حيوانات نطقت للنبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين في الأخبار التي تقول إن بعض الحيوانات نطقت للنبى هـ صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
من الحيوانات التي جاءت الأخبار بأنها نطقت للنبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
1- الجمل: جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، وفي مستدرك الحاكم عن عبد اللَّه بن جعفر أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل حائطا- حديقة - لبعض الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذرفت في عيناه، فمسح النبي سنامه، وفي رواية مسح ذفراه - والذفرى بالألف المقصورة، هو الموضع الذي يعرق منه البعير عند أذنه - فسكن، قال النبي لصاحب الجمل " إنه شكا إلىَّ أنك تجيعه وتدئبه " أي تتعبه في العمل.
ورواه أحمد بإسناد جيد عن أنس، ورواه أحمد والحاكم والبيهقى بسند صحيح من طريق يعلى بن مرة الثقفي، كما روى مثله عن طريق جابر بسند ضعيف.
وروى الطبرانى عن جابر أن الجمل رغا على هامة النبي في غزوة ذات الرقاع وقال " إن هذا الجمل يستعديني على صاحبه " أي يشكو لي صاحبه، وروى الطبرانى في كتاب الدعوات عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة، فجاء أعرابي ومعه جمل، وجاء رجل كأنه حرسى، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي سرق بعيري هذا، فرغا البعير وحنَّ ساعة. فأنصت النبى، فلما فرغ قال للحرسي "انصرف فإن البعير يشهد عليك أنك كاذب " ورواها أيضًا عن عكرمة بسند ضعيف، كما روى ابن ماجه آن بعيرًا رغا ثلاث مرات على هامة النبيِّ، وكان النبي يؤمن في كل منها، ولما سئل عن ذلك قال "إن البعير كان يدعو له ".
من هذا يعلم أن الحديث لم يخرج في الصحيحين: البخاري ومسلم، وحكم بعضهم بصحة رواية أحمد وغيره، كما حكموا على الروايات للحادثة بالضعف في حوادث متشابهة، ومهما يكن من شيء فليس في هذه الروايات أن الجمل كلم النبي صلى الله عليه وسلم باللغة التي يفهمها الناس، وكل ما كان من الجمل هو الرغاء أي صوته العادي، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم منه بفراسته أو بالإلهام من الله أنه يشكو وصدق على ذلك صاحب الجمل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجمل الآخر كان يدعو له.
وليس هناك ما يمنع عقلاً ولا شرعًا أن يلهم الله نبيه معرفة لغة الجمل ومقصده من رغائه، فقد ثبت أن داود وسليمان عليهما السلام كانا يعرفان منطق الطير، قال تعالى {وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علِّمنا منطق الطير} النمل: 16، وقال {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكًا من قولها} النمل: 18، 19، وفى شأن الهدهد قال اللَّه {فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين} إلى أن قال {قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين} النمل: 22، 27.
ومع أن معرفة النبي للغة الجمل وقصده من رغائه غير ممنوعة عقلاً ولا شرعًا فإن الطرق التي رويت بها هذه الحوادث بعضها صحيح وبعضها ضعيف.
ومثل هذا لا تثبت به العقائد على ما قرره العلماء.
وعدم تصديقها لا يخرج المؤمن من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر.
2 - الحمار - ذكر ابن عساكر في تاريخه بسنده إلى أبي منصور:
لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أصاب حمارا أسود، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما اسمك "؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حمار لا يركبها إلا نبي، وأخيرًا قال له النبي صلى الله عليه وسلم "أنت يعفور" وكان يركبه في حاجته، ويبعثه خلف من شاء من أصحابه فيأتي الباب فيقرعه برأسه فيعلم صاحب البيت أن النبي صلى الله عليه وسلم يستدعيه فيذهب إليه.
هذا الحديث قال فيه الحافظ أبو موسى المدينى: حديث منكر جدًا، إسنادًا ومتنا، لا يحل لأحد أن ينويه إلا مع كلامي عليه. ورواه أبو نعيم بمثله عن معاذ بن جبل، وهو مطعون فيه، وأخرجه ابن حبان في الضعفاء وقال: لا أصل له، وليس سنده بشيء وذكره ابن الجوزى في الموضوعات، وقال ابن حجر: إنه شديد الضعف.
3 - الجدى - قال إنه شهد بأن الرسول مرسل لأجل أن يؤمن أبو لهب بالنبي.
4- الثعبان - وهو الذي لدغ أبا بكر في الغار يقال إنه كلم النبي، ولم أر لهذين الخبرين أثر يعتمد عليه في كتب السنة والسيرة.
5 - الضب - وحديثه مشهور على الألسنة ورواه البيهقى في أحاديث كثيرة، لكنه حديث غريب ضعيف، قال الحافظ المِزى: لا يصح إسنادا ولا متنا، وذكره القاضي عياض فى "الشفاء" مرويا عند الطبرانى.
والبيهقى وشيخه ابن عدى كلهم عن ابن عمر، أن أعرابيًا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ضب وقال لا أومن بك حتى يؤمن هذا الضب، فناداه الرسول وسأله عن الله الذي يعبده وعن رسوله، وهو مطعون فيه بالضعف، وقيل: إنه موضوع، واختار القسطلانى أنه ضعيف لا موضوع.
6 -الغزالة- روى حديثها البيهقى من طرق، وضعفه جماعة من الأئمة، لكن له طرق يقوى بعضها بعضا فيكون حسنا لغيره، وذكره القاضي عياض في الشفاء بلا سند، وأبو نعيم بإسناد فيه مجاهيل وملخص الحادثه أن الرسول كان في صحراء فسمع هتاف الظبية التي صادها أعرابي وقيدها، وطلبت أن يفكها حتى ترضع أولادها وتعود فكان ذلك فأطلقها الأعرابي ونطقت بالشهادتين. ذكر السخاوى أن ابن كثير قال: لا أصل له، ومن نسبه إلى النبي فقد كذب.
7- الذئب - وقد شهد للرسول بالرسالة، وحكى قصته أبو هريرة وأنس بن مالك وابن عمر وأبو سعيد الخدرى، ورواها أحمد بإسناد جيد، والترمذى والحاكم وصححا الحديث. جاء فيها أن ذئبًا أخذ شاة فانتزعها الراعي منه فقال الذئب له: ألا تتقي اللَّه، تنزع رزقًا ساقه اللَّه لي، فعجب الراعي من كلام الذئب، فأخبره بأن الأعجب من ذلك أنك لا تؤمن بالرسول الذي ظهر في يثرب فذهب إليه الراعي وأسلم، وأمره الرسول بإعلان ما حدث من الذئب، ثم قال الرسول "صدق والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يخرج الرجل من أهله فيخبره نعله أو سوطه أو عصاه بما أحدث أهله من بعله ".
وروى قصة الذئب البخاري في تاريخه وأبو نعيم في الدلائل، وإسناده ليس بالقوى ورواها البيهقى في الدلائل وسعيد بن منصور في سننه كما رواها البغوى وأحمد والبزار وغيرهما بسند صحيح عن أبي هريرة.
ذكر القسطلانى في المواهب وذكر الزرقانى في شرحها هذه الحوادث بتوضيح في الجزء الخامس من صفحة 145 - 151، وليس في أدلتها ما يوجب علينا تصديقها كعقيدة، وإن كان خرق العادات للأنبياء والأولياء جائزًا لكن لا يجوز أن ننسب إلى الرسول إلا ما وثقنا من صدقه حتى لا نقع تحت طائلة حديثه "من كذب علي متعمدًا فليتبؤا مقعده من النار" رواه البخاري ومسلم وما فصله به ربه من الأشياء الثابتة كثير، وكفى بالقراَن معجزة خالدة باقية تتحدى العالم كله إلى أن تقوم الساعة، وما حدث من الخوارق قد انتهى أثره(8/111)
حديث ثلاثة من الجفاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة من الجفاء: أن يمسح الرجل جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، وأن يبول قائما، وأن يسمع الأذان ولا يقول مثل ما يقول المؤذن " فما معنى الجفاء، وكيف يمسح الرجل جبهته قبل أن يفرغ من الصلاة، وما الضرر من هذا؟
الجواب
هذا الحديث له عدة روايات، روى إحداها البزار من طريق بريدة بدون ذكر الأذان، وجاء بدله بالنفخ فى سجوده "نيل الأوطار للشوكانى ج 1 ص 102 " ومعنى الجفاء ترك سنة النبى صلى الله عليه وسلم وهديه، وهو يدل على كراهة هذا الأمور، وقد ورد فى كل منها نصوص خاصة بها.
والنهي عن البول من قيام حكمته التحرز من تطايره وإصابه البدن أو الثوب بالنجاسة. وهو مكروه إلا لحاجة، وإجابة السامع للمؤذن لها فضل كبير، من تهاون فيها فاته ثواب عظيم، وأما مسح المصلي جبهته مما يعلق بها من تراب في السجود فقد كرهه السلف، وعللوه بأمور، منها أن يبقى أثر السجود على وجهه دليلاً على العبادة والتواضع للَّه ومنعًا من الكبر، وفي هذا رجاء قبول الصلاة، ومنها أن مسحه أثناء الصلاة فيه شغل للإنسان عن ربه وعدم تمكن من الخشوع.
وقد صحت أحاديث " النووي على مسلم ج 5ص 37 " تدل على كراهة مسح الحصا، على معنى أن يزيح المصلى الحصا من موضع سجوده ليسجد على التراب، وكان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مفروشًا به، وليس مفروشا بما نعهده اليوم. وعلل العلماء كراهته بأنه ينافى الخشوع، خصوصًا إذا كثر، ولهذا رخص في مسح حصاة واحدة تقليلاً للحركة وجاء في بعض الأحاديث "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصا" ذكره االشوكانى في نيل الأوطار "ج 2 ص 349" كما علل النهى عن مسح الحصا بأن كل حصاة تحب أن تحظى بالسجود عليها فلا تنبغى إزاحتها كما جاء مصرحا به فى بعض الروايات "المرجع السابق ص 350".
هذا وإذا كان مسح الحصا وتسوية الأرض قبل الدخول في الصلاة فلا بأس به(8/112)
حديث " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ما يردده كثير من الناس بقولهم " المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين حديث مروى عن النبى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري وسببه أنه أسر أبا عزقي الجمحى يوم بدر، فمن عليه وأطلقه، وعاهده ألا يحرض عليه ولا يهجوه، فلما لحق بقومه عادٍ إلى ما كان عليه من التحريض والهجاء، ثم أسر يوم أحد، فطلب من الرسول أن يمن عليه، فلم يستجب له وقال هذا الحديث.
ومعناه أن المؤمن ينبغي أن يكون حذرا متيقظًا لا ينخدع بظواهر الناس، وبخاصة من يخالفه في العقيدة، فالنفاق له أهله الذين يجيدونه ويغرون به الناس، قال تعالى فيهم {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول اللَّه واللَّه يعلم إنك لرسوله واللَّه يشهد إن المنافقين لكاذبون} المنافقون: 1،.
ولو فرض أن المؤمن أحسن الظن بالمنافق وخدع به مرة فلا ينبغي أن يخدع به مرة أخرى، كالذي أدخل إصبعه في جحر فلدغه ثعبان، لا ينبغي أن يدخل إصبعه فيه مرة أخرى.
وهذه دعوة للمؤمنين أن يكونوا على يقظة تامة فى تعاملهم مع الناس بوجه عام، ومع الأعداء بوجه خاص وتشتد الدعوة إلى اليقظة عند وجود الفتن والقلاقل، واللَّه يقول {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} النساء:71.
والشاعر الحكيم يقول:
ومن رعى غنما في أرض مسبعة * ونام عنها تولى رعيها الأسد(8/113)
حديث " الإناء يستغفر للاعقه "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "الإناء يستغفر للاعقه " وكيف يصح ذلك مع أنه من مستهجنات العصر؟
الجواب
1 -لعق الإناء جاء فيه حديث مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: " إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة " وجاء في رواية له عن أنس: وأمرنا أن نسلت القصعة، والسلت -كما فسره النووى- هو المسح وتتبع ما بقى في القصعة من الطعام " ج 13 ص 207 ".
وفي هذا الإرشاد تنظيف للقصعة وعدم ضياع شيء من الطعام، فلعق الصحفة التي يأكل منها جمع لا يكون باللسان منهم جميعًا، أو من أكثر من واحد، وهو متصور في الإناء الخاص الذي يأكل منه شخص واحد، ويكون اللعق بمعنى السلت بوساطة الأصابع، فيتتبع كل آكل بإصبعه ما توارى أو بقى من جوانب الصحفة، فيأخذه ويأكله. وهذا الأمر تعودوا عليه ولا يرون فيه بأسًا، وقد تعافه بعض النفوس.
والمهم هو تنفيذ المطلوب بالوسيلة التي يتواضع عليها الناس، فلا يبقى في الإناء طعام يلقى ويضيع، بل نحافظ عليه ونلتقطه من الإناء بالمعلقة أو بالشوكة أو السكين ونحو ذلك، ولهذا يندب أن يلتقط ما وقع من الطعام وينظف ويؤكل ولا يدعه للشيطان كما جاء في صحيح مسلم.
جاء في "الأوائل " للسيوطى أن أول من اتخذ الملعقة سيدنا إبراهيم الخليل "غذاء الألباب للسفارينى ج 2 ص 83".
2 -وأما استغفار الإناء للاعقه فالمراد منه أخيرًا الحث على نظافته وعدم ترك شيء فيه يعرض للضباع أو يسبب القذارة. وقد جاء في ذلك حديث رواه الترمذى وابن ماجه وأحمد والبغوى وغيرهم، وقال عنه الترمذى: حديث غريب، أى رواه راو واحد فقط في سلسلة الرواة، قالوا: هو المعلى بن راشد الذي رواه عن أم عاصم نبيشة، ورواه عنه كثيرون كما ذكر في تحفة الأحوذى شرح الترمذى "أسد الغابة رقم 5091 الزرقانى على المواهب ج 4 ص 342 " والحديث بلفظ "من أكل طعامًا في آنية ثم لحسها استغفرت له القصعة" قال الزرقانى: حقيقة وشكرا لفعله.
ولا مانع شرعا ولا عقلا أن يخلق اللَّه في الجماد تمييزًا ونطقا، ويؤيده رواية الديلمى "استغفرت له القصعة فتقول: اللهم أجره من النار كما أجارنى من لعق الشيطان " وقال هو كناية عن حصول المغفرة له ابتداء، لأنه لما كان حصول المغفرة بواسطة لحسها غفر له، ولما كانت المغفرة بسبب لحسها كأنها تطلب له الغفران.
هذا ما ورد ولا يجوز أن يعلق عليه بالاستنكار، فالعرف إذ ذاك كان يقبله والمهم هو المحافظة على المقصود منه، وهو النظافة والاقتصاد هذا وقد سئل بعض العلماء عن هذا الحديث وعن حديث "إذا أكلتم فأفضلوا فقال ما نصه: هذان حديثان لا أصل لهما "مجلة الإسلام - المجلد الرابع، العدد 36" وقد رأينا أن حديث لعق الإناء والاستغفار للاعقه ورد بطريق صحيح. أما حديث "إذا أكلتم فأفضلوا" فلم أعثر له على تخريج مقبول حتى الآن(8/114)
حديث " أدبنى ربى "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أدبنى ربى فاحسن تأديبى "؟
الجواب
مما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكرمه ربه بمزايا كثيرة، كان بها قدوة حسنة، ومن هذه المزايا الأخلاق الكريمة التي شهد اللَّه له بها في قوله {وإنك لعلى خلق عظيم} القلم: 4، وكذلك فصاحة اللسان وبلاغة القول كما شهدت بذلك الآثار المروية عنه في جوامع الكلم.
والقول المسئول عنه وهو: " أدبني ربي فأحسن تأديبي " جاء بعده روايات ذكرها العسكري في كتابه " الأمثال " والسرقسطى في كتابه "الدلائل " والسيوطي في كتابه " الجامع الصغير " وابن السمعاني في " أدب الإملاء " وأبو نعيم الأصفهاني في تاريخ أصبهان.
ويؤخذ من مجموعها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال: " كانت لغة إسماعيل قد درست - خفيت آثارها - فحفظنيها جبريل، فلذا كنت أفصح العرب " وأن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال له: يا نبي اللَّه نحن بنو أب واحد، ونشأنا في بلد واحد، وإنك لتكلم العرب بلسان ما نعرف أكثره، فقال " إن اللَّه عز وجل أدبني فأحسن تأديبي " ونشأت في بني سعد بن بكر وأن أبا بكبر رضي اللَّه عنه سأله مثل ذلك، فأجاب بما يقرب منه.
تدل هذه الروايات على أن تأديب الله لنبيه كان تأديبًا شاملاً -للسلوك واللغة، وذلك حق لا مرية فيه، وشرح ذلك يطول، وقد وضعت له كتب مخصوصة لكن على الرغم من صحة معنى الحديث فإنه بهذه الصيغة لم يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق صحيح عند أكثر علماء الحديث.
فرواية أبي نعيم عن عمر إسنادها ضعيف ورواية العسكرى عن على سندها ضعيف جدا كما يقول السخاوى، ورواية السرقسطى عن أبي بكر سندها واه شديد الضعف، وقال المناوي في فيض القدير على الجامع الصغير للسيوطي: إن ابن حجر حكم عليه بالغرابة في بعض فتاويه. وقال ابن تيمية: لا يعرف له سند ثابت. وقد وضح ذلك كله القسطلانى فى " المواهب اللدنية" وشرحه للزرقافي عند الكلام على فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم.
0 فمعنى الحديث صحيح، ولكن سنده ضعيف، وإن صححه أبو الفضل بن ناصر ونرجو أن نتنبه إلى الفرق بين صحة الكلام في حد ذاته وبين نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نؤمن بأن اللَّه أدبه أحسن تأديب، ولكن لا نثق في أن هذا الكلام صدر عنه، وقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من نسبة شيء إليه قولا أو فعلا أو وصفا فقال "من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري ومسلم. ويستوى في حرمة الكذب عليه ما كان القصد منه حسنا وغير حسن(8/115)
حديث " عبدى أطعنى تكن ربانيا "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "عبدي أطعني تكن ربانيا تقول للشىء كن فيكون "؟
الجواب
لم أجد هذا الكلام حديثا صحيحًا، وإن كان هناك ما يؤيد معناه مثل "وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ... . .. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه " رواه البخاري(8/116)
حديث " لا تتخذوا الضيعة "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى الحديث الذي يقول:"لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا "؟
الجواب
جاء في نهاية ابن الأثير "مادة ضيع أن الضيعة ما يؤخذ منها معاش الرجل كالصناعة والتجارة والزراعة وغير ذلك ومنه الحديث "أفشى اللَّه عليه ضيعته " أى أكثر عليه معاشه، ومنه حديث ابن مسعود "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا " وحديث حنظلة "عافسنا الأزواج والضيعات " أي المعايش.
وروى ابن ماجه وابن حبان وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم "من تكن الدنيا نيته جعل اللَّه فقره بين عينيه وشتت عليه ضيعته ولا يأتيه منها إلا ما كتب له ومن تكن الآخرة نيته جعل اللَّه غناه في قلبه وكفاه شيعته وأتته الدنيا وهي راغمة ".
يقول الحافظ المنذري في معنى"شتت عليه ضيعته "فرق عليه حاله وصناعته ومعاشه وما هو مهتم به، وشعَّبه عليه ليكثر كده ويعظم تعبه انتهى.
وليس المراد من ذلك التنفير من الحرفة والعمل والدعوة إلى الزهد والانقطاع إلى العبادة ولكن المراد عدم الاهتمام الزائد بها والاتكال الكامل عليها بحيث ينسى الإنسان ربه ويأمن عقابه، ومن باشر أي عمل مشروع بنية الآخرة كوسيلة للسعادة فيها-وبالتالي سيسعد في الدنيا-بارك اللَّه في عمله. أما من فتن بالعمل الدنيوي ونسى ربه وأخرته أتعبه اللَّه وأكثر همومه وحرمه القناعة التي هي من أهم أسباب السعادة(8/117)
حديث " اعمل لدنياك "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا "؟
الجواب
ليس هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم "ونسب إلى بعض الصحابة، ومعناه صحيح في بعض وجوهه، فهو يحث على التأني وعدم اللهفة والتسرع في أعمال الدنيا، ويحث على السرعة وعدم التسويف في أعمال الدين التي يثاب عليها في الآخرة، حتى لا يفاجئه الأجل قبل عملها(8/118)
الصلاة على إبراهيم وآله
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نحن مسلمون على ملة إبراهيم، والصلاة كان أول نزولها على سيدنا محمد ليلة الإسراء، فما هي العبادة التي كان يتعبد بها إبراهيم، ولماذا ذكر اسمه في التحيات دون باقى الأنبياء؟
الجواب
إن الصلاة كتبت على الأنبياء السابقين كما كتبت على المسلمين، وكذلك الصيام والزكاة، كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} البقرة: 183، وقال تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيًا. وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيًّا} مريم: 54، 55، إلى غير ذلك من النصوص التي تبين عبادة الأنبياء السابقين ومنهم إبراهيم عليه السلام الذي قال الله على لسانه {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} إبراهيم:
40، إلا أن تفاصيل هذه العبادات لم تعرف كلها على وجه التأكيد، وليست هناك فائدة كبيرة في معرفتها، فلكل نبي ولكل أمة ما يناسبها {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} المائدة: 48.
ومن الصيغ التي وردت في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد في الصلاة، الصلاة الإبراهيمية التي يذكر فيها سيدنا إبراهيم، لأن إبراهيم أب لأكثر الأنبياء، فدينه أصل لهم يدعون إليه جميعًا، ويسيرون على نهجه، وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} النحل: 123، وقال تعالى {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا} الأنعام: 161.
كما أن اللَّه أنعم على إبراهيم آل بيته بالرحمة والبركات فقال {رحمة اللَّه وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} هود: 73، فنحن في صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم ندعو له بالرحمات والبركات كما رحم اللَّه أباه إبراهيم وباركه. ولا شيء في ذلك أبدًا.
وتفصيل ذلك موجود فى شرح الزرقانى على المواهب اللدنية "ج 6 ص 340 "(8/119)
قراءة الحديث بالتجويد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجب قراءة الأحاديث النبوية بالأحكام التى تتبع فى قراءة القرآن الكريم؟
الجواب
قراءة القرآن الكريم لها حالتان، الحالة الأولى وهى الحد الأدنى فى الصحة أن يحافظ على نطق الحروف بإخراجها من مخارجها حتى لا تشتبه الزاى بالذال، أو الثاء بالسين مثلا، وأن يكون المد للمدود بالحد الأدنى الطبيعى الذى يتبين منه أن الحرف ممدود. وهذا الحد واجب.
والحالة الثانية هى التجويد والتحسين، بالمحافظة مثلا على الغُنَة والمدود الجائزة واللازمة وما جاء فى كتب التجويد، وهو أمر مستحب، وإن كان بعضهم أوجبه.
ولا تلزم هذه الأحكام الثانية فى قراءة الأحاديث النبوية، بل اللازم فيها هو المحافظة على مخارج الحروف حتى لا يشتبه بعضها ببعض فيختلف المعنى، وباختلاف المعنى يكون الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو معروف. كالكذب على الله تعالى فى عدم التزام ما نزل به القرآن الكريم(8/120)
فرعون وموسى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هو فرعون موسى؟
الجواب
ليكن معلوما أن لفظ " فرعون "يطلق على كل من ملك مصر من القدماء، مثل كسرى للفرس، وقيصر للروم، والنجاشى للحبشة، وفرعون موسى المذكور فى القرآن واحد منهم. قال المسعودى: لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية، وقال الجوهرى: كل عات فرعون والعتاة الفراعنة، وهو ذو فرعنة أى دهاء ومكر، وفى الحديث " أخذنا فرعون هذه الأمة، ذكره القرطبى " ج 1 ص 353 " وبخصوص فرعون موسى جاء فى مقال للمرحوم الشيخ فكرى ياسين نشر بمجلة الأزهر" المجَلد العاشر ص 303 " أن ما كتب قديما وحديثا يؤخذ منه أن موسى عليه السلام أدرك عهدى ملكين من ملوك الأسرة التاسعة عشرة، يقال للأول منهما " فرعون الاضطهاد " لأنه اضطهد بنى إسرائيل، ويقال للثانى: "فرعون الخروج " لأنهم خرجوا من مصر فى عهده.
وفرعون الاضطهاد هو رمسيس الثانى المعروف باسم " رمسيس الأكبر " وقد ولد موسى فى زمنه وتربى فى قصره، وكانت آثاره عظيمة أعجب بها من جاءوا بعده حتى سمى عشرة منهم باسمه، وكان قد بلغه ما هو مشهور يؤمئذ أن بنى إسرائيل سيخرج منهم غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه، فأمر بذبح أبنائهم كما نص عليه القرآن الكريم. ومات بعد أن حكم 67 سنة، ودفن بمقبرة " بيبان الملوك " ثم نقل إلى الأقصر، ثم إلى متحف بولاق، وأما فرعون الخروج فهو " منفتاح الأول، الابن الثالث عشر لرمسيس الأكبر، وقد أشركه أبوه معه فى الحكم قبل وفاته، وعاصر موسى وهو يتربى فى بيت أبيه، وكان مولعا بتشييد المبانى كأبيه، وكان يمحو أسماء الملوك من الآثار لينقش اسمه مكانها. وظل على اضطهاد بنى إسرائيل حتى أرسل اللَّه إليه موسى وهارون لدعوة التوحيد والخروج ببنى إسرائيل من مصر وكانت النتيجة غرقه فى البحر، وإنقاذ اللَّه لجثته ليصدق بنو إسرائيل أنه قد مات، ووجدت جثته مع جثث أخرى فى قبر " أمنحتب الثانى " بالأقصر، ثم وضعت أخيرا فى المتحف.
وجاء فى المجلد الرابع والثلاثين من مجلة الأزهر" ص 742 " ما يؤكد ذلك، حيث يوجد فى المتحف لوح كبير من الحجر الأسود اللون عليه قصة خروج بنى إسرائيل فى عهد منفتاح(8/121)
أولو العزم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هم أولو العزم الذين أمر الله نبيه أن يصبر كما صبروا؟
الجواب
يقول الله تعالى {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} الأحقاف: 35، أولو العزم مختلف فيهم على أقوال كثيرة، فقيل: هم كل الرسل، ولفظ "من " للبيان لا للتبعيض، وقيل: هم بعض الرسل مع اختلاف فى تعيينهم وفى عددهم، ومن أقوى الآراء أنهم المذكورون فى قول اللَّه تعالى {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} الأحزاب: 7، وسموا بذلك لأنهم صبروا كثيرا فى تبليغ دعوتهم حتى نصرهم اللَّه. ومن صور معاناتهم ما جاء فى قوله تعالى {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متىَ نصر اللَّه، ألا إن نصر اللَّه قريب} البقرة: 214(8/122)
صورة آدم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: ان الله خلق آدم على صورته؟
الجواب
روى البخاري فى كتاب الاستئذان ومسلم فى بيان صفة الجنة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إن اللَّه خلق آدم على صورته " وفى رواية مسلم " خلق اللَّه آدم على صورته، طوله ستون فراعا. " وفى اَخرها " فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، وطوله ستون ذراعا، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الاَن "ج 17 ص 178.
والضمير فى قوله "صورته " يصح أن يكون راجعا إلى الله تعالى، أى خلقه على صفة الله من الحياة والعلم والسمع والبصر وغيرها، أو يكون راجعا إلى اَدم، أى أن الله أوجده على هذه الصورة والهيئة التى خلقه عليها، لم تنتقل فى النشأة أحوالا، ولا تردد فى الأرحام أطوارا كذريته، بل خلقه رجلا كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح.
وهذا التفسير يرد على الطبيعيين والماديين أصحاب مذهب النشوء والارتقاء، الذين يزعمون أن آدم أصله قرد تطور حتى صار بهذا الشكل، وإذا كانت هناك غرابة فى طوله وهو ستون ذراعا كما رواه البخاري ومسلم، فإن أثر البيئة على طول الأجسام وقصرها معروف فى كثير من المناطق فى العالم كله، والمسافة بين خلق آدم وبعثه الرسول فوق ما نقل عن الأخباريين من أهل الكتاب الذين قالوا: إن عمر الدنيا سبعة اَلاف سنة.
على أن للذراع معايير مختلفة، فقدر بقبضة النَصْل أو السيف أو الرمح أو القناة، وقدره البعض بخمسة سنتيمترات، فيكون طول آدم ثلاثة أمتار، وهو معقول.
يقول الإمام الغزالى فى كتابه " الإملاء على إشكالات الإحياء " المطبوع على هامش الإحياءج 1 ص 168 حي تعليقا على هذا الحديث: للعلماء فيه وجهان، فمنهم من يرى للحديث سببا، وهو أن رجلا ضرب غلامه، فراَه النبى صلى الله عليه وسلم فنهاه وقال " إن اللَّه تعالى خلق آدم على صورته " وتأولوا عود الضمير على المضروب.
والوجه الآخر أن يكون الضمير الذى فى " صورته " عائدا إلى اللَّه سبحانه.
ويكون معنى الحديث أن الله خلق آدم على صورة هى إلى اللَّه سبحانه.
وهذا العبد المضروب على صوره آدم، فإذًا هذا العبد المضروب على الصورة المضافة إلى الله تعالى. ثم استطرد الغزالى فى الكلام الذى لا مجال لنقله هنا فيرجع إليه من أراد الاستزادة(8/123)
السيدة مريم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل كانت مريم نبية، وما هى المدة التى حملت فيها عيسى؟
الجواب
هناك فرق بين النبى والرسول، وإن كان بين اللفظين تبادل في بعض الأحيان، ومع الأخذ فى مفهوم الرسول أنه مكلف بتبليغ ما أوحى اللَّه إليه إلي الناس، فإن مريم ليست من الرسل، لأنهم لا يكونون إلا من الرجال كما قال سبحانه {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم} النحل: 43، ولأنهم هم الذين يستطيعون أن يقوموا بأعباء الرسالة، نظرا لما عندهم من المؤهلات المناسبة.
أما أن تكون المرأة نبية يوحى إليها بشرع تعمل به دون أن تكلف بتبليغه للناس فذلك أمر ممكن، ولذلك اختلفت أقوال العلماء فى مريم هل هى نبية أم مرأة صالحة؟ أما كونها امرأة صالحة فذلك أمر مفروغ منه، قال تعالى {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن اللَّه اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} آل عمران: 42، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
وهل ترتقى بهذا الاصطفاء والتطهير والكمال إلى مرتبة النبوة؟ قال بذلك الكثيرون من العلماء، حيث إن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين.
أما المدة التى حملت فيها بعيسى فليس فيها نص صحيح، يقول القرطبى:
وهذه القصة تقتضى أنها حملت واستمرت حاملا على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر، وقيل لتسعة وقيل لسنة، واللَّه أعلم(8/124)
خاتم النبوة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نشرت صورة لخاتم النبوة ومعها حديث: من نظر إليه حفظه الله من الآفات وغيرها ويختم له بالإيمان، فهل هذا صحيح؟
الجواب
خاتم النبوة وردت به الأحاديث الصحيحة فى البخاري ومسلم وغيرهما، وجاء فى هذه الروايات أنه قطعة لحم ناتئة عليها شعرات بين كتفى النبى صلى الله عليه وسلم، وأنه مثل بيضة الحمامة، وأنه مثل زر الحجلة وعليه خيلان كأنها الثآليل السود.
والحجلة بيت كالقبة يستر بالثياب ويجعل له باب من جنسه فيه زر وعروة تشد إذا أغلقت. وقيل المراد بالحجلة الطائر المعروف، وزرها أى بيضتها، والتفسير الأول هو الصحيح. والخيلان جمع خال وهو الشامة على الخد، والثآليل جمع ثؤلول، وهى حب يعلو ظاهر الجسد، واحدتها كالحمصة فما دونها.
وقد جاءت روايات أخرى فى صفة هذا الخاتم، منها ما هو باطل مكذوب، ومنها ما هو ضعيف لا يعول عليه، ومن ذلك ما رواه الترمذى الحكيم - وهو غير الترمذى صاحب السنن - أنه مكتوب فى باطنه، أى ما يلى جسده الشريف - " اللَّه وحده لا شريك له " وفى ظاهره، أى ما يقابل الجهة التى خلفه " توجه حيث كنت فإنك منصور "وهو حديث باطل كما قال ابن حجر فى فتح البارى.
ومن هذا يعلم أن ما نشر من صورة هذا الخاتم غير صحيح، وأن ما يترتب على النظر إليه من آثار لا أصل له فى الدين(8/125)
العمل بأحاديث الآحاد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نقرأ فى بعض الكتب عند الاستدلال على بعض الأحكام بحديث نبوى، أن هذا حديث آحاد يفيد القطع، فما هى أحاديث الآحاد، وما هى منزلتها فى الاستدلال على أحكام الدين؟
الجواب
أحاديث الآحاد هى التى لم يبلغ رواتها حد التواتر الذى يفيد القطع واليقين، والحديث المتواتر هو الذى رواه جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، وأحاديث الآحاد أنواع، منها المشهور الذى رواه ثلاثة فأكثر، والعزيز الذى رواه اثنان، والغريب الذى رواه واحد فقط. وهى من أقسام الحديث الصحيح، وهناك الحديث الحسن والحديث الضعيف والحديث الموضوع، وهناك تقسيمات لهذه الأحاديث فى علم مصطلح الحديث، ويهمنا الآن الحديث الصحيح بقسميه الآحاد والمتواتر.
يقول علماء الأصول: إن أحاديث الآحاد يجب العمل بها فى الأحكام الشرعية العملية، باعتبارها فروعا، ولا يعمل بها فى العقائد باعتبارها أصولا للدين، وهذا ما يفيده ما نقل عن جمهور الصحابة والتابعين، وأقوال علماء الفقه والأصول، ولم يخالف فى ذلك سوى بعض فقهاء أهل الظاهر وأحمد فى رواية عنه.
فأحاديث الآحاد مهما بلغت قوتها كالمشهور منها لا تفيد العلم اليقينى الذى يعتمد عليه فى العقائد، بل تفيد الظن الذى يكفى فى وجوب العمل بها فى الفروع، جاء ذلك فى كثير من المراجع، وصرح به النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 1 ص 20 " وجعل منها ما رواه البخارى ومسلم رادًا به على ابن الصلاح الذى قال: إن ما روياه يفيد العلم النظرى.
من هذا يعلم أن أحاديث الآحاد الصحيحة لا تفيد إلا الظن ويجب العمل بها فى الفروع لا فى العقائد، وإفادة الظن أو اليقين فى الأحاديث قد تكون من جهة الرواية، فالمتواتر يفيد اليقين والآحاد لا تفيده، وقد تكون من جهة الدلالة أى دلالة اللفظ على معناه، وذلك مشترك بين جميع الأحاديث وبين القرآن الكريم، فاللفظ إذا لم يحتمل إلا معنى واحدا كان قطعى الدلالة، وإذا احتمل أكثر من معنى كان ظنى الدلالة، كلفظ العين، يطلق على العين الباصرة وعلى عين الماء، وعلى الذهب وعلى الجاسوس. ولفظ الفتنة يطلق على الامتحان وعلى الكفر وعلى العذاب، وعلى الوقيعة بين الناس، والشواهد على ذلك كثيرة.
وتفريعا على ذلك لو وقع خلاف فى مسألة فرعية دليلها خبر آحاد وأنكر الإنسان حجية هذا الخبر لا يكون بذلك كافرا أو فاسقا وإلا لحكم بذلك على أئمة الفقه المختلفين فى بعض المسائل، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذا الإنكار له مسوغ شرعى، فإذا تأيد هذا الخبر وما يدل عليه من حكم بالإجماع عليه صار قويا، ومن جحده كان مخطئا، وإن كان لا يحكم عليه بالكفر " فتاوى معاصرة للشيخ جاد الحق على جاد الحق ص 49 - 60 "(8/126)
اللهم أحينى مسكينا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يعيش مسكينا، وهل يتناسب هذا مع قوة الإسلام وعموم رسالته وخلودها الذى لا يتم على يد المساكين؟
الجواب
روى ابن ماجه،والحاكم وصححه عن أبى سعيد الخدرى قال: سمعت - رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم أحينى مسكينا، وتوفنى مسكينا، واحشرنى فى زمرة المساكين " ورواه الترمذى عن أنس وقال:
حديث غريب، أى رواه راو واحد فقط.
وجاء فى حديث للترمذى وحسَّنه قول النبى صلى الله عليه وسلم" اللهم إنى أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ". وروى البخارى ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال " قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون " والجد هو الغنى.
هذه الأحاديث تدل على حب النبى صلى الله عليه وسلم للمساكين، ويعلل ذلك بأمور:
أولها: مشاركتهم وجدانيا وتيسير وقع الفقر عليهم، حتى لا يدخل قلوبهم شك أو تطلع إلى الدنيا وافتتان بها عن الآخرة، وبخاصة أن أكثر من آمنوا به من المساكين، وأكثر من قاوموا الدعوة كانوا من الأغنياء الجبارين، وفى ذلك دعوة الأغنياء للعطف عليهم.
ثانيها: لفت أنظار الأغنياء إلى عدم الفتنة بالمال، وليس ذلك نهيا عن جمع المال وإنفاقه فى حله، ففى الحديث الذى رواه أحمد بسند جيد عن عمرو بن العاص " نعم المال الصالح للعبد الصالح ".
ثالثها: أن المساكين أقل الناس حسابا إذا اتقوا ربهم فى أعمالهم، لأنهم لا يكونون كالأغنياء الذين يحاسبهم اللَّه على نعمه كيف جحدوها وكيف أنفقوها، والمساكين من أجل هذا سيسبقون إلى دخول الجنة، لعدم طول حسابهم على ما في أيديهم.
هذا، وليس المراد من هذه الأحاديث دعوة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المسكنة والفقر الماديين، فهناك فرق بين شعور العطف والرحمة على المساكين، والدعوة إلى الفقر، كيف وهو صلى الله عليه وسلم لا يحب الفقر الذى تذل به النفس ويمرض الجسم ويعوق عن أداء الواجبات ويغرى بالسوء؟ ، كما كان يستعيذ من الغنى الذى يبطر ويصرف عن الخير ويدعو إلى الفساد، لقد استعاذ من الكفر والفقر كما رواه أبو داود وقال " اللهم اقض عنا الدين وأغننا من الفقر " كما رواه مسلم، وقال أيضا " اللهم اكفنى بحلالك عن حرامك، وأغننى بفضلك عمن سواك " كما رواه الترمذى وحسَّنه، وكثيرا ما سأل ربه العفاف والغنى. والغنى وإن كان يقصد به غنى النفس فهو أيضا يقصد به غنى المال الذى يعرف فيه حق الله، ويكون وسيلة للعفة عن الحرام، وعزة المسلمين لا تتوقف على الغنى المادى فقط، فكم من أمم بلغت فى الغنى الذروة فأهلكها الله لمعصيتها وبخلها وشرها.
ومقومات العزة الإسلامية فى العصور الأولى كانت تعتمد على القوة فى العقيدة والخلق، كما تعتمد على قوة المال، وكان تفوقهم على الدول المجاورة لهم ليس بالمال ولكن بالدين، والدين لا يمنع من المال ما دام يوجه للخير، لا يقصد بهذه الأحاديث دعوة إلى المسكنة الذليلة، فإن العزة قد تكون مع رقة الحال كعزة المسلمين الأول، والذلة قد تكون مع كثرة المال كذلة اليهود بدناءة نفوسهم ورضاهم بالهوان فى سبيل الحصول على المال.
ومع كل هذا لا ننسى أبدا قول اللَّه سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللَّه لكم ولا تعتدوا إن اللَّه لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم اللَّه حلالا طيبا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون} المائدة: 87، 88، وقوله {يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة اللَّه التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق} الأعراف: 31،320.
وأما حديث " إن كنت تحبنى فأعد للفقر تجفافا، فإن الفقر إلى من يحبنى أسرع من السيل إلى منتهاه " وذلك عندما قال له رجل: إنى أحبك، فقال له: " انظر ما تقول " فقال والله إنى أحبك، " ثلاث مرات " رواه الترمذي وقال:
حديث حسن - فالمراد به التنبيه إلى عدم الأمن من غدر الزمان {وتلك الأيام نداولها بين الناس} آل عمران: 140.
وأساليب الامتحان كغيرة، قال تعالى {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} الأنبياء:35، والمؤمن الصادق يتقلب فى حياته بين الشكر والصبر، فهو فى خير دائم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " رواه مسلم.
أو لعل النبى صلى الله عليه وسلم أراد بقوله هذا لمن يحبه أن يكون مثله فى الزهد فى الدنيا وعدم تعلق الآمال العريضة بها، أو يلفت نظره ألا يكون مثل بعض الفقراء الدين رغبوا فى الإسلام طمعا فى خير يعطيه لهم النبى صلى الله عليه وسلم كمن نزل فيهم قوله تعالى {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما بدخل الإيمان فى قلوبكم} الحجرات: 14، هذا، والتجفاف شيء يلبسه الفرس ليتقى به الأذى، وقد يلبسه الإنسان(8/127)
كبش إسماعيل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من أين جاء الكبش الذى فدى الله به إسماعيل، ومن الذى أكله بعد الذبح ولِم لَمْ يذبح إبراهيم لابنه جملا أو بقرة؟
الجواب
قال تعالى فى قصة إبراهيم عليه السلام عندما شرع فى تنفيذ الرؤيا بذبح ولده إسماعيل {وفديناه بذبح عظيم} الصافات: 107.
أغلب أقوال المفسرين أن الذبح كبش من الضأن، واختلفت آراؤهم فى مصدره، فقيل: إنه من الجنة، وذكروا أنه القربان الذى قدمه هابيل بن آدم عليه السلام، فتقبله الله منه ورفعه وأدخله الجنة يرتع فيها، وقيل: إنه كبش من كباش الجبال، هبط على إبراهيم فذبحه وقيل غير ذلك.
وكلها أقوال ليس لها دليل يعتمد عليه من كتاب أو سنة، وكونه ذبحا عظيما لا يدل على سمنه وكثرة لحمه، لأن العِظَم قد يطلق على الشرف والأهمية، وبالطبع هذا الكبش له أهميته لأنه فداء لشخصية عظيمة هى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
وأما لحم الذبح فلا يدل دليل على أنه رفع وأكلته النار كالقرابين فى العصور السابقة أو أكله سيدنا إبراهيم وأهل بيته، أو أعطاه غيرهم من الناس، أو تركه للوحوش والطيور.
وإذا لم يدل دليل على أصل الكبش ولا على أكله فالظاهر - كالمعتاد-أن الكبش من غنم الأرض وأن إبراهيم أكل منه وتصدق على غيره شكرًا لله على فداء إسماعيل، شأن الأضحية فى الإسلام التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم "سنُّوا بها سنة أبيكم إبراهيم ".
وأنبه إلى أن القرآن لا يهتم بذكر التفاصيل الجزئية اهتمامه بموضع العبرة والموعظة وإبراهيم لم يذبح جملا ولا بقرة، لأنه كان لا يعرف فداء ولده، ولكن الله هو الذي نبهه إلى ذلك على ما يفهم من ظاهر التعبير "وفديناه بذبح عظيم " فهو توجيه من الله سبحانه، والواجب هو الاتباع(8/128)
ذو الكفل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هو ذو الكفل الذى ذكره الله سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم؟
الجواب
جاء ذكر "ذى الكفل لما فى عدة مواضع من القرآن الكريم منها قوله تعالى {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} الأنبياء: 85، جاء فى تفسير القرطبى (ج 11 ص 328) أن الجمهور على أن ذا الكفل ليس بنبى، وقال الحسن: هو نبى قبل إلياس، وقيل هو زكريا، وسمى بذلك لكفالته مريم.
وقيل: كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع فى بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه، وقيل: سمى ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له فى سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا فى زمانه.
وذكر أبو عيسى الترمذى حديثا عن النبى صلى الله عليه وسلم بإسناد حسن، وكذلك أخرجه الترمذى الحكيم فى كتابه "نوادر الأصول " أنه كان رجلا عاصيا ثم تاب إلى الله وهو فى عصيانه فتاب الله عليه فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه: إن الله قد غفر لذى الكفل(8/129)
امتحان سيدنا أيوب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أرجو تفسير قوله تعالى {وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} الأنبياء: 83، 84
الجواب
امتحن الله أيوب بامتحانات فى بدنه وماله وأهله، فمرض مرضا شديدا ليس بالصورة التى حكيت فى كتب التفسير بدون دليل، والتى لا تليق برسول يعمل لجمع الناس حوله وحبهم له لا لتنفيرهم منه.
وضاع ماله وفقد أهله وأفسد الناس بينه وبين زوجته التى واسته بكل ما تملك.
وسبب الامتحان غير مذكور بسند صحيح، ولشدة صبره وطول أمله فى رحمة الله دعا ربه فكشف ما به من ضر، وعوضه ما فقد من أهل ومال، بل زاد على ما ضاع منه، وذلك رحمة من الله وعبرة للناس فى وجوب الصبر وفى ثوابه العظيم.
وجاء فى آيات أخرى كيف استجاب الله دعاءه. ففى ص: 42-44 قوله تعالى {اركض برجلك هذا مغتسَل بارد وشراب. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولى الألباب.وخذ بيدك ضِغْثًا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} .
وهناك تفاصيل كثيرة لا يتسع لها المقام، فيرجع إلى كتب التفسير(8/130)
مهر حواء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن سيدنا آدم دفع مهرا للسيدة حواء صلاة على النبى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
جاء فى "المواهب اللدنية " للقسطلانى وشرحها للزرقانى "ج 1 ص 25 " أن الله سبحانه لما خلق آدم خلق له حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى وهو نائم فلما استيقظ ورآها سكن إليها ومد يده إليها فمنعته الملائكة حتى يؤدى مهرها، فقال: وما مهرها؟ قالوا: تصلى على محمد- صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات. وذكر ابن الجوزى المتوفى سنة 795 هـ فى كتابه "سلوة الأحزان " أنها لما سمعت كلام الملائكة طلبت مهرها من آدم فسأل ربه كم يعطيها؟ فقال: صل على حبيبى محمد بن عبد الله عشرين مرة، ففعل، وجاء فى بعض الروايات أن الله زوجه إياها وخطب فى ذلك خطبة.
ولم يذكر الكتاب سند هذا الكلام ولا درجته من القبول وعدمه، فنحن فى حل أن نصدقه أو لا نصدقه. ولا يضرنا الجهل به(8/131)
استشفاع آدم بمحمد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الله لم يتب على آدم إلا بعد أن استشفع بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
جاء فى "المواهب اللدنية " للقسطلانى وشرحها للزرقانى "ج 1 ص 62" أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما اقترف آدم الخطيئة - قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لى، فقال الله تعالى: يا آدم وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتنى بيدك ونفخت فىَّ من روحك رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا "لا إله إلا الله محمد رسول الله " فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله تعالى: صدقت يا آدم إنه لأخب خلق الله إلى، وإذ سألتنى بحقه قد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك " رواه البيهقى فى "دلائل النبوة " من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال البيهقى: تفرد به عبد الرحمن، أى لم يتابعه عليه غيره فهو غريب مع ضعف راويه، ورواه الحاكم وصححه، وذكره الطبرانى وزاد فى آخره " وهو آخر الأنبياء من ذريتك ".
يؤخذ من هذا أن استشفاع سيدنا آدم بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليس حديثا صحيحا ولا حسنا، بل هو ضعيف، ولا تثبت به عقيدة، ولا يكفر من يكذب ذلك(8/132)
تحديد الفترة بين الرسل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تمكن معرفة الفترات التى فصلت بين الرسل؟
الجواب
لم يرد تحديد الزمن الذى بين كل رسولين، لا فى القرآن ولا فى السنة، مع العلم بأن عدد الرسل كبير، والذين جاء ذكرهم فى القرآن خمسة وعشرون فقط، قال تعالى: {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك} النساء: 164، وقال {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} غافر: 78.
وحاول بعض المؤرخين تحديد الفترات التى بين الرسل، مثل محمد بن سعد فى كتابه "الطبقات " فذكر عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كان بين موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبى من بنى إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبى صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث فى أولها ثلاثة أنبياء، وهم فى قوله تعالى {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} يس: 14، والذى عزز به "شمعون " وكان من الحواريين، وكانت الفترة التى لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة. وذكر الكلبى أن بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة سنة وتسعا وستين، وبينهما أربعة أنبياء، واحد من العرب من بنى عبس، وهو خالد بن سنان. قال القشيرى: ومثل هذا لا يعلم إلا بخبر صادق. وقال قتادة: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة، وقاله مقاتل والضحاك ووهب بن منبه، إلا أن وهبا زاد عشرين سنة، وعن الضحاك أيضا أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.
وذكر ابن سعد عن عكرمة قال: بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام، قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمرو بن واقد الأسلمى عن غير واحد قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى ابن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة، فهذا ما بين آدم ومحمد عليهما السلام من القرون والسنين "تفسير القرطبى ج 6 ص 121" وهى كلها أخبار لا يسندها دليل معتبر(8/133)
داود عليه السلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فيما نراه فى بعض الكتب أن سيدنا داود عليه السلام أحب امرأة متزوجة فانتزعها من زوجها وتزوجها؟
الجواب
إن القرآن تحدث عن سيدنا داود عليه السلام بما يتناسب مع مقام النبوة واصفا له بأنه أواب رجاع إلى الله، آتاه الله الملك والحكمة وفصل الخطاب، وألان له الحديد وعلمه منطق الطير، وعصمه كما عصم جميع الأنبياء مما يخل بقدره وشرفه.
وليس من المعقول أن يغتصب امرأة لا تحل له، أو يفكر فى حيلة يتخلص بها من زوجها ليتزوجها هو، إن هذه الحادثة يتنزه أن يتورط فيها واحد من عامة الناس فكيف بالمصطفين الأخيار من رسل الله الذين بُعثوا للدعوة إلى القيم الأخلاقية العالية، وحاول المغرمون بالغرائب والناقلون عن أهل الكتاب دون تحوط لما ينقلون أن يَحْمِلُوا على تلك الحادثة قول الله تعالى {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب. إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط. إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب. قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب. فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب. يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} ص: 21 - 26.
إن ظاهر الآيات يدل على خصومة حقيقية بين فريقين فى غنم مشتركة بينهما، وأن داود عليه السلام وقع فى خطأ، استغفر ربه منه وخر راكعا ورجع إلى الله، كما أن أمر الله لداود بالحكم بالحق وعدم اتباع الهوى قد يفهم منه أنه ظلم فى حكمه ومال مع الهوى، فكيف يكون ذلك؟ إن الكلام فى تفسير هذه الآيات كثيرة، وادعى بعض المفسرين أن "النعجة "هى المرأة، وأن القصة درس لداود الذى طمع فى زوجة القائد "أوريا" ولم يقنع بما عنده من النساء. وهو كلام يتنافى مع مقام الأنبياء.
ومن أحسن ما قيل فى ذلك أن الخصومة حقيقية فى شركة أغنام، وأن المتخاصمين أرادا التحاكم إلى داود على عَجل حتى يحسم النزاع غير أن داود كان إذ ذاك فى خلوته الخاصة، يعبد ربه كنظام وضعه لنفسه فى توزيع أعماله بين الله والناس، ولم يجد الخصمان وسيلة للوصول إليه إلا تسور المحراب الذى يتعبد فيه، فظن داود أن مجيئهم فى هذا الوقت وبهذه الصورة يراد به شر، فطمأناه وطرحا أمامه الموضوع، وبدأ أحد الخصمين بتوجيه الاتهام إلى الطرف الآخر، فنطق داود بالحكم بإدانة صاحب الغنم الكثيرة قبل أن يدلى بحجته، وهنا أحس داود أنه كان على غير صواب فى ظنه أن هؤلاء يريدون به شرا، وأن الله امتحنه بالخوف منهم، فاستغفره مما حدَّث به نفسه، ومَنَّ الله عليه بقبول استغفاره، وأنزله عنده منزلا كريما.
ثم نبهه إلى أن مما يساعد على إصابة الحق والعدل فى الحكم، التأنى، حتى تسمع حجة الطرفين معا، وعدم التأثر بمظاهر الناس، والبعد بالعواطف عن التدخل فى الحكم، فقد يكون المدعى مخطئا وظاهره يوحى بالصدق، كإخوة يوسف الذين رموه فى الجب وجاءوا أباهم عشاء يبكون مدعين أن الذئب أكله.
إن الذى وقع من داود عليه السلام هو ظنه أن الخصمين أرادا به سوءا، فندم على هذا الظن واستغفر ربه، وهو ظن له ما يبرره، والأنبياء - وإن كان ما وقع منه لا يؤاخذ عليه - مقامهم يضعهم دائما فى موضع حساس، لا يحبون أن يؤخذ عليهم ما هو فى صورة ما يؤاخذ عليه. ونطقه بالحكم قبل سماع المدعى عليه ربما كان لأنه سكت ولم يتكلم، فكان سكوته إقرارا بما نسب إليه، وتوجيه الله له باتباع الحق وعدم الميل مع الهوى-على الرغم من صواب حكمه - لا يدل على ظلمه أو ميله مع العواطف، فقد يكون توجيها بالاستمرار على اتباع الحق كما قال سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {يا أيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} الأحزاب: 1، فلم يكن منه عصيان حتى يؤمر بالتقوى.
وبعد، فإن مما نتأسى به فى قصة داود عليه السلام الرجوع إلى الله فى كل الأحوال، والصبر على ما يقوله أهل الباطل، وعدم الأنفة من مزاولة أى عمل لكسب عيش شريف، وأن الصوت الحسن نعمة من نعم الله، تلين به القلوب وترتاح إليه الأعصاب، فليكن ترويحنا عن النفس بما شرع الله، وبما يعطيها نقاء وصفاء واستقامة، بعيدا عما يغضب الله(8/134)
يونس عليه السلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى الآيات التى تتحدث عن سيدنا يونس عليه السلام، أنه غضب وظن أن الله لا يقدر عليه، فكيف يتناسب ذلك مع مقام الأنبياء؟
الجواب
سيدنا يونس عليه السلام هو يونس بن مَتَّى من الأنبياء الذين ورد ذكرهم فى القرآن الكريم باسمه وبوصفه بذى النون وبصاحب الحوت، والنون هو الحوت، وكان رسولا إلى أهل "نينوى" بالعراق، وكرمه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله كما فى الصحيحين "ما ينبغى لعبد أن يقول:
أنا خير من يونس بن متى".
ويستفاد من الآيات التى تحدثت عنه أنه دعا قومه وخوَّفهم من عقاب الله إن لم يؤمنوا، ثم تركهم غاضبا من موقفهم منه، وتوجه إلى مكان اخر، فركب سفينة كانت مشحونة كادت تغرق بحملها، وعند الاقتراع على من يتخلصون منه فداء للباقين وقع السهم على يونس، وانتهى الأمر إلى إلقائه فى البحر، فالتقمه حوت ومكث فى بطنه مدة لا يعرف قدرها بالضبط، وسبح ربه داعيا، فنجاه الله وطرحه الحوت على الشاطئ مُتعَبًا، فأنبت له شجرة من يقطين، وهو القرع، أوكل زرع ليس له ساق، وبعد ذلك أرسله إلى قوم عددهم مائة ألف أو يزيدون، يقال: إنهم هم الأولون الذين غضب منهم، ويقال إنهم غيرهم، ومتعهم الله إلى حين آجالهم.
والذى يلفت النظر فى قصة يونس، مما يمس عصمة الأنبياء، قوله تعالى {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} الأنبياء: 87، فمن الذى غاضبه يونس؟ وكيف يظن أن الله لن يقدر عليه؟ كما أن قوله تعالى منه {فالتقمه الحوت وهو مليم} الصافات: 142، يدل على ارتكابه ما يلام عليه، وقول يونس فى دعائه {سبحانك إنى كنت من الظالمين} الأنبياء: 87، يدل على أنه ارتكب شيئا منهيًا عنه، وتحذير الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت} القلم: 48، يدل على أن فى يونس أمرا غير مرضى عنه، فكيف ذلك؟ والجواب: أن يونس لما رأى معارضة قومه تركهم مغاضِبًا لهم لا مغاضبا لله، وليست مغاضبة لهم لأمر شخصى، بل خالصة لله. وليس فى ذلك عيب يؤاخذ عليه.
وقد يقال: إذا لم يكن فى المغاضبة بهذه الصورة ما يؤاخذ عليه فكيف يمتحنه الله هذا الامتحان الخطير بابتلاع الحوت له؟ والجواب أن الامتحان كان لتعجله بمفارقتهم وعدم انتظار أمر من الله، وكان الأولى أن ينتظر، وإن كان له العذر فى أنه اجتهد وأداه اجتهاده إلى ذلك، لكن عتاب الله لأوليائه المقربين قد يكون على ما يتسامح فيه مع الأشخاص العاديين. ومما يدل على أن العتاب كان للتعجل بالهجرة- أمْرُ الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله قومه ونهيه أن يكون كيونس فى عدم الصبر.
على أن بعض العلماء رأى أن هذه المغاضبة كانت قبل أن يرسله الله، فتركهم إلى جهة أخرى، وكان الأجدر به كمصلح أن يبقى معهم.
ويشفع لرأيهم قول ابن عباس رضى الله عنهما: إن رسالة يونس كانت بعد نجاته من البحر.
أما ظن يونس أن الله لن يقدر عليه فليس فيه نسبة العجز إلى الله، ولكن القَدْرَ- بسكون الدال - هنا يعنى التضييق، كقوله تعالى {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} الطلاق: 7، وقوله {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} الرعد: 26، فيونس ظن، والظن قد يراد به اليقين كما جاء فى آيات كثيرة، ظن أن الله لن يضيق عليه واسعا، وسيبدله قوما غير قومه، وليس فى ذلك ما يعاب عليه.
هذا، وشهادة الله ليونس بقوله {فاجتباه ربه فجعله من الصالحين} القلم: 150 تنبهنا إلى عدم اتهامه بما يتنافى مع هذه الشهادة العظيمة.
وفى قصة يونس عليه السلام عبر، منها أن المتصدى للإصلاح يلزمه الصبر والتحمل وسعة الصدر بالأمل، وأن المؤمن إذا صدق فى عبادته ودعائه استجاب الله له ونجاه من أخطر المهالك. وأن لله مع أوليائه تصرفات لا تخضع لقانون الأسباب والمسببات كالمعجزات والكرامات، وأن بعض التسبيح والدعاء خير وأقوى من البعض الآخر، ومنه دعاء يونس فى بطن الحوت {لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين} الأنبياء: 87، 88، ولذلك قال بعض العلماء استنادا إلى مأثورات نبوية: إن اسم الله الأعظم الذى إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعى به أجاب هو دعاء يونس عليه السلام. وهو ليس خاصا به، بل هو عام لكل مسلم كما قال سبحانه عقبة {وكذلك ننجى المؤمنين}(8/135)
إخوة يوسف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هم إخوة يوسف، وهل هم أنبياء، وكيف يجوز منهم أن يدبروا المكيدة لأخيهم ويكذبوا على أبيهم؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى"ج 9 ص 130" أن إخوة يوسف هم:
1 - روبيل وهو أكبرهم.
2 - شمعون.
3 - لاوى.
4 - يهوذا.
5 -زيالون.
6 -يشجر.
وأمهم ليَا بنت ليان، وهى بنت خال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة نفر هم:
1 - دان.
2 -نفتالى.
3- جاد.
4 - آشر.
ثم توفيت ليَا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين.
فكان بنو يعقوب اثنى عشر رجلا.
ثم ذكر القرطبى فى ص 133: أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء، لا أولا ولا آخرا، لأن الأنبياء لا يدبرون فى قتل مسلم، بل كانوا مسلمين فارتكبوا معصية ثم تابوا. وقيل: ما كانوا فى ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله، وهذا أشبه.
هذا، وفى مقال للدكتور كارم السيد غنيم بمجلة الهداية - رمضان 1409 هـ -أن يعقوب تزوج من بنتى خاله "ليا، راحيل " ومنهما ومن أمتيهما أنجب اثنى عشر ولدا ذكرا هم الأسباط، وأسماؤهم: راوبين، شمعون، لاوى، يهوذا، بساكر، زبولون " أمهم ليا " يوسف، بنيامين "أمهما راحيل " جاد، أشير "أمهما زلفة جارية ليا" وداود، نفتالى، "أمهما بلهة جارية راحيل " وولدوا جميعا بالعراق إلا بنيامين ولد فى كنعان، نزل يعقوب وأولاده مصر بدعوة يوسف، وأقاموا بمنطقة "جاسان، أو جاشان " لوجود المراعى بها، أو لإبعادهم عن قوم فرعون الوثنيين.
ولما هاجم الهكسوس مصر ومكثوا بها أربعة قرون "من الأسرة 14 - 18" طردهم قائد مصرى من الأسرة الثامنة عشرة هو"أحمس ". ثم جاء ملك تنكر ليوسف وارتاع من تكاثر بنى إسرائيل فى أرضه فأمر بقتل كل ذكر يولد منهم، ثم كان موسى وتربيته بقصر فرعون ثم بعثه الله لابن هذا الفرعون، وانتهى الأمر إلى خروجهم إلى "سينا" ثم دخول الشام(8/136)
آدم وحواء لم يشركا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول الله سبحانه {هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا. فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين. فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما} الأعراف: 189 - 190، كيف يشرك آدم وحواء بسبب الذرية؟
الجواب
التفسير المناسب لنفى الشرك عن آدم وحواء هو أنه لما تغشاها شعرت بالحمل أول الأمر خفيفا، فاستمرت فى حياتها العادية لا تعانى تعبا، حتى إذا ثقل الحمل دعوا الله أن يشكراه إن ولد لهما نسل صالح، فرزقهما الله ولدين صنفين، ذكرا وأنثى، وباستمرار عملية الإنجاب وتكاثر الذرية وتعاقب الأجيال وتباعد العهد بالرسالات نسى بعض الصنفين فضل ربهما فى الخلق والإنعام، فجعلا له شركاء فيما آتاهما، وعبداها من دون الله، أو لتقربهما إليه زلفى كما فعل كفار مكة عند ظهور الإسلام، وهم المقصودون بهذه الآيات كما قاله أكثر العلماء.
وبهذا التفسير الذى يتفق مع أسلوب اللغة العربية التى نزل بها القرآن، من عود الضمائر أحيانا على اللفظ، وأخرى على المعنى، يستقيم معنى الآية ويتلاءم مع ما يجب للأنبياء من عصمة.
ذكر السيوطى فى الإتقان "ج 1 ص 90" أن الآية فى آدم وحواء كما جاء مصرحا به فى حديث أخرجه أحمد والترمذى وحسنه، والحاكم وصححه. وقال: كيف نسب الإشراك إليهما وآدم نبى والأنبياء معصومون منه قبل النبوة وبعدها إجماعا؟ وقد جر ذلك إلى أن بعض العلماء حمل الآية على غير آدم وحواء، وتعدى ذلك إلى تعليل الحديث والحكم بنكارته، وذكر أن آخر الآية كان فى العرب وشركهم، حيث عاد الضمير فى أولها على الاثنين، وفى آخرها على الجمع {فتعالى الله عما يشركون} ولابد من حمل التعبيرات المتشابهة على ما لا يطعن فى عصمة الأنبياء(8/137)
شك إبراهيم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء على لسان إبراهيم عليه السلام أنه قال لرب العزة {رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى} البقرة:260 فلماذا سأل إبراهيم هذا السؤال، هل كان شاكا فى قدرة الله، وما هى الصلة بين الإيمان والاطمئنان؟
الجواب
قال المفسرون: إن هذا القول لم يصدر عن إبراهيم عليه السلام عن شك فى قدرة الله على إحياء الموتى، وإنما طلب المعاينة، فليس الخبر كالعيان.
وقال الأخفش: لم يرد رؤية القلب، وإنما أراد رؤية العين. وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير: سأل ليزداد يقينا إلى يقينه.
كل ذلك لاعتقادنا فى عصمة الأنبياء عن كل ما يؤثر على الطاعة لله والإيمان الصادق به.
لكن جاء فى حديث البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "نحن أحق بالشك من إبراهيم ... " وأجيب عنه بأن معناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك فإبراهيم أجدر ألا يشك، لأنه مؤمن بإحياء الله للموتى {ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك اذ قال إبراهيم ربى الذى يحيى ويميت} البقرة: 258.
فهو مؤمن بذلك ويطلب رؤية الكيفية ليزداد يقينا، أى يريد الترقى من علم اليقين إلى حق اليقين كما يعبر بعض العلماء(8/138)
البرهان لسيدنا يوسف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المقصود بالبرهان فى قوله تعالى عن سيدنا يوسف {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} يوسف: 24؟
الجواب
قبل الإجابة لابد أن نعلم أن يوسف لم يهم بها بفاحشة، لأنها عرضت نفسها عليه بالمراودة مع تهيئة لكل الأسباب لنيل غرضها وإغرائه وعمل كل ما يطمئنه على عدم مؤاخذته. فقال "معاذ الله " والهم السيىء بها لم يحصل لأنه رأى برهان ربه، وفى هذا البرهان كلام كثير لا يستند إلى دليل صحيح، والأقرب إلى الفهم أن الله ألهمه أنه لو هم بها ضربا لمنع نفسه منها حيث جذبته بقوه لتنال غرضها بعد أن فشلت المحاولة السلمية لأدى ذلك إلى ارتكاب جناية عاقبتها الدنيوية سيئة. فالبرهان إلهام من الله لإدراك العاقبة.
ويقرب من هذا المعنى ما روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أن "زليخا" قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت فى زاوية البيت فسترته بثوب فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحى من إلهى هذا أن يرانى فى هذه الصورة، فقال يوسف: أنا أولى أن أستحى من الله.
يقول القرطبى: وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل، ثم ذكر القرطبى آراء أخرى فى البرهان، فقيل: رأى فى سقف البيت مكتوبا "ولا تقربوا الزنى" وقيل: ظهرت كف مكتوب عليها "وإنَّ عليكم لحافظين " وقيل: تذكرعهد الله وميثاقه، وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضًّا على إصبعه يتوعده، فسكن وخرجت شهوته من أنامله، وقيل غير ذلك(8/139)
نوح وابنه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى قصة نوح عليه السلام قول الله له {إنى أعظك أن تكون من الجاهلين} هود: 6، نريد توضيحا لذلك؟
الجواب
معروف أن نوحا عليه السلام دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ومع ذلك لم يؤمن معه إلا قليل، وكان ممن كفروا به وزوجته وابن من أبنائه، وبعد صنع السفينة وحمل من آمن فيها وحصول الطوفان وبعد أن نهى الله نوحا أن يتشفع للكافرين مهما كانت صلة القرابة به {ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا أنهم مغرقون} هود: 37، حدث أن رأى نوح ولده يغرق وظن أنه من المؤمنين حيث لم يصرح له بالكفر، فدعاه إلى الركوب فى السفينة {ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يابنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} هود:
42 فقد قال {ولا تكن مع للكافرين} ولم يقل من الكافرين. لأنه لو علم بكفره ما ناداه للركوب. وكان رد ولده غير صريح فى إعلان الكفر، بل فيه اعتماد على نفسه وقوته وحيلته التى يمكن أن ينجو بها من الغرق {سآوى إلى جبل يعصمني من الماء} فرد عليه أبوه {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} وكانت النتيجة أن حال بينهما الموج فكان من المغرقين.
ولعدم علم نوح يقينا بكفر ولده سأل ربه مستوضحا لماذا أُغرق فقال {رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} هود: 45، فرد الله عليه بأنه ليس من أهله المؤمنين فى الحقيقة وإن كان يبدو له أنه مؤمن {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين} والمعنى أن القرابة المنجية من العذاب هى قرابة الإيمان لا قرابة النسب، وكان عليك أن تتحرى حال ولدك وهو يعيش معك أو قريبا منك لتتأكد من إيمانه، فإن مقامك غير مقام عامة الناس، وليس قوله له {إنى أعظك أن تكون من الجاهلين} وصفا له بأنه جاهل، بل تحذير له أن يكون فى المستقبل جاهلا، كما قال الله لسيدنا محمد {فلا تكونن من الجاهلين} الأنعام: 25، وقوله {وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين} القصص: 187، فلم يكن النبى جاهلا ولا مشركا حين خاطبه الله بذلك، وعلى هذه الصورة كان نوح عليه السلام بريئا مما يخالف عصمة الأنبياء(8/140)
اسم حواء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من الذى سمى حواء بهذا الاسم؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى "ج 1 ص 301" أن آدم عليه السلام هو أول من سمى حواء بهذا الاسم حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك، ولو تألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته، فلما انتبه قيل له: من هذه؟ قال امرأة، قيل: وما اسمها؟ قال حواء، قيل ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المرء أخذت، قال: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حى.
ثم يستطرد القرطبى ويقول: روى أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه، وأنهم قالوا له: أتحبها يا آدم؟ قال: نعم: قالوا لحواء: أتحبينه يا حواء؟ قالت: لا، وفى قلّبها أضعاف ما فى قلبه من حبه، قالوا: فلو صدقت امرأة فى حبها لزوجها لصدقت حواء.
وهذا كله لا دليل عليه، يحتمل أن يكون وألا يكون، ولا طائل تحت الجدال فيه(8/141)
يوسف وإخوته والكواكب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هم أخوة يوسف الذين سجدوا له وما هى الكواكب التى رآها وكيف كان السجود ليوسف؟
الجواب
يقول الله سبحانه {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين} يوسف: 4 ويقول: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا} يوسف: 100.
فى هاتين الآيتين ثلاث نقاط: الأولى أسماء الكواكب وكيف سجدت والثانية. عدد إخوه يوسف وأسماؤهم، والثالثة كيف يسجدون لمخلوق والسجود لا يكون إلا لله؟ .
1- أما أسماء الكواكب فلا يعنينا معرفتها، لأن المقصود هو العبرة والموعظة ومع ذلك قال القرطبى فى تفسيره، إن أسماءها جاء ذكرها مسندا، رواه الحارث بن أبى أمامة قال: جاء بستانة -وهو رجل من أهل الكتاب- فسأل النبى عنها فقال "الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والصروح وذو الكنفات وذو القرع والغليق ووثاب والعمودان" والله أعلم بصحة هذا الحديث، كما أن بعض الأسماء مختلف فى نطقها، ولا يهمنا كل ذلك كما أن كيفية سجودها غير معلومة بطريق صحيح، ويكفى أن يكون بأدنى قرب منه.
2- أما إخوة يوسف فأحد عشر، وهم: روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا وزبالون ويشجر ودان ونفتالى وجاد وآشر وبنيامين، والنطق مختلف عما فى التوراة وفى كتب أخرى وذلك أيضا غير مهم.
3- أما سجود إخوته له فكان سجود تحية وليس سجود عبادة بالاتفاق عند جميع العلماء، كما سجد الملائكة لآدم، وكان ذلك من عرفهم والأعراف مختلفة، وما زال الانحناء والانبطاح على الأرض إلى حد تقرب فيه الجبهة من الأرض تحية فى بعض الشعوب إلى اليوم ومنها شعوب إسلامية، والإسلام لا يوافق على التحية بالسجود، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم من أراد أن يسجد له كما يفعل مع الملوك، وذكر القرطبى حديثا خرَّجه أبو عمر فى التمهيد عن أنس قال: قلنا: يا رسول الله أينحنى بعضنا إلى بعض إذا التقينا؟ قال "لا" قلنا: أفيعتنق بعضنا بعضًا؟ قال "لا " قلنا: أيصافح بعضنا بعضا؟ قال "نعم "(8/142)
فضل مريم وبنى إسرائيل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ذكر فى القرآن أن الله فضل مريم على نساء العالمين، وفضل بنى إسرائيل كذلك على العالمين. فأين بنات النبى وزوجاته، وأين الأمة الإسلامية؟
الجواب
قال الله تعالى {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} آل عمران: 42 وقال {يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين} البقرة: 47 1- قال القرطبى فى تفسيره "ج 4 ص 83" فى اصطفاء مريم: إن الاصطفاء هو على عالمى زمانها، كما قاله الحسن وابن جريج وقيل:
إن الاصطفاء هو على نساء العالمين أجمع إلى يوم الصور، وهو قول الزجاج، وهو الصحيح، وروى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " ومعنى الكمال التناهى والتمام، والكمال المطلق لله خاصة، وأكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين، وإذا تقرر هذا فقد قيل: إن الكمال المذكور فى الحديث يعنى به النبوة، فيلزم أن تكون مريم وآسية نبيتين، وقد قيل بذلك، والصحيح أن مريم نبية، لأن الله أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين. ولم يرد ما يدل على نبوة آسية دلالة واضحة.
ثم ذكر القرطبى أحاديث صحيحة منها "خير نساء العالمين أربع:
مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد" ومنها "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون" ومنها "سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة" وأقول الخيرية أو الأفضلية بالنسبة إلى نساء العالمين تلتقى مع ذلك بالنسبة إلى نساء أهل الجنة، وعطف الأسماء بالواو لمطلق الجمع لا يقتضى ترتيبا كما تفيده الفاء أو ثم، لكن القرطبى رتبهن وجعل أفضلهن مريم للتعبير فى الرواية الأخيرة بلفظ "بعد مريم " والباقى منهن ليس فيه ما ينص على الترتيب بينهن لكنه رتبهن فقال ما نصه: فظاهر القرآن والأحاديث يقتضى أن مريم أفضل من جميع نساء العالم، من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة، فإن الملائكة قد بلغتها الوحى عن الله عز وجل بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء، فهى إذًا نبية، والنبى أفضل من الولى، فهى أفضل كل النساء الأولين والآخرين مطلقا، ثم بعدها فى الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية، وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة، ثم آسية" وهذا حديث حسن يرفع الإشكال. وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء، وذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ فى درعها ودنا منها للنفخة فليس هذا لأحد من النساء، وصدَّقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عندما بُشرت كما سأل زكريا صلى الله عليه وسلم عن الآية، ولذلك سماها الله فى تنزيله صديقة فقال {وأمه صديقة} المائدة:75 وقال {وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} التحريم: 12 إلى أن قال: ومن لامرأة فى جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب، ولذلك روى أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة، جاء فى الخبر عنه صلى الله عليه وسلم "لو أقسمت لبررت، لا يدخل الجنة قبل سابقى أمتى إلا بضعة عشر رجلا، منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران ".
ثم ذكر أن من قال من العلماء بأنها لم تكن نبية قال: إن رؤيتها للملك كما رؤى جبريل عليه السلام فى صفة دحية الكلبى حين سؤاله عن الإسلام والإيمان، ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء والأول أظهر، وعليه الأكثر.
هذا ما ذكره القرطبى وأقول: إن كان لبعض الرجال أو النساء فضل، فذلك فضل من الله، ولا ينالنا منه إلا الحث على السير على منهجهم، ولا داعى للبحث فيمن هو أفضل من غيره، فلا يفيدنا ذلك -كما يقول العلماء- إلا فى الأيمان والتعاليق، كمن يحلف أن فلانا أفضل من فلان، أو إن كان فلان أفضل من فلان فعلت كذا.
2- وأما تفضيل بنى إسرائيل على العالمين فقد قال فيه القرطبى "ج 3 ص 376": يريد على عالمى زمانهم، وأهل كل زمان عالم، وقيل: على كل العالمين: بما جعل فيهم من الأنبياء وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم. انتهى.
وفى تفسير ابن كثير للآية رقم 47 من سورة البقرة أن الأمة الإسلامية أفضل من أمة بنى إسرائيل لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله " والأحاديث في هذا كثيرة. وأوردها عند تفسير الآية "كنتم خير أمة أخرجت للناس " وقال: إن الحديث المذكور رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وهو حديث مشهور حسنه الترمذي.
وقوله: بما جعل فيهم من الأنبياء يشير إليه قوله تعالى {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} المائدة: 25 وقوله {ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين} الجاثية: 16 فقوله {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} الدخان: 32.
وإذا كان الله فضلهم على السابقين وأنعم عليهم بهذه النعم فإنهم لم يشكروها، حيث تمردوا على موسى وعبدوا العجل والطاغوت وقتلوا الأنبياء بغير حق، وعصوا الأنبياء الذين أرسلوا إليهم واعتدوا عليهم وعلى غيرهم، فضرب الله عليهم الذلة والمسكنة أينما وجدوا، وبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، ومسخ بعضهم قردة وخنازير، وفى كل ذلك جاءت آيات القرآن الكريم، وقال تعالى فيهم {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} الإسراء: 7 وقال {وإن عدتم عدنا} الإسراء: 8 ذلك قانون الله الذى يرتب الجزاء على العمل، يبطل زعم القائلين بأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} فصلت: 46.
وذلك القانون سار علي جميع خلقه من يوم أن خلق آدم إلى يوم الساعة يطبق على كل الأنبياء والرسل، وعلى كل أمة من الأمم، بما فيهم أفضلهم وهو سيدنا محمد، وأفضل الأمم وهى أمته التى جعلها الله خير أمة أخرجت للناس {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات: 13 {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} طه: 123-124(8/143)
عيسى يسلم على نفسه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا ألقى عيسى عليه السلام السلام على نفسه، حين قال {والسلام على يوم ولدت} ؟
الجواب
قال الله تعالى فى شأن يحيى عليه السلام حين بشر به أباه زكريا عليه السلام {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا} مريم:15 وقال على لسان عيسى عليه السلام حين خاطب عيسى قومه {والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} مريم: 33.
إن كلا من النبيين العظيمين عليهم سلام وأمان من الله، أو تحية ألقاها الله على كل منهما، لكن السلام على يحيى كان فى مقام بشارة الله لأبيه به، مقدَّما قبل أن يولد، فهو سبحانه يحكى لزكريا صفات يحيى التى يكون عليها، والنعم التى أنعم بها عليه وقدَّرها قبل أن يولد، أو فى مقام إخبار الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقصة زكريا ويحيى كما جاء فى صدر سورة مريم {ذكر رحمة ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفيا} ومقام الإخبار يناسبه قول الله عن يحيى {وسلام عليه} ويحيى لم يتكلم بذلك حتى يقول: والسلام علىَّ.
أما سيدنا عيسى فكان يتحدث عن نفسه، مبينا لقومه ما منَّ الله به عليه حيث قال {إني عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا. وجعلني مباركا أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا} والسلام علىَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} مريم: 30-33.
هذا أحسن ما قال فى هذا الموضوع، وأما ما يروى أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام: أنت خير منى، لأن الله سلم عليك.
فليس له سند يعتمد عليه، فكلاهما قد سلم الله عليه، وكما قال بعض المفسرين: إن السلام المعرف بأل الذى قاله سيدنا عيسى عليه السلام هو السلام المنكر، أى الخالى من "أل" الذى كان من الله على يحيى، وذلك على حد قولهم: إن المنكر إذا كرر معرَّفا كان هو هو، فَأَلْ للعهد.
إن الموضوع يتصل باللفظ أكثر مما يتصل بالمعنى، فإن كلا من يحيى وعيسى قد حياه الله وأمنه وباركه، ونرجو أن نحظى بذلك إذا اتبعنا ما جاء به الله {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} الأنعام: 82(8/144)
إلياس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هو إلياس المذكور فى القرآن الكريم؟
الجواب
قال تعالى {وإن إلياس لمن المرسلين} الصافات: 123 وجاء ذكره أيضا فى الآية الخامسة والثمانين من سورة الأنعام، وذكر اسم "اليسع " فى الآية التى تليها.
فقال بعض العلماء: إنهما اسمان لنبى واحد، لكن الحق أنهما نبيان، لأن الله أفرد كل واحد بالذكر، والخلاف فى "إلياس "كبير، فقيل: إنه إدريس وهو خطأ، وقيل: إنه الخَضِر، وقيل غير ذلك، وكان قبل زكريا ويحيى وعيسى قَيِّمًا على بنى إسرائيل بعد موت "حزقيل "(8/145)
سجود مريم وركوعها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا قدَّم الله السجود على الركوع فى قوله تعالى {يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين} آل عمران: 43؟
الجواب
قال القرطبى: قدم السجود هاهنا على الركوع لأن الواو لا توجب الترتيب فإذا قلت: قام زيد وعمرو جاز أن يكون عمرو قام قبل زيد، فعلى هذا يكون المعنى واركعى واسجدى.
وقيل كان شرعهم السجود قبل الركوع أنتهى.
هذا بعض ما قيل وفيه كفاية(8/146)
فتنة سليمان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب} ص: 34 وما نوع الجسد المذكور، وما سبب فتنة سليمان به؟
الجواب
الكلام فى هذا الموضوع كثير، ومكانه كتب التفسير، ومن أحسن ما قيل ما رواه البخارى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "قال سليمان:
لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتى بفارس يجاهد فى سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله،فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وايم الذى نفسى بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا فى سبيل الله فرسانا أجمعون ".
والمعنى أن الله سبحانه امتحن سليمان عليه السلام وابتلاه، لأنه لم يقل إن شاء الله، وكانت نيته طيبة فى طلب أولاد مجاهدين، وظن أن الله معطيه كل شىء بدون حدود، فأراد سبحانه أن يظهر له أن كل شىء بقدر، وأن الأمل له حدود، فلم تنجب واحدة من نسائه بهذا اللقاء إلا واحدة أتت بجسد هو نصف إنسان، فرجع سليمان إلى ربه وتاب، هذا بعض ما قيل والتأويلات كثيرة، ولا حاجة إلى التعليق على عمل سليمان فى قدرته كإنسان عادى أن يلقح تسعين امرأة فى ليلة واحدة، يجتمع مع كل واحدة حوالى خمس دقائق، وهل كان الجهاز مستعدا بكمية كافية لتلقيح كل واحدة في هذه الدقائق القليلة؟ إن سليمان عليه السلام من واقع ما أعطاه الله من مسخرات القوى اعتقد أن التسخير بدون حدود، وفى غمرة هذا الاعتقاد وهذا التكريم الواسع أراد الله سبحانه أن ينبهه إلى سيطرة إرادة الله على كل شىء فليس سليمان أقوى ولا أكرم من الملائكة الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
هذه خاطرة خطرت لى مع اعتقادى بأن الله على كل شىء قدير، وما المعجزات ولا الكرامات إلا مظهر من مظاهر هذه القدرة التى تغير ما يراد تغييره من النواميس التى وضعها هو سبحانه لتدبير ملكه حسب إرادته، فهو مالك الأمر كله وهو الحكيم الخبير(8/147)
رسل الجن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك رسل أُرسلت إلى الجن وديانات كلفت بها؟
الجواب
الجن مكلَّفون كالإنس، والنصوص فى ذلك كثيرة، منها قوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات: 56 والتكليف لا يتم إلا برسالة لئلا يكون للناس على الله حجة، قال تعالى {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا} الأنعا م: 130.
ومما يؤكد إرسال رسل إلى الجن قوله تعالى {قل أوحى إلىَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا. يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} الجن: 1، 2 وقوله {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين} الأحقاف: 29.
فالرسل إلى الجن هم من الإنس، ولم يثبت أن الله أوحى بشرع إلى جنَى ليبلغه إلى الجن، بل كانوا يسمعون من الرسول البشر، وهم بدورهم يبلغون ما سمعوه إلى قومهم كما تدل عليه هذه الآية، والمهم أنهم مكلفون، سواء أكان الرسول بشرا أم جنيًّا(8/148)
بين النبى وآدم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "فُضلت على آدم بخصلتين، كانت زوجته عونا له على المعصية وأزواجى أعوان لى على الطاعة، وكان شيطانه كافرا وشيطانى مسلم لا يأمر إلا بالخير"؟
الجواب
هذا الحديث رواه الديلمى وابن الجوزى فى الواهيات عن ابن عمر، كما فى الجامع الكبير للسيوطى، فهو حديث ضعيف جدا. وليس هناك نص قاطع فى الثبوت والدلالة على أن حواء هى التى أغرت آدم بالمعصية وصحيح أن شيطان آدم كفر وهو إبليس، وشيطان الرسول وهو القرين أسلم كما ثبت فى حديث رواه مسلم "ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن" قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال "وإياى إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم فلا يأمرنى إلا بخير"(8/149)
آدم والأسماء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الأسماء التى علَّمها الله لآدم عليه السلام؟
الجواب
قال تعالى: {وعلَّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} البقرة: 31. الأسماء التى علَّمها الله لآدم ليس فيها نص صحيح، وكل ما ورد فهو أقوال اجتهادية ومن أقرب الأقوال فى كيفية التعليم أن الله أعطى آدم القدرة على تسمية أى شىء يعرض عليه، عن طريق العقل والاستنباط والملائكة لا يمكنها أن تستقل بذلك، فما علمته من الله علمته، وما لا فلا {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} البقرة: 32.
جاء فى تفسير القرطبى "ج 1 ص 282" قوله: اختلف أهل التأويل فى معنى الأسماء التى علمها لآدم عليه السلام فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير: علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها. وروى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحسن بن على قال:
كنت جالسا عند ابن عباس فذكروا اسم الآنية واسم السوط، قال ابن عباس "وعلَّم آدم الأسماء كلها" قلت -أى القرطبى-: وقد روى هذا المعنى مرفوعا على ما يأتى وهو الذى يقتضيه لفظ "كلها" وذكر حديث البخارى فى الشفاعة العظمى وأن المؤمنين قالوا لآدم: وعلمك أسماء كل شىء. قال ابن عباس: علمه أسماء كل شىء حتى الجفنة والمحذب، وقال الطبرى:
علَّمه أسماء الملائكة وذريته، واختار هذا ورجحه بقوله: {ثم عرضهم على الملائكة} وذكر القرطبى أقوالا أخرى، واختار أنه علَّمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها.
من هذا نرى أن الأسماء ليس فى المراد منها نص صريح صحيح، والأقوال كلها اجتهادات، ولا داعى لإرهاق أنفسنا فى معرفتها، ولولا أن الأسئلة بشأنها طرحت علينا لما اهتممنا بالإجابة عليها(8/150)
رسالة يوسف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الرسالة التى جاء بها سيدنا يوسف عليه السلام، وكيف نفهمها من القرآن الكريم؟
الجواب
كل الرسل جاءت لتؤكد الدعوة إلى توحيد الله تعالى والإيمان بالبعث بعد الموت، والبعد عن المنكرات، قال تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} الأنبياء:25 وقال {ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36.
وسيدنا يوسف عليه السلام جاء بما جاءت به الرسل، فقد أمر صاحبى السجن بعبادة الله وحده وتنزيهه عن الشركاء، قال تعالى:
{يا صاحبى السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يوسف: 39- 40 وذلك بعد أن قال لهما {إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شىء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} يوسف: 37، 38.
ذلك إلى جانب ما قرره من عزوفه عن ارتكاب الفاحشة ومن عدم خيانة من ربَّاه وكفله وأحسن إليه، ومن الإرشاد إلى التخطيط وعمل الاحتياطات للمفاجآت بتأويل الرؤيا وتخزين المحصول للطوارئ، وغير ذلك مما جاء فى الآيات فى هذه السورة، وهى كلها فروع فى التشريع بعد الدعوة إلى التوحيد لله سبحانه(8/151)
مريم عليها السلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل كانت السيدة مريم نبية، ولماذا لم يذكر اسم امرأة غيرها فى القرآن الكريم؟
الجواب
قال الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم} النحل:
43 هذا الحصر فى الرجال قد يكون لإخراج النساء، فلا يكون منهن رسول، وقد يكون لإخراج الملائكة، بمعنى أن الرسل للبشر لا تكون من الملائكة وقرر الله أنه لو أرسل للبشر ملكا لجعله رجلا، قال تعالى: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} الأنعام: 9 وقال تعالى {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىَّ} الكهف: 110 وقال {قل لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزَّلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} الإسراء: 90.
والرسالة القائمة على التبليغ هى قيادة للخير، بالإرشاد والاتباع، وفيها جهود جبارة لنشر الدعوة ومقاومة الفساد والتغلب على العقبات، وقد يكون فيها حرب وقتال وسفر وترحال، واستعدادات الرجال تتناسب مع هذه المهمة، إلى جانب أن الرجل هو الأصل فى أن يكون خليفة فى الأرض، والمرأة خلقت منه لتساعده على تحقيق هذه الخلافة فيما تستطيعه ويتناسب مع استعداداتها.
هذا فى الرسالة التى تستلزم التبليغ، أما النبوة التى تقتصر على مجرد تلقِّى الوحى من الله للعمل به دون الأمر بتبليغه فقد تكون للمرأة، كما قال بعض العلماء عن أم موسى وعن مريم عليهما السلام، والاستدلال والمناقشة لا يتسع لهما المقام.
وأما عدم ذكر اسم امرأة فى القرآن إلا مريم، فذلك لأن لها شأنا خطيرا فى عقيدة هى أهم العقائد، وهى عقيدة التوحيد وتنزيه الله سبحانه عن الزوجة والولد، وبيان الوجه الحق فى طبيعة سيدنا عيسى عليه السلام، فقد قبلها الله لخدمة بيته، لأن أمها نذرت ما فى بطنها لذلك وكانت تود أن يكون ذكرا، واشتهرت بالعفة والطهارة، وهى فى محرابها تؤدى واجبها، وحملت بغير الطريق العادى حيث نفخ الله فيها الروح بوساطة جبريل عليه السلام، وكان ولدها عيسى عليه السلام، ممن ظهرت خوارق العادة على أيديهم منذ صغره، حيث تكلم فى المهد صبيًا، إلى غير ذلك من الأمور التى جعلت لعيسى ولُأمه شأنا غير عادى، ولذلك قال بعض العلماء: إن مريم من الأنبياء: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} آل عمران: 42.
فلهذه الاعتبارات ذكر اسمها فى القرآن الكريم، وليس معنى هذا أن غيرها من النساء لا فضل له ولا شأن، فالكلام كثير حول أفضل النساء على الإطلاق لا مجال لذكره الآن. ومن هذا الباب ذكر اسم زيد بن حارثة فى القرآن لأهميته فى تقرير الحكمة فى مبدأ التبنى وزواج زينب بنت جحش، ولا يعنى هذا أن زيدًا أفضل من أبى بكر وعمر وغيرهما، حيث لم يذكروا بأسمائهم الصريحة فى القرآن الكريم(8/152)
رسالة الأنبياء إلى الجن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إن الرسل السابقين لم يبعثوا إلا إلى الإنس فقط، وأما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فمن خصائصه أنه أرسل إلى الإنس والجن فهل هذا صحيح؟
الجواب
سبق أن ذكرنا أن الجن مكلَّفون كالإِنس، ولا بد للتكليف من رسالة رسول، ومن المؤكد أن النبى صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن كما أرسل إلى الإِنس، قال تعالى {قل أوحى إلىَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا} الجن: 1 وقال {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين. قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم. يا قومنا أجيبوا داعى الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم} الأحقاف: 29 - 31 فهل قولهم {إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ... } يدل على أن موسى كان مرسلا إلى الجن، أو لم يكن مرسلا إليهم ولكنهم عرفوا أن كتابا نزل عليه، وهل معرفتهم بموسى تدل على إيمانهم به أو عدم إيمانهم؟ .
بعض العلماء يقول: كان الجن الذين لقوا النبى صلى الله عليه وسلم يهودا يعنى آمنوا بموسى. ومنهم عطاء الذى قال: كانوا يهودا فأسلموا وارتضى القرطبى فى تفسيره هذا الرأى "ج 16 ص 217" ويقول ابن عباس: إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام، وقوله تعالى {مصدقا لما بين يديه} يراد به التوراة لا الإنجيل، فهل هؤلاء الجن كانوا مقيمين بالمنطقة التى أرسل فيها موسى فقط، ولم يدخلوا المنطقة التى أرسل فيها عيسى؟ وهل كان إيمانهم بموسى تكليفا ألزموا به أو كان اختيارا منهم دون تكليف؟ وكل ذلك مع التسليم بأن كل الجن مكلَّفون بعبادة الله ومحاسبون يوم القيامة، ومن الجائز أن يرسل إليهم رسل غير المذكورين فى القرآن وهم خمسة وعشرون، فالله يقول {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك} النساء: 164.
ولعدم التأكد من رسالة موسى وعيسى وغيرهما إلى الجن قال بعض العلماء، ومنهم مقاتل بن سليمان من رجال التفسير: لم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم " تفسير القرطبى ج 16 ص 217".
