنى عشر رجلا، كما فى حديث الطبرانى عن أبى مسعود الأنصارى، وهذا الحديث ضعيف.
وهناك قول آخر بأن أول من جمع بهم هو أبو أمامة أسعد بن زرارة الذى نزل عليه مصعب بن عمير، يقول عبد الرحمن بن كعب بن مالك - الذى كان يقود أباه كعبا إلى المسجد -: كان أبى إذا توجه لصلاة الجمعة وسمع الأذان استغفر لأبى أمامة، ولما سأله لماذا يستغفر له قال: كان أول من جمع بنا فى المدينة فى هزم النبيت من حرة بنى بياضة فى نقيع يقال له نقيع الخضمات، وكانوا يومئذ أربعين رجلا، والقول بهذا رواه أبو داود وابن حبان وابن ماجه والبيهقى وصححه، وقال ابن حجر: إسناده حسن.
والهزم المكان المطمس من الأرض، والنبيت أبو حشمن اليمن اسمه عمرو بن مالك، وحرة بنى بياضة قربة على ميل من المدينة، وبنو بياضة بطن من الأنصار والنقيع بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مدة فإذا نضب نبت الكلا.
وقد جمع بين الحديثين -على فرض صحة الأول -بأن مصعبا يقال: إنه أول من جمع باعتباره كان إماما للمصلين وبأن أسعد هو أول من جمع لأنه الأمير للقوم، وكان مصعب فى ضيافته فنسب الأمر إليه وبخاصة أنه أطعم المصلين غداء وعشاء كما فى رواية أخرى.
واجتماع المسلمين فى يوم من أيام الأسبوع قيل: كان باجتهادهم قبل أن تفرض عليهم صلاة الجمعة، فقد جاء فى حديث مرسل عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجمعون فيه كل أسبوع وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوما نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلى ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها، وذلك لقلتهم فأنزل الله تعالى فى ذلك {يا أيها الذين امنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع. . .} الجمعة: 9، قال ابن حجر: رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، أى سقط منه الصحابى [يلاحظ أن هذا الحديث يبين قلة عدد المصلين للجمعة فى أول مرة بحيث تكفيهم الشاة غداء وعشاء، أما الحديث الذى فيه استغفار كعب بن مالك لأسعد بن زرارة فيذكر أن عددهم أربعون، وهؤلاء لا تكفيهم الشاة غداء وعشاء، فالظاهر أن رواية حديث ابن سيرين كانت عن أول صلاة، وحديث كعب كان بعد اشتهار صلاة الجمعة وكثرة الحاضرين.
وقيل كان اجتماع المسلمين لصلاة الجمعة بأمر النبى صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه كتابه إلى مصعب بن عمير الذى أخرجه الدارقطنى عن ابن عباس.
ولما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم نزل "قباء" عند بنى عمرو بن عوف، ثم توجه إلى المدينة يوم جمعة فأدركته صلاتها فى بنى سالم بن عوف، فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى وسمى مسجد الجمعة وهى أول جمعة صلاها بأصحابه وكانوا مائة وقيل أربعون "الزرقانى 7/ 382" وأول خطبة خطبها بالمدينة فى المرجع المذكور نقلا عن تفسير القرطبى وذكر وجوه محاسنها.
[لعل كل جماعة أسلمت قبل هجرة النبى إليهم كانت تتخذ لها مسجدا خاصا.
هذا فى تاريخ التشريع لصلاة الجمعة، أما العدد المشروط لإقامتها ففيه أقوال كثيرة، أوصلها الحافظ ابن حجر فى "فتح البارى" إلى خمسة عشر قولا، ونقلها الشوكانى فى نيل الأوطار وعلَّق عليها، وفيما يلى تلخيص لذلك.
القول الأول -تصح بواحد، ولا دليل عليه، وهو لا يتفق مع معنى الاجتماع الموجود فى الجمعة، نقله ابن حزم، وحكاه الدارمى عن الكاشانى.
القول الثانى - تصح باثنين، إمام ومأموم، لأن العدد واجب بالحديث والإجماع، ولم يثبت دليل على اشتراط عدد مخصوص، فتقاس على صلاة الجماعة، حيث تصح باثنين، فقد صح عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: بت عند خالتى ميمونة-أم المؤمنين - رضى الله عنها، فقام النبى صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل، فقمت أصلى معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسى وأقامنى عن يمينه، رواه الجماعة، وفى لفظ: صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر، وقمت إلى جنبه عن يساره فأقامنى عن يمينه، قال: وأنا يومئذ ابن عشر سنين. رواه أحمد.
والشوكانى يرجح هذا القول.، وهو قول النخعى وأهل الظاهر.
القول الثالث -تصح باثنين غير الإمام، ودليله أن العدد واجب كالجماعة، وشرط العدد فى المأمومين المستمعين للخطبة، وأقل عدد يحصل به الاجتماع هو اثنان. وهو قول أبى يوسف ومحمد بن الحسن صاحبى أبى حنيفة.
القول الرابع -تصح بثلاثة والإمام رابعهم ومستنده حديث أم عبد الله الدوسية الذى أخرجه الطبرانى وابن عدى عنها مرفوعا "الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة" وفى رواية "وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم الإمام " وقد ضعَّفه الطبرانى وابن عدى، وهو قول أبى حنيفة، وحكى عن الأوزاعى وأبى ثور، واختاره المزنى والسيوطى وحكاه عن الثورى والليث بن سعد.
القول الخامس - تصح بسبعة ولا مستند له، وحكى عن عكرمة.
القول السادس -تصح بتسعة، ولا مستند له أيضا، وحكى عن ربيعة.
القول السابع -: تصح باثنى عشر بما فيهم الإمام، ودليله حديث: كان النبى صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عِير قد قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فأنزل الله تعالى {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما. ..} الجمعة: 11، رواه البخارى ومسلم.
ووجه الاستدلال أن الجمعة صحت بهذا العدد، لكن يرد عليه بأنه دليل على أنها تصح باثنى عشر فما فوقهم، أما إنها لا تصح بأقل من ذلك فلا يدل عليه هذا الدليل.
كما استدل من قال بذلك بحديث الطبرانى عن أبى مسعود الأنصارى: أول من قدم من المهاجرين مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة قبل أن يقدم النبى @ وهم اثنا عشر رجلا لكن هذا الحديث ضعيف، وهو قول ربيعة فى رواية وحكاه الماوردى أيضا عن الزهرى والأوزاعى ومحمد بن الحسن.
القول الثامن -تصح باثنى عشر غير الإمام، أى بثلاثة عشر، ومستنده مستند القول السابع، وهو قول إسحاق.
القول التاسع -تصح بعشرين، ولا مستند له وهو رواية عن مالك.
القول العاشر- تصح بثلاثين، ولا مستند له أيضا وهو رواية أخرى عن مالك.
القول الحادى عشر -تصح بأربعين بما فيهم الإمام، ومستنده حديث أبى داود المتقدم فى أن أسعد بن زرارة أول من جمَّع فى هزم النبيت، وفيه ان عددهم يومئذ كان أربعين رجلا.
ووجه الاستدلال أن الإجماع على اشتراط العدد فى صلاة الجمعة، فلا تصح إلا بعدد ثابت بدليل، وقد ثبت جوازها بأربعين، فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صحيح، وقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "صلوا كما رأيتمونى أصلَّى" قالوا: ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين، لكن أجيب عنه أنه لا دليل فى الحديث على اشتراط الأربعين، بل هو يدل على صحتها بأربعين فمن فوقهم، وأما عدم صحتها بأقل من ذلك فلا يدل عليه هذا الحديث، لأنه واقعة عين، وواقعة العين لا تدل على نفى غيرها، ففى القواعد الأصولية، وقائع الأحوال لا يحتج بها على العموم، فالمعروف أن الجمعة لما فرضت بمكة لم يتمكن النبى صلى الله عليه وسلم من أدائها، فلما هاجر من هاجر كتب إليهم بأدائها، فاتفق أن عددهم إذ ذاك كان أربعين فى رواية الطبرانى عن ابن عباس.
ومن أدلة هذا القول ما أخرجه البيهقى عن ابن مسعود قال: جمعنا النبى صلى الله عليه وسلم وكنت اَخر من أتاه ونحن أربعون رجلا، فقال "إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم " ورد عليه باحتمال أن تكون هذه الواقعة قد قصد بها النبى @ أن يجمع أصحابه ليبشرهم لا ليصلى بهم جمعة، فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد، قال السيوطى: وإيراد البيهقى لهذا الحديث أقوى دليل على أنه لم يجد من الأحاديث ما يدل للمسألة صريحا، وهذا هو قول الشافعية.
القول الثانى عشر- تصح بأربعين غير الإمام، وروى عن الشافعى أيضا،، وبه قال عمر بن عبد العزيز، ولعل دليله هو دليل القول السابق.
القول الثالث عشر-تصح بخمسين، ومستنده حديث الطبرانى مرفوعا "الجمعة على الخمسين رجلا، وليس على ما دون الخمسين جمعة"وقد ضعَّفه السيوطى، ومع ضعفه محتمل للتأويل،لأن ظاهره أن هذه العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة، وهو قول أحمد بن حنبل، وفى رواية عن عمر بن عبد العزيز.
القول الرابع عشر-تصح بثمانين ولا مستند له.
القول الخامس عشر - تصح بجمع كبير بغير قيد، ومستنده أن الجمعة شعار، وهو لا يحصل إلا بكثرة تغيظ أعداء المسلمين، ونوقش ذلك بأن كونها شعارا لا يستلزم أن ينتفى وجوبها بانتفاء العدد الذى يحصل به ذلك.
على أن طلبها من العباد كتابا وسنة مطلق عن الشعار، فما الدليل على اعتباره؟ وكتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير فى نظر يوم اليهود.
. . غاية ما فيه ان ذلك سبب أصل المشروعية، وليس فيه أنه معتبر فى الوجوب، فلا يصح التمسك به لاعتبار عدد يحصل به الشعار، وإلا لزم قصر مشروعيتها على بلد يشارك المسلمين فى سكنه اليهود، وأنه باطل - انتهى.
لكن هذه المناقشة غير واردة لأن الشأن فى الجمعة أنها شعار وإن لم ينص عليه، ولا يشترط فى الشعار وجود يهود مع المسلمين، فقد يزول السبب ويبقى الحكم كالرمل فى الأشواط الأولى فى الطواف لإظهار أن بالمسلمين قوة تدحض زعم المشركين أن المدينة أصابتهم بوبائها، وبقى الرمل مسنونا إلى عهدنا هذا مع انتقاء السبب الأول فى مشروعيته، وهذا القول حكاه السيوطى عن مالك، قال الحافظ ابن حجر: ولعل هنا الأخير ارجحها من حيث الدليل.
هذه هى الأقوال فى اعتبار العدد الذى تنعقد به الجمعة، وقد رأيت أن بعض الأئمة كمالك حكيت عنه عدة روايات فى هذا الصدد، وأن بعضها ليس له دليل والبعض الآخر دليله مناقش غير مسلَّم تماما.
وأرى انعقادها بأى عدد يوجد، محافظة على الشعيرة، وكلما كان العدد كبيرا كان أفضل وبخاصة إذا كان هناك مخالفون لنا فى الدين، ففى انعقادها بالعدد الكبير إظهار لاهتمام المسلمين بالعبادة وتقوية الروح الجماعية، وإعطاء مظهر رائع له تأثيره النفسى على من يشاهد هذا الجمع الكبير، فى صلاته المنظمة ووحدته الروحية القوية.
قال الشوكانى بعد عرض الأقوال السابقة ومناقشة أدلتها: إن الاجتماع هو لذكر الله وشكره، وهو حاصل بالقليل والكثير، بل من الواحد لولا ما قدمناه من أن الجمعة يعتبر فيها الاجتماع، وهو لا يحصل بواحد، وأما الاثنان فبانضمام أحدهما إلى الاَخر يحصل الاجتماع، وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما فقال " الاثنان فما فوقهما جماعة" كما تقدم فى أبواب الجماعة وقد انعقدت فى زمانه الصلوات بهما بالإجماع، والجمعة صلاة، فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر فى غيرها، وقد قال عبد الحق: إنه لا يثبت فى عدد الجمعة حديث وكذلك قال السيوطى: لم يثبت فى شىء من الأحاديث تعبين عدد مخصوص - انتهى.
انظر: الحاوى للفتاوى للسيوطى: نيل الأوطار للشوكانى، فتح البارى لابن حجر، والروض الأنف للسهيلى.
أما مكان صلاه الجمعة فقال فيه أبو حنيفة: الجمعة لا تقام إلا فى المدن دون القرى والدليل ما روى عن على مرفوعا "ولا جمعة ولا تشريق إلا فى مصر جامع " وقد ضعف أحمد رفع هذا الحديث، وصحح ابن حزم وقفه، وللاجتهاد فيه مجال فلا ينتهض للاحتجاج به.
وعن ابن عباس: أول جمعة بعد جمعة جمعت فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد عبد القيس بجؤاثى من البحرين، رواه البخارى وأبو داود، وقال: جؤاثى قرية من قرى البحرين وروى ابن أبى شيبة عن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن جمعوا حيثما كنتم،، وهذا يشمل المدن والقرى، وصححه ابن خزيمة وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعتب عليهم ويؤيد عدم اشتراط المدن حديث الدوسية المتقدم فى بيان العدد الذى تصح به الجمعة.
أما المسجد فذهب أبو حنيفة والشافعى وأحمد إلى أنه غير شرط، إذ لم يفصل دليلها ذلك، وهو قوى إن صحت صلاة النبى صلى الله عليه وسلم فى بطن الوادى، وقد رويت صلاته فى بطن الوادى ولو لم يسلم بصحته فإن فعلها فى المسجد لا يدل على اشتراطه.
وجاء فى المجموع للنووى أنه لا يشترط إقامتها فى مسجد، ولكن تجوز فى ساحة مكشوفة بشرط أن تكون داخلة فى القرية أو البلدة معدودة فى خطتها فلو صلاَّها خارج البلدة لن تصح بلا خلاف، سواء كان بقرب البلد أو بعيدا عنها، وسواء صلوها فى ركن أم ساحة.
أما المالكية فذهبوا إلى اشتراط المسجد للوجوب والصحة، أو للصحة فقط، ولا تصح فى براحٍ أحيط بأحجار من غير بناء، لأنه لا يسمى مسجدا، فالمسجد ماله بناء وسقف.
وبناء على ما تقدم فى بيان العدد والمكان لإقامة صلاة الجمعة نرى وجوب الحرص على إقامتها بأى عدد كان لمن وجدوا فى محلة لا يتوفر فيها العدد الكبير، ولا يشترط أن تكون المحلة مستوفية لمقومات القرية أو المدينة، والأرض كلها مسجد(9/167)
الكلام أثناء خطبة الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فيمن قاطع الخطيب على المنبر فى تصحيح حديث نبوى أو آية قرآنية؟
الجواب
من أجل احترام المسجد وتوفير الجو الهادئ للحاضرين فى يوم الجمعة لسماع الخطبة شرع السكوت والإنصات، ونهى عن اللغو والعبث والانصراف عن الخطيب بأى وجه يكون. قال تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} الأعراف: 204، وذلك لاشتمال الخطبة على كثير من القرآن الكريم كما قال بعض المفسرين، وجاء فى الحديث المتفق عليه "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت " ومن لغا فلا جمعة له كما فى حديث أحمد "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا والذى يقول له أنصت ليست له جمعة" والإمام أبو حنيفة كره الكلام تحريما من وقت خروج الإمام من خلوته حتى يفرغ من الخطبة ولا يعترض عليه حتى لو حصل منه لغو بذكر الظلمة، وحرم الحنابلة أى كلام حتى لو كان الخطيب غير عدل، وأجازه المالكية إن حصل منه ما لا يجوز كمدح من لا يستحق المدح، وذم من لا يجوز ذمه، هذا ما قاله الفقهاء.
وقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقطع خطبته إذا وجه إليه سؤال من أحد الحاضرين، فيجيبه إلى خطبته فيتمها، وفى الحديث المتفق عليه أن رجلا طلب منه وهو يخطب الجمعة أن يدعو الله لينزل عليهم المطر فدعا فنزل المطر مدرارا واستمر أسبوعا، فجاء رجل فى الجمعة المقبلة وسأله وهو يخطب الجمعة أن يدعو الله ليمسك المطر حفاظا على الأموال من التلف، فدعا قائلا: اللهم حوالينا ولا علينا، يقول الشوكانى: فى الحديث جواز مكالمة الخطيب حال الخطبة ومعروف أن امرأة اعترضت على عمر وهو يخطب فى المغالاة فى المهور فلم ينهها بل قال: أصابت امرأة وأخطأ عمر، وفى إحدى الجمع قال للناس اسمعوا قولى وأطيعوا أمرى، فرد عليه سلمان: والله لا سمعنا قولك ولا أطعنا أمرك ذلك أنه قسم ثياب الصدقة.
فأصاب كل واحد قطعة صغيرة لا تكمل ثوبا، وظهر عمر أمامهم على المنبر بثوب كامل، فكيف يميز نفسه على بقية الناس؟ فقام ابنه عبد الله وبيَّن أن والده أخذ من نصيبه ليكمِّل به ثوبا يقف به أمام الناس، وهو يخطب، فقال سلمان: الآن قل نسمع وأمر نطع وصح أن عمر اعترض على تأخر بعض الحاضرين إلى الجمعة (مسلم ج 6 ص 130 وما بعدها 164) .
ومن هنا لا نجد مانعا من تصحيح خطأ حدث من الخطيب فى اَيه أو حديث إذا كان المصحح واثقا من ذلك على أن يكون بأسلوب حكيم لا يحدث لغطا ولا تشويشا، وأن يغلب على الظن أن الخطيب يسمع ويستجيب، فإن لم يستجب فلا يجوز الإلحاح فى التصحيح، فلعله لم يسمع، وقد يكون فيه رد فعل سيئ بأى وجه يكون.
ومع جواز ذلك فلعل من الخير أن يرجأ التصحيح حتى ينتهى المصلون من الصلاة، ثم ينبه الخطيب إلى ما أخطأ فيه وهو بدوره ينبغى أن يعلنه للناس، والنقاش الهادى فيه إثراء للمعرفة، وبعد عن التهمة، وتحاش للظنون، وحفاظ على قدسية المسجد وكرامة العلماء(9/168)
الكلام فى المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال " الكلام فى المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب "؟
الجواب
جاء فى كتاب "غذاء الألباب " للسفارينى قوله: وأما ما اشتهر على الألسنة من قوهم إن النبى صلى الله عليه وسلم قال " الحديث فى المسجد- وبعضهم يزيد المباح - يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " فهو كذب لا أصل له.
قال في المختصر: لم يوجد. وذكره القاضى فى موضوعاته كما ذكر العراقى على الإحياء: أنه لا أصل له. لكن روى ابن حبان فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون فى اَخر الزمان قوم يكون حديثهم فى مساجدهم ليس لله فيهم حاجة" وظاهر الحديث أن الكلام فى المسجد أيا كان نوعه ممنوع، لكن المحققين من العلماء قالوا: إنه يجوز فى الأمور المهمة فى الدين والدنيا من كل ما لا حرمة فيه ولا باطل.
وقد رأى الإمام النووى جواز الحديث العادى وإن صحبه ضحك خفيف، لما رواه مسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاة الذى صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام. وقال: كانوا يتحدثون فيأخذون فى أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم.
وفى رواية احمد عن جابر: شهدت النبى صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فى المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما يبتسم معهم، وهو حديث صحيح "نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 166 ".
فالحديث الممنوع هو الباطل الذى يشوش على المصلين، أو الذى يذهب بكرامة المسجد إذا تناوله جماعة فى شكل حلقات كما نص عليه.
وقد أذن @ لحسان بن ثابت أن يقول الشعر فى المسجد ليرد على الكافرين ما يسترونه من كذب على الله ورسوله كما ثبت فى الصحيحين.
وعليه فالكلام المباح غير محرَّم فى المساجد، وإن كنا ننصح بأن يكون فى أضيق الحدود.. . وليكن شغل الجالسين فيها ذكر الله والعبادة فذلك ما بنيت له المساجد(9/169)
تعمير المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المقصود بعمارة المساجد؟
الجواب
عمارة المساجد يقصد بها إقامتها وتهيئتها بالنظافة والخدمة وغيرها لأداء العبادة، كما قال سبحانه: {فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} النور: 36.
وقد كان العرب يعمرون المسجد الحرام بالخدمة والسقاية والحجابة ويعتقدون أنها أفضل من الإيمان برسالة محمدصلى الله عليه وسلم.
{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر وجاهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين} التوبة: 19.
وهذه عمارة فى المبنى، وقد وردت فيها أحاديث كثيرة ترغب فيها.
أما عمارة المعنى فتكون بالتردد عليها وإقامة الجماعات والجمع والاعتكاف فيها، وغير ذلك من الأنشطة الدينية، كما قال تعالى {إنما يعمر مساجد الله من امن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وانى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسف أونئك أن يكونوا من المهغدين} التوبة: 18.
وقد نهى الإسلام عن تخريب المساجد إما بهدمها وإما بإغلاقها حتى لا تقام فيها إبشعائر، وإما بإهمال نظافتها. قال تعالى {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعئ فى خرابها} البقرة: 114.
وفى الحديث: للأ ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها، فمن بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا فى الجنة، وإخراج القمامة منها مهور الحور العين " رواه الطبرانى.
والتخريب للمساجد بمعنييه المادى والأدبى أشار إليه القرطبى فى تفسيره فقال: خراب المساجد قد يكون حقيقيا كتخريب بختنصَّر والنصارى بيت المقدس، ويكون مجازا كمنع المشركين للمسلمين حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام.
وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها (ج 2 ص 77)(9/170)
الجمع بين الصلاتين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
متى يجوز جمع الصلوات! وكيف تؤدى؟
الجواب
لا يجوز جمع الصلوات كلها فى وقت واحد، وإنما الجائز هو جمع صل! الظهر مع العصر فقط، وجمع صلاة المغرب مع العشاء فقط، تقديما فى وقت الأولى منهما أو تأخيرا نى وقت الثانية منهما.
وذلك يكون بسبب السفر الطويل كما يكون الجمع فى يوم عرفة للحجاج، حيث يصلون الظهر مع العصر فى وقت الظهرتقديما، وحيث يصلون المغرب مع العشاء فى المزدلفة تأخيرا.
وإذا أراد تأخير الظهر ليصليها مع العصر نوى فى وقت الظهر أنه يؤخرها، حتى لا يكون تأخيره لها إهمالا أو سهوا، وإذا أراد تقديم العصر ليصليها مع الظهر نوى فى قلبه وهو يصلى الظهر انه سيجمع معها العصر، كما قال الشافعية. (انظر ص 423 من المجلد الثالث من هذه الفتاوى) .
وعند الشافعية لو أراد المسافر تأخير صلاة الظهر مثلا ليجمعها مع العصر يشترط أن يكون السفر موجودا فى وقت صلاة العصر أيضا أما لو انتهى السفر قبل انتهاء صلاة العصر كانت صلاة الظهر قضاء، ويقال مثل ذلك فى المغرب والعشاء (انظر الفقه على المذاهب الأربعة طبع لزارة الأوقاف)(9/171)
عند وفاة الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ماذا يفعل المصلون خلف الإمام إذا توفى أثناء الصلاة؟
الجواب
إذا توفى الإمام أثناء الصلاة كان حكمه حكم من انتقض وضوءه ووجب على المأمومين أن يتموا صلاتهم إما فرادى وإما بأن يتقدم أحدهم ليكمل الصلاة جماعة، ولا يجوز لهم قطع الصلاة والخروج منها، فإنهم لن يستطيعوا أن يردوا إليه روحه وذلك بخلاف ما إذا كان هناك خطر يهدد حياة المصلى فإنه يجوز له أن يخرج من الصلاة(9/172)
خطبة الجمعة وخطبة العيد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن تكون خطبة العيد كخطبة الجمعة؟
الجواب
الفرق بين خطبة الجمعة وخطبة العيد، أن خطبة الجمعة ركن، أما خطبة العيد فسنة. وخطبة الجمعة تكون قبل الصلاة، وخطبة العيد بعدها، وخطبة العيد يسن افتتاحها بالتكبير. أما خطبة الجمعة فلا، وخطبة العيد يندب لمن استمع إليها أن يكبِّر عند تكبير الخطيب، أما خطبة الجمعة فيحرم الكلام فى أثنائها، وخطبة الجمعة يشترط لها الطهارة وستر العورة بخلاف خطبة العيد على خلاف للفقهاء فى ذلك(9/173)
لماذا فرضت صلاة الصبح مبكرة؟
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا فرض الله سبحانه وتعالى على الناس صلاة الصبح فى وقت قد لا يستطيع كل الناس أداءها فيه نظرا لاختلافهم فى حالات توقيت العمل فى الصباح، وعدد ساعات النوم التى لا يستطيع كل إنسان التحكم فيها؟
الجواب
الله سبحانه له حكمة فى توزيع الصلوات على الأوقات المعروفة فلا بد من المحافظة على ذلك حتى لو لم نفهم الحكمة، فالأمر قائم على الاتباع، ففى الحديث "صلوا كما رأيتمونى أصلى" وقد عين جبريل للرسول عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة، بعد أن فرضت عليه ليلة الإسراء، وحدد له أول الوقت وآخره، وقال له: " الوقت ما بين هذين الوقتين ".
ولعل الحكمة فى تضييق وقت صلاة الصبح هى الحرص على البكور واستئناف النشاط اليومى من أول النهار، فقد أجمع ذوو الاختصاص على أن الساعات الأولى من النهار فيها خير كبير للإنتاج الذهنى والبدنى، والرسول دعا أن يبارك الله لأمته فى البكور.
وقال بعض المفكرين إن صلاة الصبح تؤدى بعد راحة طويلة بالنوم بالليل، ومع ذلك جعلها الله ركعتين ولم يجعلها أربعا أو أكثر، وذلك للسرعة فى استئناف العمل من أجل الرزق والمهمات الأخرى.
وقد كره العلماء السهر الطويل بعد العشاء لغير حاجة وذلك من أجل راحة الجسم بالنوم وعدم فوات صلاة الصبح التى قال الله فيها: {إن قراَن الفجر كان مشهودا} الإسراء: 78.
وإذا كانت هناك قلة من الناس يعملون بالليل فيتعرضون لضياع صلاة الصبح، فإن القلة لا تحكم على الكثرة ومع ذلك فمن الممكن أن تنظم أوقات العمل حتى لا يضيع أى فرض من فروض الصلاة ليلا أو نهارا.
وفى الصحيحين أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ".
وفى الصحيحين أيضا أن رجلا ذُكِر عند النبى صلى الله عليه وسلم فقيل: ما زال نائما حتى أصبح ما قام إلى الصلاة، فقال "ذاك رجل بال الشيطان فى أذنه "(9/174)
حكمة مشروعية الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو السر فى تكليف الله لنا بالصلاة أكثر من مرة فى اليوم والليلة، الأمر الذى يشغلنا عن الكفاح لطلب الرزق والاستمتاع الكامل بالحياة؟
الجواب
على ضوء الحكمة العامة للتشريع وهى ربط المخلوق بالخالق، وإعداده لحمل الأمانة وتحقيق الخلافة يمكن أن تظهر حكمة التشريع فى الصلاة التى هى أفضل العبادات وأقواها أثرا فى إظهار العبودية لله، وفى إعداد الشخص نفسيا وخلقيا وتهيئته لحياة سعيدة كريمة. وقد ورد فى بيان سرها ومغزاها آيتان كريمتان هما قوله تعالى {وأقم الصلاة لذكرى} طه: 14، وقوله {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت:45.
وعلى ضوء الحكمة العامة للتشريع يمكن بيان بعض أسرارها فيما يلى:
1 - الصلاة فيها ذكر لله يربط المخلوق بالخالق، فالمصلِّى يدخل صلاته بالتكبير لله، الذى يشعر بالوحدانية المطلقة والإقرار بسلطان الله الواسع وعزته البالغة، وهو فى الفاتحة يحمده ويثنى عليه بمحامد الصفات ويقر له وحده بالعبادة ويطلب منه وحده المعونة والهداية إلى الصراط المستقيم وهو يركع خاضعا ويسجد خاشعا ويوحده متشهدا.
وفيما بين ذلك يقرأ ويدعو ويسبِّح ويكبِّر. وكل ذلك مظاهر واضحة لربط المصلى بربه. يقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه " قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله:
حمدنى عبدى. وإذا قالى: الرحمن الرحيم قال أثنى علىَّ عبدى، وإذا قال: مالك يوم الدين قال: مجِّدنى عبدى، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، قال هذا لعبدى ولعبدى ما سأل " رواه مسلم.
ومن أجل قوة هذا الرباط الروحى كانت م الصلاة من أكبر ما يكفِّر الذنوب، على ما جاء فى قوله تعالى {وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} هود: 114، وكما قال صلى الله عليه وسلم " أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شىء؟ " قالوا لا يبقى من درنه شىء قال " فكذلك الصلوات الخمس يصححه يمحو الله بهن الخطايا " رواة البخارى ومسلم.
2- الصلاة فيها إشراق للروح وتطهير للقلب، وأنس بالله وطمائنينة للنفس بمناجاة تذهب اللهم وتفسح الصدر بالأمل، وتبعده عن العقد النفسية، وتقوى العزيمة على العمل، ولهذا كانت ملجأ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يحزبه أمر أو يهمه موضوع. ففى الحديث: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أو حزنه أمر فزع إلى الصلاة، رواة أحمد. وجاء عنه قوله "وجُعلت قُرة عينى فى الصلاة" رواه النسائى والطبرانى والضحاك وصححه، وقال الحافظ: إسناده جيد.
وفى الصلاة تصفية للنفس من الكبر والغرور، بالذلة لله والضراعة وطأطأة رأسه التى طالما ارتفعت على الناس، ولمس التراب بأشرف شىء فى الإنسان تواضعا وخضوعا لخالق هذه الأعضاء.
والصلاة بما اشتملت عليه من أقوال وأفعال تعوَّد الإنسان أن يقرن العلم بالعمل، وألا يقتصر فى حياته على العلم بالحقائق، بل لابد من تطبيقها والإفادة منها فى الحياة، ويبدو ذلك واضحا فى الركوع والسجود، اللذين هما تطبيق عملى للإقرار بعظمة الله ووحدانيته ولطلب المعونة والهداية منه، فهما يشعران بذلة الإنسان وتواضعه واحتياجه لربه.
وفى الصلاة تقوية لعامل الخوف من الله يدعو إلى-الإخلاص فى العمل، وإلى مراقبته فى جميع الشئون، وفى الصلاة أيضا تمرين على النظام فى الحياة العامة، بما فيها من ضبط لأوقاتها وتنسيق لأداء أركانها، وترتيب الإنسان لمواعيد نومه، ويقظته واعماله الأخرى.
بحيث يساعد هذا الترتيب على أداء الصلوات فى أوقاتها المحدودة لها، كما أن الصلاة تعوَّد النظافة بما اشترط لها من طهارة، وفى حركاتها المختلفة رياضة تفوق التمرينات التى يحرص عليها كثير من الناس، ذلك لأنها تجمع إلى رياضة الجسم رياضة الروح بالذكر والدعاء.
3-الصلاة تصقل نفس صاحبها وترقق قلبه وترهف حسه وتهذَّب غرائزه فيخرج منها ليعامل الناس بعفة اللسان ولين الكلام وخفض الجناح ورحمة الضعفاء ومواساة المحتاجين، ويؤيد فائدتها فى الميدان الاجتماعى النعى على الذين يصلون ولا يفيدون من صلاتهم، بل يخرجون منها ولا تمتد أيديهم بالخير إلى الناس، لأنهم دخلوها رياء لا قلب يخشى ولا عقل يفهم، قال تعالى {فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} الماعون: 4 - 7.
والصلاة الكاملة الخاشعة تنأى بالإنسان عن اقتراف المنكر وإتيان الفواحش، سواء أكان ذلك بينه وبين نفسه أم بينه وبين الناس، يدل على ذلك قوله تعالى {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت: 45، وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها قال "هى فى النار" رواه أحمد والبزار وابن حبان فى صحيحه والحاكم وصححه، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قال الله عز وجل: إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتى، ولم يستطل على خلقى، ولم يبت مصرًّا على معصيتى، وقطع النهار فى ذكرى ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتى وأستحفظه ملائكتى، وأجعل له فى الظلمة نور، وفى الجهالة حلما، ومثله فى خلقى مثل الفردوس فى الجنة" رواه البزار من رواية عبد الله بن واقد الحرانى وبقية رواته ثقات.
وفى الصلاة مع الجماعة تطبيق عملى للديمقراطية السلوكية، بما فيها من مساواة وتعويد لطاعة الرؤساء وتمرين على النظام بربط حركات المأمومين بحركات الإمام وبتسوية الصفوف وسد الفرج بين المصلين، وفيها دعوة عملية للاتحاد والتعاون، وفرصة للتجمع والتعارف وما ينشأ عن ذلك من تبادل الآراء والمنافع وحل المشكلات وتقوية رابطة الألفة والمحبة بين الناس.
هذا، ولن تثمر الصلاة ثمرتها المطلوبة إلا إذا أديت بخشوع يقوم على حضور القلب وتفرغه مما سوى الصلاة، وعلى تفهم ما يقول المصلى ويفعله، وعلى استشعاره لعظمة الله وهيبته مع رجاء ثوابه وخشية عقابه ومع حياء يشعر معه بالقصور عن أداء ما يجب لله المعبود وحده بحق وصاحب النعم كلها {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} الأعراف: 54، قال تعالى فى مدح المؤمنين المفلحين {الذين هم فى صلاتهم خاشعون} المؤمنون: 3، وفى نهيه عن الغفلة فيها بتعاطى أسبابها {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} النساء: 43.
ولما كانت الصلاة بهذه المنزلة التربوية العظيمة كانت أهم أركان الإسلام وأفضلها يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "لا دين لمن لا صلاة له إنما موضع الصلاة من الدين موضع الرأس من الجسد" رواه الطبرانى ومن هنا جاءت فارقا بين المسلم والكافر كما ورد فى الحديث الصحيح "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم وأصحاب السنن بألفاظ متقاربة.
ولم يتسامح فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، كما تسامح فى غيرها من التكاليف لمن أراد الدخول فى الإسلام فنعدما جاء إليه وفد ثقيف اشترطوا عليه ألا يخرجوا للجهاد ولا تؤخذ منهم زكاة، ولا يجتمعوا للصلاة ولا يول عليهم أحد من غيرهم، فأجابهم إلى طلبهم مبدئيا ما عدا الصلاة، حيث قال "لكم ألا تحشروا - للجهاد - ولا تعشروا- بأخذ العشر للزكاة - ولا يستعلى عليكم غيركم لا خير فى دين لا ركوع فيه " رواه أحمد. ولما كان للصلاة أثرها القوى فى تثبيت الإيمان فى القلوب وفى تقويم السلوك قال النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن هؤلاء "إنهم سيصدقون ويجاهدون " كما جاء فى رواية ابى داود أى أن الصلاة ستحملهم على عمل الخير الذى كانوا قد رغبوا عنه.
بهذا العرض لحكمة مشروعية الصلاة يتضح للمؤمن أنها لمصلحته هو، فالله غنى عن عبادتنا وأن أية فائدة لا تأتي الا ببذل جهد مهما كانت درجته، وبمقارنة الثمرات الطيبة التى تخم عن الصلاة بما يتكلفه الإنسان من جهد تنشط نفسه للمحافظة عليها وتأبى التقصير فيها. ويحس بأنها غنم لا غرم، فالجلسة فى روضة مع الحبيب ليست كوقفة أمام محقق فى تهمة أو دفع غرامة(9/175)
ألفاظ الأذان والإقامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعت بعض المؤذنين يقول فى أول الأذان " الله اكبر " مرتين فقط كما سمعت بعض من يقيمون للصلاة يقول "أشهد أن لا إله إلا الله " مرتين وكذلك بقية الكلمات فهل هذا صحيح؟ وهل المؤذن هو الذى يقيم؟ ومتى يقوم الناس للصلاة عند الإقامة؟
الجواب
معلوم أن الأذان الذى هو الإعلام بدخول وقت الصلاة سنة، وكذلك الإقامة لاستنهاض الحاضرين لأداء الصلاة سنة أيضا.
وألفاظ الأذان هى: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله. حى على الصلاة. حى على الفلاح. الله أكبر. لا إله إلا الله. ويمكن أن تؤدى بإحدى كيفيات ثلاث هى:
الأولى - تربيع التكبير الأول (أى يقال أربع مرات) وتثنية باقى الكلمات (أى تقال مرتين) بلا ترجيع، أى قول اشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله سرًّا قبل الجهر بهما، ما عدا كلمة التوحيد وهى الأخيرة فتقال مرة واحدة فيكون عدد الكلمات خمس عشرة كلمة، كما جاء فى حديث عبد الله بن زيد الذى رواه أحمد وأبو داود والترمذى وقال: حسن صحيح.
الثانية - تربيع التكبير الأول، مع ترجيع الشهادتين (كل شهادة مرتين سرا) والباقى كالكيفية الأولى، فيكون عدد الكلمات تسع عشرة كلمة، كما جاء فى حديث أبى محذورة الذى رواه الخمسة أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذى: حسن صحيح.
الثالثة: - تثنية التكبير الأول مع ترجيع الشهادتين، والباقى كالكيفية الأولى، فيكون عدد الكلمات سبع عشرة كلمة، كما جاء فى حديث أبى محذورة الذى رواه مسلم.
وألفاظ الإقامة هى ألفاظ الأذان بزيادة "قد قامت الصلاة" قبل التكبير الأخير ويمكن أن تؤدى بكيفيات ثلاثة هى:
الأولى-تربيع التكبير الأول مع تثنية جميع كلماتها، ما عدا الكلمة الأخيرة وهى كلمة التوحيد فيكون عدد الكلمات سبع عشرة كلمة، كما جاء فى حديث أبى محذورة الذى رواه الخمسة وصححه الترمذى.
الثانية - تثنية التكبير الأول والأخير وقد قامت الصلاة، وإفراد سائر الكلمات فيكون عددها إحدى عشرة كلمة، كما فى حديث عبد الله بن زيد المتقدم وفيه "ثم تقول إذا أقمت: الله اكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، اشهد أن محمدا رسول الله، حى على الصلاة، حى على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله اكبر الله أكبر، لا إله إلا الله ".
الثالثة-هذه الكيفية كالكيفية الثانية ما عدا كلمة "قد قامت الصلاة" فتقال مرة واحدة فيكون عدد الكلمات عشر كلمات. وقد أخذ مالك بهذه الكيفية لأنها عمل أهل المدينة، وإن لم يصح عن الرسول إفراد كلمة "قد قامت الصلاة" كما قال ابن القيم. من هذا العرض نرى أن كيفيات الأذان والإقامة مختلفة، وكلها صحيحة ولا داعى للتعصب لأية كيفية.
أما كون المؤذن هو المقيم فلم يرد فيه حديث، فيجوز أن يقيم المؤذن وأن يقيم غيره، وذلك باتفاق العلماء لكن الأولى أن يتولى المؤذن الإقامة. قال الشافعى: وإذا أذن الرجل أحببت أن يتولى الإقامة، وقال الترمذى والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم. ويمكن الرجوع إلى صفحة 681 من المجلد الثالث من هذه الفتاوى ففيه توضيح لهذه المسألة.
وإذا سمع الناس الإقامة للصلاة متى يقومون إليها؟ قال النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 5ص 103، اختلف العلماء من السلف فمن بعدهم متى يقوم الناس للصلاة ومتى يكبِّر الإمام، فمذهب الشافعى رحمه الله تعالى وطائفة انه يستحب ألا يقوم أحد حتى يفرغ المؤذن من الإقامة ونقل القاضى عياض عن مالك رحمه الله تعالى وعامة العلماء أنه يستحب أن يقوموا إذا أخذ المؤذن فى الإقامة وكان أنس رحمه الله تعالى يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، وبه قال أحمد رحمه الله تعالى، وقال أبو حنيفة والكوفيون يقومون فى الصف إذا قال حى على الصلاة فإذا قال: قد قامت الصلاة كبِّر الإمام.
وقال جمهور العلماء من السلف والخلف: لا يكبر الإمام حتى يفرغ المؤذن من الإقامة(9/176)
وضع الأصابع على الأذنين فى الأذان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يلاحظ أن اكثر المؤذنين يضعون أصابعهم على آذانهم أثناء الأذان فهل هذا سنة؟
الجواب
جاء فى المغنى لابن قدامة وشرحه "ج 1 ص 438" أن المشهور عن أحمد بن حنبل أن المؤذن يجعل إصبعه فى أذنيه، وعليه العمل عند أهل العلم وهو مستحب قال الترمذى لما روى أبو جحيفة أن بلالا أذن ووضع إصبعيه فى أذنيه، متفق عليه، وعن سعد مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يجعل إصبعيه فى أذنيه قال "إنه أرفع لصوتك ".
وروى أبو طالب عن أحمد أنه قال: أحب إلىَّ أن يجعل يديه على أذنيه، لحديث أبى محذورة وضم أصابعه الأربع ووضعها على أذنيه، وحكى أبو حفص عن ابن بطة قال:
سألت أبا القاسم الخرقى عن صفة ذلك فأرانيه بيديه جميعا فضم أصابعه على راحتيه ووضعهما على أذنيه واحتج لذلك القاضى بما روى أبو حفص بإسناده عن ابن عمر أنه كان إذا بعث مؤذنا يقول له: اضمم أصابعك مع كفيك، واجعلهما مضمومة على أذنيك، وبما روى الإمام أحمد عن أبى محذوفي أنه كان يضم أصابعه، والأول أصح لصحة الحديث وشهرته وعمل أهل العلم به وأيهما فعل، فحسن وإن ترك الكل فلا بأس. انتهى.
هذا ما جاء فى المغنى عن استحباب وضع الإصبعين فى الأذنين أو وضع الأصابع الأربع كلها على الأذنين وكما قال ابن قدامة: وضع الإصبعين فى الأذنين هو الأصح والحكمة فى ذلك -كما ذكر فى الحديث - أنه أرفع للصوت: والعلاقة بين الصوت وسد الأذنين بالإصبعين تحتاج إلى تأصيل من المختصين. - إن الموضوع لا يحتاج أكثر من هذا، ولا ينبغى الجدل فيه كما ختم ابن قدامة به الإجابة: أيهما فعل فحسن وإن ترك الكل فلا بأس(9/177)
أذان المرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تؤذن للصلاة إذا كانت الجماعة من النساء؟
الجواب
يكره للمرأة رفع صوتها بالأذان إذا سمعه رجل أجنبى، فإن كانت تؤذن لنساء فلا مانع بحيث لا يسمعه أجنبى، وكذلك لو أذنت لنفسها، جاء فى المغنى لابن قدامة "ج 1 ص 437" أنه لا خلاف فى أنه لا أذان ولا إقامة على المرأة، لكن هل يسن لها ذلك؟ قال أحمد: إن فعلن فلا بأس وان لم يفعلن فجائز، وعن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم كما رواه البيهقى وقد مر فى صفحة 428 من المجلد الأول من هذه الفتاوى أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل لأم روقة مؤذنا وأباح لها أن تؤم أهل بيتها(9/178)
الأذان المسجل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز فى صلاة الجماعة الاكتفاء بالأذان المسجل على شريط أو المذاع بأجهزة الإذاعة أم لابد من قيام أحد برفع الأذان؟
الجواب
لا يكتفى بالأذان المسجل أو المذاع فإن المسلمين مطالبون به كما صح فى قول النبى صلى الله عليه وسلم "إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أقرؤكما" رواه البخارى ومسلم. والأذان سنة مؤكدة كما رآه أبو حنيفة والشافعى. وقال أبو بكر بن عبد العزيز: هو من فروض الكفاية وهو قول أكثر أصحاب أحمد بن حنبل وقول بعض أصحاب مالك. ويدل علي فرضيته أمر النبى صلى الله عليه وسلم به كما سبق ومداومته هو وخلفاؤه عليه والأمر هنا للوجوب والمداومة عليه تدل عليه، ولأنه شعار الإسلام "المغنى لابن قدامة ج 1 ص 431 " ومن أوجبه من الحنابلة أوجبه على أهل المصر"، وقال مالك: يجب فى مساجد الجماعة، ويكفى فى العصر أذان واحد إذا كان يسمعهم.
وبهذا يعلم أنه واثب أو سنة بالنسبة للفرد أو بالنسبة للجماعة، ويكره تركه ويأثم من تركه على رأى من يوجبه، ولابد أن يكون من مسلم ولا يكفى إذاعة تسجيله(9/179)
فضل الصلاة فى المسجد البعيد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يوجد بجوار منزلى مسجد صغير، وهناك مسجد آخر كبير يبعد عنه بمسافة نصف كيلو متر، فأى المسجدين يفضل أن أصلى فيه؟
الجواب
لا شك أن الأرض كلها مسجد، فأينما أدركت الإنسان الصلاة صلَّى، وذلك من خصوصيات الأمة الإسلامية كما صح فى الحديث، لكن الصلاة فى المسجد المقام من أجل ذلك أفضل، وذلك لخيرية البقعة نفسها كما جاء فى الحديث الصحيح "خير البقاع فى الأرض المساجد" ولرجاء أن يصلى جماعة، ولتقوية الرابطة الاجتماعية بكثرة من يلتقى بهم الإنسان، مع وجود فرصة لقراءة قرآن أو سماعه أو حضور مجلس علم، وللأمر بعمارة المساجد وفتحها للمصلين وممارسة الشعائر فيها.
وإذا كانت هذه الآثار تترتب على الذهاب إلى مسجد، صغيرا كان أو كبيرا، قريبا من منزله أو من محل عمله أو بعيدا، فإن الفضل يزيد فى المسجد الكبير وذلك لكثرة المصلين معه " روى أحمد وأبو داود والنسائى وابن ماجه وغيرهم عن أُبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى:
وكذلك يزيد الفضل فى المسجد البعيد. . .
ذلك أن خطوات الإنسان من بيته إلى المسجد لها ثوابها كما صح فى الحديث الذى رواه مسلم "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات "؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: "إسباغ الوضوء على المكاره،كثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط. فذلكم الرباط " والحديث الذى رواه مسلم أيضا "من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت الله ليقض فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة" والحديث الذى رواه البخارى ومسلم عن جابر قال: خَلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال لهم " بلغنى أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد"؟ قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال "بنى سلمة، دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم " فقالوا: ما يسرنا أنا كنا تحولنا. والحديث الذى رواه البخارى ومسلم "إن أعظم الناس أجرا فى الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة، حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذى يصليها ثم ينام " هذا، وأرى أن يدخل فى الاعتبار مدى الاستفادة العلمية من خطبة الجمعة أو الدروس الدينية، فيفضل أكثرها فائدة.
لأن المساجد ليست للصلاة فقط. جاء فى " كفاية الأخيار" فى فقه الشافعية أن الجماعة فى القريب أفضل إذا ترتب على الجماعة فى البعيد تعطيل لها فى المسجد القريب، أو كان البعيد إمامه معتزلى أو غيره من المبتدعين والفساق أو مذهبه غير مذهبه(9/180)
رفع الصوت فى الصلاة لطارئ
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى أثناء الصلاة قد يطرق الباب أحد الأشخاص،فهل يجوز للمصلى أن يرفع صوته عند التكبير للركوع أو غيره ليعلم الشخص أن صاحب المنزل موجود فى المنزل؟
الجواب
فى فقه المذاهب الأربعة نشر أوقاف مصر ما يأتى:
قال الحنفية: تبطل الصلاة إذا رفع صوته بالتسبيح أو التهليل يريد - بذلك زجر الغير عن أمر من الأمور، أما إذا رفع صوته بالقراءة قاصًا - الزجر برفع الصوت لا بالقراءة فإن صلاته لا تفسد، وكذلك لو سبَّح - للإعلام بأنه فى الصلاة لا تبطلَ الصلاة.
وقال المالكية: لو استأذن شخص فى الدخول عليه وهو يصلى فأجابه بالتسبيح أو التهليل أو بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإن صلاته لا تبطل بذلك فى أى محل من الصلاة. وقال الحنابلة: لا تبطل الصلاة بأى ذكر أو بأى آية من القرآن الكريم، كقوله " ادخلوها بسلام آمنين " لمن يستأذنه.
وقال الشافعية: إذا استأذنه شخص فى أمر فسبَّح له يعنى قال سبحان الله لا تبطل الصلاة إن قصد الذكر ولو مع ذلك الغرض، فإن قصد إعلام المستأذن فقط بطلت صلاته.
من هذا يعلم أن رفع الصوت لإعلام من يطرق الباب أنه يصلى لا تبطل به الصلاة عند الجمهور(9/181)
الصلاة فى وقت الدرس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أثناء المحاضرات فى الجامعة هل يخرج الدارسون للصلاة عند سماع الأذان، وقد تكون المحاضرة لمدة ساعتين وبالتالى قد تفوت صلاة المغرب؟
الجواب
وقت الصلاة موسَّع بين أوله وآخره وإن كان التعجيل بالصلاة فى أول وقتها أفضل.
لكن محل ذلك إذا لم يكن الإنسان مشغولا بشىء هام يفوت منه لو تركه وذهب إلى الصلاة فى أول الوقت، وهنا يمكن أن يؤخر الصلاة إلى قبيل دخول وقت الصلاة الثانية.
أما إذا كان زمن المحاضرة يشغل الوقت كله بحيث لو استوعبها الطالب فاتت منه الصلاة فيجب عليه أن يتركها ويؤدى الصلاة، ويمكن تدارك ما فات منه بوسيلة أو بأخرى وبخاصة إذا كانت المحاضرة فى موضوع ليس واجبا حتما تعرف به الواجبات الأساسية على الإنسان نحو ربه ونحو مجتمعه، بل هو موضوع من الدرجة الثانية التى يكون تعلمها نافلة وليس فرضا.
ثم أقول لصاحب السؤال الذى يجب عليه أن يترك المحاضرة ليؤدى الصلاة حتى، لا تفوت منه يجب عليه أيضا أن ينبه الأستاذ إن كان مسلما كما ينبه الطلاب إلى حرمة تضييع الصلاة وإلى وجوب ترك المحاضرة حتى يؤدوا الصلاة، لأن هذا من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولكن يجب أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.
أرجو أن يمكِّن الأساتذة الطلاب من أداء الصلاة فى وقتها كما يجب عليهم هم أن يصلوا وأن يؤجلوا ما بقى من المحاضرات إلى وقت آخر، حتى يبارك الله لهم جميعا فيما يتعلمون فتقوى الله أكبر عامل على السعادة فى الدنيا والآخرة.
وأؤكد أن وقت الصلاة متسع ولا يتحتم على الطالب أن يترك المحاضرة ليؤدى الصلاة فى أول وقتها، فأداؤها فى أول وقتها سنة وطلب العلم سنة، وبهذه المناسبة ذكر ابن القيم فى كتابه "مفتاح دار السعادة ص 25 " أن كثيرا من الأئمة صرَّحوا بأن أفضل الأعمال بعد الفرائض طلب العلم، فقال الشافعى: ليس شىء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وهذا الذى ذكر أصحابه عنه أنه مذهبه وكذلك قال سفيان الثورى وحكاه الحنفية عن أبى حنيفة، وأما أحمد فحكى عنه ثلاث روايات، إحداهن أنه العلم، فإنه قيل له: أى شىء أجب إليك، أجلس بالليل أنسخ أو أصلى تطوعا؟ قال تعلم به أمور دينك فهو أحب إلىَّ، وذكر الخلاَّل عنه فى كتاب العلم نصوصا كثيرة فى تفضيل العلم وأما مالك فقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: إن أقواما ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم فخرجوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأسيافهم، ولو ابتغوا العلم لحجزهم عن ذلك! وذكر ابن القيم أيضا أن أبا نُعيم وغيره نقلوا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "فضل العلم خير من نفل العمل وخير دينكم الورع "وقد روى هذا مرفوعا من حديث عائشة رضى الله عنها، وفى رفعه نظر. . . [الرفع أى الإسناد إلى النبى صلى الله عليه وسلم] هذا الكلام هو فصل الخطاب فى هذه المسألة فالعلم يعم نفعه صاحبه والناس معه، والعبادة يختص نفعها بصاحبها، ولأن العلم تبقى فائدته بعد موته والعبادة تنقطع، والحديث فى ذلك معروف "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم(9/182)
حمل الصبى فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم حمل طفلا وهو يصلي؟ وإذا كان صحيحا فكيف تصح الصلاة مع حمل النجاسة، وغالب الأطفال ثيابهم نجسة؟
الجواب
قال العلماء يشترط فى صحة الصلاة طهارة الثوب والبدن والمكان، فلو حمل المصلى شيئا نجسا أو أمسك بشىء نجس وكان يتحرك بحركته بطلت صلاته والحديث موضوع السؤال صحيح. ففى صحيح مسلم بشرح النووى "ج 5ص 31" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص بن الربيع.
فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها.
يقول النووى: فيه دليل لصحة صلاة من حمل آدميا أو حيوانًا طاهرا من طير وشاة وغيرهما، وأن ثياب الصبيان وأجسادهم طاهرة حتى تتحقق نجاستها، وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة. وأن الأفعال إذا تعددت ولم تتوال بل تفرقت لا تبطل الصلاة. وفيه تواضع مع الصبيان وسائر الضعفة ورحمتهم وملاطفتهم.
ثم يقول: هذا يدل لمذهب الشافعي رحمه الله تعالى ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان الطاهر فى صلاة الفرض وصلاة النفل، ويجوز ذلك للإمام والمأموم والمنفرد وحمله أصحاب مالك رضى الله عنه على النافلة ومنعوا جواز ذلك في الفريضة. وهذا التأويل فاسد. لأن قوله "يؤم الناس " صريح أو كالصريح فى أنه كان فى الفريضة وادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم أنه كان لضرورة وكل هذه الدعاوى باطلة ومردودة، فإنه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح فى جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع، لأن الآدمى طاهر، وما فى جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدته وثياب الأطفال وأجسادهم على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا والأفعال فى الصلاة لا تبطلها إذا قلَّت أو تفرقت.
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بيانا للجواز وتنبيها به على هذه القواعد التى ذكرتها، وهذا يرد ما ادعاه الإمام أبو سليمان الخطابى أن هذا الفعل يشبه أن يكون كان بغير تعمد فحملها فى الصلاة لكونها كانت تتعلق به صلى الله عليه وسلم فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه، قال: ولا يتوهم أنه حملها مرة بعد أخرى عمدا لأنه عمل كثير ويشغل القلب. هذا كلام الخطابى وهو باطل ودعوى مجردة ومما يردها قوله فى صحيح مسلم "فإذا قام حملها" وقوله: "فإذا رفع من السجود أعادها". . . ثم انتهى النووى إلى قوله: إن الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه على هذه الفوائد فهو جائز لنا وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين.
هذا، ويلاحظ فى كلام النووى أن المفروض فى ثياب الطفل وبدنه الطهارة حتى تتحقق النجاسة ومعنى هذا أن النجاسة إذا تحققت لا يجوز حملها، وهو المعقول المتفق مع قول العلماء باشتراط الطهارة للصلاة.
مع مراعاة هذا الرأى ينبغي ألا يستغل استغلالا سيئا بكثرة حمل الصبيان فى الصلاة لأن ذلك يشغل القلب عن الخشوع، فأرى أنه يكون عند الضرورة أو الحاجة، أى فى حدود ضيقة، مع التأكد أن جسم الصبى وثوبه طاهران(9/183)
صلاة المحدث
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
انتقض وضوئى ثم نسيت فصليت قبل أن أتوضأ، فهل صلاتى صحيحة؟
الجواب
رأى جمهور الفقهاء أن الإنسان لو اكتشف أنه لم يغتسل من الجنابة أو لم يتوضأ من الحدث وصلى فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها، لأن من شروط صحة الصلاة الطهارة من الحدث والنجس وأبو حنيفة يقول بصحة الصلاة مع نسيان الطهارة بناء على حديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
وإذا كان المحدث إماما ناسيا أنه محدث ولم يعلم المأمومون حتى انتهت الصلاة فصلاة المأمومين صحيحة، وصلاة الإمام باطلة، روى ذلك عن عمر وعثمان وعلى وابن عمر من الصحابة رضى الله عنهم، ومن الأئمة روى عن مالك والشافعى، أما أبو حنيفة فيقول بإعادة الصلاة للإمام والمأمومين "المغنى لابن قدامة ج 1 ص 745" ودليل جمهور الأئمة -كما يقول ابن قدامة -إجماع الصحابة وروى عن عمر رضى الله عنه أنه صلَّى بالناس الصبح ثم خرج إلى الجرف فأهراق الماء فوجد فى ثوبه احتلاما فأعاد ولم يعد الناس. وحدث مثل ذلك لعثمان رضى الله عنه. وروى عن على أنه قال: إذا صلى الجنب بالقوم فأتم الصلاة بهم آمره أن يغتسل ويعيد. ولا آمرهم أن يعيدوا، وابن عمر صلَّى بهم الصبح بغير وضوء فأعاد ولم يعيدوا. رواه كله الأثرم وهذا في محل الشهرة ولم ينقل خلافه فكان إجماعا، ولم يثبت ما نقل عن على فى خلافه -وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته وتمت للقوم صلاتهم " أخرجه أبو سليمان الحرانى فى جزء.
ثم قال ابن قدامة: والحكم فى النجاسة كالحكم فى الحدث سواء، لأنها إحدى الطهارتين فأشبهت الأخرى، ولأنها فى معناها فى خفائها على الإمام والمأموم، بل حكم النجاسة أخف وخفاؤها أكثر، إلا أن فى النجاسة رواية أخرى أن صلاة الإمام تصح أيضا إذا نسيها.
هذا هو الحكم فيما لو علم بالحدث بعد الصلاة أما لو علم الإمام بحدث نفسه فى الصلاة أو علم المأمومون لزمهم استئناف الصلاة، وفيه رواية أخرى عن أحمد أنهم يبنون على صلاتهم ويستأنف هو، وقال الشافعى: يبنون على صلاتهم سواء علم بذلك أو علم المأمومون. كما لو قام لخامسة فسبحوا به فلم يرجع(9/184)
صلاة المسافر لغير القبلة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
صلينا فى القطار متجهين إلى جهة السفر وليس إلى القبلة فما حكم هذه الصلاة؟
الجواب
من المعلوم أن استقبال القبلة. شرط لصحة الصلاة لقوله تعالى {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} البقرة: 144، سواء أكانت الصلاة فى الحضر أم فى السفر، وهذا فى صلاة الفرض، أما فى صلاة النافلة فلا تصح فى الحضر إلا مع استقبال القبلة، لكن فى السفر يجوز أن تصلى إلى حيث اتجاه المسافر، فقد روى البخارى ومسلم عن عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلَّى على راحلته حيث توجهت به، وزاد البخارى: يومئ، أى يشير برأسه إلى السجود. وفى الترمذى: ولم يكن يصنعه فى المكتوبة أى المفروضة. يعنى كان ذلك فى صلاة النفل، وفى ذلك نزل قوله تعالى {فأينما تولوا فثمَّ وجه الله} البقرة: 115، كما جاء فى صحيح مسلم وغيره عندما رأوا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى على راحلته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت به، يعنى كان ظهره إلى الكعبة.
هذا فى الصلاة لراكب الدابة. أما راكب القطار والسفينة والطائرة وما يمكن التحرك فيه بسهولة فقد جاء فى فقه المذاهب الأربعة أن عليه أن يستقبل القبلة متى قدر على ذلك، وليس له أن يصلى إلى غير جهتها حتى لو دارت السفينة وهو يصلى وجب عليه أن يدور إلى جهة القبلة حيث دارت، فإن عجز عن استقبالها صلى إلى جهة قدرته ويسقط عنه السجود أيضا إذا عجز عنه، ومحل ذلك إذا خاف خروج الوقت قبل أن تصل السفينة أو القاطرة إلى المكان الذى يصلى فيه صلاة كاملة ولا تجب عليه الإعادة، ومثل السفينة القطر البخارية البرية. انتهى.
وراكب السيارة التى لا يمكنه التحرك فيها كراكب الدابة، إن استطاع النزول وأمن على نفسه وماله وأمن الانقطاع عن الرفقة لا تجوز له الصلاة فيها، أما إذا لم يستطع النزول ولم يأمن على ما ذكر صلى إلى أية جهة وسقطت عنه الأركان التى لا يستطيعها ولا إعادة عليه.
وكل ذلك إذا خاف خروج الوقت قبل الوصول إلى مكان يمكنه أن يصلى فيه، أما إذا لم يخف فلا تجوز الصلاة إلا كاملة(9/185)
الإمام ونية الجماعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا كنت أصلى بمفردى فى المسجد ثم وقف خلفى بعض الناس لتكون الصلاة جماعة، فهل يجب علىّ تغيير النية من الصلاة الفردية إلى صلاة الجماعة؟
الجواب
فى صلاة الجماعة تجب نية الجماعة على المأمومين، لأنهم ربطوا صلاتهم بصحة الإمام، أما الإمام فهو كالمنفرد لا يجب عليه أن ينوى الجماعة حتى لو صار إماما بعد أن بدأ الصلاة منفردا، وهذا كله فى غير الصلاة التى تتوقف على الجماعة كالجمعة.
جاء فى فقه المذاهب الأربعة نشر أوقاف مصر، أن الحنابلة قالوا:
يشترط فى صحة الاقتداء نية الإمام فى كل صلاة، فلا تصح صلاة المأموم إذا لم ينو الإمام الإمامة.
وأن الشافعية قالوا: يشترط فى صحة الاقتداء أن ينوى الإمام الجماعة فى الصلوات التى تتوقف صحتها على الجماعة، كالجمعة للمطر والمعادة.
وأن الحنفية قالوا: نية الإمامة شرط لصحة صلاة المأموم إذا كان إماما لنساء، فتفسد صلاة النساء إذا لم ينو إمامهن الإمامة، وأما صلاته هو فصحيحة ولو حاذته امرأة. وأن المالكية قالوا: نية الإمام ليست شرطا فى صلاة المأموم، ولا فى صحة صلاة الإمام إلا فى أربعة مواضع، صلاة الجمعة والجمع ليلة المطر وصلاه الخوف والمستخلف الذى قام مقام الإمام لعذر(9/186)
صفوف الصلاة خلف الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف يبدأ المصلون فى إتمام الوقوف للصلاة، وهل يكون إتمام الصف من اليمين أو من المنتصف؟
الجواب
جاء فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة نشر أوقاف مصر، أنه لو كان المأموم رجلا واحدا وقف عن يمين الإمام مع تأخره قليلا، وذلك ندبا لا وجوبا عند جمهور الفقهاء.
فإن كان المأمومون اثنين فأكثر وقفوا خلف الإمام، ويندب أن يكون فى وسط القوم.
فإن وقف عن يمينهم أو عن يسارهم فقد خالف السنة وإن كانت الصلاة صحيحة، وعلى هذا إذا جاء مأمومون للصلاة ووجدوا الصف الأول ناقصا صف بعضهم عن اليمين والبعض عن الشمال ليكون الإمام فى الوسط، وإذا وجدوه كاملا قال جماعة يبدأ الصف من جهة اليمين.
لما رواه أبو داود وابن ماجه "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف " وقال آخرون يبدءون الوقوف خلف الإمام ثم يكمل من اليمين أولا ثم من اليسار، أما إذا حضر الشخص ولم يجد سعة ولا فرجة فى الصف الأول فإنه يقف منفردا ويكره له جذب أحد، وقيل: يجذب واحدا من الصف عالما بالحكم بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام، ويستحب للمجذوب موافقته، ويبدأ الصف من جهة اليمين أو من خلف الإمام على ما سبق ذكره.
وأنبه إلى أن الأمر سهل لا ينبغى زيادة الخلاف فيه (راجع صفحة 157 من المجلد الثاني من هذه الفتاوى فى حكم انفراد المأموم عن الصف)(9/187)
بين الجماعة والخشوع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا أحس بالخشوع فى الصلاة إذا صليتها وحدى، وفى صلاة الجماعة لا يكون خشوع فهل الأفضل صلاتا منفردا أو فى جماعة؟
الجواب
جاء فى " الإقناع فى حل ألفاظ أبى شجاع "ج 1 ص 141 فى الفقه الشافعى ما نصه:
أفتى الغزالى أنه لو كان إذا صلى منفردا خشع، وإذا صلى فى جماعة لم يخشع فالانفراد أفضل، وتبعه ابن عبد السلام، قال الزركشى: والمختار بل الصواب خلاف ما قالاه.
وهو كما قال. انتهى. يعنى أن صلاة الجماعة أفضل حتى لو كانت بدون خشوع على ما اختاره الزركشى، اعتمادا على حكمة صلاة الجماعة.
وكلام الغزالى وابن عبد السلام يتفق مع حكمة مشروعية الصلاة أصلا، ولعله يكون أصوب(9/188)
النافلة عند إقامة الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة "؟
الجواب
نعم، هذا حديث صحيح ورد فى صحيح مسلم، وفى رواية له أن النبى صلى الله عليه وسلم مر برجل يصلَّى وقد أقيمت صلاة الصبح فقال "يوشك أن يصلى أحدكم الصبح أربعا" يقول النووى:فيها النهى الصريح عن افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة سواء كانت راتبة كسنة الصبح والظهر والعصر أو غيرها، وهذا مذهب الشافعى والجمهور، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا لم يكن صلى ركعتى سنة الصبح صلاهما بعد الإقامة فى المسجد ما لم يخش فوت الركعة الثانية. وقال الثورى ما لم يخش فوت الركعة الأولى.
وقالت طائفة يصليهما خارج المسجد ولا يصليهما بعد الإقامة فى المسجد.
والحكمة فى هذا النهى أن يتفرغ الإنسان للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام، وإذا اشتغل بنافلة فاته الإحرام وفاته بعض مكملات الفريضة، فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها، وقيل إن الحكمة ألا يتطاول الزمان على النافلة فيظن وجوبها، وهو رأى ضعيف. ثم قال النووى بعد ذكر رواية للحديث: فيه دليل على أنه لا يصلِّى بعد الإقامة نافلة وإن كان يدرك الصلاة مع الإمام، ورد على من قال: إن علم أنه يدرك الركعة الأولى أو الثانية يصلى النافلة.
أما إذا شرع فى صلاة النافلة ثم أقيم للصلاة فهل يجوز له أن يخرج من الصلاة أولا؟ ذلك أمر يرجع فيه إلى حديث "المتطوع أمير نفسه " المذكور فى صفحة 219 من المجلد الرابع من هذه الفتاوى.
وجاء فى نيل الأوطار للشوكانى "ج 3 ص 91، 92" أن ابن عباس كان يصلى وأخذ المؤذن فى الإقامة فجذبه الرسول وقال " أتصلى الصبح أربعا " رواه البيهقى والطبرانى وأبو داود وغيرهم، وجاء فى رواية للطبرانى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجل يصلى ركعتى الغداة - الصبح - حين أخذ المؤذن يقيم " ألا كان هذا قبل هذا، وإسناده جيد كما قال العراقى ".
وفى هذا دليل على أن المصلى للنافلة يقطعها ليدرك الجماعة حين يسمع الإقامة، ويحتمل أن معنى " فلا صلاة إلا المكتوبة" لا يشغل بها وإن كان قد شرع فيها. وبعد أن ذكر الشوكانى تسعة أقوال فى معنى الحديث قال: قال الشيخ أبو حامد من الشافعية: إن الأفضل خروجه من النافلة إذا أداه تمامها إلى فوات فضيلة التحريم، وهذا واضح(9/189)
تقدم المأموم على الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث في المساجد التى لا تسع المصلين فى صلاة الجماعة أو الجمعة أن يصلى بعض المأمومين خارج المسجد متقدمين على الإمام، لعدم إمكانهم الوقوف خلفه، فهل تصح صلاتهم؟
الجواب
تقدم المأموم على الإمام يبطل الصلاة عند الأئمة الثلاثة، ولا يبطلها عند الإمام مالك.
جاء فى فقه المذاهب الأربعة، نشر أوقاف مصر، ما نصه: المالكية قالوا: لا يشترط فى الاقتداء عدم تقدم المأموم على الإمام، فلو تقدم المأموم على إمامه ولو كان المتقدم جميع المأمومين صحت الصلاة على المعتمد.
وعلى هذا فلا مانع من الصلاة فى أى مكان حتى لو تقدم المأمومون على الإمام وبخاصة عند الزحام، على رأى الإمام مالك رضى الله عنه(9/190)
إمامة القاعد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن يكون الرجل القاعد إماما فى الصلاة لشخص واقف أو جماعة واقفين؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن عائشة وأنس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم اشتكى من إصابة فذهب بعض الصحابة لعيادته، لما حضرت الصلاة صلَّى بهم قاعدا وهم واقفون. فلما انتهى من الصلاة بيَّن لهم أن الإمام إذا صلى قاعدا قعدوا، وإذا صلى قائما صلوا قياما وبيَّن العلة فى ذلك فى رواية لمسلم وغيره أن صلاتهم قياما وهو قاعد يشبه فعل أهل فارس بعظمائها،وقد نهى عن الوقوف لأى شخص تعظيما له وهو جالس. وروى البخارى ومسلم عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم لما وجد خفة فى نفسه وهو مريض خرج إلى الصلاة بين رجلين فأجلساه إلى جنب أبي بكر فجعل أبوبكر يصلِّى وهو قائم بصلاة النبى صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبى بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد. وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إزاء هذه النصوص اختلف الفقهاء فى صلاة القائم خلف القاعد فقال بعضهم بالجواز بناء على الحديث الأخير، وقال بعضهم بالمنع فيجب عليه القعود بناء على الحديث الأول وأحاديث أخرى، وقال بعضهم: إن ابتدأ الإمام الصلاة جالا جلسوا، وإن ابتدأها واقفا وقفوا، فإن طرأ عليه عذر بعد ذلك فجلس صلوا هم قياما. والنقاش بين أصحاب الآراء فى هذه المسألة طويل يرجع إليه فى الكتب مثل: نيل الأوطار للشوكانى ج 3 ص 180، المغنى لابن قدامة ج 2 ص 47.
هذا، وجاء فى فقه المذاهب الأربعة أن المالكية قالوا: لا يصح اقتداء القائم بالقاعد العاجز عن القيام ولو كانت الصلاة نفلا، إلا إذا جلس المأموم اختيارا فى النفل فتصح صلاته خلف الجالس فيه. وأن الحنفية قالوا: يصح اقتداء القائم بالقاعد الذى يستطيع أن يركع ويسجد، أما العاجز عن الركوع والسجود فلا يصح اقتداء القائم به إذا كان قادرا، وأن الشافعية قالوا: تصح صلاة القائم خلف القاعد والمضطجع العاجز عن القيام والقعود ولو كانت صلاتهما بالإيحاء، وأن الحنابلة قالوا: لا يصح اقتداء القائم بالقاعد الذى عجز عن القيام، إلا إذا كان العاجز عن القيام إماما راتبا وكان عجزه عن القيام بسبب علة يرجى زوالها. انتهى.
وما دام الأمر فيه خلاف فيجوز الأخذ بأى رأى دون تعصب كما هو الشأن فى الأمور الخلافية(9/191)
الجلوس بين الخطبتين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رأيت خطيب الجمعة خطب خطبة واحدة ولم يجلس على المنبر كما يجلس الخطباء فهل هذه الخطبة صحيحة؟
الجواب
من المعروف أن خطبة الجمعة خطبة واحدة ولها ركن واحد عند أبى حنيفة وهو مطلق الذكر قليلا كان أو كثيرا، فيكفى أن يسبح مرة واحدة أو يحمد الله مرة واحدة، وكذلك عند مالك لها ركن واحد وهو نصيحة تشتمل على تحذير أو تبشير كقوله:
اتقوا الله ولا تعصوه.
أما عند الشافعى فخطبتان ولهما أركان خمسة، حمد الله والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم والوصية بالتقوى، وقراءة آية فى إحداهما والأولى أولى والدعاء للمؤمنين والمؤمنات فى الثانية، وعند أحمد، الأركان أربعة، حمد الله، والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وقراءة آية والوصية بالتقوى.
والجلوس بين الخطبتين جاء فى صحيح مسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس ثم يقوم. وعن جابر بن سمرة قال: كانت للنبى صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس. وقال أيضا. كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما. فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب.يقول النووى فى شرحه لصحيح مسلم "ج 5 ص 149 " فى هذه الرواية دليل لمذهب الشافعى والأكثرين أن خطبة الجمعة لا تصح، من القادر على القيام إلا قائما فى الخطبتين، ولا يصح حتى يجلس بينهما. وأن الجمعة لا تصح إلا بخطبتين. قال القاضى ذهب عامة العلماء إلى اشتراط الخطبتين لصحة الجمعة، وعن الحسن البصرى وأهل الظاهر ورواية ابن الماجشون عن مالك أنها تصح بلا خطبة، وحكى ابن عبد البر إجماع العلماء على أن الخطبة لا تكون إلا قائما لمن أطاقه، وقال أبو حنيفة: يصح قاعدا وليس القيام بواجب، وقال مالك: هو واجب لو تركه أساء وصحت الجمعة.
وقال أبو حنيفة ومالك والجمهور: الجلوس بين الخطبتين سنة ليس بواجب ولا شرط ومذهب الشافعى أنه فرض وشرط لصحة الخطبة.
قال الطحاوى: لم يقل هذا غير الشافعى، ودليل الشافعى أنه ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتمونى أصلى " ثم ذكر النووى ما تحقق به الخطبة على النحو الذى جاء فى صدر الإجابة على السؤال.
واختلاف الفقهاء رحمة فى هذا الموضوع -وغيره كما نبهت عليه أكثر من مرة(9/192)
الخطبة بلغة غير عربية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الأقلية المسلمة فى بلاد لا تتكلم اللغة العربية، هل يصح أن يخطب الجمعة أحدهم باللغة القومية التى يفهمونها، أم لابد من اللغة العربية على الرغم من عدم فهمهم للخطبة بها؟
الجواب
اشتراط كون خطبة الجمعة باللغة العربية قال عنه أبو حنيفة: تجوز بغير اللغة العربية.
حتى لو كان قادرا عليها سواء كان السامعون عربا أو غيرهم، أما أحمد فاشترط اللغة العربية إن كان الخطيب قادرا عليها، فإن عجز عن الإتيان بها أتى بغيرها مما يحسنه سواء كان القوم عربا أو غيرهم، لكن الآية التى هى ركن من أركان الخطبتين لا يجوز أن ينطق بها بغير العربية. فيأتى بدلها بأى ذكر شاء باللغة العربية، فإن عجز سكت بقدر قراءة الآية.
والشافعى اشترط أن تكون أركان الخطبتين باللغة العربية إن أمكن تعلمها. فإن لم يمكن خطب بغيرها، هذا إذا كان السامعون عربا، أما إن كانوا غير عرب فإنه لا يشترط أداء الأركان بالعربية مطلقا ولو أمكنه تعلمها. ما عدا الآية. فلا بد أن ينطق بها بالعربية، إلا إذا عجز فيأتى بدلها بذكر أو دعاء عربى، فإن عجز عن هذا أيضا وقف بقدر قراءة الآية ولا يترجم، أما غير أركان الخطبة فلا يشترط لها اللغة العربية، باللغة العربية. ولو كان السامعون لا يعرفونها، فإن لم يوجد خطيب يخطب بالعربية سقطت عنهم الجمعة.
هذا ما قاله الأئمة، وإذا كان أكثرهم حريصا على اشتراط اللغة العربية لأن فيه تشجيعا على تعلمها ونشرها وتيسيرًا لفهم القرآن والحديث، فإن بعضهم وهو الإمام مالك بلغ الذروة فى الحرص حتى أسقط الجمعة عمن لا يوجد فيهم من يخطب بالعربية. وأنا أختار التوسط فى هذه الآراء الاجتهادية فأميل إلى مذهب الشافعى فى تمسكه باللغة العربية، فى الأركان فقط، أما باقى الخطبة فتؤدى بأية لغة، ولو تعذرت العربية فى الأركان خطب بغيرها للعرب أما غيرهم فيخطب بلغتهم حتى لو أمكنته الخطبة بالعربية.
وكما قررت كثيرا أن التعصب لرأى اجتهادى لا يجوز، ويختار الرأى المناسب للظروف(9/193)
قضاء صلاة العيد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فاتتنى صلاة العيد يوم النحر، فهل يجوز قضاؤها منفردا؟
الجواب
صلاة عيد الأضحى-كعيد الفطر-وقتها محدود بما بعد الشروق بقليل - عند بعض الأئمة -إلى الزوال، أى وقت الظهر، فتكون صلاتها فى هذه الفترة أداء، ولو فاتته هل يقضيها أو لا؟ قال الأحناف: الجماعة شرط لصحة صلاة العيدين. فمن فاتته مع الإمام فليس مطالبا بقضائها، لا فى الوقت ولا بعده. وإن أحب قضاءها منفردا صلى أربع ركعات بدون تكبيرات الزوائد، كالذى تفوته صلاة الجمعة، يقضيها ظهرا.
والمالكية قالوا: الجماعة شرط لكونها سنة، فمن فاتته مع الإمام ندب له فعلها إلى الزوال، ولا تقض بعد الزوال.
والشافعية قالوا: الجماعة فيها سنة لغير الحاج، ويسن لمن فاتته مع الإمام أن يصليها فى أى وقت قبل الزوال وتكون أداء، أما بعد الزوال فيسن صلاتها وتكون قضاء لأن قضاء النوافل سنة عندهم إذا كان لها وقت.
هذا، وقد روى أحمد والنسائى وابن ماجه بسند صحيح أن هلال شوال غم على الصحابة وأصبحوا صياما، فجاء جماعة أخر النهار وشهدوا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يخرجوا إلى عيدهم من الغد.
وهذا الحديث حجة للقائلين بأن الجماعة إذا فاتتها صلاة العيد بسبب عذر من الأعذار فلها أن تخرج من الغد لتصلى العيد.
هذه هى أقوال العلماء، والأمر اجتهادى يجوز فيه تقليد أى قول منها، مع العلم بأن صلاة العيد سنة غير واجبة لا أداء ولا قضاء عند الشافعية والمالكية، وواجبة عند الأحناف فى الأصح مع الجماعة.
وفرض كفاية عند الحنابلة وسنة لمن فاتته مع الإمام حيث يسن له أن يصليها"الفقه على، المذاهب الأربعة، نيل الأوطار للشوكانى"(9/194)
دعاء قيام الليل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك دعاء مخصوص لقيام الليل يكرره الإنسان حتى يقضى الله حاجته؟
الجواب
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن فى الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك كل ليلة" وفى البخارى ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له "وروى الترمذى بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال "أقرب ما يكون الرب من العبد فى جوف الليل الأخر، فان استطعت أن تكون ممن ذكر الله تعالى فى تلك الساعة فكن ".
وليس هناك دعاء مخصوص لقضاء الحاجات فى هذه الساعة المباركة،، فادع الله بما تريد، مع الخشوع والحضور بقلبك وذهنك، ومع مسارعتك إلى مرضاة ربك وعدم معصيته والبعد عن الحرام، فإن الحرام يحول دون استجابة الدعاء "راجع صفحة 318 من المجلد الثالث وصفحة 516 من المجلد الرابع من هذه الفتاوى"(9/195)
الذكر عند الشدائد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يشعر الإنسان أحيانا بالضيق وتكثر عليه الأزمات ويحاول أن يتناول مهدئات ويتردد على بعض الأطباء فلا يجد الشفاء المطلوب، فهل هناك آيات فى القرآن أو توجد أحاديث أو ذكر لله يمكن أن يعالج هذه الأزمات؟
الجواب
من المعلوم أن الإيمان بالقضاء والقدر، والصبر على الشدائد، وتقوية الصلة بالله بالطاعة يساعد على مقاومة الأزمات النفسية ووساوس الشيطان، وعلى حل المشكلات والهداية إلى الصراط المستقيم فى أمور الدين والدنيا، والنصوص فى ذلك كثيرة. ومع ذلك وردت آثار صحيحة بالدعاء والذكر تساعد على التخلص من الأزمات أو تدفعها، والمهم فيها أن يكون الإنسان مطيعا لله بعيدا عن الحرام، مخلصا خاشعا حتى يقبل الله منه الدعاء.
وهذا بعض ما ورد بطريق صحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم وهو مأخوذ من كتب مختصة بذلك مثل "الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار" للإمام النووى، ومثل "عمل اليوم والليلة" لابن السنى، وهو أجمعها كما قال النووى.
1-عند الخروج من البيت: روى أصحاب السنن عن أم سلمة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: "بسم الله توكلت على الله، اللهم إنى أعوذ بك أن أَزِل أو أُزَل، أو أَضِل أو أضَل أو أظْلم أو أُظلم، أو أَجْهل أو يُجهل علىَّ " قال الترمذى: حديث حسن صحيح. وروى الترمذى وقال حسن صحيح قوله صلى الله عليه وسلم "من قال -يعنى إذا خرج من بيته -بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله " يقال له: كُفيت ووقيت وهُديت، وتنحَّى عنه الشيطان " 2-عند دخوله البيت: روى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأعوانه، لا مبيت لكم ولا عشاء ".
3- فى الصباح والمساء روى أبو داود والترمذى قوله صلى الله عليه وسلم "ما من عبد يقول فى صباح كل يوم ومساء كل ليلة: باسم الله الذى لا يضر مع اسمه شىء فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شىء" قال الترمذى: حسن صحيح، وفى رواية أبى داود "لم تصبه فجأة بلاء" وروى أبو داود وابن ماجه بأسانيد جيدة حديث " من قال إذا أصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير كان له عدل عتق رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان فى حرز من الشيطان حتى يمسى. وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح " وروى مسلم أن رجلا شكا إلى النبى صلى الله عليه وسلم لدغة عقرب فقال له " أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق لم يضرك شىء إن شاء الله ".
4- عند كثرة الهموم والديون: روى أبو داود أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فى غير وقت الصلاة فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فسأله عن جلوسه فى غير وقت الصلاة فقال: هموم لزمتنى وديون، قال "أفلا أعلَّمك كلامًا إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟ قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " يقول أبو أمامة. ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همى وغمى وقضى عنى دينى.
وروى الترمذى حديثا حسنا "لو كان عليك مثل جبل دَينا أدَّاه الله عنك قل:اللهم اكفنى بحلالك عن حرامك وأغننى بفضلك عمن سواك ".
5- عند النوم. أخرج البخارى حديث الشيطان الذى كان يسرق الزكاة التى يحرسها أبو هريرة. وأنه علَّمه كلاما يقوله ليحرسه من الشيطان، فعرضه أبو هريرة على الرسول فأقره وقال "صدقك وهو كذوب " وهذا كلام الشيطان: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسى فلن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان. وروى البخارى ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما فى ليلة كفتاه " أى من الآفات، أو كفتاه عن قيام الليل.
6- عند الكرب: روى البخارى ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا اله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم.
7- عند وسوسة الشيطان: قال تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} فصلت: 36، ويستحب قول لا إله إلا الله لمن ابتلى بالوسوسة فى الوضوء أو الصلاة أو غيرهما، فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنس أى تأخر وبعد، ولا إله إلا الله رأس الذكر "النووى فى الأذكار ص 132 " 8- عند تعويذ الصبيان: فى صحيح البخارى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذّ الحسن والحسين: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة ومن كل عين لامة.
والهامة هى كل ذات سم يقتل كالحية وغيرها، والجمع الهوام.
وروى البخارى ومسلم أنه كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشف أنت الشافى لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما ".
9- عند المرض: روى مسلم أن عثمان بن أبى العاص رضى الله عنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده فى جسده، فقال له "ضع يدك على الذى يألم من جسدك وقل بسم الله "ثلاثا" وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" وروى مسلم وغيره أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال:
"نعم " قال: بسم الله أرقيك من كل شىء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد. الله يشفيك.
باسم الله أرقيك ".
10- عند هياج الريح: روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال "اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به ".
11- عند نزول المطر: روى البخارى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال "اللهم صيِّبا نافعا" وإذا نزل المطر وخيف معه الضرر قال كما رواه البخارى ومسلم "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر" والآكام جمع أكمة وهى التراب المجتمع، والظِّراب جمع ظَرِب، أى الرابية الصغيرة.
12- عند الخوف من جماعة: روى أبو داود والنسائى بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: "اللهم إنا نجعلك فى نحورهم، ونعوذ بك من شرهم ".
13- عند النزول فى مكان يخاف منه: روى مسلم وغيره قوله صلى الله عليه وسلم " من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شىء حتى يرتحل من منزله ذلك ".
14- عند الرؤيا المفزعة: روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليتحول عن جنبه الذى كان عليه ".
هذا بعض ما اخترته من الروايات الصحيحة والحسنة، ومن أراد الزيادة فليرجع إلى أذكَار النووى وابن السنى(9/196)
الابتهالات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
وردت من السيد/ ب. أ. د. ب./ من رابن باخ بألمانيا الاتحادية أسئلة متنوعة عن الابتهالات نوردها مع الإجابة عليها فيما يلى:
ما مفهوم الابتهال فى نظر الشرع الإسلامى، وهل هناك فرق بينه وبين الدعاء؟
الجواب
مفهوم الابتهال فى نظر الشرع لا يختلف عن مفهومه فى اللغة العربية، فالبهل والابتهال فى اللغة الاسترسال والاجتهاد. قال لبيد:
فى كهول ساعة من قومه * نظر الدهر إليهم فابتهل أى اجتهد الدهر فى إهلاكهم.
والابتهال فى الدعاء معناه الاسترسال والاجتهاد فيه، ومنه قوله تعالى {ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} آل عمران: 61، أى نجتهد فى الدعاء باللعن على الكاذبين.
"تفسير القرطبى ج 4 ص 104 ". ومن هذا يعلم أن الدعاء طلب من العبد لله، والابتهال اجتهاد فى هذا الطلب. أى أن الابتهال أخص من مطلق الدعاء. والابتهالات المعروفة الآن مزيج من دعاء وثناء ومديح وذكر لله تعالى، ونغمة التضرع فى ذلك واضحة(9/197)
تابع الابتهالات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل مصطلح الابتهال الدينى يمكن أن يفهم منه نص الابتهال المكتوب فقط. أو لا بد أن يكون النص مجوَّدًا بصوت حسن؟
الجواب
الابتهال الدينى تضرع إلى الله سبحانه، ودعاء مشفوع بشدة الرغبة فى قبوله والرهبة من عدم قبوله. وحتى يكون مرجو القبول ينبغى أن تلتزم فيه أداب الدعاء، التى جاء بعضها فى قوله تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} الأعراف:55، والمراد بالخفية الإسرار به ليكون أقرب إلى الإخلاص وعدم الرياء وفى قوله تعالى {واذكر ربك فى نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال} الأعراف: 205، والمراد بالخيفة الخوف من الله أن يرد الدعاء. وفى قوله تعالى {إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} الأنبياء: 90، والخشوع هنا عدم انشغال الفكر بغير الله حين الدعاء، والتزام الأدب والسكون عند مناجاته. والابتهال بما فيه من تضرع ورغبة ورهبة وخشوع، يغلب أن يكون بصوت فيه تحزن قد يسلم إلى البكاء، على نحو ما يكون فى قراءة القرآن الكريم من التحيير والتجويد والتحزن الذى يؤثر فى القلوب. وقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم وقف يستمع إلى قراءة أبى موسى الأشعرى دون أن يحس به، ولما أخبره قال: لو علمت أنك تسمعنى لحبَّرته لك تحبيرا.
وهو صلى الله عليه وسلم كان يتأثر لسماع القراَن ويبكى أحيانا، كما حدث عند سماعه لقراءة عبد الله بن مسعود لقوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} النساء: 41، وإذا كان من آداب الدعاء والابتهال الإسرار به فقد يكون الجهر به مناسبا لظروف معينة، كما إذا كان جماعيا يشترك فيه غير المبتهل بالتأمين على الدعاء كما فى صلاة الاستسقاء، حيث تكون الخطبة مشتملة على استغاثة وتضرع أن ينزل الله عليهم المطر، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم.
ولاشك أن الصوت الحسن الخاشع لله يؤثر أكثر مما يؤثر الصوت العادى فى مثل هذه المواقف. وذلك مع التزام القراءة الصحيحة فيما يتخلل الابتهالات من قرآن، بعيدًا عن الألحان التى تؤدى بها الاغانى والأناشيد الأخرى(9/198)
تابع الابتهالات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يمكن الحكم على الابتهالات الدينية بأنها دعاء مجود بصوت حسن؟
الجواب
نعم، يمكن الحكم عليها بذلك فى عرف الناس، وإن كانت تؤدى شرعا بدون ذلك فهى دعاء سبحانه، قد يؤدى سرا دون حاجة إلى صوت حسن يؤثر فى السامعين(9/199)
تابع الابتهالات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يعتبر الابتهال الدينى عبادة، وهل هناك آثار أو نصوص شرعية خاصة به؟
الجواب
الابتهال الدينى دعاء، والدعاء عبادة أمر الله بها فى مثل قوله تعالى {وقال ربكم ادعونى أستجب لكم} غافر: 60، إلى جانب الآيات السابقة فى البند رقم 2 وفى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة " رواه أبو داود والترمذى وقال:
حسن صحيح.
وإذا كان المراد من السؤال عن الآثار والنصوص الشرعية، ما يدل على أنه عبادة فقد ذكرنا ذلك، أما إذا كان المراد نصوصا شرعية مأثورة فى ابتهالات وأدعية خاصة فإن الوارد من ذلك كثير، وهو مذكور فى القراَن والسنة، اقرأ من سورة البقرة الآيات: [1 5 2، 286] ومن سورة آل عمران الآيات: [8، 53، 147، 191، 194] ومن سورة إبراهيم الآيتين: [40، 41] ومن سورة الفرقان الآيتين: [65،74] .
وكتب الأحاديث النبوية فيها كثير من الأدعية، ومن أجمعها كتاب "الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار" للامام النووى. والدعاء بالمأثور أفضل من الدعاء المصنوع إن كان يغنى عنه(9/200)
تابع الابتهالات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا كان الشرع الإسلامى يبيح الابتهال فما الصورة التى يجب أن يكون عليها، وهل هناك شروط لصحته أو قبوله؟
الجواب
سبق فى البند رقم 2 شروط وآداب الدعاء، ويزاد عليها البعد عن تناول المحرمات، فإن تناول المحرمات يمنع قبول الدعاء، وقد ثبت فى الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل أشعث أغبر يمد يده إلى السماء ويقول: يارب يارب، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذَى بالحرام فأنَى يستجاب له؟ فمن أراد أن يكون مستجاب الدعوة فليكن مطعمه من الطيبات مما أحل الله، إلى جانب البعد عن المحرمات الأخرى(9/201)
تابع الابتهالات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الشرع على أنواع الابتهالات التى تشاهد الآن مثل الابتهال الفردى والابتهال مع البطانة، والابتهال مع الآلات الموسيقية، والابتهالات فى أذكار الصوفية؟
الجواب
الابتهالات الفردية والابتهالات مع البطانة باقية على الأصل فى أنها حلال ولا يوجد نص يمنعها لذاتها، فإن عرض لها عارض من رياء أو سمعة أو تشويش على المصلين أو إيذاء لمريض أو إخلال بحرمة المسجد أو نحو ذلك كانت ممنوعة لهذه العوارض.
أما الآلات الموسيقية فهى فى أصلها حلال ولا يحرمها إلا عارض لها، مثل الاستعانة بها على محرم كحفلات الخمر والرقص، أو كانت ملهية عن واجب أو مسببة لضرر كإزعاج الآمنين والتشويش على المتعبدين.
والمشاهد أن الذين يشهدون مجالس الابتهالات مع الآلات الموسيقية يشدهم الإعجاب بأمرين الابتهال نفسه مادة وأداء، والنغمات الموسيقية. والابتهال من حيث كونه تضرعا لله تقل فيه الرغبة والرهبة والخشوع مع وجود الأصوات الموسيقية المؤثرة عليه {ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه} الأحزاب: 4، ومن هنا تكون الابتهالات مع الموسيقى أقل أثرًا دينيا فى نفس المبتهل ومن يستمعون إليه، ولهذا تكون الموسيقى مكروهة مع الابتهال إن قصد به التقرب إلى الله.
اما إذا قصد به امتناع النفس بكلام حسن وأداء جميل فحكمه حكم الأغانى والأناشيد العادية وهى غير محرمة لذاتها بل لما يعرض لها من اشتمالها على مادة ممنوعة، أو أدائها بلحن فيه فتنة وإثارة، أو مصاحبتها لمحرم من اختلاط مريب أو شرب محرم ونحوهما أو إلهائها عن واجب.
والابتهالات فى أذكار الصوفية أى الأناشيد التى تنظم بها حلقات الذكر ما دام لم تصحبها آلات طرب وما دام الذكر ملتزمًا لآداب العبادة فلا مانع منها شرعًا، فقد كانت الأغانى مشجعة للصحابة وهم يعملون فى حفر الخندق وغيره، ولا ينكر عليهم النبى صلى الله عليه وسلم(9/202)
تابع الابتهالات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تذاع بعد قراءة القرآن وقبل أذان الفجر بعض الابتهالات الدينية، وبخاصة فى شهر رمضان. فهل هذا تقليد أو له أصل شرعى؟
الجواب
لم تكن هذه الابتهالات موجودة فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم ولا فى عهد السلف الصالح، بل هى أمر مستحدث، والعلماء فيه فريقان، بعضهم قال بمنعها لأنها بدعة فى الدين والحديث يقول " من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد" رواه البخارى ومسلم،، وبعضهم قال بعدم منعها، لأن كل أمر مستحدث لا يحكم عليه بالرد. فمن المستحدثات المفيدة غير الضارة ما قبله الصحابة، كاجتماع المسلمين على إمام واحد فى صلاة التراويح فى المسجد وقال عمر: نعمت البدعة هذه وجاء فى كتاب الفقة على المذاهب الأربعة الذى نشرته الأوقاف المصرية (ص 238) أن التسابيح والاستغاثات قبل الأذان بالليل ونحو ذلك بدع مستحسنة. لأنه لم يرد فى السنة ما يمنعها، وعموم النص يقتضيها. انتهى.
وهى على كل حال دعاء فى وقت السحر، والله يقول عن المتقين {وبالأسحار هم يستغفرون} الذاريات: 18، وفى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم " ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول عز وجل: من يدعونى فأستجيب له؟ من يسألنى فأعطيه؟ من يستغفرنى فأغفر له؟ ".
هذا هو رأى الجمهور، وعند الحنابلة هى بدعة سئية، قال فى " الإقناع " وشرحه من كتب الحنابلة: وما سوى التأذين قبل الفجر من التسبيح والنشيد ورفع الصوت بالدعاء ونحو ذلك فى المآذن فليس بمسنون. وما من أحد من العلماء قال: إنه مستحب -لعله يقصد علماء الحنابلة-بل هو من جملة البدع المكروهة، لأنه لم يكن فى عهده صلى الله عليه وسلم ولا فى عهد أصحابه، وليس له أصل فيما كان على عهدهم يرد إليه، فليس لأحد أن يأمر به ولا ينكر على من تركه.
وجاء فى كتاب " تلبيس إبليس " لابن الجوزى قوله: ولقد رأيت من يقوم بليل كثير- أى جزء كبير من الليل -على المنارة فيعظ ويذكِّر ويقرأ سورة من القرآن بصوت مرتفع فيمنع الناس من نومهم، ويخلط على المتهجدين قراءتهم وكل ذلك من المنكرات.
وقد ذكر المقريزى فى خططه "ج 4 ص 43 " وما بعدها أن التسبيح ليلا على المآذن لم يكن من فعل السلف، وأول ما عرف ذلك كان فى أيام موسى عليه السلام، وهم فى التيه بعد غرق فرعون. ثم ذكر تطوره وما يصحبه من نشيد وآلات حتى نهاية عهد بنى إسرائيل فى القدس.
وذكر أن أصله فى مصر بدأ من أول عهد الفتح الإسلامى فى ولاية مسلمة بن مخلد، وإشارة شرحبيل بأن يبدأ الأذان من منتصف الليل إلى قرب الفجر، حتى لا يضرب بالنواقيس فى الكنائس فى هذه الفترة، وذكر أن الطولونببن رتبوا المكبِّرين والمسبحين ليلا. ومن ذلك اتخذ الناس عادة التسبيح على المآذن قبل الفجر.
فالخلاصة أن الابتهالات قبل الفجر لا يوجد ما يمنعها شرعًا عند جمهور العلماء، فهى وإن كانت تقليدًا موروثًا لم يكن فى عهد السلف الصالح -هى من البدع المستحسنة وإذا كان بعض الناس يسيئون استعمالها عن طريق إذاعتها بمكبرات الصوت التى تزعج بعض ذوى الأعذار فإن ذلك لا يمنع أصل إباحتها، وذلك بإنصات المستمعين إليها فى المساجد بخشوع محافظة على حرمة المسجد، ويمنع إيذاء ذوى الأعذار من جراء إذاعتها بمبكرات الصوت(9/203)
تفريج اليدين فى السجود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض المصلين إذا سجدوا باعدوا بين اليدين وأخذوا مساحة كبيرة لدرجة يتضايق بها من يصلون بجوارهم فى الجماعة، فهل هذا من السنة؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن عبد الله بن بُحينة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد يجنح فى سجوده حتى يرى وضح إبطيه والتجنح هو التفريج، والمراد أنه ينحى كل يد عن الجنب ولا يلصقها به، ومن هنا يرى بياض إبطيه، يقول القرطبى: والحكمة فى استحباب هذه الهيئة أن يخف اعتماده على وجهه ولا يتأثر أنفه ولا جبهته، وقال غيره هو أشبه بالتواضع مع مغايرته لهيئة الكسلان.
والمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفرج بين يديه عند السجود ويجافيهما جنبيه. وينبغى أن يكون التفريج والمجافاة بحيث لا يتأذى أحد كمن يصلى بجواره فى الجماعة مثلا، فالضرر منهى عنه، وذلك على غرار ما قلناه فى التفريج بين القدمين عند الوقوف فى الصلاة، حيث اتفق الجميع أنه إذا كان متفاحشا أى واسعا جدا كان مكروها فيرجع إليه(9/204)
التسليم من الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعض المصلين يختمون صلاتهم عند الخروج منها بتسليمة واحدة، وبعضهم يقول فى التسليمة الأولى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وفى الثانية لا يذكرون كلمة " وبركاته " فما هو الحكم الصحيح فى ذلك؟
الجواب
الخروج من الصلاة بعد إتمامها يكون يالتسليم عند جمهور الفقهاء، وأبو حنيفة يكتفى بأى شىء مناف للصلاة، والتسليم الواجب هو مرة واحدة، أما المرة الثانية فسنة، والصيغة المختارة فى حدها الأدنى "السلام عليكم " ومن السنة الزيادة عليها "السلام عليكم ورحمة الله " كما يسن الالتفات إلى اليمين فى المرة الأولى، وإلى اليسار فى المرة الثانية، وذلك لحديث عن ابن مسعود قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله. رواه الترمذى وقال:
حديث حسن صحيح.
وهل من السنة أن يزيد على ذلك "وبركاته "؟ يرى بعض العلماء ذلك لحديث رواه أبو داود عن وائل بن حجر قال: صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ويرى بعضهم أن هذه الزيادة ليست سنة. يتول النووى فى كتابه " الأذكار ص 74" لا يستحب أن يقول "وبركاته " لأنه خلاف المشهور عن النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان قد جاء فى رواية لأبى داود، وقد ذكره جماعة من أصحابنا منهم إمام الحرمين وزاهر السرخسى والرويانى فى الحلية، ولكنه شاذ، والمشهور ما قدمنا.
هذا، وأما حكمة التسليم وكونه على اليمين واليسار للإمام والمأموم والمنفرد ففيها كلام كثير للائمة يرجع إليه فى "فقه المذاهب الأربعة " والمغنى لابن قدامة ج 1 ص 592 - 598 " وبخصوص عدم زيادة "وبركاته " فى التسليمة الثانية لم أعثر على مبرر مقبول لذلك، والمخلوقات من الملائكة والجن والإنس لا فرق فى التسليم عليهم بين من هم على اليمين ومن هم على اليسار، وأرجو عدم التعصب لذلك(9/205)
صلاة الجمعة فى مسجد خاص
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هناك مؤسسات أو منشآت لا يدخلها أحد إلا بتصريح، والذين يصلون الجمعة فيها هم العاملون بها دون غيرهم إلا من يحمل تصريحا بالدخول، فهل صلاة الجمعة تصح فى هذه الأماكن الخاصة؟
الجواب
الأئمة الثلاثة قالوا: تصح الجمعة فى أى مكان يجتمع فيه العدد الذى تنعقد به الصلاة على اختلافهم فى هذا العدد. سواء أكان هذا المسجد عاما لكل من يريد الصلاة فيه أو خاصا بجماعة معينة، والإمام أبو حنيفة هو الذى اشترط أن يكون مسجد عامًّا، جاء فى فقه المذاهب الأربعة - نشر أوقاف مصر، ما نصه - الحنفية قالوا: لا يشترط فى صحة الجمعة أن تكون فى مسجد، إنما يشترط فيها الإذن العام من الإمام، فلو أقام الإمام الجمعة فى داره بحاشيته وخدمه تصح مع الكراهة، ولكن بشرط أن يفتح أبوابها، ويأذن للناس بالدخول فيها، ومثلها الحصن والقلعة، على أنه لا يضر إغلاق الحصن أو القلعة لخوف من العدو، فتصح الصلاة فيها مع إغلاقها متى كان مأذونا للناس بالدخول فيها من قبل.
وبناء على هذا تصح الجمعة فى المعسكرات الخاصة والمؤسسات التى لا تسمح بدخولها إلا للعاملين بها، وذلك على رأى جمهور الفقهاء(9/206)
الزكاة والضرائب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن أحسب الضرائب المفروضة على مالى من ضمن الزكاة الواجبة؟
الجواب
الضرائب فريضة فرضها ولى الأمر لحاجة البلد إليها، وطاعته فى المصلحة واجبة، ولا تجوز مخالفته قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} النساء: 59، على أن تكون عادلة فى تقديرها وجبايتها وإنفاقها، يقول ابن حزم: وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، ولا فى سائر أموال المسلمين. وفى حديث مسلم " على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" حتى لو أحس الإنسان أنها ظالمة فالواجب دفعها، وله الحق فى الشكوى، روى مسلم أن مسلمة بن يزيد الجعفى قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ثم سأله فقال له صلى الله عليه وسلم " اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم ".
وجاء فى تفسير القرطبى "ج 16 ص 42 " قوله: اختلف علماؤنا فى السلطان يضع على أهل بلد مالا معلوما يأخذهم به، يؤدونه على قدر أموالهم، هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم؟ .
فقيل: لا، وهو قول سُحْنون من علمائنا.
الضرائب لا تغنى عن الزكاة، لأن الزكاة فرض الله وإحدى الدعائم الخمسة للإسلام، ولها مصارف معينة، ووعاء معين. أما الضرائب فتشريع وضعى قابل للخفض والرفع والإلغاء، ولا يختص بوعاء معين ولا بمصرف معين. وقد ذم ابن حجر الهيتمى ج 1 ص 183 " التجار الذين يحسبون المكس - الضريبة - من الزكاة، وإن كان قد ذم المكس إذا كان لغير حاجة.
وقرر المؤتمر الثانى لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد فى مايو 1965 م أن ما يفرض من الضرائب لمصلحة الدولة لا يغنى القيام بها عن أداء الزكاة المفروضة(9/207)
ثعلبة ومنع الزكاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى قصة ثعلبة الذى منع الزكاة؟
الجواب
يذكر كثير من المفسرين لقوله تعالى: {ومنهم من عاهد اللَّه لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون. فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا اللَّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} التوبة: 75 - 77.
أقول ذكر كثير منهم: أن المراد به هو ثعلبة بن حاطب، ويظن الكثير من الناس أنه هو ثعلبة، أحد من شهد بَدْرًا ثم يجىء السؤال:
كيف يصح أن يكون ثعلبة من أهل بدر ثم ينقلب منافقا يسجل نفاقه فى القرآن؟ .
وقد ذكر المحققون أن ثعلبة هذا غير ثعلبة البدرى، والتشابه إنما هو فى الاسم فقط.
ولما ذكر البارودى وابن السكن وابن شاهين وغيرهم أنه هو البدرى أنكر الحافظ ابن حجر ذلك وقال فى كتابه " الإصابة" ولا أظن الخبر يصح، وإن صح ففى كونه هو البدرى نظر.
وقد ذكرا بن الكلبى أن ثعلبة بن حاطب الذى شهد بدرا قتل بأحد، فتأكدت المغايرة بينهما، فان صاحب القصة تأخر إلى خلافة عثمان.
قال: ويقوى ذلك أن فى تفسير ابن مردويه اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية " وحكى عن ربه أنه قال لأهل بدر " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا فى قلبه وينزل فيه ما ينزل؟ فالظاهر أنه غيره.
فالواجب عند ذكر هذه القصص المثيرة: التحرى فى ثبوت ذلك وعدمه، ومثل هذا ما روى فى سبب نزول قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللَّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} الأحزاب: 53، حيث قالوا: إن طلحة بن عبيد اللَّه قال: يتزوج محمد بنات عمنا ويحجبهن عنا، لئن مات لأتزوجن عائشة(9/208)
الزكاة فى مال الصبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نعرف أن التكليف بالعبادات يكون عند البلوغ، فلو ترك والد لولده الصغير مالا يبلغ النصاب، هل تجب فى ماله زكاة؟
الجواب
العلماء فريقان فى حكم الزكاة فى مال الصبى الذى لم يبلغ حد التكليف، فريق لا يرى وجوب الزكاة ومنهم أبو حنيفة وأصحابه، وقصدوا الزكاة فى الزروع والثمار كما جاء فى كتاب بدائع الصنائع للكاسانى، وحجتهم فى ذلك أن الزكاة عبادة محضة كالصلاة تحتاج إلى نية، والصبى لا تتحقق منه النية، وقد سقطت عنه الصلاة لفقدان النية فتسقط الزكاة كذلك، كما احتجوا بحديث " رفع القلم عن ثلاث، عن الصبى حتى يبلغ.
. . " وبقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} التوبة:
103، ولكن هذه الأدلة تصلح لمن لا يوجب الزكاة على الصبى أصلا، ولا تصلح لمن أوجبها فى بعض المال.
وضموا إلى هذه الأدلة النقلية دليلا عقليا وهو: أن مصلحة الصغير فى إبقاء ماله، والزكاة تنقصه وقد تستهلكه، لعدم تحقيق النماء الذى هو علة وجوب الزكاة. وهذه العلة العقلية تساعد من يقول بوجوب الزكاة فى ماله النامى بنفسه كالزروع والمواشى، أو الذى ينمى بالعمل والتثمير كالنقود التى يتجر فيها بالمضاربة.
والفريق الثانى من العلماء يرى وجوب الزكاة فى مال الصبى، ومنهم مالك والشافعى وأحمد، ومن أدلتهم عموم النصوص الدالة على وجوب الزكاة فى مال الأغنياء، دون استشاء صبى أو غيره، وحيث إن الصبيان يعطون من الزكاة إذا كانوا فقراء فلتؤخذ منهم إذا كانوا أغنياء كما يدل عليه حديث معاذ لما أرسله النبى صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حيث قال له " أعلمهم أن اللَّه افترض عليهم صدقة فى أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد فى فقرائهم ".
ومن أدلتهم حديث رواه الطبرانى مرفوعا " اتجروا فى أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة " ومثله حديث الترمذى وإن كان فيه مقال، غير أن معناه صحيح موقوف على عمر، فقد صحح البيهقى عنه: ابتغوا فى أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة، والمراد بها الزكاة. وكما صح الحكم عن عمر صح عن غيره من عدد من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف، إلا رواية ضعيفة عن ابن عباس لا يحتج بها.
وإلى جانب هذه الأدلة قالوا: إن مقصود الزكاة سَدُّ خلة الفقراء من مال الأغنياء شكرًا لله وتطهيرا للمال، ومال الصبى قابل لأداء النفقات والغرامات فلا يضيق عن الزكاة.
وعلى هذا القول: ولى الصبى يخرج الزكاة عنه من ماله، وتعتبر نية الولى فى الإخراج، وبعض المالكية قال: يخرجها الولى إذا أمن أن يطالبه وجعل له ذلك، وإلا فلا.
ويؤخذ من هذا أن الجمهور يوجبون الزكاة فى مال الصبى(9/209)
دفع الزكاة لغير المسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز دفع الزكاة لغير المسلم؟
الجواب
لا يجوز إعطاء الزكاة المفروضة لغير المسلم، للنص على أنها تؤخذ من أغنياء المسلمين لترد على فقرائهم. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الذمى لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ويستثنى من ذلك المؤلفة قلوبهم.
أما الصدقة التطوعية فيجوز أن يعطى منها غير المسلم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبى بكر " صلى أمك " وكانت مشركة، والآية تقول {لا ينهاكم اللَّه عن الدين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن اللَّه يحب المقسطين} الممتحنة: 8.
وهناك رأى للزهرى وأبى حنيفة ومحمد وابن شبرمة بجواز إعطاء زكاة الفطر للذمى، بناء على الآية المذكورة(9/210)
إخراج قيمة الزكاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز إخراج القيمة بدل العين فى الزكاة؟
الجواب
الزكاة واجبة فى أصناف حددها القرآن والسنة، حدد أوعيتها كما حدد مقاديرها ومن أوعيتها الإبل والبقر والغنم والزروع والثمار، فهل تخرج الزكاة من جنس هذه الأوعية، أو يجوز إخراج قيمتها نقدا أو من نوع آخر؟ .
جمهور الفقهاء على أن الزكاة تخرج من جنس المال المزكى، لكن أبا حنيفة أجاز إخراج القيمة بدل العين، كما أجازه مالك فى رواية وكذلك الشافعى فى قول له، وفى قول آخر هو مخير بين الإخراج من قيمتها وبين الإخراج من عينها. ومن الأدلة على ذلك:
1 -أن زكاة الإبل قد تخرج من غيرها، وهى الغنم، ففى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان كما هو معروف.
2 - النص على جواز القيمة النقدية أو نوع آخر فى حديث البخارى " من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده الجذعة، وعنده الحقة فإنه يؤخذ منه وما استيسرتا من شاتين أو عشرين درهما ".
3- ما رواه الدارقطنى وغيره أن معاذ بن جبل قال لأهل اليمن.
ايتونى بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير فى الصدقة، فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة. والخميس هنا هو الثوب الذى طوله خمسة أذرع ويقال سمى بذلك لأن أول من عمله هو الخمس أحد ملوك اليمن، ولم يثبت أن النبى أنكر عليه أن يأخذ القماش بدل الذرة والشعير.
4 - قول النبى صلى الله عليه وسلم فى زكاة الفطر " أغنوهم عن سؤال هذا اليوم " رواه البيهقى أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم، فأى شىء سد حاجتهم جاز.
5 - قول اللَّه تعالى {خذ من أموالهم صدقة} التوبة: 103، ولم يخص شيئا من شىء.
هذه هى أدلة جواز إخراج القيمة بدل العين فى الزكاة كما ذكرها القرطبى فى تفسيره "ج 8 ص 175 ":
وأورد دليل الرواية الثانية عن مالك بعدم الجواز- وهو ظاهر المذهب - بأن الحديث يقول " فى خمس من الإبل شاة، وفى أربعين شاة شاة " وقال القرطبى: نص على الشاة، فإذا لم يأت بها لم يأت بمأمور به، وإذا لم يأت بمأمور به فالأمر باق عليه.
ونوقش هذا الدليل بأنه قد يظهر فى أخذ شاة عن أربعين شاة، ولكن لا يظهر فى أخذ شاة عن خمس من الإبل، فالجنس مختلف وفد يُردُّ ذلك بأن الجنس واحد وهو الأنعام ولا يضر اختلاف النوع، فيؤخذ من الغنم بدل الإبل.
والاستدلال ضعيف لا يقوى أمام أدلة المجيزين، وبخاصة الدليل الثانى والثالث، حيث النص فى الأول على البدل وهو شاتان وعلى القيمة " أو عشرين درهما " وفى الثانى على البدل وهو القماش بدل الحبوب. فما استيسر من أى شىء بَدَلَ ما نص عليه فلا مانع منه، لأنه صدقة خرجت من ماله لا تنقص عن قيمة ما نص عليه، وقد تكون القيمة أنفع للفقير أو من يستحق الزكاة، والزكاة فى عروض التجارة تكون من القيمة، لأنها تقوم عند آخر الحول، ودليله ما رواه أحمد وأبو عبيد عن أبى عمرو بن حماس عن أبيه قال: أمرنى عمر رضى اللَّه عنه فقال " أدِّ زكاة مالك. فقلت: ما لى مال إلا جِعَابٌ وأَدَم، فقال: قومها ثم أدِّ زكاتها ". والجعاب جمع جَعْبة، وهى كنانة النبال أى كيسها، والأدم هو الجلد، يقول صاحب المغنى "ج 3 ص 58 ": وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعا.