وارتضى القرطبى هذا القول واستدل عليه بما رواه مسلم فى صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصارى أن للنبى صلى الله عليه وسلم قال " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى، كان كل نبى يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت بلى كل أحمر وأسود، وأحلَّت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى، وجُعلت لى الأرض طيبة طهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونُصرت بالرعب بين يدى مسيرة شهر، وأُعطيت الشفاعة" قال مجاهد: الأحمر والأسود هما الجن والإِنس، وفى رواية من حديث أبى هريرة " وبعثت إلى الخلق كافة وختم بى النبيون ".
ويفرع القرطبى على ذلك مسألة يقول فيها: إن الجن كالإِنس فى الأمر والنهى والثواب والعقاب. وقال الحسن: ليس لمؤمنى الجن ثواب غير نجاتهم من النار، يدل عليه قوله تعالى {يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم} وبه قال أبو حنيفة قال: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم، وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون فى الإِساءة يجازون فى الإِحسان مثل الإِنس، وإليه ذهب مالك والشافعى وابن أبى ليلى، وقد قال الضحاك ابن مزاحم: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. قال القشيرى: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشىء والعلم عند الله.
انتهى ما قاله القرطبى.
وجاء فى شرح الزرقانى على المواهب اللدنية للقسطلانى "ج 5ص 69 " أن من أدلة مالك على الثواب والعقاب قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ثم قال {فبأى آلاء ربكما تكذبان} الرحمن:
46، 47 والخطاب للإِنس والجن، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين ومن شأن المؤمن أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب. وجاء فى الرد على أبى حنيفة فى أنهم لا يثابون بأن الثواب مسكوت عنه -أى فى الآية التى استدل بها - وأن ذلك من قول الجن فيجوز أنهم لم يطلعوا على ذلك وخفى عليهم ما أعده الله لهم من الثواب وبعد، فإن الكلام فى ثواب الجن المؤمن من أمور الغيب وقول القشيرى فيه صحيح، وليس ذلك مما يهمنا عمليا فى الدنيا، وما ذكرته إلا للسؤال عنه من جملة الأسئلة الكثيرة التى توجه إلىَّ.
ومن أراد الاستزادة فعليه بكتاب "آكام المرجان" للشبلى ص 34-62(8/153)
اجتهاد الأنبياء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل كان الأنبياء ملتزمين للوحى الذى يأتيهم من عند الله، أو كانت لهم اجتهادات فى بعض الأحيان لا يلتزمون فيها بالوحى؟
الجواب
ذكر القرطبى فى تفسيره لقوله تعالى {وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث} الأنبياء: 78 أن العلماء اختلفوا فى جواز الاجتهاد على الأنبياء، فمنعه قوم، وجوزه المحققون، لأنه ليس فيه استحالة عقلية، فالعقل دليل شرعى، وهو يكون إذا لم يوجد نص، وفى بعض الأحيان لا يكون هناك نص فى مسألة، بل لهم الاجتهاد فى النص، وهم معرضون للخطأ فيه، إلا أن الله سبحانه لا يقرهم على خطئهم.
وذكر القرطبى أن النبى صلى الله عليه وسلم سألته امرأة عن العدة، فقال لها " اعتدى حيث شئت " ثم قال لها " امكثى فى بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " وقال له رجل: أرأيت لو قتلت صبرا محتسبا أيحجزنى عن الجنة شىء؟ فقال " لا " ثم دعاه فقال " إلا الدين، كذا أخبرنى جبريل عليه السلام " وقد قرر القرآن الكريم أن داود أخطأ فى الحكم فى قضية الغنم التى أكلت زرع الغير، وفهَّم الله الحكم الصحيح لسليمان، فذلك دليل على أن الأنبياء لا يقرون على خطئهم، فحكمهما كان باجتهاد كما رآه الجمهور، وليس حكم داود بوحى نسخه وحى نزل على سليمان.
وقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر رضى الله عنهما فى شأن أسرى بدر، ثم اختار رأى أبى بكر، وأقره الله عليه وأباح له فداءهم وأحل له المال الذى أخذه فدية، قال تعالى {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} الأنفال: 68، 69 كما ثبت أنه قبل اعتذار بعض المنافقين عن تخلفهم عن الغزوة بناء على ما أبدوه من أعذار، فنزل فى ذلك قوله تعالى {عفا الله عنك لمَ أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} التوبة: 43.
فالخلاصة أن الأنبياء لهم الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص، وفى فهم المراد من النص، ويجوز عليهم الخطأ على رأى الجمهور، إلا أنهم لا يقرون على خطئهم، وقد وقع الاجتهاد من بعضهم كداود وسليمان ومن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وصوره كثيرة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استعمل القياس فى اجتهاده، فقد صح فى البخارى أن امرأة من جهينة قالت له: إن أمى نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال "حجى عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا فالله أحق بالقضاء" وروى مسلم أن رجلا قدم من جيشان -باليمن - فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له "المزر" فقال له " أوَمُسكر هو "؟ قال: نعم، فقال "كل مسكر حرام ". وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد فللمسلمين فيه أُسوة حسنة، أى يجوز لهم الاجتهاد، فى حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فقد أقر سعد ابن معاذ فى بنى قريظة حيث حكم بقتل الرجال وسبى الذرارى والنساء وأخذ أموالهم وقال له " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات " كما رواه البخارى ومسلم، ولما توجه الصحابة إلى بنى قريظة قال لهم " لا يصلينَّ أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة " فوقف بعضهم عند النص احترامًا له ولم يصل العصر إلا فى بنى قريظة وقد فات الوقت. وفهم بعضهم من النص أن المراد هو الإِسراع والمبادرة فصلى العصر قبل الوصول إلى بنى قريظة حفاظا على الوقت، ولما ذكروا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدا منهم، رواه البخارى ومسلم، وإقراره لمعاذ حين بعثه إلى اليمن حين قال فى القضاء:
أقضى بالكتاب فإن لم أجد فبالسُّنة، فإن لم أجد أجتهد رأيى ولا آلو، حيث قال له: " الحمد لله الذى وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضى الله ورسوله " رواه أبو داود والترمذى(8/154)
ميراث الأنبياء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يرث ابن النبى أباه فى النبوة، أو أنها هبة من الله سبحانه لمن يصطفيه؟
الجواب
يقول الله تعالى عن دعاء زكريا ربه {فهب لى من لدنك وليا. يرثنى ويرث من آل يعقوب} مريم: 5، 6 ويقول: {وورث سليمان داود} النمل: 16 ويقول صلى الله عليه وسلم "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " رواه البخارى ومسلم "الجامع الكبير للسيوطى ص 1047" ويقول " إن العلماء ورثة الأنبياء " رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه وابن حبان وغيرهم.
تحدث القرطبى فى تفسيره "ج 11 ص 81" عن التوارث بين الأنبياء، وذكر أن هناك ثلاثة آراء للعلماء فى النصوص التى تثبت الوراثة، هل هى وراثة نبوة، أو وراثة حكمة، أو وراثة مال؟ وبيَّن أن وراثة النبوة مستحيلة، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبى مرسل -يعنى يمكن لأى إنسان أن يقول أنا نبى، أو معى قسط من النبوة حتى الكفار- ووراثة العلم والحكمة رأى حسن ولا مانع منه، ومثلها وراثة العلماء لعلم الأنبياء، ووراثة سليمان لداود هى من هذا القبيل، أما وراثة المال فهى غير ممنوعة، لكن كيف ذلك والحديث يمنع؟ وأجاب عن ذلك بأن وراثة زكريا ووراثة داود، لا مانع منها، وما جاء فى الحديث فهو خاص بالنبى محمد صلى الله عليه وسلم، وعبَّر بصيغة الجمع ويقصد نفسه هو، فهذا التعبير سائغ، ويمكن أن يراد به أن ما تركناه على سبيل الصدقة لا يورث كالتركة.
يؤخذ من هذا أن وراثة النبوة ممنوعة، فهى هبة من الله يعطيها من يصطفيه من عباده، يقول ابن عطية: داود من بنى إسرائيل وكان ملكا، وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه، فسمى ميراثا تجوزا، يعنى أن الله هو الذى أعطاه ذلك باصطفائه له، وليس إرثا حتميا من أبيه كما تورث الأموال.
ومهما يكن من شىء فإن ذلك أمر لا يعنينا بعد أن ختمت النبوة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد من بعده -وبخاصة ممن ينتسبون إليه، أن يدعيها كميراث، وكان من حكمة الله أنه لم يجعل لنبيه ولدا يعيش من بعده حتى لا يدعى وراثة النبوة وعلينا أن نهتم بميراثه الذى تركه لنا وهو العلم، الذى نبه أحد الصحابة إليه، حيث قال لهم: أنتم هنا وميراث الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم فى المسجد، فلما ذهبوا لم يجدوا إلا حلقة العلم فعرفوا أنها المقصودة بالميراث.
وهو شرف كبير أن يكون العلماء هم ورثة هذا الهدى النبوى الذى أوصى بالتمسك به كما جاء فى الحديث " تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدى أبدا، كتاب الله وسنتى " رواه الحاكم وصححه(8/155)
أين هبط آدم وأين دفن؟
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الأرض التى هبط عليها أبونا آدم، ومتى وكيف تم ذلك، وهل دفن فى الأرض وفى أى مكان يوجد قبره؟
الجواب
القرآن الكريم لم يقص علينا من أخبار السابقين إلا ما فيه العبرة والموعظة فقط، وذلك من أسرار بلاغته التى يراعى فيها مقتضى الحال، ولا حاجة إلى سرد التفاصيل والجزئيات التى لا يضر الجهل بها، ويترك للناس البحث عنها تنشيطا للفكر وازديادا فى الثقافة.
وقد ذكر القران بعض قصص الأنبياء، وسلط الأضواء على جوانب منها حتى مع تكرار ذكر القصة الواحدة فى عدة مواضع، اقتضاه نزول القران منجَّما على مدى ثلاثة وعشرين عاما، قال تعالى {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك فى هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} هود:125وقال {لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل.كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} يوسف:111 وبخصوص سيدنا آدم ذكر القران أن الله أهبطه إلى الأرض {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين} الأعراف: 24 وقال من قبل ذلك للملائكة {إنى جاعل فى الأرض خليفة} البقرة: 30 ولم يبين المكان الذى هبط عليه من الأرض، وذلك لعدم الحاجة إليه، وقد استغل بعض الناس هذا الأمر استغلالا سياحيا أو لمصالح أخرى فادَّعوا أنه هبط على أعلى قمة فى جبل بالهند بجزيرة سيريلانكا "سيلان سابقا" وأنَّ قدمه أثرت فى الصخر ومشى هناك خمسمائة سنة يبكى على هابيل وتكونت من دموعه ودموع حواء عين ماء، والناس يتوافدون على المكان لزيارته، كما استغلت مناطق أخرى لهذا الغرض.
ومما يشاع أنه هبط فى مكان وحواء فى مكان آخر هو جدة وبعد بحث وتعب التقيا على جبل عرفات فسمى بهذا الاسم لهذا السبب، كما يقال: إنه دفن فى جزيرة العرب وله قبر طوله ستون ذراعا، ولكن كل ذلك لا يدل عليه دليل صحيح، وبخاصة أن اَلاف السنين مرت عليه، والآثار التى مر عليها أقلُّ من ذلك ما زال كثير منها مجهولا، وبالطبع دُفن آدم فى الأرض بعد موته، لأن قابيل لما قتل أخاه هابيل واحتار فى أمره بعث الله غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه. فدفنه فى حفرة فى الأرض، وكان ذلك سُنة متبعة فى ذريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، {إذا زلزلت الأرض زلزالها. وأخرجت الأرض أثقالها} الزلزلة: 1، 2 وهم الموتى فى القبور.
هذا، وقد ذكر الزرقانى فى شرحه للمواهب للقسطلانى "ج 1 ص 64" أن آدم مات بمكة يوم الجمعة ودفن فى قبر بغار أبى قبيس كما ذكره الثعلبى وغيره، وعن ابن عباس أن آدم بعد ما حج عاد إلى الهند ومات بها، وعن ثابت البنانى أنهم دفنوه فى " سرنديب " فى الموضع الذى أهبط فيه، وصححه الحافظ ابن كثير. وقيل: دفن بين بيت المقدس ومسجد إبراهيم، وقيل غير ذلك، وعاشت حواء بعده سنة وقيل ثلاثة أيام ودفنت بجنبه.
وكل ذلك كلام ليس عليه دليل صحيح.
وبعد، فإذا كنت تسأل أيها السائل عن قبر أبينا آدم لتزوره وتترحم عليه فخير من ذلك ألف مرة أن تسير على النهج الذى رسمه له ربه عندما أهبطه إلى الأرض حيث قال تعالى {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} طه: 123(8/156)
جنة آدم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الجنة التى كان بها سيدنا آدم، هل هى جنة الخلد أو جنة أخرى؟
الجواب
هناك خلاف بين العلماء فى الجنة التى أسكن الله آدم فيها، وأخرجه وأخرج إبليس منها، هل هى الجنة التى أعدها الله ثوابا للمؤمنين بعد البعث والحساب، أو هى جنة فى الدنيا أى بستان من البساتين؟ جاء فى المواهب اللدنية للقسطلانى وشرحها للزرقانى "ج 1 ص 61 " وفى تفسير القرطبى "ج 1 ص 302" أن جمهور الأشاعره قال:
هى جنة الخلد، بل حكى إجماع أهل السنة عليه، لأن اللام فى قوله تعالى {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} الأعراف: 19 هى لام العهد، ولا معهود ولا معروف إذ ذاك غيرها، ولقوله تعالى فى وصفها {إنَّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحَى} طه: 118،119 وذلك صفة جنة الخلد، ولقوله تعالى: {اهبطوا} والهبوط يكون من علو إلى أسفل، ولا يستقيم ذلك فى بستان مخلوق على الأرض، ولأن موسى لما لقى آدم عليهما السلام، وقال له: "أنت أتعبت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، لم ينكر ذلك آدم، وإنما قال: أتلومنى على أمر قدره الله عليَّ قبل أن أخلق " الحديث صحيح، ولو كانت غيرها لرد على موسى.
وقيل: هى غير جنة الخلد، حكاه منذر بن سعيد، زاعما كثرة الأدلة عليه، وحكاه الماوردى وابن عقيل والقرطبى والرمانى وغيرهم.
واختلف القائلون به، فقال بعضهم: هى بستان بأرض عدن، كما فى القرطبى، أو بأرض فلسطين، أو بين فارس وكرمان كما فى البيضاوى.
وقال الرازى وابن عقيل: ويحمل هؤلاء الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما فى قوله تعالى {اهبطوا مصرا} البقرة: 61.
وقيل: هى جنة أخرى كانت فى السماء السابعة، وهو قول أبى هاشم ورواية عن الجبَّائى. قال ابن عقيل: وهى دعوى بلا دليل، فلم يثبت أن فى السماء غير بساتين جنة الخلد. وقال هؤلاء: إن جنة الدنيا جعلها الله دار ابتلاء لآدم وحواء، لأن جنة الخلد إنما يُدخَل إليها يوم القيامة، وهذه دخلت قبله، ولأن جنة الخلد دار ثواب وجزاء وليست دار تكليف وأمر ونهى، ودار سلامة من الآفات والخوف وليست دار ابتلاء ومحن، ودار قرار لقوله تعالى {وما هم منها نمخرجين} الحجر: 48 وليست دار انتقال، وآدم وحواء وإبليس انتقلوا منها.
وأجاب القائلون بأنها جنة الخلد بأن الدخول العارض غير الدائم قد يقع قبل يوم القيامة، بدليل أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم دخلها ليلة الإسراء ثم خرج منها، وأخبر بما فيها وأنها جنة الخلد حقا، وبأن ما ذكره أهل الرأى الثانى من أن الجنة لا يوجد فيهما وجده آدم من الحزن والنصب والتعب بانكشاف عورته ومحاولة تغطيتها بورق الجنة إنما هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الآيات كلها فإنَّ نفى ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها.
يقول الزرقانى: ليس الرأيان متساويين، فقد قال القرطبى: هى جنة الخلد ولا التفات إلى ما ذهب إليه المعتزلة والقدرية من أنها جنة دنيوية فى عدن، وذكر أدلتهم وردها بما يطول.
ورجح الرمانى فى تفسيره أنها جنة الخلد أيضا، وقال: هو قول الحسن وعمر وواصل. وعليه أهل التفسير.
هذه صورة من الخلاف حول الجنة التى سكنها آدم وخرج منها، وهو أمر لا يجب علينا اعتقاده، والذى يهمنا هو العمل الصالح حتى نعود إلى الله ويمتعنا بجنة النعيم(8/157)
آدم والخلافة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى الخلافة التى وصف الله بها آدم عليه السلام ووصف بها الحكام؟
الجواب
يقول الله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة} البقرة:35 جاء فى تفسير القرطبى أن آدم عليه السلام خليفة الله فى إمضاء أحكامه وأوامره، لأنه أول رسول فى الأرض إلى أولاده، ومن هذه الآية كانت مشروعية نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة.1.هـ وقد يطلق اسم الخليفة على من يخلف غيره من الحكام والولاة بعد موتهم أو زوال حكمهم وولايتهم، أو يخلفه عند غيابه كنائب أو وكيل عنه، ومن الأول الخلفاء الراشدون والأمة الإسلامية التى قال الله فيها {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} النور: 55.
ومن الثانى نيابة هارون عن موسى عند ذهابه للميقات {وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} الأعراف: 142.
وقول الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق} ص: 26 يحتمل أن يكون معناه خليفة لتنفيذ أحكام الله كآدم عليه السلام، أو خليفة جاء بعد خلفاء سابقين، يقول الأصفهانى فى المفردات: والخلافة النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه وإما لموته وإما لعجزه وإما لتشريف المستخلف، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه فى الأرض، قال تعالى: {وهو الذى جعلكم خلائف الأرض} الأنعام: 165 والخلائف جمع خليفة.
وبهذه المناسبة يقول النووى فى كتابه " الأذكار" ص 358: ينبغى ألا يقال للقائم بأمر المسلمين " خليفة الله " بل يقال: الخليفة:
وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين، ولا يسمى أحد خليفة الله تعالى بعد آدم وداود عليهما الصلاة والسلام، ولم يرض أبو بكر قول رجل له:
يا خليفة الله، وقال: أنا خليفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنا راض بذلك يقول الماوردى فى كتابه الأحكام السلطانية " ص 15 ": إن الإمام سمى خليفة لأنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمته فيجوز أن يقال:
يا خليفة رسول الله، وعلى الإطلاق فيقال: الخليفة، واختلفوا هل يجوز أن يقال:
يا خليفة الله؟ فجوزه بعضهم لقيامه بحقوقه فى خلقه، وامتنع جمهور العلماء من جواز ذلك، ونسبوا قائله إلى الفجور(8/158)
أرضى الطوفان وأبناء نوح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أين مكان الأرض التى وقع بها الطوفان فى عهد سيدنا نوح، وما مدى صحة ما يقال عن أبنائه حام بأنه أب لكل الأفارقة، وسام أب لكل عبرى وعربى، ويافث أب لكل الأتراك؟
الجواب
الأرض التى وقع عليها الطوفان فى عهد نوح عليه السلام هى أرض العراق وهناك مكان يزعم الناس أنه المنطقة التى بلعت الماء حين قال الله تعالى {يا أرض ابلعى ماءك} هود: 44.
وأما أبناؤه فليس فيهم خبر صحيح فى القرآن والسنة، وقد ذكر القرطبى فى تفسيره "ج 7 ص 233" ما نصه: ذكر النقاش عن سليمان ابن أرقم عن الزهرى أن العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل اليمن من ولد سام بن نوح، والسند والهند والزنج والحبشة والزط والنوبة وكل جلد أسود من ولد حام بن نوح، والترك وبربر ووراء الصين، يأجوج ومأجوج والصقالبة، كلهم من ولد يافث بن نوح، والخلق كلهم ذرية نوح.
فهذا الكلام ليس حديثا مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وما ذكر ليس عقيدة نحاسب عليها(8/159)
عصمة إبراهيم عليه السلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
صح فى حديث الشفاعة يوم القيامة أن إبراهيم امتنع عنها لأنه كذب على ربه ثلاث مرات، فما هى هذه الكذبات وكيف يتفق ذلك وهو عصمة الأنبياء؟
الجواب
روى البخارى ومسلم حديث الشفاعة وطلب الناس من إبراهيم عليه السلام أن يشفع لهم فامتنع وقال" إنى كذبت ثلاث كذبات " وهى قوله عندما سألوه عمن كسر الأصنام {بل فعله كبيرهم هذا} وقوله عندما نظر فى النجوم {إنى سقيم} وقوله عن زوجته سارة إنها أخته. وأجاب العلماء عن الأولى بأن إبراهيم لم يكذب، بل أثبت أنه صادق ولكن بطريقة غير مباشرة، أو كان صدقه قضية تحمل معها دليلها، فلو كنت أنت مثلا خطاطا ماهرا ولا يجيد الكتابة أحد غيرك، ثم سألك شخص أمى غير مجيد للكتابة وقال لك: أأنت كتبت هذا؟ فقلت له باستهزاء: بل أنت الذى كتبته، فالغرض هو إثبات الكتابة لك مع استهزائك بالسائل الذى ما كان ينبغى أن يوجه هذا السؤال الظاهر البطلان. ولذلك لما أجابهم إبراهيم عليه السلام بأن الذى كسر الأصنام هو كبيرهم رجعوا إلى أنفسهم يتهمونها بالغباء.
لاعتقادهم ألوهية من لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، ولا يرد عن نفسه كيدا، ولكن العناد جعلهم يتمادون فى مجادلته وتكذيبه. ولجئوا أخيرا إلى التهديد باستعمال القوة والعنف، وهو سلاح كل عاجز عن الاستمرار فى المحاجة المنطقية.
وأجابوا عن الثانية وهى قوله: {إنى سقيم} بأنه كان بالفعل سقيما، وسقمه نفسى، وذلك من تماديهم فى الباطل على الرغم من قوة الحجة، كما قال الله تعالى فى حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} الكهف: 6، فقد أوهمهم إبراهيم أنه سقيم الجسم على ما كانوا يعتقدون من تأثير الكواكب فى الأجسام وهو فى الوقت نفسه سقيم النفس. وهذا الأسلوب من المعاريض التى فيها مندوحة عن الكذب.
وأجابوا عن الثالثة وهى وصف زوجته بأنها أخته - بأنه صادق فى هذا الوصف لأنها أخته فى الدين كما جاء فى صحيح الروايات، وذلك ليخلصها من ظلم الجبار روى مسلم "ج 15 ص 123 بشرح النووى" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لم يكذب إبراهيم النبى عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين فى ذات الله: قوله إنى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم، وواحدة فى شأن سارة، فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتى يغلبنى عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختى، فإنك أختى فى الإسلام، فإنى لا أعلم فى الأرض مسلما غيرى وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغى لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتى بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعى الله أن يطلق يدى ولا أضرك ففلعت فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال ادعى الله أن يطلق يدى فلكِ الله ألا أضرك ففعلت وأطلقت يده ودعا الذى جاء بها فقال له: إنما أتينى بشيطان ولم تأتنى بإنسان، فأخرجها من أرضى وأعطها "هاجر " قال: فأقبلت تمشى فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال لها "مَهيم "؟ قالت: خيرا، كف الله يد الفاجر وأخدم خادما" قال أبو هريرة فتلك أمكم يا بنى ماء السماء.
اسم هذا الجبار مذكور فى ص 81 من المجلد الثانى من هذه الموسوعة. ومعنى "مهيم " ما شأنك وما خبرك؟ ومعنى "أخدم خادما " أعطانى جارية تخدمنى وهى هاجر، والخادم يقع على الذكر والأنثى، والمراد "بماء السماء" العرب كلهم لخلوص نسبهم وصفائه، وقيل: لأن أكثرهم أصحاب مواش وعيشهم من المرعى والخصب وما ينبت بماء السماء، وقيل: المراد بهم الأنصار نسبة إلى جدهم "الأدد" وكان يعرف بماء السماء.
جاء فى شرح النووى لهذا الحديث أن المازرى قال: إن الكذب الذى يعصم منه الأنبياء هو الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى، أما فى غير ذلك ففى إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف، وذكر أن ما قاله إبراهيم عن سارة تورية وهى جائزة، وليست كذبا، ولو كان كذبا لكان جائزا فى دفع الظالمين، فقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانا مختفيا ليقتله أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصبا وسأل عن ذلك وجب على من علم ذلك إخفاؤه وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز بل واجب لكونه فى دفع الظالم، ثم نقل عن المازرى قوله: لا مانع من إطلاق الكذب على ما حدث من إبراهيم كما أطلقه النبى صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فالتأويل صحيح لا مانع منه.
ثم حمل قوله {إنى سقيم} على أنه سيسقم لأن الإنسان عرضة للسقم، وأراد به الاعتذار عن الخروج معهم إلى عيدهم وشهود باطلهم وكفرهم، وقيل: سقيم بما قدِّر على من الموت، وقيل: كانت تأخذه الحمى فى ذلك الوقت(8/160)
أين مات موسى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يمكن أن نعرف المكان الذى مات فيه سيدنا موسى عليه السلام؟
الجواب
مبدئيا نقول: ما هى الفائدة التى تعود علينا من معرفة المكان الذى مات ودفن فيه سيدنا موسى عليه السلام؟ لقد أشرت إلى عدم أهمية ذلك فى صفحة 68 من المجلد السادس من هذه الفتاوى بخصوص المكان الذى دفن فيه آدم عليه السلام، ويستفاد مما ذكره القرطبى فى تفسيره "ج 6 ص 129 " أن هناك خلافا فى كون موسى وهارون كانا مع بنى إسرائيل فى التيه الذى مكثوا فيه أربعين سنة، فقال بعضهم: لم يكونا معهم، لأن التيه عقوبة وهما لا يستحقانها، ويؤيده قول موسى لما قعد بنو إسرائيل عن دخول الأرض المقدسة كما قال تعالى {قال رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} المائدة: 25، وقيل: كانا معهم لكن سهَّل الله الأمر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم.
ثم قال القرطبى: وروى عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا فى التيه. وممن قال بذلك عمرو بن ميمون الأودى، وكانا خرجا فى التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بنى إسرائيل ولما سألوه عن هارون وأخبرهم بموته شكوا فى قتله. فبرأ الله موسى بنطق هارون فى قبره.
وقال الحسن: إن موسى لم يمت بالتيه، وقال الثعلبى: أصح الأقاويل أن موسى فتح أريحا ومكث بها ثم قبضه الله ولا يعلم بقبره أحد من الخلائق، وذكر القرطبى حديث مسلم عن مناقشة موسى لملك الموت، وقول النبى صلى الله عليه وسلم "فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر فقد علم الرسول قبره ووصف موضعه ورآه فيه قائما يصلى كما فى حديث الإسراء، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم، ولعل ذلك لئلا يعبد، ويعنى بالطريق طريق بيت المقدس. ووقع فى بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق. ثم تحدث القرطبى عن لطم موسى عين ملك الموت وقد مر الحديث عن ذلك. ثم قال: إن عمر موسى كان مائة وعشرين سنة(8/161)
موسى وملك الموت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن موسى عليه السلام لطم ملك الموت عندما أراد أن يقبض روحه؟
الجواب
إضافة إلى ما تقدم فى صفحة 643 من المجلد الأول من هذه الفتاوى أقول: روى مسلم عن أبى هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال:
أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله بليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعره سنة، قال: أى رب ثم مَه؟ قال ثم الموت، قال فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلو كنت ثمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر ".
قال القرطبى "ج 6 ص 132 " واختلف العلماء فى تأويل لطم موسى عين الملك وفقئها على أقوال، منها: أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقية، وهذا باطل، لأنه يؤدى إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له، ومنها أنها كانت عينا معنوية، وإنما فقأها بالحجة. وهذا مجاز لا حقيقة، ومنها أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت، وإنما رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه، فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها. وتجب المدافعة فى هذا بكل ممكن، وهذا وجه حسن، لأنه حقيقة فى العين والصك. قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما فى الحديث، وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال: يا رب أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت، فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت. وأيضا قوله فى الرواية الأخرى: أجب ربك. يدل على تعريفه بنفسه. والله أعلم.
ومنها أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب، إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته، وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت. قال ابن العربى: وهذا كما ترى، فإن الأنبياء معصومون من أن يقع منهم ابتداء مثل هذا فى الرضا والغضب.
ومنها -وهو الصحيح من هذه الأقوال -أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه، لكنه جاء مجىء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من "أن الله لا يقبض روح نبى حتى يخيره " فلما جاء على غير هذا الوجه الذى أعلم، بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت، إذ لم يصرح له بالتخيير.
ومما يدل على صحة هذا أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم، والله بنبيه أحكم وأعلم، هذا أصح ما قيل فى وفاة موسى عليه السلام، وقد ذكر المفسرون فى ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها، وفى الصحيح غنية عنها. وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فيروى أن يوشع رآه بعد موته فى المنام فقال له: كيف وجدت الموت؟ فقال: كشاة تسلخ وهى حية، وهذا صحيح معنى. قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح "إن للموت سكرات " انتهى ما قاله القرطبى.
وجاء فى "مشارق الأنوار" للعدوى ص 14: اخرج أحمد والبزار وصححه عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "كان ملك الموت يأتى الناس عيانا، فأتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه. .
. " فكان بعد يأتى الناس خفية وذكر العارف الشعرانى - بعد أن حكى رواية للإمام الترمذى بمثل هذا -إنما فقأ موسى عين ملك الموت بإذن من ربه عز وجل لأنه معصوم، ولذلك لم يعاقبه الله على ذلك.
وجاء فى كتاب "تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة الدينورى المتوفى سنة 276 هـ "ص 86" أن الله أعطى الملائكة قوة تتشكل بها كما تشاء، كما أعطى الجن هذه القوة، ثم قال: ولما تمثل ملك الموت لموسى عليه السلام، وهذا ملك الله وهذا نبى الله، وجاذبه لطمه موسى لطمة أذهبت العين التى هى تخييل وتمثيل، وليست حقيقة، وعاد الملك إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينتقص منه شىء(8/162)
حمل مريم بعيسى عليهما السلام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول الله تعالى عن نفخ الروح فى مريم وحملها بعيسى لولادته {فحملته فانتبذت به مكانا قصيا. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة. . .} مريم: 22،23، فما هى مدة حمل مريم بعيسى؟
الجواب
إضافة إلى ما تقدم فى صفحة 652 من المجلد الأول من هذه الفتاوى أقول: ليس هناك نص صحيح يبين مدة حمل السيدة مريم عليها السلام بسيدنا عيسى عليه السلام،يقول القرطبى فى تفسيره: وهذه القصة تقتضى أنها حملت واستمرت حاملا على عرف النساء وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر، وقيل لتسعة وقيل لسنة، والله أعلم، وجاء فى تفسير ابن كثير لسورة مريم مثل هذه الأقوال وأن الجمهور على إنها حملت به تسعة أشهر، ثم ذكر أن ابن عباس سئل عن حَبَل مريم فقال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت، ثم قال:
وهذا غريب، وكأنه أخذه من ظاهر قوله تعالى {فحملته فانتبذت به مكانا قصيًّا. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة} فالفاء وإن كانت للتعقيب -أى عدم التراخى -ولكن تعقيب كل شىء بحسبه، كما قال تعالى {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة. فخلقنا العلقة مضغة. فخلقنا المضغة عظاما} المؤمنون: 12 -14، فهذه الفاء للتعقيب بحسبها، وقد ثبت فى الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما، وقال تعالى {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} الحج:
63، فالمشهور الظاهر-والله على كل شىء قدير-أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن، ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها، وكان معها فى المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس، يقال له يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره وأنكر ذلك منها، ثم صرفه ما يعلم عن براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمل ما هى فيه فجعل أمرها يجوس فى فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه فحمل نفسه على أن عرِّض لها فى القول، فقال: يا مريم إنى سائلك عن أمر فلا تعجلى علىَّ قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت نعم -فهمت ما أشار إليه - أما قولك "هل يكون شجر من غير حب، وزرع من غير بذر " فإن الله خلق الشجر والزرع وأول ما خلقهما من غير حب ولا بذر،"وهل خلق ولد من غير أب " فإن الله خلق آدم من غير أب ولا أم، فصدقها وسلم لها حالها، انتهى ما قاله ابن كثير والله أعلم بصحة هذه المحاورة بين مريم ويوسف النجار، ولكن موضوعها صحيح فيما أجابت به مريم على أسئلته.
ومهما يكن من شىء فإن هذا لا نكلف به كعقيدة، وهو مدة حملها، والمهم أنها ولدته من غير زواج ولا طريق أخركما نصت عليه آيات القرآن الكريم(8/163)
رؤية النبى صلى الله عليه وسلم بعد وفاته
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يمكن رؤية النبى صلى الله عليه وسلم يقظة بعد وفاته؟
الجواب
روى البخارى ومسلم وغيرهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
" من رآنى فى المنام فسيرانى، فى اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بى ".
لقد وضع الحافظ السيوطى رسالة فى روية النبى صلى الله عليه وسلم " مناما ويقظة سماها " تنوير الحلك فى إمكان رؤية النبى جهارا أو الملك " كما تحدث عنها غيره مثل القسطلانى فى المواهب اللدنية بشرح الزرقانى، وقد استخلصت من ذلك ما يأتي:
1 - رؤية النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام جائزة، على خلاف فى رؤية الشخص أو المثال، وما يحتاج إلى تعبير وما لا يحتاج إليه، وذلك كرؤية الإنسان لأى شخص بعد وفاته.
2 -من راَه فى المنام فسيراه، تحقيقا للوعد الذى جاء فى الحديث، على خلاف فى هذه الرؤية إن كانت فى الدنيا أو فى الآخرة، أو كانت لمن راَه حال حياته صلى الله عليه وسلم خاصة، أو عامة لكل إنسان إلى يوم القيامة.
3-رؤيته يقظة بعد موته ليس هناك نص يمنعها، فهى ممكنة، على خلاف فى هذه الرؤية:
فإن كانت مثالية أى صورة يستحضرها الإنسان حتى تبدو كأنها الحقيقة فذلك لا مانع منه، ويحمل عليه ما يراه بعض الصالحين، وإن كانت روية شخصية وكان الرائى قد راَه فى قبره فذلك لا مانع منه، كما رأى النبى صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام فى قبره، وهى لأصحاب الكرامات، والكرامات معترف بها كالمعجزات، مع التحفظ على أن هذه الرؤية الشخصية ربما لا تكون تماما كالرؤية بالعين الباصرة المتعارفة عند الناس.
4 - حوادث رؤية النبى صلى الله عليه وسلم بعد موته كثيرة، لكن أسانيد رواياتها ظنية، وهناك مندوحة لعدم تصديقها، والرائى لا بد أن يكون عدلا، وفى الوقت نفسه يكون متثبتا مما رآه، كامل العقل والقدرة على الإخبار به كما حدث، وبدون ذلك تقوى التهمة، وكل راوٍ له استعداده فى التحمل والنقل، والأداء ربما لا يعتبر تماما عن الرؤية.
5 -ما يُدَّعى أنه أمِرَ به أو نهى عنه فى الرؤية الشخصية لا يمكن أن يعارض الثابت فى القرآن والسنة.
6 -ينبغى لمن حصل له ذلك ألا يستغله استغلالا سيئا لمصلحة نفسه أو لغرض آخر لا يتفق مع الدين، وهو حرٌّ فى تصديق ما يراه، لكن لا يفرضه على غيره.
7-يجب الاهتمام بتنفيذ ما جاء فى القرآن والسنة، فالاعتصام بهما سبيل الهدى وحماية من الضلال، والدين واضح وكامل وتام ليس فى حاجة إلى زيادات بعد ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة المجتهدين. وكل ما يقال عن الجديد فلا بد أن يأخذ شرعيته من أصول الدين.
8 -الخلاف فى مسألة الرؤية غير مفيد، والوقت الذى يبذل فيه تأييدا أو إنكارا ينبغى أن يبذل فيما هو أهم، فالقضايا والمشكلات كثيرة، ومن مصلحة العدو أن ننصرف عنها إلى هوامش ليست من صحيح العقيدة الإسلامية وأصول التشريع.
9 - لا يجوز مطلقا أن يرمى أحد بالكفر لتكذيبه دعوى جواز الرؤية الشخصية للرسول صلى الله عليه وسلم أو وقوعها، ولا أن يرمى أحد بالزيغ والضلال لمجرد القول بها، فإذا تجاوزت الحد بأى نوع من التجاوز كان التفاهم بالحسنى لتصحيح الخطأ أو الحد من التعصب. 10 - مسألة الرؤية هذه ليست من العقائد المفروضة التى يترتب على إنكارها الكفر، فالعقائد لا تثبت إلا بما يفيد العلم اليقينى ولا يوجد عليها دليل فى القرآن الكريم، ودليلها من السنة ليس قطعيا فى دلالته، فالاحتمال موجود حتى على فرض قطعية الثبوت بالحديث الصحيح الذى لم يبلغ مبلغ التواتر(8/164)
الصلاة والسلام على غير الرسول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول الله سبحانه {إن الله وملائكته يصلون على النبى، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب: 56، فهل يجوز أن نصلى ونسلم على غير النبى محمد صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
جاء فى كتاب " الأذكار " للنووى " ص 120 " أن إجماع من يعتدُّ به على جواز الصلاة واستحبابها على سائر الأنبياء والملائكة استقلالا - أى يقال مثلا: موسى عليه الصلاة والسلام، جبريل عليه الصلاة والسلام - وأما غير الأنبياء فالجمهور أنه لا يصلى عليهم ابتداء، فلا يقال: أبو بكر صلى الله عليه وسلم.
واختلف فى هذا المنع، فقال بعض أصحابنا - الشافعية - هو حرام، وقال أكثرهم: مكروه كراهة تنزيه - أى لا عقوبة فيه - وذهب كثير منهم إلى أنه خلاف الأولى وليس مكروها، والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه، لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم، والمكروه هو ما ورد فيه نهى مقصود. قال أصحابنا: والمعتمد في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة فى لسان السلف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، كما أن قولنا "عَزَّ وجل " مخصوص بالله سبحانه وتعالى، فكما لا يقال: محمد عز وجل، وإن كان عزيزا جليلا، لا يقال: أبو بكر أو على صلى الله عليه، وإن كان معناه صحيحا.
واتفقوا على جعل غير الأنبياء تبَعًا لهم فى الصلاة، فيقال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه، للأحاديث الصحيحة فى ذلك، وقد أمرنا به فى التشهد ولم يزل السلف عليه خارج الصلاة.
وأما السلام فقال الشيخ أبو محمد الجوينى من أصحابنا: هو فى معنى الصلاة فلا يستعمل فى الغائب، فلا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: على عليه السلام، وسواء فى هذا الأحياء والأموات، وأما الحاضر فيخاطب به، فيقال: سلام عليك أو سلام عليكم أو السلام عليك أو عليكم. وهذا مجمع عليه. انتهى كلام النووى.
وجاء فى " غذاء الألباب للسفارينى ج 1 ص 21 " اختلف العلماء فى الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل تجوز استقلالا أو لا، فقال ابن القيم فى " جلاء الأفهام " هذه المسألة على نوعين، أحدهما أن يقال: اللهم صلى على آل محمد، هذا يجوز، ويكون صلى الله عليه وسلم داخلا فى اله، فالإفراد عنه وقع فى اللفظ لا فى المعنى. والثانى أن يفرد واحدا بالذكر، كقوله: اللهم صلى على علىٍّ أو حسن أو أبى بكر أو غيرهم من الصحابة ومن بعدهم، فكره ذلك مالك، قال: لم يكن ذلك من عمل من مضى، وهو مذهب أبى حنيفة وسفيان بن عيينة وسفيان الثورى، وبه قال طاووس. وقال ابن عباس رضى الله عنهما: لا تنبغى الصلاة إلا على النبى صلى الله عليه وسلم، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار، وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز. روى ابن أبى شيبة عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن ناسا من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن من القصَّاص قد أحدثوا فى الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل صلاتهم على النبى صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء كتابى فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاؤهم للمسلمين عامة.
وهذا مذهب أصحاب الشافعى ولهم ثلاثة أوجه، أنه منع تحريم أو كراهة تنزيه أو من باب ترك الأولى وليس بمكروه، حكاها النووى فى الأذكار.
ثم قال: وقالت طائفة من العلماء: تجوز الصلاة على غير النبى استقلالا، قال القاضى أبو حسين الفرَّا من أئمة أصحابنا - فى رؤوس مسائله -:
وبذلك قال الحسن البصرى ومجاهد ومقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان وكثير من أهل التفسير، وهو قول الإمام أحمد رضى الله عنه، مض عليه فى رواية أبى داود، وقد سئل أينبغى أن يصلى على أحد إلا على النبى صلى الله عليه وسلم؟ قال: أليس قال على لعمر: صلى الله عليك؟ قال القاضى: وبه قال إسحاق بن راهويه وأبو ثور ومحمد بن جرير الطبرى، واحتج هؤلاء بصلاة النبى صلى الله عليه وسلم على جماعة من أصحابه ممن كان يأتيه بالصدقة، واختار ابن القيم الجواز ما لم يتخذه شعارم أو يخص به واحدا إذا ذكَر دون غيره ولو كان أفضل منه، كفعل الرافضة مع على دون غيره من الصحابة فيكره، ولو قيل حينئذ بالتحريم لكان له وجه، هذا ملخص كلامه.
ثم تحدث السفارينى عن السلام هل هو كالصلاة خلافا ومذهبا أو ليس إلا الإباحة فيجوز أن يقول: السلام على فلان، وفلان عليه السلام؟ أما مذهبنا - الحنبلى- فقد علمت جوازه من جواز الصلاة على غير النبى صلى الله عليه وسلم استقلالا بالأولى، وأما الشافعية فكرهه منهم أبو محمد الجوينى، فمنع أن يقال: فلان عليه السلام، وفرق آخرون بينه وبين الصلاة فقالوا: السلام يشرع فى حق كل مؤمن حى وميت حاضر وغائب، فإنك تقول: بلغ فلانا منى السلام، وهو تحية أهل الإسلام، بخلاف الصلاة فإنها من حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول المصلى: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ثم ذكر السفارينى أن الصلاة على غير النبى صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين والملائكة جائزة بطريق التبعية(8/165)
علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل "؟
الجواب
لم أر نصا لهذا الحديث منسوبا إلى النبى صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، ومما قرأته فى فضل العلماء وعلو منزلتهم بعد قول الله تعالى {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} المجادلة: 11، قرأت فى إحياء علوم الدين للإمام الغزالى "ج 1 ص 6 " حديثا يقول " أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد، أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل، وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل " وفى تخريج العراقى جاء أن الذى رواه أبو نعيم فى فضل العالم العفيف من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف، كما قرأت حديثا رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحه جاء فيه " والعلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكنهم ورثوا العلم. . . . . ".
وكل ذلك إشادة بقدر العلماء وقربهم من درجة النبوة لأنهم ورثة الأنبياء، لكن التصريح بأنهم كأنبياء بنى إسرائيل لم أعثر له على حديث صحيح.
بل حكم بعض الباحثين بأنه واه، والواهى فى درجة الموضوع " مجلة الإسلام -المجلد الرابع -العدد 29 ". جاء فى الزرقانى على المواهب اللدنية "ج 6 ص 158 " أن هذا الخبر قال عنه الحافظ ابن حجر، ومن قبله -الدميرى والزركشى، إنه لا أصل له: زاد بعضهم: ولا يعرف فى كتاب معتبر، وسئل عنه الحافظ العراقى فقال: لا أصل له ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغنى عنه "العلماء ورثة الأنبياء " وهو حديث صحيح(8/166)
صلاة لرؤية الرسول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك صلاة يصليها الإنسان ليرى الرسول صلى الله عليه وسلم فى المنام؟
الجواب
وجد فى بعض الكتب عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من صلى ليلة الجمعة ركعتين يقرأ فى كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسى مرة، وقل هو الله أحد خمس عشرة مرة، ويقول فى آخر صلاته: اللهم صل على محمد النبى الأمى ألف مرة، فإنه يرآنى فى المنام، ولا تتم له الجمعة الأخرى إلا وقد رآنى، ومن رآنى فله الجنة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ".
معلوم أن الصلاة خير موضوع، وأن قراءة القرآن ثوابها عظيم، وان رؤية النبى صلى الله عليه وسلم يتشوف إليها كل مؤمن، ولكن ورود هذه الكيفية لرؤيته لم يصح بها حديث منسوب إليه صلى الله عليه وسلم. ولو كان ذلك صحيحا لجربه كل الناس واستمتعوا برويته مناما فى كل ليلة أو فى ليال كثيرة.
ولا أعرف أثرا آخر يرشد إلى وسيلة يرى بها النبى صلى الله عليه وسلم، وإن كان من الجائز أن من اشتد حبه للرسول عن طريق العمل الخالص بسنته، وكان على ذاكراته كثيرا - من الجائز أن يكرمه الله ويحقق له ما يريد، وهو أمر معروف مع كل من نام وهو مستغرق فى الفكر نحو شىء معين(8/167)
حديث " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وكثير من الناس يصلون ومع ذلك لا ينتهون عن الفحشاء والمنكر فهل نقول لهؤلاء: لا تصلوا ما دامت صلاتكم لا تنفع؟
الجواب
يقول اللَّه سبحانه {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت:45، والمعنى أن الصلاة إذا أديت تامة بأركانها وشروطها وبخشوعها قوت الإيمان باللَّه والخوف من معصيته واستقام بها السلوك، أما إذا أديت على غير هذا الوجه فإنها لا تفيد المصلى، لا في عقيدته ولا في سلوكه.
وبقدر ما يكون في الصلاة من الإتقان وباطنا يكون الثواب من اللَّه ويكون تأثيرها على المصلي، وقد جاء فى حديث أبي داود والنسائي وابن حبان قوله صلى الله عليه وسلم "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها" وذلك كله حث على أدائها كاملة الأركان والشروط، ومن أهمها الإخلاص والخشوع.
والقول المذكور فى السؤال موقوف على ابن مسعود، وليس من كلام النبى صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أحمد فى مسنده، وإن رفعه ابن جرير فهو مرسل من حديث الحسن سقط منه الصحابى، ورواه الطبرانى وابن مردويه بإسناد لين كما فى تخريج العراقى لأحاديث إحياء علوم الدين.
وليس معنى هذا الكلام أننا لا نصلى ما دامت الصلاة لا تقوم سلوكنا، أو أننا إذا صليناها كانت صلاة باطلة غير صحيحة ولابد من إعادتها على الوجه المطلوب، كما لا ينبغى أن نجزم بأن اللَّه لم يقبلها فذلك موكول إلى الله سبحانه، والواجب أن نستمر فى أداء الصلاة مع محاولة إتقانها بكل ما يلزم لها، والمجاهدة فى سبيل ذلك قد يفتح اللَّه بها القلوب، والاتصال بالله على أى نحو من الأنحاء خير من الانقطاع عنه "راجع قول ابن عطاء اللَّه السكندرى فى عنوان شرود الذهن فى الصلاة "(8/168)
حديث " ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال " ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها"؟
الجواب
ذكر الإمام الغزالى هذا الحديث في كتابه "الإحياء" عندما تحدث عن اشتراط الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها، وعقب عليه العراقي في تخريجه للأحاديث بقوله: لم أجده مرفوعًا، أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى محمد بن نصر المروزى في كتاب الصلاة من رواية عثمان بن أبي دهرش مرسلا-يعني سقط منه الصحابي -"لا يقبل اللَّه من عبد عملا حتى يشهد قلبه مع بدنه " ورواه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث أبيّ بن كعب، ولابن المبارك في الزهد موقوفًا على عمار "لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه ".
فالمعنى صحيح، ولكن نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليست صحيحة، وترجع صحة المعنى إلى أن اللَّه سبحانه وتعالى قد تحدث عن الصلاة التي تؤدي إلى الفلاح فقال {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} المؤمنون: 1، 2،.وقال {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} البقرة:
45، والخشوع يكون يفهم ما يقوله المصلي ويفعله، أما الساهي والغافل فلا خشوع له(8/169)
البشارات بالنبى صلى الله عليه وسلم فى كتب الهند
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل توجد بشارات بالنبى صلى الله عليه وسلم فى الكتب المقدسة عند الهنود؟
الجواب
من المعلوم أن الكتب السماوية السابقة بشرت بالنبى صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل} الأعراف: 157، كما أن من المعلوم أن جميع الأنبياء السابقين أخذ الله عليهم العهد أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا أدركوه، قال تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} آل عمران: 181.
كما أن من المعلوم أيضا أن الله أرسل رسلا كثيرة، منهم من قص أسماءهم وأخبارهم على النبى صلى الله عليه وسلم ومنهم من لم يقص عليه، ولم تخل أمة من الأمم إلا أرسل الله إليها رسولا، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى {ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36،.
وقد أنزل الله كتبا على هؤلاء الرسل، لا نعرف منها إلا ما قصه علينا القرآن الكريم من صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى وقرآن محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
لكن هل أرسل الله رسلا فى الهند، وهل أنزل عليهم كتبا؟ ذلك ما لم يثبت بدليل قاطع، لأن الرسول قد يطلق على النبى الموحى إليه برسالة يبلغها، وقد يطلق على من يرسله النبى إلى جماعة لتبليغهم.
كما قيل فى قوله تعالى {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون. إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون} يس: 13، 14، حيث قال المفسرون إنهم موفدون من قِبَلِ سيدنا عيسى عليه السلام، وقد يكون لجماعة من الرسل كتاب واحد يتابعون الدعوة إليه كأنبياء بنى إسرائيل من بعد موسى والتوراة التى نزلت عليه.
ومن المعروف تاريخيا أن الهند من قديم الزمان فيها ديانات، من أقدمها البرهمية أو البراهمانية التى نشأت قبل الميلاد بنحو اثنى عشر قرنا، وكذلك البوذية التى نشأت فى القرن السادس قبل الميلاد ومنها الهندوسية التى حاربها الآريون الوافدون على الهند قبل الميلاد، بأكثر من قرن ونصف، وهى أشبه بالمذهب الفلسفى، حيث لا يعرف لها نبى معين ولا كتاب مقدس واحد بالذات.
والنصوص المقدسة فى الهند مكتوبة باللغة السنسكريتية القديمة التى من أشهرها: الفيدا والأوبانيشاد. والديانة البرهمية متعددة الآلهة التى يقسمونها إلى ثلاث مجموعات، أقواها: فيشنو وشيفا.
وما دامت هذه الديانات وضعية وكتبها كذلك وضعية فكيف يتسنى لها أن تبشر بنبى يبعث آخر الزمان؟ أنا لم أعثر على ما يفيد بشارة هذه الكتب بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانت هناك مشابهة إلى حد كبير بين نصوص فى بعض هذه الكتب الهندية ونصوص فى الكتب السماوية المقدسة عند اليهود والنصارى، لا أعلم أيها أسبق من الأخرى، ونحن نعلم أنها ليست جميعها وحيا صحيح النسبة إلى الله سبحانه كما قرر القرآن الكريم(8/170)
حفظ أربعين حديثا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هذا الحديث صحيح " من حفظ على أمتى أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله فى زمرة الفقهاء والعلماء "؟
الجواب
الذى ورد هو "من حفظ على أمتى أربعين حديثا من السنة كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة" رواه ابن عدى عن ابن عباس مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ورواه ابن النجار عن ابن سعد مرفوعا بلفظ "من حفظ على أمتى أربعين حديثا من سنتى أدخلته يوم القيامة فى شفاعتى ".
أشار السيوطى فى الجامع الصغير إلى الرواية الأولى بالضعف، وأيده فى ذلك المناوى فى "فيض القدير" وقال: روى من طرق عدة عن بعض الصحابة، ولكن الأسانيد كلها ضعيفة وإن كانت كثرة الطرق تعطيه قوة، قالى ابن عساكر: وأجود طرقه خبر معاذ مع ضعفه.
وأشار السيوطى إلى الرواية الثانية بالصحة، ولكن يبدو أن الإشارة خطأ مطبعى، لأن المناوى لم يتعرض لها ولكن قال: إن الحديث ضعيف وعلى هذا فالروايتان ضعيفتان "فيض القدير ج 6 ص 119 "(8/171)
الإثم ما حاك فى الصدر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى الحديث الشريف " الإثم ما حاك فى الصدر وتخشى أن يطلع عليه الناس "؟
الجواب
روى أحمد عن وابصة بن معبد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال له "يا وابصة، استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى القلب وتردد فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك " ورواه مسلم بلفظ "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك فى صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " وروى البغوى مصابيح السنة "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن ". تدل هذه الأحاديث على أن هناك قوة باطنة تستطيع أن تميز بين الخير والشر، بالاطمئنان إلى الأول وعدم الارتياح إلى الثاني، وجاء التعبير عن هذه القوة مرة بالنفس وأخرى بالقلب، وثالثة بالصدر، وقد تحدث عنها الإمام الغزالى فى شرح عجائب القلب، وفى المراقبة والمحاسبة، ويعبر عن هذه القوة حديثا باسم الضمير.
إن هذه الأحاديث تبين قيمة الضمير الذى تربى تربية دينية. فهو يحس بالخير والشر على ضوء هذه التربية. وذلك ما كان عليه الصحابة والسلف الصالح، الذين لم تلوث ضمائرهم فلسفات ولا نزعات أخرى. والضمير الدينى الحى لا يستسيغ الشر، ويكره أن يطلع الناس عليه لو فعله، فهو يستحى منه، والحياء شعبة من شعب الإيمان.
وهذا مقياس لمن تربى ضميره على الخير. أما من تربى ضميره على الشر والمبادئ البعيدة عن الدين فمقياس الخير والشر عنده غير سليم، وأصحاب الضمائر الحية هم أصحاب النفوس الراضية المرضية المطمئنة التى وصلت إلى هذه الدرجة عندما كانت تحس بالسوء وتفعله، فيكون اللوم والعتاب، ويكون الحياء من العود إليه، قال تعالى {ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها} الشمس: 7- 10،.
وقد تصل قوة هذا الضمير عند ذوى المروءات والهمم العالية والإحساس المرهف والمراكز الكبيرة إلى درجة أن بعض المباحات التى تستساغ من غيرهم يرونها محرمة عليهم غير لائقة بهم، ويكرهون أن يطلع الناس عليهم وهم يزاولونها. لأنها ستكون موضع نقد لاذع بالنسبة لمقاماتهم، وذلك على حد قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وأحذر ثم أحذر من أن يتخذ كل إنسان هذا الإحساس مقياسا لكل ما يصدر منه، فذلك خاص بمن تربوا تربية دينية سليمة، ولم يجدوا نصا فى أمر، فيرجعون إلى ضمائرهم الطيبة لاستفتائها فى هذا الأمر، أما أن يتخذه آخرون ممن يجهلون أحكام الدين ولا يبالون بها مقياسا لما يصدر منهم، فذلك اتباع للهوى، وقد يفضلون هذا الإحساس على المنصوص عليه، وفى ذلك يقول الله سبحانه {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله} الجاثية: 23،(8/172)
الإناء يستغفر للاعقه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال " الإناء يستغفر للاعقه " وكيف يصح هذا مع أنه من مستهجنات العصر؟
الجواب
يتصل بهذا السؤال سؤال آخر وهو لعق الأصابع، وسيكون الجواب فى نقطتين.
النقطة الأولى لعق الأصابع: روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يأكل كما يأكل أصحابه بأصابعهم، وكان يلعق أصابعه بعد الأكل.
وأوصى أصحابه بذلك قبل أن يمسحوها بمنديل ونحوه، كما رواه مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال "إنكم لا تدرون فى أى طعامكم البركة" وجاء فى رواية لمسلم أيضا عن أنس:
وأمرنا أن نسلت القصعة والسَّلْت -كما فسره النووى- هو المسح وتتبع ما بقى فى القصعة من الطعام "ج 13 ص 207".
فى هذا الإرشاد نظافة وعدم ضياع شيء من الطعام، فهو هدى صحى واقتصادى.
(ا) فلعق الأصابع تنظيف لها قبل أن تمسح بالمنديل ونحوه، وهو يكون بعد الانتهاء من الأكل، وأما فى أثناء تناول الطعام فيكره لعق الأصابع، لأن الريق سيخالط ما فى الإناء، والنفوس تعاف ذلك، وقد يكون وسيلة لنقل بعض الأمراض، "الزرقانى على المواهب ج 4 ص 2 34 وغذاء الألباب للسفارينى ج اص 9 0 2 ".
(ب) أما لعق الصحفة أى الإناء الذى فيه الطعام كالثريد الذى كانوا يأكلونه بأصابعهم، فيصور بصورتين، الأولى أن يكون باللسان، والثانية أن يكون بطريقة السلت أى مسح ما بقى من الطعام فى الإناء ثم لعقه بالإصبع.
وإذا كان الآكل شخصا واحدا من إناء خاص وليس طعاما لجماعة، فيمكن أن يلعق الإناء بلسانه، ويمكن أن يمسحه بالإصبع ثم يلعق أصبعه، أى أن اللعق يمكن أن يكون بإحدى الصورتين، ولا عيب فى ذلك ولا ضرر.
أما إذا كان الإناء فيه طعام لجماعة يأكلون منه فإن اللعق باللسان لا يتصور منهم جميعا، بل يكون من شخص واحد بعد انتهائهم جميعا من الأكل، وأما السلت بالأصابع فيتصور أن يكون من أكثر من شخص، حيث يتتبع كل آكل بأصبعه ما توارى أو بقى فى جوانب الصحفة أو الإناء، فيأخذه ويأكله، وهذا أمر تعودوا عليه ولا يرون فيه بأسا، وإن كانت تعافه بعض النفوس الأخرى.
والمهم هو تنفيذ المطلوب بالوسيلة التى يتواضع عليها الناس، فلا يبقى فى الإناء طعام يلقى ويضيع، أو يترك ليتعفن ويفسد إن لم يغسل بل نلتقطه بالملعقة أو الشوكة أو السكين ونحو ذلك، بل يندب أن يلتقط ما وقع من الطعام وينظف ويؤكل ولا يترك للشيطان كما جاء فى صحيح مسلم.
هذا، وقد جاء فى "الأوائل " للسيوطى أن أول من اتخذ الملعقة سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام "غذاء الألباب ج 2 ص 83".
النقطة الثانية استغفار الإناء: المراد من ذلك هو الحث على النظافة والترغيب فى عدم شيء يسبب القذارة، أو يضيع دون فائدة، وقد جاء فى ذلك حديث رواه الترمذى وابن ماجه وأحمد والبغوى وغيرهم، وقال عنه الترمذى: حديث غريب، أى رواه راو واحد فقط فى سلسلة الرواة-والغريب قد يكون صحيحا وقد يكون حسنا-هذا الراوى الواحد قالوا: إنه هو المعلَّى بن راشد الذى رواه عن أم عاصم نبيشة، ورواه عنه كثيرون كما ذكر فى "تحفة الأحوذى شرح الترمذى" انظر: أسد الغابة فى معرفة الصحابة رقم 5091 والزرقانى على المواهب ج 4 ص 342 - والحديث بلفظ "من أكل طعاما فى آنية ثم لحسها استغفرت له القصعة" قال الزرقانى: حقيقة وشكرًا لفعله.
يعنى الاستغفار حقيقى، وحكمته شكر اللاعق على تنظيفه وبُعد الشيطان عن لعقه.
ولا مانع شرعا ولا عقلا أن يخلق الله فى الجماد تمييزا ونطقا، ويؤيده رواية الديلمى "استغفرت له القصعة فتقول: اللهم أجره من النار كما أجارنى من لعق الشيطان ".
وقيل: إن الاستغفار كناية عن حصول المغفرة له ابتداء، لأنه لما كان حصول المغفرة بواسطة لحسها غفر له، ولما كانت المغفرة بسبب لحسها كأنها تطلب له الغفران. هكذا فسروه.
هذا ما ورد، ولا يجوز أن يعلق عليه بالاستنكار، وبخاصة بعد توضيح المعنى، والعرف إذ ذاك كان يقبله، والنتيجة هى الحث على النظافة والاقتصاد.
وبهذه المناسبة سئل بعض العلماء عن هذا الحديث وعن حديث "إذا أكلتم فأفضلوا" فقال ما نصه: هذان حديثان لا أصل لهما "مجلة الإسلام - المجلد الرابع - العدد 36" وقد علمت أن حديث لعق الإناء والاستغفار للاعقه ورد بطريق صحيح، أما حديث "إذا أكلتم فأفضلوا "فلم أعثر له على تخريج مقبول حتى الآن(8/173)
حديث عن الشباب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "عجب ربك من شاب ليست له صبوة"؟
الجواب
روى الإمام أحمد والطبرانى عن عقبة بن عامر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "يعجب ربك من الشباب ليست له صبوة" والصبوة هى الميل والانحراف، أورد الإمام الغزالى هذا الحديث فى كتابه "إحياء علوم الدين " عند كلامه عن التوبة، وقال: إن الناس قسمان، شاب لا صبوة له، نشأ على الخير واجتناب الشر، وقال: إن هذا القسم عزيز نادر.
والعراقى فى تخريجه لأحاديث الإحياء قال: إن هذا الحديث فى سنده "ابن لهيعة" ولم يقل: إنه صحيح أو حسن أو ضعيف أو موضوع، ذلك لأن ابن لهيعة اختلف علماء الحديث فى قبول روايته وعدم قبولها. ومن الذين قبلوا روايته مطلقا أحمد بن حنبل والثورى وابن وهب وابن معين، ومن الذين رفضوا روايته مطلقا يحيى بن سعيد والنسائى والترمذى والحاكم، وبعض منهم قبلوا روايته قبل احتراق كتبه، منهم ابن حبان وابن خزيمة، والراجح فى أمره ما ذكره ابن حجر من أنه صدوق يحتج به قبل التخليط وقبل احتراق كتبه، والتخليط مرض يؤثر على الضبط.
والحديث على الرغم من الاختلاف فى سنده صحيح المعنى، لأن الشاب المستقيم الذى نشأ فى طاعة الله ولم ينحرف جاء الحديث الصحيح بأنه سيكون من السبعة الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذلك أن الشاب فى فترة شبابه تتجاذبه عدة عوامل تغريه بالخطأ فغرائزه قوية قد يضعف العقل أمام سلطانها، وإذا خاف الشاب ربه من تلبية نداء غرائزه بدون حدود عاش فى جهاد وعراك ومغالبة لينتصر على شهواته، وهذا الجهد المبذول يقدره الله حق قدره، ويكافئ عليه صاحبه بما يتناسب مع إيمانه وخوفه من ربه.
والتعبير فى الحديث بأن الله يتعجب من الشاب الذى ليست له صبوة يراد به الرضا عنه رضاء كبيرا، ففيه مشاكلة لما يحدث بين الناس من التعجب والدهشة للأمر الغريب الذى يخرج عن المألوف.
وقد ينتهى التعجب والاستغراب بعد معرفة الأسباب إلى الإعجاب والإكبار، أو يكون هو المراد من الحديث، ويشبهه ما جاء فى حديث رواه أبو داود والنسائى عن عقبة بن عامر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "يعجب ربك من راعى غنم فى رأس شظية للجبل، يؤذن للصلاة ويصلى، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدى هذا، يؤذن ويقيم الصلاة يخاف منى، قد غفرت لعبدى وأدخلته الجنة".
ذلك أن الراعى فى عمله الشاق وفى بعده عن أنظار الناس لا ينسى واجبه نحو ربه الذى لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء، فيؤذِّن للصلاة ويؤديها مخلصا لله وحده راجيا ثوابه خائفا من عقابه، وكثير من الناس فى مثل هذه الحالة لا يهتمون بأداء الواجب، لأن أحدًا لن يؤاخذهم، فهم فى خفاء عنه، ناسين أن الله رقيب عليهم.
فالحديث صحيح فى معناه لأن النصوص القوية تشهد له، وهو دعوة إلى الإخلاص والمراقبة فى كل عمل، ومجاهدة السوء مهما كانت مغرياته(8/174)
السنة النبوية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد إلقاء الضوء على الجهود التى قام بها المسلمون للمحافظة على السنة النبوية من جهة السند والمتن، وما يجب علينا نحوها فى هذه الأيام؟
الجواب
السنة النبوية لها عدة معان فالسنة فى اللغة: هى الطريقة والمنهج، منها قول النبى صلى الله عليه وسلم "فعليكم بسنتى، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين "رواه الترمذى وغيره وقال: حسن صحيح أى طريقتى- والسنة فى اصطلاح الفقهاء هى ما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه كصلاة الضحى مثلا، والسنة فى اصطلاح المحدِّثين هى ما أضيف إلى النبى صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو وصفا أو تقريرا. وهناك أهل السنة عند المتكلمين فيما يقابل الطوائف الأخرى، وتحقيق هذه السنة أى المحافظة عليها وإخراج الدخيل منها ودفع الشبه عنها، والاحتراس عند روايتها، هذا التحقيق بدأه النبى صلى الله عليه وسلم لأن القرآن كان إذا نزلت منه آيات أو سورة، أمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما نزل ونهى أولا عن كتابة الحديث حتى لا يختلط كلامه بكلام الله سبحانه. ثم بعد ذلك رخَّص لبعض الصحابة فى كتابة الأحاديث كعبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه، والصحابة عندما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى احتاجوا فى بعض الأحيان إلى أحكام فقهية لم يجدوها فى كتاب الله تعالى فكان يسأل بعضهم بعضا هل سمع فى هذه الحادثة شيئا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وقبل أن يلحق الرسول عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى قال هذا الحديث "من كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخارى ومسلم، وهذا هو الأصل فى تحقيق السنة، فكان الصحابة يتحرَّجون كثيرا من رواية السنة، وكان لبعض الخلفاء مواقف شديدة ضد الذين يكثرون من روايتها وموقف عمر رضى الله عنه معروف من أبى هريرة وابن مسعود، وأبى مسعود الأنصارى.
استأذن أبو موسى على عمر ثلاث مرات فلم يؤذَن له فولَّى، فناداه عمر وقال: "لم ولَّيت "؟ فذكر له أنه سمع حديثا عن النبى صلى الله عليه وسلم يفيد هذا المعنى "إذا استأذن أحدكم ثلاث مرات فلم يؤذن له فليرجع " رواه البخارى ومسلم فقال: والله لا أتركك حتى تأتى لى بمن يشهد معك أنك سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه حتى جاء بمن شهدوا معه أن هذا القول منسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
وسيدنا أبو بكر رضى الله عنه كما قرأت فى كتاب تاريخ التشريع للشيخ محمد الخضرى، جمع الصحابة أو نادى فى الصحابة وحذرهم من أن يحدثوا عن النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث يختلفون فيها فالناس بعدهم أشد اختلافا.
وإن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عندما أرسل بعض الصحابة إلى الأمصار قال لهم: "إنكم ستأتون قوما عكفوا على كتاب ولهم بقراءته دوى كدوى النحل، لا تشغلوهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
مرت الأيام والصحابة والتابعون يعرفون أنهم فى حاجة إلى معرفة بعض الأحكام المأثورة عن النبى صلى الله عليه وسلم ونحن نعلم أن السنة قد جاءت بأمور ليست مذكورة فى القرآن الكريم، كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وتحريم لحوم الحمر الأهلية وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى قد أعطى التفويض للرسول عليه الصلاة والسلام فى أن يبين للناس ما نزل إليهم وهذا التفويض مذكور فى عدة آيات منها قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر: 7، وقوله {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} التغابن: 12، وقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} النساء: 80، اشتدت الحاجة إلى معرفة ما أُثر عن الرسول عليه الصلاة والسلام كلما تقدم الزمن ففكر بعض الولاة أو بعض الأمراء فى جمع ما يمكن من هذه الأحاديث، وكان ذلك فى أيام عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه.
وظهر فى هذا المجال ابن شهاب الزهرى وجمع ما استطاع أن يجمعه من كلام النبى صلى الله عليه وسلم أو من المأثور عنه، وظهر بعد ذلك الإمام مالك رضى الله عنه ودوَّن فى موطئه ما استطاع من الأحاديث وأقوال الصحابة، ثم جاء أحمد بن حنبل رضى الله عنه وعُنِىَ عناية كبيرة بجمع الأحاديث والبحث في فقهها، ثم انتهى الأمر إلى البخارى ومسلم فى تصيد الأحاديث الصحيحة وتدوينها، وقد دوَّنا فى صحيحيهما ما كان فى أعلى درجات الصحة بحسب المقاييس التى وضعت لقبول الحديث، والذى عمل على ذلك أنهم رأوا أن أحاديث كثيرة وضعت على النبى صلى الله عليه وسلم لأغراض سياسية، أو لأغراض مذهبية وبعضها وضع كما يقول المؤرخون لأغراض شرعية بحسن نية كأحاديث الترغيب فى فضائل الأعمال أو فى سور القرآن الكريم، فلما كثرت هذه الأحاديث، كان جهد البخارى ومسلم وأمثالهما لتنقية أو لاصطفاء ما تطمئن إليه قلوبهم من هذه الأحاديث الكثيرة، ومن الظواهر الخطيرة فى التلبيس على الناس ليعتقدوا أن ما يروونه هو منسوب إلى النبى أنهم كانوا يأتون ببعض الأسانيد الموثوق بها ثم يضعون لها حديثا من عند أنفسهم، وفى هذا الجو وضع أو نُظم فن مصطلح الحديث، الذى عُنى بنقد أحوال الرواة، وظهرت كتب الجرح والتعديل بهذه الموازين الدقيقة ذات المراتب التى يعجب الإنسان لها، وما كانوا يحكمون على راو من الرواة بأنه صادق، أو حجة، أو لا بأس به، أو يؤخذ منه ويترك إلا بعد ممارسة ومعايشة ودقة فى معرفة أحوال هؤلاء الناس، وقد سمعنا أن الإمام البخارى كان لا يطمئن لحديث سمعه من أحد إلا إذا عامله أو سأل عنه من يثق به وربما سافر مسافات طويلة حتى يعايش هذا الإنسان، وكان لا يكتب حديثا كما سمعنا فى سيرته إلا إذا استخار الله سبحانه وتعالى وصلى ركعتين حتى يطمئن قلبه إلى ما يكتبه واصطفى ذلك من أحاديث كثيرة صحيحة ولكنه اختار أصح ما يمكن فى نظره.
عند هذا القرن الرابع الهجرى وبعده أيضا وجدت كتب أخرى تجمع الأحاديث، بعد هذه الكتب المشهورة المعروفة صحيح البخارى، ومسلم والموطأ ومسند أحمد، والسنن الأربعة، وصحيح ابن حبان، وابن خزيمة وغيره، بعد هذه الكتب أصبح الناس عالة عليها فى رواية حديث النبى صلى الله عليه وسلم.
وهناك نقطة هامة جدا هى: ماذا نعمل فى بعض الأحاديث التى يكون ظاهرها متناقضا إما مع القرآن الكريم وإما مع بعض المرويات من السنن وإما مع مقررات العقل والدين؟ هذه نقطة خطيرة هى التى نحتاج إليها فى هذه الأيام، أما السند فقد انتهينا منه والكتب موجودة، هذه النقطة مهمة جدا وهى البحث فى متن الحديث، لأن المتن أحيانا كان يركب على سند موثوق به، والله أعلم بصحة هذا المتن ونسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
قام ابن قتيبة فى كتابه تأويل مختلف الحديث وبحث فى بعض هذه الأحاديث التى فيها خلاف أو تناقض مع أحاديث أخرى، وقام بجهد مشكور فى هذا المجال، لكننا محتاجون فى هذه الأيام بالذات إلى مقابلة ما يأتى فى بعض الأحاديث مناقضا لبعض الأحاديث الأخرى، وما يأتى من الأحاديث فى ظاهره أنه مناقض لما وجد فى الكتاب والسنة، وفى ظاهر بعضها أنه مناقض للعلم، لأن هناك حملات شرسة كبيرة جدا على السنة، حملة أتت من جهة السند من الذين يشككون فى الرجال بل يشككون فى الصحابة أيضا، وكم أثاروا من خلافات وكتبوا كتبا قد تنزع الثقة من هؤلاء الأبطال الذين نقلوا إلينا الأحاديث والذين نقلوا إلينا القرآن الكريم، وهى خطوة فى الشك أيضا فى الطرق الذى حمل إلينا القرآن الكريم.
وهناك من يطعن فى بعض الأحاديث العلمية التى جاءت عن النبى صلى الله عليه وسلم.
وأرجو أن يتابع المهتمون هذه الدراسات، حتى تخلص لنا أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم وحتى يطمئن المسلمون إليها.
راجع مقدمة "المغنى عن الحفظ والكتاب " للموصلى، هدية مجلة الأزهر- ذى القعدة 1403 هـ(8/175)
النبى الأمى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأت فى بعض الكتب الحديثة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب، لأن الله قال له " اقرأ " فلبى أمره، والأمية المنسوبة إليه فى القرآن هى أمية الدين والإيمان فهل هذا صحيح؟
الجواب
قال تعالى {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون} العنكبوت: 48، وقال تعالى {الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل} الأعراف: 157.
تدل الآية الأولى، على أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول القرآن عليه أميا لا يقرأ ولا يكتب وتدل الآية الثانية على أن أهل الكتاب كانوا يعرفونه فى كتبهم بذلك، وهذا أمر لا يختلف فيه أحد، والحكمة فى أميته بينتها الآية، وهى منع اتهام الكافرين له بأن القرآن أخذه عن غيره من الناس، أو نقله من الكتب السابقة، أما بعد نزول القرآن عليه فاختلف العلماء فى كونه بقى على أميته، أو أنه تعلم القراءة والكتابة، فقال بعضهم: إن الأمية زالت عنه، واستدلوا بأدلة ثلاثة، أولها ما جاء فى البخارى أنه غيَّر فى صحيفة صلح الحديبية عبارة "محمد رسول الله " إلى "محمد بن عبد الله " ولا يحسن أن يكتب، وثانيها أنه قرأ صحيفة لعيينة بن حصن وأخبر بمعناها، وثالثها أنه قال عن المسيح الدجال "مكتوب بين عينيه كافر".
وقال الجمهور: إنه صلى الله عليه وسلم بقى أميا حيث تظل حكمة أميته باقية، ولا يوجد مطعن فى رسالته وفى القرآن الذى تلقاه وحيا من الله سبحانه ما زال يتنزل منجما مفرقا إلى آخر حياته. وردوا على الدليل الأول لغيرهم بأن كون النبى صلى الله عليه وسلم كتب بعض كلمات لا يمحو عنه وصف الأمية، فكثير من الأميين اليوم يكتبون أسماءهم ويوقِّعون بها ومع ذلك لا يستطيعون أن يقرؤوا ما وقَّعوا عليه، فهم ما يزالون على الرغم من ذلك أميين.
وردوا على الدليل الثانى بأن الحديث غير صحيح، فلا يعارض الصحيح القوىَّ من النصوص، كما ردوا على الدليل الثالث بأن معرفته لبعض الحروف لا تمحو عنه وصف الأمية.
هذا، وإذا كانت أمية الرسول صلى الله عليه وسلم وصف كمال له حكمته، فإن الأمية فينا وصف ينبغى أن نتخلى عنه، لأن النصوص كثيرة فى الحث على التعلم والتعليم، والقراءة من أقوى المفاتيح لذلك، وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم فى فداء أسرى بدر تعليم بعض أولاد الأنصار القراءة والكتابة.
ونحن حين نحمد للكتَّاب غيرتهم ودعوتهم إلى محو الأمية نرجو منهم أن يتحروا الصدق فى الأخبار المنقولة عن النبى صلى الله عليه وسلم وما يساعدهم من النصوص الصحيحة على دعواهم كثير(8/176)
ختان النبى صلى الله عليه وسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم ولد مختونا؟
الجواب
ختان الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثة أقوال.
القول الأول: أنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مسرورا، أى مقطوع السرة، وروى فى ذلك حديث لا يصح كما ذكره أبو الفرج بن الجوزى فى الموضوعات، وهو "كرامتى على ربى أنى ولدت مختونا ولم ير سوأتى أحد" فليس لهذا القول سند من حديث ثابت، كما أن ولادته مختونا ليست من خواصه، فإن كثيرا من الناس يولدون كذلك كما ذكره ابن القيم فى "زاد المعاد" ج 1 ص 18.
والقول الثانى: أنه ختن يوم شق قلبه الملائكة عند حليمة السعدية التى كانت ترضعه، والحديث الوارد فيه أيضا غير صحيح.
والقول الثالث: أن جده عبد المطلب ختنه يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدا، قال أبو عمر بن عبد البر فى كتابه "التمهيد لما فى الموطأ من المعانى والأسانيد" إن الوارد فى ذلك حديث مسند غريب، وقد تفرد به ابن أبى السرى كما قال أحد رواته.
والراجح أن جده ختنه على عادة العرب فى ذلك(8/177)
الإبل والشياطين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن الإبل خلقت من الشياطين وإن وراء كل بعير شيطانا ومن أجل ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فى مبارك الإبل؟
الجواب
جاء فى كتاب "حياة الحيوان الكبرى " للدميرى المتوفى سنة 808 هـ أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة فى مبارك الإبل فقال "لا تصلوا فى مبارك الإبل فإنها مأوى الشياطين ".
وروى النسائى وابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن الإبل خلقت من الشياطين ". ولم يعلق على هذا الحديث.
وجاء فى نيل الأوطار للشوكانى (جزء 2 صفحة 142) حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ "لا تصلوا فى أعطان الإبل فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئتها. إذا نفرت ".
ولم يبين معنى خلقها من الجن، فقد يكون المراد أن فيها شرا إذا نفرت وهاجت، فالأمر على التشبيه وليس على الحقيقة على ما أراه(8/178)
إذا التقى المسلمان بسيفيهما
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار" وهل ينطبق على ما حدث بين على ومعاوية؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن أبى بكرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار" قلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال "إنه كان حريصا على قتل صاحبه " قال النووى فى شرحه "صحيح مسلم ج 18 ص 11 "كون القاتل والمقتول من أهل النار محمول على من لا تأويل له، ويكون قتالهما عصبية ونحوها ... ثم قال: واعلم أن الدماء التى جرت بين الصحابة رضى الله عنهم داخلة فى هذا الوعيد، ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله وكان بعضهم مصيبا وبعضهم مخطئا معذورا فى الخطأ، لأنه بالاجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه، وكان علىٌّ رضى الله عنه هو المحق المصيب فى تلك الحروب.
هذا مذهب أهل السنة وكانت القضايا مشتبهة، حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب ثم تأخروا عن مساعدته منهم. انتهى.
ونقل الشوكانى "نيل الأوطار ج 7 ص 50" عن الحافظ ابن حجر ما يتفق مع ما ذكره النووى، وذكر ما أخرجه البزار فى رواية "إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول فى النار" ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ "لا تذهب الدنيا حتى يأتى على الناس زمان لا يدرى القاتل فيم قَتل ولا يدرى المقتول فيم قُتل " فقيل كيف يكون ذلك؟ قال " الهرج، القاتل والمقتول فى النار" قال القرطبى: فبيَّن هذا الحديث أن القاتل إذا كان على جهل من طلب دنيا أو اتباع هوى فهو الذى أريد بقوله "القاتل والمقتول فى النار" قال الحافظ: ومن ثَم كان الذين توقفوا عن القتال فى الجمل وصفِّين أقل عددا من الذين قاتلوا، وكلهم مأجور إن شاء الله، بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا.
هذا، وقد حمل بعض العلماء الحديث على من استحل ذلك، ويؤيد أن الوعيد هو لمن قاتل للدنيا وليس لله حديث رواه مسلم "من قاتل تحت رواية عُمية فغضب لغضبه، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبيته فقتل فقتلة جاهلية" والعمية هى الجهل(8/179)
حديث " الأئمة من قريش "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ورد حديث يحصر الخلافة أو الإمامة فى قريش، وهل له أثر بين المسلمين فى العصر الحاضر؟
الجواب
موضوع الخلافة أو الإمامة الكبرى أولاه المسلمون عناية بالغة منذ الساعات الأولى بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وتحدث عنه علماء التوحيد وفقهاء المذاهب، وقرر جمهورهم أن نصب الإمام واجب، بصرف النظر عن كون الوجوب عقليا أو سمعيا، وأوردوا آيات وأحاديث، وقرروا أن المسلمين مجمعون على ذلك، غير آبهين بأقوال شاذة لبعض الفرق، ووضعوا شروطا لمن يصلح للإمامة أشرت إليها فى كتابى "الإسلام هو الحل " الذى طبع مرة ثانية بعنوان "المنهج السليم إلى طريق الله المستقيم " ويهمنا هنا من الشروط ما يتصل بالسؤال وهو حديث "الأئمة من قريش " وخلاصة ما قيل فى ذلك ما يأتى:
روى البخارى ومسلم حديثا عن النبى صلى الله عليه وسلم ورد بألفاظ متقاربة جاء فيها أن الناس تبع لقريش، وأن الأئمة يكونون منهم، ويؤخذ من كلام الماوردى المتوفى سنة 450 هـ فى كتابه "الأحكام السلطانية" ومن كلام النووى المتوفى سنة 676 هـ فى شرح صحيح مسلم "ج 12 ص 199 وما بعدها" ومن كلام الإيجى من علماء القرن الثامن الهجرى فى كتابه "المواقف فى علم الكلام " ومن كلام ابن خلدون المتوفى سنة 808 ط فى كتابه "المقدمة" ومن مصادر أخرى: أن الناس فى اشتراط القرشية فى الخليفة فريقان:
الفريق الأول: يشترط فى الخليفة -إلى جانب الشروط الأخرى - أن يكون قرشيا، وهو رأى الجمهور الذى قال به أهل السنة، وأكثر الزيدية وأكثر المرجئة، وسائر فرق الشيعة ومن أدلتهم على ذلك:
ا - حديث البخارى ومسلم "لا يزال هذا الأمر فى قريش ما بقى من الناس اثنان " ب - حديث مسلم "الناس تبع لقريش فى الخير والشر" ومعناه فى الإسلام والجاهلية كما هو مصرح به فى رواية لمسلم "الناس تبع لقريش فى هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم " لأنهم كانوا فى الجاهلية رؤساء العرب وأصحاب الحرم، ولما أسلموا وفتحت مكة تبعهم الناس ودخلوا فى دين الله أفواجا، وكذلك فى الإسلام هم أصحاب الخلافة والناس تبع لهم. .
ي - حديث "قدموا قريشا ولا تَقَدَّموها" أى لا تتقدموا عليها.
أخرجه الشافعى فى المسند والبيهقى فى المعرفة، كلاهما عن ابن شهاب الزهرى بلاغا، أى قال: بلغنا عن رسول الله ذلك. وابن عدى فى الكامل عن أبى هريرة وصححه السيوطى. وورد فى حديث ثالث أخرجه البزار فى مسنده عن على وصححه السيوطى "فيض القدير للمناوى على الجامع الصغير ج 4 ص 511".
د- الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على عدم مزاحمة قريش فى الخلافة إلى عصر النووى ومن كتبوا فى هذا الموضوع.
ويستند الإجماع إلى الحديث القائل "ما بقى من الناس اثنان ".
يقول القاضى عياض -كما نقله النووى-: اشتراط كونه قرشيا هو مذهب العلماء كافة، قال: وقد احتج به أبو بكر وعمر رضى الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة - سقيفة بنى ساعدة - فلم ينكره أحد، وبيان ذلك أن المسلمين لما اجتمعوا فى السقيفة عقب وفاة النبى صلى الله عليه وسلم لاختيار خليفة له، بايع الأنصار سعد بن عبادة، وقالوا للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير، فاحتجت قريش - المهاجرون - على الأنصار بهذا الحديث وقالوا لهم: إن النبى صلى الله عليه وسلم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم، ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصية لكم، فرجع الأنصار عن قولهم.
والذين حصروا الخلافة فى قريش اختلفوا فى تعميمها فى كل قريش أو تخصيصها ببعض منهم، كبنى عبد المطلب أو بنى أمية أو غيرهما، وذهب ببعضهم التعصب إلى حد التجاوز عن الشروط الأخرى التى يجب توافرها فى الإمام، فأجازوا عقدها للقرشى ولو كان عاجزا عن القيام بأمور المسلمين.
الفريق الثانى: لا يشترط القرشية فى الإمام، وهو قول المعتزلة وجماعة الزيدية، وجميع الخوارج إلا النجدات. وقد حمل عليهم أصحاب الرأى الأول حملة عنيفة، جاء منها قول القاضى عياض -كما نقله النووى-: لا اعتداد بقول النظَّام -من المعتزلة -ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع إنه يجوز كونه من غير قريش، ولا بسخافة ضرار ابن عمرو " الغطفانى " فى قوله: إن غير القرشى من النبط وغيرهم يقدم على القرشى. لهوان خلعه إن عرض منه أمر، وهذا الذى قاله من باطل القول وزخرفته، مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين "النووى على مسلم ج 12 ص 200 ".
استند هذا الفريق إلى ما يأتى:
ا-أن الله لم ينص على رجل بعينه، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على ذلك، ولا اجتمع المسلمون عندهم على رجل بعينه، فاختيار ذلك مفوض إلى الأمة، ورد عليهم الجمهور بأنه لم ينص على رجل، وإنما نص على النوعية أو الجماعة التى يكون منها، وهى قريش.
ب - الحديث الصحيح " اسمعوا وأطيعوا وإن ولِّى عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة" وهذا يدل على أنه يجوز أن يكون الإمام عبدا حبشيا وليس قرشيا، وردَّ عليه بأن الحديث خرج مخرج التمثيل والفرض، وذلك للمبالغة فى وجوب السمع والطاعة.
جـ - قول عمر بن الخطاب: لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيًا ما جعلتها شورى، أو لوليته، أو لما دخلتنى فيه الظنة ورُدَّ عليه بأن مذهب الصحابى ليس بحجة، أو بأن مولى القوم منهم وعصبية الولاء حاصلة لسالم فى قريش، وعندما استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنها مفقودة فى ظنه عدل إلى سالم لتوفر هذه الشروط فيه حتى من النسب المفيد للعصبية.
د-الإجماع: فالاختيار جرى فى أمصار، ولم يَبدُ نكير عن عالم على أصل الاختيار، وردَّ عليه بأن الاختيار فى الأمصار لم يكن للخليفة العام بل لأمراء فى الأقاليم أو لحكام فى ولايات استقلت.
هذا ملخص ما قيل فى اشتراط القرشية وعدم اشتراطها، والذى رآه كبار المحققين، وهو موافق لروح الشريعة وحكمة الشروط التى اشترطت فى الإمامة، ما يلى:
ا - أن الإمام لابد أن تكون فيه الكفاية للقيام بمهمته، من سلامة الجسم وسلامة الفكر واستقامة السلوك، ومن الهيبة التى يحترمه بها الصديق ويخشاه العدو، وهذه الهيبة لها عدة عوامل، قد يكون منها أصالة النسب وقوة العشيرة ووفرة الغنى وكثرة الانتصارات فى ميادين الإصلاح وغير ذلك.
2 - أن اشتراط القرشية التى نص عليها الحديث، ليس المقصود منه التبرك بالانتساب إلى النبى صلى الله عليه وسلم وعشيرته، فليس ذلك من مقاصد الإمامة، وإنما من مقاصدها قوة النفوذ وهيبة السلطان لتحقيق المصلحة للأمة ودفع الشر عنها، وإذا كان الحديث متفقا مع هذا المقصد فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم وبعدها بقليل، فربما لا يتفق فى وقت آخر، فيكون واقعة حال لا يتعداها، ولا تُلتزم بعد ذلك.
3 - وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم جعل الخلافة فى قريش مؤبدة "ما بقى فى الناس اثنان " فليس ذلك على إطلاقه، بل هو مشروط بتوافر العوامل الأخرى فيهم حتى تكون من حقهم، ويدل على ذلك ما رواه أحمد برواة ثقات والبزار والدارقطنى وهو: أن النبى صلى الله عليه وسلم وقف على باب بيت فيه نفر من قريش وقال "إن هذا الأمر فى قريش ما إذا استُرحموا رحموا وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل " وجاء فى رواية لأحمد عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "الأئمة من قريش، إن لى عليكم حقا ولهم عليكم حقا مثل ذلك، ما إن استرُحموا رحموا، وإن عاهدوا وفُّوا، وإن حكموا عدلوا. . . " وهذا ما أميل إليه من أن العبرة بوجود الشروط التى تليق بمقام الإمامة وتساعد على تحقيق المصلحة العامة، ولا يغيب عنا قوله صلى الله عليه وسلم "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فقد ضيعت الأمانة " رواه البخارى، وما جاء من الأحاديث التى تنهى عن تولية من ليس كفؤا للولاية فى أى قطاع من القطاعات، وما فعله صلى الله عليه وسلم من تفضيله تولية القيادة والإمارة من يصلح أكثر من غيره من السابقين فى الإسلام، ومن عدم الاستجابة لأبى ذر عندما طلب منه ولاية، حيث قال له "إنك ضعيف وإنها أمانة" رواه مسلم.
ولعل بعض القائلين بعدم اشتراط القرشية فى الإمامة لاحظوا فى أزمانهم ذهاب القوة التى كان يتمتع بها القرشيون. وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون فى مقدمته فقال: ومن القائلين بنفى اشتراط القرشية أبو بكر الباقلانى لما أدرك ما عليه عصبية قريش من التلاشى والاضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء، فأسقط القرشية وإن كان موافقا لرأى الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده(8/180)
نور النبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يعتقد بعض الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم خلق من نور لقوله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} نرجو التوضيح؟
الجواب
كلمة النور تطلق فى القرآن أحيانا على القرآن الكريم وأحيانا على النبى صلى الله عليه وسلم باعتبار أن كلا منهما ينير للناس طريق الخير، بل تطلق أيضا على الله سبحانه فى قوله {الله نور السماوات والأرض} النور:35.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يُخلق من نور، فهو من ذرية آدم وآدم من طين، وهو القائل "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر".
والله سبحانه أمره أن يُبيِّن للناس ذلك فقال {قل إنما أنا بشر مثلكم} الكهف: 110وقال {سبحان ربى هل كنت إلا بشرًا رسولا} الإسراء: 93 وكون الله أخبر عنه بأنه نور، وكون بعض الآثار جاءت تخبر بأن نوره كان موجودا قبل أن يولد، كل ذلك لا ينفى أنه بشر، وهو عليه الصلاة والسلام ليس فى حاجة إلى اختلاق أمور تزيده شرفا وتكريما، فكفى تشريف الله له، بما ثبت من الأخبار، وقد تحملنا شدة حبه على وضعه فوق ما يستحق وهو القائل كما رواه البخارى " لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله" وبرهان حبنا له جاء فى قوله " من أحبنى فَليَسْتَنَّ بسنتى " رواه أبو يعلى بسند حسن(8/181)
الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن ينادون بعدم ترديد عبارة: "صل على النبى " أثناء الحديث بين اثنين، وهل إجابة الأمر بالصلاة على النبى هنا واجبة؟
الجواب
لا بأس أبدا بترديد عبارة " صل على النبى " أثناء الحديث أو فى أية فرصة أخرى، فهى تذكير للناس بالصلاة على الرسول، لأن فضلها عظيم، والله أمرنا بها فى قوله {إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب: 56.
والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم واجبة بدليل الأمر بها. لكن قال العلماء، إن وجوبها مرة واحدة فى العمر، وأما ما عدا ذلك فهى سُنة.
وأوجبها الشافعية فى التشهد الأخير من كل صلاة.
جاء فى تفسير القرطبى للآية المذكورة: لا خلاف فى أن الصلاة عليه فرض فى العمر مرة، وفى كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التى لا يسع المؤمن تركها، ولا يغفلها إلا من لا خير فيه. قال الزمخشرى: فإن قلت: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة. وقد اختلفوا فى حال وجوبها. فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره، ومنهم من قال: تجب فى كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره(8/182)
حديث " الأرواح جنود مجندة "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف "؟
الجواب
جاء فى الجامع الكبير للسيوطى أن هذا الحديث رواه البخارى عن عائشة مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ورواه أيضا مسلم وأحمد.