وأجاز أبو حنيفة إخراج الزكاة من عين السلع كسائر الأموال.
وبناء على هذه الأقوال أرى أن يراعى مصلحة المزكى فى تجارته الراكدة فيجوز أن يخرجها من السلع، وقد أشار ابن تيمتة فى فتاويه (ج 1 ص 299) إلى مراعاة المصلحة والدين يسر، وحيث توجد المصلحة فثم شرع اللَّه(9/211)
الزكاة فى سبيل الله
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز دفع جزء من الزكاة فى بناء المساجد، وبخاصه للجاليات الإسلامية فى البلاد الأجنبية؟
الجواب
سبيل الله فى اللغة هو الطريق الموصل إلى مرضاته، وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهى، وعند إطلاقه فى الشرع ينصرف إلى الجهاد، حتى صار لكثر الاستعمال كأنه مقصور عليه كما قال ابن الأثير فى " النهاية ".
وكون الجهاد من مصارف الزكاة الثمانية الموجودة فى قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} التوبة: 60، أمر متفق عليه بين الفقهاء، مريدين بسبيل الله الجهاد لكن ما وراء الجهاد من أعمال الخير فالمذاهب مختلفة فيه:
فالأحناف يقصرون سبيل الله على الجهاد، تصرف على المجاهدين تمليكا لهم. مشترطين فيهم الفقر والحاجة، وقد أخذ عليهم هذا الشرط لأنهم به داخلون تحت اسم الفقراء، ولم تعد هناك حاجة إلى مصرف (سبيل الله) فى الآية. والكاسانى فى " بدائع الصنائع " جعل جميع القرب والطاعات من سبيل الله، لكنه اشترط أيضا تمليك الزكاة للشخص المستحق لها.
وعلى هذا لا يجوز صرفها فى بناء المساجد وتكفين الموتى وقضاء الديون عنهم " رد المحتار ج 2 ص 85 ".
والمالكية متفقون على أن سبيل الله فى الزكاة هو الجهاد وما يتعلق به من إعداد ومرافق، ولا يشترطون فيها تمليكا للأشخاص، ولا يشترطون الفقر ليكون سبيل الله صنفا متميزا عن الفقراء والمساكين.
والشافعية أرادوا بسبيل الله المجاهدين المتطوعين لا من ترتب لهم أرزاق لعملهم هذا، ولا يشترطون الفقر فى هؤلاء المتطوعين، فهم كالمالكية فى قصر سبيل الله على الجهاد، لكن أرادوا بالمجاهدين المتطوعين.
والحنابلة كالشافعية فى هذا الرأى، لكن جاء فى رواية عن أحمد جعل الحجاج كالمجاهدين داخلين فى سهم سبيل الله لحديث أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرا فى سبيل الله وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى، فأتت النبى صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك فأمره أن يعطيها البكر وقال (الحج والعمرة فى سبيل الله) رواه أحمد وأبو داود برواية أخرى، والروايتان ضعيفتان.
فالمتفق عليه بين الفقهاء أن سبيل الله هو الجهاد، مع الاختلاف فى اشتراط الفقر وعدمه، وفى تمليكها للشخص أو عدم تمليكه، وفى قصره على المتطوعين أو تعميمه على جميع المجاهدين. وما نقل عن الكاسانى فى جعل أنواع القربات الأخرى من سبيل الله شرط فيه التمليك للشخص لا أن تصرف فى بناء المساجد وغيرها.
وابن قدامة الحنبلى فى " المغنى " صوب رأى الجمهور ولم يرتض رواية أحمد فى صرفها على الحجاج وقال معللا لذلك: إن الزكاة تصرف لأحد رجلين: محتاج كالفقراء والمساكين وفى الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعاملين على الزكاة والغزاة والمؤلفة قلوبهم والغارمين لإصلاح ذات البين. أما الحج للفقير فلا نفع للمسلمين فيه، ولا حاجة به إليه أيضا فهو غير واجب عليه ولا مصلحة له فى إيجابه عليه وتكليفه مثقة خففها الله عنه، وتوفير هذا القدر على ذوى الحاجة من سائر الأصناف أو دفعه فى مصالح المسلمين أولى.
وهناك بعض العلماء توسعوا فى معنى" سبيل الله " ليشمل جميع أنواع القربات، منهم الفخر الرازى حيث نقل عن القفال فى تفسيره أن بعض الفقهاء أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه البر من تكفين الموتى وعمارة المساجد وغيرها، ولم يعين من هم هؤلاء الفقهاء المجيزون، وإن كان لا يوصف بالفقيه إلا المجتهد. ونسب ابن قدامة فى " المغنى " هذا الرأى إلى أنس بن مالك والحسن البصرى ولكن المحققين بينوا أن هذه النسبة خطأ لعدم فهم ما نقله أبو عبيد عنهما فى كتابه " الأموال ".
ومن المتوسعين فى سبيل الله الإمامية الجعفرية كما ذكر فى كتاب "المختصر النافع " وكتاب " جواهر الكلام شرح شرائع الإسلام " فى فقه الشيعة. ومنهم أيضا السيد صديق حسن خان فى كتاب " الروضة الندية " الذى يقول: ليس هناك دليل على تخصيص سبيل الله بالجهاد. فليبق على معناه اللغوى واسعا، وكونه انصرف إلى الجهاد فى العهود الأولى لا يمنع من شموله لكل ما يوصل إلى رضاء الله من أنواع القربات، ومال إلى هذا الرأى جمع من العلماء المتأخرين والمعاصرين.
وعلى هذا الرأى يجوز صرف جزء من الزكاة فى بناء المساجد والمعاهد وتحفيظ القرآن وإيواء اللاجئين ونشر الثقافة الدينية، وكل عمل يعز الإسلام ويقوى شوكة المسلمين ويدفع عنهم غائلة الاستعمار والسيطره بأى شكل من الأشكال(9/212)
تعجيل الزكاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز إخراج الزكاة قبل وقت وجوبها؟
الجواب
ذهب الشافعى وأبو حنيفة وأحمد إلى جواز إخراج الزكاة قبل وقت وجوبها، وهو الحول فى النقود والتجارة والأنعام، والدليل على ذلك ما ورد عن على رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم استسلف صدقة العباس قبل محلها وإن كان فى السند مقال. وسئل الحسن عن رجل أخرج ثلاث سنين هل يجزيه؟ قال: يجزيه، وعن الزهرى أنه كان لا يرى بأسا أن يعجل الإنسان زكاته قبل الحول وقال مالك: لا يجزى إخراجها حتى يحول الحول [للأحاديث التى ربطت وجوبها بالحول كحديث على الذى رواه أبو داود وفيه مقال] وقال بذلك ربيعة وسفيان الثورى وداود. يقول ابن رشد: وسبب الخلاف، هل هى عبادة أو حق للمساكين؟ فمن قال: إنها عبادة وشبهها بالصلاة لم يجز إخراجها قبل الوقت، ومن شبهها بالصلاة الواجبة المؤجلة - أى التى لها أجل - أجاز إخراجها قبل الأجل على جهة التطوع.
ومثل الزكاة العامة زكاة الفطر- فالجمهور على جواز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين كما كان يفعل عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، وأما قبل ذلك ففيه خلاف.
فعند أبى حنيفة يجوز إخراجها قبل شهر رمضان، وعند الشافعى يجوز من أول شهر رمضان، أما عند مالك وأحمد فلا يجوز إلا قبل العيد بيوم أو يومين(9/213)
توزيع الزكاة على فترات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا أقدر زكاة مالى عند آخر الحول، وأعرف فقراء هم أولى بدفعها إليهم، لكن أعرف أنهم إذا أخذوها دفعة واحدة أنفقوها بسرعة واشتدت حاجتهم بعد ذلك، ورأيت أن من المصلحة أن أعطيهم كل شهر مقدارا منها حتى ينتهى العام وقد برئت ذمتى من الزكاة تماما، فهل فى هذا ما يخالف الشرع؟
الجواب
عندما يحين وقت وجوب الزكاة يجب إخراجها ومن الخير التعجيل بإعطائها للجهات المستحقة، فقد روى البخارى وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم عندما انصرف من صلاة العصر قام سريعا فدخل بعض بيوت أزواجه، ثم عاد، فوجد فى وجوه القوم تعاجبا لسرعته فقال "ذكرت وأنا فى الصلاة تبرا عندنا، فكرهت أن يمسى أو يبيت عندنا، فأمرت بقسمته " وروى الشافعى والبخارى فى التاريخ عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته " رواه الحميدى وزاد، قال " يكون قد وجب عليك فى مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال ".
وهذا شأن كل دين واجب ينبغى التعجيل بأدائه، ومن هنا قال جمهور الفقهاء بجواز تعجيل إخراج الزكاة قبل وقت وجوبها.
لكن مع فصل الزكاة أو تعيين قدرها إذا رأى الإنسان أن من المصلحة توزيعها على فترات فلا مانع، كانتظار وصول المستحقين أو السفر إليهم، أو جعلها كراتب شهرى لأسرة فقيرة لو أخذتها مرة واحدة أنفقتها فى غير ما يلزم، وبعد ذلك تحتاج إلى مساعدة.
وما دام الانسان يبغى المصلحة فلا مانع من توزيعها على فترات، مع التوصية لأوليائه بمعرفة ما يجب عليه وما بقى من غير توزيع، حتى يقوموا بتوزيعه عند اللزوم(9/214)
الزكاة والزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن أدفع جزءا من زكاة أموالى مساعدة فى زواج أحد أقاربى أو إحدى قريباتى؟
الجواب
حدد اللَّه سبحانه مصارف الزكاة فى قوله تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من اللَّه واللَّه عليم حكيم} التوبة:65، فلا يجوز دفعها لغير هؤلاء كما تفيده أداة الحصر وهى " إنما " وكل هذه الأصناف حددها العلماء دون خلاف بينهم يذكر، إلا في قوله تعالى {وفى سبيل اللَّه} ففسره الجمهور بالجهاد وفسره سره بعضهم بمنقطعى الحجيج، وجعله آخرون شاملا لكل القربات ومع ذلك لا يدخل التزويج فيه كما قال المحققون، فكما قالوا:
لا يجوز صرف الزكاة للاستعانة بها على الحج لأن الله فرضه على المستطيع فقط، قالوا: لا يجوز صرفها من أجل التزويج الذىَ ندب اللَّه له من يستطيع أن يقوم بمسئولياته، فقال {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم اللَّه من فصله} النور: 33، وقال صلى الله عليه وسلم " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحْصَنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " رواه البخارى ومسلم، والباءة هى تكاليف الزواج.
والزواج فى هذه الأيام بالذات أخذ صورة مظهرية أكثر منها أدبية ودينية، سواء فى المهور الغالية أو الأثاث الفاخر أو حفلات الزفاف وما إليها، فلا ينبغى أن توجه الزكاة إليها، وفى المجتمع حالات هى أحوج ما تكون إليها، روى مسلم أن رجلا تزوج على صداق قدره أربع أواق لا يستطيع دفعها، ذهب إلى النبىصلى الله عليه وسلم يستعينه، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم فى حالته الخاصة لا يمكنه أن يساعد بمثل هذا القدر، وليس فى مال المسلمين حق يعين هذا الرجل، فقال له مستنكرا " كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، لكن عسى أن نبعثك فى بعث تصيب منه ". ولو تعين الزواج عصمة من المنكر للفتى أو الفتاة لا يتحمل معها الانتظار إلى وقت اليسار وجب عليه أن يتزوج بقدر يناسب وضعه الذى هو فيه، ما دام يقصد الخير من العفة والشرف، ولا يعدم أى مجتمع أن يكون فيه من يحقق له غرضه، فالخير موجود فى المسلمين إلى يوم القيامة. هذا، وإذا كانت للزكاة مصارف متعددة فينبغى مراعاة الأولوية فيها، والمسلمون كأمة واحدة يجب أن يتضامنوا فى تحقيق الخير ودفع الشر، وفيهم الآن من هم فى أشد الحاجة للعون الذى يحفط كرامتهم كآدميين ومسلمين، فأولى أن تدفع الزكاة إليهم، ولو كان للزكاة جهاز منظم يشرف عليها بصدق وإخلاص جمعا وتوزيعا لظهر أثرها الذى شرعت من أجله، سواء فى الوطن الصغير أو فى الوطن الإِسلامى الكبير(9/215)
إعطاء الزكاة للأقارب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعت أن إعطاء الزكاة للأقارب لا يجوز، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الأقارب هنا قسمان، قسم تجب على الإنسان نفقته كالأبوين والأولاد والزوجة وقسم لا تجب عليه نفقته، كالعم والخال والعمة والخالة.
وقد اتفق الفقهاء على جواز إعطاء الزكاة للقسم الثانى، بل هم أولى بها من غيرهم، لأنها تكون زكاة وصلة رحم فى وقت واحد كما رواه أحمد وابن ماجه والنسائى والترمذى وحسنه، وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحيهما عن النبى صلى الله عليه وسلم "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذى الرحم ثنتان، صدقة وصلة".
أما القسم الأول: وهو من تجب عليه نفقته فالإجماع على أنه لا يجوز إعطاؤهم من الزكاة، لأن المفروض فى المزكى أن ينفق عليهم النفقة الكافية التى لا تجعلهم فقراء ولا مساكين يستحقون الزكاة، والمزكى عنده مال كثير زائد عن حاجته وحاجة من يعولهم فهم فى غير حاجة إلى الزكاة. فالوالدان لا يجوز إعطاء الزكاة لهما، وكذلك الأولاد الصغار، أو البالغون إذا كانوا غير قادرين على الكسب، فإن قدروا على الكسب فلا تجوز الزكاة لهم.
وكذلك الزوجة نفقتها واجبة على الزوج فلا يعطيها من زكاته، لأنه لو أعطى هؤلاء الذين تجب عليه نفقتهم فهو يعطى نفسه، لأن الزكاة ستخفف من عبء النفقة الواجبة عليه. روى الأثرم فى سننه عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: إذا كان ذو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك، وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول "نيل الأوطار للشوكانى ج 4 ص 189 ".
والشوكانى يرى جواز إعطاء الزكاة للقريب، بصرف النظر عن كون نفقته واجبة على المزكى أو غير واجبة، مستندا إلى حديث البخارى ومسلم فى شأن زينب امرأة عبد اللَّه بن مسعود الثقفى وشأن امرأة معها، حيث سئل النبى صلى الله عليه وسلم: أتجزى الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام فى حجورهما؟ فقال "لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة" وفى رواية البخارى عن أبى سعيد "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم ".
يقول الشوكانى فى وجه الاستدلال: إن النبى صلى الله عليه وسلم لم يستفصل عن الصدقة إن كانت واجبة أو تطوعا، وترك الاستفصال فى مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم فى المقال، والأصل عدم المانع، فمن زعم أن القرابة أو وجوب النفقة مانعان من إجراء الزكاة فعليه الدليل، ولا دليل.
وقد أجاز الشوكانى ذلك لأن الأم لا يلزمها أن تنفق علي ابنها مع وجود أبيه، لكن قد يقال: إن الأيتام ربما لا يكونون أولادها فتصح الزكاة عليهم.
وقد روى عن مالك أن الممنوع من أخذ الزكاة هم الأب والأم والأولاد، أما الجد والجدة ومن علا، وبنو البنين ومن نزل فيجوز صرف الزكاة إليهم، أما غير الأصول والفروع ممن تجب نفقتهم -كالزوج والزوجة - فذهب مالك والشافعى إلى أنه لا يجزئ صرف الزكاة إليهم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يجوز ويجزئ، وذلك لعموم الدليل فى التصدق على الأقارب، حيث لم يفصل، بين قرابة وقرابة، ولا بين وجوب النفقة وعدم وجوبها، كما وضحه الشوكانى. وهذا كله فى الصدقة الواجبة كالزكاة، أما صدقة التطوع فالأقارب بوجه عام أولى بها كما سبق ذكره، ومما يرغب فى ذلك أيضا حديث رواه مسلم "دينار أنفقته فى سبيل اللَّه، ودينار أنفقته فى رقبة-يعنى تحرير رقبة من الرق -ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذى أنفقته على أهلك لما وجاء في تفسير القرطبى "ج 8 ص 190 "جواز إعطاء الزوجة زكاتها لزوجها الفقير بناء على حديث زينب الثقفية، حتى لو كان يستعين بها على النفقة عليها كما كان يفعل ابن حبيب، وقال أبو حنيفة لا يجوز، وخالفه صاحباه فقالا يجوز، وذهب الشافعى وأبو ثور وأشهب إلى إجازة ذلك إذا لم يصرفه إليها فيما يلزمه لها، وإنما يصرف ما يأخذه منها فى نفقته وكسوته على نفسه، وينفق عليها ماله.
وفى الفتاوى الإسلامية "مجلد 1 ص 115 " لو دفع الزكاة إلى من تجب نفقته عليه جاز إذا لم يحسبها من النفقة، وذلك فى غير الزوجة والأبوين والفروع، كما وضحتها فتوى فى المجلد الخامس ص 1799 "(9/216)
زكاة الجنين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم ما لو ذبحت البقرة الحامل بجنينها كامل النمو، هل يجوز أكل هذا الجنين إذا مات فى بطن أمه؟
الجواب
روى أحمد والترمذى وابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى الجنين "ذكاته ذكاة أمه " وفى رواية لأحمد وأبى داود: قلنا يا رسول الله، ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفى بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكل؟ قال "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه ".
يؤخذ من هذا أن الحيوان المأكول اللحم إذا ذبح وفى بطنه جنين، فإن ذبح أمه ذبح له ما دام قد تم بالطريقة الشرعية، وأكل لحمه حلال ولا يحتاج إلى ذبح، وهذا ما رآه الإمام الشافعى والإمام مالك، وإن كان مالك اشترط أن يكون الجنين قد أشعر، أى نبت له شعر، لكن دليله فى ذلك ضعيف، فإنه قطعة من أمه، سواء نبت له شعر أولا.
وأبو حنيفة خالف مالكا والشافعى، كما خالف صاحبيه، فحرم أكل الجنين إذا خرج ميتا، لأن ذكاة أمه لا تغنى عن ذكاته أى ذبحه، محتجا بعموم قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} وهى التى لم تذبح ولكن هذا الاحتجاج ضعيف، لأنه من ترجيح العام على الخاص، والمعمول به هو العكس.
فالمعتمد أو الراجح هو مذهب الجمهور فى أن ذكاة الجنين هى ذكاة أمه، أى لا حاجة إليها بعد ذكاة أمه(9/217)
زكاة الزروع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تحتاج الزراعة إلى مصاريف كثيرة فى الرى والتسميد والحصاد وغير ذلك، فهل تخصم هذه المصاريف من جملة المحصول وتخرج الزكاة عن الباقى بعد الخصم؟
الجواب
1-الزكاة واجبة على المحاصيل الزراعية كما جاء فى قوله تعالى {وهو الذى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المشرفين} الأنعام: 141.
وبعيدا عن التى تجب فيها الزكاة من الزروع، فإن ما يورد منها إلى الجمعيات أو جهات أخرى يدخل ضمن النصاب ولا يخصم، ولا يكتفى بتزكية ما بقى بعد الخصم، فالآية تأمر بإخراج الزكاة عند الحصاد.
ومعلوم أن المحاصيل قد تصرف عليها مصاريف فى الرى والتسميد والتنقية والحصاد وغير ذلك، فهل تخصم هذه المصاريف من المحصول، وتخرج الزكاة عن الباقى؟ .
لا يجوز هذا الخضم عند جميع الأئمة المعروفين، وهم أبو حنيفة ومالك والشافعى وأحمد رحمهم اللَّه تعالى، لكن جاء عن عبد الله بن عمر وعبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنهم أجمعين أن الزكاة تكون على ما بقى بعد استقطاع التكاليف، ونقله ابن حزم عن عطاء بن يسار.
ولعل وجهة نظرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الزكاة على الزروع والثمار التى تسقى بماء السماء العشر أما التى تسقى بتعب ومصاريف للسواقى والماكينات وغيرها فالزكاة نصف العشر.
ويحصل فى بعض المناطق التى تعتمد على المطر فى زراعة القمح والشعير أن يشتط العمال المدربون على أعمال الزراعة، فى تقدير أجرهم كنصف المحصول، وهنا يمكن العمل برأى ابن عمر وابن عباس وعطاء فى هذه الحالة، وكل هذا مع مراعاة قول اللَّه تعالى {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم اللَّه من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم} آل عمران: 130، وقوله تعالى {وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} سبأ: 39(9/218)
الزكاة على الراتب والعمارة والسيارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجب الزكاة على الراتب أو الأجر الذى يأخذه الإنسان على عمله؟
الجواب
لقد حدد القرآن الكريم والسنة النبوية الأصناف التى تجب فيها الزكاة، ولم يرد نص خاص فى وجوبها فيما عداها، ما عدا قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} البقرة: 267.
وقد رأى الأئمة الثلاثة عدم وجوب الزكاة فى غير ما حدده بخصوصه القرآن والسنة، وحملوا هذه الآية على الإنفاق العام الذى يدخل فيه صدقة التطوع، والأمر فيها للإرشاد والاستحباب، أو منصب على اختيار الصالح والجيد، بدليل مقابلته بالنهى عن الإنفاق من الخبيث بأسلوب قوى مؤثر " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " والصدقة من الطيب المحبوب للنفس، فيها جهاد للنفس وإيثار للغير، ولو كان الإنسان آخذا شيئا من الغير لا يقبل إلا الطيب منه، أما الردى فلا يقبله إلا مع امتعاض وعند شدة الحاجة إليه، والإيمان الصادق يدفع إلى أن يحب الإنسان للناس ما يحبه لنفسه أما الإمام أبو حنيفة فقد أخذ بظاهر العموم فى الآية وأوجب الزكاة فى كل ما ينبت من الأرض حتى الخضر غير مقيد بالأنواع الواردة فى الحديث، كما أوجبها فى كل ما يكسب -الإنسان من وجوه الحلال.
وعلى هذا تجب الزكاة عنده فى عائد الممتلكات من العمارات والسيارات وفى الرواتب والأجور.
ولو وجبت الزكاة اشترط فيها الحول والزيادة عن الحاجة، كما اشترطه فى زكاة المال، فلو استغلت العمارات والسيارات للتجارة وجبت فيها زكاة التجارة، ولو استغلت للإيجار ونتج عن ذلك مال مدَّخر فائض وحال عليه الحول وجبت الزكاة باتفاق الأئمة، لأنها زكاة مال كالنقدين.
هذا فى الوجوب، أما التطوع بالصدقة وشكر اللَّه على النعم فلا حد لنصابه ولا لقدره ولا لزمنه، بل إن ميدان البر يتسع فيتجاوز حدود المال كما صح فى الحديث " تعدل بين اثنين صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن منكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وتبسمك فى وجه أخيك صدقة، وكل معروف صدقة"(9/219)
الزكاة وحكمة التشريع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا تفرض الزكاة على المسلمين فى حين أن الدولة تحصل الضرائب من جميع المواطنين على السواء، أريد إجابة منطقية لأنى لا اقتنع بقوله تعالى {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} ؟
الجواب
سبقت الإجابة على الفرق بين الزكاة والضرائب، ولا تغني الضرائب عن الزكاة وأحب أن يعلم كل مسلم أن التكاليف الشرعية لابد من تقبلها والعمل بها بصرف النظر عن فهم حكمة التشريع، فإن الحكمة قد تذكر مع الحكم وربما لا تذكر، ولا يترتب على عدم ذكرها أو عدم فهمها رفض الحكم وإنكاره. فالواقع أن أفعال اللَّه خالية عن العبث، ولكل فعل من أفعاله حكمة، فهو الحكيم الخبير وإن كنا لا ندرك هذه الحكم {واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون} .
وإذا كانت معرفة حكمة التشريع تبعث في النفس النشاط للعمل وتشرح الصدر للقبول، وتساعد على رد الشبه وتحمى من الأباطيل، فإن مجرد الامتثال لأنه أمر من اللَّه فقط - وهو الموصوف بالحكمة البالغة -يدل على قوة الإيمان وتمام الخضوع لأوامر اللَّه، ومهما يكن من شيء فإن إنكار أي تكليف وارد في النصوص الصحيحة يؤدي إلى الكفر، لأنه تكذيب لما ثبت بالتواتر وبخاصة القراَن الكريم المجمع على أنه كلام اللَّه تعالى.
والزكاة فرضت على المسلمين بالأوامر الصريحة في القرآن والسنة، منها قوله تعالى {وأتوا الزكاة} البقرة: 403، وكثير من السور، وقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} التوبة: 103، إلى غير ذلك من النصوص.
والإيمان بفرضيتها واجب، بصرف النظر عن معرفة حقها، وقد أشارت الآية إلى الحكمة وهي التطهير والتزكية، أي تخليص النفوس من شوائب البخل والشح والأنانية والحرص والطمع والفردية وأسر المادة وعبودية الشهوة، وتحليتها بالرحمة والحنان والغيرية والتعاون والرضا والقناعة وراحة الضمير، والحيلولة دون الوقوع فيما تجر إليه الأنانية وحب المال من كذب وزور وغش واحتكار وسرقة وما إلى ذلك، كما أن الزكاة أساس العدل الاجتماعي الذي يدعو إلى رعاية الحقوق والمبادرة إلى أداء الواجبات والحفاظ على الحرمات، وتقوية روابط المجتمع بوجه عام.
وإذا كانت المقادير المفروضة في الزكاة تعد رمزًا لامتثال أوامر اللَّه في التعاون فإن مطالب الحياة الاجتماعية في الدول المنظمة ربما لا يعطيها هذا المورد الرمزي، وقد أجمع العلماء على أن للحاكم أن يفرض من الضرائب، والواجبات الأخرى ما يراه محققًا لمصلحة الجماعة، فلا تنافي بين فرض الزكاة وجباية الضرائب أبدًا، وبخاصة إذا عرفنا أن بعض الاحتياجات العصرية ربما لا تدخل تحت المصارف المحددة للزكاة، ولا نحتاج إلى التعسف في تطويعها حتى تشمل هذه الاحتياجات ما دام عندنا مورد أخر مشروع وهو ما يفرضه ولى الأمر من الضرائب وغيرها. "انظر رسالتى عن الزكاة "(9/220)
الزكاة فى المضاربة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجب الزكاة فى المضاربة على صاحب المال أو على المال أو عليهما معا؟
الجواب
المضاربة أن يدفع شخص مالا لشخص آخر يتاجر فيه على أن يقسم الربح بينهما بنسبة يتفقان عليها كالنصف أو الثلث مثلا.
والعامل فى المضاربة ليس شريكا فى رأس مال التجارة، فهو كله لصاحب المال، ولا يشاركه إلا فى الربح الناتج من رأس المال، فهو بمثابة الأجير الذى يؤدى عملا لصاحب المال، وبدل أن يحدد له أجرا معلوما كل شهرا وكل سنة أو كل صفقة تجارية جعل له نسبة من الربح أيا كان قدرها، ولئن كان فى ذلك بعض الجهالة من جهة المقدار فالأجر معلوم من جهة النسبة، ويغتفر ذلك لحاجة الناس إلى هذه المعاملة فقد يملك الشخص مالا ولا يعرف كيف يستثمره،ويملك شخص آخر المعرفة والخبرة ولكن لا يملك المال، فيتعاونان على خيرهما وعلى خير المجتمع وكانت هذه المعاملة معترفا بها أيام النبى صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا تكون الزكاة على صاحب المال زكاة تجارة، يخرج ربع العشر على الأصل والربح بعد خصم الديون والمصاريف التى منها حصة العامل، على ما رآه ابن عباس وابن عمر رضى الله عنهم، وأخذ به ابن حزم فى خصم القرض والنفقة من محصول الزروع والثمار، وتكون الزكاة على ما بقى. وهذه الزكاة فى آخر الحوْل، أما العامل فليست عليه زكاة لأنه لا يملك شيئا من رأس المال،وإنما زكاته على حصته من الربح إن بلغت نِصابا وحال عليها الحول(9/221)
موعد زكاة الفطر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لا يوجد فى البلد الذى أعمل فيه فقراء يستحقون الزكاة يوم العيد، وقد أكون فى بلدى قبل يوم العيد وفيها فقراء، فهل يجوز أن أدفع إليهم الزكاة قبل يوم العيد؟
الجواب
يجوز إخراج زكاة الفطر من أول يوم من رمضان على ما رآه الشافعية، ويجوز أن تؤدى قبل يوم العيد بيوم أو يومين عند بعض الأئمة، بل يجوز ذلك قبل رمضان، أخرج البخارى عن ابن عمر رضى الله عنهما قال:
فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر. . . إلى أن قال: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين.
ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد. والأفضل إخراجها قبل صلاة العيد، لما روى البخارى ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، قال ابن عباس رضى الله عنهما: فمن أداها قبل الصلاة فهى زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهى صدقة من الصدقات. وفى حديث الدارقطنى: أغنوهم عن الطواف فى هذا اليوم، أى أغنوا الفقراء عن الطواف والسعى فى الأسواق ونحوها بطلب الرزق فى هذا اليوم، وهو يوم العيد، وذلك بإعطائهم الزكاة. وحرمة التأخير عن يوم العيد محلها إذا وجد المستحقون لها ولم يكن هناك غائبون أولى منهم، فإذا عدموا، أو كان هناك غائب أولى كالأرحام مثلا فلا يحرم التأخير(9/222)
شروط هدى التمتع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك مذهب يقول بعدم وجوب الهدى على المتمتع؟
الجواب
يقول الله سبحانه {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى} البقرة: 196، وقد اشترط العلماء شروطا يتحقق بها التمتع الموجب للهدى واتفقوا منها على ما يأتى:
ا -ألا يكون المتمتع من حاضرى المسجد الحرام كما نصت عليه الآية "ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام " وهم أهل مكة ومن يسكن قريبا منها دون مسافة القصر على خلاف للعلماء فى تحديدهم.
2 - أن تقع العمرة فى أشهر الحج، وهى شوال وذو القعدة وذو الحجة، وشذ عن هذا الشرط طاووس فقال: من اعتمر فى رمضان ثم أقام حتى حج فهو متمتع.
3- أن تقع العمرة فى العام الذى وقع فيه الحج، فلو اعتمر فى أشهر الحج ثم لم يحج سواء أقام بمكة أو سافر، وحج فى عام آخر فليس متمتعا. وشذ عن هذا الشرط الحسن فقال: لا يشترط للتمتع أن يقع النُّسُكَان فى عام واحد. "المغنى لابن قدامة ج 3 ص 499 ".
4 -ألا يسافر بين العمرة والحج سفرا بعيدا تقصر فيه الصلاة، وشذ الحسن عن هذا الشرط.
5 -ألا يعود إلى الميقات ليحرم بالحج منه. فإن عاد وأحرم منه فلا دم عليه.
6 - أن يحل من إحرامه بالعمرة قبل أن يحرم بالحج، فلو استمر على إحرامه حتى أحرم بالحج لم يكن متمتعا، بل يكون قارنا، وعلى كل حال فالمتمتع والقارن عليهما دم.
7- اشترط مالك فقط زيادة على ذلك أن تكون العمرة والحج عن شخص واحد ولا يقول الأئمة الثلاثة بذلك، ويوضحه ما جاء فى حاشية قليوبى وعميرة على منهاج النووى فى فقه الشافعية "ج 2 ص 129 " أنه لا يشترط أن يقع النسكان أى العمرة والحج عن شخص واحد فلو استأجره واحد للحج واستأجره آخر للعمرة فتمتع عنهما أو اعتمر عن نفسه وحج عن غيره أو عكسه فهو متمتع.
ويمكن العمل بمذهب مالك عند الحاجة أو الضرورة كمن يتكرر حجه ويريد التمتع دون هدى أن يجعل واحدا منهما عن أحد والديه المتوفيين وجوبا، أو لهما ندبا أو نيابة عن عاجز عن الحج، والدين يسر(9/223)
الأكل من الهدى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز لمن وجب عليه ذبح هدى أن يأكل منه، أو لابد من توزيعه كله على المحتاجين؟
الجواب
قال الله تعالى فى شأن الهدى {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} الحج:
28.
يدل ظاهر هذا الأمر على إباحة الأكل من أى هدى كان، سواء أكان واجبا أم مندوبا وقد اختلف الفقهاء فى هذا الحكم، وفرقوا بين هدى التطوع المندوب فجوزوا الأكل منه، وبين الهدى الواجب فحرموه، وإن كان بعضهم أجاز الأكل من بعض الهدى الواجب دون البعض الآخر فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى جواز الأكل من هدى التمتع وهدى القران وهدى التطوع ولا يأكل مما سواها، وقال مالك: يأكل من الهدى الذى ساقه لفساد حجه ولفوات الحج، ومن هدى التمتع، ومن الهدى كله إلا فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر للمساكين وهدى التطوع إذا عطب قبل محله.
وعند الشافعي: لا يجوز الأكل من الهدى الواجب مثل الدم الواجب فى جزاء الصيد وإفساد الحج، وهدى التمتع والقران، كذلك ما كان نذرا أوجبه على نفسه، أما ما كان تطوعا فله أن يأكل منه ويهدى ويتصدق.
وللتوضيح يمكن الرجوع إلى المغنى لابن قدامة " ج3 ص 565 ".
وأقول: إن غالب ما يذبح هناك جزاء هو عن التمتع والقران، وعموم الآية يجيز الأكل منه، إلى جانب أحاديث تفيد أن النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع كان معه نساؤه وكن متمتعات أي محرمات بالعمرة أولا، أو قارنات أى محرمات بالحج والعمرة معا، وأكلن من اللحم، وفى صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام أمر من كل بدنة -جمل - بضعة -قطعة-فى قِدر، فأكل هو وعلى رضى الله عنه من لحمها وشربا من مرقها.
هذا والأولى أن تطعم كلها للفقراء وبخاصة بعد الاستعدادات الجديدة لتنظيم الذبح والتوزيع، والأكل منها أفضل من أن ترمى وتضيع دون توزيع(9/224)
الزواج أم الحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إنى شاب لم أتزوج، فأيهما أفضل الحج أم الزواج؟
الجواب
لاشك أن الحج فرض لازم على كل مستطيع كما قال تعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} آل عمران: 97.
ووجوبه على الفور عند جمهور الفقهاء، يحرم تأخيره عن أول فرصة له، والزواج مشروع ومرغب فيه بالآيات والأحاديث الكثيرة، غير أن الفقهاء قالوا: إنه قد يكون واجبا وقد يكون مندوبا، فهو واجب على من وجد نفقته وقدر على كل تبعاته وخاف العنت أى الوقوع فى الفاحشة إن لم يتزوج، ويكون مندوبا إن قدر عليه ولم يخف العنت إن لم يتزوج، بأن كانت حالته طبيعية وعنده من القدرة ما يكف به نفسه عن الفاحشة إن أخر الزواج.
وعلى هذا نقول: إن كان الزواج واجبا قدمه على الحج لأنه لو لم يتزوج وقع فى الفاحشة، والحج يكون واجبا على المستطيع، ومن الاستطاعة وجود مال زائد على حاجاته الضرورية، ومن حاجاته الضرورية الزواج فى مثل هذه الحالة وبخاصة أن الحج واجب على التراخى عند بعض الأئمة، يعني لو أخره سنة لا يأثم.
وإن كان الزواج مندوبا له قدم الحج عليه، ضرورة تقديم الواجب على المندوب(9/225)
الصدقة على الكافر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندنا جار فقير لكنه غير مسلم فهل يجوز أن أعطيه من الزكاة؟
الجواب
اتفقت الأئمة على عدم جواز إعطاء الزكاة لغير المسلمين، فيما عدا المؤلفة قلوبهم - وهم الذين يرجى إيمانهم أو يخشى شرهم، وإن كان هناك خلاف فى وجودهم الآن وفى جواز إعطائهم إن كانوا - والدليل على عدم إعطاء الكفار من الزكاة قول النبى صلى الله عليه وسلم {صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم} فى حديث معاذ لما أرسله إلى اليمن. والمقصود بهم أغنياء المسلمين وفقراؤهم دون غيرهم، رواه البخارى ومسلم.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمى لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، واختلفوا فى زكاة الفطر فجوزها أبو حنيفة، وعن عمرو بن ميمون وغيره أنهم كانوا يعطون منها الرهبان، وقال مالك والليث وأحمد وأبو ثور لا يعطون، ونقل صاحب البيان عن ابن سيرين والزهرى جواز صرف الزكاة إلى الكفار "المجموع للنووى ج 6 ص 246" لكن صدقة التطوع يجوز أن يعطى منها غير المسلم، لما صح من إجازة النبى صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبى بكر أن تبر أمها وكانت مشركة وقال لها "صِلى أمك " ويؤيد هذا قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم} الممتحنة: 8.
وقال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} الإنسان: 8، فالآية مطلقة والأسير بالذات قد يبقى على دينه ولا يسلم، قالوا: ومنه إعطاء عمر صدقة لليهودى الذى وجده يسأل.
وأختار أنه لا يجوز لك أيها السائل أن تعطى من زكاتك لغير المسلم ويجوز أن تساعده بصدقة تطوع، رعاية لحق الجوار(9/226)
زكاة المال المدخر لحاجة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندى مال أدخره لمشروع ينفذ بعد سنتين، ولو أخرجت عنه الزكاة نقص المال وتعطل المشروع. فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
ما دام المبلغ وصل إلى حد النصاب وحال عليه الحول وجبت فيه الزكاة ما دام فائضا عن حاجاتك الحالية أما المستقبلة فلا عبرة بها، لأن المستقبل غيب لا يعلمه إلا الله، والزكاة نسبتها قليلة جدا (5، 2%) لا تؤثر على المشروع تأثيرا واضحا، والمبادرة إلى أداء حق الله يبارك الله بها المال {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} الطلاق: 4.
هذا، ولو نقص المال المدخر فى أثناء الحول عن النصاب لا تجب فيه الزكاة حتى يكمل النصاب، وهنا يبدأ حول جديد وإذا كان النقص عن النصاب مقصودا به سقوط الزكاة كان من الحيل المحرمة، أما إذا زاد المال المدخر فى أثناء الحول فإن الزيادة تأخذ حول النصاب حتى لو وضعت فى آخر الحول، وذلك على رأى بعض الفقهاء، ورأى بعضهم أن يبدأ للزيادة حول جديد تزكى عند انتهائه، والرأى الأول أسهل فى الحساب، ويدخل تحت جواز إخراج الزكاة قبل موعدها، والرأى الثانى أدق وأضبط للحساب، ولا مانع من الأخذ بأحد الرأيين(9/227)
دفع الزكاة للمدين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز دفع الزكاة لإنسان عليه دين عاجز عن الوفاء به؟
الجواب
قال الله تعالى فى مصارف الزكاة {والغارمين} التوبة: 60، يقول القرطبى عنهم: هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه، اللهم إلا من ادَّان فى سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب، ويعطى منها من له مال وعليه دين محيط به ما يقضى به دينه -يعنى دين مستغرق لما يملكه -فإن لم يكن له مال وعليه دين فهو فقير وغارم فيعطى بالوصفين. روى مسلم عن أبى سعيد الخدرى قال: أصيب رجل فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول صلى الله عليه وسلم لغرمائه " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ".
ويجوز لمن تحمل مالاً فى إصلاح وصلاح أن يعطى من الصدقة ما تحمل به إذا وجب عليه، وإن كان غنيا إذا كان ذلك يجحف بماله كالغريم.
واختلفوا هل يقضى منها دين الميت أم لا، فقال أبو حنيفة: لا، ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله، وإنما الغارم من عليه دين يسجن فيه -وقال علماؤنا وغيرهم: يقض منها دين الميت لأنه من الغارمين، قال صلى الله عليه وسلم "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضَيَاعًا-عيالا-فإلىَّ وعلىَ".
وذكر الماوردى فى "الأحكام السلطانية" ص 123 أن الغارمين صنفان، صنف منهم استدانوا فى مصالح أنفسهم فيدفع إليهم مع الفقر دون الغنى ما يقضون به ديونهم، وصنف منهم استدانوا فى مصالح المسلمين فيدفع إليهم مع الفقر والغنى قدر ديونهم من غير فضل(9/228)
إسقاط الدين من الزكاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
اقترض منى رجل مبلغا من المال ثم عجز عن أدائه، هل يجوز أن أسقط عنه هذا الدين وأجعله من الزكاة الواجبة علىَّ؟
الجواب
يقول النووى فى كتابه "المجموع ": لو كان على رجل معسر دين، فأراد الدائن أن يجعله من زكاته وقال له: جعلته عن زكاتى فهناك وجهان صحيحان، أصحهما أنه لا يجزئه، وهو مذهب أحمد وأبى حنيفة، لأن الزكاة فى ذمة صاحبها فلا يبرأ إلا بإقباضها، والوجه الثانى يجزئه، وهو مذهب الحسن البصرى وعطاء بن أبى رباح، لأنه لو دفعه إليه ثم أخذه منه جاز، فكذلك إذا لم يقبضه. كما لو كانت له دراهم وديعة ودفعها عن الزكاة فإنه يجزئه، سواء قبضها أم لم يقبضها.
وإذا دفع إليه الزكاة وشرط عليه أن يردها إليه عن دينه فلا يصح الدفع ولا تسقط الزكاة، ولا يصح قضاء الدين بذلك، لكن لو نويا ذلك ولم يشترطاه جاز وأجزأه عن الزكاة، وإذا رده إليه عن الدين برىء هذا، وهذه الصورة هى من صور الغارمين الذين لهم سهم فى الزكاة وقد مر توضيحها فى سؤال سابق(9/229)
سقوط زكاة الفطر على الزوجة الناشز
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب على الزوج أن يخرج زكاة الفطر عن زوجته الناشز؟
الجواب
قال جمهور الفقهاء: إن الزوج يجب عليه أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه وعمن تجب عليه نفقتهم، ومنهم الزوجة ما دامت الزوجية قائمة حقيقة أو حكما كالمطلقة، وأبو حنيفة لا يوجب هذه الزكاة على الزوج، فهى التى تخرج زكاتها، لكن لو تبرع هو بإخراجها عنها أجزأت ولو كان ذلك بغير إذنها.
فإذا لم تكن الزوجية قائمة بسبب الموت أو الفراق فللنفقة أحكام مذكورة فى مواضعها، لكن النفقة تسقط بالنشوز، الذى يتحقق بأخذ أمرين، امتناعها عن تمتع الزوج بها، وخروجها من منزل الزوجية بغير إذنه وبغير ضرورة.
وزكاة الفطر تابعة للنفقة وفى وجوبها خلاف فقد تجب النفقة ولا تجب الزكاة (انظر زكاة الفطر عن الزوجة غير المسلمة) لكن إذا سقطت سقطت زكاة الفطر إذا كان النشوز فى وقعت وجوب الزكاة، وهو آخر ليلة من رمضان أو أول يوم من شوال. وعلى الزوجة أن تخرج زكاتها هى عن نفسها حينئذ(9/230)
الزكاة فى العسل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل عسل النحل فيه زكاة؟
الجواب
معلوم أن عسل النحل من نعم الله على عباده، وجاء فى ذلك قوله تعالى {فيه شفاء للناس} النحل: 169، وتحدث العلماء قديما وحديثا فى معنى الشفاء الموجود فيه، ويراجع فى ذلك كتاب "الطب النبوى" لابن القيم أو "زاد المعاد" له. أما الزكاة فيه فقد جاء فى تفسير القرطبى "ج 10 ص 140 " أن الإمام مالكا وأصحابه ذهبوا إلى أنه لا زكاة فيه وإن كان مطعوما مقتاتا، واختلف فيه قول الشافعى، ففى القديم أن فيه زكاة، وفى الجديد قطع بأنه لا زكاة فيه، وقال أبو حنيفة بوجوب الزكاة فيه قليله وكثيره، لأن النصاب عنده ليس بشرط، وقال محمد بن الحسن: لا شىء فيه حتى يبلغ ثمانية أفراق، والفرق ستة وثلاثون رطلا عراقيا، وقال أبو يوسف: فى كل عشرة أزقاق زق، متمسكا بما رواه الترمذى عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فى العسل فى كل عشرة أزقاق زق " قال أبو عيسى: فى إسناده مقال، ولا يصح عن النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الباب كبير شىء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: ليس فى العسل شىء. انتهى، فالخلاصة: أن جمهور العلماء لا يوجبون الزكاة فى عسل النحل، لعدم وجود الدليل الصحيح، قال ابن المنذر: ليس فى وجوب الصدقة فى العسل خبر يثبت ولا إجماع، فلا زكاة فيه، وهو قول الجمهور.
والذى قال بالزكاة فيه أحمد وأهل الرأى، وهم أبو حنيفة وأصحابه.
على خلاف فى نصابه، ومقدار الزكاة. وإذا لم تجب الزكاة فصدقة التطوع مندوبة(9/231)
زكاة الفطر عن الزوجة غير المسلمة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تزوج مسلم مسيحية وله منها أولاد، هل يجب عليه أن يخرج زكاة الفطر عنها؟
الجواب
زكاة الفطر يجب على الرجل أن يخرجها عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم ومنهم الزوجة، والزوجة غير المسلمة وإن وجبت على الزوج نفقة الزوجية لها باتفاق العلماء فإن إخراج زكاة الفطر عنها فيه خلاف، فالجمهور من الأئمة وهم مالك والشافعى وأحمد يرون عدم وجوب إخراجها، لأنها لم تجب عليها أصلا لعدم إسلامها، بناء على الرأى القائل بأن الكافر غير مكلف بفروع الشريعة، وللحديث: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على كل حر وعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين. ولأن من حكم زكاة الفطر أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث كما رواه أبو داود بإسناد حسن عن ابن عباس رضى الله عنهما، والكافر لم يصم فلا معنى لتطهير الزكاة له.
والقيد المذكور فى الحديث وهو "من المسلمين " يحتمل أن يقصد به المؤدَّى عنه وليس المؤدَّى، فلا يجب على الرجل إخراج زكاة الفطر عن عبده غير المسلم مع وجوب نفقته عليه، وكذلك عن زوجته غير المسلمة "المغنى لابن قدامة ج 2 ص 646، 647 ".
ويرى أبو حنيفة وأصحاب الرأى إخراج الزكاة عن الابن الصغير إذا ارتد - مع مراعاة أن الردة تكون من المكلف البالغ -كما يخرجها عن عبده الذمى، أى غير المسلم، بناء على وجوب إنفاق الوالد على ولده الصغير، وإنفاق السيد على عبده. ورووا فى ذلك حديثا يقول "أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير يهودى أو نصرانى أو مجوسى نصف صاع من بر" ورد عليهم الجمهور برفض هذا الحديث، حيث لم يذكره أصحاب الدواوين وجامعو السنن. وقد يقال: إن زكاة الفطر إن لم تكن طهرة للصائم من اللغو والرفث -والكافر لم يصم -فهى طعمة للمساكين كما نص عليه حديث أبى داود، فتخرج عمن لم يصم كأصحاب الأعذار ومنهم الكفار كالزوجة والعبد، ويرد عليه بأن المسلم إذا لم يصم - ولو بغير عذر - مكلف بأمرين، الصيام والزكاة، فإذا قصر فى أحدهما طولب بالآخر.
فالخلاصة أن الزكاة عن الزوجة غير المسلمة غير واجبة على رأى الجمهور، وواجبة عند أبى حنيفة وأصحابه "كفاية الأخبار ج 1 ص 173 "(9/232)
دفع الزكاة لتارك الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز دفع الزكاة إلى مسلم بالغ عاقل لكنه تارك للصلاة؟
الجواب
وجه هذا السؤال وذكرت إجابته فى فتاوى الإمام النووى عن المسألة " 104 " فقال: إن كان بالغا تاركا للصلاة واستمر على ذلك إلى حين دفع الزكاة لم يجز دفعها إليه، لأنه محجور عليه بالسفه فلا يصح قبضه، ولكن يجوز دفعها إلى وليه فيقبضها لهذا السفيه وإن كان بلغ مصليا رشيدا ثم طرأ ترك الصلاة ولم يحجر القاضى عليه جاز دفعها إليه وصح في قبضه لنفسه كما تصح جميع تصرفاته. انتهى لكن هذا الحكم فيمن ترك الصلاة كسلا وهو معتقد وجوبها عليه، أما من تركها عمدا جاحدا لوجوبها فهو كافر، والكافر لا يعطى من الزكاة، ومهما يكن من شىء فإن دفع الزكاة للفقير المستقم المواظب على الصلاة والطاعة أولى من دفعها إلى غير المستقيم، وذلك تشجيعا على الطاعة، ومقاومة للعصيان(9/233)
زكاة التجارة من السلع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز إخراج زكاة صيدلية الدواء فى صورة أدوية للمستشفيات التى تعالج غير القادرين؟
الجواب
الصيدلية التى تشترى وتبيع الأدوية نشاطها تجارى، فتجب فيها الزكاة آخر الحول بمقدار ربع العشر، وجمهور العلماء يقول: تُقوَّم الأدوية والسلع التي هى موضع التجارة وتخرج الزكاة من القيمة وليس من عين السلع، للخبر المشهور عن عمر وهو يفرض الزكاة على تاجر الجلود بأن يقومها ويخرج من ثمنها، وعلى رأيهم لا يجوز إخراج الزكاة من الأدوية والسلع نفسها، فقد يكون الفقير غير محتاج إلى السلعة.
وعند أبي حنيفة والشافعى فى أحد قوليه جواز إخراج الزكاة من عين السلع التى يتاجر فيها، ولا مانع من الأخذ بهذا الرأى، والأولى اعتبار ما فيه مصلحة المحتاج من نقود أو دواء كما أشار إليه ابن تيمية فى فتاويه.
وإذا كنا نعتبر المستشفيات من سهم "سبيل الله " المنصوص عليه فى آية {إنما الصدقات.. .} فإن العلماء قالوا: لابد أن تصرف الزكاة للمسلمين، فإذا كان هناك مريض مسلم أو جماعة مرضى منهم يعالجون فى مستشفى علاجا تلزمه أدوية خاصة لا طاقة لهم بشرائها، كان صرف الأدوية لهم قد وقع موقعا صحيحا من الزكاة(9/234)
زكاة الماس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عرفنا أن الذهب والفضة فيهما زكاة، فهل الماس والأحجار الكريمة فيها زكاة أيضا؟
الجواب
روى الجماعة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "المعدن جبار، وفى الرِكاز الخمس " الركاز هو المدفون من كنوز الجاهلية ولا يحتاج العثور عليه إلى نفقة وكبير عمل، كالذهب والفضة والحديد والياقوت والماس والزبرجد، والواجب على من وجده أن يخرج عنه زكاة، ومقدارها الخُمس، وهو قول جمهور الفقهاء. وهناك قول للشافعى أن الخمس لا يجب إلا فى الذهب والفضة فقط.
أما المعدن فهو كل ما استخرج من الأرض مما له قيمة ببذل جهد كبير وإنفاق مال. ومعنى "جُبار" فى الحديث أن من استأجر شخصا ليحفر له حتى يستخرج المعدن فسقط عليه شىء منه فلا دية له.
والمعدن لا زكاة فيه عند بعض الفقهاء، لأنه استخرج بجهد بدنى ومالى، وقال أحمد بن حنبل، كل ما استخرج من الأرض ففيه زكاة إذا بلغ نصابا بنفسه أو بقيمته وجعل منه الياقوت والزبرجد والنفط والكبريت، وكذلك منه الماس.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الذى تجب فيه الزكاة هو ما يُدقُّ عليه ويتمدد ويذوب بالنار كالذهب والحديد. أما المائع كالنفط والجامد الذى لا يذوب بالنار كالياقوت وكذلك الماس فلا زكاة فيه.
والزكاة فى النوع الأول كالحديد لا يشترط فيها النصاب، بل تجب فى القليل والكثير عنده. والزكاة الواجبة هى الخمس.
وذهب مالك والشافعى إلى أن الزكاة فى المعدن لا تجب إلا فى الذهب والفضة، فلا تجب فى الماس ولا فى غيره من الأحجار الكريمة والمعادن، والزكاة الواجبة عند مالك والشافعى وأحمد هى ربع العشر.
هذا، وليس هناك دليل خاص من قرآن أو سنة على وجوب الزكاة فى المعادن والأحجار الكريمة وغيرها مما يستخرج من الأرض بجهد ونفقة، وإنما هى آراء اجتهادية ولذلك اختلفت أقوال الفقهاء فيها، ولا بأس بالأخذ من الآراء بما فيه المصلحة، وللحاكم أن يختار منها ما يحققها، هذا هو حكم استخراجها، أما التجارة فيها فهى كسائر التجارات لابد فيها من إخراج الزكاة(9/235)
الزكاة لفك الأسرى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للحاكم أن يجمع أموال الزكاة ويدفعها إلى الأعداء نظير الإفراج عن جنود المسلمين من أسرى الحرب؟
الجواب
كان النبى صلى الله عليه وسلم يأمر بجباية الزكاة ويقوم بتوزيعها فى مصارفها، وفعل ذلك أبو بكر وعمر من بعده، ثم رؤى أن يتولى كل إنسان إخراج زكاة أمواله الباطنه وتوزيعها بنفسه على المصارف الثمانية المعروفة، التى منها "سبيل الله " وسبيل الله وإن كان العلماء السابقون قد قصروه على الجهاد فى سبيل الله لنشر الدين وحماية المقدسات فقد رأى العلماء المحدثون سعة مجاله وتعدد ميادينه تبعا لتطور الظروف، ليشمل كل خير تعم منفعته المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وفداء الأسرى على التفسير القديم والحديث داخل فى سبيل الله لأنه مرتبط بالجهاد الذى يدفع به العدو عن الوطن، فلا مانع من دفع حصة من الزكاة من أجل ذلك(9/236)
زكاة أوراق النقد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
معلوم أن زكاة النقدين هى فى الذهب والفضة، فهل فى أوراق النقد زكاة؟
الجواب
تحدَّث العلماء عن الأوراق التى تحمل قيمة مالية، وقالوا: إنها سندات دين لحاملها، وهى ليست ذهبا ولا فضة ولا عروض تجارة، فهى من قبيل الدين القوى الذى تجب فيه الزكاة إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول، والورقة ضامنة لقيمتها عند أى شخص، فعوملت معاملة النقدين فى وجوب الزكاة، لجريان التعامل بها، إلا أنه بمقتضى النص المرقوم عليها وعدم دفع قيمتها نقدا ممن يعطيها وهو المدين اعتبرت حوالة على الغير بقيمتها، فيراعى فى التعامل بها شروط الحوالة وأركانها.
فمن يرى جواز المعاملة بالمعاطاة كالصيغة المخصوصة يوجب فيها الزكاه بشروطها، وذلك لصحة الحوالة فيها، وهذا رأى الحنفية والمالكية والحنابلة، ومن يرى تحتم الصيغة فى الحوالة وأنها ركن فيها وأنه لا تجوز الحوالة بالمعاطاة -كما هو الأصح عند الشافعية- يقول بعدم صحة الحوالة فى الأوراق المالية "البنك نوت "وعلى هذا القول لا تجب فيها الزكاة إلا إذا قبض قيمتها ذهبا أو فضة وبلغت نصابا وحال عليه الحول.
وقد نشرت فتوى للشيخ محمد بخيت المطيعى فى مجلة الإرشاد - العدد الثامن لسنة 1351 هـ جاء فيها ما يؤدي هذا الكلام، من أن المعاملة بهذه الأوراق تتخرج على الحوالة بالمعاطاة من غير اشتراط صيغة الحوالة كالبيع، فهى من الدَّين القوى الذى هو فى حكم العين المقبوضة، لتمكنه من استبدالها فى أى وقت شاء، والحوالة بالمعاطاة جائزة عند الأئمة الثلاثة، ومن هنا تجب فيها الزكاة، ويجوز أن يدفع ربع العشر من عينها على طريق الحوالة للفقير بما يأخذه "مجلة الإسلام - السنة الثالثة، العدد الرابع والثلاثون ".
هذا فى الأوراق التى يكتب عليها التعهد بدفع قيمتها، أما الأوراق التى تكتب عليها القيمة فهى عملة غير ذهبية ولا فضية ولا سند حوالة، والزكاة فى غير النقدين غير واجبة إلا فى مذهب الإمام مالك، حيث جعلها بمنزلة النقدين. وهو رأى فيه مصلحة للفقير فيرجَّح العمل به(9/237)
زكاة البترول والمعادن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعت أن البترول فيه زكاة ومقدارها الخمس، فهل هذا صحيح؟
الجواب
بناء على عموم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} البقرة:267 وعلى ما رواه الجماعة عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "والمعدن جُبار وفى الركاز الخمس " تحدث الفقهاء عما يوجد فى باطن الأرض وحصل عليه الإنسان بدون بذل مال أو جهد، وأسموه الركاز وأوجبوا فيه الزكاة بمقدار الخمس، كما تحدثوا عن المعادن المستخرجة من الأرض بجهد كالذهب والبترول والكبريت، وأوجبوا فيها الزكاة على خلاف بينهم فى أنواعها ومقدارها، فقال الشافعى ومالك: لا زكاة إلا فى الذهب والفضة فقط، وقال أحمد بن حنبل: تجب الزكاة فى كل ما يستخرج من الأرض حتى القار والنفط والكبريت، وخص أبو حنيفة الزكاة فى الجامد الذى يتمدد أويذوب بالنار كالحديد والذهب، أما المائع كالقار والنفط فلا زكاة فيه، وكذلك ما لا يتمدد بالنار أو يذوب كالياقوت وكل ما يسمى بالأحجار الكريمة فلا زكاة فيه.
والقدر الواجب فى المعدن عند مالك والشافعى وأحمد هو ربع العشر عند العثور عليه، دون اشتراط لحولان الحول. أما عند أبى حنيفة فهو الخمس، قلَّ أو كثر.
ثم إن جمهور العلماء على أن الخمس إذا وجب فى الركاز فهو على كل من وجده، سواء أكان مسلما أم غير مسلم، وقصره الشافعى على من توفرت فيه شروط الزكاة ويصرف فى الوجوه التى تصرف فيها الزكاة، لكن الجمهور جعله كالفىء، مستندا فى ذلك إلى أثر عن عمر رضى الله عنه.
بعد ذلك يمكن أن يقال: إن فى البترول زكاة على رأى أحمد بن حنبل، ولا زكاة فيه عند بقية الأئمة. ولو كان تشريع الزكاة معمولا به كبقية القوانين جاز لأولى الأمر أن يفرضوا عليه زكاة وبخاصة إذا كان له تأثير فعال فى الاقتصاد القومى.
وإذا كان الذى يملك البترول هم المسئولون أى إنه ملك للدولة فهل تجب الزكاة فيه؟ إن ما شرع بخصوص الركاز والمعادن هو بالنسبة إلى الأفراد والشركات المستقلة، أما إذا كانت الدولة هى التى تملك البترول، فهو مالها الذى هو مال الشعب كله يُنفَق فى مصالحه، ولا معنى لفرض زكاة عليه فالزكاة من أجل الأصناف والمجالات التى تحتاج إليها، والمملوك للدولة داخل ضمن الميزانية العامة كمورد من الموارد التى تصب فى بيت المال أو خزانة الدولة يترك لولى الأمر التصرف فيه بما يحقق المصلحة المشروعة(9/238)
المؤلفة قلوبهم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جعل الله من مصارف الزكاة المؤلفة قلوبهم، فما هى مواصفاتهم، وهل يوجد أحد منهم الآن؟
الجواب
قال الله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله} التوبة: 60.
المؤلفة قلوبهم منهم مسلمون ومنهم كافرون، والمسلمون أقسام أربعة:
القسم الأول - قوم من سادات المسلمين لهم نظراء من الكفار، إذا أعطيناهم من الزكاة يُرجى إسلام نظرائهم، كعدى بن حاتم والزبرقان ابن بدر حيث أعطاهما أبو بكر مع حسن إسلامهما.
القسم الثانى- زعماء ضعفاء الإيمان لكنهم مطاعون فى أقوامهم، ويرجى بإعطائهم من الزكاة تثبيت الإيمان فى قلوبهم، كمن أعطاهم النبى صلى الله عليه وسلم فى غزوة حنين، وهم مسلمة الفتح، أى الذين دخلوا فى الإسلام حديثا عند فتح مكة التى كانت غزوة حنين عقب الفتح قبل أن يعود النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
القسم الثالث - قوم من المسلمين يخشى أن يستميلهم العدو لمصلحته، وهم العملاء الذين ينشطون حين يرون الفائدة ميسرة لهم.
القسم الرابع - قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة، لأنهم ذوو نفوذ فى أقوامهم، لا تجبى إلا بسلطانهم أو بقتالهم، فيرتكب أخف الضررين ويعطون شيئا من الزكاة بدل أن تضيع كلها.
أما الكافرون من المؤلفة قلوبهم فهم قسمان:
القسم الأول: من يرجى إيمانه، كصفوان بن أمية الذى أعطاه الرسول من غنائم حُنين.
القسم الثانى: من يخشى شره فيعطى من الزكاة ليكف شره عن المسلمين كأبى سفيان، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس.
ويقال: إن هؤلا أسلموا فى فتح مكة قبل أن يعطيهم النبى صلى الله عليه وسلم من حنين، فهم داخلون فى القسم الثانى من المسلمين.
والإمام الشافعى قال: لا تعطى الزكاة إلى المؤلفة قلوبهم إلا إذا كانوا مسلمين، فلا تعطى لكافر، وأما الفاسق فلا مانع من إعطائه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط بانتشار الإسلام، كما فعل عمر رضى الله عنه، فلا تعطى الزكاة لأحد منهم، مسلما كان أوكافرا.
والمختار الآن عدم إعطاء الكفار من هذا السهم لدفع شرهم، وإن جاز إعطاؤهم من سهم "سبيل الله" لأنه جهاد، والجهاد وسائله كثيرة، منها المال. ويمكن الرجوع إلى تفسير المنار لمن يريد مزيدا من التوضيح، وكذلك إلى " المغنى لابن قدامة" باب الزكاة(9/239)
الزكاة للزوج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
زوجى مريض ويحتاج إلى علاج لا يملك نفقته فهل يجوز أن أساعده على العلاج من زكاة مالى؟
الجواب
سبق فى صفحة 616 من المجلد الثانى من هذه الفتاوى حديث البخارى أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: يا نبى الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندى حُلى، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم "صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم ".
فإعطاء الزكاة للزوج جائز عند الشافعى، وأبى يوسف ومحمد صاحبى أبى حنيفة، وعند أحمد بن حنبل فى رواية. أما أبو حنيفة فذهب إلى أنه لا يجوز للزوجة أن تدفع لزوجها من زكاتها، وحمل حديث زينب على صدقة التطوع لا على الزكاة المفروضة، ومالك قال: إن كان الزوج يستعين بزكاة امرأته على نفقتها فلا يجوز، أما إن كان يستعين بها على غير الإِنفاق عليها فيجوز.
ومن هنا نقول لصاحبة السؤال: ما دام زوجك يحتاج إلى نفقة لعلاج نفسه فيجوز أن يأخذ من زكاتك عند الأئمة الثلاثة(9/240)
عذاب مانع الزكاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا خص الله الجنب والجبهة والظهر بالكى فى قوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم} ؟
الجواب
هاتان الآيتان من سورة التوبة: 34، 35 وقال القرطبى فى التفسير: الكى فى الوجه أشهر وأشنع، وفى الجنب والظهر آلم وأوجع. فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء.
وقال علماء التصوف: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا من الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم والكشح هو الجنب ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها كويت ظهورهم.
وقال علماء الظاهر -أى غير الصوفية-: إنما خص هذه الأعضاء لأن الغنى إذا رأى الفقير زوى ما بين عينيه وقبض وجهه، وإذا سأله طوى كشحه، وإذا زاده فى السؤال وأكثر عليه ولاه ظهره، فرتب الله العقوبة على حال المعصية.
هذه آراء اجتهادية لا مانع من قبولها فى تفسير هذه الآية، وفى عذاب مانعى الزكاة نصوص كثيرة فى القرآن والسنة يسهل الرجوع إليها(9/241)
زكاة التجارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف تُقَّوَّم السلع التجارية عند إخراج زكاتها، هل تقوَّم بثمنها عند الشراء، أو بقيمتها عند انتهاء الحول؟
الجواب
إن الزكاة ركن من أهم الأركان التى بنى عليها الإسلام وهى واجبة فى كل ما فيه نماء من النقد والثروة الحيوانية والثروة الزراعية، والتجارة إحدى وسائل التنمية، لأنها تقليب للمال بالمعاوضة لغرض الربح، ويكاد الإجماع يكون منعقدا على وجوب الزكاة فيها، والدليل على وجوبها قبل الإجماع مع القياس على الثروات النامية، ما رواه أبو داود والبيهقى عن سمرة بن جندب قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذى نُعِدُّه للبيع، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطنى والبيهقى عن أبى ذر " فى الإبل صدقتها، وفى الغنم صدقتها، وفى البز صدقته " والبز الثياب المعدة للبيع، وكذلك ما رواه الشافعى وأحمد والدارقطنى والبيهقى وعبد الرزاق عن أبى عمرو عن أبيه قال: كنت أبيع الأدم - أى الجلود - والجعاب - أى أوعية السهام - والجفان - أى أوعية الطعام - فمرَّ بى عمر بن الخطاب، فقال: أدِّ صدقة مالك، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو الأدم، قال: قومه ثم أخرج صدقته. يقول صاحب المغنى: وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر، فيكون إجماعا.
وقول عمر عن الأدم: قوِّمه، يدل على أن زكاة التجارة ليست فى عين السلع والعروض، وإنما فى قيمتها، وعلى ذلك عند إخراج زكاة التجارة تقوَّم السلع وتخرج الزكاة من قيمتها، وهى ربع العشر، اثنان ونصف فى المائة وتقويم السلعة لا يكون بالسعر الذى اشتريت به، وإنما بالسعر الذى يكون عند انتهاء الحول، وهو وقت وجوب الزكاة، ولا عبرة بالنقص أو الزيادة عن ثمنها الأصلى.
ولا تجب زكاة التجارة إلا بعد مرور الحول، وبعد أن تبلغ قيمتها نصابا، وهو ما يستوى ثمن خمسة وثمانين جراما من الذهب تقريبا، وهو نصاب الذهب، على أن يضم إليها الربح الذى حققته التجارة أثناء الحول، وبقى متداولاً حتى آخر الحول، وتخصم الديون التى عليه، أما التى له عند الغير، فلا تزكىَّ إلا عند قبضها، على ما يراه الإمام مالك رضى الله عنه، وذلك عن سنة، وفى ذلك تيسير على من يبيعون بالأجل، مع النصيحة بالرحمة والقناعة.
هذا، وندعو للتجار الحريصين على إخراج الزكاة، بالبركة والنماء، ونذكرهم بقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذى وحسنه " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء"(9/242)
زكاة الخضر والفواكه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى كيفية إخراج الزكاة عن القصب والموز والطماطم؟
الجواب
أوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة على الثروة الزراعية بقوله تعالى: {وهو الذى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} الأنعام:
141 وبقوله: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} البقرة: 267.
وقد اختلفت أراء الفقهاء الأربعة أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد فى الأصناف التى تجب فيها الزكاة، فأوجبها أبو حنيفة فى كل ما تنبته الأرض ما دام قد قصد بزراعته استغلالها:
ولم يستثن من ذلك إلا أنواعا قليلة كالحطب والشجر الذى لا ثمر له. وعلى رأيه تجب الزكاة فيما ذكر فى السؤال، وهو القصب والموز والطماطم، أما صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: ما يبقى سنة بلا علاج كبير فيه زكاة، وما لا يبقى سنة كالبطيخ والخيار فلا زكاة فيه.
والإمام مالك حصر الزكاة فيما يبقى وييبس ويستنبته الآدميون، ولم يوجب الزكاة فى الخضراوات والفواكه الطرية كالتين والرمان والموز، وقال الشافعى كقول مالك فى عدم الزكاة فى هذه الأصناف وأحمد بن حنبل لا يوجب الزكاة فيما لا يبقى ولا ييبس، فلا زكاة فى الخضر والفواكه الطرية.
بعد عرض هذه الأقوال نرى أن جمهور الفقهاء لا يوجبون الزكاة فى القصب والموز والطماطم، وأوجبها أبو حنيفة بناء على عموم قوله تعالى فى الآية السابقة {ومما أخرجنا لكم من الأرض} وعموم الحديث الذى رواه البخارى " فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر " واستند الجمهور إلى أحاديث وآثار تحصر الزكاة فى أصناف معينة مما يقتات ويدخر.
وإذا كانت زراعة الخضراوات والفواكه الأخرى غير التمر والزبيب قد كثرت وصارت تدرُّ ربحا كبيرا، فهل من سلطة ولى الأمر أن يفرض فيها الزكاة مراعاة للصالح العام؟ إن وعاء الزكاة على النحو المذكور موضع اجتهاد من الفقهاء، وللفرد أن يختار منها ما يشاء، لكن لو رأى ولى الأمر اختيار مذهب أبى حنيفة فى جمع الزكاة من الخضراوات وسائر الفواكه وسائر الزروع، مراعاة للمصلحة العامة، جاز له ذلك وعلينا أن نطيع أمره فهو ليس فى معصية، وهو يحقق المصلحة التى يراها الخبراء والمختصون على أساس من الشورى واستهداف الخير العام(9/243)
الزكاة لمن لا يستحق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مر بى سائل فظننت أنه محتاج فدفعت له قسطا من زكاتى، ثم ظهر بعد ذلك أنه من المحترفين الذين يملكون مالا كثيرا لا يستحقون معه الزكاة فهل زكاتى عليه صحيحة؟
الجواب
سبق القول بالتحرى لدفع الصدقة، كأية عبادة يؤديها الإنسان لابد أن تكون كما قرر الشرع فى حجمها وكيفيتها ووقتها وغير ذلك وقلنا: إن حسن الظن بطالب الصدقة يشفع فى قبولها عند الله لو ظهر خلاف الظن، وأوردنا فى ذلك حديث البخارى الذى أخذ فيه معن ابن الصحابى "يزيد " صدقة أبيه وكان ينوى إعطاءها لغيره: وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن " وحديث الصحيحين فيمن ظهر أن صدقته وقعت فى يد سارق ويد زانية ويد غنى، وأن الله تقبلها.
وإذا حمل ذلك على صدقة التطوع وهى النافلة فهل يصدق على الزكاة الواجبة إذا ظهر أنها وقعت فى غير موقعها؟ جاء فى المغنى لابن قدامة "ج 2 ص 528" قوله وإذا أعطى من يظنه فقيرا فكان غنيا فعن أحمد فيه روايتان، إحداهما يجزئه وذكر أنه مذهب أبى حنيفة، واستشهد بحديث رواه النسائى وأبو داود: أن رجلين طلبا من النبى صلى الله عليه وسلم صدقة مما كان يوزعه فى حجة الوداع فراهما قويين، فقال لهما "إن شئتما أعطيتكما ولا حظ لغنى ولا لقوى مكتسب " قال الخطابى: هذا الحديث أصل فى أن من لم يُعْلَم له مال فأمر محمول على العدم، كما استشهد بحديث الصحيحين فى الرجل الذى تصدق فظهر أن المتصدَّق عليه غنى، وتحدث الناس بذلك، وأن الرسول أخبره أن صدقته قبلت. لعل الغنى يعتبر، والرواية الثانية لأحمد أنها لا تجزى، وهو قول أبى يوسف. وأما الشافعى فله قولان كالروايتين الواردتين عن أحمد. وذكر ابن قدامة تعليلا للرواية بالجواز أن الفقر والغنى مما يعسر الاطلاع عليه والمعرفة بحقيقته. قال الله تعالى {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم} البقرة: 273، فاكتفى بظهور الفقر ودعواه.
وأقول للسائل: زكاتك وقعت موقعها على رأى أبى حنيفة واحد قولين لأحمد والشافعى(9/244)
الزكاة للغارمين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل تكاثرت عليه الديون ولا يستطع الوفاء بها فهل يمكن أن نعطيه من الزكاة ليسد ديونه؟
الجواب
يقول الله تعالى فيمن تعطى لهم الزكاة "والغارمين " والغارمون هم الذين ركبهم الدين ولا يملكون وفاء به كما ذكره القرطبى فى تفسيره، وجاء فى المغنى لابن قدامة أن الغارمين وهم المدينون ضربان، ضرب غرم لغيره كإصلاح ذات البين، وضرب غرم لنفسه لإصلاح حاله فى شىء مباح "ج 2 ص 699" والشرط فى استحقاق الغارم الزكاة ألا يكون دينه فى سفاهة أو محرم. فإن تاب أخذ منها. ويقول القرطبى: إن الغارم يعطى من الزكاة من له مال وعليه دين محيط به -ما يقض به دينه -فإن لم يكن له مال وعليه دين فهو فقير فيعطى بالوصفين، كونه غارما وكونه فقيرا.
وقد صح فى مسلم عن أبى سعيد الخدرى أن رجلا أصيب فى ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال عليه الصلاة والسلام لغرمائه - أصحاب الديون - " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ". وروى مسلم حديثا عن قبيصة بن مخارق بين فيه النبى صلى الله عليه وسلم من تحل لهم المسألة ويطيب لهم ما يأخذونه، وهم ثلاثة:
(أ) رجل تحمَّل حمالة، أى دفع دية القتيل حتى لا يقتل القاتل، فيعطى من الزكاة مقدار الدية فقط ويمسك عن المسألة. (ب) رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فيعطى حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش. (ج) رجل أصابته فاقة أى فقر وشهد ثلاثة من العقلاء على فقره، فيعطى حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش. وجاء فى رواية"إن المسألة تحل لأحد ثلاثة: ذى فقر مدقع - شديد أفض به إلى الدعقاء أى التراب - أو لذى غرم مفظع - شديد شنيع - أو لذى دم موجع لا أى تحمل الدية عن القاتل حتى لا يقتل.
وجاء فى فقه المذاهب الذى نشرته وزارة الأوقاف المصرية أن الحنفية قالوا: الغارم هو الذى عليه دين ولا يملك نصابا كاملا بعد دينه، وأن المالكية قالوا: إنه المدين الذى لا يملك ما يوفى به دينه بشرط ألا يكون دينه فى فساد، ويعطى إن تاب، وأن يكون الدين لآدمى وليس لله كالكفارة. وأن الشافعية قالوا: الغارم هو المدين وأقسامه ثلاثة:
1- مدين للإصلاح بين المتخاصمين.
2 - من استدان لمصلحة نفسه فى مباح أو غير مباح بشرط التوبة.
3 - مدين بسبب ضمان لغيره وكان معسرا هو والمضمون.
ومهما يكن من شىء فإن المدين لنفسه أو لغيره وكان الدين بسبب مباح يعطى من الزكاة بمقدار دينه، ومن استدان لمعاص أو لهو لا يعطى إلا إذا تاب. والقرطبى تحدث عن دين المتوفى هل يقضى من الزكاة أو لا، فقال: إن أبا حنيفة منعه، فالغارم من عليه دين يسجن فيه. والمالكية وغيرهم جعلوا الميت من الغارمين فيقضى دينه من الزكاة، وكما قلنا أكثر من مرة: إن الأمور الخلافية لا يجوز فيها التعصب، وللإنسان أن يختار ما فيه المصلحة(9/245)
تقدير الزكاة بالمعايير الحديثة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نقرا فى كتب الفقه أن الزكاة يقدر نصابها بالمكاييل والأوزان القديمة فهل يمكن أن نعرف ذلك بالمعايير الحديثة؟
الجواب
فى حديث رواه البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال {ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا فى أقل من خمسة من الإبل الذود صدقة، ولا فى أقل من خمس أواق من الورق صدقة" والذود من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر. وفى حديث رواه البخارى وغيره أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير. الأوسق جمع وسق، الوسق ستون صاعا، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث -بالرطل العراقى- وهو 130 درهما، فيكون المد 174 درهما، ويكون الصاع بالدراهم 696 درهما.
والصاع يقدر بالكيلو جرام هكذا: الصاع يساوى 696 درهما، والكيلو جرام يساوى 324 درهما، وبقسمة دراهم الصاع وهو 696 على دراهم الكيلو جرام، وهى 324 يساوى الصاع اثنين من الكيلو جرامات، 48 درهما. أى أربع أوقيات.
والوسق ستون صاعا فى 2 من الكيلو جرامات وأربع أوقيات فيكون الوسق 129 كيلو جرامًا تقريبًا، والنصاب وهو خمسة أوسق يضرب فى 129 كيلو جراما فيكون 645 كيلو جراما، وهذا هو الذى عليه العمل الآن بمصر بالنسبة لغالب الحبوب كالقمح وتقدير النصاب بالكيل المصرى هو خمسون كيلة، أى أربعة أرادب وكيلتان.
وبالنسبة للنقود المعبر عنها فى الحديث بالورق أى الفضة، وهى تقدر بالدراهم، فالنصاب خمس أواق والأوقية أربعون درهما، كما ثبت فى كتب السنة فيكون النصاب مائتى درهم، أى حوالى ستمائة جرام، وجاء فى بعض التقديرات أنه ستمائة وأربعة وعشرون جراما.
هذا فى نصاب الفضة، أما نصاب الذهب فهو عشرون مثقالا، يساوى بالجرامات حوالى خمسة وثمانين جراما. وهذا التقدير تقريبى، وذلك لكثرة الاختلاف بين الأوزان فى البلاد وعلى توالى العصور، وقد جاء فى بعض التقديرات أنه سبعة وثمانون جراما.
والفروق البسيطة فى الوزن أو الكيل ينبغى أن يؤخذ فيها بالأحوط.
ليطمئن الإنسان على إبراء ذمته من هذه الحقوق التى كثر الوعيد فى عدم الوفاء بها(9/246)
زكاة الفطر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
متى شرعت زكاة الفطر وما مقدارها، وما هى حكمة مشروعيتها وهل تجب على من لم يصم رمضان؟
الجواب
شرعت زكاة الفطر فى السنة الثانية من الهجرة مع فرض صيام رمضان، فقد روى البخارى وغيره عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان، صاعا من تمر أو صاعا من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين. كما روى أبو داود وابن ماجه أن ابن عباس رضى الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهى زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهى صدقة من الصدقات.
تقدم فى المجلد الثالث من هذه الفتاوى "ص 309" بيان موعد إخراج زكاة الفطر ويبين الحديث الأول مقدار هذه الزكاة وهو صاع من غالب قوت البلد، وكان الغالب فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينة هو التمر والشعير، وأئمة الفقه على إخراجها عينًا، لكن أبا حنيفة رأى جواز إخراج القيمة، وهى تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن، وتقدم فى المجلد الثانى من هذه الفتاوى "ص 123 " الكلام عن إخراج القيمة بدل العين فى الزكاة.
والمقدار هو نصف صاع من القمح عن كل فرد عند أبى حنيفة. أما من الأصناف الأخرى فصاع كامل، وهو قدحان وثلث القدح، وعند الشافعية صاع من أى صنف من الأقوات وهو قدحان، وعند المالكية صاع أيضا، لكن مقداره عندهم قدح وثلث القدح بالكيل المصرى، فتكفى الكيلة عن ستة أشخاص، ورأى الجمهور فى كونها صاعا من أى قوت أقوى من رأى أبى حنيفة فى المفاضلة بين القمح وغيره، فإن معاوية هو الذى قال عند قدومه من الشام إلى الحجاز:
إنى أرى أن مُدَّين من سمراء الشام -أى القمح -تعدل - صاعا من تمر، فأخذ بعض الناس برأيه، لكن الأكثرين بقوا على ما كان عليه أيام النبى صلى الله عليه وسلم رواه الجماعة عن أبى سعد الخدرى، ولا مانع من الأخذ برأى أبى حنيفة فى إخراج القيمة مع مراعاة عدم التقيد بالسعر الرسمى، فإن الفقير ربما لا يستطيع أن يحصل على القوت بهذا السعر، فيؤخذ بالسعر العادى الجارى بين عامة الناس، وكلما زاد عليه كان أفضل، هذا، والصاع يساوى اثنين من الكيلو جرامات، 48 درهما، أى أربع أوقيات.
وبالنسبة لحكمة مشروعية هذه الزكاة قد أشار إليها الحديث الثانى، فهى تتمثل فى فائدتين، فائدة تعود على المزكى وفائدة تعود على من يأخذون الزكاة.
أما الأولى: فهى تطهير الصائم مما عساه يكون قد وقع فيه مما يتنافى مع حكمة الصوم وأدبه، كالسباب والنظر المحرم والغيبة والتمتع بما دون الاتصال الجنسى حتى من زوجته كاللمس والقبلة، وقليل من الناس من يسلم له صومه من كل المآخذ، فتكون زكاة الفطر بمثابة جبر لهذا النقص، أو تكفير له إلى جانب المكفرات الأخرى من الاستغفار والذكر والصلاة وغيرها.
وهى فى الوقت نفسه برهان على أنه استفاد من دروس الجوع والعطش رحمة بمن يعانون منهما من الفقراء والمساكين، فقد قاسى كما يقاسون، وهنا لا يجوز له أن يقسو قلبه وتجمد عاطفته عندما يرى غيره ممن لا يجد ما يسد به جوعته أو يطفئ ظمأه، يسأله شيئا من فضل الله عليه. وكأن هذه الزكاة، وهى رمز متواضع، بمثابة الرسم المفروض على الصائم ليتسلم جائزة التقدير من الله يوم العيد، كما جاء فى حديث ابن عباس بسند مقبول فى مثل هذه المواطن، حيث يشهد الله تعالى ملائكته على رضاه ومغفرته لعباده جزاء صيام رمضان وقيام لياليه.
ومن قسا قلبه ولم يخرجها، على الرغم من يسرها، دل على أنه لم يستفد من دروس الصيام رحمة، وكان صيامه صياما شكليا قد يكون مرغما عليه حياء، لا من الله ولكن من الناس، فهو عمل مرفوض مردود عليه، وذلك ما يشير إليه الحديث الذى رواه أبو حفص بن شاهين فى فضائل رمضان وقال: إنه حديث جيد الإسناد "صوم شهر رمضان معلَّق بين السماء والأرض ولا يرفع إلا بزكاة الفطر " وأما الفائدة الثانية لزكاة الفطر فهى للمحتاجين إلى المعونة، وبخاصة فى يوم العيد، كى يشعروا بالفرح والسرور كما يفرح غيرهم من الناس، ولذلك كان من الأوقات المتخيرة لإخراج زكاة الفطر صبيحة يوم العيد وقبل الاجتماع للصلاة، حتى يستقبل الجميع يومهم مسرورين، ولا يحتاج الفقراء إلى التطواف على أبواب الأغنياء ليعطوهم ما يشعرهم ببهجة هذا اليوم، وقد جاء ذلك فى حديث رواه البيهقى والدارقطنى " أغنوهم عن طواف هذا اليوم " ولهذه الفائدة التى تتصل بإشاعة الفرح والسرور والتخفيف عن البائسين كانت الزكاة مفروضة حتى على من لم يصم شهر رمضان لعذر أو لغير عذر، فإن كان قد قصَّر فى واجب فلا يجوز أن يقصر فى واجب آخر، وإن كان قد حرم من الفائدة الخاصة للصيام فلا يجوز أن يؤثر ذلك على واجبه الاجتماعى(9/247)
المذاكرة والامتحان فى رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للطالب أن يفطر فى رمضان للمساعدة فى المذاكرة وفى الامتحان؟
الجواب
قال تعالى فى أعذار الفطر فى رمضان: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} البقرة: 185، والمرض الذى يبيح الفطر هو الذى يطرأ أو يزداد بالصيام أو يحول دون الشفاء أو يترتب عليه ضرر آخر، ومثل المريض من يقوم بعمل شاق هو مورد رزقه الوحيد لا يستطيع الصوم معه، كالخباز الواقف أمام الفرن والحر شديد، وعمله بالنهار وقت الصيام. على أن يكون المرض أو التعب واقعا بالفعل لا متوهما ولا متوقعا والطالب الذى يذاكر لا تتحتم مذاكرته بالنهار، وعليه أن ينسق بين واجباته وبين الوقت المناسب، فله أن يجعل مذاكرته بالليل إذا كان النهار في رمضان طويلا وحارا، ولا يجوز له الفطر لمجرد اختياره أن تكون مذاكرته بالنهار، وكل ذلك إذا ترتب على الصيام ضعف شديد في الجسم أو التفكير، أما إذا لم يكن ذلك فلا يجوز التفكير في الفطر.
وإذا كان الامتحان يعقد بالنهار وفى وقت الحر الشديد - قبيل الظهر إلى قبيل المغرب - ولو أصبح صائما أحس بالجوع أو أحس بالعطش الشديد الذى يؤثر على تفكيره فله الفطر عند الإحساس بالتعب، بمعنى أن ينوى الصيام ليلا ويتناول سحوره ويستريح أو يذاكر، فإذا دخل الامتحان في الوقت المذكور ولم يحس تعبا فلا يجوز له الفطر أما إذا أحس بالتعب فيفطر عند الإحساس به، أما ألا ينوى الصيام ولا يتسحر ويصبح مفطرا ليستعد للامتحان فى فترة الحر فذلك لا يجوز مطلقا فالتعب المتوقع متوهم غير واقع بالفعل.
وكذلك لو كان الامتحان فى الساعات الأولى من النهار حيث الجو يكون مناسبا ولا يوجد إحساس بالجوع أو العطش أو كان الامتحان فى وقت الشتاء أو اعتدال الجو فلا يجوز أن يصبح مفطرا، أى لا بد أن ينوى الصيام ليلا ويتسحر ويبدأ الصيام ويدخل الامتحان صائما حيث لا يكون تعب.
وأقول لمن يذاكر ويدخل الامتحان عليك بتقوى الله واحرص على طاعته {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} الطلاق: 4(9/248)
صوم الجنب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
طلع الفجر علىّ فى رمضان وأنا فى جنابة، ولم اغتسل إلا بعد ساعة. فهل صومى صحيح؟
الجواب
الجنابة إما حيض ونفاس، وهى خاصة بالنساء، وإما بالاتصال الجنسى أو نزول المنى فى اليقظة أو النوم بالاحتلام. وهى مشتركة بين الرجال والنساء.
فإذا طلع الفجر والحيض أو النفاس موجود حرم الصيام، ولو صامت المرأة فالصوم باطل مع الإثم، لكن لو انقطع الدم قبل الفجر انقطاعا تاما ولم تغتسل إلا بعد الفجر فالصوم صحيح. وذلك كالجنابة بشىء آخر غير الحيض والنفاس. فالصوم صحيح مع عدم الاغتسال، والاغتسال شرط للصلاة ولأمور أخرى وليس للصيام، فقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم.كان يصبح جنبا وهو صائم، يعنى يطلع الفجر وهو لم يغتسل بعد، ثم يغتسل بسرعة ليصلى الصبح جماعة مع الناس وذلك فيما رواه البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها(9/249)
خطأ الظن فى عدم طلوع الفجر وغروب الشمس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
صحوت من النوم فظننت أن الفجر لم يطلع، فأكلت وشربت، ثم تبين أن النهار قد طلع فهل يصح صومى؟
الجواب
ذكر ابن قدامة فى كتابه " المغنى " أن من أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب -أن عليه القضاء، وذلك مع وجوب الإِمساك على من أكل ظانا عدم طلوع الفجر، وقال ابن قدامة: إن هذا الحكم هو قول أكثر أهل العلم، ثم حكى عن بعض التابعين أنه لا قضاء عليه، وذكر فى ذلك أثرا عن عمر رضى الله عنه، ولكن الرأىَ الأول هو المعول عليه، وذلك لحديث البخارى أنهم أمروا بقضاء يوم أفطروا فيه لوجود غيم ثم طلعت الشمس. هذا فى الظن - وهو إدراك الطرف الراجح - أما الشك وهو إدراك الطرفين على السواء، والطرفان هما طلوع الفجر وعدم طلوعه، فقد قال فيه ابن قدامة أيضا: وإن أكل شاكًّا فى طلوع الفجر ولم يتبين الأمر فليس عليه قضاء، لأن المدار على تبين طلوع الفجر، قال تعالى {وكلوا واشربو حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} البقرة: 187، وقال: إن هذا هو رأى الشافعى وأصحاب الرأى - الحنفية - ولكن مالكا أوجب القضاء، لأن الأصل بقاء الصوم فى ذمته فلا يسقط بالشك، وذكر أن الأكل عند الشك فى غروب الشمس ولم يتبين الامر يوجب القضاء. فعلى صاحب السؤال أن يمسك بقية يومه ويقضى هذا اليوم، وهو الرأى المختار(9/250)
متى يفطر المسافر بالطائرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث إذا كان المسافر بالطائرة صائما أن وقت الغروب يحين حسب توقيت البلد الذى سافر منه، أو الذى يمر عليه فى الجو ومع ذلك تكون الشمس ما زالت ظاهرة، فهل يفطر وهى ما زالت لم تغرب، وإذا انتظر غروبها فقد يطول اليوم ويشق عليه دوام الصيام؟
الجواب
قال اللَّه تعالى {ثم أتموا الصيام إلى الليل} البقرة: 187، وروى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان فى سفر مع أصحابه فى رمضان، فلما غربت الشمس طلب من بلال أن يعد طعام الإفطار، فلما أعده شرب منه وقال مشيرا بيده "إذا غابت الشمس من هاهنا، وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم " أى حل له الفطر.
تدل الآية والحديث على أن الإفطار لا يحل للصائم إلا إذا جاء الليل، والليل يجىء إذا غربت الشمس. فلو سافر صائم فى طائرة وكانت على ارتفاع شاهق فإن المعروف أن الشمس تغيب عن الأرض قبل غيابها عن ركاب الطائرة، وذلك بحكم كروية الأرض، وبهذا لا يجوز له أن يفطر ما دامت الشمس ظاهرة له.
وقد يحدث أن يكون متجها إلى الشرق فيقصر النهار، أو يكون متجها إلى الغرب فيطول النهار، فالعبرة بمغيب الشمس عنه فى أى اتجاه، ولا عبرة بتوقيت المنطقة التى يمر عليها، ولا بتوقيت البلد الذى سافر منه.
فإن شق عليه الصيام لطول النهار فله رخصة الإفطار للمشقة، وإن لم يشق عليه وآثر إتمام الصيام فلا يفطر حتى تغيب الشمس(9/251)
هلال رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
في الحديث " صوموا لرؤيته وافطروا لرويته " هل يجوز أن تفسر الرؤية بالروية العلمية لا البصرية حتى يمكن توحيد أوائل الشهور العربية؟
الجواب
موضوع توحيد بدء الصيام وبالتالي توحيد العيد في البلاد الإسلامية، موضوع ناقشه الفقهاء في القرون الأولى، كما ناقشه علماء مجمع البحوث الإسلامية في السنوات الأخيرة، وهم جميعًا متفقون على أنه لا تعارض بين الدين والعلم أبدًا، فالدين نفسه يدعو إلى العلم، وفي مسألتنا هذه علق الحديث الصوم والإفطار على رؤية الهلال، فإن لم تكن الروية بالبصر لجأنا إلى العلم، والإرشاد إلى إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا توجيه لاحترام الحساب الذي هو مظهر من مظاهر العلم، والراصدون للهلال يستعينون بالمناظر وهي أدوات علمية، كما يستعينون بمصلحة الأرصاد في أجهزتها وإمكانات الأخرى.
والموضوع له بحث طويل علمي وديني فى الجزء الثاني من كتاب "بيان للناس من الأزهر الشريف " أكتفى هنا بذكر أن مؤتمر مجمع البحوث الثالث المنعقد سنة 1966 م قرر بشأنه ما يأتي:
1 -أن الرؤية هي الأصل في معرفة دخول أي شهر قمري، كما يدل عليه الحديث الشريف، فالرؤية هي الأساس؟ لكن لا يعتمد عليها إذا تمكنت منها التهم تمكنًا قويًّا.
2 -يكون ثبوت رؤية الهلال بالتواتر والاستفاضة، كما يكون بخبر الواحد ذكرًا كان أو اثنى إذا لم تتمكن التهمة في إخباره بسبب من الأسباب، ومن هذه الأسباب مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به الصادر ممن يؤثق به.
3-خبر الواحد ملزم له ولمن يثق به، أما إلزام الكافة فلا يكون إلا بعد ثبوت الرؤية عند من خصصته الدولة الإسلامية للنظر في ذلك.
4 -يعتمد على الحساب في إثبات دخول الشهر إذا لم تتحقق الرؤية ولم يتيسر الوصول إلى إتمام الشهر السابق ثلاثين يومًا.
5 - يرى المؤتمر أنه لا عبرة باختلاف المطالع وإن تباعدت الأقاليم متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية وإن قل، ويكون اختلاف المطالع معتبرًا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة.
6 - يهيب المؤتمر بالشعوب والحكومات الإسلامية أن يكون في كل إقليم إسلامى هيئة إسلامية يناط بها إثبات الشهور القمرية مع مراعاة اتصال بعضها ببعض والاتصال بالمراصد والفلكيين الموثوق بهم.
وبناء على هذه القرارات سار العمل في مصر على إعلان مبدأ الصيام ونهايته بعد الاتصال بالدول الأخرى.
هذا وأود أن يتنبه المسلمون إلى أن هناك عوامل أخرى لها أهميتها البالغة وأثرها القوى في وحدة الأمة الإسلامية من أهمها توحيد التشريع والقضاء والنظم الدستورية والاقتصادية والثقافية على أساس من الدين الذي يدينون به جميعًا، فإن عدم توحيد هذه الأمور وغيرها هو الذي باعد بين المسلمين وجعلهم نهبًا لغيرهم من الدول، وجعل رابطتهم مفككة وصدق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقى عنه إذ يقول "ولا نقضوا عهد اللَّه وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب اللَّه إلا جعل بأسهم بينهم "(9/252)
تقييد الشياطين فى رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى بعض الأحاديث أن الشياطين تصفد فى رمضان، فكيف يتفق هذا مع وقوع جرائم كثيرة فى رمضان من الصائمين وغير الصائمين؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين " وروى ابن خزيمة فى صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين مردة الجن. . . ".
إن الواقع يشهد بأن المعاصى ما تزال ترتكب فى رمضان وغير رمضان، ومن أجل التوفيق بين الحديث الثابت وبين الواقع المشاهد قال الشراح: إن المراد بتقييد الشياطين فى رمضان عدم تسلطها على من يصومون صوما صحيحا كاملا رُوعيت فيه كل الآداب التى منها عفة اللسان والنظر والجوارح كلها عن المعصية، استجابة للحديث الذى رواه البخارى: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس للَّه حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " أو المراد بالشياطين التى تصفد المردة والجبابرة منهم كما فى رواية ابن خزيمة، أما غيرهم فلا يقيدون ولذلك تقع من الناس بعض المعاصى، أو المراد أن الشياطين كلها تُغَلُّ بمعنى يضعف نشاطها ولا تكون بالقوة التى عليها بدون أغلال وقيود، أو المراد:
أن المعاصى التى تكون بسبب الشياطين تمنع، ولكن تقع المعاصى التى يكون سببها النفوس الخبيثة الأمارة بالسوء أو العادات القبيحة أو شياطين الإنس، ومن هنا نرى أن الحديث لا يصطدم مع الواقع عند فهمه فهما صحيحا، وذلك ما نحب أن نلفت الأنظار إليه فى فهم نصوص الدين حتى لا يكون هناك شك فى الدين أو انحراف فى الفكر أو السلوك(9/253)
شهر رجب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
اتخذ كثير من الناس فضل شهر رجب ذريعة للصيام والصلاة وزيارة المقابر وأوردوا فى ذلك أحاديث كثيرة، فما هو الرأى الصحيح فى ذلك؟
الجواب
الحافظ أحمد بن على بن محمد بن حجر العسقلانى وضع رسالة بعنوان: تبيين العجب بما ورد فى فضل رجب، جمع فيها جمهرة الأحاديث الواردة فى فضائل شهر رجب وصيامه والصلاة فيه.
وقسمها إلى ضعيفة وموضوعة.
وذكر له ثمانية عشر اسما، من أشهرها "الأصم " لعدم سماع قعقعة السلاح فيه لأنه من الأشهر الحرم التى حرم فيها القتال، و "الأصب " لانصباب الرحمة فيه، و "منصل الأسنة" كما ذكره البخارى عن أبى رجاء العطاردى قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا الشاء - الشياة- فحلبنا عليه ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا:
منصل الأسنة فلم ندع رمحا فيه حديدة، ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه.
وفضل رجب داخل فى عموم فضل الأشهر الحرم التى قال الله فيها {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} التوبة: 36، وعينها حديث الصحيحين فى حجة الوداع بأنها ثلاثة سَرْد " أى متتالية "ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد، وهو رجب "مضر" الذى بين جمادى الآخرة وشعبان، وليس رجب "ربيعة" وهو رمضان.
ومن عدم الظلم فيه عدم القتال، وذلك لتأمين الطريق لزائرى، المسجد الحرام، كما قال تعالى: بعد هذه الآية {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} التوبة: 5، ومن عدم الظلم أيضا عدم معصية الله، واستنبط بعض العلماء من ذلك -دون دليل مباشر من القرآن والسنة نص عليه - جواز تغليظ الدية على القتل فى الأشهر الحرم بزيادة الثلث.
ومن مظاهر تفضيل الأشهر الحرم -بما فيها رجب -ندب الصيام فيها. كما جاء فى حديث رواه أبو داود عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له - بعد كلام طويل - " صم من الحرم واترك " ثلاث مرات، وأشار بأصابعه الثلاثة، حيث ضمها وأرسلها والظاهر أن الإشارة كانت لعدد المرات لا لعدد الأيام. فالعمل الصالح فى شهر رجب كالأشهر الحرم له ثوابه العظيم، ومنه الصيام يستوى فى ذلك أول يوم مع آخره، وقد قال ابن حجر: إن شهر رجب لم يرد حديث خاص بفضل الصيام فيه، لا صحيح ولا حسن.
ومن أشهر الأحاديث الضعيفة فى صيامه "إن فى الجنة نهرا يقال له رجب، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر "وحديث "من صام من رجب يوما كان كصيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غلَّقت عنه أبواب الجحيم السبعة ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام بدلت سيئاته حسنات " ومنها حديث طويل جاء فى فضل صيام أيام منه، وفى أثناء الحديث "رجب شهر الله وشعبان شهرى ورمضان شهر أمتى" وقيل إنه موضوع وجاء فى الجامع الكبير للسيوطى أنه من رواية أبى الفتح بن أبى الفوارس فى أماليه عن الحسن مرسلا.
ومن الأحاديث غير المقبولة فى فضل صلاة مخصوصة فيه "من صلى المغرب فى أول ليلة من رجب ثم صلى بعدها عشرين ركعة، يقرأ فى كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد مرة ويسلم فيهن عشر تسليمات حفظه الله فى نفسه وأهله وماله وولده، وأجير من عذاب القبر، وجاز على الصراط كالبرق بغير حساب ولا عذاب " وهو حديث موضوع، ومثلها صلاة الرغائب.
وقد عقد ابن حجر فى هذه الرسالة فصلا ذكر فيه أحاديث تتضمن النهى عن صوم رجب كله، ثم قال: هذا النهى منصرف إلى من يصومه معظما لأمر الجاهلية، أما إن صامه لقصد الصوم فى الجملة من غير أن يجعله حتما أو يخص منه أياما معينة يواظب على صومها، أو ليالى معينة يواظب على قيامها، بحيث يظن أنها سنة، فهذا من فعله مع السلامة مما استثنى فلا بأس به. فإن خص ذلك أو جعله حتما فهذا محظور، وهو فى المنع بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام "رواه مسلم. وإن صامه معتقدا أن صيامه أو صيام شيء منه أفضل من صيام غيره ففى هذا نظر، ومال ابن حجر إلى المنع. ونقل عن أبى بكر الطرطوشى فى كتاب "البدع والحوادث " أن صوم رجب يكره على ثلاثة أوجه أحدها أنه إذا خصه المسلمون بالصوم فى كل عام حسب العوام، إما أنه فرض كشهر رمضان وإما سنة ثابتة كالسنن الثابتة، وإما لأن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام باقى الشهور، ولو كان من هذا شيء لبينه النبى صلى الله عليه وسلم قال ابن دحية: الصيام عمل بر، لا لفضل صوم شهر رجب فقد كان عمر ينهى عنه. انتهى ما نقل عن ابن حجر.
هذا، وحرص الناس -والنساء بوجه خاص، على زيارة القبور فى أول جمعة من شهر رجب ليس له أصل من الدين -ولا ثواب لها أكثر من ثواب الزيارة فى غير هذا اليوم.
والأولى فى شهر رجب أن نتذكر الأحداث التاريخية التى وقعت فيه مثل غزوة تبوك لنأخذ منها العبرة، ونتذكر تخليص صلاح الدين الأيوبى للقدس من أيدى الصليبيين (فى رجب 583هـ 1187 م) ليتوحد العرب والمسلمون لتطهير المسجد الأقصى من رأس الغاصبين.
كما نتذكر حادث الإسراء والمعراج ونستفيد منه، على ما ارتضاه المسلمون فى كونه حدث فى شهر رجب(9/254)
صوم يوم عرفة للحجاج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم صوم يوم عرفة؟
الجواب
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال "يكفر السنة الماضية والباقية "وروى النسائى بإسناد حسن أن صيامه يعدل صيام سنة، وفى رواية حسنة للطبرانى أنه يعدل صيام سنتين، وفى راوية حسنة للبيهقى أنه يعدل صيام ألف يوم.
تدل هذه الأحاديث على فضل صيام يوم عرفة، لكن هذا لغير الواقف بعرفة، فقد روى أبو داود والنسائى وابن خزيمة فى صحيحه والطبرانى أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن صومه.
وإن كان هذا النهى للكراهة لا للتحريم ولذلك اختلف الفقهاء فى حكم صيام هذا اليوم للواقف بعرفة، فقال الشافعى: يُسَن الفطر فيه ليقوى الحاج على الدعاء، وقال أحمد: إن قدر الحاج أن يصوم صام.
وإن أفطر فذلك يوم يحتاج فيه إلى القوة.
قال الحافظ المنذرى فى كتابه الترغيب والترهيب: اختلفوا فى صوم يوم عرفة بعرفة فقال ابن عمر: لم يصمه النبى صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان وأنا لا أصومه وكان مالك والثورى يختاران الفطر، وكان ابن الزبير وعائشة يصومان يوم عرفة، وروى ذلك عن عثمان بن أبى العاصى، وكان إسحاق يميل إلى الصوم، وكان عطاء يقول: أصوم فى الشتاء ولا أصوم فى الصيف، وقال قتادة لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء.
رواه أحمد والنسائى وأبو داود والترمذى وصححه.
ومهما يكن من شىء فإن الأولى الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه لم يصم هذا اليوم فى حجة الوداع. روى البخارى ومسلم عن أم الفضل أنهم شكوا فى صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فأرسلت إليه بلبن فشرب وهو يخطب الناس بعرفة. وثبت أنه قال " إن يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا - أهل الإسلام - وهى أيام أكل وشرب " وثبت عنه أنه نهى عن صيام يوم عرفة بعرفات.
كما رواه أبو داود والنسائى وابن خزيمة فى صحيحه(9/255)
عاشوراء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن صوم يوم عاشوراء كان مفروضا قبل رمضان، وما هى حكمة صيامه، وهل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم أوصى بالتوسعة على العيال فيه؟
الجواب
يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم أول شهور التقويم الهجرى-دخل التاريخ من أوسع أبوابه منذ بدء الخليقة كما تحكى الروايات التى لا يصمد أكثرها أمام النقد العلمى عند رجال الحديث.
ويهمنا من هذه الأبواب بابان كان لكل منهما أثره فى-تحول مجرى التاريخ الدينى والتشريعى فى اليهودية والإسلام، أحدهما يوم أن نجى الله موسى عليه السلام وجماعته الإسرائيليين، وأغرق فرعون وقومه الظالمين، وكان يوما فاصلا بين عهدين فى تاريخ اليهود، عهد ذاقوا فيه العذاب ألوانا حين كانوا تحت حكم فرعون، كما يذكرهم الله به فى قوله {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} .
البقرة: 49، 50، وعهد التحرر والاتجاه إلى تأسيس مجتمع مستقل ما لبث أن تقلبت به الأحداث ما بين صعود وهبوط واجتماع وتفرق كما قضى بذلك رب العزة فى كتابه وسجله القرآن الكريم فى أوائل سورة الإسراء {وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن فى الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} روى البخارى ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون عاشوراء فقال لهم " ما هذا الذى تصومونه " فقالوا: هذا يوم عظيم، نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه وأمر بصيامه حتى جاء فرض صيام رمضان فبقى صيام يوم عاشوراء مندوبا.
وإذا كان الخبر الصحيح يشرع صومه شكرا لله على نجاة موسى، فإن تحديد هذا اليوم وربطه بنجاة آبائهم هو خبر اليهود كما جاء فى كتبهم التى توارثوها، والثابت فى الصحيحين أيضا عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء قبل هجرته من مكة إلى المدينة اتباعا لقريش فى صيام هذا اليوم فى الجاهلية، ويعلل عكرمة صيام قريش له بأنهم أذنبوا ذنبا فى الجاهلية فعظم فى صدورهم فقيل لهم:
صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب، فهل كان ذلك تقليدا لليهود فى صيام يوم الكفارة "يوم كبور" أو بناء على شرع سابق؟ والمعروف أن شرعة إبراهيم وإسماعيل التى كانت فى مكة هى أسبق من الشريعة التى جاءت بها توراة موسى الذى نجاه الله من فرعون وقومه. روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش فى الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه. فلما قدم المدينة صامه، وأمر الناس بصيامه فلما فرض رمضان قال "من شاء صامه ومن شاء تركه ".
إن الذى يهمنا كمسلمين أن صوم يوم عاشوراء بقى مندوبا كسائر الأيام التى يندب فيها الصيام، ولم يكن يأبه له أحد من المسلمين بأكثر من أن الصيام فيه له فضله الذى ورد فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم "يكفر السنة الماضية " وجرى الأمر على ذلك فى عهد الخلفاء الراشدين حتى كان يوم الجمعة العاشر من المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة، وهو اليوم الذى استشهد فيه الحسين بن على رضى الله عنهما فى كربلاء، فدخل يوم عاشوراء التاريخ مرة أخرى من باب واسع عمَّق الشعور بالتشيع لآل البيت.
وعلى الرغم من مرور أربعة عشر قرنا على هذا الحادث فإن آثاره ما زالت باقية تظهر فى الاحتفال بذكراه، فهو فى إيران والعراق وغيرهما يوم حزن عميق لا داعى لوصف مظاهره، وهو فى بلاد المغرب وغيرها من البلاد التى تبرر ما صنعه رجال البيت الأموى للاحتفاظ بالسلطان يوم فرح وهدايا وتوسعة وترفيه بالحلوى وكل ما لذَّ وطاب [مجلة العربى التى تصدر بالكويت 1962، مجلة الإيمان التى تصدر بالمغرب - محرم وصفر 1384 هـ] .
وفى ظل هذه العواطف ظهرت بدع واخترعت أقاويل وحكايات، بل وضعت أحاديث على النبى صلى الله عليه وسلم تشجع الأولين على المبالغة فى الأسى والحزن، وتشجع الآخرين على المبالغة فى الفرح والسرور، ونكتفى بهذا القدر فى بيان استغلال يوم عاشوراء استغلالا سياسيا لنعرف مدى صحة ما يقال إن التوسعة على العيال فى يوم عاشوراء أثر من آثار النزاع بين البيت الأموى والهاشمى فنقول:
جاء فى كتاب شرح الزرقانى على المواهب اللدنية للقسطلانى "ج 8 ص 123 " أن الحديث الذى يقول: "من وسع على عياله فى يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها" رواه الطبرانى والبيهقى وأبو الشيخ، وقال البيهقى إن أسانيده كلها ضعيفة، ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة، قال العراقى فى أماليه: لحديث أبى هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ، وأورده ابن الجوزى فى الموضوعات.
وذلك لأن سليمان بن أبى عبد الله الراوى عن أبى هريرة مجهول، لكن جزم الحافظ فى تقريبه بأنه مقبول، وذكره ابن حبان فى الثقات والحديث حسن على رأيه. قال العراقى: وله طرق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البر فى "الاستيعاب " وهى أصح طرقه.
رواه ابن عبد البر والدارقطنى بسند جيد عن عمر رضى الله عنه موقوفا عليه.
قد يقال: إذا كان الصوم شعيرة عاشوراء، وهو يقوم على الزهد والتقشف فكيف يتفق ذلك مع التوسعة على العيال والأهل؟ لئن كانت هناك توسعة فلتكن على الفقراء كالبر فى رمضان، ومهما يكن من شىء فان التوسعة مندوبة وأفضل دينار ينفقه الإنسان بعد نفسه هو على أهله، وكل ذلك فى حدود الوسع، ورأى بعض المفكرين أن " العيال " المذكورين فى هذا الحديث هم عيال الله وهم الفقراء، وهنا تظهر الحكمة فى التوسعة مع الصيام. وجاء فى الزرقانى أيضا أن ما يذكر من فضيلة الاغتسال فيه والخضاب والادهان والاكتحال ونحو ذلك فبدعة ابتدعها قتلة الحسين كما صرح به غير واحد.
هذا، والأولى الاقتصار على ما جاء فى الحديث من أن صيامه يكفر ذنوب سنة، كما يسن صيام يوم التاسع أيضا لحديث رواه مسلم عن ابن عباس قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال - "إذا كان العام المقبل -إن شاء الله -صمنا اليوم التاسع " قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أحمد "خالفوا اليهود صوموا يوما قبله ويوما بعده ".
وقد ذكر العلماء أن صيام عاشوراء على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى صوم ثلاثة أيام: التاسع والعاشر والحادى عشر.
والمرتبة الثانية صوم التاسع والعاشر، والمرتبة الثالثة صوم العاشر وحده.
وموضوع صيام عاشوراء مبسوط فى كتاب "زاد المعاد لابن القيم ج اص 164 وما بعدها.
هذا، وقد جاء فى الترمذى بإسناد حسن أنه قد يكون هو اليوم الذى تاب فيه على قوم ويتوب على آخرين، ولكن ليس فى الحديث تعيين لهذا اليوم ولا لهؤلاء الأقوام، وصح من حديث أبى إسحاق عن الأسود ابن يزيد قال: سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء فقال:
المحرم شهر الله الأصم، فيه يوم تيب فيه على آدم، فإن استطعت ألا يمر بك إلا وأنت صائم فافعل [تفسير القرطبى ج اص 324] وهو حديث غير مرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
وجاء فى مسند أحمد أنه ربما يكون هو اليوم الذى استوت فيه سفينة نوح على الجودى.
ولا أعلم درجة هذا الحديث،كما جاء فى الكتب حوادث أخرى فى يوم عاشوراء ليس لها سند صحيح، منها مولد الخليل إبراهيم ومولد موسى ومولد عيسى، وبردت فيه النار على إبراهيم، ورفع العذاب عن قوم يونس، وكشف الضر عن أيوب، ورد البصر على يعقوب، وأخرج يوسف من الجب، ويوم الزينة الذى غلب فيه موسى السحرة.
تتمات.
ا -صيام النبى يوم عاشوراء فى مكة كان كصيام قريش لمتابعتهم فى الخير كمتابعتهم فى الحج ولم يأمر به أصحابه، وصامه بعد الهجرة لما وجد اليهود يصومونه قال العلماء: إن صيامه فى المدينة كان بوحى أو باستدامة صيامه فى مكة وزاد تأكيده بشكر الله على نجاة موسى. وليس صيامه متابعة لليهود فى شريعتهم، وقال بعضهم:
إنه اجتهاد من النبى صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولعل هذا من باب تأليف قلوبهم كالتوجه إلى بيت المقدس فى الصلاة. وكانت هذه الموافقة فى أول الإسلام، فلما فتحت مكة وقوى الإسلام خالف أهل الكتاب، بل أمر بمخالفتهم فى شكل الصيام لا فى أصله، ودليل ذلك أنه فى أواخر حياته - وكان يصوم عاشوراء استحبابا ويصومه أصحابه -قيل له: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال - كما رواه مسلم - "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع " فلم يأت العام المقبل حتى توفى.
2 -تكفير الذنوب بصيام عاشوراء المراد بها الذنوب الصغائر، وهى ذنوب سنة ماضية أو آتية إن وقعت من الصائم، فإن لم تكن صغائر خفف من الكبائر، فإن لم تكن كبائر رفعت الدرجات. أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة النصوح، وقيل يكفرها الحج المبرور، لعموم الحديث المتفق عليه "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ".
3-قال النووى: اختلف فى حكم صوم عاشوراء فى أول الإسلام حين شرع قبل رمضان، فقال أبو حنيفة كان واجبا لظواهر الأحاديث، ولأصحاب الشافعى وجهان: وجه كأبى حنيفة، والأشهر أنه لم يزل سنة حين شرع، لكن كان متأكد الاستحباب، فلما فرض رمضان صار استحبابه أقل من الأول، ويظهر الخلاف فى النية هل يجب تبييتها أو تمكن قبل الزوال؟ الله أعلم بما كان عليه الصحابة حينذاك، ولا أثر له الآن.
هذا، وقد ثبت فى الصحيحين أن ابن مسعود أفطر يوم عاشوراء، ولما سئل قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل صوم رمضان، فلما نزل رمضان تركه، والتفسير الصحيح لفعل ابن مسعود وقوله أن صوم عاشوراء ترك النبى صلى الله عليه وسلم وجوبه بعد فرض صيام رمضان، وبقى مستحبا كما تدل عليه الروايات الأخرى، والموضوع طويل يراجع فى زاد المعاد لابن القيم "ج اص 164 "(9/256)
الأكل مع النسيان للصائم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم من تناول مفطرا مع النسيان، هل يبطل صومه، وماذا يجب عليه؟
الجواب
روى أصحاب السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن الله رفع عن أمتى الخطأ وما استكرهوا عليه " رجاله ثقات وليست فيه علة قادحة، " فيض القدير" وروى الجماعة إلا النسائى أنه صلى الله عليه وسلم قال "من نسى وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه " وروى الدارقطنى بإسناد صحيح أنه قال "إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه ".
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا فإن صيامه صحيح وهذا موافق لقوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} البقرة:225، والنسيان ليس من كسب القلوب، وما دام صومه صحيحا فعليه أن يمسك عن الطعام ويتم صومه.
وهذا واضح فى صيام رمضان تعظيما لحرمة الشهر، أما فى غير أداء رمضان كالنذر المعين أو غير المعين وكصيام الكفارات وقضاء رمضان وصوم التطوع فلا يجب عليه الإمساك بقية اليوم ويجوز له أن يفطر عند الجمهور ولكن الإمام مالكا قال: يجب الإمساك فى النذر المعين، أما فى غير المعين وباقى الصوم الواجب فإن كان التتابع واجبا فيه كصوم كفارة رمضان وما نذره متتابع فلا يجب الإمساك إذا أفطر عمدا، لأنه بطل، ولأنه يجب استئنافه من أوله، وإن أفطر سهوا فإن كان فى غير اليوم الأول وجب الإمساك، وإن كان فى اليوم الأول ندب الإمساك ولا يجب. وإن كان التتابع غير واجب كقضاء رمضان وكفارة اليمين جاز الإمساك وعدمه، سواء أفطر عمدا أم لا، وإن كان الصوم نفلا فإن أفطر ناسيا وجب الإمساك لأنه لا يجب عليه القضاء بالفطر نسيانا، وإن كان عمدا فلا يجب الإمساك، لوجوب القضاء عليه بالفطر عمدا.
وقد تحدث العلماء عن سند قول مالك فى وجوب القضاء على من تعمد الفطر فى صيام النفل، وعن وجوب الإمساك إن أفطر ناسيا مع عدم القضاء، فوجدوه ضعيفا وليس المجال مجال تفصيل لهذه المناقشة، والمهم أن نعرف أن دليل الجمهور قوى فى أن النسيان لا يؤثر على الصيام حتى لو كان الأكل كثيرا. ويؤيده ما أخرجه أحمد عن أم إسحاق أنها كانت عند النبى صلى الله عليه وسلم فأتى بقصعة من ثريد، فأكلت معه ثم تذكرت أنها صائمة-وهذا لم يكن فى رمضان قطعا لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يأكل معها-فقد يكون صيام نذر أو قضاء أو نفل، فلما تذكرت أنها صائمة قال لها ذو اليدين:
الآن بعدما شبعت؟ فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم "أتمى صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك "(9/257)
نقط الأنف وأنبوبة الربو للصائم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يبطل الصوم بوضع النقط فى الأنف أو الاستنشاق من أصبع الربوة؟
الجواب
قال العلماء: إن الصوم يبطل بذلك لدخول شيء إلى الجوف من منفذ مفتوح ويصدق عليه اسم الأكل أو الشرب الذى بنى عليه القرآن بطلان الصيام، حيث أباحهما بالليل حتى مطلع الفجر فقط فقال سبحانه {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} البقرة: 187،.
وقد سبق أن بينت أن الأكل والشرب فسرا بعدة تفسيرات، وبنيت عليها أحكام فى الصيام، وكانت كلها اجتهادات اختلفت نتائجها، واخترت من ذلك ما اطمأنت إليه نفسى بعد استهداف الحكمة فى مشروعية الصيام بالامتناع عن شهوتى البطن والفرج.
ولا مانع من الأخذ برأى العلماء فى أن نقط الأنف والبخار الذى يشم من أصبع الربو يبطل بهما الصيام.
وإذا كان المريض لا يستغنى عنهما فى الصيام جاز له الفطر وعليه القضاء بعد الشفاء من المرض، فإن كان مزمنا لا يرجى شفاؤه كان له الفطر وعليه الإطعام عن كل يوم مسكينا(9/258)
الحقن فى الصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يبطل الصوم بالعلاج بالحقن؟
الجواب
قال العلماء: حقنة الشرج مفطرة لدخولها إلى الجوف من منفذ مفتوح واشترط مالك أن تصل إلى المعدة أو الأمعاء، فإن لم تصل فلا يبطل بها الصيام.
أما حقن العضل والتى تحت الجلد فقد أفتى الشيخ محمد بخيت المطيعى فى مايو 1919 م بأنها لا تفطر بناء على أنها لم تصل إلى الجوف من منفذ معتاد، وعلى فرض الوصول فإنها تصل من المسام فقط وما تصل إليه ليس جوفا ولا فى حكم الجوف. "الفتاوى الإسلامية -المجلد الأول ص 89" والشيخ طه حبيب عضو المحكمة العليا الشرعية قال فى فتواه المنشورة بمجلة الأزهر "المجلد الثالث ص 553 " ما نصه: ولا شك فى أن الحقنة التى تعطى تحت الجلد أو فى العضلات أو فى الوريد أو فى قناة النخاع الشوكى تصل إلى الجوف، لأنها تصل عند إعطائها إلى الدورة الدموية، وهذه توزعها إلى أجزاء الجسم كل بحسب طلبه، وعلى هذا يتبين أن الحقن التى يعطيها الأطباء للصائمين فى نهار رمضان مفسدة لصومهم، وإذا لوحظ أن إعطاءها قد يكون للتغذية وللتقوية وإكثار الدم ولتخدير الأعصاب، فإن الأطباء أنفسهم يقرون أن هذه الحقن تمتصها الأوعية الليمفاوية ومنها إلى الدورة الدموية ثم توزعها هذه الأخيرة إلى أجزاء الجسم كل بحسب طلبه ... إلى أن قال: هذا ما يمكن أخذه من مذهب أبى حنيفة فى هذا الموضوع، أما مذهب المالكية والشافعية فهو ما يأتى:
مذهب المالكية أن الصوم يفسد عندهم بوصول مائع إلى الحلق من الفم أو الأنف أو الأذن أو العين وإن لم يصل إلى المعدة.
وبوصول جامد إلى المعدة من منفذ عال. فلو ابتلع الصائم حصاة ووصلت إلى المعدة فسد الصوم، ويفسد بوصول دواء إلى المعدة أو الأمعاء بواسطة الحقنة إذا جعلت فى منفذ واسع. أما إذا كان المنفذ غير واسع لا يمكن وصول شىء منه إلى المعدة فلا. ومن هذا يؤخذ أن الحقنة تحت الجلد إن وصل الدواء المجعول فيها إلى المعدة أو الحلق أو الأمعاء أفطر الصائم، وإلا فلا. والمعدة عندهم ما تحت منخسف الصدر إلى السرة.
ومذهب الشافعية يرى أن وصول عين الشىء قليلا كان الواصل أو كثيرا مأكولا أو غير مأكول إلى الجوف من منفذ مفتوح كحلق ودماغ وباطن أذن وبطن وإحليل ومثانة مفسد للصوم.
ومنه يعلم حكم الحقنة تحت الجلد، وقد علمت أنها تصل إلى داخل الجوف قطعا.
هذه صورة من الآراء الاجتهادية فى الحقن، وقد رأيت أن حقن الدواء يمكن العمل فيها برأى الشيخ محمد بخيت، وهو عدم الإفطار لأنها لم تدخل من منفذ مفتوح، وأن حقن الغذاء يمكن العمل فيها برأى الشيخ طه حبيب وهو الإفطار لأنها دخلت إلى الجوف عن طريق الدم، وتتنافى مع حكمة الصيام من الشعور بالجوع والعطش للمعانى التى تترتب عليه(9/259)
نقل الدم فى الصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل نقل الدم يبطل الصيام؟
الجواب
هذا السؤال له طرفان، طرف يتصل بالمنقول منه، وطرف يتصل بالمنقول إليه، أما المنقول منه فيقاس أخذ الدم منه فى نهار رمضان على الفصد وهو أخذ الدم من غير الرأس، وعلى الحجامة وهى أخذ الدم من الرأس، وقد سبق أن الجمهور يقولون بعدم بطلان الصيام بهما، لأن حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" الذى أخذ به من قال بالإفطار، لم يسلم من النقد، إن لم يكن من جهة السند فمن جهة الدلالة "نيل الأوطار للشوكانى ج 4 ص 212، 216 ".
وأما المنقول إليه فيعطى نقل الدم حكم الحقنة وقد تقدم الكلام فيها وإذا كان للعلاج لا للغذاء وأدخل عن طريق الوريد فأختار عدم بطلان الصيام، ومع ذلك أقول إن هذا المريض الذى نقل إليه الدم يحتاج إلى ما يقويه فله أن يفطر بتناول الأطعمة وعليه القضاء عند الشفاء.
واختلاف آراء الفقهاء فى مثل هذه الفروع رحمة يمكن الأخذ بأيسرها عند الحاجة إليه(9/260)
صيام الأيام البيض وستة من شوال
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما أصل تسمية الأيام بالبيض وما هى، وهل منها الستة من شوال كما يشاع بين الناس؟
الجواب
الأيام البيض موجودة فى كل شهر قمرى. وهى التى يكون القمر موجودا فيها من أول الليل إلى آخره (13، 14، 15) وسميت بيضا لابيضاضها ليلا بالقمر ونهارا بالشمس.
وقيل لأن الله تاب فيها على آدم وبيَّض صحيفته " الزرقانى على المواهب ج 8 ص 133 ".
وجاء فى الحاوى للفتاوى للسيوطى: يقول الناس إن آدم لما أهبط من الجنة اسودَّ جلده، فأمره الله بصيامها من الشهر القمرى، فلما صام اليوم الأول ابيض ثلث جلده ولما صام اليوم الثانى ابيض الثلث الثانى، وبصيام اليوم الثالث ابيض كل جلده، وهذا القول غير صحيح، فقد ورد فى حديث أخرجه الخطيب البغدادى فى أماليه، وابن عساكر فى تاريخ دمشق من حديث ابن مسعود مرفوعا، وموقوفا من طريق آخر، وأخرجه ابن الجوزى فى الموضوعات من الطريق المرفوع، وقال إنه حديث موضوع وفى إسناده جماعة مجهولون لا يعرفون.
وبصرف النظر عن كون سيدنا آدم صامها أو لم يصمها فإن الإسلام شرعَّ صيامها وجعله مندوبا ومستحبا، وجاء فى الزرقانى على المواهب المذكور سابقا أن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض فى حضر ولا سفر.
ورواه النسائى. وعن حفصة أم المؤمنين: أربع لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يدعهن -يتركهن - صيام عاشوراء والعشر أيام البيض من كل شهر وركعتى الفجر، رواه أحمد، وعن معاذة العدوية أنها سألت عائشة أم المؤمنين: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أى أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالى من أى أيام الشهر يصوم. رواه مسلم.
ثم قال الزرقانى: والحكمة فيها أنها وسط الشهر، ووسط الشيء أعدله، ولأن الكسوف أى خسوف القمر- غالبا يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد من العبادة إذا وقع فإذا اتفق الكسوف صادف الذى يعتاد صيام الأيام البيض صائما، فيتهيأ له بأن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها.
هذا ما جاء فى صيام الأيام البيض الثلاثة من كل شهر، أما الستة الأيام من شهر شوال فإن تسميتها بالبيض تسمية غير صحيحة، وبصرف النظر عن التسمية فإن صيامها مندوب مستحب وليس واجبا، وقد ورد فى ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر" رواه مسلم كما جاء فى فضلها حديث رواه الطبرانى "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ". ومعنى صيام الدهر صيام العام، وجاء بيان ذلك فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم فى عدة روايات لابن ماجه والنسائى وابن خزيمة فى صحيحه، ومؤداها أن الحسنة بعشر أمثالها، فشهر رمضان بعشرة أشهر، والأيام الستة من شوال بستين يوما أى شهرين، وهما تمام السنة اثنا عشر شهرا.
وهذا الفضل لمن يصومها فى شوال، سواء أكان الصيام فى أوله أم فى وسطه أم فى آخره، وسواء أكانت الأيام متصلة أم متفرقة، وإن كان الأفضل أن تكون من أول الشهر وأن تكون متصلة. وهى تفوت بفوات شوال.
وكثير من السيدات يحرصن على صيامها، سواء أكان عليهن قضاء من رمضان أم لم يكن عليهن قضاء. وهذا أمر مستحب كما قرره جمهور الفقهاء ونرجو ألا يعتقدن أنه مفروض عليهن، فهو مندوب لا عقوبة فى تركه.
هذا، ويمكن لمن عليه قضاء من رمضان أن يصوم هذه الأيام الستة من شوال بنية القضاء، فتكفى عن القضاء ويحصل له ثواب الستة البيض فى الوقت نفسه إذا قصد ذلك، فالأعمال بالنيات، وإذا جعل القضاء وحده والستة وحدها كان أفضل، بل إن علماء الشافعية قالوا:
إن ثواب الستة يحصل بصومها قضاء حتى لو لم ينوها وإن كان الثواب أقل مما لو نواها، جاء فى حاشية الشرقاوى على التحرير للشيخ زكريا الأنصارى "ج 1 ص 427 " ما نصه: ولو صام فيه -أى فى شوال - قضاء عن رمضان أو غيره أو نذرا أو نفلا آخر حصل له ثواب تطوعها، إذ المدار على وجود الصوم فى ستة أيام من شوال وإن لم يعلم بها أو صامها عن أحد مما مر-أى النذر أو النفل الآخر، لكن لا يحصل له الثواب الكامل المترتب على المطلوب إلا بنية صومها عن خصوص الست من شوال، ولا سيما من فاته رمضان أو صام عنه شوال، لأنه لم يصدق عليه أنه صام رمضان وأتبعه ستا من شوال.
ويشبه هذا ما قيل فى تحية المسجد، وهى صلاة ركعتين لمن دخله، قالوا: إنها تحصل بصلاة الفريضة أو بصلاة أى نفل وإن لم تُنو مع ذلك، لأن المقصود وجود صلاة قبل الجلوس، وقد وجدت بما ذكر، ويسقط بذلك طلب التحية ويحصل ثوابها الخاص وإن لم ينوها على المعتمد كما قال صاحب البهجة.
وفضلها بالفرض والنفل حصل، والمهم ألا ينفى نيتها، فيحصل المقصود إن نواها وإن لم ينوها.
وبناء على ما تقدم يجوز لمن يجد تعبا فى قضاء ما فاته من رمضان وحرص على جعل هذا القضاء فى شوال، ويريد أن يحصل على ثواب الأيام الستة أيضا أن ينوى القضاء وصيام الستة، أو القضاء فقط دون نية الستة، وهنا تندرج السنة مع الفرض، وهذا تيسير وتخفيف لا يجوز التقيد فيه بمذهب معين ولا الحكم ببطلان المذاهب الأخرى.
والحكمة فى صيام ست من شوال بعد الصيام الطويل فى شهر رمضان - والله أعلم - هى عدم انتقال الصائم فجأة من الصيام بما فيه من الإمساك المادى والأدبى إلى الانطلاق والتحرر فى تناول ما لذ وطاب متى شاء، فالانتقال الفجائى له عواقبه الجسمية والنفسية، وذلك أمر مقرر فى الحياة(9/261)
تاريخ تشريع الصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
متى وكيف شرع الصيام فى الإسلام؟
الجواب
يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} البقرة: 183، تدل هذه الآية على أمرين، أولهما أن الصيام من فرائض الإسلام وثانيهما أنه كان مفروضا فى الشرائع السماوية السابقة.
أما فرضه فى الإسلام فكان على مرحلتين، الأولى صيام يوم عاشوراء، والثانية صيام رمضان، وصيام رمضان نفسه كان على مرحلتين: اختيارية وإجبارية.
وبيان ذلك فيما يلى:
فى حديث البخارى ومسلم وغيرهما عن عائشة رضى الله عنها أن يوم عاشوراء كانت تصومه قريش فى الجاهلية،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فى الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه -وذلك عندما رأى اليهود يصومونه شكرا لله على نجاة موسى وقومه من الغرق، فقال "نحن أحق بموسى منكم " كما رواه الشيخان -فلما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.
وظاهر هنا أن صوم عاشوراء كان واجبا ثم نسخ وجوبه بفرض رمضان كما ذهب إليه أبو حنيفة وبعض الشافعية، وقيل كان صومه مندوبا مؤكد الندب غير واجب فلما فرض رمضان بقى مندوبا ندبا غير مؤكد وهو الوجه الأشهر عند الشافعية.
وبصرف النظر عن وجوبه أو ندبه، فإن صيام النبى صلى الله عليه وسلم فى مكة ربما كان موافقة لقريش فيما بقى من شريعة سابقة كالحج، أو بإذن من الله سبحانه على أنه فعل من أفعال الخير، وصيامه فى المدينة ليس نزولا على إخبار اليهود له بسببه فقد كان يصومه قبل ذلك، ولكنه استئلاف لهم فيه مع إذن الله له، كما استألفهم باستقبال بيت المقدس وقد كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به من الخير.
استمر وجوب صوم عاشوراء سنة واحدة، فقد فرض صيام رمضان فى السنة الثانية من الهجرة فى شهر شعبان لليلتين خلتا منه، وصام النبى صلى الله عليه وسلم رمضان تسع سنوات كما قاله ابن مسعود فى رواية أبى داود والترمذى، وكما قالته عائشة أيضا فى رواية أحمد بسند جيد، وصام منها ثمانية رمضانات تسعة وعشرين يوما، وواحدا ثلاثين يوما.
وصوم رمضان أخذ مرحلتين فى فرضه. الأولى مرحلة التخيير بينه وبين الفدية والثانية مرحلة الإلزام بالصيام مع استثناء بعض من لهم أعذار، والمرحلة الإلزامية أيضا كانت على صورتين، وبيان ذلك:
أن قوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} البقرة: 184، رأى بعض العلماء أنه منسوخ، مفسرين "يطيقونه " بمعنى: يقدرون عليه فهو فى طاقتهم ووسعهم فمن قدر على الصيام ولا يريد أن يصوم فعليه أن يفعل خيرا وهو إخراج فدية طعام مسكين عن كل يوم، ومن زاد على هذا القدر، فهو خير له ومن صام ولم يخرج فدية فهو خير له.
ولما جرب الناس فائدة الصيام ومرنوا عليه اختاروه على الفِطر مع الفدية، وعندما تهيأت نفوسهم لحتميته فرضه الله على كل قادر، ومن كان له عذر من مرض أو سفر فرض عليه قضاء ما أفطره، وبهذا صار التخيير منسوخا، إلا أن أقوال العلماء مضطربة فى تعيين النص الناسخ، فقال بعضهم إنه {وأن تصوموا خير لكم} وقال بعضهم الآخر إنه قوله تعالى فى الآية التالية للآية التى فيها المنسوخ {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} .
روى البخارى أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم فى ذلك فنسختها {وأن تصوموا خير لكم} .
ولكن هنا وقفة فى مجىء الناسخ والمنسوخ فى آية واحدة نزلت فيما يبدو مرة واحدة أى دفعة واحدة لا تتجزأ، ولو كان الناسخ آية أخرى تكون قد نزلت بعد فترة لكان ذلك أقرب إلى المعقول، ولعل هذا يتفق مع قول من قال: إن الناسخ هو قوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} الموجود فى الآية التالية لآية الحكم المنسوخ.
ويكون قوله تعالى {وأن تصوموا خير لكم} من مكملات التخيير لبيان أفضلية الصوم على الفطر مع الفدية.
وهناك جماعة من المفسرين قالوا: إن آية {وعلى الذين يطيقونه فدية. . .} محكمة وليست منسوخة، والمعنى أن الذين يتكلفون الصيام بمشقة شديدة كأنه طوق فى أعناقهم لا يصومون وعليهم الفدية، ومن زاد على مقدارها أو تكلف الصيام فهو خير، وهؤلاء هم كبار السن ومن فى حكمهم.
ومهما يكن من شيء فإن الأمر قد استقر عند المجتهدين على أن كبار السن الذين لا يقدرون على الصيام أداء ولا قضاء، وكذلك المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم لا يجب عليهم الصيام، وإنما الواجب عليهم هو إخراج الفدية عن كل يوم.
أما المرضى الذين يرجى شفاؤهم فيرخص لهم فى الفطر وعليهم القضاء بنص الآية الكريمة {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} .
هذا، وكانت مدة الصيام أول الأمر هى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإذا لم يفطر الصائم عند الغروب ونام لا يجوز له إذا استيقظ من نومه أن يتناول أى مفطر ويظل صائما إلى غروب شمس اليوم التالى، كما كان قربان النساء ليلا محرما على الصائمين طول الشهر، فشق عليهم ذلك فأباح الله لهم التمتع بالنساء ليلا، ومد لهم فترة الإفطار حتى مطلع الفجر، لا يؤثر على ذلك نوم ولا غيره. . . روى البخارى عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسى، وأن قيس بن صرمة الأنصارى كان صائما-وفى رواية كان يعمل فى النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها:
أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت:
خيبة لك! ! -يعنى تأسفت لنومه -فلما انتصف النهار غشى عليه، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} ففرحوا فرحا شديدا.، ونزلت {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} .
وفى البخارى أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ... } والخيانة هنا ارتكاب المعصية.
وجاء فى تفسير القرطبى فى رواية أبى داود أن عمر رضى الله عنه أراد امرأته فقالت: إنى نمت، فظن أنها تعلل بالنوم فباشرها، كما ذكر الطبرى أن ذلك وقع من كعب بن مالك أيضا، ولما رفع الأمر إلى النبى صلى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية.
هذا فى تشريع الصيام فى الإسلام، أما قبل الإسلام، فقال بعض المفسرين إن تماثل صيامنا مع صيام من قبلنا هو فى أصل الوجوب وليس فى الكيفية، وقال بعضهم الآخر إن المفروض عليهم كان رمضان ولكنهم غيروا وبدلوا، والأمر لا يعدو مجرد أقوال وآراء دون سند صحيح يعتمد عليه، وقد أورد القرطبى فى تفسيره حديثا لم يبين درجته ولكن أسنده عن دغفل بن حنظلة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن عشرة، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه، فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن سبعة، ثم كان ملك آخر فقالوا: لنتمن هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا فى الربيع، فصار خمسين ".
وغاية ما يعرف بعد الاطلاع على كتب التاريخ وأسفار العهد القديم والجديد أن قدماء اليهود كانوا لا يكتفون فى صيامهم بالامتناع عن الطعام والشراب من المساء إلى المساء، بل كانوا يمضون الصيام مضطجعين على الحصى والتراب فى حزن عميق، واليهود المعاصرون يصومون ستة أيام فى السنة، وأتقياؤهم يصومون شهرا كاملا، وهم الآن يفطرون كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة عند ظهور النجوم.
والنصارى يصومون فى كل سنة أربعين يوما اقتداء بالمسيح عليه السلام، وكان الأصل فى صيامهم الامتناع عن الأكل والشرب بتاتا، والإفطار كل أربع وعشرين ساعة، ثم قصروه على الامتناع عن أكل كل ذى روح وما ينتج منه "مجلة الأزهر المجلد الخامس ص 622".
وذلك إلى جانب صيام آخر مندوب، وكذلك الصيام عند من ليس لهم دين سماوى، وذلك -مبسوط فى المرجع السابق(9/262)
صيام الصبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لى ولد يبلغ من العمر عشر سنوات وصحته ضعيفة، ويصمم على أن يصوم، ولخوفى عليه أحاول منعه من الصيام،فهل عليَّ إثم؟
الجواب
الصوم كسائر التكاليف لا يجب على المسلم إلا عند البلوغ، وذلك لحديث "رفع القلم عن ثلاث، عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق " رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه، ولكن بعض العلماء أوجب على الصبى إذا بلغ عشرا أن يصوم، وذلك لحديث "إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان " رواه ابن جريج، " المغنى لابن قدامة ج 3 ص 16 " وكذلك قياسا على الصلاة التى أمر النبى صلى الله عليه وسلم بضرب الغلام عليها إذا بلغ عشرا، لكن الرأى الأول هو الصحيح، وهو عدم وجوب الصوم إلا بالبلوغ.
ومن هو دون العشر ليس هناك خلاف فى عدم وجوب شيء عليه من صلاة وصيام وغيرهما-إلا ما قيل فى الزكاة وسنبينه فى موضعه - ولكن مع ذلك يستحب أن يمرن على العبادات، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأمر أولادنا بالصلاة لسبع سنين، كما رواه أبو داود بإسناد حسن. وكان الصحابة يمرنون أولادهم على الصيام أيضا، روى البخارى ومسلم عن الربيِّع بنت معوِّذ بن عفراء أنهم كانوا يصومون عاشوراء، ويصوِّمون صبيانهم الصغار، ويذهبون بهم إلى المسجد، ويجعلون لهم اللعبة من الصوف، فإذا بكى أحدهم من أجل الطعام أعطوه إياها حتى يحين وقت الإفطار.
وكل هذا فى الأولاد الذين يطيقون الصيام، أما من كان بهم مرض أو صحتهم ضعيفة يزيدها الصوم ضعفا فليس على الآباء والأمهات أن يأمروهم بالصيام، لكن لا ينبغى أيضا أن ينهوهم عنه، بل يتركونهم يجربون ذلك بأنفسهم، فإن أطاقوا استمروا، وإلا فإنهم سيتركونه باختيارهم. وعلى الآباء والأمهات أن يمدحوا فى أولادهم عزمهم على الصيام وأن يبينوا لهم حكمة تشريعه بلباقة وكياسة، وسيكون استمرارهم فى هذه التجربة أو عدولهم عنها باقتناع، وهذا منهج تربوى سليم(9/263)
السواك فى الصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
معلوم أن تنظيف الأسنان مطلوب شرعا فهل يتنافى ذلك مع الأحاديث التى تمدح خلوف فم الصائم؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى ضمن حديث "والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " كما روى أبو داود والترمذى حديثا حسنا عن عامر بن ربيعة قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسوك ما لا أحصى وهو صائم ".
استنتج الشافعى من الحديث الأول كراهة استعمال السواك للصائم -ومثله فرشاة الأسنان -وخص ذلك بما بعد الزوال، إبقاء على رائحة الفم التى مدحها النبى صلى الله عليه وسلم. وتغير رائحة الفم ناتج عن عدم تناول الطعام والشراب، ويظهر عادة بعد الزوال، ولم يعمل الشافعى بالحديث الثانى لأنه أقل رتبة من الحديث الأول. ويؤيد رأيه حديث البيهقى "إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشى" والغداة أول النهار والعشى آخره.
وقال الأئمة الثلاثة، مالك وأبو حنيفة وأحمد: لا يكره السواك للصائم مطلقا سواء قبل الزوال وبعده، ودليلهم فى ذلك هو حديث عامر بن ربيعة المذكور، وحملوا الحديث الأول الذى يمدح الخلوف على الترغيب فى التمسك بالصيام وعدم التأذى من رائحة الفم، وليس على الترغيب فى إبقاء الرائحة لذاتها، ثم قالوا: إن رائحة الفم تزول أو تقل بالمضمضة للوضوء، الذى يتكرر كثيرا، ولم يثبت نهى الصائم عنها، وقالوا أيضا: إن حديث البيهقى ضعيف كما بينه هو.
وإذا لم يكن من الأئمة الأربعة إلا الشافعى الذى قال بكراهة تنظيف الأسنان أثناء الصيام بعد الزوال - فإن من كبار أئمة المذهب من لم يرتضوا ذلك. فقد قال النووى فى المجموع "ج 1 ص 39" إن المختار عدم الكراهة. وقال ابن دقيق العيد معقبا على قول الشافعى: ويحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت -أى بعد الزوال -يخص به ذلك العموم - وهو حديث الخلوف -وعلى هذا فلا كراهة فى استعمال السواك فى رمضان "انظر أيضا كتاب: طرح التثريب فى شرح التقريب، للعراقى وأبى زرعة ج 2 ص 65 ".
وبعد استعراض ما قيل فى السواك فى الصيام أختار القول بعدم كراهة تنظيف الأسنان بأية وسيلة، شريطة ألا يصل إلى الجوف شيء من المعجون أو الدم ونحوها ومن الأحوط استعمال ذلك ليلا(9/264)
صوم الحائض والنفساء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا يحرم الصوم مع العادة الشهرية للمرأة؟
الجواب
أجمع الفقهاء على أمرين بالنسبة للمرأة إذا كانت حائضا أو نفساء وهما، عدم وجوب الصوم عليها، وعدم صحته إذا صامت بل على حرمة صومها. يقول الخطيب الشافعى فى كتابه الإقناع "ج1 ص 205 " قال الإمام: وكون الصوم لا يصح منها لا يدرك معناه: لأن الطهارة ليست مشروطة فيه، وهل وجب عليها ثم سقط، أو لم يجب أصلا وإنما يجب القضاء بأمر جديد.
وجهان أصحهما الثانى، قال فى البسيط: وليس لهذا الخلاف فائدة فقهية، وقال فى المجموع: يظهر هذا وشبهه فى الأيمان والتعاليق بأن يقوله: متى وجب عليك صوم فأنت طالق انتهى كلام الخطيب.
ليس هناك دليل قولى من القرآن والسنة يحرم الصيام على المرأة عند وجود الدم فالإجماع فقط هو الدليل وحاول بعض العلماء أن يأخذ عليه دليلا من حديث الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت: كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، فقال: الأمر بقضاء الصوم يستلزم بطلانه لو حدث منها فى رمضان، لكن ليس ذلك مطردا، فإن القرآن أوجب القضاء على المريض والمسافر، ومع ذلك يجوز أن يصوم كل منهما ويقع الصوم صحيحا.
فلعل عدم وجوب الصوم على المرأة مع وجود الدم تشريع سابق متعارف عليه وأقره النبى صلى الله عليه وسلم والحكمة فى ذلك ليست بوجود الجنابة، فالجنابة بغير الدم لا تمنع الصوم ولا تبطله، فلو حدثت جنابة باتصال جنسى قبل الفجر، أو باحتلام ليلا أو نهارا، ثم استمر من عليه الحدث طول النهار بدون غسل فإن صومه صحيح وإن كانت هناك حرمة لترك الصلوات التى تحتاج إلى طهارة، وقد ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم "كان يصبح جنبا وهو صائم ثم يغتسل.
كما أن الحكمة ليست المرض الذى يسببه نزول الدم فإن المرض لا يمنع من الصيام ويجزئ، لأن الفطر رخصة لا عزيمة، وفطر صاحبة الدم عزيمة لا رخصة.
والخلاصة أن دليل بطلان الصوم ممن عليها الدم هو الإجماع، والحكمة غير متيقنة، والمتيقن هو وجوب. الإعادة عليها كما فى الصحيحين من دلالة خبرهما على العلم اليقينى فى أحكام الفروع(9/265)
نية الصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسيت نية الصيام بالليل، ثم تذكرت بعد الفجر أننى لم أنو، فهل يصح صومى؟
الجواب
النية للصوم لابد منها، ولا يصح بدونها، وأكثر الأئمة يشترط أن تكون لكل يوم نية، واكتفى بعضهم بنية واحدة فى أول ليلة من رمضان عن الشهر كله ... ووقتها من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. فإذا نوى الإنسان الصيام فى أية ساعة من ساعات الليل كانت النية كافية، ولا يضره أن يأكل أو يشرب بعد النية ما دام ذلك كله قبل الفجر، روى أحمد وأبو داود والنسائى وابن ماجة والترمذى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ". .
ولا يشترط التلفظ بالنية، فإن محلها القلب، فلو عزم بقلبه على الصيام كفى ذلك. حتى لو تسحر بنية الصيام، أو شرب حتى لا يشعر بالعطش فى أثناء النهار، كان ذلك نية كافية، فمن لم يحصل منه ذلك في أثناء الليل لم يصح صومه. وعليه القضاء. هذا فى صوم رمضان أما صوم التطوع فتصح نيته نهارا قبل الزوال(9/266)
الصيام فى رجب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحرص الكثيرون على صيام أول يوم من رجب، أو صيام أيام معينة منه، وبعضهم يصومه ويصوم شعبان ورمضان ثلاثة أشهر متواليات، فهل هذا مشروع؟
الجواب
شهر رجب من الأشهر الحرم، والصيام فيها مندوب، كما ورد فى حديث الباهلى الذى قال له النبى صلى الله عليه وسلم "صم من الحرم واترك " كما رواه أبو داود. والنبى عليه الصلاة والسلام كان يرغب فى صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كما فى الصحيحين، بل كان يرغب فى الصيام مطلقا. فصيام أيام من رجب مندوب بدليل هذه الأحاديث العامة ولكن لم يرد نص صحيح خاص بفضل الصيام فى أولى يوم منه أو غيره من أيامه، ومن غير الصحيح الوارد فى ذلك حديث أنس "إن فى الجنة نهرا يقال له رجب، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر" وهو حديث ضعيف.
وحديث ابن عباس "من صام من رجب يوما كان كصيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب الجحيم السبعة، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام بدلت سيئاته حسنات " وهو ضعيف أيضا كما ذكره السيوطى فى " الحاوى للفتاوى ".
وصيام رجب كله مع شعبان ليكمل بهما مع رمضان ثلاثة أشهر لم يرد ما يمنعه. وإن قال بعض العلماء: إن التزام ذلك لم يكن على عهد السلف فهو مبتدع، فالأولى الصيام بقدر المستطاع مع عدم الالتزام بنذر ونحوه حتى لا يقع الصائم فى محظور(9/267)
تأخير قضاء الصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أفطرت أياما من رمضان لعذر، ولم أتمكن من قضائها حتى دخل رمضان التالى، فهل على كفارة للتأخير؟ وعند القضاء هل يجب أن يكون متواليا أم يجوز أن يكون مفرقا؟
الجواب
جمهور العلماء يوجب فدية على من أخر قضاء ما فاته من رمضان حتى دخل رمضان الذى بعده، وتتأكد هذه الفدية، وهى إطعام مسكين عن كل يوم بما يكفيه غداء وعشاء، إذا كان تأخير القضاء لغير عذر، واستدلوا على هذا الحكم بحديث موقوف على أبى هريرة، أى أنه من كلامه هو، ونسبة هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أى رفعه إليه ضعيف، كما أن هذا الحكم مروى عن ستة من الصحابة ولم يعلم يحيى بن أكثم مخالفا لهم، منهم ابن عباس وابن عمر رضى الله عنهم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا فدية مع القضاء، وذلك لأن الله تعالى قال فى شأن المرضى والمسافرين: {فعدة من أيام أخر} ولم يأمر بفدية، والحديث المروى فى وجوبها ضعيف لا يؤخذ به.
قال الشوكانى "نيل الأوطار ج 4 ص 318" منتصرا لهذا الرأى: ليس هناك حديث ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم فيها، وأقوال الصحابة لا حجة فيها، وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق، والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالتكاليف حتى يقوم الدليل الناقل عنها، ولا دليل هنا، فالظاهر عدم الوجوب.
وقال الشافعى: إن كان تأخير القضاء لعذر فلا فدية، وإلا وجبت، وهذا الرأى وسط بين الرأيين السابقين، لكن الحديث الضعيف أو الموقوف الوارد فى مشروعية الكفارة لم يفرق بين العذر وعدمه. ولعل القول بهذا الرأى يريح النفس لمراعاته للخلاف بصورة من الصور، ثم إن قضاء رمضان واجب على التراخى وليس على الفور وإن كان الأفضل التعجيل به عند الاستطاعة فدين الله أحق بالقضاء العاجل، وثبت فى صحيح مسلم ومسند أحمد أن عائشة رضى الله عنها كانت تقض ما عليها من رمضان فى شعبان ولم تكن تقضيه فورا عند قدرتها على القضاء.
ولا يلزم فى القضاء التتابع والموالاة، فقد روى الدارقطنى عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى قضاء رمضان "إن شاء فرق وإن شاء تابع "(9/268)
شهر رجب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا من بعض المتحدثين انهم يصفون شهر رجب بالأصم فما معنا هذه الكلمة؟
الجواب
العرب فى زمانهم القديم كانوا يسمون أيام الأسبوع وشهور السنة بأسماء تختلف عن المعهود لنا عند مجىء الإسلام، وكان للجو الطبيعى والنظام القبلى دخل فى تعيين هذه الأسماء. وشهر رجب كان يسمى قديما "أحلك"-كما يقول المسعودى فى كتابه "مروج الذهب " ويقول البيرونى: إن رجب كان يسمى بالأصم، وهو أحد الأشهر الأربعة التى قال الله فيها {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} التوبة: 16، وهذه الأشهر الحرم قد عينها النبى صلى الله عليه وسلم بأسمائها فى خطبته فى حجة الوداع، وقال عنها: ثلاثة سرد وواحد فرد: والثلاثة السرد هى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والفرد هو رجب.
ولفظ رجب فيه معنى التعظيم، حيث كان العرب فى الجاهلية يعظمونه ولا يستحلون فيه القتال، كما لا يستحلونه فى الأشهر الثلاثة الأخرى، غير أنه لما كان وحده بعيدا عن أشهر الحج أعطوه اسما فيه معنى التعظيم حتى يتذكره الناس ولا ينسوه، وكان الكثيرون يعتمرون فيه قبل دخول موسم الحج.
ولعل وصف رجب بالأصم مأخوذ من السكوت حيث لا تُسمع فيه قعقعة السلاح بالقتال ولا الصيحة بالاستنفار إليه، يقول القرطبى فى تفسيره: كانت العرب تسميه -أى رجب -منصل الأسنة، أى مخرجها من أماكنها، كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام إبطالا للقتال فيه وقطعا لأسباب الفتن لحرمته، وقد ورد ذكر ذلك فى البخارى عن أبى رجاء العطاردى، واسمه عمران بن ملحان، قال:
كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة فلم ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه.
وكان من عادة العرب النسىء، وهو تأخير بعض الأشهر الحرم إلى غير موعدها استعجالا للقتال، وكان للقلمس وأولاده زعامة النسىء لا يرد كلامهم وكانت ربيعة بن نزار تؤخر رجب وتجعل بدله رمضان، وكان من العرب من يحلون رجبا ويحرمون شعبان، لكن "مضر" كانت تحافظ على حرمة شهر رجب لا تستحله أبدا، وجاء ذلك فى قول النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع كما رواه الشيخان، وهو يخبر أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وعين الأشهر الحرم، وعند ذكر رجب قال "ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان " فأضافه إلى مضر لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من محافظة سائر العرب.
قال ابن حجر فى فتح البارى: أضافه إليهم لأنهم كانوا يتمسكون بتعظيمه بخلاف غيرهم، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم موضع رجب بأنه هو ما بين جمادى وشعبان، وليس هو ما كان فى نسيئهم الذى يؤخرونه به عن موضعه الحقيقى.
هذا هو شهر رجب الأصم الذى ندب الرسول صلى الله عليه وسلم صيام ما يستطاع منه ومن غيره من الأشهر الحرم، ولم يرد فيه بخصوصه حديث باستحباب الصيام يرتقى إلى درجة الصحة(9/269)
كفارة الجماع فى صيام رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن هناك رأيا فيمن أفسد صومه فى رمضان بالجماع أنه لا كفارة عليه، فهل هذا صحيح، وما دليله على ذلك؟
الجواب
الفقهاء الأربعة بالذات، مجمعون على أن من أفطر فى رمضان بالجماع يفسد صومه إذا كان عامدا عالما، ويجب عليه القضاء عند الجمهور، وقال الشافعى فى أحد قوليه: من لزمته الكفارة فلا قضاء عليه، استنادا إلى أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابى الذى أخبره بأنه جامع زوجته فى نهار رمضان بالقضاء، ويرده حديث رواه أبو داود بإسناده وابن ماجه انه صلى الله عليه وسلم قال للمجامع " وصم يوما مكانه " ولأن إفساد يوم من رمضان بأى مفسد كالأكل والشرب يوجب القضاء، فكذلك الجماع.
أما كفارة الإفساد بالجماع فهى لازمة باتفاق المذاهب الأربعة إذا كان عامدا مختارا، وذلك لحديث البخارى ومسلم عن أبى هريرة أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: هلكت، قال "مالك "؟ قال: وقعت على امرأتى وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل تجد رقبة تعتقها"؟ قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين "؟ قال: لا، قال "فهل تجد إطعام ستين مسكينا"؟ قال: لا، وبعد مدة أعطاه النبى عَرْقا - مكتلا أى وعاء -فيه تمر، -وأمره أن يتصدق به، فقال الرجل:
على أفقر منى يا رسول الله؟ فو الله ما بين لابتيها - الجبلين - أهل بيت أفقر من أهل بيتى، فضحك الرسول حتى بدت أنيابه ثم قال "أطعمه أهلك ".
لكن روى عن الشعبى والنخعى وسعيد بن جبير أنهم قالوا: لا كفارة عليه، لأن الصوم عبادة لا تجب الكفارة بإفساد قضائها، فلا تجب فى أدائها، كالصلاة إذا فسدت وجب قضاؤها ولا تجب مع القضاء كفارة إذا فسدت فكذلك الأداء.
ورد العلماء هذا بأن الأداء يتعلق بزمن مخصوص يتعين به، أما القضاء فهو فى الذمة، إن بطل بالجماع يوما فعليه القضاء فى يوم اَخر، ولا يصح القياس على الصلاة، لأن الصلاة لا يدخل فى جبرانها مال، والصوم يدخل فى جبرانه المال "المغنى لابن قدامة ج 3 ص 54،55) وعلى ذلك فالاتفاق على وجوب الكفارة بالفطر من صيام رمضان، ولا عبرة بقول من خالف ذلك لضعف دليله بالقياس(9/270)
الترفيه فى رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم مشاهدة الأفلام وسماع الأغانى فى نهار رمضان؟
الجواب
الحكم العام على مشاهدة الأفلام والمسرحيات والمسلسلات، وسماع الأغانى، أنها إن كانت هذه المشاهدات والمسموعات تحمل كلاما باطلا أو تدعو إلى محرم، أو كانت تؤثر تأثيرا ضارا على فكر الإنسان وسلوكه، أو صرفته عن واجب، أو صاحبها محرم كشرب أو رقص أو اختلاط سافر كانت حراما، سواء أكان ذلك فى رمضان أم فى غير رمضان. فإن خلت من هذه المحاذير كان الإكثار منها مكروها، ولا بأس بالقليل منها للترويح.
وشهر رمضان له طابع خاص، فهو قائم على صيام النفس عن شهواتها والتدريب على سيطرة العقل على رغباتها، وليس ذلك بالامتناع فقط عن الأكل والشرب والشهوة الجنسية، فذلك هو الحد الأدنى للصيام، لا يكتفي به إلا العامة الذين يعملون فقط لأجل النجاة من العقاب، مع القناعة بالقليل من الثواب، أما غيرهم فيحرصون على الكمال فى كل العبادات، فيمسكون عن كل شهوات النفس وبخاصة ما حرم الله، كالكذب والغيبة، ويسمو بعضهم فى الكمال فيصوم حتى عن الحلال، مقبلا على الطاعة فى هذا الشهر بالذات.
ليخرج منه صافى النفس والسلوك من الرذائل، متحليا بالفضائل.
فلا ينبغى أن نضيع فرصة هذا الشهر الذى يضاعف فيه ثواب الطاعة، بصيام نهاره وقيام ليله بالتراويح وقراءة القرآن.
وضياع جزء كبير من الوقت فى مشاهدة وسماع أنواع الترفيه خسارة للمؤمن العاقل، وعلى المسئولين جميعا أن يراعوا حرمة هذا الشهر، فيهيئوا الفرصة للصائمين والقائمين أن يتقربوا إلى الله بالطاعات بدل هذا اللهو الذى مللناه طول العام.
ومهما يكن من شىء فإن مشاهدة وسماع هذه الأشياء لا يبطل الصيام إلا إذا حدث أثر جنسى بسببها، ومع عدم البطلان فاتت فرص كثيرة لشغل الوقت بالعبادة وقراءة القرآن وسماع البرامج الدينية، يقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبرانى "أتاكم رمضان شهر بركة، لم يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه ويباهى بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقى من حرم فيه رحمة الله عز وجل ". فليكن تنافسنا فى رمضان فى الخير لا فى اللهو ولا فى الإقبال على الملذات(9/271)
فوانيس رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يمكن معرفة سبب الظاهرة المنتشرة فى البلاد المصرية، وهى الفوانيس التى يحملها الأطفال فى شهر رمضان مع نشيد تقليدى مضت عليه سنوات طويلة؟
الجواب
من بعض ما قيل بخصوص فوانيس رمضان أنها عرفت مع بداية العصر الفاطمى فى مصر، ففى يوم 15 من رمضان سنة 362 هجرية (972 م) وصل المعز لدين الله إلى مشارف القاهرة ليتخذها عاصمة لدولته، وخرج سكانها لاستقباله عند صحراء الجيزة ومعهم الفوانيس الملونة، حتى وصل إلى قصر الخلافة، ومن يومها صارت الفوانيس من مظاهر الاحتفال برمضان وهناك قصة أخرى تقول: فى عهد الحاكم بأمر الله الفاطمى كان محرما على نساء القاهرة الخروج ليلا، فإذا جاء رمضان سمح لهن بالخروج، بشرط أن يتقدم السيدة أو الفتاة صبى صغير يحمل فى يده فانوسا مضاء، ليعلم المارة فى الطرقات أن إحدى النساء تمر، فيفسحوا لها الطريق، وبعد ذلك اعتاد الأولاد حمل هذه الفوانيس فى رمضان "الأهرام 29/4/1987، 7/4/1992م ".
ويقول د. حسين مجيب المصرى: ظهور فانوس رمضان ارتبط بالمسحراتى، ولم يكن يقاد فى المنازل، بل كان يعلق فى منارة الجامع إعلانا لحلول وقت السحور. ويقول ابن بطوطة فى وصف - الاحتفال برمضان فى الحرم المكى: كانوا يعلقون قنديلين للسحور، ليراهما من لم يسمع الأذان ليتسحر "الأخبار 18/ 4/ 1988".
والحكم الشرعى فيها الإباحة، لعدم ورود ما يمنعها، وإذا قصد بها الفرح بقدوم رمضان، أو الإعلام بوقت السحور فقد ترقى إلى درجة المستحب، والأعمال بالنيات(9/272)
كنافة رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا يحرص كثير من الناس فى رمضان على أكل الكنافة وأنواع الحلوى الأخرى؟
الجواب
الكنافة لون من ألوان الطعام الحلال لا حرمة فى تناوله كسائر الأطعمة الحلال، التى ينبغى الاعتدال فيها مع شكر الله عليها كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} المائدة: 87، وكانت مما يقدمه خلفاء مصر الفاطميون على موائد الإفطار فى رمضان، وصارت من المظاهر الواضحة فى هذا الشهر، هى ومثيلاتها من القطايف والزلابية.
يقول بعض الكتاب: بلغ من شهرة هذه الأصناف أن جلال الدين السيوطى جمع ما قيل فى الكنافة والقطايف فى كتاب سماه "منهل اللطائف فى الكنافة والقطايف " والكنافة - كما يقول ابن فضل الله العمرى - أول من اتخذها من العرب معاوية بن أبى سفيان، وكان يأكلها فى السحور، وفيها يقول الشاعر الفكه أبو الحسين الجزار المصرى:
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر * وجاد عليها سكر دائم الدر وتبا لأوقات المخلل إنها * تمر بلا نفع وتحسب من عمرى والقطايف سميت بذلك تشبيها بخمل القطيفة التى تفرش. وفى القاموس:
القطائف المأكولة لا يعرفها العرب، وفيها يقول الصفدى:
أتانى صحن من قطائفك التى * غدت وهى روض قد تبلل بالقطر ولا غرو إن صدقت حلو حديثها * وسكرها يرويه لى عن أبى ذر يريد بأبى ذر: السكر المسحوق.
أما الزلابية فلم يكثر فيها الشعراء من الوصف مع إنها عربية، لوجودها فى رجز قديم، يقول ابن الرومى فى وصفها ووصف صانعها:
ومستقر على كرسيه تعب * روحى الغداء له من منصب تعب رأيته سحرا يقلى زلابية * فى رقة القشر والتجويف كالقصب يلقى العجين لجينا من أنامله * فيستحيل شبابيكا من الذهب " مجلة الهداية - البحرين - رمضان1409 هـ (أبريل 1989 م) "(9/273)
صيام الأمم السابقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل فرض صوم رمضان على أمم أخرى قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الصيام بوجه عام فرض على غير المسلمين من الأمم السابقة كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} البقرة: 183، وليس فى القرآن الكريم ولا فى السنة النبوية بيان كيفية صيام السابقين، وإن كانت الآية تقول عن مريم عليها السلام كما أمرها الله {فإما ترين من البشر أحدا فقولى إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} مريم: 26، وهو ظاهر فى الإمساك عن الكلام وقد يكون عن أشياء أخرى. وأخبر الحديث المتفق عليه أن داود كان يصوم يوما ويفطر يوما.
والصوم فى الإسلام إمساك عن الطعام والشراب والشهوة الجنسية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وصوم الأمم السابقة مختلف فى موقعه من شهور السنة وفى مدته وفى كيفيته.
وعرفنا من صيام السابقين صوم عاشوراء عند اليهود شكرا لله على نجاة موسى عليه السلام من الغرق كما ثبت فى الحديث الصحيح، وما سوى ذلك يعرف من كتبهم، واليهود المعاصرون يصومون ستة أيام فى السنة، وأتقياؤهم يصومون شهرا، وهم يفطرون كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة عند ظهور النجوم، ويصومون اليوم التاسع من شهر "آب "كل سنة فى ذكرى خراب هيكلى أورشيلم.
والنصارى يصومون كل سنة أربعين يوما، وكان الأصل فى صيامهم الامتناع عن الأكل بتاتا، والإفطار كل أربع وعشرين ساعة، ثم قصروه على الامتناع عن أكل كل ذى روح وما ينتج منه، وعندهم صوم الفصول الأربعة، وهو صيام ثلاثة أيام من كل منها، وصيام الأربعاء والجمعة تطوعا لا فرضا.
جاءت فى تفسير ابن كثير أقوال عن بعض الصحابة والتابعين أن صيام السابقين كان ثلاثة أيام من كل شهر ولم يزل مشروعا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان، كما ذكر حديثا عن ابن عمر مرفوعا أن صيام رمضان كتبه الله على الأمم السابقة.
وجاء فى تفسير القرطبى أن الشعبى وقتادة وغيرهما قالوا: إن الله كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا وزاد أحبارهم عليه عشرة أيام، ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد فى صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم فى الحر فنقلوه إلى الربيع، واختار النحاس هذا القول، وفيه حديث عن دغفل بن حنظلة عن النبى صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر أقوالا فى أن تشبيه صيامنا بصيام السابقين هو فى فرضيته وليس فى صفته ولا فى مدته.
ومن مراجعة كتب التاريخ وأسفار العهد القديم والجديد رأينا أن قدماء اليهود كانوا لا يكتفون فى صيامهم بالامتناع عن الطعام والشراب من المساء إلى المساء، بل كانوا يمضون الصيام مضطجعين على الحصا والتراب فى حزن عميق.
وفى سفر الخروج أن موسى عليه السلام كان هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء، وفى إنجيل متى أن المسيح صام أربعين يوما فى البرية.
وجاء فى كلام النبى حزقيال أن صيامه كان عن اللحوم وما ينتج عن الحيوان، وكان النبي دانيال يمتنع عن اللحوم وعن الأطعمة الشهية مدة ثلاثة أسابيع، وجاء فى الترجمة السبعينية أن داود قال: ركبتاى ضعفتا من الصوم، ولحمى تغير من أكل الزيت.
والذين لا يدينون بدين سماوى كان عندهم صيام كالبراهمة والبوذيين فى الهند والتبت، ومن طقوسهم فى نوع منه الامتناع عن تناول أى شىء حتى ابتلاع الريق لمدة أربع وعشرين ساعة، وقد يمتد ثلاثة أيام لا يتناولون كل يوم إلا قدحا من الشاى، وكان قساوسة جزيرة كريت فى اليونان القديمة لا يأكلون طول حياتهم لحما ولا سمكا ولا طعاما مطبوخا، وفى مقال محمد فريد وجدى صور أخرى عن صيام السابقين "مجلة الأزهر المجلد الخامس ص 622 ".
هذه بعض الصور عن صوم أصحاب الأديان السماوية السابقة وغيرهم ممن لا يدينون بدين سماوى، لا يعنينا منها صدقها وصحتها، بقدر ما يعنينا أن الصيام بأية صورة من الصور كان موجودا قبل الإسلام، وهل فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى، أو فرض صيام غيره؟ ليس فيه خبر صحيح(9/274)
اسم رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما صحة القول بأن اسم رمضان من أسماء الله الحسنى، ولماذا سمى بهذا الاسم؟
الجواب
جاء فى "المواهب اللدنية" للقسطلانى وشرحها للزرقانى أن لفظ رمضان مشتق من الرمض وهو شدة الحر، لأن العرب لما أرادوا أن يضعوا أسماء الشهور، وافق أن الشهر المذكور شديد الحر، كما سمى الربيعان لموافقتهما زمن الربيع، أو لأنه يرمض الذنوب أى يحرقها، وهذا القول ضيف لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع الذى عرف منه أنه يرمض الذنوب.
وفى تفسير القرطبى: قيل هو من رمضت النصل رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق،ومنه نصل رميض ومرموض وسمى الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم فى رمضان ليحاربوا بها فى شوال قبل دخول الأشهر الحرم، وحكى الماوردى أن اسمه فى الجاهلية "ناتق ".
وفى القرطبى أيضا أن مجاهدا كان يقول: بلغنى أنه اسم من أسماء الله، وكان يكره أن يجمع لفظه لهذا المعنى-يعنى لا يقال رمضانات - ويحتج بما روى "رمضان اسم من أسماء الله تعالى" وهذا ليس بصحيح فإنه من حديث أبى معشر نجيح، وهو ضعيف وبذلك ينتفى كونه من أسماء الله الحسنى المنصوص عليها فى القرآن والسنة والمأثورات الإسلامية. انتهى(9/275)
النوم فى نهار رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل كثرة النوم فى نهار رمضان تبطل الصيام، مع المحافظة على أداء الصلوات؟
الجواب
شهر رمضان شهر عبادة ليلا ونهارا، أما بالليل فبالقيام بصلاة التراويح وقراءة القرآن وأما بالنهار فبالصيام، والجزاء على ذلك وردت فيه نصوص كثيرة، وفى حديث واحد جمع ثواب الصيام والقرآن فقال صلى الله عليه وسلم "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: يا رب منعته الطعام والشهوة بالنهار فشفعنى فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعنى فيه، فيشفعان " رواه أحمد والطبرانى والحاكم وصححه، ولو نام الصائم طول النهار فصيامه صحيح، وليس حراما عليه أن ينام كثيرا ما دام يؤدى الصلوات فى أوقاتها، وقد يكون النوم مانعا له من التورط فى أمور لا تليق بالصائم، وتتنافى مع حكمة مشروعية الصيام، وهى جهاد النفس ضد الشهوات والرغبات التى من أهمها شهوتا البطن والفرج، ويدخل فى الجهاد عدم التورط فى المعاصى مثل الكذب والزور والغيبة فقد صح فى الحديث "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخارى. .
هذا، ولم يصح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: نوم الصائم عبادة(9/276)
صوم يوم عرفة للحاج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صيام يوم عرفة سنة للحاج ولغير الحاج؟
الجواب
روى مسلم وأصحاب السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال "يكفّر السنة الماضية والباقية" هذا أصح ما ورد فى فضل الصوم يوم عرفة، وجاءت روايات أخرى إسنادها حسن أى أقل من درجة هذا الحديث تفيد أن صوم يوم عرفة يعدل صيام سنة كما رواه النسائى أو صيام سنتين كما رواه الطبراني، أو صيام ألف يوم، كما روى أن بعضهم كان يرش عليه الماء وهو صائم، لما يعافي من شدة الحر، حرصا على ثوابه. لكن ذلك لغير الحاج الواقف بعرفة، فقد روى أبو داود والنسائي وابن خزيمة فى صحيحه والطبرانى أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن صومه، وإن كان هذا النهى ليس للتحريم، بل للكراهة، ولذلك اختلف الفقهاء،فقال الشافعى: يسن الفطر فيه ليقوى الحاج على الدعاء، وقال أحمد: إن قدر الحاج على الصوم صام، وإن أفطر فذلك يوم يحتاج فيه إلى القوة.
ومهما يكن من شيء فإن الأولى الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه لم يصم هذا اليوم فى حجة الوداع. روى البخارى ومسلم عن أم الفضل أنهم شكوا فى صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بلبن فشرب وهو يخطب الناس بعرفة، وثبت أنه قال "إن يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا - أهل الإسلام - وهى أيام أكل وشرب " رواه أحمد وأصحاب السنن وابن ماجه.
نعم،إن الواقفين بعرفة فى ضيافة الله، حيث يباهى بهم ملائكته، ويشهدهم أنه غفر لهم، وذلك عيد عظيم من لوازمه البهجة والسرور كما نلاحظ أن فى الوقوف والإفاضة جهدا كبيرا يحتاج إلى قوة يساعد عليها الفطر، وذلك تخفيف من الله ورحمة(9/277)
المسافر والصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يشترط للمسافر الذى يريد أن يفطر فى رمضان أن يكون سفره قبل الفجر ولمسافة طويلة؟ وهل يجوز للصائم أن يفطر إذا اضطر إلى سفر مفاجئ؟
الجواب
جمهور الفقهاء على أن المسافر الذى يجوز له الفطر فى رمضان لابد أن يطلع عليه الفجر وهو مسافر، وأن يكون سفره طويلا "حوالى ثمانين كيلو مترا" حتى لو كان السفر مريحا، كالسفر بالطائرة، فيجوز له الفطر، فإذا كان قصيرا فلا يجوز له الفطر وإذا طلع عليه الفجر وهو غير مسافر وسافر بعده فلا يجوز له الفطر عند جمهور الفقهاء، وأجاز أحمد بن حنبل الفطر للمسافر مطلقا حتى لو كان السفر بعد الزوال، ولا مانع من تقليد هذا المذهب إذا كان فى الصوم مشقة.
ثم قال العلماء: إذا بيَّت نية الصيام فى السفر يجوز له الفطر ولا إثم عليه، وعليه القضاء وهو مذهب الشافعية والحنابلة، ومنعه المالكية وأوجبوا عليه القضاء والكفارة إذا أفطر، كما منعه الحنفية وأوجبوا عليه القضاء دون الكفارة. أما الأفضلية للمسافر فى الصوم أو الفطر فقد قال الحنفية والشافعية: إن الصوم أفضل، وهو مندوب ما دام لا يشق عليه، فإن شق عليه كان الفطر أفضل، وإذا ترتب على الصوم خطر على نفسه أو تعطيل منفعة كان الفطر واجبا، وقال المالكية:
يندب للمسافر الصوم ولو تضرر بأن حصلت له مشقة-وقال الحنابلة:
يسن له الفطر ويكره الصوم ولو لم يجد مشقة، وذلك لحديث "ليس من البر الصيام فى السفر"(9/278)
تقديم الفطر على صلاة المغرب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هناك نصوص تدعو إلى المبادرة بالإفطار عند غروب الشمس ونصوص أخرى تدعو إلى المبادرة بصلاة المغرب، فكيف يمكن الجمع بين هذه النصوص؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان فى سفر مع أصحابه فى رمضان، فلما غابت الشمس طلب من بلال أن يعد لهم طعام الإفطار، فلما أعده شرب النبى صلى الله عليه وسلم ثم أشار بيده "إذا غابت الشمس من هاهنا وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم" أى حل له الفطر. فإذا غاب قرص الشمس حل الفطر حتى لو كان الشفق مضيئا.
وروى أبو داود عن أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يفطر قبل أن يصلى المغرب، وفطره كان على رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد فعلى ماء، وهذا الإفطار الخفيف المحتوى على بعض السكريات له فوائده الطبية العظيمة.
يقول ابن القيم: وإنما خص النبى صلى الله عليه وسلم الفطر بما ذكر لأن إعطاء الطبيعة الشىء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به لاسيما قوة البصر. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإن رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى للظمآن الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده.
وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم فما رواه البخارى ومسلم أنه قال "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" وفيما رواه أحمد والترمذى يقول الله عز وجل: إن أحب عبادى إلىَّ أعجلهم فطرا" فإذا تحقق الصائم غروب الشمس بادر بالإفطار الخفيف المحتوى على ماده سكرية، لأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة.
ويؤخذ من هذا أن تقديم الفطر على صلاة المغرب هو هدى النبى صلى الله عليه وسلم لكن ليس معنى هذا أن يفطر الإنسان إفطارا كاملا ويستغرق فيه وقتا طويلا ثم يقوم لصلاة المغرب آخر وقتها، لأن الصلاه فى أول وقتها من أفضل الأعمال. وصلاة المغرب بالذات وقتها ضيق، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود "لا تزال أمتى بخير - أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم " فلأجل الحرص على الفضيلتين - وهما تعجيل الفطر وتعجيل صلاة المغرب -يكون الإفطار خفيفا جدًّا على شراب أو طعام حلو أو ماء، ثم تُصلَّى صلاة المغرب، ثم يكمل الإفطار بعد ذلك فى طمأنينة وراحة بال(9/279)
نوم الصائم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك حديث يقول: نوم الصائم عبادة؟
الجواب
جاء فى تخريج العراقى لأحاديث "إحياء علوم الدين للغزالى" أن هذا الحديث موجود فى "أمالى ابن منده" من رواية ابن المغيرة القواس عن عبد الله بن عمر بسند ضعيف، ولعله عبد الله بن عمرو، فإنهم لم يذكروا لابن المغيرة رواية إلا عنه. ورواه أبو منصور الديلمى فى "مسند الفردوس" من حديث عبد الله بن أبى أوفى، وفيه سليمان ابن عمرو النخعى أحد الكذابين.
يؤخذ من هذا أن الحديث ليس صحيحا ولا حسنا عن النبى صلى الله عليه وسلم فهو إما ضعيف وإما موضوع، وبصرف النظر عن سند الحديث فهناك وجهتا نظر عند تفسيره، وجهة تقول: إن الصائم الذى يتعرض أثناء صيامه لأمور تتنافى مع حكمة الصيام بسبب اندماجه مع المجتمع، كالكذب والغيبة والنظر المحرم وغير ذلك سيكفه نومه بالنهار عن هذه الأمور المنكرة، وذلك صورة من صور العبادة، فهو عبادة سلبية كالصدقة التى قال النبى صلى الله عليه وسلم فى وجوبها على كل مسلم لا يجد ما يتصدق به ولا معونة من أى نوع كان "فليمسك عن الشر، فإن إمساكه عن الشر صدقة" رواه البخارى ومسلم، ومن هنا يكون نومه صوابا وعبادة.
ومن وجهة نظر أخرى، الصائم الذى يؤثر النوم على العمل الإِيجابى المنتج مخالف لأوامر الدين، فى وجوب استغلال طاقة الإِنسان فى عمل الخير، ومخالف كذلك للأوامر الدينية التى تنفر من العجز والكسل، فالنبى صلى الله عليه وسلم أمر بالاستعاذة منهما أبا أمامة حتى يذهب الله همه ويقضى دينه كما رواه أبو داود، فالإِسلام دين حركة وعمل وإنتاج، والصائم يمكنه ذلك فى حدود الوسع والطاقة، ولم يقف الصحابة عن العمل وهم صائمون، بل وقعت كبريات الغزوات فى شهر رمضان، وعلى رأسها غزوة بدر، والفتح الأعظم لمكة المكرمة، وإذا كانت بعض الدول تخفف من العمل فى شهر الصيام فلا يجوز أن يستغل ذلك لمزيد من الكسل والتهاون، والعمل الصالح فى ظل الصيام له ثوابه الجزيل "انظر ص 510 من المجلد الرابع من هذه الفتاوى" ومن هنا يكون نوم الصائم خطأ وليس عبادة(9/280)
القبلة فى الصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تقبيل الرجل لزوجته يبطل الصيام؟
الجواب
روى البخارى ومسلم وأصحاب السنن من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل بعض أزواجه وهو صائم وكان أملككم لإربه، وبعض الأزواج هو عائشة أو أم سلمة لرواية الحادثة عن كل منهما، ومعنى أملككم لإربه، أنه أقدركم على منع نفسه عن المباشرة الجنسية. وجاء فى رواية البيهقى عن عائشة أنه كان يقبِّلها وهو صائم ويمص لسانها. وروى مالك فى الموطأ أن عائشة بنت طلحة ابن عبيد الله وكانت فائقة الجمال ثقة روى لها الستة كانت عند عائشة -أم المؤمنين- فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق فقالت عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك -زوجك- فتلاعبها وتقبِّلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم.
وروي أن عمر بن الخطاب قال: هششت فقبَّلت وأنا صائم، فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم، قال "أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم"؟ قلت: لا بأس به، قال " فَمَهْ " رواه أبو داود والنسائى وقال: منكر، وصححه ابن خزيمة والحاكم، ومعنى " فَمَهْ " فاسكت، ورويت "ففيم"؟ يعنى ففيم السؤال؟ بناء على هذه المرويات قال ابن المنذر: رخص فى القبلة عمر وابن عباس وأبو هريرة وعائشة، وأخذ به أحمد وإسحاق. ومذهب الأحناف والشافعية، أنها تكره على من حركت شهوته ولا تكره لغيره، لكن الأولى تركها. وعند المالكية كما قال الزرقانى على المواهب "ج 5 ص 227" أنها تحرم إن خاف الإنزال، وإلا كانت مكروهة. وقال الحافظ ابن حجر إنها مباحة لمن يكون مالكا لنفسه من الوقوع فيما يحرم من الإنزال والجماع.
والظاهرية أخذوا بظاهر الحديث فجعلوا القبلة للصائم سنة وقربة من القرب اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم، وهذا مردود بأن الرسول كان يملك إربه فليس كغيره(9/281)
معنى كلمة " وحوى "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى كلمة "وحوى"، التى يرددها الأطفال فى رمضان وهم يطوفون بالفوانيس؟
الجواب
تقول الكاتبة فاطمة صقر " الأخبار 12/5/1988 م " إن عبارة:
وحوى يا وحوى إيُّوحة، ترجع إلى اللغة الهيروغليفية، ومعناها:
افرحى يا أيوحة، وأيوحة هى أم " أحمس " الذى طرد الهكسوس من مصر، فلما نجح فى طردهم خرج الناس يهنئون أمه بذلك.
والعهدة على الكاتبة فى هذا، ولكن ما هى الصلة بينها وبين رمضان؟ المهم أنها بهذا المعنى كلمة بريئة لا غبار عليها شرعا ما لم يقصد بها غير ما قيلت فيه أو لا(9/282)
صوم يوم الشك
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو يوم الشك ولماذا يحرم صومه؟
الجواب
يوم الشك هو يوم الثلاثين من شهر شعبان، ذلك لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما وقد يكون ثلاثين يوما، وقد صح النهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، فقد روى الجماعة عن أبي هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا تقدَّموا - أى تتقدموا- صوم رمضان بيوم ولا يومين، إلا أن يكون صوم يصومه رجل فليصم ذلك اليوم " وقال الترمذى: حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان بمعنى رمضان. وروى أصحاب السنن أن عمار بن ياسر رضى الله عنه قال: من صام اليوم الذى شُكَّ فيه فقد عصى أبا القاسم، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول مالك والشافعى وأحمد وغيرهم ورأى أكثرهم إن صامه وكان من شهر رمضان أن يقضى يوما مكانه، لأنه لم ينو صيامه كيوم من رمضان، حيث لا يعلم إن كان منه أو لا، فنيته غير جازمة، والنية المعتبرة تكون جازمة صادرة عن يقين، فكأنه نوى صوم غد إن كان من رمضان، ولو تبين أنه منه لا تجزىء هذه النية فيكون الصوم باطلا لا بد أن يقضى.
ولو صام هذا اليوم كعادة له كأن صادف مثلا يوم الاثنين وهو متعود صيام يوم الاثنين فهو جازم بنيته ولذلك كانت صحيحة، فيصح صومه نفلا إن تبين أنه يوم الثلاثين، كما يصح فرضا إن تبين أنه أول رمضان وذلك عند الحنفية.
وقد نقل عن جماعة من الصحابة جواز صيام يوم الشك، منهم على وعائشة وعمر وابن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة ومعاوية وعمرو ابن العاص، كما نقل صيامه عن جماعة من التابعين.
يقول الشوكانى " نيل الأوطار -ج 4 ص 205 " والحاصل أن الصحابة مختلفون فى ذلك، وليس قول بعضهم بحجة على أحد.
هذا، والحكمة فى النهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين مختلف فيها، والمعتمد ما ارتضاه ابن حجر فى فتح البارى من أن الصيام الاحتياطى محاولة للطعن فى حكم تعلق الصوم برؤية الهلال الذى ورد به الحديث الذى رواه البخارى ومسلم.
ويلاحظ أن النهى عن صوم يوم الشك لا يمنع صحة صومه عن القضاء قبل دخول شهر رمضان حتى لا تلزم الكفارة مع القضاء إن تأخر عن رمضان، وكذلك من نذر صوم يوم معين فصادف يوم الشك لا يحرم صومه. " نيل الأوطار ج 4 ص 276"(9/283)
السحور والمسحراتى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يرى بعض الناس الآن أن قيام المسحراتى بإعلان الناس بالسحور بدعة لم تكن على أيام النبى صلى الله عليه وسلم فما حكم الدين فى ذلك؟
الجواب
معلوم أن تناول طعام السحور سنة عن النبى صلى الله عليه وسلم، وذلك للتقوِّى به على الصيام، كما جاء فى حديث البخارى ومسلم: "تسحَّروا فإن فى السحور بركة " ووقته من منتصف الليل إلى طلوع الفجر، والمستحب تأخيره، ففى البخارى ومسلم عن زيد بن ثابت: تسحرنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، وكان قدر ما بينهما خمسين آية.
وكان هناك أذانان للفجر، أحدهما يقوم به بلال، وهو قبيل الوقت الحقيقى للفجر، والثانى يقوم به عبد الله بن أم مكتوم، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن أذان بلال ليس موعدًا للإِمساك عن الطعام والشراب والمفطرات لبدء الصيام، وأذن لنا فى تناول ذلك حتى نسمع أذان ابن أم مكتوم. ففى حديث البخارى ومسلم " إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " وروى أحمد وغيره قوله صلى الله عليه وسلم "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن - أو قال ينادى - ليرجع قائمكم وينبه نائمكم ".
ومن هنا كان أذان بلال بمنزلة الإِعلام بالتسحير فى شهر رمضان، وما كان الناس فى المدينة يحتاجون إلى أكثر من ذلك للتنبيه على السحور. يقول المؤرخون: لما جاء إلى مصر عتبة بن إسحاق واليا من قِبل الخليفة العباسى المنتصر بالله قام هو بالتسحير سائرا على قدميه من مدينة العسكر فى الفسطاط حتى جامع عمرو بن العاص وكان ذلك سنة 238 هـ وممن اشتهروا بالتسحير "الزمزمى" فى مكة، "ابن نقطة" فى بغداد، وكان الزمزمى يتولى التسحير فى صومعته بأعلى المسجد ومعه أخوان صغيران يقول: يا نيامًا قوموا للسحور، ويدلى حبلا فيه قنديلان كبيران، من لم يسمع النداء يرى النور. ثم تطور التسحير فكان أهل مصر أول من ابتكروا "البازة" مع الأناشيد، ويقوم عدة أشخاص معهم طبل بلدى وصاجات برئاسة المسحراتى، ويغنون أغانى خفيفة، "إبراهيم عنانى - جريدة الأخبار 15 من رمضان 1414 - 25 من فبراير 1994 م ".
ويقول الدكتور حسين مجيب المصرى: الشعر الذى كان يستخدمه المسحراتى كان يسمى " فن القوما " واشتهر به "ابن نقطة" الذى كان موكولا إليه إيقاظ الخليفة للسحور، ولا يلتزم فيه باللغة العربية. وذكر نموذجا منه. وذكر أن ظهور فانوس رمضان ارتبط بالمسحراتى، وكان يعلق بالمآذن، وشاهده ابن بطوطة فى رحلته ورأى فى الحرم المكى الاحتفال برمضان، وقال: كانوا يعلقون قنديلين للسحور ليراهما من لم يسمع الأذان ليتسحر " الأخبار 18 / 4 /1988، 25/ 2/ 1994".
نرى من هذا أن الإِعلام بوقت السحور له أصل فى الدين، فكان فى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم بأذان بلال، وكان فى العصور التى تلت ذلك بوسائل شتى، بإضاءة الأنوار، وبإنشاد الأشعار، وبالضرب على الآلات، ثم بإطلاق الصفارات وضرب المدافع وغير ذلك من الوسائل.
ولا ينبغى أن نسرع -كما قلت مرارا - بإطلاق اسم البدعة وجعلها ضلالة فى النار على كل شىء جديد لم يكن بصورته الحالية موجودا فى عهد التشريع، فقد يكون له أصل مشروع، والصورة هى التى تغيرت، فإن كانت الصورة غير خارجة عن الدين فلا بأس بها أبدا، وسنة التطور تقضى بذلك ما دامت فى الإِطار العام للدين، وفى التنبيه على السحور دلالة على الخير وتعاون على البر، والدال على الخير كفاعله، والله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه.
مدفع الإفطار:
فى منتصف القرن التاسع الهجرى انطلقت أول طلقة لمدفع الإفطار فى رمضان، وتبدأ الحكاية فى زمن والى مصر "خوشقدم" عندما أهدى إليه مدفع، فأمر بتجربته فانطلقت أول طلقة، وصادف الوقت أن كان عند غروب الشمس فى أول يوم من رمضان، فظن الناس أنه تقليد جديد اتبعه الوالى للإِيذان بموعد الإِفطار، فشكروه على ذلك وصار تقليدا " جريدة مايو 26 / 5 / 1986"(9/284)
صيام رجب مع شعبان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تحرص بعض السيدات على صيام شهر رجب وشهر شعبان ووصلهما بصيام شهر رمضان، فهل ذلك مشروع؟
الجواب
إن الصيام المفروض هو صيام شهر رمضان، وصيام النذر والكفارات، وما عدا ذلك فمستحب، والرسول صلى الله عليه وسلم رغب فى صيام التطوع بمثل ما جاء فى صحيحى البخارى ومسلم " ما من عبد يصوم يوما فى سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا".
ومن الصيام المستحب الصيام فى الأشهر الحرم التى منها شهر رجب، وكذلك الصيام فى شهر شعبان وقد سبق فى صفحة 442 من المجلد الثالث حكم الصوم فى شهر رجب وما نقله ابن حجر عن الطرطوشى فى كراهة الحرص على صيام رجب تشبيها برمضان، أو لأنه ثابت مؤكد، أو لفضل خاص يزيد على صيام باقى الشهور.
وبخصوص الصيام فى شهر شعبان وردت أحاديث صحيحة منها ما رواه البخارى عن عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر شهر شعبان، بل كان يصومه كله أحيانا وجاء فى رواية تقول فى سبب ذلك:
تعظيما لرمضان، كما روى النسائى أن أسامة بن زيد سأله صلى الله عليه وسلم لم أرك تصوم فى شهر ما تصوم فى شهر شعبان، فقال "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملى وأنا صائم " وصيامه كله أو أكثره لمن وصل النصف الثانى بالنصف الأول: أما الذى لم يصله فيكره أو يحرم أن ينشئ صياما فى النصف الثانى لحديث رواه أبو داود، وبه أخذ الشافعى، كما جاء النهى عن صوم يوم أو يومين قبل رمضان لحديث رواه الجماعة " لا تقدَّموا -تتقدموا- صوم رمضان بيوم ولا يومين، إلا أن يكون صوم يصومه رجل فليصم ذلك اليوم ".
هذا، ولم يرد حديث مقبول يقول: إن صيام رجب كله وشعبان كله ووصلهما برمضان بدعة مذمومة، فالصوم فى رجب وشعبان مشروع كما قدمنا، الأول لأنه من الأشهر الحرم والثانى لفعل النبى صلى الله عليه وسلم، غير أن هناك توصية بعدم الإِرهاق وتكلف الإنسان ما لا يطيق، ففى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله، وكان يقول "خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ".
فإذا كان فى صيام الشهرين إرهاق يؤثر على صيام رمضان كان التتابع مخالفا للحديث، ويكره أن يكون ذلك عن طريق النذر فقد يحصل العجز ويكون المحظور، ومن استطاع بغير إرهاق فلا مانع، مع مراعاة إذن الزوج إذا أرادت الزوجة أن تصوم هذا التطوع، ففى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم " لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن فى بيته إلا بإذنه "(9/285)
فتح أماكن الطعام فى نهار رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز فتح المطاعم فى نهار رمضان؟
الجواب
صيام رمضان من أهم الأركان التى بنى عليها الإِسلام، وكان من رحمة الله تعالى أن خفف عن ذوى الأعذار فأباح لهم الفطر ما دام العذر قائما، على أن يصوموا قضاءً ما أفطروه كما قال سبحانه {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} البقرة:185.
ولذلك حذر النبى صلى الله عليه وسلم من التهاون فى أداء هذه الفريضة فقال فيما رواه الترمذى وأبو داود والنسائى وابن ماجه وابن خزيمة فى صحيحه "من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه" بل جاء التحذير من التعجل بالفطر قبل موعده فقد روى ابن خزيمة وابن حبان فى صحيحيهما أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى فى النوم -ورؤيا الأنبياء حق- قوما معلقين بعراقيبهم مُشققةً أشداقهم تسيل دما، وهم الذين يفطرون قبل تحلة الصوم، أى قبل الإفطار، والذى يساعد المفطر على فطره من غير عذر شريك له فى الإثم، فما أدى إلى الحرام يكون حراما كما أن تقديم طعام أو شراب له باختياره دليل رضائه عن فعله، والراضى بالمعصية عاصٍ كما قرر العلماء، وكما نص الحديث على لعن شارب الخمر وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه.
والذى يملك محلا لبيع مأكولات أو مشروبات قد تتناول بعيداً عنه أو تُعَدُّ لتناولها فى وقت يحل فيه تناولها، لا وجه لمنعه من ذلك ما دام لم ير المنكر يرتكب أمامه بتناول المشترى له فى نهار رمضان، والواقع يقضى بتيسير حصول الناس على ما يحتاجون، والإِثم عليهم فى سوء استعمال ما يقع تحت أيديهم، أما الذى يملك مطعما يتناول فيه الناس غذاءهم، أو مقهى تتناول فيه المشروبات، فإن كان ذلك التناول فى نهار رمضان، وتأكد أن متناوله مفطر لا عذر له فى الإِفطار كانت مساعدته على ذلك محرمة، وإذا كانت معرفة المعذور وغير المعذور متعسرة فى المجتمع الكبير الذى يجمع أخلاطا متنوعة قد تنتحل فيه الأعذار فالأفضل عدم القيام بهذا العمل نهارا، وفى ممارسة نشاطه ليلا متسع له دون حرج.
ذلك أن تيسير تناول الطعام والشراب فى هذه الأماكن فى نهار رمضان فيه إغراء بالفطر وفيه تشويه لسمعة المجتمع الإِسلامى الذى يجب أن يراعى حرمة هذا الشهر الكريم، والمتقون لربهم يستعدون قبل رمضان بما يغنيهم عن العمل فيه من أجل العيش، ليتفرغوا للعبادة أو لمزاولة عمل آخر، والليل كله مجال واسع للعيش الكريم.
إن الأمر يحتاج إلى مراقبة الضمير، وإلى يقظة المسئولين وتعاون الجميع على مقاومة المنكر والتمكين للخير والمعروف، وبخاصة فى هذا الشهر المبارك العظيم(9/286)
حبوب منع الحمل فى رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحرص بعض النساء على صيام كل أيام رمضان، ولتفادى الدورة الشهرية التى تمنع الصيام يتعاطى بعضهن أقراصا تمنع الدورة، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
رمضان شهر مبارك عظيم فيه من الخيرات والنفحات ما لا يوجد فى غيره، وقد فرض الله فيه الصيام على المكلف القادر المستطيع، لينال الثواب العظيم، وخفف عن ذوى الأعذار فأباح لهم الفطر حتى يزول العذر، وعليهم قضاء ما فاتهم من أيام رمضان، قال تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة} البقرة:185. وممن خفف الله عنهم فى رمضان المرأة فى أثناء الدورة الشهرية، وفى مدة النفاس، فأوجب عليها الفطر كما أوجب عليها القضاء، والقضاء سيكون فى أيام غير رمضان، والشهر الذى يجرى فيه القضاء ليس له من الفضل وليس فيه من النفحات ما فى رمضان، ولذلك يرى بعض النساء منع نزول الدم فى رمضان ليصح الصوم ويَفُزْنَ بفضل رمضان من صيام ومن صلاة التراويح وقراءة قرآن.
ولا يوجد دليل يُحرم ذلك فى كتاب أو سنة، ولا فى مأثور السلف الصالح، بل جاء فى المأثور عنهم أنهم كانوا يجيزون للنساء فى موسم الحج أن يتعاطين ما يمنع نزول الدم حتى لا يُحْرمن من أداء الشعائر التى تشترط فيها الطهارة كالطواف حول البيت والصلاة فى المسجد الحرام بمكة ومسجد الرسول بالمدينة، وكقراءة القرآن الكريم.
وكان منقوع شجر الأراك الذى يؤخذ منه السواك مفيدا فى هذا الموضع، فوصفوه للنساء ولم ينقل اعتراض أحد عليه، ومع جواز ذلك أنصح باستشارة الطبيب قبل تناول أى دواء يمنع نزول الدم، فقد يكون فيه ضرر(9/287)
حرمة الصيام مع الدورة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
وما هو الحكم لو أصرت المرأة على الصيام على الرغم من وجودها فى فترة الدورة؟
الجواب
بعض ذوى الأعذار الذين يجوز لهم الفطر يجوز لهم أن يصوموا وإن كان فى الصوم مشقة وليس عليهم قضاء، لكن المرأة فى أثناء الدورة لا يجوز لها أن تصوم حتى لو كانت قادرة على الصيام، فيحرم عليها ذلك ولا يصح منها ما صامته، وعليها أن تفطر، لأنها لو صامت كانت كالتى تصلى وهى غير متطهرة، حيث تَلَبَّستْ بعبادة فاسدة وذلك محرم باتفاق العلماء.
ودليل حرمة صيامها ليس نصا صريحا فى كتاب أو سنة وإنما هو إجماع الأئمة والمجتهدين، بناء على ما أثر عن العصر الذى يؤخذ عنه التشريع، أما القضاء فجاء فى رواية البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. قال بعض العلماء مفهومه أنهن ما كن يصمن ولا يصلين عند وجود الدم، ولو جازت صلاتهن وصيامهن لنقل للحاجة إليه(9/288)
الصوم بمناسبة المولد النبوى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو اليوم الذى نصومه بمناسبة المولد النبوى الشريف، وهل إذا صادف يوم جمعة يكون صومه حلالا؟
الجواب
صيام التطوع مندوبُ لا يختص بزمان ولا مكان، ما دام بعيدا عن الأيام التى يحرُم صيامها، وهى العيدان وأيام التشريق ويوم الشك على اختلاف للعلماء فيه، والتى يكره صيامها كيوم الجمعة وحده، ويوم السبت وحده.
وهناك بعض الأيام يستحب الصيام فيها كأيام شهر المحرم، والأشهر الحرم، وعرفة وعاشوراء، وكيوم الاثنين ويوم الخميس من كل أسبوع، والثلاثة البيض من كل شهر وهى الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وستة من شهر شوال، وكثير من شهر شعبان، كما كان يفعل النبى صلى الله عليه وسلم وليس من هذه الأيام يوم ذكرى مولد النبى صلى الله عليه وسلم، والذى اعتاد الناس أن يحتفلوا بها فى اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول، فلا يندب صومه بهذا العنوان وهذه الصفة، وذلك لأمرين، أولهما أن هذا اليوم لم يتفق على أنه يوم ميلاده صلى الله عليه وسلم، فقد قيل إنه ولد يوم التاسع من شهر ربيع الأول وقيل غير ذلك.
وثانيهما أن هذا اليوم قد يصادف يوما يكره إفراده بالصيام كيوم الجمعة فقد صح فى البخارى ومسلم النهى عنه بقوله صلى الله عليه وسلم" " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده ".
هذا بخصوص صوم يوم الميلاد النبوى فى كل عام، أما صيام يوم الاثنين من كل أسبوع فكان يحرص عليه النبى صلى الله عليه وسلم، لأمرين، أولهما أنه قال إن الأعمال تعرض على الله فيه وفى يوم الخميس، وهو يحب أن يعرض عمله وهو صائم، كما رواه الترمذى وحسَّنه، وثانيهما أنه هو اليوم الذى ولد فيه وبعث فيه كما صح فى رواية مسلم. فكان يصومه أيضا شكرا لله على نعمة الولادة والرسالة.
فمن أراد أن يشكر الله على نعمة ولادة النبى صلى الله عليه وسلم ورسالته فليشكره بأية طاعة تكون، بصلاة أو صدقة أو صيام ونحوها، وليس لذلك يوم معين فى السنة، وإن كان يوم الاثنين من كل أسبوع أفضل، للاتباع على الأقل، فالخلاصة أن يوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول ليس فيه عبادة خاصة بهذه المناسبة، وليس للصوم فيه فضل على الصوم فى أى يوم آخر، والعبادة أساسها الاتباع، وحبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم يكون باتباع ما جاء به كما قال فيما رواه البخارى ومسلم " من رغب عن سنتى فليس منى " وفيما رواه أبو يعلى بإسناد حسن " من أحبنى فليستن بسنتى"(9/289)
قضاء الصوم عن الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مواطنة توفيت والدتها فى رمضان هل تصوم عنها أو تخرج فدية، وهل تقضى الصلاة عنها؟
الجواب
السيدة التى توفيت فى رمضان لا تطالب بالأيام الباقية فى رمضان، فقد انتقلت من دار التكليف بمجرد موتها، والصيام تكليف من التكاليف يكون على الحى القادر عليه ابتداء، فإذا كانت قد صامت أياما من رمضان قبل وفاتها فقد برئت ذمتها ولا شىء عليها ولا على من بعدها من أهلها، أما إن كانت لم تصم أياما قبل وفاتها، فإن فى ذمتها قضاء هذه الأيام، وقد جاء فى ذلك حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى ومسلم " من مات وعليه صيام صام عنه وليه ".
وروى أحمد وأصحاب السنن أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إن أمى ماتت وعليها صيام شهر أفأقضيه عنها؟ فقال " لو كان على أمِّك دين أكنتَ قاضيه "؟ قال: نعم، قال " فدين الله أحق أن يقض ".
وهذا هُو المذهب المختار عند الشافعية، يقول النووى: وهذا هو القول الصحيح المختار الذى نعتقده، وهو الذى صححه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة.
ولا يشترط أن يصوم عنه الولى القريب فيجوز أن يصوم عنه الأجنبى إذا أذن الولى له، وعند أبى حنيفة ومالك: لا يصوم الولى عنه، بل يطعم مُدًّا عن كل يوم، لكن ليس هناك دليل قوى على ذلك(9/290)
صيام الحامل والمرضع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأنا فى بعض الكتب أن الحامل والمرضع يجوز لهما الإفطار فى رمضان مع دفع الفدية ولا يجب عليهما القضاء فهل هذا صحيح؟
الجواب
يقول الله تعالى عن الصيام {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} البقرة: 184، للعلماء فى تفسير هذه الآية رأيان، رأى يقول بأن الصيام كان فى أول أمره على التخيير، من شاء ممن يطيقونه ويقدرون عليه أن يصوموا أو يفطروا، وعليهم بدل الإفطار أن يخرجوا فدية هى طعام مسكين ومع التخيير فالصوم أفضل، ثم نسخ هذا الحكم وفرض على من يطيقون الصيام أن يصوموا ولا يجوز لهم الفطر والإطعام وذلك لقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} البقرة: 185، فالناسخ هو هذه الآية كما رواه الجماعة إلا أحمد عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر ويفتدى حتى أنزلت الآية التى بعدها فنسختها.
ورأى يقول بأن الصيام فرض على كل القادرين عليه فقط، وأبيح الفطر للمريض والمسافر ومن يطيقونه أى يتحملونه بمشقة شديدة حيث فسروا الإطاقة بذلك، وهم كبار السن، وفرض على المريض والمسافر القضاء، وعلى كبار السن الفدية فقط دون قضاء، لأنه شاق عليهم كلما تقدمت بهم السن، ومثلهم المريض الذى لا يرجى بروه ولا يرجى أن يقدر على القضاء فهؤلاء يفطرون ويخرجون الفدية.
روى البخارى عن عطاء أنه سمع ابن عباس رضى الله عنهما يقرأ {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هى للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.
وبعض العلماء المعاصرين -كالشيخ محمد عبده -يقيس على الشيوخ الضعفاء والمرضى بمرض مزمن: العمال الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم الحجرى من مناجمه، وكذلك يلحق بهم المجرمون المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا قدر عليهم الصيام بالفعل، فليس عليهم صيام ولا فدية حتى لو ملكوها.
أما الحبلى والمرضع إذا خافتا من الصيام على أنفسهما أو على أولادهما فيرى ابن عمر وابن عباس انهما يفطران ويخرجان الفدية ولا قضاء عليهما إلحاقا لهما بكبار السن.
روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس قال فى قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه} : كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما لا يطيقان الصيام - يعنى يتحملانه بمشقة شديدة - أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا-يعنى على أولادهما - أفطرتا وأطعمتا، ورواه البزار وزاد فى آخره، وكان ابن عباس يقول لأم ولد له حبلى: أنت بمنزلة الذى لا يطيقه فعليك الفداء ولا قضاء عليك وصحح الدارقطنى إسناده. وروى مالك والبيهقى عن نافع أن ابن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها فقال: تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينا مدًّا من حنطة. وفى الحديث " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة- أى قصر الصلاة- وعن الحُبلى والمرضع الصوم " رواه الخمسة أحمد وأصحاب السنن.
وعليه فإن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على أولادهما لهما أن يفطرا، أما القضاء والفدية فإن ابن حزم لا يوجب شيئا منهما، وابن عباس وابن عمر يوجبان الفدية فقط دون قضاء، والأحناف يوجبون القضاء فقط دون فدية، والشافعية والحنابلة يوجبان القضاء والفدية معا إن خافتا على الولد فقط، أما إذا خافتا على أنفسهما فقط أو على أنفسهما وعلى ولديهما فعليهما القضاء فقط دون فدية "نيل الأوطارج 4 ص 43 2 - 5 4 2 ".
وفى فقه المذاهب الأربعة: أن المالكية قالوا: الحامل والمرضع إذا خافتا بالصوم مرضا أو زيادته -سواء كان الخوف على أنفسهما أو ولدهما أو أنفسهما فقط أو ولدهما فقط -يجوز لهما الفطر وعليهما القضاء، ولا فدية على الحامل بخلاف المرضع فعليها الفدية. أما إذا خافتا بالصوم هلاكا أو ضررا شديدا لأنفسهما أو ولدهما فيجب عليهما الفطر.
والحنفية قالوا: إذا خافت الحامل أو المرضع الضرر من الصيام جاز لهما الفطر سواء كان الخوف على النفس والولد معا، أو على النفس فقط، أو على الولد فقط، ويجب عليهما القضاء عند القدرة بدون فدية.
والحنابلة قالوا: يباح للحامل والمرضع الفطر إذا خافتا الضرر على أنفسهما وولدهما أو على أنفسهما فقط، وعليهما فى هاتين الحالتين القضاء دون الفدية، أما إن خافتا على ولدهما فقط فعليها القضاء والفدية.
والشافعية قالوا: الحامل والمرضع إذا خافتا بالصوم ضررا لا يحتمل، سواء كان الخوف على أنفسهما وولدهما معا، أو على أنفسهما فقط، أو على ولدهما فقط، وجب عليهما الفطر وعليهما القضاء فى الأحوال الثلاثة، وعليها أيضا الفدية مع القضاء فى الحالة الأخيرة، وهى ما إذا كان الخوف على ولدهما فقط.
فرأى الشافعية كالحنابلة فى القضاء والفدية، إلا أن الحنابلة أباحوا الفطر خوف الضرر والشافعية اوجبوه والشافعى فى أحد أقواله يلزم الفدية للمرضع لا للحامل كالمالكية.
تتمة: الحديث الذى رواه الخمسة عن أنس بن مالك الكعبى، قال المنذرى: ومن يسمى بأنس بن مالك من رواة الحديث خمسة: صحابيان هذا وأبو حمزة أنس بن مالك الأنصارى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنس بن مالك والد الإمام مالك بن أنس روى عنه حديث فى إسناده نظر، والرابع شيخ حمصى حدث، والخامس كوفى حدَّث عن حماد ابن أبى سليمان والأعمش وغيرهما. يقول الشوكانى: وينبغى أن يكون أنس بن مللك القشيرى الذى ذكره ابن أبى حاتم سادسا إن لم يكن هو الكعبى(9/291)
يوم الجمعة ويوم عرفة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أيهما أفضل. . . الجمعة أم عرفات، وما فضل كل منهما؟
الجواب
روى ابن حبان فى صحيحه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم -قال "لا تطلع الشمس على يوم أفضل من يوم الجمعة" وفيه أيضا حديث "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة".
ورأى بعض العلماء تفضيل يوم الجمعة على يوم عرفة لهذا الحديث.
والصواب -كما قال ابن القيم فى "زاد المعاد ج 1 ص 12) أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر أفضل ليالى العام وليلة الجمعة أفضل ليالى الأسبوع، ولذلك كانت وقفة عرفة يوم الجمعة لها مزية على سائر الأيام.
وذكر ابن القيم عشرة وجوه لهذا الفضل وهو اجتماع وقفة عرفة مع يوم الجمعة.
والفضائل التى فى يوم الجمعة كثيرة منها:
فيه خُلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، وذلك شرف لذات اليوم.
أما بالنسبة للناس ففيه ساعة الإجابة، وفيه اجتماع الناس للصلاة وسماع الخطبة، وهو يوم عيد أسبوعى يحرم صومه أو يكره منفردا عن غيره، وفيه زيادة فضل الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم -وفضل قراءة سوره الكهف ومغفرة ذنوب الأسبوع وزيادة ثلاثة أيام لمن تطهر وتطيب وسعى إلى المسجد، وأنصت للخطبة، ولم يتخط الرقاب ولم يؤذ أحدًا وهو يوم المزيد فى الجنة حيث يدعى أهلها لروية الله تعالى، وفيه صلاة الصبح بسجدة التلاوة عند بعض الأئمة.
ومن فضائل يوم عرفة:
استجابة دعاء الواقفين فى عرفة، وندب صيامه لغير الواقفين، وهو يكفِّر ذنوب سنتين، وفضل اجتماع المسلمين على صعيد واحد فى تضرج لله وحده، وفيه أكمل الله الدين وأتم النعمة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا} المائدة: 3.
وفيه يدنو الرب من عباده الواقفين بعرفة ويباهى بهم ملائكته، ويشهدهم أنه غفر لعباده.
وقال ابن القيم: أما ما استفاض على ألسنة العوام بأن موافقة يوم عرفة ليوم الجمعة فى الحج تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ولا عن أحد من الصحابة والتابعين(9/292)
تقييد الشياطين فى رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى تصفيد الشياطين فى رمضان، وما العلاقة بين ذلك وبين المسلم الذى يفعل بعض المنكرات فى رمضان؟ وما حكم من نوى الفطر وهو صائم ولم يفطر؟
الجواب
إن الواقع يشهد بارتكاب المعاصى ممن يصومون رمضان ومن لا يصومون من المسلمين وغيرهم، وذلك على الرغم من الأحاديث الصحيحة من تقييد الشياطين أو تصفيدها فى رمضان.
وقد قال شراح الأحاديث: إن المراد بتقييدها عدم تسلطها على من يصومون صومًا صحيحا كاملا، روعيت فيه كل الأسباب التى منها عفة اللسان والنظر والجوارح كلها من المعصية استجابة لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الحديث الصحيح "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخارى.
أو المراد أن الشياطين المصفدة هى المردة والجبابرة، وأما غيرهم فلا يقيدون، ولذلك تقع من الناس بعض المعاصى وأكثرها غير خطير، وهذا ما نصت عليه رواية الترمذى "صفدت الشياطين مردة الجن " أو المراد أن الشياطين كلها تقيد بمعنى يضعف نشاطها ولا يكون بالقوة التى يكون عليها فى رمضان.
لكن مع احترام ما قالوه نرى كبائر المعاصى وأخطرها ترتكب فى شهر رمضان من الصائمين، ولهذا قال بعض العلماء: إذا كانت الشياطين تقيد فى رمضان فإن هناك بواعث أخرى على المعصية غير الشيطان، ومنها النفس الأمارة بالسوء، أو العادات والأعراف القبيحة التى تدفع إلى الشر أو شياطين الإنس من الجبابرة المزهوين بقوتهم، وهذه الدوافع موجودة فى كل وقت، وهى كافية لارتكاب المعاصى فى الوقت الذى تقيد فيه الشياطين ودور النفس البشرية الأمارة بالسوء لا يقل خطرا عن دور الشياطين، ونرى ذلك واضحا فى إقرار الشيطان يوم القيامة كما قال رب العزة: {وقال الشيطان لما قُض الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم} إبراهيم:
22(9/293)
حكمة مشروعية الصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا يحرمنا الله من التمتع بنعمة الطعام والشراب، ويحرِّم علينا المتعة الجنسية لمدة شهر فى كل عام، وذلك بفرض الصيام فى رمضان؟
الجواب
على ضوء الحكمة العامة للتشريع، وهى ربط المخلوق بالخالق، وإعداد الإنسان لتحقيق خلافته فى الأرض بالأخلاق الشخصية والاجتماعية يمكن توضيح الحكمة من الصيام فيما يأتى:
1- الصيام فيه تقديم رضا الله على النفس، وتضحية بالوجود الشخص بالامتناع عن الطعام والشراب، وبالوجود النوعى بالإمساك عن الشهوة الجنسية، وذلك ابتغاء وجه الله وحده، الذى لا يتقرب لغيره من الناس بمثل هذا الأسلوب من القربات، ومن هنا كان ثوابه عظيما، يوضحه ويبين علته قول النبى صلى الله عليه وسلم "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلى" رواه البخارى ومسلم.
وفى الصوم إحساس بمقدار نعمة الطعام والشراب والمتعة الجنسية عندما يحرم منها ونفسه تائقة إليها، فيكون شكره عليها بالإطعام المتمثل فى كثرة الصدقات فى فترة الصيام.
وفى توقيت الصيام بشهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن تذكير للإنسان بنعمة الرسالة المحمدية ونعمة الهداية القرآنية التى يكون الشكر عليها بالاستمساك بها"لعلكم تشكرون " وفى فترة إشراق الروح بالصيام وتلاوة القرآن تتوجه القلوب إلى الله بالدعاء الذى لا يرده لقول النبى صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا تُرد دعوتهم، الصائم حتى يفطر- أو حين يفطر - والإمام العادل، ودعوه المظلوم " رواه احمد والترمذى وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان، وحسَّنه الترمذى ولعل مما يشير إلى الإغراء فى الصيام توسط قوله تعالى {وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان. ..} بين آيات الصيام سورة البقرة: 183.
2- فى الصيام تخليص للإنسان من رِق الشهوة والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، وإشعار للإنسان بأن الحريات مقيدة لخير الإنسان وخير الناس الذين يعيش معهم، وهذا جهاد شاق يعود الصبر والتحمل، ويعلم قوة الإرادة ومضاء العزيمة، ويعد الإنسان لمواجهة جميع احتمالات الحيلة بحلوها ومرها وسائر متقابلاتها ليجعل منه رجلاً كاملاً فى عقله ونفسه وجسمه، يستطيع أن يتحمل تبعات النهوض بمجتمعه عن جدارة.
وقد شرعه النبى صلى الله عليه وسلم علاجا لقوة الشهوة لمن لا يستطيع الزواج، ففى الحديث "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء " أى قاطع رواه البخارى ومسلم.
والإنسان إذا تحرر من سلطان المادة اتخذ لنفسه جُنّة قوية تحصنه ضد الأخطار التى ينجم أكثرها عن الانطلاق والاستسلام للغرائز والأهواء. يقول النبى صلى الله عليه وسلم "الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إنى صائم إنى صائم " رواه البخارى ومسلم.
والصائم الذى يمتنع عن المحرمات وعن الحلالات التى تدعو لها الشهوة إنسان عزيز كريم، يشعر بآدميته وبامتيازه عن الحيوانات التى تسيرها الغرائز. والصيام أيضا يعوَد التواضع وخفض الجناح ولين الجانب، وبالتالى يعرف الإنسان قدره ويحس بضعفه ومن عرف قدر نفسه تفتحت له أبواب الخير واستقام به الطريق.
إن الصيام إلى جانب ما فيه من صحة النفس فيه صحة بدنية أسهب المختصون فى بيانها وتأكيد آثارها الطيبة، ففى الحديث " صوموا تصحوا" رواه الطبرانى عن رواة ثقات، والصوم يعوَد النظام والتحرى والدقة، وذلك بالتزام الإمساك عند وقت معيَّن وحرمة الإفطار قبل حلول موعده، قال تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} البقرة: 187، كما أن فى الصيام الصادق اقتصادا وتوفيرا يفيد منه الصائم، وتفيد أسرته وتفيد الأمة.
3- الجوع والعطش حين يحس بهما الصائم تتحرك يده فتمتد بالخير والبر للفقراء الذين عانوا مثل ما عانى من ألم الجوع وحر العطش، ومن هنا كانت السمة البارزة للصيام هى المواساة والصدقات وعمل البر، وكانت شعيرة يوم العيد هى زكاة الفطر للتوسعة على الفقراء، وهى بمثابة امتحان للصائم بعد الدروس الطويلة التى تلقاها فى شهر رمضان، وبهذا كانت زكاة الفطر جواز المرور لقبول الصوم كما يقول الحديث "صوم رمضان معتَق بين السماء والأرض لا يرتفع إلا بزكاة الفطر" رواه أبو حفص بن شاهين، وهو يقبل فى فضائل الأعمال.
الصيام بهذا المظهر يُعد للحياة الاجتماعية القائمة على التعاون على البر، وعلى الرحمة الدافعة لعمل الخير عن طيب نفس وإيمان واحتساب، ورد عن ابن عباس رضى الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم "أجود بالخير من الريح المرسلة" رواه البخارى ومسلم.
والصيام الكامل عن كل المشتهيات يكف الإنسان عن الكذب والزور والفحش والنظر المحرَّم والغش وسائر المحرمات، وفى الحديث الشريف من "لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخارى والزور هنا معناه الباطل بكل مظاهره وألوانه، وقد رأى بعض العلماء أن الغيبة والنميمة يفسدان الصوم كما يفسده تناول الطعام، لقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن الصائمتين المغتابتين "صامتا عما أحل الله - الطعام - وأفطرتا على ما حرَّم الله " رواه أحمد وأبو داود. وفى بيان أثر الصيام فى العلاقات الاجتماعية قال النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن المرأة التى تؤذى جيرانها بلسانها " إنها فى النار " بالرغم من كثرة صلاتها وصيامها رواه أحمد والحاكم وصححه.
هذا، والصيام يعود الإخلاص فى العمل ومراقبة الله فى السر والعلن، وإذا كان هذا طابع الإنسان فى كل أحواله أتقن عمله وأنجز ما يوكل إليه من المهام على الوجه الأكمل، وعف عن الحرام أيًّا كان نوعه، وعاش موفقا راضيا مرضيا عنه، وأفادت منه أمته إفادة كبيرة(9/294)
البلغم فى الصيام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يفطر للصائم إذا بلع البلغم، وماذا يفعل لو تعذَّر بصقه وهو فى الصلاة؟
الجواب
الريق العادى الخالى من مواد غريبة يجوز بلعه فى نهار رمضان وفى أى صيام، وذلك لمشقة الاحتراز عنه، وليس من الواجب بصقه كلما تجمَّع، فإن بصقه يزيد من الإحساس بالعطش وجفاف الحلق،إلى جانب أن ابتلاعه لا يعد أكلا ولا شربا، وليس غذاء يتنافى مع معنى الصوم وحكمته.
أما البلغم الخارج من الصدر ومثله النخامة النازلة من الرأس، فإن وصل إلى الفم ثم بلعه الصائم بطل صومه على ما رآه الشافعية، إذ يصدق عليه أنه شىء دخل إلى الجوف من منفذ مفتوح، ولا يشق الاحتراز عنه. وقال بعض العلماء: إن بلعه فى هذه الحالة لا يضر ما دام لم يتجاوز الشفتين، بل قاسه آخرون على الريق العادى فقالوا: إن بلعه لا يبطل الصوم مطلقا، وفى هذا القول تيسير على المصابين بحالة يكثر فيها البلغم، أما غير هؤلاء فيتبعون أحد القولين الأولين.
وعلى القول بأن بلعه يبطل يجب بصقه حتى لو كان فى الصلاة، على ألا يطرحه فى المسجد فإن تلويثه ممنوع بل يكون ذلك فى نحو منديل بحركة خفيفة لا تبطل الصلاة(9/295)
مواقيت الصيام بين بلدين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
شخص بدأ الصيام فى مصر طبقا لتحديد أول شهر رمضان فيها، وسافر إلى بلد آخر اختلف العيد فيه مع مصر فكيف يفعل فى نهاية شهر رمضان، هل يتبع مصر فى الإفطار للعيد أو يتبع البلد الذى هو فيه حتى لو أدى ذلك إلى أن يكون صيامه ثمانية وعشرين يوما، أو واحدا وثلاثين يوما؟
الجواب
من بدأ الصيام فى رمضان فى بلد حسب الرؤية فى يوم الجمعة مثلا، ثم سافر إلى بلد بدأ الصيام فيه حسب الروية فى يوم الخميس، ومكث هناك حتى انتهى الشهر، فمن الجائز أن يكمل الشهر فى البلد الثانى ثلاثين يوما، فيكون العيد يوم السبت وليست هناك مشكلة إذ ذاك.
كما أن من الجائز أن البلد الثانى يجعل الشهر تسعة وعشرين يوما فيكون العيد يوم الجمعة، وعليه يكون الشخص الذى بدأ الصيام يوم الجمعة فى البلد الأول قد صام ثمانية وعشرين يوما، فماذا يفعل والبلد الثانى الذى هو فيه عيدهم يوم الجمعة والصيام يحرم يوم العيد، والشهر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم تسعة-وعشرون يوما أو ثلاثون، لا يكون أبدا ثمانية وعشرين يوما؟ وعلى هذا نقول لهذا الشخص: لك الخيار فى أن تفطر يوم العيد معهم وعليك أن تصوم يوما آخر ليكمل لك الشهر تسعة وعشرين يوما، كما أن لك الخيار فى أن تصوم العيد لتكمل به الشهر تسعة وعشرين يوما.
هذا ما أراه والموضوع اجتهادى، وإن كنت أفضل موافقة البلد الثانى فى الإفطار يوم العيد مع صيام يوم آخر، وتلك من سلبيات تعدد ولاة الأمر والأئمة فى الوطن الإسلامى(9/296)
صيام بلا صلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن صام رمضان ولكنه لا يصلى، فهل ذلك يفسد صيامه ولا ينال عليه أجرا؟
الجواب
هناك فرق بين بطلان العبادة وعدم قبولها، فقد تكون صحيحة لا تجب إعادتها لأنها مستوفية الأركان والشروط ومع ذلك تكون غير مقبولة عند الله، كمن يصلِّى رياء أو فى ثياب مسروقة، والذى يصوم إن كان ممسكا عن المفطرات وهى الطعام والشراب والشهوة فصومه صحيح غير باطل حتى لو ارتكب بعض المعاصى كالكذب وكترك الصلاة، لكن مع صحة الصوم هل يكون مقبولا يؤجر عليه من الله؟ إن الأحاديث صحت فى حرمان هذا الصائم من قبول صومه مثل حديث "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " رواه الجماعة إلا مسلما.
وبالمثل من يصوم ولا يصلى، صومه صحيح لا تجب إعادته لتركه الصلاة، أما قبوله فالحديث يدل على عدمه، وعلى فرض قبوله وأخذ ثواب عليه فإن عقاب ترك الصلاة عقاب شديد، ويظهر ذلك فى الميزان يوم القيامة إذا لم يكن عفو من الله تعالى. فلنضع أمام أعيننا وفى قلوبنا قول الله سبحانه {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره} الزلزلة: 7، 8، وقوله {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلاَّم للعبيد} فصلت:
46(9/297)
حج الأنبياء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن جميع الأنبياء قاموا بالحج إلى بيت الله الحرام ولم يحج هود وصالح، ولماذا لم يحج هذان النبيان؟
الجواب
روى يونس بن بكير عن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبى إلا وقد حج البيت، إلا ما كان من هود وصالح. يقول الحافظ ابن كثير: والمقصود الحج إلى محله وبقعته وإن لم يكن تم بناؤه اهـ.
وقد يكون عدم مرورهما لأن رسالة هود كانت فى الأحقاف بعيدا عن مكة، ورسالة صالح كانت فى ديار ثمود فى شمالى الجزيرة العربية تقريبا.
والكلام كثير فى أول من بنى البيت. والأدلة ليست قاطعة. وسيدنا إبراهيم قد رفع قواعده، والرفع فى ظاهره أنه لشىء موجود فى الأصل، ومع ذلك فالكلام الذى قاله عروة بن الزبير ليس حديثا مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم. ويمكن الرجوع إلى الكتب والتفاسير ففيها كلام كثير، ومن أحدثها تاريخ الكعبة المعظمة.
تأليف / حسين عبد الله باسلامة المطبوع بجدة 1354 هـ(9/298)
الأضحية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن من أراد يضحى يحرم عليه قص شعره وأظفاره فى العشر الأوائل من ذى الحجة؟
الجواب
روى مسلم وغيره عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحى فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحى " وروى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أفتل قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم شىء أحله الله له حتى ينهر الهدى.
ذهب سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعى إلى أنه يحرم أخذ شىء من شعر الإنسان أو أظفاره إذا أراد أن يضحى حتى يضحى. وقال الشافعى وأصحابه: إنه مكروه كراهة تنزيه وليس بحرام، وقال أبو حنيفة: لا يكره الحلق والتقصير، والحديث يرُدّ عليه، وقال مالك فى رواية: لا يكره، وفى رواية: يحرم فى التطوع دون الواجب.
والقائلون بالتحريم استدلوا بالحديث المروى عن أم سلمة، واحتج الشافعى بحديث عائشة لأنه أقوى. واستظهر الشوكانى الرأى الأول وهو الحرمة وتحمس له ابن قدامة الحنبلى المتوفى سنة 630 هـ ومن قبله الخرقى المتوفى سنة 334 هـ، وأورد عدة مبررات لذلك.
والحكمة فى النهى أن يبقى بدن الإِنسان كامل الأجزاء للعتق من النار، وقيل للتشبه بالمحرم كما ذكره النووى، وحكى عن أصحاب الشافعى أن الوجه الثانى -وهو التشبيه بالمحرم - غلط، لأنه لا يعتزل النساء ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم.