وجاء فى تخريج العراقى لأحاديث " إحياء علوم الدين " أن البخارى ذكره تعليقا عن عائشة، أى لم يذكر له سندا، وأن مسلما رواه عن أبى هريرة، وأورد الغزالى مناسبته فى حديث أخرجه الحسن بن سفيان فى مسنده فقال: روى أن امرأة بمكة كانت تُضْحِك النساء وكانت بالمدينة أُخرى، فنزلت المكية على المدنية، فدخلت على عائشة فأضحكتها فقالت: أين نزلت؟ فذكرت لها صاحبتها. فقالت عائشة: صدق الله ورسوله، سمعت رسول الله يقول: " الأرواح جنود مجندة ... "ويراجع توضيح ذلك فى الإحياء " ج 2 ص 142 " طبعة عثمان خليفة(8/183)
حديث "عليكم بدين العجائز "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال " عليكم بدين العجائز " وإذا صح فما المراد به؟
الجواب
أورد الإمام الغزالى هذا الحديث فى كتابه "الإحياء" ج 3 ص 67 وعلق عليه العراقى بما نصه: قال ابن طاهر فى كتاب التذكرة: هذا اللفظ تداوله العامة ولم أقف له على أصل يرجع إليه من رواية صحيحة ولا سقيمة، حتى رأيت حديثا لمحمد بن عبد الرحمن بن السلمانى عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم" إذا كان فى آخر الزمان واختلفت الأهواء فعليكم بدِين أهل البادية والنساء" وابن السلمانى له عن أبيه عن ابن عمر نسخة كان يُتهم بوضعها، انتهى، وهذا اللفظ من هذا الوجه رواه ابن حبان فى الضعفاء فى ترجمة ابن السلمانى.
هذا وقد جاء فى تفسير القرطبى "ج 7 ص 332 " النص على بعض المتكلمين الذين يرفضون إيمان من لم يعرف الله بالطرق والأبحاث التى عينوها، وقال: هذا تضييق لرحمة الله. وأورد حادثة الأعرابى الذى بال فى المسجد فانتهره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم ارحمنى ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال عليه الصلاة والسلام "لقد حَجَّرت واسعا" خرّجه البخارى والترمذى وغيرهما، فلم يعرف الأعرابى ربه بالدليل والبرهان، وأن رحمته وسعت كل شىء واكتفى منه الرسول بالنطق بالشهادتين. كما ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الجارية السوداء " أين الله "؟ فقالت: فى السماء ثم سألها " من أنا "؟ فقالت أنت رسول الله، فقال لسيدها " أعتقها فإنها مؤمنة" ولم يكن هناك نظر ولا استدلال، بل حكم بإيمانهم من أول وهلة، وإن كان هناك عن النظر والمعرفة غفلة(8/184)
حديث " فضل العامل على المتعبد "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتعبد فى المسجد ولما سأله عمن يعوله قال أخوه، فقال: " هو أعبد منك "؟
الجواب
جاء فى إحياء علوم الدين للإمام الغزالى فى فضل الكسب والحث عليه ما نصه:
وروى أن عيسى عليه السلام رأى رجلا فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: من يعولك؟ قال: أخى، قال: أخوك أعبد منك.
قال الغزالى هذا الكلام ولم يجعله حديثا عن النبى صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك ما روى أن قوما من الأشعريين كانوا فى سفر، فلما قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم قالوا: ما رأينا بعدك أفضل من فلان كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام الليل حتى نرتحل، فقال: " ومن كان يكفله ويخدمه "؟ قالوا: كلنا، فقال "كلكم أفضل منه " وهو موجود فى كتاب " العقد الفريد" لابن عبد ربه، وليس فيه سند له.
وتحدث الغزالى فى باب التوكل، وفصل أحوال المتوكلين، ثم ذكر أن الرجل المتوكل على الله إذا تعلق قلبه بالدنيا والكسب كان العمل له أفضل من الانقطاع عنه إلى التعبد والانزواء والكسل، أما إذا قوى إيمانه بالله وتوكل عليه، ولم يتعلق قلبه بالدنيا فالانقطاع إلى العبادة أفضل، على ألا يكون لأحد منَّة عليه فى شىء من رزقه.
ومع ذلك فالغزالى يتحدث عن عصره وله ظروفه، أما الآن فالواجب هو التنسيق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، فهما أمران لابد منهما، وذلك على نسق ما قال الله تعالى {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} القصص: 77، وقوله تعالى {فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} الجمعة 10، وقول النبى صلى الله عليه وسلم "إن لربك عليك حقا ولبدنك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذى حق حقه " رواه البخارى.
وذلك ما يوحى إليه قوله تعالى فى قيام الليل والاقتصاد فيه {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه} المزمل: 20، وتوضيح ذلك فى كتابى " الإسلام دين العمل "(8/185)
لعن الزمن وغيره
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن يلعن اليوم أو الدهر أو غيرهما؟
الجواب
اللعن معناه الطرد من رحمة الله، وهو منهى عنه بوجه عام، فالمؤمن لا يكون لعانا ولا يكون شفيعا ولا شهيدا يوم القيامة كما جاء فى الأحاديث التى رواها مسلم، وروى أبو داود والترمذى حديث " من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه " حتى الدابة لا يجوز لعنها، فقد روى مسلم أن امرأة من الأنصار كانت فى سفر مع النبى فضجرت من ناقتها فلعنتها، فقال الرسول "خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة" وقال كما رواه مسلم فى رواية أخرى " لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة".
جاء فى الأذكار للنووى "ص 350" أنه يجوز لعن أصحاب المعاصى بالعنوان العام كما لعن الرسول آكل الربا والواصلة والنامصة والسارق ومن يلعن والديه، ومن اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ... أما لعن إنسان بعينه ممن اتصف بشىء من المعاصى كزانٍ وسارق وآكل ربا فظواهر الأحاديث أنه ليس بحرام، وأشار الغزالى إلى تحريمه إلا فى حق من علمنا أنه مات على الكفر كأبى لهب وأبى جهل وفرعون وهامان وأشباههم، قال: لأن اللعن هو الإبعاد عن رحمة الله تعالى وما ندرى ما يختم به لهذا الفاسق أو الكافر وأما الذين لعنهم رسول الله بأعيانهم فيجوز إنه علم موتهم على الكفر. انتهى.
والذى يلعن الزمان أو المكان خالف هدى الرسول صلى الله عليه وسلم فى النهى عن اللعن. وبخصوص الدهر جاء حديث البخارى ومسلم " قال الله تعالى: يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر، بيدى الليل والنهار" وفى رواية " أقلب ليله ونهاره، وإذا شئت قبضتهما" وفى رواية لمالك " لا يقل أحدكم يا خَيْبَةَ الدهر، فإن الله هو الدهر".
يقول الحافظ المنذرى: معنى الحديث أن العرب كانت إذا نزلت بأحدهم نازلة أو أصابه مصيبة أو مكروه يسب الدهر، اعتقادا منهم أن الذى أصابه هو فعْلُ الدهر، فكان هذا كاللعن للفاعل، ولا فاعل لكل شىء إلا الله تعالى خالق كل شىء، فنهاهم النبى صلى الله عليه وسلم عن سب الدهر، لأنه مدرجة لسب فاعل الأمور وخالقها وهو الله تعالى(8/186)
حديث " أنت ومالك لأبيك "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سافرت إلى بعض البلاد وكنت أرسل لأبى ما أدخره من أجل أن يبنى لى بيتا أو يشترى أرضا أكسب منها عيشا عندما أعود إلى بلدى، فوجدت أبى سجل ما اشتراه باسمه هو وقال إنه شركة بينك وبين إخوتك، ولما قلت له:
وأين كسبى؟ قال لى، أما أتعرف أن الرسول قال للولد: أنت ومالك لأبيك؟ فهل هذا صحيح؟
الجواب
إن الجهل بالدين سبب لكثير من ألون الانحراف، والطمع كذلك مدرجة للانزلاق، وضعف الروح الأخوية أو تحكم الأثرة والأنانية التى لا يقوم بها مجتمع سليم.
قال العلماء فى مظاهر بر الولد بوالديه: لابد من الإنفاق عليهما النفقة المناسبة من طعام وكساء ومسكن وما إلى ذلك من الضروريات، بشرط أن يكون ذلك فى وسع الولد، ولا يضر به ضررا واضحا، فإذا استولى الوالدان على مال ولدهما لحاجتهما إليه فلا شىء فيه بشرط عدم الضرر بالولد، كأن يأخذا ما يزيد على كفايتهما، ولا يمكنانه من أداء التزاماته الخاصة، وإلا كان على الولد أن يعطيهما فقط مقدار الكفاية، وهو النفقة الواجبة، ويبقى لنفسه ما يعيش به مع أسرته.
أخرج البيهقى عن قيس بن أبى حازم قال: جاء رجل إلى أبى بكر رضى الله عنه فقال: إن أبى يريد أن يأخذ مالى كله يجتاحه، أى لا يُبْقى منه شيئا، فقال لأبيه: إنما لك من ماله ما يكفيك. فقال: يا خليفة رسول الله، أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك "؟ فقال: نعم، وإنما يعنى بذلك النفقة "تاريخ الخلفاء للسيوطى ص 66".
والحديث المذكور رواه ابن ماجه عن جابر، ورواه الطبرانى عن سمرة وابن مسعود بسند صحيح، جاء فى معجم المغنى لابن قدامة الحنبلى "ص 2" أن للأب دون غيره أن يأخذ من مال ولده ما يشاء ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه ومع عدمها، صغيرا كان الولد أو كبيرا، بشرطين: ألا يجحف بالابن ولا يضر به، ولا يأخذ شيئا تعلقت به حاجته. وألا يأخذ من مال ولده فيعطيه لآخر.
وروى البيهقى فى الدلائل والطبرانى فى الصغير والأوسط بسند فيه من لا يعرف عن جابر: أن رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسلم يشكو إليه والده بأنه أخذ ماله، فأرسل خلفه -استدعاه -فجاء إلى النبى وسأله عما يقوله ولده فقال: سَلْه، هل أنفقه إلا على إخوته وعماته؟ وبعد أن سمع منه أبياتا "انظر الجزء الخامس من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام " قال النبى لابنه "أنت ومالك لأبيك " وجاء فى تفسير الزمخشرى "الكشاف " أن الولد غَنى وأن أباه صار عاجزا يتوكأ على عصا، وأن النبى صلى الله عليه وسلم بكى لمنظره وأنه قال " ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى" ولكن مخرِّج أحاديث الكشاف قال: لم أجده فالحديث ضعيف.
ولما كان بعض الآباء يتحرج من أخذ شىء من مال أولاده، لأنه مال للغير، جاء النص الذى يطيِّب النفس بأخذ ما يحتاج إليه منه، ففى الحديث "إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا كسب أولادكم " رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه. وهو صحيح ذكره السيوطى فى "الجامع الصغير" والبغوى فى "مصابيح السنة " وابن القيم فى "إعلام الموقعين، وفى زاد المعاد "ج 4 ص 164 "(8/187)
من الذى سمى الرسول محمد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من الذى سمى الرسول صلى الله عليه وسلم باسم محمد؟
الجواب
ذكر كلام كثير وأخبار لا ترقى إلى درجة الصحة أن الذى سمى الرسول باسم محمد هو الله سبحانه قبل الخلق بآلاف السنين. وأن آدم وجد اسمه مكتوبا على ساق العرش وهو ما يزال بين الروح والطين، ووجد اسمه مكتوبا على أشياء كثيرة فى الجنة.
قال ابن قتيبة: من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسم قبله أحد باسم محمد، صيانة من الله لهذا الاسم كما فعل مع يحيى حيث لم يجعل له من قبل سميًّا، قال تعالى {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميًّا} مريم:7، ولما قرب زمنه وبشر أهل الكتاب بقربه سمى قوم أولادهم بذلك رجاء أن يكون هو، وعدَّهم القاضى عياض ستة فقط، وقال ابن حجر الذى جمع أسماء من تَسمَّى باسمه فى جزء مفرد: إنهم حوالى العشرين مع تكرير فى البعض ووَهْمٍ فى البعض، وانتهى منهم إلى خمسة عشر نفسا، ذكر أسماء المشهورين منهم وقال: لم يدرك الإسلام منهم إلا محمد بن عدى التميمى السعدى، ومحمد بن البراء البكرى لأنه صحابى جزما، وذكر ابن خلكان أنه لا يعرف أحد سمى بمحمد فى الجاهلية إلا ثلاثة:
محمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق، ومحمد بن أُحَيْحَة بن الجُلاح أخو عبد المطلب لأمه، ومحمد بن حمران بن ربيعة.
والذى سمى النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم جده عبد المطلب لرؤيا رآها، وهى سلسلة فضية ذات أطراف فى السماء والأرض والشرق والغرب، وتأويل الكاهنة بأن عَقِبًا يخرج من ظهره يتبعه أهل المشرق والمغرب، أو لرؤيا رأتها أمه حين أخبرت بحمله وأمرها بتسميته محمدا، ولكن ذلك لم يثبت بطريق صحيح(8/188)
أشياء عليها اسم محمد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح ما يذكره بعض الناس انهم رأوا حيوانات أو نباتات أو أشياء مكتوبا عليها اسم الله أو اسم محمد؟
الجواب
ذكرنا أن هناك أخبارا بأن اسم الرسول كان مكتوبا على أشياء فى الجنة قبل أن يولد، وهى أخبار لا تثبت بها حقائق، أما بعد ولادته وبعثته فكثرت الأخبار بأن اسمه وجد مكتوبا على أشياء كثيرة، والرسول فى ليلة المعراج بالسماوات وجد اسمه مكتوبا فيها، وأبو بكر من خلفه، وأن موسى بن عمران وقَّع باسمه بالخط العبرانى على حجر كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأن فى بعض بلاد خراسان مولودا كتب على أحد جنبيه اسم محمد، وفى بلاد الهند ورد أحمر مكتوب عليه بالأبيض اسمه، وأن بعض الناس شك فى هذا ففتح ورقة ورد لم تفتح فوجد الاسم مكتوبا، وكذلك وجد اسمه على شجرة فى الهند يتبركون بها، وأن صيادا صاد سمكة فوجد الاسم مكتوبا على أحد جنبيها، وأن بطيخة أو حبة عنب عليها هذا الاسم.
هذا كله مكتوب فى مؤلفات عن السيرة ليس لها سند صحيح أو تحقيق ثابت، وسمعنا فى أيامنا هذه أن بيضة كتب عليها اسم الله أو اسم محمد، وغير ذلك من الأخبار التى أوردها القسطلانى فى "المواهب اللدنية" ج 1 ص 186، 187.
وإذا كنا لا نستبعد عقلا أن يوجد ذلك بقدرة الله. أو يكون بفعل بشر فإن مقام النبى صلى الله عليه وسلم مقام عظيم، ورسالتهُ رسالة حق لا يجهلها أحد اليوم، ونحن فى حل أن نصدق هذه الأخبار أو لا نصدقها مع عقيدتنا القوية فى شرف المصطفى وصدق رسالته.
وحُبُّنَا له يكون بنشر دعوته الصحيحة ما أمكن، وبالعمل بها نصا وروحا، وإثبات جدارتها بأنها لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وجدارتنا بأن نحمل هذا الوسام العظيم {كنتم خير أمة أُخرِجَتْ للناس} آل عمران:
110(8/189)
ظل الرسول صلى الله عليه وسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى فى الشمس لا يكون له ظل على الأرض فهل هذا صحيح؟
الجواب
جاء فى المواهب اللدنية للقسطلانى وشرحها للزرقانى "ج 4 ص 220 " عند الكلام على مشى النبى صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن له ظل فى شمس ولا قمر، وعلَّلَه ابن سبع بأنه كان نورا، وعلله رزين بغلبة أنواره، وقيل: إن الحكمة فى ذلك صيانة ظله عن أن يطأه كافر. ونَفْىُ أن يكون له ظل رواه الترمذى الحكيم عن ذكوان مولى عائشة ورواه ابن المبارك وابن الجوزى عن ابن عباس بلفظ: لم يكن للنبى صلى الله عليه وسلم ظل، ولم يقم مع الشمس قط إلا غلب ضوؤُه ضوءَ الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوء السراج. وقال ابن سبع: كان صلى الله عليه وسلم نورا، فكان إذا مشى فى الشمس أو القمر لا يظهر له ظل، وقال غيره: ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم فى دعائه لما سأل الله أن يجعل فى جميع أعضائه وجهاته نورا ختم بقوله "واجعلنى نورا" أى والنور لا ظل له، وبه يتم الاستشهاد.
هذا ما نقل وليس فيه نص قاطع أو صحيح، ولا مانع أن يكون ذلك تكريما للنبى صلى الله عليه وسلم، وكونه نورا لا يتحتم منه ألا يكون له ظل، فهو نور للعالمين برسالته الخالدة(8/190)
إسلام مارية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل أسلمت مارية قبل زواجها بالرسول صلى الله عليه وسلم أم بعد الزواج منه، وهل أعتقها وهل عقد عليها أم كانت من بين ما ملكت يمينه، ولماذا لم تخاطب بأم المؤمنين كبقية زوجات النبى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
مارية القبطية المولودة فى "حَفن " المسماة الآن بالشيخ عبادة بالمنيا مقابل الأشمونين، أهداها المقوقس " جريج بن مينا " القبطى سنة سبع من الهجرة إلى النبى صلى الله عليه وسلم هى وأختها "سيرين " عندما عرض عليه حاطب بن أبى بلتعة كتاب النبى صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الإسلام، وفى الطريق إلى المدينة المنورة عرض عليها حاطب الإسلام فأسلمت، وكذلك أسلمت أختها التى وهبها النبى صلى الله عليه وسلم إلى حسان بن ثابت.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتسرى بها، أى يتمتع بها بملك اليمين ولم يعتقها ولم يتزوجها بعقد، وولدت له إبراهيم الذى مات صغيرا، والولد من الأَمة المتمتع بها بملك اليمين يكون حرا، ومع أنها ليست زوجة معقودا عليها كان يحجبها كما يحجب زوجاته، وقد ظلت أمة لكن تحررت بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم كما تُحرر كل أم ولد. ولعدم العقد عليها لا يطلق عليها اسم زوجة، ولا يطلق عليها لقب "أم المؤمنين " لأن الله تعالى قال {وأزواجه أمهاتهم} الأحزاب: 6(8/191)
حديث " شعر الرجل والمرأة "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: بارك الله فى الرجل المشعر، والمرأة الملساء؟
الجواب
لم أعثر على حديث صحيح بهذا اللفظ، وإن كان من السنة إبقاء شعر اللحية ونتف الإبط وحلق العانة للرجل، وفى الحديث نهى المرأة عن النمص وهو إزالة شعر الخدين، وقد حمله ابن الجوزى على التدليس والإغراء، وأباحه للزوج.
وذكر أن امرأة سألت عائشة رضى الله عنها عن قشر الوجه، أى وضع دواء عليه ليصفو لونها، فقالت: إن كان شىء وُلدت به فلا يحل لها، لا آمرها ولا أنهاها، وإن كان شىء حدث فلا بأس، تعمد إلى ديباجة كساها فتنحيها عن وجهها، ولا آمرها ولا أنهاها.
وجاء فى معجم المغنى لابن قدامة "طبعة الكويت 877" أن المرأة يكره لها حلق شعرها، ويجوز لها حَفُّ وجهها ونتف شعره "موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ج 3 ص 305"(8/192)
حديث " أصحابى كالنجوم "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم؟
الجواب
هذا حديث ضعيف وقيل موضوع(8/193)
المعراج من المسجد الأقصى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا كان المعراج من بيت المقدس ولم يكن من مكة؟
الجواب
لقد حدث الإسراء من مكة وانتهى إلى المسجد الأقصى بالشام، كما نص على ذلك القرآن الكريم، وهو معجزة من أنكرها كفر لتكذيبه خبر القرآن، وهو قاطع فى ثبوته ودلالته، والمعراج معجزة أثبتتها السنة، وفى منكرها خلاف بالقول بالكفر أو بالفسق. وجاء فى بعض الروايات أن المعراج كان من مكة وكان على البراق، وإن كانت رواية المعراج من المسجد الأقصى هى الأقوى، وكون المعراج على البراق غريب، لأنه إلى السماوات وليس إلى موضع آخر فى الأرض حيث يكون التناسب بينها وبين الدابة التى هى البراق، ولعل التعبير "بالمعراج " من مكة خطأ بدل "الإسراء".
من الطبيعى أن يحدث الإسراء من مكة-كما أخبر القرآن - لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيها منذ ولد ونشأ وبدأ الدعوة وحدثت له الظروف التى كانت مقدمة للإسراء، وكان هو والمعراج بعيدين عن مكة لحكم جليلة منها:
1 -إثارة التعجب عند المشركين، كيف تم الانتقال والمسافة بعيدة، ولإمكان تصديقه طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم وصف بيت المقدس.
2 -أن المسجد الأقصى كان فيه اجتماع الأنبياء الذين احتفلوا به وكرموا الرسول بإمامته لهم فى الصلاة، وكأن الله يقول له: إن لم يؤمن بك المشركون فقد آمن بك وكرَّمك من هم أفضل منهم، وهم أفضل البشر، أنبياء الله المصطفون الأخيار، وفى ذلك تسلية وعزاء للرسول صلى الله عليه وسلم وتنشيط له ليستمر فى دعوته.
3-وفى حفاوة الأنبياء به إشارة إلى وحدة الأديان، وكما جاء فى الحديث الصحيح " الأنبياء إخوة من عَلاَّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد".
4 - وفى ذلك إشارة إلى أن دين الإسلام سينتشر على الرغم من محاولات أهل مكة للقضاء عليه، وستغطى دعوته العالم كله، لأن فيه خلاصة الدعوات السابقة، مع المبادئ الصالحة لمسايرة البشرية فى تطورها المستمر.
لقد كان المعراج من المسجد الأقصى ليكون بعد الاحتفال الأرضى العام بالرسول احتفال خاص فى السماء لم يحظ به نبى من الأنبياء، وكانت صفوة منهم فى طريق عروجه يستقبلونه ويكرمونه فى السماء كما كرموه فى الأرض، وكان كل منهم يمثل مرحلة من حياته صلى الله عليه وسلم أحس فيها بنصر الله لهم على الرغم مما حدث لهم من أقوامهم.
هذا بعض ما أحس به من كون المعراج كان من المسجد الأقصى ولم يكن من مكة كالإسراء، ولكلٍّ أن يقرأ ما بين السطور، ويستشف ما يفتح الله به عليه، والأسرار فى التشريعات كثيرة لا يحيط بها إلا من وضعها سبحانه وتعالى(8/194)
ولادة الأمة ربتها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى الحديث أن من علامات الساعة أن تلد الأمة ربتها، فما معنى ذلك؟
الجواب
صح فى الحديث أن جبريل عليه السلام سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة، فقال " أن تلد الأَمة ربتها " يعنى أن المرأة الرقيقة غير الحرة تلد بنتا تكون هذه البنت حرة وسيدة مالكة لأمها.
جاء فى شرح صحيح مسلم "ج 1 ص 158" قال الأكثرون من العلماء: هو إخبار عن كثرة السرارى - الإماء - وأولادهن. فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها، لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، وقد يتصرف فيه فى الحال تصرف المالكين إما بتصريح أبيه له بالإذن، وإما بما يعلمه بقرينة الحال أو عرف الاستعمال.
وقيل: معناه أن الإماء يلدن الملوك، فتكون أمة من جملة رعيته، وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته، وهذا قول إبراهيم الحربى.
وقيل: معناه أنه تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد فى آخر الزمان - وبيعهن حرام - فيكثر تردادها فى أيدى المشترين حتى يشتريها ابنها ولا يدرى.
يقول النووى بعد سرد هذه الأقوال: إن هناك أقوالا أخرى غير ما ذكرناه، ولكنها أقوال ضعيفة جدًّا أو فاسدة فتركتها. اهـ.
وهذا القدر كاف فى فهم معنى أن تلد الأمة ربتها، وخلاصته فساد الزمان(8/195)
داعب ولدك سبعا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث " داعب ولدك سبعا، وأدبه سبعا، وآخه سبعا، ثم اترك له الحبل على الغارب "؟
الجواب
لم أر هذا حديثا عن النبى صلى الله عليه وسلم، ومثله موجود فى كلام العلماء والمربين، جاء فى "إحياء علوم الدين للإمام الغزالى " فى حقوق الوالدين والأولاد: وقد قيل: ولدك ريحانتك فشمها سبعا، وخادمك سبعا، ثم هو عدوك أو شريكك.
والمراد بهذا الكلام أن يعامل الوالد ولده فى تربيته بحكمة، فالأسلوب يختلف فى مراحل العمر، من الطفولة إلى الصبا إلى المراهقة إلى البلاغ، وشرح ذلك يطول "انظر الجزء الرابع من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام "(8/196)
ووجدك ضالا فهدى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الضلال الذى كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يهديه الله، وما صلة ذلك بعصمة الأنبياء؟
الجواب
يقول الله سبحانه {ووجدك ضالا فهدى} الضحى: 7، الضلال أنواع، منه ضلال الشرك، وضلال الهوى، وضلال الطريق، الأول فى العقيدة والثانى فى السلوك القولى والعملى، والثالث فى أمور الدنيا، وإن كان فى بعضها تداخل، والدليل العقلى مع إجماع أهل الملل على أن الشرك مستحيل على الأنبياء قبل البعثة وبعدها، فلا يصح أن يكون مقصودا من الآية، والدليل العقلى قام أيضا على استحالة صدور الكبائر من الأنبياء، فلا تصح إرادة ذلك من الآية، بقى النوع الثالث من الضلال وهو ضلال الطريق، سواء منه المادى والمعنوى، وهو الذى يجب حمل الآية عليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم فى نشأته بين قومه مطبوعا على التمسك بالكمالات، والبعد عن كل ما يشعر بالخسة والنقص فى الفهم والسلوك، وكانت نفسه تتوق إلى السعى دائما لرفع شأن قومه بما يخلصهم مما ارتكسوا فيه من شرك وسلوك غير مستقيم، ومازال يفكر فى وسيلة تحقق له أمنيته، فلم يجد فى الأديان السائدة، ما يشفى غلته حتى طلعت عليه شمس النبوة، ونزل عليه جبريل يبين له الطريق الذى يسلكه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبهذا هداه الله من حيرته، ويحمل عليه قوله تعالى {ووجدك ضالا فهدى} .
وبمثل هذا يفسر قوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك. الذى أنقض ظهرك} الشرح: 2، 3، فالمراد بالوزر الحمل الثقيل الذى أتعب ظهره، وهو حمل معنوى قائم على التفكير الطويل فى تخليص قومه مما هم فيه من كفر وضلال، لأنه صلى الله عليه وسلم، من صغره، لم يكن أنانيا يحب ذاته فقط، ولكنه كان اجتماعيا يشترك مع قومه فى الأمور العظيمة، وبالرسالة خفف الله عنه هذا الحمل، فأنس بجبريل وألف اللقاء به ويسر له أمر الدعوة {فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا} الشرح:5، 6(8/197)
حديث " سيد القوم خادمهم "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هذه العبارة " سيد القوم خادمهم " حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هذا القول منسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم بسند ضعيف جاء فى المواهب اللدنية للقسطلانى وشرح الزرقانى "ج 4 ص 117، 118 " أن السُّلمى رواه عن عقبة بن عامر عن الرسول، وفى سنده ضعف أو انقطاع، ورواه غيره أيضا كابن عساكر وأبى نعيم بسند ضعيف جدا مع انقطاعه، ورواه الحاكم والبيهقى والديلمى بألفاظ أخرى مثل "سيد القوم فى السفر خادمهم، فمن سبقهم لخدمة لم يسبقوه بعمل إلا الشهادة" يقول الزرقانى فى شرح المعنى: السيد من يفرغ إليه فى النوائب. فيحمل الأثقال، فلما تحمل الخادم الأمور وكفى المؤنة وما لا يطيقونه كان سيدهم، وأصل العبارة: خادم القوم كسيدهم فبولغ فيه بالقلب المكانى حتى جعل السيد خادما.
ومهما يكن من شرح للمعنى فإنه ليس حديثا صحيحا ولا حسنا عن النبى صلى الله عليه وسلم(8/198)
العمل بالعلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم "؟
الجواب
ذكر بعض العلماء أن هذا حديث مرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ومنهم البيضاوى، وجاء فى "الآداب الكبرى" لابن مفلح أن الإمام أحمد بن حنبل رواه مرفوعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق أنس بن مالك. وقال أبو نعيم عقب ذلك: ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين عن عيسى بن مريم عليه السلام، فوهم بعض أنه من كلام النبى صلى الله عليه وسلم "غذاء الألباب "ج 1 ص 38(8/199)
حديث " كل أمر ذى بال "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك فضل لابتداء أى عمل بالبسملة وحمد لله؟
الجواب
روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر " وفى رواية "كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع " رواه أبو داود وابن ماجه والنسائى وابن حبان فى صحيحه مرفوعا، قال المناوى: بإسناد حسن وفى رواية عند البغوى "بحمد الله " والكل بلفظ " أقطع " وفى رواية "أجذم " وفى رواية "كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع " وفى رواية "بذكر الله " فتكون الروايات ببسم الله الرحمن الرحيم، وبالحمد لله، وبحمد الله، وبذكر الله. ولفظ "أقطع " هو أكثر الروايات. وكذلك لفظا "أبتر وأجذم " ومعنى هذه الألفاظ أنه ناقص البركة. "غذاء الألباب - ج 1 ص 9".
هذا، والبسملة بهذه الألفاظ العربية المرتبة من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته، وما جاء فى سورة النمل هو ترجمة لما فى كتاب سليمان لبلقيس لأنه لم يكن عربيا، وفى حديث مرفوع، رواه الطبرانى عن بريدة "أنزل علىَّ آية لم تنزل على نبى بعد سليمان غيرى" بسم الله الرحمن الرحيم "الزرقانى على المواهب ج 1 ص 3(8/200)
من رحمة النبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم طلب من الله أن يجعل دعاءه على المؤمن رحمة له؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإنى قد اتخذت عندك عهدًا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" وفى رواية لمسلم "فأيما أحد دعوت عليه من أمتى بدعوة ليس هو لها بأهل ... " فإن قيل: كيف يدعو بدعوة على من ليس لها بأهل؟ قيل -كما نقله ابن حجر عن المازرى- المراد ليس بأهل لذلك عند الله فى باطن الأمر لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله وجنايته حين دعا عليه، فكأنه يقول: من كان فى باطن أمره عندك ممن ترضى عنه فاجعل دعوتى عليه -التى اقتضاها ما ظهر لى من مقتضى حاله حينئذ-طهورا وزكاة.
وهذا صحيح لأن الرسول متعبد بالظواهر وحساب الناس فى البواطن على الله. وما فعله كان اجتهادا، أو لم يكن مقصودا، بل هو مما جرت به عادة العرب فى كلامها بلا نية، كقوله لغير واحد "تربت يمينك " وهذا نادر من النبى فهو لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه "الزرقانى على المواهب ج 5 ص 241" وفى تفسير القرطبى "ج 10 ص 226": أن النبى صلى الله عليه وسلم سَلَّمَ أسيرا إلى أم المؤمنين سودة، فبات يَئنُّ، فسألته فقال: أنينى لشدة القِدَ والأسر، فأرخت من كتافه، فلما نامت هرب، فأخبرت النبى صلى الله عليه وسلم فقال "قطع الله يديك " فلما أصبحت كانت تتوقع الآفة، فقال صلى الله عليه وسلم:
"إنى سألت الله أن يجعل دعائى على من لا يستحق من أهلى رحمة، لأنى أغضب كما يغضب البشر" ونزلت الآية {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا} الإسراء: 110، ذكره القشيرى أبو نصر رحمه الله. انتهى ولم يبين درجة هذه الرواية، وهى خاصة بدعائه على أهله، أما رواية مسلم فهى عامة فى كل من يدعو عليه النبى صلى الله عليه وسلم، وهى أليق بما وصف به من الرحمة الشاملة لأهل بيته وغيرهم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} التوبة: 128، بل الشاملة لمن آمن به ومن لم يؤمن {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء: 107، بل الشاملة للحيوانات أيضا، والأخبار فى ذلك كثيرة(8/201)
حديث " فى كرامة العلم "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لا تعلموا أولاد السفلة العلم، فان علمتموهم فلا تولوهم القضاء والولاية "؟
الجواب
لم أجد فى كتب الصحاح هذا الحديث، وجاء فى كتاب "إحياء علوم الدين " للإمام الغزالى "ج 1 ص 49 " وفى بيان وظائف المرشد المعلم فى الوظيفة السادسة: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، لحديث "نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم "وجاء من أقوال عيسى عليه السلام "لا تعلقوا الجواهر فى أعناق الخنازير" فإن الحكمة خير من الجوهر، ومن كرهها فهو شر من الخنازير، وقال تعالى {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} تنبيها على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى، وليس الظلم فى إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم فى منع المستحق، يقول الشاعر:
أأنثر درًّا بين سارحة النعم * فأصبح مخزونا براعية الغنم؟ فمن منح الجهال علما أضاعه * ومن منع المستوجبين فقد ظلم وجاء فى "أدب الدنيا والدين " للماوردى "ص 73" روى عن النبى صلى الله عليه وسلم "أنه قال "لا تمنعوا أهله فتظلموا، ولا تضعوه فى غير أهله فتأثموا" ولم يخرج هذا الحديث، كما جاء فيه حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم "واضع العلم فى غير أهله كمقلد الخنازير اللؤلؤ والجوهر والذهب " ولم يخرجه أيضا، وذكر قول عيسى "لا تلقوا الجوهر للخنزير " فالعلم أفضل من اللؤلؤ، ومن لا يستحقه شرعا خنزير. وجاء أيضا فى " إحياء علوم الدين للغزالى ج 1 ص 11 " قول عكرمة: إن لهذا العلم ثمنا، قيل: وما هو؟ قال: أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيعه.
ثم جاءت أخبار تحذر من تعلم العلم لغير وجه الله منها "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولتماروا به السفهاء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو فى النار " وهو حديث رواه ابن ماجه بسند صحيح، ولا شك أن السفلة هم الذين يتعلمون من أجل ذلك.
وعلى هذا فالحديث المذكور لم يرد نصه بطريق صحيح ولا حسن، ولكن ورد معناه كحديث ابن ماجه المذكور(8/202)
من أمر الرسول بقتلهم فى فتح مكة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هم الذين أمر الرسول بقتلهم فى فتح مكة حتى لو تعلقوا بأستار الكعبة؟
الجواب
جاء فى " الأحكام السلطانية" للماوردى " ص 132 " أنهم ستة، هم:
1 -عبد الله بن سعد بن أبى سرح، كان من كتاب الوحى، فكان يغير ما أمره الرسول بكتابته ثم ارتد ولحق بقريش.
2 -عبد الله بن خطل، كانت له جاريتان تغنيان بسب الرسول صلى الله عليه وسلم.
3-الحويرث بن نفيل، كان يؤذى الرسول.
4 - مقيس بن حبابة، كان بعض الأنصار قتل أخاه خطأ فأخذ ديته ثم اغتال القاتل وعاد إلى مكة مرتدا.
5 -سارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب كانت تسب وتؤذى.
6 -عكرمة بن أبى جهل، كان يكثر التأليب على الرسول، طلبا لثأر أبيه.
فأما ابن أبى سرح فاستأمن له عثمان الرسول فأعرض عنه، وكان يتمنى أن يقتل وأما ابن خطل فقتله سعد بن حريث المخزومى وأبو برزة الأسلمى.
وأما مقيس فقتله رجل من قومه اسمه نميلة بن عبد الله، وأما الحويرث فقتله على بن أبى طالب وأما سارة فتغيبت حتى استؤمن لها من الرسول فأمنها ثم تغيبت فداسها فرس لمسلم وماتت أيام عمر.
وأما عكرمة بن أبى جهل فهرب إلى البحر، ونصحه صاحب السفينة بالإخلاص فمال قلبه إلى الإيمان فرجع، وكانت زوجته بنت الحارث قد أسلمت وهى أم حليم فأخذت له من الرسول أمانا، فلما رآه الرسول قال " مرحبا بالراكب المهاجر" فأسلم، فقال له الرسول " لا تسألنى اليوم شيئا إلا أعطيتك " فقال: أسألك أن تسأل الله أن يغفر لى كل نفقة صددت بها عن سبيل الله، وكل موقف وقفته لذلك فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر له ما سأل " فقال: والله لا أدع درهما أنفقته فى الشرك إلا أنفقت مكانه فى الإسلام درهمين، ولا موقفا وقفته فى الشرك إلا وقفت مكانه فى الإسلام موقفين، فقتل يوم اليرموك(8/203)
بين النبى وزوجاته
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما تفسير قوله تعالى {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم. قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم. وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنباك هذا قال نبأنى العليم الخبير} التحريم: 3- 1؟
الجواب
أصح ما ورد فى سبب نزول هذه الآيات أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلا عند بعض زوجاته -زينب بنت جحش، أو حفصة بنت عمر-وكان يمكث عندها طويلا فدبت الغيرة فى قلب بعض زوجاته، وهن بشر يتمنين أن يمكث عندهن كما يمكث عندها، لأن من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يطوف عليهن جميعا كل يوم يسأل عنهن ويقضى حاجتهن، ثم يبيت عند صاحبة النوبة. فقال بعض الزوجات: إذا دخل النبى علينا نقول: إن فى فمك رائحة كريهة-والنبى كان يكره الرائحة الكريهة- فقلن له ذلك. وذكرن أن سببه من الطعام الذى أكله، فقال:
أكلت عسلا، فقلن: لعل نحله قد جنت العرفط، يعنى امتصت زهره ورائحته كريهة، فحلف النبى ألا يأكله مرة أخرى، وقد أطلع الله نبيه على ما فعله زوجاته، وبين له كيف يخرج من يمينه، وذلك بكفارة من عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم على ما جاء فى سورة المائدة.
وثبت فى صحيح مسلم أن عائشة وحفصة هما اللتان اتفقتا على هذه الحيلة، والذى أسره لهما هو عدم عودته إلى شرب العسل، فأفشيا السر فاخبره الله.
وقيل: إن السر هو قوله لهما إن أبويهما سيكونان خليفتين من بعده.
وقيل: إن سبب نزول الآيات خلوة الرسول بمارية فى بيت حفصة وكانت غائبة عنه فلما رأت أن ذلك هوان من شأنها قال لها: إنى حرمتها على نفسى ولا تخبرى أحدا، فأخبرت به عائشة، فغضب وحلف ألا يدخل على نسائه شهرا، ولكن سند هذه الرواية ضعيف، أو لا يقف أمام رواية مسلم.
ومعنى "عرَّف بعضه وأعرض عن بعض " عرف حفصة أنها أفشت السر لعائشة فى تحريم العسل أو تحريم مارية، وأعرض عن بعض وهو تولى أبى بكر وعمر بعده، حتى لا يفشو الخبر أكثر وأكثر، وجازاها على ذلك بتطليقها ثم أمره الله بمراجعتها(8/204)
الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المقصود بالصلاة على النبى، وما مدى مشروعيتها، وكيف تُؤَدّى، وما فضلها؟
الجواب
يقول الله سبحانه {إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب: 56، يقول العلماء: الصلاة على النبى من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، ومن المؤمنين دعاء، فالمطلوب منا أن ندعو الله أن يزيد من تعظيمه وإكرامه للنبى صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت النصوص قد أكدت أن الله سبحانه أعطى لنبيه صلى الله عليه وسلم من المكرمات ما لا يمكن حصره إلا أن طلبنا هذا من الله لنبيه يعد تعبيرا عن مدى حبنا له، وحبنا للرسول علامة من علامات صدق الإيمان، فقد ورد فى الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ومن الناس أجمعين " كما جاءت روايات أخرى فى هذا المعنى. قال ابن عبد السلام: ليست صلاتنا على النبى صلى الله عليه وسلم شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا - إلى الصلاة عليه.
وفى مدى مشروعية هذه الصلاة أقوال: أحدها أنها تجب فى الجملة بغير حصر، لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة، والثانى أنه يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، والثالث تجب كلما ذُكر، والرابع تجب فى كل مجلس، والخامس تجب فى كل دعاء، والسادس تجب فى العمر مرة، فى الصلاة أو فى غيرها، ككلمة التوحيد، والسابع تجب فى الصلاة من غير تعيين المحل، والثامن تجب بعد التشهد، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقال جماعة: إنها مستحبة وليست واجبة. والبحث فى أدلة هذه الأقوال وترجيحها يمكن الرجوع إليه فى كتب السيرة والحديث.
وهذه الصلاة تؤدى بأية صيغة كانت، وأفضلها -كما قال كثير من العلماء هى الصلاة الإبراهمية التى تقال بعد التشهد الأخير فى الصلاة، لأن الأحاديث الصحيحة وردت فى أنها هى التى علمها النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما سألوه عقب نزول الآية المذكورة، وفى ألفاظ هذه الصلاة الإبراهمية خلاف يسير جاءت به الروايات.
والفوائد التى نجنيها من الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم أكثرها فوائد دينية تتعلق بمضاعفة الأجر والثواب، والأحاديث المرغبة فيها كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم "من صلى علىَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا" رواه مسلم، وقوله "ما من أحد يسلم علىَّ إلا رد الله علىَّ روحى حتى أرد عليه السلام " رواه أبو داود، وقوله " أولى الناس بى يوم القيامة أكثرهم علىَّ صلاة" رواه الترمذى وقال: حديث حسن. وقوله "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل على " رواه الترمذى وقال: حسن صحيح.
هذا، وقد قال النووى " الأذكار ص 120 ": إذا صلى أحد على النبى صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم، ولا يقتصر على أحدهما، فلا يقل: صلى الله عليه فقط ولا عليه السلام فقط. ويسن عند الدعاء أن يبدأ بالحمد لله أو بتمجيده والثناء عليه ثم يصلى على النبى ثم يدعو ثم يختم بالصلاة عليه، والآثار فى ذلك كثيرة(8/205)
حديث الذبابة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى الحديث المشهور عن غمس الذبابة فى الشراب إذا وقعت فيه؟
الجواب
روى البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا وقع الذباب فى شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن فى أحد جناحيه داء وفى الآخر شفاء" وجاء فى روايات لغير البخارى التعبير بإناء بدل شراب، والتعبير بقوله "فامقلوه " بدل "فليغمسه " وأن الذباب يقدم الجناح الذى فيه الداء ويؤخر الجناح الذى فيه الدواء، والحديث يأمر بنزع الذبابة بعد غمسها وعدم تركها فى الإناء.
حول هذا الحديث قامت معركة كبيرة بين الأطباء أنفسهم، وأدلى كل فريق بوجهة نظره، وتبين من كلامهم - وهم أهل الذكر فى الناحية الطبية - أن الطب ما زالت فيه أسرار لم يصل العلم إلى كشفها حتى الآن، وقام بعض خبراء التحليل ببحوث أثبت فيها أن الذباب - وبخاصة النوع الذى يعرف بالزنبور- فى جسمه سم وترياق، أو مرض ودواء، ومعروف لدى الجميع أن سم العقرب يعالج بسم العقرب بعد إجراءات خاصة، والتحصين من بعض الأمراض يكون بمسبب هذه الأمراض بعد ترويض الميكروبات أو الفيروسات - حسب مصطلحهم - بعمليات معينة.
وأكد علماؤنا الأجلاء أن الحديث ما دام قد ثبت بطريق صحيح فلا ينبغى أن نسارع بتكذيبه إذا خالف شيئا مألوفا لم يصل إلى درجة الحقيقة القاطعة، ولا أن نسارع بتأويله ليناسب ما عهدناه، إلا إذا ثبت بالقطع الذى لا يعتريه شك، فهنا يكون التأويل مسموحا به، ووجوه هذا التأويل كثيرة.
والتعارض بين النص والحقيقة هو تعارض فى ظاهر النص لا فى حقيقته، لأن الحقيقتين لا تتعارضان أبدا تعارضا كاملا من كل الوجوه، لأنهما من صنع الله الحكيم.
ومن العلماء المرموقين فى التوفيق بين الروايات التى يتعارض بعضها مع بعض: ابن قتيبة الدينورى المتوفى سنة 276 هـ، وأشار إلى حديث الذباب فى كتابه "تأويل مختلف الحديث " وأورد كلام الأطباء فى منافع الحيات والعقارب والذباب.
والمرحوم الشيخ يوسف الدجوى أجاب عن هذا الحديث بما لا يخرج عما تقدم وأيده بمحاضرة ألقاها السيد / إبراهيم مصطفى عبده - معيد فى الصيدلة وتركيب العقاقير الطبية - فى جمعية الهداية الإسلامية بالقاهرة بتاريخ 19 / 3/ 1931 م، ونشر ذلك بمجلة الإسلام فى 30/12/1932 م، أيدها بتجارب ونُقُول عن كبار الأطباء العالميين، كما نشر بمجلة الأزهر " عدد رجب 1378 ط " وكان هذا الحديث ضمن الرسالة التى قدمها المرحوم الشيخ محمد محمد أبو شهبة لنيل درجة الأستاذية سنة 1946 م وفيه نُقُول طبية عن كبار الأطباء، ويمكن الرجوع فى هذا الموضوع إلى كتابه "دفاع عن السنة" صفحة 199.
وجاء فى محاضرة الأستاذ إبراهيم مصطفى أن الذباب يقع على العفونات وما فيها من جراثيم، ويتحول ما يأكله فى داخل جسمه إلى ما سماه علماء الطب "البكتريوفاج " الذى ينتصر على كثير من الجراثيم، وأثبت ذلك بما نقله عن مجلة التجارب الطبية الإنجليزية "عدد 1037 عام 1927م ".
وبرهن على ذلك أيضا الدكتور "دريل " مندوب الصحة البحرية فى الهند للبحث عن ظهور الكوليرا فيها، وقدم تقريرا عن بحوثه فى ديسمبر 1927 م، وأكد فاعلية البكتريوفاج الذى ينقله الذباب من براز الناقهين إلى آبار الماء، فيشربه الأهالى، فسرعان ما تخف عنهم وطأة الكوليرا ثم تزول.
وأجريت مثل تجارب الدكتور "دريل " فى البرازيل عن الدوسنتاريا الحادة، واستعمل البكتريوفاج فى علاج الحمى التيفودية، وضد جراثيم أخرى.
ويقول الأستاذ إبراهيم مصطفى، اطلعت على تفصيل قوة البكتريوفاج فى مقاومة وإبادة الجراثيم فى كتاب باللغة الإنجليزية اسمه "تمهيد البكتريولوجى العملى " الذى يدرس فى كلية الطب المصرية، يكاد يذكر أنها غير محدودة.
ثم يقول الشيخ يوسف الدجوى بعد استشهاده بهذه المحاضرة:
ومع ذلك نقول بالاحتياط من الذباب، وغاية ما يريده الحديث أنك إذا فرطت فى الوقاية فلا تفرط فى العلاج بغمس الذبابة كلها(8/206)
حديث المتطوع أمير نفسه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا شرع الإنسان فى عبادة نافلة أى غير مفروضة، كصلاة الضحى وصيام يوم عرفة، وحج التطوع، هل له أن يخرج من هذه العبادة، أو لا بد من إتمامها، وإذا خرج منها هل يجب عليه أن يقضيها أو لا يجب؟
الجواب
يقول الله سبحانه {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} محمد: 33.
روى البخارى وغيره أن سلمان أمر أبا الدرداء بأن يفطر من صوم كان متطوعا فيه -وذلك عند ما زاره فصنع له طعاما ولم يأكل معه لأنه صائم - ولما ذكرا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم (صلى الله عليه وسلم) قال: " صدق سلمان ".
وروى مسلم وأبو داود والنسائى عن عائشة رضى الله عنها قالت:
دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال " هل عندكم شئ "؟ فقلت: لا، قال "فإنى صائم " ثم مر بعد ذلك اليوم وقد أهدى إلى حيس، فخبأت له منه، وكان يحب الحيس، قلت: يا رسول الله إنه أهدى لنا حيس فخبأت لك منه، قال " أدنيه، أما إنى قد أصبحت وأنا صائم " فأكل منه ثم قال لنا "إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها" هذا لفظ رواية النسائى وهو أتم من غيره، وروت أم هانى قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بشراب فناولنيه فشربت منه، ثم قلت: يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها "أكنت تقضين شيئا"؟ قالت: لا، قال " فلا يضرك إن كان تطوعا" رواه سعيد وأبو داود. وفى رواية لأحمد والدارقطنى والبيهقى أنه صلى الله عليه وسلم قال لها "إن المتطوع أمير نفسه، فإن شئت فصومى وإن شئت فأفطرى" وروى الحاكم مثله وصححه.
وروى عن عائشة أنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدى لنا حيس فأفطرنا. ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اقضيا يوما مكانه ".
من شرع فى عبادة مفروضة حرم عليه أن يفسدها أو يبطلها، بناء على ما ورد فى مبطلات الصلاة والصيام والحج من النصوص، وعليه أن يعيد هذه العبادة على وجهها الصحيح أو يقضيها إن فات وقتها، وإلى جانب النصوص الخاصة بكل عبادة تنهى الآية المذكورة عن إبطال الأعمال، وهو يشمل الإبطال المادى والمعنوى، ومن المعنوى الرياء الذى يبطل الثواب وإن لم يبطل مادة العمل، وعدم الخشوع فى الصلاة، والكذب والزور والغيبة فى الصيام، والرفث والفسوق والجدال فى الحج فى بعض معانى هذه الأمور، فهى تبطل الثواب ولا تبطل الصحة فلا تلزم الإعادة أو القضاء.
أما من شرع فى عبادة غير مفروضة كالأمثلة المذكورة فى السؤال فإن الخروج منها وإبطالها ماديا اختلف العلماء فى جوازه ومنعه، ففريق قال بجواز الخروج وعدم وجوب الإتمام، بناء على الحديث الأول عن عائشة والحديث الثانى عن أم هانى إلى جانب حديث سلمان وأبى الدرداء وأجابوا على الآية باحتمال، أن يكون النهى عن إبطال الثواب، فهو ليس نصا فى الإبطال المادى. كما أجابوا على الحديث الثالث الوارد فى عائشة وحفصة بالضعف، قال عنه أبو داود: لا يثبت، وقال الترمذى: فيه مقال، وضعفه الجوزجانى وغيره، وإن قبل هذا الحديث فأمر الرسول لهما بالقضاء للاستحباب لا للوجوب. وقالوا: يستحب إتمام النفل ويستحب قضاؤه إن أبطله وذلك للخروج من الخلاف.
وهذا الرأى مروى عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود. وبه أخذ أحمد والشافعى.
وفريق قال بحرمة الخروج من التطوع وبوجوب إتمامه، ودليلهم فى ذلك الآية الناهية عن إبطال الأعمال، والحديث الثالث الوارد فى عائشة وحفصة، ورد عليهم الأولون بما سبق ذكره.
وعلى هذا الرأى أبو حنيفة ومالك، فالنفل يلزم بالشروع فيه ولا يخرج منه إلا لعذر، فإن خرج وجب القضاء عند أبى حنيفة، ولا يجب عند مالك هكذا قال ابن قدامة، لكن جاء فى فقه المذاهب الأربعة أن المالكية قالوا:
يجب قضاء النفل إذا أفسده، فيبدو أن ما قاله ابن قدامة رواية أخرى عن مالك.
هذا، وإذا كانت الأحاديث واردة فى الصوم فإن سائر النوافل من الأعمال حكمها حكم الصوم، فى أنها تلزم بالشروع فيها أو لا تلزم، وفى أنها تقضى أو لا تقضى.
لكن الحج والعمرة لهما حكم آخر إذا كانا غير واجبين، فإنهما يخالفان سائر العبادات فى هذا، فيجب إتمامهما بالشروع فيهما، ولا يخرج منهما بإفسادهما، وذلك لتأكد إحرامهما كما يقول ابن قدامة فى كتابه "المغنى" انظر صفحة 89، 90، 112 من الجزء الثالث وانظر ص 255 من الجزء السادس عشر من تفسير القرطبى ونيل الأوطار ج 4 ص 209 هذا ما قاله العلماء فى إتمام النفل، وللقارىء اختيار ما يراه فدين الله يسر(8/207)
الأشهر الثلاثة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "رجب شهر الله وشعبان شهرى ورمضان شهر أمتى "؟
الجواب
ألف ابن حجر العسقلانى رسالة بعنوان "تبيين العجب بما ورد فى فضل رجب " أورد فيها أحاديث ما بين ضعيف وموضوع، وذكر أنه لا يوجد حديث صحيح خاص بفضل الصيام أو الصلاة فى شهر رجب بالذات، ونص عبارته: لم يرد فى فضل رجب ولا فى صيامه ولا فى صيام شىء منه معين، ولا فى قيام ليلة مخصوصة فيه. .. حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقنى إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروى الحافظ.
وذكر حديث "رجب شهر الله وشعبان شهرى، ورمضان شهر أمتى" كما ذكر حديث "خيرة الله من الشهور شهر رجب وهو شهر الله من عظم شهر رجب فقد عظم أمر الله، ومن عظم أمر الله أدخله الله جنات النعيم، وأوجب له رضوانه الأكبر، وشعبان شهرى، فمن عظم شهر شعبان فقد عظم أمرى، ومن عظم أمرى كنت له فرطا وذخرا يوم القيامة، وشهر رمضان شهر أمتى، فمن عظم شهر رمضان وعظم حرمته ولم ينتهكه وصام نهاره وقام ليله وحفظ جوارحه -خرج من رمضان وليس عليه دين يطلبه الله تعالى به ".
قال البيهقى: هذا حديث منكر "قلت " أى قال ابن حجر: بل هو موضوع ظاهر الوضع، بل هو من وضع "نوح الجامع " وهو أبو عصمة الذى قال عنه ابن المبارك لما ذكره لوكيع: عندنا شيخ يقال له أبو عصمة كان يضع الحديث، وهو الذى كانوا يقولون فيه "نوح الجامع " جمع كل شىء إلا الصدق، وقال الحنبلى: أجمعوا على ضعفه "الإسلام - العدد 30، 31 من السنة الثالثة"(8/208)
حديث اختلاف أمتى رحمة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " اختلاف أمتى رحمة" وكيف يكون الاختلاف رحمة، والدين بقرآنه وحديثه يدعو إلى الوحدة؟
الجواب
هذا الحديث ذكره البيهقى تعليقا فى رسالته، وأسنده فى المدخل من حديث ابن عباس بلفظ "اختلاف أصحابى لكم رحمة" وإسناده ضيف كما قال العراقى فى تخريجه لأحاديث إحياء علوم الدين " ج1 ص 25 ".
وسبب هذا القول كما ذكره بعض الكتاب أن أعرابيا حلف ألا يقرب زوجته حينا من الدهر، ولم يعرف هذا الأعرابى مدة ذلك الحين الذى أقسم عليه، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسأله فلم يجده، فسأل أبا بكر رضى الله عنه فقال: اذهب فطلق امرأتك، فالحين هو العمر كله، وسأل عمر رضى الله عنه فقال: إن عشت أربعين سنة يمكنك أن ترجع إلى امرأتك، فالحين أربعون سنة، وسأل عثمان رضى الله عنه فقال: امكث عاما ثم ارجع إلى امرأتك، فالحين عام فقط، وسأل عليا رضى الله عنه فقال له: متى حلفت؟ قال: بالأمس، فقال: ارجع إلى امرأتك فالحين هو نصف يوم.
ثم قص الأعرابى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل كلا من الصحابة الأربعة على مستندهم فى آرائهم، فقال أبو بكر: قال الله تعالى فى قوم يونس {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} يونس:
98، وقد سبق أن فسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بأن الله تركهم بلا عذاب طول عمرهم. وقال عمر: قال الله تعالى {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} الإنسان: 1، وقد سبق أن فسر الرسول ذلك بأن آدم أتى عليه أربعون سنة مخلوقا مصورا لا يدرى ما هو وما اسمه وما يراد به. وقال عثمان. قال الله تعالى فى شجرة النخل الطيبة {تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها} إبراهيم:25، وثمار النخلة تأتى كل عام. وقال على: قال تعالى {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} الروم: 17، فالحين نصف يوم.
وقيل: إن هذه القصة هى فى قول النبى صلى الله عليه وسلم "أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وهو أيضا ضعيف وقيل موضوع، رواه الدارمى.
وغيره، وأسانيده ضعيفة، وعلى فرض ورود هذا الحديث بأية درجة فهو ليس مدحا من النبى صلى الله عليه وسلم " لأى اختلاف، بل للاختلاف فى الرأى الاجتهادى الذى ليس فيه نص قاطع، وكل واحد من هؤلاء استند فى رأيه إلى نص فى القرآن. فهو معذور إن أخطأ، ومن المعلوم أن الاختلاف. فى الآراء الاجتهادية يعطى فرصة للإنسان أن يختار منها ما يتناسب مع ظروفه، ومن هنا جاءت المذاهب الفقهية المعروفة، وتقليد أى منها جائز لا حرج فيه(8/209)
البطيخ والقرى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث: ربيع أمتى البطيخ، وخير بقاع الأرضى القرى وشرها المدن؟
الجواب
ليس هناك حديث صحيح فى مدح البطيخ، وليس هناك حديث يفضل أهل القرى على أهل المدن. وأسماء الأمكنة لا قيمة لها، وقيمتها فى سلوك أهلها(8/210)
فضل المتصدق والمتصدق عليه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال " ما المعطى عن سعة بأعظم أجرا من الذى يُصَدَّق عليه "؟
الجواب
هذا الحديث ضعيف رواه ابن حبان فى الضعفاء والطبرانى فى المعجم الأوسط، كما رواه فى المعجم الكبير بسند ضعيف، فهو ليس بحديث صحيح ولا حسن. ذكره العراقى فى تخريج أحاديث "إحياء علوم الدين " للغزالى الذى وضحه بأن الذى يتفرغ للعبادة ويقبل الصدقة لحاجته إليها لا يقل فضلا عن الغنى الذى أعطاه الصدقة. وهو على إطلاقه دعوة للتفرغ للعبادة، ولكنى لا أرى تشجيع التفرغ لها للقادرين على الكسب، وقد يفيد الحديث فى مساعدة من يحتاجون لطلب العلم والجهاد فى سبيل الله ولا يمكنهم التفرغ للسعى وطلب الرزق،وكذلك للعجزة عن الكسب(8/211)
حديث " حزام الجوع "
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يشد الحجر على بطنه من الجوع؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن أنس رضى الله عنه أنه وجد الرسول صلى الله عليه وسلم يوما قد عصب بطنه بعصابة، وذلك من الجوع.
وكان المسلمون الأولون يشدون الأحجار على بطونهم ليقيموا أصلابهم وذلك من الجوع.
ويروى أحمد بسند صحيح عن أبى هريرة رضى الله عنه قال:
لقد رأيتنا وما لنا ثياب الا البُرُد المتفتقة، وإنه ليأتى على أحدنا الأيام ما يجد طعاما يقيم به صلبه، حتى إن أحدنا ليأخذ الحجر فيشد به على أخمص بطنه ثم يشده بثوبه ليقيم صلبه(8/212)
غزوة ذات الرقاع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا سميت غزوة ذات الرقاع بهذا الاسم، وما اسم الرجل الذى حدثت معه واقعة السيف الذى أراد به قتل النبى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
جاء فى "المواهب اللدنية " للقسطلانى وشرحها للزرقانى أن غزوة ذات الرقاع سميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، أو باسم شجرة.فى ذلك الموضع كانت العرب تعبدها وتربط بها خرقا لقضاء مصالحهم. وقيل: لأن الأرض التى نزلوا بها كان بها بقع سود وبقع بيض كأنها ثوب مرقع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض.
وأصح الأقوال ما رواه البخارى ومسلم أن قلة الجِمال كانت تضطر بعضهم إلى المشى فيعصبون على أرجلهم رقاعا تخفف عنهم ألم المشى على الأرض الصعبة.
والرجل الذي أراد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو نائم تحت الشجرة وسقط السيف من يده كما فى البخارى-اسمه غَوْرَث بن الحارث، وقيل " غَوْرِث " وقيل " غُوَيْرث " بالتصغير.
وحدث مثل ذلك فى غزوة غطفان "ذى أمر" بناحية نجد، والرجل اسمة "دُعْثُور" فهناك قصتان لرجلين. وقيل: هى قصة واحدة والأسماء تطلق على الرجل كألقاب(8/213)
حديث: فى العشق والشهادة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد"؟
الجواب
تقدم الحديث عن الحب بين الجنسين وهو غالب ما يسأل عنه الناس، وهو أمر طبيعى فى حياة البشر، وإذا انتهى إلى غاية شريفة ولم يصاحبه محرم فلا بأس به، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب زوجاته ويخص عائشة منه بنصيب أوفر، لأنه لا يمكن العدل فيه، وروى أصحاب السنن أنه قال فى ذلك " اللهم هذا قسمى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك ".
وحديث " من عشق فعف فمات فهو شهيد " وفى رواية "من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة" هو حديث موضوع مكذوب على النبى صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز أن يكون من كلامه، فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقية، ولها أعمال وأحوال هى شروط فى حصولها، والشهادة الخاصة هى ما كانت فى سبيل الله، والشهادة العامة خمس مذكورة فى الصحيح وليس العشق واحدا منها.
ونعى ابن القيم على من نسب هذا الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر أن لفظ العشق لم يحفظ عنه فى حديث صحيح ألبتة، ثم إن العشق منه حلال ومنه حرام، فكيف يظن بالنبى صلى الله عليه وسلم أنه يحكم على كل عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد؟ "راجع زاد المعاد لابن القيم ج 3 ص 154 " ففيه كلام كثير عن العشق وعن هذا الحديث(8/214)
حديث: الشفاء فى ثلاث
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "الشفاء فى ثلاث،شربة عسل، أو شرطة محجم أو كية نار، وأكره أن يكتوى " وهل الأخذ بغير هذه الوسائل فى علاج الأمراض يُعد خروجا على ما جاء بالسنة؟
الجواب
هذا الحديث رواه البخارى بعدة روايات كما جاء فى كتاب "زاد المعاد " لابن القيم، ووضح معناه بما نقله عن المازرى من أن الأمراض الامتلائية إما أن تكون دموية أو صفراوية أو بلغمية أو سوداوية، فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم، وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية فشفاؤها بالإسهال الذى يليق بكل خلط منها، وكأنه صلى الله عليه وسلم نبه بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على الفصد.
وقد قال بعض الناس: إن الفصد يدخل فى قوله "شرطة محجم " فإذا أعيا الدواء فآخر الطب الكى، فذكره صلى الله عليه وسلم فى الأدوية لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية وحيث لا ينفع الدواء المشروب، إلى آخر ما قاله ابن القيم عن المازرى.
ومنه نرى أن العلاج ليس مقصورا على هذه الأشياء المذكورة فى الحديث، فهى وسائل لعلاج أنواع من المرض وليس لكل الأمراض، وفى الوقت نفسه هى أمثلة ونماذج لغيرها من الأدوية، وليس المقصود حصرها ومنع غيرها، وهذا واضح من تعبير المازرى: وكأنه نبه بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على الفصد. فأى دواء يفيد فى هذا المجال ويؤدى إلى النتيجة المطلوبة فهو جائز الاستعمال، وليست الأمراض محصورة فيما جاء فى الحديث، وكذلك ليست الأدوية محصورة أيضا، فالعالم يتغير والكون فيه أسرار يكتشفها العلم الذى يتطور.
ولا يجوز أبدا تحريم العلاج بغير ما ذكر فى الحديث فذلك حكم على الدين بالعقم والتخلف، وكيف لا وهو صالح لكل زمان ومكان، وجاء فى الحديث الأمر بالتداوى، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء كما رواه الترمذى، وكما فى الصحيحين " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء"(8/215)
النبى بين حياة وموت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما مدى صحة القول بأن النبى صلى الله عليه وسلم حى يرزق، وهل يتعارض مع قوله تعالى {إنك ميت وإنهم ميتون} الزمر: 30؟
الجواب
إذا كان الحديث قد ورد فى أن الأنبياء أحياء فى قبورهم ولا تأكل الأرض أجسادهم، كما نصت الآية على حياة الشهداء - فلا نعلم نحن كيفية هذه الحياة التى للأنبياء، حيث لم ينص عليها فى خبر كما نص فى الحديث على حياة الشهداء.
وحياتهم حياة برزخية -أى فاصلة بين الحياة فى الدنيا والحياة يوم القيامة- لا تكليف فيها، فقد انقطع التكليف بمفارقة الروح للجسد، وكل من عليها فان، وكل نفس ذائفة الموت، أى تنتهى به حياتها الدنيوية الى حياة برزخية نترك تفصيلها الى الله. فهى من الغيب الذى لا يقبل فيه إلا خبر صادق لا يتطرق إليه الشك ثبوتا ودلالة(8/216)
رؤى الإسراء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى رحلة الإسراء أناسا يعذبون ويحاسبون على أعمالهم رغم أن يوم القيامة لم يأت بعد؟
الجواب
ما رآه النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء هو صور ونماذج لما يكون عليه الحال يوم القيامة، أو هو تعبير عن الواقع لهؤلاء الناس فى القبور، ففى القبر نعيم وعذاب، وذلك غير ما يكون يوم القيامة، من نعيم فى الجنة وعذاب فى النار، فالصور التى رآها الرسول فى ليلة الإسراء، ومثلا ما رآه مناما ... ورؤيا الأنبياء حق -من أن ملكين أخذاه ومرا به على صور وأشكال لمن ينامون عن الصلاة ومن يأكلون الربا ومن يزنون وخطباء الفتنة، ومن ينفقون للجهاد فى سبيل الله -هذه الصور إما رموز لما سيكون عليه الحال يوم القيامة، وإما حقيقة لما يكون عليه هؤلاء فى القبور(8/217)
حديث: قص الأظافر يوم الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "من قص أظافره فى يوم الجمعة أخرج الله منه مرضا وزاده شفاءا؟
الجواب
لم أجد حديثا صحيحا بهذا المعنى، والذى وجدته هو ما ذكره الشعرانى فى كتابه "كشف الغمة" ج 1 ص 180 "من قلم أظفاره يوم الجمعة وقى من السوء إلى مثلها" وقال عنه الزرقانى فى شرح المواهب "ج 4 ص 215": إنه حديث ضعيف رواه الطبرانى فى الأوسط والبزار عن أبى هريرة.
وروى البغوى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أظفاره وشاربه كل جمعة، ونقل السفارينى فى كتابه "غذاء الألباب " ج 1 ص 381 عن "الآداب الكبرى" حديثا رواه ابن بطة بإسناده "من قص أظفاره يوم الجمعة دخل فيه شفاء وخرج منه داء" وذكر الغزالى فى كتابه "الإحياء" ج 1 ص 162 أنه من قول ابن مسعود بلفظ "من قلم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله عز وجل منه داء وأدخل فيه شفاء".
فالحديث ليس صحيحا بهذا اللفظ، وإن كانت النظافة مطلوبة لصلاة الجمعة، فى الجسم والثياب، ومن ذلك قص الأظافر الطويلة(8/218)
عبادة النبى قبل البعثة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كان النبى صلى الله عليه وسلم يتعبد فى غار حراء قبل البعثة، فبماذا كان يتعبد؟
الجواب
ذكر القرطبى فى تفسيره "ج 16 ص 57" أن العلماء تكلموا فى النبى صلى الله عليه وسلم هل كان متعبدا بدين قبل الوحى أم لا، فمنهم من منع ذلك مطلقا وأحاله عقلا، قالوا لأنه يبعد أنه يكون متبوعا من عُرف تابعا، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح، وقالت فرقة أخرى بالتوقف وترك قطع الحكم عليه بشىء فى ذلك، حيث لا دليل على شىء بالعقل أو النقل، وهذا مذهب أبى المعالى، وقالت فرقة ثالثة: إنه كان متعبدا بشرع من قبله وعاملا به، ثم اختلف هؤلاء فى التعيين، فذهبت طائفة إلى أنه كان على دين عيسى، فإنه ناسخ لجميع الأديان والملل قبله فلا يجوز أن يكون النبى على دين منسوخ، وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين إبراهيم، لأنه من ولده وهو أبو الأنبياء، وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين موسى، لأنه أقدم الأديان (هكذا) وذهبت المعتزلة إلى أنه لابد أن يكون على دين، ولكن عين الدين غير معلومة عندنا.
وقد أبطل هذه الأقوال كلها أئمتنا، إذ هى أقوال متعارضة وليس فيها دلالة قاطعة وإن كان العقل يجوَّز ذلك كله، والذى يقطع به أنه عليه السلام لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضى أن يكون واحدا من أمته ومخاطبا بكل شريعته، بل شريعته مستقلة بنفسها مفتتحة من عند الله الحاكم جل وعز وأنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل، ولا سجد لصنم ولا أشرك بالله، ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر- الموضع الذى يجتمعون للسمر فيه، ولا حضر حلف المطر (هكذا) ولا حلف المطيبين - القائم على نصرة المظلوم وصلة الأرحام - بل نزهه لله وصانه عن ذلك.
ولا يعترض على ذلك بقوله تعالى {قل بل ملة إبراهيم حنيفا} البقرة: 135 وبقوله {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} النحل:123، وبقوله {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} الشورى: 13، فهذا يقتضى أنه كان متعبدا بشرع - فالجواب أن ذلك فيما لا تختلف فيه الشرائع من التوحيد وإقامة الدين، أما تفاصيل الشرائع فلم يعرفها حتى جاء الإسلام(8/219)
وما ينطق عن الهوى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيحا لمعنى قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى. أن هو إلا وحى يوحى} النجم: 3، وهل منه الحديث النبوى؟
الجواب
يقول المفسرون: إن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينطق عن الهوى والغرض فى القرآن الذى يبلغه للناس، فهو وحى من الله تعالى، بمعنى أن النبى صلى الله عليه وسلم إذا قاله: قال الله كذا، فإن ذلك عن صدق، وأن الكلام هو كلام الله، وليس كلام محمد نسبه إلى ربه ليكسب قداسة، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يكتم شيئا مما أمر بتبليغه حتى لو كان على غير ما يحبه هو؟ ولذلك لما نزل قوله تعالى فى حقه {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى} بلغ ذلك ولم ينقص منه شيئا مع أنه ضد هواه وميله، لكن الحق لابد أن يتبع ويبلغ.
وهذا يلتقى مع قوله تعالى {تنزيل من رب العالمين. ولو نقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين.فما منكم من أحد عنه حاجزين} الحاقة: 43 -47، ومع قوله {قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم} يونس: 15.
فالقرآن هو الوحى الذى يبلغه الرسول دون تغيير أو تبديل، ودون تدخل هواه فيه، أما ما يحكم به بين الناس فهو نطقه هو وكلامه هو، إن كان حقا أيده الله فيه وسكت عنه، وإن كان غير ذلك أرشده، كما فى قوله تعالى {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} التوبة: 84 بعد أن صلى على قبر عبد الله بن أبى كبير المنافقين.
والحديث النبوى معناه من الله ولفظه من النبى صلى الله عليه وسلم فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، وإذا بلغه الرسول صحيحا فبها، وإلا صححه رب العزة، وإذا لم يكن معنى الحديث من الله بل كان اجتهادا، التزم فيه الرسول المصلحة العامة، وبخاصة فيما يمس الناس، ويظهر ذلك فى عرض مشروع الصلح فى غزوة الخندق على السعدين، وقالا: هل هو أمر من الله فنتبعه، أو شىء تحبه فنوافقك عليه، أو هو لمصلحتنا؟ فقال "بل لمصلحتكم " فلم يوافقوا عليه "انظر كتب السيرة"(8/220)
الكوثر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الكوثر نهر فى الجنة أعطاه الله للنبى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يقول الله سبحانه {إنا أعطيناك الكوثر} وللعلماء كلام كثير فى المراد بالكوثر، فقيل هو الخير الكثير، وقيل هو النبوة، وقيل غير ذلك، وأقوى ما فسر به ما جاء فى صحيح مسلم وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة قال "أتدرون ما الكوثر"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم،فقال "نهر وعدنيه ربى، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيُختلجُ العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتى، فيقول: ما تدرى ما أحدث بعدك "ومعنى يختلج ينزع ويبعد، وروى أحمد فى مسنده أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ فقال "نهر فى الجنة يسيل فى حوضه، لهو أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل " وجاء فى صحيح البخارى أنه "نهر فى الجنة يسيل فى حوضه، مجراه على الدر والياقوت " وفى سنن النسائى "ترابه المسك وحصاه اللؤلؤ والياقوت، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأبرد من الثلج ".
وحوض النبى صلى الله عليه وسلم أكبر الحياض وأكثرها واردة، ففى حديث الترمذى "إن لكل نبى حوضا، وإنهم يتباهون بأكثرهم واردة، وإنى أرجو أن أكون أكثرهم واردة" وجاء فى روايات البخارى ومسلم "أن حوض الرسول صلى الله عليه وسلم مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ أبدا" وفى رواية "حوضى مسيرة شهر وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الوَرِق " أى الفضة، وفى رواية لهما أيضا ما يفيد أن بعض من يردون الحوض من أمته يمنعون عنه ويذهب بهم إلى النار لأنهم ارتدوا على أدبارهم فلا يخلص منهم إلا مثل همل النعم، أى ضوالها. ومعناه الناجى قليل كقلة الضالة من الغنم بالنسبة إلى جملتها "الزرقانى على المواهب ج 5 ص 34، الترغيب ج 4 ص 144- 147 ".
تلك بعض الأحاديث التى فسرت الكوثر بأنه نهر فى الجنة بهذه الأوصاف الطيبة، وهو يصب فى حوض الرسول الذى يكون فى المحشر قبل دخول الجنة، وأن الذى سيشرب منه هم الثابتون على الإيمان والتقوى حتى الموت، وأن مقدار ما يشربه المؤمن من الحوض يقدر بدرجة حبه للنبى صلى الله عليه وسلم والحب له آثار فى السلوك على هدى الأسوة الحسنة(8/221)
تحريم ما أحل الله
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قال الله تعالى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك} ما هو الشىء الذى حرمه الرسول على نفسه، وكيف يخلف أمر الله فيحرم ما أحله الله له؟
الجواب
أصح ما ورد فى سبب نزول هذه الآية من أول سورة التحريم كما رواه مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلا عند بعض نسائه - زينب بنت جحش أو حفصة بنت عمر-وكان يمكث عندها طويلا، فدبت الغيرة فى قلب بعض زوجاته، وهن بشر، كن يتمنين أن يمكث عندهن كما يمكث هناك، لأن من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يطوف عليهن جميعا كل يوم، يسأل عنهن ويقضى حاجاتهن، ثم يبيت عند صاحبة النوبة، فقال بعض الزوجات: إذا وصل النبى إلينا نقول له: إن فى فمك رائحة كريهة وهو يكره الرائحة الكريهة فقلن له ذلك، وذكر أنه من الطعام الذى أكله، فقال "أكلت عسلا" فقلن: لعل نحله قد جنت العُزفُط، يعنى امتص زهر شجر العرفط وهو ذو رائحة كريهة.
ومن هنا حلف الرسول ألا يأكله مرة أخرى، وبالفعل عندما زار من عندها عسل رفض أن يأكل منه، وقد أطلع الله نبيه على ما فعلته أزواجه، - زوجاته - وبيَّن له المخرج من يمينه، وهو كفارة بعتق رقبة أو أطعام عشر مساكين أو كسوتهم على ما جاء في سورة المائدة.
وقد نزلت هذه الآية عتابا رقيقا من الله لنبيه فى أنه كان فى الذروة من حسن معاشرة أزواجه، لدرجة أنه امتنع عما أحله الله له لإدخال السرور على قلوبهن وبين له أن سمو الخلق لا يصل إلى الدرجة التي يتعب فيها نفسه ويحرمها من الحلال الطيب الذى يحبه، فالامتناع عن أكل شىء إرضاء لمن يحبه ليس تحريما شرعيا لشيء أحله الله وليس معصية، بل هو تصرف شخص فى معاملة أزواجه، كما امتنع عن أكل الثوم والبصل وهما مباحان، لأن وضعه من لقاء الملائكة وغيره ليس كوضع سائر الناس، وقد امتنع من قبله سيدنا يعقوب عن لحوم الإبل وألبانها لأمر يخصه، ولم يعاتبه الله على ذلك كما قال سبحانه {كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} آل عمران: 93.
والسبب المذكور لنزول الآية أصح من رواية الدارقطنى أنه امتنع عن مارية إرضاء لحفصة عندما اختلى بها فى بيتها "راجع تفسير القرطبى لهذه الآية"(8/222)
رؤية النبى بالنهار والليل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يرى فى الظلام كما يرى فى النور؟
الجواب
جاء فى المواهب اللدنية للقسطلانى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بالليل في الظلمة كما يرى فى النهار فى الضوء. رواه البخارى. وروى البيهقى عن عائشة رضى الله عنها قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى فى الظلماء كما يرى فى الضوء.
وقد علق الزرقانى فى شرحه على إسناد الحديث للبخارى فقال: لم أجده فيه، وإنما عزاه السيوطى وغيره للبيهقى فى الدلائل، وقال: إنه حسن. قال شارحه: ولعله -أى الحكم بالحسن - لاعتقاده، وإلا فقد قال السهيلى:
ليس بقوى، ونقل ابن دحية تضعيفه فى كتاب "الآيات البينات " عن ابن بشكوال، لأن فى سنده ضعفا فكيف يكون فى البخارى.
وحديث البيهقى رواه أيضا ابن عدى وبقى بن مخلد-كما فى الشفاء - وضعفه ابن الجوزى والذهبى. لكنه يعتضد بشواهده فهو حسن كما قال السيوطى.
فالخلاصة أن روية النبى صلى الله عليه وسلم فى الظلام كالنهار سندها ضعيف أو حسن وذكر الزرقانى أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة فوطئ على زينب بنت أم سلمة بقدمه وهى نائمة، فبكت، وقد يكون ذلك لبيان أن رويته فى الليل كالنهار ليست فى كل الأحوال، وأجاب عنه الزرقانى بجواب آخر من وجهة نظره "الزرقانى على المواهب ج 4 ص 83"(8/223)
حديث: شفاعة زائر القبر الشريف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال " من زار قبرى وجبت له شفاعتى " وهل تتحقق هذه الشفاعة إن كان الزائر من غير أهل التقوى والإيمان؟
الجواب
هذا الحديث رواه الدارقطنى وابن أبي الدنيا وغيرهما، ورواه عبد الحق فى أحكامه وسكت عنه، وسكوته دليل على قبوله.
قال الذهنى: طرقه كلها لينة، لكن يقوى بعضها ببعض، وهناك روايات أخرى بهذا المعنى.
يقول الزرقانى فى شرح المواهب "ج 8 ص 298": معنى "وجبت له شفاعتى" أخصه بشفاعة ليست لغيره تناسب عظيم عمله، إما بزيادة نعيم أو تخفيف هول ذلك اليوم عنه، أو دخول الجنة بلا حساب، أو رفع درجاته بها، أو بزيادة شهود الحق والنظر إليه، أو بغير ذلك، أو المراد البشرى بموته على الإسلام(8/224)
حديث: العلماء ورثة الأنبياء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هذا حديث صحيح " العلماء ويرثه الأنبياء"؟
الجواب
روى أبو داود والترمذى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحه وغيرهم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى ضمن حديث طويل "أن العلماء ورثه الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
هذا الحديث يبين فضل العلماء، توضيحا لقوله تعالى {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} المجادلة: 11، فهم الوارثون لما تركه الرسول، لأنه القائل "بلغوا عنى ولو آية" رواه البخارى والقائل فى طلاب العلم، "من سلك طريقا يبتغى فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجهة" كما رواه مسلم، والقائل "أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع " كما رواه أحمد وابن حبان والحاكم، والقائل "يا أبا ذر لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلى مائة ركعة ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم، عمل به أو لم بعمل خير لك من أن تصلى ألف ركعة" كما رواه ابن ماجه بإسناد حسن.
وأشرف العلم ما كان متصلا بالقرآن ففى حديث البخارى ومسلم "خيركم من تعلم القرآن وعلمه " لأنه يرشد إلى كل العلوم النافعة فى الدين والدنيا، ففى آياته قوله تعالى {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماءُ} فاطر: 27، فالذين يخشون الله هم علماء الفلك والطبيعة الكيمياء والنبات وطبقات الأرض، وعلماء الإنسان تاريخا ونفسا وطبا وكل ما يتصل به، وعلماء الحيوان كذلك بكل ما يتصل به، وذلك إذا درسوا بتعمق، وإنصاف وقصد حسن، إنهم بوصولهم إلى سر الخلق سيؤمنون أو يزادون إيمانا، وسيفيدون أنفسهم والناس جميعا بجهودهم.
ومن أراد أن ينشرح صدره بمعرفة موقف الإسلام من العلم بفروعه المختلفة فليرجع إلى "إحياء علوم الدين " للأمام الغزالى، وسيهتف من أعماق قلبه أن هذا الدين هو دين الحضارة الصحيحة، الصالح لكل زمان ومكان، وذلك بالفهم الواعى والتطبيق الصحيح(8/225)
حديث: الجار السابع
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم أوصى على سابع جاركما يقول بعض الناس؟
الجواب
معلوم أن الإسلام أوصى على رعاية حق الجوار، والنصوص فى ذلك كثيرة يكفى منها قوله " تعالى {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار فى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} النساء: 36، والجار ذو القربى من له صلة قرابة، والجنب من لا يربطه به قرابة، والصاحب بالجنب قيل هو الزوجة، وقوله صلى الله عليه وسلم "ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " رواه البخارى ومسلم، وقوله:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره " رواه البخارى ومسلم وقوله: "والذى نفسى بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره " أو قال لأخيه -ما يحبط لنفسه " رواه مسلم.
والجار هو من جاور فى المسكن أو المتجر أو المصنع أو الحقل أو حلقة الدرس أو الفصل، وفى أى مكان يطول به زمن الجوار، لكن هل الوصية بالإحسان إلى الجار خاصة بمن يجاور مباشرة لا يتعداه إلى البعيد؟ إن الناظر إلى روح الإسلام يرى أن الأخوة يمتد ظلها حتى يشمل أكثر من شخص، وإن كان هناك تفاوت فى الأولوية بحسب القرب والبعد، ويشهد لهذا الامتداد حديث روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أن رجلا جاء يشكو إليه جاره فأمره أن ينادى على باب المسجد "ألا إن أربعين دارا جار" يقول الزهرى راوى هذا الحديث مفسرا له: أربعون هكذا، وأومأ إلى أربع جهات.
هذا هو الحديث الذى روى فى اتساع مجال الجوار وإن كان فى سنده مقال، لكن روح الشريعة لا تعارضه. أما قول بعض الناس: إن النبى صلى الله عليه وسلم أوصى على سابع جار فلم أره حديثا منسوبا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وهو من مبالغة الناس واستعمالهم عدد السبع وعدد السبعين كثيرا فى المبالغة، ولا ننسى فى هذا المقام قول النبى صلى الله عليه وسلم فى الأخوة الجامعة كما رواه البخارى ومسلم " مثل المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تدامى له سائر الجسد بالسهر والحمى "(8/226)
حديث: الهرة بارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هذا من الحديث الشريف "اتقوا الهرة فإنها من المارة"؟
الجواب
لم أعثر على حديث بهذا اللفظ، والذى رواه أصحاب السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عن الهرة فى طهارتها وعدم نجاستها "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات " يقول الدميرى فى كتابه "حياة الحيوان الكبرى" والطوافون الخدم، والطوافات الخادمات، جعلها بمنزلة المماليك فى قوله تعالى {يطوف عليهم ولدان مخلدون} الواقعة: 17، قد يستدل على ذلك بقوله تعالى فى آية الاستئذان {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض} النور: 58.
وفى سنن ابن ماجه "الهرة لا تقطع الصلاة، إنما هى من متاع البيت " ولعل كلمة "الطوافين " يقصد بها ما جاء فى السؤال "المارة" أى التى تمر أمام الناس.
هناك مثل يقول: فلان أبَر من هرة. أرادوا بذلك أنها تأكل أولادها من شدة الحب لهم، فهى بهذا بارة وليست مارة(8/227)
حديث: القابض على دينه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "سيأتى زمن على أمتى القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر " وهل ينطبق هذا الحديث على الزمن الذى نعيشه الآن؟
الجواب
روى ابن ماجه والترمذى حديثا قالا عنه: حسن غريب، أى رواه راو واحد فقط، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى ضمن حديث "فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ".
وجاء فى الجامع الكبير للسيوطى حديث "يأتى على الناس زمان التمسك فيه بسنتى عند اختلاف أمتى كالقابض على الجمر" رواه الترمذى الحكيم عن ابن مسعود فى كتابه "نوادر الأصول " وهو ضعيف ".
ومعلوم أنه لا يمر زمان إلا والذى بعده شر منه، وقد كثرت فى أيامنا الفتن المغريات والانحرافات، لكن لم تصل إلى الذروة، وما يخبئه المستقبل لا علم لنا به، ونرجو أن يقينا الله شر الفتن(8/228)
حديث: ليس الإيمان بالتمنى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيح معنى القول المأثور، ليس الإيمان بالتمنى، وهل هو حديث صحيح؟
الجواب
أثر عن الحسن البصرى أنه قال: ليس الإيمان بالتمنى ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل، وإن قوما خرجوا من الدنيا ولا عمل لهم وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
إن هذا الأثر ليس حديثا مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم كما قال المحققون، وإنما هو من كلام الحسن البصرى، ومعناه صحيح، وهو أن الإيمان الذى يكرم الله به المؤمن وينجيه من النار ليس مجرد كلمة يقولها بلسانه دون عمل، وليس أمنية يتمناها ترفع بها درجته عند ربه، فما أهون الكلام المجرد عن عمل يصدقه، وما أكثر الأمانى عند المفلسين من كنز العمل الصالح وهذا يلتقى مع الحديث "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى" رواه الطبرانى وأحمد والترمذى وقال: حسن "الجامع الصغير للسيوطى".
لو أحسن هؤلاء الظن بالله لاستعدوا للقائه بالعمل الصالح الذى أمرهم به، فهو القائل {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} التوبة:105، وقد حدث أن بعض أهل الكتاب تناقشوا مع بعض المؤمنين،كل يدعى أن الفضل له دون الأخر، فنزل قوله تعالى {ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} النساء: 123،124.
فالمدار كله على العمل المبنى على الإيمان وحسن الظن بالله، ولا يغتر أحد بما يقول بعض الشعراء:
لخدمت على الكريم بنير زاد * سوى الإخلاص والقلب السليم فحمل الزاد أقبح ما يكون * إذا كان القدوم على كريم فالإفراط فى الرجاء الذى ينفى الخوف يسلم إلى الكسل ويهود الحيلة، وعلماء التوحيد يقولون:
وغلب الخوف على الرجاء * وسر لمولاك بلا تناء "انظر: فيض القدير على الجامع الصغير للمناوى رقم 7570 وتفسير القرطبى ج 10 ص 600"(8/229)
حديث: الجنة تحت أقدام الأمهات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى الحديث أن الجنة تحت أقدام الأمهات، فكيف يكون ذلك وفيهن كافرات وعاصيات؟
الجواب
روى ابن ماجه والنسائى والحاكم وصححه أن رجلا قال:
يا رسول الله أردت أن أغزو، فقال له "هل لك من أم "؟ قال نعم: قال "فالزمها فإن الجنة تحت رجلها" وعبر فى بعض الروايات عن هذا بقوله "الجنة تحت أقدام الأمهات ".
وردت النصوص فى القرآن والسنة بالأمر ببر الوالدين، وتخصيص الأم، بزيادة فى ذلك، فإن برهما من أسباب دخول الجنة، والمراد بعبارة "الجنة تحت أقدام الأمهات " أن خدمة الأم خدمة خالصة، وعدم الأنفة أو التكبر عن أساء هذه الخدمة-حتى لو كانت الأم كافرة على ما جاء فى قوله تعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا} لقمان: 15.
من أقوى الأسباب فى دخول الجنة وبالأولى لو كانت الأم المؤمنة عاصية لربها بمثل التقصير فى الصلاة.
وليس المراد أن كل الأمهات يدخلن الجنة حتما، ويكن متمكنات منها كما يتمكن الإنسان من الشىء الذى تحت قدمه، فإن شرط دخول الجنة الإيمان، فلا تدخلها الكافرة، كما قال تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48، والمؤمنة وإن عصت ربها فقد يغفر الله لها ولا تعذب، وقد تعذب ولكن مصيرها الجنة ما دام فى قلبها ذرة من إيمان تمنع الخلود فى النار.
وهنا يكون المطلوب أمرين: الأول أن تجتهد الأم لتدخل الجنة، وذلك بالإيمان والعمل الصالح، والثانى أن يجتهد الولد المؤمن ليدخل الجنة بالعمل الصالح، ومنه بر الوالدين وبخاصة الأم، وليجتمع شمل الأسرة فى الجنة كما كان فى الدنيا، قال تعالى {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} الرعد: 23،240، وقال {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شىء} الطور: 21(8/230)
فى التأنى السلامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا حديثا يقول "فى التأنى السلامة" وسمعنا حديثا آخر يقول "أفضل الصلاة فى أول وقتها فكيف نوفق بين التأنى والمبادرة؟
الجواب
"فى التأنى السلامة" ليس حديثا مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول جار على الألسنة، قد قصد به إتقان العمل وأداؤه على الوجه الأكمل، كما قد يقصد به عدم المبادرة بالتنفيذ، وإعطاء مهلة لأدائه.
ولا شك أن إتقان العمل مطلوب كما فى الحديث "إن الله يحب إذا عمل العبد عملا أن يحكمه " رواه ابن أبى داود فى المصاحف، وابن النجار عن عائشة، وفيه مصعب بن ثابت ضيف "الجامع الصغير للسيوطى".
والتأخير قد يكون مستحبا إذا لم يدرس المشروع دراسة كافية، فمن الخير أن يؤجل حتى تستكمل دراسته فإن كملت الدراسة كانت المبادرة بالتنفيذ أفضل، فظروف المستقبل غيب ربما لا يساعد على التنفيذ، وجاء فى ذلك حديث مرسل، "إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته، فإن كان خيرا فأمضه، وإن كان شرا فانته " رواه ابن المبارك فى الزهد عن أبى جعفر عبد الله بن مسعود الهاشمى مرسلا "الجامع الصغير للسيوطى".
وهذا كله فى أمور الدنيا التى تحتاج إلى دراسة كاملة، أما أمور الآخرة التى وضح الصواب فيها فمن الخير المبادرة بأدائها كالصلاة إذا حضر وقتها، والحج إذا توفرت أسبابه، وجاء فى ذلك حديث "التؤدة فى كل شىء خير إلا فى عمل الآخرة" رواه أبو داود والحاكم فى المستدرك والبيهقى فى الشعب وحديث "اغتنم خمسا قبل خمس:
شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " رواه ابن أبى الدنيا بإسناد حسن.
وبهذا يظهر عدم التعارض بين القول المأثور "فى التأنى السلامة" وحديث الترغيب فى أداء الصلاة فى أول وقتها(8/231)
حديث: فى علامات الموت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: ارقبوا الميت عند موته ثلاثا، إن رشح جبينه وذرفت عيناه وانتشر منخراه فهى رحمة من الله قد نزلت به، وإن غط غطيط البكر المختنق واحمر لونه وأزبد شدقاه فهو عذاب من الله قد حل به؟
الجواب
هذا الحديث ذكره الترمذى الحكيم فى كتابه "نوادر الأصول " عن سلمان الفارسى، وقد نقله السيوطى فى كتابه "شفاء الصدور".
وأخرج البيهقى فى الشعب عن ابن مسعود رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم "المؤمن يموت برشح الجبين" ولم أعثر على حكم عليه.
انظر " مشارق الأنوار " للعدوى ص 20 وقد علق العراقى عليه بقوله:
ولا يصح " الإحياء ج 4 ص 395"(8/232)
حديث: فى القيامة الخاصة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم أن من مات فقد قامت قيامته؟
الجواب
هذا حديث ضعيف كما ذكره العراقى فى تخريجه لأحاديث "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالى "ج 4 ص 421" والمعنى أن من مات فقد انتهت حياته الشخصية، كما ستنتهى الحياة العامة للمخلوقات جميعا يوم ينفخ فى الصور، وانتهى التكليف وبدأ الحساب(8/233)
سبب وفاة النبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم مات متأثرا بالسم وكيف يحدث ذلك له؟
الجواب
ثبت فى الصحيحين أن يهودية سمَّت النبى صلى الله عليه وسلم فى شاة، فأكل منها لقمة ثم لفظها وأكل معه ثلاثة منهم بشر بن البراء، والتى قامت بذلك زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم، وقد احتجم على كاهله، وأمر من أكل منها فاحتجم فمات بعضهم.