وهذا كله لمن أراد أن يضحى، أما من لم يرد ذلك فلا شىء عليه "المغنى لابن قدامة ج 11 ص 95 "، " نيل الأوطار للشوكانى ج 5 ص 119 " هذه هى آراء العلماء، ولكل وجهة، ولا بأس من أتباع أحدها(9/299)
الاقتراض للحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل ليس عنده مال يكفيه للحج، هل يجوز له أن يقترض ليحج؟
الجواب
معلوم أن الحج يجب على المستطيع، ومن الاستطاعة القدرة المالية، فإذا وجد المال الذى يكفى لنفقات الحج زائدا على النفقات الواجبة عليه لمن يعولهم وجب الحج عليه، وقد رأى بعض العلماء أن يكون هذا المال زائدا على نفقته ونفقة من يعولهم مدة العمر الغالب، وليس مدة الغياب فى الحج، فلو كان له مورد رزق ثابت يدر عليه سنويا أو شهريا ما يكفيه هو وأسرته ولو باع شيئا منه ليحج أثَّرَ ذلك على حياته وحياة أسرته تأثيرا شديد يلجئه إلى الاستدانة أو السؤال فلا يجب عليه الحج عن طريق الاستغناء عن بعض ممتلكَاته، لكنه لو فعل ذلك وحج صح حجه وأغناه عن حجه الإِسلام وإن كان لا ينجو من المؤاخذة على ما ألجأ نفسه وأسرته إليه مما لا يرضاه الإِسلام.
وبالمثل يقال فيما إذا لم يجد ما يزيد على نفقته ونفقة أسرته فهل يقترض ليحج؟ لا يجب عليه الاقتراض لذلك، لكن يجوز له أن يقترض ويحج إذا اطمأن إلى أنه سيرد القرض دون تأثير كبير على دخله وعلى أسرته، وإن كان الاقتراض للحج منهيا عنه بدليل الحديث الذى رواه البيهقى عن عبد الله بن أبى أوفى قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل لم يحج، هل يستقرض للحج؟ فقال " لا"، والنهى الذى تضمنه النفى قيل للتحريم وقيل للكراهة.
ومن صورة الاقتراض تكوين جمعية أو إنشاء صندوق باشتراكات من الأعضاء، يأخد حصيلتها شهريا أو سنويا بعض الأعضاء الذين يمكنهم الحج بهذه الحصيلة مع مداومة الاشتراك ليؤدى ما عليه(9/300)
الإحرام لدخول الحرم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يدخل الحرم المكى دون أن يكون محرما بحج أو عمرة؟
الجواب
خلاصة الآراء فى هذه المسألة ما يأتى:
الذى يقصد الحجاز أى المنطقة التى فيها الحرم المكى إما أن يكون مريدا للنسك، أى الحج أو العمرة، وإما ألا يكون مريدا لذلك، كأن يريد زيارة صديق أو قضاء أية مصلحة أخرى.
ولكل حكمه:
ا - فالذى يريد النسك لا يجوز له أن يجاوز الميقات المعروف للقادمين لحج أو عمرة إلا بالإحرام، ودليله أن النبى صلى الله عليه وسلم وقَّت المواقيت وقال فيما قال: " هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن لمن أراد الحج أو العمرة " رواه البخارى ومسلم عن ابن عباس. بأن جاوز الميقات بدون إحرام وجب عليه أن يرجع إليه ويحرم منه، فإن لم يرجع وأحرم من مكانه يلزمه دم أى ذبح شاة.
2- أما من لا يريد النسك فهو على قسمين:
(1) قسم لا يريد النسك ولا يريد دخول الحرم المكى-والحرم له حدود معينة غير المواقيت -بل يريد حاجة فى غيره من المناطق، كجدة أو المدينة المنورة مثلا، فهذا لا يلزمه الإحرام ولا يجب عليه شىء فى تركه، وهذا باتفاق العلماء، والدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه تجاوزوا ميقات المدينة - وهو ذو الحليفة أو آبار على - أكثر من مرة لغير النسك فى غزوة بدر وغيرها وكانوا غير محرمين، ولم يروا بذلك بأسا.
(ب) وقسم لا يريد النسك ولكن يريد دخول الحرم، وهذا القسم طوائف:
1 - طائفة تريد دخوله لقتال مشروع أو للأمن من خوف، وهذه الطائفة لا يجب عليها الإحرام، والدليل ما رواه البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر. قال مالك: ولم يكن رسول الله يومئذ محرما. وكذلك ما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام.
2 - طائفة تريد دخوله لحاجة متكررة تقتضى كثرة التردد على الحرم، ومثل العلماء لها بالحطابين وناقلى المؤن ومن له ضيعة أو تجارة داخل الحرم أو خارجه ومثلهم المدرسون والموظفون الذين يخرجون من الحرم أو يدخلونه عدة مرات. وهذه الطائفة كالطائفة السابقة لا يجب عليها الإحرام عند دخول الحرم، لأن تكليفهم الإحرام لكل دخول فيه حرج، والدين لا حرج فيه، والنصوص فى ذلك كثيرة مشهورة. واستأنسوا بقول ابن عباس: لا يدخل أحد مكة بغير إحرام إلا الحطابين. لكن سند الرواية عنه ضعيف.
3- طائفة تريد دخول الحرم لا لقتال ولا لحاجة متكررة كالطائفتين السابقتين، وهؤلاء كالسائحين والزائرين والمكلفين بمهمات مؤقتة.
وفيهم ثلاثة أقوال:
(1) قول يلزمهم الإحرام عند دخول الحرم، وهو مروى عن ابن عباس. أخرج البيهقى عنه: " لا يدخل أحد مكة. إلا محرما " وإسناده جيد، ورواه ابن عدى مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم من وجهين ضعيفين. وهذا مذهب أحمد فى ظاهره، ومذهب الشافعى فى أحد أقواله.
(ب) قول يجعلهم كالحطابين وأمثالهم لا يوجب عليهم الإحرام، وهو مذهب الشافعى فى قوله الآخر. ومذهب أحمد فى رواية عنه.
ودليلهم أن ابن عمر رجع من، بعض الطريق ودخل مكه غير محرم، وإذا قيل بسقوط هذا الدليل لأنه معارض بما ورد عن ابن عباس فى لزوم الإحرام قالوا: كان المسلمون فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم يختلفون إلى مكة لحوائجهم ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بإحرام، كقصة الحجاج بن علاط وقصة أبى قتادة لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال، وكان النبى قد أرسله لغرض قبل الحج، فجاوز الميقات لا بنية الحج ولا العمرة، فقرره صلى الله عليه وسلم. وقالوا أيضا: إن الحرم المكى أحد الحرمين - مكة والمدينة - فلا يلزم الإحرام لدخوله كما لا يلزم لدخول الحرم المدنى. ثم قالوا:
وجوب الإحرام للدخول يكون من الشارع ولم يرد منه إيجاب بذلك على كل داخل، فيبقى الدخول على الأصل وهو الحل. وهذا القول قواه كثير من العلماء المحققين.
(ج) قول ثالث لأبى حنيفة وهو التفصيل، فإن كان من يريد دخول الحرم داخل المواقيت جاز دخوله بغير إحرام، لأنه يعد كأنه داخل الحرم نفسه، وإن كان خارج المواقيت يلزمه الإحرام لدخول الحرم، كما ذهب إليه أصحاب القول الأول.
هذا عرض لما قيل فى هذا الموضوع، معاملة من يدخلون الحرم لأمر مؤقت. أو من يخرجون منه لحاجة مؤقتة ثم يعودون إليه -كمعاملة الحطابين وأمثالهم هو ما يؤيده الدليل ويقتضيه رفع الحرج فى الدين. قال ابن القيم فى زاد المعاد بعد عرض الأقوال: وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم فى المجاهد-أى لا إحرام عليه - ومريد النسك - أى فى وجوب الإحرام - وأما من عداهما فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله أو أجمعت عليه الآمة(9/301)
الحجر الأسود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن الحجر الأسود من الجنة فما مدى صحة هذا القول وما حكم تقبيله؟
الجواب
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: " نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بنى آدم لما رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن خزيمة فى صحيحه، إلا أنه قال " أشد بياضا من الثلج " وروى الطبرانى فى معجمه الأوسط ومعجمه الكبير مثله بإسناد حسن وكذلك البيهقى.
وعن عبد الله بن عَمْرو رضى الله عنهما قال: نزل الركن الأسود من السماء فوضع على أبى قبيس "جبل " كأنه مهاة بيضاء-أى بلورة- فمكث أربعين سنة ثم وضع على قواعد إبراهيم. رواه الطبرانى فى معجمه الكبير موقوفا على عبد الله بن عمرو بإسناد صحيح، أى ليس مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
وجاء فى الروايات التاريخية أن إبراهيم عليه السلام طلب حجرا مميزا يضعه فى البيت فجاءه به جبريل عليه السلام.
نأخذ من مجموع هذه الروايات أن الحجر الأسود من الجنة، وأنه كان أبيض فسودته خطايا بنى آدم، لكن درجة الأحاديث مترددة بين الصحة والحسن، وهى على كل حال لم تبلغ درجة التواتر، فهى أحاديث آحاد. ولو كانت،صحيحة فإن هناك خلافا بين العلماء فى إفادة حديث الآحاد الصحيح القطع والعلم اليقين.
وما دام لا يوجد ما يمنع تصديق هذه الأحاديث فلنصدقها، ومع ذلك فإن من لم يصدقها لا يخل ذلك بعقيدته، ولا يخرجه من الإيمان إلى الكفر.
هذا، وقد نشر فى " الأهرام " الصادر فى يوم الجمعة بتاريخ 8 / 10 / 1982 م بقلم محمد عبده الحجاجى مدير إدارة بالمكتبة المركزية بجامعة القاهرة أن الحجر الأسود من السماء وسقوط الأحجار من السماء ظاهرة كونية معروفة ومؤكدة، وقد قام العالم البريطانى "ريتشار ديبرتون " برحلة إلى الحجاز متخفيا فى زى مغربى، مدعيا أنه مسلم وكان يجيد اللغة العربية، واندس بين الحجاج واستطاع أن يحصل على قطعة من الحجر، وحملها معه إلى لندن، وبدأت تجاربه عليها فى المعامل الجيولوجية، فتأكد أنه ليس حجرا أرضيا، بل هو من السماء، وسجل هذا فى كتاب له بعنوان " الحج إلى مكة والمدينة " الذى صدر بالإنجليزية فى لندن سنة 1856 م.
وسواء أكان الحجر من السماء أم لم يكن فإن الثابت أنه حجر مبارك قَبَّلَه النبى صلى الله عليه وسلم، وثبت فى البخارى ومسلم أن عمر رضى الله عنه قبَّله اقتداء بالرسول مقسما أنه لا يضر ولا ينفع، ورويت أحاديث غير قاطعة تدل على أن استلامه بمثابة عهد مع الله على الطاعة.
تقبيله:
روى الحاكم وصححه أن النبى صلى الله عليه وسلم قبَّل الحجر الأسود وبكى طويلا، ورآه عمر فبكى لما بكى، وقال " يا عمر هنا نسكب العبرات " وثبت أن عمر رضى الله عنه قال وهو يقبله: والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. رواه البخارى ومسلم.
والتقبيل، سنة عند الاستطاعة وبدون إضرار بالناس. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لعمر " يا أبا حفص، إنك رجل قوى فلا تزاحم على الركن فانك تؤذى الضعيف، ولكن إذا وجدت خلوة فاستلم، وإلا فكبرِّ وامض " رواه الشافعى فى سننه.
وما هو السر فى اهتمام النبى صلى الله عليه وسلم بتقبيله والبكاء عنده؟ قد يقال: إن ذلك من باب التشبه بتقبيل يد السادة والكبراء، والحجر-كما فى بعض الروايات -يمين الله فى الأرض يصافح بها عباده، فالتقبيل إعظام وإجلال للَّه سبحانه أو تعاهد معه على الطاعة والالتزام كما يحدث بين الناس فى المبايعة والموالاة.
وقد يقال: إن الحجر هو الجزء الباقى بيقين من أحجار الكعبة التى بناها أبوه إبراهيم عليه السلام، فالرسول يكرم هذا الأثر، ويتذكر به أصوله الأولى وما قاموا به من أمجاد وتضحيات هيأت لولادته وبعثته حول هذا الأثر الباقى وهو الكعبة.
وقد يقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقبله متذكرا إكرام الله له وتهيئته من الصغر ليكون رسول هذه الأمة، حيث فصل فى نزاع خطير بين القبائل من أجل نيل الشرف بوضع الحجر الأسود فى مكانه عند تجديد بناء الكعبة قبل البعثة حيث ارتضوه -وهو الأمين -حكما فى هذا النزاع، فأشركهم فى حمله بثوب، ثم أخذه بيده ووضعه فى مكانه، إنه شرف جدير بالاعتزاز به، يتذكره الرسول بعد سنوات طوال ترك فيها مكة وحرمه أهلها من زيارة البيت، حتى مكنه الله منه بعد أن انتصر وعز، ورفع الله ذكره.
كل ذلك يمكن أن يكون حيثيات للاهتمام الزائد من النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الحجر، مع العلم بأن تقبيل الحجر ليس عبادة له أبدا، فالعبادة لله وحده، كما أن الطواف بالبيت ليس عبادة للبيت، بل للَّه سبحانه الذى أمر به فى قوله {وليطوفوا بالبيت العتيق} الحج:29، وقال فى امتنانه على قريش {فليعبدوا رب هذا البيت} قريش: 3، فتقبيل الحجر ليس عبادة له، ولو كان فيه خطأ لم يقر الله رسوله عليه أبدا، والله لا يقر أحدا على شرك فى عبادته.
وشعور عمر عند تقبيل الحجر هو شعور الموحد للَّه سبحانه والمقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الإقتداء به مطلوب.
وشعور الرسول بتقبيله هو أيضا شعور الموحد له سبحانه المعترف الشاكر لنعمه عليه وعلى أبيه إبراهيم عليه السلام، وشعور المشتاق للجنة، فقد قيل إن الحجر من الجنة وكان أبيض فسودته خطايا بنى آدم وإن لم يكن الخبر قطعى الثبوت كما قدمنا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بكل هذه المشاعر والأحاسيس يقبل الحجر الأسود، وهو فى قمة التوحيد للَّه وإخلاص العبادة له سبحانه(9/302)
وقت رمى الجمرات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الوقت المحدد لجواز رمى الجمرات فى الحج؟
الجواب
الجمرات ثلاثة، جمرة العقبة وهى الكبرى التى تلى مكة، والجمرة الوسطى، والجمرة الصغرى التى تلى مسجد الخيف. والواجب فى يوم النحَر هو رمى جمرة العقبة فقط بسبع حصيات، حتى يمكن بعد رميها وحلق الشعر أو تقصيره التحلل من الإِحرام ومباشرة ما كان محرما إلا قربان النساء.
ويدخل وقت الرمى عند الشافعية بمنتصف ليلة العيد، أي قبل الفجر، بدليل ما رواه البيهقى بإسناد صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة النحر، فرمت قبل الفجر ثم أفاضت.
وبما رواه أبو داود أيضا عن عطاء قال: أخبرني مخبر عن أسماء أنها رمت الجمرة، قلت آنا رميت الجمرة بليل، قالت: إنا كَنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال جمهور الفقهاء: يدخل وقت رميها بطلوع الفجر، فلا يصح الرمى قبله، إلا لذوى الأعذار، وعليهم يحمل حديث أم سلمة وأسماء، والأفضل أن يكون بعد طلوع الشمس.
أما الجمرات الثلاث فترمى فى أيام التشويق، كل منها بسبع حصيات، ويدخل وقت رميها عند زوال الشمس (أى ظهرا) للحديث الذى رواه أحمد وابن ماجه والترمذى وقال: حديث حسن، عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم رمى الجمار عند زوال الشمس، أو بعد زوال الشمس، وذلك باتفاق العلماء. وأجاز أبو حنيفة الرمى يوم الثالث من أيام التشريق قبل الزوال، لحديث ضعيف فيه عن ابن عباس أيضا: إذا انتفخ النهار من يوم النفر الآخر حل الرمى والصدر، والانتفاخ هو الارتفاع، والصدر أى الانصراف من منى.
وهناك رى لعطاء بن أبى رباح وطاووس بن كيسان بجواز الرمى قبل الزوال فى الأيام كلها، ويمكن الأخذ بهذا الرأى عند الحاجة، كشدة الزحام(9/303)
المبيت بمنى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندى عذر يمنعنى من المبيت فى منى، فماذا أفعل؟
الجواب
المبيت بمنى ليالى التشريق واجب من واجبات الحج، لو ترك كان فيه هدى، وهو شاة فمن لم يستطع صام عشرة أيام، ثلاثة فى الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وكيف يصوم الأيام الثلاثة فى الحج؟ قيل يصومها ما دام موجودا هناك لم يعد إلى وطنه، وقيل فى موسم الحج، وقيل أيام التشريق الثلاثة للضرورة كما قال عبد الله بن عمر وعائشة رضى الله عنهما: لم يرخص فى أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لا يجد لهدى وترك المبيت ليلة كترك المبيت فى الليالى الثلاثة - والمراد بالمبيت الحضور بمنى معظم الليل، سواء فى أوله أو فى آخره.
والمبيت واجب ليلتين إذا نفر قبل غروب شمس اليوم الثانى من أيام التشريق، وهو اليوم الثانى عشر من ذى الحجة، فإن غربت عليه الشمس بمنى وجب أن يبيت فيها، وهو واجب عند الأئمة الثلاثة، وجعله أبو حنيفة مندوبا، من تركه فلا شىء عليه. وأطال مدة النفر من اليوم الثانى عشر فجعلها حتى قبيل فجر اليوم الثالث عشر. وقال ابن حزم: من لم يبت فى منى فقد أساء ولا شىء عليه.
ومن قالوا بعدم وجوبه استندوا إلى ما رواه ابن أبى شيبة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إذا رميت الجمار فبت حيث شئت.
والكل متفق على أن المبيت يسقط عن ذوى الأعذار، فقد روى البخارى أن العباس عم النبى صلى الله عليه وسلم استأذنه أن يبيت بمكة ليالى منى من أجل سقايته، فأذن له. وروى أصحاب السنن الأربعهَ:
أبو داود وابن ماجه والنسائى والترمذى وقال الترمذى: هو صحيح - عن عاصم بن عدى أن النبى صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يتركوا المبيت بمنى.
وعلى هذا لو كان المبيت بمنى فيه مشقة على مريض لا يجد علاجا أو راحة فيها فبات بمكة يمكن أن يأخذ برأى أبى حنيفة ومن معه بأن المبيت سنة لا شىء فى تركه، وإن كان الأولى أن يذبح مراعاة لرأى الجمهور القائل بأن المبيت واجب، وإذا قيس المرض على أعذار السقاة فلا شىء على ترك المبيت بمنى(9/304)
الحج على نفقة الدولة وبجوائز المسابقات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يزعم البعض أن أموال الدولة مصدرها حرام وبالتالى لا يجوز للفرد أن يحج على نفقتها، أو من خلال الفوز فى المسابقأت الدينية التى تنظمها الهيئات الحكومية، فما مدى صحة هذا الكلام؟
الجواب
ليست أموال الدولة كلها من مصدر حرام، وإذا اختلط الحلال بالحرام واستحال فصل أحدهما عن الآخر فلا مانع من الأخذ منه، لعل ما أخذ يكون من الحلال، وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الجزية من اليهود وكانت أموالهم مشوبة بالحرام من الربا والاتجار فى المحرمات.
وعليه فيجوز الحج على نفقة الدولة، وتسقط الفريضة، وكذلك يجوز الحج من خلال الفوز فى المسابقات الدينية التى تنظمها الهيئات الحكومية، والأمر على ذلك منذ مئات السنين، وعلماء الدين لا يعترضون على ذلك، بل يقبلونه وينالون منه.
ولماذا نتشكك فى أموال الدولة هنا ونقبلها فى أجورنا ومرتباتنا، وننتفع بها فى المساجد والمرافق العامة التى تقيمها وتتولى رعايتها وفى غير ذلك من كل ما تقوم به الدولة من الخزانة العامة التى تصب فيها الضرائب والتبرعات والقروض والبيع والتصدير وغير ذلك؟(9/305)
حج المرأة بدون محرم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تقدمت سيدة بطلب للحج فقيل لها: لابد من محرم معها، فماذا تفعل؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها ". ورويا أيضا أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم إنه اكتتب فى الغزو، وإن امرأته قد خرجت للحج، فقال له "حج مع امرأتك ". إزاء هذين النصين وغيرهما اختلف العلماء فى اشتراط المحرم فى وجوب الحج على المرأة، وبعيدا عن اختلافهم فى تقدير المسافة، قال الحنفية: لابد من وجود الزوج أو المحرم، إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل. وقال الشافعى فى المشهور عنه كما ذكره النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 9 ص 104 ": لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها. وقال أصحابه: يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات، وقال بعضهم:
يلزمها -أى الحج -بوجود امرأة واحدة، وقد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها فى جملة القافلة وتكون آمنة، ويقول النووى: المشهور من نصوص الشافعى وجماهير أصحابه هو الأول، أى الأمن على نفسها بالزوج أو المحرم أو النسوة الثقات. والإمام مالك لا يشترط الزوج أو المحرم فى سفر الفريضة، وقال الباجى من المالكية: إن الكبيرة غير المشتهاة يجوز سفرها بلا زوج ولا محرم، ورفض القاضى عياض هذا القول لأن المرأة مظنة الطمع والشهوة حتى لو كانت كبيرة، ولوجود السفهاء الذين لا يتورعون عن الفحشاء فى الأسفار. والإمام أحمد اشترط وجود الزوج أو المحرم فى وجوب الحج عليها، وفى رواية أخرى عنه: لا يشترط ذلك فى سفر الفريضة. يقول النووى بعد حكاية مذهب الشافعى: إن هذا الخلاف إنما هو فى الحج الواجب، أما حج التطوع وسفر الزيارة والتجارة وما ليس بواجب، فقال بعضهم: يجوز خروجها مع نسوة ثقات، وقال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم، وهذا هو الصحيح ونوجه النظر إلى أن من اشترط المحرم أو الزوج اشترطه لوجوب الحج عليها، ولرفع الإثم والحرج عنها لو سافرت بدونه، لكن لو خرجت للحج بدون ذلك فإن حجها صحيح متى استوفى أركانه وشروطه، وتسقط به الفريضة عنها ولا تلزمها إعادته مع محرم، وإن كانت قد أثمت لخروجها بدون الزوج أو المحرم أو ما يقوم مقامهما على الوجه المذكور.
والحكمة فى اشتراط المحرم أو الزوج هى توفير الأمن للمرأة فى السفر، ومساعدتها على قضاء مصالحها التى تحتاج إلى اختلاط أو تعب، وقد يكون لتطور وسائل السفر وقصر مدة الغياب عن الوطن، مع توافر كل المستلزمات من ضروريات وكماليات، وسهولة الحصول عليها، ومع استتباب الأمن حيث تؤدى الشعائر بيسر، بالقياس إلى أزمان سبقت قد يكون لكل ذلك أثره فى تغير النظرة عند فهم الحديث الخاص بسفر المرأة وحدها. وقد صح فى البخارى من حديث عدى بن حاتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر له أنه قد يستتب الأمن حتى ترتحل الظعينة من الحيرة وتطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله.
وقد رأينا فى استعراض آراء الفقهاء -حتى بين علماء المذهب الواحد - اختلاف وجهات النظر فى حتمية المحرم أو الزوج وإمكان الاستعاضة عنهما بالرفقة المأمونة، بل فى جواز حجها بدون مرافق، حتى إن ابن حزم فى " المحلى " رجح عدم وجوب الزوج أو المحرم فى سفر الحج، فإذا لم تجد واحدا منهما تحج ولا شىء عليها. ولذلك أرى أن المدار هو على توفر الأمن والراحة لها، فإذا حصل ذلك بأية صورة من الصور، كزوج أو محرم أو رفقة مأمونة أو إشراف رسمى مسئول أو غير ذلك. وجب عليها الحج وسافرت، وقد حج نساء النبى صلى الله عليه وسلم بعد أن أذن لهن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما وكان ذلك سنة لأنهن حججن مع الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه هى خلاصة ما قرأته فى المراجع الآتية: شرح النووى لصحيح مسلم ج 9 ص 104، المغنى لأبن قدامة ج 3 ص، 195، نيل الأوطار للشوكانى ج 4 ص 6 30، 07 3 والأسرة تحت رعاية الإسلام ج 2 ص 230(9/306)
الحج أو الزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل يريد الحج لأول مرة وله ابن غير قادر على تكاليف الزواج، فهل يؤدى الفريضة أم يساعد ابنه على زواجه؟
الجواب
لا يجب على الوالد أن يزوج ولده أو يساعده فى زواجه، فذلك مندوب فقط، والحج للقادر عليه لأول مرة واجب. وإذا تعارض واجب ومندوب قدم الواجب، فعلى الرجل أن يؤدى فريضة الحج أولا، لأنه مستطيع، وفى الحديث تهديد لمن قدر على الحج ولم يحج، وبخاصة أن جمهور الفقهاء قالوا: إن وجوب الحج على الفور وليس على التراخى، فالتأجيل فيه إثم عندهم. وعلى الولد أن يصبر حتى يغنيه الله ويستطيع الزواج، كما قال تعالى {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله} النور: 33، وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" أى قاطع، رواه مسلم. والباءة هى تكاليف الزواج. وإذا كان الولد محتاجا إلى الزواج ليعف نفسه فعليه أن يتزوج من وسط يتناسب مع قدرته ومستواه المادى، وفى النساء كثيرات يوافقن على ذلك بدون مغالاة فى المهور والجهاز.
ومثل ذلك يقال فى تجهيز الوالد لبنته، فهو سنة غير واجب، أما الحج فهو واجب يقدم على السنة. وكذلك إذا كان الشاب مستطيعا بمال يكفيه أحد الأمرين، الحج المفروض لأول مرة، أو الزواج فإذا كان مستقيما يستطيع أن يبتعد عن الفاحشة كان زواجه سنة وحجه واجبا فيقدم الواجب، أما إذا كان ضعيفا أمام شهوته -إن لم يتزوج بسرعة وقع فى الفاحشة -كان زواجه واجبا ولا يجب عليه الحج لأنه غير مستطيع، فالاستطاعة تكون بعد كفاية الضروريات، والزواج ضرورى له فى هذه الحالة، والزواج فيه درء للمفاسد فيقدم على الحج الذى فيه جلب للمصلحة كما تقتضيه قواعد التشريع. أما إذا كان الحج مندوبا أى للمرة الثانية فله الخيار بين الحج والزواج، أو مساعدة الابن أو البنت(9/307)
الحج وتكفير التبعات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم من يرتكب المعاصى ويهمل فى الطاعات ثم يقول: سأحج لأن الحج يغفر كل الذنوب؟
الجواب
قال الله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48، وقال صلى الله عليه وسلم " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " رواه البخارى ومسلم. وقال "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " رواه البخارى ومسلم. يقول العلماء: إن الذنوب منها كبائر ومنها صغائر، كما قال تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} النساء: 31، وقال تعالى {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} النجم: 32، والصغائر مكفراتها كثيرة، فإلى جانب التوبة والاستغفار يكفرها الله بأى عمل صالح، قال تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات} هود: 114، وقد نزلت فى رجل ارتكب معصية وفال له النبى صلى الله عليه وسلم " أشهدت معنا الصلاة"؟ قال: نعم، فقال له "اذهب فإنها كفارة لما فعلت " وقال صلى الله عليه وسلم " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر" رواه مسلم، وقال "واتبع السيئة الحسنة تمحها" رواه الترمذى بسند حسن. أما الكبائر فتكفرها التوبة النصوح كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللَّه توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} التحريم: 8، وكما قال بعد ذكر صفات عباد الرحمن وأن من يفعل الكبائر يضاعف له العذاب {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل اللَّه سيئاتهم حسنات وكان اللَّه غفورا رحيما} الفرقان:
70،. أما الأعمال الصالحة غير التوبة فلا تكفر الكبائر، لأن هذه الأعمال الصالحة لا تؤثر فى تكفير الذنوب الصغيرة إلا إذا اجتنيت الكبائر كما تقدم فى حديث مسلم. وعلى هذا قالوا: إن النصوص العامة التى فيها تكفير الأعمال الصالحة لكل الذنوب - كحديث الحج المتقدم - مخصوصة بالذنوب الصغيرة، أما الكبيرة فلا يكفرها إلا التوبة. وليكن معلوما أن التوبة لا تكفر الذنوب التى فيها حقوق العباد لأن من شروطها أو أركانها أن تبرأ الذمة منها، إما بردها لأصحابها وإما بتنازلهم عنها، وبالتالى فالحج أو غيره من الطاعات لا يكفر الذنب الذى فيه حق للعباد حتى تبرأ الذمة منه ويؤيد ذلك أن الشهادة في سبيل اللَّه، وهى فى قمة الأعمال الصالحة، لا تكفِّر حقوق العباد، كما ورد فى حديث مسلم " يغفر اللَّه للشهيد كل شىء إلا الديْن ". أما الذنوب التى هى حق للَّه فهى قسمان، قسم فيه بدل وعوض، وقسم ليس فيه ذلك، فالأول كمن أذنب بترك الصلاة أو الصيام فلا يكفر إلا بقضاء ما فاته من صلاة وصيام كما وردت بذلك النصوص الصحيحة، والثانى كمن أذنب بشرب الخمر مثلا، فإن مجرد تركه والتوبة منه يكفره الله تعالى، والتوبة تكون بإقامة الحد عليه إن كانت الحدود تقام، وإلا فهى الإِقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم على عدم العود. هذا، وقد وردت نصوص تدل على أن التبعات والمظالم يكفرها اللَّه بالحج، لكن هذه النصوص غير قوية فلا تعارض ما هو أقوى منها، فالتوبة لا تكفر التبعات والمظالم إلا ببراءة الذمة، وكذلك الحج لا يكفرها إلا بذلك.
وكل ما تقدم محله إذا لم تتدخل مشيئة الله، فإن تدخلت غفر الله كل شىء من الذنوب يقع من العبد ما عدا الإِشراك بالله كَما قال سبحانه {إن اللَّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 116،. وعلى هذا، فالرجل الذى يفعل المعاصى اعتمادا على أن الحج يكفرها - لا يجوز له أن يرتكن على الحديث المذكور، ولا أن يرتكن على مشيئة الله الذى يغفر الذنوب جميعا، فربما لا يكون هو ممن يشاء الله المغفرة لهم " المواهب ج 1 ص 338 وابن تيمية ج 18 ص 141 وحاشية عوض على الخطيب ج 1 ص 216"(9/308)
طواف الوداع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كنت مريضا فى الحج وتحتم سفرى فسافرت ولم أطف طواف الوداع فهل حجى صحيح وهل من السنة ما يفعله الناس بعد الطواف من خروجهم من المسجد بظهورهم ووجوههم إلى الكعبة؟
الجواب
من الذوق إذا زار الإنسان أخاه وأراد أن يفارقه أن يثنى عليه لكرم استقباله وضيافته، كما يثنى عليه أخوه ويشكره لزيارته، ومن أدب الإسلام إذا دخل الإنسان مجلس قوم أن يسلم عليهم، فإذا فارقهم سلم عليهم أيضا، فليست الأولى بأحق من الآخرة، كما ثبت فى الحديث الذى رواه الترمذى.
والزائر لبيت الله زائر لربه، وقد لقى منه أثناء الزيارة نفحات وبركات، فليس من اللائق أن يفارق البيت دون عمل شيء يدل على تأثره لمفارقته، وكما حيا البيت عند دخول المسجد بطواف القدوم فلتكن تحيته عند مفارقته بالطواف الذى يطلق عليه طواف الوداع.
وهو يكون عند العزم على مغادرة البيت مغادرة نهائية لا وقتية، بحيث لا يمكث بعده قى مكة إلا لقدر ما يعد للسفر إعدادا سريعا.
واتفق العلماء على أن طواف الوداع مطلوب لما رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون فى كل وجه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم "لا ينفر أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت " وروى مالك فى الموطأ عن عمر رضى الله عنه قال: آخر النسك الطواف بالبيت.
لكن ما هى درجة طلبه؟ قال الشافعى وأبو حنيفة وأحمد إنه واجب، يلزم بتركه دم، وقال مالك: إنه سنة لا يجب بتركه شيء، وهو قول للشافعى.
ومهما يكن من درجة طلبه فإن المرأة إذا كانت حائضا يسقط عنها، لما رواه البخارى ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت. وفى رواية: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.
ونقول لصاحب السؤال: إن أخذت برأى الجمهور وجب عليك ذبح شاة، فإن لم تجد فعليك صيام عشرة أيام فى بلدك ما دمت قد غادرت الحرم، وإن أخذت برأى مالك فليس عليك شيء، ولا حرج عليك، وحجك صحيح إن شاء الله.
أما ما يفعله بعض الناس من الخروج بظهورهم فلم يرد شيء عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، وإنما هو عرف فى الأدب، عند بعض الناس، لا نستطيع أن نحكم عليه بالحرمة، إلا إذا كان فيه إيذاء للغير، أو تعريض نفسه للأذى، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار، كما ورد فى الحديث الذى رواه مالك وابن ماجه والدارقطنى بإسناد حسن، والذى يسن بعد الطواف هو أن يقف الطائف عند الملتزم ويدعو ربه بالرضا عنه وبالعافية والصحة والعصمة وحسن المنقلب والتوفيق للطاعة، وبألا تكون هذه المرة هى آخر العهد بالبيت(9/309)
الإطعام بدل الصوم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
معلوم أن المتمتع - وهو الذى يحرم بالعمرة فى أشهر الحج عليه هدى، فإن لم يجد صام عشرة أيام، فهل يجوز له أن يطعم بدل الصيام؟
الجواب
إن الفدية الواجبة للتمتع مقدرة مرتبة وليست مخيرة، فلا يجوز له العدول عن الواجب إلا إذا عجز منه، والقرآن الكريم نص على أن المتمتع يجب عليه الهدى، فإن عجز وجب عليه الصيام. ولم يأت نص فى القران أو السنة على بديل للهدى والصيام قال تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} البقر: 196.
فإذا كان قادرا على الصوم فلا يجوز له الإطعام، كالقادر على صيام رمضان لا يجوز له أن يطعم، أما إن كان عاجزا عن الصوم لكبر سن أو لمرض لا يرجى برؤه، فيقاس على من عجز عن صيام رمضان، ويطعم عن كل يوم مسكينا، فإن مات ولم يطعم وكان قادرا على الإطعام، وجب الإطعام من تركته، لأنه دين يقدم على الميراث. أما إذا لم يكن قادرا على الإطعام فلا شىء عليه "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" ولا يلزم ورثته بشىء لأنه مات فقيرا ولا ميراث له، ولا يقاس على من مات وعليه صيام لأن الذى عليه هو الإطعام وليس الصيام.
مع أن الذى مات وعليه صيام لا يوجد نص بالإطعام عنه.
والقادر على الصيام ولم يصم حتى مات مات عاصيا، يقاس على من مات وعليه صيام من رمضان، لأن كلا من الصيامين وجب الشرع، فذهب بعض الفقهاء، ومنهم أبو حنيفة وأحمد ومالك والشافعى فى المشهور عنه إلى أن وليه لا يصوم عنه، بل يطعم عن كل يوم مسكينا، والمذهب المختار عند الشافعية، أنه يستحب لوليه أن يصوم عنه ويبرأ به الميت ولا يحتاج إلى طعام عنه، ولا يصح أن يصوم الأجنبى عنه بدون إذن الولى، فقد روى البخارى وأحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "من مات وعليه صيام صام عنه وليه ".
وفى رواية للبزار زيادة "إن شاء " وسندها حسن. وروى أحمد وأصحاب السنن أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم إن أمى ماتت وعليها صيام شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال: "لو كان على أمك دين أكنت قاضيه "؟ قال نعم، قال: "فدين الله أحق أن يقض ".
وهذا القول هو الصحيح المختار كما قال النووى، لأنه حكم ورد فيه دليل، أما الرأى الاَخر فليس عليه دليل منصوص.
جاء فى المغنى لابن قدامة"ج 3 ص 509"ما نصه: ومن لزمه صوم التمتع فمات قبل أن يأتى به لعذر منعه عن الصيام فلا شيء عليه، وإن كان لغير عذر أطعم عنه كما يطعم عن صوم أيام من رمضان، ولأنه صوم وجب بأصل الشرع أشبه صوم رمضان(9/310)
تغيير نية الإحرام فى الحج والعمرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
خرجت من البلد ناويا الإحرام بالحج مفردا لأننى سأتوجه إلى مكة مباشرة من ميناء جدة أو من المطار، ووجدت صعوبة فى التزامى بالإحرام حتى أقف بعرفة وأكون فى منى يوم العيد، فهل يجوز لى أن أغير نية للإحرام من الإفراد بالحج إلى التمتع بأداء العمرة أولا، ثم أحرم بالحج من مكة، أو لا يجوز؟
الجواب
من المعلوم أن الحج والعمرة يؤديان على كيفيات ثلاث، الأولى التمتع بأن يحرم الإنسان بالعمرة أولا، وبعد أن ينتهى من أعمالها يحرم بالحج، وفى هذه الحالة يجب عليه الهدى، والثانية القِران بأن يحرم بالحج والعمرة معا، ويكون الطواف والسعى جهدا واحدا مغنيا عن التكرار، وفى هذه الحالة يجب الهدى، والثالثة الإفراد، بأن يحرم بالحج فقط، وبعد الانتهاء من أعماله يحرم بالعمرة وفى هذه الحالة لا يجب هدى.
ومعلوم أن الإنسان عندما يحرم يلتزم بواجبات الإحرام ويمتنع عن المحظورات المعروفة، وهو فى الغالب يختار من الأحوال الثلاثة ما يشاء. فلو أراد أن يغير نية الإحرام بعد ما أحرم لعذر أو لغير عذر، فهل يجوز له ذلك؟ .
اتفق العلماء على أنه إذا لم يجاوز الميقات يجوز له تغيير النية حيث لم يشرع فى شىء عملى من أعمال الحج والعمرة، أما بعد تجاوز الميقات فقال بعض العلماء: لا وأجاز بعضهم التغيير للنبة حتى بعد تجاوز الميقات، واستدلوا على ذلك بما حصل للنبى صلى الله عليه وسلم "ومن معه فى حجة الوداع، على الخلاف فى أنه كان مفردا أو قارنا أو متمتعا كما جاء فى عبارة جابر فى رواية مسلم أنهم أهَلُّوا مع رسول اللَّه وقال: لسنا نرى إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، ولكن بعد انتهاء الرسول من الطواف والسعى قال " لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فَلْيُحِلَّ ولْيجعلها عمرة " فقام سراقة بن مالك بن جعشم وقال: يا رسول اللَّه، أَلِعَامِنَا هذا أم لأبد؟ فقال " بل لأبد أبد ".
وهذا ما يطهر ترجيحه لوجود النص على ذلك ولو مع عدم قطعية الدلالة، وعليه فيجوز تغيير نية الإحرام ولو جاوز الميقات(9/311)
الحج والعذر الشهرى للمرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سيدة فاجأتها الدورة أثناء الإحرام بالحج أو العمرة، فماذا تفعل؟
الجواب
ثبت فى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهى تبكى، فقال " أنُفِسْتِ "؟ يعنى هل جاءتك الحيضة فقالت: نعم، قال " إن هذا شىء كتبه اللَّه على بنات آدم، فاقض ما يقض الحاج، غير ألا تطوفى بالبيت حتى تغتسلى " رواه البخارى ومسلم.
هذا تصريح من النبى صلى الله عليه وسلم أن كل أعمال الحج يجوز أن تقوم بها المرأة وهى حائض، ماعدا الطواف. لأنه أولا كالصلاة يشترط لكل منهما الطهارة من الجنابة بالذات، وثانيا كونه فى المسجد، وممنوع عليها المكث فيه.
فلها أن تقف بعرفة وترمى الجمرات، بل لها أن تسعى بين الصفا والمروة إن فاجأها بعد الانتهاء من الطواف، والذى تمنع منه صاحبة العذر الشهرى هو الصلاة والطواف وقراءة القرآن والمكث فى المسجد ومس المصحف وحمله. أما الذكر والدعاء ومنه التلبية والتكبير فلا يحرم شىء منه عليها.
وجمهور العلماء على أن الطهارة من الحدث شرط لصحة الطواف وقال أبو حنيفة إنها ليست شرطا، فلو طاف الإنسان وعليه نجاسة أو كان محدثا ولو حدثا أكبر صح طوافه وإن حرم عليه دخول المسجد، واختلف أصحابه فى كون الطهارة واجبة مع اتفاقهم على أنها ليست بشرط، فمنهم من أوجبها وقالوا: إن طاف محدثا لزمه شاة وإن طاف جنبا لزمه بدنة، وقالوا: ويعيد ما دام فى مكة، وعن أحمد بن حنبل روايتان، إحداهما كمذهب الشافعى ومالك، والثانية إن أقام بمكة أعاده، وإن عاد إلى بلده جُبِرَ بدم.
واحتج أبو حنيفة وموافقوه قى عدم اشتراط الطهارة بقوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} وهذا يتناول الطواف بلا طهارة، قياسا على الوقوف بعرفة وسائر أركان الحج، واحتج غيرهم بحديث عائشة السابق، وبأن قول النبى صلى الله عليه وسلم " لتأخذوا عنى مناسككم " بيان للطواف المجمل فى القرآن، وقد منع عائشة من الطواف حتى تغتسل وجاء فى نيل الأوطار للشوكانى "ج هـ ص 120 طبعه بيروت " روى عن عطاء: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدا ثم حاضت أجزأ عنها، وهو مذكور فى فتاوى ابن تيمية "ج 26 ص 08 2 " الذى ناقش هذا الموضوع بتوسع وقال:
إن الطهارة شرط فى صحة الطواف على رأى الشافعى ومالك ورواية لأحمد، وليست شرطا فى الرواية الأخرى وعند أبى حنيفة، وقال: إن هذا قول أكثر السلف وهو الصواب "ج 26 ص 211 ".
ومما قال "ج 26 ص 221 ": تنازع العلماء فى الطهارة هل هى شرط فى صحة الطواف كالصلاة أم هى واجبة إذا تركها جبر بدم كترك الإحرام من الميقات؟ على قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد، أشهرهما عنه وهى مذهب مالك والشافعى أن الطهارة شرط فيها، فإذا طاف جنبا أو محدثا، أو حائضا ناسيا أو جاهلا ثم علم - أعاد الطواف -والثانى أنه واجب. فإذا فعل ذلك جبره بدم.
لكن عند أبى حنيفة: الجنب والحائض عليه بدنة، والمحدث عليه شاة، وأما أحمد فأوجب دما ولم يعين.
وأرى أن العذر الشهرى لو فاجأ المرأة أو كان واقعا، لها أن تغتسل ثم تحرم وتلبى، وتلتزم بكل واجبات الإحرام حتى ينتهى العزر فتغتسل ثم تطوف، وإن انتهت من أعمال الحج وبقى عليها الطواف وأرادت أن تسافر فإن أمكن تأجيل السفر حتى تتطهر وتغتسل فالأولى الانتظار حتى تتطهر وتطوف، أما إذا ضاق الوقت وتقرر موعد السفر وكانت هناك مشقة فى التخلف، فلها أن تتطهر-على الرغم من وجود العزر- وتطوف، وعليها ذبح بدنة أى جمل، أو ذبح شاة.
وفى الفتاوى الإسلامية " المجلد 8 ص 2927" أجاز بعض الحنابلة والشافعية دخولها المسجد بعد إحكام العصب والغسل، وتطوف دون فدية، لعلة الاضطرار للسفر، وهو عزر شرعى.
وهذا كله فى الطواف المفروض وهو طواف الإفاضة أو الزيارة الذى يكون بعد الوقوف بعرفة، أما طواف القدوم فهو سنة: وكذلك طواف الوداع الأخير غير مفروض على الحائض والنفساء، فقد قال ابن عباس رضى الله عنهما، كما رواه البخارى: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.
هذا، ولا مانع من تعاطى أدوية تمنع الدم حتى يتم لها نسكها وهى طاهرة فقد روى سعيد بن منصور عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أنه سئل عن ذلك فلم يربه بأسا، ووصف لهن ماء الأراك. وقال محب الدين الطبرى: إذا اعْتُدَّ بارتفاع الدم فى هذه الصورة اعْتُدَّ بارتفاعه فى انقضاء العدة وسائر الصور، وكذلك فى شرب دواء يجلب الحيض إلحاقًا له(9/312)
الأضحية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الأصل في مشروعية الأضحية، وهل هى واجبة أو سنة، وما هى مواصفات ما يضحى به، وهل صحيح أنه يمكن أن يضحي بديك؟
الجواب
كلمة الأضحية فيها أربع لغات:
1 -أُضحية، بضم الهمزة مع تخفيف الياء وتشديدها.
ب -إِضحية، بكسر الهمزة، مع تخفيف الياء وتشديدها، وجمعها أضاحي بتخفيف الياء وتشديدها.
ب -ضحية، على وزن فعيلة، وجمعها ضحايا.
د - أضحاة، وجمعها أضحَى، مثل: أرْطاة وأرْطى. وبها سُمَي يوم الأضحى. وسميت الذبيحة بذلك لأنها تذبح وقت الضحى وهو ارتفاع النهار قال النووي: في الأضحى لغتان، التذكير لغة قيس والتأنيث لغة تميم.
2 - والأضحية في الشرع اسم لما يذبح من الإبل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق تقربًا إلى اللَّه تعالى، فما يذبح من غير هذه الأنواع لا يسمى أضحية، وما يذبح منها في غير هذه الأيام لا يسمى أيضًا أضحية، وما يذبح في هذه الأيام لغير التقرب إلى اللَّه لا يسمى أيضًا أضحية.
3 -تقديم القرابين إلى الآلهة قديم، واللَّه سبحانه يقول في هابيل وقابيل، ولدي آدم {واتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر} المائدة: 27، ويقول عن اليهود {الذين قالوا إن اللَّه عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى بأتينا بقربان تأكله النار} آل عمران:
183.
يقول المفسرون: إن توأمة قابيل التي ولدت معه في بطن واحد واسمها إقليمياء كانت جميلة، أما توأمة هابيل واسمها ليوذا فكانت غير جميلة، وكان من شريعة آدم تزويج الأخت من بطن إلى الأخ من بطن آخر فحسد قابيل أخاه هابيل وأراد أن يستأثر بتوأمته الجميلة، وأمره أبوه فلم يأتمر، فاتفقوا على تقريب القربان، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل، وقربان هابيل كبشا، فتتبل الله قربان هابيل، وقالوا: إن الكبش رفع إلى الجنة حتى فدى الله به الذبيح إسماعيل عليه السلام قاله سعيد بن جبير وغيره والله أعلم بصحة ذلك "تفسر القرطبي ج 6 ص 133، 134".
وظل تقديم القربان معروفًا عند اليهود لتصديق أي نبي يرسل إليهم، حتى نسخ على لسان عيسى بن مريم، كما ذكره القرطبي "ج 4 ص 296".
يقول المؤرخون: كانت القرابين بالحيوانات ثم تعدى ذلك إلى تقديم الإنسان قربانًا ولعل رؤيا إبراهيم أن يذبح ولده إسماعيل صورة من ذلك. قال تعالى {فلما بلغ معه السعى قال يا بنى إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} إلى أن قال {وفديناه بذبح عظيم} الصافات: 102 -107، كما عرف التقرب بذبح الإنسان عند العرب قبل الإسلام، وفي التاريخ أن عبد المطلب نذر إن رزقه الله بعشرة من الأولاد ليذبحن ولدًا منهم، فوقعت القرعة على ولده عبد اللَّه والد النبي صلى الله عليه وسلم فمنعته قريش من ذبحه حتى لا يكون ذلك سنة متبعة، وانتهى الأمر بفدائه بمائة من الإبل، وروى الحاكم عن معاوية أن أعرابيًا قال للرسول صلى الله عليه وسلم "يا ابن الذبيحين " فتبسم ولم ينكر عليه، والذبيحان هما إسماعيل بن إبراهيم وعبد الله بن عبد المطلب.
وفي مصر القديمة كان بعض الرؤساء يضحى بزوجاته أو عبيده، وتكسر الحراب والسهام عند قبره، حتى يذهب إلى الآخرة طاهرًا بغير سلاح ولا أتباع. وتدفن معه نماذج من البيت والدكان والخدم والماشية، ثم اختفت القرابين البشرية لتحل محلها القرابين الحيوانية أو الدمى المصنوعة من الخنزير وأسطورة تقديم عروس النيل قربانًا عند فيضانه صورة من صور التقدم للآلهة بالإنسان. ومثل مصر في ذلك مناطق الأنهار في سومر والعراق والصين والهند وفي القرن السادس قبل الميلاد ظهر بوذا في الهند وكونفوشيوس في الصين فاقتصرت القرابين على الحيوانات، ولم تختف القرابين البشرية تماما، فكان في روما موكب بشرى دام قدمت فيه روما فريقا من أطهر شبابها فداء للآلهة عندما اجتاح " الغال " جنوبي إيطاليا، وذلك قبل ميلاد المسيح بقرنين ونصف القرن.
وقدم اليهود القرابين لله شكرًا واستغفار في احتفال مهيب بالمعبد بإشراف الكهان للأله "يهوه " وكان يوم السبت - الإجازة - يشهد احتفالاً عظيمًا لذلك، وكانت اليهودية حتى عهد الانقسام دين خوف ورعب، فقدمت الأضاحي من البشر، حيث قدم الملك " آخاذ" ابنه قربانًا لله، ثم غير الكهنة القرابين بتضحية الإنسان بجزء منه، وذلك بعملية "الختان " فذلك كاف لإرضاء الإله، ثم تطور القربان إلى الحيوان والنبات ببركة الكهان، والأناجيل مملوءة بأخبار التضحية، كهابيل وقابيل، وكذلك تقديم "يفتاح " ابنته محرقة قربانا ""سفر القضاة: 20 - 40 " وصلب المسيح عندهم أعظم تضيحة، ويرمز لها الآن بالحمل المقدم لذلك، والقربان المقدس عند الكاثوليك والأرثوذكس قرص من الدقيق الصافي، كما توجد قرابين مثل الشموع والتماثيل.
وفي الجاهلية العربية كانت الأنعام تهدى إلى الكعبة وتذبح باسم الآلهة، وقد يلطخون أحجارها بدمائها، -وتعلق قلائد في رقاب الهدى تمييزا لها قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللَّه ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد} المائدة: 2، والشعائر- على قول - جمع شعيرة، وهي البدنة التى تهدى إلى الكعبة وإشعارها أن يُجَزَّ سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنه هدى. وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فانزل اللَّه {لا تحلوا شعائر الله} والقلائد هي كل ما يعلق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة على أنه لله سبحانه وتعالى، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام "القرطبي ج 6 ص 40 ".
4 - بعد هذه المقدمة التاريخية نقول: إن الإسلام أقر مبدأ التقرب إلى اللَّه بذبح الأنعام ونظمه تنظيمًا دقيقًا، وحكمة مشروعيتها تتلخص في ناحيتين،ناحية تاريخية وهي تخليد ذكرى فداء إبراهيم لابنه إسماعيل عليهما السلام،. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث رواه أحمد وابن ماجه والترمذى عن زيد بن أرقم أنه قيل يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال "سنة أبيكم إبراهيم " قيل: ما لنا منها؟ قال "بكل شعرة حسنة" قال:
فالصوف؟ قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة".
والناحية الثانية اجتماعية، وهي إطعام الطعام والتوسعة على الفقراء بمناسبة العيد، والأصل فيه نفع أهل مكة والوافدين لأداء المناسك، قال تعالى {ولكل أمة جعلنا منسكا} - مكانا للعيادة الجماعية - {ليذكروا اسم اللَّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} الحج: 34، وقال {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} الحج: 27، 28.
أما الذين لا يشهدون موسم الحج فالأضاحي بالنسبة إليهم مع سنة إبراهيم توسعة على الفقراء وإشاعة للفرح والسرور، إلى جانب ما يرجى من الثواب على ذلك.
5 - الدليل على مشروعيتها في الإسلام: القرآن والسنة والإجماع، فمن القرآن قوله تعالى {إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر} وهذا على رأى من يقول: إن السورة مدنية، حيث إن صلاتى العيدين شرعتا بعد الهجرة، وهو رأى الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة. فأمر الله رسوله أن يجعل النحر بعد الصلاة، حيث كان ينحر أولا ثم يصلي كما قال أنس - القرطبي ج 20 ص 218 -وقيل: نزلت السورة بالحديبية، حين حصر النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول مكة، فأمره اللَّه أن يصلي وينحر البدن ثم ينصرف وذلك قول سعيد بن جبير.
أما من يقول: إن السورة مكية فلا تدل على مشروعية الأضحية، حيث لم يفرض الحج ولم تشرع الأضحية إلا بعد الهجرة من مكة، وما هو الارتباط بين إعطاء الله لرسوله الكوثر وهو النبوة أو النهر العظيم في الجنة أو الخير الكثير- وبين صلاة وذبح بعدها؟ لقد قيل: إنها نزلت لما عير مشركو مكة رسول الله بوفاة ابنه وسمو "الأبتر" أي المقطوع من الولد، عزاه اللَّه بأن أعطله خيرًا من الولد وهو الكوثر، فلا تتأثر بما يقولون وأجعل عبادتك لله وحده، وذبحك للأنعام والذبائح للَّه وحده، لا كما يفعل المشركون من عبادة غير اللَّه والذبح للآلهة والأصنام، والمعنى: دُمْ يا محمد على دعوتك وعلى طاعتك للَّه وحده، ومن يعيبك بالأبتر فهو الأبتر المقطوع عن رحمة اللَّه، وهذا الرأي عندي هو المقبول، وقد قال محمد بن كعب القرظي في تفسير السورة إن ناسًا يصلون لغير اللَّه وينحرون لغير الله؟ وقد أعطيناك الكوثر فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله، قال ابن العربي: والذي عندي أنه أراد: اعبد ربك وانحر له، فلا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر، وبالحرى - أي الأحرى والأجدر-أن يكون جميع العمل يوازى هذه الخصوصية من الكوثر، وهو الخير الكثير الذي أعطاكه اللَّه، أو النهر الذي طينه مسك وعدد آنيته نجوم السماء. أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر وذبح كبش أو بقرة أو بدنة فذلك يبعد في التقدير والتدبير وموازنة الثواب للعبادة "تفسير القرطبي " ومن هنا فالاستدلال بهذه السورة على مشروعية الأضحية. ليس قويًّا.
من أدلة السنة على مشروعيتها: ما رواه البخاري ومسلم عن أنس قال:
ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما والأملح الذي بياضه أكثر من سواده وقال: هو النقي البياض، والأقرن ماله قرنان، والصفاح جمع صفحة، وصفحة كل شيء وجهه وناحيته. وكذلك من الأدلة ما جاء في بيان فضلها وتحديد وقتها وقد انعقد الإجماع على مشروعيتها.
6 -حكمها، بعد بيان أن الأضحية مشروعة وليست منوعة: فما هي درجة هذه المشروعية؟ هل هي الوجوب أو الندب؟ ومعلوم أن الوجوب يترتب عليه ثواب على الفعل وعقاب على الترك، وأن الندب يترتب عليه ثواب على الفعل وعدم عقاب على الترك.
قال جمهور الفقهاء: إنها سنة غير واجبة، قال النووي "شرح صحيح مسلم ج 13 ص 110"واختلف العلماء في وجوب الأضحية على الموسر، فقال جمهورهم: هي سنة في حقه، إن تركها بلا عذر لم يأثم، ولم يلزمه القضاء، وممن قال بهذا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبلال وأبو مسعود البدرى وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني وابن المنذر وداود وغيرهم. وقال ربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة والليث:
هي واجبة على الموسر، وبه قال بعض المالكية. وقال النخعي: واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى، وقال محمد بن الحسن: واجبة على المقيم بالأمصار، والمشهور عن أبي حنيفة أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصابا واللَّه أعلم.
والقائلون بالوجوب استدلوا باية، {فصل لربك وانحر} حيث قالوا: إن الأمر للوجوب، وأجيب عنه بأن الآية ليست نصا في الأضحية كما تقدم ذكره، فهى عامة لكل عبادة يجب أن تكون لله وحده، ومن أدلة القائلين بأنها سنة: ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر قال: صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، فقال "بسم الله واللَّه أكبر، اللهم هذا عنى وعمن لم يضح من أمتى " وما رواه أحمد والبزار بإسناد حسن عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول: اللهم هذا عن أمتى جميعًا، من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعًا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحى، قد كفاه الله المئونة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم.
ومن الأدلة أيضًا على أنها سنة وليست واجبة ما أخرجه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا "أمرت بركعتي الضحى ولم تؤمروا بها، وأمرت بالأضحى ولم تكتب عليكم " وأخرجه أيضًا البزار وابن عدى والحاكم عنه بلفظ "ثلاث هن على فرائض ولكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الضحى" وهو ضعيف.
وأجاب الجمهور: على الحديث الذي احتج به القائلون بوجوب الأضحية، وهو ما رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" بأن هذا الحديث -كما قال في الفتح - ليس صريحًا في الإيجاب، مثله في ذلك مثل أحاديث ستأتي في بيان وقت الذبح وأن من ذبح قبل دخول الوقت أعاد الذبح مرة أخرى.
7 - والأضحية سنة مؤكدة على الكفاية إذا تعدد أهل البيت، فإذا قام بها واحد منهم كفى عن الجميع، فإن لم يتعدد أهل البيت كانت سنة عين،ولابد أن تكون فاضلة عما يحتاجه في يومه وليلته وكسوة فصله -أي الشتاء والصيف -كما في صدقة التطوع وينبغي أن تكون فاضلة عن يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة فإنها وقتها، كما أن يوم العيد وليلة العيد وقت زكاة الفطر.
والتضحية أفضل من صدقة التطوع للاختلاف في وجوبها، وقال الشافعي:
لا أرخص في تركها لمن قدر عليها، فيكره للقادر تركها، وسيأتي مزيد توضيح للقدرة عليها.
والأضحية قد تكون واجبة بالنذر لحديث "من نذر أن يطيع الله فليطعه " رواه البخاري ومسلم ولقوله تعالى {وليوفوا نذورهم} الحج: 29، وحتى لو مات الناذر فإنه تجوز النيابة فيما عينه بنذره قبل موته، وعند مالك إذا اشتراها ونيته الأضحية وجبت.
8-ورد في فضلها أحاديث كثيرة، منها: ما رواه الترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى اللَّه من إهراق الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من اللَّه بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا" وما سبق ذكره من حديث زيد بن أرقم في حكمة الأضحية، وكذلك حديث أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" قال الحافظ في "بلوغ المرام " رجح الأئمة غيره وقفه، يعني ليس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفتح: رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب.
وحديث الدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا "ما أُنفقت الورق - العملة الفضية- في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد " وأما حديث الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي اللَّه عنها: "قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة منها يغفر لك ما سلف من ذنوبك " فهو منكر، وكذلك حديث الطبراني "من ضحى طيبة بها نفسه محتسبا بأضحيته كانت له حجابا من النار" ففي سنده كذاب.
9 -أما الوقت الشرعي لذبحها، فقد وردت فيه عدة نصوص، منها ما رواه البخاري ومسلم من حديث جندب قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم ذبح: فقال "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله " وما روياه أيضًا من حديث البراء بن عازب الذي ذبح خاله أبو بردة قبل الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم "من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين " وفي رواية لمسلم عن البراء بن عازب " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء ".
قال النووي: في شرح صحيح مسلم "ج 13 ص 110 ": وأما وقت الأضحية فينبغي أن يذبحها بعد صلاته مع الإمام، وحينئذ تجزيه بالإجماع، قال ابن المنذر: وأجمعوا أنها لا تجوز قبل طلوع الفجر يوم النحر، واختلفوا فيما بعد ذلك، فقال الشافعي وداود وابن المنذر وآخرون: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين فإن ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواء صلى الإمام أم لا، وسواء صلى الضحى أو لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو من أهل القرى والبوادى والمسافرين، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا، وقال عطاء وأبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني - الصادق - ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلى الإمام ويخطب، فإن ذبح قبل ذلك لم يجزه، وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه، وقال أحمد: لا يجوز قبل صلاة الإمام، ويجوز بعدها قبل ذبح الإمام وسواء عنده أهل الأمصار والقرى، وجاء نحوه عن الحسن والأوزاعي وإسحاق بن راهوية، وقال الثوري: لا يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفى أثنائها وقال ربيعة فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لا يجزيه، وبعد طلوعها يجزيه 10 هـ.
ومن هذا يعلم أن الذين يذبحون يوم عرفة أو ليلة العيد قبل الفجر لا يقع ذبحهم عن الأضحية المشروعة، أما آخر وقت الأضحية فهو متسع، قال الشافعي: تجوز التضحية في يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة بعده، وممن قال بهذا على بن أبي طالب وجبير بن مطعم وابن عباس وعطاء والحسن البصرى وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسدى فقيه أهل الشام، ومكحول وداود الطاهرى وغيرهم.
وقال أبو حنيفة وأحمد: تختص بيوم النحر ويومين بعده، وروى هذا عن عمر بن الخطاب وعلى وابن عمر وأنس رضى الله عنهم، وقال سعيد بن جبير: تجوز لأهل الأمصار يوم النحر خاصة، ولأهل القرى يوم النحر وأيام التشريق. وقال محمد بن سيرين: لا تجوز لأحد إلا فى يوم النحر خاصة، وحكى القاضى عن بعض العلماء أنها تجوز فى جميع ذى الحجة واختلفوا فى جواز الذبح فى هذه المواقيت، فقال الشافعى: تجوز ليلا مع الكراهة، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور والجمهور، وقال مالك فى المشهور عنه وعامة أصحابه ورواية عن أحمد: لا تجزيه فى الليل بل تكون شاة لحم.
من هذا نرى أن تحديد مبدأ الوقت لجواز الأضحية مستند إلى أحاديث ثابتة، مع الاختلاف فى فهم بعضها، أما تحديد نهاية الوقت فهو مبنى على الاجتهاد المحض، وإن كان المعقول أنه يستمر يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة، لأنها أيام الأكل والشرب والفرح بالعيد كالذين يبيتون فى منى وينحرون الهدى.
وأما ما ورد عن جبير بن مطعم مرفوعا " كل أيام التشريق ذبح " ورواه أحمد والدارقطنى فهو ضعيف وقيل موضوع، وكذلك اختلافهم فى الذبح نهارا أو ليلا لا دليل يعتمد عليه، وما أخرجه الطبرانى من النهى عن الذبح ليلا فى إسناده متروك أو هو مرسل.
هذا، وقد سبق فى البند السابع أن الخلاف فى وجوبها أو ندبها إنما هو بالنسبة للقادر عليها، وجاء فى فقه المذاهب الأربعة:
أن الحنفية قالوا: القادر عليها هو الذي يملك مائتي درهم، أو يملك عرضا يساوى مائتي درهم يزيد عن مسكنه، وثياب اللبس والمتاع الذي يحتاجه.
وإن كان له عقار يستغله تلزمه الأضحية إذا دخل له منه قوت عامه، وزاد معه النصاب المذكور وقيل: تلزمه إذا دخل منه قوت شهر وإن كان العقار وقفا تلزمه الأضحية إن دخل له منه قيمة النصاب وقتها.
والحنابلة قالوا: القادر عليها هو الذي يمكنه الحصول على ثمنها ولو بالدين إذا كان يقدر على وفائه.
والمالكية قالوا: القادر عليها هو الذي لا يحتاج إلى ثمنها لأمر ضروري في عامه، فإذا احتاج إلى ثمنها في عامه فلا تسن، وإذا استطاع أن يستدين استدان، وقيل: لا يستدين.
والشافعية قالوا: القادر عليها هو الذي يملك ثمنها زائدًا عن حاجته وحاجة من يعول يوم العيد وأيام التشريق، ومن الحاجة ما جرت به العادة من كعك وسمك وفطير ونقل ونحو ذلك. "ص 208 ".
10 -ما يضحى به: الذي يضحي به هو الإبل والبقر والغم، قال النووي "شرح صحيح مسلم ج 13 ص 117" وأجمع العلماء على أنه لا تجزى الضحية بغير الإبل والبقر والغنم، إلا ما حكاه ابن المنذر عن الحسن صالح أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة وبالظبي عن واحد وبه قال داود في بقرة الوحش فلا يجزئ غير ذلك من أي حيوان، كما لا يجزى شراء لحم والتصدق به على أنه ضحية، ومثله الحيوانات المجمدة واللحوم المعلبة، لأنها ذبحت قبل موعد ذبحها، وكانت في غير ملك من يشتريها ليضحى بها، وما ورد عن بلال أنه قال: ما أبالي ألا أضحى إلا بديك، ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه أحب إلى من أن أضحى به. فذلك محمول على أن البعض كان يرى أن التصدق بثمن الأضحية أفضل من ذبحها وبذلك قال الشعبي وهو قول لمالك وأبي ثور "القرطبي ج 15 ص 107 " فالقول لراجح أن الأضحية أفصل من التصدق بثمنها، لأنها سنة مؤكدة وردت النصوص بفضلها.
وكذلك ما ورد من أن البعض من الصحابة أو السلف كان يشتري لحمًا ويضحى به لا يعني أن اللحم يغنى في الآخر والثواب عن الأضحية، أو يسد مسدها في أنها واجبة. وأنما ذلك كان بقصد تعريف الناس أن الأضحية ليست بواجبة محتمة، بل هي سنة اختيارية، قال عكرمة: كان ابن عباس يبعثنى يوم الأضحى بدرهمين، أشترى له لحمًا، ويقول من لقيت فقل: هذه أضحية ابن عباس جاء في تفسير القرطبي "ج 15 ص 108 " أن ما روى عن ابن عباس وعن أبي بكر وعمر من ذلك يقصد به عدم المواظبة على الأضحية حتى لا يعتقد العامة أنها واجبة مفروضة، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم، لأنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم.
لكن أي سن وأى شكل تكون عليه الضحية من الإبل والبقر والغنم، وما القدر الكافى منها؟ وردت عدة أحاديث تحدد السن والأوصاف التي تمنع من قبول الأضحية، منها حديث مسلم وغيره "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعه من الضأن " وحديث مسلم أن جذعه المعز لا تجزىء، وحديث أحمد وأصحاب السنن في النهى عن التضحية بأعضب القرن والأذن، وفي عدم التضحية بالعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضَلَعُها، والكسير التي لا تنقى، والمقابلة والمدابرة والشرقاء والحرقاء، وحديث أحمد وأبى داود في النهى عن المصْفرة، والمستأصلة والبخقاء والمشيَّعة.
وقالوا في تفسير ذلك: المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم لها سنتان فأكثر والجذع من الضأن ما له سنة تامة، وهو الأشهر عن أهل اللغة وجمهور أهل العلم من غيرهم، وقيل: ما به ستة أشهر، وقيل سبعة، وقيل: ثمانية، وقيل عشرة وجذعه المعز لا تجزىء عند الجمهور، وتجوز عند عطاء والأوزاعي، وهو وجه لبعض الشافعية كما حكاه الرافعى.
وقال النووي: هو شاذ أو غلط.
وأعضب القرن والأذن، ما ذهب نصف قرنه أو أذنه، وذهب أبو حنيفة والشافعي والجمهور إلى أن الأضحية تجوز بمكسور القرن مطلقًا، وكرهه مالك إذا كان يدمى وجعله عيبا. فإذا استؤصل القرن كانت البهيمة مستأصلة، وإذا استؤصلت الأذن كانت مصفرة وقيل هي الهزيلة، والكسير أو الكسراء التي لا مخ لها، والبخقاء هى ذاهبة البصر أو القبيحة العور، والمشيعة هي الضعيفة التي تحتاج إلى من يشيعها، والمقابلة هى الشاة التي قطعت أذنها من قدام وتركت معلقة، والمدابرة هي التي قطعت أذنها من جانب، والشرقاء مشقوقة الأذن طولا، والحرقاء هى التي في أذنها خرق مستدير.
كما جاء حديث أحمد بجواز التضحية بالخصى. ويبدو لى من كلام الفقهاء أن هذه العيوب تؤثر على اللحم إذا عينت الأضحية المعيبة قبل وقت ذبحها بزمن طويل، فعيوبها تمنعها من الرعى أو تناول الطعام أو النمو كما تنمو الحيوانات السليمة من هذه العيوب، وعدم قبولها بسبب هذه العيوب يظهر في المنذورة التى ينبغي أن تكون جيدة اللحم، لكن لو طرأ عيب على شاة طيبة اللحم والشكل ثم ذبحت في ميعاد الأضحية فلماذا لا تقبل؟ ولذلك أرى تناقضات غريبة في كلام الفقهاء بسبب هذه العيوب فأى ضرر في قبول مقطوعة الأذن أو مشقوقتها مع أن ذلك لا يؤثر على اللحم مطلقًا حتى لو نذرت واستمرت زمنا طويلا قبلأن تذبح، وما معنى أن يرفض المالكية التضحية بالبكماء وهى فاقدة الصوت، وما دخل صوتها في لحمها، وما معنى أن يرفض الشافعية التضحية بما حصل لها عرج وقت ذبحها في حال قطع الحلقوم والمرىء، هذا وتصح الشاة من الضأن أو المعز عن شخص واحد، أو عن أسرة يعولها، وتكفى البقرة أو الناقة عن سبعة، وشرط الأحناف بلوغ الضأن سنة أو ستة أشهر مع وفرة اللحم، وفي المعز لابد من بلوغ سنة والدخول في الثانية، وفي البقر والجاموس اشترطوا بلوغ سنتين والدخول فى الثالثة، وفى الإبل بلوغ خمس سنين والدخول فى السادسة اشترط الشافعية في المعز بلوغ سنتين كاملتين.
11 -والأضحية إذا كانت منذورة لا يحل أكل شيء منها مطلقا، بل يتصدق بها جميعها، كما قال الأحناف والشافعية، ويجوز بل يسن الأكل منها عند الحنابلة، يؤكل الثلث ويهدى الثلث ويتصدق بالثلث، أما غير المنذورة فلا يجب الصدق بشيء منها بل يسن فقط.
عن أبي سعيد أن قتادة بن النعمان أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فقال "إني كنت أمرتكم ألا تأكلوا لحوم الأضاحى فوق ثلاثة أيام ليسعكم، وإني أحله لكم فكلوا ما شئتم، ولا تبيعوا لحوم الهدى والأضاحى، وكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها، وإن أطعمتم من لحومها شيئا فكلوا أني شئتم " رواه أحمد.
كان الرسول قد منعهم من ادخار لحوم الأضاحى، وألزمهم التصدق بها على المحتاجين الذين يفدون المدينة أيام العيد من أجل ذلك، ثم أجاز لهم أن يأكلوا ويدخروا لأولادهم منها. وجاءت في ذلك عدة أحاديث متفق على صحتها " نيل الأوطار ج 5 ص 134 " ولا يجوز بيع شيء من الأضحية حتى الجلد.
وهناك إرشادات عند ذبح الأضحية قال النووى فيها " شرح صحيح مسلم ج 13 ص 120 " يستحب أن يتولى الإنسان ذبح أضحيته بنفسه، ولا يوكل في ذبحها إلا لعذر وحينئذ يستحب أن يشهد ذبحها، وإن استناب فيها مسلما جاز بلا خلاف وإن استناب كتابيا كره كراهة تنزيه وأجزأه ووقعت الضحية عن الموكل، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا مالكا في إحدى الروايتين عنه فإنه لم يجوزها، ويجوز أن يستنيب صبيا أو امرأة حائضا.
ولكن يكره توكيل الصبى، وفى كراهة توكيل الحائض وجهان قال أصحابنا: الحائض أولى بالاستنابة من الصبى، والصبى أولى من الكتابى قال أصحابنا:
والأفضل لمن وكل أن يوكل مسلما فقيها بباب الذبائح والضحايا، لأنه أعرف بشروطها وسننها انتهى.
12- من الطرائف الأدبية عن خروف العيد، ما قاله محمد بن نصر الله الدمشقي الأنصاري:
أتاني خروف ما شككت بأنه * حليف هوى قد شفه الهجر والعذل إذا قام في شمس الظهيرة خلته * خيالا ترى من ظلمة ماله ظل فناشدته: ما يشتهي؟ قال: حلبة * وقاسمته: ما شاقه؟ قال لي: الأكل فأحضرتها خضراء مجاجة الثرى * مسلمة ما مس أوراقها الفتل فظل يراعيها بعين ضعيفة * وينشدها والدمع في العين منهل أتت وحياض الموت بيني وبينها * وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل ناشدته = طلبت منه أن يفصح لى عما يشتهيه، قاسمته = أقسمت عليه أن يبوح لى بما يشتاق إليه. الفتل = الذبول.
ومن مداعبات الشاعر الراحل الشيخ محمد الأسمر في خروف العيد:
إن كان ذو القرنين عندك حاضرا * فابعث به لنرى ضياء جبينه ولكى يجاوب أو يمأمئ مثله * في بيت جارى مأمآت قرينه وليطمئن الدائنون ويعلموا * أنى امرؤ يقضى جميع ديونه ونرده لك بعد ذلك سالما * بدمقس فروته وعاج قرونه وأنا الأمين عليه وهو بمنزلى * من كل جزار ومن سكينه 13 -هناك كلمات تتردد في هذا الموضوع ينبغي التنبة للفرق بينها، وهي:
1 - الهدى ما يتقرب به إلى اللَّه في الحرم من الإبل والبقر والغنم، وهو يكون تارة واجبا إذا كان منذورا، أو جزاء على فوات واجب أو ارتكاب منهى عنه، كما قاله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى} البقرة: 196، وتارة يكون مندوبا إذا كان تطوعا وليس جزاء على شيء.
2 - الفدية ما كانت في مقابل ارتكاب منهى عنه أو فوات واجب، وقد تكون ذبحا أو تصدقا أو صياما أو غير ذلك، قال تعالى {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} البقرة:
196، والمراد بالنسك الذبح وقال فيمن يشق عليهم الصيام {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} البقرة: 184.
3-الأضحية ما تذبح تقربا إلى الله بمناسبة عيد الأضحى(9/313)
المعتدة والحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أثناء استعدادى للسفر لأداء فريضة الحج توفى زوجى، فتابعت الإجراءات وسافرت، ولكن قيل لى: إن حجك غير صحيح، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
الكلام هنا فى نقطتين، الأولى فى شرط المحرم، والثانية فى حق الزوج، أما شرط المحرم مع المرأة فقد أجيب عنه، وقلنا: إذا كان الحج لأول مرة يمكن أن يكون معها زوج أو محرم أو رفقة مأمونة كما ذهب إليه الشافعية.
وأما حق الزوج فإن التى توفى زوجها يجب عليها أن تعتد، فإن انتهت عدتها بوضع الحمل أو بأربعة أشهر وعشرة أيام كان لها السفر دون حرج، أما إن تقرر سفرها قبل انتهاء العدة فقد تعلق بها واجبان، واجب الحج وواجب العدة، والآراء فى حل هذه المشكلة مختلفة، فالأئمة الأربعة قالوا: لا تخرج من عدتها ولا تسافر، فهى تعتبر غير مستطيعة، ولا يجب الحج على غير المستطيع، ويمكنها أن تحج فى عام آخر، حتى قال بعضهم: لو سافرت بالفعل ثم جاءها خبر وفاة زوجها عادت من سفرها إن لم تصل إلى الميقات، بدليل الحديث الذى رواه أصحاب السنن عن الفريعة بنت مالك أن أخت أبى سعيد الخدرى سألت النبى صلى الله عليه وسلم أن تترك بيت زوجها الذى مات فى سفر لتذهب إلى بيت أهلها فلم يأذن لها، وهو حديث صحيح قضى به عمر وعثمان والأكثرون.
وأجاز داود الظاهرى سفرها وهى فى العدة، وذلك لحديث عائشة رضى الله عنها أنها خرجت بأختها أم كلثوم لما قتل زوجها طلحة، خرجت بها إلى مكة لعمل عمرة، وقال داود: المأمورة به هو الاعتداد، وليس المكث فى البيت، وسار عليه بعض التابعين.
ويمكن الأخذ برأى عائشة هذا فى الحج الواجب لأول مرة، وذلك لعدم تكرار الفرصة عند تعقد الأمور وتنظيم سفر الحجاج وتقييده، أما الحج المندوب - وهو ما كان غير المرة الأولى-فلا تخرج ما دامت فى العدة(9/314)
متى يذبح هدى التمتع وأين؟
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أحرمت فى موسم الحج بالعمرة أولا، ولما انتهيت منها ذبحت الهدى قبل أن نقف بعرفة فهل الذبح صحيح أم لابد أن يكون بعد الإحرام بالحج وأن يكون فى منى؟
الجواب
قال الله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام} البقرة: 196، يعنى من أدى العمرة وانتهى منها وتحلل واستباح ما كان محرما عليه بسبب الإحرام، وظل متمتعا إلى وقت الحج فعليه فى مقابل هذا التمتع أن يذبح شاة، فإن لم يجدها أو لم يجد ثمنها فعليه أن يصوم عشرة أيام كاملة، ثلاثة منها فى الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله كما نص عليه القرآن الكريم.
لكن هل هناك مكان أو وقت معين للذبح؟ أما مكان الذبح فهو الحرم المكى ومنه منى، ولا يجوز عند جمهور العلماء ذبحه خارج الحرم المكى، ومن نسى أن يذبح وعاد إلى بلده فعليه أن يذبح فى الحرم بنفسه أو بتوكيل غيره من الحجاج أو الزوار أو غيرهم، ولا يجوِّز الذبح فى البلد إلا قليل، وهو مروى عن مجاهد من التابعين، لكن رأى الجمهور هو الصحيح لتحقيق الحكمة الشرعية للذبح لمنفعة أهل مكة كما تنص عليه الآيات.
أما وقت الذبح ففيه ثلاثة آراء للعلماء.
رأى يقول: لا يصح الذبح إلا بعد الإحرام بالحج، كما دل عليه ظاهر الآية {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} أى الدخول فيه بالإحرام، وعلى هذا الرأى يكون الذبح فى منى أو فى مكة بعد العودة من منى، لأنه المكان الميسر للذبح، وهو المتفق عليه فى مذهب المالكية.
ورأى ثان يقول: يصح الذبح بعد الفراغ من أعمال العمرة وقبل أن يحرم بالحج، وذلك قياسا على تقديم كفارة اليمين على الحنث وتقديم الزكاة على الحول "الإقناع فى حل ألفاظ أبى شجاع فى فقه الشافعية ج اص 226) يقول الأُبِّى فى شرح صحيح مسلم: إنه محكى عن عياض، وقال المازرى هو الصحيح، وهو الذى عليه الجمهور، وهو وجه عند بعض أصحاب الشافعى.
ورأى ثالث حكاه المازرى: يجوِّز الذبح بعد الإحرام بالعمرة.
وذكر النووى فى المجموع أن الذبح الواجب بالتمتع قبل الإحرام بالحج فيه خلاف، وجاء فى الأم للشافعى استحباب الذبح لهدى التمتع بعد الفراغ من السعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق أو يقصر.
وما دامت المسألة خلافية فالأيسر هو العمل بجواز الذبح بعد الانتهاء من العمرة، ولا داعى لتأخيره إلى الإحرام بالحج ليذبح فى منى، والدين يسر.
أما إن عجز عن الهدى فيجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام فى الحج كما نصت عليه الآية، وقد نقل عن أحمد بن حنبل أنه يجوز الصوم قبل أن يحرم بالحج، وقال الثورى والأوزاعى: يصومهن من أول أيام العشر، وبه قال عطاء، وقال عروة: يصومها ما دام بمكة فى أيام منى وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة "تفسير القرطبى ج 2 ص 399" وفى ص 403: يصوم السبعة بعد الرجوع من الحج ولو لم يذهب إلى بلده، فيصوم فى الطريق ويصوم فى مكة. وقال جماعة:
يصوم الثلاثة وهو محرم بالحج قبل يوم عرفة.
وقال بعض آخر: يصوم قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة، وكانت عائشة تصومها فى أيام التشريق وهى الثلاثة بعد العيد كما رواه البخارى عنها وقال ابن عمر وعائشة فى أيام التشريق ألا يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدى رواه الدارقطنى بإسناد صحيح وإذا فاته صيام الأيام الثلاثة فى الحج لزمه قضاؤها، إما قبل أن يعود إلى بلده وإما بعد أن يعود ولا يشترط التتابع فى صيام هذه الأيام(9/315)
تكرار العمرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز تكرار العمرة فى موسم الحج أو غير موسمه، وهل لهذا التكرار حد؟
الجواب
يجوز تكرار العمرة أكثر من مرة فى العمر أو فى السنة أو فى الشهر أو فى اليوم،حيث لا يوجد نص يمنع ذلك، قال نافع: اعتمر عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أعواما فى عهد ابن الزبير، عمرتين فى كل عام، وقال القاسم: إن عائشة رضى الله عنها اعتمرت فى سنة ثلاث مرات، فسئل: هل عاب ذلك عليها أحد؟ فقال: سبحان الله، أم المؤمنين؟ وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، وكره مالك تكرارها فى العام أكثر من مرة، إلا لمن كان داخلا مكة قبل أشهر الحج وكان ممن يحرم عليه مجاوزة الميقات حلالا فلا يكره له تكرارها بل يحرم بعمرة حين دخوله ولو كان قد تقدمت له عمرة فى هذا العام(9/316)
متى فرض الحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى السنة التى فرض فيها الحج إلى بيت الله الحرام؟
الجواب
الحج إلى مكان مقدس أمر معروف عند الأمم منذ القدم كما قال سبحانه {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه} الحج: 67، وكما قال {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} الحج: 34.
والحج فى جزيرة العرب عبادة قديمة ترجع إلى عهد بناء البيت الذى جعله الله أول بيت وضع للناس، والذى رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وأمره الله أن يسكِّن أسرته الصغيرة عنده، وأن يؤذن فى الناس بالحج استجابة لدعاء ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوى إليه ويرزق أهله من الثمرات، وبهذا أصبح الحج شريعة متبعة وموسما حرص العرب عليه ليشهدوا منافع لهم.
وجاء الإسلام وما يزال الحج تمارس شعائره القديمة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يشهد الموسم كعادة العرب، وبعد البعثة عرض نفسه على القبائل الوافدة إلى مكة يبلغهم الدعوة وكانت قلة من المسلمين تمارس الحج كميراث قديم ولم يكن فُرِض عليهم كما فرضت الصلاة فى مكة حتى هاجروا إلى المدينة وكانت الحروب هى التى حالت دون زيارتهم للبيت الحرام.
لقد قال بعض المؤرخين للتشريع: إن الحج الذى فرض بقوله تعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} آل عمران: 97، كان فى السنة السادسة للهجرة، وعلى أثره قام النبى صلى الله عليه وسلم وجماعة معه بالسفر إلى مكة لأداء العمرة، فصدهم المشركون وكان صلح الحديبية، وقضى الرسول هذه العمرة فى السنة التالية.
وقاله جماعة: إن الحج لم يفرض إلا بعد السنة الثامنة حيث فتحت مكة وأمن الطريق الذى لم يكن آمنا قبل ذلك، وإنما كان فرضه فى السنة التاسعة حيث أوفد النبى صلى الله عليه وسلم بعثة الحج على رأسها أبو بكر رضى الله عنه، ليؤذن فى الناس يوم النحر ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، وكانت هذه البعثة تمهيدا لحجة النبى صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فى السنة العاشرة وهى الحجة الوحيدة التى حجها كما رواه مسلم وفيها نزلت آية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا} المائدة: 3، وأشهد الناس على أنه بلغ الرسالة، وأمرهم أن يبلغوها للعالم كله(9/317)
النظافة فى الحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الحاج ممنوع من الاستحمام والتطيب حتى لو تغيرت رائحته بالعرق ونحوه، مع أن الإسلام دين النظافة؟
الجواب
روى البزار بسند صحيح أن عمر رضى الله عنه وجد ريح طيب من معاوية وهو مُحرم، فقال له. ارجع فاغسله، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحاج الشعث التفل ". والشعث من عليه أثر التراب من السفر، والتفل البعيد العهد بالماء، وقال النبى صلى الله عليه وسلم "أما الطيب الذى بك فاغسله عنك ثلاث مرات ".
وقال فيمن مات وهو محرم "لا تخمروا رأسه ولا تمسوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا".
نعم الإسلام دين النظافة، سواء أكانت تخلية أم تحلية، تخلية بالغسل وإزالة الزوائد التى تتجمع معها الأوساخ، وتحلية بالطيب وسائر الروائح الزكية ونحوها.
ولكن الحاج فى أثناء إحرامه، وقد تكون مدته قصيرة جدا، ممنوع من التحلية بالروائح الطيبة لأنها من باب الكماليات.
والحج يقوم على التجرد منها والوقوف أمام الله بأقل ما يستر العورة، تشبها بما سيكون الناس عليه يوم يحشرون إلى ربهم {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} الأنعام: 94.
وقد جاء فى الأحاديث أن الله يباهى الملائكة بالواقفين على عرفة ويقول "انظروا إلى عبادى أتونى شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق ... ".
أما التخلية عن الأمور التى تضر الجسم وتضر بالرفاق والمجتمع الكبير فإن الإسلام أباح الاغتسال والتطهر أثناء الإحرام، ومنع العطور التى هى زائدة على النظافة العادية.
وقد ورد أن ابن عباس رضى الله عنهما دخل حمام الجحفة وهو محرم، فقيل له: أتدخل الحمام وأنت محرم ... ؟ فقال: إن الله ما يعبأ بأوساخنا شيئا.
وأخرج الجماعة إلا الترمذى أن أبا أيوب الأنصارى كان يغتسل بصب الماء عليه والتدليك. وقال هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل.
على أن الاغتسال والتطهر بوجه عام مشروط أو مندوب لعدة أعمال فى الحج.
فعن ابن عمر أنه قال: من السنة أن يغتسل إذا أراد الإحرام، وإذا أراد دخول مكة. رواه البزار والدارقطنى والحاكم وصححه. وكذلك يسن الغسل للوقوف بعرفة.
والطيب جائز قبل الإحرام حتى لو امتد أثره إلى ما بعد الإحرام، ففى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: كأنى أنظر إلى وبيص الطيب -أى بريقه -فى مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
وعنها أيضا قالت: كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فننضح جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبى صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا. رواه أحمد وأبو داود.
وجوز الفقهاء استعمال الصابون وغيره من كل ما يزيل الأوساخ أثناء الإحرام.
وعند الشافعية والحنابلة يجوز أن يغتسل بصابون له رائحة، لأن المقصود به النظافة لا التطيب.
هذا، وكثير من الناس الذين فهموا النصوص خطأ يمتنعون عن الاغتسال وتغيير الملابس ويؤثرون البقاء على ما هم عليه حتى بعد انتهاء أعمال الحج وانتظار العودة إلى البلاد، ويظنون أن ذلك من الدين، مع ما قد يفوح منهم من رائحة كريهة، وبخاصة فى أيام الحر، وهم بذلك يخلقون مجالا لبعض الأمراض، إلى جانب إيذاء الغير بروائحهم الكريهة(9/318)
لقطة الحرم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أثناء وجودى فى منى وجدت مبلغا من النقود نحو ثلاثين دينارا فأخذتها وقررت التصدق بها بعد عودتى لبلدى على أن أهب ثوابها لصاحبها فهل يجوز ذلك؟
الجواب
لقطة الحرم يحرم أخذها إلا لتعريفها فقد صح فى الحديث "إن هذا البلد حرمه الله تعالى، لا يلتقط لقطته إلا من عرفها" وجاء أيضا "لا يرفع لقطتها إلا منشدها" أى المعرف بها، قال العلماء فى بيان حكمة ذلك: إن حرم مكة مثابة للناس يعودون إليه المرة بعد المرة، فربما يعود مالكها من أجلها أو يبعث فى طلبها، فكأنه جعل ما له محفوظا عليه، كما غلظت الدية فيه. وقالوا:
من التقطها يلزمه الإقامة وعدم السفر وذلك للتعريف بها أو يدفعها إلى الحاكم إذا كان أمينا ليقوم بالتعريف عنها، ويوجد الآن جهاز خاص فى الحرم للأشياء المفقودة فيجب تسليمها إليه، ثم قال العلماء إن لم يسلمها إلى الحكومة لا يجب بعد معرفة علاماتها أن يحفظها، سواء أكانت حقيرة أم خطيرة، وتبقى وديعة عنده لا يضمنها إذا تلفت إلا بالتعدى، ثم ينشر خبرها فى مجتمع الناس بكل وسيلة، فإن جاء صاحبها وعرفها دفعت إليه، وإن لم يجيء عرفها الملتقط لمدة سنة، فإن لم يظهر صاحبها بعد سنة حل له أن يتصدق بها أو الانتفاع بها، هذا هو حكم المسألة ولك الخيار فى إرسالها إلى حكومة السعودية لتتولى التعريف عنها، أو التصرف فيها على ضوء ما علمت(9/319)
أنواع الإحرام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أريد أن أؤدى الحج والعمرة معا فى سفرة واحدة فكيف أقوم بهما؟
الجواب
قال تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} البقرة: 196، فالحج واجب على كل مستطيع فى العمر مرة واحدة، كما أن العمرة واجبة عند الشافعى وأحمد وسنة عند أبى حنيفة ومالك.
وأعمال العمرة تؤدى داخل مكة، فهى طواف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ثم تحلل منها بحلق الشعر أو تقصيره، أما أعمال الحج فتؤدى فى مكة بالطواف والسعى والحلق، وخارج مكة بالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة وبمنى ورمى الجمرات فيها.
والذى يقصد بيت الله فى أشهر الحج - شوال وذى القعدة وذى الحجة - ويريد أن يؤدى الحج والعمرة له أن يختار فى إحرامه إحدى الكيفيات التالية:
الأولى: أن ينوى أداء العمرة فقط، بعد أن يلبس ملابس الإحرام وقبل أن يصل إلى الميقات، فإذا وصل مكة طاف سبعا بالبيت ثم سعى سبعا بين الصفا والمروة، ثم حلق بعض شعره أو قصره.
وبهذا تمت عمرته، ويخلع ملابس الإحرام ويلبس ملابسه العادية ويتمتع بما كان محظورا عليه أثناء الإحرام، من مثل الطيب وقص الشعر والأظافر والاتصال الجنسى.
وعليه مقابل ذلك أن يذبح شاة، لقوله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى} البقرة: 196.
وعندما يحين الخروج إلى عرفات يحرم بالحج من المكان الذى هو فيه بعد أن يلبس ملابس الإحرام، ثم يقف بعرفة ويفيض منها إلى المزدلفة بعد المغرب، ويمكث بها مدة بعد منتصف الليل، ثم يصبح يوم العيد فى منى ويرمى جمرة العقبة وهى الكبرى ثم يقص بعض شعره، وهنا يجوز له أن يخلع ملابس الإحرام ويلبس الملابس العادية ويمكث فى منى ثلاثة أيام لرمى الجمار، أو يذهب إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ويسعى بين الصفا والمروة يوم العيد، ثم يعود إلى منى ليبيت فيها ويرمى الجمرات وهذه الكيفية وهى تقديم العمرة على الحج فى أشهره تسمى بالتمتع.
الثانية: أن ينوى قبل الوصول إلى الميقات الإحرام بالحج فقط، وعند وصوله مكة يطوف طواف القدوم -وهو سنة-ويسعى بين الصفا والمروة إن أراد، ويمكث ملتزما للإحرام حتى يقف بعرفة ويتمم أعمال الحج بالمبيت بمزدلفة ورمى الجمرات والمبيت بمنى والطواف، والسعى إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، وبالحلق أو التقصير.
وهذه الكيفية من الإحرام تسمى الإفراد.
وبعد أن ينتهى من الحج يمكن أن يحرم بالعمرة من مسجد عائشة بالتنعيم، ويؤدى أعمالها المعروفة وليس عليه فى هذه الكيفية هدى.
الثالثة: أن ينوى الحج والعمرة معا فى إحرام واحد قبل الميقات، فإذا وصل مكة طاف طواف القدوم وسعى ووقف بعرفة وبات بالمزدلفة ورمى جمرة العقبة صباح يوم العيد ثم حلق -ثم طاف طواف الإفاضة وسعى إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، ثم كمل أعمال الحج برمى الجمرات والمبيت بمنى، وهذه الكيفية من الإحرام تسمى "القران ". وفيها هدى كهدى التمتع، لأنه طاف طوافا واحدا - سبعة أشواط - وسعى سعيا واحدا-سبعة أشواط -عن الحج والعمرة معا. ففى مقابل راحته بعدم تكرر الطواف والسعى يلزمه الهدى.
والإنسان حُرّ فى أن يختار أية كيفية من هذه الكيفيات، حسب ظروفه وحالته الصحية أو المالية أو غيرها، والمهم أنه أدى النسكين فى رحلة واحدة، وبرئت ذمته من أداء الواجب وإن كان الفقهاء اختلفوا فى أيها أفضل بناء على اختلافهم فى حج الرسول وإن صحح بعضهم أنه كان قارنا لأنه ساق الهدى فذهبت الشافعية إلى أن الإفراد والتمتع أفضل من القران، لأن المفرد والمتمتع يأتى بكل من النسكين بكمال أفعاله، أما القارن فيقتصر على عمل الحج وحده. وفى التفاضل بين التمتع والإفراد قولان.
والحنفية قالوا: القرآن أفضل من التمتع والإفراد، والتمتع أفضل من الإفراد.
والمالكية قالوا: الإفراد أفضل من التمتع والقران.
والحنابلة قالوا: التمتع أفضل من القران ومن الإفراد، لأنه الأيسر، وقد تمناه النبى صلى الله عليه وسلم لما رواه مسلم عن جابر أن أصحاب النبى فى حجهم معه أحرموا بالحج وحده، أى مفردين، فلما كان صبح الليلة الرابعة من ذى الحجة أمرهم أن يحلوا من الإحرام وأباح لهم أن يأتوا نساءهم قبيل الوقوف بعرفة، ثم خطب فيهم فقال: " قد علمتم أنى أتقاكم وأصدقكم وأبركم، ولولا هديى لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمرى ما استدبرت لم أَسُقِ الهدى، فحلوا " فحللنا وسمعنا وأطعنا(9/320)
خطبة الوداع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى خطبة الوداع، وهل كانت فى عرفة أم فى منى؟
الجواب
النبى صلى الله عليه وسلم كان له أكثر من خطبة فى حجة الوداع، فقد خطب فى مكة وفى عرفة وفى منى، بيَّن فيها مناسك الحج كما بيَّن الأصول العامة للدين، ونبَّه على التمسك بالشريعة كآخر وصية له فى هذا الجمع الحاشد. وفى يوم عرفة خطب فى وادى عرنة وكان فيما قال:
إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا، ألا إن كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع ... فاتقوا الله فى النساء فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدى إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عنى فماذا أنتم قائلون؟ قالوا:
نشهد أنك قد بلَّغت وأدَّيت ونصحت: فأشار بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس - أى يرددها ويقلبها، وهو يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد.
وخطب فى منى يوم النحر خطبة أكَّد فيها ما خطبه فى عرفة، وبيَّن أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فالسنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم.. . وقال فيها " ألا لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا فليبلّغ الشاهدُ منكم الغائبَ، فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع ".
هذا ما ورد من الخطبة فى الأحاديث الصحيحة، وقد عنى بدراستها علماء الدين، ومن أراد الاستزادة فعليه بكتب الحديث(9/321)
كم حج النبى صلى الله عليه وسلم واعتمر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل حج النبى صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع؟
الجواب
الحج كان معروفا عند العرب من أيام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستمروا يحجون حتى جاء الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم - وهو المولود فى مكة والناشىء فيها إلى أن بعث وهاجر كان يمارس ما تمارسه العرب من الشعائر الباقية من دين إبراهيم، على الرغم مما حدث فى بعضها من تغيير، كوقوف جماعة منهم يوم عرفة فى الحرم وليس فى عرفة لأنها فى الحل، والنسىء الذى أخروا به الحج عن موعده الحقيقى، ولما جاء الإسلام كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بالناس فى موسم الحج ليبلغهم الدعوة فى منى ثلاث سنين متوالية "الزرقانى على المواهب ج 3 ص 105 ".
يقول القرطبى فى تفسيره "ج 4 ص 143 ": كان الحج معلوما عند العرب مشهورا لديهم، وكان مما يرغب فيه لأسواقها وتبررها وتحنفها- أى الطاعة والعبادة-فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا، وألزموا بما عرفوا. وقد حج النبى صلى الله عليه وسلم قبل حج الفرض، وقد وقف بعرفة ولم ينير من شرع إبراهيم ما غيروا. حين كانت قريش تقف بالمشعر الحرام ويقولون:
نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، ونحن الحمس -المتشددون فى الدين.
ولكن الحج فرض فى الإسلام بقوله تعالى {ولله على للناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} آل عمران: 97، وكان ذلك فى السنة السادسة أو التاسعة للهجرة، ولم يحج الرسول عليه الصلاة والسلام بعد فرض الحج إلا حجة واحدة هى حجة الوداع. يقول القرطبى: من أغرب ما رأيته أن النبى صلى الله عليه وسلم حج قبل الهجرة مرتين، وأن الفرض سقط عنه بذلك لأنه قد أجاب نداء إبراهيم حين قيل له {واذن فى الناس بالحج} الحج: 27، وهذا بعيد.
وفى شرح الزرقانى على المواهب للقسطلانى "ج 3 ص 105" أن ابن سعد قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج غير حجة الوداع منذ تنبأ إلى أن توفاه الله تعالى، ولكن ابن حجر فى "الفتح " قال: إنه حج قبل أن يهاجر مرارا، بل الذى لا ارتياب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط وأخرج الترمذى عن جابر أنه حج بمكة حجتين قبل الهجرة، وأخرج ابن ماجه والحاكم أنه حج قبل أن يهاجر ثلاث مرات، وهو مبنى-كما يقول ابن حجر- على مقابلته للأنصار بالعقبة، وهذا بعد النبوة، أما قبل النبوة فلا يعلم عدد حجه إلا الله. وكل ذلك استصحاب للأصل الذى درج عليه العرب من أيام إبراهيم عليه السلام.
وأما عدد عُمره صلى الله عليه وسلم فيعلم من الكلام عن عدد حججه، وهى من اليسر بحيث يحرص عليها، فهى طواف وسعى وحلق، دون حاجة إلى أماكن أخرى ومشاعر خارج مكة، والذى وردت به الروايات كان بعد الإسلام وبعد الهجرة، فقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجه بسند رجاله ثقات عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، عمرة الحديبية- التى أحصر فيها - وعمرة القضاء - لعمرة الحديبية-والثالثة عمرة من الجعرانة والرابعة مع حجته(9/322)
الميقات الزمانى للحج والعمرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الميقات الذى يمكن للإنسان فيه أن يحرم بالحج؟
الجواب
قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج} البقرة:
189، {الحج أشهر معلومات} البقرة 197، الحج عبادة كالصلاة والصوم، له ميقات يؤدى فيه، ولا يصح قبله ولا بعده. وقد أجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج: شوال وذو القعدة، واختلفوا فى ذى الحجة هل هو بكماله من أشهر الحج، أو عشرة منه فقط، والصحيح أن الشهر كله من أشهر الحج، لأن رمى الجمرات فى منى يكون بعد العشر، وكذلك طواف الإفاضة يمكن أن يؤدى فى الشهر كله بلا خلاف.
ولو أحرم الإنسان بالحج قبل دخول شهر شوال، لا يصح حجه، قال بذلك ابن عباس وابن عمر وجابر، وذهب إليه الشافعى، ورأى أبو حنيفة ومالك وأحمد صحة الإحرام مع الكراهة، ورجح الشوكانى الرأى الأول التزاما بالميقات كالصلاة.
هذا فى الحج أما العمرة فليس لها ميقات زمنى معين، فكل أشهر السنة ميقات لها(9/323)
الميقات المكانى للحج والعمرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى المواقيت التى لا يمر عليها الإنسان الذى يقصد الحرم المكى للنسك إلا وهو محرم؟
الجواب
لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت، فجعل لأهل المدينة ومن يمر عليها "ذا الحليفة" وهو موضع بينه وبين مكة 450 كيلو متر، ويعرف بأبيار على، وجعل لأهل الشام ومن فى طريقهم "الجحفة" وهى فى الشمال الغربى من مكة، بينه وبينها 187 كيلو متر، وهى قريبة من "رابغ " بينها وبين مكة 204 كيلو متر. وقد صارت ميقات أهل مصر والشام ومن يمر عليها بعد ذهاب معالم الجحفة.
وجعل ميقات أهل نجد "قرن المنازل " وهو جبل شرقى مكة يطل على عرفات، بينه وبين مكة 94 كيلو متر. وجعل ميقات أهل اليمن "يلملم " وهو جبل جنوبى مكة بينه وبينها 54كيلو متر. وجعل ميقات أهل العراق "ذات عرق " وهى موضع فى الشمال الشرقى لمكة بينه وبينها 94 كيلو مترا.
هذه هى المواقيت التى عينها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال فيها "هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن لمن أراد الحج أو العمرة" أى أن هذه المواقيت هى لأمل هذه البلاد ولمن مر بها، ومن كان بمكة وأراد الحج فميقاته منزله، ومن كان فى مكان لا يمر بهذه المواقيت، أى بين مكة 366 والمواقيت فميقاته من مكانه، ومن كان فى جهة غير جهة هذه المواقيت كأهل السودان مثلا الذين يمرون بجدة فهو حر يحرم فى أى ميقات، أو من حيث شاء برا وبحرا وجوا كما قال ابن حزم، ومن أحرم قبل مروره بهذه المواقيت صح إحرامه.
وهى أيضا مواقيت لمن يريد العمرة، إلا أهل مكة فميقاتهم أدنى الحل، يخرج من مكة ويحرم من هناك، وأقربه هو "التنعيم " أو مسجد السيدة عائشة.
ومن تجاوز الميقات دون إحرام وجب عليه أن يعود ليحرم منه وإلا وجب عليه دم، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
هذا، وفى فقه الشافعية أن من سلك طريقا لا تنتهى إلى ميقات أحرم من محاذاته، فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه، فإن استويا فى القرب إليه أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة.
وإن لم يحاذ ميقاتا أحرم على مرحلتين من مكة، أى مسافة قصر "حوالى 80 ك. م "- الخطيب على أبى شجاع ج 1 ص 220(9/324)
الحج على الفور أو التراخى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى أحد الأعوام كان عندى ما يكفينى للحج زائدا على كل ما أحتاجه، ولكن شغلت ببعض الأعمال فأخرت الحج ثلاث سنوات ثم حججت.
فهل علىَّ إثم فى التأخير؟
الجواب
ذهب بعض العلماء إلى أن الحج واجب على الفور، وذهب بعضهم إلى أن وجوبه على التراخى، ومن القائلين بالفورية: أبو حنيفة ومالك وأحمد وبعض أصحاب الشافعى، وأبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة فى رواية عنه، ومن القائلين بالتراخى الإمام الشافعى، ومحمد بن الحسن من أصحاب أبى حنيفة، وهو تحصيل مذهب مالك فيما ذكر ابن خويز منداد- كما فى تفسير القرطبى "ج 4 ص 144 " أدلة الفورية قوله صلى الله عليه وسلم "من أراد الحج فليعجِّل، فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتكون الحاجة" أى الفقر، رواه أحمد والبيهقى وابن ماجه. وقوله "تعجلوا الحج، فإن أحدكم لا يدرى ما يعرض له " رواه أحمد والبيهقى وقال "ما يعرض له من مرض أو حاجة" وأدلة التراخى أن الحج فرض فى السنة الثالثة التى نزلت فيها سورة آل عمران وبها آية وجوب الحج أو فى السنة السادسة ولم يحج النبى صلى الله عليه وسلم إلا فى السنة العاشرة. يقول الشافعى: فاستدللنا على أن الحج فرضه مرة فى العمر، أوله البلوغ وآخره أن يأتى به قبل موته وكذلك من الأدلة حديث ضمام بن ثعلبة السعدى الذى قدم على النبى صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام فذكر فيه الحج، وكان قدومه سنه خمس أو سبع أو تسع.
ورد القائلون بالفورية على ذلك بأن من شروط وجوب الحج الأمن، ولم يتوافر الأمن للرسول وأصحابه بعد صلح الحديبية فى السنة السادسة إلا فى السنة العاشرة، فبمقتضى الصلح لم يسمح بزيارة البيت إلا فى السنة السابعة لقضاء العمرة التى لم يتمكن منها فى السنة السادسة، وفى السنة الثامنة كان الفتح فى رمضان وشغل الرسول بحرب من هم قريبون من مكة، وفى السنة التاسعة أرسل أبا بكر على الحج لتهيئة البيت بإعلان منع المشركين من الحج بعد هذا العام ليحج الرسول فى السنة العاشرة ويخطب خطبة الوداع، مع اصطحاب زوجاته معه.
كما رد القائلون بالتراخى على أدلة الآخرين بأنها تحتمل الترغيب فى المبادرة لا تحريم التأخير، ويظهر أثر الرأيين فى أن من قدر على الحج ولم يحج كان آثما على القول بالفورية لو مات قبل أن يحج، وليس آثما على القول بالتراخى، مع الاتفاق بين الرأيين على أن من مات ولم يحج مع قدرته على الحج وجب أن يحج عنه غيره. ومع الاتفاق على أن من حج بعد التأخير لا يكون قاضيا لما فاته بل مؤديا(9/325)
الحج المشروط
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عزمت على الحج وأحرمت به،وفى أثناء الطريق عرض لى عارض يحول دون إتمام الإحرام، فهل يلزمنى الاستمرار على الرغم من ذلك، أو يجوز لى التحلل من الإحرام؟
الجواب
جاءت فى كتب الفقه صورة من الإحرام تفيد فى مثل العوارض التى تعترض الحاج ولا تمكنه من إتمام حجه، وهى الإحرام مع الشرط، بمعنى أن يقول:
أحرمت لله بالحج وإذا مرضت تحللت منه، أو إذا فقدت النفقة أو حدث حادث معين، فهنا يجوز له التحلل من الإحرام عند وجود هذا الشرط، وإذا لم يشترط فى التحلل أن يكون بهدى فلا يلزمه الهدى.
وهذا التحلل يجوز قبل الوقوف بعرفة وبعده، ويكون التحلل بحلق شعره أو تقصيره مع نية التحلل، والدليل على ذلك ما رواه الشيخان عن عائشة رضى الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير- بضم الضاد وفتح الزاى-وهى بنت عمه. فقال لها "أردت الحج "؟ فقالت: والله ما أجدنى إلا وجعة، فقال "حجى واشترطى وقولى: اللهم محلى حيث حبستنى" والمرض حبس عن إتمام النسك. ولو قال الإنسان: أحرمت بالحج فإذا مرضت فأنا حلال صار حلالا بنفس المرض من غير نية تحلل ولا هدى.
هذه الصورة فيما إذا شرط التحلل عند الإحرام، أما من طرأ عليه عذر ومنعه من إتمام الحج ولم يكن قد شرط ذلك فله موضع آخر فى الحديث عنه، والعمرة فى هذا كالحج.
وهذا الحكم قال به الإمام أحمد والشافعى، ولم يقل أبوحنيفة ومالك بجواز الاشتراط فى الإحرام، بناء على قول عبد الله بن عمر، لكن البيهقى قال:
لو بلغ ابن عمر حديث ضباعة لقال به ولم ينكر الاشتراط كما ينكره أبوه.
وقال المانعون: حديث ضباعة قصة عين مخصوصة بها، لكن أين الدليل على الاختصاص؟ "نيل الأوطار للشوكانى ج 4 ص 324"(9/326)
الموالاة فى الطواف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعد ثلاثة أشواط فى الطواف تعبت فجلست للراحة ثم كملت الطواف.
فهل يصح ذلك أو لا بد من استئنافه من الأول.
وما الحكم إذا انتقضى الوضوء أثناء الطواف، هل يبطل ما فات، أم يجوز أن يبنى عليه لو تطهر؟
الجواب
موالاة السعى بين الأشواط فى الطواف شرط لصحته عند مالك وأحمد، فإذا كان هناك فاصل يسير لغير عذر فلا يضر، وإن كان كبيرا فإن كان بعذر فلا يضر، أما إن كان بغير عذر بطل الطواف.
أما الموالاة عند الحنفية والشافعية فهى سنة، فلو كان هناك فاصل طويل بغير عذر لا يبطل الطواف، ويبنى على ما فات. ويدل عليه ما رواه سعيد بن منصور عن حميد بن زيد قال: رأيت عبد الله بن عمر رضى الله عنهما طاف بالبيت ثلاثة أطواف أو أربعة، ثم جلس يستريح، وغلام له يروح عليه، فقام فبنى على ما مضى من طوافه.
هذا، وإذا كان من شروط صحة الطواف الطهارة فلو أحدث فى أثناء الطواف خرج وتوضأ ثم يدخل المطاف ويبنى على ما فات ليكمل الطواف، ولا يجب عليه الاستئناف وإن طال الفصل. وهذا ما رآه الشافعية والحنفية.
ومما يؤكد أن الفصل بين أشواط الطواف لا يضر أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما كان يطوف بالبيت فأقيمت الصلاة فصلى مع القوم، ثم قام فبنى على ما مض من طوافه وعطاء بن أبى رباح كان يقول -فى الرجل يطوف بعض طوافه ثم تحضر صلاة الجنازة-يخرج ليصلى عليها ثم يرجع فيقضى ما بقى من طوافه.
يرى الحنفية أن الطهارة من الحدث ليست شرطا لصحة الطواف، وإنما هى واجب يجبر بدم لو طاف محدثا، ولو كان جنبا أو حائضا صح الطواف ووجب دم هو بدنة، وعليه الإعادة ما دام بمكة. وقال بعض أصحابه:
الطهارة سنة، والصحيح أنها شرط لحديث: مسلم: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما حاضت "افعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت " أما الطهارة من النجاسة فى الثوب والبدن فهى سنة عندهم أيضا، ويصح الطواف مع النجاسة ولا حاجة إلى ذبح شاة(9/327)
الموالاة فى السعى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سعيت بين الصفا والمروة أربع مرات ثم شعرت بالتعب فجلست للاستراحة فهل يجب علىَّ أن أبدأ السعى من الأول، أو يجوز أن اكمل ما بقى علىَّ؟ . ولو حدث أن انتقض وضوئى أثناء السعى، هل بطل ما فعلته، ويجب علىّ السعى من جديد بعد الطهارة؟
الجواب
الموالاة بين أشواط السعى بين الصفا والمروة سنة عند جمهور الفقهاء، وليست شرطا لصحة السعى، فلا مانع من الاستراحة بين الأشواط، والإتيان بما بقى بعد ذلك. والإمام مالك فقط هو الذى قال: إن الموالاة فى السعى شرط لصحته، ويعفى عن الفاصل القصير، أما الطويل فيضر وبخاصة إذا لم يكن عذر، وعند العذر لا يضر كالطواف. روى سعيد بن منصور أن سودة بنت عبد الله بن عمر زوج عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة فقضت طوافها فى ثلاثة أيام، وكانت ضخمة.
وإذا انتقض الوضوء أثناء السعى فلا يضر، لأن الطهارة ليست شرطا لصحة السعى، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يمنع عائشة حين حاضت إلا من الطواف كما رواه مسلم. وروى سعيد بن منصور أن عائشة وأم سلمة - من أمهات المؤمنين - قالتا: إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة. فالطهارة سنة وليست واجبة.
وروى سعيد بن منصور أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما كان يطوف بين الصفا والمروة، فأعجله البول، فتنحى ودعا بماء فتوضأ، ثم قام فأتم على ما مض.
لا تشترط الموالاة بين الطواف وبين السعى بين الصفا والمروة جاء فى فقه السنة ج 1 ص 713: قال فى المغنى قال أحمد: لا بأس أن يؤخر السعى حتى يستريح، أو إلى العشى. وكان عطاء بن أبى رباح والحسن البصرى لا يريان بأسا لمن طاف بالبيت أول النهار أن يؤخر السعى بين الصفا والمروة إلى العشى، وفعله القاسم وسعيد بن جبير، لأن الموالاة إذا لم تجب فى السعى نفسه ففيما بينه وبين الطواف أولى(9/328)
الجهل والنسيان فى محظورات الإحرام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم من ارتكب شيئا من محظورات الإحرام جهلا أو نسيانا؟
الجواب
جاء فى كتاب الإقناع للخطيب شرح متن أبى شجاع فقه الشافعية "ج 1 ص 233 " قاعدة بخصوص ارتكاب محظور من محظورات الإحرام فى حالة الجهل والنسيان، تقول: ما كان إتلافا محضا كالصيد وجبت الفدية فيه مع الجهل والنسيان.
وما كان استمتاعا أو ترفها كالطيب واللبس فلا فدية فيه مع الجهل والنسيان، وما كان فيه شائبة من الجانبين كالجماع والحلق والقلم ففيه خلاف، والأصح فى الجماع عدم وجوب الفدية مع الجهل والنسيان، وفى الحلق والقلم الوجوب معهما.