وهناك خلاف فى الاقتصاص منها، كما أن هناك خلافا فى كيفية أكل النبى منها، هل مضغها ثم لفظها، أو ابتلعها، وبقى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه الحادثة ثلاث سنوات حتى قال فى وجعه الذى مات فيه "ما زلت أجد من الأكلة التى أكلت من الشاة يوم خيبر، فهذا أوان انقطاع الأبهر منى".
قال الزهرى: فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا (زاد المعاد - خيبر) والأبهر عرق مستبطن بالصلب متصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه فكان ابن مسعود وغيره يرون أنه صلى الله عليه وسلم مات شهيدا من السم الذى تناوله فى خيبر.
يقول الزرقانى فى شرج المواهب اللدنية "ج 8 ص 260": ومن المعجزة أنه لم يؤثر فيه فى وقته، لأنهم قالوا: إن كان نبيا لم يضره، وإن كان ملكا استرحنا منه فلما لم يؤثر فيه تيقنوا نبوته حتى قيل: إن اليهودية أسلمت، ثم نقض عليه بعد ثلاث سنوات لإكرامه بالشهادة.
وحادث السم رواه البخارى بطوله فى الجزية فى باب "إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم " وذكره فى الطب بطوله أيضا فى باب "ما يذكر فى سم النبى صلى الله عليه وسلم " واختصره فى غزوة خيبر فى باب "الشاة التى سُمَّت للنبى" وقيل إنها أخبرته بأنها مسمومة، فقال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، وكان الذي حجمه هو أبو هند أو أبو طيبة.
هذا مجمل ما جاء فى هذه الحادثة من الروايات عن وضع السم للرسول، وأنه مات متأثرا به فمات شهيدا أو غير شهيد فمقام النبوة لا يعدله مقام، ويكفى أن الله نجاه من السم القاتل لساعته، فكان معجزة تصدق رسالته، والموت مكتوب عليه كما هو مكتوب على غيره {إنك ميت وإنهم ميتون} الزمر: 30(8/234)
حديث: فراسة المؤمن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث "اتقوا فراسة المؤمن"؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى "ج 10 ص 42" روى أبو عيسى الترمذى عن أبى سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ {إن فى ذلك لآيات للمتوسمين} الحجر:75 قال: هذا حديث غريب. وروى الترمذى الحكيم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لله عز وجل عبادا يعرفون الناس بالتوسم " وزعمت الصوفية أنها كرامة، وقيل: بل هى استدلال بالعلامات، ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر، ومنه قول ابن عباس: ما سألنى أحد عن شىء إلا عرفت: أفقيه هو أو غير فقيه.
وروى عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أن أنس بن مالك رضى الله عنه دخل عليه وكان قد مر بالسوق فنظر إلى امرأة فلما نظر إليه قال عثمان: يدخل أحدكم علىَّ وفى عينيه أثر الزنى؟ فقال له أنس: أوحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ولكن برهان وفراسة، وصدق، ومثله كثير عن الصحابة والتابعين.
يقول ابن الأثير فى النهاية "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" يقال بمعنيين أحدهما ما دل ظاهر هذا الحديث عليه، وهو ما يوقعه الله تعالى فى قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس، والثانى نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق، فتعرف به أحوال الناس، ومنه حديث أفرس الناس ثلاثة، أى أصدقهم فراسة، وأنا أفرس بالرجال منك أى أبصر وأعرف.
إن الوصول إلى الحكم على الشىء بعد النظر أو السماع قد يكون لذكاء حاد يسرع به الربط بين المقدمة والنتيجة أو بين السبب والمسبب، غير أن هذا الذكاء لا يصدق أحيانا، ولا يقلل من شأنه أن يخطئ قليلا، فالإنسان بشر، ولكن قد يؤيد هذا الذكاء إلهام من الله للصالحين من عباده فيوفقون فى الحكم والاستنتاج، وهذا ما يفيده تعبير "فإنه ينظر بنور الله " وبالطبع لا يكون هذا الصدق فى الفراسة إلا للمؤمن.
ومن غير المؤمنين من تكون عندهم الفراسة وتصدق إلى حد كبير، كأولاد نزار الذين عرفوا أوصاف بعير من رؤيتهم له يرعى جانبا ويترك جانبا وأثر قدميه مختلف وروثه غير مفرق فقالوا: إنه أعور وأزور وأبتر وشرود "الوسيط فى الأدب العربى ص 40 ".
وفى كتاب "مفتاح دار السعادة لابن القيم ج 2 ص 234 " أمثلة كثيرة من فراسة الإمام الشافعى، وفى إحياء علوم الدين للإمام الغزالى "ج 2 ص 59" حديث عنها، وذكر قول النبى صلى الله عليه وسلم "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بنى آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات " رواه أحمد وذكر السيوطى فى كتابه "تاريخ الخلفاء ص 56" قول ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين استخلف عمر، وصاحبة موسى حين قالت: يا أبت استأجره، والعزيز حين تفرس فى يوسف فقال لامرأته، أكرمى مثواه.
وذكر ابن القيم فى زاد المعاد "التسمية" قول سيدنا عمر لمن سأله عن اسمه واسم أبيه وداره فقال: جمرة بن شهاب، والمنزل حرة النار فى مسكن ذات لظى، قال له: اذهب فقد احترق بيتك، وذكر فى كتاب الروح الفرق بين الفراسة والظن، والموضوع طويل يرجع إليه فى هذه المظان وفى تذكرة داود، وتفسير القرطبى لسورة الحجر، ومجلة الضياء التى تصدر فى دبى عدد ذى الحجة 1403 هـ وغيرها.
والمهم أن حديث الفراسة مقبول، والوقائع المذكورة تؤيده(8/235)
حديث: السؤال بالجاه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "اسألوا الله بجاهى، فإن جاهى عند الله عظيم "؟
الجواب
حديث "اسألوا الله بجاهى فإن جاهي عند الله عظيم " قال عنه ابن تيمية فى كتابه الوسيلة "ص 129 " إنه كذب.
ومن يدعو ويقول: اللهم إنى أسألك بجاه نبيك أو بجاه أحد من الصالحين قال العلماء: إن عبارته تحتمل القسم، أى الحلف بجاه النبى، والقسم بغير الله ممنوع، وتحتمل أن تكون الباء للسببية، أى بسبب نبيك، فإن كان المراد بسبب حبى لنبيك والإيمان به فلا غبار عليه، لأن حب النبى والإيمان به عمل صالح تقرب به الداعى إلى الله، فهو وسيلة لثوابه ورضاه، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} المائدة:35 كما دعا المحبوسون فى الغار ربهم بصالح أعمالهم فاستجاب دعاءهم ونجاهم، وإن كان المراد بسبب ذاته أو منزلته من الله ووجاهته عنده فقد احتدم الخلاف بين العلماء فى جوازه ومنعه.
ففريق ينكره لأن مجرد الجاه لا يعطى الشفاعة، وعلى رأس هؤلاء ابن تيمية، وفريق يجيزه بالنسبة للنبى دون غيره، ومنهم العز بن عبد السلام، واستدلوا بحديث الأعمى الضرير الذى أمره النبى صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بقوله "اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة" فرد الله عليه بصره، رواه الترمذى والنسائى والبيهقى والطبرانى بأسانيد صحيحة.
ومناقشة الأدلة تطول،. ويمكن الرجوع إليها فى الجزء الثانى من كتاب "بيان من الأزهر الشريف "(8/236)
والدا الرسول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال إن النبى صلى الله عليه وسلم استأذن ربه فى أن يستغفر لأمه فلم يأذن له؟
الجواب
مع التنبيه على أن مثل هذا السؤال ليست به فائدة عملية، لكن كثرة الإلحاح تحتم علىَّ أن أجيب ولو باختصار.
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "استأذنت ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى، واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لى" وقد تحدث العلماء عن والدى النبى صلى الله عليه وسلم وقد ماتا قبل بعثته، فقال جماعة: هما ناجيان كأهل الفترة، لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} الإسراء:15 وقال آخرون إنهما ليسا مؤمنين، واستدلوا بأدلة منها الحديث المذكور الذى يعززه قول الله تعالى {ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} التوبة: 113.
ورد عليهم الأولون بأن عدم الإذن فى الاستغفار لا يدل على الكفر، كما لم يصلِّ النبى صلى الله عليه وسلم على الميت الذى عليه دَيْن مع أنه غير كافر، وعدم الاستغفار للمشركين مبنى على تبين أنهم من أصحاب الجحيم، وذلك بعد تبليغ الدعوة والكفر بها، ووالدا الرسول صلى الله عليه وسلم لم تبلغهما الدعوة الإسلامية لأنهما ماتا قبل البعثة.
والموضوع مبسوط فى الكتب وقد لخصته فى الجزء الخامس من موسوعة "الأسرة تحت رعاية الإسلام " ولا داعى للإفاضة فيه فقد ذهبا إلى ربهما وهو أعلم بحالهما ولا ينبغي أن يحملنا حسن الظن وحبنا للرسول على إيراد أخبار ينقصها الدليل القوى كإحيائهما بعد الموت للإيمان بالرسول.
والزرقانى حذَّر من ذكرهما بما فيه نقصر، لأن ذكر الأموات بما فيه نقص يؤذى الأحياء، وفى الحديث "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات " كما رواه الطبرانى، ولا ريب أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام كفر يُقتل فاعله إن لم يتب "ج 1 ص 185 " وهو رأى طيب(8/237)
كحل العيون
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الكحل فى العين جائز للرجال؟
الجواب
جاء فى الطب النبوى لابن القيم أن النبى صلى الله عليه وسلم "كانت له مكحلة يكتحل منها ثلاثا فى كل عين، وفى الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اكتحل يجعل فى اليمنى ثلاثا يبتدئ بها ويختم بها، وفى اليسرى ثنتين، وروى أبو عاود عنه صلى الله عليه وسلم "من اكتحل فليوتر" ثم قال ابن القيم: وفى الكحل حفظ لصحة العين وتقوية للنور الباصر وجلاء لها، وتلطيف للمادة الرديئة واستخراج لها، مع الزينة فى بعض أنواعه، وله عند النوم مزيد فضل لاشتمالها على الكحل وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها، وخدمة الطبيعة لها، وللإثمد من ذلك خاصية، وفى سنن ابن ماجه مرفوعا "عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر".
فالكحل كان من مادة مفيدة وهو دواء وعلاج ومن هنا كان اكتحال الرجال به ولم يكن أصلا للجمال، فذلك أليق بالنساء(8/238)
حديث: إياكم وسجع الكهان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هذا من الحديث "إياكم وسجع الكهان"؟
الجواب
ورد النهى عن السجع فى الدعاء، وحمل عليه بعض العلماء قوله تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} الأعراف:55 يقول الإمام الغزالى فى الإحياء "ج 1 ص 275" قيل: معناه التكلف للأسجاع، وقد قال صلى الله عليه وسلم "إياكم والسجع فى الدعاء، حسب أحدكم أن يقول: اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ".
يقول العراقى عن هذا الحديث: إنه غريب بهذا السياق. وللبخارى عن ابن عباس: وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإنى عهدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعلون ذلك. يقول الغزالى: واعلم أن المراد بالسجع هو المتكلف من الكلام، فإن ذلك لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففى الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات متوازنة، لكنها غير متكلفة، كقوله: "أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود والركع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، وإنك تفعل ما تريد" رواه الترمذى وقال: حديث غريب، وهو ضمن دعاء سمعه ابن عباس من النبى صلى الله عليه وسلم ليلة، حين فرغ من صلاته(8/239)
حديث: بين الأولين والآخرين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: "إنكم فى زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتى زمان من عمل منهم بعشر ما أمرتم به نجا"؟
الجواب
روى الترمذى عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إنكم فى زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتى زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا" قال: هذا حديث غريب، والحديث الغريب فى اصطلاح رجال الحديث هو الذى رواه راو واحد فقط، ولكن لم يحكم عليه بصحة أو حسن "تفسير القرطبى ج 6 ص 343".
وقريب من هذا الحديث موجود فى مسند أحمد "إنكم فى زمان علماؤه كثيرون وخطباؤه قليلون، من ترك فيه عشير ما تعلم هلك، وسيأتى زمان علماؤه قليلون وخطباؤه كثيرون، من أخذ فيه عشير ما تعلم نجا".
وهذا يدل على سهولة التمسك بالدين فى الزمن الأول، وصعوبته فى الزمن الآخر، تبعا لتغير الظروف، ولذلك جاء فى الحديث أن العمل فى الزمن الأخير له ثواب فوق ثواب العمل فى الزمن الأول، فقد روى أبو داود والترمذى وغيرهما أن أبا ثعلبة الخشنى سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} المائدة: 105 فقال "ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك نفسك ودع عنك العامة، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم "وفى رواية قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال "بل خمسين منكم " قال أبو عيسى الترمذى: هذا حديث حسن غريب قال ابن عبد البر: قوله "بل منكم" هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها "المرجع السابق "(8/240)
غسل النبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أين غُسِّل جسد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الذى قام بغسله وأين ذهب ماء الغسل؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم غسل فى المكان الذى توفى فيه، وهو حجرة السيدة عائشة رضى الله عنها، والذى غسله على والعباس والفضل بن العباس، وقُثَم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشُقران مولاه صلى الله عليه وسلم يصبون الماء وأعينهم معصوبة من وراء الستر، وعلىّ فقط هو الذى لم يعصب عينيه. لحديث رواه البزار والبيهقى عن على رضى الله عنه: أوصانى النبى صلى الله عليه وسلم ألا يغسلنى إلا أنت، فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه يقول الزرقانى: هو تعليل لمقدر هو: فإنى أخشى على غيرك أن تحين منه لفتة فتطمس عينه. وأما أنت يا على فأعرف تحرزك من ذلك فلا أخشى عليك.
وروى ابن ماجه بسند جيد عن على يرفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم "إذا أنا مت فاغسلونى بسبع قرب من بئرى "بئر غرس بقباء" وغسل ثلاث غسلات الأولى بالماء القراح والثانية بالماء والسدر والثالثة بالماء والكافور. وذكر ابن الجوزى أنه روى عن جعفر الصادق أن الماء كان يجتمع فى جفون النبى صلى الله عليه وسلم فكان على يشربه بفمه، وأما ما روى أن عليًّا لما غسله امتص ماء من محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والأخرين فقال النووي: ليس بصحيح وأقره البخارى وغيره.
هذا ما جاء فى المواهب اللدنية وشرحها للزرقانى"ج 8 ص 289" ولم أر غيره(8/241)
من آداب الدعوة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما مدى صحة هذا القول: عن أبى مسعود رضى الله عنه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة فى الأيام كراهة السآمة علينا؟
الجواب
هذا حديث رواه البخاري ومسلم، فعبد الله بن مسعود رضى الله عنه كان يذكر الناس فى كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال: أما إنه يمنعنى من ذلك أنى أكره أن أملَّكم، وإنى أتخولكم بالموعظة. كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا(8/242)
صلاة النبى فى طريق الإسراء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقال إن النبى صلى الله عليه وسلم نزل أرضا وصلى بها ليلة الإسراء قبل أن يصل إلى المسجد الأقصى، فما هذه الصلاة، مع أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء بعد العروج إلى السماء؟
الجواب
من الآيات التى رآها النبى صلى الله عليه وسلم فى ليلة الإسراء ما رواه البزار والطبرانى والبيهقى وصححه فى كتابه "دلائل النبوة" من حديث شداد ابن أوس أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أسرى به مرَّ بأرض ذات نخل، فأمره جبريل أن ينزل من فوق البراق ليصلى، فصلى ثم أخبره أن المكان الذى صلى فيه هو يثرب أو طيبة، وإليها المهاجر، ثم أمره أن يصلى عندما مر بمدين عند شجرة موسى، وهى التى استظل بها بعد أن سقى الغنم للمرأتين قبل أن يلتقى بأبيهما-كما قال بعض الشراح -ولما مر الركب بطور سيناء أمره أن يصلى أيضا، وذلك حيث كلم الله موسى، وعند المرور ببيت لحم صلى أيضا، وذلك حيث ولد عيسى ابن مريم.
هذا هو ما ورد بطريق صحيح كما ذكره البيهقى، ولم أر حديثا صحيحا عن صلاته فى غير هذه الأماكن. وما رآه الرسول بهذه المناسبة بعضه ورد بطريق صحيح وبعضه الآخر بطريق غير صحيح، من ذلك ما رواه الطبرانى والبزار والبيهقى وابن جرير وأبو يعلى أن النبى صلى الله عليه وسلم أتى على واد فوجد فيه ريحا طيبة باردة كريح المسك، وسمع صوتا وأخبره جبريل بأنه صوت الجنة تبشر أهلها، ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنة، فأخبره جبريل بأنه صوت النار، ولكن لم يحكم على هذه الرواية بالصحة أو الحسن أو الضعف. ومهما يكن من شىء فإن ذلك إذا كان ممكنا عقلا فإننا لا نكلف بالإيمان به، حيث لم يرد نص صريح قاطع يثبته، ورحلة الإسراء فى حد ذاتها رحلة غريبة، ولها فضلها وشرفها، وليست فى حاجة إلى إضافة شىء يزيدها شرفا بعد ما ورد من آثار صحيحة وأكرر التنبيه على عدم نسبة شىء إلى النبى صلى الله عليه وسلم هو منه برىء فقد قال "من كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخارى ومسلم. أما الصلاة التى صلاها فقد تكون ركعتين، لأن الصلاة كانت قبل الإسراء ركعتين أول النهار وركعتين آخره، وقد تكون تطوعا لله وقد مر ذلك عند صلاة النبى صلى الله عليه وسلم بالأنبياء فى المسجد الأقصى، فليراجع "المجلد الأول ص 425 "(8/243)
حديث: تغيير منار الأرض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا حديثا يقول لعن الله من غيَّر منار الأرض، فهل هذا صحيح وما معناه؟
الجواب
روى مسلم وأحمد والنسائى عن على رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من غيَّر منار الأرض" وفى رواية "من سرق منار الأرض " وفى رواية "من غير تخوم الأرض " وفى رواية "ينتقص منار الأرض ".
منار الأرض هو العلامة التى تهدى الناس حتى لا يضلوا، والتخوم هى الحدود، والتعدى على الحدود حرام. قيل: ذلك خاص بحدود الحرم، وقيل: عام فى كل الحدود للتعدى على أراضى الغير.
والمحدث هو من أحدث أمرا منكرا والنهى هو عن الدفاع عنه أو إيوائه أو منع المظلوم أن يقتص منه(8/244)
حديث: التمارض عن العمل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى العامل الذى يتكاسل فى أداء واجبه، ويحصل على إجازات مرضية ليس فى حاجة إليها، وذلك فى مقابل مبلغ من المال؟
الجواب
العمل فى مقابل أجر يجب أن يؤدى على الوجه المطلوب، وإلا كان الأجر من غير مقابل له، فيكون حراما، والله يحب إذا عمل الإنسان عملا أن يتقنه كما روى فى الحديث، والتحايل على الحصول على إجازة بادعاء المرض حرام فى حد ذاته لأنه كذب، وإذا كان هذا التحايل بمساعده إنسان آخر فى مقابل مال أو خدمة مع علمه بأنه غير مريض كان هذا العمل رشوة قد توصل بها الشخص إلى غير ما يستحقه، وأذكِّر هؤلاء جميعا بقول الله تعالى {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} الكهف: 30 وقوله {ولكلٍّ درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} الأحقاف: 19 وقوله {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة: 2 وقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى ومسلم "والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقى الله تعالى يحمله يوم القيامة" وما قاله فى الرشوة وكل الأطراف المتعلقة بها.
فهل بعد كلام الله ورسوله ما يحفز هممنا إلى النشاط والإخلاص فى العمل؟ أحب أن أذكِّر كل العاملين بسلوك الشعوب الناهضة التى لا تدين بالإسلام فى حرصها على العمل ونفورها من الكسل والإجازات(8/245)
دعاء الناس للرسول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى قوله تعالى {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} ؟
الجواب
هذه الآية رقمها 63 من سورة النور، وهى تدل على إكرام الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم الذى من مظاهره أنه خاطب جميع الأنبياء فى القرآن بأسمائهم، فقال {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} الأعراف: 19 {يا نوح اهبط بسلام منا وبركات} هود: 48 {يا إبراهيم أعرض عن هذا} هود: 76 {وما تلك بيمينك يا موسى} طه: 17 {يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض} ص: 26 {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} مريم: 70 {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} مريم: 17 {يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلىَّ} آل عمران: 55 ولم يخاطبه صلى الله عليه وسلم إلا بمثل {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك} المائدة: 67 {يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا} الأحزاب:45.
{يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلا} المزمل: 1، 2 {يا أيها المدثِّر. قم فأنذر} المدثر: 1، 2 وأما ذكره بلا نداء فقد يكون باسمه صلى الله عليه وسلم {محمد رسول الله} الفتح: 29، {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} الأحزاب: 40.
ومن أجل هذا حرم الله على الأمة نداءه باسمه مجردا عن صيغة التكريم فقال {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} أى لا تجعلوا نداءكم له وتسميتكم إياه كما يكون لبعضكم مع بعض، ولكن قولوا: يا رسول الله أو يا نبى الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت لحرمة ذلك بقوله تعالى {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} الحجرات: 2 وهذا أدب معه حال حياته وبعد وفاته.
وهذا الأدب ينبغى التزامه، فهو صلى الله عليه وسلم ليس أقل ممن يحترمون بكثرة الألقاب والأوصاف التى يعلم الله ما هو الباعث عليها(8/246)
إسراء الرسول ليلا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا أسرى الله برسوله ليلا وليس نهارا؟
الجواب
أجاب القسطلانى فى المواهب اللدنية مع شرح الزرقانى "ج 6 ص 8" عن هذا السؤال بقوله: إنما جعل الإسراء ليلا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة، لأنه تعالى اتخذه عليه السلام حبيبا وخليلا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة بالحبيب متحققة بالليل.
وقال ابن المنير: لعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالا من النهار، فما وقع منه لا يطلع عليه غالبا، فكان من الغيب، فإذا أخبر الرسول عما وقع له ليلا صدَّقه المؤمنون فزادوا إيمانا، ولعله لو عرج به نهارا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب.
وهناك حكمة على طريق أهل الإشارات، وهم المحققون من الصوفية، أن الله تعالى لمَّا مَحَا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة انكسر الليل فجبر بأن أسرى فيه محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: افتخر النهار على الليل بالشمس فقيل له: لا تفتخر فإن كانت شمس الدنيا تشرق فيك. فسيعرج شمس الوجود فى الليل إلى السماء.
هذا بعض ما قيل: ولكلٍّ ذوقه وإحساسه(8/247)
حكمة وفاة أبناء الرسول قبله
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك حكمة فى أن الله سبحانه كتب على أبناء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الوفاة فى حياته؟
الجواب
يقال إن إبراهيم عليه السلام رزقه الله بعد سِنِّ الشيخوخة بولدين، هما إسماعيل وإسحاق، وجعل النبوة فى أبناء إسحاق، الذى أنجب يعقوب وجعل من ذريته أنبياء بنى إسرائيل، وكانت النبوة موضع الرجاء فى توارث الأبناء لها، ومن ذلك قول الله تعالى {وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس عُلِّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء إن هذا لهو الفضل المبين} النمل:
16 وقوله عن زكريا الذى أعطاه الله يحيى بعد أن بلغ من الكبر عتيا {فهب لى من لدنك وليا. يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا} مريم:
5، 6 فبشره الله {بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} آل عمران: 39 وشاء الله ألا ينجب يحيى، وكان عيسى عليه السلام آخر الأنبياء من ولد إسحاق، وكانت ولادته خارقة للعادة حيث لم يكن له أب، وقد رفعه الله إليه ولم يتزوج ولم ينجب، وكان هذا التدبير من الله سبحانه تمهيدًا لولادة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وبعثه الله للعرب استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام حين أسكن إسماعيل وأمه مكة وعمرت بالعرب وبعث فيهم إسماعيل ولم يبعث فيهم أحدا من ولده حتى كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمَين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} البقرة: 127 -129.
فبرفع سيدنا عيسى انتهت النبوة من فرع إسحاق، وبرسالة سيدنا محمد انتقلت النبوة إلى فرع إسماعيل عليه السلام.
وشاء الله أن يموت أبناء سيدنا محمد فى حياته وهم صغار حتى لا يفتن بهم بعض المحبين، ويظنوا أن النبوة سيرثها أحد أبنائه كما كانت تورث فى بنى إسرائيل ولذلك أكدت النصوص أن الرسالة ختمت ولا نبى بعده صلى الله عليه وسلم وبهذين الأمرين لم يكن هناك طمع فى نبوة بعده، وظهر خطأ من تنبئوا فى حياته وبعد مماته.
والسيدة فاطمة رضى الله عنها هى التى أنجبت من سيدنا على رضى الله عنه سيدىِّ شباب أهل الجنة: الحسن والحسين، ولم يزعم أحد أنهما ادعيا النبوة أو طمعا فيها وإذا كان صلى الله عليه وسلم أوصى بأهل بيته خيرا فى نصوص سجل بعضها فى القرآن {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى، الشورى: 23 فإن حب الناس لآل البيت وإن تغالى بعضهم فيه لكن لم يقبل أحد أن يكون منهم نبى، إلى جانب أن ميراث النبوة كان عن طريق الأبناء لا البنات.
ولعل فيما ذكرته تظهر الحكمة فى أن أبناء النبى صلى الله عليه وسلم ماتوا صغارا وفى حياته وأما حديث "لو عاش إبراهيم لكان نبيًّا" فهو باطل(8/248)
حديث: اتق شر من أحسنت إليه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسمع كثيرا هذا القول: اتق شر من أحسنت إليه، فهل هو حديث وهل معناه صحيح؟
الجواب
قال العجلونى فى كتابه "كشف الخفا ومزيل الإلباس" قال السخاوى: لا أعرفه، ويشبه أن يكون من كلام بعض السلف، قال: وليس على إطلاقه، بل هو محمول على اللئام دون الكرام، ويشهد له ما فى "المجالسة للدينورى" عن على كرم الله وجهه: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف -يعنى إذا أعطى تحفة- وعن عمر رضى الله عنه: ما وجدت لئيما قط إلا قليل المروءة وفى التنزيل {وما نقموا منهم إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} التوبة: 74. وسبب نزولها كما ذكره الطبرى: أن كبير المنافقين عبد الله بن أُبى ابن سلول كانت له دية فأعطاها له الرسول، فلما اغتنى بطر النعمة ولم يؤمن إيمانا خالصا بالرسول، وقال عقب ذلك فى حادثة الرجلين اللذين اقتتلا وأحدهما من حلفاء الأنصار:
انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سَمِّن كلبك يأكلك، وقال أيضا {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} المنافقون: 8 يريد بالأعز قومه، وبالأذل المسلمين. وفى الإسرائيليات يقول الله عز وجل "من أساء إلى من أحسن إليه فقد بدَّل نعمتى كفرا، ومن أحسن إلى من أساء إليه فقد أخلص لى شكرا" وعند البيهقى فى شعب الإيمان عن محمد بن حاتم المظفرى قال: اتق شر من يصحبك لنائلة. "مجلة الإسلام -المجلد الرابع - العدد 13 "(8/249)
حديث: خلق الإبل من الشياطين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأت فى بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "إن الإبل خلقت من الشياطين" فهل هذا صحيح ولماذا؟
الجواب
جاء فى كتاب "حياة الحيوان الكبرى" للدميرى المتوفى سنة 808 هـ أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة فى مبارك الإبل فقال "لا تصلوا فى مبارك الإبل فإنها مأوى الشياطين" رواه أبو داود وروى النسائى وابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن الإبل خلقت من الشياطين " ولم يعلق على هذا الحديث.
وجاء فى نيل الأوطار للشوكانى "ج 2 ص 142" حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ "لا تصلوا فى أعطان الإبل، فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت" ولم يبين معنى خلقها من الجن، فقد يكون المراد أن فيها شرا إذا نفرت وهاجت، فالأمر على التشبيه وليس على الحقيقة كما أراه.
وفى المغنى لابن قدامة "ج 1 ص 721" عن جابر بن سمرة أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنصلى فى مرابض الغنم؟ قال "نعم " قال أنصلى فى مرابض الإبل "؟ قال "لا" رواه مسلم. ولم يذكر السبب فى النهى. وجاء فى ص 722 قول القاضى: إن المنع تعبد لا لعلة معقولة، وقال غيره: إن معاطن الإبل والمقبرة والمجزرة والمزبلة وغيرها تكره فيها الصلاة لأنها مظنة النجاسات "انظر ص 398 من المجلد الثالث من هذه الفتاوى"(8/250)
حديث: لا تجتمع أمتى على ضلالة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث "لا تجتمع أمتى على ضلالة"؟ وهل يعنى أن الإجماع حجة؟
الجواب
ذكر القسطلانى فى "المواهب اللدنية" وشارحه الزرقانى "ج 5 ص 388" أن من خصائص الأمة المحمدية أنهم لا يجتمعون على ضلالة أى إذا اجتمعوا على حكم كان عند الله كذلك، رواه أحمد فى مسنده، والطبرانى فى الكبير وابن أبى خيثمة فى تاريخه عن أبى بصرة مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ "سألت ربى ألا تجتمع أمتى على ضلالة فأعطانيها" والمراد بالأمة أمة الإجابة التى آمنت به، وليست أمة الدعوة التى أُرسل إليها فقد كفر منها الكثيرون.، ورواه ابن أبى عاصم، والطبرانى أيضا من حديث أبى مالك الأشعرى "إن الله تعالى أجاركم من ثلاث خلال، ألا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا، وألا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وألا تجتمعوا على ضلالة".
قال السخاوى فى "المقاصد الحسنة" إنه حديث مشهور المتن وأسانيده كثيرة، أى متعددة الطرق والمخارج، وذلك علامة القوة، فلا ينزل عن الحسن فقد أخرجه أبو نعيم والحاكم وابن منده عن ابن عمر مرفوعا بلفظ "إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا، وإن يد الله مع الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ فى النار" وكذا أخرجه الترمذى، وأخرجه أيضا ابن ماجه والدارقطنى عن أنس مرفوعا، والحاكم عن ابن عباس ورفعه، وابن أبى عاصم وغيره مرفوعا عن عقبة ابن عمرو الأنصارى، وله شواهد متعددة فى المرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم كقوله "أنتم شهداء الله فى الأرض" وفى غير المرفوع إليه وهو الموقوف، كقول ابن مسعود: إذا سئل أحدكم فلينظر كتاب الله، فإن لم يجد ففى سنة رسول الله، فإن لم يجد فلينظر ما اجتمع عليه المسلمون، وإلا فليجتهد.
يقول الزرقانى: هذا، والاختلاف شامل لما كان فى أمر الدين كالعقائد أو الدنيا. كالإمامة العظمى، ومعنى "فعليكم بالسواد الأعظم" الزموا متابعة جماهير المسلمين الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك المنهج القويم، فهو الحق الواجب والفرض الثابت الذى يحرم خلافه، فمن خالفه مات ميتة جاهلية.
ثم ذكر القسطلانى عقب ذلك من فضائل الأمة المحمدية أن إجماعهم حجة قاطعة، وأن اختلافهم -أى اختلاف المجتهدين- رحمة أى توسعة على الناس، وذلك فى الفروع، أما الاختلاف فى الأصول فهو ضلال. انتهى.
وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى {وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله} الأنعام: 116 لأن المراد هنا أمة الدعوة، وكثير منهم لم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} يوسف: 103.
وحجِّية الإجماع أشار إليها القسطلانى بأنها من دعائم الاجتهاد لمعرفة الأحكام الشرعية، وسيأتى الكلام عنها فيما بعد(8/251)
حديث: لا غيبة فى فاسق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك حديث يقول "لا غيبة فى فاسق"؟
الجواب
جاء فى إحياء علوم الدين للإمام الغزالى "ج 3 ص 132 " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اهتكوه حتى يعرفه الناس، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس" قال العراقى فى تخريجه: رواه الطبرانى وابن حبان فى الضعفاء ورواه ابن عدى من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، دون قوله "حتى يعرفه الناس" ورواه بهذه الزيادة ابن أبى الدنيا فى الصمت.
وبعد أن ذكر الغزالى هذا الحديث قال: وكانوا يقولون: ثلاثة لا غيبة لهم، الإمام الجائر والمبتدع والمجاهر بفسقه، ثم قال فيمن يرخص فى غيبتهم:
أن يكون مجاهرا بالفسق كالمخنث وصاحب الماخور والمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وكان ممن يتظاهر به بحيث لا يستنكف من أن يذكر له، ولا يكره أن يذكر به، فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له "-هذا الحديث ضعيف كما قال العراقى- ثم قال الغزالى: وقال عمر رضى الله عنه: ليس لفاجر حرمة، وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر،، إذ المستتر لابد من مراعاة حرمته. وقال الحسن: ثلاثة لا غيبة لهم، صاحب الهوى والفاسق المعلن بفسقه والإمام الجائر، فهؤلاء الثلاثة يجمعهم أنهم يتظاهرون به، وربما يتفاخرون به، فكيف يكرهون ذلك وهم يقصدون إظهاره؟ نعم، لو ذكره بغير ما يتظاهر به أثم.
من هذا يعرف أن الفاسق المعلن بفسقه ولا يستحى أو يتألم من ذكر الناس له بما فيه جائز وليس بحرام، وإن كانت الأحاديث الواردة فى ذلك فيها مقال. والصيغة المذكورة فى السؤال قيل إنها منكرة، ولكن المعنى الذى تحمله حسن لورود حديث بمعناه وإن كان ضعيفا، وما قاله الغزالى وما نقله من الأقوال يرجح الحكم بعدم الحرمة على الوجه المذكور(8/252)
حديث: طلب العلم والنافلة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك حديث يقول "طلب العلم أفضل من صلاة النافلة"؟
الجواب
هذا القول ليس حديثا مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول الإمام الشافعى رضى الله عنه، فقد أثر عنه أنه قال: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، قيل: ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد فى سبيل الله " الهداية جمادى الآخرة سنة1415 هـ" وهذا فى الجهاد المندوب، أما المفروض فهو داخل فى الفرائض لا يقدم عليها النفل كطلب العلم(8/253)
حديث: الحياء والإيمان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى الحديث الشريف " الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" فإذا كان الحياء غريزة من الغرائز فكيف يكون شعبة من شعب الإيمان؟
الجواب
الغرائز ليست شعبة من الإِيمان، وإنما هى قوى تدعو للإِيمان والكفر والطاعة والعصيان، والدين جاء ليهذبها ويوجهها إلى الدعوة إلى الإِيمان والطاعة. ثم من قال: إن الحياء كله غريزة؟ فمن الحياء خلق مكتسب أساسه البعد عما يضر النفس والغير، وهذا البعد فيه جهاد للنفس بغرائزها التى تريد لها كل ما تريد، بصرف النظر عن كونه حلالا أو حراما.
فالقناعة بالحلال وعدم التطلع إلى الحرام من صفات الأخيار الأبرار، التى جاءت بها الأديان، وساعد عليها الإيمان بالحساب أمام الله على ما قدمت يد الإِنسان.
جاء فى شرح النووى لصحيح مسلم "ج 2 ص 5 " بعد ذكر روايات الحديث التى منها: الحياء من الإِيمان، الحياء لا يأتى إلا بخير، الحياء خير كله - أن القشيرى نقل عن الجنيد أنه قال: الحياء رؤيا الآلاء -النعم- ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء. وقال القاضى عياض وغيره: إنما جعل الحياء من الإِيمان -وإن كان غريزة- لأنه قد يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، فهو من الإِيمان بهذا وبكونه باعثا على أفعال البر ومانعا من المعاصى. وأما كون الحياء خيرا كله ولا يأتى إلا بخير فقد يشكل على بعض الناس، من حيث إن صاحب الحياء قد يستحى أن يواجه بالحق من يُجِلُّه فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإِخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف فى العادة -وجواب هذا- أن هذا المانع ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز وخور ومهانة، وتسميته حياء من إطلاق أهل العرف، أطلقوه مجازا لمشابهته الحياء الحقيقى، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير فى حق ذى الحق ونحو هذا.
هذا وقد روى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" والمعنى إذا لم يخف الإِنسان من الله ولا من الناس صار كالبهائم يصنع ما يشاء، وليس هذا إغراء، ولكنه بيان للواقع المذموم(8/254)
الاحتفال بالمولد النبوى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن الاحتفال بمولد النبى صلى الله عليه وسلم بدعة لم تكن فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم ولا فى أيام الصحابة والسلف الصالح، ويقولون إنها بدعة منكرة وضلالة تؤدى إلى النار، فما هو الرأى الصحيح فى ذلك، وكذلك فى الاحتفال بموالد الأولياء؟
الجواب
لا يعرف المؤرخون أن أحدا قبل الفاطميين احتفل بذكرى المولد النبوى -كما قال الأستاذ حسن السندوبى - فكانوا يحتفلون بالذكرى فى مصر احتفالا عظيما ويكثرون من عمل الحلوى وتوزيعها كما قال القلقشندى فى كتابه " صبح الأعشى".
وكان الفاطميون يحتفلون بعدة موالد لآل البيت، كما احتفلوا بعيد الميلاد المسيحى كما قال المقريزى، ثم توقف الاحتفال بالمولد النبوى سنة 488 هـ وكذلك الموالد كلها، لأن الخليفة المستعلى بالله استوزر الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالى، وكان رجلا قويا لا يعارض أهل السنة كما قال ابن الأثير فى كتابه " الكامل "ج 8 ص 302 واستمر الأمر كذلك حتى ولى الوزارة المأمون البطائحى، فأصدر مرسوما بإطلاق الصدقات فى 13 من ربيع الأول سنة 517 هـ وتولى توزيعها " سناء الملك ".
ولما جاءت الدولة الأيوبية أبطلت كل ما كان من آثار الفاطميين، ولكن الأسر كانت تقيم حفلات خاصة بمناسبة المولد النبوى، ثم صارت، رسمية فى مفتتح القرن السابع فى مدينة " إربل " على يد أميرها مظفر الدين أبى سعيد كوكبرى بن زين الدين على بن تبكتكين، وهو سنِّى اهتم بالمولد فعمل قبابا من أول شهر صفر، وزينها أجمل زينة، فى كل منها الأغانى والقرقوز والملاهى، ويعطى الناس إجازة للتفرج على هذه المظاهر. وكانت القباب الخشبية منصوبة من باب القلعة إلي، باب الخانقاه، وكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، ويقف على كل قبة ويسمع الغناء ويرى ما فيها، وكان يعمل المولد سنة فى ثامن الشهر، وسنة فى ثانى عشره، وقبل المولد بيومين يخرج الإِبل والبقر والغنم، ويزفها بالطبول لتنحر فى الميدان وتطبخ للناس. ويقول ابن الحاج أبو عبد الله العبدرى: إن الاحتفال كان منتشرا بمصر فى عهده، ويعيب ما فيه من البدع " المدخل ج 2 ص 11، 12 ".
وأَلفت كتب كثيرة فى المولد النبوى فى القرن السابع، مثل قصة ابن دحية المتوفى بمصر سنة 633 هـ، ومحيى الدين بن العربى المتوفى بدمشق سنة 638 هـ، وابن طغربك المتوفى بمصر سنة 670 هـ، وأحمد العزلى مع ابنه محمد المتوفى بسبته سنة 677 هـ.
ولانتشار البدع فى الموالد أنكرها العلماء، حتى أنكروا أصل إقامة المولد، ومنهم الفقيه المالكى تاج الدين عمر بن على اللخمى الإِسكندرى المعروف بالفاكهانى، المتوفى سنة 731 هـ، فكتب فى ذلك رسالته " المورد فى الكلام على المولد" أوردها السيوطى بنصها فى كتابه " حسن المقصد".
ثم قال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: وقد أتى القرن التاسع والناس بين مجيز ومانع، واستحسنه السيوطى وابن حجر العسقلانى، وابن حجر الهيتمى، مع إنكارهم لما لصق به من البدع، ورأيهم مستمد من آية {وذكِّرهم بأيام الله} إبراهيم: 5. أخرج النسائى وعبد الله بن أحمد فى زوائد المسند، والبيهقى فى شعب الإِيمان عن أبى بن كعب عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه فسر الأيام بنعم الله وآلائه "روح المعانى للآلوسى" وولادة النبى نعمة كبرى. اهـ.
وفى صحيح مسلم عن أبى قتادة الأنصارى قال: وسئل - النبى صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الاثنين فقال " ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أُنزل علىَّ فيه " روى عن جابر وابن عباس:
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثانى عشر من ربيع الأول، وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر وفيه مات أى فى شهر ربيع الأول، فالرسول صلى الله عليه وسلم نص على أن يوم ولادته له مزية على بقية الأيام، وللمؤمن أن يطمع فى تعظيم أجره بموافقته ليوم فيه بركة، وتفضيل العمل بمصادفته لأوقات الامتنان الإِلهى معلوم قطعا من الشريعة، ولذا يكون الاحتفال بذلك اليوم، وشكر الله على نعمته علينا بولادة النبى وهدايتنا لشريعته مما تقره الأصول، لكن بشرط ألا يتخذ له رسم مخصوص، بل ينشر المسلم البشر فيما حوله، ويتقرب إلى الله بما شرعه، ويعرِّف الناس بما فيه من فضل، ولا يخرج بذلك إلى ما هو محرم شرعا. أما عادات الأكل فهى مما يدخل تحت قوله تعالى {كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله} البقرة: 172 انتهى.
ورأيى أنه لا بأس بذلك فى هذا العصر الذى كاد الشباب ينسى فيه دينه وأمجاده، فى غمرة الاحتفالات الأخرى التى كادت تطغى على المناسبات الدينية، على أن يكون ذلك بالتفقه فى السيرة، وعمل آثار تخلد ذكرى المولد، كبناء مسجد أو معهد أو أى عمل خيرى يربط من يشاهده برسول الله وسيرته.
ومن هذا المنطلق يجوز الاحتفال بموالد الأولياء، حبًّا لهم واقتداء بسيرهم، مع البعد عن كل المحرمات من مثل الاختلاط المريب بين الرجال والنساء، وانتهاز الفرص لمزاولة أعمال غير مشروعة من أكل أو شرب أو مسابقة أو لهو، ومن عدم احترام بيوت الله ومن بدع زيارة القبور والتوسل بها، ومن كل ما لا يتفق مع الدين ويتنافى مع الآداب.
فإذا غلبت هذه المخالفات كان من الخير منع الاحتفالات درءًا للمفسدة كما تدل عليه أصول التشريع.
وإذا زادت الإِيجابيات والمنافع المشروعة فلا مانع من إقامة هذه الاحتفالات مع التوعية والمراقبة لمنع السلبيات أو الحد منها بقدر المستطاع، ذلك أن كثيرا من أعمال الخير تشوبها مخالفات ولو إلى حد ما، والكل مطالب بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالوسائل المشروعة " انظر الجزء الرابع من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ".
يقول الزرقانى فى شرح المواهب للقسطلانى: إن ابن الجزرى الإمام فى القراءات والمتوفى سنة 833 هـ علَّق على خبر أبى لهب الذى رواه البخارى وغيره عندما فرح بمولد الرسول وأعتق " ثويبة" جاريته لتبشيرها له، فخفف الله عقابه وهو فى جهنم فقال: إذا كان هذا الكافر الذى نزل القرآن بذمه جوزى فى النار بفرحه ليلة المولد فما حال المسلم الموحد من أمته حين يُسرُّ بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته فى محبته.
يقول الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه * وتبَّت يداه فى الجحيم مخلدا أتى أنه فى يوم الاثنين دائما * يخفف عنه للسرور بأحمدا فما الظن بالعبد الذى كان عمره * بأحمد مسرورا ومات موحدا؟ رجح ابن إسحاق أن ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم كان فى ثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من عام الفيل وروى ابن أبى شيبة ذلك عن جابر وابن عباس وغيرهما، وحكوا شهرته عند الجمهور.
وقد حقق صاحب كتاب " تقويم العرب قبل الإسلام " بالحساب الفلكى الدقيق أن الميلاد كان فى يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول الموافق للعشرين من شهر أبريل سنة 571 م.
"انظر الحاوى للفتاوى للسيوطى ومجلة الهداية الصادرة بتونس فى ربيع الأول 1394هـ "(8/255)
النظافة من الإيمان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال النظافة من الإيمان " وهل الذين لا يعنون بالنظافة على خطا أم على صواب؟
الجواب
جاء فى إحياء علوم الدين للإِمام الغزالى "ج 1 ص 111 " فى أول كتاب أسرار الطهارة قوله: قال النبى صلى الله عليه وسلم "بنى الدين على النظافة" وقال " الطهور نصف الإِيمان " وعلق العراقى على الأول فقال: لم أجده هكذا، وفى الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة " تنظفوا فإن الإسلام نظيف " والطبرانى فى الأوسط بسند ضعيف جدا من حديث ابن مسعود " النظافة تدعو إلى الإِيمان " وعلق على الثانى بقوله بالرمز: رواه الترمذى من حديث رجل من بنى سليم وقال: حسن. ورواه مسلم من حديث أبى مالك الأشعرى بلفظ " شطر".
فاللفظ المذكور فى السؤال والجارى على الألسنة ليس واردا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وإنما الوارد عنه تقدير النظافة بعبارات أخرى. ولا شك أن النظافة لها تقديرها الكبير فى التشريع الإِسلامى، لأنها من العوامل الأساسية فى المحافظة على الصحة التى هى من أكبر نعم الله على الإنسان كما صح فى الحديث " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ " رواه البخارى. وللنظافة مجالات كثيرة.
ففى نظافة البدن شرع الوضوء للصلوات الخمس فى اليوم والليلة، بما فيه من تعهد للأعضاء التى يكثر تعرضها للتلوث، وبما فيه من حث على العناية بالاستنشاق والمضمضة مع استعمال السواك وتأكيد استحبابه، وشرع الغسل لأسبابه المعينة، وندبه فى مناسبات عدة، وبخاصة عند الاجتماع والازدحام، كما فى صلاة الجمعة والعيدين، وفى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "حق على كل مسلم أن يغتسل فى كل سبعة أيام يوما، يغسل فيه رأسه وجسده " وروى مسلم حديث. " إن الله جميل يحب الجمال " وندب إلى التزين والتعطر وحسن الهندام وتسوية الشعر وقص الأظافر وإزالة شعر الإبطين والعانة وما إلى ذلك من ضروب النظافة.
وشرع غسل اليدين قبل تناول الطعام وبعده، وعدم غمسهما فى الماء قبل غسلهما إذا استيقظ من نومه فإنه لا يدرى أين باتت يده - وبخاصة من ينامون فى العراء ويفترشون الرمال بجوار الإِبل والحيوانات الأخرى - وحذر من النوم قبل غسل اليدين من أثر الطعام وبخاصة إذا كان فيه دسم تجذب رائحته الهوام والحشرات فتضره، وكل ذلك وردت به الأحاديث.
وفى نظافة الملبس والمسكن والشارع والأمكنة العامة يقول سبحانه {وثيابك فطهِّر} المدثر: 4 وباب النجاسات وإزالتها واشتراط طهارة الثوب والمكان فى الصلاة واضح ومفصَّل فى كتب الفقه. وفى الحديث " أصلحوا رِحالكم ولباسكم حتى تكونوا فى الناس كأنكم شامة" رواه أحمد. وفى مسند البزار أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود. فنظفوا أفناءكم وساحاتكم، ولا تشبهوا باليهود يجمعون الأكب فى دورهم " الأكب الزبالة، وإصلاح الرحال أى المساكن عام يشمل كنسها وتهويتها وتعريضها للشمس وتطهيرها من الحشرات المؤذية وما إلى ذلك.
وحث الإِسلام على إماطة الأذى عن الطريق وعدها صدقة كما رواه البخارى ومسلم، وفى الحديث " اتقوا الملاعن الثلاث، البراز على قارعة الطريق وموارد المياه ومواقع الظل " رواه ابن ماجه وأبو داود، وندب إلى تغطية أوانى الطعام والشراب، حفظا لها من التلوث أو الفساد بما ينقله الريح أو الذباب مثلا كما رواه مسلم.
هذه بعض التشريعات التى تدل على عناية الإِسلام بالنظافة فى كل شىء وليست النظافة فى الماديات فقط بل فى المعنويات أيضًا من العقائد والأفكار والأقوال والأفعال والضمائر والنيات وما إليها.
والذين يهملون فيها مخطئون، لا نحب أن يكونوا كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولا ننسى فى هذا المجال حرمة تلويث البيئة بأى ملوث حتى بالرائحة الكريهة، كالدخان والثوم والبصل والعرق، وحتى بالأصوات المزعجة المقلقة للراحة ولو كانت بذكر الله، وكل ذلك وردت به الآثار والمقصِّرون مخطئون(8/256)
حديث: غمز الشيطان للمولود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن عيسى أفضل من محمد عليهما السلام، لأن الشيطان لم يغمزه حين ولد، فهل هذا صحيح؟
الجواب
سبق القول بأن الله سبحانه فضَّل بعض الأنبياء على بعض "المجلد الثانى ص 569 " وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، وقلنا: إذا كان واحد منهم له مزية فإن المزية لا تقتضى الأفضلية، وأوردنا النصوص الدالة على ذلك. ويتصل بهذا الموضوع ما جاء فى السؤال، فقد روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ما من بنى آدم من مولود إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسته إياه، إلا مريم وابنها" وفى رواية قال أبو هريرة -راوى الحديث- اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} آل عمران: 36 وفى لفظ عند البخارى " كل بنى آدم يطعن الشيطان فى عينيه بإصبعه حين يولد، إلا عيسى بن مريم، ذهب يطعن فطعن فى الحجاب.... ".
يقول السهيلى: ولأن عيسى عليه السلام لم يخلق من منِى الرجال فأعيذ من مغمزه، وإنما خلق من نفخة روح القدس، قال: ولا يدل هذا على فضل عيسى عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد نزغ منه ذلك المغمز وملىء قلبه حكمة وإيمانا بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد، وإنما كان ذلك المغمز فيه لموضع الشهوة المحركة للمنى، والشهوات يحضرها الشيطان، لا سيما شهوة من ليس بمؤمن، فكان ذلك المغمز فيه راجعا إلى الأب، لا إلى الابن المطهر صلى الله عليه وسلم ولهذا قال: شق صدره فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم، فتبين أن الذى التمس فيه هو الذى يغمزه الشيطان من كل مولود " آكام المرجان للشبلى ص 178 ".
وأرجو التنبه إلى أساليب المغرضين المثيرين للفتنة، وإلى قول الله تعالى {ومن يبتغ غير الإِسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين} آل عمران: 85(8/257)
الأحاديث النبوية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى الحديث المتواتر وما حكم من ينكره، وهل كل ما فى البخارى ومسلم يجب تصديقه ويحرم عدم الأخذ به؟
الجواب
الحديث المتواتر هو ما يرويه جمع يحيل العقل فى العادة تواطؤهم على الكذب، وذلك فى كل طبقة من ابتداء الرواية إلى من تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عرفوه عنه فعلا أو وصفا أو تقريرا، وقد يكون متواترا لفظيا إذا اتحدت الرواة فى الألفاظ التى يقولونها، أو متواترا معنويا إذا اتفقوا فى رواية المعنى مع اختلاف الألفاظ، والتواتر المعنوى كثير، أما اللفظى فقليل، ومنه أحاديث "من كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" "نزل القرآن على سبعة أحرف".
ومن المتواتر المعنوى حديث رفع اليدين فى الدعاء، فقد روى فيه أكثر من مائة حديث، لكنها فى وقائع مختلفة، والذى ينكر الحديث المتواتر بالإِجماع يكون كافرا، وكذلك يكفر من أنكر ما أجمع عليه المسلمون كعدد الصلوات الخمس وركعاتها، ومناسك الحج.
والأحاديث غير المتواترة تسمى أحاديث آحاد منها المشهور والعزيز والغريب، ويحكم عليها بالصحة أو الحسن أو الضعف. ومنكرها لا يكفر، وإذا كان الإنكار عن هوى أو تعصب كان فسقا يأثم صاحبه.
والأحاديث الموجودة فى البخارى ومسلم قال ابن الصلاح: إنها صحيحة قطعا، لاتفاق الأمة على تلقيها بالقبول، والأمة لا تتفق على خطأ، وأما ما روى فيهما معلقا، وهو ما حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر فلا يبلغ مرتبة القطع عنده، واستثنى ابن الصلاح من المقطوع بصحته مائتين وعشرين حديثا، والحافظ العراقى أفردها بكتاب تصدى فيه للجواب عنها، وتعرض الحافظ ابن حجر فى مقدمة فتح البارى لما طعن فيه من أحاديث البخارى، ودفع ما وجه إليها من مآخذ بالتفصيل.
والإِمام النووى خالف ابن الصلاح فى دعوى القطع بصحة ما فى الصحيحين -إلا ما استثنى- وقال: إن المحققين والأكثرين يذهبون إلى أن صحة ما روياه صحة مظنونة إلا أن يكون متواترا، وأما تلقى الأمة لهما بالقبول فلأن ما روياه يفيد الظن، والظن يكفى فى تقرير الأحكام العملية، وأما قوله تعالى: {وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا} النجم: 28 فمحمول على ما يرجع إلى أصول الدين كالعقائد، لأنه يقصد منها العلم واليقين.
ومَزِيَّة ما فى البخارى ومسلم على رأي النووى تظهر فى أن ما روى فيهما صحيح لا يحتاج إلى البحث والنظر، بل يؤخذ بالتسليم، أما ما يروى فى غيرهما فيحتاج إلى نظر لمعرفة رتبته من القبول.
فالخلاصة أن ما رواه الشيخان - البخارى ومسلم - وكان متصل الإِسناد من طريقين فأكثر وتلقاه رجال الحديث بالقبول يفيد العلم بصحة نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم، كخبر الآحاد الذى تحتف به قرائن الصدق فلا تبقى لمن يتلقاه شيئا من التردد فى صحته "مجلة الأزهر-المجلد الأول ص 546 - 549"(8/258)
البينة واليمين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم "البينة على من ادَّعى واليمين على من أنكر"؟
الجواب
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه" وروى البيهقى والطبرانى بإسناد صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" وتفصيل إجراءات التقاضى يرجع إليها فى كتب الفقه(8/259)
الأحباب فى الحشر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: من أحب قوما حشر معهم؟
الجواب
وردت عدة أحاديث تدل على ذلك، منها ما جاء فى البخاري ومسلم عن أنس رضى الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال " وما أعددت لها "؟ قال: لا شىء إلا أننى أحب الله ورسوله، قال "أنت مع من أحببت " قال أنس: فما فرحنا بشىء فرحنا بقول النبى صلى الله عليه وسلم " أنت مع من أحببت " قال أنس: فأنا أحب النبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبى إياهم.
وروى البخارى ومسلم أيضا عن ابن مسعود رضى الله عنه قال:
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف ترى فى رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرء مع من أحب ".
وروى الطبرانى بإسناد جيد حديثًا جاء فيه " ولا يحب رجل قوما إلا حُشر معهم " وروى أحمد مثله. ويجب أن يراعى أن هذا الحب يكون لله لا لأغراض أخرى، فالحب لله من صفات الذين يجدون حلاوة الإِيمان كما صح فى الحديث(8/260)
النبى صلى الله عليه وسلم وحب النساء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "حُبِّب إلىَّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعلت قرة عينى فى الصلاة"؟
الجواب
هذا حديث رواه النسائى عن أنس والطبرانى فى معجمه الأوسط، والحاكم فى المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم.
وقال الحافظ: إسناده حسن عن أنس.
وحب الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء ليس حبا شهوانيا بمعنى الاهتمام الزائد بالمتعة الجنسية على شاكلة المترفين اللاهين، فنحن نعلم رقة حاله وشغله الدائم ليل نهار بالدعوة ومشكلاتها، واهتمامه بقيام الليل حتى تتورم قدماه، فهو حب طبيعى كحب أى رجل لامرأة، لأنه مكتمل الرجولة لا عيب فيه، ولكنه حب بقدر، لا يطغى على الناحية الروحية عنده، ولذلك جاء فى الحديث " وجعلت قرة عينى فى الصلاة" فالصلاة أعظم محبوب عنده، ومن كان كذلك فهمه فى النساء لم يكن بالدرجة التى تصرفه عن قرة عينه وهى الصلاة والعبادة.
وقد يكون الحديث ردًّا على بعض من يرون أن مقياس التدين هو الرهبانية والتبتل والامتناع عما أحل الله من الطيبات، فهو صلى الله عليه وسلم أخشى الناس لله وأتقاهم له، ولكنه يصوم ويفطر ويقوم ويرقد ويتزوج النساء كما صح فى الحديث المتفق عليه الذى قال فى نهايته "ومن رغب عن سنتى فليس منى". وذلك إلى جانب عطفه ورحمته بالنساء عامة، وقد أوصى بهن كثيرا، والنصوص فى ذلك كثيرة. " انظر الجزء السادس من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإِسلام ص 168 "(8/261)
حديث: من فضائل الأعمال
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرجو شرح الحديث الذى يقول " ثلاثة يضحك الله إليهم، الرجل إذا قام من الليل يصلى، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم،إذا صَفُّوا للقتال "؟
الجواب
هذا الحديث رواه أحمد، وفيه ثلاث فضائل يرضى الله عنها رضاء عظيما.
وقد جاء التفسيرعن هذا الرضا بقول الرسول عليه الصلاة والسلام " ثلاثة يضحك الله إليهم " والضحك إذا عدى بمن كان فى مقام الذم غالبا كقوله تعالى {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} المطففين:
29 وإذا عدى بإلى كان فى مقام المدح، كما فى هذا الحديث.
والضحك بالمعنى المتعارف عند الناس لا ينسب إلى الله، فالمراد لازمه وهو الرضا. فالله يرضى عن هذه الفضائل رضاء عظيما، والتعبير بالضحك عن ذلك يدل على أهميتها وزيادة فضلها.
الفضيلة الأولى: قيام الليل بالصلاة، ومن الأمور التى تعطى قيام الليل أهميته أن الصلاة فى الليل أقرب إلى الخشوع، وذلك لسكون الأصوات وعدم الصوارف التى تشتت ذهن الإنسان وتشوش فكره، وهنا يكون الاتصال بالله أتم والمناجاة معه أمتع واحسن، كما أن الليل يقل فيه أو ينعدم الرقيب الذى قد يرائى الإنسان بعمله من أجله، وهنا تكون العبادة أخلص لله وابعد عن تهمة الشرك والنفاق، وكذلك مما يجعل لقيام الليل أهميته أن فيه إيثارا لرضاء الله على رضاء النفس، فإن النفس تميل إلى الراحة وبخاصة فى الليل، فإذا جاهدها الإنسان ونزعها عن هواها وقام يصلى كان معنى حب الله واضحا، وابتغاء مرضاته ظاهرا.
ويوضح ذلك حديث أبى الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم، ويستبشر بهم " وعدَّ منهم " والذى له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم من الليل، فيقول الله: يَذَرُ شهوته ويذكرنى، ولو شاء رقد" رواه الطبرانى بإسناد حسن. وقد جاءت الأحاديث الكثيرة فى فضل قيام الليل نكتفى منها بقوله صلى الله عليه وسلم" إن فى الجنة غرفا برى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام " رواه ابن حبان فى صحيحه.
والفضيلة الثانية: صلاة الجماعة وتسوية صفوفها، والذى يعطيها هذه المنزلة أنها تدل على شعور الإنسان بالروح الاجتماعية، وحاجته إلى الصلة بإخوانه، والتعاون معهم على الخير، وكان بإمكانه أن يؤدى الصلاة فى بيته منفردا فالأرض كلها مسجد، لكنه لم يخلد إلى الراحة وآثر الانتقال إلى مكان الاجتماع مع إخوانه وممارسة نشاطه الدينى معهم، وكذلك يعطيها هذه الأهمية أن فيها خضوعًا لنظام القيادة، وتناسيًا للفردية فى سبيل مصلحة الجماعة، وإذا كانوا خاضعين لقائدهم وهو إمام الصلاة فى توجههم إلى الله بالعبادة، فإنهم يحرصون على احترام هذه القيادة والحرص عليها فى أمور دنياهم، وفى ذلك كله قوة للمجتمع، تتماسك بها أركانه، ويرهب بها جانبه، كما أن نظام الصفوف وتسويتها يدرب على احترام النظام فى كل شئون الحياة، ويدرب على مقابلة العدو صفا واحد متماسكا كالبنيان المرصوص.
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة مرغبة فى صلاة الجماعة من أجل هذه المعانى الكريمة وغيرها، وجعلتها تفوق صلاة الانفراد بسبع وعشرين درجة. وكان النبى صلى الله عليه وسلم يهتم اهتماما كبيرا بنظام الصفوف وتسويتها، روى البخارى ومسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما: كان النبى يمسح مناكبنا فى الصلاة ويقول " استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم " وبلغ من شدة اهتمامه بتسوية الصفوف أنه كان يترك مكانه من الإمامة ويخترق الصفوف إذا رأى رجلا خارجا عن الصف، فيقيمه ويرشده ويقول " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم " رواه البخارى ومسلم.
الفضيلة الثالثة: صفوف القتال، أى الاستعداد لمواجهة العدو، فى وحدة كاملة ونظام قوى، وهذا المعنى له أهميته، وذلك لأمور، منها استعداد المسلمين لحماية عقيدتهم وشرفهم والدفاع عن وطنهم، وتعاونهم فى ذلك تعاونا قويا لعلمهم أن هذه المهمة جماعية لا فردية، والضرر الناتج عن التقصير لا يقتصر على المقصر، يقول الله تعالى:
{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} الانفال:25 ومنها التضحية بأعز ما يملك الناس وهو الروح، فداء لدينهم وشرفهم، والنفس من طبيعتها حب السلامة، ولكن النفوس المؤمنة الأبية لا ترضى السلامة مع الذلة والهوان، وترخص أرواحها فى سبيل العزة والكرامة. وهكذا يكون المؤمنون الذين جعلهم الله خير أمة أخرجت للناس، وانتدبهم لنشر رسالة الحق والسلام. إن الله يعجب بهذه الصفوف ويضحك إليها لأنها صفوف لم تخرج لتحصيل مغنم أو كسب مادى، ولكنها خرجت للموت ضاحكة مستبشرة.
ولما كان هذا الاستهداف يحتاج إلى إيمان قوى يتغلب على هوى النفس جاء الترغيب فى الجهاد قويا بأساليب مؤثرة، وكثرت الأحاديث التى تبين فضل المجاهدين على القاعدين، وتعد المقاتلين بإحدى الحسنيين، إما الفوز والنصر، وإما الشهادة والأجر {ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما} النساء: 74 وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن ذروة سنام الإسلام هى الجهاد كما رواه الطبرانى.
وبعد، فهذه فضائل ثلاثة، ينبغى أن نحرص عليها:
الأولى فضيلة فردية لخاصة النفس وهى قيام الليل، يجاهد فيها نفسه ويتعرض لنفحات ربه، ورد فى حديث مسلم " إن فى الليل ساعة لا يوفقها رجل مسلم يسأل الله فيها خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا-أعطاه إياه، وذلك فى كل ليلة".
والثانية فضيلة اجتماعية يظهر أثرها المباشر فى وقت السلم ويدرب بها لوقت الحرب، وهى صلاة الجماعة التى توحى بالتعاون والوحدة وحب النظام واحترام القيادة وعدم الشذوذ عن الجماعة.
والثالثة فضيلة اجتماعية أيضا يظهر أثرها وقت الحرب، وهى التعبئة العامة المنظمة لرد العدوان وحماية الأوطان، جاء فيها قول النبى صلى الله عليه وسلم "مقام الرجل فى الصف فى سبيل الله تعالى أفضل من صلاته فى بيته سبعين عاما " رواه الترمذى بسند صحيح(8/262)
حديث فى قسمة الأرزاق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرجو شرح الحديث الشريف الذى يقول: " إذا نظر أحدكم إلى هن فضل عليه بالمال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه "؟
الجواب
هذا الحديث رواه البخارى ومسلم، ويجب أن نعلم أن حظوظ الناس فى الحياة متفاوتة، والله وحده مالك الأمر كله، يعطى من يشاء، ويمنع ما يشاء عمن يشاء، قال تعالى {قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزمن تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير} [آل عمران:: 26] وقال {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} [الزخرف: 32] وهذا التفاوت فى الحظوظ لحكمة جاء بيانها فى مثل قوله تعالى: {وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم} [الأنعام:165] ولا يشترط أن يكون هذا التفضيل تكريما من الله لهم، فكم من كفار وعصاة يتقلبون فى االثراء ليزدادوا به كفرا وطغيانا، قال تعالى {لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 196،،197] .
ومنح الله لعباده قد تكون بمحض قدرته واختياره دون أن يكون لأحد فيها تدخل بوجه من الوجوه كالجمال الذى يولد به الإنسان ولا يد له فيه، وكالثراء الوارد عن طريق الميراث أو طريق لم يبذل فيه صاحبه أى جهد، وقد تكون هذه المنح نتيجة جهد وعمل كالتى تأتى عن طريق الكسب التجارى والصناعى وما شاكله.
والطبيعة البشرية نزَّاعة إلى جب المال والجمال ومتع الحياة، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وكثير من الناس ينظرون إلى ما فضل الله به الآخرين عليهم نظرة الحسرة والألم، ويتمنى بعضهم أن تزول هذه النعمة عن أصحابها ليتساووا جميعا فى الفقر والضعف والحاجة، وهذا هو الحسد المذموم الذى يورث صاحبه همًّا لا يفارقه، وقلقا لا يترك له فرصة يستريح فيها باله وتهدأ أعصابه، وقد يتورط فى أعمال غير كريمة لينال بها من هذا الذى فضله الله عليه، وقد ذم الدين هذا الخلق، وجاء فى الحديث أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقى.
وقد يكون هناك بعض الناس الذين لم ينالوا حظا من متع الحياة يتمنون أن يكون لهم مثل ما لغيرهم، ويسعى بعضهم جاهدا لإدراك ما يتمنى.
وقد يرتكب بعضهم فى سبيل ذلك ما لا يوافق عليه شرع ولا خلق.
والحديث الذى نحن بصدده يرسم لنا الدواء الذى به تستريح النفس إزاء هذه الفوارق التى فضَّل بها الله بعض الناس على بعض، فيرشد كل عاقل إلى أنه لو تطلعت نفسه إلى ما منح غيره من مال وخلق، أى غنى وجمال وقوة أو غير ذلك من متع الدنيا، فجدير به أن ينظر إلى من هو أقل منه فى هذه الأمور، حتى يحس بأن الله أنعم عليه بما لم ينعم به على غيره، وهنا تهدأ نفسه، ويقنع بما عنده، ويكون هنا مجال لشكنر الله عليها، وهذا ما يشير إليه قول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم ". والإحساس بنعمة الله مهما صغرت وشكره عليها وسيلة من وسائل رضوان الله وحفظ النعمة وزيادتها، وعلى النقيض من ذلك يكون ازدراؤها والاستهانة بها موجبا لغضب الله وانتقامه فى العاجل أو الآجل، قال تعالى {وإذ تأذَّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد} [إبراهيم: 7] وقد جاء فى الهدى الإسلامى أن الإنسان إذا أراد أن يتنافس مع غيره فليكن التنافس فى مجال الخير والفضائل والكمالات، مستخدما فى ذلك ما منحه الله من مال وصحة ولو كان بقدر ضئيل، وهو ما يشير إليه قول النبى صلى الله عليه وسلم " لا حسد إلا فى اثنتين " والمراد لا ينبغى أن تكون هناك غبطة وتنافس واهتمام إلا فى هاتين الخصلتين " رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هلكته فى الحق، ورجل آتاه الله للحكمة فهو يقضى بها ويعلمها للناس " رواه البخارى ومسلم.
أما التنافس الدنيوى المحض فهو مذموم، ذلك أن متاع الحياة الدنيا لا تشبع منه النفس الإنسانية، وهى حقيقة مقررة أشار إليها قول النبى صلى الله عليه وسلم " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا لهما، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب " رواه البخارى ومسلم. وقد وجه الله نبيه، وهو توجيه لأمته أيضا أن يكون الاهتمام بالكمال الأدبى والدينى أشد من الاهتمام بالكمال المادى الدنيوى الذى يلهى ويضر، قال تعالى: {ولا تمدَّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} [طه: 131] وقال تعالى {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} [الكهف: 46] وقال {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} [النساء: 77] . والإيمان بقدر الله والرضا بعطائه يهون على النفس متاعبها وآلامها، جاء فى الحديث الشريف " إن روح القُدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستوفى رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته " رواه ابن حبان وابن ماجه والحاكم وغيرهم بألفاظ متقاربة.
والنبى صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من الاهتمام بالدنيا الذى يصرف عن الآخرة فقال " من كانت الآخرة أكبر همه جعل الله غناه فى قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهى راغمة، ومن كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " رواه الترمذى وابن حبان وابن ماجه وغيرهم.
وقد كان السلف الصالح يتنافسون فى البر، كما حدث من عثمان وأبى بكر وعمر فى تمويل جيش العسرة، وكما حدث من عبد الرحمن ابن عوف وغيره من الأعمال الخيرية الكثيرة، التى لم يلههم عنها ما جمعوه من مال.
لكن ليس معنى هذا أن الله يصرف الناس عن الكسب ويحرمهم متع الدنيا، فهو القائل {يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} [المائدة: 87] وقال النبى صلى الله عليه وسلم " نعم المال الصالح للعبد الصالح " رواه أحمد بسند جيد وقال " الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها "رواه الطبرانى بإسناد حسن.
فلنملأ قلوبنا بالإيمان، ولنجعل المعانى الأدبية أكبر همنا، ولنعمل جاهدين لرفع مستوانا، ولنوجه طاقاتنا إلى خير الدين والدنيا(8/263)
حديث فى فضل القرآن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد شرح الحديث الشريف الذى يقول " خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه "؟
الجواب
هذا الحديث رواه البخارى ومسلم، وتوضيح معناه يقتضينا أن نتحدث عن معنى الخيرية، وعن السبب الذى من أجله كان تعلم القرآن وتعليمه بهذه المنزلة العالية، وعن الآثار الواردة فى فضل التعلم والتعليم، وعن واجبنا نحو القرآن الكريم.
فمعنى " خيركم من تعلم القران وعلَّمه " أفضلكم من انتسب إلى القرآن عن هذه الصلة، وهل هو أفضل الناس على الإطلاق، أو أفضل جماعة معينة منهم؟ لقد ورد مثلا قوله صلى الله عليه وسلم " خيركم خيركم لأهله " رواه الترمذى والنسائى والحاكم فهل الرجل الذى هو خير لأهله أفضل الناس جميعا؟ توفيقا بين التعبيرات الواردة في بيان الأفضلية قال العلماء: إن الأفضلية هنا نسبية، أو بالإضافة إلى جماعة معينة من الناس. فأفضل المشتغلين بالعلم هم المشتغلون بالقرآن، وأفضل المتعاملين مع الناس بالخير هم المتعاملون بالخير مع أهلهم. فكلٌّ فى بابه افضل وبالنسبة لجماعته ونوعه أشرف.
ولماذا كانت أشرف مهمة علمية هى ما كانت متصلة بالقرآن الكريم؟ الجواب أن القرآن كلام الله، وكل ما كان متصلا بالله كان أشرف شئ فى الوجود، وأن القرآن دستور الحياة المثالية دنيا وأخرى وكل ما كان كذلك كانت الصلة به أشرف، والانتساب إليه أكرم. وكلام الله عند تلاوتنا له وتفقهنا فيه يزيدنا إيمانا بالله وإدراكا لعظمته.
ودستور الحياة السعيدة كلما تعمقنا فى حفظه ودراسته قويت الرغبة فى احترامه والعمل على الإفادة من هدايته. والمعرفة عق طريق القرآن معرفة صادقة، والتطبيق على أساسها مضمون النتيجة، قال تعالى {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} [طه: 123] وقال {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} [إبراهيم: 2] .
وتعليمنا للقرآن نشر لهدايته، وتوعية للناس بدستورهم، وأساس لمعرفة حقوقهم وواجباتهم، والمعرفة هى طريق العمل، والثقافة داعية النهوض بالمجتمع. والقرآن بالذات جماع الثقافات الصحيحة والمعرفة الصادقة، ودعوته دعوة للحضارة الأصيلة الشاملة، فهو ليس كتابا روحانيا محضا يرتل للعبادة فحسب، بل هو نظام حياة كاملة فى جميع قطاعاتها المادية والروحية، إنه يدعو إلى العلم والعمل والتطور والنهوض، ويربى جيلا قوى العقيدة، مستقيم الفكر، صافى النفس، متين الخلق، جديرا بحياة كلها قوة ورخاء وازدهار.
ولأهمية القرآن وضرورته للحياة السعيدة جاءت النصوص الكثيرة مرِّغبة فى الإقبال عليه، محذرة من التجافى عنه. ففى مجال تعلمه وقراءته وتدبره ودراسته والتفقه فيه جاء قول النبى صلى الله عليه وسلم " إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله المتين، والنور المبين، والشفاء الناجع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوَّم، ولاتنقضى عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد. اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته، كل حرف عشر حسنات. أما إنى لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف، وميم حرف " رواه الحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود.
وقال عقبة بن عامر: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فى الصفة،فقال " أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق، فيأتى منه بناقتين كوماوين فى غير إثم ولا قطع رحم "؟ فقلنا: يا رسول الله كلنا يحب ذلك. قال " أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل، خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع وأعدادهن من الإبل " رواه مسلم. وفى الحديث الشريف " يا ألا ذر لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلِّى مائة ركعة " رواه ابن ماجه بإسناد حسن. وفيه أيضا "ومن سلك طريقا يبتغى به علما سهَّل الله به طريقا إلى الجنة " رواد مسلم "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع " رواه الترمذى وصححه.
وفى جانب تعليم القرآن ونشر هدايته جاءت نصوص كثيرة مرغِّبة فيه، منها قوله صلى الله عليه وسلم " بلِّغوا عنى ولو آية " رواه البخارى. وهو نفسه كان معلما ومرشدا كبقية الأنبياء والمرسلين.
وكفى بذلك شرفا. قال تعالى {يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا.وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} [الأحزاب: 45، 46] وجاء فى حديث أبى ذر "ولأن تغدو فتعلِّم بابا من العلم، عمل به أو لم يعمل، خير من أن تصلى ألف ركعة " رواه ابن ماجه وحسنه وجاء فى الاجتماع على طلب العلم وتعليمه " ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، غشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده " رواه مسلم. وجاء فى معلم الناس الخير بوجه عام قوله صلى الله عليه وسلم " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص من أجهدهم شيئا " رواه مسلم.
وبعد، فإننا نهيب بالمسلمين جميعا فى مشارق الأرض ومغاربها أن يعنوا بالقرآن الكريم تلاوة وحفظا وتدبرا ودراسة وتطبيقا وتنفيذا، فبالقرآن تستقيم الألسنة باللغة، وتقوى العقيدة بالإيمان، وتتسع المدارك بالثقافة، وتزكو النفوس بالأخلاق، ويقوى المجتمع بالعمل، وتنهض الأمة بالنظام.
عليهم أن يعنوا بالقرآن الكريم ليسدوا منافذ العدو إلى العقائد والأخلاق، ولتبطل محاولات الاستعمار فى الاعتداء على الأوطان، ولينهض المجتمع بما يدعو إليه من عمل على أساس العلم والإيمان.
لقد عنى به السلف الصالح فعزوا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. اقرءوا القرآن فإنه يأتى شفيعا لأصحابه يوم القيامة، ويقال لقارئ القرآن: اقرأ فارتق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها، علموه أولادكم حتى يلبسكم الله تاجا من نور يوم القيامة، كما وردت بذلك الأحاديث ولا تتخذوه مهجورا، بل طبقوا مبادئه تسعدوا فى دنياكم وأخراكم، قال تعالى {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 15، 16](8/264)
من صفات النبى صلى الله علية وسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنا قول النبى صلى الله عليه وسلم لست فاحشا ولا متفحشا؟
الجواب
النبى صلى الله عليه وسلم على أعلى درجة من الكمال فى فكره وسلوكه، وكذلك الأنبياء والمرسلون قد اصطف من خلقه ليكونوا دعاة لهم إلى الخير ومبلَّغين عن الله رسالته، وقد مدح الله سبحانه نبيه محمدا صلى الل {وإنك لعلى خلق عظيم} وقد دعا ربه بقوله: اللهم كما حسَّنت خَلقى فحسن خُلقى.
ومن أخلاقه الحسنة عفة اللسان ونزاهة القول وطهارته، وبخاصة فى مخاطبته للناس وتعامله معهم وذلك نابع من صفاء قلبه وامتلائه بالرحمة، وحسن ذوقه وأدبه، وقد التزم ذلك السلوك حتى مع أعدائه، وفى أحرج الأوقات، فلما شج وجهه فى غزوة أحد وشق على أصحابه ذلك وقالوا: لو دعوت عليهم، قال " لم أُبعث لعانا، ولكنى بعثت داعيا ورحمة، اللهم اغفر لقوس فإنهم لا يعلمون ".
وقد صح فى البخارى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا، وفى رواية: لم يكن سبابا ولا فاح والفحش هو كل ما خرج عن حده حتى يستقبح، وهو يدخل فى القول والعمل والصفة، لكن استعماله فى القول أكثر والمتفحش هو الذى يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه. واللعن هو الطرد من رحمة الله.
وقد حدث كما فى رواية البخارى أن رجلا استأذن عليه صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال " بئس أخو العشير ابن العشيرة، فلما جلس تطلق فى وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل سألت عائشة رسول الله صلى الله علي ذمه ثم الانبساط إليه، فقال " متى عهدتنى فحاشا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه ال وذلك الرجل هو عيينة بن حصن الفزارى الذى يطلق عليه الأحمق المطاع، ولم يكن قد أسلم، أو كان إسلامه ضع وتألفه بهذه المعاملة ليسلم قومه.
وهذا القول من النبى صلى الله عليه وسلم ليس غيبة، بل هو بيان لحقيقة الرجل حتى يعامل على أساسها، فهو للناس وإرشادهم إلى الخير، وفعله هذا يعد من باب المداراة فى معاملة الناس، وهى بذل الدنيا لصلاح الدين أو الدنيا، ولا شىء فى ذلك، بخلاف المداهنة وهى بذل الدين لصلاح الدنيا فهى مذمومة لأنها صفة المنافقين أو الكافرين(8/265)
معجزات فى الهجرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إن الله أعمى أبصار المشركين الواقفين حول بيت النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة حتى خرج من بينهم نسجت عل الغار فلم يستطيعوا رؤيته؟ فهل هذا صحيح؟
الجواب
من الثابت المقرر أن الله سبحانه وتعالى نجَّى رسوله صلى الله عليه وسلم من كيد المشركين الذين صمموا نفيه من مكة كما قال تعالى {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك، أى يحبسوك، أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30] والمراد بالمكر المنسوب إلى وعبر به مشاكلة لما هو عند الكافرين.
ومن هذا التدبير المحكم أنه خرج سليما من وسط الملتفين حول بيته ليلة الهجرة كما أجمعت على ذلك كتب السيرة، وكذلك لم يمكنهم الله من رؤيته وهو فى الغار كما نص على ذلك القرآن الكريم {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] .
لكن هل نجاته من المتربصين له حول بيته كانت بذكاء النبى صلى الله عليه وسلم والتماسه مخرجا من وراء اأو كان بِذَرِّ التراب على رء وسهم فأعمى الله عيونهم عنه؟ الأمران محتملان، والتماسه مخرجا خلفيا من بالأسباب، وربما لم يجد هذا المخرج الآمن، فتداركه الله بعنايته وأخرجه من بينهم سليما، والله قادر ع القائل " والله يعصمك من الناس " ورواية نثر الحصا على رءوسهم أقوى من رواية صعوده على الحائط من الجهة فقد أثبتها ابن إسحاق ورواها ابن أبى حاتم وصححها الحاكم. والأمر كما قلنا ممكن ولم يرد ما ينفيه.
ونسج العنكبوت والشجرة والحمامتان عند الغار وردت فى مسند البزار وفى مسند أحمد، وبصرف النظر عن صحة الروايتين أو ضعفهما فإن ذلك ممكن وليس بمستحيل على قدرة الله، والمهم أن الله صرف أبصار المشركين عنه سواء أكان بواسطة أو غير واسطة، وكم لله من معجزات وخوارق عادات أكرم بها أنبياءه والمصطفين من عباده، ولا داعى للإنكار على من يصدق ما نقلته كتب السنة والسيرة، فليس فيه مساس بكرامة النبى صلى الله عليه وسلم، كما أن الذين ينفون ذلك لا خوف على إيمانهم، والمهم أن نت الرسول من هداية(8/266)
الرسول والصدقة والهدية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، فهل هذا صحيح وما الفرق بينهما؟
الجواب
الصدقة مال ونحوه يملَّك لمحتاج دون مقابل مشروط تدفع إليه الرحمة والشفقة، ويقصد بها أول ما يقصد ثواب الله تعالى والهبة أو الهدية مال ونحوه يملك دون مقابل مشروط فى بعض الأحيان، ولكن لغير محتاج ولا يقصد منه ثواب الله بقدر ما يقصد منه التكريم، ولا تدفع إليه الرحمة والشفقة بقدر ما تدفع إليه المودة والمحبة.
وقد قال العلماء: إن كانت الهدية إلى صغير فلا ينتظر لها مقابل، ولا يجب على المهدى إليه شىء، وإن كانت إلى كبير فالغالب قصد المقابل، والمكافأة عليها واجبة، وإن كانت إلى نظير مماثل كان فيها احتمال للمقابل وللمكافأة عليها. وإن كانت هذه المكافأة مطلوبة فى جميع الحالات ولو بالثناء والشكر، ففى حديث أبى داود والنسائى وغيرهما "من أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ".
والهدية مشروعة بل مستحبة إن لم تكن لغرض غير مشروع، وذلك لحديث البيهقى بإسناد حسن "تهادوا تحابوا" حتى لو كانت بين المسلم وغيره، كما قبل النبى هدية المقوقس وأهدى بعض الكفار ويسن قبولها حتى لو كانت بسيطة، ففى حديث البخارى "لو أهدى إلىَّ كراع أو ذراع لقبلت " فكان يقبل الهدية ويثيب عليها كما رواه البخارى.
أما الصدقة فلم يكن يقبلها لأنها أوساخ الناس ويصحبها فى الغالب ذلة ومهانة ومنة. فكان إذا أتى إليه بطعام من غير أهله سأل عنه، فإن كان صدقة قال لأصحابه كلوا ولم يأكل، وإن كان هدية أكل معهم،وقد يكون الطعام فى أوله صدقة فيحرم عليه أكله ثم يصير هدية فيحل له أن يأكله، ثبت فى البخارى ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم تصدق بشاة على نُسيبة أم عطية الأنصارية فأهدت إلى السيدة عائشة رضى الله عنها منها شيئا، ولما سألها الغداء قالت ما عندنا إلا شىء مما تصدقت به أنت على نسيبة، فقال "إنها بلغت محلَّها " أى زال عنها حكم الحرمة وصارت حلالا بالهدية، كما ثبت فيهما أيضا مثل ذلك فى طعام تصدق به على بريرة ثم أعطت منه عائشة فأكل منه النبى صلى الله عليه وسلم وقال "هو عليها صدقة ولنا هدية".
قال العلماء: المعنى أن الصدقة إذا أخذها الإنسان صارت ملكا له يتصرف فيها بالبيع والهبة وغيرها فيزول عنها وصف الصدقة، والتحريم على الصفة لا على العين، وقال الأبى فى شرح مسلم، كون الصدقة أوساخ الناس ليس وصفا ذاتيا بل هو وصف حكمى، جعل بالشرع وزال بالشرع(8/267)
خصوصيات النبى صلى الله عليه وسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كثيرا ما نقرا فى الكتب عن حكم من الأحكام فيقال إنه من خصوصيات النبى صلى الله عليه وسلم فلماذا كانت هذه الخصوصيات، وهل يمكن أن تعرف؟
الجواب
الخصوصيات لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك لسائر الأنبياء أمر تقتضيه طبيعة مهمتهم، فالقادة والزعماء والحكام فى كل مجتمع وفى كل عصر لهم مميزات ليست فى غيرهم، وهذه المميزات ليست كلها تيسيرا أو زيادة فى التمتع بطيبات الحياة، بل منها ما هو شديد يفرض سلوكا معينا فيه معاناة نفسية فى مقابل التكريم والتشريف الذى رفع الله به منازلهم على غيرهم من عامة الناس، فالشىء الغالى والثمين يبذل فى الحصول عليه اكبر مما يبذل فى غيره، فمن طلب الحسناء لم يُغله المهر، ولابد دون الشهد من إبر النحل، ويكفى فى الاستدلال على ذلك قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة،يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون} التوبة: 111، وقول النبى صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها:
" أفلا أكون عبدا شكورا"عندما وجدته يقوم الليل حتى تورمت قدماه مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه البخارى ومسلم.
ومعرفة خصوصيات النبى صلى الله عليه وسلم قال بعض العلماء لا فائدة فيها"الزرقانى على المواهب ج 5ص 1206 " لكن النووى قال: إن معرفتها جائزة بل مستحبة بل قد تكون واجبة، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتا فى الحديث الصحيح فعمل به أخذًا بأصل التأسى والاقتداء، فوجب بيانها لتعرف فلا يعمل بها وقد تكون هناك خصائص لا حاجة لمعرفتها فى السلوك ولكن مجرد المعرفة لا يخلو من فائدة.
وقد وردت أحاديث كثيرة نص فيها على بعض الخصوصيات.
وهى كثيرة حاول بعض المؤلفين حصرها كابن سبع والنووى وابن الملقن وغيرهم وقام القسطلانى فى المواهب بجعلها فى مجموعات أربعة: الأولى فى الواجبات والثانية فى المحرمات والثالثة فى المباحات والرابعة فى الفضائل والكرامات.
فمن الواجبات التى تتناسب مع قدرته لم يعظم بها أجره والتى اختلف فى وجوبها بعض العلماء، صلاة الضحى والوتر وركعتى الفجر وصلاه الليل والسواك والأضحية والمشاورة ومصابرة العدو وتغير المنكر فى كل الأحوال، وقضاء الدين عمن مات مسلما معسرا، وتخيير نسائه فى فراقه أو البقاء معه، وإمساكهن بعد اختيارهن له وعدم التبدل بهن مكافأة لهن.
ومما اختص به من المحرمات: تحريم الزكاة والصدقة عليه، وتحريم أكل ما له رائحة كريهة كالثوم والبصل لتوقع مجئ الملائكة والوحى له، وتحريم الكتابة والشعر أى التوصل إليهما، وتحريم نزع لأْمته - عدة الحرب - إذا لبسها حتى يقاتل، والمن ليستكثر أى إعطاء شىء طالبا أكثر منه، ومد الأعين لما متَّع الله به الناس، ونكاح من لم تهاجر إلى المدينة، وتحريم إمساك من كرهته، ونكاح الكتابية لأن زوجاته أمهات المؤمنين وزوجات له فى الآخرة ومعه فى درجته فى الجنة، وكذلك نكاح الأمة المسلمة بخلاف التسرى بها فهو حلال.
ومما اختص به من المباحات وإن لم يفعل أكثرها: عدم نقض وضوئه بالنوم، وعدم نقضه بلمس المرأة الأجنبية على الأصح، وإباحة الصلاة بعد العصر، والصلاة على الميت الغائب عند بعض الأئمة، وتقبيل زوجاته فى الصيام، وجواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها كما فى قصة أم حرام بنت ملحان، ونكاح أكثر من أربع نسوة، والنكاح بلفظ الهبة من جهة المرأة، والنكاح فى حال الإحرام، والنكاح بلا ولى ولا شهود كنكاحه لزينب بنت جحش -والقتال بمكة ودخولها من غير إحرام، والقضاء بعلمه دون حاجة إلى شهود.
وأما ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات فكثير جدًّا لا يتسع لبعضه المقام ويمكن الاطلاع على المواهب اللدنية للقسطلانى مع شرح الزرقانى "ج 5ص 242 " لتعرف الأدلة على الخصوصيات كلها وما كان منها محل اتفاق وما كان محل اختلاف(8/268)
حديث: كما تكونوا يولَّ عليكم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال "كما تكونوا يولَّ عليكم " وما معناه؟
الجواب
هذا الحديث رواه الديلمى فى مسند الفردوس عن أبى بكرة، ورواه البيهقى عن أبى إسحاق السبيعى مرسلا-أى سقط منه الصحابى - وهو حديث ضعيف، والمضى الذى يفهم منه أن الناس إذا كانوا صالحين جعل الله عليهم أميرا صالحا، وإذا كانوا فاسدين جعل أميرهم فاسدا، وإذا كان الأمير أو الوالى منتخبا منهم ليس متسلطا ولا غريبا عنهم فإن كانوا صالحين اختاروه من الصالحين، وإن كانوا فاسدين اختاروه من الفاسدين.
فالمعنى الأول تكون التولية من الله إما نعمة للصالحين وإما نقمة للعاصين المفسدين، والمعنى الثانى تكون التولية بالاختيار منهم، والصالح يختار الصالح، والفاسد يختار الفاسد، والطيور على أشكالها تقع، ومن هنا تكون التبعة جسيمة على الشعب أو الجماعة التى تنتخب من يرشح للولاية عليها، فإن قدروا فيه القيم الدينية والسلوك السوى واختاروه لذلك كان خيرا وبركة عليهم، وإن قدروا فيه القرابة أو الوجاهة أو غير ذلك من الاعتبارات دون اهتمام بعامل الدين والخلق كان نكبة عليهم، ولا يجوز لهم الشكوى منه فهم سبب الشكوى والله يقول {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرة} الشورى: 30.
هذا، والحديث روى بهذا اللفظ وفيه حذف النون من "تكونوا" وحذف الألف من "يول " علامة الجزم، لتضمين "كما" معنى "حيثما أو معنى إن " وهما من الأدوات التى تجزم فعلين، وقيل غير ذلك، ولا داعى للتطويل فى الإعراب فالحديث ضعيف السند(8/269)
عرض الحديث على القرآن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: لا نأخذ أحكام الدين إلا من القرآن، وإذا كانت هناك أحاديث نبوية فلا نأخذ بها إلا إذا كانت موافقة للقرآن، ولابد من عرضها عليه فما مدى صحة هذا القول؟
الجواب
الاعتماد فى التشريع على السنة النبوية مأمور به كالاعتماد على القرآن والنصوص فى ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} النساء: 59، وقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر: 7، وقوله صلى الله عليه وسلم "فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين "رواه أبو داود وابن ماجه وابن حيان والترمذى وقال: حسن صحيح. وغير ذلك من الأدلة كثير يمكن الرجوع إليه فى الجزء الأول من كتاب "بيان للناس من الأزهر الشريف " ص 67.
ومن الشبه التى أخذ بها من يرفضون أخذ الأحكام من الأحاديث النبوية ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إذا جاءكم عنى حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق فخذوه وما خالف فاتركوه " وقد بين أئمة الحديث أن هذا الحديث موضوع ومختلق على النبى صلى الله عليه وسلم والقرآن نفسه يكذب هذا الحديث، فلو عرضناه على القرآن لوجدنا فيه ما يعارضه ويكذبه وهو قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فالدعوى لَحمل معها دليل بطلانها، وقد وضح بطلان هذا الحديث البيهقى فى كتابه ""حرفة السنن والآثار"ج 1 ص 23 [انظر مجلة الأزهر عدد شعبان 1415] وقد ألهم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن قوما سيأتون لا يعتمدون إلا على القرآن ويرفضون الأخذ بما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم ولذلك قال عليه الصلاة والسلام "ألا إنى أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلُّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه، ألا، لا يحل لكم الحمار الأهلى ولا كل ذى ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فعليه أن يعقبهم بمثل قراه " رواه أبو داود، فقد وضح الرسول فى الحديث أن تحريم الأشياء المذكورة ليس فى القرآن،. وهو تشريع واجب أن يعتمد عليه، والقرى هو الضيافة.
هذا، وفى" مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة للسيوطى ص 30". عن الحديث الوارد فى السؤال - أن الشافعى ذكر أن هذه الرواية منقطعة عن رجل مجهول. قال البيهقى:
أشار الشافعى إلى ما رواه خالد بن أبى كريمة عن أبى جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى، فصعد المنبر وخطب وقال " إن الحديث سيفشو عنى، وما أتاكم يخالف القرآن فليس منى " قال البيهقى:
خالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابى، فالحديث منقطع.
ثم ذكر البيهقى روايات أخرى لهذا الحديث، وكلها مطعون فيها(8/270)
الرسول ورقة حاله
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يطوى الأيام جوعا، فكيف ذلك مع ما ثبت من وفرة الخير عنده وادخاره لما يكفى سنة؟
الجواب
النصوص كثيرة فى رقة حال النبى صلى الله عليه وسلم " واكتفائه من العيش بالضرورى منه، فمما رواه البخارى وغيره عن عائشة رضى الله عنها قولها: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام بُر ثلاث ليال تباعا حتى قُبض، وما أكل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين فى يوم إلا إحداهما تمر، وقولها: كان يأتى علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء إلا أن نؤتى باللُّحيم. وقولها: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة فى شهرين وما أوقدت فى أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قيل لها:
ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا انه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح - حيوانات ذات لبن - وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه، وقولها: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم -جلد-وحشوه ليف.
ذلك فى الوقت الذى ثبت فيه أنه ادخر لأهله قوت سنة، وقسم بين أربعة أشخاص ألف بعير مما أفاء الله عليه، وساق فى عمرته مائة بدنة، نحرها وأطعمها المساكين. وأمر لأعرابى بقطيع من الغنم، وأن بعض أصحابه كانوا أغنياء بذلوا أنفسهم وأموالهم بين يديه فعندما أمر بالصدقة جاء أبو بكر بجميع ماله وجاء عمر بنصفه، وجهز عثمان جيش العسرة بألف بعير.
فكيف نوفَق بين رِقة حاله وبين ما أتيح له من نعيم، وكذلك الحال مع أصحابه؟ والجواب: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار لنفسه العيش الكفاف مع إمكان أن يعيش أفضل وذلك ليضرب المثل لأمته حتى لا يعتنوا بالدنيا وبخاصة ما وقع فى قلبه أن الله سيفتح عليهم أبواب الغنى، فهو يعدهم لعدم الفتنة، وقد صح أنه قال "فوالله ما الفقر أخشى عليكم: ولكنى أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " وهو صلى الله عليه وسلم كانت له بعض الأحوال يأخذ فيها حظه من متعة الحياة، ولكن ليس بصفة دائمة، للمعنى الذى ذكرته، وكان أصحابه المهاجرون فى أول أيامهم فى أشد الحاجة إلى ما يقيم أودهم، فقد تركوا أموالهم فى مكة وقاسمهم إخوانهم الأنصار أموالهم، ثم بعد ذلك أفاء الله عليهم من نعمه الكثيرة بالفئ والغنيمة.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار رقة الحال مع إمكان حصول التوسع والتبسط فى الدنيا له: ففى حديث رواه الترمذى " عرض علىَّ ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يارب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإنا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت شكرتك ".
فالخلاصة أن الرسول وأصحابه كانوا فى حاجة عند الهجرة فاضطروا إلى العيش المتواضع، ولما فتح الله عليهم تمتعوا بنعمة الله وكان منهم الأغنياء، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان كذلك لكنه كان يؤثر رقة العيش عند توفر الإمكانات ليضرب المثل لأصحابه وبخاصة عندما يفتح الله عليهم كنوز الخيرات، ذلك إلى أن القناعة بالقليل مع وجود الكثير فيها تمرين للنفس على مواجهة الاحتمالات، فليست الحياة كلها رخاء وليست الأيام كلها راحة، وفى تشريع الصيام ما يؤكد الحاجة إلى هذا التمرين العملى(8/271)
حديث: الطائفة التى على حق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأنا فى بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين عل الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله، فمن كل هذه الطائفة؟
الجواب
هذا الحديث رواه البخارى وعنون له بما يفيد أن هذه الطائفة هى أهل العلم، وذكر بعد هذا الحديث حديثا يقول "من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين، وإنما أنا قاسم ويعطى الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتى أمر الله ".
فالعلماء هم الطائفة الظاهرة على الحق، وفى بعض الأقوال أنهم أهل الحديث خاصة، والحق أنهم العلماء بالدين عامة. ومعنى ظهورهم أنهم غالبون، ويؤيده حديث رواه مسلم "لن يبرح هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة " وفى رواية له " لا تزال عصابة من أمتى يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة".
وإذا صح الحديث بأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، فإن الله يبعث ريحا كريح المسك، لا تترك نفسا فى قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة، وقيل: إن شرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة يكونون بموضع مخصوص. وأن موضعا آخر يكون به طائفة يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالفهم.
وقال النووى: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدّث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين فى بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم فى قطر واحد وافتراقهم فى أقطار الأرض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا، إلى ألا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله. "فتح البارى ج13 ص 306 - 308"(8/272)
حديث: عمر الدنيا سبعة آلاف سنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "الدنيا سبعة آلاف سنة، وأنا بعثت فى نصف السادس منها"؟
الجواب
روى البخارى وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "بُعثت أنا والساعة كهاتين " وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى. والمراد بذلك قرب الساعة وأنه لا نبى بعده ولا منافاة بينه وبين الحديث الآخر "ما المسئول عنها بأعلم من السائل) لأن الحديث الأول يعنى أنه ليس بينه وبين الساعة نبى، كما أنه ليس بين السبابة والوسطى إصبع أخرى، ولا يلزم من ذلك علم وقتها بعينه، ولكن سياقه يفيد قربها وأن أشراطها متتابعة، وبعثة النبى صلى الله عليه وسلم نفسها أول أشراطها.
قال عياض: حاول بعضهم فى تأويله أن نسبة ما بين الإصبعين كنسبة ما بقى من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى وأن جملتها سبعة آلاف سنة، واستند إلى أخبار لا تصح، وذكر ما أخرجه أبو داود فى تأخير هذه الأمة نصف يوم وفسره بخمسمائة سنة، فيؤخذ من ذلك أن الذى بقى نصف سبع، وهو قريب مما بين السبابة والوسطى فى الطول قال: وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه ومجاوزة هذا المقدار، ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه. يقول ابن حجر: وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد عياض إلى هذا الحين ثلثمائة سنة. وقال إن ابن جرير الطبرى أورد فى مقدمة تاريخه عن ابن عباس أن الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وقد مض ستة آلاف ومائة سنة وأورده من طريق يحبى بن يعقوب الذى قال عنه البخارى: منكر الحديث.
وفى الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا لاما أجلكم فى أجل من كان قبلكم إلا من صلاة العصر إلى مغرب الشمس " وفسر بأن مدة هذه الأمة قدر خمس النهار تقريبا. والطبرى ارتض أن الدنيا سبعة آلاف سنة، وأيده السهيلى بحديث عن ابن زمل، "الدنيا سبعة آلاف سنة بُعثت فى آخرها" لكن هذا الحديث ضعيف جدا، وإسناده مجهول. وأورده ابن الجوزى فى الموضوعات وقال ابن الأثير: ألفاظه مصنوعة.
إن قول النبى صلى الله عليه وسلم "بُعثت أنا والساعة كهاتين " ليس فيه ما يقطع بصحة هذا التحديد بل غايته بيان قرب الساعة، وليس بينها وبين النبى نبى آخر، وحاول جماعة أن يحددوا موعد القيامة أو عمر الدنيا عن طريق الحروف المقطَّعة أوائل السور فتضاربت أقوالهم. وكلها ظنون والظن لا يغنى من الحق شيئا، فلنكل علم ذلك إلى الله سبحانه، ولنستعد للقائه بالعمل الصالح، ولنوفر جهدنا لنبحث عما يحل مشكلاتنا الضاغطة. وما أكثرها فى هذه الأيام التى كثرت فيها النذر بقرب قيام الساعة، انظر " فتح البارى لابن حجر ج 11 ص 355- 359" لترى صورة الجدال الذى شغل به الأولون. وأنظر " الروض الأنف للسهيلى ج 2 ص 36 "(8/273)
المؤمن مصيره الجنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك نص يقول: إن المؤمن العاصى سيكون مصيره الجنة؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن أبى ذر رضى الله عنه قال: أتيت النبى صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقط فقال " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال " وإن زنى وإن سرق " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال " وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبى ذر " فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبى ذر.
وفى رواية للبخارى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " أتانى جبريل فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت وإن زنى وإن سرق ".
يؤخذ من هذا أن الإنسان ما دام مؤمنا ومات على إيمانه سيدخل الجنة، فإن كانت عليه ذنوب ومات ولم يتب منها فقد يغفر الله له إن شاء، وقد يغفر له بشفاعة من تقبل شفاعته وقد يعذبه فى النار بمقدار عصيانه وفى النهاية يخرج منها ولا يخلد فيها، أى ينتهى مصيره إلى الجنة، قال تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 148.
وروى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله " أى حرم خلوده فيها.
أما الأحاديث التى تنفى الإيمان عن الزانى والسارق ومرتكبى المعاصى فيراد بها نفى الإيمان الكامل، وليس نفى الإيمان أصلا، مثل " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن " فالمعصية لا تنفى الإيمان، ولا تخرج العاصى إلى الكفر كما يقول الخوارج، اللهم إلا إذا اعتقد أن المعصية حلال، أى ارتكب الزنى مثلا على أنه حلال غير حرام فهنا يكون كافرا، وينطبق عليه ظاهر الحديث وإطلاقه دون تقييد(8/274)
الدابة من علامات الساعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الدابة التى جاء فيها {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} النمل: 82؟
الجواب
أولا: اختلف المفسرون فى معنى " وقع القول عليهم " فقيل معناه وجب غضب الله، أو حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون، أو سخط الله عليهم بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن. وقيل غير ذلك، ويجمعها البعد عن الدين بدليل آخر الآية.
جاء فى صحيح مسلم قول النبى صلى الله عليه وسلم " ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا - طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ".
وثانيا: فى تعيين الدابة خلاف أيضا، فقيل: إنها فصيل ناقة صالح - ويقول القرطبى: هو أصح الأقوال، وساق حديثا طويلا فى ذلك، وقيل: إنها الجساسة وهى دابة طولها ستون ذراعا، وعلى خلقة الآدميين، وقيل: جمعت من خلق كل حيوان، وقيل غير ذلك.
وخروجها مختلف فى مكانه أيضا، فقيل: تخرج من جبل الصفا بمكة، وقيل: تخرج ثلاث مرات: فى بعض البوادى ثم فى القرى ثم من أعظم المساجد، وقيل: من مسجد الكوفة حيث فار تنُّور نوح، وقيل من الطائف، وقيل غير ذلك.
أما كونها إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر فقول مردود كما قال القرطبى. والدابة تسم الناس على خراطيمهم أى أنوفهم، وتكلمهم ببطلان الأديان غير الإسلام وبالرد على من كان يزعم عدم خروجها لأنها من آيات الله.
وكل ذلك قرب قيام الساعة، وفى كتب التفسير كلام كثير يكفى منه هذا القدر(8/275)
ما يخرج من الميت قبل الصلاة عليه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن الميت بعد الانتهاء من غسله وتكفينه يخرج منه شىء مما ينقض الوضوء قبل الصلاة عليه، فهل نعيد غسله أو نغسل موضع النجاسة فقط؟
الجواب
جاء فى فقه المذاهب الأربعة - نشر وزارة الأوقاف المصرية - ما نصه:
إذا خرج من الميت بعد غسله نجاسة علقت ببدنه أو بكفنه فإنها تجب إزالتها، ولا يعاد الغسل مرة أخرى.
وجاء فيه أن الحنفية قالوا: النجاسة الخارجة من الميت لا تضر، سواء أصابت بدنه أو كفنه، إلا أنها تغسل قبل التكفين تنظيفا لا شرطا فى صحة الصلاة عليه، أما بعد التكفين فإنها لا تغسل، لأن فى غسلها مشقة وحرجا، بخلاف النجاسة الطارئة عليه كأن كفن بنجس فإنها تمنع من صحة الصلاة عليه.
والحنابلة قالوا: إذا خرج من الميت نجاسة بعد غسله وجبت إزالتها وإعادة غسله إلى سبع مرات، فإن خرج شىء بعد السبع وجب غسل الخارج فقط ولا يعاد الغسل، هذا إذا كان خروج النجاسة قبل وضعه فى الكفن، أما بعده فلا ينتقض الغسل ولا يعاد.
هذه هى الآراء، وللإنسان أن يختار ما يشاء(8/276)
الصلاة على المنتحر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الصلاة على المنتحر؟
الجواب
صلاة الجنازة فرض كفاية على كل من مات مسلما حتى لو كان عاصيا، ولا تجوز على الكافر ولا على المرتد، ومن الردة استحلال ما حرمه الله تحريما قاطعا، والانتحار محرم قطعا، بالقرآن والسنة، قال تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} النساء: 29، وبيَّن النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح أن من قتل نفسه بحديدة أو سمٍّ أو إلقاء من مكان عال فهو يعذب فى النار خالدا فيها أبدا على الطريقة التى قتل بها نفسه.
وإذا علمنا من المنتحر بكلامه أو بورقة مكتوبة بخطه مثلا أنه يستحل الانتحار كان مرتدا، ولا يصلى عليه ولا يدفن فى مقابر المسلمين.
وإن لم نعلم فنحمل أمره على الظاهر وهو الإسلام، ونصلى عليه وندفنه فى مقابر المسلين.
والحديث المذكور محمول على من استحل الانتحار، فهو مخلد فى النار، أو محمول على التغليظ والتنفير كما جاء فيمن قتل مؤمنا متعمدا {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاب عظيما} النساء: 93، ومما يدل على أن المنتحر الذى لم يستحل الانتحار مؤمن وإن كان عاصيا ما رواه مسلم أن رجلا هاجر إلى المدينة فمرض لعدم ملاءمة جوها له فجزع فقطع مفاصل أصابعه فسال دمه بقوة ومات، فراه الطفيل الدوسى فى المنام فى هيئة حسنة مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ قال: غفر لى بهجرتى إلى نبيه، فقال: ما لى أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لى لن نصلح منك ما أفسدت، فقصَّ الرؤيا على الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا له وقال " اللهم وَلِيَدَيْه فاغفر ".
يقول النووى فى التعليق على هذا الحديث: فيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار، بل هو فى حكم المشيئة، أى فى حكم قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48.
يؤخذ من هذا أن المنتحر الذى لم يعلم استحلاله للانتحار مؤمن، فيصلى عليه صلاة الجنازة.
لكن ورد نص يمنع الصلاة عليه، ففى مسلم عن جابر بن سمرة قال:
أُتِىَ النبى صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص - سهام عريضة -فلم يصل عليه، قال العلماء: هذا الحديث محمول على التنفير من الانتحار، كعدم صلاته الجنازة على من عليه دين، وقد صلت الصحابة على المدين بأمر النبى صلى الله عليه وسلم، وذلك للتنفير من الدين وليس لأنه كافر، وتكره عند مالك الصلاة على المرجوم بحد، والفساق، وذلك زجرًا لهم " صحيح مسلم -شرح النووى ج 7 ص 47 "(8/277)
الكتابة على القبر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعضى المقابر مكتوبا عليها آيات قرآنية وأسماء من بنوها، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
روى الترمذى وصححه عن جابر رضى الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ، أى تداس. وفى لفظ النسائى: أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه.
الظاهر من هذا الحديث النهى عن الكتابة على القبور. دون تفرقة بين كتابة اسم الميت وكتابة غيره.
قال الحاكم: مع صحة الحديث فالعمل ليس عليه، فإن أئمة المسلمين من الشرق والغرب يكتبون على قبورهم، وهو شىء أخذه الخلف عن السلف. لكن الذهبى قال: إن هذا شىء محدث ولم يبلغهم النهى.
ورأى المذاهب الفقهية فى ذلك على ما يأتى:
أ - قال الحنفية: يكره تحريما كتابه أى شىء على القبر، إلا إذا خيف ذهاب أثره فلا يكره.
2 - وقال المالكية: إن كانت الكتابة قرآنا حرمت، وإن كانت لبيان اسم المتوفى أو تاريخ موته فهى مكروهة.
3-وقال الشافعية: إن النهى عن الكتابة للكراهة، سواء أكانت قرآنا أم كانت اسم الميت، لكن إذا كان القبر لعالم أو صالح ندب كتابة اسمه عليه وما يميز ليعرف.
4 -والحنابلة قالت: إن النهى عن الكتابة للكراهة، سواء كانت قرآنا أم غير ذلك، دون تفرقة بين قبر عالم أو صالح وقبر غيره.
وابن حزم، يرى أن نقش اسم الميت على القبر لا كراهة فيه، وكل ذلك يعتمد فيه إلى حد كبير على النية الباعثة للكتابة، فإن كانت لمجرد التعرف على صاحب القبر فلا بأس بذلك مطلقا.
فقد روى ابن ماجه عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم وضع صخرة على قبر عثمان بن مظعون وجاء فى رواية أبى داود أنه قال: " أتعلَّم بها قبر أخى، وأدفن إليه من مات من أهلى " وإن كانت الكتابة للفخر والمباهاة فهى مذمومة قطعا(8/278)
وضع الجريد على القبر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى كثيرا من زوار القبور يضعون عليها الزهور والجريد، فهل هذا مشروع؟
الجواب
روى البخارى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: " إنهما ليعذبان، وما يعذبان فى كبير، أما هذا فكان لا يستنزه من البول، وأما هذا فكان يمشى بين الناس بالنميمة) ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ". العسيب - الجريدة التى لم ينبت فيها خوص، فإن نبت فهى السعفة.
وفى حديث مسلم عن جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم أمره أن يقطع غصنين من شجرتين كان النبى صلى الله عليه وسلم يستتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمره أن يلقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبى صلى الله عليه وسلم جالسا ولما سأله عن ذلك قال: (انى مررت بقبرين يعذبان فاحببت بشفاعتى أن يرفعه عنهما ما دام الغصنان رطبين) " شرح النووى ج 18 ص 4 " وهناك قصة ثالثة رواها ابن حبان فى صحيحه عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقبر فوقف عليه فقال: (ايتونى بجريدتين) فجعل أحداهما عند رأسه، والآخرى عند رجليه.
وأكثر من قصة وردت فى وضع الجريد على القبر، والعلماء فى مشروعيته فريقان، فريق يقول: إنه خاص بالنبى صلى الله عليه وسلم وليس مشروعا لغيره، وفريق يقول: إنه عام لكل المسلمين فالخطابى فى شرح سنن أبى داود "ج اص 42 " يستنكر وضع الجريد على القبر لغير النبى صلى الله عليه وسلم، والطرطوشى يعلم ذلك بأنه خاص ببركة يده عليه الصلاة والسلام، ويد غيره لا يجزم ببركتها، وابن رشيد يستنتج أن البخارى مع هذا الفريق، وذلك حيث عقب الحديث بقول ابن عمر: إنما يظله عمله. وذلك فى فسطاط - بيت من الشعر أو غيره -وضع على قبر عبد الرحمن بن أبى بكر، حيث قال:
انزعه يا غلام فإنما يظله عمله، والقاضى عياض ينضم إلى هذا الفريق ويقول: إن غرزهما على القبر سببه أمر مغيب. وهو قوله (ليعذبان) ، وليس هنالك من الناس من يعلم الغيب، كما أن بعض العلماء من هذا الفريق قال: لم يثبت أن أحدا من الصحابة فعل ذلك إلا بريدة بن الخصيب الأشلمى، ولو كان جائزا ما تركوه وتفرد به واحد منهم.
والفريق المجيز لوضع الجريد على القبر لعامة المسلمين قال: لم يرد ما يدل على خصوصية النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، فيبقى فعله عاما له ولأمته على التأسى به فيما لا يخص به، كما أنه لم يرد ما يدل على أن الصحابة اعترضوا على ابن الخصيب الذى أوصى أن يوضع على قبره جريدتان، بل روى الأكثرون أنه أوصى أن يوضع فى قبره لا على قبره، وقد فعل هو ذلك تأسيا بالنبى صلى الله عليه وسلم.
وعدم نقل أن الصحابة وضعوا الجريد على القبور، لعله لعدم علمهم بأن صاحب القبر يعذب، أو رجاء صلاحه واستغنائه عن ذلك.
وابن حجر رد على تعليل القاضى عياض غرز الجريد بأن العذاب مغيب لا يعلمه إلا النبى صلى الله عليه وسلم، فقال لا يلزم من كوننا لا نعلم: أيعذب أم لا، إلا نتسبب له فى أمر يخفف عنه العذاب أن لو عذب، كما لا يمنع كوننا لا ندرى: أَرُحِمَ أم لا، ألا ندعو له بالرحمة، وليس فى السياق ما يقطع على أنه - النبى- باشر الوضع بيده الكريمة، بل يحتمل أن يكون أمر به، وقد تأسى بريدة بذلك وهو أولى أن يتبع من غيره. " فتح البارى لابن حجر-ج 1 ص 33، ج 2 ص 66 4 ". والحكمة فى تخفيف العذاب ما دامت الرطوبة فى الغصن قيل: أنها غير معلومة كالحكمة فى كون عدد الزبانية تسعة عشر، وقيل:
إن الغصن يسبح ما دام رطبا فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فهو مطرد فى كل ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها، وقال الخطابى: انتفاع الميت بالجريدة محمول على أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا لصاحبى القبرين بالتخفيف مدة بقاء النداوة، لا أن فى الجريدة معنى يخصه، ولا أن فى الرطب معنى ليس فى اليابس.
هذه هى المسألة بين المجيزين والمانعين، وأرى أنه ليس فيها ما يدل على المنع، وما دام هناك إيمان بأن النافع والضار هو الله وحده، وأن ما نقدمه للميت من دعاء وصدقة وغيرهما هو من باب الأسباب التى تستمطر رحمة الله سبحانه، فلا داعى للإنكار، والله أعلم(8/279)
التاريخ وذكر مساوئ الموتى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " اذكروا محاسن موتاكم " فلماذا يدرس التاريخ وفيه كشف لمساوئ السابقين؟
الجواب
روى البخارى وغيره عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ".
وروى أحمد والنسائى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا " وروى البخارى ومسلم أن جنازة مرت على النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأثنوا عليها خيرا فقال " وجبت " ثم مرت جنازة أخرى فقالو عنها شرا فقال " وجبت " ولما سألوه عن معنى ما قال قال " ما أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن قلتم عنه شرا وجبت له النار، أنتم شهداء الله فى الأرض ".
ومن المشاهد أنه عندما يموت إنسان له شأن فى الدنيا يتحدث الناس عنه إما بالخير وإما بالشر، والحديث بالخير إشادة بذكره وتكريم له، وتعزية لأهله أن الناس راضون عنه، والحديث بالشر تشويه لسمعته وإهانة له، وزيادة ألم على أهله، وقد يقصد به التشفى الذى يورث الأحقاد التى ربما تؤدى إلى نزاع يحتدم ويشتد وتكون له آثاره السيئة.
والحديث عن الميت لا أثر له عند الله سبحانه فهو العليم بما - يستحقه من تكريم أو إهانة، وقد يكون حديث الناس عنه دليلا ولو ظنيا على منزلته عند ربه، لكن ذلك لا يكون إلا من أناس على طراز معين من الصلاح والإنصاف والتقوى وقول الحق لوجه الحق كالصحابة الذين قال النبى فيهم " أنتم شهداء الله فى الأرض ".
ومع ذلك نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يذكر الأموات بالسوء إذا كان ذلك للتشفى من أهله، فذلك يغيظهم ويؤذيهم، والإسلام ينهى عن الإيذاء لغير ذنب جناه الإنسان، ولا يؤثر على منزلته عند الله الذى يحاسبه على عمله. وقد قال صلى الله عليه وسلم فى قتلى بدر من المشركين " لا تسبوا هؤلاء فإنه لا يخلص إليهم شىء مما تقولون، وتؤذون الأحياء " وعندما سب رجل أبًا للعباس كان فى الجاهلية كادت تقوم فتنة، فنهى عن ذلك.
ودراسة التاريخ إن كانت لغرض الاعتبار والإقتداء بالصالحين - وللتحذير من تقليد غير الصالحين، دون قصد للتشهير والتعيير الذى - يظهر أثره على ذويهم من الأحياء فلا مانع منها أبدا، بدليل أن الله سبحانه قص علينا فى القرآن الكريم أخبار المكذبين كما قص أخبار الرسل والصالحين. وقال فى حكمة ذلك {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك فى هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} هود: 125، وقال تعالى {لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} يوسف: 111.
يقول بعض العلماء: إن سب الموتى يكون فى حق الكافر وفى حق المسلم، أما فى حق الكافر فيمتنع إذا تأذى به الحى المسلم - أو ترتب عليه ضرر- وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك، كأن يصير مات قبيل الشهادة عليه، وقد يجب فى بعض المواضع. وقد تكون مصلحة للميت كمن علم أنه أخذ مالاً بشهادة زور ومات الشاهد، فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن من بيده المال يرده إلى صاحبه، والثناء على الميت بالخير والشر من باب الشهادة لا من باب السب.
ومن الجائز تجريح الرواة للحديث أحياء وأمواتا، وذلك لإجماع العلماء على جوازه، وذكر مساوئ الكفار والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم. قال ابن بطال: سب الأموات يجرى مجرى الغيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخير، وقد تكون منه الفلتة فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقا معلنا فلا غيبة له، وكذلك الميت، ومع ذلك فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
والأولى أن ينشغل المرء بعيوب نفسه، ولا يتورط فى سب إنسان قد يكون بريئا عند الله، إلا إذا دعت إلى ذلك حاجة أو ضرورة، وهى تقدر بقدرها، والأعمال بالنيات، ولنقبل على عمل الخير حتى يكون لنا ذكر حسن على ألسن الناس بعد أن نفارقهم فيدعوا لنا بخير(8/280)
الانتفاع بالمقبرة الدارسة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى الصلاة فى مسجد بنا فوق قبور قديمة لم يدفن فيها أموات منذ سنوات، وقد سويت بالأرض وأقيمت عمارات فوق جزء منها؟
الجواب
صدرت فتوى رسمية على مذهب الأحناف من مفتى مصر الشيخ البرديسى بتاريخ 14 من يوليه سنة 1920 م بحرمة استغلال المقبرة القديمة لبناء أو زراعة أو غيرهما، حتى لو لم يبق فيها أثر للموتى من عظم أو غيره، ووضحها هو بتاريخ 8 من ديسمبر سنة 1920 م بأن الحكم بالحرمة إذا كانت موقوفة، أما إذا كانت مملوكة للحكومة فلا حرمة " الفتاوى الإسلامية مجلد 4 صفحة 1169، 1173، 1559 ".
وجاء فى " مشارق الأنوار " للعدوى " ص 26 " أن علماء المالكية منعوا الانتفاع بالمقبرة التى درست ومر عليها سنوات طويلة، لأن القبر - حَبْسٌ على من دفن فيه.
والشيخ يوسف الدجوى المالكى نقل عن الحطاب فى شرح متن خليل حرمة الانتفاع بالمقبرة الدارسة إلا لمصلحة المسلمين. وجاء فى الرهونى أن بناء المساجد للصلاة فيها على المقبرة العافية- الدارسة - لا كراهة فيه، لأن المقبرة والمسجد حَبْسَانِ، أى وقفان على المسلمين لصلاتهم ودفن موتاهم، فما كان لله لا بأس أن يستعان بعضه فى بعض، على ما كان النفع فيه أكثر والناس إليه أحوج.
وبعد أن نقل الشيخ الدجوى ذلك قال: يتضح من ذلك أن نبش القبور ونقل ما فيها من العظام لا يجوز إلا لمصلحة ضرورية كإجراء نهر فيها، ومثل ذلك ما إذا احتيج لها لتوسيع الطريق، وأن بناء المسجد على المقبرة التى درست جائز من غير كراهة متى اقتضت المصلحة " مجلة الإسلام المجلد الثالث - العدد السادس ص 20 ". وفى فتوى للشيخ يوسف المرصفى الشافعى والشيخ الحسينى سلطان الشافعى " مجلة الأزهر- المجلد الخامس ص 336 " بشأن المقابر المهجورة لا يجوز نبش القبر وجعل مكانه مزرعة أو غيرها، وجاز لمالك الأنقاض الانتفاع بها والتصرف فيها بسائر أنواع التصرفات الشرعية، والشافعية قالوا ذلك فى المقبرة المملوكة غير المحبوسة والموقوفة.
بعد هذه النقول من المذاهب يمكنا أن يقال:
إذا كانت أرض المقبرة مملوكة لأصحابها جاز نقل العظام منها والانتفاع بها فى بناء أو زراعة أو بيع التراب للتسميد وغير ذلك، لأن المالك للأرض يجوز له الانتفاع بباطنها وظاهرها.
أما إذا كانت المقبرة موقوفة أو مسبلة، أى اعتاد الناس الدفن فيها وليس لها مالك خاص، فلا يجوز التعدى عليها، ويحرم نقل رفات الموتى من تربتهم، حيث لا يوجد عذر ولا ضرورة، فإن وجدت الضرورة فالضرورات تبيح المحظورات.
وإذا لم تكن المقبرة مملوكة لأحد ولا موقوفة ولا مسبلة كان لأهل البلد أن يشتروها أو يتملكوها من الحكومة، ويتصرفوا فيها بكل أنواع التصرفات بعد نقل ما فيها من العظام ووضعها فى مكان آخر على الطريقة الشرعية، بتمييز كل من أصحابها بمكان معين إن أمكن وعدم انتهاك حرمتها عند النقل " مجلة الإسلام مجلد 3 عدد 8 صفحة 20 "(8/281)
الموت يوم الجمعة والظروف الأخرى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن من مات يوم الجمعة لا يعذب في القبر، فهل هذا صحيح؟
الجواب
روى أبو نعيم فى " الحلية " أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء ".
قد تكون هناك ظروف يكون الموت فيها بشيرا بالخير، كظروف الجهاد فى سبيل الله وما أعده الله للشهداء،وما جاء فى حديث مسلم "ومن مات فى الطاعون فهو شهيد، ومن مات فى البطن - أى بسبب مرض البطن أو الولادة فهو شهيد، والغريق شهيد" وجاءت روايات أخرى تدل على فضل الموت فى الغربة والهدم ودوار البحر، والدفاع عن النفس والمال والدين.
وقد صح أن الميت فى الحج له منزلة عند الله، فقد روى البخارى ومسلم أن رجلا كان مع النبى صلى الله عليه وسلم فى عرفة فوقع عن راحلته ومات، فأمر الرسول بغسله وتكفينه مع عدم تغطية رأسه وعدم تعطيره، وقال "إنه يبعث يوم القيامة ملبيا" أى على هيئة المحرم بالحج، وجاءت روايات ضعيفة أن الذى يخرج للحج أو العمرة ومات فإنه لا يحاسب ومنها حديث أبى نعيم فيمن مات يوم الجمعة أو ليلتها.
والروايات الضعيفة لا تبنى عليها عقائد، ولا نعرف أمور الغيب منها بيقين، والذى ينفع الإنسان فى قبره هو عمله، وكثير من أفاضل الصحابة لم يموتوا يوم الجمعة ولا فى ظروف كالتى مرت، كما أن كثيرا من الكفار ومن ظاهر سلوكهم غير مستقيم ماتوا يوم الجمعة فلنترك الأمر لله، ولنهتم بالعمل الصالح فهو مناط الثواب والتكريم(8/282)
نداء الإنسان باسم أبية أو أمة يوم القيامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الإنسان ينادى يوم القيامة باسم أمه سترا على من ولد بطريق غير شرعى؟
الجواب
الذى ورد فى الحديث قوله صلى الله عليه وسلم " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فحسنوا أسماءكم " رواه أبو داود وابن حبان فى صحيحه عن أبى الدرداء.
ولكن جاء فى حديث تلقين الميت أن الملقن يناديه بقوله: يا فلان ابن فلانة، وأن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: كيف ينسبه إذا لم يعرف أمه؟ قال " ينسبه إلى حواء ". فكيف نوفق بين الحديثين؟ المعروف أن أقوى الحديثين هو الذى يقدم إذا لم يمكن التوفيق بينهما، وقال النووى عن هذا الحديث إنه ضعيف فيقدم عليه الحديث الأول. وعليه فيكون النداء يوم القيامة باسم الأب.
وقد يقال: إن حديث التلقين وإن كان ضعيفا يراد بذكر أم الميت أنها هى المعروفة بيقين أنها أمه، أما أبوه فقد يكون غير ما اشتهر به الميت فيعتمد على المتيقن وهيا نسبه إلى الأم. أما فى يوم القيامة فالله والملائكة هم الذين ينادون الميت بالقيام من القبر وبالحشر وبالحساب وغير ذلك والأب الحقيقى معروف فيعتمد عليه فى الانتساب، لأن الانتساب شرعا هو للأب أصلا، والله أعلم بحقيقة الحال(8/283)
عذاب إبليس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف يعذب إبليس بالنار وهو مخلوق منها؟
الجواب
من المعلوم أن الله سبحانه خلق إبليس والجن من النار كما قال تعالى حكاية عن إبليس {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين} الأعراف: 2، وقال تعالى {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} الحجر: 27. ومن المعلوم أيضا أن الله سيعذب إبليس ومن اتبعه بالنار، قال تعالى {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} ص: 85.
ومعلوم أن العذاب: ألَمٌ يؤثر فى الجسم، وذلك يظهر فى المخالفة بين طبيعة الجسم والأداة التى يكون بها العذاب، فكيف يحس الشيطان بعذاب النار، وطبيعته لا تختلف عن طبيعتها لأنه مخلوق منها؟ .
ويجاب عن ذلك بما يأتى.
1 - أن الله سبحانه قادر على أن يحول طبيعة الشيطان حتى يحس بعذاب النار، ذلك أن الشيطان قد يتشكل بأشكال تحكم عليه طبيعتها لا طبيعته، فهو يسكن فى أماكن وينام ويجلس ويلبس الملابس التى لم يذكر اسم الله عليها، ويدخل البيوت إذا لم يسم صاحبها وهو داخل، كما جاءت بذلك الأحاديث، ومع ذلك لم تحرق هذه الأشياء التى يتصل بها. وقد ثبت أن الشيطان تفلَّت على النبى صلى الله عليه وسلم فى صلاته يريد أن يفسدها، فخنقه النبى وأحس ببرد لسانه على يده كما جاء فى بعض الروايات، فلو بقى الشيطان على طبيعته النارية لا حرقت ما مسته يده.
وسيدنا آدم عليه السلام، مع أنه خلق من طين، جعلت لطبيعته خصائص ليست كخصائص الطين ما دامت روحه فيه، فلا يمكن غرس شجرة فى جسم الإنسان كما تغرس فى الطين وهكذا.
2 -يجوز أن يجعل الله من النار نفسها نوعا أقوى من النار التى خلق منها إبليس فيحس بعذابها إذا دخلها، والنار نفسها درجات بعضها أشد من بعض.
3 - ليس كل العذاب فى النار إحراقا للجسم وإيلاما له بسببها، ففيها حيات وعقارب ومقامع من حديد يضرب بها المعذبون، وفيها سلاسل وقيود، وفيها شجرة الزقوم التى قال الله تعالى فيها {إن شجرة الزقوم. طعام الأثيم. كالمهل يغلى فى البطون. كغلى الحميم} الدخان: 43 - 46، وقال تعالى {إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم. طلعها كأنه رءوس الشياطين. فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون} الصافات: 64 -66، وقال تعالى {ليس لهم طعام إلا من ضريع. لا يسمن ولا يغنى من جوع} الغاشية: 6،7.
فألوان العذاب متعددة، يجوز أن يجعل الله منها للشيطان ما يحقق الغرض من تعذيبه. ومهما يكن من شىء فإن قوانين الآخرة غير قوانين الدنيا، وما دام الله سبحانه قد حكم بالعذاب على الشيطان فسيتحقق العذاب بالصورة التى يراها هو، والمهم أن نعمل جاهدين حتى لا نكون من أعوانه(8/284)
الزواج فى الجنة والمساواة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا كانت الحور العين جزاء للمؤمنين فى الجنة فماذا يكون جزاء المؤمنات؟
الجواب
للإجابة على السؤال لابد من ذكر هذه المقدمة حيث تثار الآن قضية المساواة بين الجنسين.
1 - المساواة فى مفهومها الصحيح هى إتاحة الفرصة لكل من الرجل والمرأة أن يكمل نفسه ماديا وأدبيا، وبهذه الإتاحة تكون المساواة، بصرف النظر عن حجمها ونوعها، قال تعالى {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} النساء: 32، وقال {لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} آل عمران: 195، وذكر حديث وافدة النساء أن حسن قيام المرأة بواجبها نحو زوجها وأولادها يعدل ما يقوم به الرجل من مهام.
2 - وقد جعل الله لكل من الرجل والمرأة خصائص واستعدادات تتناسب مع الدور الحيوى الذى يؤديه فى الدنيا، فى جو من التعاون على تحقيق الخلافة فى الأرض، فالخصائص البيولوجية مختلفة فيهما، وليست متساوية تماما، ولها تأثير على الفكر والعاطفة، وبالتالى على السلوك. وعلى أساسها كان توزيع الاختصاص فى هذه الشركة التعاونية. قال تعالى {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} النساء: 34، ومن هنا لا يصح أن يقول واحد منهما: لماذا لا يعطينى الله مثل ما أعطى الآخر، وإلا لما كان هناك داع إلى خلق نوعين. وقد جاءت الأديان كلها مقررة لهذه الحقيقة، وعلى أساسها وضعت التشريعات السماوية، بل الوضعية أيضا.
3-من المعلوم أن الرجل صالح فى كل وقت -إذا لم يكن هناك موانع - لإتمام عملية الإخصاب من أجل التناسل الذى هو المهمة الأولى لخلق الذكر والأنثى من كل صنف من المخلوقات، قال تعالى {ومن كل شىء خلقنا زوجين} الذاريات: 49، أما الأنثى فهى غير مستعدة لذلك إلا بنسبة ضئيلة، وهى يوم أو يومان فى كل شهر عند نضج البويضة، ولا يكون هناك فى الأعم الأغلب إلا حمل واحد فى كل عام، فإذا شغلت بحمل فلا يمكن لحمل آخر أن يزاحمه أو يفسح له المجال 0 ولأجل أن الغرض من هذا التكوين هو تنظيم التناسل والشهوة أباحت الأديان كلها تعدد الزوجات لرجل واحد، وحرمت تعدد الأزواج لامرأة واحدة، لأنه سيكون لمجرد إرضاء الشهوة لا غير. وما يقال عن عدم التعدد فى ديانات غير الإسلام فهو تعاليم كنسية ليست من الشريعة الموحى بها.
4 - ليكن معلوم أن قوانين الآخرة لا توافق دائما قوانين الدنيا، فالأكل هنا هو للشبع وتتبعه فضلات قذرة، وليس الأمر كذلك فى الجنة، والزواج هنا للحاجة إلى النسل ولا حاجة إليه فى الجنة، وإن كانت للبعض رغبة فى الولد فلا يتحتم أن يكون عن طريق الولادة، كما قال بعض العلماء " مشارق الأنوار للعدوى ص 186 ".
وما يجىء من التشابه فى النصوص المتصلة بالأكل والشرب والمتع فى الجنة فهو أسلوب يقرب المعنى إلى الأذهان بالمعهود عند الناس، ذلك لأن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وهناك عبارة مشهورة تقول: كل ما خطر ببالك فالجنة على خلاف ذلك.
ويظهر ذلك الاختلاف فى القوانين فى الخمر التى جاء فيها "لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون " وفى الحور العين اللاتى وصفهن اللَّه بقاصرات الطرف، أى لا يحببن غير أزواجهن، ولا يشتهين غيرهم، ولا توجد غيرة بينهن إذا تعددن لرجل واحد، وهذا أمر يتناقض مع الطبيعة البشرية فى الدنيا.
5 -تحدث القرآن عن نعيم الجنة فى الناحية الجنسية، وركز على الرجل بالذات، وأغراه بالعمل لدخول الجنة لينعم بزوجات فيهن كل الأوصاف المغرية، وجاء فى الحديث المتفق عليه بين البخارى ومسلم أن الرجل الواحد سيكون له أكثر من زوجة، فقد أخرجا عن أبى هريرة رضى الله عنه أن الصحابة تذاكروا: الرجال أكثر فى الجنة أم النساء؟ فقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما فى الجنة رجل إلا وله زوجتان، إنه يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة، ما فيها عزب " وجاء فى أحاديث أخرجها الترمذى وصححها أن العبد يزوج فى الجنة سبعين زوجة، وفى حديث لأحمد والترمذى وابن حبان أن أدنى أهل الجنة منزلة له ثنتان وسبعون زوجة.
فأين الحديث عن المتعة الجنسية للمرأة، وهل لها أن تتمتع بأكثر من رجل كما يتمتع الرجل بأكثر من امرأة؟ وإذا كانت مع زوجها فى الجنة كما قال تعالى {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} الرعد: 23، فكيف تحس بالنعيم مع أن الغيرة تملأ قلبها من ضرائرها الحسناوات؟ أ-التركيز على نعيم الرجل لأن شهوته طاغية، فهو طالب لا مطلوب، فوعده الله بما يحقق رغبته فى هذه اللذة إن جاهد نفسه وعف عن الحرام. أما المرأة فشهوتها ليست طاغية كما يقول المختصون، وإن اشتدت فى فترة نضج البويضة يوما أو يومين فى الشهر فهى فى غالب أيامها مطلوبة لا طالبة. وما قيل من أن شهوتها أقوى من شهوة الرجل بنسبة كبيرة فليس عليه دليل صحيح، والواقع خير دليل. ومع ذلك فلا تحرم المرأة من هذه اللذة فى الجنة، وستكون مع زوجها ذلك {إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون * هم وأزواجهم فى ظلال على الأرائك متكئون} يس: 55، 56، ومن لم تتزوج إما أن يزوجها الله -حيث لا يوجد عزب فى الجنة كما فى الحديث السابق الذى رواه الشيخان، وإما أن يمتعها بلذة أخرى تقنع بها.
ب - قد يكون هناك تعويض عن هذه اللذة بالقناعة بمنزلتها عند زوجها وبمتع أخرى يعلمها الله وحده {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} الزخرف: 71.
وقد قيل: إن الله يكسوها جمالا لا تحس معه نقصا بالنسبة للحور العين، وأن لها السيادة عليهن، وهى لن تحب رجلا غير زوجها كالحور العين قاصرات الطرف.
ج - ليس فى الجنة غيرة بين الزوجات -كما فى الدنيا- لأنها تنغص النعيم، وليس فيها حسد ولا حقد ولا حزن ولا أى ألم أبدا، حتى تتم اللذة لأهل الجنة كما قال تعالى: {ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب} الحجر: 47،48، وقال على لسان أهل الجنة {الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور * الذى أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} فاطر: 34، 35(8/285)
نعيم القبر وعذابه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ينكر بعض الناس أن هناك نعيما وعذابا فى القبر، فما هو رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
الكلام هنا فى ثلاث نقط، الأولى فى ثبوته، الثانية فى دوامه، الثالثة فى كونه للروح والجسد أو للروح فقط.
النقطة الأولى:
نعيم القبر وعذابه ثابتان بأدلة كثيرة منها:
1 -روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "المسلم إذا سئل فى قبره فشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه " فذلك قول الله {يثبت اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة} . وفى لفظ: نزلت فى عذاب القبر، يقال له: مَنْ ربك؟ فيقول: اللَّه ربى ومحمد نبيى، قذلك قول اللَّه {يثبت اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة} إبراهيم: 27،.
2 -روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إن العبد اذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول فى هذا الرجل؟ - لمحمد - فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد اللَّه ورسوله، فيقولان: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا، وأما الكافر والمنافق فيقال له: ما كنت تقول فى هذا الرجل؟ فيقول: لا أدرى، كنت أقول، ما يقول الناس، فيقولان: لا دريت ولا تليت، ويضرب بطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة فيسمعها من يليه غير الثقلين " وقوله: لا دريت ولا تليت، دعاء عليه بألا يكون داريا ولا تاليا، أو إخبار بحاله فإنه لم يكن قد علم بنفسه ولا سأل غيره من العلماء.
3-روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقبور ثم قال " إن هذه الأمة تبتلى فى قبورها، فلولا ألا تدافنوا لدعوت اللَّه أن يسمعكم من عذاب القبر الذى أسمع منه " ثم قال " تعوذوا بالله من عذاب القبر".
4 - روى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى فى المنام أن ملكين أخذا بيده، ومرا به على أناس يعذبون فى قبورهم بصور مختلفة لارتكابهم الكبائر، وجاء فيه أن العذاب الذى ينزل بهم يستمر إلى يوم القيامة، يقول ابن القيم: وهذا نص فى عذاب البرزخ، فإن رؤيا الأنبياء وحى مطابق لما فى نفس الأمر.
5 -وروى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى سعد بن معاذ " هذا الذى تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضُمَّ - هى ضمة القبر - ثم فرج عنه ".
6 - روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبرين فقال " إنهما يعذبان وما يعذبان فى كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ".
7 - يقول اللَّه تعالى " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} غافر: 46، فالعرض يكون فى القبر قبل يوم القيامة.
هذه بعض الأدلة القوية على ثبوت النعيم والعذاب فى القبر، فذلك ثابت بالسنة وظاهر الآية، وأهل السنة مجمعون عليه، والإِجماع حجة عند أكثر الأصوليين، وأنكره جماعة من المعتزلة، ومهما يكن من شىء فإن العقائد لا تثبت إلا بالنص القطعى فى ثبوته ودلالته، والحديث الصحيح الذى دل على نعيم القبر وعذابه اعتبره بعض العلماء من قطعى الثبوت الذى يفيد العلم اليقينى، واعتبره آخرون ظنى الثبوت الذى لا يفيد العلم اليقينى، ومن هنا كان الخلاف فى الحكم على من أنكر نعيم القبر- وعذابه، هل هو كافر أو غير كافر.
النقطة الثانية:
جاء فى كتاب " مشارق الأنوار " للعدوى (ص 36) .
بعد أن ساق، عدة نصوص - لا ترقى إلى درجة تؤخذ منها عقيدة قوله:
فتحصَل مما سبق أن النعيم لا يكون إلا دائما، وأما التعذيب فإما أن يكون دائما أيضا وهو عذاب الكفار وبعض العصاة، ومنقطعا وهو لبعض العصاة، ولذلك قال العلامة الدردير فى " خريدته ": العذاب قسمان إما دائم وهو للكفار وبعض العصاة، أو منقطع وهو لبعض العصاة ممن خفت جرائمه، وانقطاعه إما بسبب كصدقة أو دعاء، أو بلا سبب أى بمجرد العفو.
ثم قال فى صفحة 37: ويرتفع العذاب عن سائر الخلق ليلة الجمعة ولو كفارا ثم يعود على الصحيح، قال العلامة النفراوى: وقيل إنه بعد ارتفاعه عن المؤمن ليلة الجمعة لا يعود أبدا، قال: وحينئذ من مات قبل يوم الجمعة بيوم لا يكون عذابه إلا يوما، وبه قال بعضهم، انتهى قال العدوى: وهو مردود بما أفاده الإمام السيوطى حيث قال فى " شفاء الصدور " إن عدم العود لا دليل عليه، فلم يرد فى هذا حديث صحيح ولا حسن.
ثم قال: وما قاله الإِمام السيوطى فهو فى غاية الظهور، لما تقدم لك من حديث البخارى ومسلم السابق فى الجريدتين بقوله " لعل اللَّه يخفف عنهما ما لم ييبسا" وفى رواية لأبى داود " يهون عليهما ما دام من بلواتهما شىء " فهذا القيد منه صلى الله عليه وسلم ظاهر فيما قاله السيوطى ولا يلتفت لغيره، لا سيما فى مجالس الفجرة المتجاهرين بالفسق.
النقطة الثالثة:
قال ابن القيم: مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون فى نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا، ويحصل لها معه النعيم أو العذاب ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين. ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.
قال الحافظ ابن حجر فى " الفتح ": وذهب أحمد بن حزم وابن هبيرة إلى ان السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد، وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت فى الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه، لأن الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه.
والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميت قد يشاهد فى قبره حال المسألة لا أثر فيه، من إقعاد ولا غيره ولا ضيق فى قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب. وجوابهم أن ذلك غير ممتنع فى القدرة، بل له نظير فى العادة وهو النائم، فإنه يجد لذة وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما ولذة لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يدرك ذلك جليسه. وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن اللَّه تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستر عليهم، إبقاء عليهم لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله، وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور، كقوله " إنه ليسمع خفق نعالهم " وقوله " تختلف أضلاعه " لضمة القبر، وقوله " يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق؟ وقوله "يضرب بين أذنيه " وقوله " فيقعدانه " وكل ذلك من صفات الأجساد.
وقال الدردير فى كتابه " الخريدة ": والتعذيب للروح مع البدن ولو لم يقبر، فالتعبير بالقبر جرى على الغالب، إذ لا مانع من أن يخلق الله تعالى فى جميع الأجزاء أو بعضها نوعا من الحياة قدر ما يدرك ألم العذاب ولذة النعيم، وهذا لا يستلزم أن يتحرك ويضطرب أو يرى أثر العذاب عليه، حتى إن من أكلته السباع أو صلب فى الهواء يعذب وإن لم نطلع عل ذلك. ثم قال: ومن عذاب القبر ضغطته، وهى التقاء حافتيه حتى تختلف أضلاع الميت، وتختلف باختلاف العمل، حتى إن الصالح تضمه ضمة الأم الشفوقة على ولدها.
انتهى(8/286)
غسل الميت مع اختلاف الجنس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز لأحد الزوجين أن يغسل الآخر عند الموت؟
الجواب
غسل الوفاة بين الجنسين إما أن يكون بين الزوجين وإما أن يكون بين غيرهما، ولكل حكمه.
1 - غسل الزوج لزوجته:
وردت فى ذلك عدة أحاديث منها:
أ-عن عائشة رضى الله عنها قالت: رجع إلىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا فى رأسى وأقول: وارأساه، فقال " بل أنا وارأساه، ما ضرك لو مت قبلى فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك " رواه أحمد وابن ماجه وأصل الحديث عند البخارى وليس فيه " غسلتك " نيل الأوطار ج 4 ص 29.
ب - روى الدارقطنى والبيهقى بإسناد حسن أن عليا رضى اللَّه عنه غسل فاطمة رضى الله عنها. وأخرجه الشافعى " كشف الغمة للشعرانى " ج 1 ص 206.
ج -أوصت فاطمة بنت عُمَيْسٍ أن يغسلها على بن أبى طالب وأسماء، فغسلاها ولم ينكر أحد من الصحابة عليهما ذلك فكان إجماعا، كما ذكره الشوكانى فى " نيل الأوطار ج 4 ص 29 " أخرجه الشافعى وابن عبد اللَّه كما فى شرح الزرقانى على المواهب "ج 3 ص 206" د-وجاء فى " كشف الغمة " للشعرانى أن عبد الله بن مسعود غسل زوجته حين ماتت.
2 - غسل الزوجة لزوجها:
ورد فى ذلك آثار منها:
أ- قالت عائشة رضى اللَّه عنها: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل النبى صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه.
ب -أوصى أبو بكر رضى الله عنه أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس فغسلته ولم يخالف ذلك أحد من الصحابة، أخرجه البيهقى "نيل الأوطار ج 1 ص 260 ".
وروى مالك فى " الموطأ" أنها غسلته وكان اليوم شديد البرودة وهى صائمة فلم تغتسل من غسله. " المرجع السابق ".
بعد هذه المرويات قال الشوكانى "ج 4 ص 29 ": قال أحمد: لا تغسله، لبطلان النكاح، ويجوز العكس عنده كالجمهور، وقال أبو حنيفة وأصحابه والشعبى والثورى: لا يجوز أن يغسلها، لمثل ما ذكر أحمد، ويجوز العكس عندهم كالجمهور، قالوا: لأنه لا عدة عليه بخلافها.
وجاء فى كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة "أن الزوج لو مات فإن للزوجة أن تغسله، وذلك بالاتفاق حتى لو كانت مطلقة، لكن أبا حنيفة وأحمد قالا: إذا كانت بائنا فليس لها أن تغسله ولو كانت فى العدة. وإذا ماتت الزوجة غسلها زوجها، إلا أن أبا حنيفة منع ذلك لأنها صارت أجنبية عنه.
3 - الغسل بين غير الزوجين:
جاء فى كتاب " الفقه على المذاهب الأربعة " قال المالكية: إذا ماتت المرأة وليس معها زوجها ولا أحد من النساء، فإن كان معها محرم لها غسلها وجوبا، ولف على يديه خرقة غليظة مع ستارة بينه وبينها، فإن لم يوجد محرم يمَّمها واحد لكوعيها فقط. وإذا مات رجل ولم توجد زوجته غسلته محرمة بخرقة مع ستر عورته، فإن لم توجد محرم يممته الأجنبية إلى المرفقين.
وقال الحنفية: إذا ماتت المرأة ولم تكن هناك نساء يممها المحرم.
إلى المرفق، ويممها الأجنبى مع وضع خرقة على يده وغض بصره، والزوج كالأجنبى إلا أنه لا يكلف غض البصر، وإذا مات الرجل بين نساء ليس فيهم زوجته غسلته القاصرة، فإن لم توجد يممته إلى المرفقين مع غض البصر.
وقال الشافعية: إذا ماتت بين رجال ليس فيهم زوج ولا محرم يممها الأجنبى إلى المرفقين، مع غض البصر وعدم اللمس، أما الزوج فيغسلها، وكذلك المحرم إن لم يوجد الزوج، وإذا مات الرجل بين نساء ليس فيهن زوجته ولا محرم يممته الأجنبية بحائل يمنع اللمس مع غض البصر، أما الزوجة فتغسله وجوبا، وكذلك المحرم عند عدم الزوجة.
وقال الحنابلة: إذا ماتت المرأة ولم يوجد زوج يممها المحرم، وإلا يممها الأجنبى بحائل، وإذا مات الرجل ولم توجد زوجته يممته الأجنبية بحائل، أما المحرم فلا يشترط الحائل فى تيمم الرجل أو االمرأة(8/287)
دفن الميت فى صندوق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم دفن الميت فى صندوق؟
الجواب
جاء فى تفسيرالقرطبى " ج 0 1 ص 1 38 " أن الدفن فى التابوت جائز، لا سيما فى الأرض الرخوة، وروى أن دانيال صلوات الله عليه كان فى تابوت من حجر، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى فى رَكِيَّة - بئر- مخافة أن يعبد، وبقى كذلك إلى زمان موسى صلوات اللَّه عليهم أجمعين، فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه فى حظيرة إسحاق عليه السلام. كلام ليس عليه دليل معتمد، ثم قال القرطبى:
وفى الصحيح عن سعد بن أبى وقاص أنه قال فى مرضه الذى هلك فيه: اتخذوا لى لحدا وانصبوا عليه اللبن نصبا كما صنع برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وحكى عن الشيخ الإِمام أبى بكر محمد بن الفضل الحنفى أنه جوز اتخاذ التابوت فى بلادهم لرخاوة الأرض وقال: لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به، لكن ينبغى أن يفرش فيه التراب وتُطيَّن الطبقة العليا مما يلى الميت، ويجعل اللَّبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد-ثم قال القرطبى: ومن هذا المعنى جَعْل القطيفة فى قبر النبى صلى الله عليه وسلم فإن المدينة سبخة، قال شُقرآن: أنا واللَّه طرحت القطيفة تحت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى القبر. قال أبو عيسى الترمذى:
حديث شقران حديث حسن صحيح غريب، أى رواه راو واحد فقط.
وجاء فى الفتاوى الإِسلامية " المجلد الرابع ص 1264 " باسم الشيخ عبد المجيد سليم كراهة اتخاذ التابوت إلا إذا كانت الأرض رخوة أو نَدِيَّة يسرع فيها بلى الميت فلا بأس باتخاذه واستحسانه للمرأة مطلقا سواء أكانت الأرض رخوة أم لا، لأنه أقرب إلى الستر والتحرز عن مسها عند الدفن.
وجاء فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة الذى نشرته وزارة الأوقاف المصرية: أن دفن الميت فى صندوق ونحوه مكروه مطلقا عند الحنابلة، وخلاف الأولى عند المالكية، أما الشافعية والأحناف فقالوا: مكروه إلا لحاجة -كرخاوة الأرض - وقال الفقهاء: يكره وضع وسادة أو فراش أو نحو ذلك معه فى قبره، ولو كان فى ذلك تكريم لكان أولى به النبى صلى الله عليه وسلم فقد بنى فى قبره تسع لبنات، ووضع القطيفة تحته ورد بها الحديث المذكور وكانت قطيفة نجرانية كان يتغطى بها، فأريد ألا يلبسها أحد بعده لكن البعض قال إن الصحابة نزعوها وفى شرح الزرقانى على المواهب اللدنية للقسطلانى "ج 8 ص 292" توضيح لذلك فيراجع، هذا وعمل التابوت لا يغنى عن وضعه فى الأرض ليتحقق معنى الدفن، وإذا كان القصد منه مجرد التكريم دون حاجة أخرى هو مكروه، وهو لا يفيد الميت في نعيم ولا عقاب، والبساطة فى مثل هذه الحالة مطلوبة(8/288)
دفن اثنين فى قبر واحد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز دفن شخصين فى قبر واحد؟
الجواب
الأصل فى الدفن أن يكون لكل ميت قبر خاص به، أما دفن أكثر من واحد فى قبر واحد فهو حرام عند جمهور الفقهاء، ومكروه فقط عند أبى حنيفة، ومحل ذلك إذا لم تكن هناك ضرورة أو حاجة، فإن وجدت ضرورة ككثرة الموتى وتعَسُّر إفراد كل بقبر، أو وجدت حاجة كالمشقة فى حفر قبر لكل ميت جاز جمع أكثر من واحد فى قبر، سواء أكانوا من جنس واحد أم من جنسين، على أن يقدم الذكر على الأنثى فى دفنه جهة القبلة.
والدليل على ذلك ما رواه أحمد والترمذى وصححه: أن الأنصار جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد وقالوا: يا رسول اللَّه أصابنا جرح وجهد فكيف تأمرنا؟ قال " احفروا وأوسعوا تعمقوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة فى قبر قالوا:
فأيهم نقدم؟ قال " أكثرهم قرآنا ".
وروى عبد الرزاق بسند حسن عن واثلة بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة فى القبر الواحد، فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه.
ذكره ابن حجر فى الفتح "ج 3 ص 251 ".
وجاء فى كتاب " الإقناع " للخطيب فى فقه الشافعية ما يأتى: ولا يجمع رجل وامرأة فى قبر إلا لضرورة، فيحرم عند عدمها-يعنى عدم الضرورة-كما فى الحياة -يعنى كما لو كانوا أحياء - قال ابن الصلاح: محله إذا لم يكن بينهما محرمية أو زوجية، وإلا فيجوز الجمع، قال الأسنوى: وهو متجه - يعنى كلام وجيه -والذى فى المجموع -كتاب للنووى- لا فرق، فقال إنه حرام حتى فى الآًم مع ولدها، وهذا هو الظاهر، إذ العلة فى منع الجمع هى الإِيذاء، لأن الشهوة قد انقطعت فلا فرق بين المحرم وغيره، ولا بين أن يكون من جنس، واحد أم لا، ويحجز بينهما بتراب حيث جمع بينهما، وذلك على سبيل الندب - حتى لو اتحد الجنس - انتهى.
وجاء فى " الفتاوى الإِسلامية " مجلد 7 ص 1426: يجوز دفن الرجل مع المرأة فى قبر واحد عند الضرورة بشرط الحيلولة بينهما بحائل من التراب. وخلاصة الكلام أن دفن الرجل مع المرأة حتى لو كانت أمه أو زوجته لا يجوز إلا عند الضرورة(8/289)
الأحياء والأموات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هناك كلام كثير حول العلاقة بين الأحياء والأموات،من حيث الإحساس بهم واطلاعهم على أحوالهم ووصول الثواب لهم نريد توضيحا لهذه العلاقة على ضوء القرآن والسنة؟
الجواب
هناك مسائل كثر الكلام فيها بما يتصل بالعلاقة بين الأحياء والأموات نذكر أهمها فيما يلى:
1 - عرض الأعمال على الرسول والأموات:
روى البزار بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن مسعود رضى الله عنه مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم: " حياتى خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتى خيرا لكم، تعرض علىَّ أعمالكم، فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت شرا استغفرت لكم ".
وأخرج أحمد والحكيم الترمذى فى " نوادر الأصول " وابن منده حديث " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشايركم من الأموات، فإن رأوا خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا ". وأخرج مثله الطيالسى فى مسنده. وجاء عن الحكيم الترمذى فى نوادره " إن الأعمال تعرض على الله يومى الإثنين والخميس، وعلى الأنبياء والأولياء يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم " وروى البيهقى فى " شعب الإيمان " حديث " اتقوا الله فى إخوانكم من أهل القبور، فان أعمالكم تعرض عليهم " وأورد ابن القيم فى كتابه "الروح " أثرا يدل على علم الميت بما يحصل من الحى.
وكل ذلك لا يثبت عقيدة، فمن لم يصدق فلا يكفر، كما أنه لا يوجد دليل قوى يمنع تصديق هذه الأخبار.
2 - سماع الموتى للأحياء:
إن سماع الأنبياء والشهداء لمن يسلِّم عليهم فى قبورهم أمر-يسهل التصديق به مادامت الحياة قد ثبتت لمم، وبخاصة أن هذا السماع ممكن لغيرهم، بل دل الدليل عليه، ويستوى فى ذلك المؤمنون وغير المؤمنين، لما يأتى:
1 - جاء فى الصحيح أن الميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه وهو يسمع قرع نعالهم يجيئه الملكان ليسألاه.
2 - وجاء فى الصحيح أيضا نداء النبى صلى الله عليه وسلم لقتلى المشركين فى بدر بعد إلقائهم فى القليب، وقوله لهم: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ... فقال عمر رضى الله عنه: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال " والذى بعثنى بالحق ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، ولكنهم لا يستطيعون جوابا ".
3 - وفى الصحيح أيضا " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " قال النووى فى شرح صحيح مسلم: معناه أنه يعذب بسماعه بكاء أهله ويرق لهم. وإلى هذا ذهب الطبرى، قال القاضى عياض: وهو أولى الأقوال، واحتجوا له بأن النبى صلى الله عليه وسلم زجر امرأة عن البكاء على ابنها وقال: " إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم ".
4 - شرع النبى صلى الله عليه وسلم لأمته السلام على أهل القبور بمثل " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على ذلك.
5 - حديث " إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلَّم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام ". ويأتى حكمه فى المسألة التالية:
بهذا وبغيره من الآثار الكثيرة التى ذكرها ابن القيم فى كتاب الروح يكون سماع الأموات للأحياء ممكنا، وقد أنكرت السيدة عائشة رضى الله عنها سماع أهل القليب لنداء النبى صلى الله عليه وسلم، وظن جماعة أن ذلك ينسحب على كل الموتى من الكفار وغيرهم، ورد هذا بأن إنكارها لسماع الكفار هو الإنكار الوارد فى قوله تعالى: {فإنك لا تسمع الموتى} الروم: 52، وقوله: {وما أنت بمسمع من فى القبور} فاطر: 22،. فالمراد به سماع القبول والإيمان، حيث شبه الله الكفار الأحياء بالأموات، لا من حيث انعدام الإدراك والحواس، بل من حيث عدم قبولهم الهدى والإيمان. لأن الميت حين يبلغ حد الغرغرة لا ينفعه الأيمان لو آمن، فالسماع الثابت فى الأحاديث الصحيحة سماع الحاسة، والسماع المنفى فى الآيتين سماع القبول، ولذلك جاء بعد قوله تعالى: {فإنك لا تسمع الموتى} قوله تعالى {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا} فأثبت للمؤمنين سماع القبول.
ومما يؤكد أن عائشة رضى الله عنها نفت سماع القبول عن الكفار لا سماع الحس أنها هى التى روت حديث النبى صلى الله عليه وسلم " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد السلام عليه حتى يقوم " وقيل إنها نفت سماع الكفار لنداء النبى صلى الله عليه وسلم وأثبتت علمهم به فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنهم الآن ليعلمون أن ما قلت حق، والعلم يستلزم السماع ولا ينافيه. لكن قد يرد بأن علمهم بما قال الرسول لا يستلزم سماعهم له، لأنهم علموا ذلك بمعاينة العقاب المعد لهم.
ولا يرد على سماع الميت ما قاله الأحناف من أن الميت لا يسمع:
لو حلف الإنسان لا يكلم شخصا فمات هذا الشخص وكلمه ميتا لا يحنث، لا يرد هذا لأن الإيمان مبنية على العرف، فلا يلزم منه نفى حقيقة السماع، كما قالوا فيمن حلف لا يأكل اللحم فأكل السمك لا يحنث، مع أن الله سماه لحما طريا فى قوله: {وهو الذى سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا} النحل: 14، وذلك جريا على العرف.
وقد يقال: إن سماع الموتى للأحياء من خصوصيات النبى صلى الله عليه وسلم، لكن يرد هذا بعدم وجود الدليل على الاختصاص.
وقال ابن تيمية فى كتاب " الانتصار للإمام أحمد ": إنكار عائشة سماع أهل القليب معذورة فيه لعدم بلوغها النص، وغيرها لا يكون معذورا مثلها، لأن هذه المسألة صارت معلومة من الدين بالضرورة.
3 - إحساس الميت بالزائر وعلمه بمن يموت:
قال ابن تيمية فى الفتاوى: مسألة فى الأحياء إذا زاروا الأموات هل يعلم الأموات بزيارتهم، وهل يعلمون بالميت إذا مات من أقاربهم أو غيره أم لا؟ الجواب، نعم، قد جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات، كما روى ابن المبارك عن أبى أيوب الأنصارى قال: إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يتلقون البشير فى الدنيا، فيقبلون عليه ويسألونه فيقول بعضهم لبعض: انظروا أخاكم يستريح فإنه كان فى كرب شديد، قال فيقبلون عليه ويسألونه ما فعل فلان، ما فعلت فلانة، هل تزوجت. الحديث.
وأما علم الميت بالحى إذا زاره ففى حديث ابن عباس رضى الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم " ما من أحد يحمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فى الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام " قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام.
وقال ابن تيمية أيضا فى موضع آخر من فتاويه: إن الميت يسمع خفق نعال المشيعين حين يولون عنه كما ثبت فى الصحيحين،وبعد سياق عدة أحاديث قال: تبين من هذه النصوص أن الميت يسمع فى الجملة كلام الحى، ولا يجب أن يكون السمع له دائما، وذكر أن روحه تعاد إلى بدنه فى ذلك الوقت، وتعاد فى غير ذلك أيضا، وجاء فى عدة آثار أن الأرواح تكون فى أفنية القبور انتهى.
ورويت أخبار تدل على أن روح الميت تكون فى يد الملك ينظر إلى جسده كيف يغسل، وكيف يكفن، وكيف يشيَّع، ويقال له على سريره: اسمع ثناء الناس عليك.
وأخرج أحمد والحاكم عن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أدخل البيت فأضع ثوبى وأقول: إنما هو أبى وزوجى، فلما دفن عمر ما دخلته إلا وأنا مشدودة على ثيابى حياء من عمر. وجاء فى صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضى الله عنه أنه قال فى مرض موته: إذا دفنتمونى فشنوا على التراب شنا، وأقيموا عند قبرى قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، اَنس بكم؟ أنظر ماذا أراجع رسل ربى.
4 - تزاور الموتى:
فى صحيح مسلم " إذا وَلِي أحدكم أخاه فليحسن كفنه " قيل: إن العفة فيه تزاور الموتى وتباهيهم بالأكفان، كما نص عليه فى أحاديث أخرى منها ما أخرجه الترمذىَ وابن ماجه والبيهقى "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه فانهم يتزاورون فى قبورهم " وقال: ابن تيمية فى فتاويه إنهم يتزاورون، سواء أكانت المدائن، متقاربة فى الدنيا أم متباعدة.
وقال الفقهاء بتحسين الأكفان لهذه العلة، وللسيوطى كتاب فى ذلك عنوانه " شرح الصدور " وقال ابن القيم فى كتاب الروح: إن الحى يرى الميت فى منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلمه الحى فيصادف خبره كما أخبر فى الماضى والمستقبل.
5 - تصرف الموتى بأمر الله:
قال السيوطى فى شرح الصدور: قال الحافظ ابن حجر فى فتاواه إن أرواح المؤمنين فى عليين، وأرواح الكفار- فى سجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوى لا يشبه الاتصال فى الحياة الدنيا، بل أشبه شىء به حال النائم وإن كان هو أشد حالا من حال النائم اتصالا فالأرواح مأذون لها فى التصرف وتأوى إلى محلها من عليين أو سجين وإن قيل إنها عند أفنية القبور. وأورد السيوطى ما أخرجه ابن عساكر عن رؤية النبى صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبى طالب بعد استشهاده، وما أخرجه الحاكم عن رده السلام على جعفر حيث رآه فى مجلسه مع أسماء بنت عميس ومعه جبريل وميكائيل يسلمون على النبى صلى الله عليه وسلم، وحكى له جعفر ما حدث فى يوم استشهاده، وأن النبى صلى الله عليه وسلم أعلن ما رآه للناس على المنبر.
6 - اطلاع الأحياء على حال أهل القبور:
أورد صاحب المنحة الوهبية حكايات عن رؤية بعض الناس أمواتا يصلون فى قبورهم، وأن بعضهم سمع قراءة القرآن من قبر ثابت البنانى، وسمع بعضهم من أحد القبور قراءة سورة " الملك " ولما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك قال " هى المانعة، هى المنجية تنجى من عذاب القبر" هذا الحديث رواه الترمذى عن ابن عباس وقال إنه حديث غريب، أى رواه راو واحد فقط -.
وثبت فى الصحيحين قول النبى صلى الله عليه وسلم " لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع " كما صح أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذَّب من فيهما بسبب النميمة وعدم الاستبراء من البول، وأنه وضع جريدا على القبرين عسى. أن يخفف الله عنهما العذاب.
وجاء فى " الروح " لابن القيم وفى " شرح الصدور " للسيوطى، وفى " أهوال القبور " لابن رجب ما يفيد أن رجلا رأى رجلا عند " بدر " يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حتى يغيب فى الأرض، وأن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ذاك أبو جهل يعذب إلى يوم القيامة ".
وبعد:
فكل ما ذكر عن أحوال القبور جر إليه الكلام عن الوسيلة والتوسل، وهو عرض لما قيل عنها، ونحن لا نلزم بتصديق شىء منها إلا ما يثبت بطريق قوى. ولا داعى للجدال فيها، فإن ما لدينا من الثابت القوى كثير، وأحوال الدنيا التى يجب أن نستعد بها إلى الآخرة كثيرة، فلنهتم بمعرفتها وتطبيقها فذلك خير وأجدى.
وهل يسمع أو يشعر الميت بما يسور حوله أثناء الجنازة؟ .
جاء فى كتاب " مشارق الأنوار " للعدوى ص 21: أن الميت يعرف من يغسله ويحمله ومن يكفنه ومن يدليه فى حفرته، وأن روح الميت فى يد ملك ينظر إلى جسده كيف يغسل وكيف يكفن، ويقال له - وهو على سريره -اسمع ثناء الناس عليك.وجاء فيه أن الميت يرى ما يصنع أهله، ولو قدر على الكلام لنهاهم عن العويل والصراخ.
وكل ذلك وردت به أحاديث أخرجها أحمد وابن أبى الدنيا والطبرانى وابن منده وأبو نعيم وأبو داود، وقد حكم على بعض منها بالضعف.
ومعلوم أن العقائد لا تثبت إلا بالدليل القطعى من الكتاب والسنة.
وأحوال الموتى من الغيب الذى يعلمه الله وحده، ولا يطلعُ عليه أحدا إلا من ارتضاه، ولا يجب علينا الإيمان إلا بما ورد من طريق صحيح.
والأخبار المروية فى سماع الميت كلام المشيعين لم ترق إلى هذه الدرجة. فلا نجزم بالنفى ولا بالإثبات، حيث إن ذلك ممكن ولم يرد ما يمنعه، وحيث إن ما أثبتته لم يكن بطريق الجزم. فمن صدق ذلك فهو حر، ولا يجوز أن يفرض رأيه على غيره، ومن كذب فلا يكفر(8/290)
زيارة الأضرحة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل زيارة للأضرحة مشروعة أو ممنوعة؟
الجواب
الأضرحة جمع ضريح، والضريح هو الشق وسط القبر.
وتعارف الناس عليه إذا دفن فيه شخص له قيمة دينية أو غيرها من القيم التى تحتل من نفوس الناس مكانة كبيرة، واتخذت الأضرحة شكلا معينا من البناء تعلوه قبة تفنن الناس فى شكلها وفى زخرفتها.
وكثرت هذه الأضرحة فى مصر منذ عهد الفاطميين الذين أقاموا كثيرا منها لآل البيت وكبار رجال الدولة، وعرفت بالمشاهد أسوة بما أطلق على أضرحة الأئمة من العلويين. ثم جاءت الدولة الأيوبية وأقامت مثلها لكبار رجال السنة. ومن أكبرها ضريح الإمام الشافعى.
والأضرحة شأنها شأن سائر القبور فى أن زيارتها سنة لما فيها من فوائد للزائر والمزور، ففيها للزائر عبرة وعظة، كما فى قوال النبى صلى الله عليه وسلم:
" كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهد فى الدنيا وتذكر الآخرة ". وقوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد فى زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكر الآخرة " وقد صح فى مسلم أذن الله لنبيه بزيارة قبر أمه، وعدم إذنه فى الاستغفار لها.
وفى الزيارة نفع للمزور بالسلام عليه والدعاء له، وبما تقدم ذكره من أنس الميت بمن يزوره. وقد علمنا النبى صلى الله عليه وسلم آداب الزيارة التى منها أن نقول ما علمه السيدة عائشة رضى الله عنها: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ". وجاء فى إحدى الروايات لهذا الحديث " نسأل الله لنا ولكم العافية "(8/291)
الجنة والنار مخلوقتان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الجنة والنار من خلق الدنيا أم الآخرة، فإن كانت الأولى فأين فراغهما والجنة وحدها عرض السموت والأرض، وما عملهما في الدنيا وهما حصادها في للآخرة، وإن كانت الثانية فكيف إذا جاء شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار كما يقول الحديث الشريف؟
الجواب
موضوع خلق الجنة والنار ثار فيه الجدل قديما، فذهب جمهور المسلمين إلى أنهما مخلوقتان الآن، وذهبت طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أنهما لا يخلقان قبل يوم القيامة، فهما ليستا موجودتين الآن. وقد ساق كل من الفريقين أدلته، ونوقشت الأدلة ورجح القول بأنهما مخلوقتان بالفعل، وذلك لكثرة النصوص فى القراَن والسنة بأن الجنة أعدت للمتقين، وأن النار أعدت للكافرين، وهذا الإعداد المعبر عنه بصيغة الماضي يدل وضعًا على وجودهما بالفعل، وأما القول بأن التعبير بالماضي هو لمجرد التأكيد بأنهما سيوجدان في المستقبل فهو عدول عن الظاهر بدون مبرر، وإن كان يمكن أن يقال:
إن التعيير بالماضي فى الإعداد هو بمعنى أنه تقرر في علم اللَّه على وجه التأكيد فالإخبار بوجودهما وإعدادهما إخبار عن علم الله لا عن وجودهما بالفعل، وبهذا لا يكون الدليل قطعي الدلالة على وجودهما الفعلي الواقعي.
وقول من قال إن وجودهما الآن عبث لأنهما للجزاء، والجزاء لا يكون إلا يوم القيامة قول مردود، فإن الفائدة من وجودهما الفعلي ليست محصورة في الجزاء، فكم من أفعال تخْفى حكمتها على العقول {واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون} .
وقد يؤكد هذا أن الشهداء ينتقلون من الدنيا لحياة أفصل عند ربهم يرزقون، ومن ضمن الرزق والنعيم أن أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة تأوى إلى قناديل تحت العرش كما رواه مسلم وغيره فالجنة الآن موجودة يتنعم فيها الشهداء لأنهم أحياء وليسوا بأموات كما قال اللَّه تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون} آل عمران: 169، ويؤكده أيضًا ما ثبت فى النصوص من نعيم القبر وعذابه، وهو أثر من أثار وجود الجنة والنار قال تعالى {النار يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} غافر: 46، فهذا نص على أن النار موجودة ويعرض عليها الكافرون قبل أن يدخلوها يوم القيامة.
ومهما يكن من شيء فإنه لابد من الإيمان بأن هناك جنة ونار كما نص القرآن الكريم، أما اعتقاد أنهما موجودتان الآن، أو ستوجدان يوم القيامة فليس مما كلف به المسلمون، والنتيجة هي أنهما دارا ثواب وعقاب، وعلى المؤمن أن يستعد بعمله الصالح حتى يدخل الجنة وينجو من النار. وكذلك مكان وجودهما لسنا مكلَّفين بمعرفته، واستبعاد أن تكونا موجودتين في الدنيا لأن الجنة وحدها عرض السموت والأرض أجاب عنه النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية {وجنة عرضها السموات والأرض} بقوله "فأين الليل إذا جاء النهار"؟ فالكون واسع لا يعلم سعته إلا اللَّه سبحانه، والجنة عرضها ليس هو عرض السموات والأرض الموجودة أمامنا بل هو مثله كما يفيد التعبير عن ذلك في آية {عرضها كعرض السموات والأرض} الحديد: 31، وهو كناية عن السعة.
ومعنى فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب جهنم في رمضان فسره العلماء بأنه كناية عن سعة رحمة اللَّه في هذا الشهر، أو عن كثرة الطاعة والقربات التي توصل إلى الجنة، كأن أصحابها يدخلون الآن بما يقدمون من عمل، وعن قلة المعاصي التي توصل إلى النار، كأنه لا يوجد في رمضان من يعصي اللَّه ويستحق دخولها، وذلك بالنسبة للمؤمنين الطائعين، أما الكافرون - وما أكثرهم - فإن أبواب جهنم مفتوحة لهم، استعدادًا لدخولهم في كل وقت من الأوقات، بسبب ما هم فيه من كفر وعصيان، ذلك بعض ما قيل في الموضوع، ولعله يكفي في الإجابة على السؤال(8/292)
طول الجنة وعرضها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المقصود بكلمة " عرضها" فى قوله تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض} ، وإذا كان هذا عرضها فكيف يكون طولها، وإذا استغرق طولها وعرضها السموات والأرض فإين توجد النار؟
الجواب
للعلماء فى تفسير عرض الجنة رأيان، فقال ابن عباس: تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض، كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله. وهو قول جمهور العلماء. ونبه الله بالعرض على الطول، لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض.
وقال قوم: المراد بعرض الجنة سعتها، لا ما يقابل طولها، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح فى غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السموات والأرض، كما تقول للرجل، هذا بحر ولم تقصد الآية بذلك تحديد العرض، ولكن أراد التعبير بذلك أنها أوسع شىء رأيتموه.
أما مكان النار إذا كان عرض الجنة هو السموات والأرض فقد أجاب عنه النبى صلى الله عليه وسلم عندما سئل عنه، فقال " سبحان اللَّه، فأين الليل إذا جاء النهار"؟ .
رواه أحمد فى مسنده. وكذلك أجاب بمثله سيدنا عمر على اليهود حين سألو والمراد أن مكان النار لا يعلمه إلا الله، كما لا يعلم الليل إذا جاء النهار إلا هو سبحانه.
قال ابن كثير: وهذه الإجابة تحتمل معنيين، أحدهما أن يكون المعنى فى ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون فى مكان وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل. والثانى أن يكون المعنى: أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة فى أعلى عليين فوق السموات تحت العرش،.
والنار فى أسفل سافلين، فلا تنافى بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار.
والمعنى الأول يفيد عدم علمنا بمكان النار، والثانى يفيد علمنا به(8/293)
العتاقة للميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المقصود بالعتاقة، وهل تنفع الميت وتعتق رقبته من النار؟
الجواب
العتاقة تعبير متعارف عليه يقوم على قراءة سورة الإخلاص {قل هو الله أحد} عددا من المرات، رجاء أن يعتق اللَّه بها من النار من قرئت له من الأموات. وهى بهذه الصورة لم يرد بها حديث صحيح خاص، وإن كان مجرد القراءة للقرآن وهبة ثوابها للميت يرجى انتفاعه بها، وأما أن تعتق رقبته من النار وتكفر كل السيئات فلا يدل عليه دليل، وإن كان اللَّه سبحانه قد قال {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48، وهذه المغفرة إما تفضُّل ومنحة من الله دون مقابل، وإما بمقابل من عمل صالح، فالأمر لله وحده.
وقد يراد بالعتاقة ما يعرف بإسقاط الصلاة عن الميت لكن قال العلماء إن الميت إذا كان عليه صوم أو زكاة أو حج أو دين للعباد وجب أداء ذلك عنه من تركته، سواء أذن فى ذلك أم لم يأذن، على ما هو المختار من أقوالهم، أما الصلاة فلم يقل أحد بقضائها عنه، أو إسقاطها بأى وجه من الوجوه الثابتة الصحيحة.
هذا، وقد روى البزار بسند ضعيف أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ قل هو اللَّه أحد مائة ألف مرة فقد اشترى نفسه من اللَّه، ونادى مناد من قبل اللَّه تعالى فى سماواته وأرضه: ألا إن فلانا عتيق الله " قال الصاوى فى حاشيته على الجلالين: هى عتاقة من النار بشرط ألا يكون عليه حقوق العباد أصلا، أو عليه وهو عاجز عن أدائها، أما من قدر عليها فهو كالمستهزئ بربه.
ونقل الشيخ الحفنى عن الشيخ العياشى أن من قرأها مائة ألف مرة كفرت صغائره وكبائره " مصباح الظلام ج 2 ص 161 " وهو كلام لا يصمد أمام القول بأن الكبائر لا تكفرها إلا التوبة النصوح ومنها دفع حقوق العباد.
وبناء على هذا الحديث الذى يعمل به فى فضائل الأعمال نص جماعة من متأخرى المالكية على استحباب عتاقة الصمدية، ذكر ذلك المحدث عبد اللَّه الصديق الغمارى فى كتابه " فضائل القرآن ".
وإذا كان هذا الشخص نفسه يقرؤها، فهل تكون للميت الذى تقرأ له؟ ذلك راجع إلى انتفاع الميت بقراءة القرآن عليه، بأجر أو بغير أجر، وأثر ذلك فى الكبائر والتبعات(8/294)
سورة يس للميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك فضل لقراءة سورة يس عند الميت قبل دفنه وبعد دفنه؟
الجواب
روى أحمد وأبو داود والنسائى وابن ماجه والحاكم وصححه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "قلب القرآن يس، لا يقرؤها رجل يريد اللَّه والدار الآخرة إلا غفر اللَّه له، اقرءوها على موتاكم ".
هناك خلاف بين العلماء فى وقت قراءتها، فقيل عند الاحتضار عسى أن يخفف الله عن الميت، وبخاصة أن الملائكة تحضر لسماع القرآن ومعها الرحمة، وجاء فى حديث آخر فى مسند الفردوس " ما من ميت يموت فتقرأ عنده يس إلا هون اللَّه عليه ".
وقيل أن قراءتها تكون بعد الموت، سواء أكان ذلك قبل دفنه أم بعد دفنه، والقرآن كله إذا قرىء بدون مقابل ووهب ثوابه إلى الميت ينفعه إن شاء اللَّه، وقد تكون لسورة يس بالذات فضيلة وأثر فى ذلك.
وقراءتها على كل حال لا تضر، وقد تفيد الميت بالإهداء إليه أو بحضور الملائكة لسماع القرآن، ذلك إلى جانب نفعها لقارئها ولمن يستمعون إليها للعظة والعبرة(8/295)
نقل الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز نقل الميت من البلد الذى مات فيه ليدفن فى بلد آخر، وإذا دفن في قبر هل يجوز نقله إلى قبر آخر؟
الجواب
أما نقل الميت قبل دفنه ليدفن فى بلد آخر، فحكمه ما يأتى:
قال الحنفية: يستحب أن يدفن الميت فى الجهة التى مات فيها، ولا بأس بنقله من بلدة إلى أخرى قبل الدفن عند أمن تغير رائحته.
وقال الشافعية: يحرم نقله إلى محل آخر ليدفن فيه، حتى لو أمن تغيره إلا إذا جرت عادتهم بدفن موتاهم فى غير بلدتهم، ويستثنى من ذلك من مات فى جهة قريبة من مكة أو المدينة المنورة أو بيت المقدس، أو قريبا من مقبرة قوم صالحين فإنه يسن نقله إليها إذا لم يخش تغير رائحته، وإلا حرم، وهذا كله إذا كان قد تم غسله وتكفينه والصلاة عليه فى محل موته، وأما قبل ذلك فيحرم مطلقا.
وقال الحنابلة: لا بأس بنقل الميت من الجهة التى مات فيها إلى جهة بعيدة عنها، بشرط أن يكون النقل لغرض صحيح، كأن ينقل إلى بقعة شريفة ليدفن فيها، أو ليدفن بجوار رجل صالح، وبشرط أن يؤمن تغير رائحته.
وقال المالكية: يجوز نقله بشروط ثلاثة: أولها ألا ينفجر حال نقله،، ثانيها ألا تنتهك حرمته، بأن ينقل على وجه يكون فيه تحقير له، ثالثها أن يكون نقله لمصلحة، كأن يخشى من طغيان البحر على قبره، أو يراد نقله إلى مكان ترجى بركته، أو إلى مكان قريب من أهله، أو لأجل زيارة أهله إياه، فإن فقد شرط من هذه الشروط الثلاثة حرم النقل.
2 -هذا هو الحكم عند الأئمة الأربعة فى نقله قبل دفنه، أما نقله بعد دفنه فحكمه ما يأتى:
قال الحنفية: يحرم إخراجه ونقله، إلا إذا كانت الأرض التى دفن فيها مغصوبة، أو أخذت بعد دفنه بالشفعة، يعنى استحقها شخص آخر مجاور لها.
وقال الشافعية: يحرم نقله إلا لضرورة، كمن دفن فى أرض مغصوبة، فيجوز نقله إن طالب بها مالكها.
وقال الحنابلة: يجوز النقل بالشروط المذكورة فى النقل قبل الدفن، فإن فقد شرط كان النقل حراما قبل الدفن وبعده.
وقال المالكية: يجوز نقله بالشروط الثلاثة المذكورة فى النقل قبل الدفن، فإن فقد شرط منها حرم النقل " انظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة - نشر وزارة الأوقاف المصرية "(8/296)
أوقات الكراهة فى الدفن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى تشييع جنازة الموتى أثناء الليل، والإشارة بالإصبع أثناء سير الجنازة؟ وهل هناك حديث يمنع دفن الميت فى أوقات معينة؟
الجواب
يرى جمهور العلماء أن دفن الميت ليلا كدفنه نهارا، سواء بسواء، فقد دفن الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذى كان يرفع صوته بالذكر ليلا، ودفن على فاطمة رضى اللَّه عنها ليلا، وكذلك دفن أبو بكر وعثمان وعائشة وابن مسعود.
عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا، فأسرج له بسراج فأخذه من قِبَلِ القبلة وقال " رحمك اللَّه، إن كنت لأَوَّاهًا تلاَّءً للقرآن " وكبر عليه أربعا، رواه الترمذى وقال: حديث حسن، قال: ورخص أكثر أهل العلم فى الدفن بالليل.
وقالوا: إنما يجوز ذلك إذا كان لا يفوت بالدفن ليلا شىء من حقوق الميت والصلاة عليه، وإلا كان الدفن مكروها، روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن فى كفن غير طائل ودفن ليلا، فزجر النبى صلى الله عليه وسلم أن يُقبر الرجل بالليل إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وروى ابن ماجه عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا " ومع ذلك فالأفضل الدفن نهارا، انتظارا لكثرة المصلين والمشيعين للجنازة.
هذا، ولا تكره الإشارة إلى الجنازة، أثناء تشييعها فلعلها للموعظة، وكثيرا ما ترفع الإصبع السبابة مع قول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، إشارة للتوحيد، وأن البقاء والدوام للَّه وحده، هذا ما أراه والعبرة بالنية.
أما الحديث المسئول عنه فقد روى مسلم وأصحاب السنن عن عقبة قال:
ثلاث ساعات كان النبى صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلى فيها أو نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيَّف -تميل الشمس للغروب حتى تغرب.
قال العلماء: إذا خيف تغير الميت فإنه يدفن فى هذه الأوقات الثلاثة بدون كراهة، أما إذا لم يخش عليه من التغير فإنه يجوز دفنه فى هذه الأوقات عند الجمهور، ما لم يتعمد دفنه فيها، فإنه حينئذ يكون مكروها.
وقال الحنابلة: يكره الدفن فى هذه الأوقات مطلقا، بدليل الحديث المذكور(8/297)
نعى الموتى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن نعى الموتى فى الصحف وغيرها منهى عنه فهل هذا صحيح؟
الجواب
1 -أخرج ابن ماجه والبيهقى بسند حسن أن حذيفة بن اليمان.
قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النعى.
2 -روى الترمذى عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "إياكم والنعى، فإن النعى من عمل الجاهلية " قال الترمذى حديث غريب: أى رواه راو فقط.
3 - روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم نعى الناس النجاشى فى اليوم الذى مات فيه، وفى لفظ " إن أخاكم النجاشى قد مات فقوموا فصلوا عليه ".
4 -روى البيهقى عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم نعى جعفرا وزيد بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وذلك فى غزوة مؤتة.
5 -وروى أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فيمن دفن ليلا وكان يَقُمُّ المسجد " أفلا كنتم آذنتمونى " وفى رواية "ما منعكم أن تعلمونى ".
6 - وروى أيضا أن رافع بن خديج مات بعد العصر، فأتى ابن عمر فأخبر بموته فقيل له: ما ترى؟ أيخرج بجنازته الساعة؟ فقال: إن مثل رافع لا يخرج به حتى يؤذن به من حولنا من القرى، فأصبحوا وأخرجوا بجنازته.
النَّعى والنَّعِىّ الإخبار بموت الميت، قال الأصمعى: كانت العرب إذا مات فيها ميت ركب راكب فرسا وجعل يسير فى الناس ويقول:
نَعَاءِ فلانا، أى أنعيه وأظهر خبر وفاته. قال الجوهرى: وهى مبنية على الكسر مثل درَاكِ ونزال.
إذا كان النعى على نحو ما يفعله أهل الجاهلية من ذكر المآثر والمفاخر فهو ممنوع، كما يدل عليه الحديثان الأولان، واستحب جماعة من أهل العلم ألا يعلم الناس بجنائزهم منهم ابن مسعود وأصحابه علقمة والربيع بن خيثم وعمرو بن شرحبيل.
أما إذا كان النعى لأجل إخطار الأقارب والأصدقاء ليشهدوا جنازته ويكثر المصلون عليه، لأن فى كثرتهم أجرا لهم ونفعا للميت، فإنه يحصل لكل مصل منهم قيراط من الأجر كما صح فى الحديث ولأنه ورد "ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب " يعنى وجبت له الجنة، إذا كان النعى لذلك فلا بأس به، بل هو مستحب، وممن رخص فى هذا أبو هريرة وابن عمر وابن سيرين وإبراهيم النخعى وعلقمة يقول البيهقى: بلغنى عن مالك أنه قال: لا أحب الصياح لموت الرجل على أبواب المساجد، ولو وقف على حلق المساجد فأعلم الناس بموته لم يكن به بأس. ومن جوزوا النعى بهذا القصد اعتمدوا على المرويات الثلاثة الأخيرة المذكورة وفى هذا التفصيل جمع بين الأحاديث فالمدار على القصد من النعى(8/298)
تعجيل موت الميئوس من شفائه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز قتل المريض بفقد المناعة "الإيدز"؟
الجواب
من المقرر شرعا وعقلا أن قتل النفس جريمة من أكبر الجرائم ما دام لا يوجد مبرر لذلك، والنصوص فى ذلك أشهر من أن تذكر، يكفى منها قوله تعالى عن الشرائع السابقة {من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} المائدة: 32، وقوله تعالى {ولا تقتلوا النفس التى حرم اللَّه إلا بالحق} الأنعام: 151 والإسراء: 33، وقوله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب اللَّه عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} النساء: 93،.