وسيأتى توضيح لذلك إن شاء الله(9/329)
نقل تراب من الحرم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تقول سيدة: أتيحت لى الفرصة فحصلت على جزء من التراب الموجود داخل المقصورة التى حول قبر النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنا محتفظة به، فقيل لى إنه حرام فماذا أفعل؟
الجواب
جاء فى "كفاية الأخبار ج 1 ص 211 " فى فقه الشافعية أنه يحرم نقل تراب الحرم وأحجاره إلى الحل - أى خارج الحرم - وكذا حرم المدينة، قاله النووى فى شرح المهذب فى أواخر صفة الحج وجزم به، إلا أنه نقل عن الأكثرين فى محظورات الإحرام أنه يكره، يعنى تراب المدينة وأحجارها، قال الإسنائى: نص الشافعى فى "الأم " على المسألة وقال: إنه يحرم، فالفتوى عليه.
وجاء مثل ذلك فى الإقناع للخطيب "ج 1 ص 232" وأوجب رده إلى الحرم، بخلاف ماء زمزم فإنه يجوز نقله وذكر الشيخ عوض فى الحاشية أن أبا حنيفة أجاز نقل التراب للتبرك فينبغى تقليده.
ونقول للسائلة: لا بأس بالأخذ بالقول بالكراهة، ولا حرمة فى الاحتفاظ بهذا التراب ولا بأس أيضا بالأخذ برأى أبى حنيفة فى الجواز(9/330)
باب الكعبة مرتفع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك سر فى أن باب الكعبة يكون مرتفعا عن الأرض؟
الجواب
جاء فى الأحكام السلطانية-للماوردى "ص 165 " أن باب الكعبة كان فى الأرض فلما رأت قريش تجديد بنائها قال أبو حذيفة بن المغيرة: يا قوم ارفعوا باب الكعبة حتى لا تُدْخَل إلا بسلم، فإنه لا يدخلها حينئذ إلا من أردتم، فإن جاء أحد ممن تكرهون رميتم به فيسقط، فكان نكالا لمن رآه، ففعلت قريش ذلك. وجاء فى صحيح مسلم بشرح النووى"ج 9 ص 96 " أن عائشة رضى الله عنها سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن سبب ارتفاع باب الكعبة فقال "فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن قومك حديث عهدهم فى الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر - حجر إسماعيل - فى البيت وأن ألزق بابه بالأرض " وفى بعض الروايات "ولجعلت لها بابين موضوعين فى الأرض شرقيا وغربيا، وهل تدرين: لم كان قومك رفعوا بابها؟ " قالت: قلت: لا، قال "تعززا ألا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقى، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط "(9/331)
العمرة فى رمضان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أتيحت لى الفرصة فقمت بعمل عمرة فى شهر رمضان، هل صحيح أنها تغنى عن الحج؟
الجواب
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "عمرة فى رمضان تعدل حجة " وفى رواية "تعدل حجة معى". ولا يسأل عن حكمة هذا الثواب فذلك فضل من الله، والله واسع عليم، وهو سبحانه يرغِّب فى أداء العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج فى الحرم الشريف، فثواب الطاعة فيه مضاعف.
ومثل ذلك ما ورد من أن الصلاة الواحدة فى المسجد الحرام بمكة تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه، فلا يجوز أن يتبادر إلى الذهن أن صلاة يوم فيه تغنى عن صلاة مائة ألف يوم، ولا داعى للصلاة بعد ذلك، فالعدل أو المساواة هنا هى فى الثواب فقط. فلا تغنى العمرة عن الحج أبدا.
ومثل ثواب العمرة فى رمضان ما رواه الترمذى وقال: حديث حسن غريب، عن أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "من صلى الصبح فى جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة" قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تامة تامة" وروى الطبرانى مثله عن أبى أمامة، وقال المنذرى: إسناده جيد. ورواه عن ابن عمر بروات ثقات الا واحدا ففيه كلام، وللحديث شواهد كثيرة "الترغيب والترهيب ج 1 ص 125، 126 ".
فالمراد من هذه الأحاديث الترغيب فى الثواب، وليس جواز الاكتفاء بفريضة عن فريضة(9/332)
نفقات حج الزوجة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الزوج ملزم بأن يدفع تكاليف أداء زوجته لفريضة الحج، ولمن تكون الأولوية إذا توفر مع الزوج مال يكفى لقيام فرد واحد بأداء الفريضة، وهل له أن يأخذ من مالها ليؤدى فريضة الحج؟
الجواب
1- لا يلزم الزوج لزوجته إلا بنفقتها الممثلة فى الطعام والكسوة والمسكن، مع اختلاف العلماء فى نفقة العلاج وفى توفير خادم وتجهيز الموت، أما أن يدفع تكاليف حجها فليس بواجب عليه، فالحج فرض على القادر المستطيع، فإن كانت تملك مالا يكفى للحج وجب عليها الحج من مالها هى، ولا يلزم الزوج بدفع أى شىء لها، ولا يعاقب على التقصير، أما إن تبرع بذلك فهو خير، وله ثواب إن شاء الله، وهو من المعاشرة بالمعروف والتعاون على الخير.
2- إذا لم يوجد مع الزوج إلا مال يكفى أن يحج به فرد واحد فهو المقدم طبعا، ويجب عليه الحج لأول مرة، وكذلك إذا احتاجه لنفقته هو وحده، والحديث واضح فى ذلك "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " رواه البخارى ومسلم. وفى صحيح مسلم عن حديث جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجل "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شىء فلأهلك، فإن فضل شىء فلذى قرابتك ".
3- إذا كان للزوجة مال خاص ورثته عن أهلها أو ملكته من أية جهة كانت فهو حق خالص لها، ويجب عليها الحج منه لأول مرة، ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئا منه ليحج إلا بإذنها ورضاها، قال تعالى {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} النساء: 4 وقال {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا، أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} النساء: 120 وإذا كان هذا فى الصداق الذى دفعه لها فبالأولى لا يجوز أن يأخذ منها شيئا لم يأت عن طريقه هو لكن لو استعان بمال الزوجة على سبيل الهبة أو القرض ليحج فلا مانع منه ولها ثواب مساعدتها لزوجها على الحج(9/333)
بيع الأرض للحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل له أرض مملوكة تكفى غلتها حاجته وحاجة من تلزمه نفقته ولا يفضل منها شىء وإذا باعها يمكنه الحج بثمنها ويكفى الباقى حاجة عياله مدة ذهابه إلى الحج وعودته، فهل يجب عليه أن يبيعها ليحج؟
الجواب
أجاب النووى فى فتاويه "المسألة 110 " أن الأصح فى مذهب الشافعى رضى الله عنه وجوب الحج عليه والحالة هذه ومثله من له رأس مال يتجر فيه.
لكن هل يعود الرجل من الحج ليتسول؟ لقد رأى كثير من العلماء أن رأس المال الذى يكفيه حاجته وحاجة من تلزمه نفقته لا يجوز إنفاقه كله لأداء فريضة الحج، فإن ذلك سيترتب عليه ضرر كبير له ولمن يعوله، فمثل هذه الحالة تدخل فى عدم الاستطاعة فهو مسئول عن نفسه، وأهله، والتقصير فى ذلك منهى عنه أشد النهى. لقد قال الحنفية والمالكية مثل ما قال الشافعية ولكن أحمد اشترط أن يكون الفاضل عن نفقة الحج يكفى عياله على الدوام، "الفقه على المذاهب الأربعة" وإن كان "المغنى" فيه ما يفيد أن رأيه كرأى الأئمة الثلاثة وعليه فلا يجوز له أن يبيع أرضه التى هى المصدر الوحيد لرزقه ليحج، لأنه سيعود معدما. هو رأى أميل إليه لأنه يتفق مع روح الشريعة الإسلامية التى لا تحب لأهلها أن يعيشوا فقراء ضعافا، وقد شرطت فيها الاستطاعة التى يجب أن تفسر بما يتفق والشريعة، وأين هذا من قول النبى صلى الله عليه وسلم "إن لربك عليك حقا ولبدنك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذى حق حقه " وقوله "إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " رواه ابن حبان فى صحيحه.
وقوله "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " رواه أبو داود وغيره وصححه(9/334)
تكرار العمرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للحاج أن يؤدى أكثر من عمرة وهو فى الموسم؟
الجواب
روى الترمذى وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "تابعوا بين الحج والعمرة" قال بعض شراح الحديث: فيه دلالة على الاستكثار من الاعتمار خلافا لقول من قال: يكره أن يعتمر فى السنة أكثر من مرة كالمالكية ولمن قال: يكره أكثر من مرة فى الشهر.
واستدل المالكية على كراهة التكرار فى العام بأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة. لكن يرد عليه بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يترك الشىء وهو يستحب فعله، وذلك لدفع المشقة عن أمته. وقال القاسم: إن عائشة اعتمرت فى سنة ثلاث مرات. فسئل هل عاب ذلك عليها أحد؟ فقال: سبحان الله أم المؤمنين؟ يعنى: هل يعيب عليها أحد ذلك، وهذا مذهب جمهور الفقهاء فى عدم الكراهة.
وهذا ظاهر فى تكرار العمرة لنفسه، ولو أراد أن يهب ثواب العمرة للأموات فلا مانع من ذلك أبدا، وكل قربة يهب الإنسان ثوابها إلى الميت يرجى انتفاعه بها، ولم يرد ما يمنعه(9/335)
تأجير بيوت مكة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأنا فى بعض الكتب أن بيوت مكة لا يجوز بيعها ولا تأجيرها فهل هذا صحيح؟
الجواب
اختلف الفقهاء فى بيع دور مكة وإجارتها، فمنع أبو حنيفة بيعها وأجاز إجارتها فى غير أيام الحج، ومنع البيع والإجارة فى أيام الحج، محتجا بما رواه الأعمش عن مجاهد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "مكة حرام، لا يحل بيع رباعها ولا أجور بيوتها".
وذهب الشافعى إلى جواز بيعها وإجارتها، وحجته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر أهل مكة عليها بعد الإسلام، ولم يغنمها ولم يعارضهم فيها، وقد كانوا يتبايعونها قبل الإسلام وكذلك بعده، فدار الندوة وهى أول دار بنيت بمكة صارت بعد قصى لعبد الدار بن قصى، وابتاعها معاوية فى الإسلام من عكرمة بن عامر بن هشام بن عبد الدار بن قصى، وجعلها دار الإمارة وكانت من أشهر الدور فما أنكر بيعها أحد من الصحابة، وابتاع عمر وعثمان رضى الله عنهما الزيادات التى ضماها إلى المسجد وتملَّك أهلها أثمانها، ولو حرم ذلك لما بذلاه من أموال المسلمين، ثم جرى العمل به فكان إجماعا.
ورواية مجاهد مع أنها مرسلة -سقط منها الصحابى- تحمل على أنه لا يحل بيع رباعها على أهلها، تنبيها على أنها لم تغنم فتملك عليهم، فلذلك لم تبع، وكذلك حكم الإجارة.
من هذا نعلم أن جواز بيع دور مكة وإجارتها أمر مجمع عليه، والعمل عليه إلى الآن "الأحكام السلطانية للماوردى ص 164 "(9/336)
الإنابة فى الطواف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أصابنى مرض بعد الوقوف بعرفة لم أستطع معه أن أطوف طواف الإفاضة، فهل يمكن أن ينوب عنى أحد فيطوف بدلى؟
الجواب
طواف الإفاضة الذى يكون بعد الوقوف بعرفة هو ركن أساسى لا يصح الحج بدونه، ولا يجزئ عنه دم ولا غيره، ووقته ممتد فيمكن للإنسان أن يأتى به حتى لو انتهى شهر ذى الحجة، ولا يلزم بتأخيره دم ولا غيره كما قال بعض الفقهاء. وجعل الله أداءه ميسورا حتى على ذوى الأعذار غير القادرين على المشى، فيجوز الطواف من ركوب، كما يشاهد الآن فيمن يطاف بهم راكبين على "محفات " وعلى هذا فلا يجوز للمريض أن ينيب عنه غيره ليطوف ما دام يستطيع أن يطاف به محمولا ودليله أن أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها لما قدمت مكة مرضت، فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال لها - كما رواه الجماعة إلا الترمذى-"طوفى من وراء الناس وأنت راكبة" وورد فى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم طاف فى حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بمحجن -عود معقوف الرأس- ولم أجد نصًّا صريحا يجيز للمريض أن ينيب عنه غيره للطواف، مثل ذلك مثل الوقوف بعرفة، لا يوجد عذر يبيح الإنابة فيه. فهو مستطاع على أية حال، كالصلاة تؤدى من قيام أو قعود أو اضطجاع أو إيماء، لا ينوب فيها أحد عن أحد.
ولا يصح أن يقاس الطواف على رمى الجمار، لأن هذا واجب يجبر بدم ولو ترك فالحج صحيح، فالنيابة فيه جائزة، لوجود نص فى ذلك وهو حديث جابر: حججنا مع النبى صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم رواه أحمد وابن ماجه.
هذا، وهناك قول لعطاء بن أبى رباح يجيز النيابة فى الطواف قياسا على الإنابة فى الحج كله، فالإنابة فى بعض أركانه وواجباته جائزة من باب أولى.
لكن القياس مردود ما دام هناك نص لا يجيز الإنابة حيث كانت أم سلمة محتاجة إليها لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبحها لها وأمرها أن تطوف راكبة. والنيابة فى الحج كله هى للعاجز عنه لمرض يمنعه من السفر، أما من حضر فلابد من طوافه ولو محمولا(9/337)
جبل الرحمة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يتزاحم الواقفون بعرفة من أجل الصعود على جبل الرحمة فهل هذا الصعود من متممات الوقوف، وهل له أصل من السنة؟
الجواب
الوقوف بعرفة هو الركن الأكبر فى الحج وجاء التعبير عن ذلك فى الحديث الشريف "الحج عرفة" رواه أحمد وأبو داود والترمذى وقال: حسن صحيح وقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "وعرفة كلها موقف" كما رواه مسلم.
أكد الرسول بقوله هذا أن الحج لا يصح بدون الوقوف بعرفة، وأن أى موضع منها يمكن الوقوف به، فقد كان الحمس المتشددون فى دينهم من قريش ومن تابعها يقفون بالمزدلفة لأنها فى الحرم ويتركون الوقوف بعرفة لعامة الناس لأنها فى الحل، فنزل فى ذلك قوله تعالى {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} البقرة: 199 أى من عرفة إلى المزدلفة، ولما حج الرسول حجة الوداع وخطب الناس فى نَمِرَة توجه الى جبل عرفة ووقف على الصخرات واستقبل القبلة وأخذ يدعو ربه.
وكثير من المسلمين يحاول تتبع آثار النبى صلى الله عليه وسلم ليقول مثل قوله ويعمل مثل عمله، ويحرص على الاقتداء به فى كل صغيرة وكبيرة، بناء على عموم قوله تعالى {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة} الأحزاب: 21 وهذا أمر طيب لكى ينبغى الفرق بين الاقتداء فى الواجبات والاقتداء فى المندوبات فالواجبات لابد من القدوة بها، أما المندوبات فتستحب القدوة إن أمكنت دون تكلف ومشقة ودون إضرار بالغير، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها والإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار.
والوقوف بعرفة عند الصخرات كما وقف النبى صلى الله عليه وسلم ليس واجبا وكذلك الصعود على جبل الرحمة فالوقوف يتم بدون ذلك، ولو وجب لكانت فيه مشقة فوق المشقة الأخرى فى التنقل بين المشاعر. يقول النووى: وما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف فى كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة فى موقفه صلى الله عليه وسلم عند الصخرات، فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان. [الزرقانى ج 8 ص 179](9/338)
كسوة الكعبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندما بنى سيدنا إبراهيم عليه السلام الكعبة هل تركها مكشوفة أو كساها وما حكم شراء أو حيازة قطعة من كسوة الكعبة؟
الجواب
أما كسوة الكعبة فقد قال ابن حجر فى "فتح البارى" إن هناك روايات فى تعيين أول من كساها، وتحصل من هذه الروايات ثلاثة أقوال، أنه إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام أو أنه عدنان أحد أجداد الرسول، أو تُبَّع وهو أسعد اليمنى المذكور فى بعض الروايات، وحاول أن يجمع بينها فقال: إن إسماعيل أول من كساها مطلقا بأى كساء، وإن عدنان أول من كساها بعده، وإن تبعا هو أول من كساها الوصائل وهى ثياب حبرة من عصب اليمن.
هذا فى الجاهلية قبل الإسلام، أما فى الإسلام فقال ابن حجر بناء على رواية الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساها بالثياب اليمانية، ثم كساها عمر وعثمان بالقباطى المصرية ثم كساها الحجاج بالديباج، ثم تحدث حسين عبد الله باسلامة فى كتابه "تاريخ الكعبة المعظمة" عمن تولوا كسوتها بعد ذلك حتى الحرب العالمية 1914 م ودور مصر فيها حتى أنشئ لها معمل خاص فى السعودية "ص 229- 244".
وأما حكم بيع الكسوة أو اقتناء شىء منها فقد تحدث عنه الكتاب المذكور، وذكر أن البخارى ترجم فى صحيحه لكسوة الكعبة ولم يذكر إلا رأى عمر فى قسمة ما يتعلق بالكعبة، وأن الحافظ ابن حجر ذكر من رواية الفاكهى فى كتاب مكة أن شيبة الحَجْبى قال للسيدة عائشة رضى الله عنها: إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا فتكثر فننزعها ونحفر أبيارا فنعمقها وندفنها لكيلا تلبسها الحائض والجنب، فقالت: بئسما صنعت، ولكن بعها فاجعل منها فى سبيل الله وفى المساكين، فإنها إذا نزعت عنها لم يضرمن لبسها من حائض أو جنب، فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع له فيضعها حيث أمرته.
فيؤخذ من ذلك جواز بيع كسوة الكعبة واقتناء أجزاء منها، ما دام ثمنها يصرف لصالح الكعبة والأمر فى ذلك لولى الأمر، وهذا رأى جمهور الفقهاء "تاريخ الكعبة المعظمة ص 374-377 "(9/339)
دخول الكعبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعض الحجاج يخافون من دخول الكعبة بل يتشاءمون من ذلك فهل هذا صحيح؟
الجواب
ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وصلى فيها، وكذلك أجلاء الصحابة وروى البخارى ومسلم عدة أحاديث فى ذلك، وقال النووى فى "الإيضاح": ويستحب دخول البيت حافيا وأن يصلى فيه، والأفضل أن يقصد مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا دخل البيت مشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذى قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع فيصلى، ثبت ذلك فى صحيح البخارى، وهذا بحيث لا يؤذى أحدا ولا يتأذى هو، فإن آذى أو تأذى لم يدخل.
وأما ثواب دخولها ففيه روايات مرفوعة وموقوفة، منها حديث "من دخل البيت فصلى فيه دخل فى حسنة وخرج من سيئة مغفورا له" وقد اتفق الأئمة الأربعة على استحباب دخول البيت واستحسن مالك كثرة دخوله.
يعرف من هذا أنه لا حرج ولا تشاؤم من دخول الكعبة، وقد كان الناس يتزاحمون على الدخول قبل أن يرتفع الباب عن مستوى الأرض، ثم قل ذلك ونُظِّم، منعا للإيذاء واحتياطا لعدم وقوع ما يخل بحرمة الكعبة "تاريخ الكعبة المعظمة" ص 346- 361.
هذا ومن لم يستطع أن يدخل الكعبة للصلاة فيها صلى فى حجر إسماعيل، فقد روى أحمد بسند جيد أن عائشة رضي الله عنها قالت:
يا رسول الله، كل أهلك دخل البيت غيري، فقال "أرسلى إلى شيبة وهو ابن عثمان بن طلحة سادن الكعبة ومعه مفتاحها- فيفتح لك الباب" فأرسلت إليه فقال شيبة: ما استطعنا فتحه فى جاهلية ولا إسلام بليل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم "صلى فى الحجر فإن قومك استقصروا عن بناء البيت حين بنوه " أى تركوا منه جزءا وهو الحجر، فالصلاة فيه صلاة فى البيت(9/340)
حدود الحرم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل المواقيت المكانية للحج غير حدود الحرم، وما الذى يجب على من يدخل الحرم دون أن يكون مريدا للحج أو العمرة؟ وهل الحرم المدنى كالحرم المكى؟
الجواب
سبق فى ص 131 من المجلد الثانى حكم من يريد دخول الحرم المكى، هل يجب أن يدخل بإحرام أو لا يجب، كما سبق فى ص 266 من المجلد الرابع من هذه الفتاوى بيان المواقيت المكانية التى لا يجوز للمحرم أن يتعداها بدون إحرام، إلا وجب عليه دم. وحدود الحرم المكى غير المواقيت، فله حدود تحيط بمكة على مسافات غير متساوية، وقد نصبت عليها أعلام لمعرفتها، فحده من جهة الشمال "التنعيم" وبينه وبين مكة حوالى 6 كيلومترات، وحده من جهة الجنوب "أضاه" وبينها وبين مكة حوالى 12 كيلومترا، وحده من جهة الشرق "الجِعِرَّانة" بينها وبين مكة حوالى 16 كيلومترا، وحده من جهة الشمال الشرقى "وادى نخلة" وبينه وبين مكة حوالى 14 كيلومترا، وحده من جهة الغرب "الشفيسى" - الحديبية سابقا- وبينه وبين مكة حوالى15 كيلومترا.
قال محب الدين الطبرى: عن الزهرى عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة قال: نصب إبراهيم عليه السلام أنصاب -علامات- الحرم، يريه جبريل عليه السلام، أى أن الحدود توقيف من الله تعالى، ثم لم تحرك حتى كان " قُصىّ " أحد أجداد النبى صلى الله عليه وسلم فجددها، ثم لم تحرك حتى كان النبى صلى الله عليه وسلم فبعث عام الفتح تميم بن أُسيد الخزاعى فجددها، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبعث أربعة من قريش هم: مخرمة بن نوفل، وسعيد بن يربوع، وحويطب بن عبد العزى، وأزهر بن عوف، فجددوها، ثم جددها معاوية، ثم أمر عبد الملك بن مروان بتجديدها.
والحرم المكى له أحكام، منها ما جاء فى حديث متفق عليه بين البخارى ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة "إن هذا البلد حرام، ولا يعضد شوكه -وفى رواية "شجره" -أى لا يقطع- ولا يختلى خلاه -والاختلاء هو القطع، والخلا هو الرَّطب من النبات- ولا ينفَّر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرِّف واستثنى الإِذخر، وهو زرع كالحشيش له رائحة طيبة.
قال القرطبى: خص الفقهاء الشجر المنهى عنه بما ينبته الله تعالى من غير صنيع آدمى، فأما ما ينبت بمعالجة آدمى فاختلف فيه الجمهور على الجواز، وقال الشافعى: فى الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة، واختلفوا فى جزاء ما قطع من النوع الأول، فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم، وقال عطاء: يستغفر، وقال أبوحنيفة: يؤخذ بقيمته هدى، وقال الشافعى: فى العظيمة بقرة، وفيما دونها شاة. قال ابن العربى: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلا أن الشافعى أجاز قطع السواك من فروع الشجرة، وأجاز أيضا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها.
وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤذى بطبعه، فأشبه الفواسق. ومنعه الجمهور، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والقياس مصادم لهذا النص فهو فاسد الاعتبار، وهو قياس مع الفارق، فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشجر.
والفواسق المذكورة جاءت فى حديث رواه البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق فى الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" وجاء فى رواية مسلم عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحية.
وأما حرم المدينة فجاء فيه حديث متفق عليه رواه البخارى ومسلم "المدينة حرم ما بين عِير إلى ثور" ورويا أيضا عن أبى هريرة قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتى المدينة، وجعل اثنى عشر ميلا حول المدينة حمى كما رويا أيضا حديث " إن إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وإنى حرمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة " كما رويا أيضا أنه أشرف على المدينة فقال " اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدِّهم وصاعهم ".
وفى مظاهر هذا التحريم جاء حديث البخارى " لا يُقطع شجرها ولا يُحدث فيها حدث، من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وفى حديث مسلم "ولا يختلى خلاها، ولا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يصاد صيدها، ولا يقطع عضاهها".
واللابتان هما الجبلان، وعير اسم لحدهما، وثور قيل هو أحد أو جبل صغير بجواره، والعضاة كل شجر فيه شوك واحدها عضاهة وعضهة، وفى هذه المظاهر أو الأحكام قال الشافعى ومالك وأحمد وجمهور أهل العلم: إن للمدينة حرمًا كحرم مكة يحرم صيده وشجره، قال الشافعى ومالك: فإن قتل صيدا أو قطع شجرا فلا ضمان، لأنه ليس بمحل نسك -أى حج وعمرة- فأشبه الحِمَى، وقال ابن أبى ذئب وابن أبى ليلى: يجب فيه الجزاء كحرم مكة وبه قال بعض المالكية. وذهب أبو حنيفة وزيد بن على إلى أن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة، ولا تثبت له الأحكام من تحريم قطع الشجر وقتل الصيد، والأحاديث ترد على هذا الرأى، ودليله حديث قول النبى صلى الله عليه وسلم لأبي عمير" ما فعل النُّغَنر يا أبا عمير" وأجيب عنه بأنه كان قبل تحريم المدينة أو أنه من صيد الحل.
هذان الحرمان وهما حرم مكة والمدينة، هما اللذان صحت فيهما الأحاديث، ويقال: إن هناك حرما ثالثا له هذه الأحكام وهو " وَجٌّ" بالطائف، وفيه خلاف يرجع إليه فى " نيل الأوطار ج 5 ص 37"(9/341)
فضل مكة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
اشتد الخلاف بين بعض من أهل العلم كانوا يعملون بالحجاز، في بيان الأفضل عند الله هل هو مكة أو المدينة، فهل من دليل يبين الحق فى ذلك؟
الجواب
إن المفاضلة بين شيئين تهمنا معرفتها إذا كنا سنستفيد منها فى ديننا أو دنيانا، وإلا كانت ضياعا للوقت والجهد نحن أحوج إليهما فى ظروفنا الحاضرة، والكتب القديمة تعرضت لذلك إما للترف الذهنى وإما للإِفادة فى العمل بناء على نصوص وردت، منها ما رواه أحمد وابن ماجه والترمذى وصححه عن عبد الله بن عَدِىِّ بن الحمراء أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزوَّرة فى سوق مكة "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أنى أُخرجت منك ما خرجت" وروى مثله أو قريبا منه الترمذى عن ابن عباس، والحزورة بتشديد الواو المفتوحة أو بإسكان الزاى هى الرابية الصغيرة.
يقول الشوكانى " نيل الأوطار ج 5 ص 31" فيه دليل على أن مكة خير أرض الله على الإطلاق وأحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك استدل من قال: إنها أفضل من المدينة، قال القاضى عياض، إن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، وإن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، واختلقوا فى أفضلهما ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وسلم. فقال أهل مكة والكوفة والشافعى وابن وهب وابن حبيب المالكيان، إن مكة أفضل، وإليه مال الجمهور، وذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى أن المدينة أفضل.
ودليل الأولين هو الحديث المذكور، ودليل الآخرين حديث البخارى "ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة " مع حديث "موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها " وليس المراد أن هذا المكان من الجنة فعلا وإنما المراد أن الصلاة فيه تؤدى إلى الجنة، وذلك كحديث "الجنة تحت ظلال السيوف" أى أن الجهاد يوصل إلى الجنة.
ومما يرجح قول الجمهور فى فضل مكة حديث رواه أحمد وابن خزيمة والطبرانى والبيهقى وابن حبان فى صحيحه " صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من صلاة فى مسجدى بمائة صلاة" وقد روى من طريق خمسة عشر صحابيا، فأفضلية المسجد لأفضلية المحل الذى هو فيه.
هذا، ويعجبنى فى هذا المقام ما ختم به الشوكانى الكلام عن هذا الموضوع حيث قال: واعلم أن الاشتغال ببيان الفاضل من هذين الموضعين الشريفين كالاشتغال ببيان الأفضل من القرآن والنبى صلى الله عليه وسلم، والكل من فضول الكلام الذى لا تتعلق به فائدة غير الجدال والخصام، وقد أفضى النزاع فى ذلك وأشباهه إلى فتن وتلفيق حجج واهية، كاستدلال المهلب بن أبى صفرة على أفضلية المدينة بأنها هى التى أدخلت مكة وغيرها من القرى فى الإِسلام، فصار الجميع فى صحائف أهلها، وبأنها تنفى الخبث كما ثبت فى الحديث الصحيح، وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة، فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين، وعن الثانى بأن ذلك إنما هو فى خاصٍّ من الناس ومن الزمان، بدليل قوله تعالى {ومن أهل المدينة مَردوا على النفاق} التوبة: 101 والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبى صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة، ثم على وطلحة، والزبير وعمار وآخرون، وهم من أطيب الخلق، فدل ذلك على أن المراد بالحديث ناس دون ناس، ووقت دون وقت، على أنه إنما يدل ذلك على أنها فضيلة، لا أنها فاضلة. انتهى.
وأؤكد كما بدأت الإجابة على عدم الإغراق فى الجدال فى مثل هذه الأمور التى لا تعود بفائدة واضحة على الفرد والمجتمع، وبخاصة فى مثل الظروف التى يعيشها المسلمون الآن ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى "الزرقانى على المواهب ج 1 ص 328".
إن التمادى فى الخلاف حول تفضيل شخص على شخص وأولويته بالتكريم خلق فى الأمة الإسلامية جماعة كبيرة لها حكمها القاسى على الكثرة الكاثرة من المسلمين، وتتعايش معها كما يتعايش أهل الأديان التى قال الله فيها {وقالت اليهود ليست النصارى على شىء وقالت النصارى ليست اليهود على شىء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} البقرة: 113.
إن الماضى بما فيه من خلاف يجب أن ننساه ونتوحد لمواجهة التحديات التى تكتلت الأعداء لضرب المسلمين بها بكل الأسلحة التى لم يفطن إلى الكثير منها كثيرون من المتخالفين الذين يدعى كل فريق منهم أنه هو الناجى من النار لأنه فى رأيه يسير على ما كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
أرجو الله للأمة الإِسلامية أن تعود إلى رشدها بترك الخلافات التى لا تجنى من ورائها إلا الضعف والإِساءة إلى سمعة الإسلام، وهو الدين الخاتم الذى جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، واختار له رسولا قال فيه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء: 106(9/342)
العطور فى الإحرام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندما يكون الحج فى زمن الصيف يكثر العرق وتتغير رائحة الجسم فهل من الممكن الاغتسال والتطيب فى مدة الإحرام؟
الجواب
معلوم أن من مظاهر الإِحرام بالنسك تجرد الإنسان من كل زينة والظهور بمظهره عندما يحشر إلى ربه كما قال تعالى {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خوَّلناكم وراء ظهوركم} الأنعام: 94 وكذلك تحقيق معنى المساواة بالبعد عن المظاهر التى يحرص عليها بعض الناس ابتغاء وضع معين، كما يشير إليه الحديث الشريف " الحاج الشعث التفل " رواه البزار بسند صحيح. والشعث من عليه أثر التراب من السفر، والتفل البعيد العهد بالماء.
ويظهر تغير الرائحة إذا طالت مدة الإِحرام، كالذى يحرم بالحج مُفرِدًا أو قارنا عند مروره بالميقات قبل يوم عرفة بوقت طويل فى موسم الحر حيث لا يحل من إحرامه إلا يوم العيد أو بعده، أما المحرم بالعمرة أوَّلا فمدة إحرامه قصيرة لا تتغير رائحته إلا إذا كانت وسيلة المواصلات بطيئة كالجمال التى كانت سائدة قبل الاختراعات الحديثة فى وسائل النقل.
وفى مواجهة تغير الرائحة شرع الغسل والتطيب قبل الإِحرام حتى لو بقيت آثار الطيب بعد الإِحرام، كما أبيح الغسل المجرد عن الطيب بل استحب أثناء الإِحرام فى عدة مواطن، وقد مر ذلك بوضوح فى ص 411 من المجلد الثالث من هذه الفتاوى.
أما التطيب بعد الإحرام فممنوع للحديث السابق الذى رواه البزار، ولأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من وضعه بغسله وإزالته، ولنهيه فيمن مات محرما أن يمس طيبا عند غسله وتكفينه، ولا بأس عند الاغتسال باستعمال الصابون الذى له رائحة بقصد النظافة لا بقصد التطيب، وكذلك يباح شم الفواكه ذات الرائحة الطيبة كالتفاح فإنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه،أما شم الورد والريحان والنعناع متعمدا فممنوع وما جاء من الروائح عفوا بدون قصد فلا ضرر فيه كالمرور بحديقة فيها أزهار أو بدكان من يبيع العطر، لمشقة التحرز من ذلك وانتفاء القصد والتعمد. ووضع الطيب في المطبوخ أو المشروب بحيث لم يبق له طعم ولا لون ولا ريح إذا تناوله المحرم لا فدية عليه، وإن بقيت رائحته وجبت عليه الفدية بأكله عند الشافعية وقال الحنفية: لا فدية عليه، لأنه لم يقصد به الترفه بالطيب.
ويلاحظ أن استعمال المحرم للطيب تلزمه الفدية إذا كان عالما بالحكم غير جاهل، وكان متعمدا غير ناس أنه محرم، وعند الجهل والنسيان لا فدية، فقد روى الجماعة إلا ابن ماجه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وهو مصفِّر لحيته ورأسه -أى متطيب- وقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة وأنا كما ترى، فقال له "اغسل عنك الصفرة وانزع عنك الجبة، وما كنت صانعا في حجك فاصنع فى عمرتك" ولم يأمره بفدية، لأنه كان جاهلا بالحكم، وقال عطاء بن أبي رباح: إذا تطيب المحرم أو لبس -جاهلا أو ناسيا- فلا كفارة عليه. رواه البخاري.
والفدية عند تعمد التطيب والعلم بحرمته هى ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين صاع، أو صيام ثلاثة أيام، كما قال تعالى فيمن حلق شعره {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} البقرة: 196 والنسك أى الذبح. وروى البخارى ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن آذته هوام رأسه "احلق، ثم اذبح شاة نسكا، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين".
والإمام الشافعي قاس غير المعذور على المعذور فى وجوب الفدية، وأوجب أبو حنيفة الدم على المعذور إن قدر عليه.
وربما تعرضنا لذلك مرة أخرى إن شاء الله(9/343)
تأخير الحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى شخص أتيحت له الفرصة أكثر من مرة ليحج ولكنه لم يحج، هل يعاقب على هذا التأخير؟
الجواب
الحج مفروض على المستطيع كما قال الله تعالى وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم وهو واجب فى العمر كله مرة واحدة بإجماع العلماء، ولحديث البخارى ومسلم وغيرهما أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالحج سئل أفى كل عام فقال " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " ولكن هل إذا توافرت أسباب الاستطاعة وجب على الفور أداء الحج أو يجوز تأجيله إلى عام آخر؟ قال جمهور العلماء: الوجوب على الفور، ويأثم من أخره إلى عام آخر، بحيث إذا مات حوسب عليه إن لم يغفر الله له، ودليلهم فى ذلك حديث أحمد وابن ماجه والبيهقى " من أراد الحج فليعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتكون الحاجة " وفى رواية " تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدرى ما يعرض له " لكن الإمام الشافعى قال: إن وجوب الحج على التراخى، بمعنى أنه لو أخره مع الاستطاعة لا يأثم بالتأخير متى أداه قبل الوفاة ودليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخر الحج إلى السنة العاشرة وكان معه أزواجه وكثير من أصحابه، مع أنه فرض فى السنة السادسة من الهجرة، فلو كان واجبا على الفور ما أخره. وقال الشافعى: ومع ذلك فالأفضل التعجيل بناء على الأحاديث المذكورة التى حملها على الندب لا على الوجوب، ويضم إليها حديث رواه ابن حبان فى صحيحه والبيهقى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله عز وجل: إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه فى المعيشة تمضى عليه خمسة أعوام لا يفد إلىَّ لمحروم ".
وعندما قال الله تعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} قال بعد ذلك {ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين} قال الحسن البصرى: المراد بالكفر هو الترك أى عدم الحج.
كالحديث الذى رواه مسلم وينص على أن من ترك الصلاة فهو كافر، لكن ابن عباس ومعه المحققون من العلماء قالوا: إن الكفر لا يكون إلا بإنكار الفريضة وجحود أن الحج واجب، لكن لو آمن الإنسان بأنه مفروض وواجب ولكنه تكاسل فى الأداء فهو ليس بكافر بل هو مؤمن عاصٍ، لو لم يحج مع الاستطاعة يحاسبه الله بعد موته ويدخله النار إن لم يغفر له، ويكون مصيره النهائى هو الجنة، ويحمل على هذا حديث "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا " رواه الترمذى وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وروى مثله البيهقى، فالحديث لا يدل قطعا على الكفر، ولئن صح فالمراد به الجاحد المنكر، ويحمل على الترغيب فى التعجيل فقط(9/344)
الطواف مع لبس الحذاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الطواف حول الكعبة والإنسان لابسُ الحذاء حلال أو حرام؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن أول شىء بدأ به النبى صلى الله عليه وسلم، حين قدم مكة، أنه توضأ ثم طاف بالبيت. وروى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للسيدة عائشة رضى الله عنها عندما جاءتها الحيضة فى مكة "إن هذا شىء كتبه الله على بنات آدم، فاقض ما يقض الحاج غير ألا تطوفى بالبيت حتى تغتسلى" وروى الترمذى والدارقطنى وصححه الحاكم وابن خزيمة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " الطواف صلاة، إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير.
ويوخذ من هذه الأحاديث أن الطواف يشترط له ما يشترط للصلاة، ومن ذلك الطهارة من للحدث الأكبر والأصغر وطهارة الثوب وطهارة المكان.
فإن كان الحذاء الذى يلبسه الطائف طاهرا صح طوافه بدون خلاف، ولا يعتبر لبسه للحذاء ذنبا أو احتقاراً لحرمة البيت، فذلك راجع إلى نيته.
أما إذا كان الحذاء نجسا، فلا يجوز ولا يصح الطواف به، وذلك عند جمهور الفقهاء، لكن الحنفية قالوا: إن الطهارة من النجاسة فى الثوب أو البدن سنة فقط، وعلى ذلك يجوز الطواف بالحذاء النجس وبالثياب النجسة. ولا شىء على الإنسان.
وقالوا: إن الطهارة من الحدث الأصغر عند الطواف واجبة، لو تركها وطاف بدون وضوء صح طوافه ولزمته شاة، وكذلك لو كان محدثا حدثا أكبر صح طوافه ولزمته بدنة، ويعيده ما دام فى مكة.
والأولى اتباع رأى الجمهور، والتأكد من الطهارة عند الطواف، سواء فى ذلك طهارة البدن والثوب والطهارة من الحدثين، ولا مانع من لبس النعل إذا كان طاهرا يتقى به حرارة الأرض أو خشونتها مثلا(9/345)
العشر الأوائل من ذى الحجة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الليالى العشر التى أقسم الله بها فى قوله تعالى {والفجر وليال عشر} ولماذا أقسم الله بها؟
الجواب
الليالى العشر التى أقسم الله بها فى أول سورة الفجر، قيل إنها العشر الأول من شهر الله المحرم ونسب هذا إلى ابن عباس، وقيل:إنها عشر ذى الحجة، ونسب هذا إلى مجاهد والسدى والكلبى، بل نسب إلى الرسول من رواية أبى الزبير عن جابر، وإن لم تثبت هذه الرواية، وهذا القول رجَّحه الكثيرون، وبخاصة أن الليالى العشر ذكرت مع الفجر، وكثيرون من المفسرين قالوا: إنه فجر يوم النحر. وهى كما قالوا: ليالى أيام عشر.
ويؤكد هذا القول أحاديث وردت فى فضلها، فقد روى البخارى وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام " يعنى أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال "ولا الجهاد فى سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك شىء ".
هذا أصح ما ورد فى فضل هذه الأيام. ولكن ما هو العمل الصالح، هل هو نوع معين من العمل، أو هو كل قربة يتقرب بها إلىالله؟ جاء فى بعض الأحاديث النص على بعض القرب، ففى رواية الطبرانى بإسناد جيد " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلىَّ العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير" فالعمل هو الذكر لكن جاء فى حديث غريب -أى رواه راو واحد فقط -للترمذى قوله "يعدل صيام كل يوم بصيام سنة. وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر" فالعمل هو الصيام والقيام، وجاء فى فضل هذه الأيام أيضا بوجه عام كلام رواه البيهقى بإسناد لا بأس به عن أنس ابن مالك قال:
كان يقال فى أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم.
إن النص على عمل فى هذه الأيام لا يلغى عملا آخر، لهذا أرى أن أى عمل صالح له ثوابه المضاعف، وبخاصة ما نص عليه فى بعض الروايات، من الذكر والصيام والقيام، وكان سعيد بن جبير يجتهد فيها اجتهادا شديدا حتى ما كَان يقدر عليه.
ولعل الفضل سببه أن هذه الأيام هى التى يكثف فيها الذهاب إلى المسجد الحرام لأداء فريضة الحج والعمرة، ويعيش الناس فيها فى ظلال الروحانية والشوق إلى الأماكن المقدسة، سواء منهم من سافر ليحج ومن لم يسافر، والعمل الصالح إذا وقع فى ظل هذه الروحانية كان أرجى للقبول ومضاعفة الثواب، وبخاصة أن هذه الأيام فيها يوم عرفة الذى جاء فيه حديث رواه ابن خزيمة وابن حبان "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة " وفيها العيد والحج الأكبر، وهى أيام يتوفر فيها الأمن فى البلاد الإسلامية لتهيئة الجو للمسافرين للحج ولمن خلفوهم وراءهم وذلك بالانشغال بالعبادة والذكر.
ويقول ابن جحر فى فتح البارى ج 2 ص 234: والذى يظهر أن السبب فى امتياز عشر ذى الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهى الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتى ذلك فى غيره، وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال. انتهى(9/346)
نقص أشواط الطواف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تقول سيدة: طفت أربعة أشواط ثم أغمى علىَّ ونقلت إلى المستشفى وبعد العلاج سافرت ولم اكمل الطواف. فهل حجى صحيح؟
الجواب
جمهور الفقهاء على أن الطواف حول البيت يكون سبعة أشواط وذلك لفعل النبى صلى الله عليه وسلم ولقوله "خذوا عنى مناسككم " فمن ترك شوطا منه بطل، كمن يترك ركعة من إحدى الصلوات المفروضة. والنبى صلى الله عليه وسلم يقول "الطواف حول البيت صلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير رواه الترمذى وابن حبان فى صحيحه.
ولا يجبر ما ترك من الأشواط بدم، كما لا يجبر ترك الركعة من الصلاة بشىء آخر.
غير أن الإمام أبا حنيفة قال: إن ركن الطواف هو أربعة أشواط، من نقص عنها بطل الطواف وبطل الحج، أما الاشواط الثلاثة الباقية فهى من الواجبات التى لو تركت صح الطواف ووجب تقديم الهدى. وعلى هذا المذهب يكون طواف صاحبة السؤال صحيحا وبالتالى يكون الحج صحيحا وعليها تقديم الهدى(9/347)
الإنابة فى رمى الجمرات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مرضت يوم العيد فى مِنى ولم استطع أن أرمى الجمرات. ووكلت شخصا بالرمى، فهل يكفى ذلك عنى؟
الجواب
رمى الجمار فى مِنى من الواجبات فى الحج، إن تركت كان الحج صحيحا ولكن يجب تقديم الهدى، ويجوز للإنسان أن ينيب عنه غيره ليرمى الجمرات إن كان عنده عذر يمنعه من ذلك كمرض أو شدة الزحام وبخاصة بالنسبة للنساء، ويدل عليه حديث رواه ابن ماجه عن جابر رضى الله عنه قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم(9/348)
الجماع فى الحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم من جامع زوجته فى أثناء تأدية فريضة الحج؟
الجواب
معلوم أن الجماع ممنوع ما دام الإنسان محرما بالحج أو العمرة، قال تعالى {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج} البقرة: 197.
على أن المراد بالرفث هو الجماع: وهناك ممنوعات أخرى فى الإحرام كالتطيب وقص الشعر. وقال العلماء: هناك فى الحج تحللان، تحلل أصغر وتحلل أكبر، أو تحلل أول وتحلل ثان، والتحلل الأصغر أو الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة هى: رمى جمرة العقبة وحلق الشعر أو تقصيره وطواف الإفاضة. وبهذا التحلل حل له كل ما كان محرما عليه وقت الإحرام ما عدا الجماع، فإن فعل الثالث كان التحلل الأكبر أو الثانى وحل له الجماع أيضا.
فإن جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه وتمم المناسك ووجب ذبح جمل أو ناقة، وعليه قضاء الحج فى أول فرصة أما إن جامع بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فقد فسد حجة أيضا، وعليه أن يستمر فى أداء المناسك مع وجوب الهدى وهو الجمل أو الناقة ومع وجوب القضاء أيضا، وهذا هو رأى جمهور الفقهاء، أما أصحاب الرأى - أبو حنيفة وأصحابه - فيقولون: لو جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجة.
وعليه شاة أو سُبْعُ بقرة، وإن جامع بعده لم يفسد حجة وعليه بدنة - جمل أو ناقة.
أما الجماع بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثانى فلا يفسد الحج بالاتفاق وتجب فيه بدنة عند بعض الفقهاء، وعند بعضهم الأخر تجب شاة وهو مذهب الإمام مالك(9/349)
تكرار الحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أديت الحج مرة واحدة، ولى رغبة فى تكرار أدائه، إلا أن هناك بعض الأمور التى تستلزم الإنفاق فيها فأيهما أفضل: الحج أو الإنفاق؟
الجواب
من المعلوم أن الحج فرض على المستطيع مرة واحدة فى العمر، وذلك لحديث البخارى ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ثم قال صلى الله عليه وسلم "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " وفى رواية لأحمد وأبى داود والنسائى والحاكم عن ابن عباس رضى الله عنهما أن السائل هو الأقرع بن حابس، وأن الرسول رد عليه بقوله "الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع ".
يعرف من هذا أن تكرار الحج ليس واجبا، وإنما هو تطوع والتطوع فى كل شىء ينبغى أن يراعى فيه تقديم الأهم على المهم، وقد تكون هناك حالات فى أشد الحاجة إلى المعونة لإنقاذ الحياة أو تخفيف الويلات، وهنا يكون الإنفاق فيها أولى، وبخاصة بعد أن متَّع الله سكان الحرم بنعم زادت على ما كان يصبو إليه سيدنا إبراهيم عليه السلام حين دعا ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم ويرزقهم من الثمرات، كما هو فى الآية 37 من سورة إبراهيم.
والشخص الذى يحب أن يتردد على بيت الله بالحج أو العمرة ورأى أن هناك أمرا هاما قعد به عن السفر للزيارة سيعطيه الله ثوابا على نيته.
وهناك مأثورات فى هذا المقام -وإن كانت لا تعد تشريعا -جاء فيها أن الله كتب ثواب الحج لمن صادف فى طريقه فقراء ألجأتهم الضرورة إلى أكل الميتة، فدفع إليهم ما معه ورجع إلى بلده دون أن يحج، فأعطاه الله ثواب الحج وإذا لم يكن هناك نص فى هذه المسألة فإن التشريع بروحه وأهدافه لا يقر أن توجه أموال طائلة فى مندوب من المندوبات، فى الوقت الذى فيه واجبات تحتاج إلى هذه الأموال.
هذا وما يروى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "من حج حجة أدى فرضه، ومن حج ثانية داين ربه، ومن حج ثلاث حجج حرَّم الله شعره وبشره على النار" فليس بصحيح(9/350)
حكمة مشروعية الحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيح الحكمة فى مشروعية الحج، الواردة فى بعض آيات الذكر الحكيم؟
الجواب
من أهم الآيات التى ذكرت فيها حكمة مشروعية الحج قوله تعالى عن دعاء إبراهيم عليه السلام {ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرَّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} إبراهيم: 38، وقوله {وأذِّن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
ليشهدوا منافع لهم} الحج: 27، 28، ففى الحج فائدة لأهل مكة تشمل كل منفعة دينية ودنيوية، مادية ومعنوية سياسية وثقافية واجتماعية وغيرها، يفيد منها الحجاج ومن يسكنون مكة ويفيد المسلمون بوجه عام.
وعلى ضوء ما ذكرناه من حكمة التشريع عامة نوضح حكمة الحج على الوجه التالى:
1- صلة العبد بربه فى الحج تظهر عندما يحرم الحاج ملبيًا، يقر بوحدانية الله ويشكره، ويرجع كل الفضل والنعمة إليه "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وحين يطوف بالبيت سائلا متضرعا يستمنح الله جوده وبره وعفوه، وحين يقبل الحجر أو يستلمه، كأنه يعاهد ربه على الطاعة، على حد ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عنه " إنه يمين الله يصافح بها خلقه ". رواه أحمد وابن خزيمة فى صحيحه. وفى سعيه بين الصفا والمروة كالمتردد قلقا على مصيره: هل تفضل الله عليه عند طوافه ببيته أو لم يتفضل، وفى وقوفه متجردا من كل زينة، ملغيا لقبه ومظاهر ترفه وراء ظهره خاشعا داعيا.
وفى هذه الهيئة المتواضعة مع الذلة والانكسار يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إن الله يباهى بأهل عرفات الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادى أتونى شعثًا غبرًا ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أنى قد غفرت لهم " رواه أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقى. وفى رميه للجمرات تشبه بحربه للشيطان ومقاطعة لما يغرى به من فساد، كما تظهر العبودية له بتحمل مشقة السفر، ومخالطة ذوى الطباع المختلفة والتعرض للاجواء الغريبة، مؤثرا رضاء الله على رضاء نفسه وفى الهدى والفداء رمز للتضحية بالدم وبأغلى ما يملك الإنسان إيثار لما عند الله وجهادا فى سبيله.
وفى الحج ارتباط بمهد النبوة وإحياء لبيت الله، وتذكر لحوادث ماضية كانت سببا فى قداسة هذا المكان، من وجود هاجر وابنها إسماعيل وحيدين فى هذا الوادى، ولطف الله بهما فنبعت لهما زمزم وعَمُرَ المكان وبنى أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين.
هذا، وفى الذكر والتكبير والتلبية عند المشاعر صلة قوية بالله، قال تعالى {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين.
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم. فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم اَباءكم أو أشد ذكرا} البقرة: 198 - 200، وقال {واذكروا الله فى أيام معدودات} البقرة: 203، وقال {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف} الحج: 36.
هذا الذكر كله يدل عليه فى حكمة الحج قول النبى صلى الله عليه وسلم "إنما فرضت الصلاة وأمر بالحج وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله " رواه أبو داود والترمذى وقال: حسن صحيح.
2- الإحرام بالحج فى ملابس متواضعة وبعدٍ عن مظاهر الترف درس عملى فى التواضع وعدم الغرور بزخارف الدنيا وفيه نكران للذات وتركيز على التقرب إلى الله بقلب خالص وعمل طيب ينال به الكرامة عنده. وقد حج النبى صلى الله عليه وسلم على رحلٍ رث وقطيفة خلقة وقال "اللهم حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة" رواه الترمذى وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من الحاج؟ قال " الشعث التفل " رواه ابن ماجه بإسناد حسن. والشعث هو البعيد العهد بتسريح شعره وغسله، والتفل هو من ترك الطيب والتنظف حتى تغيرت رائحته.
وفى الحج تمرين على الأسفار والترحال وتحمل المضايقات وضبط النفس عن السباب والفسوق وإمساك عن المغريات، وفى الحديث الشريف "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " رواه البخارى ومسلم وفيه إلى جانب ذلك ثقافة واطلاع وتفكر واعتبار ودراسة عملية على الطبيعة-إلى حد ما - لفترة من حياة النبى صلى الله عليه وسلم ولتاريخ العرب وذكرياتهم الدينية، مع منافع مادية تجارية وغيرها فى الموسم.
3- لا ينكر أحد أن الحج فرصة لعقد مؤتمر إسلامى يتخطى حدود البيئة والجنس واللغة، ويعلو على الفوارق والعصبيات، ينبغى أن تناقش فيه المشكلات وتوضع فيه الحلول، وأن تتلاقى الأفكار وتتلاقح الثقافات، توكيدا للوحدة الجامعة التى يحبها الله لهذه الأمة {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} الأنبياء: 92، لتنهض سويا بواجباتها الدينية والإنسانية العامة، ولتقف صفا واحدا أمام العدو المتربص.
إن للمسلمين فى هذا الموسم من عوامل الوحدة ما يعلو على كل العوامل، فربهم جميعا واحد، ودينهم واحد، وقبلتهم واحدة، وغايتهم واحده، وزيهم واحد، وهم بهذه العوامل كأنهم شخص واحد ينبغى أن يكونوا كما قال النبى صلى الله عليه وسلم " مثل المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"رواه البخارى ومسلم.
هذه بعض حكم تلتمس للحج، وإذا كان فى بعض شعائره ما تخفى الحكمة فيه كرمى الجمار فإن أداءها لمجرد أنها مشروعة من الله دليل على قوة الإيمان وعلى الثقة البالغة فى حكمة الله كما قدمنا.
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحس أن فى بعض النفوس خواطر تحوم حول بعض هذه الشعائر فنبَّة إلى جانب التعبد والتسليم المطلق فيها قائلا وهو يلبِّى " لبيك بحجة حقًّا، تعبدا ورقًّا" رواه البزار والدار قطنى، ويوضحه قول عمر رضى الله عنه حين قبَّل الحجر الأسود: والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع وله لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبتك. رواه البخارى ومسلم(9/351)
صوم التمتع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا أردت الحج متمتعا، ولزمنا الهدى ولم أقدر عليه، ووجب علىَّ الصيام بدل الهدى، فمتى أصوم؟
الجواب
قال تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم. تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام} البقرة: 196.
تدل الآية على أن من وجب عليه الصوم من أجل التمتع، وهو الإحرام بالعمرة فى موسم الحج قبل الحج، كان الصوم على فترتين،فتره فى أثناء الحج، وفترة عندما يعود إلى وطنه.
فما دام فى الحج يصوم ثلاثة أيام، ولكن متى؟ هناك أقوال أهمها:
1 - أن يكون البدء بالصيام بعد الإحرام بالحج، والغالب فيمن يتمتعون لعمل العمرة أولا أنهم لا يتحملون الالتزام بواجبات الإحرام مدة طويلة، مثل عدم التطيب، وعدم قص الشعر والظفر، وعدم قربان النساء. فهو يحرم بالحج قبل يوم عرفة بقليل، فإذا أحرم يوم السابع من ذى الحجة أمكنه أن يصوم السابع والثامن والتاسع الذى هو يوم عرفة، وعليه جمهور الفقهاء، ويجوز له أن يصوم قبل السابع إذا أحرم بالحج قبل ذلك.
2- يصومها ما دام بمكة فى أيام مِنى، وهى أيام التشريق. قاله مالك وجماعة من أهل المدينة.
فقد روى مالك فى الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديًا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام منى. وهذا الصيام قيل أداء وقيل قضاء، لأن وقت الأداء هو قبل يوم النحر. والأظهر أنه على وجه الأداء.
قال القرطبى فى تفسيره "ج 2 ص 400 " إن قيل إن صوم أيام التشريق منهى عنه، كما عليه الشافعى فى قوله الجديد وعليه أكثر أصحابه، قيل إن ثبت النهى فهو عام يخصص منه المتمتع. بما ثبت فى البخارى ان عائشة كانت تصومها، وعن ابن عمر وعائشة قالا: لم يرخص فى أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدى، وقال الدار قطنى: إسناده صحيح.
وهو حديث موقوف عليهما، وروى مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم عنهما ولكن طرقه ضعيفة.
3- أن يكون صوم الأيام الثلاثة بعد أيام التشريق، قال ابن المنذر: رويناه عن على بن أبى طالب وقاله الحسن وعطاء وكذلك نقول.
4- أن يكون الصوم فى إحرامه بالعمرة - وذلك قبل الإحرام بالحج - فما دام من يريد الصيام محرما جاز له ذلك، لأن إحرامه بالعمرة كاحرامه بالحج، وحكى عن أبى حنيفة.
5- هناك قول لأحمد بن حنل بجواز الصيام قبل الإحرام. وذلك من أول أيام العشر، وقال به عطاء وتتلخص الأقوال فى قولين أساسيين الأول جواز الصوم قبل الإحرام، وهو المذكور تحت رقم 5 والثانى اشتراط أن يكون الصوم بعد الإحرام، والإحرام إما أن يكون بالعمرة وهو المذكور تحت رقم 4 وإما أن يكون الإحرام بالحج، والقائلون بذلك رأوا أن يكون الصيام قبل يوم النحر، وهم الجمهور وهو المذكور تحت رقم 1، وأجاز بعضهم أن يكون بعد يوم النحر، إما فى أيام التشريق - للضرورة أو الحاجة وهو المذكور تحت رقم 2، وإما بعد أيام التشريق وهو المذكور تحت رقم 3.
ورأى الجمهور أقوى، ولا مانع من الأخذ بغيره عند الضرورة أو الحاجة "راجع تفسير القرطبى ج 2 ص 399 "(9/352)
الحج وتزويج الولد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
معى مبلغ من المال أستطيع أن أحج به، ولكن عندى ولد يستحق الزواج، فهل يمكن أن أعطيه هذا المبلغ للزواج ويسقط عنى الحج؟
الجواب
من المعلوم أن الله سبحانه فرض الحج على المستطيع، وحذر من قصَّر فيه كما يدل عليه قوله تعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} آل عمران: 97، وقال جمهور الفقهاء: إن الحج واجب على الفور، يأثم الإنسان بتأخيره، وقال الشافعى:
واجب على التراخى، لو أخره لا حرمة عليه ولكن يكون عالقًا بذمته لا يبرأ حتى يؤديه، وإن مات وجب الحج عنه، أما مساعدة الولد أو البنت على الزوج فهى سنة ليست واجبة، وإذا تعارض الواجب مع السنة قدم الواجب، وهذا محل اتفاق بين الجميع(9/353)
الحج عن الغير أو للغير
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
والدى عنده مبلغ من المال يكفيه للحج ولكنه عاجز عن أداء الفريضة صحيًّا، فهل يصح ان أحج عنه، ولو دعانى ابنى الذى يعمل فى السعودية للحج على نفقته، فهل يصح ان أجعل هذه الحجة لوالدتى مع أنها ليست من مالى؟
الجواب
من عجز عن أداء الحج بنفسه لمرض أو شيخوخة أو غيرهما وعنده القدرة المالية يجب عليه أن ينيب غيره ليحج عنه، بدليل الحديث الذى رواه الترمذى بسند صحيح عن الفضل بن عباس رضى الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده فى الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال "نعم ".
وكذلك إذا مات من استطاع أن يحج ولم يحج يجب أن يحج عنه غيره حتى لو لم يوص بذلك على ما رآه جمهور الفقهاء، وتخرج النفقات من التركة وتقدم على الميراث لأنها دين. روى البخارى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمى نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال "نعم، حجى عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا فالله أحق بالوفاء ".
هذا عن الحج عن الغير، أو الحج الواجب، أما الحج للغير وهو الحج المندوب الذى يريد الحاج أن يهدى ثوابه لأحد أقاربه أو لغيره ممن ماتوا ولم يكن الحج واجبا عليهم -فيجوز أيضا، ويستوى فى ذلك أن تكون نفقات الحج من الشخص نفسه أو من شخص اخر أو جهة أخرى، وإن كان للمتبرع بهذه النفقات ثواب أيضا.
ويشترط فى كلا الأمرين -الحج عن الغير والحج للغير-أن يكون القائم به قد سبق له الحج عن نفسه وسقطت عنه الفريضة، فإن لم يكن قد أداها حسبت الحجة له هو، على ما رآه جمهور الفقهاء وليس للغير فيها نصيب من سقوط الحج عنه أو وصول الثواب إليه، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقى وصححه عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال له "من شبرمة"؟ قال: أخ أو قريب لى، قال " أحججت عن نفسك "؟ قال لا، قال "فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة " هذا، والحج الواجب عن الغير إن كان ميتا لا يشترط فيه أن يكون قد أوصى به لأن الدَّين يجب قضاؤه مطلقا، وكذلك سائر الحقوق المالية من كفارة أو زكاة أو نذر فالظاهر أن دين الحج مقدَّم على دين الآدمى إذا كانت التركة لا تتسع للحج والدين، لقول النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث الجهنية السابق "فالله أحق بالوفاء" والإمام مالك لا يوجب الحج عن الغير من تركته إلا إذا أوصى، أما إذا لم يوص فلا يحج عنه، وحجته أن الحج عبادة غلب فيها جانب البدنية فلا يقبل النيابة كالصلاة وإذا أوصى كان الحج من الثلث.
ومما سبق يعلم أن المرأة يجوز أن تحج عن الرجل، وأن الرجل يجوز أن يحج عن المرأة، حيث لا يوجد نص يخالف ذلك(9/354)
المبيت بالمزدلفة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قد يحدث ارتباك عند الإفاضة من عرفة فلا يتمكن بعض الحجاج من مغادرتها إلى مزدلفة حتى يطلع الفجر بل حتى تشرق الشمس، وبهذا لا يبيتون بالمزدلفة ليلة العيد، فماذا يفعلون؟
الجواب
المزدلفة موضع بين عرفة ومِنى، وهى اَخر حدود الحرم المكى، وكان الحُمْسُ أى المتشددون فى الدين من العرب وهم قريش ومن أخذ مأخذها من القبائل كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف، يقفون بها ولا يقفون بعرفة كبقية الناس، قائلين نحن قطين الله اى جيران بيته فلا نخرج من حرمه، فأمرهم الله أن يقفوا ويفيضوا من عرفة كما قال تعالى {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} البقرة: 199، ولما أفاض النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع من عرفة ووصل إلى شعب الأذاخر قبل المزدلفة نزل وتوضأ وضوءا خفيفا، فذكَّره أسامة الصلاة فقال "الصلاة أمامك " حتى أتى مزدلفة، وهى المسماة بجمع، قيل لأن آدم وحواء اجتمعا فيها فأزلف إليها، أى قرب منها، وقيل: لأنه يجمع فيها بين صلاتى المغرب والعشاء، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها ويزدلفون إلى الله أى يتقربون إليه بالوقوف بها، فصلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء قصرا ورقد بقبة ليلته متعبا، ولما طلع الفجر صلى ثم أتى المشعر الحرام وظل واقفا حتى أسفر الفجر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس.
وكان صلى الله عليه وسلم قد أذن لبعض النساء بالذهاب إلى مِنى قبل الزحام ورمين جمرة العقبة قبل الفجر، يقول القسطلانى والزرقانى: اختلف السلف فى ترك المبيت بالمزدلفة، فقال علقمة والنخعى والزهرى والشعبى - وهم من التابعين -من تركه فاته الحج ويجعل إحرامه عمرة. وقال عطاء والزهرى وقتادة - من التابعين أيضا - والشافعى والكوفيون - أبو حنيفة وأصحابه -وإسحاق بن راهويه: عليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل مضى النصف الأول من الليل، وقال مالك البيات بها مستحب. إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل ولو بقدر حط الرحل فلا دم عليه متى دفع "ج 8 ص 188 ".
والنووى صحح فى زيادة الروضة وشرح المهذَّب أن المبيت بمزدلفة واجب، لو فات وجب فيه دم، وفقه كلام الرافعى والمنهاج أنه سنة لا شىء فى فواته، وكل ذلك إذا لم يكن عذر، ومنه تأخر المواصلات قياسا على ما قاله صاحب "كفاية الأخبار " فى فقه الشافعية فيمن وصل إلى عرفة ليلة النحر واشتغل بالوقوف عن المبيت بمزدلفة فلا شىء عليه.
من هذا نعلم أن هناك خلافا بين الفقهاء فيمن فاته المبيت بمزدلفة، فبعض التابعين تشدد وقال: فاته الحج وأتمه عمرة، وقال بعض الأئمة: من فاته فقد فاته واجب يجبر بدم، وحجه صحيح، وقال مالك: المبيت مستحب، ومن مر لم ينزل فعليه د م.
وقال بعض الفقهاء: إن المبيت سنة وليس بواجب ولا شىء فى فواته حتى لو لم يكن عذر، وعند العذر لا يجب بتركه شىء(9/355)
الحج بدون الزيارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لم أتمكن بعد الحج من زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم فهل يعتبر حجى ناقصا وهل يعتبر ذلك جفوة للنبى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
أما الحج فهو صحيح بدون زيارة النبى صلى الله عليه وسلم وزيارته إما زيارة لمسجده، وإما زيارة لقبره، وزيارة مسجده سنة، لأنه من المساجد التى تشد إليها الرحال، حيث يضاعف الله فيه ثواب الصلاة فيكون بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام كما ثبت الحديث الصحيح الذى رواه مسلم.
وأما زيارة قبره فهى سنة، لأن زيارة القبور بوجه عام مندوبة للعبرة والموعظة، وزيارة قبره اَكد وأعظم، فقد وردت فيها أحاديث كثيرة وإن كانت ضعيفة، فكثرتها تعطيها قوة ومن هذه الأحاديث المتصلة بالحج " من حج ولم يزرنى فقد جفانى" جاء فى شرح الزرقانى للمواهب "ج 8 ص 298" أن هذا الحديث ذكره ابن عدى فى " الكامل " وابن حبان فى " الضعفاء " والدارقطنى فى "العلل، غرائب الرواة " عن مالك وآخرين، كلهم عن ابن عمر مرفوعا - أى مسندا إلى النبى صلى الله عليه وسلم - ولا يصح إسناده.
ثم قال: وعلى فرض ثبوته فإن عبارة " فقد جفانى" توهم فى ظاهرها وجوب الزيارة، لأن الجفوة إيذاء وإزالته واجبة، فتكون الزيارة لإزالة الأذى واجبة، لكن لم يقل أحد بوجوبها إلا الظاهرية.
فالخلاصة أن الحج بدون زيارة النبى صلى الله عليه وسلم صحيح، والزيارة سنة، والحديث ضعيف(9/356)
الأضحية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أنه يجب على من يريد أن يذبح أضحية أن يمتنع عن الأمور المحرمة على الحاج من قص الشعر والظفر ونحوه؟
الجواب
لقد مر الحديث عن الأضحية باستفاضة فى المجلد الأول من هذه الفتاوى وبخصوص ما ورد فى السؤال روى الجماعة إلا البخارى عن أم سلمة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم هلال ذى الحجة وأراد أحدكم أن يضحى فليمسك عن شعره وأظفاره " وفى رواية لمسلم " من كان له ذبح - بكسر الذال - يذبحه فإذا أهلَّ هلال ذى الحجة فلا يأخذن من شعره وأظفاره حتى يضحى ".
تتلخص أقوال العلماء فى قص الشعر والظفر لمن أراد أن يضحى فيما يأتى:
1- قال الشافعى: إنه مكروه كراهة تنزيه، أى لا عقاب فيه، وذلك بناء على الحديث المذكور، حيث حمل النهى فيه على الكراهة لا على الحرمة، ويؤكده حديث عائشة الذى رواه الجماعة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يبعث بهدية من المدينة ولا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم.
2- وقال أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعى: إنه حرام، حيث حملوا النهى فى الحديث على التحريم. لكن ماذا يفعلون بحديث عائشة المذكور؟ 3- وقال أبو حنيفة: لا يكره الحلق والتقصير، لكن الحديث يرد عليه.
4- أما الإمام مالك: فروى عنه القول بعدم الكراهة كما قال أبو حنيفة، وروى عنه قول بالحرمة فى التطوع دون الواجب.
يؤخذ من مجموع هذه الأقوال أن قَصَّ الشعر أو الظفر لمن يريد أن يضحى ليس حراما عند جمهور الفقهاء، فهو إما مباح وإما مكروه عندهم، ولا يجوز التعصيب لرأي فقهى وبخاصة إذا كان الجمهور لا يقول به(9/357)
محظورات الإحرام وجزاؤها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الأمور الممنوعة على المحرم بالحج أو العمرة؟ وما جزاء من ارتكب شيئا منها؟
الجواب
المحظورات فى الإحرام جاء بعضها فى القرآن وجاء كثير منها فى السنة النبوية، وإليك هذه المحظورات التى فيها جزاء دنيوى:
1-الجماع، وقد مر حكمه.
2- لبس المخيط أو المحيط، كالقميص والسروال والقباء والجبة والبرنس، وكذلك الخف والحذاء، روى البخارى ومسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس -كل ثوب رأسه منه - ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس - نبت أصفر طيب الرائحة يصبغ به - ولا زعفران، ولا الخفين، إلا أن يجد نعلين فليقطعهما حتى يكون أسفل من الكعبين ".
والإجماع أن هذا خاص بالرجل، أما المرأة فتلبس كل ذلك ما عدا ما مسه طيب، وما عدا النقاب والقفازين. لقول ابن عمر رضى الله عنهما: نهى النبى صلى الله عليه وسلم النساء فى إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر أو خز - حرير - أو حلى، أو سراويل أو قميص أو خف رواه أبو داود والبيهقى والحاكم وصححه - قال البخارى: ولبست عائشة الثياب المعصفرة وهى محرمة وقالت:
لا تتلثم، ولا تتبرقع، ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران. وعند البخارى وأحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا تنتقب المرأة المحرمة ولاتلبس القفازين " ومعنى ذلك أن إحرامها فى وجهها وكفيها، قال العلماء، إن سترت وجهها بشىء فلا بأس، على ألا يكون. نقابا مفصلا كالمعتاد.
وبخاصة عند الرجال الأجانب. فقد روى ابو داود وابن ماجه أن عائشة رضى الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها - أى الملحفة - على وجهها، فإذا جازوا بنا كشفناه.
وممن قال بجواز سدل الثوب مالك والشافعى وأحمد.
وإذا لم يجد الرجل الإزار والرداء أو النعلين لبس ما وجده للضرورة، فقد روى البخارى ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم خطب بعرفات وقال " إذا لم يجد المسلم إزارا فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين " وجاء فى رواية لأحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقل عن الخفين " وليقطعهما" ومن هنا قال أحمد:يجوز للمحرم لبس الخف والسراويل إذا لم يجد النعلين والإزار بدون قطع النعلين ولا فدية عليه. لكن جمهور الفقهاء اشترط قطع الخف ليكون كالنعل بناء على حديث ابن عمر المتقدم رواه البخارى ومسلم. والحنفية يوجبون شق السراويل إذا لم يجد الإزار، فإن لبسها دون شق لزمته الفدية. والشافعى ومالك لا يريان وجوب شقها، لأن النص كان على قطع الخفين وبناء على رواية جابر بن زيد عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين " رواه النسائى بسند صحيح، فإذا لبس السراويل ووجد الإزار لزمه خلع السراويل [الإزار هو الثوب الذى يستر أسفل الجسم والرداء هو الثوب الذى يستر أعلى الجسم] وإذا لم يجد رداء لم يلبس القميص، بل يظل عاريا، فليس أعلى الجسم عورة.
3- عقد النكاح لنفسه أو لغيره بأى وجه من الوجوه، ويقع العقد باطلا لا تترتب عليه اَثاره الشرعية، ودليله حديث رواه مسلم وغيره عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال " لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب " ولم يجىء فى رواية الترمذى " ولا يخطب " وهو حديث حسن صحيح. وقال بهذا الحكم جمهور الفقهاء: مالك والشافعى وأحمد، ولا يعترض عليه بما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، فإن الرواية الصحيحة عن مسلم أنه تزوجها وهو حلال.
قال الترمذى: اختلفوا فى تزوج النبى صلى الله عليه وسلم ميمونة حيث تزوجها فى طريق مكة، فقال بعضهم: تزوجها وهو حلال، وظهر أمر تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال فى"سرف "فى طريق مكة.
والحنفية خالفوا الجمهور وأجازوا عقد النكاح للمحرم، وليس لهم دليل على ذلك وقالوا:
الممنوع هو الجماع وليس العقد.
4، 5 - تقليم الأظفار وإزالة الشعر بالحلق أو القص أو بأية طريقة أخرى، سواء كان الشعر فى الرأس أم فى أى موضع آخر من الجسد، قال تعالى {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله} البقرة: 196، هذا دليل حلق الشعر أما دليل تقليم الظفر فهو الإجماع، فيحرم من غير عذر، فإن انكسر فله إزالته من غير فدية، وكذلك لو كان يتأذى بشعره فله إزالته، لكن فى الإزالة فدية للنص عليه، قال تعالى {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} البقرة: 196، وهذا الحكم للرجل والمرأة. واستثنى من الفدية شعر العين إذا تأذى به كما قال الجمهور، وأوجبها مالك.
6- الطيب فى الثوب أو البدن، ودليله ما رواه البزار بسند صحيح أن عمر رضى الله عنه وجد ريح طيب من معاوية وهو محرم، فقال له:
ارجع فاغسله، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الحاج الشعث التفل " والشعث هو البعيد العهد بتسريح شعره وغسله، والتفل هو، الذى ترك الطيب والتنظيف، وقال صلى الله عليه وسلم " أما الطيب الذى بك فاغسله عنك ثلاث مرات " رواه البخارى ومسلم.
وإذا مات المحرم لا يوضع الطيب فى غسله ولا فى كفنه كما قال الجمهور، وأجازه أبو حنيفة، ودليل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم فيمن مات محرما " لا تخمروا رأسه ولا تمسوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " هذا فى الطيب الذى يوضع بعد الإحرام، أما وضعه قبله فلا بأس به حتى لو بقى أثره بعد الإحرام. ففى حديث متفق عليه عن عائشة:
كأنى أنظر إلى وبيص الطيب فى مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام وهو محرم.
وهذا الحكم هو فى وضع الطيب فى البدن أو الثوب ومثل ذلك لبس ثوب مصبوغ بما له رائحة طيبة، إلا أن يغسل وتزول رائحته، وكذلك وضعه فى مطبوخ أو مشروب يحرم وفيه الفدية إن بقيت رائحته كما قال الشافعية، وخالفهم الحنفية لأنه لم يقصد به الترفه بالطيب، "راجع ص 539من المجلد الخامس من هذه الفتاوى ".
7- التعرض للصيد البرى بقتل أو تنفير أو دلالة عليه إن كان غير مرئى، وكذلك إفساد بيض الحيوان البرى وبيعه وشراؤه وحلب لبنه.
أما صيد البحر فلا حرمة فيه، قال تعالى {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرَّم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} المائدة: 96، وكذلك يحرم الأكل من هذا الصيد الذى صاده أو صيد له أو بمعونته، فقد روى البخارى ومسلم عن أبى قتادة أنه كان مع جماعة محرمين فاصطاد حمار وحش، وأكلوا منه ولما أخبروا الرسول بذلك أجاز أكلهم حيث لم يأمروا الصائد بذلك وروى أحمد والترمذى عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " صيد البر لكم حلال وانتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ". وهذا هو رأى جمهور الفقهاء.
8- ومن ارتكب شيئا من هذه المحظورات فجزاؤه كما يأتى:
صيد الحرم وقطع شجره -إن الصيد المذكور من قبل هو الصيد الواقع من المحرم ويستوى فيه ما صيد فى الحل وما صيد فى الحرم.
أما صيد الحرم وقطع شجره فيستوى فيه المحرم وغير المحرم، والممنوع بالنسبة للشجر هو الشجر الذى لم يستنبته الآدميون عاده.
ومثله قطع الرطب من النبات حتى الشوك، إلا الإذخر والسنا فلا مانع من التعرض لهما.
ودليله ما رواه البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة " إن هذا البلد حرام، لا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرِّف " واستثنى الإذخر كطلب العباس.
وما استنبته الآدميون يجوز قطعه على رأى الجمهور، وتفصيل الجزاء يرجع فيه إلى كتب الفقة على رأى من يقول بالجزاء، أما من لا يقول به فأوجب الاستغفار. راجع ص 357 من المجلد الخامس من هذه الفتاوى.
أما الجماع فقد مر حكمه؟ وأما لبس المخيط وتقليم الأظفار وإزالة الشعر والتطيب ففيه فدية جاءت فى قوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نُسك} البقرة: 196، والنسك هو الذبح، والفدية على التخيير بين هذه الأمور الثلاثة: ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين، كل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام. روى البخارى ومسلم عن كعب بن عُجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية، فقال " قد آذاك هوام رأسك "؟ قال: نعم، فقال " احلق ثم اذبح شاة أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين " وجاء فى رواية لأبى داود أن الآية نزلت فيه، والإطعام فيها هو فرق من زبيب، والفرق مكيال يسع ستة عشر رطلا عراقيا.
وإذا كان هذا الحكم فى المعذور فقد قاس الشافعى عليه غير المعذور. وأبو حنيفة أوجب الدم على غير المعذور إن قدر عليه.
هذا، ويلاحظ فى الشعر أن يكون المزال ثلاث شعرات فأكثر حتى تجب فيه الفدية المذكورة، أما إزالة شعرة واحدة ففيها مُد كما قال الشافعى، وفى الشعرتين مُدان، وفى الثلاثة فصاعدا دم. ووضع الدهن فى الشعر إن كان بزيت خالص أو خل خالص يجب فيه الدم، أما وضعه فى غير شعر الرأس واللحية فلا شىء فيه عند الشافعية وفيه الدم عند الحنفية.
كما يلاحظ أن لبس المخيط والتطيب لاشىء فيه عند الجهل بالتحريم أو عند نسيان الإحرام فقد روى الجماعة إلا ابن ماجه أن رجلا أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو مصفر لحيته ورأسه، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم بالجعرانة عن ذلك فقال " اغسل عنك الصفرة وانزع عنك الجبة، وما كنت صانعا فى حجك فاصنع فى عمرتك " وقال عطاء:
إذا تطيب أو لبس -جاهلا أو ناسيا-فلا كفارة عليه. رواه البخارى.
وهذا بخلاف قتل الصيد مع الجهل أو النسيان ففيه الجزاء، لأن ضمانه ضمان مال فيستوى فيه العلم والجهل، والعمد والنسيان كضمان مال الآدميين.
أما الصيد فقد جاء فى جزائه قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} المائدة: 95.
قال ابن كثير: الذى عليه الجمهور أن العامد والناسى سواء فى وجوب الجزاء عليه، والآية تدل على أن الجزاء على المتعمد، والسنة من أحكام النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بوجوب الجزاء فى الخطأ.
وقتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون فى العمد والنسيان، لكن الفرق بينهما أن التعمد فيه إثم دون النسيان، وتفصيل الجزاء وبيان المثلية من النعم يرجع فيه إلى كتب الفقه(9/358)
ما يباح للمحرم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
توجد بعض أشياء يختلف المحرمون فى حلها وحرمتها غير ما ذكر فى المحظورات نريد بيان ما يحل منها حتى لا يتشكك المحرم ولا يكثر الجدال؟
الجواب
من المباحات فى الإحرام ما ياتى:
1- الاغتسال للنظافة والأغسال المسنونة كالغسل يوم الجمعة، وكذلك تغيير ملابس الإحرام، روى الجماعة إلا الترمذى أن ابن عباس والمسور بن مخرفة كانا بالأبواء واختلفا فى غسل المحرم رأسه وأن أبا أيوب الأنصارى أخبر أن الرسول كان يفعله، ودخل ابن عباس حمام الجحفة وهو محرم فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: إن الله ما يعبأ بأوساخنا شيئا، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة واختلفوا فيما عدا ذلك، وروى مالك عن نافع أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من الجنابة.
واستعمال الصابون للنظافة جائز، وعند الشافعية والحنابلة: لا مانع منه حتى لو كانت له رائحة لأنها غير مقصودة للتطيب.
ويجوز نقض الشعر وتمشيطه كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم عائشة به ورواه مسلم.
والنووى فى شرحه قال: إن ذلك جائز فى الإحرام بحيث لا ينتف شعرا، ولكنه مكروه إلا لعذر، وذلك خشية سقوط الشعر ووجوب الفدية.
2- ستر الوجه لاتقاء الغبار أو الريح الشديدة بما لا يلاصق الوجه، فقد روى الشافعى وسعيد بن منصور أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم محرمون -والتخمير هو الستر.
3- لبس الخفين للمرأة، فقد روى أبو داود والشافعى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للنساء فى الخفين.
4- تغطية الرأس نسيانا، فلا شىء فيه عند الشافعية كلبس القميص مع النسيان، وأوجب الحنفية فيه الفدية، وقد تقدم ذلك، وبالمثل النسيان والجهل فى التطيب، فالقاعدة عند الشافعية أن النسيان والجهل فى كل محظور عذر يمنع وجوب الفدية فيما عدا الإتلاف كالصيد وفيما عدا الحلق وتقليم الظفر على الأصح عندهم.
5- الحجامة وفقء الدمل ونرغ الضرس والفصد، فقد ثبت احتجام النبى صلى الله عليه وسلم فى وسط رأسه وهو محرم، وهل يا ترى كان مع الحجامة إزالة شعر أم لا؟ يقول النووى: إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهى حرام من أجل قطع الشعر، وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور وكرهها مالك، وعن الحسن البصرى:
الحجامة فيها فدية وإن لم يقطع شعرا، فإن كان لضرورة جازت مع قطع الشعر وتجب الفدية.
وقال مالك: لا بأس للمحرم أن يفقأ الدمل ويربط الجرح ويقطع العرق إذا احتاج، وقال ابن عباس: المحرم ينزع ضرسه ويفقأ القرحة.
6- حك الرأس والجسد بحيث لا يكون فيه إزالة للشعر،، فقد ثبت فى البخارى ومسلم وغيرهما أن عائشة رضى الله عنها أجازت ذلك، وروى ذلك عن ابن عباس وجابر وغيرهما.
7- النظر فى المرآة وشم الريحان. روى البخارى عن ابن عباس أنه جائز، وإذا قال ابن المنذر: إن العلماء أجمعوا على أن المحرم ممنوع من استعمال الطيب فى جميع بدنه -فإن المكث فى مكان فيه روائح عطرية كتجارة العطور فيه خلاف للعلماء، قال الحنفية والمالكية: إنه مكروه سواء قصد شمها أم لم يقصد، وقال الشافعية والحنابلة، إنه حرام عند القصد، جائز عند عدمه، ومع إجازة الشافعية له عند عدم القصد كرهوا الجلوس فى هذا المكان الذى فيه العطر، مالم يكن الجلوس قربة لله، كالجلوس عند الكعبة وهى تبخر فلا كراهة فيه. ويجوز حمل زجاجة فيها عطر ولا فدية ما لم يستعمل ما فيها من عطر.
8- لبس الحزام لشد الإزار أو حفظ النقود، لا مانع منه ومثله الحزام الطبى، وكذلك يجوز لبس الخاتم، حيث لا يصدق على ذلك لبس المخيط أو المحيط. قاله ابن عباس.
9- الاكتحال للتداوى - لا مانع منه، ما دام بغير طيب ولا يقصد به الزينة كما قال ابن عباس.
10 - الوقاية من المطر أو الحر بمثل المظلة أو الخيمة ما دام ذلك لا يغطى الرأس، فقد روى مسلم أن أسامة بن زيد وبلالا كانا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع أحدهما آخذ بخطام ناقته والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة. وأخرج ابن أبى شيبة أن عمر رضى الله عنه كان يطرح النطع على الشجرة فيستظل به وهو محرم، وأجاز عطاء بن أبى رباح الاستظلال من الشمس واتقاء الريح والمطر، وحكى إبراهيم النخعى عن الأسود بن يزيد أنه طرح على رأسه كساء يستكن به من المطر وهو محرم.
11- الخضاب بالحناء، فقد أجازته الحنابلة فيما عدا الرأس وأجازته الشافعية فيما عدا اليدين والرجلين لغير حاجة، ولا يغطى رأسه بحناء ثخينة. كما كرهوا للمرأة الخضاب بالحناء حال الإحرام. إلا إذا كانت معتدة من وفاة فيحرم عليها ذلك، كما يحرم عليها الخضاب إذا كان نقشا، أى للزينة.
والحنفية والمالكية حرَّموه للرجل والمرأة فى أى جزء من البدن، لأنه طيب وهو ممنوع.
مستدلين بحديث رواه الطبرانى فى الكبير والبيهقى وابن عبد البر عن خولة بنت حكيم عن أمها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة رضى الله عنها "لا تطيبى وأنت محرمة، ولاتمسى الحناء فإنه طيب ".
12- قتل الحشرات المؤذية، مثل النمل والقراد، الصغير منه والكبير، كما جاء عن ابن عباس وعطاء.
13- قتل الحيوانات والطيور المؤذية فقد روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "خمس من الدواب كلهن فاسق،- يُقتلن فى الحرم - وفى رواية مسلم: والحل - الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" وزاد في رواية البخارى الحية فيكون العدد ستا لا خمسا.
وأطلق عليها الفواسق والفسق هو الخروج، لأنها خرجت عن حكم غيرها من الحيوانات فى تحريم قتل المحرم لها، وقيل: لخروجها عن غيرها فى حل الأكل، أو لخروجها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع.
وقد اتفق العلماء على أن غراب الزرع وهو الصغير الذى يأكل الحب لا يقتل والكلب العقور يعم كل ما يعقر الناس ويخيفهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب، وقال الحنفية:
إن لفظ الكلب قاصر عليه لا يلحق به غيره ما عدا الذئب فهو مثله. وابن تيمية يبيح للمحرم أن يقتل كل ما يؤذى حتى لو كان آدميّا لا يندفع إلا بقتله فالدفاع مشروع، ومن قتِل مدافعا عن نفسه أو ماله أو دينه أو عرضه فهو شهيد.
وهذا وقد قال العلماء: يجوز للمحرم أن يضرب خادمه للتأديب، فقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجه أن أبا بكر رضى الله عنه ضرب خادمه الذى ضل منه بعيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم -حيث كان رفيقا له فى حجة الوداع -يبتسم ولم يزد على قوله " انظروا لهذا المحرم ما يصنع "(9/359)
الحج أو الزيارة أولا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الأفضل أن يحج الإنسان أولا ثم يزور المدينة أو يزور المدينة أولاً ثم يحج؟
الجواب
إذا كانت هناك تنظيمات مفروضة للمصلحة فى سفر الحجاج فالأفضل اتباع هذه التنظيمات، لوجوب طاعة أولى الأمر فيما ليس بمعصية وفيما يحقق المصلحة ومعروف أن ظروف المواصلات والإقامة تقتضى فى هذه الأيام أن تنظم رحلات الحج بمواعيد محددة.
فإذا لم توجد تنظيمات مفروضة فقد اتفق فقهاء السلف على جواز البدء بما يشاء الإنسان من الحج والزيارة، كما اتفقوا على أن المدينة إذا كانت فى طريق الحاج إلى مكة كان تقديم الزيارة أفضل، وذلك من باب التيسير والتخفيف، والنبى صلى الله عليه وسلم كان إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، كما صح فى الحديث الذى رواه البخارى.
ثم اختلفوا فيمن ليست المدينة فى طريقه إلى مكة، فذهب جماعة من التابعين إلى أفضلية البدء بالزيارة، وذلك لإحراز فضيلة الإحرام من ميقات المدينة الذى أحرم منه النبى صلى الله عليه وسلم وذهب جماعة آخرون إلى أفضلية البدء بالحج، لأنه هو الأصل، والزيارة تبع له.
وذلك كله اختلاف فى الأفضلية، ولا يضر فى صحة النسك من حج أو عمرة ولكل أن يختار ما يتناسب مع ظروفه(9/360)
التلبية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل التلبية فى الإحرام واجبة وما هو وقتها، وما هى أحسن صيغها؟
الجواب
التلبية هى قول: لبيك اللهم لبيك، كما أن التهليل هو قول:لا إله إلا الله والتسبيح قول سبحان الله.
وهى تكون فى الحج والعمرة عند الإحرام، فقد روى أحمد وابن حبان أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "يا آل محمد، من حج منكم فليهل فى حجه - أو فى حجته - " ومعنى: يهل، يرفع صوته بالتلبية. فهى مشروعة بإجماع العلماء، لكن ما هو مدى مشروعيتها؟ لقد اختلفوا فى حكمها وفى وقتها، فقال الشافعى وأحمد: إنها سنة، ويستحب اتصالها بالإحرام، فلو أحرم دون أن يلبى فإحرامه صحيح ولا شىء عليه وقال الحنفية: إن التلبية- وما يقوم مقامها كالتسبيح -شرط لصحة الإحرام، فمن أحرم ولم يلبِّ أو لم يسبح أو لم يسق الهدى فلا إحرام له.
والمشهور عند المالكية أنها سنة، وقيل واجبة يصح الإحرام بدونها ويلزم دم وللاحاطة بالأقوال فى حكمها يرجع إلى "نيل الأوطار"ج 4 ص 339.
ويبدأ وقتها بالإحرام وينتهى برمى جمرة العقبة، فقد روى الجماعة أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبِّى حتى بلغ الجمرة، وهذا رأى جمهور العلماء، ومالك يقول: تستمر حتى تزول الشمس من يوم عرفة ثم يقطعها الحاج وقال أحمد: لا تنتهى حتى يرمى الجمرات كلها. أما المعتمر فتنتهى تلبيته حتى يستلم الحجر الأسود كما فعله النبى صلى الله عليه وسلم ورواه الترمذى بسند حسن صحيح عن طريق ابن عباس.
وتستحب التلبية فى مواطن كثيرة، عند الركوب والنزول وكلما علا مكانًا عاليًا، أو نزل واديًا أو لقى ركبًا، ودبر الصلوات وبالأسحار، وفى كل حال كما قال الشافعى.
أما صيغتها فقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر أن تلبية النبى صلى الله عليه وسلم كانت "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والنعمة لك والملك لا شريك لك " والاقتصار على ما كانت عليه تلبية الرسول مستحب، واختلف العلماء فى الزيادة عليها، فذهب الجمهور إلى أن الزيادة لا بأس بها، كما زاد ابن عمر (لبيك لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل. وكما زاد الصحابة والرسول يسمع ولا ينكر رواه أبو داود والبيهقى، وكره مالك الزيادة على تلبية الرسول صلى الله عليه وسلم وتسن بعدها الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم والدعاء، فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من التلبية سأل الله المغفرة والرضوان كما رواه الطبرانى وغيره.
والتلبية يستحب أن تكون جهرا، فقد روى أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وغيرهم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "جاءنى جبريل -عليه السلام - فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج " وروى الترمذى وابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل: أى الحج أفضل؟ فقال " العج والثج " والعج هو رفع الصوت بالتلبية والثج هو نحر الهدى.
وقال مالك: لا يرفع الملبى صوته فى مسجد الجماعات بل يسمع نفسه ومن يليه أما فى مسجد مِنى والمجسد الحرام فإنه يرفع صوته فيهما، وهذا الحكم بالنسبة للرجال، أما النساء فيكره لهن رفع أصواتهن أكثر مما يسمعن أو يسمعن من يليهن فقط. وقال عطاء لا تسمع المرأة إلا نفسها فقط.
وقد ورد فى فضل التلبية التى تعنى: إجابة بعد إجابة، أى الطاعة على الدوام مأخوذة من:
لب بالمكان أى أقام به - حديث رواه ابن ماجه للأمام " ما من محرم يُضحى يومه -أى يظل يومه -يلبِّى حتى تغيب الشمس إلا غابت ذنوبه فعاد كيوم ولدته أمه " وحديث رواه الطبرانى "ما أهل مهل قط إلا بُشَر، ولا كبَّر مكبر قط إلا بشر" قيل يا نبى الله بالجنة؟ قال "نعم " وحديث رواه ابن ماجه والترمذى والبيهقى "ما من مسلم يلبِّى إلا لبَّى من عن يمينه وشماله من حجر أو مدر-حصا- حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا "(9/361)
الدعاء فى الطواف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض الطائفين حول البيت يمسكون بأيديهم كتبا فيها أدعية يرددونها، فهل يجب على الطائف أن يدعو بأدعية مخصوصة؟
الجواب
معلوم أن الطواف كالصلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام، فليكن كلامنا خيرا، وخير الكلام فى العبادة هو ذكر الله سبحانه والدعاء، وخير ذلك قراءة القرآن أو الاقتباس منه، روى أبو داود والترمذى وقال:حسن صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله عز وجل ".
وإذا كان للانسان أن يذكر ويدعو بما يراه فى حاجة إليه، فإن أحسنه ما كان مأثورا فى القرآن والسنة، ومما ورد فى ذلك:
1- كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليمانى والحجر {ربنا اَتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن السائب.
2- " من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم إلا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله محيت عنه عشر سيئات وكتب له عشر حسنات ورفع له بها عشر درجات " رواه ابن ماجه عن أبى هريرة مرفوعا - وإسناده ضعيف.
3- كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول بين الركنين - اليمانى، الحجر الأسود - " اللهم قنعنى بما رزقتنى، وبارك لى فيه، واخلف على كل غائبة لى بخير " أى اجعل لى عوضا حاضرا عما فاتنى، رواه ابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن عباس.
4- كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم إنى أعوذ بك من الشك والشرك والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق " رواه البزار عن أبى هريرة.
5- كان يقول فى ابتداء الطواف " بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك " روى الشافعى بعضا منه. كما روى البيهقى والطبرانى بعضا منه، وروى ذلك عن عمر عند استلامه الحجر(9/362)
أنواع الطواف وشروطه وسننه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى أنواع الطواف، وما حكم كل نوع، وما هى الشروط التى يجب توافرها فيه وما هى سننه؟
الجواب
الطواف وهو الدوران حول الكعبة أربعة أنواع:
أ-طواف القدوم، وهو مشروع للقادم إلى مكة فى حج أو عمرة، وهو سنة عند الجمهور، ويسمى طواف التحية وطواف الدخول، ويكون ركنا فى العمرة للمتمتع وغيره.
ب - طواف الإفاضة، وهو بعد الوقوف بعرفة ويسمى طواف الزيارة وهو ركن فى الحج، وركن فى العمرة أيضا باتفاق، من فاته بطل حجه وعمرته، ولا يجبر بدم.
ج - طواف الوداع عند مغادرة مكة، وهو واجب عند الجمهور، إذا ترك صح الحج ووجبت الفدية، وهى ذبح شاة، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام، ثلاثة فى الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وصيام الثلاثة فى الحج لا يكون إلا فى أيام التشريق، أو فى أشهر الحج التى تنتهى بانتهاء شهر ذى الحجة. وهو سنة عند مالك وفى قول للشافعى، وتعفى منه النساء عند الحيض والنفاس.
د- طواف التطوع، وهو يكون سنة عند دخول المسجد الحرام تحية للبيت، وليس فيه رمل ولا اضطباع.
وشروط صحة الطواف هى:
1- الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر ومن النجس، وقد مر خبر عائشة حين حاضت ومنعها الرسول من الطواف حتى تطهر، ومثل الحيض الجنابة، ولو طافت صح الطواف إذا تحتم عليها السفر قبل أن تطهر، وعليها بدنة أو شاة على ما مر ذكره فى حديث عائشة، والحدث الأصغر الذى يوجب الوضوء ليس شرط صحة عند الحنفية، بل هو واجب يجبر تركه بدم. والطهارة من النجس فى الثوب أو البدن سنة عندهم لا يلزم بتركها شىء، ومن به سلس بول والمستحاضة دائما يطوفان بلا طهارة اتفاقا.
2- ستر العورة، لحديث الصحيحين عن أبى هريرة قال: بعثنى أبو بكر الصديق فى الحجة التى أمَّره عليها الرسول قبل حجة الوداع، فى رهط يؤذنون فى الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
والأحناف يقولون: إن ستر العورة واجب لو ترك صح الطواف وعليه الإعادة ما دام بمكة، فإن غادرها وجب دم.
3- أن يكون الطواف سبعة أشواط كاملة، لو ترك واحد منها بطل، والأحناف يقولون: ركن الطواف أربعة أشواط فقط، والثلاثة الباقية واجب لو تركت وجب الدم.
4- أن يبدأ من الحجر الأسود وينتهى إليه.
5- أن يكون البيت عن يسار الطائف.
6- أن يكون الطواف خارج الكعبة، وحجر إسماعيل جزء منها، وكذلك الشاذروان وهو البناء الملاصق لأساس الكعبة.
7- الموالاه فى الأشواط عند مالك وأحمد، ولا يضر التفريق اليسير ولو كان بغير عذر، أما التفريق الكثير فيضر إلا إذا كان بعذر، والحنفية والشافعية قالوا: إن الموالاة سنة، وقد تقدم توضيح ذلك.
وسنن الطواف كثيرة نذكر منها ما يلى:
1- استقبال الحجر الأسود عند بدء الطواف، مع التكبير والتهليل، ورفع اليدين كرفعهما فى الصلاة واستلام الحجر بوضع اليدين عليه وتقبيله بدون صوت ووضع الخد عليه إن أمكن بدون زحام، وإلا مسه بيده وقبَّلها أو مسه بشىء معه كقضيب وقبَّله، أو أشار إليه وقبَّل ما أشار به وقد مر فى صفحة135 من المجلد الثانى من هذه الفتاوى بيان أصل هذا الحجر وحكمة تقبيله وموقف عمر رضى الله منه.
وروى البخارى أن عبد الله بن عمر استلم الحجر بيده ثم قبَّل يده كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ويكره التزاحم عليه كما مر.
2- الاضطباع. وهو وضع الرداء تحت الإبط الأيمن وطرحه على الكتف الأيسر، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى العمرة من الجعرانة ورواه أحمد وأبو داود وذلك لأنه يعين الطائف على الرمل فى الطواف، وهو سنة عند الجمهور، وغير مستحب عند مالك.
3- الرَّمل، وهو الإسراع فى المشى مع هز الكتفين وتقارب الخطا، وذلك إظهارًا للنشاط والقوة، كما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو فى عمرة القضية، وأهل مكة ينظرون إليهم فقد كانوا يقولون عن المهاجرين:
وهنتهم وأضعفتهم حمى يثرب كما رواه البخارى ومسلم وبقى ذلك التشريع للتاريخ وشكر الله على النعمة ونصره الحق كما اثِرَ عن عمر أنه قال: فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب؟ وقد أطَّأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله، ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأطأ أصلها وطأ، أُبدلت الواو همزة كما قال ابن الأثير فى النهاية.
وقد رمل الرسول صلى الله عليه وسلم فى حجه فى الأشواط الثلاثة الأولى كما رواه مسلم، ولو تركه فى الثلاثة لم يقضه فى الأربعة الباقية.
هذا، والاضطباع والرمل خاصان بالرجال دون النساء فى كل طواف يعقبه سعى، روى البيهقى أن عبد الله بن عمر قال: ليس على النساء سعى-أى رمل -بالبيت ولا بين الصفا والمروة.
4- استلام الركن اليمانى كركن الحجر الأسود كما رواه البخارى ومسلم عن ابن عمر اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم روى ابن حبان فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "الحجر والركن اليمانى يحط الخطايا حطًّا ".
5- صلاة ركعتين بعد الطواف عند مقام إبراهيم أو فى أى مكان فى المسجد وأوجبهما أبو حنيفة روى الترمذى بطريق حسن صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة طاف بالبيت سبعًا، وأتى المقام فقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فصلى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه.
والسنة قراءة سورة "الكافرون " بعد الفاتحة فى الركعة الأولى وسورة"الإخلاص " فى الركعة الثانية كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورواه مسلم وهاتان الركعتان تصليان فى أى وقت وليس هناك وقت كراهة لصلاتهما، فإن لهما سببا متقدما عند الشافعية، والمسجد الحرام مستثنى من هذه الأوقات لتيسير الصلاة فيه لمن يرد عليه فى أى وقت، فقد صح أن الصلاة الواحدة بمائة ألف صلاة فيما سواه. ومما يدل على ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذى وصححه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بالبيت وصلى أية ساعة من ليل أو نهار ".
ولتيسير الصلاة والطواف لا يحرم المرور أمام المصلى ولا يكره، فقد روى ابو داود والنسائى وابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى مما يلى بنى سهم والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة، أى ليس بينه وبين الكعبة سترة، كما وضحه سفيان بن عيينة. هذا وهناك أمور خاصة بالطواف والشرب من ماء زمزم ينبغى التنبيه عليها:
1- لا بأس بطواف النساء مع الرجال، مع المحافظة على كل الآداب، وذلك للعسر فى تخصيص وقت معيَّن لهن، ولاطمئنان الرجل على من معه من النساء، وإرشادهن عند الحاجة أثناء الطواف، فقد روى البخارى عن ابن جريج قال: أخبرنى عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف تمنعهن وقد طاف نساء النبى صلى الله عليه وسلم مع الرجال، قال: قلت: أبعد الحجاب أم قبله؟ قال: إى لعمرى لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن الرجال، كانت عائشة رضى الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم، أى كانت فى ناحية منفردة. فقالت امرأة: انطلقى نستلم يا أم المؤمنين، قالت:
انطلقى. .. وأبت أن تذهب لاستلام الحجر: وروى عن عائشة أنها قالت لامرأة: لا تزاحمى على الحجر، إن رأيت خلوة فاستلمى، وإن رأيت زحاما فكبرى وهللى إذا حاذيت به ولا تؤذى أحدا.
ب - يجوز الطواف من ركوب حتى لو كان الإنسان قادرا على المشى، فقد روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم طاف فى حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن -عود معقوف الرأس يكون مع الراكب يحرِّك به راحلته - وكان طوافه على الراحلة وسعيه بين الصفا والمروة ليراه الناس ويشرف ويسألوه عند الازدحام عليه.
وثبت أن أم سلمة طافت راكبة بعيدا عن الزحام وقد سبق ذلك فى صفحة 41 من المجلد الخامس من هذه الفتاوى.
ج -يسن الشرب من ماء زمزم بعد الطواف وصلاة الركعتين عند المقام اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم كما رواه البخارى ومسلم، فقد شرب وقال "إنها مباركة، إنها طعام طُعم وشفاء سُقم " أى من شرب منها أحس بالشبع إذا كان جائعا، وفيها شفاء من المرض. وروى الطبرانى وابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم قال "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم فيه طعام الطعم وشفاء السقم " ورواة الحديث ثقات كما قال المنذرى.
ويسن عند شربه نية الشفاء وأى خير يريده الإنسان فى الدنيا والآخرة، ففى الحديث "ماء زمزم لما شرب له " رواه أحمد بسند صحيح ورواه البيهقى أيضا، وفى رواية أخرى للبيهقى عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم "ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفى شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهى هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل " وفى زيادة "وإن شربته مستعيذا أعافك الله " ومعنى هزمة جبريل حفره.
ويسن التضلع من ماء زمزم، ففى حديث رواه ابن ماجه والدار قطنى والحاكم " آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم " وكان ابن عباس يشرب منه ثلاثة أنفاس ويستقبل القبلة ويحمد الله ويدعو: اللهم إنى أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء. ومعنى التضلع الشبع والامتلاء كأن الماء بلغ الأضلاع.
كما يسن عند شرب ماء زمزم أن يتذكر تاريخ هذه البئر، وكيف أنقذ الله بها إسماعيل وأمه هاجر حين تركهما - بأمر الله - إبراهيم فى هذا الوادى الذى لا ماء فيه ولا أنيس، وذلك جزاء لها حين رضيت بقضاء الله واَمنت أنه لا يضيعهما أبدًا، فلئن تركهما المخلوق فلن يتركهما الخالق، وفى ذلك عبرة وعظة، أن من كان مع الله كان الله معه، وأن بعد العسر يسرا، وأن حكمة الله لا يعلمها كثير من الناس {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} وكان تعمير هذا المكان تمهيدًا لولادة خير الأنام وبعثته الخاتمة الخالدة وشرفًا للعرب الذين ولد منهم وأرسل فيهم ونزل القراَن بلغتهم، وما زال الحج إلى البيت الذى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل شعيرة من أعظم شعائر الإسلام يعقد المسلمون فيه مؤتمراتهم السنوية توكيدا لوحدتهم، وربطا لحاضرهم بماضيهم، وشهودًا لمنافع دينية ودنيوية يثبتون بها جدارتهم بريادة العالم كله إن استقاموا على الطريق كما كان الأولون.
ويسن بعد الشرب من ماء زمزم الدعاء عند الملتزم -وهو ما بين الركن والباب - واقتداء بما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم وكان ابن عباس -كما رواه البيهقى- يقول: لا يلزم ما بينهما-أى الركن والباب - أحد يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله إياه(9/363)
المرض المعدى والحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا أعانى من مرض جلدى معد، وقد نويت أداء فريضة الحج، فهل يجوز لى ذلك رغم أنى قد أتسبب فى العدوى لكثير من الحجاج؟
الجواب
من المعلوم، لآن أن الدول تعمل احتياطات لمنع العدوى فى السفر، وذلك بالتطعيم أو بوسائل أخرى، ومن عنده مرض معد ستحول السلطات دون سفره، وإذا لم تكن هناك سلطات تقوم بالإجراءات الصحية فهل يجوز له السفر لأداء الفريضة مع احتمال أن يصيب غيره بالعدوى؟ إن كانت العدوى محققة أو يغلب على الظن حصولها كان هذا المرض مسقطا لوجوب الحج عن المريض حتى يبرأ من مرضه،لأن القاعدة الفقهية تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وبخاصة أن المصلحة فى الحج تعود على الشخص نفسه أكثر مما تعود على غيره، أما المفسدة فتصيب كثيرين غيره، ومع سقوط الحج عنه أرى أن مخاطرته بالسفر على الرغم من الظن الغالب للعدوى ممنوعة، إما على سبيل الكراهة أو التحريم تبعا لدرجة احتمال العدوى، والأحاديث تحذر من التعرض للعدوى والتسبب فيها. روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجل مجذوم جاء، بايعه " ارجع فقد بايعناك " وقال -كما رواه البخارى " فر من المجذوم فرارك من الأسد ".
ومن أجل النهى عن الضرر والضرار حرم الإسلام على حامل ميكروب المرض أن يخالط الأصحاء، أو يتسبب فى الإصابة بالمرض بطريق مباشر أو غير مباشر، ولذلك حرم البصاق فى الطريق والأماكن العامة، وحرم التبول والتبرز فى موارد المياه ومواقع الظل وكل ما يرتاده الناس، وأمر بإبادة الحشرات والهوام وكل ما يؤذى حتى لو كان أثناء الإحرام. ومما يؤثر فيما يتصل بالسؤال ما رواه مالك أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى امرأة مجذومة تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله لا تؤذى الناس، لو جلست فى بيتك! ففعلت ولم تشأ أن تخرج بعد موت عمر وقالت: ما كنت لأطيعه حيًّا وأعصيه ميتا(9/364)
من الأخلاق فى الحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول الله تعالى {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج} البقرة: 197، معنى الرفث والفسوق والجدال، وهل النهى عنها خاص بأيام الحج وحدها، أم ينصرف على غيرها؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى "، 2، 407" أن الرفث الجماع كما قاله ابن عباس وابن جبير والسدى وقتادة والحسن وعكرمة والزهرى ومالك. ونهى الله عنه لأنه يفسد الحج بإجماع العلماء إذا حصل قبل الوقوف بعرفة، وجزاؤه الهدى وإعادة الحج وقال عبد الله بن عمر وطاووس وعطاء وغيرهم: الرفث هو الإفحاش للمرأة بالكلام، يقول الشخص لزوجته: إذا أحللنا جامعتك، وقيل هو التحدث عن النساء بما يتصل بالشهوة، وقيل غير ذلك. والمراد بالنهى عن الحديث عما يتصل بالشهوة الجنسية إبعاد النفس عن هذه المتعة حتى لا يقع الشخص فيها فيفسد الحج، فهو من باب الوقاية! والفسوق هو الخروج عن الطاعات إلى المعاصى أيًّا كان نوعها كما قال ابن عباس وعطاء والحسن وابن عمر وغيرهم، والمراد به فى الحج ارتكاب المحظورات التى نهى الله عنها الحاج، كقتل الصيد وقص الظفر وأخذ الشعر والجماع. وقيل: الفسوق التنابز بالألقاب، وقال ابن عمر: هو السباب. واختار القرطبى القول الأول الشامل لكل المعاصى.
والمراد بالنهى عنه تحذير الحاج من كل المعاصى، لأن العقاب مضاعف فى الأماكن المقدسة ومجرد التفكير فى ارتكاب المعصية إثم كبير كما قال تعالى عن البيت الحرام {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من، ذاب أليم} الحج: 25، والجدال فى المعنى المراد منه أقوال ستة ذكرها القرطبى، منها مجادلة تؤدى إلى السباب، واختلاف الناس فى أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام كما كانوا يفعلون فى الجاهلية، واختلافهم فى موعد الوقوف بعرفة، فهو جدال فى إصابة المكان وإصابة الوقت، وقيل: هو المفاخرة بالآباء.
والمراد بالنهى عن الجدال بأى معنى هو منع الاختلاف فى أحكام الحج والتعصب للرأى، وبخاصة فيما لم يكن منفقًا عليه، وكذلك عدم فرض، لآراء فى أى شىء آخر فى هذا اللقاء الكبير، الذى يجمع شتات الأجناس واللغات والعادات والأفكار، وذلك لتنافيه مع حكمة الحج من دعم التعاون والتعارف بين المسلمين كافة. وهذه الأمور الثلاثة وهى الرفث بما يتعلق بالنساء ولو بالحديث، والفسوق بمعنى السباب أو العصيان والجدال بمعنى التخاصم فى الرأى، أمور منهى عنها فى الحج وغيره، ولكن النهى عنها فى الحج آكد، نظرًا لحرمان الحجاج من المتعة النسائية والتعرض فى الزحام للمضايقات واهتمام كل شخص بنفسه وتمسكه برأيه ليصح حجه الذى، عب فيه بماله وصحته، فالظروف هى التى جعلت هذه الأمور المحرمة فى كل حال أشد حرمة، وبخاصة عدم مناسبتها لشرف المكان وحرمة الزمان.
ومثل ذلك نهى النبى صلى الله عليه وسلم - الصائمين عن الغيبة والكذب والزور، الذى يشمل كل باطل من قول أو فعل -بمثل قوله كما رواه البخارى " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " مع أن ذلك محرم أيضا على غير الصائمين، لأن من حكمة الصيام كف النفس كل الشهوات التى رمز إليها بشهوتى البطن والفرج وهما حلالان أصلا، ليمرن الصائم نفسه بترك المشتهيات المحرمة من باب أولى، وكف النفس عن الشهوات يظهر أثره واضحًا فى التعامل مع الناس أو فى الأخلاق الاجتماعية كما يقال. ومنها صيانة اللسان عن الكذب والزور وكل ما يضر الغير(9/365)
التجارة فى الحج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل يتعود الحج كل علم ويقصد بذلك شراء سلع وبيعها للربح فيها فهل حجه مقبول،
الجواب
يقول الله سبحانه فى حكمة الحج الذى أذَّن به إبراهيم {وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم} الحج: 27، 28، ويقول سبحانه {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} الحج: 198، إن المنافع التى يشهدها الحجاج كثيرة متنوعة، منافع دينية ومنافع دنيوية، ومن المنافع الدنيوية رزق أهل مكة استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام حينما وضع ولده إسماعيل وأمه هاجر فى هذا الوادى الذى ليس فيه زرع.
والرزق قد يكون بدون مقابل كالهدى والفداء أو بمقابل كالبيع والشراء للهدى ولغير الهدى، ففيه نشاط تجارى دنيوى كما أن فيه نشاطا دينيًّا.
وابتغاء الفضل من الله فى موسم الحج بالتجارة فى الكسب الحلال ليس فيه حرج، وقد جاء فى سبب نزول هذه، لآية ما رواه البخارى ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إن الناس فى أول الحج - أى فى الإسلام - كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وذى المجاز- موضع بجوار عرفة-ومواسم الحج وهم حُرُم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وما رواه أبو داود عن ابن عباس أيضا أن الناس كانوا لا يتجرون بمِنى، فأمروا أن يتجروا إذا أفاضوا من عرفات. فالتكسب الحلال فى أثناء الموسم لا حرج فيه، بمعنى أنه لا يفسد الحج، ولا يضيع ثوابه، روى أبو داود وسعد بن منصور أن رجلا قال لابن عمر رضى الله عنهما:إنى رجل أكرى - أوجر الرواحل للركوب - فى هذا الوجه وإن أناسا يقولون لى: إنه ليس لك حج فقال ابن عمر: أليس تحرم وتلبى وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمى الجمار؟ قال: بلى، قال: فإن لك حجًّا، جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل ما سألتنى، فسكت عنه حتى نزلت هذه الآية {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} البقرة: 198، فأرسل إليه وقرأ عليه هذه، لآية وقال "لك حج " وما رواه البيهقى والدارقطنى أن رجلا سأل ابن عباس: أوجر نفسى من هؤلاء القوم فأنسك معهم المناسك، أليَ أجر؟ ففال له: نعم {أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} البقرة: 202، تبين هذه المأثورات أن الذين يحجون ويزاولون أعمالا تجارية حجهم صحيح غير فاسد لا تجب عليهم إعادته، وتسقط عنهم الفريضة، أما الثواب فظاهر هذه، لآثار أن الله لا يحرمهم منه، ولكن يجب مع ذلك مراعاة الحديث الصحيح "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " وإذا تعددت النوايا فى عمل صالح يمكن أن يرتبط الثواب بما غلب من هذه النوايا، والأمر كله لله من قبل ومن بعد، وهو سبحانه عليم بذات الصدور(9/366)
حج الصبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض الحجاج يصحبون معها أطفالهم ويلبسون ملابسى الإحرام ويؤدون معهم المناسك فهل حج هؤلاء الأطفال صحيح؟ وهل يغنى عنهم إذا بلغوا؟
الجواب
من المعلوم أن حد التكليف هو البلوغ؟ يثاب على ما يفعل ويعاقب على ما يترك فيما أوجبه الله وحرمه، وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد أمر الآباء بأمر الأولاد بالصلاة لسبع وضربهم عليها لعشر فذلك ليتمرنوا عليها حتى تكون سهلة عندما يكلفون بها، وعلى هذا النحو كان الصحابة يمرنون صبيانهم على الصيام كما تقدم فى صفحة 353 من المجلد الثالث من هذه الفتاوى.