والقتل الجائز هو ما كان بالحق، كالدفاع عن النفس والمال والعرض والدين والجهاد فى سبيل الله، وما نص عليه الحديث الذى رواه البخارى ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزانى والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وهناك مسائل أخرى يجوز فيها القتل تطلب من مظانها.
والمريض أيا كان مرضه وكيف كانت حالة مرضه لا يجوز قتله لليأس من شفائه أو لمنع انتقال مرضه إلى غيره، ففى حالة اليأس من الشفاء - مع أن الآجال بيد الله، وهو سبحانه قادر على شفائه -يحرم على المريض أن يقتل نفسه ويحرم على غيره أن يقتله حتى لو أذن له فى قتله، فالأول انتحار والثانى عدوان على الغير بالقتل، وإذنه لا يحلل الحرام فهو لا يملك روحه حتى يأذن لغيره أن يقضى عليها والحديث معروف فى تحريم الانتحار عامة، فالمنتحر يعذب فى النار بالصورة التى انتحر بها خالدا مخلدا فيها أبدا، إن استحل ذلك فقد كفر وجزاؤه الخلود فى العذاب،،وإن لم يستحله عذب عذابا شديدا جاء التعبير عنه بهذه الصورة للتنفير منه. روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "كان فيمن قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات " قال اللَّه تعالى "بادرنى عبدى بنفسه، حرمت عليه الجنة" وفى رواية لهم أن رجلا مسلما قاتل فى خيبر قتالا شديدا ومات، فلما أخبر به الرسول قال "إنه من أهل النار" فعجب الصحابة لذلك، ثم عرفوا أنه كان به جراح شديد فلم يصبر عليه، فوضع نصل سيفه بالأرض وجعل ذبابه -أى طرفه -بين ثدييه ثم تحامل على نفسه حتى مات، وتقول الرواية إن الرسول أمر بلالا أن ينادى فى الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وقد ألفت فى إنجلترا جمعية باسم "القتل بدافع الرحمة" طالبت السلطات سنة 1936 م بإباحة الإجهاز على المريض الميئوس من شفائه، وتكرر الطلب فرفض، كما تكونت جمعية لهذا الغرض فى أمريكا وباء مشروعها بالفشل سنة 1938، وما زالت هذه الدعوة تكسب أنصارا فى هذه البلاد.
فالخلاصة أن قتل المريض الميئوس من شفائه حرام شرعا حتى لو كان بإذنه، فهو انتحار بطريق مباشر أو غير مباشر، أو عدوان على الغير إن كان بدون إذنه، والروح ملك لله لا يضحى بها إلا فيما شرعه الله من الجهاد ونحوه مما سبق ذكره.
أما المريض الذى يخشى انتقال مرضه إلى غيره بالعدوى حتى لو كان ميئوسا من شفائه فلا يجوز قتله من أجل منع ضرره، ذلك لأن هناك وسائل أخرى لمنع الضرر أخف من القتل ومنها العزل ومنع الاختلاط به على وجه ينقل المرض، فوسائل انتقال المرض متنوعة وتختلف من مرض إلى مرض، وليس كل اختلاط بالمريض بِفقد المناعة "الإيدز" محققا للعدوى، فهى لا تكون إلا باختلاط معين كما ذكره المختصون فالإجراء الذى يتخذ معه هو منع هذه الاتصالات الخاصة، مع المحافظة على حياته كآدمى يقدم إليه الغذاء حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
وعدم الاختلاط بالمريض مرضا معديا، أى العزل أو الحجر الصحى، مبدأ إسلامى جاء فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم" فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد" رواه البخارى وقوله "إذا سمعتم بالطاعون فى أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها" والله سبحانه يقول {خذوا حذركم} النساء:
71، وفى الحديث الذى رواه أحمد وابن ماجه بإسناد حسن "لا ضرر ولا ضرار".
فالمريض بالإيدز على فرض اليأس من شفائه - لا يجوز قتله منعا لضرره عن الغير، فمنع الضرر له وسائل أخرى غير القتل ولا يقال إنه يستحق القتل، لأنه ارتكب منكرا نقل إليه هذا المرض، فليس كل منكر حتى لو كان اتصالا محرما يوجب القتل، فهناك شروط موضوعة لإقامة حد الرجم "القتل " على مرتكب الفاحشة، كما أن هناك وسائل لانتقال المرض إليه ليست محرمة وربما لا يكون له فيها اختيار، كنقل دم مريض به دون علم، أو غير ذلك.
وعلى العموم لا يصح قتل المريض بالإيدز أو بغيره، لا لليأس من شفائه، ولا لمنع انتقال المرض منه إلى غيره، فالله على كل شيء قدير، ووسائل الوقاية متعددة، وقد يكون بريئا من ارتكاب ما سبب له المرض، فهو يستحق العطف والرحمة، ومداومة العلاج بالقدر المستطاع، جاء فى الحديث الذى رواه الترمذى "يا عباد اللَّه تداووا، فان الله لم يضع داء إلا وضع له دواء" وفى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "ما أنزل اللَّه من داء إلا أنزل له شفاء" وفى الحديث الذى رواه أحمد "إن اللَّه لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله "وجاء فى بعض روايات أحمد استثناء " الهرم " فإنه ليس له شفاء.
وهذه الأحاديث تعطينا أملا فى اكتشاف دواء لهذا المرض، كما اكتشفت أدوية لأمراض ظن الناس أن شفاءها ميئوس منه، فلا يصح قتل حامله لليأس من شفائه، ولا لمنع الضرر عن الأصحاء، حيث لم يتعين القتل وسيلة له، فالوسائل المباحة موجودة، وعليه فليست هناك ضرورة أو حاجة ملحة حتى يباح لها المحظور، ولا محل أيضا لقياس قتله على إلقاء أحد ركاب السفينة فى البحر لإنقاذ حياة الباقين، تقديما لحق الجماعة على حق الفرد، أو على قتل المسلم الذى تترس به العدو للتوصل إلى قتله. فذلك وأمثاله تحتم الإغراق والقتل وسيلة، فأبيح للضرورة والأمر فى منع العدوى ليس كذلك(8/299)
إسراع الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الجنازة إذا كان سيرها سريعا كانت صالحة وإذا كان بطيئا كانت غير صالحة؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدمونى، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بى؟ يسمع صوتها كل شيء ولو يسمع الإنسان لصعق "وروى البخارى ومسلم أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عند موت سعد بن معاذ "اهتز عرش الرحمن لموت معاذ" وروى الترمذى عن أنس رضى اللَّه عنه قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته - وذلك لحكمه فى بنى قريظة - فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال:
"إن الملائكة كانت تحمله.
وذكر ابن الأثير فى كتابه "أسد الغابة" عن سعد بن أبى وقاص عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لقد نزل من الملائكة فى جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفا ما وطئوا الأرض من قبل، وبحق أعطاه الله ذلك.
تدل هذه الأحاديث على أن الجنازة إذا كانت صالحة تطلب من حملتها من الناس أن يسرعوا بها لتتنعم بما أعده اللَّه لها، وإن لم يسمعوا صوتها، وعلى أن هناك من يسمعها، كما تدل على أن الملائكة تشارك فى حمل جنازة بعض الخواص من المسلمين أو على الأقل أن حملها للجنازة ممكن لا يوجد نص يمنعه، والعقل لا يحيل ذلك، فإن فى العالم قوى خفية وللأرواح أحوالا غريبة، مع الإيمان بأن اللَّه على كل شىء قدير.
بعد هذا نقول: إسراع النعش وإبطاؤه أو وقوفه أو طيرانه فوق الرءوس أمور تناقل الناس أخبارها كثيرا، بعضهم سمع وبعضهم رأى، وأكثر المعلقين عليها يقولون: إن ذلك من فعل الحاملين للجنازة، وقد يكون ذلك التعليق صحيحا، لكن تحدث أناس موثوق بحديثهم أن الإسراع أو الإبطاء، قد يكون اضطرابا لا دخل فيه لأحد من الحاملين لها. ونحن بدورنا نقول:
إن الأمر فى حد ذاته ممكن، وليس هناك نص يمنعه، وإن كان حديث الترمذى فى شأن سعد بن معاذ يرجحه، وهو على كل حال ليس عقيدة نحاسب عليها، وإنما الذى نحاسب عليه من العقائد هو ما يكون دليله قطعى الثبوت والدلالة، وموضوع السؤال ليس من هذا القبيل.
وعلينا أن نعتقد أن عمل الإنسان هو ميزان تقديره عند اللَّه، كما نحذر من يحملون الجنازة من اصطناع أمور يظهرون بها كرامة ميتهم، فكرامته فى عمله، والله وحده هو الذى يتولى ذلك(8/300)
تشريح جثث الموتى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم تشريح جثث الموتى لتحقيق الجناية أو التعليم؟
الجواب
ورد عن جابر رضى اللَّه عنه أنه قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى جنازة فجلس النبى على شفير القبر وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظما - ساقا أو عضوا - فذهب ليكسره، فقال النبى صلى الله عليه وسلم "لا تكسرها، فإن كسرك إياه ميتا ككسرك إياه حيا، ولكن دسه فى جانب القبر" هذا الحديث رواه مالك وابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح ما عدا رجلا واحدا هو سعد الأنصارى، فقد ضعفه أحمد، ولكن وثقه الأكثر ون وروى له مسلم، وهو كاف فى الاحتجاج بالحديث.
لم يرد فى نصوص الدين ما يتصل بتشريح جثة الميت مباشرة، والمسألة اجتهادية بين الفقهاء الذين اعتمدوا على هذا الحديث، حين تحدثت كتبهم عن حكم شق بطن الميت إن كان فيه مال، وشق بطن الميتة الحامل لإخراج الجنين منه.
وقد جاء فى فتوى صادرة من دار الإفتاء المصرية فى 31 من أكتوبر سنة 1937م (المفتى الشيخ عبد المجيد سليم - الفتاوى الإسلامية - المجلد الرابع ص 1331.) بالنسبة لشق البطن إن كان فيه مال: أن علماء الحنفية أجازوا شقه إذا كان المال لغيره ولم يترك الميت مالا يعطى لصاحبه، لأن حق الآدمى مقدم على حق الله تعالى، ومقدم على حق الظالم المعتدى، وقد زالت حرمة هذا الظالم بتعديه على مال غيره.
أما مذهب الشافعى فالمشهور للأصحاب إطلاق الشق حينئذ - يعنى جوازه -من غير تفصيل إن كان المال لغيره وطلبه، وقال بعضهم: يشق بطنه إذا لم يضمن الورثة مثله أو قيمته، وهناك وجه بجواز الشق إن بلع جوهرة لنفسه، والخلاصة أن عند الشافعية رأيا بالشق مطلقا، وعن سحنون المالكى يجوز الشق مطلقا من أجل المال، ومنعه أحمد.
وبالنسبة لشق بطن الميتة لإخراج الجنين، أجازه الحنفية إن علم أن الولد حى، لأن الشق وإن كان فيه إبطال لحرمة الميت ففيه صيانة لحرمة الحى وهو الولد، وأجازه الشافعية إن كان يرجى حياة الجنين بعد إخراجه، ومنعه المالكية والحنابلة. ثم قال المفتى:
والذى يقتضيه النظر الدقيق فى قواعد الشريعة وروحها أنه إذا كانت هناك مصلحة راجحة فى شق البطن وتشريح الجثة، من إثبات حق القتيل لدى المتهم،أو تبرئة المتهم من تهمة القتل بالسم مثلا أنه يجوز الشق والتشريح. والحديث المذكور فى عدم كسر عظم الميت يحمل على ما إذا لم تكن هناك مصلحة راجحة أو حاجة ماسة، فقواعد الدين الإسلامى مبنية على رعاية المصالح الراجحة وتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة يكون تفويتها أشد من هذا الضرر.
ومثل هذه الفتوى جاء فى الفتوى الصادرة فى 23 من أكتوبر سنة 1966 م (المفتى الشيخ أحمد هريدى - الفتاوى الإسلامية - المجلد السادس ص 2278.) وكذلك فى الفتوى الصادرة في 5 من ديسمبر سنة 1979 م (المفتى الشيخ جاد الحق على جاد الحق - الفتاوى الإسلامية - المجلد العاشر ص 3705-3707.) التى جاء فيها ما نصه: أن فقه مذهبى الإمامين أبى حنيفة والشافعى يجيزان شق بطن الميت، سواء لاستخراج جنين حى أو لاستخراج مال، وأن فقه مذهبى مالك وأحمد بن حنبل الشق فى المال دون الجنين، والذى اختاره فى هذا الموضوع هو ما ذهب إليه فقهاء الحنفية والشافعية، من جواز شق بطن الميت لمصلحة راجحة سواء كانت لاستخراج جنين حى أو مال للميت أو لغيره إذا كان ذا قيمة معتد بها عرفا ينتفع بها الورثة أو تقضى ديونه. اهـ.
هذا فى التشريح لتحقيق جناية أو استخراج مال أو جنين، بناء على المصلحة الراجحة، فهل التشريح الذى يمارس فى كليات الطب للتعليم فيه مصلحة راجحة على صيانة حرمة الميت؟ جاء فى فتوى للشيخ يوسف الدجوى منشورة فى مجلة الأزهر، المجلد السادس ص 472، ما بشير إلى جوازه بالقياس الأولوى على جواز التشريح للمال ولو كان قليلا كما رآه بعض الفقهاء، وقال ما نصه: فضلا عما فى التشريح من تقدم العلم الذى تنتفع به الإنسانية كلها، وينقذ كثيرا ممن أشفى على الهلكة أو أحاطت به الآلام من كل نواحيه، فهو يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت. ثم قال مستدركا: غير أنا نرى أنه لابد من الاحتياط فى ذلك حتى لا يتوسع فيه الناس بلا مبالاة، فليقتصر فيه على قدر الضرورة. وقال فى ص 578:
إنا نرى من الإخلاص للدين والعلم أن نقول: إن مثل هذه المسألة محل اجتهاد يصح أن تختلف فيه الأنظار، وإذا رجحنا شيئا فإننا نكتب عن رأينا أو رأى فريق من علمائنا، والخير كله فى التوسط والاعتدال، والشر كله فى الإفراط والتفريط.
ولم يوافقه الشيخ محمد بخيت المطيعى على ذلك، فبعد أن ذكر المسائل التى يجوز فيها شق بطن الميت نقلا عن كتب المذاهب التى تحدثت عن إخراج الجنين والمال -قال: وبناء على ذلك فلا يجوز شق بطن أى ميت كان إلا فى المواد المتقدمة، وأن التشريح الذى من لوازمه شق البطن بلا سبب سوى بحث الأعضاء ومعرفة وظائفها وما بها من الأمراض فهذا لا يسوغ ولا يجيز فتح بطن الإنسان بعد موته.
ويمكن الوقوف على وظائف الأعضاء بواسطة فتح بطن حيوان آخر غير الإنسان، لأن كل الحيوانات متساوية فى وظائف الأعضاء الحيوانية. ثم قال: ومن هنا يعلم أن التشريح الذى من لوازمه فتح البطن كما قلنا لا يجوز. نعم فتح البطن لأجل العلاج الطبى يجوز، لأنه للمحافظة على الحياة فلا إهانة فيه (مجلة الأزهر - المجلد السادس ص 631، 632.) .
وجاء فى فتوى للشيخ جاد الحق على جاد الحق، عن نقل الأعضاء: أن الميت إذا جهلت شخصيته أو عرفت وجهل أهله يجوز أخذ جزء من جسده نقلا لإنسان حى آخر يستفيد به فى علاجه، أو تركه لتعليم طلاب كليات الطب، لأن فى كل ذلك مصلحة راجحة تعلو على الحفاظ على حرمة الميت (الفتاوى الإسلامية - المجلد العاشر ص 3714.) . .
من هذا بمكن أن نقول: إن التشريح من أجل التعلم والتعليم محل خلاف بين العلماء ومن أجازه قال: لا يصار إليه إلا عند الضرورة وفى أضيق الحدود، ولو أمكنت الدراسة على حيوانات مماثلة لكان أولى، وكذلك لو أمكن الاستغناء عن التشريح بالنماذج المصنوعة-وهى دقيقة إلى حد كبير-فلا يجوز اللجوء إلى جثة الآدمى(8/301)
انتفاع الميت بقراءة القرآن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى قراءة القرآن على الأموات هل تنفعهم أو لا تنفعهم؟
الجواب
فى قراءة القرآن للميت خلاف للعلماء بين المنع من استفادته بها بناء على أنها عبادة بدنية لا تقبل النيابة، وبين الجواز بناء على رجاء رحمة اللَّه وما ورد من بعض النصوص، ومن تتبع أقوال الكثيرين يمكن استنتاج ما يلى:
1 - إذا قرئ القرآن بحضرة الميت فانتفاعه بالقراءة مرجو، سواء أكان معها إهداء أم لم يكن، وذلك بحكم المجاورة، فإن القرآن إذا تلى، وبخاصة إذا كان فى اجتماع حفت القارئين الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، روى مسلم قول النبى صلى الله عليه وسلم "ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت اللَّه يقرؤون كتاب اللَّه ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة" والقرآن ذكر، بل أفضل الذكر، وقد روى مسلم وغيره حديث " لا يقعد قوم يذكرون اللَّه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم اللَّه فيمن عنده "، بل لا يشترط لنزول الملائكة وغيرهم أن تكون القراءة أو الذكر فى جماعة، فيحصل ذلك للشخص الواحد روى البخارى ومسلم حديث أسيد بن حضير الذى كان يقرأ القرآن فى مربده وبجواره ولده وفرسه، وجاء فيه: فإذا مثل الظلة فوق رأسى، فيها أمثال السرج عرجت فى الجو حتى ما أراها، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " تلك الملائكة تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم ".
على أن النص قد جاء بقراءة "يس " عند الميت، روى أحمد وأبو داود والنسائى، واللفظ له، وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "قلب القرآن يس، لا يقرؤها رجل يريد اللَّه والدار الآخرة إلا غفر اللَّه له اقرؤوها على موتاكم ". وقد أعل الدارقطنى وابن القطان هذا الحديث، لكن صححه ابن حبان والحاكم، وحمله المصححون له على القراءة على الميت حال الاحتضار، بناء على حديث فى مسند الفردوس "ما من ميت يموت فتقرأ عنده يس إلا هون اللَّه عليه " لكن بعض العلماء قال: إن لفظ الميت عام لا يختص بالمحتضر، فلا مانع من استفادته بالقراءة عنده إذا انتهت حياته، سواء دفن أم لم يدفن،، روى البيهقى بسند حسن أن ابن عمر استحب قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن، وابن حبان الذى قال فى صحيحه معلقا على حديث "اقرؤوا على موتاكم يس " أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه رد عليه المحب الطبرى: بأن ذلك غير مسلم له وإن سلم أن يكون التلقين حال الاحتضار، قال الشوكانى: واللفظ نص فى الأموات وتناوله للحى المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا لقرينة، "نيل الأوطار ج 4 ص 52" والنووى ذكر فى رياض الصالحين تحت عنوان: الدعاء للميت بعد دفنه والقعود عند قبره ساعة للدعاء له والاستغفار والقراءة "الباب الحادى والستون بعد المائة" ذكر أن الشافعى قال: يستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن وإن ختموا القرآن كان حسنا، وجاء فى المغنى لابن قدامة "ص 758" تسن قراءة القرآن عند القبر وهبة ثوابها، وروى أحمد أنه بدعة، ثم رجع عنه.
وكره مالك وأبو حنيفة القراءة عند القبر حيث لم ترد بها السنة.
لكن القرافى المالكى قال: الذى يتجه أن يحصل للموتى بركة القراءة، كما يحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده.
2 -إذا قرئ القرآن بعيدا عن الميت أو عن القبر وامتنع انتفاعه به بحكم المجاورة وحضور الملائكة، اختلف الفقهاء فى جواز انتفاع الميت به، وهناك ثلاث حالات دار الخلاف حولها بين الجواز وعدمه:
الحالة الأولى:
إذا قرأ القارىء ثم دعا الله بما قرأ أن يرحم الميت أو يغفر له، فقد توسل القارئ إلى اللَّه بعمله الصالح وهو القراءة، ودعا للميت بالرحمة، والدعاء له متفق على جوازه وعلى رجاء انتفاعه به إن قبله اللَّه، كمن توسلوا إلى اللَّه بصالح أعمالهم فانفرجت عنهم الصخرة التى سدت فم الغار وفى هذه الحالة لا ينبغى أن يكون هناك خلاف يذكر فى عدم نفع الميت بالدعاء بعد القراءة.
الحالة الثانية.
إذا قرأ القارئ ثم دعا اللَّه أن يهدى مثل ثواب قراءته إلى الميت، قال ابن الصلاح: وينبغى الجزم بنفع: اللهم أوصل ثواب ما قرأناه، أى مثله، فهو المراد، وأن يصرح به لفلان، لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعى فماله أولى، ويجرى ذلك فى سائر الأعمال، ومعنى كلام ابن الصلاح أن الداعى يدعو الله أن يرحم الميت: والرحمة ليست ملكا له بل لله، فإذا جاز الدعاء بالرحمة وهى ليست له فأولى أن يجوز الدعاء بما له هو وهو ثواب القراءة أو مثلها. وكذلك يجوز فى كل قربة يفعلها الحى من صلاة وصيام وصدقة، ثم يدعو بعدها أن يوصل اللَّه مثل ثوابها إلى الميت. وقد تقدم كلام ابن قدامة فى المغنى عن ذلك، والدعاء بإهداء مثل ثواب القارئ إلى الميت هو المراد من قول المجيزين: اللهم أوصل ثواب ما قرأته لفلان.
الحالة الثالثة:
إذا نوى القارئ أن يكون الثواب: أى مثله، للميت ابتداء أى قبل قراءته أو أثناءها يصل ذلك إن شاء اللَّه، قال أبو عبد الله الأبى: إن قرأ ابتداء بنية الميت وصل إليه ثوابه كالصدقة والدعاء، وإن قرأ ثم وهبه لم يصل، لأن ثواب القراءة للقارئ لا ينتقل عنه إلى غيره، وقال الإمام ابن رشد فى نوازله: إن قرأ ووهب ثواب قراءته لميت جاز وحصل للميت أجره، ووصل إليه نفعه، ولم يفصل بين كون الهبة قبل القراءة أو معها أو بعدها، ولعله يريد ما قاله الأبى.
هذا، وانتفاع الميت بالقراءة مع الإهداء أو النية هو ما رآه المحققون من متأخرى مذهب الشافعى، وأولوا المنع على معنى وصول عين الثواب الذى للقارئ، أو على قراءته لا بحضرة الميت ولا بنية ثواب قراءته له، أو نيته ولم يدع له، وقد رجح الانتفاع به أحمد وابن تيمية وابن القيم، وقد مر كلامهم فى ذلك.
قال الشوكانى "نيل الأوطار ج 4 ص 142 " المشهور من مذهب الشافعى وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعى إلى أنه يصل، كذا ذكره النووى فى الأذكار.
وفى شرح المنهاج: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور، والمختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته، وينبغى الجزم به لأنه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعى فلأن يجوز بما هو له أولى، ويبقى الأمر فيه موقوفا على استجابة الدعاء. وهذا المعنى لا يختص بالقراءة، بل يجرى فى سائر الأعمال. والظاهر أن الدعاء متفق عليه أنه ينفع الميت والحى، والقريب والبعيد، بوصية وغيرها وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضل الدعاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب.
هذا، وقد قال الأبى: والقراءة للميت، وإن حصل الخلاف فيها فلا ينبغى إهمالها، فلعل الحق الوصول، فإن هذه الأمور مغيبة عنا، وليس الخلاف فى حكم شرعى إنما هو فى أمر هل يقع كذلك أم لا.
وأنا مع الأبى فى هذا الكلام فإن القراءة للميت إن لم تنفع الميت فهى للقارئ، فالمستفيد منها واحد منهما، ولا ضرر منها على أحد.
مع تغليب الرجاء فى رحمة الله وفضله أن يفيد بها الميت كالشفاعة والدعاء وغيرهما.
وهذا الخلاف محله إذا قرئ القرآن بغير أجر، أما إن قرئ بأجر فالجمهور على عدم انتفاع الميت به، لأن القارئ أخذ ثوابه الدنيوى عليها فلم يبق لديه ما يهديه أو يهدى مثل ثوابه إلى الميت، ولم تكن قراءته لوجه الله حتى يدعوه بصالح عمله أن ينفع بها الميت، بل كانت القراءة للدنيا، ويتأكد ذلك إذا كانت هناك مساومة أو اتفاق سابق على الأجر أو معلوم متعارف عليه، أما الهدية بعد القراءة إذا لم تكن نفس القارئ متعلقة بها فقد يرجى من القراءة النفع للميت. والأعمال بالنيات، وأحذر قارئ القرآن من هذا الحديث الذى رواه أحمد والطبرانى والبيهقى عن عبد الرحمن بن شبل: "اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به " قال الهيثمى: رجال أحمد ثقات، وقال ابن حجر فى الفتح: سنده قوى، وفسر الأكل به بأخذ الأجرة عليه، كما فسر بالاستجداء به والتسول.
وقد قال الشيخ حسنين محمد مخلوف فى أخذ الأجرة على قراءة القرآن: مذهب الحنفية لا يجوز أخذها على فعل القرب والطاعات كالصلاة والصوم وتعليم القرآن وقراءته، ولكن المتأخرين من فقهاء الحنفية استثنوا من ذلك أمورا منها تعليم القرآن، فقالوا: بجواز أخذ الأجرة عليه استحسانا، خشية ضياعه، ولكن بقى حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن على ما تقرر فى أصل المذهب من عدم الجواز.
ومذهب الحنابلة لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ولا على قراءته، استنادا إلى حديث "اقرؤوا القرآن " الذى تقدم. ومذهب المالكية لا يجوز أخذ الأجرة على ما لا يقبل النيابة من المطلوب شرعا كالصلاة والصيام، ولكن يجوز أخذ الأجرة على ما يقبل النيابة، ومنها تعليم القرآن وقراءته، ومذهب الشافعية يجوز أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه، سواء أكانت القراءة عند القبر أو بعيدة عنه، مع الدعاء بوصول الثواب إلى الميت اهـ.
انظر موضوع "الأجر على قراءة القرآن " بالمجلد الثانى(8/302)
تلقين الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
بعد دفن الميت يجلس أحد الفقهاء ويلقنه كلاما ليجيب به الملكين فهل هذه سنة أم عادة عن الأجداد، وما حكم الشرع فيه؟
الجواب
رأى بعض العلماء أن يلقن الميت المكلف بعد دفنه، فقد روى عن بعض التابعين، منهم راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم بن عميرة أنهم قالوا: إذا سوى على الميت قبره وانصرف الناس عنه كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه "ثلاث مرات " يا فلان قل: ربى اللَّه، ودينى الإسلام، ونبيى محمد، ثم ينصرف.
وعندهم فى هذا حديث أبى أمامة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقف أحدكم عند رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة الثانية، فيستوى قاعدا، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تسمعون فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك رضيت باللَّه ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما - فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما فيقول: انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون اللَّه تعالى حجته دونهما. فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه؟ فال "فلينسبه إلى حواء" رواه ابن شاهين فى كتاب الموت بإسناده. وهذا الإسناد صالح وقواه بعضهم. وقال النووى: هذا الحديث وإن كان ضعيفا فليستأنس به. وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة فى أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد، كحديث "واسألوا له التثبيت " ورواية عمرو بن العاص، وهما صحيحان. ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا فى زمن يقتدى به وإلى الآن، وذهبت المالكية فى المشهور عنهم وبعض الحنابلة إلى أن التلقين مكروه، جاء فى المغنى لابن قدامة (ج 2 ص 377) : ليس فيه لأحمد ولا للأئمة شيء، سوى ما رواه الأثرم، قال: -قلت لأبى عبد اللَّه: فهذا الذى يصنعون إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول ... فقال: ما رأيت أحدا فعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذاك، قال: وكان أبو المغيرة يروى فيه عن أبى بكر بن أبى مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه، وكان ابن عباس يرويه، ثم قال فيه: إنما لأثبت عذاب القبر.
قال القاضى وأبو الخطاب: يستحب ذلك، ورويا فيه حديث أبى أمامة المذكور.
جاء فى "مشارق الأنوار" للعدوى ص 10 أن التلقين مشروع عند الشافعية، وارتضاه صاحب المدخل وجزم به القرطبى وكذلك عند أبى حنيفة وغير واحد من المالكية كما قال صاحب المدخل، وذلك لحديث سعيد بن عبد الله الأسدى الذى قال: شهدت أبا أمامة الباهلى فى النزع فقال: إذا مت فاصنعوا بى كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم (وذكر الحديث المتقدم) قال العدوى: ومشهور مذهب مالك يرى ضعف الحديث وأن شرط العمل به ألا يشتد ضعفه وأن يندرج تحت أصل كلى، قال الشيخ عبد الباقى:
ولم يوجد فى هذا الحديث اندراج تحت أصل كلى، فلا يعمل به وإن كان فى المقاصد تقويته.اهـ. قال العلامة الأمير فى حاشيته عليه: وأورد أن هذا مندرج فى نفع المؤمن أخاه {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} اهـ. فيكون هذا مقويا لما درج عليه صاحب المدخل وجزم به القرطبى فيكون الاعتماد عليه. لا سيما والحديث قواه الحافظ السخاوى فى "المقاصد" ولكل وجهة رضى الله عن الجميع. انتهى كلام العدوى.
ويقول السيد/ عبد الله بن محمد الصديق الحسنى: إن التلقين جرى عليه العمل قديما فى الشام زمن أحمد بن حنبل وقبله بكثير، وفى قرطبة ونواحيها حوالى المائة الخامسة فما بعدها إلى نكبة الأندلس، وذكر بعض العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة الذين أجازوه، وذكر أن حديث أبى أمامة ضعيف، لكن الحافظ ابن حجر قال فى "التلخيص " إسناده صحيح، ورأى الصديق الحسنى صلاح إسناده لأن له طرقا وشواهد "مجلة الإسلام -مجلد 3 عدد 10 ".
وفى المجلد الرابع من الفتاوى الإسلامية ص 1391 أن الشيخ قراعة أفتى سنة 1922 م بأن التلقين فيه خلاف واختار عدم المنع، أخذا مما روى عن القاضى الكرمانى حينما سئل عنه فقال: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللَّه حسن، وإنما لا ينهى عن التلقين بعد الدفن لأنه لا ضرر فيه، بل فيه نفع، فإن الميت يستأنس بالذكر على ما ورد فى الآثار، انتهى ملخصا من حاشية مراقى الفلاح ورد المحتار.
وفى المجلد نفسه ص 1256 أن الشيخ عبد المجيد سليم أفتى سنة 1936 م بأنه مستحب عند الشافعية والحنابلة ومكروه عند الإمام مالك رضى اللَّه عنه ووافق على ما جنح إليه الشيخ قراعة. ونقل كلام النووى فى الجزء الخامس من كتابه المجموع "ص 303 " من استحبابه والكلام الذى يقال فيه وأن التلقين يكون للمكلف وليس للصبى ونقل رأى الإمام مالك بالكراهة، من شرح الرسالة لأبى الحسن. وأنه لم يجد فى كتب الحنفية ولا فى غيرها اشتراط شيء فيمن يلقن الميت بعد الدفن، ورأى أنه ينبغى أن يكون ممن يحسن التلقين. انتهى.
وبعد هذا العرض أرى أن هذا العمل لا يضر الأحياء ولا الأموات، بل ينتفع به الأحياء تذكرة وعبرة، فلا مانع منه.
هذا، وتلقين الشهادة للمحتضر مشروع ندبا أو وجوبا، لحديث الجماعة إلا البخارى "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " ويزاد عليه "وأن محمدا رسول اللَّه " ومع مشروعيته أجمع العلماء على كراهة الإكثار منه لئلا يتألم المحتضر وربما يرفض "نيل الأوطار ج 4 ص 22 "(8/303)
سماع الميت أثناء تشييع الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الميت يسمع الكلام أثناء تشييع الجنازة؟
الجواب
جاء فى كتاب "مشارق الأنوار" للعدوى ص21: أن الميت يعرف من يغسله ويحمله ومن يكفنه ومن يدليه فى حفرته، وأن روح الميت فى يد ملك ينظر إلى جسده كيف يغسل وكيف يكفن، ويقال له وهو على سريره: اسمع ثناء الناس عليك،وأن الميت يرى ما يصنع أهله، ولو قدر على الكلام لنهاهم عن العويل والصراخ. وكل ذلك وردت به أحاديث أخرجها أحمد وابن أبى الدنيا والطبرانى وابن منده وأبو نعيم وأبو داود. وقد حكم على بعض الأحاديث بالضعف.
ومعلوم أن العقائد والغيبيات لا تثبت إلا بالدليل القطعى من الكتاب والسنة، وأحوال الموتى من الغيب الذى يعلمه الله وحده، ولا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضاه، ولا يجب علينا الإيمان إلا بما ورد من طريق صحيح، والأخبار المروية فى سماع الموتى كلام المشيعين لم ترق إلى هذه الدرجة، فلا نجزم بالنفى ولا بالثبوت، حيث إن ذلك ممكن لم يرد ما يمنعه، وحيث إن ما أثبته لم يكن بطريق الجزم، فمن صدَّق بذلك فهو حر ومن كذَّب لا يكفر(8/304)
هل يتزاور أهل الجنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يتزاور أهل الجنة كما يتزاور أهل الأرض؟
الجواب
ذكر الحافظ المنذرى فى كتابه "الترغيب والترهيب " أن أهل الجنة يتزاورون على المطايا والنُّجب، وأنَّ بعضهم يشتاق إلى بعض فتسير بهم السرر حتى يتلاقوا ويتذكروا كيف غفر الله لهم.
وذكر المنذرى أن بعض هذه الأحاديث موقوف غير مرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم وأن رواة بعضها مختلف فى صحبته،وبهذا لا يثبت تزاورهم بطريق صحيح يكون سبيلا للاعتقاد.
غير أن الأمر فى حد ذاته ممكن، ولو طلبه أحد من أهل الجنة لأجيب طلبه بناء على عموم قوله تعالى {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} الزخرف: 71، وقوله تعالى {ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} الحجر: 47، ويؤكد أن لهم لقاءات يتذاكرون فيها ماضيهم فى الدنيا ويسألون عمن كانوا معهم فيها وعصوا ربهم، قوله تعالى {إلا عباد الله المخلصين. أولئك لهم رزق معلوم. فواكه وهم مكرمون. فى جنات النعيم. على سرر متقابلين.
يطاف عليهم بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون. وعندهم قاصرات الطرف عين. كأنهن بيض مكنون. فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قال قائل منهم إنى كان لى قرين. يقول أئنك لمن المصدقين. أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون. قال هل انتم مطلعون. فاطلع فرآه فى سواء الجحيم. قال تالله إن كدت لتردين. ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين. أفما نحن بميتين. إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين. إنَّ هذا لهو الفوز العظيم. لمثل هذا فليعمل العاملون} الصافات: 45 - 161(8/305)
تزاور الموتى فى القبور
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الموتى يتزاورون فى القبور؟
الجواب
جاء فى صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه " قيل: العلة فى ذلك تزاور الموتى وتباهيهم بالأكفان، كما نص عليه فى أحاديث أخرى، منها ما أخرجه الترمذى وابن ماجه والبيهقى "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه، فإنهم يتزاورون فى قبورهم " وقال ابن تيمية فى فتاويه: إنهم يتزاورون سواء أكانت المدائن متقاربة فى الدنيا أم متباعدة. وقال الفقهاء بتحسين الأكفان لهذه العلة.
وللسيوطى كتاب فى ذلك عنوانه "شرح الصدور" وقال ابن القيم فى كتاب الروح: إن الحى يرى الميت فى منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلمه الحى فيصادف خبره كما أخبر فى الماضى والمستقبل.
والأمر مغيب واعتقاده يحتاج إلى دليل قاطع، ومع ذلك فهو ممكن يجوز تصديقه ولا يؤدى تكذيبه إلى الكفر(8/306)
وضع الطعام مع الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى أثناء تشييع الجنازة أصر أحد أبناء الميت على أن يضعوا فى قبر أبيهم بعضا من الخبز والبيض والماء، وقال إن هذه سنة، فهل هناك حديث يدل على ذلك؟
الجواب
إن أحوال القبر والحياة الآخرة من أمور الغيب التى لا تعرف إلا بتوقيف صحيح من الله ورسوله، والميت إذا وضع فى قبره صار فى عالم آخر لا يحتاج فيه إلى أكل وشرب، وإنما يحتاج إلى عمل صالح كان قد عمله فى الدنيا ولم يزل أثره باقيا وهو ما يُعرف بالصدقة الجارية أو عمله غيره، ووهب له ثوابه كصدقة وصيام ونحوهما، وقد صح فى الحديث الذى رواه مسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " كما جاء أيضا "يتبع الميت إلى قبره ثلاثة، أهله وماله -يعنى الأرقاء المملوكين - وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى معه عمله " رواه البخارى ومسلم.
وفى حديث رواه ابن ماجه "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا بناه لابن السبيل، أو نهرا أكراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته ".
فالذي يفيد الميت في قبره عمله هو أو عمل غيره الذى يهديه إليه، وبخاصة الصدقة والصيام والحج وقراءة القرآن، والصلاة له لا عنه. أما وضع الطعام معه فى قبره فممنوع، لأنه أولا لا ينتفع به. فوضعه عبث لأنه ميت لا يأكل، وثانيا ضياع مال أولى به الأحياء، وضياع المال منهى عنه.
ولم يرد أى حديث مقبول أو غير مقبول يزعم به أحد أن ذلك سنة، ولا يقال: إنه بدعة جديدة لم تكن عند السلف من الأمة، بل هو تقليد فرعونى قديم منذ آلاف السنين، إلى جانب تقاليد أخرى ذكرها المؤرخون. جاء فى كتاب تاريخ الحضارة المصرية الذى ألفه نخبة من العلماء المتخصصين أن المصريين القدامى حتى نهاية العهد الإغريقى الرومانى كانوا يحرصون على تزويد المتوفى بالطعام والشراب، لأنهم كانوا يعتقدون فى حياة أخرى فإذا مات الميت ووضعت جثته فى القبر لا تعود إليه روحه إلا إذا مُدَّ بالطعام والشراب، ويتولى ذلك ابنه الأكبر، وانطلاقا من عقيدة خلود الروح والحياة الأخرى كان فن تحنيط الموتى وتحنيط ما يوضع معه من طعام حتى لا يفسد، بل كانت نساء كبارهم تدفن معه محنطة، ليكمل له التمتع فى حياته الآخرة، وظهرت عادة تقديم الأطعمة إلى الموتى بصور مختلفة، فكانوا يقدمون القرابين للكاهن الذى يوصلها بطريقته إلى الميت، ويعلم الله مصير هذه القرابين. وظهرت عند البعض عادة الذبح عند القبر، وتوزيع الطعام عند زيارة القبور "ج 1 ص 232 وما بعدها".
وألفت نظر أولاد الميت الذين يريدون البر بأبيهم بوضع الطعام في قبره -ألفت نظرهم إلى ما رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان أن رجلا قال:
يا رسول الله، هل بقى من بر أبوى شيء بعد موتهما؟ قال "نعم، الصلاة عليهما -أى الدعاء لهما -والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما"(8/307)
سرادقات العزاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم إقامة السرادقات للعزاء، وما حكم أخذ الأجر على قراءة القرآن فيها؟
الجواب
ستتناول الإجابة ثلاث نقط، مشروعية التعزية، أسلوبها، مدتها، وإليك موجزها.
ا -تعزية الإنسان لغيره فيما يصيبه مستحبة، لأنها تخفف عنه وقع الألم، وهو خير، وكل خير يقدَّم للغير له أجره إن خلصت النية، يقول النبى صلى الله عليه وسلم "ما من مؤمن يعزى أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة" رواه ابن ماجه وهى لا تستحب إلا مرة واحدة، ويستوى فى ذلك أن تكون قبل الدفن أم بعده.
2 - ليس هناك تحديد لأسلوبها وإن كان الأفضل أن تكون بالمأثور، فقد روى البخارى عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما قال:
أرسلت ابنة النبى صلى الله عليه وسلم إليه أن ابنا لها قبض وطلبت أن يأتى إليها، فأرسل يقرئ السلام ويقول "إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده لأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب " وقد يكون فى هذا الكلام عزاء من الرسول لنفسه، وأمرها أن تصبر وتحتسب، وأفضل ما يعزى به الإنسان نفسه ما جاء فى قوله تعالى {وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} البقرة:155، 156 وجاء فى صحيح مسلم أن من قالها وقال: اللهم آجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرا منها استجاب الله له. وكما كان يفعل السلف الصالح لا حاجة إلى الجلوس والإعداد لتقبل العزاء.
يقول النووى: قال الشافعى وأصحابه رحمهم الله: يكره الجلوس للتعزية، قالوا: ويعنى بالجلوس أن يجتمع أهل الميت فى بيت ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغى أن ينصرفوا فى حوائجهم، ولا فرق بين الرجال والنساء فى كراهة الجلوس لها، صرح به المحاملى ونقله عن نص الشافعى رضى الله عنه، وهى كراهة تنزيه - لا تحريم -إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها فى العادة كان ذلك حراما من قبائح المحرمات، فإنه محدث، وثبت فى الحديث الصحيح أن كل محدثة بدعة. وكل بدعة ضلالة [الأذكار للنووى ص ا15] .
وذهب أحمد وكثير من علماء الأحناف إلى هذا الرأى، وذهب المتقدمون من الأحناف إلى أنه لا بأس بالجلوس فى غير المسجد ثلاثة أيام للتعزية من غير ارتكاب محظور.
هذا، وجاء فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، نشر وزارة الأوقاف المصرية ما نصه: ويباح لأهل المصيبة أن يجلسوا فى المنزل لقبول العزاء ثلاثة أيام. أما الجلوس على قارعة الطريق وفرش البسط نحوها - السرادقات - مما اعتاد الناس فعله فهو بدعة منهى عنها، أما الحنابلة فقالوا: الجلوس للعزاء مكروه، سواء كان فى المنزل أو غيره، والحنفية قالوا: الجلوس للتعزية خلاف الأولى، والأولى أن يتفرق الناس بعد الدفن ويكره الجلوس فى المسجد، انتهى.
فهناك اتفاق بين الأئمة على أن إقامة السرادقات - ومثلها دور المناسبات - لتقبل العزاء غير محمودة، وأقل درجاتها الكراهة أو خلاف الأولى، مع العلم بأنها إذا كانت للمباهاة كانت حرامًا، وإذا أنفق عليها من أموال القصَّر كانت حراما أيضا.
أما القرآن الذى يتلى فى السرادقات فإن كان بأجر، فلا ينتفع به الميت، وإن كان بغير أجر ووهب الثواب إلى الميت يرجى انتفاعه، وما يأخذه القارئ إن كان مشروطا فهو أجر حرمه أكثر العلماء، وإن لم يكن مشروطا فإن كان القارئ ممن يستحق الصدقة فهو صدقة ينتفع بها الميت إن وهب المعطى ثوابها إليه، وإن لم يكن ممن يستحق الصدقة فهى هبة أو هدية لا حرمة فى أخذها ولا منفعة للميت بها.
3-والعزاء إن كان مع جلوس أو بدونه مدته ثلاثة أيام، ويكره بعدها لما فيه من تجديد الحزن، اللهم إلا لمن لم يعلم بالوفاة إلا بعد مدة فلا كراهة فى التعزية، والتحديد بثلاثة أيام أخذه الشافعية من حديث الإحداد على الميت يقول صاحب "كفاية الأخيار " فى فقه الشافعية "ج اص 153 " وتكون فى ثلاثة أيام لأن قوة الحزن لا تزيد عليها فى الغالب، وبعد الثلاثة مكروه، لأنها تجدد الحزن، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاية الحزن ثلاثا ففى الصحيحين "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" ثم يقول المؤلف أبو بكر بن محمد الحصنى الحسينى الدمشقى المتوفى سنة 829 هـ:
وابتداء الثلاثة من الدفن جزم به النووى فى شرح المهذب ونقله عن الأصحاب، نعم جزم الماوردى أنها من الموت وبه جزم ابن الرفعة وصححه الخوارزمى. ويستثنى ما إذا كان المعزِّى أو المعزَّى غائبا، فإنها تمتد إلى قدوم الغائب، فإذا قدم فهل تمتد ثلاثة أيام أم يختص بحالة الحضور؟ قال: كلام الرافعى والنووى يوهم مشروعية الثلاث عند قدوم الغائب وهو كذلك، أم تختص بحالة الحضور قال المحب الطبرى شيخ مكة: لم أر فيه نقلا، والظاهر مشروعية الثلاثة بعد الحضور انتهى.
أما ما يعمل للميت من تجديد الحزن وتقبل العزاء فى يوم الخميس أو الخامس عشر أو الأربعين، أو الموعد السنوى فأمر لا يتفق مع الدين، ويمكن الرجوع إلى ص 434 من الجزء الثالث من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام لمعرفة أصل هذه العادات وما فيها من طقوس أوصت بها فِكَر دينية وضعية(8/308)
حساب الأنبياء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك حساب للأنبياء والرسل يوم القيامة؟
الجواب
ليكن معلوما أن أحوال الآخرة من الغيب لا تعرف إلا بخبر صادق من القرآن والسنة، واعتقاد هذه الأحوال يكون عن نص قطعى الثبوت والدلالة وما وراء ذلك يدخل فى دائرة الاجتهاد الذى لا يلزم اعتقاد نتيجته، ولا يكفر من لا يصدقه.
وقد جاء فى القرآن الكريم قوله تعالى: {فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين} الأعراف: 6.
وهو سؤال عن التبليغ لا عن الأعمال التى يمارسها كل مؤمن ليجازى عليها، فذلك ما يطلق عليه اسم الحساب الذى يتصل به عرض الكتاب وقراءته {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} الأنبياء: 47. غير أن هناك استثناءات من الحساب جاء بعضها فى الحديث المتفق عليه أن سبعين ألفا من أمة النبى صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وعينهم بقوله "وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ".
ومن المعلوم أن الرسل قد عصمهم الله من الذنوب وغفر لهم ما عسى أن يكون قد صدر عنهم فى صورة ذنب وهو ليس بذنب، وما دام الله قد غفر لهم فعلى أى شيء يحاسبهم حساب مناقشة، وإذا كان المذكورون من السبعين ألفا لا يرقون إلى درجة الأنبياء والرسل قد أعفاهم الله من الحساب فهل يكون للأنبياء والرسل حساب؟ نعم سيسألون عن تبليغ الرسالة كشهادة على أممهم أما سؤال الحساب وما يترتب عليه من جزاء فلا.
وإذا كان الأنبياء لا يسألون فى القبر فكيف يحاسبون يوم القيامة؟ يقول الشيخ العدوى فى كتابه "مشارق الأنوار" ص 29: اتفق جمهور أهل السنة على عدم سؤال شهيد الحرب، والسر فى ذلك كونهم أحياء فلذلك لا يُغسَّلون وكذلك الرسل والأنبياء لا يسألون أيضا على التحقيق(8/309)
لغة السؤال بعد الموت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن سؤال القبر سيكون باللغة السريانية؟
الجواب
سؤال الإنسان على ما قدم من عمل أمر مقطوع به فى القرآن والسنة، ويكفى قول الله تعالى {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} الأعراف: 6، أما اللغة التى يسأل بها الإنسان فعلمها عند الله.
ومن المؤكد الذى تقره العقول أن المسئول سيفهم ما يوجه إليه من أسئلة حتى يستطيع الرد عليها، أما كيف يفهم فلا يوجد نص يحدده، والله سبحانه يقول فى المحاورة بين الإنسان وأعضائه التى تشهد عليه {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شيء} فصلت: 21، ويقول {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} النور: 24.
فمن الجائز - وهو الأقرب للمعقول مع أن قوانين الآخرة غير قوانين الدنيا -أن يكون السؤال لكل إنسان بلغته، ومن الجائز أن يكون بلغة موحدة يستطيع أن يفهمها كل إنسان، وذلك بقدرة الله الذى أنطق كل شيء كما أنطق الأعضاء الصماء. وهل هى العربية أو السريانية أو غيرهما؟ ذلك ما لا دليل عليه، ولا أدرى على أى شيء اعتمد البلقينى فى فتواه أن سؤال القبر بالسريانى، فنترك ذلك إلى الله، ولنستعد للجواب بالعمل الصالح(8/310)
حساب الأولين والآخرين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هذه الأجيال ستحاسب بمقدار ما تحاسب به الأجيال الماضية مثل أجيال الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " وروى مسلم.أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء "وروى مسلم أيضا حديث "عبادة فى الهرج كهجرة إلى" وصح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة " وروى مسلم أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى المقبرة فقال " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا: يا رسول الله ألسنا بإخوانك؟ فقال " بل أنتم أصحابى وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض "تفسير القرطبى ج 18 ص 32 " وروى ابن ماجه والترمذى وقال حسن غريب - أى رواه واحد فقط أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى ضمن حديث "فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله "وزاد أبو داود: قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال "بل أجر خمسين منكم " وروى أحمد والدارمى والطبرانى عن أبى عبيدة بن الجراح أنه قال يا رسول الله أحد أفضل إيمانا منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك، قال "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بى ولم يرونى" وإسناده حسن، وصححه الحاكم وأخرج أحمد والبخارى فى التاريخ وابن حبان والحاكم وصححه "طوبى لمن رآنى وآمن بى مرة، وطوبى لمن لم يرنى وآمن بى سبع مرات " وذلك لأن الله مدح المؤمنين بإيمانهم بالغيب، وكان إيمان الصحابة بالله واليوم الآخر غيبا، وبالنبى صلى الله عليه وسلم شهودا للآيات والمعجزات، ومن بعدهم آمنوا غيبا بما آمنوا به شهودا وروى أن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة كتب إلى سالم ابن عبد الله بن عمر أن يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب ليعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر فأنت أفضل من عمر، لأن زمنك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم.
يقول عمر بن عبد البر، بعد ذلك وبعد أحاديث أخرى: فهذه الأحاديث تقتضى مع تواتر طرقها وحسنها - التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها فى فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية. وذلك لنص النبى صلى الله عيه وسلم على أفضلية أهلها على من سواهما.
بعد هذه النقول من كتب الأحاديث والسيرة أرى أن السلف فى مجموعهم أفضل ممن بعدهم، فخير القرون قرن الرسول ثم من بعدهم، وذلك لكثرة المؤمنين الطائعين الذين بذلوا كثيرا ولكن لا يعدم أن يكون فيهم أفراد لا يدخلون فى الخيرية كالمنافقين وبعض العاصين.
والأجيال اللاحقة فى مجموعها أقل فضلا من السابقة، لكن لا يعدم أن يكون فيهم أفراد على درجة كبيرة من الفضل، وذلك لعدة عوامل منها: أنهم آمنوا بالرسول ولم يروه، وأن الجو العام السابق كان أقل فتنة، وبالتالى لا يحتاج إلى مجاهدة نفسية، بخلاف الأجيال اللاحقة حيث كثرت الفتن وإغراء المغريات وصاروا فيها غرباء. وذلك كله فيما عدا الصحبة، وإنما فى الأعمال الأخرى.
ومن هنا أرى على المستوى الفردى أن العبرة بالعمل كما وكيفا {كل امرئ بما كسب رهين} الطور: 21، وعليه فقد يكون فى الخلف من هو أفضل من السلف وإن كان العدد قليلا، وعلى المستوى الجماعى العبرة بالعدد، وعليه فالأجيال السابقة يكثر فيها ذوو الفضل ويقل المفسدون، وما دمنا جميعا سنرجع إلى الله ويحاسب كل واحد على ما عمل فلابد أن نؤمن بقوله تعالى {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} الأنعام: 164، وقوله {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير} فاطر: 18، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى شرح الزرقانى على المواهب اللدنية للقسطلانى ج 5 ص 354 وما بعدها(8/311)
اجتماع شمل الأسرة فى الجنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يعيش الإنسان بمفرده إذا دخل الجنة أم يعيش مع أسرته وأصدقائه وأحبابه؟
الجواب
يقول الله تعالى {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما} النساء: 69، ويقول تعالى: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} الرعد: 23، 24.
ويقول تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شىء كل امرئ بما كسب رهين} الطور: 21.
ويقول: {إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون. هم وأزواجهم فى ظلال على الأرائك متكئون} يس:55، 56.
وفى حديث متفق عليه أن رجلا قال: يا رسول الله كيف تقول فى رجل أحب قوما ولم يلحق بهم، فقال له "المرء مع من أحب ".
تدل هذه النصوص وغيرها على أن المؤمن إذا أكرمه الله بدخول الجنة لا يمنعه شيئا تشتهيه نفسه من طعام وشراب وملذات أخرى مادية ومعنوية، ومنها لقاء الأصحاب وتعارف الإخوان، واجتماع شمل الأسرة من الأزواج والذرية، حتى لو تفاوتت درجات هؤلاء وتباعدت منازلهم، فسبل الاتصال ميسورة لا تعجز عنها قدرة الله، وقد أخرج الطبرانى وغيره بسند لا بأس به أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إنك لأحب إلىَّ من نفسى وولدى، وإنى لأكون فى البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتى فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنى إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فأنزل الله {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين} إلى آخر الآية: وفى رواية عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه فى الجنة، وإن كانوا دونه فى العمل لتقر بهم عينه، وتلا قوله تعالى {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} يقول أبو جعفر النحاس، هذا الحديث يصير مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقوله إلا عنه.
هذا، والناس فى المحشر مرهونون بأعمالهم لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لكن بعد أن ينتهى الحساب وبعد أن يستقر المؤمنون فى الجنة سيكون من تمام نعيمها لقاء الأحبة إخوانا على سرر متقابلين فلنعمل على أن نكون من أهل الجنة، ولنحسن اختيار أصدقائنا فالمرء يحشر مع من أحب، والمتحابون فى الله يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله، إن هذا لهو الفوز العظيم، ولمثل هذا فليعمل العاملون(8/312)
تقبيل الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض المشيعين للجنازة يقبلون الميت عند نزوله إلى القبر ويقولون: سامحك الله، فما حكم الدين فى ذلك؟
الجواب
روى البخارى وغيره عن عائشة رضى الله عنها أن أبا بكر رضى الله عنه دخل فبصر برسول صلى الله عليه وسلم وهو مسجًّى-مغطى- ببردة، فكشف عن وجهه وأكب عليه فقبَّله.
وجاء فى رواية أخرى أنه قبله بعد موته. وفى حديث صحيح رواه الترمذى وأحمد وابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، وبكى حتى سالت الدموع على وجهه.
فى هذا دليل على جواز تقبيل الميت، وقول الناس للميت:
سامحك الله، أمر مشروع بل مندوب، فهو من صفات المتقين الذين أعد الله لهم المغفرة والجنة التى عرضها السماوات والأرض، حيث قال الله فيهم {والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} آل عمران: 134(8/313)
قضاء الواجبات عن الأموات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كثر السؤال عن حكم قضاء ما فات الأموات من واجبات، وهل ينتفعون بما يهدى إليهم من قربات؟
الجواب
الواجبات التى لم يؤدها الميت ديون عليه، وهى نوعان: ديون للعباد، وديون لله، فأما ديون العباد فالإجماع على مشروعية قضاء الحى لها عن الميت، والأخبار الصحيحة كثيرة فى خطورة الديْن وأثره على الميت، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا جاءت جنازة ليصلى عليها سأل: هل عليه دين أم لا، فإن كان عليه دين لم يصل عليه. وجاء الخبر بأن رحمة الله معلقة عن الميت حتى يُقضى عنه دينه وسيجىء قول النبى صلى الله عليه وسلم لمن سألته عن قضاء الحج عن أمها: "أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته "؟ رواه البخارى.
وأما حقوق الله كالعبادات فإليك بعض ما ورد فيها من نصوص وما فهمه العلماء منها:
(1) الصلاة:
الصلاة عبادة بدنية محضة، لم يرد نص خاص عن النبى صلى الله عليه وسلم بجواز قضائها عن الميت، والوارد هو عن بعض الصحابة، فقد روى البخارى أن ابن عمر رضى الله عنهما أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء-يعنى ثم ماتت -فقال: صلى عنها. وروى ابن أبى شيبة بسند صحيح أن امرأة قالت لابن عباس رضى الله عنهما: أن أمها نذرت مشيا إلى مسجد قباء، أى للصلاة، فأفتى ابنتها أن تمشى لها.
وأخرجه مالك فى الموطأ أيضا.
والصلاة المرادة هنا صلاة نفل نذر أداؤها فى قباء فوجبت ولزمت، ومن هنا رأى بعض العلماء جواز قضاء الصلاة عن الميت، سواء أكانت مفروضة أصلا أم منذورة، لكن الجمهور قال بعدم جواز قضاء المفروضة. ونقل ابن بطال الإجماع على ذلك، ومع عدم التسليم بهذا الإجماع، فإن الجمهور رد استدلال القول المجيز للقضاء بأن النقل عن ابن عمر وابن عباس مختلف، فقد جاء فى موطأ مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلى أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، وأخرج النسائى عن ابن عباس مثل ذلك القول. ولكن لعل المنع فى حق غير المنذورة.
وقال الحافظ: يمكن الجمع بين النقلين بجعل جواز القضاء فى حق من مات وجعل النفى فى حق الحى (نيل الأوطار ج 9 ص 155) وبهذا يعلم أن ما يعمله بعض الناس مما يسمى بإسقاط الصلاة عن الميت غير مشروع، والواقع أن الله سبحانه وتعالى جعل أداء الصلاة من اليسر بحيث تصح بأية كيفية من الكيفيات عند العجز، حتى إنه لم يسقطها عن المجاهد وهو فى ساحة القتال أثناء المعركة، وعن المقيد بالأغلال واكتفى بما يستطاع ولو بالإيماء، فقول الجمهور بعدم جواز قضائها عن الميت هو المختار للفتوى، ولا يصح غيره، حتى لا يكون هناك تهاون بعمود الدين.
(ب) الصيام.
الصيام عبادة بدنية أيضا إذا تركه الميت وكان قادرا على أدائه، جاء فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه " رواه البخارى ومسلم. وروى أحمد وأصحاب السنن أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أمى ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: "نعم فدين الله أحق أن يقضى" وبناء على هذا قال الشافعية والحنابلة بجواز قضاء الصوم من الولى، بل قالوا باستحبابه، وبجوازه من الأجنبى إن أذن الولى، لكن الأحناف والمالكية قالوا: إن وليه لا يصوم عنه، بل يطعم مدا عن كل يوم. وحجتهم أن الصيام عبادة بدنية كالصلاة لا تقبل النيابة، لكن النووى قال فى جواز القضاء: إنه هو الصحيح المختار والنصوص تشهد له.
(ب) الزكاة:
الزكاة، وأطلق عليها اسم الصدقة أحيانا، عبادة مالية محضة، فيها حق لله وحق للعباد، وقضاؤها عن الميت قضاء لدين الله ودين العباد، والقول بجواز ذلك لا ينبغى الخلاف فيه، وتقدم أن دين العباد مفروغ من جواز قضائه، وحق الله أولى أن يقضى. وروى مسلم وغيره أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أن أبى مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: (نعم) والتعبير بقوله: "فهل يكفر عنه " يفيد أن ما فات الميت كان واجبا عليه، إما زكاة وإما صدقة منذورة. وروى البخارى ومسلم أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إن أمى افتلتت نفسها -ماتت فجأة- وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قال: (نعم) وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالى يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص. إلا إذا وقع النذر فى مرض الموت فيكون من الثلث.
وشرط المالكية والحنفية أن يوصى بذلك "نيل الأوطار ج 8 ص 156 ".
(د) الحج:
الحج عبادة بدنية ومالية معا، ورد فى قضائه حديث البخارى أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمى نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: (حجى عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا فالله أحق بالقضاء) . وإذا كان الحج المنذور يجب قضاؤه عن الميت فالحج الواجب أصلا على المستطيع الذى لم يقم به يكون قضاؤه واجبا. ووجوب القضاء عنه لا يحتاج إلى وصيته بذلك ويجب إخراج الأجرة من رأس المال، وهذا هو قول الجمهور، تغليبا للجانب المالى فيه كالزكاة والكفارة ونحوهما، وقال مالك: يشترط أن يوصى الميت بذلك، وإذا أوصى حج عنه من الثلث(8/314)
صلة الأحياء بالأموات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيحا لقوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وصلته بانتفاع الأموات بأعمال الأحياء؟
الجواب
ذهب المعتزلة إلى أن أية قربة يهديها الحى إلى الميت لا تنفعه، بناء على قولهم بوجوب العدل، واستدلوا على رأيهم هذا بقوله تعالى: {أم لم ينبأ بما فى صحف موسى " وإبراهيم الذى وفَّى. ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى} النجم: 36 - 41، أما أهل السنة فقالوا: هناك قُرَبٌ يجوز للحى أن يفعلها ويستفيد منها الميت، بل وسع بعضهم الدائرة حتى شملت كل القرب، قال فى شرح الكنز: إن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره، صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة قرآن أو غير ذلك من جميع أنواع البر، ويصل ذلك إلى الميت، وينفعه عند أهل السنة "نيل الأوطار ج 4 ص 142 " ودليلهم على ذلك عدم ورود نص مانع، وكذلك الرجاء فى رحمة الله وفضله أن يفيد الميت بعمل الحى فى النوافل، كما أفاده فى الفرائض المقضية عنه، فضلا عن الأدلة الواردة فى بعض القرب من حيث ندب عملها ليفيد منها الميت كما سيأتى بيانه. وردوا دليل المعتزلة بما يأتى:
1 - أن الآية المذكورة منسوخة بقوله تعالى {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين} الطور: 21، كما قاله ابن عيسى، فإن الكبار يلحقون بآبائهم فى الجنة وإن لم يكونوا فى منزلتهم إكراما - للآباء باجتماع الأولاد إليهم، وضعف ابن القيم هذا القول فى كتابه "الروح ".
2 - أن هذه الآية خاصة بشريعة موسى وإبراهيم، وأما فى شريعتنا فالحكم بخلاف ذلك.
3 -أن عدم انتفاع الإنسان بعمل غيره مخصوص بالكافر، أما المؤمن فيجوز أن ينتفع بسعى غيره من المؤمنين.
4 - أن اللام فى "للإنسان " بمعنى "على" مثل قوله تعالى {ولهم اللعنة} أى عليهم، والمعنى أن الإنسان ليس عليه إلا عمله، أى أن ذلك فى العقاب، أما الثواب فليس هناك ما يمنع انتفاع الإنسان بعمل غيره وهذه الردود يمكن أن تناقش.
5 -إن الآية تبين أنه ليس للإنسان إلا عمله استحقاقا بطريق العدل، أما تفضلا من غيره فلا مانع من أن ينتفع به، فالدعاء والشفاعة عمل الغير ويستفيد منه الميت. وهذا الجواب هو أصح الأجوبة، وركز عليه ابن تيمية فى فتاويه "ج 24 ص 366" حيث قال ما ملخصه:
الاتفاق على وصول ثواب العبادات المالية، كالصدقة والعتق، كما يصل إليه الدعاء والاستغفار. أما الأعمال البدنية كالصلاة والصيام والقراءة فاختلفوا فيها. والصواب أن الجميع يصل إليه ... إلى أن قال:
وهذا مذهب أحمد وأبى حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعى.
وأما احتجاج بعضهم بأن ليس للإنسان إلا ما سعى فيقال ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأئمة أنه يصلى ويستغفر له ويدعى له، وهذا من سعى غيره. والجواب الحق أن الله لم يقل إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعى نفسه وأنه قال {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فهو لا يملك إلا سعيه، ولا يستحق غير ذلك. وأما سعى غيره فهو له، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفع نفسه، فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير، لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز. اهـ. وقد ارتضى هذا القول ابن عطية فى تفسيره.
هذا، وقد جاء فى معجم الفقه الحنبلى "ص 941 طبعة أوقاف الكويت " أن أية قربة يفعلها الحى ويهب ثوابها للميت تنفعه إن شاء الله، وقال ابن قدامة فى "المغنى" قال أحمد بن حنبل: الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه. لأن المسلمين يجتمعون فى كل مصر يقرؤون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعا. وإن كان هذا العمل لا يعتبر حجة والإجماع عليه ليس دليلا كما رأى بعض العلماء.
وقال ابن القيم: والعبادات قسمان: "مالية، وبدنية" وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية، ونبه بوصول ثواب الصيام على وصول سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية، فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار.
هذا هو الحكم الإجمالى فى إهداء القرب، وإليك شيئا من التفصيل.
أخرج أبو داود وابن عباس عن أبى أسيد مالك بن ربيعة قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بنى سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقى من بر أبوى شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال "نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، صلة الرحم التى لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما من بعدهما".
(ا) الصلاة عليهما.
قال بعض الشراح: إن المراد بالصلاة عليهما فى هذا الحديث صلاة الجنازة، كما فى قوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} التوبة: 184 وقيل المراد بها الدعاء، كما فى قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} التوبة: 03 ا، أى ادع الله لهم بالنماء والبركة.
ويرجح أن يراد بها هنا الدعاء لأن رواية البخارى فى "الأدب المفرد" لم يرد فيها ذكر الصلاة بل ورد (الدعاء لهما) .
والدعاء مجمع على جوازه وعلى نفع الميت به إن قبل، ومعنى نفع الميت به حصول المدعو به إذا استجيب، واستجابته محض فضل من الله، ولا يسمى فى العرف ثوابا، أما الدعاء نفسه وثوابه فهو للداعى، لأنه شفاعة أجرها للشافع ومقصودها للمشفوع له.
وأدلة مشروعية الدعاء للميت كثيرة، فصلاة الجنازة نفسها تشتمل على دعاء له، ودعاء الولد الصالح لأبيه مما يفيده بنص الحديث الذى رواه مسلم، وقد تقدم، ومن آداب زيارة القبور الدعاء للأموات، كما روى مسلم فى تعليم النبى صلى الله عليه وسلم لمن يزورون القبور أن يدعوا للأموات، ومما جاء فيه "ونسأل الله لنا ولكم العافية" وكذلك "ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين " ... وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أنه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) .
أما حكم الصلاة للوالدين فقد جاء فى رواية الدارقطنى "إن من البر بعد الموت أن تصلى لهما مع صلاتك، وان تصوم لهما مع صيامك " وتعدية فِعْلَىْ الصلاة والصيام باللام تشعر بأن ذلك فى النوافل المهداة لا فى الفروض من حيث قضاؤها، وقد مر ذلك ولو لم يرد هذا الحديث أو لم يصح فليس هناك نص يمنع أداء الصلاة للميت وقد تقدم كلام ابن تيمية وغيره فى ذلك.
(ب) الاستغفار لهما:
الاستغفار هو دعاء بطلب المغفرة من الله للميت، وأدلة الدعاء عامة تشهد لمشروعيته، وقد دعا الأنبياء وغيرهم بالمغفرة لغيرهم، فقال نوح {رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا} نوح: 28، وقال إبراهيم: {ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} إبراهيم: 41، وروى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا لأهل بقيع الغرقد بالمغفرة وسبق طلبه من المسلمين الاستغفار لأخيهم بعد دفنه، وروى أحمد وابن ماجه والبيهقى عن أبى هريرة بسند صحيح مرفوع أو موقوف عليه "أن الرجل لترفع درجته فى الجنة فيقول: أنَّى هذا؟ فيقال:
باستغفار ولدك لك ".
(ج) انفاذ عهد الأبوين وصلة الرحم وإكرام الصديق:
كل ذلك قرب بدنية أو مالية يقوم بها الولد فيؤجر عليها، ويصل أثرها للوالدين برا وإكراما وإحسانا، وقد تقدم قول شارح الكنز فى هذه القرب وغيرها، وما جاء فى معجم الفقه الحنبلى عن ذلك.
(د) الصيام لهما:
يدل حديث الدارقطنى السابق على جواز التنفل بالصيام وإهدائه إلى الميت، وقد شرط العلماء لذلك ولغيره من القرب أن يكون بنية سابقة أو مقارنة للفعل، لا أن تكون النية بعد الانتهاء منها.
(هـ) الصدقة عليهما:
روى أحمد والنسائى وغيرهما أن أم سعد بن عبادة لما ماتت قال: يا رسول الله، إن أمى ماتت، أفأتصدق عنها، قال "نعم" قلت: فأى الصدقة أفضل؟ قال: "سَقىُ الماء".
قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة، والظاهر أن هذه الصدقة ليست واجبة، وإلا لكانت متعينة ولم يسأل سعد عن أفضلها، وهذا الحديث وإن كان لبعض المحدثين فيه مقال فإن كثيرا من النصوص تشهد بأن الصدقة تفيد الميت سواء أكانت واجبة أم مندوبة.
قال الشوكانى: أما صدقة الولد فلا كلام فيها لثبوتها بالنص، ولأن الولد من كسبه فلم يصل إليه عمل غيره، بل عمله هو، مثل الصدقة الجارية والعِلْم الذى ينتفع به ودعاء الولد الصالح، فلا حاجة لوصول صدقته إلى وصية، أما الصدقة من الأجنبى فالظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثوابها إلى الميت، فيوقف عليها حتى يأتى دليل يقتضى تخصيصها اهـ. لكن الرافعى والنووى من الشافعية قالا: يستوى فى الصدقة الوارث وغيره، وحكى النووى الإجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصل ثوابها من الولد وغيره "نيل الأوطار ج 4 ص 142 ".
هذا، ويجب أن يفهم أن ما جاء فى كلام الشوكانى وغيره من أن الذى وصل إلى الميت من ولده هو عمله وليس عمل الولد، ليس المراد به أن كل ما يعمله الولد لأبيه محسوب لأبيه وليس محسوبا للولد، وإلا لضاع الولد وحرم ثواب عمله البدنى بالذات، بل المراد وصول مثل ثوابه لأبيه، كما سيأتى فى كلام العلماء عن القراءة للميت.
(و) الحج للوالدين:
مر جواز قضاء الحج عن الوالدين بعد الموت، ولم يرد ما يمنع برهما بالحج أو، بغيره من القرب كما تقدم.
(ز) قراءة القرآن:
فى قراءة القرآن للميت خلاف للعلماء بين المنع من استفادته بها بناء على أنها عبادة بدنية لا تقبل النيابة، وبين الجواز بناء على رجاء رحمة الله وما ورد من بعض النصوص، ومن تتبع أقوال الكثيرين يمكن استنتاج ما يلى:
1 - إذا قرئ القرآن بحضرة الميت فانتفاعه بالقراءة مرجو، سواء أكان معها إهداء أم لم يكن، وذلك بحكم المجاورة، فإن القرآن إذا تلى، وبخاصة إذا كان فى اجتماع، حفت القارئين الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، روى مسلم قول النبى صلى الله عليه وسلم "ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يقرؤون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة "! والقرآن ذكر بل أفضل الذكر، وقد روى مسلم وغيره حديث: " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ".
بل لا يشترط لنزول الملائكة وغيرهم أن تكون القراءة أو الذكر فى جماعة، فيحصل ذلك للشخص الواحد، روى البخارى ومسلم حديث أُسَيْد بن حُضَيْر الذى كان يقرأ القرآن فى مربده وبجواره ولده وفرسه، وجاء فيه.
فإذا مثل الظلة فوق رأسى، فيها أمثال السُّرَج عرجت فى الجو حتى ما أراها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "تلك الملائكة تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم ".
على أن النص قد جاء بقراءة {يس} عند الميت، روى أحمد وأبو داود والنسائى واللفظ له، وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "قلب القرآن يس، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر الله له، اقرءوها على موتاكم " وقد أعل الدارقطنى وابن القطان هذا الحديث، لكن صححه ابن حبان والحاكم، وحمله المصححون له على القراءة على الميت حال الاحتضار، بناء على حديث فى مسند الفردوس "ما من ميت يموت فتقرأ عنده يس إلا هون الله عليه " لكن بعض العلماء قال: إن لفظ الميت عام لا يختص بالمحتضر، فلا مانع من استفادته بالقراءة عنده إذا انتهت حياته، سواء دفن أم لم يدفن، روى البيهقى بسند حسن أن ابن عمر استحب قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن. وابن حبان الذى قال في صحيحه معلقا على حديث "اقرءوا على موتاكم يس" أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه رد المحب الطبرى، بأن ذلك غير مسلم له وإن سلم أن يكون التلقين حال الاحتضار.
قال الشوكانى: واللفظ نص فى الأموات، وتناوله للحى المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا لقرينة "نيل الأوطار ج 4 ص 52 " والنووى ذكر فى رياض الصالحين تحت عنوان: الدعاء للميت بعد دفنه والقعود عند قبره ساعة للدعاء له والاستغفار والقراءة "الباب الحادى والستون بعد المائة" ذكر أن الشافعى قال: يستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، وإن ختموا القرآن كان حسنا، وجاء فى المغنى لابن قدامة "ص 758": تسن قراءة القرآن عند القبر وهبة ثوابها، وروى أحمد أنه بدعة، ثم رجع عنه. وكره مالك وأبو حنيفة القراءة عند القبر حيث لم ترد بها السنة. لكن القرافى المالكى قال:
الذي يتجه أن يحصل للموتى بركة القراءة، كما يحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده.
2 -إذا قرئ القرآن بعيدا عن الميت أو عن القبر وامتنع انتفاعه به بحكم المجاورة وحضور الملائكة، اختلف الفقهاء فى جواز انتفاع الميت به، وهناك ثلاث حالات دار الخلاف حولها بين الجواز وعدمه:
الحالة الأولى:
إذا قرىء القارىء ثم دعا الله بما قرأ أن يرحم الميت أو يغفر له، فقد توسل القارىء إلى الله بعمله الصالح وهو القراءة، ودعا للميت بالرحمة، والدعاء له متفق على جوازه وعلى رجاء انتفاعه له إن قبله الله، كمن توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم فانفرجت عنهم الصخرة التى سدت فم الغار، وفى هذه الحالة لا ينبغى أن يكون هناك خلاف يذكر فى عدم نفع الميت بالدعاء بعد القراءة.
الحالة الثانية:
إذا قرئ القارئ ثم دعا الله أن يهدى مثل ثواب قراءته إلى الميت، قال ابن الصلاح: وينبغى الجزم بنفع: اللهم أوصل ثواب ما قرأناه، أى مثله، فهو المراد، وأن يصرح به لفلان، لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعى فما له أولى، ويجرى ذلك فى سائر الأعمال. ومعنى كلام ابن الصلاح أن الداعى يدعو الله أن يرحم الميت: والرحمة ليست ملكا له بل لله، فإذا جاز الدعاء بالرحمة وهى ليست له فأولى أن يجوز الدعاء بما له هو وهو ثواب القراءة أو مثلها. وكذلك يجوز فى كل قربة يفعلها الحى من صلاة وصيام وصدقة، ثم يدعو بعدها أن يوصل الله مثل ثوابها إلى الميت. وقد تقدم كلام ابن قدامة فى المغنى عن ذلك.
والدعاء بإهداء مثل ثواب القارئ إلى الميت هو المراد من قول المجيزين: اللهم أوصل ثواب ما قرأته لفلان.
الحالة الثالثة:
إذا نوى القارئ أن يكون الثواب، أى مثله، للميت ابتداء أى قبل قراءته أو فى أثنائها يصل ذلك إن شاء الله، قال أبو عبد الله الأبى: إن قرأ ابتداء بنية الميت وصل إليه ثوابه، وإن قرأ ثم وهبه لم يصل، لأن ثواب القراءة للقارئ لا ينتقل عنه إلى غيره. وقال الإمام ابن رشد فى نوازله: إن قرأ ووهب ثواب قراءته لميت جاز وحصل للميت أجره، ووصل إليه نفعه، ولم يفصل بين كون الهبة قبل القراءة أو معها أو بعدها، ولعله يريد ما قاله الأبى.
هذا، وانتفاع الميت بالقراءة مع الإهداء أو النية هو ما رآه المحققون من متأخرى مذهب الشافعى، وأولوا المنع على معنى وصول عين الثواب الذى للقارئ أو على قراءته لا بحضرة الميت ولا بنية ثواب قراءته له، أو نيته ولم يدع له، وقد رجح الانتفاع به أحمد وابن تيمية وابن القيم، وقد مر كلامهم فى ذلك.
قال الشوكانى "نيل الأوطار ج 4 ص 142 "المشهور من مذهب الشافعى وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن. وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعى إلى أنه يصل، كذا ذكره النووى فى الأذكار، وفى شرح المنهاج: يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور والمختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته، وينبغى الجزم به لأنه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعى فلأن يجوز بما هو له أولى، ويبقى الأمر فيه موقوفا على استجابة الدعاء. وهذا المعنى لا يختص بالقراءة، بل يجرى فى سائر الأعمال. والظاهر أن الدعاء متفق عليه أن ينفع الميت والحى، والقريب والبعيد، بوصية وغيرها وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضل الدعاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب. اهـ.
هذا، وقد قال الأبى: والقراءة للميت، وإن حصل الخلاف فيها فلا ينبغى إهمالها فلعل الحق الوصول، فإن هذه الأمور مغيبة عنا، وليس الخلاف فى حكم شرعى إنما هو فى أمر هل يقع كذلك أم لا.
وأنا مع الأبى فى هذا الكلام، فإن القراءة للميت إن لم تنفع الميت فهى للقارئ، فالمستفيد منها واحد منهما، ولا ضرر منها على أحد.
مع تغليب الرجاء فى رحمة الله وفضله أن يفيد بها الميت كالشفاعة والدعاء وغيرهما.
وهذا الخلاف محله إذا قرئ القرآن بغير أجر، أما إن قرئ بأجر فالجمهور على عدم انتفاع للميت به. لأن القارئ أخذ ثوابه الدنيوى عليها فلم يبق لديه ما يهديه أو يهدى مثل ثوابه إلى الميت، ولم تكن قراءته لوجه الله حتى يدعوه بصالح عمله أن ينفع بها الميت، بل كانت القراءة للدنيا، ويتأكد ذلك إذا كانت هناك مساومة أو اتفاق سابق على الأجر أو معلوم متعارف عليه، أما الهدية بعد القراءة إذا لم تكن نفس القارئ متعلقة بها فقد يرجى من القراءة النفع للميت. والأعمال بالنيات، وأحذر قارئ القرآن من هذا الحديث الذى رواه أحمد والطبرانى والبيهقى عن عبد الرحمن بن شبل "اقرءوا للقرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به} قال الهيثمى: رجال أحمد ثقات، وقال ابن حجر فى الفتح: سنده قوى.
وفسر الأكل به بأخذ الأجرة عليه، كما فسر بالاستجداء به والتسول.
وقد قال الشيخ حسنين محمد مخلوف فى أخذ الأجرة على قراءة القرآن:
مذهب الحنفية لا يجوز أخذها على فعل القرب والطاعات كالصلاة والصوم وتعليم القرآن وقراءته ولكن المتأخرين من فقهاء الحنفية استثنوا من ذلك أمورا، منها تعليم القرآن فقالوا: بجواز أخذ الأجرة عليه استحسانا، خشية ضياعه، ولكن بقى حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن على ما تقرر فى أصل المذهب من عدم الجواز، ومذهب الحنابلة لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ولا على قراءته، استنادا إلى حديث "اقرءوا القرآن. . . " الذى تقدم. مذهب المالكية لا يجوز أخذ الأجرة على ما لا يقبل النيابة من المطلوب شرعا كالصلاة والصيام، ولكن يجوز أخذ الأجرة على ما يقبل النيابة، ومنها تعليم القرآن وقراءته، ومذهب الشافعية يجوز أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه، سواء أكانت القراءة عند القبر أو بعيدة عنه، مع الدعاء بوصول الثواب إلى الميت اهـ(8/315)
الصلاة على جنازات من الجنسين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى اجتماع جنازات فى وقت واحد للصلاة عليها، مع العلم بأن بعضها لرجال وبعضها لنساء؟
الجواب
إذا اجتمع أكثر من ميت وكانوا ذكورا أو إناثا يصفُّون واحدا بعد واحد، بين الإمام والقبلة، ليكونوا جميعا بين يدى الإمام. ووضع الأفضل مما يلى الإمام، وصلى عليهم جميعا صلاة واحدة.
وإن كانوا رجالا ونساء جاز أن يصلى على الرجال وحدهم والنساء وحدهن، وجاز أن يصلى على الجميع صلاة واحدة. يجعل الرجال أمام الإمام، ويجعل النساء مما يلى القبلة.
فعن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما: أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء، فجعل الرجال مما يلى الإمام، وجعل النساء مما يلى القبلة، وصفَّهم صفا واحدا، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت على زوجة عمر وابن لها يقال له زيد والإمام يومئذ هو سعيد بن العاص وفى الناس يومئذ ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة - فوضع الغلام مما يلى الإمام.
قال رجل: فأنكرت ذلك، فنظرت إلى ابن عباس وأبى هريرة وأبى سعيد وأبى قتادة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هى السنة. رواه النسائى والبيهقى.
وقال الحافظ: وإسناده صحيح.
وفى الحديث أن الصبى إذا صُلِّى عليه مع امرأة كان الصبى مما يلى الإمام، والمرأة مما يلى القبلة " نيل الأوطار للشوكانى ج 4 ص72"وإن كان فيه رجال ونساء وصبيان، تقدم الرجال ويليهم الصبيان ثم النساء(8/316)
قبور من طوابق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى إقامة المقابر من عدة طوابق ودفن الموتى فيها؟ وهل يفضل إزالتها مع الإبقاء على المقبرة الملاصقة للأرض؟
الجواب
الأصل فى دفن الميت أن تحفر له حفرة فى الأرض، ويوضع تحت مستوى سطحها، ولا يتحقق الدفن بغير ذلك، قال تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} طه: 55، وينبغى تعميق القبر بحيث يمنع رائحة الجثة وسطو السباع والوحوش عليها، لحديث النسائى والترمذى فى شهداء أُحد "احفروا وأعمقوا" ولا يجوز رفع القبر زيادة على قدر شبر من الأرض، كما لا يجوز البناء عليه، لحديث مسلم عن جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
وعلى هذا لا يجوز الدفن فى مقابر ذات طوابق بعضها فوق بعض، لأن شرط القبر أن يكون تحت مستوى الأرض فهل يتحقق ذلك فى قبر متعدد الطبقات؟ ومع ذلك لا توجد ضرورة الآن إلى هذه الطبقات، ويجب تدبير مكان آخر إذا لم يوجد متسع فى المقبرة الحالية، وإذا بليت عظامها جاز الدفن فيها مرة أخرى(8/317)
الصلاة عن الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للابن أن يصلى الفوائت عن والده المتوفى؟
الجواب
الصلاة فرض عين لا تقبل النيابة ولا الوكالة، لأنها حق الله سبحانه على كل عبد، وليس هناك عذر لتركها أبدا، فهى تؤدى من قيام أو قعود أو اضطجاع، فى السلم وفى الحرب، بحركات الجسم والعقل وبأية وسيلة ممكنة، لأنها صلة بين العبد وربه، لا يمكن للعاقل أن يستغنى عنها، ولا يقبل الله من يقوم بها بدل العبد، فالشحنة الروحية لا يمكن أن تنتقل ممن حصل عليها إلى غيره أبدا، فالصلة مقطوعة.
ولأهمية الصلاة جعلها الحديث الشريف الذى رواه مسلم الفرق بين المسلم والكافر فمن تركها عمدا جحدا أو استهزاء كفر، وإذا فاتت وجب قضاؤها، ومن لم يقضها يحاسب عليها حسابا عسيرا إن لم يغفر الله له. ولهذا لا يجوز للابن ولا لغيره أن يصلى الفوائت عن المتوفى، لقول الله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} النجم: 39، وقول النبى صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم، ولأن الأصل فى الفروض العينية أن يؤديها الشخص بنفسه إلا ما استثنى كالصوم والزكاة والحج، فإنه يمكن أن يؤديها عنه غيره لورود النص الصريح فى ذلك.
أما الصلاة للوالد المتوفى - لا الصلاة عنه - فجائزة، حيث يمكن للولد أن يصلى نافلة ويهب ثوابها لوالده فينتفع بها إن شاء الله.
إن جمهور العلماء على أن قضاء الصلاة المفروضة عن الميت ممنوع، ونقل ابن بطال الإجماع عليه ولكن الإجماع غير صحيح، لأن هناك من يقول بجواز ذلك، ودليله:
1 - ما رواه البخارى أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء -يعنى ثم ماتت -فقال: صلى عنها.
2 -ما رواه ابن أبى شيبة بسند صحيح أن امرأة قالت لابن عباس رضى الله عنهما: إن أمها نذرت مشيا إلى مسجد قباء، أى للصلاة، فأفتى ابنتها أن تمشى لها. وأخرجه مالك أيضا فى الموطأ.
3-أن بعض التابعين وعلماء السلف أجاز الصلاة عن الميت.
قياسا على الدعاء والصدقة والحج. ورد الجمهور على ذلك بأن النقل عن ابن عمر وابن عباس مختلف، فقد جاء فى الموطأ للإمام مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلى أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، وأخرج النسائى عن ابن عباس مثل ذلك القول. فالنقل متضارب عنهما، وإن كان يمكن الجمع بأن المنع عن القضاء هو فى الفرض أو النذر، وأن الجواز هو فى النفل وقال الحافظ: يمكن الجمع بين النقلين بجعل جواز القضاء فى حق من مات، وجعل النفى فى حق الحى" نيل الأوطار للشوكانى ج 9 ص 155 ".
يقول النووى فى مقدمة شرحه لصحيح مسلم: جاء فى البخارى فى باب من مات وعليه نذر أن ابن عمر أمر من ماتت أمها وعليها صلاة أن تصلى عنها، وحكى صاحب "الحاوى" وهو الماوردى عن عطاء بن أبى رباح وإسحاق بن راهويه أنهما قالا بجواز الصلاة عن الميت، ومال الشيخ أبو سعيد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبى عصرون من أصحابنا المتأخرين فى كتابه " الانتصار" إلى اختيار هذا. وقال الإمام أبو محمد البغوى من أصحابنا فى كتابه " التهذيب ": لا يبعد أن يطعم عن كل صلاة مُدٌ من طعام. وهو أساس القول بإسقاط الصلاة بالصدقة وغيرها.
قال النووى: وكل هذه المذاهب ضعيفة، ودليلهم القياس على الدعاء والصدقة والحج، ثم ساق دليل من يمنعون الصلاة عن الميت. وقد سبق ذكره.
فقول الجمهور بعدم جواز قضاء الصلاة عن الميت هو المختار للفتوى، ولا يصح غيره حتى لا يتهاون الناس بهذه الفريضة التى هى من الإسلام بمنزلة الرأس من الجسد، أما الصلاة للميت أى الصلاة النافلة التى يهب ثوابها له فلا مانع منها وقد جاء النص عليها كالعبادات الأخرى.
ونقل الآلوسى فى تفسيره عن ابن حزم جواز صلاة النذر والفرض إن نسيه أو نام عنه ولم يصل حتى مات، لدخول ذلك تحت قول النبى صلى الله عليه وسلم "فحق الله أحق أن يقضى "ووجهة نظره أن الصلاة مقيسة على الصوم والحج والدَين الذى منه الزكاة، حيث ورد النص بقضائها عن الميت.
ومهما يكن من شىء فرأى الجمهور على عدم قضاء الصلاة المفروضة عن الميت، أساسه أنها لا تقبل النيابة استقلالا ولا تبعا، وما قيل من أن الذى يحج عن الميت سيصلى ركعتين عنه للطواف عند مقام إبراهيم، فلماذا لا يصلى عنه الصلوات الأخرى - فهو مردود، لأن صلاة ركعتى الطواف سنة لا فريضة، وتابعة للفريضة لا مستقلة، ولا تجوز النيابة فيها فى الحياة ولا بعد الممات " الفتاوى الإسلامية - المجلد الرابع -صفحة 1491 وما بعدها"(8/318)
موازين يوم القيامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الموازين التى توزن بها الأعمال يوم القيامة، وكيف يكون الوزن؟
الجواب
قال الله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} الأنبياء: 147.
الموازين هى الوسائل التى تقدر الشىء، وهى مختلفة فى أشكالها وتصميماتها كما نرى فى الدنيا، وموازين الأعمال يوم القيامة لا يعرف حقيقتها إلا الله سبحانه، وإن كانت وردت آثار تذكر ما فيها من كفة توضع فيها الحسنات وأخرى توضع فيها السيئات على ما كان معهودا للناس عند نزول القرآن.
وموازين الدنيا تطورت وتدخلت الإليكترونيات فى تقدير الأثقال والأزمنة وتحركات الأجسام والأحاسيس التى تنفعل بها النفوس وكل شىء. وموازين الله أدق من كل الموازين، فهى قسط أى عدل، والله لا يظلم أحدا ما يزن أقل مقدار كان يعرف قبل بحبة الخردل، والميزان وسيلة لاطمئنان الإنسان ليعرف ماله وما عليه، وإن كان عدل الله لا يحتاج إلى ميزان يطلع عليه الإنسان {وكفى بنا حاسبين} .
وجاء فى تفسير القرطبى "ج 7 ص 65 " أن الذى يوزن هو صحائف الأعمال كما قال ابن عمر وهو الصحيح. وقد أنكر المعتزلة الميزان، بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، لأنها لا تقوم بنفسها. ومن المتكلمين -علماء الكلام والتوحيد-من يقول: إن الله تعالى يقْلب الأعراض أجساما فيزنها يوم القيامة.
والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التى فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف.
وقد روى أن ميزان بعض بنى آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رَقٌّ مكتوب فيه "لا إله إلا الله " فيثقل. وفى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ما معناه: " إن الله يعطى صحيفة الحسنات للعبد الذى غفر له وستر ذنوبه " وهو دليل على أن الأعمال تكتب فى الصحف وتوزن. كما روى ابن ماجه أن رجلا ينشر عليه يوم القيامة تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مدُّ البصر.
وبعد، فهذه أمور سمعية نؤمن بها ونترك معرفة حقيقتها لله تعالى، وسنعرفها حتما عند لقاء الله، ونرجو أن نعمل صالحا لتثقل موازيننا بالحسنات(8/319)
تعزية غير المسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن يعزى الإنسان شخصا غير مسلم فى وفاة قريب له، وهل يقول المرحوم، أو الله يرحمه؟
الجواب
أما مبدأ التعزية فمشروع، وهو من ضمن البر الذى جاء فى قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} الممتحنة: 8، وقرر الفقهاء أن يقال لغير المسلم: أخلف الله عليك، ومن صور المجاملات أن النبى صلى الله عليه وسلم عاد غلاما يهوديا كان يخدمه وعرض عليه الإسلام فأسلم، كما رواه البخارى فى "الأدب المفرد " وذكره ابن حجر فى "المطالب العالية "ج اص 212 فالمجاملات جائزة ولكن فى حدود المشروع.
وقد يجرى على بعض الألسنة عند العزاء أو الحديث عن ميت غير مسلم عبارة: المرحوم فلان، أو الله يرحمه، فإن كانت العبارة إخبارا عن الميت بأنه مرحوم فذلك لا يصح، لأنه ذهب إلى ربه بما عمل وهو أعلم به، حتى الإخبار عن المسلم بأنه مرحوم هو أمر ظنى لا ينبغى أن يؤخذ مأخذ الحقيقة.
روى الترمذى أن غلاما استشهد يوم أحد، فوجد المسلمون على بطنه حجرا مربوطا، بسبب الجوع، فمسحت أمه التراب عنه وقالت: هنيئا لك الجنة يا بنى، فقال صلى الله عليه وسلم "وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره ".