والحج لأنه لا يجب فى العمر إلا مرة، ويشترط فيه الاستطاعة، وليس كل مكلف مستطيعا لم يكن فيه تمرين للصبى عليه لعدم الكلفة فيه عندما يبلغ، فهو مرة واحدة ومع الاستطاعة، لكن لو قام الصبى بالحج صح منه حجه، ولكن قال العلماء: لا يغنى حجه فى صباه عن الحج إذا بلغ مستطيعًا، ولأمر أو لآخر كان بعض الحجاج يصحبون صبيانهم معهم فى رحلة الحج، وإذا كان الصبى مميزًا كان يباشر عمل المناسك بنفسه كالطواف والسعى ورمى الجمار ما دام قادرا، أما إذا كان ضعيفا أو كان غير مميز كان آباوهم يقومون بما لم يستطيعوا القيام به، ومما جاء فى ذلك.
1- ما رواه الطبرانى بسند صحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم " أيما صبى حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى" والحنث هو الإثم، أى بلغ مبلغا يكتب عليه إثمه وذنبه.
2 - وروى مسلم وغيره عن ابن عباس أيضا أن امرأة رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيًّا فقالت: ألهذا حج، قال "نعم ولك أجر " وأكثر أهل العلم على أن الصبى يثاب على طاعته وتكتب له حسناته دون سيئاته، وهو مروى عن عمر: والحديث يثبت أن لأم الصبى أجرًا لأنها أمرته وعلمته إياه.
3- وروى أحمد وابن ماجه عن جابر رضى الله عنه قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم، وروى الترمذى قريبا منه.
4 -وروى البخارى عن السائب بن يزيد قال: حج بى مع النبى صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين.
قال النووى: الولى الذى يحرم عنه -أى عن الصبى-إذا كان غير مميز هو ولى ماله، وهو أبوه أو جده أو الوصى من جهة الحاكم، أما الأم فلا يصح إحرامها إلا إذا كانت وصية أو معينة من جهة الحاكم، وقيل: يصح إحرامها وإحرام الوصية وإن لم يكن لهما ولاية. انتهى وقال أبو حنيفة: لا ينعقد إحرام الصبى ولا يصير محرما بإحرام وليه، لأن الإحرام سبعب يلزم به حاكم فلا يصح من الصبى كالنذر، ورأى الجمهور أقوى لحديث مسلم المذكور.
ثم قال العلماء: إذا بلغ الصبى قبل الوقوف بعرفة أو فيها أجزأ عن حجة الإسلام، وذلك عند الشافعى وأحمد، أما مالك فيقول بعدم الإجزاء، لأن الإحرام انعقد تطوعا فلا ينقلب فرضًا. وأبو حنيفة يقول: إذا جدد الصبى الإحرام بعد البلوغ قبل الوقوف بعرفة أجزأه، وإلا فلا " المغنى والشرح الكبير "3 ص 161 وما بعدها"(9/367)
ألفاظ الذكر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم ذكر بعض أرباب الطرق الصوفية بلفظ " آه "؟
الجواب
مع التسليم بأن غاية التصوف تصفية النفس مما يبعدها عن الله، فإن الوسيلة المشروعة لذلك هى السير على منهج الله الذى وضعه لأوليائه وأعد لهم ثواب الأمن والسعادة كما قال سبحانه {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} يونس: 62 - 64.
ومن المنهج الدينى لتصفية النفس ذكر الله، وقد حثَّ الله عليه ووسع مجالاته وحدوده فقال {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا.
وسبحوه بكرة وأصيلا} الأحزاب: 41 - 42، وأسماء الله الحسنى خير ما يذكر به كما قال سبحانه {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} الأعراف: 180، وقال {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} الإسراء: 110، وأسماؤه سبحانه مذكورة فى القرآن والسنة، حصرها بعض العلماء فى تسعة وتسعين وقال إنها توقيفية وقال بعضهم: إنها أكثر من ذلك.
وبصرف النظر عن حصر أسماء الله، وعن اختلاف العلماء فى جواز ذكره بالاسم المفرد-فإن لفظ "آه " لم يثبت بسند صحيح أنه اسم من أسمائه تعالى. وعليه فلا يجوز الذكر به على ما رآه جمهور الفقهاء، وما يروى من أن النبى صلى الله عليه وسلم زار مريضا كان يئن وأن أصحابه عليه الصلاة والسلام نهوه عن الأنين، وأنه قال لهم "دعوه يئن فإنه يذكر اسما من أسمائه تعالى" لم يرد فى حديث صحيح ولا حسن كما قرره الثقات، وما قيل فى بعض الحواشى من أن لفظ "آه " الاسم الأعظم لا سند له.
وقد أفتى شيخ الجامع الأزهر المرحوم الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوى فى هذه المسألة فقال ما نصه: إن هذا اللفظ المسئول عنه "آه " بفتح الهمزة وسكون الهاء -ليس من الكلمات العربية فى شىء، بل هو لفظ مهمل لا معنى له مطلقا. وإن كان بالمد فهو إنما يدل فى اللغة العربية على التوجع، وليس من أسماء الذوات، فضلا عن أن يكون من أسماء الله الحسنى التى أمرنا أن ندعوه بها. .. إلى أن قال: ولا يجوز لنا التعبد بشى لم يرد الشرع بجواز التعبد به. وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" [مجلة الأزهر-المجلد الثالث سنة 1351 هـ ص 499](9/368)
الدعاء المقبول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يشترط فى الدعاء أن يقترن بأمور معينة حتى يستجيب الله سبحانه وتعالى له؟ وما هى؟
الجواب
قال تعالى {وقال ربكم ادعونى أستجب لكم} غافر: 65.
أمرنا الله فى آيات كثيرة بالدعاء ووعد بالاستجابة، كما جاءت بذلك أحاديث كثيرة والدعاء عبادة أو مخ العبادة كما صرح به فى بعض الأحاديث، ولكل عبادة أركان وشروط وآداب حتى تصح وتقبل.
وقال العلماء: إن من شروط قبول الدعاء: حضور الذهن والقلب عند الدعاء، فلا يكتفى الإنسان بمجرد تحريك اللسان بالدعاء وذهنه منصرف عن الله ولا يكفى حضور الذهن مع خمود العاطفة بل لابد من الرغبة فى الإجابة والرهبة من عدمها واستحضار عظمة الله سبحانه.
ويؤكد هذا ما جاء فى نهاية الآيات التى ذكرت دعاء أيوب وذى النون وزكريا حيث قال رب العزة: {إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} الأنبياء: 90.
فالداعى لابد أن يكون مطيعا لله غير مقصر، ومقبلا على الطاعة بحب ومسارعة وراغبا فى الاستجابة راهبا من الطرد والحرمان، خاشعا حاضر الذهن والقلب.
وصح فى الحديث أن أكل الحرام يمنع استجابة الدعاء حيث ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء:
يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام ومشربه حرام فأنَى يستجاب له. كما جاء فى الحديث: نصح الرسول لسعد أن يطيب مطعمه ليستجاب دعاؤه.
هذه الأمور التى لابد منها لاستجابة الدعاء ومن المندوبات:
الطهارة واستقبال القبلة والدعاء بمأثور، وتحرِّى الأوقات والأماكن المباركة كالنصف الثانى من الليل وما بين الأذان والإقامة وعند رؤية الكعبة وساعة الإجابة يوم الجمعة ... وافتتاح الدعاء بالبسملة وحمد الله والصلاة والسلام على الرسول وختامه بالصلاة عليه أيضا فالله أكرم من أن يقبل الصلاتين ويترك ما بينهما، وهناك كتب وضعت فى الدعاء يمكن الرجوع إليها. والله أعلم(9/369)
تأجير مكان لعمل محرم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أجرت منزلى لبعض الأجانب، ثم علمت أنهم يشربون فيه الخمر ويرتكبون الفواحش فماذا افعل؟
الجواب
جاء فى كتاب المغنى لابن قدامة (ج 6 ص 136) :ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيعة أو يتخذها لبيع الخمر أو القمار، وبه قال الجماعة، وقال أبو حنيفة إن كان بيتك فى السواد فلا بأس أن تؤجره لذلك. وخالفه صاحباه واختلف أصحابه فى تأويل قوله.
ولنا - أى دليلنا على رأى الجماعة- أنه فعل محرم، فلم تجز الإجارة عليه، كإجارة عبده للفجور. ولو اكترى ذمى من مسلم داره، فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه، وبذلك قال الثورى. وقال أصحاب الرأى: إن كان بيته فى السواد والجبل فله أن يفعل ما يشاء.
ولنا-أى دليلنا على المنع - أنه فعل محرم جاز المنع منه فى المصر، فجاز فى السواد كقتل النفس المحرمة 10 هـ.
هذا الكلام ظاهر فيمن أجر داره لمن يعلم أنه يتخذها لفعل محرم، أو كان العقد على ذلك فإن الرأى الصحيح أنه لا يجوز، لأن صاحب الدار مساعد على ارتكاب المعصية، فيكون شريكا لمن ارتكبها، كما قالوا فى شرح الحديث الذى فيه لَعْن شارب الخمر وحاملها وعاصرها، وكل من شارك فيها. والدليل {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة: 2، وأبو حنيفة يجيز ذلك.
أما لو كانت إجارة البيت للسكنى، والساكن ارتكب فيه منكرات، فليس على صاحب البيت حرمة فى ذلك، وله الحق فى منعه من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وعند أبى حنيفة: أن الذمى لو استأجر من المسلم بيتا ولم يقل ليصلى فيه فإنه يجوز وإن كان له أن يصلى فيه ويتخذه بيعة وكنيسة، وإذا استأجر الذمى من المسلم دارا ليسكنها فلا بأس بذلك، والإجارة وقعت على فعل مباح، وإن شرب فيه الخمر وعبد فيه الصليب أو أدخل فيه الخنازير لم يلحق المسلم فى ذلك شىء، لأن المسلم لم يؤاجر لها، إنما يؤاجر للسكنى. ولو اتخذ فيها بيعة أو كنيسة يُمكَّن من ذلك إن كان فى السواد - خارج المصر- لأن عامة سكانها أهل الذمة والروافض.
ذكر ذلك الكاسانى فى بدائع الصنائع "ج 4 ص 189 " وذكره ابن القيم فى زاد المعاد "ج 4 ص 2 5 2، 53 2 "(9/370)
تحكم المستأجر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز لمستأجر الأرض الزراعية أن يطلب من المالك جزءًا منها فى مقابل إخلاء طرفه كما يقضى به العرف؟
الجواب
المفروض أن العين المؤجرة لها وقت تنتهى عنده الإجارة، وعند انتهاء الأجل المتفق عليه ينتهى عقد الإجارة ويأخذ المالك العين المؤجرة، وهو حر بعد ذلك فى تأجيرها أو عدم تأجيرها لمن كان ينتفع بها أو لغيره، احتراما لحق الملكية، مع الحرية فى تقدير الأجر الجديد.
وليس للمستأجر الحق فى طلب ما يسمى بخلو الرجل، ولو اضطر المالك إلى دفعه كان آخذه آكلا للسحت، وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، فإذا تنازل المالك عن بعض ملكه باختياره دون ضغط عليه فلا مانع، ويجب أن تتفق القوانين الوضعية مع الشريعة الإسلامية.
هذا، وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية بتاريخ 3 من يوليو 1980 هذا نصها: وأخْذُ المستأجر نصف الأرض المؤجرة إليه نظير إخلائها ليتمكن المالك من بيعها أمر محرم شرعا، لأن عقد الإجارة لا يستتبع ملكية العين المؤجرة، ويصبح هذا إن تم من باب أكل أموال الناس بالباطل، ويكون إثمه على المستأجر إن لم يرض المالك رضاء خالصا بهذا التصرف " الفتاوى الإسلامية مجلد 0 1 ص 3564 "(9/371)
تجارة العملة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى تجارة العملة، وتبادل الأوراق المالية فى البورصة؟
الجواب
يقول الله سبحانه {وأحل الله البيع وحرم الربا} البقرة: 275، ويقول {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} النساء: 29.
التجارة ركن من أهم أركان النشاط الاقتصادى بعد الإنتاج والتصنيع، وكانت فى الأصل تقوم على مبادلة السلع بعضها ببعض، ثم تطورت الأمور فاتخذت مقاييس لتقدير السلع، واتفق كل جماعة على مقياس منها. وكانت قمة الترقى فى اتخاذ النقدين - الذهب والفضة - مقياسا تقوم به السلع، وتقابل به الأنشطة المختلفة فى التجارة وغيرها.
والبيع والشراء هما ركنا التجارة التى ندب الإسلام إليها، وجعل فيها تسعة أعشار الرزق. ووضع لها حدودا وآدابا تضمن لها الاستقامة وتحول دون الانحراف.
ومن مظاهر الاستغلال والانحراف " الربا " الذى هو زيادة أحد العوضين المتماثلين عن الآخر بغير مقابل أصلا، أو بمقابل معنوى هو الأجل عند رد العوض.
ومن أنواع التجارة مبادلة النقود بعضها ببعض، وتسمى بالصرف، ومن يعملون فى هذا المجال يطلق عليهم اسم لا " الصيارفة " ومكان مزاولة النشاط يطلق عليه اسم البنك أو المصرف.
وصرف النقود بعضها ببعض يطبق عليه ما جاء فى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم عن أبى بكر قال: نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع الفضة بالفضة. والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا، والفضة بالذهب كيف شئنا، يعنى بدون التساوى أى بالتفاضل. وكذلك حديث البخارى ومسلم عن أبى المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف، فكل واحد يقول: هذا خير منى. فكلاهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق -بكسر الراء أى الفضة-دَيْنًا. يعنى لأجل، وكذلك حديثهما عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز "يعنى لا تبيعوا المؤجل بالحاضر، ومعنى " لا تشفوا " لا تفاضلوا بالزيادة أو النقصان.
يؤخذ من هذه الأحاديث أن شرط صحة الصرف فى العملة المتماثلة - الذهب بالذهب، والفضة بالفضة - التساوى والحلول أى عدم التأجيل. أما عند اختلاف العملة - الذهب بالفضة - فلا يشترط التماثل والتساوى، وإنما يشترط الحلول وعدم التأجيل. .
ويوضح ذلك حديث مسلم عن عبادة بن الصامت مرفوعا " الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".
قال الشافعى: العلة فى الذهب والفضة أنهما من جنس الأثمان، فكل ما كان من جنس الأثمان يشترط فيه التماثل والحلول إذا كان النوع واحدا، فإذا اختلف النوعان جاز التفاضل بشرط الحلول.
وقد استبدل الناس الآن بالذهب والفضة أوراقا مالية بعضها يعتبر سندا على البنك، وبعضها يعتبر قيمة مستقلة، كالدولار والجنيه والفرنك، فيجرى عليها حكم الذهب والفضة لاختلاف قيمتها، فيجوز صرف الدولار بالجنيه مع عدم التساوى بشرط الحلول وعدم التأجيل. فصرف الأوراق المالية بعضها ببعض هو ما يطلق عليه الآن اسم التجارة فى العملة، والبنوك تقوم بذلك، والأفراد أيضا يقومون به.
وإذا كان هناك سعر رسمى صدر به قرار من ولى الأمر كان كالتسعير لكل سلعة، والتسعير فيه وجهات نظر مختلفة، لكن إذا كان عادلا وروعيت فيه المصلحة العامة ينبغى الالتزام به، كما ينبغى التزام التسعير فى السلع الأخرى.
هذا، وقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم " قال: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه " قال ابن عباس: وأحسب كل شىء بمنزلة الطعام (صحيح مسلم بشرح النووى ج 10 ص 168 ".
وبيع الشىء قبل قبضه يسمى بيع الصِّكاك. يقول النووى فى شرح صحيح مسلم: الصكاك جمع صك، وهو الورقة المكتتبة بدين - ويجمع أيضا على صكوك -والمراد هنا الورقة التى تخرج من ولى الأمر بالرزق لمستحقه، بأن يكتب فيها للإنسان كذا وكذا من طعام أو غيره، فيبيع صاحبها ذلك لإنسان قبل أن يقبضه، وقد اختلف العلماء فى ذلك، والأصح عند أصحابنا وغيرهم جواز بيعها، والثانى منعها. ثم أورد حجة الفريقين.
والأوراق المالية صكوك تتداول فى الأسواق " البورصات " وهى ذات قيمة حلت محل النقدين الذهب والفضة، فان كان فيها تقابض جاز التعامل. وإن لم يكن هناك تقابض كان فيها الرأيان المذكوران(9/372)
التعامل بالربا مع غير المسلمين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا أعيش فى بلد غير إسلامى، ولا يمكننى أن أقضى مصالحى إلا عن طريق البنوك التى تتعامل بالربا، فقيل لى: إن الربا معهم ليس بحرام، فهل هذا صحيح؟
الجواب
تحدث العلماء عن الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة -أم لا، واختلفوا فى ذلك، وبناء على هذا الاختلاف،قالوا: إن المقيمين فى البلاد الإِسلامية يلتزمون بالأحكام الشرعية، سواء كان المقيم مسلما أو ذميا، لأن تطبيق الأحكام الشرعية ممكن فى البلاد الإسلامية فإذا سافر المسلم أو الذمى إلى دار الحرب وحدثت منه مخالفة لأحكام الشريعة، أو حدثت من شخص كان يقيم فى دار الحرب ثم عاد بعد ذلك إلى دار الإسلام، فلا تطبق عليه أحكام الشريعة الإسلامية، لأن القاضى المسلم لا تمتد ولايته إلى المحل الذى ارتكبت فيه الجريمة، ومن هنا نقل عن أبى حنيفة أنه أجاز للمسلم والذمى من أهل دار الإسلام إذا دخلا دار الحرب مستأمنين - أن يتعاقدا بالربا مع الحربى أو المسلم من أهل دار الحرب الذى يهاجر إلى دار الإسلام، لأن أخذ الربا فى هذه الحال يكون فى معنى إتلاف المال بالرضا، وإتلاف مال الحربى وبرضاه مباح، لأنه لا عصمة لدمه ولا لماله، وقد نقل أبو يوسف عن أبى حنيفة قوله: إن وجوب الشرائع يعتمد على العلم بها، فمن لم يعلمها ولم تبلغه فإن هذا لم تقم عليه حجة حكمية. وبهذا، إذا دخل المسلم أو الذمى دار حرب بأمان فتعاقد مع حربى على الربا أو على غيره من العقود الفاسدة فى نظر الإِسلام جاز عند أبى حنيفة ومحمد وقد أفتى بذلك الشيخ محمد بخيت المطيعى مفتى الديار المصرية الأسبق ونشره فى رسالته عن أحكام التأمين " السكورتاه " ص 7 مطبعة النيل بمصر سنة 1906 م ونقله الشيخ جاد الحق على جاد الحق فى كتابه " فتاوى معاصرة ص 86 "،. هذا ما قاله أبو حنيفة، أما صاحبه أبو يوسف فقال: لا يجوز للمسلم فى دار الحرب إلا ما يجوز له فى دار الإسلام، لأن حرمة الربا ثابتة فى حق العاقدين، أما فى حق المسلم فبإسلامه وأما فى حق الحربى فلأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة قال تعالى {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} النساء: 161، والأئمة الثلاثة قالوا: تطبق أحكام الشريعة الإِسلامية على كل من هو فى دار الإِسلام من المسلمين والذميين والمستأمنين، كما يعاقب المسلم والذمى على ما يرتكبانه فى دار الحرب ولو كان الفعل مباحا فيها كالربا والقمار، تنفيذا لأحكام الشريعة. وقد استظهر الشيخ جاد الحق على جاد الحق أن الخلاف بين فقهاء الحنفية إنما هو فى إمكان توقيع العقوبة على التعامل المحرم إذا وقع من المسلم فى دار الحرب، ومال إلى رأى جمهور الفقهاء من حرمة التعامل بالربا على المسلم أيا كان موقعه فى دار الإسلام أو فى دار الحرب، وذلك بمقتضى إسلامه، اللهم إلا إذا كان مقترضا لضرورة، أما أن يكون مقرضا فلا يحل، لأنه لا ضرورة فيه. وبهذا الفهم والتحليل يكون تصرف المسلم فى دار لا يحكم فيها بالإسلام مساويا لتصرفه فى دار يحكم فيها بالإسلام، من جهة الحل والحرمة، أما القضاء الدنيوى المعتبر فيه ميدان تطبيقه فلا يغير من حكم الله شيئا(9/373)
تأجير الشىء لفعل الحرام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
استأجر منى بعض الغرباء بيتا فشربوا فيه الخمر واستأجر تاجر منا دكانا فباع فيه الخمر، فهل الأجرة حلال أم حرام؟
الجواب
لا يخلو حال المؤجر من أمرين، إما أن يكون عالما بارتكاب المستأجر للمحرم، كأن شرط فى العقد أن الإجارة لهذا العمل، أو لم يشترط ولكن يعرف أن المحرم سيرتكب فيه، وإما ألا يكون عالما بذلك. وفى الحالة الثانية الإجارة صحيحة والأجرة مستحقة وحلال باتفاق الأئمة. وإن قال غير أبى حنيفة له الحق فى أن يمنع بنفسه المستأجر من مزاولة المنكر أو بطريق القانون. وفى الحالة الأولى قال الأئمة الثلاثة ووافقهم أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبى حنيفة: بطلت الإجازة لأنها وقعت على معصية، وقال أبو حنيفة بصحة الإجارة وطيب الأجرة التى وجبت بمجرد تسليم العين المؤجرة ولا معصية عليه. وإنما على المستأجر، لأنه مختار فى فعله ولا يتعين عليه اتخاذ المكان لهذه المعصية، وكانت الأجرة طيبة له حتى لو أخذها من إيراد هذا المنكر. ورأى الجمهور أقوى وهو بطلان العقد وحرمة الأجر، وإن فسر بعضهم رأى أبى حنيفة بصحة العقد واستحقاق الأجر وإن حرم الانتفاع به، وهو تفسير غير مستساغ، فما فائدة استحقاق الأجر إذا حرم الانتفاع به اللهم إلا إذا كان سيدفعه فى مصلحة عامة للمسلمين للتبرؤ منه وليس للتبرع، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، كما قال الفقهاء فى التصرف فى المال الحرام الذى لا يعرف صاحبه، وتركه لصاحبه فى هذه المسألة مساعدة له على الحرام، والشرع لا يوافق على ذلك، هذا ما أراه تبريرًا لرأى أبى حنيفة واللَّه أعلم بالصواب(9/374)
هل النقود تتعين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
اقترض شخص منى مبلغا من المال، وتعامل فيه بطرق غير مشروعة، وأراد أن يرد لى القرض من إيراد هذا التعامل، فهل أقبله أم أرفضه؟
الجواب
تعامل المقترض لا يخلو إما أن يكون كله حراما كالتجارة فى الخمر ولا دخل له سوى ذلك. وإما أن يكون التعامل الحرام جزءا من تعامله الذى فيه حلال، كالبقال الذى يتاجر فى الحلال والحرام. فإن كانت كل أموال المقترض من حرام فالأئمة الثلاثة على منع قبول رد القرض منها، وأبو حنيفة يجيز ذلك، لأن النقود الحلال التى أخذها المقترض من المقرض لا تتعين، وللمقرض مثلها أو قيمتها أيا كان مصدرها، وفى رواية عن أحمد جواز ذلك. أما إذا كانت أموال المقترض خليطا من حلال وحرام ويصعب التمييز بينهما جاز للمقرض أن يأخذ منه حقه، جاء فى الإحياء للإِمام الغزالى: إذا اختلط فى البلد حرام لا ينحصر لم يحرم الشراء منه، بل يجوز الأخد منه، إلا أن يقترن بعلامة تدل على أنه من الحرام، فإن لم يقترن فليس بحرام، لكن تركه ورع محبوب(9/375)
لا وصية لوارث
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للزوج أن يترك وصية لزوجته التى لم تنجب، تحصل بها على ممتلكاته التى ورثها عن أبيه حتى لا يشاركها إخوته فى الميراث بعد مماته؟
الجواب
تنص المادة 37 من قانون الوصية رقم 71 لسنة 1946 م على جواز الوصية بالثلث للوارث وغيره، وتنفذ دون توقف على إجازة الورثة، كما أجازت الوصية بأزيد من الثلث ولا تنفذ الزيادة إلا بموافقة الورثة. فإن كانت الممتلكات التى ورثها السائل عن أبيه أكثر من ثلث ما يملكه فلا تنفذ الزيادة إلا بإجازة الورثة. وذلك موافق لمذهب الإمام الشافعى، فقد روى أصحاب السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا وصية لوارث " وروى البيهقى بسند قال الذهبى: إنه صالح أنه قال " لا وصية لوارث إلا أن يجيزها باقى الورثة " فقد أخذ الشافعى بالحديث الثانى المقيد للحديث الأول المطلق، وقد أخذ به قانون الوصية المعمول به فى مصر " الخطيب على متن أبى شجاع فى فقه الشافعية - الوصية ". هذا، وقد كانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة على رأى جمهور الفقهاء، وذلك فى أول الأمر بمقتضى قوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} البقرة: 180، ثم نسخت بآية المواريث التى فى سورة النساء ويدل علبى النسخ الحديث الذى قاله الرسول صلى الله عليه وسلم " فى حجة الوداع " إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه. فلا وصيه لوارث ". ورأى جماعة من السلف أن ضربا من الوصية لا يزال واجبا بعد نزول آية المواريث، وأن النسخ لم يرد على جميع أنواع الوصية للوالدين والأقربين، فإذا كان الوالدان والأقربون وارثين فلا وصية واجبة، أما إن كان هناك أقربون غير وارثين فالوصية لا تزال واجبة، لم تنسخ، وبهذا الرأى أخذ قانون الوصية الواجبة المعمول به فى مصر، فى المادة 76 من القانون رقم 71 لسنة 1946 م(9/376)
العمل فى مؤسسات تتعامل بالربا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا أعمل كاتبا فى بنك تسليف، وجميع أعماله فيها فوائد وربا، فهل على حرمة فى هذا، علما بأنى محتاج إلى العمل فيه؟
الجواب
معلوم أن الربا حرام حرمة كبيرة وذلك ثابت بالقرآن والسنة والإجماع، وكل ما يوصل إلى الحرام ويساعد عليه فهو حرام كما هو مقرر، وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أنه لعن أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، فهم سواء.
وقد رفع مثل هذا السؤال إلى المرحوم الشيخ عبد المجيد سليم مفتى الديار المصرية سنة 1944 م فأجاب بأن مباشرة الأعمال التى تتعلق بالربا من كتابة وغيرها إعانة على ارتكاب المحرم، وكل ما كان كذلك فهو محرم شرعا، وساق الحديث المذكور، وقال: اللعن دليل على إثم من ذكر فى الحديث الشريف.
"الفتاوى الإسلامية المجلد الرابع ص 1293 ".
هذا، وإذا كانت المؤسسة تزاول أنشطة مختلفة بعضها حلال وبعضها حرام، فإن الإسهام فيها أو العسل بها حرام، وقد جاء فى توصيات ندوة الأسواق المالية الثانية المنعقدة فى البحرين فى الفترة من 25 - 27 - 1991 م ما يأتى:
أ- الأصل فى المعاملات الحل.
ب - لا خلاف فى حرمة الإسهام فى شركات غرضها الأساسى محرم كالتعامل بالربا، وإنتاج المحرمات أو المتاجرة فيها.
ج - الأصل حرمة الإسهام فى شركات تتعامل أحيانا بالمحرمات كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.
د-أما من يسهم فى الشركات التى تتعامل أحيانا بالمحرمات مع إرادة تغيير جميع أنشطتها بحيث لا تخالف الشريعة الإسلامية، فإن كان قادرا على التغيير بمجرد إسهامه فيها فذلك أمر مطلوب منه، لما فيه من زيادة مجالات التزام المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية، وإن كان غير قادر عند الإسهام ولكنه يسعى مستقبلا، بأن يحاول ذلك من خلال اجتماعات الجمعية العمومية ومجلس الإدارة وغيرهما من المجالات فالإسهام فى هذه الحالة مختلف فى جوازه بين المشاركين فى الندوة، ولابد فى الحالتين من التخلص مما يؤول إلى المساهم فيها من كسب التصرفات المحرمة فى أنشطة الشركة بصرفه فى وجوه الخير. انتهى.
بعد هذا نقول: إن البنوك العادية تمارس نشاطا بعضه يخالف الدين وبعضه لا يخالف الدين، فأموالها خليط من الحلال والحرام، والعمل فيها كذلك عمل فيه شبهة وإذا تعذر فصل المال الحلال عن المال الحرام كان الأمر فيه شبهة، والشبهة وإن لم تكن من الحرام فهى حمى للحرام كما نص الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام، كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه لا.
فإذا أرد المؤمن أن يكون مطمئنا تمام الاطمئنان أو قريبا منه فليبحث عن عمل لا تكون فيه الشبهة بهذه الكثرة أو الوضوح حتى لو كان الكسب أو الأجر قليلا يكَفى الضروريات دون اهتمام بالكماليات، فالنفس لا تشبع منها والحرص عليها متعب غاية التعب والذى يساعد على ذلك هو النطر إلى من هو دوننا حتى نحمد الله على نعمته ولا نزدريها، ولا ننسى الحديث الشريف "إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستوفى رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال بمعصيته " وإن لم يوجد عمل حلال،كان قبول العمل فى هذا المجال بصفة مؤقتة للضرورة، مع البحث الجاد عن عمل آخر بعيد عن الحرام وشبهة الحرام. وإذا صدقت النية يسر الله الأمر، كما قال سبحانه {ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} الطلاق: 2، 3، وقال تعالى {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} الطلاق: 4(9/377)
هل يورث عقد الإجارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل استأجر أرضا لزراعتها ثم توفى لا، هل بطل عقد- الإجارة، وإذا لم يبطل فمن الأحق به من الورثة؟
الجواب
عقد الإجارة لبيت أو أرض أو أى شيء اَخر لا يبطل بموت أحد الطرفين عند الوفاة، والواجب على الورثة أن يقوموا بالعمل الذى هو محل العقد، أو لهم الحق فى الانتفاع بالعين المؤجرة حتى ينتهى أجل الإجارة إن كان شهرا أو سنة مثلا، أو حتى تنتهى المنفعة التى كان عليها العقد، كاستئجار الأرض لزراعتها قطنا أو قمحا، فالعقد ينتهى بجنى المحصول، وعلى المنتفع أن يسلم العين لمالكها، ومالكها حُرّ فى أن يؤجرها لأحد الورثة أو لغيرهم أو لا يؤجرها.
وأى حبهم بالتوريث المؤبد يعتبر باطلا شرعا.
وعدم انفساخ العقد بالموت هو رأى الشافعى ومالك وأحمد ومعهم أبو ثور وابن المنذر، أما أبو حنيفة والثورى والليث بن سعد وابن حزم فيرون أن عقد الإجارة ينفسخ بموت أحد الطرفين، والجمهور نظر إلى أن العقد كان على المنفعة، وهى ستحصل بصرف النظر عن كون العين باقية على ملك صاحبها، أو انتقلت إلى ورثته، وبصرف النظر عن كون المنتفع هو المستأجر أو ورثته، فلمالك الأرض أجرته سواء أخذها من المستأجر أم من ورثته لأنها دين لابد من أدائه عن طريق ورثته وللورثة حق استيفاء المنفعة الذى ملكه المورث، والرأى الثانى نظر إلى شخص المتعاقد، فانتقال الملك إلى غيره، وأخذ غير المنتفع المتعاقد لهذه المنفعة يبطل العقد لتعذر الوفاء والاستيفاء وكلها وجهات نظر ليس لها نص، ورأى الجمهور أقوى "المغنى لابن قدامة ج 6 ص 42"(9/378)
تحديد الربح فى التجارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك نص يحدد قيمة الربح فى التجارة؟
الجواب
هناك آداب كثيرة للتجارة، بعضها يتصل بالأشكال كصيغ التعاقد، وبعضها يتصل بالمعانى كالأمانة والصدق والقناعة، ومما ورد فى ذلك حديث " التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع النبيين والصدِّيقين والشهداء " رواه الترمذى وحسنه، وحديث " من غشنا فليس منا " رواه مسلم وحديث " من بايعت فقل لا خلابة " أى لا خديعة. رواه مسلم، وحديث " لا تتلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق " رواه البخارى ومسلم، وحديث " إياكم وكثرة الحلف فى البيع، فانه ينفق ثم يمحق " رواه مسلم، وحديث: " رحم اللَّه رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " رواه البخارى، وحديث " البيعان إذا صدقا ونصحا بورك لهما فى بيعهما، وإن خانا وكذبا محقت بركة بيعهما " رواه البخارى ومسلم.
تدل هذه النصوص وغيرها على الاهتمام بالناحية الخلقية فى التعامل التجارى وغيره، وأهمها الصدق والقناعة والسماحة. وتفريعا على ذلك إذا أراد التاجر أن يبيع سلعة فهو يطلب فيها ثمنا أعلى من ثمن الشراء، ليتحقق الكسب المقصود من التجارة وهذا الكسب ليس له قدر معين، فللتاجر أن يحدده كما يشاء بشرط عدم الاستغلال وعدم الكذب. ويشملهما عدم الغش.
والاستغلال يصور مثلا بألا يكون هناك تاجر غيره يملك هذه السلعة فهو يحتكرها ويفرض السعر الذى يريده، لعلمه أن المشترى مضطر إليها، أو يطمع فى كسب كبير لأن المشترى ذو مال كبير لا يهمه السعر الذى يشترى به.
والكذب يصور مثلا بأن يقول له المشترى، سأعطيك ربحا معينا فوق ثمن الشراء، وطلب منه أن يذكر له الثمن الأصلى، فالتاجر يذكر ثمنا أعلى، وقد يلجا إلى الحلف لتأكيد ذلك.
أما إذا خلا البيع من الاستغلال والكذب بكل الصور والأشكال فلا تحديد للربح الذى يريده ما دام الطرفان راضيين بذلك. ويُسَن أن يكون ربحا معقولا، رحمة بالمشترى وقناعة بالقليل، ودعاية له بين الناس ليكثر المتعاملون معه، وفى ذلك خير له وللنشاط الاقتصادى بوجه عام.
هذا، وما ذكر فى بعض الكتب الفقهية من أن الربح لا يزيد على العشر أو الثلث فلا دليل عليه من القرآن أو السنة. ولعل القائل بذلك أخذ قوله من واقع الحال فى بلده وفى زمنه، حيث كانت المصلحة فى تحديد الربح، على نسق ما يقال فى جواز التسعير للمصلحة.
هذا، وقد تحدث الإمام الغزالى فى كتابه " إحياء علوم الدين " عن الإحسان فى المعاملة فذكر أن الغبن هو الغالب فى التجارة وهو مسموح به، وفسره بأن يبيع التاجر السلعة بثمن أكثر من ثمن شرائها.
ومن رتبة الإحسان المندوب - وهو فوق رتبة العدل الواجب - أن يكون الغبن والربح، معتادا، أى يجرى عليه غالب التجار. ونص عبارته:
وتنال رتبة الإحسان بواحد من ستة أمور، الأول فى المغابنة، فينبغى ألا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به فى العادة. فأما أصل المغابنة فمأذون فيه، لأن البيع للربح، ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشترى زيادة على الربح المعتاد أو لشدة رغبته أو لشدة حاجته فى الحال إليه فينبغى أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان. ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلما. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار، ولسنا نرى ذلك، ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن.
انتهى "ج 2 ص 72 طبعة عثمان خليفة ".
وأشار الشيخ يوسف الدجوى المالكى إلى أن البعض قال إذا وصل الغبن الثلث فأكثر من قيمة السلعة فسخ البيع إن قام المغبون فى أثناء السنة من يوم البيع، وأفتى به بعض العلماء ولكن رده ابن رشد بقوله:
إنه غير صحيح، لحديث " لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس فى غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض ". وذكر أنه لا يجوز الرد بالغبن ولو خالف العادة فى القلة والكثرة إلا إذا كذب فى ثمن الشراء فللمغبون الرد بلا خلاف، أما الخلاف فهو إذا كان المغبون جاهلا من غير استسلام لما يقول البائع، فإن كان عارفا فلا رجوع له اتفاقا، فإن استسلم فالرد متفق عليه " مجلة الأزهر مجلد 5 ص 244، 245 "(9/379)
الاحتكار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى الاحتكار وما حكمه؟
الجواب
1 -تعريفه: هو حبس السلعة مع حاجة الناس إليها ليرتفع بذلك سعرها.
2- حكمه: العقل السليم وقانون الاجتماع البشرى ورابطة الأخوة الإنسانية المنوط بها تحقيق خلافة الإنسان فى الأرض لا ترضى بهذا العمل لأنه دليل على الأنانية وقسوة القلب وعدم التعاون على الخير.
والأديان كلها تحرِّمه، لأنها تستهدف سعادة الجماعة فى معاشها ومعادها، بفعل الخير والبعد عن الشر، والإسلام كدين خاتم يحرمه بروحه ونصوصه العامة فى التراحم والتعاون على البر والتقوى، وإيثار ما يبقى على ما يفنى، ووردت بخصوصه نصوص من أصحها قول النبى صلى الله عليه وسلم " من احتكر فهو خاطف " وما عدا ذلك فهى نصوص فيها مقال، مثل " من احتكر طعاما أربعين فقد برئ من اللَّه وبرئ اللَّه منه " رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم، يقول الحافظ المنذرى: فى هذا المتن غرابة، وبعض أسانيده جيد، ومثل " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " رواه ابن ماجه والحاكم، وفى سنده مجهول، ومثل " من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللَّه بالجذام والإفلاس " رواه ابن ماجة، وفى إسناده كلام، ومثل " من دخل فى شىء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله تبارك وتعالى أن يقذفه فى جهنم رأسه أسفله " رواه أحمد والطبرانى، وفى سنده مقال [الترغيب والترهيب للحافظ المنذرى ج 2 ص 27 2 طبعة صبيح] 0 وجاء فى حديث بسند غير مقبول ما يبين خُلُق المحتكر فيقول "بئس العبد المحتكر، إن أرخص اللَّه الأسعار حزن، وإن أغلاها فرح " وليس منه التاجر الذى يعرض البضاعة للبيع ويشترى غيرها ليبيعها فالمحتكر هو الذى يحبس السلعة حتى تشتد حاجة الناس إليها فيمتنع عن بيعها إلا بسعر غال، وربما لا يشترى غيرها ليبيعها مرة ثانية، [فتوى شيخ الأزهر-منبر الإسلام عدد شوال 1391 هـ] والإمام النووى يفرق بين من يملك غلة من مصدر غير الشراء، ومن يملكها بالشراء ليتاجر فيها،فقد سئل: إذا دخل عليه غلة من ملكه فتربص بها الغلاء للمسلمين وامتنع من بيعها وقت الرخص، هل يكون ذلك احتكارا، ويفسد بفعله ذلك، وهل هو حرام؟ فأجاب ليس هذا باحتكار، ولا يحرم ولا يفسق به، وإنما الاحتكار أن يشترى القوت فى وقت الغلاء ويمتنع من بيعه فى الحال لانتظار زيادة الغلاء وإذا اشترى فى وقت الرخاء وانتظر به الغلاء لا يكون ذلك احتكارا ولا يفسق به أيضا ولا ترد شهادته [فتاوى الإمام النووى المسماة بالمسائل المنثورة ج 2 ص 75 نشر مجلة الأزهر فى صفر 1411 هـ] ويراعى أنه ذكر أن الشراء كان فى وقت الرخاء ولا توجد مجاعة ولا حاجة ملحة لهذه السلعة، فانتظر حتى يغلو السعر الذى تتحكم فيه عوامل العرض والطلب والظروف الأخرى، ومثل سلعته موجود عند غيره لمن يريد أن يشترى.
3- تدخل ولى الأمر: جاء فى فتاوى ابن تيمية، نشر المملكة السعودية " مجلد 28 ص75 " المحتكر هو الذى يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم، وهو ظالم للخلق المشترين، ولهذا كان لولى الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس فى مخمصة فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل ولهذا فال الفقهاء: من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره(9/380)
السعر والتسعير
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للحاكم أن يفرض سعرا معينا للسلع؟
الجواب
التعريف: السعر هو القدر الذى تقوَّم به السلعة، والتسعير هو وضع قيمة للسلعة، والسعر يتحكم فيه غالبا عاملا العرض والطلب، أما التسعير فيكون بتدخل ولى الأمر.
2- الحكم: جاء فى فتاوى ابن تيمية " مجلد 28 ص 76 "عن تدخل ولى الأمر فى الأسعار: أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب. .
وضرب مثلا للتسعير الذى لا يجوز بما حدَّث به أنس رضى الله عنه أنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقالوا:
يا رسول الله لو سعرت؟ فقال " إن اللَّه هو القابض الباسط الرزاق المسعر، وإنى لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبنى أحد بمظلمة ظلمتها إياه فى دم ولا مال " رواه أبو داود والترمذى وصححه. فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشىء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
ثم ضرب مثلا للتسعير الذى يجوز فقال: إذا امتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم به.
وجاء مثل ذلك فى فتوى الشيخ عبد المجيد سليم سنة 1943 م [الفتاوى الإسلامية المجلد 3 ص 815] وفيها: أن الحكومة إذا سعَّرت وجب العمل بما سعرت به وحرم التعدى، لأن طاعة ولى الأمر واجبة بالكتاب والسنة والإجماع إذا أمر بما ليس بمعصية.
3- التبليغ عن المخالف: جاء فى الفتوى المذكورة أنه يجب على من يعلم أن من التجار من يبيع بأسعار مرتفعة تزيد عن الأسعار المقررة أن يبلغ الحكومة بذلك، فإذا كان من يعلم ذلك شخصا واحدا وجب عليه التبليغ، فإن لم يبلغ كان آثما، وإذا كان من يعلم أكثر من واحد وجب عليهم أن يبلغوا، فإذا قام به بعضهم لم يأثم أحد منهم، لحصول المقصود بتبليغ بعضهم، وإذا تركوا كلهم التبليغ كانوا جميعا آثمين كما هو حكم الواجب الكفائى. انتهى.
وأنبه إلى ما جاء فى جواز التسعير أو وجوبه من أن المقصود منه هو العدل ومنع الظلم، فيكون التسعير مراعى فيه العدل الذى لا ظلم فيه للتجار ولا للشعب، بمعنى أن يكون بعد دراسة وافية يدخل فيها تغير الظروف، ويعدل السعر تبعا للمتغيرات من أجل تحقيق العدالة للتجار والشعب، ومنع الخروج على القوانين والقرارات بحيلة أو بأخرى.
وإذا كانت طاعة ولى الأمر واجبة فمحلها فيما لا معصية ولا ظلم فيه، وفيما يساعد على النشاط الاقتصادى العادل الذى يشجع عليه التنافس الشريف الذى يوازن بين الحقوق والواجبات فى إطار التعاون على الخير الذى يفيد منه كل الأطراف. والكل يعانى من القوانين والقرارات الجامدة التى يراعى فيها جانب واحد، مما يتيح الفرصة للتملص منها بأى أسلوب من الأساليب(9/381)
السمسار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
للسماسرة نشاط كبير فى التجارة، فهل عملهم حلال، وما حكم المال الذى يكسبونه من ذلك؟
الجواب
السمسار هو الوسيط الذى لم يأخذ صفة الوكيل الشرعى، ولا يفيد كلامه مع الناس تعاقدا شرعيا ملزما، لأنه لا يملك السلعة التى يتوسط فى بيعها أو شرائها، وما يأخذه من الناس فى سبيل إتمام الصفقة إن كان بسخاء نفس فلا مانع منه، وإلا فهو سحت. وقد يحكم له بأجر المثل على العمل الذى أتمه.
لكن إن أخذ صفة الوكيل، بأن قال له شخص: اشتر لى هذه السلعة، وسأعطيك كذا فى مقابل تعبك وعملك فلا حرمة فى العمل ولا فى الكسب. أما إذا قال له: اشتر لى هذه السلعة وسأعطيك 10 % (عشرة فى المائة) من الثمن يجب عليه أن يكون صادقا فى الإخبار عن الثمن، فإن كذب وزاد فيه حتى تزيد عمولته كان ذلك حراما فالواجب على من يقوم بالوساطة على صفة الوكالة أو الإجارة أن يكون صادقا وأمينا ورحيما حتى يبارك اللَّه له فى كسبه.
وأحذر الوكلاء والمفوضين فى توريد أو شراء شىء لشخص أو شركة أو هيئة مثلا أن يتفقوا مع مالكى السلعة على تحرير مستندات بثمن أعلى ليحصله من الجهة التى فوضته فى حين أنه دفع أقل من ذلك، ليأخذ الفرق له، فتلك خيانة، فإذا وافق من فوضوه على أنه دفع ثمنا أو اتفق على سعر أقل من المعتاد. على أن يكون الفرق له فهو حلال. والمهم أن يكون صادقا غير متواطئ على الكسب بهذه الحيل، وألا يكون فيها خسارة للجهة الموردة أو المالكة للسلعة، لأنها غير موافقة أو لأنها جاهلة بتصرف من باع هذه السلعة.
وأمثال هذه التصرفات البعيدة عن موافقة الطرفين مظنة للاتهام، بل مدرجة إلى ارتكاب أمور خطيرة، ستكشف الأيام عنها، وبخاصة إذا اختصم اللصان. ومندوب المشتريات الذى يأخذ من البائع عمولة أو إكرامية، لأنه اشترى منه وآثره على غيره، أو أخذ منه كميات كبيرة، إن تمت الصفقة على الشروط والمواصفات والثمن المعلن عنه، ولم يكن هناك ظلم ولا اختلاس كان ما يعطيه البائع - شخصا أو شركة أو غيرهما-كهدية له لا مانع منه شرعا، أما إن كان هناك غش فى التغاضى عن بعض الشروط والمواصفات، أو ظلم لمن رسا عليه المزاد مثلا كان ما يأخذه حراما، سواء شرطه على مالك السلعة أم لم يشرطه.
ومع ذلك ينبغى التعفف عنه بقدر الإمكان، والقيام بالواجب المنوط به على الوجه المرضى، دون نظر إلى هدية أو مكافأة -مادية أو أدبية - فيؤديه بحكم وظيفته أو عمله، والأمر يعود بعد ذلك إلى من أعطاه وبقدر نيته يكون جزاؤه عند الله.
وإذا كانت الشبهات من باب الحلال، أى غير الحرام، فالأولى البعد عنها، فإن أقل ما فيها هو القيل والقال. وما عند الله خير وأبقى لمن أخلص فى عمله راجيا ثوابه، قال تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنَّا لا نضيع أجر من أحسن عملا} الكهف: 30(9/382)
التصرف فى المال الحرام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إنسان اكتسب مالا حراما وأراد أن يتوب إلى الله فماذا يفعل؟
الجواب
من اكتسب مالا حراما أو أخذه بغير وجه حق، وأراد أن يتوب إلى الله، وجب عليه بعد الندم والعزم على عدم العود إلى المعصية أن يرد الحقوق إلى أصحابها، وذلك إذا كانوا معروفين يردها إليهم أو إلى ورثتهم ما أمكن ذلك، أو يطلب منهم التنازل عنها، فإن لم يستطع التعرف عليهم وجب عليه أن يضعها فى منفعة عامة، أو يتصدق بها عنهم، كما فعل عمر بن الخطاب مع المتسول الذى طلب منه طعاما فأحاله على صحابى فأطعمه، ثم عاد يسأل فوجده محترفا ومعه زاد كثير، فأمر بطرحه أمام إبل الصدقة لأنها منفعة عامة للمسلمين. .
جاء فى تفسير القرطبى "ج 3 ص 366" ما نصه:
قال علماؤنا: إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام: إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن كان حاضرا، فإن آيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك فى أي من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذى أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع، إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين حتى لا يبقى فى يده إلا أقل ما يجزئه فى الصلاة من اللباس، وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه.
لأنه الذى يجب له أن يأخذ من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه.
وفارق هاهنا المفلس فى قول أكثر العلماء، لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء، بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه، وأبو عبيدة وغيره يرى ألا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه فى الصلاة، وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته، ثم كلما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه(9/383)
سداد الدين بعملة مغايرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا اتفق شخص مع شركة على شراء سلعة بثمن معلوم يدفع فى المستقبل، واتفق مع مصرف على أن يمول تلك الصفقة بعملة غير العملة التى تم بها الشراء، فهل يجوز أن يراعى عند السداد سعر العملة التى تمت بها الصفقة وقت السداد، أو يراعى سعرها وقت التعاقد؟
الجواب
هذه الصورة ليست بيع عملة بعملة، ولكنها سداد دين تعلق بالذمة كالقرض. والأصل فى سداد الدين أن يكون بالعملة نفسها، فإذا كان هناك اتفاق على السداد بعملة أخرى فالاتفاق معتبر، سواء أكان بالسعر وقت تعلق الدين بالذمة أو وقت الوفاء به، وإن لم يكن هناك اتفاق فلا يُرغَمُ الدائن على قبول عملة تحقق له خسارة، ومن هنا رأى المدين أن يراعى سعر العملة وقت السداد، وهو ما يقضى به العدل والإحسان فى القضاء الذى نص عليه الحديث "إن خيركم أحسنكم قضاء" كما رواه البخارى ومسلم.
لكن ورد حديث صورته قريبة من هذه الصورة إن لم تكن عينها أو مثلها: وهو: أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: أتيت النبى صلى الله عليه وسلم فقلت له: إنى أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير واَخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم واَخذ الدنانير، فقال "لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء " رواه الخمسة - أحمد وأصحاب السنن الأربعة - وقد صححه الحاكم وأخرجه ابن حبان والبيهقى. لكن الترمذى ذكر أن الحديث موقوف على ابن عمر وليس مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم والبيهقى قال عنه: تفرد برفعه: سماك بن حرب، وقال شعبة: رفعه سماك وأنا أفرقه (كذا) .
ومهما يكن من شيء فقد قال الشوكانى: فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذى فى الذمة بغيره، وظاهره أنهما غير حاضرين جميعا، بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم فيدل على أن ما فى الذمة كالحاضر، وفيه أن جواز الاستبدال مقيد بالتقابض فى المجلس، لأن الذهب والفضة مالان ربويان فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر إلا بشرط وقوع التقابض فى المجلس، وهو محكى عن عمر وابنه عبد الله والحسن والحكم وطاووس والزهرى ومالك والشافعى وأبى حنيفة والثورى والأوزاعى وأحمد وغيرهم - وروى عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب -وهو أحد قولى الشافعى -أنه مكروه، أى الاستبدال المذكور، والحديث يرد عليهم.
واختلف الأولون -وهم المجيزون -فمنهم من قال: يشترط أن يكون بسعر يومها كما وقع فى الحديث، وهو مذهب أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعى: إنه يجوز بسعر يومها وأغلى وأرخص، وهو خلاف ما فى الحديث من قوله "بسعر يومها" وهو أخص من حديث "إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد" فيبنى العام على الخاص، انتهى ما قاله الشوكانى فى نيل الأوطار ج 5 ص 166 ".
والظاهر أن الصورة التى فى السؤال هى التى فى الحديث، واشترط فيها التقابض فى المجلس، أى وقت عقد الصفقة، إعمالا لحديث بيع العملة بعملة أخرى بشرط التقابض، وعليه فإن الصورة المسئول عنها لا تصح لأن العملة الأخرى مؤجلة لا تقبض إلا بعد مضى مدة من وقت الشراء.
وهذا فى صورة بيع أو استبدال عملة بعملة، لكن روى عن ابن عمر صورة فيها قضاء دين بعملة مغايرة، وهى أنه سئل عن أجيرين له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير، فقال أعطوه بسعر السوق، لأن هذا جرى مجرى القضاء، فقيد بالمثل كما لو قضاه من الجنس والتماثل هاهنا، دنانير بدراهم - من حيث القيمة لتعذر التماثل من حيث الصورة.
ألا يدل هذا الكلام على أنه يجوز سداد الدين بعملة أخرى بسعر يوم السداد، وهو متأخر عن يوم الاستدانة؟ الأمر يحتاج إلى نظر.
هذه الرواية الثانية عن ابن عمر- ذكرها الدكتور أبو سريع عبد الهادى - خريج كلية الشريعة والقانون بالأزهر- فى كتابه "الربا والقرض فى الفقه الإسلامى ص 72" معتمدا فى نقله على المصادر الآتية:
(1) المغنى ج 4 ص 52، 54، 55.
(2) حاشية ابن عابدين ج 5 ص 266، 267.
(3) الكافى ج 2 ص 643، 644.
(4) كشاف القناع.
هذا، وقد قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامى فى دورة مؤتمره الثامن المنعقد فى بندر سربجادن بإمارة بروناى دار السلام عدة قرارات، منها:
ا -يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد لا قبله على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد، وكذلك يجوز - فى الدين على أقساط بعملة معينة - الاتفاق يوم سداد أى قسط أيضا على أدائه كاملا بعملة مغايرة بسعر صرفها فى ذلك اليوم. ويشترط فى جميع الأحوال ألا يبقى فى ذمة المدين شىء مما تمت عليه المصارفة فى الذمة، مع مراعاة القرار رقم 55 / 1 / د 6 بشأن القبض.
2 -يجوز أن يتفق المتعاقدان عند العقد على تعيين الثمن الآجل أو الأجرة الموجلة بعملة تدفع مرة واحدة أو على أقساط محددة من عملات متعددة أو بكمية من الذهب، وأن يتم السداد حسب الاتفاق.
"مجلة الهداية الصادرة بالبحرين فى ربيع الثانى 1414 هـ (أكتوبر 1993 م) "(9/384)
التوفير فى بنوك أجنبية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نحن نوفر جزا من راتبنا بالدولار فى بنك أجنبي ولا نقصد بذلك إلا حفظ رواتبنا من التآكل لكن البنك يعمل لدى البنوك الأوروبية والأمريكية بالمبالغ التى نوفرها وبغيرها، وفى نظير ذلك يعطينا أرباحا بنسبة غير محددة، فهل هذه الأرباح حلال أم حرام؟
الجواب
إن هذه المعاملة تدور بين الوديعة والقرض والقراض، وبيان ذلك.
ا -إذا كانت وديعة فلا يجوز للمودَع عنده التصرف فيها إلا بإذن المودع، لأنها مضمونة ترد بذاتها أو ببدلها إن تلفت، سواء أكان هذا البدل عينا أم قيمة، وحيث إن المودع عنده وهو البنك قد تصرف فيها فتكون أرباحها والناتج منها ملكا لصاحبها المودع وللبنك أجر هذا الاستثمار، وهذا إذا كان الاستثمار حلالا، إلا إذا أذن المودع، للبنك فى استثمارها فيكون الناتج ملكا للبنك. .
لكن قال العلماء: إن وديعة النقود لا تضمن بذاتها وعينها، بل يجوز أن ترد إلى صاحبها نقودا أخرى مساوية لها فى قيمتها، وتعتبر حينئذ قرضا حيث أذن للمقترض أن يتصرف فيها كما يشاء، وعليه فلا يستحق صاحب الوديعة "القرض " أكثر منها، وقد قررت بعض القوانين المدنية أن الوديعة المأذون فى التصرف فيها تعتبر قرضا، كالقانون المدنى المصرى حيث جاء فى المادة 726 منه: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أى شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذونا فى استعماله اعتبر العقد قرضا.
2 - وإذا كانت هذه النقود المودعة فى البنك للحفظ أخذت صفة القرض، وأعطى البنك عليها أرباحا فينظر إلى القاعدة المعروفة "كل قرض جر نفعا فهو ربا" والعلماء فيها فريقان:
ا - فريق قال: يكون القرض الذى جرَّ نفعا من باب الربا إن كان النفع مشروطا فى العقد، أما إذا لم يكن مشروطا فإن النفع يكون من باب الهدية يجوز قبوله كما رد الرسول قرض اليهودى بأكثر منه.
ثم قال هذا الفريق: العرف ينزل منزلة الشرط، يعنى إذا كان معروفا أن هذا القرض سيجر نفعا حتى لو لم يكن مشروطا فى صلب العقد، فهو من باب الربا، لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا.
وأصحاب السؤال يقولون: إننا لا نريد أرباحا، فإذا كانوا قد وقَّعوا عند الإيداع على رفض الأرباح، ويكون ما يعطيهم البنك لهم من باب الهدية فيجوز قبولها، أما إذا لم يوقِّعوا على رفض الأرباح، أو وقعوا وكانوا يعلمون أن البنك لابد أن يعطيهم، سواء رضوا أم أبوا - لأن القانون يقرر ذلك -كانت الأرباح التى تعطى لهم من قبيل الربا.
ب -وفريق من العلماء قال: إن أى نفع من القرض يكون ربا، سواء شرط ذلك أو لم يشرط، وسواء عرف أو لم يعرف.
وعلى هذا فما هو موقف المودعين من هذه الأرباح إن كانت ربا، هل يتركونها للبنك أو يأخذونها؟ رأيان، ولكن الأوفق هو أخذها وعدم تركها للبنك، على أن يوجهوها للمنفعة العامة، كمال حرام كان يجب رده إلى أصحابه الذين أخذها البنك منهم، ونظرا لتعذر ذلك يصرف المال للمنفعة العامة، ولا ينتفع به من أخذه فى مصالحه الشخصية.
3-أما أن يعتبر هذا المال المودَع فى البنك من باب القراض والمضاربة فممنوع لأن الشرط فى صحة المضاربة الاتفاق بين الطرفين على تقسيم الربح ومعرفة نسبة التقسيم، وألا يشترط ضمان رأس المال إلا بالتعدى، وذلك غير موجود فى الصورة التى فى السؤال، وعليه فلا حق للمودعين فى الأرباح التى يعطيها لهم البنك وبخاصة أن استثمار المال كان بطريق غير مشروع وهو الإقراض للبنوك الأجنبية بنسبة معينه.
فالخلاصة أن المعاملة المذكورة فى السؤال من باب القرض الذى جر نفعا، سواء أكان مشروطا أم غير مشروط لكنه معروف عرفا، فالأرباح ربا تصرف فى المنافع العامة(9/385)
أجر تقديم الخمور
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا أعمل فى محل عام أقدم فيه المشروبات للرواد من أجل زيادة راتبى القليل الذى كنت آخذه من العمل فى قسم آخر لأستطيع أن أعول أسرتى فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
رأى الدين واضح فى حرمة الاشتراك فى تناول المحرمات بأى نوع من أنواع الاشتراك والحديث قد نص على ذلك، فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخمر عشرة، عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشترى لها والمشترى له " رواه ابن ماجه والترمذى واللفظ له وقال: غريب، قال الحافظ رواته ثقات.
فالذى يقدم الخمر للشاربين شريك فى الإثم بنص الحديث، لأنه إما راض عن فعلهم والراضى بالمعصية يعاقب عقاب من عملها، وإما مساعد عليها، والمساعد على المعصية مشترك فى العقاب مع العاصى.
وأقول للسائل: إن الأجر القليل من عمل حلال إذا كان يغطى الضروريات فقط التى تمسك الحياة وتدفع الموت وتحول دون العجز فهو راتب يباركه الله، أما ما وراء ذلك الضرورى فلا يجوز أن يحصَّل من الحرام(9/386)
البيع بالمزاد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن يدخلون فى المزايدات لا بقصد الشراء ولكن بقصد إعلاء الثمن؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن ابن عمر وأبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش وذم الناجش، والنجش فى اللغة هو تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد، وفى الشرع الزيادة فى ثمن السلعة، وقد يكون ذلك بمواطأة البائع فيشترك مع المشترى فى الإثم، وقد يكون بغير علمه فيختص بذلك المشترى، وقد يختص به البائع كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك.
وفسر الشافعى صورة بيع النجش بأن تحضر السلعة لتباع، فيعطى إنسان لها ثمنا ولا يريد شراءها، وذلك حتى يقتدى به السُّوَّام، أى الراغبون فى الشراء، فيعطوا بها ثمنا أكبر، أى يقدرون لها سعرا أكبر مما كانوا يقدرونه لو لم يسمعوا سومه، وهذا ما يسمى الآن ببيع المزايدة.
وحاصل ما قيل فيه: إن زيادة السعر وتنافس المساومين إن لم يكن الغرض من ذلك شراء السلعة، وكان الغرض تغرير الغير ليتوهم أنها تساوى ما سمعه من الأثمان فيدفع فيها ثمنا أعلى ليفوز بها-كانت المزايدة محرمة، ويشترك فى الإثم كل من له دخل فيها أو علم بها ورضى عنها. أما إذا كانت المزايدة من الشخص بقصد شراء السلعة لا بقصد التغرير فلا تكون محرمة.
وإذا كانت المزايدة بقصد التغرير محرمة فهل يبطل البيع أو يقع صحيحا مع حرمته؟ نقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك ليبيع، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان بمواطأة البائع أو صنعته. والمشهور عند المالكية ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية والأصح عندهم -أى الشافعية- صحة البيع مع الإثم، وهو قول الحنفية "نيل الأوطار ج 5 ص 175 "(9/387)
البيع بشرط المنفعة للبائع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحصل فى بعض الأحيان أن يبيع الإنسان أرضا أو عقارا لأحد أقاربه ويشترط أن يبقى الانتفاع بهذا المبيع حقا للبائع، ولا يملكه المشترى إلا بعد وفاة البائع، فهل هذا البيع صحيح؟
الجواب
وجِّه مثل هذا السؤال إلى الشيخ محمد بخيت المطيعى المفتى الأسبق وأجاب عليه فى جمادى الأولى سنة 1333 هـ (1915 م) بأنه بيع فاسد على مذهب الإمام أبى حنيفة، الذى كان هو المذهب الرسمى للإفتاء، وعلَّله بأن فيه شرطا فاسدا فى صلب العقد الذى لا يقتضيه ولا يلائمه، ولم يجر العرف به ولم يرد الشرع بجوازه، وفيه نفع للبائع مع أن منفعة المبيع هى للمشترى بمقتضى العقد، وما دام المبيع لم يتسلمه المشترى فهو باق فى ملك البائع يجوز له فسخه. وإذا قبضه المشترى مع وجود هذا الشرط كان ملكا له.
"الفتاوى الإسلامية المجلد الثالث ص 794".
ووجه مثل هذا السؤال إلى الشيخ عبد الرحمن قراعة فأجاب عليه فى شوال 1339 هـ (1921 م) بمثل ذلك. ولم يجعل العقد وصية، لأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرج، والتمليك فى هذه الصورة ليس تبرعا. "المصدر السابق ص 807".
وبمثل إجابة الشيخ قراعة أجاب الشيخ محمد إسماعيل البرديسى فى شوال 1339 هـ (يونية 1921 م) "الفتاوى الإسلامية - المجلد الرابع ص ا 156 ".
وهناك وجهة نظر تقول: لو باع الإنسان أو وهب أرضا أو عقارا لإنسان آخر، وجعل استغلاله لهذه الأرض أو العقار جزءا من الثمن أو المقابل أو هو كل الثمن أو المقابل، وتم البيع أو الهبة بتسليم العين للمشترى أو الموهوب له، ثم أعطى للبائع حق الاستغلال لها، فما هو المانع من صحة هذه المعاملة؟ طرفان فى العقد وعين وقع عليها العقد ومقابل للعين وهو انتفاع البائع بها لمدة.
إنها وجهة نظر معقولة قد يتغير بها الرأى الذى جاء فى الفتاوى السابقة(9/388)
زمن الإجارة والتأجير من الباطن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى عقد الإيجار الذى يمتد سنوات طوالا، وما الحكم إذا قام المستأجر بتأجير الأرض إلى شخص آخر بأضعاف السعر الذى تعاقد به مع المالك؟
الجواب
عقد الإجارة لبيت أو أرض أو أى شىء آخر ينتهى بانتهاء الأجل المضروب لها أو المهمة التى تعاقد الطرفان عليها، فإذا انتهى الأجل أو المهمة وجب تسليم العين لمالكها، ويحرم على المستأجر استغلالها أو إمساكها.
وفى أثناء المدة المتعاقد عليها يجوز للمستأجر أن يؤجر لغيره هذه العين، لأنه يملك المنفعة منها، فله الحق فى التصرف فيها بوجوه الانتفاع التى لا تضر بالعين، إلا إذا جرى الاتفاق بغير ذلك. أما لو أمسك المستأجر العين ولم يسلمها لصاحبها فكل كسبه وانتفاعه منها حرام وسحت، لأنه ليست هناك إجارة على التأبيد حتى لو أجازها القانون، وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به(9/389)
ميراث من حرام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
والدى ترك لنا أرضا وعقارا لكنه كان يتعامل أحيانا بالربا ويأخذ الرشاوى فهل ميراثنا منه حلال أم حرام؟
الجواب
يقول الإمام الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين "ج 2 ص 115:
رجل ورث مالا ولم يدر أن مورثه اكتسبه من حلال أم من حرام، ولم تكن ثمة علامة، فهو حلال باتفاق العلماء، وإن علم أن فيه حراما وشك فى قدره أخرج مقدار الحرام بالتحرى والاجتهاد، وقال بعض العلماء: لا يلزمه والإثم على المورث، واستدل بما روى أن رجلا ممن ولى عمل السلطان مات فقال صحابى: الآن طاب ماله، أى لوارثه، وهذا ضعيف، لأنه لم يذكر اسم الصحابى، ولعله صدر من متساهل، فقد كان فى الصحابة من يتساهل ولكن لا نذكره لصحبته(9/390)
اختلاط المال الحلال بالحرام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل كسبه مختلط فيه الحلال والحرام هل يجوز أكل شىء منه؟
الجواب
قال الإمام الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين"ج 2 ص 93: لو اختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر، كحكم الأموال فى زماننا هذا لا يحرم تناول شىء منه ما دام محتملا الحلال والحرام، إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام، والدليل:
1 - أن أثمان الخمور ودراهم الربا من أيدى أهل الذمة مختلطة بالأموال، وكذلك غلول الأموال وغلول الغنيمة، ومن يوم أن نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الربا فى حجة الوداع ما ترك الناس الربا بأجمعهم، كما لم يتركوا شرب الخمور ولا تركوا المعاصى، وأدرك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمراء الظلمة ولم يمتنع أحد منهم عن الشراء والبيع فى السوق بسبب نهب المدينة، وقد نهبها أصحاب يزيد ثلاثة أيام، والأكثرون لم يمتنعوا عن تلك الأموال مع الاختلاط وكثرة الأموال المنهوبة فى أيام الظلمة.
2 - لو فتح هذا الباب لانسد باب جميع التصرفات وخرب العالم، إذ الفسق يغلب على الناس، ويتساهلون بسببه فى شروط البيع فى العقود، ويؤدى ذلك إلى الاختلاط، ولو قيل: إن الحرام كثر عن أيام السلف فيجب ترك المختلط بالحلال الآن أقول: ليس حراما وإنما الورع تركه.
وفى "ص 96": لو طبق الحرام الدنيا حتى علم يقينا أنه لم يبق فى الدنيا حلال كنت أقول نستأنف تمهيد الشروط من وقتنا ونعفو عما سلف ونقول: ما جاوز حده انعكس إلى ضده، فمهما حرم الكل حل الكل، وذلك لأن الناس لو تركوا الأكل منه ماتوا عن أخرهم، ولو اقتصروا على قدر الضرورة فسيئول أمرهم إلى الموت، فالذى نراه أن كل ذى يد على ما فى يده، وهو أولى به، لا يجوز أن يؤخذ منه سرقة وغصبا، بل يؤخذ برضاه، والتراضى هو طريق الشرع.
وقال فى صفحة 108: شخص معين خالط ماله الحرام مال حلال، فإن كان الأكثر حراما لا يجوز الأكل من ضيافته ولا قبول هديته وصدقته إلا بعد التفتيش، فإن ظهر أن المأخوذ من وجه حلال فذاك، وإلا ترك، وإن كان الحرام أقل والمأخوذ مشتبه فهذا فى محل النظر.
وفى ص 109 قال: فإن قيل: روى عن علىَّ الترخيص فى أخذ ما يعطيه السلطان له، وابن مسعود بجواز الأخذ من الجار صاحب المال الخبيث وقال: عليه المأثم ولك المهنأ، وقال بجواز الأكل من الجار الذى يتعامل بالربا، ورويت عنه روايات كثيرة مختلفة، وأخذ الشافعى ومالك جوائز الخلفاء والسلاطين، مع العلم بأنه خالطه حرام.
ويرد الغزالى بقوله: علىّ كان شديد الورع فليس معقولا أن يرخص فى ذلك، وإن كان يمكن الترخيص فى مال السلطان لكثرة ما فيه من حلال، وكذلك ما نقل عن الشافعى ومالك، لأن الحلال أكثر فى مال السلطان.
وأما قول ابن مسعود فنقله عنه خَوَّات التيمى، وهو ضعيف الحفظ، وابن مسعود اشتهر بتوقى الشبهات.
وفى ص 110 قال: ليس له أن يسأل صاحب الطعام والمال إذا لم يأمن غضبه إذا كان الحلال أكثر، أما إذا كان الحرام أكثر فعليه أن يسأل ولا يبالى بغضبه، لأنه ظالم.
وفى ص 117 قال: إن كان فى يده حلال وحرام أو شبهة وليس يفضل الكل عن حاجته فإذا كان له عيال فليختص نفسه بالحلال ويطعم أولاده الحرام بقدر الحاجة ويقدم الأهم على المهم.
هذه الصورة مفروضة فى أن الرجل محتاج، أما غير المحتاج فلا يطعم أولاده الحرام.
وفى ص 118 قال: إذا كان الحرام أو الشبهة فى يد أبويه فليمتنع من مؤاكلتهما، فإن كانا يسخطان فلا يوافقهما على الحرام المحض بل ينهاهما، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، فإن كان شبهة وكان امتناعه للورع فقد عارضه أن الورع طلب رضاهما، بل هو واجب، فليتلطف فى الامتناع، فإن لم يقدر فليوافق وليقلل الأكل ولا يتوسع، ولو ألبسته أمه ثوبا من شبهة وكانت تسخط برده فليقبل وليلبسه بين يديها، ولينزعه فى غيبتها.
هذا، وقد جاء فى تفسير القرطبى"ج 2 ص 09 ا"ما نصه:
قال ابن خُوَيْزِ منداد: وأما أخذ الأرزاق "المرتبات " من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال.
إن كان جميع ما فى أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره.
وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما فى أيدى الأمراء اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلصٍّ فى يده مال مسروق ومال جيد حلال قد وكَّلَه فيه رجل، فجاء اللص يتصدق به على إنسان، فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان من الجائز أن يتصدق اللص ببعض ما سرق إذا لم يكن شىء معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما، وإن كان الورع التنزه عنه، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها.
وإن كان ما فى أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم، ولو كان ما فى أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب فهو كما لو وجد فى أيدى اللصوص وقطاع الطرق، ويجعل فى بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الإمام فى مصالح المسلمين(9/391)
إجارة ومزارعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز سداد إيجار الأرضى الزراعية من المحصول الذى يزرع فيها بالاتفاق بين المالك والمستأجر؟
الجواب
إيجار الأرض الزراعية مبلغ معلوم متفق عليه بين المالك والمستأجر، يُلْزم بدفعه المستأجر من أى مصدر وبأية وسيلة، ما دام هناك اتفاق على ذلك، والمؤمنون عند شروطهم.
هذا إذا كان العقد عقد إجارة، وهو كما قال الفقهاء، العقد على منفعة معلومة مقصودة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم، كأن أجَّر له الأرض لمدة سنة أو لزرع القمح مثلا لقاء مبلغ معين كمائة جنيه مثلا، أو أردب من قمح أو من ذرة أو من أرز مثلا.
لكن هناك عقدًا آخر اسمه "المزارعة " وهو أن يعطى المالك أرضه لزارع يزرعها، والمالك يعطى الزارع بعض ما يخرج منها، ويكون البذر والتكاليف من صاحب الأرض أو حسب الاتفاق، فما يأخذه الزارع هو أجره على العمل، وقد يكون البذر من المستأجر ويسمى هذا العقد "مخابرة "وفيه خلاف للفقهاء فى جواز هذه المعاملة وعدم جوازها.
والصورة الواردة فى السؤال الظاهر أنها إجارة، والعوض هو جزء معين من المحصول كأردب من القمح أو الذرة مثلا، وهى جائزة، ولا يتحتم أن يكون العوض من المحصول نفسه، بل يجوز أن يكون من قمح آخر يساوى فى قيمته قيمة الناتج من هذه الأرض، اللهم إلا إذا شرط المالك أن يكون العوض من الناتج من أرضه، فينفذ الشرط(9/392)
الوديعة والقرض والمضاربة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الحكم الشرعى فى شهادات الاستثمار ذات العائد المحدد، وهل يصدق عليها أنها وديعة أو من باب المضاربة كما يقول بعض الناس؟
الجواب
لقد وجه مثل هذا السؤال إلى الأزهر ونشرت الإجابة فى مجلة منبر الإسلام، عدد رمضان 1392 (أكتوبر 1972 م) ، وعلى الرغم من أن حكمها قد سبق نشره فإن فى إعادة نشره تأكيدًا له، وإبطالا لدعاوى من يروجون لحِلِّ هذه المعاملة، وهذا نص الإجابة:
لقد صدرت الفتوى عقب ظهور هذا النوع من المعاملة، وجاء فيها أن ذلك من باب القرض الذى جر نفعا، فهو بالتالى ربا، لأن عمليات البنوك فى هذه الشهادات هى جمع الأموال وإعطاوها للمؤسسات والهيئات وجهات الاستثمار الأخرى بفائدة كبيرة، وإعطاء أصحاب الشهادات فوائد أقل مما تحصل عليه من هذه الجهات، والفرق ربح لها، ولا صلة لها بجهات الاستثمار، فلها ربح محدد منها على المال الذى أخذته، فالأمر لا يعدو أن يكون قروضا جاءت بفائدة.
وما يقال من أن الأموال ودائع عند البنك وليست قروضا-يرد عليه بأن الوديعة إذا ردت لصاحبها ترد كما هى دون زيادة أو نقص، بل قال العلماء: إنه لا يجوز التصرف فى الوديعة خصوصا بما يعرضها للتلف، فمن أين يستحل صاحب الوديعة هذه الأرباح؟ على أنها لا تأخذ شكل الوديعة، لأن الوديعة مطلوب حفظها لردها حين طلبها، وهذه موجهة أصلا للاستثمار لا للحفظ، فهى سلفة جاءت من الناس إلى البنك، وهو بدوره يقرضها لجهات الاستثمار.
هذا، وقد قال جماعة من الفقهاء العصريين: إن الأمر لا يعدو أن يكون من باب المضاربة، مع أن المضاربة يعطى فيها الإنسان مالا لغيره ليستثمره ويعطيه نصيبا من الربح بنسبة معينة، وقد يكون عائد هذه النسبة قليلا وقد يكون كثيرا، حسبما يحقق رأس المال من ربح، وقد تكون هناك خسارة.
قال هؤلاء: إن البنك وسيط بين الناس وبين شركات وجهات الاستثمار، يأخذ هو فروق الفوائد للصرف على العاملين به مثلا، وعلى هذا يكون التعامل بين الطرفين على أساس المضاربة والربح مضمون وكبير، سواء فى حجمه المادى أو المعنوى بسبب الخدمات التى يؤديها هذا النشاط للبلد فى ظروفها الحالية بالذات، قالوا هذا مع علمهم بأن الربح محدد، وقد قال العلماء المتقدمون بأنه يفسد عقد المضاربة، أما هم فقالوا: إن تحديد الربح لا يفسد العقد، فلماذا يخالفون ما تواضع عليه الفقهاء منذ مئات السنين؟ .
والإسلام يشجع استثمار الأموال ويكره حبسها وعدم سيولتها، ولذلك أوجب عليها الزكاة إذا لم تتحرك وظلت جامدة، ووجوه الاستثمار الحلال كثيرة، وعندنا الشركات متوفرة، وبعضها يحقق ربحا لا بأس به، وهو خاضع للظروف المختلفة لهذه الشركات، والتجارة فى أصل مفهومها تكون عرضة للربح والخسارة.
هذا نص الحكم الذى نشر من سنة 1972 م، ومحاولة الرجوع فيه تحايل يأباه الدين، وقد ذم الله به اليهود الذين أحلوا به ما حرم الله عليهم(9/393)
خلو الرجل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الشرع فيما يسمى الآن بخلو الرجل؟
الجواب
شاع بين الناس الآن بسبب تزايد السكان وكثرة الطلب وقلة المعروض من الأراضى والبيوت والمحلات، وبسبب بعض القوانين الخاصة بالعلاقة بين المالك والمستأجر، أن بعض المستأجرين لبيت أو محل يعطيه لغيره فى مقابل مبلغ يقدره كيف يشاء، وذلك بدون علم المالك أو موافقته، وقد يتوارد على هذا المكان المؤجر عدد كبير من الناس عن طريق خلو الرجل الذى اتخذ كحرفة أو مهنة أو تجارة، بل يحدث أن المستأجر للأرض إذا طلبها منه صاحبها يطلب منه مبلغا كبيرا أو أن يتنازل عن جزء كبير من الأرض فى مقابل إخلائها وتسليمها له.
وإذا كانت بعض القوانين وضعت فى فترة معينة لأغراض معينة، فقد تغيرت الظروف وضَجَّ الملاك بالشكوى من هذا الظلم الفادح، وتعطلت بسبب ذلك مشروعات كثيرة كبناء المساكن التى خاف الناس من استغلال أموالهم فيها، أو ترك المبانى خالية خوف تسلط المستأجر عليها وتعذر استردادها منه.
والنداءات كثيرة لمراعاة الشريعة فى وضع القوانين التى ظهر فسادها بعد تجربتها، وإذا كانت القوانين غير شرعية فالواجب على المتعاملين أن يبتعدوا عنها ولا يتمسكوا بها، ولا يجوز مطلقا أن يلقوا المسئولية على واضعيها ليتملصوا هم من التبعة، فالمبدأ الإسلامى معروف: لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
وقد وجه سؤال إلى مفتى الديار المصرية الشيخ جاد الحق على جاد الحق فى هذا الموضوع، فأجاب فى 3 من يوليو سنة 1980 م بما نصه:
أخذ المستأجر نصف الأرض المؤجرة إليه فى نظير إخلائها ليتمكن المالك من بيعها أمر محرم شرعا، لأن عقد الإجارة لا يستتبع ملكية العين المؤجرة، ويصبح هذا - إن تم - من باب أكل أموال الناس بالباطل المنهى عنه بقول الله سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} النساء: 29، ويكون إثمه على المستأجر إن لم يرض المالك رضاء خالصا بهذا التصرف، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"الفتاوى الإسلامية ج 10 ص 3563"(9/394)
استيفاء الحق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أخذ منى بعض الناس مالا، ولثقتى فيه لم أطلب كتابة مستند بذلك، ثم ماطل فى سداده، وليس معى ما يثبت حقى، فماذا أفعل؟ هل يجوز لى أن أسرق منه ما يساوى حقا الذى عنده؟
الجواب
من الأدب فى القرض أن يعطى القادر ما يستعين به المقترض المحتاج إذا كان مستغنيا عنه، ومن المشروع أن يشهد على هذا القرض أو يثبته بالوسائل التى تضمن حقه، وأن يلتزم المقترض بالوفاء إذا حل الأجل المضروب بينهما، فإن كان مستطيعا بادر بالوفاء وإن كان معسرا يندب أو يجب على صاحب الدين أن يعطيه مهلة فإن رأى أنه لن يستطيع السداد فهو بالخيار بين أن يقاضيه وأن يعفو عنه، قال تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} البقرة: 280.
وإذا كان المدين موسرا وماطل فى الأداء فقد ظلم، كما نص عليه الحديث "مطل الغنى ظلم ".
وإذا أمكن للدائن أن يقاضيه بالشهود أو المستندات فهل يجوز له أن يستوفى حقه منه بدون الرجوع -إلى القضاء أو لا يجوز؟ قال الشافعية: لو أمكن تحصيل الحق بالقاضى بأن كان المدين مقرا مماطلا، أو منكرا وعليه البينة، أو كان يرجو إقراره عند القاضى وعرض اليمين عليه فهناك رأيان، رأى يقول بوجوب الرجوع إلى القاضى، ورأى يقول بجواز أخذ حقه بدون القضاء وهو الراجح، ويشهد له إذن النبى صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبى سفيان بالأخذ من ماله بدون إذنه بقدر ما يكفيها وولدها بالمعروف، وذلك لأنه كان شحيحا ممسكا لا يعطيهم النفقة المناسبة. ولأن إجراءات التقاضى طويلة وفيها مشقة فلا داعى لها(9/395)
بيع التلجئة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نقرأ فى بعض الكتب عن نوع من البيع اسمه التلجئة، فما هى صورته وما حكمه؟
الجواب
يحدث مثلا أن إنسانا يخاف على ماله من أرض أو عقار أو ممتلكات أخرى أن يتعرض لها عدو بأذى، أو يتفادى حكما قضائيا أو إداريا يحس بأنه سينال ممتلكاته بالأذى فيبيع ممتلكاته أو بعضها لأولاده أو زوجته أو لأى إنسان آخر، وقد يكون البيع بدون مقابل، أو مقابل رمزى، ويتم البيع بأركانه وشروطه، مع الإجراءات الرسمية لنقل الملكية من تسجيل وغيره.
هذا البيع نظر بعض الفقهاء، إلى النية والمقصود منه فحكم ببطلانه، ونظر بعضهم إلى ظاهره فحكم بصحته يقول ابن قدامة فى " المغنى" بيع التلجئة باطل، وقال أبو حنيفة والشافعى: هو صحيح، لأن البيع تم بأركانه وشروطه خاليا من مُفْسِدٍ فصح به، كما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عُقد البيع بلا شرط(9/396)
البيع بشرط انتفاع البائع بالمبيع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن بعض الناس يبيع داره أو أرضه لأولاده أو لغيرهم، ويشترط فى العقد أن يظل منتفعا بهذا المبيع طول حياته، ولا ينتفع بها المشترى إلا بعد وفاة البائع، فما حكم هذا البيع؟
الجواب
جاء فى المغنى والشرح الكبير"ج 4 ص 49" عن النوع الثالث من الضرب الصحيح فى الشروط فى البيع أنه يصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة مثل أن يبيع دارا ويستثنى سكناها سنة، أو دابة ويشترط ظهره - ركوبه -إلى مكان معلوم، أو عبدا ويستثنى خدمته مدة معلومة، نص عليه أحمد وهو قول الأوزاعى وأبى ثور وإسحاق وابن المنذر، وقال الشافعى وأصحاب الرأى: لا يصح، لأنه يروى أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، ولأنه ينافى مقتض البيع فأشبه ما لو شرط ألا يسلمه ذلك لأنه شرط تأخير تسليم المبيع إلى أن يستوفى البائع منفعته، وقال ابن عقيل - من الحنابلة -فيه رواية أخرى-أى عن أحمد-أنه يبطل البيع والشرط.
وقال مالك: إن اشترط ركوبا إلى مكان قريب جاز، وإن كان إلى مكان بعيد كره، لأن اليسير تدخله المسامحة.
ثم استدل ابن قدامة على الصحة بما روى عن جابر أنه باع النبى صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة، وفى لفظ قال: فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلى، رواه البخارى ومسلم. وفى رواية لمسلم قال جابر: على أن لى ظهره إلى المدينة قال " ولك ظهره إلى المدينة " ولأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا - أى الاستثناء -إلا أن تعلم، وهذه معلومة، ولأن المنفعة قد تقع مستثناه بالشرع على المشترى فيما إذا اشترى نخلا مؤبرة - ملقحة - أو أرضا مزروعة، أو دارا مؤجرة، أو أمة مزوجة، فجاز أن يستثنيها، كما لو شرط البائع الثمرة قبل التأبير، ولم يصح نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط وإنما نهى عن شرطين فى بيع، فمفهومه إباحة الشرط الواحد، وقياسهم منقوض بشرط الخيار والتأجيل فى الثمن [انظر أيضا: نيل الأوطار للشوكانى ج 5 ص 189] .
وعليه فلا مانع من البيع مع اشتراط انتفاع البائع بالمبيع لمدة يتفقان عليها، وذلك على مذهب الإمام أحمد وقد صدرت فتاوى رسمية على مذهب أبى حنيفة سنة1915، 1921 من الشيخ محمد بخيت المطيعى والشيخ عبد الرحمن قراعة والشيخ محمد إسماعيل البرديسى بحرمة هذا البيع " الفتاوى الإسلامية - المجلد الثالث ص 794، ص 807 والمجلد الرابع ص 1561 " ولا مانع من الأخذ برأى الإمام أحمد بالصحة عند الحاجة.
ذكر ابن حجر فى " فتح البارى ج 5 ص 371" أن البخارى رجح جواز الاشتراط كما يدل عليه الحديث، والاشتراط المفسد للعقد ليس منه ذلك، بل صورته أن يبيع الجارية ويشترط على المشترى عدم وطئها. ويبيع الدار ويشترط عليه ألا يسكنها، وفى الدابة ألا يركبها، أما إذا اشترط شيئا معلوما فلا بأس به. وحديث النهى عن بيع وشرط فى إسناده مقال، وهو قابل للتأويل(9/397)
بيع العربون
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
اتفقت مع شخص على شراء شىء وأعطيته عربونا، ثم رجعت فى هذا البيع، فهل لى الحق فى استرداد العربون؟
الجواب
إن العربون الذى يُدفع تمهيدا لشراء شىء أو استئجاره يرجع فيه إلى اتفاق الطرفين، أو إلى العرف الجارى فى الوسط الذى يتعاقد فيه المتعاقدان. فلو كان هناك اتفاق على إرجاعه إن لم يتم العقد، أو كان العرف يقضى بذلك وجب إرجاعه لمن دفعه، ولو كان هناك اتفاق على سقوط حق المشترى أو المستأجر فيه إن لم يتم العقد أصلا، أو لم يتم فى مدة معينة، أو كان العرف يقتضى ذلك سقط حقه فيه، فالأصل هو الاتفاق، فإن لم يوجد فالعرف. ولا يوجد نص يمنع ذلك، وما رواه ابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون ضعفه الإمام أحمد وأجاز بيع العربون، لما رواه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دارا للسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضى عمر كان البيع نافذا، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم. وقال ابن سيرين وسعيد بن المسيب: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، وأجازه أيضا ابن عمر، لكن كل ذلك فى عقد تمت فيه الصفقة مع الخيار، أما إن لم يتم العقد فالأمر متروك للاتفاق والعرف.
هذا، وقد ذكر الشوكانى فى "نيل الأوطار ج 5 ص 163 " أن حديث النهى عن بيع العربون وإن كان ضعيفا فله طرق يقوى بعضها بعضا، وأخذ به أبو حنيفة ومالك والشافعى، وعلل حرمته عند هؤلاء الأئمة بأن فيه شرطين فاسدين، أحدهما شرط كون ما دفعه إليه يكون مجانا بلا مقابل إن لم يتم العقد -وذلك إذا كان الشرط أن يأخذ البائع العربون إذا لم يتم العقد- والشرط الثانى الرد على البائع إذا لم يقع منه الرضا بالبيع، وقال: إذا دار الأمر بين الحظر والإباحة ترجح الحظر.
وأرى الأخذ بمقتضى الشرط إن وجد فالمؤمنون عند شروطهم، ومثله العرف إن لم يوجد شرط، وما دام الأمر خلافيا، فلا مانع من الأخذ بأى رأى(9/398)
بيع العينة وبيع ما لم يقبض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو المقصود ببيع العينة وما حكمه؟
الجواب
بيع العينة -بكسر العين أى السلف- أن يشترى شخص سلعة من شخص آخر بثمن فى الذمة، ثم يبيعها المشترى إلى البائع بثمن أقل يأخذه نقدا، وهو ممنوع شرعا، لأن فيه حيلة الربا، وقد ورد فيها من حديث عائشة الذى رواه الدارقطنى وابن عمر الذى رواه أحمد وأبو داود منعها، وهى تفارق صورة أخرى أن يشترى شخص سلعة بثمن آجل ثم يبيعها من شخص آخر غير البائع بثمن أقل نقدا، وهذه جائزة لأن المشترى غير البائع، والأولى من حيل الربا.
ومن المحرم بيع ما لم يقبضه المشترى، كأن يشترى سلعة بثمن ثم يبيعها لشخص آخر قبل أن يقبضها. لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام " لاتبع ما ليس عندك " وقال:
"لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك " وقال "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيَه " قال ابن عمر: كنا نشترى الطعام جزافا، فيبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
والطرق التى روى بها النهى عن بيع العينة ضعيفة وإن كان يقوى بعضها ببعضا، وقال بحرمة هذا البيع مالك وأبو حنيفة وأحمد، وأجازه الشافعى وأصحابه، ناظرين إلى صحة صورة البيع، أما النية فلا شأن لها بذلك، والآخرون نظروا إلى القصد من هذا البيع والتحايل به على الربا فحرموه "نيل الأوطار للشوكانى ج 5 ص 220"(9/399)
بيع الوفاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسمع أن هناك بيعا اسمه ببع الوفاء، فما المقصود منه وما حكمه؟
الجواب
صورة بيع الوفاء أن يقترض المحتاج مبلغا من المال من شخص، ثم يبيع له فى نظير ذلك جزءا معينا من الأرض تزيد قيمته على قيمة القرض، ويكون البيع لمدة معينة ينتفع فى أثنائها الدائن بالأرض انتفاع المالك لها، وفى نهاية المدة إذا لم يسدد المقترض المبلغ تصير الأرض ملكا تاما للدائن فى مقابل القرض.
قال بعض العلماء: إن صورة العقد أنها بيع ولكن لأجل يفسد بعد انتهائه، وهذا يبطل العقد، لأن طبيعة البيع أنها للتمليك الدائم لا المؤقت، وما تزال الأرض ملكا لصاحبها الذى باعها.
وقال بعضهم: إنها رهن فى صورة عقد بيع، وحكم الرهن أن الأرض ما تزال مملوكة لصاحبها الذى رهنها، ولا يتصرف فيها المرتهن إلا بإذن الراهن، وعند سداد الدين ترد الأرض لمالكها، وعند عدم السداد يمكن بيع الأرض ليستوفي الدائن منها حقه وما بقى من ثمنها لمالكها.
قال البدر العينى شارح البخارى فى كتابه "المسائل البدرية": بيع الوفاء أن يقول البائع للمشترى: بعت منك هذا بما لك علىَّ من الدين، على أنى متى وفيت الدين فهو لى. فهو فى الحقيقة رهن، والمبيع فى يد المشترى كالرهن فى يد المرتهن لا يملكه، ولا يباح له الانتفاع به إلا بإذن المالك، وهو ضامن لما أكل من ثمره واستهلك من عينه، والدين ساقط بهلاكه فى يده إذا كان فيه وفاء بالدين.
قال المصنف: والصحيح أن العقد الذى جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنا، فإن ذكرا شرط الفسخ فى البيع فسد البيع، وإلا فإن تلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء على وجه النفاذ، أو تلفظا بالبيع الجائز جاز البيع، ويلزم الوفاء بالميعاد، لأن المواعيد قد تكون لازمة فيجعل الميعاد لازما لحاجة الناس. انتهى "مجلة الإسلام -المجلد الرابع- العدد 12 "(9/400)
القرض الذى جر نفعا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس أن القرض الذى جر نفعا ليس ربا، لأنه لم يرد حديث صحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، فهل هذا صحيح؟
الجواب
القرض إعطاء شىء للغير يستفيد به ليرده أو يرد مثله إليه، وهو أمر مشروع داخل فى مضمون التعاون على البر، بل مندوب إليه ومرغب فيه، لأن الغالب فيه أن يكون من حاجة، وحديث مسلم يقول "من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه " وفى حديث يقبل فى فضائل الأعمال رواه ابن ماجه عن أنس "الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر والله سبحانه يقول {من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} البقرة: 245.
وقال ابن مسعود: ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة. رواه ابن ماجه مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، والصواب أنه موقوف على ابن مسعود "نيل الأوطار ج 5 ص 243".
والقرض يكون من النقود ومن الأطعمة وكل ما له مثل، كما يكون من الحيوانات، على رأى الجمهور، فقد استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا، وأعطى صاحبه أحسن منه كما رواه مسلم وغيره وقال "خيركم أحسنكم قضاء" ومنع أبو حنيفة قرض الحيوان.
والواجب على المقترض رد القرض بدون زيادة عليه، فقد أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة فى السلف ربا ولو كانت قبضة من علف -كما قال ابن مسعود- أو حبة واحدة، ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم وكما قال: كما رواه البخارى ومسلم " إن خيركم أحسنكم قضاء".
وإهداء المقترض إلى المقرض ورد فيه حديث ابن ماجه "إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته فلا يقبلها ولا يركبها، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك " وهو حديث ضعيف، وورد فى تاريخ البخارى حديث "إذا أقرض فلا يأخذ هدية" وجاء فى صحيح البخارى أن عبد الله بن سلام قال لأبى بردة بن أبى موسى لما قدم المدينة: إنك بأرض فيها الربا فاش، فإن كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا. والقت هو الدريس أو البرسيم المجفف.
إزاء هذه المأثورات قال جمهور العلماء: يجوز رد القرض بما هو أفضل منه إذا لم يكن ذلك مشروطا فى العقد، وقال المالكية: إذا كانت الزيادة بالعدد لم يجز، كرد الواحد اثنين، وإن كانت بالوصف جازت، كرد الحيوان الكبير بدل الصغير.
ولا يلزم من جواز الزيادة فى القضاء على مقدار الدين أن تجوز الهدية ونحوها قبل القضاء، لأنها بمنزلة الرشوة. يقول الشوكانى "نيل الأوطار ج 5 ص 246 ": والحاصل أن الهدية والعارية ونحوهما إذا كانت لأجل التنفيس فى أجل الدين، أو لأجل رشوة صاحب الدين، أو لأجل أن يكون لصاحب الدين منفعة فى مقابل دينه فذلك محرم، لأنه نوع من الربا أو الرشوة، وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس. وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا فالظاهر المنع، لإطلاق النهى عن ذلك. وأما الزيادة على مقدار الدين عند القضاء بغير شرط ولا إضمار فالظاهر الجواز من غير فرق بين الزيادة فى الصفة والمقدار والقليل والكثير، بل هو مستحب كما قال الشافعية لحديث "إن خيركم أحسنكم قضاء".
ثم يقول الشوكانى بعد ذلك وهو إجابة عما ورد فى السؤال: مما يدل على عدم حل القرض الذى يجر إلى المقرض نفعا ما أخرجه البيهقى فى المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ "كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا" ورواه فى السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبى بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم، ورواه الحارث بن أبى أسامة من حديث على عليه السلام بلفظ: إن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة وفى رواية: كل قرض جرمنفعة فهو ربا. وفى إسناده سوار بن مصعب، وهو متروك قال عمر بن زيد فى المغنى: لم يصح فيه شىء، ووهم إمام الحرمين والغزالى فقالا: إنه صح، ولا خبرة لهما بهذا الفن. انتهى.
يؤخذ من هذا أن "كل قرض جر نفعا فهو ربا" ليس حديثا مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ولا مانع من الأخذ به ما دامت تتفق دلالته مع ما ورد من القرآن فى تحريم الربا، وعمل الصحابة وفتوى الفقهاء تؤيده.
وأما الحكم فخلاصته: إن كان النفع مشروطا فهو ربا، وإلا فهو جائز، ومثل الشرط العرف، لقاعدة: المعروف عرفا كالمشروط شرطا.
والهدايا إن كانت من أجل القرض فهى حرام، وإلا فهى جائزة(9/401)
القرض الحسن والقرض بفائدة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الفرق بين القرض الحسن، والقرض من البنك لقاء زيادة، وذلك للحاجة إليه، للاستهلاك أو للإنتاج؟
الجواب
القرض هو إعطاء المال على سبيل استرداده بعد فترة معينة، والمال قد يكون نقدا وقد يكون عينا كالبر والشعير، وقد يكون حيوانا، وذلك عند جمهور الفقهاء، ومنع الحنفية قرض الحيوان.
والقرض الحسن هو الذى لا تشترط فيه زيادة عند رده، وثوابه عظيم عند الله سبحانه، لأنه من باب التيسير على المعسر، والتعاون على الخير، وقيل إن ثوابه أفضل من ثواب الصدقة، لأن القرض يكون من حاجة، بخلاف الصدقة، وروى فى ذلك حديث مقبول "الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر".
وكان القرض فى الجاهلية مشروطا بزيادة فى نظير تأجيل الدين، وتتكرر الزيادة بتكرار الأجل، ويطلق عليه لفظ "الربا".
ومن صوره كما قال ابن حجر: أن يدفع الواحد ماله إلى غيره إلى أجل مسمى، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله، فإذا حل طلبه، فإن تعذر الأداء زاد فى الحق والأجل.
والقرض من البنك بفائدة حرام، بناء على القول المأثور الذى تدعمه النصوص الصحيحة "كل قرض جر نفعا فهو ربا".
وقد يقال: إن الفائدة على القرض هى لتغطية نفقات البنك والعاملين فيه، وتقاس على نفقة القرض المنقول إلى مكان غير مكان التعاقد عليه، فعن مالك أنه بلغه أن عمر رضى الله عنه سئل فى رجل أسلف طعاما على أن يعطيه إياه فى بلد آخر، فكره عمر وقال: أين كراء الجمل؟ فالمقرض طلب من المقترض نفقة نقل القرض إلى البلد الآخر، ولكن عمر كره أن يتحملها المقترض، لأنه مقتضى العقد، والكراهة بمعنى التحريم.
وجاء فى فقه الشافعية أن من اقترض من إنسان شيئا وجب عليه أن يرده إلى المقرض فى محل الإقراض إذا كان القرض يحتاج نقله إلى نفقة فإذا لم يتحمل المقترض تلك النفقة لا يجبر المقرض على القبول، وإنما يجبر المقترض على دفعها أو تسليم القرض فى محل الإقراض. وورد مثله عن المالكية والأحناف. "الأعمال المصرفية والإسلام " ص 83، 84.
وجاء أيضا جواز احتساب الأجر على العمل عامة، كأجر السمسرة وأجر كتابة الوثائق والسجلات والخطابات.
والبنوك الحالية تحتاج فى نشاطها إلى تغطية نفقات العاملين بها، فلتكن من الفائدة التى تفرض على القرض.
لكن رد ذلك بأن الفائدة لو كانت فى مقابل النفقات لكانت موحدة فى كل البنوك. لكنها تختلف باختلاف مركز المقترض والضمان المتقدم ومدة القرض، كما أنها تتكرر كل عام طيلة مدة القرض، مع أنها لو أريد إلحاقها بالنفقة فلا بد من أخذها من أول العام فقط، وعلى ذلك فقياس الفائدة على أجرة السمسار ونفقة القرض غير جائز.
وقد يقال أيضا: إن الفائده على القرض جزء من ربح مضاربة لأن القرض الذى يقدمه البنك إما استهلاكى وإما إنتاجى، والإنتاجى يستثمر عن طريق المضاربة، التى يكون فيها المال من جهة البنك والعمل من جهة المقترض، على أن يقسم الربح بينهما بنسبة معلومة شائعة.
ورد عليه بأن المضاربة لا يجوز فيها اشتراط ضمان المال على المضارب عند الخسارة ولا يجوز تحديد الربح كخمسة أو عشرة لأحد المتعاقدين، ونشاط القرض من البنك يتحمله المقترض وحده، والربح محدد وليس نسبيا.
وقد نازع بعض فقهاء العصر فى ذلك فأجازوا تحديد الربح، لأنه لا يشبه الربا المخرب للبيوت، والتراضى على ذلك موجود بين الطرفين، ولا دليل على جعل الربح بالنسبة، والفائدة المحرمة ما كانت مضاعفة ومركبة.
ورد ذلك بنفى عدم الدليل على المضاربة بشروطها المعروفة، فالإجماع منعقد عليها وأن تحديد نسبة الربح مأخوذ عن على رضى الله عنه، وأجمع فقهاء السلف عليه دون مخالف لهم فإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة أن يكون الربح مشاعا لا محددا أمر مجمع عليه توارثه الخلف عن السلف.
هذا. وقد قيل: إنه يشك فى صدور هذه الآراء المحللة للفائدة على القرض إلى أصحابها، وأن بعضهم رجع عنها، "يراجع فى توضيح ذلك الكتاب المذكور"(9/402)
حلف التجار لترويج السلع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن يحلف بالطلاق ثلاثا ليسهل عمليات البيع والشراء، وما حكم الدين فى الأرباح التى يحققها بهذا الأسلوب؟
الجواب
معلوم أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ومعلوم أن الإسلام نهى عن الحلف بغير الله، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت، حتى الحلف بالله لا يلجأ إليه إلا عند الحاجة الملحة، كما قال تعالى {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} البقرة: 224 على ما فسره البعض بالنهى عن الحلف للحمل على البر والتقوى والإصلاح، والتأكيد على عمل الخير.
والذى يحلف بالطلاق من أجل ترويج بضاعته إن كان كاذبا فزوجته طالق على رأى جمهور الفقهاء، ورأى بعضهم أن الحلف به معلق إن لم يقصد طلاق زوجته فلا يقع طلاق، وعليه كفارة يمين إن كان كاذبا.
ونحذر التجار من الحلف مطلقا لترويج البضاعة، وبخاصة إذا كان الحلف كذبا، فالكسب الذى يأتى من هذا الطريق الكاذب حرام، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به، وقد جاء الحديث ناهيا عن مثل هذا الحلف فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد بإسناد جيد والحاكم وصححه "إن التجار هم الفجار" قالوا: يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال "بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون " وفيما رواه البخارى ومسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل، ورجل بايع رجلا بسلعته بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا، فصدقه فأخذها وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفَّى له، وإن لم يعطه لم يوف " وفيما رواه مسلم "إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق -أى يروج السلعة- ثم يمحق " أى يذهب البركة(9/403)
التوارث بين المسلم وغيره
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن بعض الأشخاص يدخلون فى الإسلام وتنقطع صلتهم بأهليهم ثم يموت هو، أو يموت قريبه غير المسلم فهل يكون بينهما توارث وإذا كان الإسلام قد أحل زواج الكتابية، فهل لو مات أحد الزوجن يرثه الآخر؟
الجواب
لا خلاف بين أحد من العلماء فى أن الكافر لا يرث من تركة المسلم شيئا إذا كانت بينهما صلة زواج أو قرابة، كأن تزوج المسلم كتابية ومات عنها، أو أسلم كافر ومات والورثة ما زالوا مصرين على الكفر حتى قسمت التركة وذلك لحديث الصحيحين.
واختلفوا فيما إذا مات المسلم ثم أسلمت زوجته أو أحد أقاربه قبل توزيع التركة فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعى وأصحابهم إلى أن الكافر لا يرث من تركة المسلم شيئا بأى سبب من أسباب الميراث، لا فرق بين أن يسلم الكافر قبل تقسيم التركة أو لا يسلم، وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الزوجة الكتابية ترث من تركة زوجها المسلم، وأن القريب الكافر يرث من قريبه المسلم إذا أسلم كل واحد منهما قبل أن تقسم التركة.
أما ميراث المسلم من الكافر، فى مثل الزوج يرث زوجته الكتابية، والمسلم يرث قريبه الكافر، فقد اتفق الأئمة الأربعة أيضا على أن المسلم لا يرث من الكافر شيئا بسبب الزوجية أو القرابة.
وكان معاذ بن جبل ومعاوية بن أبى سفيان وسعيد بن المسيب ومسروق والنخعى ومحمد ابن الحنفية وإسحاق بن راهويه يرون أن المسلم يرث من الكافر بسبب الزوجية أو القرابة، وهو رأى ضعيف، وما جاءوا به لا ينهض دليلا لصحة الرأى.
هذا، وأما المرتد عن الإسلام فذهب الشافعية والماليكة إلى أنه لا يرث أحدا من المسلمين أو من غيرهم بأى سبب من أسباب الميراث، ولا يرثه أحد من المسلمين أو من غيرهم كذلك، حتى لو ارتد أخوان عن الإسلام إلى النصرانية أو غيرها لا يرث أحدهما الآخر.
وذهب أبو حنيفة إلى أن المرتد لو كان رجلا وبقى على ردته حتى مات فماله الذى كسبه قبل الردة تركة تقسم بين الورثة المسلمين، أما ماله الذى كسبه فى حال ردته فيكون فيئا للمسلمين، وإن كان المرتد امرأة فجميع ما تتركه يكون تركة تقسم بين ورثتها المسلمين، سواء كسبته قبل الردة أم بعدها، "محمد محيى الدين على شرح الرحبية"(9/404)
الميراث والتحول الجنسى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يحدث تعديل فى الميراث إذا تغير جنس الوارث بعد توزيع الميراث؟
الجواب
عمليات التحول الجنسى ظهرت حديثا، وبينا حكم الشرع فيها، ومن تطبيقاتها هذه المسألة، وقد جاء فى المادة 46 من قانون الميراث المعمول به فى مصر أن الخنثى المشكل الذى لا يعرف كونه ذكرا أو أنثى له أقل النصيبين، وما بقى من التركة يعطى لباقى الورثة، أما إذا لم يكن مشكلا بأن ولد ذكرا بين الذكورة، أو أنثى بَيِّن الأنوثة عومل بحاله الذى هو عليه عند موت مورثه، ولا يضر بعد ذلك تحوله إلى جنس آخر(9/405)
بيع الثمر على الشجر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى بيع الثمار وهى على الأشجار لم تنضج بعد؟
الجواب
الثمار قبل أن تنضج لها حالتان، الحالة الأولى لا تكون صالحة، والحالة الثانية يبدو صلاحها.
فبيعها قبل صلاحها جاء النهى عنه فى رواية لأحمد وأصحاب السنن إلا النسائى، فعن أنس رضى الله عنه قال: نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد.
وعلى هذا الرأى جماعة من العلماء، ورأى آخرون أن البيع يصح، تمسكا بعموم قوله تعالى {وأحل الله البيع} البقرة:275 قال أبو حنيفة: ويؤمر بالقطع وهو المشهور من مذهب الشافعى.
فأما البيع بعد الصلاح التام فيصح مع شرط القطع إجماعا، ويفسد البيع مع شرط البقاء إجماعا إن جهلت المدة، فإن علمت صح عند بعضهم.
أما بيعها قبل بدو صلاحها فقد جاء النهى عنه فى قوله صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا الثمار حتى يبدو صلاحها" رواه مسلم وغيره.
وعليه فقد حكم ببطلانه قلة من العلماء، وقال الجمهور بصحته إذا شرط قطع الثمار، وقال أكثر الحنفية، يصح إن لم يشترط التبقية على الشجر.
فالموضوع فيه خلاف، ويجوز اتباع أى رأى. ولزيادة المعرفة يراجع "نيل الأوطار للشوكانى" ج 5 ص 185(9/406)
التهرب من الضرائب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز التهرب من الضرائب؟
الجواب
الضرائب فريضة مالية قررها ولى الأمر لتغطية النفقات والحاجات اللازمة للأمة إذا لم تف أموال الزكاة بذلك. وهى مشروعة إذا كانت عادلة فى تقديرها وفى جبايتها، ولا يجوز التهرب منها، لأن الله أمرنا بطاعة أولى الأمر فيما فيه مصلحة كما قال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} النساء: 59.
وقد تعرض القرطبى فى تفسيره "ج 16 ص 42 " إلى هذه المسألة فقال: اختلف علماؤنا فى السلطان يضع على أهل بلد مالا معلوما يأخذهم ويؤدونه على قدر أموالهم، هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم، فقيل: لا، وهو قول سحنون من علمائنا -المالكية- وقيل:
نعم، له ذلك إن قدر على الخلاص، وإليه ذهب أبو جعفر أحمد بن نصر الداودى ثم المالكى، قال: ويدل عليه قول مالك فى الساعى يأخذ من غنم أحد الخلفاء شاة وليس فى جميعها نصاب: إنها مظلمة على من أخذت له، لا يرجع على أصحابه بشىء، قال: ولست آخذ بما روى عن سحنون، لأن الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحد أن يولج نفسه فى ظلم مخافة أن يضاعف الظلم على غيره، والله سبحانه يقول "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ". الشورى: 42(9/407)
الحلف على ترويج التجارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ساومت تاجرا عل ثمن سلعة فحلف لى أنه دفع فيها أكثر مما دفعته له، ثم سألت عنها عند تاجر آخر فرأيت ثمنها أقل من ذلك بكثير، فما رأى الدين فى هذا الحلف؟
الجواب
لقد حذرنا الإسلام من الفتنة بالدنيا فمتاعها قليل والآخرة خير وأبقى، ومن أكثر الناس افتتانا بها من يعملون فى ميدان التجارة لذلك وضع الإسلام لها آدابا تحقق الربح فى الدنيا والآخرة، ففى حديث حسن رواه الترمذى وابن ماجه "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" وفى حديث رواه البيهقى "أن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا -وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا" فمن الآداب إذا اشتروا سلعة لا يذمونها ويبخسونها حقها، وإذا باعوها لم يمدحوا فيها مدحا مبالغا فيه، وإذا كان عليهم حق لغيرهم لا يماطلون فى دفعه ما داموا قادرين، وإذا كان لهم حق على غيرهم لا يطلبونه وهم معسرون، بل يؤجلونه إلى ميسرة.
ومما يتورط فيه التجار بغية الكسب والكسب الكثير، الحلف بالله أنه اشترى السلعة بثمن غال حتى يأخذ ممن يبتاعها منه ثمنا أغلى ولو فرض أنه صادق فى حلفه فإن الحلف بالله حتى فى فعل الخير مذموم لقوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} البقرة: 224 وهو أشد ذمًّا إذا حلف ألا يفعل الخير وأفحش ما يكون الحلف ذما إذا كان كاذبا فيه، وبخاصة إذا توصل به إلى مغنم دنيوى لا يدفع عنه غضب الله وقد جاء فى ذلك حديث البخارى ومسلم وأصحاب السنن "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " ومنهم: "رجل بايع رجلا بسلعته بعد العصر فحلف بالله أنه اشتراها بكذا وكذا فصدَّقه فأخذها وهى على غير ذلك" روى البخارى ومسلم "الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب " إن الذي يحلف كذبا غاش والحديث الذى رواه مسلم يقول "من غشنا فليس منا" وعليه أن يكفِّر عن يمينه ويتوب إلى الله برد المظالم إلى أهلها، والذى يقتطع مال امرئ مسلم بغير حق حتى لو لم يكن هناك حلف بالله حرم الله عليه الجنة كما رواه مسلم وأى لحم نبت من سحت فالنار أولى به كما رواه الطبرانى واللقمة من الحرام فى جوف الإنسان تحول دون استجابة الدعاء، بل تمنع قبول عمله أربعين يوما كما رواه الطبرانى ولكثرة ما يقع فيه التجار الحريصون على الدنيا من أخطاء جاء الحديث الذى رواه أحمد بإسناد جيد "إن التجار هم الفجار" قالوا: يا رسول الله أليس الله قد أحل البيع؟ قال "بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون" فلنضع أمام أعيننا جميعا قول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن حبان "لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له، فأجملوا فى الطلب " وقوله "من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته منها إلا ما كتب له " رواه ابن ماجه(9/408)
الرجوع فى الهبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أهدى رجل بنته حليا من الذهب ثم أعطته له ليحفظه أمانة يردها عند الطلب، فلما طلبته رفض، فهل الحلى من حق الأب أو من حق البنت؟
الجواب
الهبة فى الشرع هى تمليك الإنسان شيئا من ماله لغيره فى حياته بلا عوض، فإذا كان التمليك بعد الوفاة كان وصية، وإذا كان بعوض كان هدية أو بيعا.
والهبة فى الحياة بدون عوض مشروعة بل مندوبة لما فيها من تأليف القلوب، وقد جاء فى الحديث الحسن "تهادوا تحابوا" وكما حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تقديمها حث على قبولها، ففى حديث أحمد "من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف -أى تطلع- ولا مسألة فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله إليه " وكان عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية، فقد جاء فى رواية أحمد "لو أهدى إلىَّ كراع لقبلت" والكراع من عظام الأطراف.
والهبة تستحق للموهوب له بمجرد العقد حتى لو لم يقبضها، كما قال مالك وأحمد، لكن أبا حنيفة والشافعى شرطا القبض حتى تكون لازمة، والرجوع فى الهبة حرام عند جمهور العلماء، إلا إذا كانت من الوالد لولده، فإن له أن يرجع فيها، لما رواه أصحاب السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لرجل أن يعطى عطية أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطى ولده" وحكم الوالد حكم الوالدة، ويستوى فى الولد أن يكون كبيرا أو صغيرا، ذكرا أو أنثى.
وقال أبو حنيفة: ليس له الرجوع فيما وهب لابنه ولكل ذى رحم من الأرحام، وهو رأى غير قوى لمعارضته للحديث. وجاء فى النهى عن الرجوع فى الهبة حديث الترمذى وغيره وهو حسن صحيح "مثل الذى يعطى العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل،فإذا شبع قاء ثم عاد فى قيئه" وفى إحدى الروايات "ليس لنا مثل السوء، الذى يعود فى هبته كالكلب يرجع فى قيئه".
وبخصوص السؤال نقول: إن هذا الحلى صار من حق البنت عندما قبضته من والدها، لكن يجوز لوالدها أن يرجع فى هذه الهبة، ويصير الحلى من حقه بناء على رأى جمهور الفقهاء المستند إلى الحديث، وأبو حنيفة يقول إنه من حقها هى، وإن كان رأى الجمهور، أقوى لكنى أقول للوالد: إن كنت محتاجا إلى هذا الحلى فهو حلال لك، وإن كنت غير محتاج فأولى أن تكرم به بنتك يعطيك الله على ذلك ثوابا عظيما، اللهم إلا إذا كانت هناك ظروف يقدرها الوالد لمصلحة البنت، والأعمال بالنيات(9/409)
خيار العيب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاءنا السؤال الآتى قمت بعملية مقايضة على سلعة معينة مع شخص آخر وقرأنا الفاتحة على عدم الرجوع، ولكن ظهر لى بعد ذلك أن فى السلعة عيبا لم يكن ظاهرا لى، وبذلك رجعت فى المقايضة، فهل لقراءة الفاتحة كفارة وما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
من أخلاق الإسلام النصح وعدم الغش، ومحبة الخير للغير كما يحب الإنسان لنفسه، وبخصوص البيع صح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لمن يبيع طعاما أخفى تحته طعاما مبلولا "من غشنا فليس منا" رواه مسلم وقال "لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه له " رواه الحاكم والبيهقى وأحمد وابن ماجه بألفاظ متقاربة فالبائع فى هذه المسألة مذنب ما دام لم يبين للمشترى العيب الذى فى سلعته وهو يعلم به، وقد أثبت الفقهاء خيار الرد بالعيب بعد إتمام التعاقد، بناء على أحاديث صحيحة فى المصراة، وهى الدابة التى يجمع لبنها فى ضرعها وتباع، فيتوهم المشترى أنها كثيرة اللبن ثم يتبين غير ذلك، ومن هذا يتبين أن رد السلعة المعيبة لصاحبها أمر مشروع، وأما قراءة الفاتحة إن اعتبرناها عقدا أو مكملة للعقد فليس لها كفارة، لأنها ليست يمينا باللِّه، وعلى البائع أن يتوب من ذنبه ويعزم أكيدا على ألا يعود إلى الغش مرة أخرى، والحديث الصحيح يقول فى المتبايعين "فإن صدقا وبينا بورك لهما فى بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" رواه البخارى ومسلم(9/410)
النهى عن أكل حق الغير
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
التقيت فى الخارج بشخص من قريتى وآخر من محافظة بعيدة، وجرى التعامل بيننا، ولما عدت إلى بلدى كان للرجل البعيد دين علىَّ، فقلت لابن قريتى، سدد هذا الدين، من الدين الذى لى عليك ولكنه لم يفعل، وأنا أعرف عنوان هذا الشخص ولا يعرفه أحد، فماذا أفعل؟
الجواب
نشكر للسائل أمانته وخوفه من أكل حق الغير، ونوجه كل من وكِّل إليه أمر أن ينفذه إذا قبله أو يعفيه من قبول هذه الوكالة فإن الإهمال أوقع السائل فى حرج، ونقول للسائل:
عليك أن تبحث عن عنوان صاحب الحق الذى له عليك، ولا تيأس ولا تتعجل بأى تصرف، وبخاصة إذا كان المبلغ كبيرا لا يسكت الطالب عن البحث عنه وقد يكون من الخير أن تحتفظ به وتوصى من معك أن يؤدوه لصاحبه إن طلبه ولو بعد حين فقد يكون فى حاجة إليه ولا تمل من السؤال عنه ليأخذه، ولو حدث أنك استثمرت هذا المبلغ لمصلحتك، فإن لصاحبه إن ظهر، نصيبا فى الربح إن جعلنا ذلك مضاربة، وله الربح كله إن كان الاستثمار تصرفا بغير إذن صاحبه، ولك أجر مادى على هذا الاستثمار، يتفق عليه فإذا عجزت تماما من معرفة هذا الشخص بعد طول المحاولة فتصدق به على نية أن الثواب له وبالله التوفيق(9/411)
شركة المواشى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى رجل تعاقد مع رجل على شركة مواش بينهما، على أن يكون الأول هو صاحبها عند شرائها، والثانى هو الذى يقوم برعايتها، ونتيجة لإهمال الثانى لم يغلق الحظيرة على المواشى فسرقت، فكيف يفصل بين الطرفين فى هذا الموضوع؟
الجواب
التعاون بين المسلمين مطلوب فى كل ما يعود عليهم بالخير، كما قال تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة: 2 وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم "والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه " رواه مسلم ومن مقتضى هذا التعاون أو من دواعيه، الرحمة والإحساس بحاجة الغير إلى المعونة، وحتى يكون هذا التعاون الرحيم مثمرا يجب أن يوجد تبادل بين الطرفين المعطى والآخذ، فى مشاعر الود وحب المصلحة للجميع، والصدق والأمانة والصراحة في المعاملة. وبدون هذه المشاعر الطيبة والأخلاق الفاضلة لن يثمر التعاون ثمرته المرجوة، حيث يكون التعامل فى جو من النفاق والخداع وفى الحديث الصحيح "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" رواه البخارى ومسلم ومن أنواع التعاون الجارى فى الريف بالذات أن يشترى إنسان قادر، ماشية ثم يسلمها إلى آخر يجيد مهنة الزراعة وتربية المواشى لأنه فى حاجة إلى هذه الماشية التى لا يمللك ثمنها، ويقوم هو برعايتها فى مقابل استخدامه لها فى الحرث والرى، وانتفاعه بما تدره من لبن، وأحيانا يشترط الطرفان أن يكون الناتج بالولادة مناصفة بينهما.
وإذا كان العقد شريعة المتعاقدين، والمسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، فإن هذا التعاقد يختلف عن عقد الشركة التى تحدث عنها الفقهاء، والتى يكون الربح والخسارة فيها بين الشركاء بقدر أنصبتهم فى الشركة، وهنا لم يدفع الطرف الثانى شيئا من الثمن، وهو ليس من المضاربة عند بعض الفقهاء.
ومن أجل أن المسألة التى معنا فيها منفعة لكلا الطرفين فيمكن تخريجها على أنها من باب الوديعة، فالماشية وديعة وأمانة عند الطرف الثانى الذى لا يملكها، يحرسها ويرعاها بأجر أو بمقابل هو منافعها التى يحصل عليها منها، والمودع عنده يجب أن يحافظ على هذه الأمانة بما يقضى به العرف الجارى، فإذا قصر لزمه العوض. وعلى هذا يجب على الطرف الثانى أن يدفع للأول ثمن الماشية التى سرقت بسبب إهماله.
وحديث "لا ضمان على مؤتمن " ضعيف، ومع ذلك جاء برواية أخرى للدارقطنى تقيده وهى "ليس على المستعير غير المُغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان " والمغل هو الخائن فالوديع لا يضمن إلا لجناية منه على العين، وإهمال رعاية الماشية بعدم إحكام إغلاق الحظيرة عليها يعد جناية، وبخاصة إذا كان متعمدا لذلك فهو خيانة ولابد من الضمان(9/412)
رواتب موظفى الضرائب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى الراتب الذى يتقاضاه الموظف من مصلحة الضرائب؟
الجواب
معلوم أن العلماء قالوا: يجوز للإمام أن يفرض ضرائب على القادرين إذا لم توُفِ الزكاة بسداد حاجات المحتاجين وإصلاح أحوال الأمة، ومعلوم أن ميزانيات الدول الإسلامية الآن لا تقوم فقط على الزكاة والموارد الأساسية الأولى، بل لها موارد متعددة منها الضرائب والرسوم وغيرها.
وإذا كان فى هذه الموارد شىء حرام فانه لا يميز وحده بعيدا عن الحلال، وإنما يختلط الحلال بالحرام، ويصعب فصل أحدهما عن الآخر، وهنا قال العلماء -كما فى كتاب: إحياء علوم الدين للإمام الغزالى ج 2 ص 115.
لو اختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر كحكم الأموال فى زماننا هذا لا يحرم تناول شىء منه ما دام محتملا الحلال والحرام، إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام، والدليل على ذلك ما يأتى:
1 - أن أثمان الخمور ودراهم الربا من أيدى أهل الذمة مختلطة بالأموال، وكذلك غلول الأموال وغلول الغنيمة، ومن يوم أن نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الربا فى حجة الوداع ما ترك الناس الربا بأجمعهم، كما لم يتركوا شرب الخمور، ولا تركوا المعاصى، وأدرك أصحاب الرسول الأمراء الظلمة ولم يمتنع أحد منهم عن الشراء والبيع فى السوق بسبب نهب المدينة وقد نهبها أصحاب "يزيد" ثلاثة أيام، والأكثرون لم يمتنعوا عن تلك الأموال مع الاختلاط وكثرة الأموال المنهوبة فى أيام الظلمة.
2 - لو فتح هذا الباب لانسدَّ باب جميع التصرفات وخرب العالم، إذ الفسق يغلب على الناس، ويتساهلون بسببه فى شروط البيع فى العقود، ويؤدى ذلك إلى الاختلاط، ولو قيل: إن الحرام كثر عن أيام السلف فيجب ترك المختلط الآن - أقول ليس حراما وإنما الورع تركه. وقال القرطبى فى تفسيره "ج 2 ص 109 " ما نصه.
قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الأرزاق - المرتبات - من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال:
ا- إن كان جميع ما فى أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره.
ب- وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما فى أيدى الأمراء اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه.
ج- وإن كان ما فى أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم ... ولو كان ما فى أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب فهو كما لو وجد فى أيدى اللصوص وقطاع الطرق، ويجعل فى بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد فإذا لم يعرف صرفه الإمام فى مصالح المسلمين.
من هذا وغيره نعرف أن أموال الضرائب التى تقوم مالية الدولة عليها وعلى غيرها ولا يتميز فيها الحلال من الحرام يجوز الأخذ منها والانتفاع بها، كما هو حادث فى هذه الأيام من توجيه الميزانية بما فيها لأجل مصالح الشعب من أجور وغيرها ولا حرج فى ذلك(9/413)
رواتب الأئمة والمؤذنين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن الأئمة والمؤذنين يقومون بواجبهم الذى فرضه الله عليهم، فلا يستحقون أجرا عليه فى الدنيا، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
سبق فى حكم الأجر على قراءة القرآن "ص 458 من المجلد الثانى" ما نقل عن القرطبى فى حكم المصلى بأجرة، وأن الإمام مالكا كره ذلك، والشافعى أجازه وأن أبا حنيفة كرهه.
وذكر الماوردى فى كتابه "الأحكام السلطانية" ص 102 أنه يجوز أن يأخذ الإمام ومأذونه رزقا على الإمامة والأذان من بيت المال من سهم المصالح، ومنع أبو حنيفة من ذلك.
والحق أن الطاعات لا يأخذ الإنسان عليها أجرا، لأنها واجبة عليه سيؤديها حتما إن أخذ أجرا أو لم يأخذ، لكن الطاعات المندوبة كالإمامة والأذان يجوز أخذ الأجر عليها حيث لم تتعين، وبخاصة إذا شغل عنها بتدبير عيشه قد تهمل فيخص ولى الأمر لها ما يغنى القائم بها عن تحصيل رزقه، كما جعل عمر لأبى بكر فى بيت المال ما يغنيه عن التجارة من أجل الإنفاق على نفسه وأهله، وذلك ليتفرغ لمصالح المسلمين(9/414)
الوصية الواجبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مات رجل عن أولاده الصغار قبل وفاة أبيه - فهل يحق لأولاده أن يأخذوا ميراث أبيهم أم لا؟
الجواب
إذا مات رجل فى حياة والده، وكان لهذا الرجل أولاد، ثم مات جدهم، فهل يرثون فى جدهم النصيب الذى كان يستحقه أبوهم؟ قال تعالى {كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} البقرة: 180 وقال أيضا {يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} النساء: 11 وقال صلى الله عليه وسلم "لا وصية لوارث " رواه أحمد وأبو داود والترمذى وقال: حديث حسن.
تحدث العلماء عن الآية الأولى: هل نسخت بالآية الثانية، بناء على إحدى روايات الحديث المذكور وهى "إن الله أعطى كل ذى حق حقه، ألا لا وصية لوارث " أو هى باقية لم تنسخ. ثم قالوا فى نظام الميراث:
الابن يحجب أولاد الابن، لكن البنت لا تحجب أولاد الابن، فلو مات رجل وترك أبناء وأولاد ابن مات قبله حُرِم هؤلاء الأولاد من الميراث من جدهم، وتعرضوا للضياع، لكن لو مات وترك بنتا وأولاد ابن مات قبله فإن هؤلاء الأولاد يرثون فى تركة جدهم كعصبة، لهم الباقى بعد أصحاب الفروض.
وتلافيا لضياع أولاد الابن المحجوبين عن الميراث وجد أن بعض العلماء قالوا بوجوب الوصية -حسب الآية الأولى- لمن لم يكن لهم ميراث، وبناء عليه وضع القانون رقم 71 لسنة 1946 م وعمل به فى مصر، من أول أغسطس من العام المذكور، وجاء فى المادة 76 منه:
إذا لم يوص الميت لفرع ولده الذى مات فى حياته أو مات معه ولو حكما -بمثل ما كان يستحقه هذا الولد ميراثا فى تركته لو كان حيا عند موته - وجبت للفرع فى التركة وصية بقدر هذا النصيب فى حدود الثلث، بشرط أن يكون غير وارث وألا يكون الميت قد أعطاه بغير عوض عن طريق تصرف آخر قدر ما يجب له، وإن كان ما أعطاه أقل منه وجبت له وصية بقدر ما يكمله.
وتكون هذه الوصية لأهل الطبقة الأولى من أولاد البنات ولأولاد الأبناء من أولاد الظهور وإن نزلوا.
وعلى هذا يكون لأولاد الابن المتوفى فى حياة أبيه وصية واجبة فى تركة جدهم بمقدار ما كان يستحقه أبوهم لو كان حيًّا، وذلك بشروط هى:
1- أن يكون هذا الفرع غير وارث، وهو لا يرث إذا كان هناك عمّ له وهو أخو أبيه.
2- أن يكون الفرع موجودا على قيد الحياة عند موت جده.
3- أن يكون من أولاد الظهور- الأبناء - أو الطبقة الأولى من أولاد البنات.
4- ألا يكون الفرع ممنوعا من ميراث أصله ولا محجوبا به، كأن يكون قاتلا له أو مرتدا.
5- ألا يكون له نصيب فى الميراث من التركة التى وجبت فيها الوصية، كما لو استغرقتها الفروض.
6- ألا يكون المتوفى-الجد- قد أعطى فرعه المستحق للوصية الواجبة ما يساوى نصيب أصله بطريق التبرع. فإن كان قد أعطاه بلا مقابل فلا حقَّ له بطريق الوصية، إلا إذا كان ما أخذه أنقص من استحقاقه، فيستكمل له.
هذا، والمادة 37 من القانون المذكور تقول: تصح الوصية بالثلث للوارث وغيره، وتنفذ من غير إجازة الورثة، وتصح بما زاد على الثلث ولا تنفذ في الزيادة إلا إذا أجازها الورثة بعد وفاة الموصى وكانوا من أهل التبرع عالمين بما يجيزونه(9/415)
التجارة فى النجاسات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يشاهد فى بعض القرى أناس يجمعون مخلفات الحيوانات ويبيعونها كسماد للزرع أو وقود للأفران، فهل التجارة فى هذه النجاسات حلال؟
الجواب
فى حديث رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال "لا، هو حرام، قاتل الله اليهود، إن الله لمَّا حرم شحومها جملوه - أذابوه- ثم باعوه وأكلوا ثمنه" رواه الجماعة.
وروى البيهقى بسند صحيح أن ابن عمر رضى الله عنهما سئل عن زيت وقعت فيه فأرة فقال: استصبحوا به، وادهنوا به أدمكم، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاة لميمونة فوجدها ميتة ملقاة فقال: "هلاَّ أخذتم إهابها فدبغتموه وانتفعتم به" فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة فقال "إنما حرَّم أكلها" رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
قال جمهور العلماء: إن بيع النجس والتجارة فيه حرام والعقد عليه باطل، بناء على الحديث الأول الذى نص على الحرمة وعلى لعن اليهود الذين تاجروا فيه، أما استعمال النجس فهو حلال لغير الأكل بدليل الحديث الثانى وقول ابن عمر.
هذا، واستثنى الأحناف من حرمة البيع والتجارة فى النجس كل ما فيه منفعة، وتبعهم الظاهرية فقالوا: يجوز بيع الأرواث والأزبال النجسة التى تستخدم فى الزراعة والوقود، وكذلك الزيت النجس والأصباغ المتنجسة ما دام الانتفاع بها فى غير الأكل، وحجتهم فى ذلك أن الانتفاع ما دام حلالا فالبيع حلال ما دام يقصد به هذا، وفى غير الأكل، وأجابوا عن حديث جابر بأن حرمة البيع كانت فى أول الأمر عندما كان المسلمون قريبى العهد باستباحة أكلها، فلما تمكن الإسلام من نفوسهم أبيح لهم الانتفاع بغير الأكل(9/416)
المضاربة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى البنوك الإسلامية نظام للاستثمار يطلق عليه اسم المضاربة، فما هى الصورة الحقيقية لهذه المعاملة وما وجه إباحتها؟
الجواب
المضاربة مأخوذة من الضرب فى الأرض وهو السفر للتجارة كما قالى تعالى {وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله} المزمل: 20 ويطلق عليها اسم القراض، وهو مأخوذ من القرض أى القطع، لأن المالك يقطع جزءا من ماله للتجارة وقطعة من ربحه، وهى عقد بين طرفين، يدفع أحدهما نقدا إلى الآخر ليتجر فيه على أن يكون الربح بينهما بنسبة يتفقان عليها.
وهى معاملة جائزة بإجماع الفقهاء، وكانت موجودة قبل الإسلام حيث ضارب النبى صلى الله عليه وسلم لخديجة رضى الله عنها بمالها، وسافر به إلى الشام، ولما جاء الإسلام أقرها، يقول الحافظ ابن حجر: والذى نقطع به أنها كانت ثابتة فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم يعلم بها وأقرها، ولولا ذلك ما جازت ألبتة.
ومن حوادثها أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب، رضى الله عنهم خرجا فى جيش العراق، فلما رجعا مرَّا على أبى موسى الأشعرى أمير البصرة فرحب بهما وأبدى استعداده لخدمتهما، فأعطاهما مالا من مال الله ليوصلاه إلى أمير المؤمنين فى المدينة وأرشدهما إلى استغلاله كسلفة يتجران فيها بشراء سلع من العراق وبيعها فى المدينة يستفيدان من الربح فيها فقبلا منه هذا العرض، وكتب إلى عمر أن يتسلم منهما المال الذى أرسله، فلما قدما وباعا وربحا، قال لهما عمر: أكلَّ الجيش قد أسلف كما أسلفكما؟ فقالا: لا، فقال عمر: أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال: لو هلك المال ضمنَّاه، فأصر عمر على أن يؤدياه، وفى النهاية قال رجل لعمر: لو جعلته قراضا؟ يعنى لو عملت فيه بحكم المضاربة وجعلت لهما نصف الربح؟ فرضى عمر بذلك.
والإسلام أقر هذه المعاملة للحاجة إليها، فقد يكون هناك مالك لمال لا يحسن استغلاله فيعطيه رجلا لا مال له يحسن استغلاله، لتكون الثمرة بينهما، يفيد كل منهما وينشط الاقتصاد، ولا ينقص المال المعطل بإخراج زكاته كل عام، ويجد الفقير عملا حلالا لا يحول دون تعطله والتجائه إلى وسيلة للعيش قد تكون محرمة، كالتسول والسرقة، ففيها تعاون على الخير، واشترط الفقهاء لصحتها أن يكون رأس المال نقدا معلوما، وأن يكون الربح بين العامل وصاحب رأس المال معلوما بالنسبة لا بالقدر المعين، كالنصف والثلث والربع مثلا، وهذا ما عامل عليه النبى صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها، يقول ابن المنذر: اجمع كل من نحفظ عنه على إبطال القراض -المضاربة- إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة.
وقالوا فى تعليل ذلك: إنه لو اشتُرط قدر معين لأحدهما فربما لا يكون الربح إلا هذا القدر، فيستفيد به طرف دون الآخر، وهو مناف لحكمة المشروعية فى نفع كل من المتعاقدين.
وهناك شرط اختلف الفقهاء فيه وهو إطلاق النشاط وتقييده، فقال مالك والشافعى: لا يجوز تقييد المضاربة بالإتجار فى سلعة معينة أو فى بلد معين، أو فى زمن معين، أو مع شخص معين، لأن التقييد قد يضيع فرصا للربح، لكن أبا حنيفة وأحمد قالا: تصح المضاربة بالإطلاق والتقييد، وفى حالة التقييد لا يجوز للعامل المخالفة، وإلا ضمن، كما شرط حكيم بن حزام مع من يتاجرفى ماله: ألا يجعله فى كبدٍ رطبة أى حيوان ولا يحمله فى بحر، ولا ينزل به فى بطن مسيل، وإلا كان ضامنا لما يتلف منه.
والمفروض فى العامل أن يكون أمينا على المال، فلا يضمن إلا بالتعدى، فإذا تلف شىء منه فلا شىء عليه، ويصدق فى قوله مع اليمين إن ادعى ضياعه أو هلاكه.
ثم قال العلماء: لو أعطى العامل هذا المال أو بعضه لشخص آخر يضارب فيه كان متعديا ويكون ضامنا إن كان فيه خسران، وقال بعضهم: إن كان هناك ربح فهو لصاحب المال، وقال آخرون: الربح للمضارب ويتصدق به.
والعامل الذى يباشر النشاط تكون نفقته فى ماله هو إذا كان مقيما، أو سافر من أجل المضاربة ولا يتحملها صاحب المال، فقد تستغرق الربح كله، والعامل له نصيب فليكن تصرفه فى حدوده، لكن لو أذن رب المال له فى ذلك فلا مانع، فالمؤمنون عند شروطهم والعقد شريعة المتعاقدين.
هذا، وكما يجوز أن يكون المضارب العامل شخصا يجوز أن يكون جماعة أو هيئة أو مؤسسة تقوم بالنشاط التجارى الحلال لا الحرام، ولا تفرض لصاحب المال قدرا معينا بالنسبة لرأس ماله ولا تتحمل هى الخسارة، بل يتحملها رب المال ما دام لا يوجد تقصير منها، فلو ضمنت له قدرا معينا لا يتأثر بخسارتها هى ولا بمقدار ما تربحه بطلت المضاربة، ولو ضاربت هى فى هذا المال بإعطائه لغيرها ضمنت الخسارة، وإن كان هناك ربح فالربح كله لصاحب المال، ولها فى نشاطها أجر المثل، وإن كان أهل الرأى يقولون: إن الربح من حق هذه الجماعة وعليها أن تصرفه فى الخير ولا تتملكه.
ومن هنا يعلم أن البنوك والمؤسسات الأخرى التى تأخذ أموالا من الناس لقاء فائدة محددة بالنسبة لرأس المال لا يصدق عليها أنها تتعامل بنظام المضاربة لأمرين هامين، هما تحديد الربح وتحمل الخسارة، ونظام البنوك يمنع أى نشاط تحتمل فيه الخسارة. ولو قيل إنها وكيلة أو نائبة عن أصحاب الأموال، فإن كل ربح أو خسارة يكون لهم، ولهذه المؤسسات أجر الوكالة فقط، وهذا يتنافى مع الواقع فى نشاطهم الذى نصت القوانين على أن الأموال التى يتلقونها هى من باب القرض الذى يجب رده لصاحبه بعينه أو مثله، فإن شرطت عليه زيادة فهى ربا كما تقدم توضيحه فى ص 74- 82 س من المجلد الأول من هذه الفتاوى(9/417)
الشركات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نقرأ فى بعض كتب الفقه كلاما عن أنواع من الشركات كالعنان والمفاوضة والوجوه، فما هى الفروق بينها وما حكم الشرع فيها؟
الجواب
الشركة كما يقول الأحناف: عقد بين المتشاركين فى رأس المال والربح، والمشاركة فى الخير مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى فى الميراث: {فهم شركاء فى الثلث} النساء: 12، وقال صلى الله عليه وسلم قال تعالى: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما" رواه أبو داود وذكر ابن المنذر أن العلماء أجمعوا على مشروعيتها.
وقسم العلماء الشركة إلى قسمين أساسيين: أحدهما شركة أملاك وهى التى لا يكون فيها عقد، كالمال الموهوب لأكثر من شخص فيقبلانه، وكالمال الموروث لأكثر من شخص، والحكم فيها أنه لا يجوز لأى شريك التصرف فى نصيب الآخر إلا بإذنه.
والقسم الثانى شركة عقود، وهى أنواع:
أ-شركة العنان، أن يشترك اثنان فى مال لهما على أن يتجرا فيه والربح بينهما، ولا يشترط فيها المساواة فى رأس المال ولا فى التصرف ولا فى الربح، فذلك بحسب الاتفاق وعند الخسارة يتحملانها بنسبة رأس المال.
ب- شركة المفاوضة أن يتعاقد اثنان أو أكثر على الاشتراك فى عمل بشرط التساوى فى المال والتصرف والدين، وأن يكون كل واحد كفيلا عن الآخر فيما يجب عليه من شراء وبيع كما أنه وكيل عنه. وقد أجازها الحنفية والمالكية ولم يجزها الشافعى لعسر المساواة فيها بسبب الغرر والجهالة، ولم يصح فى إجازتها حديث، وصورتها عند المالكية أن يفوض كل شريك إلى الآخر التصرف مع حضوره وغيبته وتكون يده كيده، ولا يكون شريكه إلا فيما يعقدان الشركة عليه، ولا يشترط فيها المساواة فى المال.
ج- شركة الوجوه، أن يشترك اثنان فأكثر من الناس دون أن يكون لهم رأس مال وذلك اعتمادا على جاههم وثقة التجار بهم، على أن تكون الشركة بينهم فى الربح، فهى شركة على الذمم من غير صنعة ولا مال، وأجازها الأحناف والحنابلة، وأبطلها الشافعية والمالكية لعدم المال والعمل.
د- شركة الأبدان، أن يتفق اثنان على أن يتقبلا عملا من الأعمال، على أن تكون الأجرة بينهما حسب الاتفاق، كالنجارين والحدادين والحمالين وغيرهم من الحرفيين وهى جائزة عند الجمهور، وأبطلها الشافعى، لأن الشركة عنده تختص بالأموال لا بالأعمال.
إن هذه الشركات بتلك الأسماء لا يعرفها تمام المعرفة إلا المتخصصون فى علم الشريعة، لأن هذه الأسماء حادثة بالاصطلاح ليست شرعية ولا لغوية، كما يقول صاحب كتاب "الروضة الندية" ولذلك هو يرى صحة هذه الشركة بأى اصطلاح يكون ما دام لا يوجد فيها شرط فاسد أو عمل محرم،ورضى الشركاء بها. هذا وقد ذكر ابن قدامة فى كتابه المغنى بعض شركات جائزة منها أن يدفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزقه الله منها فهو بينهما حسب الاتفاق، والشافعى وأصحاب الرأى لا يجيزون ذلك وجعلوا الربح كله لصاحب الدابة، وللعامل أجرة المثل، لأن هذه الصورة ليست من صور الشركات وليست مضاربة لأنها لا تكون فى العُروض بل بالتجارة فيها، وهذه لا يجوز بيعها ولا إخراجها عن ملك صاحبها، أما الحنابلة فيجوِّزون ذلك لأنها عين تنمى بالعمل عليها، ولو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك على أن يكون لكل منهما النصف يصح عند أحمد ولا يصح عند الآخرين فالصيد كله للصياد ولصاحب الشبكة أجر المثل.
ويقول ابن القيم فى "إعلام الموقعين ": لو دفع الشخص بقره، أو غنمه أو إبله إلى آخر يرعاها والدر والنسل بينهما جاز، وكذلك لو دفع إليه دابته يعمل عليها والأجرة بينهما جاز، ولا يوجد كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس يحرم ذلك(9/418)
كتابة الوصية قبل النوم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ورد حديث يأمر الإنسان بكتابة وصيته قبل أن ينام؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "ما حق امرئ مسلم له شىء يوصى فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده".
الوصية فى الشرع تصرف مضاف لما بعد الموت، وهى تكون بالعين وبالدين وبالمنفعة، وتكون بطريق التبرع دون مقابل، ويفرق بينها وبين الهبة بأن الهبة تمليك فى حال الحياة، وهى لا تكون إلا بالعين، لا بالدين ولا بالمنفعة.
والوصية مشروعة بالكتاب كما قال تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} البقرة: 18 وكما قال {يا أيها الذين آمنوا شهاده بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} المائدة:
106 ومشروعة بالسنة للحديث الذى سبق ذكره، ولما رواه ابن ماجه مرفوعا "من مات على وصية مات على سبيل وسنة ومات على تقى وشهادة ومات مغفورا له" وقد أجمعت الأمة على مشروعيتها. ولكن ما هو مدى مشروعيتها؟ هناك ثلاثة آراء:
الرأى الأول: أنها واجبة على كل من ترك مالا، قليلا كان أو كثيرا، وهو مروى عن ابن عمر وطلحة والزبير وبعض التابعين، بدليل آية البقرة المذكورة آنفا.
والرأى الثانى: أنها تجب للوالدين والأقربين الذين لا يرثون الميت، بدليل الآية نفسها، وهو رأى مسروق وابن جرير.
والرأى الثالث: وهو رأى الأئمة الأربعة- أنها ليست فرضا على الوجه المذكور فى الرأيين الأولين بل تعتريها الأحكام الخمسة.
1- فقد تكون واجبة إذا كان على الإنسان حق شرعى يخشى أن يضيع إن لم يوص به كوديعة ودين لله أو لآدمى.
2- وقد تكون مستحبة، وذلك فى الطاعات وللأقارب والصالحين.
3- وقد تكون محرمة، إذا كان فيها إضرار بالورثة، لحديث رواه النسائى مرفوعا برجال ثقات "الإضرار فى الوصية من الكبائر" كما تحرم إذا أوصى بمحرم كالخمر.
4- وتكون مكروهة إذا كان الموصى قليل المال وله وارث أو ورثة يحتاجون إليه، كما تكره لأهل الفسق إن غلب على الظن أنهم يستعينون بها عليه.
5- وتكون مباحة إذا كانت لغنى سواء أكان الموصى له قريبا، أم بعيدا والوصية-كما قال العلماء -من العقود التى يجوز تغييرها والرجوع فيها من الموصى سواء أكان الرجوع بالقول أم بالفعل كالتصرف فيها بما يزيل ملكه عنها بمثل البيع.
هذا، وجمهور العلماء على عدم جواز الوصية بما يزيد على الثلث إن لم يكن له وارث وأجازها أبو حنيفة "نيل الأوطار للشوكانى ج 6 ص 42 ".
ويمكن الرجوع إلى ص 389 من المجلد الثانى من هذه الفتاوى لمعرفة حكم الوصية للوارث وما أخذ به قانون الأحوال الشخصية فى مصر(9/419)
من أعمال البنوك
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الشرع فى أخذ البنك فائدة على فتح الاعتماد المستندي؟
الجواب
سبق القول في المجلد الأول من هذه الفتاوى أن أخذ البنك أجرا في مقابل الاعتمادات المستندية جائز، ولتوضيح ذلك تقول:
في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965 م قُدِّم بحثان للدكتور محمد عبد الله العربي، أحدهما بعنوان:
المعاملات المصرفية، وثانيهما بعنوان: طرق استثمار الأموال وموقف الإسلام منها، ويقعان فى ست وأربعين صفحة من القطع الكبير.
وبعد المناقشة قرر المؤتمر في ضمن قراراته: أن خطابات الاعتمادات من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ فى نظير ذلك ليس من الربا.
وفى كتاب: الأعمال المصرفية والإسلام الذى ألفه الأستاذ مصطفى عبد الله الهمشرى والواقع فى مائتين وخمسين صفحة من القطع الكبير، ونشره مجمع البحوث الإسلامية- تحدث عن الاعتمادات المستندية، وعن خطابات الضمان قال:
إن الاعتمادات المستندية التى يتعهد فيها البنك للمصدِّر بدفع المستحقات له على المستورد جائزة، والأجر الذى يؤخذ فى مقابلها جائز، وخرَّج الجواز على أن طبيعة هذا التعامل تدور بين الوكالة والحوالة والضمان، والوكالة بأجر لا حرمة فيها، وكذلك الحوالة بأجر،، والضمان بأجر خرَّجه على ثمن الجاه الذى قيل فيه بالحرمة وبالكراهة وقال بجوازه الشافعية، كما خرجه على الجعالة التى أجازها الشافعية أيضا.
وتحدث عن خطابات الضمان وأنواعها، وهى التى يتعهد فيها البنك بمكتوب يرسله -بناء على طلب عميله- إلى دائن العميل يضمن فيه تنفيذ العميل لالتزاماته، وقال إنها جائزة، وخرَّج ذلك على أنها وكالة أو كفالة، وهما جائزتان، والعمولة عليهما لا حرمة فيها. واعتمد فى دراسته على المراجع والمصادر الاقتصادية وعلى كتب الفقه فى المذاهب المختلفة.
هذا، وقرارات المؤتمر الثانى لمجمع البحوث الإسلامية انتهت إلى أن أعمال البنوك من الحسابات الجارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتمادات والكمبيالات الداخلية التى يقوم عليها العمل بين التجار والبنوك فى الداخل -كل ذلك من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ فى نظير هذه الأعمال ليس من الربا، وأن الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة -كلها من المعاملات الربوية وهى محرمة.
ودراسة هذا الموضوع لا تعدو أن تكون نقلا لما كتبه الدكتور العربى والأستاذ الهمشرى وهى دراسة جمعت بين النشاط الاقتصادى وحكم الشرع فى ذلك، والمراجع مذكورة فيها بما يضع الثقة فى هذه الدراسة التى مر عليها عشرات السنين دون اعتراض عليها(9/420)
نشأة البنوك الربوية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف نشأ نظام البنوك وهل صحيح أن اليهود لهم دور كبير فى ذلك؟
الجواب
إن الربا محرم فى جميع الشرائع السماوية، ومن المعروف أن اليهود يحبون المال حبا جما، لدرجة طغت على الإيمان باليوم الآخر، وجاء عنهم أن جنة الإنسان هى غناه وأن ناره هى فقره، أو من مات غنيا دخل الجنة ومن مات فقيرا دخل النار، وقد جاء فى القرآن الكريم ذمهم لأسباب كثيرة منها الربا الذى جاء فيه قوله تعالى {وأخذهم الربا وقد نهوا منه وأكلهم أموال الناس بالباطل} النساء: 161 وما يزال نشاطهم فى هذه الناحية معروفا إلى الآن.
والتاريخ يتحدث أن البنوك التى ولدت حديثا فى الغرب كان للثورة الصناعية دور كبير فيها، فقد كانت العملة المتداولة هى النقود الذهبية، وكان الأغنياء يودعون أموالهم عند من يشتغلون بصناعة الذهب لحفظها وعدم السطو عليها، ويأخذون منها القدر الذى يحتاجون إليه فى مقابل يُدفع إلى من أودعت عنده، وإذا أراد الغنى الانتقال إلى بلد آخر يستثقل أن يحمل معه ذهبه أو يخشى عليه الضياع، فيأخذ أمرا ممن هى عنده إلى زميل له فى ذلك البلد ليتسلم ما يريد من المال وصارت السندات هى المستعملة بدل حمل النقود لخفتها وضمانها.
ولما كثرت الودائع الذهبية عند "الصيارفة" استغلوها فى الإقراض بفائدة يحددونها على حسب ما يرون من حاجة المقترض، وعند رد القرض بفائدته يستغل مرة ومرات أخرى هكذا.
ومن أجل هذا الحرص على الفائدة كره الناس هؤلاء الصيارفة مع اضطرارهم إليهم - ولما جاءت الثورة الصناعية كثر الإقراض الإنتاجى بعد أن كان للاستهلاك. ومن أجل الحاجة إلى ما عند الصيارفة ومع تحريم الكنيسة للربا - حللته القوانين الوضعية، فتطور مركز الصيرفى وأصبح كل صاحب بنك له احترامه، ونشأت البنوك فى صورة شركات مساهمة، وانهالت الودائع عليها بفائدة ضئيلة تضمن لأصحابها الربح الثابت بدل المخاطرة بها فى المشروعات، وفى الوقت نفسه تقرض البنوك هذه الودائع بفائدة مرتفعة تكسب الفرق بين فائدة الإيداع وفائدة الإقراض ومن هنا انتزعت السيطرة على اقتصاديات العالم فى العصر الحاضر.
ويقول المختصون: إن النظام الربوى فى البنوك جعل أصحابها مسيطرين على اقتصاديات المجتمع بل على سياسته الداخلية والخارجية وتشريعاته وسلوكياته وثقافته وفكره، يمتصون دماءه وهم آمنون، والناس من حولهم كادحون مغلوبون.
وهذا النظام فى الإقراض الإنتاجى دفع المنتج إلى غلاء الأسعار ليسدد القرض وفائدته، وإذا غلت الأسعار انحسر الاستهلاك وتضخم الفائض، ولو أراد المنتج تخفيض السعر ليصرف ما عنده كان ذلك على حساب العمال، إما بتخفيض أجورهم وإما بالاستغناء عن بعضهم، ولذلك عواقبه فى نقص القوة الشرائية وفى خلق البطالة وزيادة انحسار الاستهلاك، وفائض الإنتاج يزداد، ولتصريف الفائض يجئ التفكير فى خلق أسواق غير منتجة، وهى فى البلاد النامية، وهو طريق إلى السيطرة عليها واستعمارها، وذلك يخلق تحكما فى أسعار المواد الخام التى لم تصنعها تلك البلاد غير الصناعية، فتقل أثمانها، ولا تجنى من تصديرها إلا القليل.
إن خير ما يواجه به النظام الربوى لأصحاب البنوك، هو نظام المضاربة بشروطها الشرعية المعروفة التى لا تثرى فيه طائفة على حساب الأخرى، ويسود فيها التشاور والاشتراك الفعلى فى النشاط الذى يحقق الربح للطرفين، "مقتطف من مقال السيد / أحمد عزت الصياد بمجلة الهداية الصادرة فى البحرين - عدد جمادى الآخرة 1415 هـ ديسمبر 1994 م "(9/421)
علم الفرائض والمواريث
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل عرف نظام التوريث قبل الإسلام، وما هى القواعد التى نظم الإسلام عليها الميراث؟
الجواب
كان الميراث معروفا قبل الإسلام فى الشرائع الوضعية والأديان السماوية، فقد عرفه اليونان والرومان، وكان يعطى لمن يصلح لرعاية الأسرة وللحروب، وكان للمورث أن يختار قبل موته من يقوم مقامه فى هذه المهمة، سواء أكان من أبنائه أم من اقاربه أم من الأجانب، وقبيل ظهور الإسلام أشركوا المرأة مع الرجل على التساوى فى الميراث.
والأمم الشرقية كان الميراث فيها لأرشد الذكور من الأولاد، ثم الإخوة ثم الأعمام، وليس للمرأة نصيب فيه.
والمصريون القدماء كانوا يورثونها على التساوى مع الرجل، واليهود كانوا يخصون الولد الذكر بالميراث ويحرمون الأنثى، وإن تعدد الأولاد الذكور ورث أكبرهم فقط. جاء فى سفر التكوين " إصحاح 21:15 - 18" أن الابن البكر له نصيب اثنين، فإن لم يكن هناك ذكر فالميراث لابن ابنه، وليس لبنته شىء، ويبدو أن ذلك نسخ، ففى سفر العدد "إصحاح 27: 1 - 11 " أن بنات صلحفاد بن حافر طالبن موسى والعازار والكاهن أن يكون لهن نصيب فى ملك أبيهن، فقدم موسى دعواهن أمام الرب، وانتهى الأمر إلى إعطائهن من الميراث.
والعرب فى الجاهلية كانوا يورثون الذكور فقط، فعندما توفى أوس ابن ثابت وترك امرأته ام كُجَّة وثلاث بنات ـ وفى رواية بنتين ـ وأخاه، قام رجلان هما ابنا عمه ووصيان ـ قتادة وعرفجة، أو قتادة وعرفطة ـ فأخذا المال وحدهما، فشكت الأم إلى النبىٍ صلى الله عليه وسلم فى مسجد الفضيخ، فقالا: أولادها لا يركبن فرسا ولا يحملن كلا ولا ينكين عدوا، فنزلت الآية {يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} وقيل نزلت فى بنات عبد الرحمن بن ثابت أخى حسان بن ثابت.
وعلم الفرائض والمواريث فى الإسلام يتناول الحديث عنه الأمور الآتية:
1ـ المعنى والتسمية: الفرائض جمع فريضة بمعنى مفروضة، أى مقدرة، لما فيها من السهام المقدرة والفرض فى اللغة مصدر فرض أى قدر، قال تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة ـ أى قدرتم ـ فنصف ما فرضتم} وفى الشرع: نصيب مقدر شرعا للوارث.
2ـ فضل هذا العلم.
1ـ روى الحاكم وغيره عن ابن مسعود مرفوعا " تعلَّموا الفرائض وعلموها الناس، فإنى امرؤ مقبوض، وإن هذا العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الرجلان فى الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما"صححه الحاكم وحسَّنه الآخرون.
2ـ روى ابن ماجه بسند حسن مرفوعا " تعلموا الفرائض فإنها من دينكم، وإنها نصف العلم، وإنه أول علم ينزع من أمتى "نبغ فيه زيد ابن ثابت، كان سنه يوم مقدم النبى إلى المدينة15 سنة، وتوفى سنة45، أو 54 أو 55 هـ وقال عمر: من يسأل عن الفرائض فليأت زيد ابن ثابت. [ابن خلدون لا يحمل هذه النصوص على علم الميراث، فالفرائض اصطلاح للفقهاء] ومن المؤلفين فيه: الماردينى فى شرح الرحبية، وابن ثابت ومختصر القاضى أبى القاسم الحوفى ثم الجعدى من متأخرى الأندلس عند المالكية.
3ـ تاريخه وتدرج تشريعه:
أـ كان الميراث فى الجاهلية أساسه القدرة على رعاية الأسرة، فحصروه فى الرجال دون النساء، وفى الكبار دون الصغار. ولهم فى ترتيب هؤلاء نظام يقدم فيه الأولى على غيره كالأبناء على الاباء والإخوة والأعمام. ويدخل فى الأبناء المتبنون. وكان التبنى معروفا عندهم إذا عدم الرجلُ الأبناء أو أراد الاستكثار منهم.
ب -فى الإسلام كانت هناك خطوات:
فى الابتداء كان أساسه الحلف والنصرة [حتى مع اختلاف االدين] ولذلك دخل مع الأهل من كان لهم موالاة، حيث كان الرجل يقول للآخر، أنت وليى ترثنى وأرثك، وجاء فيه قوله تعالى {ولكلٍّ جعلنا موالى مما ترك والدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} [النساء: 33] .
ثم نسخ فكان بالإسلام والهجرة، {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا} [الأنفال: 72] فانقطعت الولاية بين المؤمن المهاجر وغيره، ممن لم يؤمن، أو آمن ولم يهاجر، ثم نسخ ذلك فجعلت الولاية للأقرب {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله} [الأنفال:75] ولم يكن للتوارث نظام مقدر فترك للرجل أن يوزع ماله قبل موته كما يشاء، قال تعالى {كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة:185] لكنهم كانوا يخصون بعضا دون بعض، فيخصون الرجال دون النساء، فقال تعالى: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قَلَّ منه أو كثر نصيبا مفروضا} [النساء: 7] . لكن لم يبين نصيب كل وارث، فتولى الله بنفسه توزيع التركة بقوله تعالى {يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ... } {ولكم نصف ماترك أزواجكم ... } {يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة ... } [النساء: 11،12، 176] فبيَّن نصيب الأصول والفروع، ثم نصيب الزوجين، ثم نصيب الإخوة والأخوات.
وراعى فى التوزيع جعل حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كانت هناك مساواة فى الدرجة، ومشاركة فى سبب الإرث، لأن الأنثى نفقتها فى الأعم الأغلب على غيرها، إن كانت بنتا أو أما أو زوجة. . . وقد يزيد نصيبها على الذكر أو يتساوى عند اختلاف الدرجة، واختلاف سبب الإرث، كالبنت الواحدة مع الإخوة، لها النصف، والنصف الباقى يوزع عليهم، ينال كلاًّ أقلُّ من.
نصيبها وحدها وهو النصف، والتساوى بينهما مع التساوى فى الدرجة لا يوجد إلا فى الإخوة لأم فهم جميعا شركاء في الثلث بالتساوى وإن كانت الآية لا تنص على هذه المساواة فى الظاهر، لكن الإجماع عليها.
وبعد أن نزلت آيه المواريث، قال النبى صلى الله عليه وسلم " إن الله أعطى كل ذى حق حقه ألا لا وصية لوارث " رواه أحمد وأبو داود والترمذى وحسنه وقال " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر" رواه البخارى ومسلم، والنص على الذكر مع إمكان الاستغناء عنه بكلمة رجل، لمنعهم من إعطاء الكبار دون الصغار، فالذكر يطلق على الكبير والصغير، بخلاف الرجل فإنه يطلق على الكبير فقط.
وقضى الرسول للجدة بالسدس كما رواه المغيرة بن شعبة ومحمد ابن مسلمة، وحكم أبو بكر بذلك، وأكده عمر، [تاريخ التشريع للخضرى ص 123] .
4ـ الفروض مقدَّرة: قال العلماء دلالة الألفاظ ظنية إلا فى العقائد والحدود والفرائض أى المواريث واصول الإسلام كالفرائض الخمس، فالربع هو الربع والنصف هو النصف لا يراد به غير ذلك. وكذلك الوارثون محدودون، نصيب كل منهم محدد لا يجوز الخروج عليه بعد عصر الخلفاء بالذات الذين امر الرسول بالأخذ عنهم "فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء للراشدين ".
وإذا كان للشيعة رأى فى المواريث فإنه بالنسبة لفاطمة حيث لم يورثها أبو بكر من والدها، لأن الأنبياء لا يورثون، وما تركوه فهو صدقة، ولذلك هم يحكمون بخطأ أبى بكر فى ذلك، ويجعلون ميراث البنت كميراث الابن، فكل منهما داخل تحت لفظ " ولد" لأن كل مولود ولد.
ومن الغريب أن عليًّا رضى الله عنه سلم بحكم أبى بكر، ولم يشأ أن يخرج عليه وهو مستطيع لذلك حيث كان خليفة يطاع أمره، لكن التشيع المتعصب لعب دوره حتى فى أحقية العلويين فى الخلافة بدل العباسيين فالعباس عم النبى صلى الله عليه وسلم وعلىٌّ ابن عمه، فهو مقدم عليه فى الميراث " إن كان " وأولاد على هم بالنسبة للنبى صلى الله عليه وسلم أولاد ابن عمه، والعم مقدَّم على أولاد العم، وكذلك أولاد على من فاطمة هم بالنسبة إلى النبى أولاد بنته، وهم من الأرحام لا نصيب لهم فى الميراث ما دام يوجد عاصب.
ولذلك قال الشيعة:لا نسلم بالعصبة ومرتبتها، فالأقرب هو الذى يرث، وأولاد بنت النبى أقرب إليه من الأعمام، فالميراث فيهم " الحسين والحسن وذريتهما " ليس للعباس وذريته. والحسن والحسين علويان لأنهما أولاد على.
ولذلك قامت حرب فكرية بين العباسيين والعلويين حين استولى العباسيون على الحكم بعد الأمويين. إلى جانب الحرب بالسلاح، وتبلورت هذه الفكرة فى القرن الثانى والثالث الهجرى، ولذلك هجر الشيعة الأحاديث الصحيحة واعتمدوا على أقوال الأئمة المعصومين فى رأيهم، ليطرحوا فكرة العصبة ويقدموا القرابة.
وما يقال اليوم:إن البنت أصبحت كالولد فى عصرنا الحاضر من حيث التعليم والتمتع بالحقوق الأخرى واحترام ملكيتها وتصرفاتها ومسئولياتها، فيجب التساوى بينهما وتقليد مذهب الشيعة فيه ـ لا أصل له فى الدين بعد انتهاء الوحى وإجماع الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، على أن البنت سيتولى الإنفاق عليها ابوها او زوجها أو ولدها، والابن هو الذى سينفق على زوجته وأولاده ووالديه، فحكم الله حكيم {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله} [النساء: 11] .
5ـ الإرث له أسباب: وهى القرابة، كالأبوة والبنوة والأخوة، والمصاهرة بين الزوجين، والولاء عند عتق السيد للعبد، فهو يرثه إن لم تكن هناك قرابة من عصبة أو رحم. وكذلك الإسلام.
والإرث له مو انع: هى 1 ـ الرق.
2ـ القتل. لحديث " ليس للقاتل من تركة المقتول شئ " صححه ابن عبد البر وغيره.
3ـ واختلاف الدين لحديث الصحيحين فيه، وقد أجازه بعض للصحابة والتابعين، ومن للموانع الردة، فالمرتد لا يرث أحدا من المسلمين ولا من غيرهم، ولا يرثه أحد عند الشافعية والمالكية، وذهب أبو حنيفة إلى أن ماله الذى كسبه قبل الردة يورث، وما كسبه بعدها يعد فيئا للمسلمين، أما للمرأة المرتدة فكل ماتركته يورث، سواء كسبته قبل للردة أو بعدها.
والدور الحكمى أن يلزم من توريث شخص عدم توريثه، فيما إذا أقر أخ بابن للميت، فيثبت نسب الابن ولا يرث الأخ لحجبه بالابن.
والإرث له شروط: تحقق موت المورث أو الحكم به عند القضاء لغيابه مثلا، وتحقق حياة الوارث حال موت المورث، ومعرفة إدلائه للميت بقرابة أو نكاح أو ولاء، ومعرفة الجهة المقتضية له تفصيلا.
6ـ ترتيب الوارثين: يقدم أصحاب الفروض، ثم العصبة، ثم مولى العتاقة، ثم عصبة مولى العتاقة إذا كان المعتق رجلا. ثم الرد على ذوى الفروض إلا الزوجين إذا انحصر الميراث فيهم ولم يستغرقوا التركة، ثم ذوو الأرحام، ثم مولى الموالاة [أنت مولاى ترثنى إذا مت وتعقل عنى إن قتلت، فيقول:
قبلت] وأجازه أبو حنيفة، ويثبت لقابل الولاء دون العكس، بشرط أن يكون طالب الولاء حرا، لا وارث له بنوع من أنواع القرابة. . . قال تعالى: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} [النساء: 33] ولحديث البخارى فى ذلك. ومنع ذلك الباقون وهو مذهب زيد.
ثم المقر له بنسب محمول على الغير، ثم الموصى بما زاد على الثلث، ثم بيت المال.
7ـ مما يتعلق بالتركة: الذى يتعلق بها خمسة حقوق مرتبة على الوجه الآتى:
1ـ كل دين متعلق بعين من أعيان المال، مثل العين المرهونة من ماله، فإن حق المرتهن فيها مقدم على تجهيز الميت وتكفينه.
2ـ تكفينه وتجهيزه إلى أن يدفن.
3ـ كل دين لا يتعلق بعين من أعيان التركة.
4ـ تنفيذ الوصايا الشرعية، فإن كانت لبعض الورثة لا تنفذ إلا بموافقة بقية الورثة، وإن كانت لغيره جازت فى حدود الثلث [بعد كل ديونه] بغير حاجة إلى إجازتهم، وإن زادت نفذت قهرا فى الثلث وتوقفت فيما زاد على إجازة الورثة.
5ـ تقسيم التركة [فى قانون المواريث: أولا مؤن التجهيز وثانيا ديون الميت] .
قدَّم الدين على الوصية مع أن القرآن قدمها، لأن النص ورد بذلك فى حديث على: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بالدين قبل الوصية، ولأن الدين فرض يجبر المدين عليه ويحبس من أجله، والوصية تبرع وتطوع وهو متأخر عن الفرض وقدمها للحث عليها. والوصية الواجبة مقدَّمة على تقسيم التركة [وقانونها فى مصر رقم 71 فى 6 من أغسطس 1946] وقال به جابر بن زيد وقتادة وابن حزم "انظر الأولويات فى فتاوى الشيخ جاد الحق ج 5ص 296 "(9/422)
رجوع الأب فى الهبة لوالده
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للأب أن يسترد ما أهداه لابنه بعد خمسة عشر عاما ليعطى منه بعض إخوته؟
الجواب
إذا كان ما أعطاه الأب لابنه بيعا بمقابل ولو كان بسيطا فلا يجوز له استعادته إذا تسلمه الولد، لأنه بالبيع خرج عن ملكه نهائيا وصار ملكا تاما لولده؟ .
أما إن كان الإعطاء هبة بدون مقابل فهى حق للموهوب له بمجرد العقد حتى لو لم يقبضها كما قال مالك وأحمد، لكن أبا حنيفة والشافعى شرطا القبض حتى تكون لازمة.
والرجوع فى الهبة حرام عند جمهور الفقهاء إلا إذا كانت من الوالد لولده فإن له أن يرجع فيها، فقد روى أصحاب السنن - الترمذى وأبو داود والنسائى وابن ماجه - عن ابن عباس وابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لرجل أن يعطى عطية أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطى ولده " وحكم الوالد حكم الوالدة ويستوى فى الولد أن يكون كبيرا أو صغيرا.
هذا هو رأى الجمهور فى حرمة الرجوع فى الهبة، لكن مالكا قالا: يجوز الرجوع فى الهبة إن بقيت على حالها، فإن تغيرت فلا رجوع، وقال أبوحنيفة: ليس له الرجوع فيما وهب لابنه ولكل ذى رحم من الأرحام، وله الرجوع فيما وهبه للأجانب، ولكن رأيه غير قوى لمعارضته للحديث.
وجاء فى النهى عن الرجوع فى الهبة حديث "مثل الذى يعطى العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب الذى يأكل، فإذا شبع قاء، ثم عاد فى قيئه " رواه الترمذى وغيره. وقال: حديث حسن صحيح.
ومن هنا نقول للسائل: إن كان الأب أعطى ممتلكاته أو بعضها لولد على سبيل الهبة بدون مقابل فله الرجوع عند جمهور الفقهاء، وليس له الرجوع عند أبى حنيفة، ورأى الجمهور أقوى(9/423)
النسب والتوارث فى نكاح المتعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل نكاح المتعة يثبت به النسب للمولود، وهل فيه توارث، وهل يحتاج إلى طلاق؟
الجواب
زواج المتعة هو زواج مؤقت لمدة معينة، وقد أبيح فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم وقتا ما لحاجة الغزاة إليه ثم حرم بعد ذلك -ولم يخالف فى تحريمه إلا بعض الشيعة، مدَّعين أن حله لم ينسخ بالتحريم، وتوضيح ذلك موجود فى الجزء الأول من موسوعة "الأسرة تحت رعاية الإسلام ".
وأكثر المسلمين على حرمة هذا الزواج ورأى ابن مسعود وابن عباس أن الحرمة مشروطة بعدم الاضطرار، فذلك كأكل الميتة يباح للمضطر فقط، ولكن أدلتهم فى ذلك غير سليمة وجاء فى كتاب النهاية، والفتاوى لأبى جعفر محمد بن الحسن أبى على الطوسى المتوفى سنة 460 هجرية، وهو من كُتَاب الشيعة، ونشر كتابه فى طهران سنة 1342 هجرية ما يأتى:
"وليس فى نكاح المتعة توارث، شرط نفى الميراث أو لم يشترط، اللهم إلا إن شرط أن بينهما التوارث، فإن شرط ذلك ثبتت بينهما الموارثة. . .
ويجوز للرجل العزل -لمنع الحمل -وإن لم يكن شرط، ومتى جاءت بولد كان لاحقا به، سواء عزل أولم يعزل.
وجاء فى هذا الكتاب أيضا: وعدة المتمتعة إذا انقض أجلها أو وهب لها زوجها أيامها حيضتان أو خمسة وأربعون يوما إذا كانت لا تحيض وفى سنها من تحيض "من ص 497 - 502 ".
كما جاء فى "ص 182 " من كتاب المختصر النافع لأبى القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلى المتوفى سنة 676 هـ والذى طبعته وزارة الأوقاف المصرية سنة 1376 هـ عند الحديث عن أحكام النكاح المنقطع "نكاح المتعة" ما يلى:
يجوز العزل من دون إذنها، ويلحق الولد وإن عزل، ولكن لو نفاه لم يحتج إلى اللعان ولا يقع بالمتعة طلاق إجماعا ولا لعان على الأظهر، ولا يثبت بالمتعة ميراث بين الزوجين.
وقال المرتضى: يثبت ما لم يشترط، السقوط نعم لو شرط الميراث لزم، وإذا انقضى أجلها فالعدة حيضتان على الأشهر، وإن كانت ممن تحيض ولم تحض فخمسة وأربعون يوما.
وزواج المتعة يترفع عنه كبار القوم الذين يرون حله، ولا يرغبون بديلا عن الزواج الدائم، لأنه الجدير بقيام الأسرة المستقرة، ولا عبرة بما يقال من أن الأطفال يوضعون تحت رعاية المسئولين، فإن الأسرة المستقرة لا ينكر أثرها فى تنشئة الجيل الصالح(9/424)
حرمان الابن العاق من الميراث
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى أب يريد أن يحرم ابنه من الميراث نظرا لأنه عاق، وكثيرا ما يتعدى على والديه بالإهانة؟
الجواب
إذا مات الإنسان وقد أوصى بحرمان ابنه أو بعض ورثته من الميراث فلا أثر لهذه الوصية، لأن توزيع الميراث شرع الله، لا يجوز لأحد أن يتدخل فيه، وقد تكون الصورة التى وردت فى السؤال هى عن بيع أو هبة الشخص ما يملكه فى حال حياته إلى بعض الأولاد وحرمان البعض الآخر.
وكلنا أو أكثرنا يعرف حديث النعمان بن بُشير الذى جاء فيه النهى عن تفضيل بعض الأولاد على بعض بهدية من غير مقابل، ولم يشهد النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال "إنه جور" ونصح الآباء أن يسووا بين الأولاد ليكونوا له فى البر سواء.
إن علماء الحديث والفقه نظروا إلى هذا الحديث واختلفت أحكامهم على هذا التصرف فقال جمهورهم -وهم أبو حنيفة ومالك والشافعى-إنه مكروه وليس حراما لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان "أشهد على هذا غيرى" ولو كان حراما ما أجاز أن يشهد عليه أحد، وأما أحمد بن خبل فقال: إن هذا التفضيل حرام، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال له "لا أشهد على جور" أى ظلم.
لكنهم جميعا قالوا: محل الكراهة أو الحرمة فى التفضيل إذا لم يكن هناك سبب مشروع، فلو كان أحدهم مريضا أو مدينا دينا كبيرا لا يستطيع كسبه الوفاء به، أو كان صغيرا يحتاج فى مستقبل حياته إلى رعاية. فلا مانع من أن أباه يساعده بشىء مراعاةً لحاله، واستدلوا على ذلك بما حدث من الصحابة، فقد فضل أبو بكر رضى الله عنه عائشة على غيرها من أولاده، وفضل عمر رضى الله عنه ولده عاصما بشىء كما فضل عبد الله بن عمر رضى الله عنهما بعض أولاده على بعض، نصت على ذلك كتب الفقه كالإقناع للخطيب فى فقه الشافعية والمغنى لابن قدامة فى فقه الحنابلة، وقد تقدم القول فى ذلك بإسهاب.
هذا واضح فى المفاضلة فى العطية، أما حرمان بعضهم فإن الحديث وإن كان يدل عليه فقد نص عليه الحنابلة بما جاء فى "المغنى" لابن قدامة "المعجم طبعة الكويت ص 720" من قوله: وإن خص بعض أولاده بعطية لمعنى يقتض التخصيص كزمانة أو كثرة عائلته أو انشغاله بعلم. أو صرف عطيته عن بعضهم لفسقه أو بدعته.
أو لاستعانته بذلك على معصية جاز ذلك، وقيل: لابد من التسوية ويمنع التفاضيل والأول أصح.
هذا نص المغنى، وبناء عليه فلا مانع من حرمان الولد العاق من البيع أو الهبة له كباقى إخوته - وإن كنت أخشى أن يزيد عقوق الولد أو يعامل إخوته معاملة قاسية، وأرجو أن يُبحث عن وسيلة أخرى لتقويم سلوك هذا الولد العاق(9/425)
حرمان بعض الورثة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للرجل توزيع تركته على البنات إذا لم يوجد أولاد ذكور، وذلك حتى لا يدخل أحد من الأقارب فى الميراث؟
الجواب
يقول الله تعالى {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا} النساء: 7، نزلت هذه الآية فى أوس بن ثابت الأنصارى، حين توفى وترك امرأة يقال لها "أم كُجة" وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت يقال لهما: سويد وعرفجة، فأخذا كل ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، وكانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية وكان الناس يورثون من يشاءون ويحرمون من يشاءون ويفاضلون كما يشاءون. فنظم الله الميراث وأنزل هذه الآية {يوصيكم الله فى أولاكم. . .} فبينت الفرائض وحددتها، وجاء فيها ما يوجب الالتزام بها، فهى للمصلحة التى يعلمها الله سبحانه {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله} النساء: 11.
بل إن هناك آية تدعو إلى إعطاء بعض الأقارب الذين حرموا من الميراث شيئا من تركة المتوفى عند تقسيمها، وهى قوله تعالى {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا} النساء: 8، بناء على أنها محكمة وليست منسوخة كما هو الأصح رواه البخارى عن ابن عباس، وهذا الإعطاء سنة كما قال أبو جعفر النحاس وقال جماعة بالوجوب. ذلك أن للأقارب تطلعا وأملا فى أن ينالهم نصيب مما تركه المتوفى، وبخاصة إذا كانوا فقراء وهو غنى، لكن هذه الآية تخاطب الورثة وهم يقتسمون الميراث، وقيل إنها تخاطب من أشرف على الموت وهو يوصى بتوزيع التركة ألا ينسى أقاربه المحتاجين.
إن الصورة الواردة هى تقسيم الرجل تركته على بناته فقط قاصدا بذلك أن يحرم بعض الورثة مما بقى من ميراث البنات لأنه ليس له ولد ذكر يحجبهم، إذا كان الآية السابقة توصى بإعطاء الأقارب المحرومين من الميراث بعض التركة فما بالكم بمن لهم حق الميراث؟ .
ولئن كان الإنسان حرا فى حال حياته أن يتصرف فى ماله تصرفا حلالا، يعطى من يشاء ويترك من يشاء، سواء كانوا من الأقارب أم من غيرهم، وارثين أم غير وارثين.
ما دام لا يوجد مانع شرعى من التصرف. فإن المندوب إليه أن يترك لورثته شيئا يرثونه من بعده إذا كانوا فى حاجة إليه، كما يدل عليه حديث سعد بن أبى وقاص الذى رواه البخارى ومسلم حيث ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم وهو يعوده فى مرضه أنه ذو مال كثير ولا يرثه إلا ابنة واحدة وهو يريد أن يتصدق بماله كله فقال "لا " قال:
فالشطر أى النصف؟ قال "لا " قال فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. . . ".
والرجل -كما فى السؤال -ترك لورثته ما يملك وحبسه على بناته، لكن حرم منه بعض أقاربه المستحقين، فما الذى حمله على ذلك؟ الأمر يرجع فيه إلى رعاية المصلحة، فإن كان يرى أن بناته فى حاجة إلى الرعاية وأن أقاربه فى غير حاجة إلى شىء من الميراث ويخشى عليهن عدم عطف الأقارب عليهن فلا مانع من ذلك، أما إذا كان نصيبهم وهو الثلثان يكفى لعيش كريم وأقاربه فى حاجة ماسة إلى نصيبهم فى الميراث فإن هذا التصرف يكون مكروها، لأنه يورث عداوة بينهم وبين بناته، والكل تجمعهم أسرة واحدة يراد لها أن تسود فيها روح المحبة والتعاون.
ومهما يكن من شى فإن تصرفه فى حياته بالبيع أو الهبة لبناته نافذ. ومنع وارث من حقه لا يكون إلا بعد الموت، وذلك قياسا على تفضيل بعض الأولاد على بعض فإن جميع الفقهاء قالوا: إذا كان هناك مبرر معقول يقره الشرع فلا مانع منه، أما إذا لم يوجد هذا المبرر فإن التفضيل يكون مكروها غير حرام عند الأئمة الثلاثة، ويكون حراما عند الإمام أحمد، ويمكن اعتبار النية فى هذا الموضوع، فالأعمال بالنبات، ولكل أمرى ما نوى كما صح فى الحديث(9/426)
زكاة التجارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إن التجارة لا تجب فيها الزكاة لعدم ذكرها فى القرآن الكريم، فهل هذا صحيح؟
الجواب
التجارة هي تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح، والزكاة فيها واجبة، لحديث رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، ورواه الدارقطنى والبيهقي عن أبي ذر " فى الإِبل صدقتها، وفى الغنم صدقتها، وفي البزِّ صدقته " والبز هو الثياب المعدة للبيع، يعنى أن عينها لا زكاة فيها فوجبت الزكاة في قيمتها التجارية، وهناك دليل ذكره الرملى بقوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة على الذى يُعَدُ للبيع " حاشية الشرقاوى على التحرير ج 1 ص 354" رواه أبو داود والبيهقى عن سمرة بن جندب.
وروى الشافعى وأحمد والدارقطنى والبيهقى وعبد الرزاق عن أبى عمرو عن أبيه قال: كنت أبيع الأدم -جمع أديم وهو الجلد- والجِعَاب -جمع جعبة وهى كيس النبال- فمر بى عمر بن الخطاب فقال: أد صدقة مالك، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما هو الأدم، قال: قوِّمه ثم أخرج صدقته، قال ابن قدامة فى المغنى: وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر، فيكون إجماعا. وقالت الظاهرية: لا زكاة فى مال التجارة. ودليل الجمهور القياس، لأن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الزروع والحيوان والذهب والفضة [يعنى لو لم يكن هناك نص مقبول فى وجوب الزكاة فى التجارة فالدليل هو القياس، مع الإجماع على قصة عمر مع صاحب الأدم] .
ولا تجب الزكاة إلا إذا بلغت قيمة السلع نصاب الذهب أو الفضة، وحال عليها الحول، وكانت مملوكة بقصد التجارة لا القنية والإِمساك للانتفاع بها، كما تضم الأرباح الناتجة عن ذلك إليها، ومقدار الزكاة هو ربع العشر، وتخرج من القيمة لا من عُروض التجارة، وأجاز أبو حنيفة إخراج الزكاة من عين السلع كسائر الأموال، وقد مر ذلك فى صفحة 123 من المجلد الثانى وص 505 من المجلد الرابع من هذه الفتاوى(9/427)
نقل الزكاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا أعيش فى بلد مستوى المعيشة فيه مرتفع، ويقل أو يندر أن يكون فيه فقير يستحق الزكاة، فهل يجوز أن أدفعها إلى أقاربى المحتاجين في بلد آخر؟
الجواب
روى الجماعة أن النبى صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل رضى الله عنه إلى اليمن قال فيما قال له " فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة فى أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم " وروى أبو داود وابن ماجه عن عمران بن حُصين أنه استُعمل على الصدقة فلما رجع قيل له: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتنى؟ أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعناه حيث كنا نضعه. وروى الترمذى وحسَّنه أن أبا جُحيفة قال: قدم علينا مصدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم أى عامله على الصدقة، فاخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها فى فقرائنا.
استدل الفقهاء بهذه المرويات على أنه يشرع صرف زكاة كل بلد في فقراء أهله، واختلفوا في نقلها إلى بلد آخر، بعد إجماعهم على أنه يجوز نقلها إلى من يستحقها إذا استغنى أهل بلد الزكاة عنها.
فقال الحنفية: يكره نقلها، إلا إذا كان النقل إلى قرابة محتاجين، لأن فى ذلك صلة رحم، أو إلى جماعة هم أشد حاجة من فقراء البلد، أو كان النقل أصلح للمسلمين، أو كان من دار حرب إلى دار إسلام، أو كان النقل إلى طالب علم، أو كانت الزكاة معجلة قبل أوان وجوبها وهو تمام الحول، ففى جميع هذه الصور لا يكره النقل.
والشافعية قالوا: لا يجوز نقل الزكاة من بلد فيه مستحقون إلى بلد آخر، بل يجب صرفها فى البلد الذى وجبت فيه على المزكى بتمام الحول، فإذا لم يوجد مستحقون نقلت إلى بلد فيه مستحقون.
وحجتهم فى ذلك حديث معاذ المذكور، والذى ذكره أبو عبيد أن معاذا قدم من اليمن بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم فرده عمر، ولما بعث إليه بجزء من مال الزكاة لم يقبله ورده أكثر من مرة مع بيان معاذ أنه لا يوجد عنده من يأخذها.
والمالكية لا يجيزون نقلها إلى بلد آخر إلا إذا وقعت به حاجة فيأخذها الإمام ويدفعها إلى المحتاجين، وذلك على سبيل النظر والاجتهاد كما يعبِّرون.
والحنابلة لا يجيزون نقلها إلى بلد يبعد مسافة القصر، بل تصرف في البلد الذى وجبت فيه وما يجاوره فيما دون مسافة القصر.
يقول ابن قدامة الحنبلى: إن خالف ونقلها أجزأته في قول أكثر أهل العلم، وإذا كان الشخص في بلد وماله في بلد آخر صرفت في بلد المال لامتداد نظر المستحقين إليه، ولو تفرق ماله فى عدة بلاد أدى زكاة كل مال في بلده. وهذا الحكم فى زكاة المال، أما فى زكاة الفطر فتوزع فى البلد الذى وجد فيه المزكى حين وجبت عليه، لأنها زكاة عن شخصه لا عن ماله.
ومن هنا أقول لصاحب السؤال: إذا وجد مستحق للزكاة فى البلد الذى يعيش فيه صرفت إليه على رأى جمهور الفقهاء، ولا يجوز نقلها إلى أقاربه المحتاجين، أما أبو حنيفة فيجيز النقل للمبررات المذكورة ومنها صلة الرحم، أو شدة الحاجة، ولا مانع من الأخذ برأيه، فهو ينظر إلى المصلحة الراجحة " المغنى لابن قدامة ج 2 - ص 531، 532، نيل الأوطار للشوكانى ج 4 ص 161 "(9/428)
إشهار الزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى بعض الأحاديث الأمر بإعلان الزواج وضرب الدفوف، فهل معنى ذلك أن الزوج لو لم يكن قادرا على الإعلان واكتفى بالعقد الشرعى الموثق والمشهود عليه لا يصح زواجه؟
الجواب
المطلوب فى عقد الزواج هو الأشهاد عليه بشاهدين عدلين، وذلك عند سماع الإيجاب والقبول من الزوج والزوجة أو من ينوب عنهما، وهذا الأشهاد كاف فى صحة العقد، واقتضت النظم العصرية أن يوثق ذلك رسميا حتى لا يكون هناك إنكار، وحتى تضمن حقوق الزوجين والأولاد، وبخاصة عند ضعف روح التدين وطهارة الذمم.
أما الإعلان والإشهار، بحضور عدد كبير أو بعمل وليمة أو حفل أو إعلان فى وسائل الإعلام فذلك سنة، ليشيع العلم بهذا الزواج بين كثير من الناس، ولا يشكوا فى علاقة الرجل بالمرأة ولا بالنسل المتولد منهما، والحديث الشريف يقول " أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدفوف واجعلوه فى المساجد " رواه الترمذى وحسنه، لكن ضعفه البيهقى، وهو وإن كان ضعيفا، فهو يدعو إلى الإشهار بالوسائل المتاحة.
ومنها الضرب بالدفوف واجتماع كثير من الناس فى مسجد أو نادٍ أو أى مكان آخر مع الحفاظ على كل الآداب.
ولم يشترط لصحة العقد الإشهار والإعلان إلا الإمام مالك، الذى قال: إن العقد بدون الشاهدين صحيح، فهما شرط لصحة الدخول فى أحد قولين له، والإعلان كاف عنهما، على أن يكون الإعلان وقت العقد ولا يجوز تأخيره وإن أجازه البعض.
يراجع تفصيل ذلك فى الجزء الأول من موسوعة: الأسرة تحت رعاية الإسلام ص 341 "(9/429)
قائمة الجهاز
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى تحرير ما يسمى بقائمة أثاث وأجهزة منزل الزوجية عند الزواج؟
الجواب
لا مانع من تحرير قائمة الأثاث عند الزواج ضمانا لحق الزوجة، والمؤمنون عند شروطهم، فقد يكون الأثاث هو مقدم المهر وهو ملك لها، وقد يكون من مالها أو مال أبيها أو غيره فهو ملك لها أيضا.
وأرجو ألا يكون هناك شطط أو مغالاة فى التقدير، وأن يكون الاتفاق على ذلك عند بدء الخطبة حتى تترك الفرصة للخاطب أن يفكر فى ذلك فلعله لا يوافق.
أما أن يكون الكلام عن القائمة عند العقد فغير لائق، فقد يفشل الموضوع وتكون التعليقات اللاذعة.
وهناك تقليد فى بعض الأرياف يأبى أن يأخذ ولى الزوجة قائمة بعفشها، مرددا هذا القول الجميل: أؤمنك على عرضى ولا أؤمنك على عفش؟ .
يعنى أن ولى الزوجة جعلها أمانة عند زوجها يرعاها ويصونها ويكرمها ولا يعمل ما يؤذيها ولا يؤذى أهلها ماديا أو أدبيا، وهذا شىء كبير وحمل ثقيل لا ينبغى أن ينظر بعده إلى متاع مهما كانت قيمته، فهو أمانة صغيرة جدا بالنسبة إلى الأمانة الكبيرة على الزوجة ماديا وأدبيا.
فهل تعود هذه القيم الرفيعة مرة ثانية؟ ذلك شىء يحتاج إلى تربية دينية صحيحة، وحفاظ على التقاليد الأصيلة المشروعة(9/430)
الرضاع باللبن المجفف وبنك اللبن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل لبن الأمهات إذا جفف يحرم به ما يحرم بالرضاع من اللبن السائل؟
الجواب
ثبت التحريم بالرضاع فى القرآن والسنة، إذا كان فى مدة الحولين، مع الاختلاف بين الفقهاء فى عدد الرضعات التى يثبت بها التحريم.
واللبن إذا كان سائلا وأخذ من امرأة معلومة ورضعه طفل معلوم ثبت به التحريم أما إذا جهلت المرضع أو جهل الرضيع فلا يثبت التحريم، وكذلك الشك لا يؤثر فى ذلك، لأن الأصل عدمه.
وعليه إذا خلط لبن من نساء متعددات غير متعينات، ورضع منه طفل:
هل يثبت به التحريم أو لا؟ لقد أنشئ فى بعض البلاد ما يسمى ببنك اللبن كما أنشئ بنك الدم، وكان العلماء فى حكمه فريقين، الفريق الأول أخذ بالاحتياط والورع وقال: لا يجوز إرضاع الأطفال منه، لأنه قد يترتب عليه أن يتزوج الولد من أخته أو من صاحبة اللبن وهو لا يدرى، والفريق الثانى لم يجد سببا للمنع والحكم بالحرمة، لأنها لا تثبت إلا إذا عرفت الأم التى كان منها اللبن على اليقين، وعند الجهل لا تثبت الحرمة، وإن كان من الورع الابتعاد عنه.
هذا، وقد أفتى الشيخ أحمد هريدى مفتى مصر سنة 1963 م بأن التغذية بهذا اللبن المجموع فى " بنك اللبن " لا يثبت بها تحريم، وجاء فى هذه الفتوى ما نصه: إن اللبن المجفف بطريقة التبخير والذى صار مسحوقا جافا لا يعود سائلا بحيث يتيسر للأطفال تناوله إلا بعد خلطه بمقدار من الماء يكفى لإذابته، وهو مقدار يزيد على حجم اللبن ويغير من أوصافه ويعتبر غالبا عليه، وبالتطبيق على ما ذكرنا من الأحكام لا يثبت التحريم شرعا بتناوله فى هذه الحالة.
وقد انتهى إلى هذا الحكم بعد نقل كثير من أقوال الفقهاء فى مذهب الأحناف، تخريجا على قواعدهم وتوضيح ذلك فى الجز الأول من موسوعة " الأسرة تحت رعاية الإسلام ص 370 "(9/431)
أمهات المؤمنين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا جعل الله زوجات النبى صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فى قوله {وأزواجه أمهاتهم} ولم يجعل النبى أباهم فى قوله {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} ؟
الجواب
جعل الله سبحانه زوجات الرسول أمهات المؤمنين بقوله {وأزواجه أمهاتهم} الأحزاب: 6، ولا يقال لهن: أمهات المؤمنات كما روى البيهقى فى سننه عن عائشة رضى الله عنها، وذلك فى نطاق خاص وليس فى كل الأحوال، فيحرم التزوج منهن بقوله تعالى {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما} الأحزاب: 53.
فالعلة هنا هى الزوجية للرسول وليست الأمومة، ولسن كالأمهات فى النظر إليهن والخلوة معهن ونقض الوضوء باللمس والتوارث وفى زواج بناتهن، فقد تزوج على فاطمة وعثمان من رقية ثم من أم كلثوم، وهن بنات السيدة خديجة أم المؤمنين.
والرسول صلى الله عليه وسلم ليس أبا لأحد من رجال المؤمنين، فقد مات أولاده الذكور منها قبل التكليف بأوامر الرسالة، والآية نصت على أنه ليس أبا من النسب لأى رجل من المؤمنين وإن كان أبا روحيا بالرسالة والتعليم كما جاء فى الحديث " إنما أنا لكم مثل الوالد لولده " رواه أبو داود والنسائى وابن ماجه وابن حبان عن أبى هريرة، ورواه أبو يعلى عن عائشة، وفى سنده مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان وضعفه جماعة.
وسبب نزول هذه الآية أن الإسلام أبطل التبنى، وكان الرسول متبنيا زيد بن حارثة من قبل، ولما بطل التبنى وتزوج مطلقته زينب بنت جحش أرجف الكفار وقالوا: محمد تزوج امرأة ابنه، فبيَّن الله أن محمدا ليس أبا من النسب لزيد ولا لأحد من رجال المؤمنين، ومن هنا يصح له أن يتزوج مطلقة من تبناه، فهو ليس ابنا له من النسب(9/432)
الخروج من الصلاة لدعوة الوالدين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يقطع صلاته إذا ناداه أبوه أو أمه لأمر هام، أو هل أرد عليه أثناء الصلاة بأننى أصلى؟
الجواب
لا يجوز عند جمهور الفقهاء قطع الصلاة المفروضة لإجابة أحد والدى المصلى، أما صلاة النافلة فيجوز قطعها لإجابة الأم، اعتمادا على حديث جريج العابد الذى نادته أمه فى الصلاةْ فلم يجبها فدعت عليه، والأب كذلك إذا نادى ولده وهو فى الصلاة، بل قال إمام الحرمين: يجيبهما حتى لو كان فى الفريضة ما دام فى الوقت متسع لها.
ولا يجوز الرد عليه أثناء الصلاة بقوله: أنا أصلى، وإلا بطلت صلاته.
والدليل عليه حديث مسلم " إن هذه الصلاة لا يصح فيها شىء من كلام الناس، إنما هى التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ".
الموضوع (6) قضية الذكر والأنثى.
المفتى: فضيلة الشيخ عطية صقر.
مايو 1997 المبدأ: القرآن والسنة.
سئل:
هل يمكن التحكم فى جنس المولود وهل تمكن معرفته قبل ولادته؟ .
أجاب:
قضية الذكورة والأنوثة فى المولود شغلت العالم من قديم الزمان، وحكيت فيها أمور هى أقرب إلى الخيال، ولكن شُغِلَ بها العلماء حديثا، فأصدر العالم " بروك كوبو " فى القرن الثانى عشر كتابين، أحدهما يحلل فن إنجاب الذكور، والثانى يبين كيف تنجب الإناث، وحول هذا الموضوع انعقد فى مدريد خلال شهر إبريل سنة 1976 المؤتمر الطبى الأوربى السادس، وكان الاتجاه إلى أن الرجل هو المسئول بطبيعته عن إنجاب الذكور والإناث، لأنه هو الذى يملك الحيوان المنوى الذى ينقسم إلى نوعين أطلق عليهما العلماء اسم " الكروموسوم س والكروموسوم ص " ورمز إليهن بالحرفين و (x، y) وأما الأنثى فلا تملك فى البويضة سوى ص "X " فإذا تقابل س مع ص، تكون هناك فرصة لإنجاب الذكور. وقد حدد الأطباء نسبة قليلة جدا من الرجال لا تتعدى 9 % لا تملك سوى س فقط أو ص فقط. وهذه النسبة هى التى تنتج نوعا واحدا.
وبناء على ذلك قام العلماء بتطبيقات للفصل بين خلايا الذكورة والأنوثة، ولهم فى ذلك عدة طرق، بعضها يقوم على التغذية كما فعل الدكتور " جوزيف ستولكو ويسكى " أستاذ الفيزيولوجيا بكلية العلوم بباريس، والدكتور " لورين " بمستشفى القلب المقدس فى مونتريال بكندا (روز اليوسف 26/11/1979، الأهرام 4/4/1976) وبعضها يقوم على عامل الزمن كما جاء فى كتاب العالم النمسوى " د.
أوجسمت بوروسينى " (أهرام 7/7/972 1، مجلة النهضة بالكويت 21/8/1976) وبعضها يقوم على فصل الخلايا، إما بالدش المهبلى أو التيار الكهربائى أو باستعمال أقراص تؤدى هذا الغرض (أهرام 7/7/ 1972 مجلة الرائد الكويتية 15/8/1974) . وعلمنا من هذه المحاولات للتحكم فى نوع الجنين أن نسبة النجاح فيها كانت حوالى 80 % وأن للعوامل النفسية والعقلية دخلا كبيرا فى صلتها بالأجهزة التى تفرز مادة الجنس، وللظروف المحلية فى الزوجين وغيرهما كذلك دخل كبير فى تكوين الجنين وتحديد نوعه، بل فى أصل الحمل.
وهذا يدل على أن جهود العلماء فى هذا المجال ليست صحيحة 100 % مما يؤكد أن قدرة الله هى المؤثر الأول والمتحكم بثقة فى نوعية الجنين، لأنه هو المالك لكل هذه العوامل، والأسباب، مصداقا لقوله تعالى {للَّه ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} الشورى: 49، 50، وعلى الرغم من تقرير الإِسلام لذلك فإن هناك تطلعات بين المسلمين تحاول معها أن يرزقهم الله نوعا من المواليد، وهو الذكور غالبا، وأكثر هذه المحاولات أدعية وأذكار فى أوقات معينة، مما يدل على أن الأمر كله بيد الله سبحانه، ونحن لا نشك فى أن الدعاء من وسائل تحقيق الرغبات إذا تمت شروطه المعروفة، ولكن بعض الأدعية الخاصة بإنجاب الذكور موضوعة لا أصل لها من قرآن أو حديث، ومنها ما هو موجود فى الكتب الطبية أو كتب الخواص ونحوها، مثل ما جاء فى كتاب "مفيد العلوم ومبيد الهموم للخوارزمى ص 85 " أن من أراد الولد فليقرأ عند الجماع {قل هو الله أحد. . .} ثم يقول: اللهم ارزقنى من هذا الجماع ولدا أسميه محمد أو أحمد، يرزقه الله الولد، وقد جرب ذلك كثيرون فرزقهم الله أولادا.
انتهى.
هذا، وقد ورد فى صحيح مسلم عن ثوبان أن يهوديا جاء يسأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الولد، فقال له " ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلاَ مَنى الرجل مَنِىَّ المرأة أذْكَرا بإذن الله، وإذا عَلا منى المرأة منى الرجل أنْثَى بإذن الله " فقال اليهودى: صدقت وإنك نبى.
وقد بيَّن ابن القيم فى كتابه " أقسام القرآن " ص 205 - 215 كيفية تخلق الجنين من ماء الرجل والمرأة، واستشكل فى كتابه "تحفة الودود" الإذكار والإِيناث لمن علا ماؤه، لأن ذلك ليس له سبب طبيعى، بل هو مستند إلى مشيئة الله. ولهذا قال فى الحديث الصحيح فيقول الملك:
يا رب ذكر؟ يا رب أنثى. .؟ ويقول: وأما حديث ثوبان فانفرد به مسلَّم. وهو صحيح، لكن فى القلب من ذِكْرِ الإيناث والاذكار فيه شىء، هل حفظت هذه اللفظة أو هى غير محفوظة، والمذكور إنما هو الشبه كما ذكر فى سائر الأحاديث المتفق عليها "ثلاثيات أحمد ج 2 ص 73، 4 7 ". انتهى.
وأقول: على ضوء ما ذكر من احتواء نطفة الرجل على عناصر التذكير والتأنيث، واقتصار بويضة الأنثى على عنصر التأنيث بأَلاَ يمكن أن يفسَّر عُلُوُّ ماء أحدهما على الآخر بِسَبْقِ حامل، عنصر التذكير فى النطفة إلى تلقيح البويضة، فيمكن أن يكون المولود ذكرا، وبغَلَبَة عنصر الأنوثة فى المرأة إذا لقحت بويضتها بعنصر الأنوثة فى منى الرجل؟ وعلى كل حال فإن الحديث لم ينس أن يذكر مع ذلك كلمة " بإذن الله " للدلالة على أن المتحكم الحقيقى هو الله سبحانه.
هذا، وأما معرفة نوع الجنين قبل ولادته فقد بذلت لها محاولات كثيرة قديمة وحديثة لا مجال لذكرها، ولكن كل المحاولات ظنية وليست يقينية، ولئن عرف نوع الجنين فلا يعرف كل ما كتب له من عمر ورزق وشقاء أو سعادة كما صح فى حديث البخارى ومسلم، والمعرفة الظنية أو الناقصة غير الشاملة لا تتعارض مع علم الله اليقينى والشامل لكل أحوال الجنين، كما يدل عليه قوله تعالى {هو الذى يصوركم فى الأرحام كيف يشاء} آل عمران: 6، وقوله {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شىء عنده بمقدار} الرعد: 8.
ويذكرنى ما قاله العلماء من أن الرجل عليه الدور الأكبر فى تحديد نوع الجنين بما يحمل من الكروموسومات، ما جاء فى أشعار العرب مشيرا إلى ذلك، بصرف النظر عن مصدر علمهم به، فقد جاء فى العقد الفريد لابن عبد ربه "ج 2 ص 87" أن أبا حمزة الضَبىّ تزوج امرأة يبتغى من ورائها ولدا تلده، فولدت له إناثا فى عدة مرات، فهجر فراشها،، ثم سمعها مرة تقول وهى ترقص بنتها وكان يأوى إلى بيت جيرانها:
ما لأبى حمزة لا يأتينا * يظل فى البيت الذى يلينا غضبان ألا نلد البنينا * تالله ما ذلك فى أيدينا فنحن كالأرض لزارعينا * تُنْبِتُ ما قدر زرعوه فينا فأحس أن امرأته لا ذنب لها فى ذلك فرضى عنها(9/433)
الزواج بين الإنس والجن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يمكن أن يحدث زواج بين الإنس والجن؟
الجواب
الكلام فى هذا الموضوع فى مقامين، الأول إمكان حدوثه والثانى مشروعيته. وقد فصل هذين المقامين المحدث الشبلى الحنفى المتوفى سنة 769 هـ فى كتابه " آكام المرجان " كما تحدث عن ذلك الدميرى فى كتابه " حياة الحيوان الكبرى ".
أولا - إمكان التزاوج بين الإنس والجن، قد أثبته الجمهور مستدلين بقوله تعالى لإبليس {وشاركهم فى الأموال والأولاد} الإسراء: 64، ويوضح هذه المشاركة ما ذكره ابن جرير فى " تهذيب الآثار " أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إذا جامع الرجل امرأته ولم يسم انطوى الشيطان إلى إحليله فيجامع معه ".
ويقول الشبلى: إن المنكرين لإمكان المناكحة اعترضوا بأن الجن خلقوا من نار، والإنس من العناصر الأربعة. وهذا يمنع وجود النطفة الإنسانية فى رحم الجنية - ثم يرد عليهم بأن الجن وإن كانوا خلقوا من نار إلا أنهم لم يبقوا على عنصريتهم النارية، بل استحالوا عنها بالأكل والشرب والتوالد، كما استحال بنو آدم من عنصرهم الترابى بذلك.
ويقول أيضا: إن الذى خلق من نار هو أبو الجن، كما خلق آدم أبو الإنس من تراب وأما ذرية كل منهما فليست مخلوقة مما خلق منه أبوهما، وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بأنه وجد برد لسان الشيطان الذى عرض له فى صلاته على يده لما خنقه. وفى رواية قال النبى صلى الله عليه وسلم " فما زلت أخنقه حتى برد لعابه " فبرد لسان الشيطان ولعابه دليل على أنه انتقل عن العنصر النارى.
ثم يقول الشبلى أيضا فى رده على المنكرين: لو سلمنا عدم إمكان العلوق -أى وجود نطفة الإنس فى رحم الجنية - فلا يلزم منه عدم إمكان الوطء فى نفس الأمر، كذلك لا يلزم من عدم إمكان العلوق عدم جواز النكاح شرعا، لان الصغيرة والآيسة والعقيم اللاتى لا يمكن العلوق معهن يجوز نكاحهن شرعا.
هذه هى أدلته النظرية، ويورد أدلة واقعية فينقل أخبارا عمن يثق بهم، أن هذه المناكحات حدثت بالفعل.
ثانيا - أما مشروعية النكاح بين الجنسين فيذكر الشبلى عنها أن للعلماء فى ذلك رأيين:
الأول: المنع، ونص عليه جماعة من أئمة الحنابلة. وينقل عن الفتاوى السراجية النهى عنه، واستدلوا بقوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا} النحل: 72، وقوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} الروم: 21، موجهين استدلالهم باختلاف الجنسين، وتفسير المودة بالجماع، والرحمة بالولد. كما يستدلون بما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
والرأى الثانى الجواز، ونقل عن الحسن البصرى وقتادة وغيرهما.
وشهد الأعمش نكاحا للجن بجهة " كوثى " كما ذكره أبو بكر الخرائطى، وسيأتى ما نسب إلى مالك فى ذلك. وحجة هؤلاء فى عدم المنع أن الأصل فى التكليف أنه يعم الفريقين الإنس والجن، وليس هناك ما يخصص هذا التعميم بالنسبة للمناكحة بينهما كما قالوا: إن فى أدلة المانعين نظرا، لأن الآيتين المذكورتين لا تنصان على التحريم. فاختلاف الجنس لا نص على منعه من النكاح، والمودة والرحمة لا يتعين تفسيرهما بالجماع والولد. وحديث النهى عنه مردود بأنه مرسل ومن طريق ابن لهيعة، وهو مطعون فيه، وإن صح فيجوز حمله على الكراهه لا التحريم.
وأصحاب الرأى القائل بالجواز يكرهون هذا النكاح، لأنه لا يحدث به تمام المودة والرحمة، لاختلاف الجنس، ولعدم الاطمئنان على حل المشكلات التى تحدث بين الزوجين، من لعان وإيلاء وطلاق وتحصيل نفقة، وما إلى ذلك من الأمور التى ذكرها الفقهاء فى هذا الصدد.
كما أن الإمام مالكا أورد وجهة نظر فى الكراهة لها قيمتها، فقد قيل له: إن ها هنا رجلا من الجن يخطب إلينا جارية يزعم أنه يريد الحلال، فقال: ما أرى بذلك بأسا فى الدين، ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها: من زوجك؟ قالت: من الجن، فيكثر الفساد فى الإسلام بذلك، يريد أن الزانية قد تبرر حملها بزواجها من جنى وقد أورد ذلك أبو عثمان سعيد بن العباس الرازى فى كتاب " الإلهام والوسوسة" فى باب نكاح الجن.
وهذا فى تزوج الجنى من الإنسية، أما العكس فظاهر كلامه عدم الكراهة انتهى.
بعد هذا أرى أن الأصل فى نكاح الجن هو الحل، لعدم ورود ما يمنعه، ولكنه مكروه طبعا. . وفى الإنس متسع لمن يريد المودة والرحمة واستقرار الحياة الزوجية وخدمة المجتمع البشرى " انظر الجزء الأول من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام "(9/434)
الدخول بالمرأة والخلوة بها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لو عقد شخص على امرأة ثم قبَّلها أو سافر بها فى مكان بعيد عن أهلها ولم يتصل بها جنسيا ثم طلقها، هل يعتبر طلاقا قبل الدخول أو بعده؟
الجواب
الدخول الحقيقى الذى تترتب عليه أحكامه يحصل باللقاء الجنسى المعروف، وذلك عند جمهور الفقهاء، فالتقبيل أو الخلوة الخالية من ذلك لا تترتب عليه أحكام الدخول، لكن الإمام أبا حنيفة جعل للخلوة أحكاما تشترك فيها مع الدخول، واشترط أن تكون الخلوة صحيحة، وتكون صحيحة إذا كان الزوج مع الزوجة فى مكان يأمنان فيه من دخول أحد عليهما أو إطلاعه على سرهما، وألا يكون هناك ما يمنع من الاختلاط، مستدلا بما رواه الدارقطنى " من كشف خمار امرأته ونظر إليها وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل " وبما روى عن زرارة بن أبى أوفى أنه قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى عليها الستور وأغلق الباب فلها الصداق كاملا وعليها العدة، دخل بها أم لم يدخل. وحكى الطحاوى من أئمة الحنفية أن على هذا إجماع الصحابة من الخلفاء الراشدين وغيرهم.
فإذا لم تكن الخلوة صحيحة فلا تكون فى الحكم كالدخول. كأن كانا فى مكان لا يأمنان فيه من دخول أحد أو إطلاعه عليهما، أو كان معهما شخص ثالث يعقل، أو كان هناك مانع من الاختلاط.
والمانع إما حسى كالمرض أو صغر السن، أو كانت الزوجة بها مانع خلقى لا يمكن معه الاختلاط، وإما مانع شرعى كالحيضى أو صيام رمضان أو إحرام بالحج أو العمرة.
والخلوة الصحيحة تشارك الدخول الحقيقى عند الأحناف فى أحكام وتخالفه فى أحكام، فالمشاركة فى خمسة:
ا -تأكد المهر كله للزوجة.
2-وجوب العدة عليها إذا وقعت فرقة بعد الخلوة بها.
3- وجوب نفقة العدة على المطلق.
4 -ثبوت نسب الولد منه.
5 - حرمة التزوج بامرأة أخرى محرم لها كالأخت وتزوج خامسة وذلك فى أثناء العدة.
6 -وقوع الطلاق عليها ما دامت فى العدة.
والمخالفة فى سبعة:
ا - لا يثبت بها إحصان فلا ترجم إن زنت.
2 - حرمة الربيبة فإن الشرط الدخول بأمها دخولا حقيقيا.
3- حل المطلقة ثلاثا لا يكون إلا بالدخول.
4 - الرجعة فلا تحصل عنده إلا بالاتصال الجنسى.
5 -إرجاعها بدون عقد فلا يجوز إلا بعد الدخول الحقيقى.
6 -الميراث فلا يرث أحدهما الآخر قبل الدخول الحقيقى لو طلقها ومات فى العدة.
7 - لا تعامل معاملة الثيب لو طلقها قبل الدخول الحقيقى وأرادت أن تتزوج. بل تعامل كالبكر. [ملخص من كلام الشيخ عبد الرحمن تاج فى كتابه " أحكام الأحوال الشخصية ص 131 - 1136] .
ثم تحدث عن المذاهب بخصوص المهر، فقال: إن الخلوة الصحيحة توجب المهر كله عند الحنفية والحنابلة، ولا توجبه عند الشافعية، وأما المالكية فقالوا: إن اختلى بها مدة طويلة كسنة مع عدم الموانع من المخالطة، كانت الخلوة كالدخول فى تأكد المهر كله حتى لو اعترف الطرفان بعدم المخالطة. ويراجع الكتاب لاستكمال رأى المالكية انظر تفسير القرطبى فى سورة النساء "وقد أفضى بعضكم إلى بعض "ج 3 ص هـ. 2، ج هـ ص 102(9/435)
نقل الدم والمصاهرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مرض ابن عمى واحتاج إلى نقل دم، فأعطيته من دمى، فهل يحرم عليه أن يتزوجنى؟
الجواب
تحريم الزواج يكون بسبب النسب أو الرضاعة أو المصاهرة، فبعد أن ذكرت الآية: 22 تحريم زوجة الأب، وذكرت الآية: 23 تحريم الأمهات وغيرها، وذكرت الآية: 24 تحريم المتزوجات، وكل ذلك من سورة النساء، جاء فى الآية الأخيرة قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} وفى الحديث النهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
فليس من أسباب التحريم نقل الدم، ولا يجوز أن نقيسه على الرضاع، لأنه قياس مع الفارق، فالدم بذاته ليس مغذيا وإنما هو ناقل للغذاء، واللبن فى أصله غذاء.
وحتى لو فرض أن الدم مثل اللبن فيشترط أن يكون نقل الدم فى سن الحولين، أى فى الصغر.
أما النقل بين من هم أكبر من سنتين فلا يضر أبدا، كالرضاع بعد الحولين، كما يعتبر عدد مرات نقل الدم، فلا بد أن تكون خمس مرات معلومات كما ذهب إليه الإمام الشافعى فى الرضاع.
والخلاصة أن نقل الدم لا يحرِّم المصاهرة(9/436)
طلاق المريض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تزوج رجل بعد وفاة زوجته، وكره أولاده ذلك حتى لا تقاسمهم فى ميراثه، فطلقها فى مرضه الذى مات فيه، فهل ترث منه أو لا؟
الجواب
مرض الموت هو المرض الذى يغلب على الظن موت صاحبه به ويلازمه حتى الموت، وقد يكون ذلك بتقرير الطبيب، أو بشعور المريض بأنه لم يعد يستطيع أن يزاول أعماله الخفيفة خارج البيت كالذهاب إلى المسجد أو إلى الأماكن التى يقضى منها بعض حاجاته.
فإذا طلق الرجل فيه زوجته طلاقا رجعيا ولو كان برضاها ثم مات قبل انقضاء عدتها فإنها ترث منه، كما لو طلقها حال صحته.
أما إذا طلقها طلاقا بائنا يقصد به حرمانها من الميراث، وكان الطلاق بعد الدخول وبغير رضاها وكانت أهلا لأن ترثه لو مات حينئذ، واستمرت على ذلك إلى أن مات قبل انقضاء عدتها منه فإنها ترثه، معاملة له بنقيض مقصوده وتستحق نصيبها فى التركة. مع نفاذ الطلاق واعتباره بائنا على كل حال. لكن إذا ماتت المرأة قبل الرجل فإنه لا يرثها ولو كان موتها قبل انتهاء العدة.
ومن هذا يعلم أن الطلاق البائن فى حال الصحة أو فى حال المرض الذى لا يغلب على الظن الهلاك به لا يكون طلاق فرار فلا ترث منه، وكذلك إذا كان الطلاق قبل الدخول بها لأنها صارت أجنبية من كل الوجوه حيث لا عدة عليها، وثبوت الحق فى الميراث إذا حصل الموت قبل انتهاء العدة، وإذا أبانها فى مرض الموت برضاها فلا ميراث لها.
ولو كانت عند الإبانة غير أهل لاستحقاق الميراث كأن كانت كتابية فلا ترث، وذلك لاختلاف الدين، وكذلك لو مات بعد انقضاء عدتها فلا ترث.
ومذهب الإمام أحمد أن المطلقة للفرار من الإرث ترث من مطلقها حتى لو مات بعد انقضاء عدتها ما لم تتزوج بزوج آخر، ومذهب مالك أنها ترثه حتى بعد زواجها بغيره ولو كان هذا الغير عاشر الأزواج بعده.
هذا، ومثل مرض الموت كل حالة يغلب على الظن فيها الهلاك، مثل المبارزة بالسيوف كالتى كانت تحصل فى القتال قبل اشتباك الجيوس، وانكسار سفينة فى عرض البحر وغرقها وتمسكه بأحد أجزائها، أو كان غرقها متوقعا لشدة العواصف والأمواج، وكذلك الحكم النهائى بالإعدام، والوجود فى بلد فيه وباء أصاب أهل داره والدور المجاورة " انظر كتاب أحكام الأحوال الشخصية ص 283 وما بعدها " للشيخ عبد الرحمن تاج، وكتاب " أحكام الأسرة فى الإسلام " للشيخ محمد مصطفى شلبى ص 535 وما بعدها(9/437)
طلاق الغضبان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يقع طلاق الغضبان؟
الجواب
روى أبو داود والحاكم وصححه على شرط مسلم أن النبى @ قال " لاطلاق ولا عتاق فى إغلاق " وفسر أحمد بن حنبل الإغلاق بالغضب، وفسره غيره بالإكراه، وفسر بالجنون أيضا. وقيل: هو نهى عن إيقاع الطلاق الثلاث دفعة واحدة، فيغلق عليه الطلاق حتى لا يبقى منه شىء.
وجلعوا الغضب ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يزيل العقل، فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
الثانى: ما يكون فى مبادئه، بحيث لا يمنع صاحبه عن تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه بلا نزاع. والثالث أن يستحكم ويشتد به، فلا يزيل عقله بالكلية، ولكن يحول بينه وبين نيته، بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر، وعدم الوقوع فى هذه الحالة قوى متجه.
وأنصح من يستفتون أن يصدقوا فى تصوير حالة غضبهم، فكثير منهم يدعى زوال عقله، وليس للمسئول إلا ما يسمعه منه، فعلى السائل أن يتقى الله سبحانه.
" الفتاوى الإسلامية مجلد 6 ص 029 2 ومجلد 9 ص 3155"(9/438)
طاعة الوالدين فى الزواج والطلاق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى بعض الأحوال يضغط الأب أو الأم على الابن أن يتزوج امرأة معينة، أو أن يطلق زوجته، ويهددانه بالغضب عليه إن لم يفعل، أو بالحرمان من الميراث مثلا، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
مخالفة الوالدين فى اختيار الزوج أو الزوجة حرام إذا كان لهما رأى دينى فى الزوج أو الزوجة يحذران منه. أما إذا كان رأى الوالدين ليس دينيا، بل لمصلحة شخصية أو غرض آخر - والزواج فيه تكافؤ وصلاح - فلا حرمة فى مخالفة الوالدين.
ومطلوب أن يكون هناك تفاهم بالحسنى بين الطرفين، رجاء تحقق الاستقرار فى الأسرة الجديدة، وحتى يتحقق الغرض الاجتماعى من الزواج الذى ليس هو علاقة خاصة فقط بين الزوج والزوجة، وإنما هو علاقة أيضا بين أسرتين، وفيه دعم للروابط الاجتماعية.
ويقاس هذا على إرغام الوالدين لولدهما على طلاق زوجته التى يحبها ويستريح لها، فقد روى الترمذى وصححه أن: عمر رضى الله عنه أمر ابنه أن يطلق زوجته فأبى، فشكاه للرسول صلى الله عليه وسلم فأمر بطلاقها، لكن سئل أحمد بن حنبل بعد ذلك فى مثل هذه الحالة فقال للسائل:
لا تطلق زوجتك، فذكر له حادث عمر، فقال أحمد: إذا كان أبوك مثل عمر فطلقها. والمعنى أن عمر كانت له نظرة دينية فى زوجة ابنه، لكن غير عمر ليست له هذه النظرة، فهى غالبا نظرة شخصية ولتحقيق غرض معين يكون من ورائه هدم أسرة يستريح لها الابن خلقا ودينا.
صح أن إبراهيم عليه السلام أمر ولده إسماعيل أن يطلق زوجته الأولى، مُكنِّيًا عن ذلك بتغيير عتبة الباب، كما رواه البخارى، وذلك لأنه وجدها تتأفف من عشرته فقد تكون فتنة لزوجها، وقال الإمام الغزالى فى " الإحياء ج 2 ص 51 " بعد ذكر حديث ابن عمر: فهذا يدل علي أن حق الوالد مقدم، ولكن والد يكرهها لا لغرض، مثل عمر.
وعلى هذا يحمل ما ورد من أمر أبى بكر الصديق ولده عبد الله أن يطلق زوجته عاتكة، وما أخرجه أحمد عن معاذ بن جبل، أوصانى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات، وذكر منها " ولا تعص والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك " وما جاء فى صحيح ابن حبان أن رجلا سأل أبا الدرداء فقال له، إن أبى لم يزل بى حتى زوجنى، وإنه الآن يأمرنى بطلاقها. قال: ما أنا بالذى آمرك أن تعق والديك، ولا بالذى آمرك أن تطلق امرأتك، غير أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الوالد أوسط أبواب الجنة، فحافظ على ذلك إن شئت أو دع " قال فأحسب أن عطاء - وهو الراوى - قال فطلقها.
هذا، وقد رأى جماعة أن الطاعة فى تطليق الزوجة تكون للأب لا للأم، قال ابن تيمية فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته: لا يحل له أن يطلقها، بل عليه أن يبرها، وليس تطليق امرأته من برها " غذاء الألباب ج 1 ص 332 " وجاء فى هذا الكتاب أن ابن تيمية علل عدم طاعة الوالدين فى زواج امرأة معينة: إذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر طبعه عنه، مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه، كان النكاح بذلك أولى، فإن أكل المكروه ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذى صاحبه ولا يمكن فراقه " ص 334 " راجع الجزء الخامس من موسوعة " الأسرة تحت رعاية الإسلام "(9/439)
الطلاق المعلق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل قال لزوجته: إن خرجت من البيت فأنت طالق فهل يقع الطلاق لو خرجت؟
الجواب
الطلاق المعلق هو الذى يقصد به إثبات شىء أو نفيه، أو الحث على فعل شىء أو تركه. وفيه أقوال خمسة ذكرها ابن القيبم فى كتابه " إغاثة اللهفان " ص 5 6 2 - 67 2 وملخصها هو: - 1 -أنه لا ينعقد، ولا يجب فيه شىء. وعليه أكثر أهل الظاهر، لأن الطلاق عندهم لا يقبل التعليق كالنكاح، وعليه من أصحاب الشافعى أبو عبد الرحمن.
2-أنه لغو وليس بشىء وصح ذلك عن طاووس وعكرمة.
3- لا يقع الطلاق المحلوف به ويلزمه كفارة يمين إذا حنث فيه.
وبه قال ابن عمر وابن عباس وغيرهما.
4 -الفرق بين أن يحلف على فعل امرأته أو على فعل نفسه أو على فعل غير الزوجة، فيقول لامرأته: إن خرجت من الدار فأنت طالق، فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك، وإن حلف على نفسه أو على غير امرأته وحنث لزمه الطلاق، وبه قال أشهب من المالكية.
5 -الفرق بين الحلف بصيغة الشرط والجزاء وبين الحلف بصيغة الالتزام، فالأول كقوله: إن فعلت كذا فأنت طالق. والثانى كقوله: الطلاق يلزمنى أو على الطلاق إن فعلت، فلا يلزمه الطلاق فى هذا القسم إن حنث دون الأول. وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعى والمنقول عن أبى حنيفة وقدماء أصحابه. والعمل الآن فى المحاكم المصرية حسب القانون رقم 25 لسنة 1929 م كما تنص عليه المادة الثانية منه، على أن الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شىء أو تركه لا غير - لا يقع، وجاء فى المذكرة الإيضاحية لهذا القانون: أن الطلاق ينقسم إلى منجز وهو ما قصد به إيقاع الطلاق فورا، وإلى مضاف كأنت طالق غدا، وإلى يمين نحو: على الطلاق لا أفعل كذا، وإلى معلق كإن فعلت كذا فأنت طالق. والمعلق إن كان غرض المتكلم به التخويف أو الحمل على فعل شىء أو تركه -وهو يكره حصول الطلاق ولا وطر له فيه - كان فى معنى اليمين بالطلاق، واليمين فى الطلاق وما فى معناه لاغ.
ويمكن الرجوع إلى الجزء السادس من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ص 343 لمعرفة أدلة الآراء المختلفة فى هذا الموضوع. ومن المتحمسين لوقوع الطلاق المعلق الإمام تقى الدين السبكى المتوفى سنة 756 هـ فى رسالته " النظر المحقق فى الحلف بالطلاق المعلق " يرد بها على ابن تيمية، وقد فرغ منها قبل وفاة ابن تيمية بسنوات، ويراجع كتاب " أحكام الأحوال الشخصية فى الشريعة الإسلامية " ص 291 للشيخ عبد الرحمن تاج -والفتوى على الرأى الذى يطبق فى المحاكم المصرية، لأن ولى الأمر اختاره، ومعلوم أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وينبغى الالتزام به فى الفتوى منعا للبلبلة(9/440)
تحريم الزوج لزوجة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لو قال الزوج لزوجته: أنت محرمة علَّى إلى يوم القيامة، فهل يكون طلاقا؟
الجواب
رأى العلماء فى تحريم الزوج زوجته على نفسه عدة آراء بلغت عشرين، ولكن أصول هذه الآراء هى: أنه لغو لا شىء فيه، أو طلاق، أو ظهار، أو يمين كالحلف بالله، أو لفظ صالح لكل ما ذكر، وبحسب النية، أو التحريم فقط، أو الوقف.
وفى القول بأنه طلاق مذاهب، فقيل يقع به طلقة واحدة رجعية، وقيل طلقة واحدة بائنة، وقيل ثلاث طلقات فى المدخول بها، وقيل كناية عن الطلاق وليس صريحا فإن نواه فهو طلاق، وتفصيل ذلك يرجع فيه إلى كتاب " زاد المعاد" لابن القيم(9/441)
نكاح الحامل بغير طريق شرعى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
امرأة حملت بغير طريق شرعى هل يصح زواجها من أجل الستر عليها؟
الجواب
روى مسلم " ج 10 ص 14 " عن أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم أتى بامرأة مُجِح - أى حامل قربت ولادتها - على باب فُسطاط فقال " لعله يريد أن يُلمَّ بها " أى يتزوجها، فقالوا: نعم، فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم "هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، كيف يستخدمه وهو لا يحل له "؟ .
وروى الترمذى، وحسنه، وغيره من حديث، رويفع بن ثابت أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقى ماءه ولد غيره " أى لا يتزوج امرأة حاملا حتى تضع حملها وتنتهى عدتها من زوجها السابق.
قال العلماء فى نكاح الحامل: لو كان الحمل من زنا ففى صحة العقد قولان: أحدهما بطلانه، وهو مذهب أحمد ومالك وجمهور العلماء، والقول الثانى صحته، وهو مذهب الشافعى وأبى حنيفة، ولكن لا يدخل بها إلا بعد وضع الحمل، لحديث النهى عن سقى زرع غيره.
جاء فى السنن عن سعيد بن المسيب عن بصرة بن أكثم قال: تزوجت امرأة بكرا فى كسرها فدخلت عليها فإذا هى حبلى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم " لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد لك، وإذا ولدت فاجلدوها " وفرق بينهما " زاد المعاد ج 4 ص 4 ".
وحكمه بعبودية الولد قيل منسوخ، وقيل خاص بالنبى وبهذا الولد، وقيل ليس المراد الرق وهو ضد الحرية ولكن المراد أن يكون خادما.