فإذا كان هذا فى المسلم فغير المسلم من باب أولى لا نخبر عنه بأنه مرحوم أو ذهب إلى رحمة الله. وإذا كانت رحمة الله وسعت كل شىء لكنه كتبها للمؤمنين الصالحين، الذين يتبعون النبى الموصوف فى التوراة والإنجيل.
أما الدعاء له بالرحمة، أو قراءة الفاتحة ليرحمه الله، فذلك للمسلم جائز إذا مات على الإيمان بأن لم يصدر عنه شىء يكفر به، أما غير المسلم فقد تحدث العلماء عن الاستغفار أو طلب الرحمة له، فى حال حياته أو بعد مماته، فقالوا: إن كان حيًّا جاز الاستغفار وطلب الرحمة والهداية بالتوفيق إلى الإيمان، وعليه يحمل ما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال عن قومه المشركين "اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون " رواه البخارى ومسلم وذلك على بعض الأقوال التى قالت: إن هذا إنشاء من الرسول، وليس حكاية عن نبى سابق دعا لقومه.
ويحمل أيضا ما رواه مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم لما زار عمه أبا طالب فى مرضه الذى مات فيه وعرض عليه الإسلام فأبى، قال " أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْه عن ذلك " فأنزل الله تعالى {ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} التوبة: 113، 114.
فالاستغفار للأحياء جائز لأن إيمانهم مرجو، أما من مات فقد انقطع عنه الرجاء فلا يُدعى له. قال ابن عباس: كانوا يستغفرون لموتاهم فنزلت، فأمسكوا عن الاستغفار، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا.
فالدعاء لمن مات غير مؤمن بأن الله يرحمه أو غفر له، أو قراءة الفاتحة له لذلك لا يجوز، وقد روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له.
لا يقال إن الآية خاصة بالموتى المشركين، أما اليهود والنصارى فليسوا كذلك، لا يقال هذا لأن الله قال فى كل من كان على غير الإسلام {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين} آل عمران:85، وقال فى عباد الأصنام وغيرهم من اليهود والنصارى {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فى نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} البينة: 6، ووصف بعض أهل الكتاب بأنهم كفار فقال جل شأنه {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} المائدة: 72، 73.
وقال تعالى فى الكفار جميعا {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} البقرة: 161، 162،.
ومن هنا لا يجوز وصف الميت غير المسلم بأنه مرحوم، ولا الدعاء له بالرحمة(8/320)
دفن مسيحية حامل بمسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الزوجة المسيحية إذا ماتت وفى بطنها جنين مسلم، أين يكون الدفن؟
الجواب
روى البيهقى عن وائلة بن الأسقع: أنه دفن امرأة نصرانية فى بطنها ولد مسلم فى مقبرة ليست بمقبرة النصارى ولا المسلمين، واختار هذا الإمام أحمد، لأنها كافرة لا تدفن فى مقبرة المسلمين، فيتأذوا بعذابها، ولا فى مقبرة الكفار، لأن ولدها مسلم فيتأذى بعذابهم. وقال بعض العلماء:
لماذا لا يجوز شق بطنها وإخراج الجنين منه، ليدفن كلٌّ فى مقبرته؟ وذلك عند تعذر وجود مقبرة تصلح لكل الأديان(8/321)
الحور العين ونساء الدنيا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
وصف الله الحور العين فى الجنة بأوصاف لا توجد فى كثير من نساء بنى آدم، فهل تكون فيهن غيرة من جمال الحور، وهل الغيرة تتناسب مع نعيم الجنة؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى"ج 16 ص 154" أن هناك رأيين فى التفاضل بين النساء الآدميات والحور العين، فذكر ابن المبارك أن نساء الدنيا إذا دخلن الجنة فُضِّلن على الحور العين، لما عملنه من الصالحات فى الدنيا، وروى مرفوعا أنهم أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، وقيل: إن الحور العين أفضل لقول النبى صلى الله عليه وسلم فى دعائه " وأبدله زوجًا خيرا من زوجه ".
نترك ذلك لنرى بأنفسنا عندما يَمُنُّ الله علينا بدخول الجنة، مع الأخذ فى الاعتبار أن قوانين الآخرة غير قوانين الدنيا، وأن الغيرة بين الزوجات ممنوعة، قال تعالى {ونزعنا ما فى صدورهم من غل} الحجر: 47 وسورة الأعراف: 43، وقال عن أهل الجنة {وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن} فاطر: 34(8/322)
الجنات وأسمائها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما أسماء الجنات التى وعد الله بها المؤمنين؟
الجواب
هناك أحاديث تدل على أن للجنة ثمانية أبواب.
ويقول القرطبى بعد ذكر أحاديث فيها أبواب كثيرة باسم الطاعات من الصلاة والصيام والجهاد وغيرها: هذا يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا. كذا قال.
لكن هل هى جنة واحدة أم جنات متعددة؟ وإذا كانت جنات متعددة.
هل هى على مستوى واحد تختلف مواقعها حسب منزلتها، أم هى طبقات بعضها فوق بعض، وإذا جاء فى الحديث "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى" هل يدل على علو المكان أم على علو المكانة؟ نترك علم ذلك لله، وعندما نعاين بأنفسنا إن شاء الله.
وقد جاء فى القرآن ما يدل على أن هناك عددا من الجنات، والآيات فى ذكر لفظ "جنات "كثيرة، وجاء أيضا قوله تعلى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} الرحمن: 146، وقوله: {ومن دونهما جنتان} الرحمن: 62.
كما ورد فى القرآن والأحاديث أوصاف للجنة، فإن كانت جنة واحدة كانت هذه أوصافا لها، وإن كانت جنات متعددة كانت أسماء للجنات، وفى الوقت نفسه تتحقق فيها صفاتها.
فمن الأوصاف أو الأسماء سبعة: جنات عدن، ودار السلام، ودار الخلد، والفردوس، وجنة المأوى، وجنة النعيم، ودار الإجلال.
واختار هذا ابن عباس وجماعة.
وذهب الجمهور إلى أن عدد الجنات أربعة فقط، بدليل الآيتين السابقتين المذكورتين فى سورة الرحمن، فهناك جنتان: لمن خاف مقام ربه هما جنة النعيم وجنة المأوى، والجنتان اللتان دونهما هما جنة عدن وجنة الفردوس.
هذا، والحق الذى يجب أن نؤمن به أن هناك دار ثواب أعدها الله تعالى للمؤمنين من عباده سماها بالجنة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
والأولى الإمساك عن كونها جنة واحدة أو أكثر، وتفويض ذلك إلى علم الله تعالى، وإلى ما سنراه بإذن الله فيها إن ختم لنا بالإيمان(8/323)
أبواب الجنة وأبواب النار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما أسماء أبواب الجنة وأبواب النار السبعة؟
الجواب
جاء فى كتاب مشارق الأنوار للعدوى ص 178 أن للجنة ثمانية أبواب كما رواه البخارى ومسلم، منها باب الريان الذى يدخل منه الصائمون، وفى رواية أخرى "من أنفق زوجين من ماله فى سبيل الله دعى من أبواب الجنة، وللجنة أبواب. فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد" وأخرج الطبرانى حديث "وإن فى الجنة بابا يقال له الضحى" وذلك لمن يديمون صلاة الضحى.
هذا ما ذكره عن أسماء الأبواب ولم يذكرها كلها مع أن عددها ثمانية.
فلنقتصر على الوارد بطريق صحيح، والقرطبى فى التذكرة نقل عن الترمذى الحكيم أن فى الجنة بابا خاصا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يدخل منه غيرهم والرسول يدخل من باب محمد وهو باب الرحمة والتوبة.
هذا ما ذكره وفيه روايات ضعيفة والعقائد والغيبيات بالذات لا تقبل فيها أمثال هذه الروايات، وعند وصولنا إلى الجنة سنرى ونعلم الحقيقة إن شاء الله.
وجاء فى المشارق ص 175 أن للنار سبعة أبواب من واقع قوله تعالى {وإن جهنم لموعدهم أجمعين. لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} الحجر: 43، 44، وذكر أن الباب الأول اسمه: جهنم، والثانى:
لظى، والثالث: سقر، والرابع: الحطمة، والخامس: الجحيم، والسادس: السعير، والسابع: الهاوية، وهى أسماء مأخوذة من طبقات جهنم، والله أعلم بالحقيقة(8/324)
بناء القبور بالطوب الأحمر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن بناء القبر بالطوب الأحمر تشاؤم بدخول من دفن فيه النار، فهل هذا صحيح؟
الجواب
دخول الجنة أو النار رهن بالإيمان والعمل ومشيئة الله تعالى، وليس للقبر من حيث إنه مادة دخل فى هذا الموضوع، ومع ذلك استحسن العلماء ألا يكون فيه شىء دخل النار، كالآجر وهو الطوب المحروق.
جاء فى تفسير القرطبى "ج 15ص 381" قوله: ويكره الآجر فى اللحد، وقال الشافعى: لا بأس به لأنه نوع من الحجر، وكرهه أبو حنيفة وأصحابه، لأن الآجر لإحكام البناء، والقبر وما فيه للبلى، فلا يليق به الإحكام، وعلى هذا يسوى بين الحجر والآجر، وقيل: إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا، فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر.
هذا، وقد روى مسلم وغيره عن جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن تجص القبور. وفى لفظ النسائى: أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص. والتجصيص معناه الطلاء بالجص وهو الجير المعروف.
والجمهور حملوا النهى على الكراهة، وحمله ابن حزم على التحريم، والحكمة ما تقدم ذكره من أن القبر للبلى لا للبقاء، أو التفاؤل، فلا يدخله عند التجصيص شىء أحرق بالنار، ويؤيده ما جاء عن زيد بن أرقم أنه قال لمن أراد أن يبنى قبر ابنه ويجصصه: جفوت ولغوت، لايقربه شىء مسته النار.
وكما كرهوا تجصيصه بالجير كرهوا بناءه بالطوب الأحمر المحرق بالنار، وذلك إذا لم تكن الأرض رخوة أو ندية فإن كانت كذلك فلا كراهة(8/325)
بيع المقبرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أمتلك قبرا لأدفن فيه موتانا فهل يجوز أن أبيعه لشخص آخر ليدفن فيه موتاه؟
الجواب
عندما تحدث العلماء عن القبر وقالوا: إنه حبس على صاحبه، وتحدثوا عن نبش القبر وتحويله إلى منفعه أخرى كالزراعة أو البناء أو شق نهر أو طريق، ما بين مجيز لذلك ومانع، آخذين فى الاعتبار بقاء جز من أجزاء الميت كعظم أو صيرورته كله ترابا -لم يتطرقوا إلى نقل ملكية القبر من شخص إلى آخر ليستعمل فى الدفن لا فى شىء آخر من الاستعمالات المشار إليها من قبل.
وبناء على جواز دفن عدد من الموتى فى قبر واحد، كل فى لحد ومكان خاص لا يختلط مع غيره يمكن القول بجواز نقل الملكية لهذا القبر من شخص إلى آخر لاستعماله للدفن، حيث لا يوجد نص يمنع ذلك. أما المقبرة الموقوفة والمستَلة للدفن فلا ملكية فيها لأحد، وبالتالى لا يجوز بيع شىء منها(8/326)
ماء البئر بين المقابر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز استخدام ماء بئر موجود بين المقابر فى التطهر؟
الجواب
بئر الماء الموجود بين المقابر يستمد ماءه من أماكن عميقة لا تصل إليها مخلفات الموتى البالية، وعليه فماء البئر هذا طاهر ومطهر، ولا يحرم استعماله لغرض من الأغراض المشروعة(8/327)
سكن الأحياء فى المقابر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى اتخاذ المقابر مساكن، حيث يسكن بعض الناس فى غرف مجاورة للقبر فى مبنى يجمع بينهما؟
الجواب
المشى والقعود والنوم على غرف فوق القبر قال جمهور الفقهاء إنه مكروه، ويشهد لهم حديث مسلم وغيره " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر " وحديث أحمد بإسناد صحيح فيمن رآه الرسول صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر "لا تؤذوا صاحب القبر" أما البول والغائط فهو مكروه كراهة تحريم عند الحنفية وحرام عند المالكية.
أما السكن فى غرف مجاورة للقبر وليست مقامة عليه فجائز لا مانع منه، حيث لا يوجد دليل على المنع.
ونوصى هؤلاء الساكنين أن يتعظوا ويعتبروا بمن يجاورونهم من الموتى، فإنهم سيصيرون فى النهاية مثلهم(8/328)
حساب القبر وحساب يوم القيامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: إذا مات ابن آدم قامت قيامته، وما الفرق ببن حساب القبر وحساب يوم القيامة؟
الجواب
هذا كلام مأثور، ونسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم ضعيفة "العراقى على الإحياءج 4 ص 421". والمعنى أن الحياة الشخصية للإنسان قد انتهت بموته كما تنتهى الحياة كلها بقيام الساعة، حين ينفخ فى الصور فيصعق من فى السماوات ومن فى الأرض إلا من شاء الله.
وعودة الروح إليه وهو فى القبر تشبه عودتها إليه حين يبعث من القبر إلى الحشر يوم القيامة، وإن كانت العودة فى كلتا الحالتين على نحو يعلمه الله سبحانه.
وما فى القبر من نعيم وعذاب هو صورة لما يكون يوم القيامة من نعيم فى الجنة وعذاب فى النار، وقد ورد فى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده ... ويقال: هذا مقعدك حتى تبعث إليه يوم القيامة" وفى الترمذى "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ".
وحساب القبر يكون عن العقائد، وذلك باتفاق، وإن اختلفوا هل هو فى كل العقائد أو بعضها، أما حساب يوم القيامة فهو لكل شىء قال تعالى {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} الأنبياء: 47(8/329)
حساب القبر لمن أكلته الوحوش
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف يحاسب الإنسان فى القبر إذا مات غريقا أو محروقا، أو أكلته الحيوانات أو الأسماك المتوحشة، او استخدم جسمه فى منفعة علمية مثل التشربح؟
الجواب
اتفق أهل السنة على أن الميت يسأل بعد موته، سواء دفن أم لم يدفن، فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رمادا ونسف فى الهواء، أو غرق فى البحر فلا بد من سؤاله ومجازاته.
قال الحافظ ابن حجر فى "فتح البارى ج 3 ص 277": ذهب ابن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عودة إلى الجسد، وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت فى الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه، لأن الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه.
ومعنى كلام ابن حجر أن من أكلته الحيوانات أو الأسماك سيحاسب ويسأل وهو فى جوف الحيوانات أو الأسماك، ومن استخدم جسمه فى منفعة علمية فيسأل أيضا، ولكن متى؟ قال بعض العلماء:
إن كانت هناك نية لدفنه سيؤخر الحساب إلى أن يدفن، وقال بعضهم:
يسأل قبل الدفن وبعد الدفن.
لكن أحسن ما قيل فى هذا الموضوع ما نقل عن العلامة الأمير: أن هذه مغيبات لا مجال للعقل فيها، فيترك أمرها إلى الله، ذكره العدوى فى كتابه "مشارق الأنوار "ص 27.
وبعد، فإنى أعرض أحيانا بعض الأقوال الاجتهادية فى أمور غيبية لأبين ما شغل به العلماء من تفكير لا أدرى هل خلا لهم الجو من كل العقد فصرفوا وقتهم فى هذا الترف الذهنى، ومع كل هذا فنشكرهم لإثرائهم الحياة الفكرية بكل ما يمكن من معلومات أو معارف أو تصورات(8/330)
الشهداء من المؤمنين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى موت غير المسلم الذى كان يقاتل مع المسلمين ضد أعداء الدولة، وهل يعتبر شهيدا؟
الجواب
الشهادة التى وعد الله عليها الثواب العظيم بالجنة لا تكون إلا للمؤمن، وعلى أن تكون الحرب من أجل أن تكون كلمة الله هى العليا، وهذه هى الشهادة العظمى، فهناك شرطان لاستحقاق الإنسان ثوابها العظيم، الإيمان والإخلاص فى الجهاد.
وقبل الإسلام كان هناك شهداء أبلوا بلاء حسنا فى الدفاع عن عقيدتهم وأطلق عليهم لقب "الشهيد" ففى هؤلاء تحقق الإيمان بالنبى المرسل إليهم، أما الإخلاص فمرجعه إلى النية، والله وحده هو العليم بها، ونحن لنا الظاهر فى إطلاق الاسم ومعاملة صاحبه فى الدنيا على ضوئه، مع ترك الحكم عليه فى الآخرة لله سبحانه.
وبعد الإسلام لا يقبل من أحد غير هذا الدين ليكون مؤمنا، قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} آل عمران: 119 وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} آل عمران: 20.
فالذى يحارب الآن دفاعا عن العقيدة والحقوق ويموت إن لم يكن مسلما فلم يتحقق فيه الشرط الأول، وبذلك لا يعتبر من وجهة النظر الإسلامية شهيدا، وإن كان مسلما فقد تحقق الشرط الأول ويبقى الشرط الثانى لا لإطلاق اسم الشهيد عليه، ولكن لاستحقاقه المنزلة العالية فى الجنة، وهو الإخلاص الذى نص عليه فى الحديث "من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله " رواه البخارى ومسلم.
أما ما قام به غير المؤمنين من جهاد وبطولات فليس لهم ثواب فى الآخرة عليها كما قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} الفرقان: 23.
ولهم ثوابهم فى الدنيا من مثل تقدير الناس لهم والتعامل معهم وأخذ استحقاقاتهم على أعمالهم، فحينما دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يرزق أهل البلد "مكة " المؤمنين من الثمرات بين له ربه أن الرزق الدنيوى ينال منه المؤمنون وغير المؤمنين قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره الى عذاب النار وبئس المصير} البقرة: 126، وقال سبحانه فى موضع آخر {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون فى الأرض بغيرالحق وبما كنتم تفسقون} الأحقاف: 20.
ذلك ما قاله رب العزة وأكده رسوله، وهو الحق الذى لا معدى عنه،فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر(8/331)
نعى الموتى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى نعى الموتى بمكبرات الصوت أو بالنشر فى الصحف أو الإعلانات ونحوها؟
الجواب
النَّعْى أو النَّعِىُّ هو الإخبار بموت الميت، قال الأصمعى:
كانت العرب إذا مات فيها ميت ركب راكب فرسا وجعل يسير فى الناس ويقول: نعاء فلانا، أى أنعيه وأظهر خبر وفاته.
فإذا كان النعى على ما كان يفعله أهل الجاهلية من ذكر المآثر والمفاخر فهو ممنوع، كما يدل عليه ما أخرجه ابن ماجه والبيهقى بسند حسن أن حذيفة بن اليمان قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النعى، وما رواه الترمذى عن عبد الله بن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إياكم والنعى، فإن النعى من عمل الجاهلية " وهو حديث حسن. أما إذا كان النعى من أجل إخطار الأقارب والأصدقاء ليشهدوا جنازته ويكثر المصلون عليه فلا بأس به، لأن من يصلى على الجنازة له قيراط من الأجر كما صح فى الحديث المتفق عليه ولقول النبى صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب " يعنى وجبت له الجنة رواه أبو داود وابن ماجه والترمذى وقال: حديث حسن. بل يكون النعى من أجل هذا القصد مستحبا، ففيه فائدة للميت وفائدة لمن يصلون عليه، ويشهد لهذا ما رواه البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم نعى للناس "النجاشى" فى اليوم الذى مات فيه. وفى لفظ "إن أخاكم النجاشى قد مات، فقوموا فصلوا عليه " وما رواه البيهقى أن النبى صلى الله عليه وسلم نعى جعفر بن أبى طالب وزيد بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال فيمن دفن ليلا وكان يقم المسجد - أى ينظفه ويرفع القمامة منه- "أفلا كنتم آذنتمونى"؟ وفى رواية: "ما منعكم أن تعلمونى"؟ وما روى أن رافع بن خديج مات بعد العصر فأتى ابن عمر فأخبر بموته فقيل له: ما ترى، أيخرج بجنازته الساعة؟ فقال: إن مثل رافع لا يخرج به حتى يؤذن به من حولنا من القرى، فأصبحوا وأخرجوا بجنازته.
من هذا نرى أن النعى إن كان يحمل معنى التفاخر والتباهى فهو مذموم، وإن كان من أجل إعلام الناس بالوفاة للاشتراك فى الصلاة على الميت وتشييع الجنازة فلا بأس به، والأعمال بالنيات ولكل امرىء مانوى، وبهذا يمكن التوفيق بين ما ورد من الأحاديث والآثار فى ذم النعى وعدم ذمه انظر "الفتح الربانى وشرحه ج 7 ص 184، المغنى لابن قدامة ج 2 ص 432 "(8/332)
أفعال النساء فى الجنائز
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز ضرب النساء إذا مشين يصرخن فى الجنائز ويفعلن أفعال الجاهلية؟
الجواب
تشييع النساء للجنازة ورد فيه حديث البخارى ومسلم عن أم عطية قالت:
نهينا أن نتبع الجنائز ولم يعزم علينا، أى لم يؤكد المنع، فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم، كما ذكره ابن حجر فى "فتح البارى".
فالنهى للتنزيه وبه قال جمهور العلماء، ومال مالك إلى الجواز وهو قول أهل المدينة كما ذكره القرطبى.
ويدل على الجواز ما رواه ابن أبى شيبة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان فى جنازة ورأى عمر امرأة فصاح بها فقال "دعها يا عمر فإن العين دامعة، والنفس مصابة والعهد قريب " وإسناد هذا الحديث صحيح.
والأحاديث التى نهت عن اتباعهن الجنازة ضعيفة والمنهى عنه هو ارتكاب ما يخالف الدين مما جاء فى الحديث الصحيح "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
وإذا حدث من النساء منكر من هذا وغيره وجب تغييره بالصورة التى جاءت فى الحديث الصحيح: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ".
وجاء فى فتاوى الشيخ شلتوت (ص 198) أن عمر بن الخطاب سمع ندبا ونياحة فدخل مكان الصوت وأخذ الحاضرين بِدرته حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خمارها، وقال لمن معه: اضرب فإنها نائحة ولا حرمة لها، إنها لا تبكى لشجوكم، إنها تريق دموعها على أخذ دراهمكم، وإنها تؤذى موتاكم فى قبورهم وأحياءكم فى دورهم إنها تنهى عن الصبر وقد أمر الله به، وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه".
ويلاحظ أن عمر قام بهذا بحكم ولايته العامة وتمكنه من تغيير المنكر بيده، وعلى غيره من الناس أن يراعى الأسلوب المناسب الذى لا يكون له رد فعل غير كريم(8/333)
الدفن بجوار الصالحين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل دفن الإنسان بجوار الصالحين وأولياء الله يخفف من عذابه فى القبر؟ وهل بناء القبور بالصورة الحالية صحيح؟
الجواب
جاء فى كتاب "مشارق الأنوار" للعدوى ص 25 ما نصه:
ومما ينبغى أن يدفن بجوار قوم صالحين، ففى شفاء الصدور: أخرج أبو نعيم وابن منده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين، فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحى بجار السوء" وأخرج ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا مات لأحدكم الميت فأحسنوا كفنه وعجلوا إنجاز وصيته وأعمقوا له قبره وباعدوه عن جار السوء" قيل يا رسول الله وهل ينفع الجار الصالح فى الآخرة. قال "هل ينفع فى الدنيا"؟ قالوا نعم، قال "كذلك ينفع فى الآخرة" انتهى.
هذا ما ورد فى الموضع وهى أخبار لا يعتمد عليها فى معرفة الغيب، فيحتمل أن يكون الأمر كما ورد ولا مانع منه عقلا ولا شرعا، وإذا كان هناك انتفاع بمجاورة الصالحين، أو تأذ بمجاروة غيرهم فلا يتعارض ذلك مع قوله تعالى"كل امرئ بما كسب رهين " وقوله "ولا تزر وازرة وزر أخرى" فلا يتحتم أن يكون الانتفاع ثوابا والتأذى عقابا، بل يكون على مثال ما يحصل في الدنيا من الارتياح وعدمه.
هذا، وأما القبر فهو حفرة فى الأرض تعمق وتحكم بحيث تمنع الرائحة وتحمى من الوحوش، ويندب أن يكون العمق قدر قامة وبسطة.
ويسن أن يرفع عن سطح الأرض قدر شبر ونحوه ليعرف حتى لا يمشى الناس عليه، والخلاف جاء فى بناء القباب وعدمه، جاء فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: يكره أن يبنى على القبر بيت أو قبة أو مدرسة أو مسجد أو حيطان تحدق به كالحيشان. أما الشافعية فقالوا: يجوز أن تبنى قبور الأنبياء والشهداء والصالحين وأن ترفع عليها القباب ولو فى الأرض الموقوفة لإحياء ذكرهم انتهى.
ورأى الجمهور أقوى وهو الكراهة لا التحريم الذى تحمس له الشوكانى.
وقال: صرح به أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعى ومالك(8/334)
أين أطفال المشركين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم أطفال المشركين الذين يموتون قبل البلوغ، هل سيكونون فى النار؟
الجواب
إن أحوال الآخرة من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله، ومن أطلعه عليه عن طريق إرسال الرسل ليخبروا الناس به، والأطفال الذين يموتون قبل البلوغ، وهو حد التكليف يتبعون أشرف دين يدين به آباؤهم وأمهاتهم، وبهذا يكون مصير أولاد المسلمين هو الجنة، وقد جاءت بذلك أحاديث صحيحة، منها ما رواه مسلم أن الأطفال يشفعون لآبائهم يوم القيامة، فيقول الله لهم {ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم} وأنهم يسرحون فى الجنة لا يمنعون من بيت أطلقت عليهم بعض الأحاديث "الدعاميص " وعليه حمل بعض المفسرين قول الله تعالى {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} الرعد: 23، وقوله {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} الطور: 21، أما أطفال المشركين فلا يلحقون بآبائهم فى النار، لأنهم لم يكلفوا حتى يعاقبوا، فهم ماتوا على الفطرة لهم الجنة إن شاء الله، ويدل عليه حديث البخارى عن سمرة بن جندب فى رؤيا رآها النبى صلى الله عليه وسلم حيث جاء فيها أنه رأى روضة فيها رجل حوله ولدان كثيرون، وهو إبراهيم عليه السلام، يرعى كل مولود يولد على الفطرة، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال "وأولاد المشركين "فهم سيدخلون الجنة، لا يعلم حالهم فيها إلا الله.
وأما ما رواه الطبرانى من أنهم سيكونون خدما لأهل الجنة فهو حديث ضعيف النسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وموقوف على سلمان بسند حسن أو صحيح، وقد قال المفسرون بذلك عند قوله تعالى {يطوف عليهم ولدان مخلدون} الواقعة: 17، وقوله {ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون} الطور: 24، والقلب يطمئن إلى دخولهم الجنة كما فى حديث البخارى.
يقول النووي في شرح صحيح مسلم "ج 12 ص 55": إن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا حكم آبائهم، وأما في الآخرة ففيهم إذا ماتوا قبل البلوغ ثلاثة مذاهب، الصحيح أنهم في الجنة، والثاني في النار، والثالث لا يجزم فيهم بشيء "انظر: الخطيب على متن أبي شجاع ج 2 ص 256"(8/335)
أرض الميعاد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الحشر يوم القيامة سيكون إلى أرض الميعاد وهى فلسطين؟
الجواب
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقى ليس فيها علم لأحد"والعفراء غير ناصعة البياض، وقرصة النقى خبز مصنوع من دقيق أبيض، وقال تعالى {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار} إبراهيم: 48.
بناء على ما ورد من نصوص حول هذا الموضوع قيل: إن أرض المحشر هى بيت المقدس بالشام، وذلك لحديث رواه البزار والطبرانى بسند حسن عن سمرة بن جندب أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول لنا "إنكم تحشرون إلى بيت المقدس ثم تجتمعون يوم القيامة" وهذه الأرض تبدل بمقتضى الآية، إما ذاتا وإما صفة، حيث تقض حكمة الله أن يكون المحل الذى يقض فيه بالحق وللعدل طاهرا من المعصية والظلم، وقد قال المفسرون إنها تبدل مرتين، إحداهما فى الدنيا قبل نفخة الصعق التى تفنى بها الدنيا فتموج الأرض وتنشق، ثم تعاد كما كانت فيها القبور، والثانية فى الآخرة بعد النفخة الثانية عند القيام من القبور، حيث يكون الحشر إلى الأرض التى تقال لها "الساهرة" فيحاسب الناس عليها، وهى طاهرة نقية، قال تعالى {ونفخ فى الصور فصعق من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} الزمر: 68، وقال {يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة. قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة.
يقولون أئنا لمردودون فى الحافرة. أئذا كنا عظاما نخرة. قالوا تلك إذًا كرة خاسرة. فإنما هى زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة} النازعات: 6 - 14.
هذا ما يمكن أن يقال من الربط بين فلسطين وأرض المحشر يوم القيامة، أما الربط بينهما وبين ما يدعيه الأعداء فى الدنيا فلا يستند إلى دليل مقبول، والله سبحانه رقيب حسيب. ولا يورث الله أى أرض فى الدنيا والآخرة إلا الصالحين من عباده، وأرجو أن نهتم بما نحاسب عليه يوم القيامة من أعمال، ولتكن ما تكون الأرض التى سنحاسب عليها، فملك الله واسع وهو على كل شىء قدير(8/336)
أمه النبى يوم القيامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يعرف النبى صلى الله عليه وسلم أمته يوم القيامة؟
الجواب
يقول الله تعالى عن يوم القيامة {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} الإسراء: 71، يقول المفسرون: الإمام هو الكتاب، وقيل: الرسول.
فيقال يا أمة القرآن، ويا أمة الإنجيل، أو يقال: يا أمة محمد، ويا أمة عيسى، وكذلك كل من يتبعون فكرا معينا يسيرون خلف صاحب هذا الفكر، فهو إمامهم فى ذلك، ويصنف القوم إلى مؤمنين وكافرين، كما يصنف المؤمنون إلى من يدخلون الجنة رأسا، ومن يدخلون بعد عقابهم فى النار إلى أجل.
ومن هذا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أمته إجمالا عند هذا النداء، كما أنه يعرفهم أيضا بعلامة أخرى جاءت فيما رواه مسلم فى حديث طويل أنه صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة - بضم الباء وفتحها - فقال "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم من قريب لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا: أو لسنا بإخوانك يا رسول الله؟ قال "أنتم أصحابى وإخواننا الذين لم يأتوا بعد" قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال "أرأيت لو أن رجلا له خيل غير محجلة بين ظهرى خيل دهم بُهم، ألا يعرف خيله " قالوا: بلى يا رسول الله قال:
"فانهم يأتون غرًا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض " يعنى لهم بياض فى وجوههم وفى أرجلهم من أثر الوضوء.
وإذا كان الحديث يثبت أنه سيكون على الحوض يوم القيامة ليسقى منه أمته التى عرفها بهذه السيما، فإن بعضهم لا يستحق التكريم بشربه من الحوض، حيث لم يعرف الرسول تفاصيل أعمالهم، ولذلك جاء فى رواية لمسلم قريبة من رواية البخارى "ترد علىَّ أمتى الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله " قالوا: يا نبى الله تعرفنا؟ قال "نعم،لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون علىَّ غرًا محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عنى طائفة منكم فلا يقبلون، فأقول: يارب هؤلاء من أصحابى فيجيبنى ملك فيقول: وهل تدرى ما أحدثوا بعدك "(8/337)
المسلم فى جنازة الكتابى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى مشاركة المسلم فى جنازة رجل من أهل الكتاب؟
الجواب
الصلاة على غير المسلم لا تجوز، وقد قال الله تعالى فى المنافقين {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} التوبة: 84 ذلك أنهم لا يستحقون الرحمة بالصلاة عليهم والدعاء لهم ولا يستحقون التكريم بشهود دفنهم، ومن هنا قال العلماء: لا يجوز الاشتراك فى تشييع جنازة غير المسلم، لأن التشييع فيه تكريم قال بعضهم: إنه حرام، وقال آخرون:
إنه مكروه.
أما القيام لها فجائر، لأنه للعبرة فقط وللإحساس بجلال الموت ورهبته لا لتكريم الميت، وقد صح فى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهودى ولما سئل قال "أليست نفسا"؟ واختلف العلماء فى حكم القيام للجنازة هل هو مشروع أو نسخ؟ والصحيح أنه مشروع، والتعزية جائزة، بل قيل إنها مستحبة وصيغتها: أخلف الله عليك(8/338)
رفع الأصوات فى المساجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث ما يقال: من علامات الساعة رفع الأصوات فى المساجد؟
الجواب
النهى عن رفع الأصوات فى المساجد بغير ذكر الله والعبادة وارد فى الأحاديث الصحيحة، مثل نشدان الضالة والبيع والشراء، وجاء فيما يكون فى آخر الزمان حديث رواه ابن حبان فى صحيحه "سيكون فى آخر الزمان قوم يكون حديثهم فى مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة" والمراد به الحديث الذى لا فائدة فيه، أو يشوش على المصلين والمتعبدين، أو الذى يخل بحرمة المساجد.
وجاء فى كتاب "مشارق الأنوار" للعدوى صفحة 117 فى علامات الساعة الصغرى نقلا عن الإمام الشعرانى: روى الترمذى عن على رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا فعلت أمتى خمسة عشر حل بها البلاء، إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات فى المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا" وفى روايات أخرى وذكر الكتاب بقية العلامات الصغرى، وقال عن رفع الأصوات فى المساجد: إنه من علامات الساعة حتى لو كان بالعلم، لقول الإمام مالك: ما للعلم ورفع الصوت؟ والمراد ما يكون فيه تشويش على المتعبدين، أو كان للرياء والفخر، وذلك للتوفيق بين الروايات(8/339)
أوقات الصلاة فى القطبين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف يؤدى أهل المناطق القطبية صلواتهم وقد قيل إنهم لا يرون الشمس إلا كل ستة أشهر؟
الجواب
للعلماء اجتهادات فى هذه المسألة حيث لم يرد فيها نص خاص، والصلاة الواجبة هى خمس فى كل يوم وليلة، والتكليف بها مرتبط بالأوقات المحددة لها متى وجدت. فإذا فقدت الأوقات تقديرا كبلاد القطبين حيث لا تشرق الشمس إلا كل ستة أشهر ثم تغيب ستة أخرى: وهى فى ظهورها تبدو الحركة فى علو وهبوط كل أربع وعشرين ساعة، يمكن أن يقدر بها اليوم وتصلى فيه خمس صلوات لكن عند غيابها تكون المشكلة.
وقد صح فى الحديث المروى عن الدجال أنه يمكث أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر الأيام كأيامنا. فسأله الصحابة ماذا يفعلون فى اليوم الذى كالسنة أتكفيهم صلاة يوم - أى خمس صلوات- قال "لا، اقدروا له " رواه مسلم.
وطريقة التقدير كما نقلها النووى عن القاضى عياض: أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر فى كل يوم فصلوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر، وإذا مضى بعد هذا قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب وكذا العشاء والصبح ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب وهكذا حتى ينقضى ذلك اليوم وقد وقع فيه صلوات ستة فرائض كلها، مؤداه فى وقتها، وأما الثانى الذى كشهر والثالث الذى كجمعة فقياس اليوم الأول أن يقرر لهما كاليوم الأول على ما ذكرنا والله أعلم.
هذا ما رآه الشافعية، وأما الحنفية فعندهم رأيان، رأى العلامة البرهان الكبير كرأى الشافعية وهو التقدير على النحو المذكور، واختاره الكمال بن الهمام فى "فتح القدير" وأيده كثيرون من علماء الحنفية، ورأى البكالى عدم وجوب الصلاة لفقد سببها وهو الوقت، لأن الحكم يدور مع السبب وجودا وعدما، ووافقه على ذلك جمع من العلماء والقول الأول أقوى لأنه قال به إمام مجتهد وهو الشافعى(8/340)
الصلاة بين الأعمدة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الصلاة بين أعمدة المسجد مكروهة؟
الجواب
الصلاة بين أعمدة المسجد ليست مكروهة، لا للإمام ولا للمنفرد، فقد صح فى حديث البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين. وكان كثير من التابعين يؤمون قومهم وهم بين الأعمدة فى المساجد. وأما المؤتمون فتكره صلاتهم بين الأعمدة إذا كان فى المسجد سعة، حتى لا تقطع الصفوف، أما عند الزحام والضيق فلا مانع من أن يصلى المأمومون بين الأعمدة.
روى الحاكم وصححه عن أنس قال: كنا نُنْهَى عن الصلاة بين السوارى ونُطرد منها وروى ابن ماجه بإسناد فيه مجهول عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: كنا نُنْهَى أن نصفَّ بين السوارى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونطرد عنها طردا، وروى سعيد بن منصور فى سننه النهى عن ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة(8/341)
صلاة الضحى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى صلاة الضحى وما عدد ركعاتها، وهل تجوز صلاتها جماعة؟
الجواب
صلاة الضحى هى صلاة النافلة التى تؤدى فى الوقت الذى بعد شروق الشمس بنحو ثلث ساعة إلى وقت الظهر، وفضلها عظيم جاء فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهى عن منكر صدقة، ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى".
وأقلها ركعتان، وأكثرها قيل ثمانى ركعات وقيل ثنتا عشرة ركعة.
أما صلاتها جماعة فجائزة وليست ممنوعة كسائر النوافل، فقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين تطوعا وصلى معه أنس من يمينه، كما صلت أم سليم وأم حرام خلفه، وتكرر هذا ووقع أكثر من مرة(8/342)
الصلاة فى المقابر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجوز صلاة الجنازة بين المقابر وكذلك صلاة الفرائض؟
الجواب
صلاة الجنازة بين المقابر صحيحة وإن كانت مكروهة على رأى الجمهور، وفى رواية لأحمد أنه لا بأس بها، لأن النبى صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وهو فى المقبرة، وصلى أبو هريرة على عائشة وسط قبور البقيع، وحضر ذلك ابن عمر، وفعله عمر بن عبد العزيز.
وصلاة الفرائض وسط المقابر صحيحة أيضا وإن كانت مكروهة إذا كانت على التراب مباشرة دون فراش طاهر يصلى عليه.. خشية أن يكون التراب متنجسا، وكذلك لكراهة جعل القبر أمام المصلى حيث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد(8/343)
صلاة الجنازة على الطفل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف نصلى صلاة الجنازة على الطفل وهو غير مكلف؟
الجواب
صلاة الجنازة على الميت تكريم له كإنسان ودعاء له بالرحمة ورفع الدرجات ولابد من أدائها على كل ميت مسلم صغيرا كان أو كبيرا، إلا ما استثناه الشرع كالشهداء، وهى فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط الطلب عن الباقين، وقد رغب فيه النبى صلى الله عليه وسلم فقال فيما رواه مسلم "من صلى على جنازة فله قيراط،وإن شهد دفنها فله قيراطان، والقيراط مثل أُحد" ويرجى من كثرة عدد المصلين انتفاع الميت، ففى حديث رواه الترمذى وأبو داود وابن ماجه "ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب " أى وجبت له الجنة.
وإذا كان الميت طفلا يصلَّى عليه، والدعاء بعد التكبيرة الثالثة لا يكون بالرحمة والمغفرة لأنه غير مكلف وليست عليه ذنوب، بل يكون الدعاء مثل: اللهم اجعله فرطا وسلفا وذخرا لأبويه، واجعله شافعا لهما يوم القيامة.
وهذه الصلاة واجبة ليست بالنسبة للطفل الميت فقط، بل للسقط الذى لم يتم الأشهر التسعة ونزل بعد نفخ الروح فيه وظهرت فيه حياة بالاستهلال وهو الصراخ أو العطاس ونحوهما وذلك باتفاق العلماء، أما إذا لم يستهل صارخا كما يعبرون، فإن الأحناف والمالكية لا يقولون بوجوب الصلاة عليه، وذلك لحديث رواه الترمذى والنسائى وابن ماجه والبيهقى، "إذا استهل السقط صلِّى عليه وورث " ففى الحديث اشتراط الاستهلال فى الصلاة عليه، وذهب أحمد إلى أنه يصلى عليه بناء على حديث رواه أحمد وأبو داود والترمذى وصححه.
"والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" ولأنه نسمة نفخ فيها الروح فيصلى عليه كالمستهل، وأجاب أحمد بأن الحديث الذى اشترط الاستهلال مضطرب ومعارض بما هو أقوى منه فلا يصلح للاحتجاج به.
أما إذا نزل سقط لم تنفخ فيه الروح فلا يغسل ولا يصلى عليه ويلف فى خرقة ويدفن من غير خلاف بين جمهور الفقهاء "نيل الأوطار ج 2 ص 49"(8/344)
ثمرات الأشجار وسط المقابر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى أكل الثمار من الأشجار التى وسط المقابر وجذورها تمتص فضلات الموتى؟
الجواب
لا مانع من أكل ثمر الشجر الذى ينمو وسط المقابر، ولا عبرة بما يقال: إن جذور الشجر تمتص دماء الموتى وفضلاتهم فالثمرة تكون نجسة، ذلك على فرض هذا الامتصاص، أن تحول النجس يجعله طاهرا، وقد تحول فى الشجرة غذاء لها وأنتج الثمرة، تماما كالطيور التى تتناول النجاسة فى بعض الأحيان، وكأى زرع يسمد بالسماد البلدى النجس، فذلك لا يصيب الثمر بالنجاسة(8/345)
تجهيز الكفن قبل الوفاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن يجهزون أكفانهم قبل وفاتهم، وهل عليها زكاة؟
الجواب
لا حرج فى تجهيز الكفن قبل الموت، فهو أمر لا واجب ولا ممنوع، وإذا كانت نيته أن يتعظ به كلما رآه ليجتهد فى العمل للقاء الله فهو خير، والأعمال بالنيات، وكذلك إذا علم أو غلب على ظنه أنه لو مات ربما يحتار أهله فى إحضار كفن له فهو يجهزه مقدما، أما الزكاة على الكفن فهى غير مشروعة(8/346)
الحياة البرزخية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الحياة البرزخية، ومتى وأين تكون؟
الجواب
الحياة البرزخية هى الفترة ما بين موت الميت أو ما بين وضعه فى قبره وقيامه منه للبعث يوم القيامة، نسبة إلى البرزخ وهو الحاجز بين الشيئين، وقد عقد ابن القيم فصلا فى كتابه "حادى الأرواح " ذكر فيه أقوال العلماء فى مستقر الأرواح، وقال: منها أرواح فى أعلى عليين فى الملأ الأعلى، وهى أرواح الأنبياء مع تفاوت منازلهم، ومنها أرواح فى حواصل طير خضر تسرح فى الجنة حيث شاءت، وهى أرواح الشهداء، ومنها ما يكون محبوسا على باب الجنة، وما يكون محبوسا فى القبر، ومنها غير ذلك.
وذكر أن النفس لها أربع دور، كل دار أعظم من التى قبلها، الأولى فى بطن الأم، والثانية دار الدنيا، والثالثة دار البرزخ، والرابعة دار القرار وهى الجنة والنار.
ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب "مشارق الأنوار" للعدوى ص 39 فهناك كلام كثير واجتهادات فى نصوص بعضها قطعى وبعضها غير قطعى، والأفضل عدم الخوض فى هذه المسائل لتقرير رأى معين يثير نزاعا لا فائدة فيه(8/347)
الكفن الحسن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل من الحديث "إذا وَلِىَ أحدكم أخاه فليحسن كفنه فإنهم يتزاورون فى قبورهم"؟
الجواب
الحديث رواه مسلم "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه " وفى رواية ابن ماجه والترمذى وقال: حديث حسن، وفى بعض الروايات زيادة " فإنهم يتزاورون فى قبورهم " وفى بعضها زيادة "يتباهون " ذكره العدوى فى "مشارق الأنوار" ص 35.
ومن الإحسان فى الكفن أن يكون أبيض، لحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذى وصححه "البسوا من ثيابكم البيض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ".
ومن الإحسان أيضا أن يكون الكفن ثلاث لفائف للرجل وخمس لفائف للمرأة وكل ذلك سُنة وليس بواجب فيكفى ثوب واحد يغطى جميع الجسم، ومن أى لون يكون من الأقمشة الحلال، أى غير الحرير للرجل.
ومع الإحسان فيه تكره المغالاة فى ثمنه، ففى الحديث، "لا تغالوا فى الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا" رواه أبو داود وفى إسناده أبو مالك، وفيه مقال، وأوصى بعض الصحابة أن يكفن فى ملابسه التى يلبسها ولا داعى لشراء كفن جديد، فالحى أولى بالجديد من الميت(8/348)
الموتى يسمعون
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلم بعض الموتى فى قبورهم، وهل يتناقض ذلك مع قوله تعالى {وما يستوى الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور} فاطر 22
الجواب
ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم نادى قتلى المشركين فى بدر بعد إلقائهم فى القليب - البئر- فقال "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ... " قال عمر: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام جيَّفوا- صاروا جيفا- فقال "والذى بعثنى بالحق ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، ولكنهم لا يستطيعون جوابا" رواه البخارى ومسلم.
وجاء أن النبى صلى الله عليه وسلم شرع لأمته السلام على أهل القبور"السلام عليكم دار قوم مؤمنين " وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، والسلف مجمعون على ذلك. رواه النسائى وابن ماجه.
فسماع الموتى لكلام الأحياء ثابت، وأما قوله تعالى {فإنك لا تسمع الموتى} الروم: 52 وقوله {وما أنت بمسمع من فى القبور} فاطر: 22 فالمنفى هنا هو سماع القبول والإيمان، حيث شبه الله الكفار الأحياء بالأموات، لا من حيث انعدام الإدراك والحواس، بل من حيث عدم قبولهم الهدى والإيمان "انظر الجزء الثانى ص 107، 108 " من بيان للناس من الأزهر الشريف "(8/349)
أرواح الموتى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أين تذهب أرواح الموتى، وهل تبقى على قبر صاحبها أربعين يوما أو عاما؟
الجواب
تحدث العدوى فى كتابه "مشارق الأنوار" فى مساحة أربع صفحات أو خمس من القطع الكبير عن أرواح المؤمنين السعداء من غير الأنبياء والشهداء فقال: هناك اختلاف كبير فى مقرها، فقيل: إنها على أفنية القبور فى بعض الأحيان، وفى غير ذلك تسرح حيث شاءت، وأورد أحاديث ليست قطعية الثبوت، وبناء عليها قال ابن القيم: التحقيق أن الأرواح متفاوتة فى مستقرها فى البرزخ أعظم تفاوت، وعلى كل تقدير فللروح بالبدن اتصال، بحيث يصح أن تخاطب ويسلم عليها، ويعرض عليها مقعدها ... إلى أن قال: لا منافاة بين كون الروح فى عليين أو الجنة أو السماء وأن لها اتصالا بالبدن بحيث تدرك وتسمع وتصلى وتقرأ، وإنما يستغرب هذا لقياس الغائب على الشاهد، والأمر مختلف فأمور البرزخ على نمط غير المألوف فى الدنيا.
وانتهى ابن القيم إلى قوله: والحاصل أنه ليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد، وكلها على اختلاف محالها وتباين مقارها لها اتصال بأجسادها فى قبورها.
وقال ابن حجر: أرواح المؤمنين فى عليين، وأرواح الكفار فى سجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوى لا يشبه الاتصال فى الحياة الدنيا، بل أشبه شىء به حال النائم وإن كان هو أشد اتصالا من حال النائم.
واقرأ فى هذا الكتاب "ص 46 " وصف الصور الذى سينفخ فيه إسرافيل، أن فيه أربع شعب، للمشرق والمغرب والأرض والسماء، وفى كل منها ثقوب، بعضها لأرواح الأنبياء، وبعضها لأرواح الملائكة، وبعضها لأرواح الجن، وبعضها لأرواح الإنس وبعضها لأرواح البهائم، وهكذا إلى سبعين صنفا، وكل ذلك ليس عليه دليل صحيح تبنى عليه العقائد، فالأولى عدم الخوض فيه. وقد ذكرته لعرض بعض التصورات القديمة عن عالم الغيب، الذى يجب الاحتياط والدقة فى الحديث عنه(8/350)
العمل مع صاحبه فى القبر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يأتى عمل الرجل الصالح فى قبره على هيئة رجل أبيض جميل الثياب، أما غيره فيأتيه عل هيئة رجل أسود ردئ الثياب؟
الجواب
جاء فى "الترغيب والترهيب " للحافظ المنذرى ج 4 ص 124 ما يلى: روى أحمد بإسناد رواته محتج بهم فى الصحيح حديث قبض الروح وسؤال الملكين، وجاء فيه أن العبد المؤمن يأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول له: أبشر بالذى يسرك، هذا يومك الذى كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الحسن يجىء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح.
وجاء فيه عن الكافر: "ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذى يسوءك هذا يومك الذى كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه القبيح يجىء بالشر؟ قال: أنا عملك الخبيث ".
ومما يدل على أن العمل هو الذى يصاحب الميت فى قبره، بصرف النظر عن كون الله يجعله فى صورة رجل أو لا، قول النبى صلى الله عليه وسلم فى الميت حين يشيع إلى قبره، إن المشيعين يتركونه فى القبر، ويعودون إلى بيوتهم، ولا يصاحبه فى قبره إلا عمله -فقد روى البخارى ومسلم أنه قال "يتبع الميت ثلاث: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله" وفسر المال فى الحديث بالعبيد المملوكين له(8/351)
ضمة القبر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما الحكمة من ضمة القبر، وهل ينجو منها أحد، وهل هناك عمل ينجى منها؟
الجواب
جاء فى "مشارق الأنوار" للعدوى ص 30 أن النبى صلى الله عليه وسلم قال -كما رواه النسائى-فى سعد بن معاذ بن جبل "لقد تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة، ولقد ضم ثم فرِّج عنه " وفى رواية عن عائشة رضى الله عنها أنه قال "للقبر ضغطة لو نجا أحد منها لنجا منها سعد بن معاذ" وقوله "لو نجا منها أحد" لا يتناقض مع قوله "ما عفى لأحد عن ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد" وهى زوجة عمه أبى طالب: قيل يا رسول الله ولا ابنك القاسم؟ قال "ولا إبراهيم الذى هو أصغرهما" لأن نجاة فاطمة بنت أسد بسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل فى قبرها ونرغ قميصه وتمعَّك فى لحدها، ولما سئل عن ذلك قال "أردت ألا تمسها النار أبدا إن شاء الله وأن يوسع عليها قبرها" قال الحكيم الترمذى: سبب هذه الضمة أنه ما من أحد إلا وقد ألمَّ بخطيئة ما وإن كان صالحا، فجعلت هذه الصغطة جزاء له، ثم تدركه الرحمة، ولهذا كانت ضغطة سعد للتقصير فى البول فأما الأنبياء فلا ضم ولا سؤال لعصمتهم.
هذا ما قاله الزرقانى فى شرح المواهب، وناقشه العدوى بأن ضغطة القبر لا تكون بسبب الخطيئة، فما هى خطيئة إبراهيم بن الرسول وقد مات صغيرا ولم يكلف؟ ولا يظن بسعد أنه قصر فى البول تقصيرا يؤدى إلى فساد فى عبادته أو مكروه، ويؤيد هذا أن ضمها للمؤمن الكامل ضمة شفقة ورأفة فالذين لا تشملهم ضغطة القبر مستثنون لخصوصية فيهم.
قال الشعرانى فى مختصر التذكرة: لا ينجو من ضمة القبر أحد إلا أربعة، فاطمة بنت محمد، وفاطمة بنت أسد، والأنبياء، ومن قرأ {قل هو الله أحد} فى مرضه ولو مرة واحدة.
وروى مرفوعا، "إن العبد إذا وضع فى قبره فقال أهله: واسيداه واأميراه، واشريفاه، قال له الملك: اسمع ما يقولون. أكنت سيدا؟ أكنت أميرا؟ أكنت شريفا؟ فيقول الميت: ليتهم سكتوا عنى، قال:
فيضغطه القبر ضغطة تختلف فيها أضلاعه. .
فالخلاصة: أن ضغطة القبر عامة، ولا ينجو منها إلا من لهم خصوصيات، وهى لا تستدعى ذنبا وقع، وهى تكون شفقة ورأفة على المؤمن الكامل، والذى يجعلها خفيفة هو العمل الصالح بوجه عام، ومنه قراءة {قل هو الله أحد} كما تقدم، وهذه كلها من الغيب الذى يحتاج فى اعتقاده إلى دليل قوى " الزرقانى ج 2 ص 142 "(8/352)
التعرف على الأقارب يوم القيامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل سيتعرف الإنسان على أقاربه يوم القيامة؟
الجواب
التعرف على الأقارب بمعنى رؤيتهم ومعرفتهم أمر ممكن إن تيسر اللقاء بهم، أما التعرف بمعنى النفع والإفادة فقد ورد فيه قول الله تعالى {يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه ث وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} عبس: 34-37.
وستكون هناك شفاعة الولد الصغير الذى صبر أبوه على موته، ويأخذ بيده ويدخل معه الجنة كما ثبت فى الحديث(8/353)
العزاء فى المنتحر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز تقديم العزاء فى المنتحر؟
الجواب
المنتحر إن لم يعلم أنه استحل الانتحار فهو مؤمن غير كافر، ومن هنا يجوز تقديم العزاء فيه، ولو علم أنه كفر فلا مانع أيضا من عزاء أهله فيه، فالمراد من التعزية تسليتهم، وذلك من حق المسلم على المسلم، وفيه حديث رواه ابن ماجه والبيهقى بسند حسن "ما من مؤمن يعزى أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة" وقال العلماء فى هذا الصدد: إن عزى مسلما بكافر قال: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك. ولا يقول: غفر لميتك أو رحمه الله(8/354)
الوصية بالدفن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أوصانى والدى إذا مات أن يدفن فى مكان معين، فهل يجب تنفيذ هذه الوصية؟
الجواب
الوصية هى التصرف المضاف لما بعد الموت. كالوصية ببناء مسجد من ماله بعد موته، أو الوصية لولده بحفظ القرآن ونحو ذلك. وتنفيذ الوصية يكون فيما ليس فيه ظلم أو خروج على المصلحة المشروعة، وهذا التنفيذ مطلوب قال تعالى {فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه} البقرة: 181 وذلك بعد الأمر بالوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، وقال {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} البقرة: 182 والجنف هو الميل عن الحق.
ومن البر بالوالدين تنفيذ وصيتهما بعد موتهما، لحديث أبى داود وابن ماجه وابن حبان أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم: هل بقى من بر أبوى شىء بعد موتهما؟ فقال "نعم، الصلاة عليهما -أى الدعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما ".
وإنفاذ عهدهما من بعدهما قد يراد به أن ينفذ الولد العهود التى تعهد بها والداه لغيرهما من الناس ولم يستطيعا تنفيذها قبل الموت، كالديون مثلا، وقد يراد تنفيذ العهود والوعود التى عهد الوالدان للولد أن ينفذها بعد الموت، لكن ذلك كله فى الشىء الواجب فيكون التنفيذ واجبا، وفى المندوب يكون التنفيذ مندوبا وفى غير ذلك فلا تنفيذ لأى عهد، مثل أن يوصى بأن يدفن فى بلد كذا، أو فى مقبرة فلان مثلا، فقد قرر العلماء أن الأولى دفن الميت فى البلد الذى مات فيه، وقال المالكية بجواز نقله للمصلحة، كمكان ترجى بركته أو تتيسر فيه زيارة أهله له. وحرَّم الشافعية نقله إلا لجوار قوم صالحين. أو لجهة مشرفة كمكة والمدينة والقدس إن كانت قريبة.
وعلى هذا فإن تنفيذ الوصية بالدفن فى مكان معين يكون من البر إن كان لهذا المكان ميزة كفضل البقعة أو القرب من الأهل لسهولة الزيارة، وفى غير ذلك لا يجب تنفيذ الوصية، بل يحرم نقله عند الشافعية(8/355)
الذكر عند تشيع الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز ترديد بعض العبارات مثل "لا إله إلا الله " اثناء تشييع الجنازة؟
الجواب
يقول النووى فى كتابه "الأذكار": واعلم أن الصواب والمختار وما كان عليه السلف رضي الله عنهم -السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهى أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما تعلق بالجنازة، وهو مطلوب فى هذا الحال، فهذا هو الحق.
قال ابن المنذر، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث: عند الجنازة وعند الذكر وعند القتال، وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والنخعى وأحمد وإسحاق قول القائل خلف الجنازة: استغفروا له.
قال فضيل بن عمر: بينما ابن عمر فى جنازة إذ سمع قائلا يقول:
استغفروا له غفر الله له. فقال ابن عمر: لا غفر الله لك.
هذا الحكم فى رفع الصوت بالذكر، أما الإسرار به بحيث لا يسمع إلا نفسه فلا مانع منه(8/356)
من وصايا الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن بعض الناس عندما تقرب نهايتهم يتركون وصية بأن يصلى عليه الجنازة فلان، وأن يدفن فى مكان معين، أو يكون كفنه من قماش معين، وغير ذلك من الوصايا، فهل يجب تنفيذ تلك الوصية، حتى لو صادف التنفيذ بعض الصعاب؟
الجواب
جاء فى كتاب "الأذكار" للنووى "ص 165 " حديث رواه البخارى عن عائشة رضى الله عنها قالت: دخلت على أبى بكر رضى الله عنه، يعنى وهو مريض فقال: فى كم كفنتم النبى صلى الله عليه وسلم فقلت: فى ثلاثة أثواب، قال: فى أى يوم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الإثنين، قال فأى يوم هذا؟ قالت:
يوم الإثنين، قال: أرجو فيما بينى وبين الليل. فنظر إلى ثوب عليه كان يمرَّض فيه، به رَدْعٌ -أثر- من زعفران فقال: اغسلوا ثوبى هذا، وزيدوا عليه ثوبين، فكفنونى فيها، قلت: إن هذا خلق - قديم - قال؟ إن الحى أحق بالجديد من الميت، إما هو للمهلة -بضم الميم وفتحها وكسرها وسكون الهاء، وهو الصديد الذى يتحلل من بدن الميت - فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح.
وروى البخارى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال لمَّا جرح: إذا أنا قبضت فاحملونى، ثم سلِّم وقل - لعائشة -: يستأذن عمر، فإن أذنت لى فأدخلونى، وإن ردتنى ردونى إلى مقابر المسلمين.
وروى مسلم عن عامر بن سعد بن أبى وقاص قال: قال سعد:
ألحدوا لى لحدا، وانصبوا علىَّ اللَّبِن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم وروى مسلم أيضا عن عمرو بن العاص رضى الله عنه أنه قال، وهو فى سياقة الموت: إذا أنا مت فلا تصحبنى نائحة ولا نار، فإذا دفنتمونى فشنوا علىَّ التراب شنا، ثم أقيموا حول قبرى قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربى، قوله شنوا، روى بالسين المهملة، وبالمعجمة يعنى بالشين، ومعناه صبوه قليلا قليلا.
ثم قال النووى بعد هذه الروايات: وينبغى ألا يقلِّد الميت ويتابع فى كل ما وصَّى به، بل يعرض ذلك على أهل العلم، فما أباحوه فعل وما لا فلا، وأنا أذكر من ذلك أمثلة، فإذا أوصى بأن يدفن فى موضع من مقابر بلدته، وذلك الموضع معدن الأخيار يعنى بجوار الصالحين فينبغى أن يحافظ على وصيته، وإذا أوصى بأن يصلى عليه أجنبى فهل يقدَّم فى الصلاة على أقارب الميت؟ فيه خلاف للعلماء، والصحيح فى مذهبنا أن القريب أولى، لكن إن كان الموصى له ممن ينسب إلى الصلاح أو البراعة فى العلم مع الصيانة والذكر الحسن استحب للقريب الذى ليس هو فى مثل حاله إيثاره، ورعاية لحق الميت، وإذا أوصى بأن يدفن فى تابوت لم تنفذ وصيته، إلا أن تكون الأرض رخوة أو ندية يحتاج فيها إليه، فتنفذ وصيته، وكذلك إذا كان فى الأرض سباع يخشى أن تأكل الجثة ولا يحميها إلا التابوت، ويكون من رأس المال كالكفن، وإذا أوصى بأن ينقل إلى بلد آخر لا تنفذ وصيته، فإن النقل حرام على المذهب الصحيح المختار الذى قاله الأكثرون وصرح به المحققون، وقيل مكروه، قال الشافعى رحمه الله: إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فينقل إليها لبركتها، وإذا أوصى بأن يدفن تحته مضربة أو مخدة تحت رأسه أو نحو ذلك لم تنفذ وصيته، وكذا إذا أوصى بأن يكفن فى حرير فإن تكفين الرجال فى الحرير حرام، وتكفين النساء فيه مكروه ليس بحرام.
ولو أوصى بأن يكفن فيما زاد على عدد الكفن المشروع أو فى ثوب لا يستر البدن لا تنفذ وصيته، ولو أوصى بأن يقرأ عند قبره أو يتصدق عنه وغير ذلك من أنواع القرب نفذت، إلا أن يقترن بها ما يمنع الشرع منها بسببه، ولو أوصى بأن تؤخر جنازته زائدا عن المشروع لم تنفذ، ولو أوصى بأن يبنى عليه فى مقبرة مسبَّلة للمسلمين لم تنفذ ولو أوصى بأن يبنى عليه فى مقبرة للمسلمين لم تنفذ وصيته، بل ذلك حرام(8/357)
صلاة الجنازة بعد الدفن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
توفى ولد صغير لى فى مكان منعزل فغسلته وكفنته فى ملابسه ودفنته حيث مات دون صلاة عليه، لأنى لم أجد أحدا يصلى عليه فماذا أعمل؟
الجواب
المفروض فى صلاة الجنازة أن تكون قبل دفن الميت، فلو دفنت بدون صلاة عليها وجب إخراجها من القبر إن لم تتحلل ولم تنتهك حرمتها، فان تعذر إخراجها لذلك وجبت الصلاة عليها وهى فى القبر، وتكون أمام المصلى كما لو كانت قبل الدفن.
أما الصلاة عليها بعيدة عن القبر فقيل بعدم جوازها، وما حصل من صلاة النبى صلى الله عليه وسلم على النجاشى فهو خصوصية له. وقيل بالجواز ونفى الخصوصية إن كانت بعد الموت بشهر فأقل كما رآه الحنابلة، وقيل بالجواز مطلقا كما رآه الشافعية "انظر الفقه على المذاهب الأربعة ".
هذا، وصلاة الجنازة فى المقبرة بين القبور كرهها جماعة لحديث "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" وقال آخرون لا بأس بها، لأن الرسول صلى على قبر وهو فى المقبرة وصلى أبو هريرة على عائشة وسط قبور البقيع، ولم ينكره ابن عمر(8/358)
إتباع الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف يكون السير بالجنازة، وهل المشى أمامها أفضل أم خلفها؟
الجواب
اختار جمهور العلماء السير أمام الجنازة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عمر كانوا يمشون أمامها، كما رواه أحمد وأصحاب السنن.
ويرى الحنفية أن السير خلفها أفضل، لأنه هو الذى يدل على معنى "اتباع الجنازة" الذى أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم والمتبع هو الذى يمشى خلف من يتبعه.
ويرى أنس بن مالك أن كل ذلك سواء، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "الراكب يسير خلف الجنازة والماشى يمشى خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها" وروى البيهقى وابن أبى شيبة بإسناد حسن أن أبا بكر وعمر كانا يمشيان أمام الجنازة، وكان على يمشى خلفها فقيل لعلىٍّ إنهما - أى أبا بكر وعمر - يمشيان أمامها، فقال: إنهما يعلمان أن المشى خلفها أفضل من المشى أمامها، كفضل صلاة الرجل فى جماعة على صلاته فذًّا ولكنهما يسهلان للناس(8/359)
الدفن فى مقبرة خاصة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أوصى رجل أن يعمل له قبر خاص بجوار بيته، فهل يجب تنفيذ الوصية أم الأفضل أن يدفن فى المقبرة العامة؟
الجواب
جاء فى "المغنى لابن قدامة" ج 2 ص 388 أن الدفن فى مقابر المسلمين أولى عند الإمام أحمد من الدفن فى البيوت، لأنه أقل ضررا على الأحياء من ورثته، وأشبه بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء له والترحم عليه، ولم يزل الصحابة والتابعون ومن بعدهم يقبرون فى الصحارى. فإن قيل:
فالنبى صلى الله عليه وسلم قُبر فى بيته، وقبر صاحباه معه، قلنا: قالت عائشة رضى الله عنها: إنما فعل ذلك لئلا يتخذ قبره مسجدا، رواه البخارى، ولأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع، وفعله أولى من فعل غيره، وإنما أصحابه رأوا تخصيصه بذلك ولأنه روى: يدفن الأنبياء حيث يموتون، وصيانة لهم عن كثرة الطُّراق، وتمييزا للنبى عن غيره. اهـ.
وفى مشارق الأنوار للعدوى "ص 52 " أن الدفن فى مقابر المسلمين أولى من الدفن فى البيت، وأرى أن الوصية بالدفن فى قبر خاص فى بيته لا يلزم تنفيذها، فالدفن فى المقابر أفضل(8/360)
توجيه الميت فى القبر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب أن يوجه الميت في قبره إلى جهة القبلة، أم يجوز توجهه إلى غيرها؟
الجواب
جاء فى فقه المذاهب الأربعة أنه يجب أن يوضع الميت فى قبره مستقبل القبلة، وذلك رأي الجمهور، أما المالكية فقالوا: إن توجيهه إلى القبلة بوضعه على جنبه الأيمن مندوب وليس بواجب.
وجاء فيه أنه لو وضع الميت غير موجَّه للقبلة ولم يُهَلْ عليه التراب وجب تدارك ذلك، فإن أهيل عليه التراب لم ينبش، ورأى الشافعية والحنابلة وجوب نبش القبر ولو بعد إهالة التراب عليه، لتوجيهه إلى القبلة، وذلك قبل أن تتغير الجثة، وإلا فلا(8/361)
عمل الكافر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل المفكرون والمخترعون والمكتشفون والمصلحون ممن لم يعتنقوا الإسلام، يأخذون من الله أجرا على أعمالهم التى أفاد منها الكثيرون؟
الجواب
ليكن معلوما أن الثواب فى الآخرة بدخول الجنة شرطه الإيمان بالله والإخلاص له، فالكافر بالله لا يستحق ثوابا لأنه لم يؤمن والمؤمن غير المخلص لا يستحق كذلك ثوابا، لأنه عمل لغير الله، وكل ما فعله غير المؤمن من صالحات مردود عليه يوم القيامة، والنصوص فى ذلك كثيرة، منها قوله تعالى فى الذين لا يؤمنون بلقاء الله {وقدِمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} الفرقان: 23 وقوله {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتى ورسلى هزوا} الكهف: 103 - 106 {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} البقرة: 217 وقوله عن المنافقين {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين. وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} التوبة: 53، 54 وقوله {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين} آل عمران: 85.
فالكافر محروم من الثواب على أعماله الصالحة ولن يدخل الجنة أبدا {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء:48 والمؤمن الذى يرائى بعمله هو مشرك شركا خفيا، والنصوص فى حرمانه من الثواب كثيرة.
هذا بالنظر إلى الآخرة، أما بالنظر إلى الدنيا فإن كل إنسان يستحق أن ينال جزاء عمله فيها بمشيئة الله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فالكافر لا يحرم من ثواب على أعماله الصالحة بمثل احترام الناس له ومكافأته على خدماته وتكريمه بأية وسيلة من وسائل التكريم ولا يحرمه الله من الرزق على الرغم من كفره قال تعالى {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} البقرة: 126 وقال {لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} آل عمران: 196، 197 وقال {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم فى الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} هود: 15، 16 وقال {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا. كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا} هود: 18 - 20 العاجلة - الدنيا - فهذه الآيات تدل على أن الكافر الذى يريد الدنيا بأعماله قد ينال ثوابا دنيويا إذا أراد الله ذلك لقوله {ما نشاء لمن نريد} وليس له فى الآخرة نصيب من التكريم، والمؤمن والكافر يتمتعان فى الدنيا بنعم الله، وفى الآخرة يفترقان، فالمؤمن مصيره الجنة، والكافر مصيره النار.
روى مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جُدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال "لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين" وابن جدعان اسمه عبد الله كان من بنى تيم بن مرة من أقرباء عائشة لأنه ابن عم أبى قحاقة والد أبى بكر، اتخذ جفنة للضيفان يرقى إليها بسلم، وكان من رؤساء قريش فى الجاهلية، وروى ذلك عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها فى الدنيا ويجزى بها فى الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها فى الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها".
هذا هو حكم الكافر إذا مات على كفره، لا يجازى بخير فى الآخرة، وقد يعترض على هذا بأن الله أثاب أبا طالب على حمايته للنبى على الرغم من موته على الكفر، فقد روى مسلم أن العباس عم النبى صلى الله عليه وسلم قال له: يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال "نعم وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح " وروى مسلم عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال "لعله تنفعه شفاعى يوم القيامة، فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه ".
لا يعترض بهذا لأن أبا طالب لا تشفع له حمايته للنبى ألا يدخل النار، فهو داخل فيها لا محالة، محروم من الجنة، وإن كان عذاب النار خفيفا عليه، فإن الفائز هو من ينتهى إلى الجنة، قال تعالى {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} آل عمران:185.
بقى أن نعرف حكم الكافر إذا أسلم ومات على الإسلام، هل تنفعه أعمال الخير وهو كافر فيثاب عليها فى الآخرة، أو يحبطها الله بسبب أنها عملت بدون إيمان بالله الآخر؟ روى مسلم حديث حكيم بن حزام الذى قال للنبى صلى الله عليه وسلم أرأيت أمورا كنت أتحنث بها فى الجاهلية، من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم، أفيها أجر؟ فقال صلى الله عليه وسلم "أسلمت على ما أسلفت من خير" وحكيم عاش مائة وعشرين سنة، منها ستون سنة فى الجاهلية. وستون سنة فى الإسلام، أعتق فى الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، فما معنى قول النبى له "أسلمت على ما أسلفت من خير"؟ يقول بعض العلماء: إن المعنى أنك كنت ذا طبع جميل فى الجاهلية، وصحبك طبعك فى الإسلام، فالاستعداد الطيب هو الذى ساقه إلى الإسلام، وبهذا يكون ثوابه على أعماله الطيبة مسكوتا عنه. أو يعطى حكم أعمال الكافرين. لا ثواب لها فى الآخرة، وثوابها فى الدنيا أن الله وفقه إلى الإسلام.
ويقول البعض الآخر: إن المعنى أن من أسلم يحفظ الله له ما قدمه حال كفره ولا يحرمه من ثوابها، أما من لم يسلم فلا ينفعه ذلك عند الله.
من هذا نرى أن من أدرك الإسلام ولم يسلم ومات على كفره يحبط عمله فى الآخرة ولا يثاب عليه، أما فى الدنيا فينال أجر عمله، من رزق الله له وتمتعه بمكاسب الدنيا المادية والأدبية، وكفى ذلك ثوابا(8/362)
القيام للجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مرت علينا جنازة ونحن جالسون، فقام بعضنا ولم يقم البعض الآخر وكل يقول: إن ما فعله هو السنة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
روى مسلم عن على رضى الله عنه أنه قال: رأينا النبى صلى الله عليه وسلم قام فقمنا فقعد فقعدنا، يعنى فى الجنازة قال الترمذى: حديث علىٍّ حسن صحيح، وفيه أربعة من التابعين بعضهم عن بعض، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وقال الشافعى: هذا أصح شىء فى هذا الباب.
يؤخذ من هذا أن القيام للجنازة عندما تمر بالإنسان مشروع، بل هو مندوب لفعل النبى صلى الله عليه وسلم بل لأمره بذلك أيضا كما فى رواية أحمد عن على: كان النبى صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام فى الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس، وقال الإمام أحمد: إن شاء قام وإن شاء لم يقم، ووافقه ابن الماجشون من المالكية قال النووى:
والمختار أنه مستحب. قال ابن حزم: ويستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء وإن كانت جنازة كافر حتى توضع أو تخلِّفه، فإن لم يقم فلا حرج. وذلك لحديث رواه الجماعة. وروى البخارى ومسلم عن سهل بن حنيف وقيس بن سعد أنهما كانا قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما فقيل لهما: إنها من أهل الأرض -أى من أهل الذمة- فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له:
إنها جنازة يهودى، فقال "أو ليست نفسا"؟ والحكمة فى القيام لها ما جاء فى رواية أحمد وابن حبان والحاكم مرفوعا، "إنما تقومون إعظاما للذى يقبض النفوس" ولفظ ابن حبان "إعظاما لله تعالى الذى يقبض الأرواح".
فالخلاصة أن القيام للجنازة فيه أقوال، قيل بالكراهة، وقيل بالاستحباب، وقيل بالتخيير بين الفعل والترك، ولكل واحد أن يختار القول الذى يطمئن إليه(8/363)
صلاة الجنازة على الطفل والشهيد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما فائدة الصلاة على الميت إذا كان طفلا وهو لم يرتكب معصية وكذلك الشهيد المغفور له؟
الجواب
من المتفق عليه بين الفقهاء أن صلاة الجنازة على الميت المسلم واجبة أو فرض والفرض كفائى، بمعنى أن البعض لو صلى عليها سقط الطلب عن الباقين وذلك لأمر النبى صلى الله عليه وسلم بها، ولترغيبه فيها بأن من صلى عليها وتبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر، ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط واحد مثل جبل أحد كما رواه مسلم وغيره، ولم يستثن من وجوبها إلا الشهيد والسقط الذى نزل من بطن أمه قبل تمام حمله فى بعض الصور.
والحكمة فيها هى تكريم الميت ومجاملة أهله، وتوديع له حين فارق أهله ودنياه، والدعاء أن يغفر الله له ويرحمه، حتى لو لم يكن قد اقترف إثما ومن أجل هذا صلَّى الصحابة على النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والصلاة على الشهيد جائزة وإن كانت غير واجبة، ففيها تكريم ومجاملة وإن كان مغفورا له بالنظر لما رأيناه منه، أما الحقيقة فهى عند الله وحده، والطفل الذى لم يكلَّف يصلى عليه للتكريم لابن آدم وللمجاملة، وفى الدعاء المفروض فى الصلاة يدعى لأهله بالصبر، فقد روى البخارى والبيهقى أن الحسن البصرى كان يقول فى الصلاة على الطفل: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وذخرا.
قال النووى: إن كان الميت صبيا أو صبية يقتصر على ما جاء فى الحديث الذى رواه أحمد وأصحاب السنن: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحيبته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده" ويضم إلى ذلك: اللهم اجعله فرطا لأبويه وسلفا وذخرا وعظة واعتبارا وشفيعا، وثقِّل به موازينهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره.
هذا فى الطفل الذى مات بعد أن ولد وعاش، أما الطفل الذى ولد ميتا فإن نزل قبل مرور أربعة أشهر على بدء الحمل به فلا يغسَّل، ولا يصلَّى عليه ويلفُّ فى خرقة ويدفن، وهذا ما اتفق عليه جمهور الفقهاء.
فإن نزل بعد أن تم له أربعة أشهر فأكثر واستهل أى صاح أو عطس أو ظهرت منه علامة تدل على أنه كانت فيه حياة فهذا لو مات يغسل ويصلَّى عليه باتفاق، فإذا لم يستهل فلا يصلى عليه عند الحنفية والمالكية لحديث رواه الترمذى والنسائى وابن ماجه والبيهقى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا استهل السقط صُلِّى عليه وورث " فاشترط الحديث الاستهلال لأجل الصلاة عليه، أما الحنابلة فيرون الصلاة عليه، لحديث رواه أحمد وأبو داود جاء فيه "والسقط يصلَّى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" فلم يقيد الحديث السقط بالاستهلال، فيصلى عليه لأنه نسمة نفخت فيها الروح فيعطى حكم المستهل فى الصلاة عليه، وقال الحنابلة: إن الحديث الذى اشترط الاستهلال مضطرب ومعارض بما هو أقوى منه فلا يصلح لأن يكون حجة.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة عند الكلام على غسل الميت الذى يتصل بالصلاة عليه أن الحنفية قالوا: إن السقط إذا نزل حيًّا بأن سمع له صوت أو رويت له حركة وإن لم يتم نزوله وجب غسله، سواء كان قبل تمام مدة الحمل -وهى ستة أشهر ولحظتان- أو بعدها. أما إذا نزل ميتا فإن كان تام الخلق فإنه يغسل كذلك، وإن لم يكن تام الخلق بل ظهر بعض خلقه فإنه لا يغسل الغسل المعروف وإنما يصب عليه الماء ويلف فى خرقة وعلى كل حال فإنه يسمى لأنه يحشر يوم القيامة. والمالكية قالوا: إذا كان السقط محقق الحياة بعد نزوله بعلامة تدل على ذلك كالصراخ والرضاع الكثير الذى يقول أهل المعرفة إنه لا يقع مثله إلا ممن فيه حياة مستقرة وجب تغسيله، وإلا كره.
والحنابلة قالوا: السقط إذا تم فى بطن أمه أربعة أشهر كاملة ونزل وجب غسله، وأما إن نزل قبل ذلك فلا يجب غسله.
والشافعية قالوا: إن السقط النازل قبل عدة تمام الحمل -وهى ستة أشهر ولحظتان إما أن تعلم حياته فيكون كالكبير فى افتراض غسله، وإما ألا تعلم حياته، وفى هذه الحالة:
إما ألا يكون قد ظهر خلقه فيجب غسله أيضا دون الصلاة عليه، وإما أن يظهر خلقه فلا يفترض غسله، وأما السقط النازل بعد المدة المذكورة فإنه يفترض غسله وإن نزل ميتا، وعلى كل حال فإنه يسن تسميته بشرط أن يكون قد نفخت فيه الروح.
ولتوضيح صلاة الجنازة على الشهيد، وهو الذى قتل فى معركة بين المسلمين والكافرين، نقول: قد وردت أحاديث صحيحة تصرح بعدم الصلاة عليه، منها ما وراه البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أُحد فى دمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم كما قال جابر.
كما وردت أحاديث أخرى صحيحة تصرح بأنه يصلى عليه، منها ما رواه البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات.
لكن يرد على هذا الحديث بأن الكلام فى الصلاة على الشهيد قبل الدفن، وروى البيهقى حديثا مرسلا-سقط منه الصحابى-عن أبى مالك الغفارى قال: كان قتلى أُحد يؤتى منهم بتسعة وعاشرهم حمزة فيصلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يحملون ثم يؤتى بتسعة فيصلى عليهم وحمزة مكانه حتى صلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحديث جابر أصح من حديث أبى مالك الغفارى.
ومن هنا قال ابن حزم يجوز أن يُصلَّى على الشهيد وألا يصلى عليه، فإن صلى عليه فحسن، وإن لم يصل عليه فحسن، وهو إحدى الروايات عن أحمد، واستصوب ابن القيم هذا الرأى وقال: والأظهر من أمر شهداء أحد أنه لم يصل عليهم عند الدفن، وقد قتل معه بأحد سبعون نفسا فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم.
وحديث جابر فى ترك الصلاة عليهم صحيح، لأن أباه عبد الله كان أحد القتلى يومئذ فعنده من الخبرة ما ليس عند غيره.
ويرجح أبو حنيفة وجوب الصلاة على الشهيد، ويرجح مالك والشافعى وأحمد فى رواية عدم وجوب الصلاة عليه.
ومع كون الصلاة على الشهيد غير واجبة فإنها تجوز ولا تحرم، لعدم الدليل على المنع، وللحديث الذى رواه البيهقى.
هذا فى الشهيد الذى قتل فى المعركة بين المسلمين والكافرين، أما الشهيد فى غير ذلك كالمبطون وبقية شهداء الآخرة المذكورين فى الأحاديث فيغسلون ويصلى عليهم.
"راجع ما سبق فى ص 620 من المجلد الرابع بخصوص صلاة الجنازة على الطفل "(8/364)
التوالد فى الجنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا كان فى الجنة زوجات يدخلنها مع أزواجهن، وزوجات من الحور العين، هل يكون هناك توالد وتناسل؟ ومن أين يجئ الولدان المذكورون فى القرآن؟
الجواب
يقول الله سبحانه: {إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون. هم وأزواجهم فى ظلال على الأرائك متكئون} يس: 55، 56 قال المفسرون: إن الشغل هو المتعة التى تكون بين الأزواج والزوجات، ونُسِبَ هذا التفسير إلى ابن عباس رضى الله عنهما، بل نُسب إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث رواه أبو يعلى والطبرانى والبيهقى، وجاء فى ذلك حديث أخرجه البزار والطبرانى وغيرهما" أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عُدْنَ أبكارا".
وفى مجال الحديث عن هذه المتعة تحدث العلماء عن أثرها فى الإِنجاب والتوالد، فذكر العدوى فى كتابه "مشارق الأنوار ص 186" أن العلماء اختلفوا فى ذلك، فقال بعضهم هناك توالد ونسل، مستدلين بحديث رواه الترمذى بسند حسن "المؤمن إذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله ووضعه وسِنُّه فى ساعة كما يشتهى" قال الترمذى: اختلف أهل العلم فى هذا، فقال بعضهم: فى الجنة جماع ولا يكون ولد، وهو مروى عن طاوس وعن مجاهد والنخعى، وقال إسحاق بن إبراهيم فى هذا الحديث:
إذا اشتهى ولكن لا يشتهى.
وقال جماعة: فيها الولد إذا اشتهاه الإِنسان.
فالخلاصة أن هناك رأيين فى التوالد، قال بعضهم: لا توالد، وقال بعضهم الآخر: فيه توالد ولكن إذا اشتهى الرجل ذلك، ويكون الحمل والوضع والسِّنُّ -الذى يريده الإِنسان طفلا أو شابا مثلا- فى ساعة أى زمن وجيز، وهذا الكلام قيل: إنه موقوف لم يرفع إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وقيل: مرفوع إليه بإسناد حسن، أو كالمرفوع إليه لأنه لا مجال فيه للرأى.
ومثل هذه الأمور الغيبية لا يقبل فى اعتقادها إلا الدليل القوى بدرجة خاصة من القرآن والسنة فى قطعية الثبوت والدلالة، فالأولى ترك الجدال فيها، وسنعرف ذلك عند دخول الجنة إن شاء الله. وطريق ذلك الإيمان والعمل الصالح. هذا، وعلى رأى من يقولون: ليس فى الجنة توالد ونسل فمن أين يجىء الولدان المذكورون فى القرآن بأنهم من متعة الجنة؟ .
يقول الله سبحانه فى أهل الجنة {على سرر موضونة. متكئين عليها متقابلين. يطوف عليهم ولدان مخلدون. بأكواب وأباريق وكأس من معين} الواقعة: 15-18 وجاء ذكر الولدان فى مواضع أخرى من القرآن.
ففى بعض الأقوال أن الله أنشأهم لأهل الجنة كما شاء من غير ولادة، وقال على بن أبى طالب والحسن البصرى: الولدان هاهنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة، وقال سلمان الفارسى:
أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن: لم تكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا هذا الموضع. ثم قال القرطبى بعد ذكر هذه الأقوال: والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم والولدان بالإِنسان.
وفَسَّر كلمة {مخلَّدون} بأنهم لا يموتون، أو لا يهرمون ولا يتغيرون، أو مُقَّرطون أى لابسون للقُرْطِ كما قال سعيد بن جبير، حيث يقال للقُرْط الخَلَدَة، ولجماعة الحلى الخِلْدة، وقيل هم مسوَّرون، وقيل ممنطقون أى لابسون للمناطق وهى الأحزمة، " تفسير القرطبى ج17 ص 202،203" يقول ابن كثير "ج 8 ص 317 ":
إن أنواع الحلية التى تكون على الولدان دليل على أنهم صغار، لأن الكبار لا يليق بهم ذلك، وقد جاء فى وصفهم قوله تعالى {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا} الإِنسان: 19 يقول ابن كثير أى إذا رأيتهم فى انتشارهم فى قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثورا، ولا يكون فى التشبيه أحسن من هذا، ولا فى المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. هذا والتمتع بالولدان هو كالتمتع بالخدم من حيث وجودهم مع الإِنسان على غرار ما كان فى الدنيا، وليس تمتعا كما ظن بعض المتحدثين فى الدين بلا علم أو ببواعث ليست لائقة(8/365)
مصير الحيوانات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قال تعالى فى سورة التكوير: 5 {وإذا الوحوش حشرت} هل معنى هذا أن الحيوانات ستحشر يوم القيامة، وما هى الحكمة من ذلك مع أنها غير مكلفة؟
الجواب
اختلف العلماء فى حشر الحيوانات يوم القيامة وحسابها، فقال الأشعرى: تحشر الحيوانات ولا يجرى القصاص بينها لأنها غير مكلفة.
وما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم "يقتص من القرناء للجماء، ويسأل العود: لم خدش العود".
فهو على سبيل المثل والإِخبار عن شدة التقصى فى الحساب والانتصاف من الظالم للمظلوم، وقال الإِسفرايينى: يجرى القصاص بينها، وليس القصاص انتقاما، لأنها غير مكلفة، ولكن لإظهار عدل الله، وجاء فى القرآن الكريم قوله تعالى {وما من دابة فى الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا فى الكتاب من شىء ثم إلى ربهم يحشرون} الأنعام: 38 وفى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لتؤدين الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء والجلحاء هى التى ليس لها قرون تدافع بها عن نفسها من الشاة القرناء ذات القرون التى تنطحها، ومثلها الجماء.
وجاء فى تفسير القرطبى فى سورة الأنعام من قول أبى هريرة أنه بعد اقتصاص الله للشاة الجماء من القرناء يقول للبهائم "كونى ترابا" يعنى لا تدخل جنة ولا نارا، حيث لا تكليف عليها فى الدنيا تستحق به جزاء فى الآخرة، وتوضيح ذلك فى كتابه "التذكرة فى أحوال الموتى وأمور الأخرة".
فالحكمة من حشرها إظهار العدل، وقد تكون شاهده للعبد كالأضحية النى ورد أنها تأتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، كما رواه الترمذى وابن ماجه والحاكم عن عائشة مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم. فحشر الدواب صحيح كما رآه المحققون وصححه النووى واختاره.
وعدم حشرها قول مرجوح "مشارق الأنوار للعدوى ص 146".
ومهما يكن من شىء فالواجب أن نهتم بمصيرنا نحن، وأن نستعد ليوم الحشر بعمل الطاعات والبعد عن المعاصى، وأن نؤمن بعدل الله فى مجازاتنا، وبرحمته لمن يشاء من عباده(8/366)
البكاء على الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم البكاء على الميت، وهل صحيح أنه يعذب بالبكاء عليه؟
الجواب
لقد أمرنا الله بالصبر والرضا بقضائه عند وقوع أى مكروه، كما قال تعالى {وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} البقرة: 155-157.
وحرم كل قول أو فعل يتنافى مع الإِيمان بالله فيما قضاه وقدره، فقد صح فيما رواه البخارى ومسلم " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" والمعنى أنه ليس بمؤمن من فعل ذلك معتقدا أنه حلال. أما من فعله على أنه حرام فهو مؤمن عاص ناقص الإِيمان. وجاء فى تأثر الميت بمظاهر الحزن عليه التى لا يقرها الدين قوله صلى الله عليه وسلم "ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه واسيداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه:
هكذا أنت"؟ رواه ابن ماجه والترمذى وقال: حديث حسن، واللهز هو الدفع فى الصدر بجميع اليد. وقوله " إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " وفى رواية "يعذب بما نيح عليه".
يقول النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 6 ص 228": اختلف العلماء فى تأويل الأحاديث التى وردت بتعذيب الميت بما نيح عليه، فحملها الجمهور على من وصَّى بأن يبكى عليه ويناح بعد موته فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم، لأنه بسببه ومنسوب إليه. فأما من بكى عليه أهله وناحوا من غير وصية منه فلا يعذب، لقول الله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فاطر: 18 وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طرفة بن العبد:
إذا مت فانعينى بما أنا أهله * وشُقِّى علىَّ الجيب يا ابنة معبد وقيل: إن الميت يعذب، أى يتألم بسبب بكائهم عليه وكان يحب لهم ألا يبكوا، وإليه ذهب محمد بن جرير الطبرى. وقال عياض: هو أولى الأقوال، واحتجوا بحديث " إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم " والمراد بذلك كله ليس مجرد البكاء ولكن النياحة.
وقال النووى فى كتابه " الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار" ص 148: روينا فى صحيحيهما - أى البخارى ومسلم - عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. قلت: الصالقة التى ترفع صوتها بالنياحة، والحالقة التى تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة التى تشق ثيابها عند المصيبة، وكل هذا حرام باتفاق العلماء.
وكذلك يحرم نشر الشعر ولطم الخدود وخمش الوجه والدعاء بالويل، وروينا فى صحيحيهما عن أم عطية رضى الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى البيعة ألا ننوح، وروينا فى صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم " اثنتان فى الناس هما بهم كفر، الطعن فى النسب والنياحة على الميت " وفى سنن أبى داود عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة. والنياحة هى رفع الصوت بالندب، والندب تعديد النادبة بصوتها محاسن الميت، وقيل: هو البكاء عليه مع تعديد محاسنه.
ثم قال النووى: قال أصحابنا: ويحرم رفع الصوت بإفراط فى البكاء، وأما البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة فليس بحرام.
فقد روينا فى صحيحى البخارى ومسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد ابن أبى وقاص وعبد الله بن مسعود، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال "ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم" وأشار إلى لسانه. وروينا فى صحيحيهما عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه ابن ابنته وهو فى الموت ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: " هذه رحمة جعلها الله تعالى فى قلوب عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء" وفى صحيح البخارى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم - فى دار ظئره المرضع - أبى سيف القين أى الحداد - وهو يجود بنفسه، أى يحتضر، فجعلت عينا الرسول صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال " يا ابن عوف إنها رحمة" ثم أتبعها بأخرى فقال "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وأما الأحاديث الصحيحة أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فليست على ظاهرها وإطلاقها، بل هى مؤولة، واختلف العلماء فى تأويلها على أقوال، أظهرها - والله أعلم - أنها محمولة على أن يكون له سبب فى البكاء، إما بأن يكون أوصاهم به أو غير ذلك. وقد جمعت كل ذلك أو معظمه فى كتاب الجنائز من شرح المهذب.
قال أصحابنا: ويجوز البكاء قبل الموت وبعده، ولكن قبله أولى، للحديث الصحيح "فبذا وجبت فلا تبكين باكية" وقد نص الشافعى رحمه الله والأصحاب على أنه يكره البكاء بعد الموت كراهية تنزيه ولا يحرم، وتأولوا حديث " فلا تبكين باكية" على الكراهة. انتهى ملخصا من الأذكار.
من هذا نعلم:
1- أن الصبر على المكاره ومنها الموت مطلوب.
2- مظاهر الجزع والسخط على القضاء ممنوعة، من استحلها كفر، ومن لم يستحلها كان عاصيا.
3- الميت إذا أوصى بالحزن الخارج عن الحدود يناله نصيب من المسئولية، وإن لم يوص لا يعذب بذلك، ولكن كان يود ألا تقع منهم هذه المظاهر.
4- أن مجرد البكاء على الميت مسموح به طبعا وشرعا، فهو رحمة فى قلوب الرحماء، والرسول عليه الصلاة والسلام جرت عليه هذه السنة الطبيعية، فبكى محتفظا بإيمانه ورضائه بالقضاء.
5- إذا صحب البكاء قول أو فعل يتنافى مع الإيمان بقضاء الله كان معصية.
وبناء على جواز البكاء بدون مظاهر الجزع ماذا نقول فيما رواه البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يَحْثُوَ التراب فى أفواه النساء وهن يبكين جعفر بن أبى طالب؟ والجواب أن ابن الأثير أورد هذا الخبر فى كتابه " أسد الغابة " وذكر معه أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل على امرأة جعفر، وهى أسماء بنت عميس، فعزاها، ودخلت فاطمة وهى تبكى فقال "على مثل جعفر فلتبك البواكى" ثم وفق ابن الأثير بين الخبر المانع للبكاء والخبر المبيح له، بأن المنع كان لنسوة يبكين مع ندب ونياحة ولطم خدود، والإِباحة كانت للبكاء المجرد عن ذلك. وجاء التوضيح فى رواية أحمد عندما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه، فقال له " مهلا يا عمر ثم قال " إياكن ونعيق الشيطان " ثم قال " إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان "(8/367)
موت الجن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى القرآن إن الله أجاب إبليس بعدم الموت قبل يوم القيامة، فهل ذريته كذلك لا يموتون؟
الجواب
يقول الله تعالى لما طرد إبليس من الجنة {قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم} ص: 79 -81 وقال مثل ذلك فى آيات أخرى تدل على أن إبليس لا يموت إلا يوم القيامة الذى يموت فيه كل كائن حى {كل نفس ذائقة الموت} آل عمران:185 {كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام} الرحمن: 26، 27.