هذا، وقد يحصل أن يزنى رجل بامرأة فتحمل منه ثم يتزوجها إما سترا عليها وتوبة إلى الله، وإما لغرض آخر، وهنا يصح العقد عليها على رأى الشافعى وأبى حنيفة ويجوز له وطؤها، لأن الحمل منه وليس فيه سقى زرع غيره بمائه، أما من تزوج بمن زنى بها غيره وكانت حاملا فقد سبق حكمه.
والزواج من الزانية فيه خلاف للعلماء، فقد حرمه بعضهم إذا كانت مشتهرة بالزنى، وأجازه البعض إذا علم توبتها كما رآه ابن القيم فى بدائع الفوائد " ج 4 ص 103 "(9/442)
وضع المرأة بعد وفاة زوجها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الأفضل للمرأة أن تتزوج بعد موت زوجها أو تمتنع عن الزواج وفاء لزوجها أو لرعاية الأيتام؟
الجواب
المرأة إذا مات زوجها يقال لها أرملة ما دامت لم تتزوج بعد، والترمل فترة شديدة على المرأة، بل وعلى أهلها، فى قد فقدت زوجها الذى كان يعولها ويساعدها على الإحساس ببهجة الحياة، وقد تستمر على هذه الحال فلا يرغب أحد فى زواجها وبخاصة إذا كانت لها أطفال من الزوج الأول، وكذلك أهلها يحسون بالألم لمصيرها حيث لم تكتمل سعادتها فى المدة التى قدر لها أن تعيشها.
ولهذا الوضع المؤلم للأرملة مظاهر متعددة تختلف باختلاف الشعوب، ذكر الرحلة محمد ثابت فى كتبه شيئا كثيرا منها ما رآها بنفسه أو نقلها عن كتب الرحلات التى سبقت.
ففى بعض قبائل الهند كانت الزوجة أو الزوجات يحرقن أنفسهن مع الزوج حتى لا تصيبهن لعنة الترمل، كما يقضى بذلك الدين البرهمى، ويوجد أيضا فى شعوب (الأنكا) فى (بيرو) وفى جزر فيجى وبعض جهات الصين يمارس ذلك بخفية، على الرغم من تحريم القوانين له.
ومن لم تدفن نفسا مع زوجها تظل بائسة منبوذة أو تحاول الابتعاد عن الناس لأنها نذير شؤم فتلجأ إلى المعابد والرهبنة وهناك يحلق شعرها وتغطف بالسواد وتخدم رواد المعابد حتى تموت، ويطلق عليها الآن فى بعض البلاد (الغولة) ، والهندوس يعدون ترمل المرأة كفارة لما ارتكبته فلا يحل لها الزواج ثانيا، وقد حارب غاندى ذلك وبخاصة فى الأرامل الصغار، لأن الزواج عندهم مبكر جدا.
إن الإسلام لا يفرض على الأرملة إلا الاحتداد بالابتعاد عن الزينة وبعدم الزواج فترة محدودة تسمى بالعدة التى تنتهى بوضع الحمل أو انقصاء أربعة أشهر وعشرة أيام لغير الحامل. وبعد هذه الفترة تحل لها كل أنواع الزينة فى الحدود المشروعة كما يحل لها أن تتزوج.
غير أن بعض الزوجات لا ترغب فى الزواج ثانيا وذلك لبعض العوامل التى منها:
1 - امتداد النظرة القديمة التى كانت عند عرب الجاهلية فى معايرة الولد بزواج أمه بعد وفاة أبيه، حيث كان يعيش من المهر الذى دفعه له زوج أمه، ويأنف أن يرى رجلا أجنبيا ينام مكان والده.
2 - وجود أيتام صغار تعكف على تربيتهم خشية أن يضيعوا إن تزوجت.
3-شدة حبها لزوجها الأول فلا ترضى بغيره بديلا.
4 -وجود عهد بينها وبين زوجها ألا تتزوج بعده.
ومن الأمثلة لذلك: الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين ابن على رضى الله عنهما، التى قالت: ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبو الشهداء الحسين بن على للعقاد ص 54) ونائلة بنت الفرافصة بن الأحوص زوجة عثمان بن عفان رضى الله عنه، خطبها معاوية بن أبى سفيان فأبت، وقيل: إنها قالت بعد مقتل عثمان: إنى رأيت الحب يبلى كما يبلى الثوب، وقد خشيت أن يبلى حزن عثمان من قلبى، فكسرت بعض أسنانها بحجر وقالت: والله لا قعد أحد منى مقعد عثمان أبدا (العقد الفريد لابن عبد ربه الطبعة الأولى ج 3 ص 194) وأم هانى بنت أبى طالب خطبها النبى صلى الله عليه وسلم فاعتذرت له بأن لها أيتاما إن قامت بحق النبى عليها خافت أن يضيعوا وإن قامت بحقهم خافت التقصير فى حق النبى عليها (مسلم بشرح النووى ج 16 ص 80، العقد الفريد ج 3 ص 194) وامرأة هُدْبة بن الخشرم الذى قال لها:
فلا تنكحى إن فرق الدهر بيننا * أغَمَّ القفا والوجه ليس بأنزعا فلما قدم للقتل فى ثأر غابت عن الناس وجدعت أنفها وشقت شفتيها ثم قالت له: أترانى متزوجة بعدما ترى؟ (محاضرات الأدباء ج 2 ص 98 والمستطرف ج 1 ص 165) وهجيمة بنت حى الأوصابية أم الدرداء الصغرى، خطبها معاوية بن أبى سفيان فأبت وقالت:
سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرأة لآخر أزواجها" ولست أريد بأبى الدرداء بديلا. وهو حديث صحيح، رواه الطبرانى وأبو يعلى، ولفظه " أيما امرأة توفى عنها زوجا فتزوجت فهى لآخر أزواجها " (المطالب العالية ج 2 ص 67 والجامع الصغير) والأمثلة كثيرة.
الحكم: من المعلوم أن الله سبحانه حرم على المسلمين أن يتزوجوا من زوجات النبى صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، إن ذلكم كان عند الله عظيما} الأحزاب: 53، فهن زوجاته فى الدنيا والآخرة، وفى إيذائهن إيذاء له صلى االله عليه وسلم.
أما غيرهن، فإن كان هناك عهد بينها وبين زوجها ألا تتزوج بعده، فيجوز لها أن تمتنع عن الزواج إن لم تخف الفتنة على نفسها بل يستحب إن كان هناك مبرر، فإن خافت الفتنة لا يجب عليها الالتزام بالعهد ولها أن تتزوج، وقد حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم خطب (أم مبشر) .
فقالت له: إن زوجى شرطت له ألا أتزوج بعده، فقال لها " إن هذا لا يصلح " (زاد الميعاد ج 4 ص 209 والترغيب ج 3 ص 144) وذلك لأنه شرط ليس فى كتاب الله، وفيه تعطيل للنسل، وقد تزوج عمر بن عبد العزيز من أم هشام بنت عبد الله بن عمر التى حلفت لزوجها عبد الرحمن بن سهيل بن عمرو ألا تتزوج بعده كما أوصاها بذلك وكان يحبها كثيرا (أعلام النساء لعمر كحالة) .
وإذا كان لها أيتام وخافت ضياعهم لو تزوجت كان لها أن تمتنع عن الزواج، بل يستحب لها ذلك فقد روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى " امرأة أَيْمَتْ من زوجها ذات منصب وجمال وحبست نفسها على يتامى لها حتى بانوا أو ماتوا " يعنى حتى انفصلوا عنها واستغنوا عن كفالتها لهم أو حتى ماتوا. رواه أبو داود.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لما أبدت له أم هانىء عذرها بوجود الأيتام " خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على طفل وأرعاه على زوج فى ذات يده" رواه مسلم (مسلم ج 16 ص 80) .
كما يجوز لها ألا تتزوج بعده لتكون زوجته فى الجنة كما تقدم عن أم الدرداء وكذلك فعلت زوجة حذيفة، لكن امتناع المرأة عن الزواج، لشدة حبها للزوج الأول قد يستساغ إذا كانت كبيرة فى السن آمنة على نفسها من الفتنة، لكن لو كانت شابة فخير لها أن تتزوج بعد خمود حرارة الحب، وهى لابد خامدة بطول الزمن، وبخاصة إذا خافت الفتنة على نفسها. وكان أبو سلمة حكيما حين أوصى زوجته أم سلمة أن تتزوج بعده، وكانت تريد ألا تتزوج معتقدة أنه لا يوجد مثل أبى سلمة، وقد وجدت أفضل منه وهو النبى صلى الله عليه وسلم.
إن الإسلام يساير الطبيعة البشرية فى إباحة زواج الأرملة، ويوافق المعقول فى تحقيق المصلحة العامة، وهو ما لجأت إليه الأمم الحديثة بعد أن عرفت صلاحيته.
وقد يحدث امتناع بعض كبريات النساء أن يتزوجن بعد وفاة أزواجهن ذوى المراكز المرموقة، تشبها بنساء النبى صلى الله عليه وسلم، وهو تشبه باطل، أو قياس مع الفارق كما يقال، ولعله مأخوذ من المأثور عن بعض السلف من الامتناع عن تزوج نساء كبار الصحابة تعظيما لقدرهم، وذكرا لمآثرهم عليهم وعلى الإسلام، فهم يعدونهم كآبائهم، ولا يجوز نكاح ما نكح آباؤهم من النساء.
ومهما يكن من شىء فإن الظروف لها حكمها، وتمسك المرأة بدينها أو تهاونها فيه لابد أن يوخذ فى الاعتبار، والمهم كله أن نحافظ على شرف المرأة، وأن نقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ما دام ذلك لا يتخطى حدود الشرع، وكل واحدة من النساء لها حكم يغاير حكم الأخرى، فلا يجوز أن يتخذ ذلك عرفا أو تقليدا عاما، فالطبيعة قوية والشرع حكيم، وضع مقاييس دقيقة للسلوك، وأحكاما عادلة لحل المشكلات، والخير كله فى اتباع هدى الله، كما قال تعالى {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} طه:
123، وقال {وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} النور:
54.
هذا، وقد جدت أوضاع لم تكن معروفة من قبل، وهى المعاشات التى تقررها الحكومة للأرامل، وتشترط لها عدم زواجهن، ولحرص الأرملة على المعاش، ولتلبية نداء الغريزة قد تنحرف بدون الارتباط بالزواج، وفى ذلك خطورة بالغة لا يشك فيها أحد ولا يقرها دين، وقد تلجأ إلى ما يسمى بالزواج العرفى، وهو إن كان غير مستوف لأركانه وشروطه فهو الانحراف بعينه، وإن استوفى ذلك شفويا دون تسجيل رسمى، كانت المعاشرة مشروعة وعدم تسجيله يضمن لها بقاء المعاش حسب القوانين الوضعية، لكن ذلك يترتب عالجه أضرار، منها:
1 -تعريض حق الأولاد الذى نتجوا عن هذا الزواج للضياع، وذلك لعدم تسجيلهم فى الأوراق الرسمية، فلا يلزم أبوهم بالانفاق عليهم، ولا تضمن لهم حقوقهم فى التعليم وما إلى ذلك.
2 -تعريض حقها للضياع عند وفاة هذا الزوج إن كان له ميراث، وكذلك ضياع حق أولاده، وحقه هو أيضا إن ماتت وتركت ميراثا.
3-الاستيلاء على المعاش بدون حق، لأنه لغير المتزوجة، فهو سرقة من الحكومة، وأخذ مال كان أولى به مشروعات أخرى.
وكل هذه الأضرار ممنوعة شرعا، والزواج العرفى الذى يؤدى إلى الممنوع فهو ممنوع، ولهذا يجب تسجيله لأن المعاش المقرر لها سينتقل حقا واجبا على الزوج كنفقة بعد سقوطه بالزواج، فهى لن تتضرر، وكذلك أولادها الذين فى كفالتها وتحت رعايتها معاشهم لا يسقط. والله يقول الحق وهو يهدى السبيل(9/443)
عقد القران فى المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحرص بعض الناس على عقد القران فى أحد المساجد التى بها أضرحة الصالحين، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
روى الترمذى عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " أعلنوا هذا النكاح واجعلوه فى المساجد واضربوا عليه بالدفوف " قال الترمذى: حديث حسن وضعفه البيهقى.
عقد النكاح بالمسجد مظهر من مظاهر إعلانه وكذلك ضرب الدف عليه، وذلك أمر مشروع، وأقل درجاته أنه مباح، وقيل سنة، وكل هذا إذا لم يترتب على عقده بالمسجد أمر محظور، كإخلاله بحرمة المسجد أو التشويش على المصلين، أو حضور جنب أو حائض، أو إخلال بالآداب الاجتماعية كاختلاط الجنسين أو كشف ما يجب ستره، أو غناء مثير أو غير ذلك. .
وتستوى كل المساجد فى هذا الحكم، لا فضل لأحدها على الآخر، ولا شأن لمن دفن فيها أو قريبا منها فى مباركة هذا العقد، فالأمر يدور على الإِشهار والإِعلان فى الأماكن التى يكثر فيها اجتماع الناس، وكانت المساجد إذ ذاك هى أحسن فرصة لذلك(9/444)
زيارة الزوجة لأهلها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يحق للزوج أن يمنع زوجته من زيارة أهلها؟
الجواب
من المتفق عليه أن الزوجة يجب عليها أن تطيع الزوج فى أمرين أساسيين، هما المتعة وملازمة البيت، فلو عصته فى أحدهما كانت ناشزا، تسقط نفقتها ويتخذ معها إجراء بينة القرآن فى قوله تعالى {واللاتى تخافون نشوزهن} النساء: 34، وصحت الأحاديث بالنهى عن عصيانها فيما يجب عليها نحوه.
وفى ملازمة البيت روى حديث بسند ضعيف أن رجلا كان فى سفر وعهد إلى امرأته ألا تنزل من العلو إلى السفل، أى من الطابق الأعلى إلى الطابق الذى تحته، وكان أبوها فيه، فمرض، فاستأذنت الرسول فى زيارته فأمرها أن تطيع زوجها، فمات أبوها ودفن ولم تنزل، فأخبرها الرسول بأن اللَّه غفر لأبيها بسبب طاعتها لزوجها.
بعد هذا أقول:
كما أن للزوج على زوجته حقوقا مؤكدة يعرِّض التفريط فيها إلى عقوبات دنيوية وأخروية -كذلك لوالديها حقوق من البر والإِحسان، منها ما هو واجب يعرِّض لعقوبة اللَّه: ومنها ما هو مندوب لا عقوبة عليه، لكن حق الزوج مقدم على حق الوالدين، فقد روى الحاكم وصححه والبزار بإسناد حسن أن عائشة رضى الله عنها سألت الرسول صلى الله عليه وسلم: أى الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال " زوجها " قالت:
فأى الناس أعظم حقا على الرجل؟ قال " أمه ".
ويمكن للزوجة أن توفق بين طاعتها لزوجها وطاعتها لوالديها دون إثارة مشكلات أو تعرَّض لعقوبات، ومن العشرة بالمعروف التى أمر الله الزوج بها مع زوجته.أن يمكنها من بر والديها وصلة رحمها، لكن ليست زيارتها لهما هى الوسيلة الوحيدة للبر والصلة، فقد يتم ذلك بمكالمة تليفونية أو إرسال خطاب مثلا، أو بزيارة أهلها لها فى بيت زوجها، وكل ذلك فى نطاق المصلحة الزوجية، فإذا رأى الزوج أن زيارتها لأهلها تضر الحياة الزوجية كان له منعها، ولو خرجت بدون إذنه كانت ناشزا وحكم النشوز معروف، وليس منعه لها من زيارة أهلها معصية حتى نبيح لها أن تخالفه، بناء على ما هو معروف من أنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، فالبر كما قلنا-يحصل بغير زيارتها لأهلها، وقد يكون المنع فى مصلحتها هي أيضا، فلا يجوز لها أن تتمسك بهذه الزيارة وتعلق حياتها مع زوجها عليها، فذلك عناد يجر إلى عناد أكبر قد تندم على نتيجته.
وبحسن التفاهم يمكن الخروج من هذه الأزمة، والوسائل لذلك كثيرة، وعلى الوالدين أن يساعدا ابنتهما على استقرار حياتها الزوجية بعدم إثارة الزوابع التى تعصف بسعادة كل من تعرض لها أو تسبب فيها.
هذا، وقد نشر كلام حدث منذ أكثر من مائة سنة جاء فيه - حول هذا الموضوع - أن الأبوين إذا كانا قادرين على زيارة ابنتهما فلا تخرج هى لزيارتهما إلا بإذن الزوج، وكلام يبيح لها أن تخرج للزيارة كل أسبوع بإذن وبغير إذن، وقيَّد بعضهم ذلك بعدم قدرتهما على زيارتها (الشيخ محمد عبده ذكر كل ذلك بتاريخ 27 من ربيع الأول سنة 1322 انتهى. واختار أن تخرج إلى أبويها فى كل جمعة، أذنها الزوج أو لم يأذن، ولها أن تخرج إلى المحارم كذلك كل سنة مرة بإذنه وبغير إذنه، كما أن لها أن تخرج إلى الأهل كذلك كل سنة مرة بالإذن وبدونه، أما خروجها زائدًا على ذلك للأهل فيسوغ لها بإذنه.
وكان اختياره لذلك بعد عرض أقوال الفقهاء الأحناف من كتبهم، دون أن يكون لأقوالهم أو لاختياره هو أى دليل من قرآن أو سنة " الفتاوى الإِسلامية مجلد 4 ص 1355 " وكل ذلك اجتهاد نظر فيه إلى العرف الجارى فى زمانهم، لكن الأصل الذى يجب أن يعلم هو أن الزيارة فى حد ذاتها ليست ممنوعة، فقد أذن الرسول والصحابة لنسائهم بذلك، والمدار هو على تحقيق المصلحة وعدم المفسدة، مع مراعاة تقدم حق الزوج على الأبوين، والواجب يقدم على المندوب، وللتحديد بمدة يرجع فيه إلى العرف، ومخالفته لا ترقى إلى درجة التحريم وكلامهم هو فى الأولى والأفضل. ولعل ما ذكرته يكون أقرب إلى الصواب)(9/445)
العقيقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل العقيقة واجبة أم سنة؟
الجواب
العقيقة هى الذبيحة عن المولود، وقد كانت معروفة عند العرب قبل الإِسلام، فكان إذا ولد لأحدهم غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإِسلام أمر بذبح الشاة وحلق رأس المولود وتلطيخه بالزعفران، كما رواه أبو داود عن بريدة، وسميت العقيقة باسم الشعر الذى على رأس الصبى حين يولد، لأنه يحلق عند الذبح، وكذلك الحيوان حين يولد يسمى شعره عقيقة، واختلف الفقهاء فى حكمها على ثلاثة أقوال:
(أ) فقيل: إنها مكروهة، وذلك لخبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة، فقال (لا أحب العقوق) .
ولأنها من فعل أهل الكتاب وجاء فى ذلك حديث البيهقى. أن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية، ولما رواه أحمد أن الحسن بن على لما ولد أرادت فاطمة أن تعق عنه بكبشين فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم "لاتعقى، ولكن احلقى رأسه فتصدقى بوزنه من الورق -الفضة " ثم ولد الحسين فصنعت مثل ذلك.
وقد أجيب على الحديث الأول بأن النبى كره اسمها ولم يكره فعلها، وعلى الحديث الثانى بأن النبى ما كره من اليهود إلا تفرقتهم بين الغلام والجارية، حيث لم يعقوا عنها، وعلى الحديث الثالث بأنه لا يصح.
(ب) وقيل: إنها سنة، وبه قال أهل الحديث وجمهور الفقهاء، ولهم فى ذلك عدة أحاديث، منها " الغلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه " رواه أصحاب السنن من حديث سمرة بن جندب، وصححه الترمذى، ومنها حديث: أمر النبى صلى الله عليه وسلم بتسمية المولود يوم سابعه، ووضع الأذى عنه، والعق. رواه الترمذى أيضا.
ومعنى: مرتهن بعقيقته أنه لا ينمو نمو مثله، ولا يستبعد أن تكون سببا فى حسن نبات المولود وحفظه من الشيطان فهى تخليص له من حبسه ومنعه عن السعى فى مصالح أخرته. وقيل: أن المعنى إذا لم يعق عنه والده لا يشفع،له، كما قاله الإِمام أحمد، لكن التفسير الأول أحسن.
(ج) وقيل: إنها واجبة، وبه قال الليث والحسن وأهل الظاهر.
والسنة أن يعق عن الذكر بشاتين، وعن الأنثى بشاة، وذلك لحديث عائشة الذى رواه الترمذى، وقال: حسن صحيح.
قال العلماء: إن البنت كانت على النصف من الولد تشبيها للعقيقة بالدية.
وقالوا: إن أصل العقيقة يتأدى عن الغلام بشاة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن الذى ولد عام أحد، وعن الحسين الذى ولد بعده بعام، كبشا كبشا. والأكمل شاتان للولد، ففى موطأ الإمام مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم " من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة ".
والحكمة فى مشروعيتها أنها قربة إلى اللَّه، يرجى بها نفع المولود بدعاء الفقراء له عندما يطعمون منها، وهى أيضا شكر لله على نعمة الولد، فالذرية محبوبة طبعا ومطلوبة شرعا، بشر الله بها إبراهيم وزكريا عليهما السلام، وفيها أيضا: إشهار للمولود ليعرف نسبه وتحفظ حقوقه، وهى كفدية عنه، تشبها بفداء إسماعيل الذبيح بالكبش.
هذا، ويشبه العقيقة بالأضحية وفداء إسماعيل نقل عن الحنابلة أنه لو اجتمع يوم النحر مع يوم العقيقة يمكن الاستغناء بذبيحة واحدة عنهما إذا اجتمع يوم عيد مع يوم جمعة فإنه يكفى غسل واحد لهما(9/446)
زواج التحليل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كثر الكلام فى ذم زواج التحليل وأن المحلل والمحلل له ملعونان، فهل معنى ذلك أنه حرام، وكيف تعود المطلقة طلاقا بائنا بينونة كبرى إلى زوجها الأول؟
الجواب
المقصود بزواج التحليل هو زواج المطلقة ثلاثا لتحل لزوجها الأول، وهو أمر مشروع دل عليه الكتاب والسنة والإِجماع، قال تعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ثم قال فى الآية التى تليها {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} البقرة:
229، 230، قال العلماء: المعنى فإن طلقها للمرة الثالثة. قال القرطبى:
وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه. وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه " رواه الأئمة واللفظ للدارقطنى عن عائشة.
وحتى يكون زواج التحليل محققا للغرض منه لابد فيه من أمرين أساسيين، أولهما أن يكون العقد صحيحا، والثانى أن يكون معه دخول صحيح، فإذا اختل واحد منهما لم يكن مشروعا، ولتوضيح ذلك نقول:
1 -حتى يكون العقد صحيحا لابد من استيفاء الأركان والشروط المعروفة فى كل زواج، وزاد العلماء عليه أن يكون خاليا من نية التحليل، ونية التحليل لها حالتان:
أ-الحالة الأولى أن يصرح بها فى العقد، كأن يقول: تزوجتك على أن أحلك لزوجك، وهو باطل لا تترتب عليه آثاره عند جمهور الفقهاء:
مالك والشافعى وأحمد وعده ابن القيم من الكبائر لا فرق بين أن يكون اشتراط ذلك بالقول أو التواطؤ " زاد المعاد ج 4 ص 6 " وذلك لأحاديث، منها ما رواه الترمذى عن ابن مسعود وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجة وأحمد عن ابن عباس، والحاكم وصححه "لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له " وما رواه ابن ماجة والحاكم من حديث عقبة بن عامر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال " ألا أخبركم بالتيس المعار"؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال " هو المحلل، لعن اللَّه المحلل والمحلل له ".
وأما أهل الرأى " أبو حنيفة وأصحابه " فقال أبو حنيفة وزفر: يصح العقد ويحلها للأول، لأن الشرط الفاسد يُلْغَى ويصح العقد، وقال محمد: إن العقد صحيح مع هذا الشرط، لأن الشرط يلغى ولكن هذا العقد لا يحلها للأول، وقال أبو يوسف: العقد باطل -كرأى الجمهور -ولا يحلها للأول.
هذا، وحكى الماوردى عن الشافعى أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول، وإن شرطاه فى العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول:
وهذا قول الشافعى " تفسير القرطبى ج 3 ص 150 ".
ب - الحالة الثانية ألا يصرح بنية التحليل فى العقد وإن كان أمرا معروفا بين الناس أو على الأقل بين الأطراف الثلاثة، المطلق والمطلقة والمحلل، قال مالك: العقد غير صحيح ولا تحل للأول، لأن العبرة فى الأحكام بالنيات، وكذلك قال أحمد بن حنبل، جاء فى " المغنى " لابن قدامة الحنبلى أن نكاح المحلل باطل إن شرط أنه إذا أحلها فلا نكاح بينهما، وإن نوى التحليل من غير شرط فالنكاح باطل، وفى قول: إن شرط عليه التطليق قبل العقد ولم يذكره فى العقد ولم ينو فالعقد صحيح.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينعقد صحيحا مع الإثم، ويترتب عليه حلها للأول بعد الدخول والطلاق وانتهاء العدة، لأن العبرة فى الأحكام بالظاهر، وأما الشافعى فله قولان، القول الأول هو القديم كقول مالك وأحمد، والقول الثانى وهو الجديد كقول أبى حنيفة وأصحابه.
2 -أما الشرط الثانى وهو الدخول الصحيح، فهو أمر متفق عليه بين الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ولا يكتفى فيه بمجرد الخلوة حتى لو كانت صحيحة، بل لابد فيه من اللقاء الجنسى، والدليل على ذلك ما رواه البخارى وغيره عن عائشة رضى الله عنها لما طلق رفاعة القرظى امرأته فبتَّ طلاقها تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم تشكو إليه أن عبد الرحمن ضعيف فى الناحية الجنسية، فتبسم الرسول وقال " لعلك تريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك ".
وجاء فى سنن النسائى عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " " العسيلة الجماع ولو لم ينزل ". وجاء فى سنن النسائى عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها الرجل فيغلق الباب ويرخى الستر، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فقال " لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر ".
وتشدد الحسن البصرى فلم يكتف بمجرد الجماع، بل اشترط أن يكون معه إنزال للنص فى الحديث على ذوق العسيلة، ولكن الجمهور اكتفوا بمجرد الجماع، بناء على تفسير الرسول للعسيلة، بالجماع ولو لم ينزل.
ولم يخالف فى شرط الدخول بالزوجة إلا سعيد بن المسيب من كبار التابعين وسعيد ابن جبير وبعض الخوارج، وقولهم مرفوض بدليل الأحاديث السابقة. وعدم تحقيقه لحكمة التشريع.
والحكمة من اشتراط المحلل وتأكيد دخوله بالمرأة باللقاء الجنسى، التنفير من الطلاق الثلاث، وتنبيه الزوج إلى التريث فى استعمال حق الطلاق الذى جعله اللَّه على مرات، ومراعاة للشعور بالغيرة على أن يحل محله رجل آخر فى التمتع بزوجته.
هذه هى الآراء فى زواج التحليل وما شرط فيه لتترتب عليه آثاره، وقد حمل بعض العلماء عليه حملة عنيفة بصورة تجعله كأنه غير مشروع، دون مراعاة لبعض الظروف الضاغطة التى يتحقق بها يسر الإِسلام، والحق هو التمسك بما اتفق عليه العلماء، مع ترك الحرية للاختيار فيما اختلفوا فيه.
وقد رأينا بعد هذا العرض الاتفاق على وجوب صحة الزواج ووجوب المعاشرة الجنسية، ورأينا الاختلاف فى نية التحليل أو التصريح به واشتراطه فى العقد، فعند أبى حنفية أن نية التحليل -شرطت أم لم تشرط - لا تمنع من صحة العقد ولا من حل المرأة لزوجها الأول، وعند الشافعى قولان فى عدم الاشتراط، قول كمالك وأحمد بالمنع، وقول كأبى حنيفة بالجواز، وتحمل الآثار الواردة فى التنفير منه على الكراهة، وفى المسائل الخلافية لا يفرض رأى من الآراء، إلا باختيار ولى الأمر، والعمل فى مصر على رأى أبى حنيفة وهو الجواز، لأنه الراجح فى المذهب، ولا مانع من اختيار أى رأى من الآراء وبخاصة عند اقتضاء.
المصلحة(9/447)
أثر الزواج الثانى على المطلقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لو طلق الزوج زوجته التى أبرأته من حقوقها عنده ثم تزوجها بعد ذلك، هل تعود إليه بما بقى من عدد الطلقات، أو بثلاث طلقات؟
الجواب
المعروف أن المطلقة ثلاثا لا تعود إلى زوجها الأول إلا بعد نكاح صحيح مع الدخول الصحيح، كما قال تعالى {فإن طلقها} أى الثالثة- {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} البقرة: 230. أما المطلقة للمرة الأولى أو الثانية فيمكن رجوعها إلى زوجها الأول بالرجعة إن كانت فى العدة أو بعقد جديد إن انتهت العدة، أو كان الطلاق عن طريق الخلع، فإذا عادت إلى زوجها الأول، فهل تعود بما بقى لها من عدد الطلقات، أى بطلقة أو طلقتين -أم تعود إليه كزوجة جديدة لها ثلاث طلقات كما تعود المطلقة ثلاثا؟ لم يرد فى هذه المسألة نص من القرآن أو السنة يعتمد عليه، ولعَل الفقهاء، قالوا: إذا عادت المطلقة غير البائن بينونة كبرى إلى زوجها الأول ولم تكن قد تزوجت غيره عادت بما بقى لها من عدد الطلقات، وذلك بالاتفاق.
أما إذا كانت قد تزوجت غيره فهناك خلاف بين العلماء فى العدد الذى تعود به إلى زوجها، فقال بعضهم: الزواج الثانى يهدم الزواج الأول، بحيث لو عادت إليه تعود بثلاث طلقات، وتسمى هذه المسألة عند الفقهاء بمسألة الهدم، وقال بعضهم الآخر: الزواج الثانى لا يهدم زواجها الأول، فتعود إليه بالباقى من عدد الطلقات، وهذا الخلاف منقول عن الصحابة.
ومن هنا اختلف فقهاء الأحناف، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: تعود إلى الزوج الأول بثلاث تطليقات، وذهب زفر ومحمد بن الحسن إلى أنها تعود بما بقى ولا يهدم الزواج الثانى الزواج الأول، ولكل وجهة هو موليها، والعمل فى مصر على الرأى الأول وهو العودة بالثلاث، "أحكام الأسرة للدكتور محمد مصطفى شلبى ص 534"(9/448)
تزجيج الحواجب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى تزجيج المرأة لحواجبها ونزع شعر وجهها؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن عبد الله بن مسعود قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ".
والتنميص هو إزالة شعر الوجه كتزجيج الحاجبين وإزالة الشعيرات التى بجوانب الوجه وهو حرام.
وقد رأى ابن الجوزى فى هذا الحديث إباحة النمص وحده، وحمل النهى عن التدليس أو أنه شعار الفاجرات.
يعنى أن إزالة شعر الوجه ومنه تزجيج الحواجب يكون حراما إذا قصد به الغش والتدليس على من أراد أن يتزوج فتبدو له المرأة جميلة، ثم يظهر بعد ذلك أنها ليست كما رآها. وهو غش وكذلك يكون حراما إذا قصد به الفتنة والإغراء كما هو شأن الفاجرات المتجرات بالعرض والشرف. وبدون هذين القصدين يكون حلالا، قال ابن الجوزى فى كتابه "آداب النساء" عن عائشة قالت: يا معشر النساء، إياكن وقشر الوجه قال: فسألتها امرأة عن الخضاب فقالت: لا بأس بالخضاب، وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الصالقة والحالقة والخارقة والقاشرة، والقاشرة هى التى تقشر وجهها بالدواء ليصفو لونها، والصالقة هى التى ترفع صوتها بالصراخ عند المصائب، والحالقية هى التى تحلق شعرها عند النوائب، كالخارقة التى تخرق عندها أيضا، قال ابن الجوزى:
فظاهر هذه الأحاديث تحريم هذه الأشياء التى قد نهى عنها على كل حال. وقد أخذ بإطلاق ذلك ابن مسعود. ويحتمل أن يحمل ذلك على أحد ثلاثة أشياء، إما أن يكون ذلك شعار الفاجرات فيكن المقصودات به، أو يكون مفعولا للتدليس على الرجل، فهذا لا يجوز، أو يكون تضمن تغيير خلقة الله، كالوشم الذى يؤذى اليد ويؤلمها، ولا يكاد يستحسن، وربما أثر القشر فى الجلد تحسنا فى العاجل ثم يتأذى به الجلد فيما بعد. وأما الأدوية التى تزيل الكلف وتحسن الوجه للزوج فلا أرى بها بأسا، وكذلك أخذ الشعر من الوجه للتحسن للزوج، ويكون حديث النامصة محمولا على أخد الوجهين الأولين، انتهى ملخصا"غذاء الألباب للسفارينى ج 1 ص 273 ".
وأخرج الطبرى عن امرأة أبى إسحاق أنها دخلت على عائشة - وكانت شابة يعجبها الجمال -فقالت لها: المرأة تحف جبينها لزوجها، فقالت: أميطى عنك الأذى ما استطعت. ذكره ابن حجر فى "فتح البارى " فى شرح حديث ابن مسعود فى باب المتنمصات.
وجاء فى معجم المغنى لابن قدامة الحنبلى "صفحة 877 طبعة الكويت " أن المرأة يكره لها حلق شعرها، ويجوز لها حفُّ وجهها ونتف شعره.
وأرى بعد ذلك أن تزجيج الحواجب ونتف شعر الخدين إن كان برضا الزوج وله ولغير الأجانب، فلا بأس به لعدم التغرير والإغراء الذين نهى عنهما الشرع، أما إن كان الأجنبى سيطلع عليه فهو حرام إن كان للفتنة أو التدليس، وقد يتسامح فى إزالة التشويه المنفر كما لو نبت شعر على اللحية أو الشفة بشبه.الشارب، أو شعرات منفرة فى الحواجب، وما تجاوز ذلك فهو ممنوع(9/449)
عمل المرأة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الإسلام فى عمل المرأة؟
الجواب
هذا الموضوع طويل وضحته فى كتبى: الأسرة تحت رعاية الإسلام، الإسلام دين العمل، الحجاب وعمل المرأة.
ويكفى أن أقول: إن العمل حق لكل إنسان رجلا كان أو امرأة، بل هو واجب لأنه وسيلة العيش وبقاء الحياء، وتحقيق الخلافة فى الأرض، ومجالاته كثيرة، فى الحقل والمصنع والمتجر والبيت، فى البر والبحر والجو، قال تعالى {هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه} الملك:15 ولكل من الرجل والمرأة أن يعمل فى المجال الذى يناسب استعداده، والعمل يستقيم دائما إذا وضع الشخص المناسب فى المكان المناسب، واللَّه سبحانه جعل لكل من الرجل والمرأة مواهب واستعدادات وطاقات تتناسب مع المهمة التى توكل إليه، والطرفان شريكان فى جمعية تعاونية، لا يمكن أن يستغنى أحدهما عن الآخر.
والجزاء هو على قدر العمل المشروع أيَّاً كان حجمه، قال تعالى {فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} آل عمران 195، وقال تعالى {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} النحل: 97،.
ورسالة المرأة فى البيت لا تقل أهمية عن رسالة الرجل خارجه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت يزيد بن السكن وافدة النساء ما معناه " حسن تبعل المرأة لزوجها وقيامها بواجبها نحوه يعدل ما يقوم به الرجل من جهاد وغيره " كما رواه البزار والطبرانى، والشاعر المصرى يقول:
فى بيتهن شؤونهن كثيرة * كشؤون رب السيف والمزراق ومع ذلك فللمرأة أن تزاول عملا خارج البيت، وبخاصة إذا احتاجت إليه، أو كان العمل محتاجا إليها، بل يكون ذلك واجبا عليها لاحقًّا لها، وقد قرر العلماء: أن خروجها للعمل مرهون بعدم التقصير فى الواجب الأساسى وهو المنزل الذى يوفر السكن والمودة ويربى النشء ويعده لاستمرار الحياة الاجتماعية والإنسانية، وذلك مرهون بإذن الزوج لها، فهو المشرف المسئول عنها فى النفقة والحماية، كما يجب عليها أن تحافظ على كل الآداب الخاصة بالعلاقة بين الجنسين، حتى لا يكون هناك انحراف يتنافى تماما مع المقصود من مزاولة النشاط خارج البيت، وتفصيل هذه الآداب يرجع إليه فى الكتب السابقة.
والتقصير فيها هو الذى أثار الجدل والنقاش حول عودة المرأة العاملة إلى بيتها، فلابد من الموازنة بين الكسب والخسارة، شأن التاجر الواعى البعيد النظر، فالعمل للمرأة خارج المنزل - مع أن مجالات العمل والكسب داخله كثيرة - جائز مع كل التحفظات المشروعة، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما رواه البخارى " إن اللَّه أذن لكنَ أن تخرجن لقضاء حوائجكن " والحوائج عامة غير مخصوصة بعمل معين، وكان النساء يباشرن أعمالا خارج البيت، كطلب العلم وكسب العيش، أيام النبى صلى الله عليه وسلم، وروى البخارى ومسلم أنه رأى أسماء بنت أبى بكر، زوجة الزبير تحمل على رأسها النوى لتعلف به الناضح - الجمل أو الفرس -فلم ينكر عليها، بل دعاها إلى الركوب خلفه شفقة عليها.
وإذا كان اللَّه سبحانه قال لنساء النبى صلى الله عليه وسلم {وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} الأحزاب: 33، فالقرار فى البيت وسيلة عدم التبرج أى الظهور والبروز وهو الأمر المهم فى الموضوع، ومع ذلك فهو خاص بنساء النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يمنعهن من الخروج من البيت للصلاة أو الاعتكاف فى المسجد أو حضور مهرجان العيد، أو الحج إلى بيت الله.
وللعلماء كلام طويل فى بيان المجالات المناسبة لعملها خارج البيت يرجع فيه إلى الكتب المذكورة آنفا(9/450)
الشبكة عند فسخ الخطبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا فسخت الخطبة قبل عقد الزواج فهل للخطيب أن يطلب ما دفعه للخطيبة من شبكة وخلافها؟
الجواب
الشبكة فى بعض الأعراف هدية لا يساوم عليها فهى غير المهر تماما، وهنا إذا فسخت الخطبة فلا حق للخاطب فيها لأن الهدية تملك بالتسليم، وفى بعض الأعراف تكون الشبكة من ضمن المهر، يساوم عليها، فإن كانت كبيرة يخفف عن الخاطب المهر، وإن كانت صغيرة زيد فى المهر، فإذا فسخت الخطبة أى قبل العقد ردت الشبكة إلى الخاطب لعدم تمام الموضوع الذى قدمت من أجله، سواء أكان الفسخ من جهته أم من جهتها.
بهذا حكمت بعض المحاكم المصرية، وحكمت محاكم أخرى بأن الفسخ إذا كان من جهة الخاطب لا تسترد الشبكة، ووجهة النظر أن الشبكة هدية إذا قبضت لا يجوز استردادها فالراجع فى هبته كالكلب الراجع فى قيئه كما فى الحديث، لكن إذا كان العرف يعتبرها جزءا من المهر فتكون من حق الخاطب.
وننصح بأن الفسخ إذا كان من جهة الخاطب واستحق الشبكة أن يعوضها ما قد تكلفته من نفقات فى مثل حفل الخطبة أو غيرها، كما ننصح بعدم تعجل المخطوبة فى التزامات مالية وغيرها أملا فى إتمام الزواج، فإن فترة الخطبة بمثابة دراسة يتقرر بعدها الزواج أو عدمه، حيث يكون لكل منهما الحق فى فسخ الخطبة، ومن أراد التوسعة فليرجع إلى الجزء الأول من موسوعة " الأسرة تحت رعاية الإسلام "(9/451)
صورة من زواج عرفى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ماذا تعمل من تزوجت عرفيا وتركها زوجها دون طلاق أو نفقة؟
الجواب
يحدث أن يعيش الإنسان فى بلد لا تعترف بالزواج الثانى أو يكون هناك داع من الدواعى ليتزوج امرأة زواجا عرفيا مستوفيا للأركان والشروط ومن أهمها الشهود لكنه لم يسجل رسميا، وظهر للمرأة أن هذا الزواج فيه ضرر كبير عليها، ولا تستطيع أن تنال حقها رسميا لعدم توثيقه، ولا أن تناله بمجلس عرفى، ولا أن تطلق لتتزوج غيره، وقد يهجرها ولا ينفق عليها لإضرارها.
وقد رأينا حلاًّ لهذه المشكلة أن ترفع أمرها إلى جهة دينية فى هذا البلد يكون معترفا بها، لتتولى بحث الموضوع، وتتأكد من صحة دعواها، وهنا تطلقها الجهة الدينية طلقة واحدة رجعية على مذهب الإمام أحمد، وإذا كان تقصيره فى إعفافها ومضى على ذلك أربعة أشهر اعتبر الامتناع بمثابة الإيلاء عند مالك وأحمد، فيطالب هذا الزوج من الجهة الدينية بالعودة إلى إعفافها أو تطليقها طلقة بائنة، وإذا امتنع عنهما انفسخ النكاح بدون أية إجراءات على مذهب الإمام أبى حنيفة، ولا مخلص إلا ذلك، مَنْعًا للضرر، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار.
ونحذِّر من تريد الزواج من رجل زواجا عرفيا أن تقع فى مثل هذا المأزق، ولهذا ننصحها أن تشترط فى العقد أن تكون عصمتها بيدها، على ما رآه الإمام أبو حنيفة، حتى إذا لم توفق فى هذا الزواج أمكنها أن تطلق نفسها منه بدون اللجوء إلى القضاء، لأنه لا يسمع دعواها- وبدون لجوء إلى لجنة أو غيرها ... " انظر مجلة - منبر الإسلام عدد ذى الحجة 1403 هـ "(9/452)
أخذ الزوجة من مال زوجها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تتصرف فى مال زوجها بدون إذنه؟
الجواب
جاء فى صحيح البخارى قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره "وجاء مثل ذلك فى صحيح مسلم، وروى أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذى قوله " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها " وروى الترمذى من خطبة الوداع " لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها " وروى البخارى ومسلم " إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا " وروى مسلم أن أسماء قالت للنبى صلى الله عليه وسلم: مالى مال إلا ما أدخله عليَّ الزبير، أفأتصدق؟ قال " تصدقى، ولا توعى فيوعى عليك ".
الواجب على الزوجة أن تحافظ على مال زوجها، فلا تتصرف فيه بما يضر، والتصرف فيه إما أن يكون لمصلحة الأسرة، أى الزوجين والأولاد، وإما أن يكون لغير ذلك، فما كان لمصلحة الأسرة سيقوم به الزوج لأنه هو المسئول عنه، ولا تضطر الزوجة أن تأخذ بدون إذنه أكثر من كفايتها، فإن قصر عن الكفاية أخذت بقدرها بدون إذنه فذلك حقها، ودليله حديث هند لما شكت للنبى صلى الله عليه وسلم زوجها أبا سفيان بأنه شحيح مسِّيك، فهل تأخذ من ماله بغير إذنه؟ فقال " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف " رواه مسلم.
وإن كان التصرف فى ماله لغير مصلحة الأسرة، فإن كان بإذنه جاز وإن كان صدقة فإن للزوج ثواب الصدقة من ماله، ولها مثل هذا الثواب لأنها ساعدت بالعمل، أما إن كان بغير إذنه استحقت نصف الأجر، وذلك فى الشىء اليسير الذى تسمح به نفس الزوج، أما إن كان كثيرا فيحرم عليها أن تتصرف أو تتصدق إلا بإذنه.
وبهذا يمكن التوفيق بين الأحاديث التى أجازت لها التصرف، والتى نهت عن التصرف، والتى أعطت للزوجة مثل ثواب الصدقة أو نصف الثواب، يقول النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 7 ص 111 ": لابد من إذن الزوج، وإلا فلا أجر لها وعليها الوزر، والإذن إما صريح أو مفهوم من العرف والعادة، كإعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت العادة به واطرد العرف فيه، وعلم رضاء الزوج والمالك به، فإذنه فى ذلك حاصل وإن لم يتكلم. وهذا إذا عُلم رضاه لاطراد العرف، وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس فى السماحة بذلك والرضا به، فإن اضطرب العرف وشك فى رضاه، أو كان شخصا يشح بذلك، وعلم من حاله ذلك أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه.
ثم قال النووى " ص 113 ": واعلم أن هذا كله مفروض فى قدر يسير، يعلم رضا المالك به فى العادة، فإن زاد على المتعارف لم يجز وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة "ثم قال: ونَبَّه بالطعام أيضا على ذلك، لأنه يسمح به فى العادة، بخلاف الدراهم والدنانير فى حق أكثر الناس وفى كثير من الأحوال.
انتهى. يعلم من هذا أن الأموال الخاصة بالزوج - غير الطعام - لا يجوز للزوجة أن تتصرف فى شىء منها إلا بإذنه حتى لو كان للصدقة، وإلا كان عليها الوزر وله الأجر، أما إذا كان لحاجة الأسرة فلا يجوز أبدا إلا بإذنه، لأنه هو المكلف بالإنفاق عليها، اللهم إلا إذا كان بخيلا مقصرا فلها أخذ ما يكفى بالمعروف، دون إسراف ودون إنفاق فى الكماليات الأخرى، كما يعلم أيضا أن التصرف بغير الصدقة ونفقة الزوجية لا يجوز مطلقا من مال الزوج فى تقديم هدايا أو عمل،ولائم ونحوها إلا بإذنه.
أما مالها الخاص فلها أن تتصرف فيه بغير إذن زوجها ما دام فى شىء مشروع، بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم لما حث النساء على التصدق ألقين بالخواتم والحلى فى حجر بلال، ولم يسألهن النبى: هل استأذن أزواجهن فى ذلك أو لا " شرح صحيح مسلم ج 6 ص 173 ".
وكانت زينب أم المؤمنين صناع اليدين، تدبغ وتحرز وتتصدق بما تكسبه كله على المساكين " الزرقانى على المواهب ج 3 ص 247، 248".
وأخبر عنها النبى صلى الله عليه وسلم بأنها أطول زوجاته يدا، من أجل كثرة تصدقها ومن الخير أن تطلع الزوجة زوجها على حالتها وتصرفاتها المالية حتى لا يدخل الشك قلبه، فكثيرا ما تدخل الشكوك والريب قلوب الأزواج من هذه الناحية.
وإذا قلنا: إن للزوجة أن تنصرف فى مالها الخاص فى الأمور المشروعة بدون إذن الزوج، فإن ذلك محله إذا لم يكن بينهما اتفاق، أما إذا كان هناك اتفاق مشروط أو معروف عرفا على أن مال الزوجة يكون كله أو قدر معين منه فى مصاريف الأسرة فلا بد من تنفيذ الاتفاق، والمؤمنون عند شروطهم(9/453)
الإجهاد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الإجهاض؟
الجواب
الإجهاض: الإجهاض هو إنزال الجنين قبل تمام نموه الطبيعى فى بطن أمه، وله طرق عدة، وإليك كلمة عن حكمه ملخصة من فتوى رسمية منشورة بالفتاوى الإسلامية (المجلد التاسع ص 3093) ومن مقالات بعض العلماء (مجلة العربى عدد أغسطس 1973) .
الإجهاض إن كان بعد الشهر الرابع حرام بالاتفاق، لأنه قتل نفس بغير حق، إلا لضرورة تقتضيه، فالضرورات تبيح المحظورات، قال تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} البقرة: 173، ومن الأعذار انقطاع لبن المرأة بعد ظهور الحمل، والرضيع محتاج إليه ولا بديل له ومنها الشعور بالضعف عن تحمل أعباء الحمل، وكون الوضع بالعملية القيصرية التى تعرضها للخطر، وإقرار الأطباء أن بقاء الحمل يفضى إلى هلاكها، والتأكد من وراثة مرض خبيث كالذى يذكره الدكتور محمد عبد الحميد وسيأتى بعد. أما قبل الشهر الرابع ففى الإجهاض خلاف:
1 - قال بعض الأحناف كالحصكفى: إنه مباح ولو بغير إذن الزوج وذلك عند العذر، وقال صاحب " الخانية ": لا يحل، قياسًا على ما لو كسر المُحرمُ بيض الصيد، الذى نص الفقهاء على أنه يَضْمَنُه، لأنة أصل الصيد، والجزاء الدنيوى أمارة الجزاء الأخروى-، فأقل درجات منعه أنه مكروه.
2 - والمالكية منعوه فى جميع مراحله ولو قبل الأربعين يومًا، على ما هو المعتمد من مذهبهم، كما فى نص عبارة الدردير فى الشرح الكبير: لا يجوز إخراج المنى المتكون فى الرحم ولو قبل الأربعين يومًا وفى رأى أنه مكروه، وعبارة " المتكون فى الرحم " تعطى أن النطفة لو لم تستقر فى الرحم يجوز التخلص منها.
3 - والمتَّجه عند الشافعية هو الحرمة، وقيل: يكره فى فترتى النطفة والعلقة، أو خلاف الأولى. ومحله إذا لم تكن هناك حاجة، كأن كانت النطفة من زنا فيجوز.
4 - أما عند الحنابلة فيؤخذ من كلام " المغنى " لابن قدامة أنها إذا ألقته مضغة فشهد ثقات من القوابل بأن فيه صورة خفية ففيه غرَّة، وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمى ولو بقى لتصور ففيه وجهان، أصحهما لا شىء فيه.
فالخلاصة أن للفقهاء فى الإجهاض قبل تمام الأشهر الأربعة أربعة أقوال:
1 - الإباحة مطلقًا دون توقف على عذر، وهو مذهب الزيدية وبعض الحنفية وبعض الشافعية، ويدل عليه كلام المالكية والحنابلة.
ب - الإباحة عند وجود العذر والكراهة عند عدمه، وهو ما تفيده أقوال الحنفية وبعض الشافعية.
ب - الكراهة مطلقًا وهو رأى بعض المالكية.
د - التحريم بغير عذر، وهو معتمد المالكية والمتجه عند الشافعية والمتفق مع الظاهرية.
هذا، وتونس أولى الدول الإسلامية التى تبيح الإجهاض، وتركيا ستكون هى الثانية، واشترطت ألا يكون بعد 12 أسبوعًا من الحمل (الأهرام 19/2/1982) .
ما يترتب على الإجهاض من الأحكام الدنيوية:
كل الفقهاء متفقون على وجوب الغُرَّة " عبد أو أمة " فى إلقائه ميتا بجناية عليه من أمه أو من غيرها، مع اختلاف فى بعض التفاصيل.
فالحنفية قالوا: تجب الغرة على العاقلة وإن أسقطه غيرها أو أسقطته هى عمدَا بدون إذن زوجها، فإن أذن أو لم تتعمد فلا غرة، ولو أمرت الحامل غيرها بإسقاطه فلا ضمان على المأمورة بل على الحامل إذا لم يأذن الزوج، والعاقلة هم أقارب الجانى.
والشافعية قالوا: فيه غرة لكل جنين. والظاهرية قالوا: إن كان قبل تمام الأشهر الأربعة ففيه الغرة دون كفارة، وإن كان بعدها ففيه الاثنتان. ومن تعمدت قتل جنينها بعد الأشهر الأربعة أو تعمد قتله أجنبى ففيه القود (القصاص بالقتل) وصرح الإباضية بوجوب الغرًة.
هذا، وقد أفتت لجنة الفتوى بالأزهر بجواز الإجهاض للمرأة فى الشهر الأول خشية وراثة مرض خبيث، بشرط ألا يعرض المرأة للخطر (مجلة التصوف الإسلامى عدد 84 فى يناير 1986) .
ولا يجوز أن تمارس عمليات الإجهاض لغير الضرورة كالتى ذكرها الدكتور محمد عبد الحميد مدير مستشفى الملك " المنيرة " سنة 1935 من أن المرأة إذا كانت مريضة بالسل الرئوى الذى يزيده الحمل والوضع وينتقل إلى الجنين، أو بالالتهاب الكلوى الذى يعرِّض للتسمم البولى لإضراب الكليتين عن العمل. ويشتد خطر الالتهاب إن صاحبه ارتشاح فى الجسم، أو بالبول السكرى الذى لا يوجد له دواء، أو لا يفيده " الأنسولين " أو كانت مريضة بالقلب أو ضعف القوى العقلية أو الاضطرابات النفسية. أو بالقىء الكثير الذى يخاف منه على الحامل إذا كان مصحوبًا بزلال فى البول أو بحمى أو بنزف انتهى.
وإذا كان الحمل من زنا، وأجاز الشافعية إجهاضه، فأرى أنه يكون فى حالة الإكراه أو ما شابهها حيث يكون الإحساس بالندم والألم النفسى، أما عند الاستهانة بالأعراض وعدم الحياء من الاتصال الجنسى الحرام فأرى عدم جواز الإجهاض، لأن فيه تشجيعًا على الفساد، وإن كان منتشرًا فى كثير من البلاد غير الإسلامية، ولذا حرمته بعض القوانين، ثم رفعت الحظر عنه لممارسته فعلاً، وعالجت بعض الأولاد غير الشرعيين.
ولتمام الموضوع لبيان حكم التعقيم وحكم الإجهاض وآثاره والأسباب المبررة له قبل نفخ الروح فى الجنين وبعده يرجع إلى كتاب الفتاوى الإسلامية (مجلد 9 ص 3093 وما بعدها) . وينظر قرار مجمع البحوث الإسلامية "فتاوى الشيخ جاد الحق ج 5ص 98 "(9/454)
حضانة البويضة أو الرحم المؤجر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فيما يطلق عليه الآن اسم " الرحم المؤجر"؟
الجواب
لاشك أن الزنا محرم فى جميع الشرائع السماوية، وله فى الإسلام عقوبة شديدة. ولإقامة الحد على الزانى والزانية وضعت شروط شديدة ودقيقة يدرأ بها الحد عند قيام الشبهة فى تحققها.
غير أن هناك صورا يتحقق بها ما يتحقق بالزنا أو تقاربه إلى حد كبير منها إدخال المرأة ماء رجل أجنبى عنها فى فرجها، فقد يحصل منه حمل تختلط به الأنساب ويثور النزاع، وتضيع الحقوق والواجبات، ولذلك حرم العلماء هذه الصورة كما حرموا غيرها.
وإذا كان إدخال الماء الأجنبى - وهو أحد المادتين اللتين يحصل منهما الحمل -حراما حتى لو لم يتم به حمل، فكيف بإدخال المادتين معا مع تحقق الحمل منهما؟ إن الحرمة أشد وتكون الحرمة - كما قال العلماء-من باب أولى.
ولذلك يمكن أن يعاد النظر فيما قاله الفقهاء قديما من أن هذه الصورة وإن كانت محرمة لا توجب عقوبة الزنا بالحد، لعدم تحقق اللقاء الجنسى على الصورة المعهودة.
أرى أن يعاد النظر فيما قالوه ويحكم بالحد فى هذه الصورة، لأن آثارها إن لم تكن هى تماما آثار الزنا فإنها تشبهها إلى حد كبير، لأن من أهم أسباب تحريمه هو اختلاط الأنساب إن حصل حمل.
هذا، وقد جاء فى قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامى التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامى الذى انعقد فى الأردن فى أكتوبر 1986 م - جاء تحريم هذه الصورة التى يطلق عليها اسم " الرحم المؤجر ".
وفى محكمة " نيو جرسى " القريبة من نيويورك قضية من هذا النوع، عقدت صفقتها فى مارس 1985 م، وولدت الأم التى حملت البويضة الملقحة بنتا بعد تسعة أشهر، تنازعتها مع أصحاب هذه البويضة، لشعورها القوى بأنها جزء منها،على الرغم من أنها أم لطفلين غيرها.
وجاء فى أهرام 25/ 1 / 1987 م أن القضية لم يفصل فيها بعد.
وجاء فى أهرام 2/ 10/ 1987 م أن أما حملت بويضة بنتها وأنجيت ثلاثة توائم فى أحد مستشفيات " جوهانسبرج ".
أرى أن البويضة الملقحة حين وضعت فى رحم غير رحم صاحبة البويضة هى غريبة عنها، وليست منها أبدا ولا دخل لزوجها فيها فهى ملقحة من ماء غير مائه، وليس لصاحبة الرحم المؤجرَ إلا فضل التنمية والتغذية كإرضاع الطفل الأجنبى، فهل تقاس تغذية الجنين بدمها على تغذية الرضيع بلبنها فيكون ولدها من هذه الناحية، ويعطى حكم الرضيع فقط فى أحكامه الخاصة، أو ينسب إليها بولادته منها كما ينسب كل المولودين؟ ويا ترى إذا نسب إليها بالولادة هل تكون نسبة ولد زنا وهولم يتخلق منها أصلا لا بالبويضة ولا بالماء وقد سمينا غيره ولد زنا إذا كانت البويضه منها والماء من رجل أجنبى، أو لا ينسب إليها أصلا، لا كالرضاع ولا كالزنا وتعد هى كأنها حاضنة وإنما ينسب إلى أبويه صاحبى النطفة والبويضة؟ نحن فى انتظار نتائج بحث الفقهاء، وحسبى أننى أثرت هذه التساؤلات المفصلة، وإن كان الأشبه عندى-بصفة مؤقتة-أن يعطى الولد حكم الرضيع فقط ويعطى حكم اللقيط بالنسبة إلى أبويه، وحكم التلقيح بالنسبة إلى زوجها، على أن يكون وضع البويضة فى رحمها حراما، لما ينجم عنه من التنازع والاختلاف والآثار الأخرى(9/455)
خدمة الزوجة للضيوف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يتحمس بعض المجددين لإعطاء المرأة حقها فى النشاط الاجتماعى ولا يرون بأسا فى مجالسة الزوجة لأصدقاء زوجها وخدمتهم، فما حكم الدين فى ذلك؟
الجواب
فى حديث رواه البخارى وترجم له بقوله " باب قيام المرأة على الرجال فى العرس وخدمتهم بالنفس " وروى عن سهل بن سعد قال:
لما عَرَّس أبو أسَيْد الساعدى دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاما ولا قرَّبه إليهم إلا امرأته أم أسيد، بَلَّتْ تمرات فى تور من حجارة بالليل، فلما فرغ النبى من طعامه ماثته له فسقته تتحفه بذلك.
والتور إناء يشرب فيه وقد يتوضأ منه ويصنع من صفر أو حجارة، ومعنى ماثته: خلطته بالماء.
يقول العلماء: هذه الحادثة إما أن تكون قد وقعت قبل فرض الحجاب أو بعد فرضه، فإن كانت قبل فرضه فلا يصح أن يستدل بها على ما يدعيه بعض المتحمسين لتحرر المرأة واندماجها فى المجتمع وإن وقعت بعد فرض الحجاب - وهو لم يفرض إلا بعد الهجرة بثلاتَ سنوات أو أربع أو خمس فهل جاء فى الحديث أن أم أسيد كانت كاشفة لما أمر الله بستره، تسلم وتصافح المدعوين وتشاركهم الحديث وما يتبعه؟ إن من المقطوع به أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يقرها على ذلك مطلقا إذا حدث، ومن هنا تكون أم أسيد قد التزمت الحجاب الذى فرضه اللَّه.
ونقول: إن خدمة المرأة للرجال فى حدود الحشمة الشرعية بكل مقوماتها القولية والفعلية، بل ومشاركتها لهم فى تناول الطعام غير ممنوع، وجاء فى موطأ الإمام مالك رضى الله عنه أن المرأة يباح لها أن تأكل مع الرجال. ويقول ابن القطان بناء على هذا: فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويدها للأجنبى، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا وإذا قال القرطبى فى تفسيره "ج 9 ص 68 " فى الحديث: إنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه ويستخدمها لهم - فلابد من الحذر فى فهم هذا الكلام حتى لا يتعارض مع مقررات الشرع -وقد قال بعد ذلك ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب.
إن مثل هذا النص لا يجوز أبدا أن يتخذ منطلقا للإباحة للمرأة أن تجالس أصدقاء الزوج على النحو المعروف الآن، ولابد لأى نص دينى أن يؤخذ مع النصوص الأخرى التى توضحه بالأساليب المعروفة، منعا لسوء الاستغلال، وعدم الاندفاع فى تيار التقليد العصرى الذى يخلق مشكلات وأخطار يعرفها الجميع(9/456)
الفرق بين الخمار والنقاب والحجاب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرجو تحديد معانى هذه الألفاظ وهى الخمار والنقاب والحجاب؟
الجواب
من القواعد العلمية ما يعرف بتحديد المفاهيم، أو تصور الموضوع تصورا صحيحا حتى يمكن الحكم عليه، فلابد من معرفة معانى الخمار والنقاب والحجاب قبل الحكم عليها.
1 - الخمار: هو واحد الخُمُر التى جاءت فى قوله تعالى {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} النور: 31، وهو ما يغطى به الرأس بأى شكل من الأشكال كالطرحة والشال وما يعرف بالإيشارب، ويقال فى ذلك: اختمرت المرأة وتخمرت، وهى حسنة الخِمْرَة.
2 - للنقاب: هو ما تضعه المرأة على وجهها لستره، ويسمى أيضا " البرقع " أو " النصيف " وهو معروف من زمن قديم عند اليهود كما فى سفر التكوين " إصحاح: 24" أن " رفقة " رفعت عينيها فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشى فى الحقل للقائى؟ فقال: هو سيدى، فأخذت البرقع وتغطت، كما كان معروفا عند العرب قبل الإسلام، وسمى باللثام، كما يسمى بالخمار أيضا. قال النابغة الذبيانى يصف " المتجردة " امرأة النعمان ابن المنذر لما سقط برقعها وهى مارة على مجلس الرجال:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه * فتناولته واتقتنا باليد.
3- الحجاب: فى اللغة هو الساتر كما قال تعالى {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} الأحزاب: 53، وكما قال {فاتخذت من دونهم حجابا} مريم: 17.
ويراد به فى الشرع ما يمنع الفتنة بين الجنسين، ويتحقق ذلك بستر العورة والغض من البصر، ومنع الخلوة والكلام اللين واللمس.
فالحجاب أعم من الخمار ومن النقاب، وهما من مقوماته التى تتحقق بها حكمة التشريع وهى منع الفتنة بين الرجال والنساء، أو تنظيمها ليؤدى كل من الجنسين رسالته فى هذا الوجود.
وبتحديد هذه المعانى يعرف حكم كل واحد منها، وهو مفصل فى الجز الثانى من موسوعة " الأسرة تحت رعاية الإسلام " وقد نتعرض له فى مواضع أخرى(9/457)
تعدد الزوجات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا أجاز الله للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة ولم يجز للمرأة أن تتزوج بأكثر من رجل؟
الجواب
قال الله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} النساء: 3، ولقد كان تعدد الزوجات معروفا وسائدا فى الشرائع الوضعية والأديان السماوية السابقة، والإسلام أقره بشرط ألا يزيد على أربع، وألا يخاف العدل بينهن.
وفى مشروعيته مصلحة للرجل، فمن المقررأنه بحكم تكوينه مستعد للإخصاب فى كل وقت من سنه العادى، وتتوق نفسه إلى المتعة ما دام فى حال سوية، أما المرأة فبحكم تكوينها لا تستعد للإخصاب مدة الحمل، وهى أشهر طوال، ومدة الدورة وهى فى الغالب ربع الشهر طيلة عمرها حتى تبلغ سِنَّ الياس، كما أنها تعزف عن المتعة مدة الإرضاع التى قد تبلغ حولين كاملين، ولا ترغب فيها غالبا، أو تلحُّ عليها إلا فى فترة قصيرة جدا كل شهر حين تنضج البويضة، فكان من العدل والحكمة أن يشرع التعدد ما دامت هناك قدرة عليه وعدل فيه. فالزوجة قد تكون غير محققة لمتعته كما يريد، إما لعامل فى نفسه أو نفسها هى ولا يريد أن يطلقها، وقد تكون عقيما لا تلد وهو يتوق إلى الولد شأن كل رجل، بل وكل امرأة، فيبقى عليها لسيب أو لآخر، أو قد تكون هناك عوامل أخرى تحقق له بالتعدد مصلحة مادية أو أدبية أو عاطفية يحب أن ينالها فى الحلال بدل أن ينالها فى الحرام.
كما أن فى تعدد الزوجات مصلحة للمرأة أيظا إذا كانت عقيما أو مريضة وتفضل البقاء فى عصمة الرجل، لعدم الاطمئنان عليها إذا انفصلت، وقد تكون محبة له يعز عليها.أن تفارقه لشرف الانتساب إليه أو نيل خير لا يوجد عند غيره. وفيه مصلحة للمجتمع بضم الأيامى ورعاية الأيتام، وبخاصة فى الظروف الاستثنائية، وبالتعفف عن الفاحشة والمخاللة، وكذلك بزيادة النسل فى بعض البلاد، أو بعض الظروف التى تحتاج إلى جنود أو أيد عاملة.
وإذا علمنا أن الرجل مستعد للإخصاب فى كل وقت، وبتزوجه بعدة زوجات يكثر النسل. جاز له أن يعدد الزوجات، لكن المرأة إذا حملت أو كانت فى فترات الدم أو الرضاع لا تكون مستعدة للحمل مهما كثر اللقاء الجنسى بينها وبين زوجها الواحد، فما هى الفائدة من كثرة اللقاء بينها وبين أكثر من رجل؟ إنها ستكون للمتعة فقط، تتداول كما تتداول السلعة، وفوق أن هذا إهانة لكرامة المرأة: فيه اختلاط للأنساب وتنازع على المولود من أى هؤلاء الرجال يكون، وتلك هى الفوضى الجنسية والاجتماعية التى تضيع بها الحقوق، ولا يتحقق السكن بالزواج.
إن تعدد الأزواج للمرأة الواحدة صورة من صور النكاح فى الجاهلية التى أبطلها الإسلام، كما ثبت فى صحيح البخارى. فقد كان عندهم نكاح أخبرت عنه السيدة عائشة بأن الرهط ما دون العشرة من الرجال يدخلون على المرأة كلهم يصيبونها، فاذا حملت ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم: قد عرفتم الذى كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان - تلحقه بمن أحبت - فلا يستطيع أن يمتنع.
كما كان هناك نكاح البغايا الذى يدخل فيه كثير من الناس على.
المرأة فلا تمتنع ممن جاءها، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها القافة-الذين يعرفون الأثر-فألحقوا ولدها بالذى يرون والتاط به - أى لحقه -ودعى ابنه لا يمتنع منه، والإماء هن فى الغالب اللاتى يحترفن هذه الحرفة، وينصبن الرايات على بيوتهن.
وقد أثير مثل هذا السؤال بالنسبة للجنة حيث يزوج الله الرجل بكثير من الحور العين، ولا يجعل للمرأة إلا زوجا واحدا، ومع الاعتقاد بأن قانون الآخرة ليس تماما كقانون الدنيا، فإن الغرض من نعيم الآخرة هو إمتاع المؤمنين الصالحين بكل ما تشتهيه الأنفس وبخاصة ما حرموا منه فى الدنيا، والإمتاع معنى يقدره اللَّه ويكيفه حسب إرادته، فكما يجعل متعة الرجل فى الحور العين، يجعل متعة المرأة بمعنى آخر، لأن مهمتها الدنيوية فى الحمل لا لزوم لها فى الجنة، وسيضع الله فى قلبها القناعة بحيث لا تغار من زوجات زوجها من الحور، كما جعل الحور أنفسهن قاصرات الطرف على من خصصْنَ له من الرجال، لا يملْن ولايشتهين غير أزواجهن {وعندهم قاصرات الطرف أتراب} ص: 52، وقد منع اللَّه عن أهل الجنة عامة الغل والحسد، والهم والحزن: قال تعالى {ونزعنا ما فى صدورهم من غل} الحجر: 47، وقال على لسانهم {الحمد للَّه الذى اذهب عنا الحَزن إن ربنا لغفور شكور * الذى أحلنا دار المُقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} فاطر: 34، 35(9/458)
زوجات النبى صلى الله عليه وسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو عدد وأسماء زوجات النبى صلى الله عليه وسلم، ولماذا أحل الله له أكثر من أربع؟
الجواب
المتفق عليه من زوجاته صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة، توفيت اثنتان منهما حال حياته، وهما خديجة وزينب بنت خزيمة، وتوفى عن تسع نسوة. والقرشيات من زوجاته ست، والعربيات من غير قريش أربع، وواحدة من غير العرب وهى صفية من بنى إسرائيل.
فالقرشيات هن:
1 - خديجة بنت خويلد، تجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى جده قُصى.
وهى أول من تزوج وأنجبت له كل أولاده: عبد الله والقاسم، زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، أما إبراهيم فهو من مارية القبطية. توفيت بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح.
2 - سودة بنت زَمْعَة، تجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى جده لؤى بن غالب تزوجها بعد وفاة خديجة بقليل، عقد عليها بمكة، وقيل: دخل عليها بمكة أو المدينة، وتوفيت سنة 54 هـ.
3- عائشة بنت أبى بكر الصديق، تجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى كعب ابن لؤى، عقد عليها بعد عقده على سودة ودخل بها فى المدينة، وتوفيت سنة 506هـ أو بعدها.
4 - حفصة بنت عمر بن الخطاب. تجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى كعب ابن لؤى. تزوجها فى السنة الثانية أو الثالثة بعد الهجرة، وتوفيت سنة 45 هـ.
5 - أم سلمة، واسمها هند، وقيل: رملة. تجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى كعب بن لؤى، تزوجها بعد وفاة زوجها فى السنة الرابعة من الهجرة وتوفيت سنة 58هـ أو بعدها.
6 - أم حبيبة، واسمها رملة، وقيل هند. وهى بنت أبى سفيان تجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى كعب بن لوى. عقد عليها سنة سبع من الهجرة وهى فى الحبشة، وتوفيت سنة 44 هـ وقيل غير ذلك.
والعربيات هن:
1 - زينب بنت جحش: أبوها من مضر، وأمها قرشية وهى أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم تزوجها بعد طلاقها من زيد بن حارثة، سنة 3 هـ أو 4 أو 5 هـ وتوفيت سنة 20 أو بعدها.
2 - جويرية بنت الحارث المصطلقية، وقعت فى الأسر فى غزوة بنى المصطلق، فخلصها النبى وتزوجها سنة خمس أو ست من الهجرة، وتوفيت سنة 50 هـ أو بعدها.
3- زينب بنت خريمة، كانت تلقب فى الجاهلية بأم المساكين، تزوجها سنة ثلاث أو أربع من الهجرة، وتوفيت فى السنة الرابعة، ومدة مكثها عند النبى شهران أو ثلاثة، وقيل ثمانية.
4 - ميمونة بنت الحارث، تزوجها فى السنة السابعة من الهجرة فى عمرة القضية، وتوفيت فى " سرف " سنه 51 هـ.
أما غير العربيات فهى صفية بغت حُيَى بن أخطب من يهود بنى النضير، وقعت فى الأسر فاشتراها النبى صلى الله عليه وسلم من دحية وتزوجها فى غزوة خيبر سنة سبع من الهجرة، وتوفيت سنة خمسين وقيل بعد ذلك وتزوج النبى صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء ولم يدخل بهن. وأما مارية القبطية فلم تكن زوجة حرة معقودا عليها، وإنما كان النبى صلى الله عليه وسلم يتمتع بها بملك اليمين، وولدت له إبراهيم وتوفيت سنة 12 أو 16 هـ.
وقد تزوج النبى صلى الله عليه وسلم هذا العدد على عادة العرب وغيرهم من تعدد الزوجات، ولم تنزل الآية التى حددت التعدد بأربع إلا بعد أن تزوجهن جميعا، وقد نهاه الله عن الزيادة عليهن وأمره بإمساكهن جزاء على اختيارهن له مع رقة عيشه وزهده، قال تعالى {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدَّل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} الأحزاب: 52، كما حرم على أحد أن يتزوج واحدة منهن بعد النبى صلى الله عليه وسلم فقال {وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللَّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} الأحزاب: 53، ولهذا لم يطلق واحدة منهن حتى تظل فى كنفه ويكن أزواجه فى الجنة.
وما كان زواجه بهن عن شهوة جنسية طاغية، بل كان لمعان إنسانية كريمة يطول بيانها، ولو كان لشهوة لاختارهن أبكارا، لكنهن كن جميعا ثيبات ما عدا عائشة، ولو كان لشهوة ما رفض كثيرات عرضن أنفسهن عليه هبة دون مقابل، وكان زواج كل واحدة بإذن ربه فقد روى " ما تزوجت شيئا من نسائى، ولا زوجت شيئا من بناتى إلا بوحى جاء لى به جبريل عن ربى عز وجل "ولا يقدح فى ذلك قوله "حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عينى فى الصلاة " فهو حب رحمة، جعلته -صلى الله عليه وسلم يوصى بهن كثيرا حتى فى أخر أيامه، - وتوضيح كل ذلك فى الجزء السادس من: الأسرة تحت رعاية الإسلام(9/459)
الدليل على وجود الله ورسالة محمد (ص)
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الدليل المقنع على وجود الله وعلى أن محمدا رسول حقا من عند الله؟
الجواب
1 - الدليل المقنع على وجود الله هو آثاره المشاهدة التى لا يمكن أن تكون موجودة بنفسها من غير قوة كبرى على قدرة وعلم وصفات يصدر عنها هذا الإبداع وهى قوة اللَّه تعالى، ومن البدهيات أن كل صنعة لابد لها من صانع، وكلما كانت الصنعة أحكم كان صانعها على أعلى مستوى من الحكمة، وكما قال الحكماء: ليس هذا العالم مخلوقًا بالطبع أو بالعلة، لأن مطبوع الطبيعة لا يختلف، بل بلتزم شكلاً واحدًا، ومعلول العلة لا يتخلف، بل لابد أن يكون ملازمًا لعلته وجودًا وعدمًا، حدوثًا وقدما.
إن الإيمان بوجود اللَّه حقيقة مقررة في فطرة الإنسان منذ خلق، كما نص الحديث الصحيح.
"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهؤَدانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" يقول أبو هريرة راوى الحديث: اقرءوا إن شئتم {فطرة اللَّه التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} الروم: 30، رواه البخارى ومسلم.
إن الرجل البدوى حين سئل عن وجود اللَّه نطق بفطرته فقال: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟ .
وأنت تعلم أن آدم عليه السلام خلق وهبط الأرض وفي قلبه هذه الحقيقة، ونشأت ذريته الأولى على هذا الإيمان. ولما تفرقوا في طول الأرض وعرضها شغلهم طلب العيش والمأوى عن التفكير في خالق هذا الكون، وساقتهم فطرتهم إلى أن هناك من هو أقوى منهم، يسيرهم، ويسيطر عليهم، بما يرونه من كواكب ونجوم ومخلوقات شتى، وحاولوا التقرب إليها أو التحصن ضد خطرها، وكما يحدثنا علماء الفلسفة والأجناس البشرية، رمزوا إلى هذه القوة الخفية بما يعبر عن عقيدتهم في شكل تمثال أو غيره.، ومن هنا جاء الرسل لتلفت أنظار الضالين إلى حقيقة الألوهية.
ومهما يكن من شيء فإن علماء العصر الحديث -على الرغم من تنكر بعضهم للدين الذى عاشوا فى ظله قرونا، وحرمهم كثيرا مما يحتمه انطلاق الفكر ونشاط الإرادة - لم يستطيعوا أن ينكروا وجود اللَّه وراء هذه المادة التى هي وعاء علمهم وتجارتهم، وكان أسلوبهم في البحث بعيدًا عن الأسلوب الدينى التقليدى الذى ثاروا عليه، ولو شئت لأوردت لك كثيرًا من أقوال كبارهم فى إثبات وجود اللَّه، ولكنى أحيلك على كتاب "الله يتجلى في عصر العلم " الذى جمع فيه "جون كلوفر مونسما " الباحث الديني الاجتماعي كثيرًا من شهادات علماء أمريكا المتخصصين في كل العلوم، بما يؤكد اعتراف العلم بوجود اللَّه.
وإن شئت دليلا على طريقة المتكلمين وعلماء التوحيد على وجود اللَّه أحيلك على "رسالة التوحيد " للشيخ محمد عبده، ولعلك توفق إلى فهم الأسلوب الموضوع للاستدلال على وجوده سبحانه.
وأعتقد أيها السائل أنك ما دمت مسلمًا ومؤمنًا بالتالي بوجود اللَّه فلا تشغل نفسك بأمر لا يعني به إلا الفلاسفة والعلماء المتخصصون الذين ينفقون وقتًا كبيرًا في الجدل والمناقشة. ونحن أحوج ما نكون إلى أي وقت وأي جهد يبذل في سبيل المعركة المصيرية التي يخوضها المسلمون عامة فى هذه الأيام.
2 - إن قيام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى دين جديد حقيقة تاريخية مقررة لاشك فيها، وتلك آثارها شاهد صدق عليها.
ولما جاء بالدعوة وكذبه قومه طلبوا منه ما يدل على صدقه، بالإضافة إلى ما عرفوه عنه من صدق وأمانة، وقد انترع منهم هذا التصديق المبدئي بقوله " أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي "؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا فقال لهم "إنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد" ولذلك جاء على لسان من عرضت عليه الدعوة وعرف أنه مشهور بالصدق: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على اللَّه.
فلما أصروا على كذبهم ظلمَا وعلوا وقد استيقنت أنفسهم صدقه طلبوا منه آية أي علامة تدل على صدقه في أنه رسول اللَّه من عند اللَّه، وليس مدعيًا ذلك من نفسه فجاءهم بالقرآن متحديًا إياهم به، فعجزوا عن الإتيان بمثله، بل بعشر سورٍ، بل بسورة واحدة، على الرغم من أنهم فرسان البلاغة والفصاحة. وقد نص على ذلك قول الله تعالى {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} الإسراء: 88.
وحيث إنهم عجزوا عن محاكاته: عُلم أنه ليس من صنعه فيكون من صنع اللَّه وحده، الذي جعل هذه المعجزة دليلاً على أن الرسول مبعوث من عند الله. وقد صح في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم "ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللَّه إلىَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ".
وإذا صدقنا بالقرآن معجزة صدقنا برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به، فالآيات في القرآن كثيرة تثبت رسالة جميع الرسل السابقين.وإن شئت توضيحًا لهذه الحقيقة فارجع إلى "رسالة التوحيد" للشيخ محمد عبده.
30/08/99242424242404:45 ص(9/460)
النكاح المؤقت فى الغربة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز خلال بعثة تعليمية خارج البلاد أن يتزوج الإنسان لمدة زمنية محددة ينتهى بعدها العقد أو يتم تجديده؟
الجواب
نكاح المتعة نكاح مؤقت ينتهى بانتهاء المدة المتعاقد عليها بدون طلاق، ولا توارث عند الموت وقد أحله النبي صلى الله عليه وسلم لظرف طارىء ثم أبطله بعد زوال هذا الطرف واستمر باطلا إلى يوم القيامة، وعلى نسخه جمهور أهل السنة، وقالوا: إن المقصود من الزواج هو الدوام والاستمرار حتى يكون هناك استقرار في الأسرة لتؤدي رسالتها من الرحمة والمودة والسكن وتربية النسل تربية منظفة.
والإمام أبو حنيفة قال: إن عقد الزواج إذا كان محدودا بمدة معينة عقد صحيح ولكن يلغى التحديد ولا يلتزم به، وفي "المغنى " لابن قدامة الحنبلى:
لو تزوجها بغير شرط المدة إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح، وذلك لعدم الشرط في العقد. وإن تزوجها بشرط أن يطلقها في وقت معين لم يصح النكاح.
ومن هذا ترى أن الزواج المؤقت بمدة مشروطة صحيح عند أبي حنيفة ويقع مؤبدا وبلغى الشرط، وصحيح عند الحنابلة إذا لم يذكر الشرط وكان في نية الزوج أن يطلقها بعد مدة، ولا ينتهي بمضي المدة كما هو في المتعة، لكن لابد فيه من الطلاق وله حكم الزواج العادي من حيث الميراث والنسب وسائر الحقوق.
وتمكن الاستفادة بهذين الرأيين، ولكن عند الضرورة القصوى، وليس في كل حال وعدمه أولى، والصبر والتفرغ للعمل أفصل(9/461)
النساء وزيارة المقابر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين في زيارة النساء للقبور، وبخاصة عند التزام جميع الآداب وعند إرادة الاتعاظ والخشوع؟
الجواب
إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولا عن زيارة القبور، قطعا لما كان عليه أهل الجاهلية من التفاخر بزيارتها لتعداد مآثر من فيها من الآباء والأجداد، الذي يشير إليه قوله تعالى {ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر} التكاثر: 1، 2، ثم رخص لهم بعد في زيارتها لتذكر الموت والاستعداد للحياة الآخرة، كما بينه الحديث الذي رواه ابن ماجه بسند صحيح "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة" وغير ذلك من الأحاديث التى رواها مسلم وغيره في هذا المقام.
وأجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، وأوجبها الظاهرية، غير أنهم قالوا: إن ذلك خاص للرجال دون النساء، لكن لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما في خروجهن من مفاسد نهاهن عنها، واستمر الإذن للرجال، وقال آخرون: إن النهى عن زيارتهن كان سابقا للنهى العام عن زيارة القبور. ثم جاء الإذن للرجال، وبقى المنع مستمرا بالنسبة لهن.
ومهما يكن من شىء فإن فى زيارتهن أقوالا تتلخص فيما بأتى:
1 -التحريم مطلقا، سواء كانت هناك فتنة أو مفسدة عند زيارتهن أم لا، ودليله حديث "لعن اللَّه زوارات القبور" رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح، ولكن القرطبى قال يحتمل أن الحرمة منصبة على الكثرة، أخذا من التعبير بلفظ "زوارات " وهو صيغة مبالغة.
2 - التحريم عند خوف الفتنة أو المفسدة. وبهذا يحرم على الشابات زيارة القبور وكذلك على غيرهن إذا كن بزينة أو شيء يلفت إليهن الأنظار، وتجوز للعجائز اللاتي لا يفتتن بهن، إلا إذا صاحبها شيء محرم كالنياحة وغيرها مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
والنساء لا يستطعن التخلص بسهولة من هذه العادات الشنيعة، ففي حديث أم عطية: أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح، فما وفت امرأة منا غير خمس نسوة ... رواه البخاري. ولما بكى نساء جعفر ابن أبي طالب عليه لما استشهد أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أن ينهاهن فلم يطعن الرجل مرتين، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحثو في أفواههن التراب، رواه البخاري.
3 - الكراهة، ودليلها القياس على اتباع الجنائز، الذي ورد فيه حديث أم عطية أيضًا: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا. رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
4 - الإباحة، ودليلها عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة عندما ذهبت إلى البقيع -وهو مقبرة المسلمين -وعلمها ما تقوله عند زيارة القبور وهو"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم اللَّه المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون " رواه مسلم:
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة تبكى عند القبر فأمرها بالتقوى والصبر، ونهاها عن البكاء لأنه سمع منها ما يكره من نوح وغيره، ولم ينهها عن أصل الزيارة.
5 - الاستحباب، كما هي مستحبة للرجال، ودليلها عموم الإذن بالزيارة في قوله صلى الله عليه وسلم "فزروها".
والآراء الثلاثة الأخيرة محلها عند أمن الفتنة والمفسدة، وإلا حرمت الزيارة، وبهذا يعلم جواب السؤال، وإن كنت أميل إلى كراهة زيارتهن على الرغم من عدم وجود محرم محظور، كالسفور والنياحة واللطم والجلوس على القبر والمبيت عنده وما إلى ذلك، فإن الأولى للمرأة أن تستقر في بينها لا تغادره إلا لضرورة أو حاجة ملحة، صيانة لها من الفساد(9/462)
تفويض الزوجة فى الطلاق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للزوج أن يفوض زوجته في تطليق نفسها إذا دعت الظروف بمعنى أن تكون العصمة فى يدها؟
الجواب
يجوز للزوج أن يفوض زوجته في تطليق نفسها منه، وذلك أخذا من تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته كما جاء في قوله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن اللَّه أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا} الأحزاب 28، 29.
إلا أن هذا التفويض يتقيد بمجلس علمها فقط، فلا يجوز أن تطلق نفسها في غير هذا المجلس إلا إذا كانت صيغة التفويض عامة، كما إذا قال لها: طلقى نفسك متى شئت، أو في أي وقت شئت، فإنها لا تتقيد بالمجلس، وكذلك إذا كان التفويض مقيدا بزمن، كما إذا قال لها، طلقي نفسك في مدة ثلاثة أشهر، فإنها تتقيد بهذا الزمن، وتفويضها طلاق نفسها إذا دعت إليه الضرورة ليس نصا في التفويض العام. ولهذا نرى أن يستبدل بها لفظ عام كقوله "متى شئت " حتى تستطيع أن تطلق نفسها في الوقت الذي تراه.
ويجوز أن يكون هذا التفويض قبل العقد ومع العقد، فإذا قال الرجل لامرأة:
إن تزوجتك فأمرك بيدك تطلقين نفسك في أي وقت، ثم تزوجها صح هذا التفويض ولا يتقيد بزمن لعمومه وكذلك إذا قالت امرأة لرجل: زوجتك نفسي على أن يكون أمر الطلاق بيدي أطلق نفسي متى شئت فقال: قبلت، تم عقد الزواج وصح التفويض ولا يتقيد بزمن لعمومه أيضًا. وإذا قال الزوج لزوجته: طلقى نفسك كلما شئت فليس لها أن تطلق نفسها ثلاثًا جملة واحدة، بل لها تفريق الثلاث، لأن القانون المصري رقم 25 لسنه 1929 منع الرجل من إيقاع الثلاث دفعة واحدة. فلا يستطيع أن يملك غيره مالا يملكه هو، وإن صح ذلك عند الحنفية كما هو مشهور مذهبهم.
هذا، وتفويض المرأة بالطلاق، أو جعل العصمة بيدها، لا يمنع الزوج من طلاقها متى شاء(9/463)
إكراه البنت على الزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى بعض البلاد يزوج الأب بنته دون أن يأخذ رأيها، وقد تكون كارهة لهذا الزواج فهل هذا الزواج صحيح؟
الجواب
روى البخارى أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة- وكانت ثيبا - فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها. وفي السنن أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهى كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم يعني جعل لها الخيار في إمضاء هذا الزواج وفي فسخه، وروى أحمد والنسائي وابن ماجه أن رجلاً زوج بنته بغير استشارتها، فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إن أبى زوجنى من ابن أخيه ليرفع بى خسيسته. فجعل الأمر إليها، فلما رأت ذلك قالت: أجزت ما صنع أبى، ولكنى أردت أن أعلم النساء أنه ليس للأباء من الأمر شيء.
وروى عبد الرزاق أن امرأة قتل عنها زوجها يوم أحد ولها منه ولد، فخطبها عم ولدها ورجل آخر، فزوجها أبوها من هذا الرجل، فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تريده، وتريد عم ولدها لأنه أخذ منها ولدها، فقال لأبيها "أنت الذي لا نكاح لك اذهبي فانكحى عم ولدك " وذكر الحارث في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل زوج بنته دون أن يستشيرها "أشيروا على النساء في أنفسهن " إن استبداد الولى باختيار الزوج وانفراده بالعقد هو جناية على المرأة واستهانة بعواطفها وإحساساتها.
وكان العرب يستثيرون بناتهم في الزواج قبل الإسلام، فجاء الإسلام واحترام رأيها كجزء من تكريمه لها.
وقد جاءت في ذلك عدة أحاديث، منها ما رواه مسلم "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن " قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال "أن تسكت " وفي رواية "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها" الأيم في اللغة من لا زوج لها، ثيبا كانت أم بكرا، صغيرة أم كبيرة. واختلف العلماء في المراد بها فى هذا الحديث، فالجمهور على أن المراد بها الثيب، أي التي سبق لها زواج، وقال الكوفيون: هي كل امرأة لا زوج لها، بكرا كانت أم ثيبا، كما هو مقتضاه في اللغة، وقالوا: كل امرأة بلغت فهى أحق بنفسها من وليها، وعقدها على نفسها النكاح صحيح، وقال الأوزاعى وأبو يوسف ومحمد: تتوقف صحة النكاح على إجازة الولى.
واختلفوا أيضًا في عبارة "أحق بنفسها من وليها" هل هى أحق بالإذن فقط، أم بالإذن والعقد على نفسها؟ فعند الجمهور: هي أحق بالإذن فقط، وأما الذي يتولى العقد فهو وليها، وقال الكوفيون: هي أحق بالإذن والعقد، وقول الجمهور أصح لحديث "لا نكاح إلا بولى". وقد تبين من الأحاديث وجوب احترام رأى المرأة عند الزواج، ولابد من موافقتها عليه إما بالقول من الثيب وإما بالسكوت من البكر، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إلى من زوجت بغير رضاها، إن شاءت أمضت وإن شاءت رفضت.
قال الشافعي وأصحابه: يستحب ألا يزوج الأب والجد البكر حتى تبلغ ويستأذنها، لئلا يوقعها في أسر الزوج وهي كارهة، ما لم تكن هناك مصلحة تفوت لو لم يزوجها، وهو أدرى بها منها، كما زوج أبو بكر رضي الله عنه عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم " وهي صغيرة.
وبالجملة لابد من احترام رأى المرأة وتعاون ولى أمرها معها في اختيار زوجها، فالرجل له من عقله الراجح وتجاربه ما يوجه به عاطفة المرأة، وبخاصة إذا كانت نيته الوجهة الصالحة، فالزواج يحتاج إلى العقل والعاطفة معا، كما يقول بعض الكتاب: إن المرأة في عاطفتها القوية كحامض الكبريتيك المركز، فيه خطر كبير، والولى كالماء المخفف لتركيزه، فيجعله صالحًا لتوليد الكهرباء بين القطبين، وينتفع بهذه القوة انتفاعا كبيرا "انظر موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام "(9/464)
الذبح على رجل العروس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من عادة بعض الناس ذبح الأغنام على أساس الدار الجديدة، وعلى رجل العروس حينما تصل إلى بيت زوجها، فهل هذا من الدين؟
الجواب
إذا كان الذبح شكرًا للَّه على النعمة في بناء البيت لا أكثر فهذا لا بأس به، وإن كان الذبح عند زفاف العروس شكرًا لله على النعمة لإطعام الفقراء فهو كالوليمة المسنونة فى الزواج، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه، وأمر الصحابة بهذه السنة، فينبغي إذا قدمت هذه الأشياء أن تكون بنية طيبة، وألا تلتزم فيها عادة قديمة لا أصل لها في الدين كالذبح على رجل العروس، فإن كانت بنية غير هذه فلا يوافق عليها الدين "انظر الوليمة في الجزء الأول من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام "(9/465)
المرأة وزوج بنتها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز شرعا لزوج بنتى أن يدخل بيتى ويجلس مع أمها في حالة حضورى أو غيابى عن البيت، ولوجود خلاف شديد ونزاع مستمر داخل الأسرة بسبب هذا الموضوع؟
الجواب
وجود المرأة مع زوج ابنتها في مكان خال بدون وجود محرم أو طرف ثالث - أمر جائز شرعا، لأنه من المحارم، أى من يحرم التناكح بينهما، فهى بمنزلة أمه، وهو بمنزلة ابنها، قال تعالى في المحرمات من النساء {وأمهات نسائكم} النساء: 23، والحديث الشريف يقول "لايبيتن رجل عند امرأه ثيب إلا أن يكون ناكحا - أى زوجا - أو ذا حرم " رواه مسلم ويقول "لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذى محرم " رواه البخاري ومسلم.
فإذا أحس الزوج أن هناك ريبة في هذه الخلوة كان على المرأة أن تستجيب لرغبة زوجها، وتمتنع عن الخلوة مع زوج بنتها على الرغم من أن ذلك حلال، وبخاصة إذا كان في المرأة ما يغرى، وكان زوج بنتها شابا لا يستطيع التحكم فى نفسه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة: إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله " رواه ابن ماجه ويقول "ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا، رجل أمَّ قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وأخوان متصارمان " رواه ابن ماجه وابن حبان والترمذي وحسنه(9/466)
شبهة فى المتعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى قوله تعالى {نساوكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} البقرة:
223؟
الجواب
فهم بعض الناس من هذه الآية أن للزوج أن يباشر زوجته في غير المحل الطبيعي للمباشرة، اعتمادا على ما يفهمه من تعبير"أنى شئتم " وعلى ما نقل خطأ عن بعض الأئمة، وقد جاء في البخارى ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فأنزل اللَّه قوله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} وفى لفظ مسلم "إن شاء مُجبيةً وإن شاء غير مجبية -والمجبية المنكبة على وجهها- غير أن ذلك في صمام واحد " والصمام الواحد هو المحل الطبيعي، وهو موضع الحرث والولد.
وفي المسند عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت، قال "وما أهلكك "؟ قال: حولت رحلى البارحة. فلم يرد عليه شيئا، فأوحى الله إليه {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} أقبل وأدبر واتق الحيضة والدبر.
وذكر الشافعي: بسند وثق رجاله أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال "حلال " فلما ولى دعاه فقال "كيف قلت: في أي الحرثتين أو فى أى الحرزتين أو في أى الخصفتين؟ أمن دبرها في قبلها فنعم، أم من دبرها في دبرها فلا، إن اللَّه لا يستحى من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " وفي بعض الروايات التعيير بالحشوش والمحاش.
إن لفظ "أنَّى" في الآية يطلق على معان ثلاثة، أين ومن أين وكيف.
والمعنى الثالث هو المقصود منها، فالتعميم في الحال لا في المكان كما بينته السنة الصحيحة، والحرث هو الذي ينبت الزرع وهو الولد.
وقال مجاهد: سألت ابن عباس عن هذه الآية فقال: تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها، يعني فى الحيض، لأن هذه الآية متصلة بآية الحيض.
ومن هنا يعلم خطأ من نسب القول إلى الإتيان في غير ذلك إلى بعض الأئمة فهو مجمع على حرمته، وتفصيله في شرح الزبيدى للإحياء "ج 5 ص 375" وزاد المعاد لابن القيم وخلاصته فى الجزء الثالث من موسوعة: الأسرة تحت رعاية الإسلام(9/467)
زينة المعتدة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الزينة الممنوعة على الزوجة التى توفى عنها زوجها؟
الجواب
الزوجة التى توفى عنها زوجها يجب عليها أن تعتد، أي تمكث بلا زواج حتى تضع حملها إن كانت حاملا، أو يمر عليها أربعة أشهر وعشرة أيام إن كانت غير حامل، كما جاء في قوله تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} البقرة: 234، وقوله {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} الطلاق: 4.
ويحرم عليها أثناء العدة أمور تتنافى مع الحزن والأسف لفراق الزوج، والوفاء لحق الحياة الزوجية، والمساعدة على عدم طمع أحد في زواجها حتى تنتهي عدتها.
فيحرم عليها التزين بأية زينة تتنافى مع هذه الحكمة، وكانت للعرب في الجاهلية مظاهر استمر النساء عليها حتى جاء الإسلام فأقر بعضها وأبطل الآخر. وليس هناك ما يمنع من القياس على ما كان عند الجاهلية مما لم يبطله الإسلام عند عدم ورود النص فيه.
فالطيب بجميع أنواعه حرام، وكذلك زينة بدنها من خضاب ومساحيق وكحل وما إلى ذلك، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على النهى عن الخضاب، للتنبيه على ما شاكله أو كان أعظم منه منافاة لمقصود الإحداد، وكل ذلك ممنوع ليلاً ونهارا، ففى سنن أبي داود عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا تكتحل ولا تختضب ".
لكن لو احتيج لشيء من ذلك على سبيل التداوى فلا مانع منه، ويرخص فيه بقدر الضرورة، بدليل ما ورد في الصحيحين أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب " [وهو برود من اليمن يعصب غزلها ثم يصبغ ثم ينسج مصبوغا فيخرج ملونا-وقيل هو النبت الذي يصبغ به لا الزينة] "ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت - أى من الحيض -في نبذة من قسط أو أظفار" نوعان من البخور.
وهذا القول هو ما عليه جمهور الفقهاء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعي وغيرهم. ويقاس عليه كل ما لم يقصد به الزينة كالقطرة السائلة والجافة والأصباغ الطبية التى توضع على الجروح وغيرها، ولا تمنع المحدة من تقليم الأظفار، وإزالة الشعر المندوب إزالته وكل ما يقصد به النظافة لا الزينة.
وكذلك يحرم على المحدة لبس الثياب التي يقصد منها الزينة أيا كان لونها أو نوعها، والعرف يختلف في تقدير الزينة من هذه الملابس، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ما كان نساء العرب قد اعتدنه، فنهى عن الثوب المصبوغ للزينة.
وكذلك يحرم عليها لبس الحلى بجميع أنواعه، فهو للزينة قطعا، وقد صح عن الصحابة نهيهم عن ذلك كابن عمر وابن عباس وأم سلمة وعائشة رضى الله عن الجميع(9/468)
الولد للفراش
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تزوج رجل بفتاة وبعد ثلاثة أشهر اكتشف خيانتها فطلقها، وبعد ثلاثة أشهر تزوجت برجل آخر وبعد ستة اشهر وضعت طفلا وتوفيت على الأثر فلمن ينسب هذا الطفل؟
الجواب
ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر "رواه البخاري ومسلم، وقد ولد هذا الطفل على فراش الزوجية الأخيرة.
فهو ينسب إلى هذا الأب الثاني، ومدة الحمل هي من ستة أشهر من حين اجتماع الزوجين أو من حين العقد على خلاف فى ذلك. فقد روى أن رجلا تزوج امرأة فولدت لستة أشهر، فهمَّ عثمان رضي الله عنه برجمها، فقال ابن عباس: لو خاصمتكم بكتاب اللَّه لخصمتكم قال تعالى {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وقال {وفصاله في عامين} فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر وقد درأ عثمان الحد، واشتهر ذلك بين الصحابة ولم ينكره أحد، فلو ولدته قبل ستة أشهر من الدخول أو الخلوة فلا يثبت نسبه إلا إذا ادعاه الزوج.
أما العقاب فأمره متروك إلى اللَّه، لأنه هو الذي يعلم السر كله فى هذا الموضوع، وليسن لنا إلا الحكم بالظاهر، حفاظا على الأعراض والأنساب ومنعا للفتنة(9/469)
بيت الطاعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى إلزام القضاء للزوجة العاصية بالدخول في بيت الطاعة، وكيف تدخل الزوجة التي لا تطيق العيش مع زوجها في هذه الطاعة بإرغامها بالحكم القضائي، وهل وردت هذه الطاعة فى القرآن أو السنة؟
الجواب
من الأوضاع الشاذة التى تضطر الزوجة إليها من أجل الحفاظ على حق النفقة، وبخاصة إذا كان عن طريق التحاكم إلى القضاء- ما يسمى ببيت الطاعة.
فالرجل يعمد إلى مسكن لا يرضى أن يسكنه هو، بل ولا يرضى لابنته أو أخته أن تسكنه، ويقدم إليها من الطعام والشراب في هذا السجن ما يتنافى مع الكرامة الإنسانية، وذلك كله من أجل التضييق عليها حتى تفتدى نفسها منه ليطلقها، وقد أمر الله سبحانه بإحسان عشرتها في المسكن والنفقة وحرم الإضرار بها لتطلب الطلاق منه فقال {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} الطلاق: 6، إن هذه المعاملة تتنافى مع الوصية بالإحسان إليهن ومعاشرتهن بالمعروف. وقد يحمل عناد المرأة على عدم تمكن زوجها من الوصول إلى غرضه.
وأقول: إذا عرف كل من الزوجين حقه وواجبه نحو الآخر وجب التنفيذ بدقة وإخلاص، فإذا ساء التفاهم بينهما أوصيهما بقول الله تعالى {فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا} البقرة: 231.
وإذا فشل التحكيم في التوفيق فليتفرقا ليغنى اللَّه كلا من سعته ولا داعى للعناد الذي يجر إلى ما لا يرضاه اللَّه، وأذكَرهما بالحديث الشريف "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وليحذر كل منهما أن ينعكس خلافهما على أولادهما، وينتقم اللَّه من الظالم في شخص ولده أو بنته عند الزواج(9/470)
عدة من استؤصل رحمها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف تعتد المرأة عدة الطلاق لو استؤصل رحمها ولم تعد تحيض ولا تحمل؟
الجواب
المرأة المطلقة إما حامل وإما غير حامل، وغير الحامل إما أن تحيض أو لا تحيض، والتى لا تحيض إما أن الحيض لم يأتها بعد لصغرها، وإما أنه انقطع بعد أن كان يأتيها لكبر سنها مثلا، ولكل حكمه فى العدة:
فالحامل عدتها تنتهى بوضع الحمل، كما قال تعالى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} الطلاق: 4، وغير الحامل التى تحيض عدتها بالأقراء، وهى الأطهار أو الحيضات، كما قال تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} البقرة: 288، والتى لم يأتها الحيض لصغرها عدتها بالأشهر وهى ثلاثة قمرية، ومثلها التى انقطع حيضها لليأس منه بكبر سنها، كما قال تعالى {واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائى لم يحضن} الطلاق: 4، واليأس إما طبيعى أو عارض ومن استؤصل رحمها ولم تعد تحيض بعد، قد عرض لها اليأس فتعتد بثلاثة أشهر.
لأنها يئست من الحيض.
هذا، والأئمة الذين فسروا القرء بأنه الطهر هم مالك والشافعى وأحمد فى رواية، والذين فسروه بالحيض هم أبو حنيفة وأصحابه وأحمد فى رواية، وقانون الأحوال الشخصية فى مصر أخذ برأى الحنفية فى القرء وهو الحيض(9/471)
التعامل مع الحائض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
شاب كان فى سفر طويل ثم حضر فى إجازة قصيرة فوجد زوجته حائضا أو نفساء ويريد أن يتمتع بها فكيف يتصرف؟
الجواب
يقول اللَّه سبحانه {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم اللَّه إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} البقرة: 222.
تنهى الآية عن قربان الحائض حتى تطهر والطهر يكون بالغسل عند جمهور للعلماء، فيحرم الجماع قبله، وقال أبو حنيفة: يجوز الجماع بمجرد انقطاع الدم ولو قبل الغسل إذا كان الانقطاع لأكثر مدة الحيض، فإن انقطع قبل ذلك حرم إلا بعد أن تغتسل أو تتيمم أو يمضى عليها وقت صلاة، والقربان يصدق بالجماع وبغيره، أما الجماع فهو حرام باتفاق العلماء، ويؤكد حرمته ما نصت عليه الآية وما اقره المختصون من الأذى.
وأما غير الجماع فقد ورد فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن فى البيوت فسأل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله هذه الآية وقال صلى الله عليه وسلم " اصنعوا كل شىء إلا النكاح " وكل شىء ما عدا النكاح جائز فيما عدا ما بين السرة والركبة، كالقبلة وغيرها، تقول السيدة عائشة رضى الله عنها: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبى صلى الله عليه وسلم-أى تناوله الإناء - فيضع فاه على موضع فمى فيشرب، وأتعرَّق العَرْق -أى العظم الذى عليه بقية من لحم - وأنا حائض ثم أناوله النبى صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على فمى رواه مسلم، وتقول أم المؤمنين ميمونة رضى اللَّه عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع معى وأنا حائض، وبينى وبينه ثوب، رواه مسلم أيضا، كما روى مثل هذا عن أم سلمة، قال النووى تعليقا على ذلك: قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض ولا قبلتها ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة ولحت الركبة، ولا يكره وضع يدها فى شيء من المائعات، ولا يكره غسل رأس زوجها أو غيره من محارمها وترجيله، ولا يكره طبخها وعجنها وغير ذلك من الصنائع، وسؤرها-بقية شربها - وعرقها طاهران، وكل هذا متفق عليه.
أما الاستمتاع بما بين السرة والركبة من غير جماع فالآراء فيه مختلفة، فأبو حنيفة ومالك والشافعى يحرمونه، بدليل ما سبق عن ميمونة وأم سلمة من اضطجاع الرسول معها مع وجود ثوب حائل كما روى البخارى عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر فأتزر فيباشرنى وأنا حائض.
وروى أحمد وغيره عن عمر أنه سأل الرسول عما يحل للرجل من امرأته وهى حائض فقال " له ما فوق الإزار ".
أما أحمد بن حنبل فقد أباح الاستمتاع بما بين السرة والركبة، بناء، على فهمه من اعتزال النساء فى المحيض أنه نهى عن موضع الحيض وهو الفرج لا غير، وهو احتمال لا يدل على الحرمة فى غيره، مع عموم قوله صلى الله عليه وسلم " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وقال بقول أحمد الثورى وإسحاق، ومن قبلهم عطاء وعكرمة والشعبى، ورأى الجمهور أقوى.
وهنا يثار سؤال، هل تجب كفارة على من وطئ زوجته وهى حائض؟ هناك رأيان، رأى يقول بوجوب كفارة، بناء على حديث رواه أبو داود والنسائى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى ذلك "يتصدق بدينار أو نصف دينار " ورأى لا يقول بذلك، بناء على حديث رواه ابن ماجه " من أتى كاهنا فصدقه بما قال، أو أتى امرأة فى دبرها، أو أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد " صلى الله عليه وسلم، حيث لم يذكر الحديث كفارة، ولأنه وطء نهى عنه لأجل الأذى فأشبه الوطء فى الدبر.
وعلى هذا الرأى أبو حنيفة ومالك وأكثر أهل العلم، والشافعى له قولان فى ذلك.
وعلى القول بوجوب الكفارة هناك روايتان فى مقدارها، رواية تقول:
إنها دينار أو نصف دينار، وأخرى تقول: إن كان الدم أحمر أو فى أوله فدينار وإن كان أصفر أو فى آخره فنصف دينار.
ولو كان من فعل ذلك جاهلا بالحكم أو ناسيا هل تجب عليه؟ قيل تجب وذلك لعموم الخبر، وقيل لا تجب، لحديث " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " رواه ابن ماجه.
والمرأة المختارة المطاوعة قيل تجب عليها كفارة، وقيل لا تجب لعدم تناول النص لها(9/472)
انقطاع الدم ثم عودته
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن الحائض أو النفساء ينقطع دمها بعض الأيام ثم يعود، فهل تحسب أيام الانقطاع طهرا أم حيضا ونفاسا؟
الجواب
أقل مدة الحيض مختلف فيها بين لحظة ويوم وليلة وثلاثة أيام بلياليها، وأكثرها عشرة أيام عند الحنفية وخمسة عشر يوما عند غيرهم.
وغالبه ستة أو سبعة، وأقل مد النفاس لحظة وأكثره عند بعضهم ستون يوما وعند البعض الآخر أربعون وغالبه أربعون يوما.
وعند انقطاع الدم فى أثناء الحيض أو النفاس هناك قولان للعلماء، قول يطلق عليه اسم السَّحْب، أى سحب حكم الحيض والنفاس على مدة الانقطاع، وهو قول الحنفية، بصرف النظر عن قصر مدة الانقطاع وطولها، وقول يطلق عليه اسم اللقط أى لقط أيام الطهر وعدم سحب حكم الحيض والنفاس عليها، وهو قول الشافعية والمالكية إذا بلغت مدة الانقطاع خمسة عشر يوما أو زادت، فتكون طهرا، وما قبلها نفاس وما بعدها حيض، فإن قلت مدة الانقطاع عن ذلك انسحب عليها حكم الحيض والنفاس كما يقول الحنفية، والانقطاع فى النفاس عند أحمد وأكثره أربعون يوما يعتبر طهرا.
وإن تجاوز الحيض أكثره أو النفاس أكثره كان استحاضة لا يجرى عليها حكم الحيض والنفاس.
وإن تجاوز الحيض ما تعودته المرأة ولم يتجاوز أكثر مدته، كأن كانت عادتها ستة أيام فامتدت إلى ثمانية مثلا عند أبى حنيفة، أو إلى ثلاثة عشر يوما عند غيره وكذلك إذا تجاوز النفاس ما تعودته النفساء ولم يتجاوز أكثر مدته كان ذلك كله نفاسا(9/473)
الولى فى الزواج
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى المرأة التى تزوج نفسها دون وليها؟
الجواب
مما درج عليه الناس من قديم الزمان أن تكون هناك كفاءة بين الزوجين، ومن هنا وجد الاختيار فى قبول أحد الطرفين للآخر عند الخطبة، والمقياس الأول للكفاءة هو الدين الذى يليه فى المرتبة الأخلاق، وما بعدها يترك للعوامل التى تختلف زمانا ومكانا.
والذى يزن ذلك هو العاقل الحكيم الذى يزن الأمور بميزان العقل البعيد عن حدة العواطف، وذلك أحرى بالرجال إلى حد كبير، دون إغفال للناحية العاطفية عند المرأة، فلابد من إشراكها فى الاختيار أيضا، وبهذا الاشتراك يوجد نوع من التوازن فى تقدير كفاءة الزوج.
وللعلماء فى تقدير الكفاءة وجهان: أحدهما أنها شرط لصحة النكاح متى فقدت بطل العقد، وهو قول الشافعية وأحد الروايتين عن أحمد، وبه قال أبو حنيفة إذا زوجت العاقلة نفسها ولها ولى عاصب لم يرض بالزواج قبل العقد، والوجه الثانى أنها شرط للزوم النكاح، فيصح العقد بدونها ويثبت الخيار، وهو الرواية الثانية عن أحمد، والكفاءة بهذا حق للأولياء كما أنها حق للمرأة.
ومن هنا شرعت استشارة البنت، واحترام رأيها وجاءت فى ذلك نصوص منها: ما رواه مسلم "لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر ولا تنكح البكر حتى تُستأذن " قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال "أن تسكت " وفى رواية "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تُستأمر وأذنها سكوتها" ومما يدل على تأكدها حديث البخارى أن خنساء بنت خدام زوَّجها أبوها وهى كارهة وكانت ثيبا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحها، وفى رواية أحمد والنسائى وابن ماجه أن خنساء أو غيرها قالت للرسول -إن أبى زوجنى من ابن أخيه ليرفع بى خسيسته، فجعل النبى الأمر إليها -أى الخيار-فلما رأت ذلك قالت: أجزت ما صنع أبى ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس للآباء من الأمر شيء. وكانت الأََمَة "بريرة " متزوجة من العبد "مغيث " فلما عتقت لم ترض أن تبقى معه لعدم التكافؤ، ولم ترض بشفاعة النبى صلى الله عليه وسلم حين تدخل بينهما، وفى مصنف عبد الرزاق أن امرأة مات زوجها فى غزوة أحد وترك لها ولدا، فخطبها أخوه فأراد أبوها أن يزوجها رجلا غيره، ولما تم الزواج شكت للنبى أن عم ولدها أخذه منها لما تزوجت غيره، فقال لأبيها "أنت الذى لا نكاح لك، اذهبى فتزوجى عم ولدك ".
هذا كله فى المشورة واحترام رأى المرأة عند الزواج، لكن هل لها أن تباشر العقد بنفسها أم الذى يباشر هو ولى أمرها؟ يرى جمهور الفقهاء "مالك والشافعى وأحمد" أن المرأة لا تباشر العقد بنفسها سواء أكانت بكرا أو ثيبا، لأن العقد هو نهاية المطاف من التشاور، وولى الأمر أرجح رأيا كما تقدم وجاء فى ذلك حديث رواه أصحاب السنن "لا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هى التى تزوج نفسها" وحديث آخر من روايتهم "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل " ثلاث مرات. كما ورد حديث "لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل " رواه ابن حبان. يقول النووى فى شرح صحيح مسلم، إن العلماء اختلفوا فى اشتراط الولى فى صحة النكاح، فقال مالك والشافعى: يشترط ولا يصح نكاح إلا بولى وقال أبو حنيفة: لا يشترط فى الثيب ولا فى البكر البالغة، بل لها أن تزوج نفسها بغير أذن وليها، وقال أبو ثور: يجوز أن تزوج نفسها بإذن وليها ولا يجوز بغير إذنه، وقال داود: يشترط الولى فى تزويج البكر دون الثيب اهـ.
هذا، وإذا كان القانون المصرى يأخذ برأى أبى حنيفة للتيسير، فإن المرأة المصرية التى تريد أن تثبت وجودها وتتمتع بحريتها واستقلالها استغلته استغلالا سيئا، ورأينا بنات يخرجن عن طاعة أوليائهن ويتزوجن من يُردن، وتعرضن بذلك إلى أخطار جسيمة. وأرى العودة إلى رأى الجمهور فهو أقوى وأحكم، والظروف الحاضرة ترجح ذلك، وقد رأى عمر رضى الله عنه إيقاع الطلاق ثلاثا بلفظ واحد، لسوء استغلال الرجال لما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من إيقاعه مرة واحدة، وإذا وجدت المصلحة فثمَّ شرع الله(9/474)