أما ذرية إبليس فيموتون كما يموت بنو آدم، ولكل أجل طال أو قصر، وذلك لما يأتى:
1 -أنه لا يوجد دليل على أنهم منظرون كإبليس، فيصدق عليهم ما يصدق على كل كائن حى.
2 - قوله تعالى عن الكفار {أولئك الذين حق عليهم القول فى أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس} الأحقاف: 18 فهناك أمم سبقت من الجن والإنس، أى ماتت.
3-وردت أخبار عن جن ماتوا ودفنوا وكان بعضهم ممن لقى النبى صلى الله عليه وسلم " آكام المرجان للمحدِّث الشبلى ص 38 - 44 ".
4 -وردت آثار تدل على أن ابن عباس رضى الله عنه سئل عن موت الجن فقال: يموتون إلا إبليس. "المرجع السابق ص 152"(8/368)
دخول الجنة قبل الموت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نعلم أن الجنة دار النعيم يدخلها بعد القيامة المؤمنون، فهل دخلها أحد قبل يوم القيامة وهو على قيد الحياة؟
الجواب
سبق فى ص 506 من المجلد الأول بيان أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وهو رأى جمهور العلماء، وأن أرواح الشهداء فى حواصل طير خضر تسرح فى الجنة تأوى إلى قناديل تحت العرش كما رواه مسلم وغيره، وذلك بعد مفارقة الحياة لهم بالموت فى سبيل الله، حيث يحييهم الله وينعم عليهم كما قال سبحانه {ولا تحسبن الذين قُتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} آل عمران: 169.
أما أن يدخل الجنة أحد فى الدنيا قبل موته فذلك ممكن إذا رأى ذلك فى المنام،كما يرى أشياء من الصعب تحققها فى عالم اليقظة كالطيران والطواف حول الأرض وما إلى ذلك وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم فى منامه الجنة، وأنه ارتقى إلى مدينة مبنية بلبنٍ ذهب ولَبِنٍ فضة فدخلها، وقال له الملكان: هذه جنة عدن وهذا منزلك. فطلب منهما دخوله فقالا له: إنه بقى لك عمر لم تستكمله، فلو استكملته أتيت منزلك.
رواه البخارى. "رياض الصالحين ص 563، 565" فظاهر الحديث أنه دخل الجنة ولم يدخل منزله. وثبت فى البخارى وغيره أنه صلى الله عليه وسلم دخل الجنة ليلة المعراج " الزرقانى على المواهب اللدنية ج6ص90" حيث قال كما رواه أبو ذر وأخرجه البخارى فى كتاب الصلاة "ثم أدخلت الجنة" ومعلوم أن الصحيح فى الإِسراء والمعراج أنهما كانا بالروح والجسد ولم يكونا مناما، ليظهر امتياز الرسول على غيره ممن يُسْرى بأرواحهم مناما ويرون العجائب.
وقال صلى الله عليه وسلم عن ليلة المعراج كما ذكره أنس ورواه البخارى ومسلم "بينما أنا أسير فى الجنة" "المرجع السابق ص 91".
فالخلاصة أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل الجنة ليلة المعراج بروحه وبجسده على الصحيح، كما دخلها فى الرؤيا المنامية ورؤيا الأنبياء حق. وذلك فضل كرَّم الله به رسوله، ونرجو أن ننعم بدخولها معه بعد الحساب، وذلك عن طريق الإِيمان والعمل الصالح والأمل فى رحمة الله وفضله(8/369)
حساب العلماء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأنا فى بعض الكتب أن الله لا يحاسب العلماء يوم القيامة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هناك تحذير شديد فى القرآن والسنة من عدم عمل الإِنسان بعلمه، وبخاصة إذا كان يعلِّم الناس الخير والبر، وينسى نفسه فلا يعمل الخير والبر، وكذلك من يعلِّم الناس غير مخلص لله فى ذلك، بل للرياء والسمعة، وهو من أول من تسعَّر بهم النار يوم القيامة كالذى يقاتل ليقال: إنه شجاع، ويتصدق ليقال: إنه جواد. والآيات والأحاديث فى ذلك معروفة.
لكن ذكر السفارينى فى كتابه غذاء الألباب "ج 1 ص 29 " أنه روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "يجمع الله تعالى العلماء يوم القيامة ثم يقول: يا معشر العلماء، إنى لم أضع علمى فيكم إلا لعلمى بكم، ولم أضع علمى فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم " قال ابن القيم فى كتابه " مفتاح دار السعادة " ص 128: وهذا وإن كان غريبا فله شواهد حسان، فقد ذكر ابن عبد البر عن عبد الله بن داود قال: إذا كان يوم القيامة عزل الله سبحانه العلماء عن الحساب، فيقول:
ادخلوا الجنة على ما فيكم، إنى لم أجعل علمى فيكم إلا لخير أردته بكم قال ابن عبد البر: وزاد غيره فى هذا الخبر: إن الله يحبس العلماء يوم القيامة فى زمرة واحدة، حتى يقضى بين الناس، ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يدعو العلماء فيقول: يا معشر العلماء إنى لم أضع حكمتى فيكم وأنا أريد أن أعذبكم، قد علمت أنكم تخلطون من المعاصى ما يخلط غيركم، فسترتها عليكم وغفرتها لكم، وإنما كنت أُعْبَدُ بفتياكم وتعليمكم عبادى، ادخلوا الجنة بغير حساب، ثم قال: لا معطى لما منع الله ولا مانع لما أعطى الله. قال ابن عبد البر: وروى نحو هذا المعنى بإسناد متصل مرفوع. وقال ابن القيم عن بعض السلف قال: بلغنى أنه إذا كان يوم القيامة توضع حسنات الرجل فى كفة وسيئاته فى كفة، فتميل سيئاته، فإذا أيس وظن أنها النار جاء شىء مثل السحاب حتى يقع مع حسناته فتميل حسناته، قال: فيقال له: أتعرف هذا من عملك؟ فيقول: لا، فيقال: هذا ما علَّمت الناس من الخير فعمل به من بعدك. انتهى ما نقله السفارينى.
إن حساب العلماء على التقصير ثابت بالقرآن والسنة الصحيحة، والأخبار المذكورة لا تصل فى القوة إلى درجة القرآن والسنة الصحيحة، فهى لا تفيد فى الأمور الغيبية من جهة الاعتقاد، وقد يقصد به الترغيب فى نشر العلم، وتجاوز الله عن بعض الهفوات فى مقابل ذلك كما قال سبحانه {إن الحسنات يذهبن السيئات} هود:
114 مع العلم بقول الله سبحانه {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48 وهذه المغفرة المقيدة بالمشيئة تفيد فى الكبائر والصغائر، ومن الذي يدرى بأنه سيكون ممن تشملهم المشيئة بالمغفرة؟ فالواجب هو الالتزام بمنهج الله تعالى وتغليب الخوف على الرجاء، حتى لا تتغلب الشهوات والمغريات، وعند ضعف هذه المؤثرات وبخاصة فى أواخر العمر-الذى لا يعلم تماما- ينبغى تقوية الرجاء، كما قال علماء التوحيد، فيقوى الأمل فى الله ورحمته ليختم له بالحسنى(8/370)
الغسل من غسل الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قمت بغسل ولدى المتوفى، ثم توضأت وصليت عليه، فقال البعض: إن صلاتى عليه باطلة لأننى لم أغتسل بسبب قيامى بغسله، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الغسل لمن غسل ميتا مستحب وليس بواجب، كما قاله جمهور العلماء، وذلك لحديث رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم "من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" وقد طعن جماعة فى صحة هذا الحديث، لكن الحافظ ابن حجر قال: حسَّنه والترمذى وصححه ابن حبان، وهو بكثرة طرقه أقل أحواله أنه حسن يحتج به، والأمر فى الحديث للندب لما روى عن عمر رضى الله عنه قال: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل. رواه الخطيب بإسناد صحيح، ولما غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضى الله عنه حين توفى خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: إن هذا يوم شديد البرد، وأنا صائمة، فهل علىَّ من غسل؟ فقالوا: لا، رواه الإِمام مالك(8/371)
غسل من مات جنبا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مات رجل فجأة ثم علمنا أنه كان جنبا ولم يغتسل من جنابته، فهل نغسله مرتين، مرة لرفع الجنابة، ومرة للموت، أو يكتفى بغسل واحد؟
الجواب
يستحب للجنب أن يبادر بالغسل، ولا يحرم عليه تأخيره بل يكره له فقط، وقد دلت الأحاديث على ابتعاد ملائكة الرحمة عنه حتى يغتسل، وهذا الغسل واجب من أجل الصلاة لقوله تعالى عند الأمر بالقيام إلى الصلاة {وإن كنتم جنبا فاطهروا} المائدة: 6. ولو مات الجنب قبل أن يغتسل فقد حدث أمران موجبان للغسل، الجنابة والموت، وإذا تعددت الأسباب فلا يلزم لكل سبب غسل، بل يكفى غسل واحد، وقد قال الشافعية والمالكية: إن الشهيد لا يغسل لو مات جنبا، ورأى الحنفية وجوب غسله، والخلاف مبنى على استشهاد حنظلة وهو جنب حيث لم يغسله النبى صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الملائكة تغسله.
وعليه فإن الجنب إذا مات ولم يغتسل يكفى لصحة الصلاة عليه غسله بعد موته مرة واحدة على ما رآه الشافعية والمالكية، ولو فاتته صلاة بخروج وقتها ولم يغتسل سيحاسب على تركها، لأنها وجبت عليه ولم يصلها، فالحساب على ترك الصلاة وليس على ترك الغسل(8/372)
أهل الأعراف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أرجو تفسير قوله تعالى {وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعرن. وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قلوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما اغنى عنكم جمعكم وما كنتا تستكبرون} الأعراف: 46 _ 48؟
الجواب
المعنى باختصار أن بين الجنة والنار سورا، وعلى أعراف السور أى أعاليه أناس يعرفون أهل الجنة بعلامات، وهى بياض الوجوه وحسنها، وأهل النار بعلامات، هى سواد الوجوه وقبحها، وينادون أهل الجنة بالتحية ويهنئونهم بالسلام من النار أى السلامة من عذابها.
إن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة ويطمعون فى دخولها، منتظرين رحمة الله لهم، وهؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهو احسن الأقوال العشرة فيهم، وذلك لحديث رواه خيثمة عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى.
عندما ينظر أهل الأعراف إلى أهل النار يدعون ربهم ألا يكونوا معهم فيها، ويتفرسون فى جماعة من أهل النار كانوا مستكبرين على الله بما يملكون من متاع الحياة الدنيا فكفروا به، ويقولون لهم مبَكِّتيَن:
لم يُغْنِ عنكم ما جمعتم من الدنيا وما أستكبرتم به على الله.
والخلاصة أن أهل الجنة هم المؤمنون الصالحون حتى لو كانوا فقراء، وما دامت حسناتهم أكثر من سيئاتهم، فلن يدخلوا النار لأن الحسنات يذهبن السيئات وأن أهل النار هم الكفار حتى لو كانوا أغنياء ما دامت سيئاتهم أكثر من حسناتهم، مع العلم بأن حسنات الكفار صارت فى الآخرة هباء منثورا كما قال رب العزة {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} الفرقان: 23 أما من استوت حسناتهم وسيئاتهم من المؤمنين فينتظرون على الأعراف رحمة الله بهم ليلحقهم بأهل الجنة(8/373)
ستر الأضرحة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فى ستر الأضرحة بالأقمشة الفاخرة؟
الجواب
ستر الأضرحة لم يرد فيه حديث خاص، وإنما جاء حديث عام ينهى عن كسوة الحجارة، فقد روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم خرج فى غزاة، فأخذت نمطا -النمط ضرب من البسط له خمل رقيق -فسترته على الباب، فلما قدم رأى النمط فجذبه حتى هتكه ثم قال: " إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين ".
والسر فى ذلك أن فيه ضياعا للمال بدون فائدة وفى الحديث أن الله كره إضاعة المال كما رواه البخارى ومسلم.
ويستثنى من عموم عدم كسوة الحجارة كسوة الكعبة فإنها كانت معهودة قبل الإسلام، على الخلاف فى أول من كساها " تاريخ الكعبة المعظمة لحسين عبد الله باسلامه " ص 244 ولم ينه الإسلام عن كسوتها، بل جاء فى الروايات أن النبى صلى الله عليه وسلم كساها بالقباطى والحبرات، كما كساها أبو بكر وعمر وعثمان وما زالت تكسى إلى الآن دون معارض. وتفصيل ذلك فى الكتاب المذكور. وعلى هذا فمن نذر إن قضى الله حاجته أن يكسو ضريح الشيخ الفلانى لا ينعقد نذره، لأن النذر لا يكون إلا فى طاعة(8/374)
الصيام عن الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
توفى والدى وعرفنا انه افطر شهر رمضان فى بعضى السنوات ولم يقض ما فاته، فماذا نفعل، هل نصوم عنه أو نخرج فدية؟
الجواب
أجاب: روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " وصح عنهما أيضا أن.امرأة قالت: يا رسول الله إن أمى ماتت وعليها صيام نذر، أفأصوم عنها؟ فقال " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدى ذلك عنها"؟ قالت: نعم قال " فصومى عن أمك ".
هذان الحديثان حجة قوية للذين يرون من الفقهاء أن من مات وعليه صيام، سواء أكان صيام رمضان أم صيام نذر، يصوم عنه وليه، والولى هو كل قريب، سواء أكان وارثا أم غير وارث، وقيل: يجوز أن يصوم عنه غير وليه من الأصدقاء مثلا، كالدَّين لا يختص بسداده القريب.
وذهب أبو حنيفة ومالك الشافعى فى القول الجديد إلى أن الميت لا يصام عنه مطلقا، متمسكين بقول ابن عباس رضى الله عنهما الذى رواه النسائى بإسناد صحيح: لا يصل أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد. وبقول عائشة رضى الله عنها: لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم: وقد أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه. لكن هذين الأثرين لايعارضان ما هو أقوى منهما، وهو رواية البخارى ومسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أن ولى الميت يصوم عنه. وقال عبد الحق فى أحكامه: لا يصح فى الإطعمام شىء، يعنى مرفوعا، وكذا قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى، ومن أراد توضيحا أكثر فليرجع إلى " نيل الأوطار للشوكانى ج 4 ص 248- 251"(8/375)
الدَّين على الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم من مات وعليه دين لم يقم أهله بسداده، هل تحجب الرحمة عن الميت؟
الجواب
إذا مات الإنسان وعليه دين لغيره وجب أن يقوم ورثته بسداد الدين قبل تقسيم التركة كما قال تعالى فى آية المواريث {من بعد وصية يوصى بها أو دين} النساء: 11 وذلك إذا كان عنده مايسدُّ به الدين، فإن لم توجد له تركة تفى بسداد الدين فلا يجب على الورثة شىء، وإن كان من السنة أن يقوموا هم بذلك حتى تنزل عليه رحمة الله. فهى لا تزال محبوسة عنه. ويمكن لغير أهله أن يتصدقوا بسداد دينه حتى يرحمه الله.
ومحل حجب الرحمة عنه حتى يسد دينه إذا كان ناويا قبل الموت ألا يسد الدين، أما إذا كان ناويا السداد فنرجو ألا يحجب الله عنه رحمته، لقول النبى صلى الله عليه وسلم " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أحنها يريد إتلافها أتلفه الله " رواه البخارى.
وروى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين فيسأل " هل ترك لدينه قضاء"؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال " صلوا على صاحبكم " فلما فتح الله عليه الفتوح قال " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى وعليه دين فعلىَّ قضاؤه، ومن ترك مالا فهو لورثته " وفى حديث الطبرانى " من دان بدين فى نفسه وفاؤه ومات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء " وروى أحمد وأبو نعيم والبزار والطبرانى عن النبى صلى الله عليه وسلم " يدعى صاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يدى الله عز وجل فيقول: يا ابن آدم، فيمَ أخذت هذا الدين، وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يا رب إنك تعلم أنى أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع، ولكن أتى علىَّ إما حرق وإما سرق وإما وضيعة، فيقول الله: صدق عبدى، وأنا أحق من قض عنك، فيدعو الله بشىء فيضه فى كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته، فيدخل الجنة بفضل رحمته ".
والميت الذى عليه دين لم ينو الوفاء به تحجب عنه الرحمة كما قال النبى صلى الله عليه وسلم "نفس الميت معلَّقة بدينه حتى يقض عنه " رواه أحمد وابن ماجه والترمذى وقال: حديث حسن، وإذا كان الشهيد نفسه، وهو من هو منزلة عند الله، لا ينال هذه الدرجة إذا كان عليه دين للعباد، كما صح فى الحديث " يغفر للشهيد كل شىء إلا الدين " رواه مسلم، فكيف بغير الشهيد؟ وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم عن المفلس يوم القيامة فقال " إن المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتى وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقض ما عليه أخذ من خطاياها فطرحت عليه ثم طرح فى النار " رواه مسلم وروى البخارى مثله بلفظ " من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عِرضه أو من شىء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ".
إن الدين خطير تجب المبادرة بسداده قبل الموت وقبل أن تكون المواجهة بين المدين وأصحاب الحقوق يوم القيامة فربما لا يسامحون، وقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم تذكو فى الصلاة أن فى بيته بعض الأموال لم تسلم إلى أصحابها، فتوجه بعد الانتهاء منها بسرعة لافتة للنظر وأمر بدفعها إلى أصحابها وعاد إلى المسجد ولما سألوه قال " تذكرت مالاً فخشيت أن يحبسنى " أى يحبسه الله يوم القيامة ويسأله: لمَ لم تؤده. رواه البخارى.
ومن أراد التوسعة فى معرفة خطر الدين على الميت فليراجع " نيل الأوطارج 4 ص 5 2، وتفسير القرطبى ج 4 ص 272 "(8/376)
الإنسان وقت الاحتضار
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يمكن معرفة ما يعانيه الميت عند الاحتضار؟
الجواب
إن أمر الروح والآحوال الآخرة من الأمور المغيبة التى لا تُعْلمُ إلا بالأخبار الصادقة من القرآن الكريم وقد كثرت الأقوال عنها وتعددت الاجتهادات، والتمس البعض لآرائهم واجتهاداتهم سندا من تأويل القرآن فى نصوصه التى تحتمل أكثر من معنى ولا تفيد القطع فى الدلالة، ومن روايات ضعيفة أو مكذوبة على النبى صلى الله عليه وسلم.
وخروج الروح من الإنسان انتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن الدنيا إلى الآخرة، وقد يكون خروج، أو فجأة لا تسبقها معاناة، وقد يكون خروجها مصحوبًا بالكرب والشدة، ولكن لا يصح أن يكون هناك ربط بين سهولة خروجها وكرامة صاحبها فقد يكون العكس، ولا بين المعاناة عند خروجها وهوان صاحبها عند الله فقد يكون العكس، فكثيرا ما نرى أشرارا انسلت أرواحهم فى لحظات وكثيرا ما نرى صالحين ظلوا أياما أو ساعات طوالا وهم يجودون بأنفاسهم الأخيرة حا ففى الترمذى عن عائشة رضى الله عنها قالت: رأيت رسول الله في صلى الله عليه وسلم وهو بالموت وعنده قد يدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول " اللهم أعنىِّ على سكرات الموت " وحكمة هذه الشدة على االابتلاء والاختبار ورفع الدرجات.
أما ملك الموت فتقول الروايات إنه كان يأتى للمحتضر عِيانًا ويعرفه، فرحم الله الأمة المحمدية ومنع ظهو تدخل الرعب فى قلوب المؤمنين، ومن الثابت أن الملائكة الموكلة بقبض الروح تنزل إلى المحتضر، ويراها وتب مؤمنا على ما فسر به قوله تعالى { {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخاف بالجنة التى كنتم توعدون} [فصلت:30] .
وأخوج الطبرانى فى الأوسط عن أبى بكر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل على أبى سلمة رضى فى الموت فلما شق بصره، أى شخص مدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فأغمضه، فلما أغمضه صاح أهل افسكَّتهم وقال " إن النَّفْس إذا خرجت يتبعها البصر، وإن الملائكة تحضر الموت، فيؤمنون على ما يقول أهل اللهم ارفع درجة أى سلمة فى المهديين واخلفه فى عقبه فى الآخرين، واغفر لنا وله يوم الدين ".
ذلك شئ مما جاء فى الكتب المعنية بأمور الصوت، ومع ذلك نكرر ما قلناه من أن كل الأحوال الأخروية ومقدما إلا بخبر صادق، فينبغى عدم الإكثار من الجدال فيها، ولنهتم بالعمل الصالح الذى يختم الله به حياتنا ب بالله كلما اقترب الأجل، فهو سبحانه عند حسن ظن عبده به، وبخاصة عند القدوم عليه، ومن أحب لقاء الله لقاءه(8/377)
دفن موتى الرجال والنساء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى دفن الرجال مع النساء فى قبر واحد؟
الجواب
الأصل فى الدفن أن يكون لكل ميت قبر خاص به، أما دفن أكثر من واحد فى قبر واحد فهو حرام عند جمهور الفقهاء، ومكروه فقط عند أبى حنيفة، ومحل ذلك إذا لم تكن هناك ضرورة أو حاجة.
فإن وجدت ضرورة ككثرة الموتى وتعسر إفراد كل بقبر، أو وجدت حاجة كالمشقة فى حفر قبر لكل ميت جاز جمع أكثر من واحد فى قبر، سواء أكانوا من جنس واحد أم من جنسين، على أن يقدم الذكر على الأنثى فى دفنه جهة القبلة.
والدليل على ذلك ما رواه أحمد والترمذى وصححه أن الأنصار جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقالوا: يا رسول الله أصابنا جرح وجهد، فكيف تأمرنا؟ قال وأعمقوا واجعلوا الرجلين والثلاثة فى قبر قالوا: فأيهم نقدم؟ قال: " أكثرهم قرآنا ". . . وروى عبد ال عن واثلة بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة فى القبر الواحد، فيقدم الرجل وتجعل المرأة وراءه. ذكر (ج 3 ص 251) .
وجاء فى كتاب " الإقناع " للخطيب فى ففه الشافعية "ج 1 ص 182 " ما يأتى:
ولا يجمع رجل وامرأة فى قبر إلا لضرورة، فيحرم عند عدمها ويعنى عدم الضرورة ـ كما فى الحياة ـ يعنى كما لو كانوا أحياء ـ قال ابن الصلاح: محله إذا لم يكن بينهما محرمية أو زوجية، وإلا فيجوز الجمع. قال الأسنوى: وهو متجه ـ يعنى كلا والذى فى المجموع ـ كتاب للنووى ـ لا فرق، فقال إنه حرام حتى فى الأم مع ولدها، وهذا هو الظاهر، إذ االجمع هى الإيذاء، لأن الشهوة قد انقطعت فلا فرق بين المحرم وغيره، ولا بين أنا يكونا من جنس واحد أم بينهما بتراب حيث جمع بينهما ـ وذلك على سبيل الندب ـ حتى لو اتحد الجنس. . . انتهى.
وجاء فى فتوى لدار الإفتاء بتاريخ 6 2 من أكتوبر 963 1 (الفتاوى الإسلامية مجلد 7 ص 2426) يجوز دفن الرجل مع المرأة فى قبر واحد عند الضرورة بشرط الحيلولة بينهما بحائ وخلاصة الكلام أن دفن الرجل مع المرأة حتى لو كانت أمه أو زوجته لا يجوز إلا عند الضرورة(8/378)
غسل ملابس الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعت أن غسل ملابس الميت فى اليوم الثالث من الوفاة يطرى على روحه لأن روحه تكون معلقة بملابسه، فهل هذا صحيح؟
الجواب
روح الميت إذا خرجت ذهبت إلى ربها، وأنزلها المنزلة التى تستحقها، ولم يأت خبر صحيح من قرآن أو سنة بأنها تكون معلَّقة بملابس الشخص بعد موته، فذلك من أنباء الغيب التى لا تثبت بكلام لا أصل له، وعليه، فلا بأس بغسل ملابس الميت فى أى وقت بعد وفاته، وينبغى أن نتحرر من الأفكار والعادات التى لم يدل عليها دليل صحيح(8/379)
أنهار الجنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيحا لأوصاف أنهار الجنة؟
الجواب
جاء فى القرآن الكريم وصف نعيم الجنة بأوصاف فيها بعض الغرابة، بالنسبة لما نراه فى عالم الدنيا، حيث تختلف طبيعة الأشياء ويختلف الحكم المنوط باستعمالها إباحة ومنعا، فهناك زواج بلا تناسل، وأكل وشرب بلا مخلفات وخمر بلا سكر ولا غول، ولا لغو ولا تأثيم، وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والحق -كما قيل -أن كل ما خطر ببالك فالجنة على خلاف ذلك، فقوانين الآخرة غير قوانين الدنيا، وقد يكون هناك تشابه فى الأسماء مع اختلاف المسميات شكلا وموضوعا كما يقولون، قال تعالى {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذى رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها} البقرة: 25.
وقد جاء فى القرآن الكريم أن فى الجنة أنهارا لم تعهد صورتها فى الدنيا كما قال تعالى {مثل الجنة التى وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفَى} محمد: 15، وهى كلها مشروبات تهفو إليها النفس، كثيرة لا ينضب معينها، طيبة لا يخشى فسادها، هنيئة لا تخاف عاقبتها، فالماء غير اَسن لم تتغير ريحه، واللبن طازج لم يفسد طعمه، والخمر لذيذة مستساغة، والعسل نقى مصفَّى من الشوائب.
ويجئ فى القرآن وصف هذه الأنهار بأنها تجرى تحت الجنة، قال تعالى {مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار أُكلها دائم وظلها} الرعد:35.
فكيف يتصور أن تجرى الأنهار تحت الجنة؟ إن الصورة الحقيقية لا يعلمها إلا الله سبحانه، ومن أخبره بها، وسيعلمها علم اليقين من يتفضل الله عليه بدخول الجنة، ولكن المفسرين حاولوا تقريب هذه الصورة بما يعهدونه فى الدنيا، فقالوا: إن الجنات بساتين على ربوات عالية بقصورها الشاهقة وأشجارها السامقة، والأنهار تجرى حولها منخفضة عند قاعدة الربوات، والمعهود أن الأرض إذا كانت فوق مستوى الماء كانت أصلح وأطيب، وفى الوقت نفسه توجد الفرصة لمن ينعمون بالجنات وغرفها العالية أن يتمعتوا بالنظر إلى هذه الأنهار بألوانها المختلفة.
ذلك تصوير بالقدر المستطاع للعقل البشرى، وليس فيه ما يخالف نصًّا قاطعا ولا حكما مقررا، ويكفينا من أوصاف الجنة ما جاء فى القراَن وثبت فى السنة، وهو كاف لإغرائنا بالجد والعمل حتى نفوز بهذا النعيم، وحتى نرى بأنفسنا كيف تجرى الأنهار من تحتها، وقد صح فى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "بينما أنا أسير فى الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوَّف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى أعطاك ربك، قال: فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر - أى فى أعلى الدرجات من طيب الرائحة"(8/380)
ثواب الآخرة للمؤمن فقط
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يدخل الجنة من أهل الديانات الأخرى من لم يفعل الفاحشة وكان مستقيما فى حياته ومعاملاته مع الناس؟
الجواب
معلوم أنه لا يعتد بدين بعد مجئ الإسلام كما قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين} آل عمران:85.
والجنة لا يدخلها بعد مجئ الإسلام إلا من آمن بالإسلام ما دام قد بلغته دعوة الإسلام ولم يؤمن به والأعمال الصالحة لغير المسلم لا ثواب عليها فى الآخرة قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} الفرقان:
23.
وقال فى حق المنافقين {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين} التوبة: 53.
أما فى الدنيا فيثاب عليها، روى مسلم أن عائشة رضى الله عنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم -: إن ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " يقول القرطبى فى تفسيره (ج 8 ص 161) روى عن أنس أن النبى-صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها فى الدنيا ويجزى بها فى الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها فى الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها " فالإيمان شرط للثواب فى الآخرة.
قال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} الإسراء: 19.
وقد يعترض على إحباط عمل الكافر بحديث رواه مسلم أن العباس قال للنبى- صلى الله عليه وسلم -إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال "نعم وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح " وأجيب عنه بأن تخفيف عذاب أبى طالب كان بشفاعة أما غيره فقد أخبر عنه القرآن بقوله: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} المدثر: 48.
وقوله مخبرا عن الكافرين: {فما لنا من شافعين. ولا صديق حميم} الشعراء: 100، 101.
وقد روى مسلم عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ذكر عنده عمه أبو طالب فقال " لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه " ومن حديث العباس "ولولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار".
هذا، ولو أسلم الكافر ومات على الإسلام قال بعض العلماء: يرجى أن يثيبه الله فى الآخرة على الحسنات التى فعلها وهو كافر، فقد روى مسلم عن حكيم بن حزام أنه سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم -عن الصدقة والعتق وصلة الرحم التى كان يتعبد بها فى الجاهلية فقال له "أسلمت على ما أسلفت من خير".
ورأى بعض العلماء أنه لا يثاب، وقول النبى صلى الله عليه وسلم هذا معناه أن الأعمال الخيرة التى عملتها فى الجاهلية تدل على أن معدنك طيب وأن فيك خيرا، وهذا الخير هو الذى قادك إلى الإسلام فالعبارة محتملة وليس فيها تصريح بأن حسنات الكافر قبل إسلامه يثاب عليها عند الله والذى يقصد بعمله دنيا يصيبها ماديا أو أدبيا ولا يريد وجه الله يحرم من ثواب الآخرة سواء أكان مسلما أم غير مسلم، لعموم قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم فى الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} هود:
15، 16.
وقوله: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الآخرة من نصيب} الشورى:20.
وقوله: {من كان يريد العاجلة عجَّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} الإسراء: 18.
وحديث. .. الثلاثة الذين تسعَّر بهم النار معروف رواه مسلم، وهم المجاهد الذى قصد أن يقال إنه شجاع، والكريم الذى قصد أن يقال إنه كريم والعالم الذى قصد أن يقال إنه عالم، وقد قيل: ثم يسحبون على وجوههم ويلقون فى النار"راجع ص 274 من المجلد الخامس من هذه الفتاوى "(8/381)
دواب الجنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل فى الجنة حيوانات وطيور كالتى نراها فى الدنيا؟
الجواب
الإجابة على السؤال ذات شقين الشق الأول دخول الحيوانات والطيور فى الجنة، والشق الثانى وجودها فى الجنة.
أما الأول فإن بعض المفسرين قال: هناك عشرة من دواب الدنيا تدخل الجنة وهى: البراق الذى ركبه النبى صلى الله عليه وسلم وليلة الإسراء، وناقة صالح التى عقرها المكذبون، وحمار العزيز الذى أماته الله مائة عام ثم بعثه فوجد حماره بجواره كما هو، والعجل الذى ذبحه إبراهيم لضيفه من الملائكة، والكبش الذى فدى الله به إسماعيل من الذبح لرويا أبيه، والهدهد الذى أتى بالأخبار لسليمان عن ملكة سبأ، والنملة التى قالت {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} وكلب أهل الكهف والحوت الذى التقم يونس، وبقرة بنى إسرائيل التى دلت على القاتل لما ضرب بعض أجزائها.
ونقل الألوسى عند تفسير {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} أن سائر الحيوانات المستحسنة فى الدنيا كالظباء والطواويس وما ينتفع به المؤمن كالغنم تدخل الجنة على كيفية لائقة ولكن ليس فى ذلك خبر يعول عليه.
وأما الشق الثانى فمن الجائز أن يخلق الله حيوانات وطيورا لمتعة أهل الجنة تشبه ما فى الدنيا فى الصورة وتخالفها فى المادة، فقد صح فى مسلم أن أرواح الشهداء فى جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل، وروى الترمذى بإسناد ضعيف أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأعرابى "إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة لها جناحان فتحمل عليها فتطير بك فى الجنة حيث شئت " وذكر ابن عدى بإسناد ضعيف حديثا جاء فيه " إن أهل الجنة يتزاورون على نجائب بيض كأنهن الياقوت " كما نقل الدميرى (808 ط) فى "حياه الحيوان الكبرى" مادة خيل حديثا فيه لا إن فى الجنة شجرة يخرج من أعلاها حلل ومن أسفلها خيل بلق من ذهب مسرجة ملجمة من در وياقوت لا تروث ولا تبول، لها أجنحة خطوالَها مد بصرها يركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاءوا، وأنها للصائمين القائمين المنفقين المجاهدين. وأحاديث الآحاد وإن كانت لا تثبت بها عقيدة لكن لا مانع من أن يخلق الله فى الجنة خلقا على صفة خاصة لمتعة أهلها كالحور العين، أما دخول حيوانات فى الجنة فلا دليل عليه، حيث إنها غير مكلَّفة لا ثواب لها، ومن لم يصدق ذك فلا يخدش إيمانه(8/382)
المرور على الصراط
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف يمر الناس على الصراط يوم القيامة؟
الجواب
الصراط فى اللغة هو الطريق الواسع، وفى الشرع -كما قال الدردير فى شرح خريدته - جسر ممدود على متن جهنم بين الموقف والجنة أرق من الشعرة وأحد من السيف، وأنكر الإمام الغزالى والعز بن عبد السلام كونه أرق من الشعرة وأحد من السيف، بل هو متسع لورود ما يدل على ذلك، وعلى فرض صحة هذا الوصف يؤول على أنه كناية عن شدة المشقة، فهو مختلف فى الضيق والاتساع بحسب الأعمال كما قال الدردير، فالمارون عليه منهم سالم بعمله ناج من نار جهنم - لأنه منصوب على متنها كما فى الحديث -وهم على أقسام: منهم من يجوزه كلمح البصر، ومنهم من يجوزه كالبرق الخاطف، ومنهم كالريح العاصف أو كالطير أو كالجواد السابق، ومنهم من يسعى سعيا ومنهم من يمشى ومنهم من يمر عليه حبوًا ومنهم من تخدشه كلاليب فيسقط ولكن يتعلق بها فيعتدل ويمر ويجاوزه بعد أعوام، ومنهم غير السالم من الوقوع فى النار، وهم متفاوتون بقدر تفاوتهم فى الجرائم، فمنهم من يخلد فى النار وهم الكفار، ومنهم من يخرج منها بعد مدة على حسب ما شاء الله وهم عصاة المؤمنين، والصراط ثابت بالقرآن والسنة والإجماع - كما ذكره العدوى فى كتابه "مشارق الأنوار ص 171 " قال تعالى {فاستبقوا الصراط} يس: 66، وقال صلى الله عليه وسلم "ينصب الصراط على متن جهنم فأكون أول من يجوزه وأمتى".
والحق تفويض معرفة حقيقته إلى الله تعالى، ويمر عليه الأولون والآخرون حتى من لا حساب عليهم قال العلاَّمة الأمير-وكلهم سكوت إلا الأنبياء -وقولهم إذ ذاك: اللهم سلَّم سلَّم، كذا فى الصحيح الذى رواه مسلم "الترغيب والترهيب للمنذرى ج 4 ص 149 " ثم ذكر العدوى أخبارا لا تبنى عليها عقيدة، وقال الفاكهانى: إنه موجود الآن والأخبار عنه صحيح، وأهل السنة أبقوها على ظاهرها من تفويض علم حقيقته إلى الله تعالى، وقال بعضهم: إنه يوجد عند الحاجة إليه. وذكر حديثا أخرجه ابن مردويه فى تفسيره بسند لا بأس به عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدميه إلى عنان السماء يضف له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين " وهذا النور يكون على الصراط كما فى حديث رواه الطبرانى، وفى حديث للديلمى "الصلاة نور على الصراط " وكلها أحاديث للترغيب فى العمل الصالح. والحقيقة هناك يعلمها الله سبحانه وتعالى(8/383)
دواب الجنة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن هناك دواب ستدخل الجنة؟
الجواب
معلوم أن أمور الغيب ومنها أحوال الآخرة لا تعرف إلا عن طريق الخبر الصحيح الثابت فى القرآن والسنة، ولم يرد دليل يعتمد عليه فى دخول الحيوانات الجنة، وإن كان هناك حشر لها كما سبق الكلام عليه فى صفحة 409 من المجلد الخامس من هذه الفتاوى.
وقد جاء فى حاشية الدردير على قصة الإسراء والمعراج للقيطى أن عشرة من الحيوانات قد تدخلها وهى: البراق وناقة صالح وحمار العزيز وعجل إبراهيم وكبش إسماعيل وهدهد سليمان ونملته وكلب أهل الكهف وحوت يونس وبقرة بنى إسرائيل، وسئل المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعى المفتى الأسبق عن ذلك فقال: راجعنا معظم كتب التفسير والحديث والتوحيد فلم نجد ما يثبت ذلك من حديث صحيح يعتمد عليه، بل رأينا ما ينفى دخول تلك الحيوانات العشرة الجنة، ونقل عن بعض كتب التفسير أقوالا فى دخولها، بل ودخول سائر الحيوانات المستحسنة فى الدنيا كالظباء والطواويس وما ينتفع به المؤمن كالغنم، ولكن على كيفية تليق بذلك المكان وتلك النشأة، وليس فيما ذكر خبر يعول عليه فيما أعلم "الآلوسى" نعم فى الجنة حيوانات مخلوقة فيها، وفى خبر يفهم من الترمذى صحة التصريح بالخيل منها والله أعلم وقال: وقد اشتهر القول بدخول كاب أهل الكهف الجنة حتى إن بعض الشيعة يسمون أولادهم بكلب على، ويؤمل من سمى بذلك النجاة بالقياس الأولوى على ما ذكر، وينشد:
فتية الكهف نجا كلبهم * كيف لا ينجو غدا كلب على؟ ولعمرى إن قبله على كرم الله وجهه كلبا له نجا، ولكن لا أظن يقبله لأنه عقور، انتهى. ونقل عن تفسير ابن كثير أنهم اختلفوا فى لون هذا الكلب على أقوال لا حاصل ل مما، ولا طائل تحتها ولا دليل عليها، ولا حاجة إليها، بل هى مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب.
"مجلة الإسلام - المجلد الثالث - العدد 25 "(8/384)
الذبح للميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رأينا فى بعض البلاد أن أهل الميت يذبحون ذبيحة ساعة خروج نعشه من البيت، فهل لهذا الذبح من أصل فى الشريعة الإسلامية؟
الجواب
جاء فى حديث رواه أبو داود "لا عقر فى الإسلام " قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. وقال الخطابى: كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد، يقولون: نجازيه على فعله، لأنه كان يعقرها فى حياته فيطعمها الأضياف فنحن نعقرها عند قبره لتأكلها السباع والطير، فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما فى حياته، ومنهم من كان يذهب فى ذلك إلى أنه إذا عقم في راحلته عند قبره حشر فى يوم القيامة راكبا، ومن لم يعقر عنه حشر راجلا ماشيا وهذا على رأى من كانوا يؤمنون بالبعث.
إن ذبح الأغنام أو غيرها عند خروج الميت من البيت صورة شبيهة بالصورة التى تقدم ذكرها، لكن لو ذبحت الماشية بقصد توزيع لحمها على الفقراء صدقة على روح الميت فلا مانع منه، لأنه جاء فى الحديث عن بر الأبوين بعد موتهما قول الرسول صلى الله عليه وسلم للسائل "الصدقة عليهما والدعاء لهما".
وإذا كان الذبح لإطعام من يحضرون للعزاء فهو مناف لهدى النبى صلى الله عليه وسلم فى إعداد الناس طعاما لأهل الميت لا العكس، فقد أمر بإعداد الطعام لآل جعفر لأنه نزل بهم ما شغلهم. أما سرادقات العزاء فقد مرت الإجابة عليها فى المجلد الثالث ص 175(8/385)
أين يصلى على الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الأفضل أن يصلى على الجنازة فى المسجد أو خارج المسجد، وهل تجوز الصلاة عليها فى المقبرة؟
الجواب
الصلاة على الجنازة جائزة غير محرمة فى أى مكان من الأرض لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "جعلت لى الأرض مسجدا فأينما أدركتك الصلاة فصل ".
لكن الخلاف هو فى المكان الأفضل لها، فقال الشافعية: تندب الصلاة على الجنازة فى المسجد، لأنه خير بقاع الأرض، وروى مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا فى المسجد. وصلى الصحابة على أبى بكر وعمر فى المسجد بدون إنكار من أحد، لأنها صلاة كسائر الصلوات. والحنفية والمالكية قالوا بكراهتها فى المسجد، واستدلوا بقول النبى صلى الله عليه وسلم -كما رواه أبو داود-"من صلى على جنازة فى المسجد فلا شىء له " أى ليس له ثواب، لكن هذا الحديث ضعيف ومعارض لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصحح بعضهم هذا الحديث لأنه جاء فى بعض النسخ "فلا شىء عليه "يعنى من الوزر، وكما كرهوا الصلاة عليه فى المسجد كرهوا إدخاله ولو من غير صلاة.
والحنابلة أباحوها فى المسجد إن لم يخش تلويثه، وإلا حرمت وحرم إدخاله ولو لغير الصلاة عليه، يقول ابن القيم: ولم يكن من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراتب الصلاة على الميت فى المسجد، وإنما كان يصلى على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر، وربما صلى أحيانا على الميت كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه وكلا الأمرين جائز، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد، وقد أطال فى الكلام على حديث أبى داود ومقابلته بحديث عائشة فيرجع إليه "ج 1 ص 140 ".
أما الصلاة على الميت فى المقبرة فكرهها الجمهور، وفى رواية لأحمد أنه لا بأس بها، لأن النبى صلى الله عليه وسلم صلَّى على المرأة التى كانت تنظف المسجد بعد أن دفنت، وصلى أبو هريرة على عائشة وسط قبور البقيع وحضر ذلك ابن عمر وغيره، لأن صلاة الجنازة أساسها الدعاء للميت، وليست كالصلوات الأخرى ذات الركوع والسجود التى يتعبد بها إلى الله سبحانه "انظر ص 600 من المجلد الرابع من هذه الفتاوى ".
وسهيل بن بيضاء قديم فى الإسلام، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة وشهد بدرا وغيرها ومات بها سنة تسع، وأخوه سهل كان ممن أظهر الإسلام بمكة، ومشى إلى النفر الذين قاموا بنقض الصحيفة التى كتبها مشركو مكة، ضد بنى هاشم حتى نقضوها وأنكروها "أسد الغابة "(8/386)
ثواب الصلاة على الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كثير من المشيعين للجنازة لا يصلون عليها، فهل هم مقصرون، وهل يؤثر ذلك على الجنازة نفسها؟
الجواب
صلاة الجنازة فرض كفاية، بمعنى أنه لو صلاها بعض الناس سقط الطلب عن الباقين، أى لا يعذبون، ولكن فاتهم ثواب كبير، والمؤمن الصادق لا ينبغى أن تفوت منه فرصة يكسب فيها ثوابا مهما كان حجمه. فقد جاء أن كل مؤمن سيندم يوم القيامة، إن كان مسيئا ندم ألا يكون قد أحسن، وإن كان محسنا ندم ألا يكون قد ازداد إحسانا.
ومع مراعاة أن كل المشيعين ربما لا يكونون متطهرين للصلاة، وفى التطهر بعض المشقة أو تأخير لدفن الجثة، فإن المتطهر ينبغى أن يشارك فى الصلاة، فقد روى الجماعة عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"من تبع جنازة وصلى عليها فله قيراط، ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان، أصغرهما - أو أحدهما - مثل أحد" وروى مسلم عن خبَّاب رضى الله عنه قال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة - وذكر الحديث - فأرسل ابن عمر رضى الله عنهما خبابا إلى عائشة رضى الله عنها يسألها عن قول أبى هريرة، ثم يرجع فيخبره ما قالت: فقال:
قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فقال ابن عمر رضى الله عنهما: لقد فرطنا فى قراريط كثيرة. هذا فيما يعود من الثواب على المصلى، أما المصلَّى عليه وهو الميت فإنه يستفيد من كثره المصلين عليه، لأن المهم فيها هو الدعاء له بعد التكبيرة الثالثة، وذلك إذا استجاب الله الدعاء، وكلما كان عدد الداعين فى الصلاة كبيرا كانت فرص الاستجابة أكثر، وفى هذا جاءت الأحاديث التى منها ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذى وحسنه والحاكم وصححه عن مالك بن هبيرة"ما من مؤمن يموت فيصلِّى عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له " فكان مالك بن هُبيرة يتحرى إذا قلَّ أهل الجنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف.
وأخذ بظاهر الحديث أحمد بن حنبل وقال: أحب إذا كان فيهم قلة أن يجعلهم ثلاثة صفوف، قالوا: فإن كان وراءه أربعة كيف يجعلهم؟ قال:
يجعلهم صفين، فى كل صف رجلين، وكره أن يكونوا ثلاثة فيكون فى كل صف رجل واحد.
وما رواه مسلم وأحمد والترمذى عن عائشة رضى الله عنها "ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شُفَعوا" وما رواه مسلم وأحمد وأبو داود عن ابن عباس رضى الله عنهما"ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفَّعهم الله فيه " أى قبل الله دعاءهم وشفاعتهم.
هذا، وكثرة المصلين على الجنازة يدفع إليها حب الميت أو تكريمه ومحاولة عمل شىء ينفعه، والغالب أن ذلك لا يكون إلا من استقامته وحسن معاملته للناس. فهم يترحمون عليه ويذكرونه بالخير، وذلك إمارة على حب الله له، والحديث يشهد لذلك، فقد مرت جنازة أمام النبى صلى الله عليه وسلم فأثنى الصحابة عليها خيرا، فقال "وجبت " ثم مرت جنازة أخرى فتحدثوا عنها شرا، فقال "وجبت " ولما سألوه عن الإجابتين المتحدثين مع اختلاف حديثهم عن الجنازتين قال "من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، أنتم شهداء الله فى الأرض " رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه، وحدث مثل ذلك لعمر رضى الله عنه. حين مرت عليه ثلاث جنازات واختلف الناس فى الكلام عليها فقال كما قال النبى صلى الله عليه وسلم "أيما مسلم شهد له أربعة نفر بخير أدخله الجنة"قال: فقلنا وثلاثة، فقال "وثلاثة" فقلنا: واثنان قال "واثنان " ثم لم نسأله عن الواحد. رواه البخارى. وروى أبو يعلى وابن حبان فى صحيحه عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أهل أبيات من جيرانه الأدنين انهم لا يعلمون إلا خيرا، إلا قال الله: قد قبلت علمكم فيه وغفرت له ما لا تعلمون ".
كل هذا يؤكد قيمة ثناء الصالحين على الميت، ويدعو إلى كثرة المصلين على الجنازة(8/387)
تكرار صلاة الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجور صلاة الجنازة على ميت سبق أن أقيمت عليه الصلاة؟
الجواب
تكرار الفرد لصلاة الجنازة على الميت غير حرام، لعدم وجود دليل يحرمه، وإنما هو مكروه فقط، بمعنى أن من صلى على جنازة يكره له أن يصلى عليها مرة أخرى، أما من لم يصل على جنازة فيجوز له أن يصلى عليها بعد أن يصلى عليها غيره.
جاء فى فقه المذاهب الأربعة "نشر أوقاف مصر " ما نصه، يكره تكرار الصلاة على الجنازة، فلا يصلى عليها إلا مرة واحدة، حيث كانت الصلاة الأولى جماعة، فإن صلى عليها أولا بدون جماعة أعيدت ندبًا فى جماعة ما لم تدفن، والشافعية قالوا: تسن الصلاة على الجنازة مرة أخرى لمن لم يصل عليها أولا ولو بعد الدفن، وقال الحنابلة: يجوز تكرار الصلاة على الجنازة لمن لم يصل أولا ولو بعد الدفن، ويكره التكرار لمن صلى أولا.
هذا، وفى وفاة النبى صلى الله عليه وسلم يقول ابن عباس -كما رواه ابن ماجه - لما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء [توفى يوم الإثنين ودفن يوم الثلاثاء ليلا، أى ليلة الأربعاء] وضع على سريره فى بيته، ثم دخل الناس عليه صلى الله عليه وسلم أرْسالا - جماعات متتابعين - يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، يقول ابن كثير: هذا أمر مجمع عليه، وهو عدم الصلاة عليه جماعة، وعلل الشافعى ذلك - كما فى كتابه الأم - بأنه لعظم أمره صلى الله عليه وسلم وتنافسهم فيمن يتولى الصلاة عليه "الزرقانى على المواهب ج 8 ص 291"(8/388)
غطاء النعش
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
والدى أوصى قبل وفاته أننا لا نغطى جثته وهى على النعش حتى لا يكون بينه وبين الله ستار، فما حكم الدين فى ذلك؟
الجواب
ستر النعش لم يرد فيه نص يأمر به أو ينهى عنه، لكن الفقهاء قالوا: يسن ستر نعش المرأة حتى لا يظهر جسمها، وذلك بغطاء من خشب أو نحوه كما قال الجمهور، وعليه فلو كشف الميت وهو على النعش فلم يوضع عليه غطاء فلا مانع منه ولا حرمة ولا كراهة.
أما تعليل كشفه بألا يكون بينه وبين الله ستار فلا وجه له، فالله سبحانه عليم بكل شىء، ولا ينفع الميت إلا عمله،ولا يجب تنفيذ هذه الوصية(8/389)
من آداب تشييع الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
اضطر شخص أن يخرج لتشييع جنازة ثم تذكر انه لم يغتسل من الجنابة، فهل فى هذا إثم؟
الجواب
لا يحرم على الجنب إلا أمور معروفة وهى الصلاة والطواف وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله والمكث فى المسجد. وما عدا ذلك فهو حلال غير حرام، سواء أكان فى أمور الدنيا كالأكل والشرب أم فى أمور الآخرة كالذكر والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم والدعاء، وإن كان الأفضل ألا يمارس هذه الأشياء وهو جنب. ففى حديث رواه البزار بإسناد صحيح "ثلاثة لا تقربهم للملائكة: الجنب والسكران والمتضمخ بالخلوق " وهو طيب خاص بالنساء، وكذلك كراهة النوم مع الجنابة إلا أن يتطهر ولو بالوضوء.
ومعلوم أن الملائكة قد تشيع بعض جنازات الصالحين. واشتراكهم فى التشييع دليل رحمة الله ورضائه عنه. ومن هنا يكره للجنب أن يسير فى الجنازة حتى تشترك فيها الملائكة، وحتى لا يحرم الميت من الرحمة، وبخاصة إذا كان من الصالحين، ففى حديث رواه أبو داود وغيره "إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر ولا المتضمخ بزعفران ولا الجنب "(8/390)
العيد وزيارة القبور
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كثير من المسلمين يحرصون على زيارة المقابر عقب صلاة العيد، فما مدى مشروعية هذه الزيارة؟
الجواب
زيارة المقابر فى الأصل سنة لأنها تُذكر الإنسان بالآخرة، وقد جاء فى ذلك حديث النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: زار النبى صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال "استأذنت ربى فى أن أستغفر لها فلم يؤذن لى، واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لى، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت " وروى ابن ماجه بإسناد صحيح قوله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور فإنها تزهد فى الدنيا وتذكر الآخرة.
وليس لهذه الزيارة وقت معين وإن كان بعض العلماء يجعل ثوابها أكبر فى أيام معينة كيوم الخميس والجمعة لشدة اتصال الأرواح بالموتى، وإن كان - الدليل على ذلك غير قوى، ومن هنا نعلم أن زيارة الناس للمقابر عقب صلاة العيد إن كانت للموعظة وتذكر من ماتوا وكانوا معهم فى الأعياد ينعمون بحياتهم، وطلب الرحمة لهم بالدعاء فلا بأس بذلك أبدا للرجال، أما النساء فقد مر حكم زيارتهن للمقابر فى صفحة 588من المجلد الأول من هذه الفتاوى.
أما إذا كانت الزيارة بعد صلاة العيد لتجديد الأحزان ولتقبل العزاء على القبر أو إقامة سرادق أو تهيئة مكان لذلك فهو مكروه، لأن التعزية بعد دفن الميت بثلاثة أيام ممنوعة على جهة الحرمة أو الكراهة. ولأنة يوم عيد وفرح وسرور فينبغى عدم إثارة الأحزان فيه(8/391)
البناء على المقابر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى المقابر والأضرحة المرتفعة عن الأرض؟
الجواب
روى مسلم وغيره أن ثمامة بن شُفَى قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم "رودس " فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوى ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "يأمر بتسويتها، وروى عن أبى الهياج الأسدى قال: قال لى على بن أبى طالب: ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته قال الترمذى: بعض أهل العلم يكرهون أن يرفع القبر فوق الأرض إلا بمقدار ما يعرف أنه قبر، لكيلا يطأه الناس ولا يجلسوا عليه.
قال الشافعى: وأحب ألا يزاد فى القبر تراب من غيره، وإنما أحب أن يشخص على وجه الأرض شبرا أو نحوه، وأحب ألا يبنى ولا يجصص ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، وقد رأيت من الولاة من يهدم ما يبنى فى المقابر، ولم أر الفقهاء يعيبون عليه ذلك، وقد صرح بتحريم الزيادة على ذلك أصحاب أحمد ومالك وبعض الشافعية. جاء فى فقه المذاهب الأربعة، نشر أوقاف مصر، يكره أن يبنى على القبر بيت أو قبة أو مدرسة أو حيطان تحدق، "كالحيشان " إذا لم يقصد بها الزينة والتفاخر وإلا كان ذلك حراما، ويحرم ذلك إذا كانت الأرض مسبلة أو موقوفة للدفن، لأن فى البناء تضييقا وتحجيرا على الناس، والشافعية قالوا: يجوز أن تُبنى قبور الأنبياء والشهداء والصالحين، وأن ترفع عليها القباب ولو فى الأرض الموقوفة، وذلك إحياء لذكرهم.
يؤخذ مما سبق أن البناء على القبور ورفعها فوق ما تتميز به مكروه وليس بحرام إلا إذا كان للتفاخر أو فى الأرض المسبلة والموقوفة للدفن فيكون حراما، واستثنى الشافعية من الكراهة والحرمة قبور الأنبياء والشهداء والصالحين فأجازوا البناء عليها لإحياء ذكرهم ورأى الجمهور أقوى(8/392)
فرش القبر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مات رجل عظيم بين أهله فأكرموه عند دفنه فوضعوا له مخدة وفرشوا قبره ووضعوا فيها الحناء، فهل هذا جائز؟
الجواب
أما وضع الحناء فى القبر فهو كوضعها فى الكفن لا غبار عليه كما قال جمهور الأئمة، أما وضع فراش فى القبر أو وسادة فقد جاء فى " المواهب اللدنية للقسطلانى ج 2 ص 380" فى الكلام على وفاه النبى صلى الله عليه وسلم أنه روى أنه بنى فى قبره تسع لبنات وفرش تحته قطيفة نجرانية كان يتغطى بها، فرشها مولاه "شُقران " فى القبر وقال:
والله لا يلبسها أحد بعدك. قال النووى: وقد نص الشافعى وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت فى القبر، وشذَّ البغوى من أصحابنا فقال فى كتابه "التهذيب " لا بأس بذلك، لهذا الحديث، والصواب كراهة ذلك كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث بأن "شُقران " انفرد بفعل ذلك ولم يوافقه أحد من الصحابة ولا علموا بذلك، وإنما فعله "شُقران " لما ذكرناه عنه من كراهية أن يلبسه أحد بعد النبى صلى الله عليه وسلم انتهى. ثم يقول القسطلانى: وفى كتاب "تحقيق النصرة" للزين المراغى قال ابن عبد البر: ثم أخرجت -يعنى القطيفة-من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع، حكاه ابن زَبَالَة، يقول الزرقانى عنه: كذبوه ومات قبل المائتين، روى له أبو داود "ج 8 ص 293 ".
ويؤخذ من هذا أن مجرد وضع الحناء فى القبر لتخفيف رائحة الجثة لا مانع منه، أما،في وضع فراش فى القبر فمكروه، لأنه إضاعة مال دون حاجة، والفراش الذى ينفع الميت ويريحه هو عمله الصالح.
وفى الحديث "يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله -عبيده -وعمله. فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى معه عمله " رواه البخارى ومسلم(8/393)
البهرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسمع عن طائفة مسلمة تعيش فى الهند تسمى بالبهرة، فما أصل هذه الطائفة وما صلتها بالأمة الإسلامية؟
الجواب
1 - البهرة - طائفة من الشيعة مركزها الآن " بومباى " بالهند يقرب عددهم من مليون ونصف المليون، والبهرة هى الوسط من كل شىء، أو الوسط من الطريق، وهو فى الأصل اسم لقبيلة من اليمن، يقول الأمير الدكتور يوسف نجم الدين " أمير الجامعة السيفية": الدعاة الفاطميون حين نزلوا على الساحل الغربى للهند " ساحل بحر العرب " سألهم أهل الهند: من أنتم؟ قالوا:
جئنا للتجارة. والتجار فى اللغة الهندية المحلية كانوا يسمون " وهرة " وبلغة الهند حيث الواو والباء مترادفتان سموا " البهرة " فاسمهم مشتق من اللغة الكجراتية " الجو جاراتيه " السائدة فى غربى الهند.
2 - البهرة أصلهم فاطمى، خرجوا من مصر والدولة الفاطمية قائمة، وعند زوالها من مصر واغتيال الخليفة العشرين " العامر بالله " سنة 1130 م ادعى قبل موته التنبؤ ببداية مرحلة من الفوضى، وأن استمرار دعوته لابد أن يكون فى الستر والخفاء، وقد ورث عنه ابنه الأوسط " الطيب " الإمامة وهاجر مع أتباعه إلى اليمن، وقد تسلسل الدعاة فى اليمن أربعة قرون تقريبا، ثم نقلوا مركز الدعوة إلى الهند.
ويحاول البهرة أن يكون طراز حياتهم فاطميا، فقد كانوا أولا فى المدينة إلى أيام جعفر الصادق ثم انتقلوا إلى عدة مراكز فى " سلمية " بسوريا، وأرادوا أن يقيموا دولة، فأقاموها أولا فى " أبكجان " بالجزائر، ثم بنوا عاصمتهم " المهدية " فى تونس، واختاروا " المنصورية " عاصمة لهم، ثم القاهرة، وقد تم ذلك فى عهد أربعة أئمة: المهدى بالله، القائم بأمر الله، المنصور بالله، ثم المعز لدين الله الذى نقل العاصمة إلى القاهرة.
بعد المعز لدين الله ت جاء العزيز بالله، والحاكم، والظاهر، والمستنصر، والمستعلى، والآمر بأحكام الله، والأخير هو الإمام العشرون فى عداد الأئمة الفاطميين بعد على بن أبى طالب. وابنه "الطيب " هو الحادى والعشرون، والإمام الآمر هو الذى أمر بحمل ابنه الإمام وإبعاده عن القاهرة إلى بقعة أخفوها عن الناس، ثم أقاموا لهم فى اليمن نائبا، فالفاطميون يعتقدون أن الأئمة من نسل الإمام الطيب، وأن النواب والدعاة تسلسلوا من نسله إلى وقتنا هذا، فوجود الداعى يدل على وجود الإمام.
وسوف يأتى يوم يظهر فيه الإمام. يقول الأمير الدكتور يوسف نجم الدين: نحن نختلف مع الاثنى عشرية، فالذى اختفى عندهم هو الإمام الثانى عشر والذى سيظهر بشخصه يوما ما، أما نحن فنقول: إن الذى اختفى هو " الطيب " وحين انتهى عمره الطبيعى خلفه ابنه إماما، وهكذا فنحن لا نعتقد أن الإمام يعيش فوق عمره الطبيعى.
وسلاطين البهرة هم النواب، ورتبهم الدينية هى رتبة الداعى المطلق، واشتهروا بالسلاطين فى اليمن والهند، وهم دون الأئمة رتبة. ويدعون لهم ولا يدعون لأنفسهم. والعصمة للإمام ومن ينوب عنه من الدعاة حتى لا يخرج عن المذهب.
3-جاء فى الحديث عنهم: أن العامر بالله المتوفى سنة،1130 م عين قبل وفاته مجلسا للوصاية من بعض الدعاة على ورثته وهو ابنه "الطيب " كما عين أخاه " عبد الماجد " لرعاية شئون الجماعة الدنيوية نيابة عن الطيب، ولكن بعد موت " العامر " اغتصب عبد الماجد الإمامة من ابن أخيه بمساعدة قائد الجيش، فلما شعر أعضاء المجلس بتعرض " الطيب " للخطر أخفوه عن الأنظار، ولم يعرف عنه شىء بعد ذلك، واعتبروا هذا بداية عهد الستر، وقد نشطت الدعوة فى اليمن منذ أواخر القرن الحادى عشر حيث كانت مقرا لداعيهم، وانتشرت عن طريق التجارة فى شرقى أفريقيا وغربى الهند، وهم مشهورون بمزاولة التجارة والثراء العظيم.
ولابد أن يدفع كل بالغ مبلغا من المال للجماعتين على دفعتين فى العام، يتناسب مع ثروته وأهمية المناسبة، وغالبا ما يكون من 5 - 1، شلنا. يذهب جزء من المبالغ إلى خزينة السلطان، ويحتفظ مندوبوه المعروفون بالعمال فى الأقاليم بالباقى، ويحصل كل منهم على مرتب ثابت ومقر لإقامته بالمجان، فضلا عن مكافأة من خزينة المجلس للطائفة، ولهذا يطمع الكثيرون فى هذه المناصب.
4 - أركان الإسلام عندهم سبعة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والولاية، والطهارة، وتتضمن تحريم الدخان والموسيقى والأفلام، ويقول الأمير الدكتور يوسف نجم الدين: قولنا بالطهارة احتياط، لأننا فى وسط بيئة غير مسلمة -بالهند- وهم فى صلواتهم يجمعون بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ولا يصلون الجمعة، بل يصلونها ظهرا، ويصلون العيد بدون خطبة أربع ركعات، ويقدسون مأساة كربلاء لمدة عشرة أيام، ويحتفلون بيوم " غديرخم " فى يوم 18 من ذى الحجة حيث تمت الوصية للإمام على، يصومون فيه ويجددون العهد للداعى المطلق فى بومباى أو الدعاة المبايعين وهم نوابه فى الأقاليم. وأتباع الداعى يطيعونه طاعة عمياء، وهناك عهد قديم بالولاء للإمام الطيب والإمام المنتظر. والداعى المطلق عندهم معصوم فى كل تصرفاته.
5 - زعيمهم الراحل هو الدكتور: ملا صاحب أبو محمد طاهر سيف الدين، كان شاعرا، ورأس جامعة " عليكره " واهتم بالعلوم الدينية وإحياء التراث الفاطمى، وهو الداعية رقم 51 فى سلسلة الدعاة الفاطميين، وتولى هذه الدعوة من 1915 - 1965 م وطور الدراسة فى الجامعة " السيفية " فى مدينة " سورت " وهى حصن الثقافة الإسلامية والعربية، وكان يلقى محاضرات باللغة العربية فى رمضان وتطبع بعنوان " الرسالة الرمضانية ". والزعيم الحالى هو الدكتور محمد برهان الدين الداعية رقم 52. وقد أقاموا للداعية الراحل مسجدا وضريحا فى قلب الحى التجارى فى بومباى فى منطقة: "بهاندى بازار " واحتفلوا بافتتاحه يوم السبت 8 من ربيع الآخر سنة 1395 هـ (9 / 4 / 1975 م) فى شارع إبراهيم رحمة الله. ودعى إليه علماء كثيرون، منهم الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، والشيخ محمد خاطر مفتى مصر، ومعهما الشيخان محمود خليل الحصرى وعبد الباسط محمد عبد الصمد لقراءة القرآن، والشيخ محمد الطوخى للأناشيد.
ويوجد فى مكتبة السلطان ومكتبة الجامعة السيفبة مخطوطات فاطمية نقلت بعد ضعف الدولة الفاطمية من مصر إلى اليمن ثم الهند، وحافظوا عليها حتى منعوا تداولها، ثم أباح السلطان أو الزعيم الراحل نشر بعضها.
والضريح مبنى على الطراز الفاطمى حيث حضر إلى مصر مهندس منهم اسمه " يحيى مرتد" وصور عدة مساجد من ذلك العهد، والمسجد يسمى " روضة طاهرة" مساحته ثلاثة آلاف متر مربع، عرض كل جدار إحدى وخمسون قدما، رمزا لرقم الداعية المتوفى، والارتفاع ثمانون قدما، رمزا لعمره، وغطيت جدرانه بالمرمر المضاهى لمرمر "تاج محل " من منطقة " راجستان " بالهند، ومن مميزاته أنه يظل باردا على الرغم من حرارة الجو، ونقش القرآن كله على ألواح مرمرية عددها 772 كل لوح 3x 2 من الأقدام، ورصعت البسملات بخمسة أنواع من الجواهر: الياقوت، المرجان، الدر الزمرد، الماس.
وسورة الإخلاص كلها مرصعة بالياقوت الأحمر، واستغرق البناء ثمانى سنوات منها أربع لحفر القرآن وطلائه [سنتان للحفر وسنتان للنقش، والطلاء والترصيع] .
المراجع:
1 -استطلاع مجلة العربى عدد سبتمبر 1975 م بقلم محمد حسنى زكى.
2 - الأهرام 2/5/1975 بقلم الدكتور ياسين مراد.
3-مجلة المصور 20/1/1978 تحقيق أحمد أبو كف(8/394)
إخوان الصفا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسمع عن إخوان الصفا وأن لهم رسائل فمن هم هؤلاء وهل هم مسلمون؟
الجواب
إخوان الصفا جماعة دينية سرية عنيت بالسياسة والفلسفة، ويرجح بعض الكاتبين أنهم من الشيعة الباطنية وكانوا حريصين على إخفاء نسبتهم إليها وقد ظهرت بالبصرة فى النصف الثانى من القرن العاشر الميلادى " الرابع الهجرى" وسموا أنفسهم " إخوان الصفا وخلاَّن الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد". وزعموا أن جماعتهم تجمعت بالعشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنه يقربهم إلى فوز برضوان اللَّه، وقالوا: لا سبيل إلى إصلاح الشريعة إلا بالفلسفة، كتبوا خمسين رسالة قى جميع أجزاء الفلسفة العلمية والعملية ونشروها بين الناس دون أن يصرحوا بأسمائهم، وفيها ضروب من المعارف محشوة بخرافات وكنايات وتلفيقات بين الفلسفة والأحاديث التى تحشى قى طياتها حشوا بلا اتساق وتعاليمهم فيها لا تتقيد بواجبات الشريعة، وإن كانت اراؤهم الطبيعية والعلمية دقيقة إلى حد كبير وتنقسم رسائلهم إلى أربعة أقسام: الرياضيات، الجسمانيات أو الطبيعيات، النفسيات أو العقليات، الناموس أو الإلهيات. إلى جانب الرسالة الجامعة التى توضح وتجمع كل مسألة تعرضت لها الرسائل الأصلية، كما ذكر الكاتبون أسماء مؤلفيها الخمسة، لكن لا تهمنا معرفتهم(8/395)
العلمانية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يتحدث الناس كثيرا عن العلمانية، فما هو أصلها وما هو موقف الإسلام منها؟
الجواب
مما هو مقرر أن الحكم على الشىء فرع عن تصوره، فلابد من تحديد المفاهيم حتى يمكن الحكم عليها حكما صحيحا، والعلمانية لفظ وجد فى كتبنا العربية حديثا عند ترجمة ما يقابلها فى اللغات الأجنبية عن طريق الإدارة العامة للتشريع والفتوى بمجلس الأمة المصرى - آنذاك - كما هو ثابت فى الموسوعة العربية للدساتير العالمية التى أَصدرها المجلس المذكور سنة 1966 م. وبعيدا عن صحة النطق بهذه الكلمة، الذى ذهب فيه الكاتبون مذاهب شتى، وكان فرصة استغلت للدعوة إلى وجهة نظر معينة كما هو شأن المتشابه من النصوص الذى جاء فيه قول الله تعالى: {فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. . .} آل عمران: 7،. بعيدا عن ذلك، فإن نسبة العلمانية إلى العلم أو العالم ليست على قياس لغوى، وهى ترجمة للكلمة الإفرنجية " لاييك " أو" سيكولا ريسم " وتعنى " لا دينية" على أى وجه تكون، وفى أى ميدان تطبق، وعلى أى شىء تطلق. وهى نزعة أو اتجاه أو مذهب اعتنقه جماعة فى أوروبا فى مقابل ما كان سائدا فيها فى العصور المظلمة، التى تسلط فيها رجال الدين على كل نشاط فى أى ميدان، مما تسبب عنه ركود وتخلف حضارى بالنسبة إلى ما كان موجودا بالذات عند المسلمين من تقدم فى كل المجالات. وكان معتنقو هذا المذهب فى أول الأمر فى القرنين السابع عشر والثامن عشر قد وقفوا من الدين موقف عدم المبالاة به، وتركوا سلطانه يعيش فى دائرة خاصة، واكتفوا بفصله عن الدولة. ومن أشهر هؤلاء "توماس هوبز " الإنجليزى المتوفى سنة 1679 م، " جون لوك " الإنجليزى المتوفى سنة 1704 م، " ليبنيتز" الألمانى المتوفى سنة 1716 م، " جان جاك روسو" المتوفى سنة 1778 م. وفى القرن التاسع عشر كانت المواجهة العنيفة بين العلمانية والدين، وذلك لتغلغل المادية فى نفوس كثير ممن فتنوا بالعلم التجريبى، إلى حد أنكروا فيه الأديان وما جاءت به من أفكار، واتهموها بتهم كثيرة كرد فعل للمعاناة التى عانوها من رجال الدين وسلطانهم فى زمن التخلف الذى نسبوه إلى الدين، ذلك الدين الذى كان من وضع من تولوا أمره، والدين الحق المنزل من عند الله برىء منه. ومن أشهر هؤلاء المهاجمين " كارل ما كس " الألمانى المتوفى سنة 1883 م، " فريدريك أنجلز " الألمانى المتوفى1895 م، " فلاديمير أوليانوف لينين " الروسى المتوفى سنة 1924 م. هؤلاء لم يقبلوا أن تكون هثاك سلطة ثانية أبدا، حتى لو لم تتدخل فى شئون الدولة، وإن كانت هذه العداوة للدين بدأت تخف، وتعاونت السلطات السياسية والاستعمارية على تحقيق أغراضها. لقد تأثر بهذا المذهب كثيرون من الدول الغربية، وقلدها فى ذلك بعض الدول الشرقية، ووضعت دساتيرها على أساس الفصل بين السياسة والدين، مبهورة بالتقدم والحضارة المادية الغربية، اعتقادا أنها وليدة إقصاء الدين عن النشاط السياسى والاجتماعى.
إن العلمانية بهذا المفهوم، وهو عدم المبالاة بالدين، يأباها الإسلام، الذى هو من صنع الله وليس من صنع البشر، فهو منزه عن كل العيوب والمآخذ التى وجدت فى الأديان الأخرى التى لعبت فيها الأصابع وحرفتها عن حقيقتها. ذلك لأنه دين الإصلاح الشامل، الذى ينظم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بالمجتمع الذى يعيش فيه، ويوفر له السعادة فى الدنيا والاَخرة على السواء، فهو كما يقال، دين ودنيا، أو دين ودولة، أو عبادة وقيادة. . . ومن مظاهر ذلك ما يأتى:
1 - عقائد الإسلام ليست فيها خرافات ولا أباطيل، فهو يقدس العقل ويأمر بتحكيمه إلى حد كبير.
2 - الإسلام ليس منغلقا على معلومات معينة يتلقاها بنصها من الوحى، بل هو كما يقال، دين منفتح على كل المعارف والعلوم ما دامت تقوم على حقائق وتستهدف الخير.
3 - الإسلام يمقت الرهبنة التى تعطل مصالح الدنيا، ويجعل النشاط الذى يبذل لتحقيق هذه المصالح فى منزلة عالية، لأنه جهاد فى سبيل الله، والتاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين، فهو دين يعمل للدنيا والآخرة معا.
4 - الإسلام يقرر أن السلوك الاجتماعى مقياس لقبول العبادة، فمن لم تثمر عبادته، بمفهومها الخاص من العلاقة بين العبد وربه، استقامة فى السلوك فهى عبادة مرفوضة لا يقبلها اللَّه {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون} الماعون: 4 - 7.
هـ - الإسلام ليس فيه كهنوت يتحكم فيه بعض من الناس فى مصائر الناس بإدخالهم الجنة أو حرمانهم منها، بناء على اعتبارات خاصة، فمدار ذلك على العقيدة الخالصة والعمل الصالح، وليس المشتغلون بعلوم الدين إلا معلمين ومرشدين، والأمر متروك بعد ذلك لمن شاء أن يستفيد أو لا يستفيد بالتطبيق.
وقد يكون المتعلم أقرب إلى الله من معلمه، بالتزام الطريق المستقيم الذى رسمه الله لهم جميعا، فما دامت العبادة للَّه وحده فهو وحده الذى يقبل منها ما يشاء.
6 -الإسلام ليس فيه سلطة مقدسة مستمدة من سلطة اللَّه، وليس فى البشر من هو معصوم من الخطأ، إلا من اصطفاه الله لرسالاته، والحكم من ذوى السلطان ليس لذواتهم، بل الحكم للدين أولا واَخرا، فكل شىء فيه اختلاف رأى يرد إلى اللَّه وإلى الرسول، أى الكتاب والسنة.
7- مبادىء الشريعة تستهدف تحقيق المصلحة، فإذا لم يوجد نص واضح فى أمر تعددت فيه وجهات النطر من أهل النظر وكان يحقق المصلحة العامة كان مشروعا، وبخاصة فى أمور الدنيا، فالناس أعلم بشئونها.
8 - الإسلام دين تقدم وتطور وحضارة، ليس جامدا ولا متمسكا بالقديم على علاته فهو ينهى عن التبعية المطلقة فى الفكر أو السلوك الذى يظهر بطلانه، بل يقرر أن الله يبعث مجددين على رأس كل قرن، يوضحون للناس ما أبهم، ويصححون لهم ما أخطأوا فيه ويوائمون بين الدين والحياة فيما تسمح به المواءمة، لأنه دين صالح لكل زمان ومكان، ومن مبادىء التربية المأثورة عن السلف:
لا تحملوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم. والمراد بالأخلاق العادات التى تقبل التغيير، أما أصول الأخلاق فثابتة.
بهذا وبغيره نرى الإِِسلام يرفض العلمانية، وأن المسلمين ليسوا فى حاجة إليها، وإنما هم فى حاجة إلى فهم دينهم فهما صحيحا، وتطبيقه تطبيقا سليما كاملا، كما فهمه الأولون وطبقوه، فكانوا أساتذة العالم فى كل فنون الحضارة والمدنية الصحيحة، وضعف المسلمين وتأخرهم ناتجان عن الجهل بحقائق الدين وبالتالى عدم العمل بما جاء به من هدى، وبالجهل قلدوا غيرهم فى مظاهر حضارتهم، وآمنوا بالمبادىء التى انطلقوا منها دون عرضها على مبادىء الإِِسلام، لأنهم لا يعرفون عنها إلا القليل. ولئن رأينا بعض دول المسلمين الآن قد نقلوا معارف غيرهم ممن يدينون بالعلمانية، فليس ذلك دليلا على أنهم آمنوا بما آمنوا به، وإنما هو للاطلاع على ما عندهم حتى يعاملوهم على أساسه، وإذا كانوا قد قبسوا من مظاهر حضارتهم فذلك للاستفادة من نتائج علمهم وخبرتهم فيما يقوى شوكة المسلمين ويدفع السوء عنهم، والتعاون فى المصالح أمر تفرضه طبيعة الوجود، وهو مشاهد فى كل العصور على الرغم من اختلاف العقائد والأديان. والمهم ألا يكون فى ذلك مساس بالعقيدة أو الأصول المقررة وأن يستهدف الخير والمصلحة. هذا، والأدلة على ما قلناه مما جاء به الإِِسلام كثيرة تركتاها للاختصار، والمقصود هو إلقاء بعض الضوء على هذا المصطلح وموقف الدين منه(8/396)
الماسونية وموقف الدين منها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الماسونية وما موقف الدين منها؟
الجواب
الماسونية جمعية سرية يهودية يرجع تاريخها إلى العصر الرومانى، تأسست فى مدينة " أورشليم " زمن الوالى " هيرودوس أغريبا " ملك اليهودية من سنة 37 - 44 بعد الميلاد، وهو حفيد "هيرودوس الكبير " الذى قتل أطفال بيت لحم، خشية أن يكون فيهم المسيح الذى سيقضى على ملكه.
وكان الغرض من تأسيسها مناهضة الدين المسيحى، ثم تطور غرضها إلى مناهضة الأديان عامة وإعادة مجد إسرائيل والعودة إلى أرض فلسطين، ثم عدل اسمها وظهرت بنشاطها فى المحاربة وسميت " الجمعية الماسونية " أو البنائين الأحرار، وكان ذلك سنة 1717 م وشعارهم: المثلث والفرجار، وأسسوا فى بريطانيا أول محفل ماسونى، جعلوا شعاره: الحرية والإخاء والمساواة، وأصدر فى لندن القرار التالى الذى يبين حقيقة أغراضهم:
1 - المحافظة على اليهودية.
2 - محاربة الأديان عامة والكاثوليكية خاصة.
3- بث روح الإلحاد والإباحة بين الشعوب.
ثم تأسست لها محافل فى أمريكا وغيرها، وقد اغتر بشعارها بعض المسلمين فانضم إليها، حتى إذا ما ظهر له هدفها تبرأ منها، وخاف أكثرهم أن يذيع أسرارها حتى لا يقتل، وتوجد شهادات لكبار الكتاب الغربيين ونشرات رسمية يهودية وأبحاث من مختصين، تبين تخطيط اليهود الواسع لإفساد العالم تحت شعارات براقة يجب أن يتنبه إليها المسلمون، فمن أكبر شعاراتهم:
الأديان تفرقنا والماسونية تجمعنا.
جاء فى دائرة المعارف الماسونية الصادرة فى "فيلادلفيا" سنة 1906 م: يجب أن يكون كل محفل رمزا لهيكل اليهود، وهو بالفعل كذلك، وأن يكون كل أستاذ على كرسيه ممثلا لملك اليهود، وكل ماسونى تجسيدا للعامل اليهودى.
وجاء فى نشرة ماسونية صادرة فى لندن سنة 1935: إن أمنيتنا هى تنظيم جماعة من الناس يكونون أحرارا جنسيا، نريد أن نخلق الناس الذين لا يخجلون من أعضائهم التناسلية، ولذلك أسسوا نوادى للعراة فى دول كثيرة، وسعوا بكل وسيلة لتدمير مقومات الشعوب غير اليهودية والقضاء على القيم الأخلاقية.
وحتى لا يفتضح أمرها أكثر، وللحرص على انتشارها بشكل أوسع ظهرت الماسونية تحت عناوين مختلفة، وأنشأت فروعا متعددة، منها: البناى برث، والكيوانى، والليونز، والاكستشانج، وشهود يهوه، ومنها الاتحاد والترقى، ونادى القلم، ونادى الصلبان الزاهرة، وكذلك الروتارى.
وقد ذكر بعضها " تشارلس ماردن، فى كتابه " الروتارى وأخوته " الذى نشر سنة 1936 م، وهذه نبذة بسيطة عنها:
1 - بناى برث، أو أبناء العهد، أنشئت فى نيويورك سنة 1843 م على نظام الماسونية، واقتصرت فى قبول الأعضاء بمحافلها على اليهود، ثم انتشرت فروعها فى العالم كله. يقول " فوستر دالاس " فى حفل أقامته هذه المؤسسة فى 8 من مايو سنة 1956 م: إن مدنية الغرب قامت فى أساسها على العقيدة اليهودية، ولذلك يجب على الدول الغربية أن تعمل بعزم أكيد من أجل الدفاع عن المدنية فى معقلها الحالى "إسرائيل ".
2 - الكيوانى، أصل التسمية من الكلمة الهندية " كى-وانى " أى اعرف بنفسك كيف تجعل صوتك مسموعا، ومع عدم وضوح العلاقة بين العنوان والهدف، فقد أسسه بعض الماسونيين فى "ديترويت " بأمريكا، ورخص لهم به فى 21 من يناير سنة 1915 م. وفى مايو سنة 1917 م ظهرت المنظمة العالمية لنوادى الليونز إلى الوجود وعقدت اجتماعاتها الأولى فى شيكاغو، الوطن الأم لنوادى الروتارى وجاء فى جريدة الأهرام الصادرة فى 2 / 12 / 1985 م أن وزيرة التأمينات والدولة للشئون الاجتماعية تدشن اليوم فى فندق شيراتون القاهرة أحدث ناد لسيدات الليونز ويحمل رقم 19 فى قائمة نوادى الليونز سيدات ورجال، ويتم فى حفل التدشين تسليم الإشارات والشهادات للمؤسسات البالغ عددها 27 مؤسسة، وذكر الخبر أسماء هيئه النادى، الذى أطلق عليه اسم " نادى سيدات ليونز شمال القاهرة ".
4 - الاكستنشانج، تأسس فى ديترويت فى 27 / 3 / 1916 م بمساعى تاجر المجوهرات " تشارلس بركى ". وفى أغسطس سنة 1917 م عقد المؤتمر الوطنى الأول.
5 - شهود يهوه مؤسسة يهودية ترتدى ثوبا مسيحيا، أخذت اسم "يهوه " كما جاء فى التوراة، تأسست فى ولاية بنسلفانيا بأمريكا سنة 1884 م ثم انتقلت إلى نيويورك سنة 1909 م. ومن طرق دعوتها اقتحام البيوت لإلقاء دروس دينية من التوراة، وهى من أخطر الجمعيات اليهودية، لأنها تخدع الجماهير المسيحية الساذجة وتدخل نبوءات التوراة المحرفة فى النفوس بعودة اليهود إلى أرض الميعاد.
لقد كشف أمر الماسونية سنة 1951 م فى مجلة القوات المسلحة حين تظاهر صحفى باعتناقها وعرف أسرارها. وفى صحف سرية كانت مرسلة إلى جهة ما بمعرفة ضابط أمريكى، عبث ولده برباطها فتبعثرت، فقرأ ما فيها ونشرها، فقتلوه، والظابط اسمه " سبير سفيتش " ألف كتابا بالعنوان "الدنيا لعبة إسرائيل " ترجم إلى العربية، وقدم له وزير التعليم بالسعودية.
وكان للماسونية محافل وجمعيات فى مصر صدر قرار وزارة الشئون الاجتماعية بحلها فى 18 / 4 / 1964(8/397)
الروتارى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسمع عن تشكيل يطلق عليه اسم " الروتارى " فهل فيه تعاليم تخالف تعاليم الإسلام؟
الجواب
جاء فى المصادر التى كتبها المنتسبون إلى الروتارى، والمعلقون عليه أن المحامى اليهودى " بول هاريس " الذى كان يعيش فى شيكاغو أحس بالوحدة وبحاجته الملحة إلى الزمالة والصداقة، ففكر فى جمع بعض الأصدقاء فى مكتبه فى روح أخوية، ليتدارسوا كيفية رفع مستوى كل منهم.
وأول اجتماع كان فى 23 من فبراير سنة 1905 م حضره أربعة من الأصدقاء، واتفقوا على أن يكون الاجتماع أسبوعيا فى مكان عمل واحد منهم، ومن هنا جاء اسم: " الروتارى ". ولما كثر عددهم وضاقت بهم أماكن العمل أصبحت اجتماعاتهم حول موائد للطعام، مع مناقشة ما يرون من مسائل.
ثم أنشأوا ناديا ثانيا فى " فرنسيسكو " سنة 1908 م، وتكونت نواد خارج أمريكا، كان أولها نادى " وينينج " فى كندا سنة 1912، ثم انتشرت فى كثير من البلاد، حتى صار عددها 17800 فى 154 دولة ومنطقة جغرافية حسب إحصاء نوفمبرسنة 1978 م.
وهذه النوادى تعقد مؤتمرات كان أولها فى شيكاغو سنة 1910 م وكان أول مؤتمر خارج أمريكا سنة 1921 م فى " أدنبرة " باسكوتلاندا حيث أطلق عليه اسم: الروتارى الدولى. وفى سنة 1922 م عقد المؤتمر فى " لوس أنجلوس " بأمريكا، واستمرت المؤتمرات تنعقد سنويا منذ ذلك التاريخ، وكان آخرها رقم 69 فى طوكيو سنة 1978 م.
ونوادى الروتارى تعتبر أعضاء فى مؤسسة الروتارى الدولية، ومقرها مدينهَ " أفنسنون " بولاية " ألينوى " بالولايات المتحدة الأمريكية.
تبين أن فكرة النادى نبعت من الحاجة إلى، طرد شبح الوحدة والعزلة وإلى الاندماج مع الناس، والتفكير فى تحسين حال الزملاء الذين يجمعهم النادى، ثم وضح نادى الروتارى فى مصر الغرض من إنشائه وركزه فى أمور أربعة:
1 - توسيع مدى التعارف لإتاحة الفرصة للخدمة.
2- بلوغ مستوى خلقى سام فى الأعمال والمهن.
3 - تمسك كل روتارى بمبدأ الخدمة فى حياته الشخصية العملية والاجتماعية.
4 - تعزيز روح التفاهم الدولى والنية الصادقة وحب السلام، وذلك بتوثيق أواصر الزمالة فى العالم بين الروتاريين أصحاب الأعمال والمهن.
وهذه الأغراض فى شكلها وفى جملتها قد تغرى بالانضمام إلى هذه النوادى، أو على الأقل عدم التعرض لنشاطها ما دام يستهدف تحقيق هذه الأغراض.
ومن المعلوم أن هناك صلة بينها وبين الماسونية، ومن شواهد ذلك:
1 - أن شعار جميع الأعضاء هو " الأديان تفرقنا والروتارى يجمعنا" وهو شعار الماسونية. وقد قرر مجلس إدارة الروتارى الدولى فى اجتماع عام 40 / 1941 م أن نوادى الروتارى تضم أعضاء من مختلف الأديان والمبادئ، ولكل أن يتمسك بعقيدته الدينية، مع الاحترام الكامل لعقيدة الآخرين.
وقد وضع الأديان كلها فى مستوى واحد من الاحترام، بصرف النظر عما هو سماوى أو أرضى، وفى ذلك -كما يقال -غسل القلوب والعقول تمهيدا لغرس ما يراد فيها مما تخطط له الماسونية من سيطرة الدين اليهودى وأفكار التلمود التى استغنوا بها عن التوراة.
2 - أن المجموعة الأولى التى اشتركت مع "بول هاريس " فى تأسيس الروتارى كانت أعضاء فى المحافل الماسونية، بل إنه فى بعض الحالات قصرت عضوية النادى على الماسون فقط مثل نادى "أدنبرة " فى بريطانيا سنة 1921 م.
3 - يقول الصحفى التركى (شهاب طان) -كما جاء فى كتاب "فى زنزانات إسرائيل " -. ولكن المحافل الماسونية غيرت اسم بعضها إلى جمعيات الروتارى بعد أن عرفت أسرارها وأهدافها.
4 - حذر الفاتيكان من خطر هذه الأندية، فصدر مرسوم من المجلس الأعلى فى 0 2 من كانون أول سنة 1950 م قرر فيه الكرادلة ما يأتى: " دفاعا عن العقيدة والفضيلة تقرر عدم السماح لرجال الدين بالانتساب إلى الهيئة المسماة بنوادى الروتارى، وعدم الاشتراك فى اجتماعاتها ".
5 - أن بعض الجمعيات والتنظيمات الحديثة التى دخلت المحيط الإسلامى ظهر أن لها صلة قوية بتنظيمات غربية تستهدف مصالح الغرب وبخاصة اليهود، كجمعية: " أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكية " التى يعمل " هوبكنز " نائبا لرئيسها، وقد كان قسيسا ومنتسبا لطائفة خطيرة، وله نشاط واسع فى السياسة لصالح أمريكا وبريطانيا، وقد قاطعت شخصيات إسلامية هامة مؤتمره الذى عقد سنة 1954 م. فى " بحمدون " بلبنان، معلنة أن الإسلام ليس فى حاجة إلى توجيهات أجنبية.
إن أقل ما يقال فى الروتارى وأمثاله أنها تشكيلات تحوم حولها الشبهة لما يأتى:
1 - أن المؤسسين الأول يهود، ونحن نعرف ماضيهم وما ارتكبوه من جرائم فى حق الإنسانية كلها، وسجل القرآن كثيرا منها، وما يزال العرب والمسلمون يعانون منهم إلى اليوم.
2 - هل عقمت تعاليم الإسلام وأفكار المسلمين أن تضع أهدافا إنسانية كالتى يدعيها المؤسسون للروتارى؟ وهل نحن فى حاجة إلى ما يضعه لنا الأجنبى المعروف بعدائه، والذى يصبغه بألوان ينخدع بها المصابون بعقدة الخواجة؟ .
3 - إن اللمسة الروحية تنقص هذه النوادى فالاهتمام كله فى الخدمة بالمفهوم الذى يعرفه من تورط فيها وقتا أو راقب نشاطها، دون اهتمام بالثواب الأخروى فهو أمر ثانوى، وقد فطن لخطرها آباء الكنيسة المسيحية، فقد خطب " تشيسترون " فى حفل أقيم سنة 1931 م فى نيويورك، ووصف منظمة الروتارى بأنها تنقصها اللمسة الروحية وأن شيئا غير أخلاقى يهيمن عليها وعلى علاقات أفرادها. انتهى.
4 - جاء فى جريدة "الشهاب " بتاريخ 13 / 5 / 1964 م أن أول مؤتمر ماسونى روتارى عقد فى " رامات غان " بفلسطين المحتلة، وامتدحوا فيه إسرائيل.
هذه هى نوادى الروتارى من كلام أعضائها والمتصلين بها، والمسلمون بالذات ليسوا فى حاجة إليها، وإذا كان لبعض أعضائها نشاط دينى فهو ليس نتيجة الانتساب إليها، وإذا كان لبعض الشخصيات اتصال بها فى مناسبة ما فليس ذلك شهادة بأنها بعيدة عن الشبهة، ومن أراد أن يباشر نشاطا اجتماعيا لا شبهة فيه فما أكثر ميادينه البريئة، ولتكن لنا شخصية مستقلة فى فكرها وسلوكها، تتخذ مقوماتها من الدين الذى أكمله الله وأتم به النعمة، ووعد على التمسك به حياة طيبة فى الدنيا والأخرى.
الروتارى فى مصر:
فى مطلع سنة 1928 م زار مصر المستر " جلاكستين " وهو من أعضاء نادى " هامر سميث " بانجلترا، وتقابل مع مجموعة من الرجال كانوا يجتمعون على الغداء مرة فى كل أسبوع، فدعاهم إلى إنشاء أول ناد للروتارى فى المنطقة، فوافقوا وأصبح عددهم 16 وفى يناير 1929 م بعث الروتارى الدولى مندوبا عنه هو المستر دافيد سن من كالجرى بكندا لحضور أول اجتماع للنادى فى 2 من يناير سنة 1929م فى فندق شبرد وكان عدد الأعضاء 22 عضوا، وبعث الروتارى الدولى مندوبا عنه هو المستر " كوك بونينج " من هولندا ليسلم رئيس النادى وقتذاك المستر "مارتن " شهادة تأسيس النادى المؤرخة فى 11 من مارس 1929 م. وتمت تلك المراسم على متن السفينة " مصر " فى 8 / 12 / 1929 م.
وفى الفترة من سنة 29- 1939 م كان أغلب الأعضاء من الأجانب ولم يكن من بين الأعضاء المؤسسين، وعددهم 22، إلا خمسة من المصريين، منهم اثنان فقط من المسلمين، وكانت اللغة المستعملة هى الإنجليزية، ولم يشترك أحد من المصريين فى مجلس الإدارة حتى عام 1931 م، وكانت رئاسة النادى لغيرهم حتى سنة 1934 م، ومنذ سنة 1939 م أنشئت نواد فى الإسكندرية وبورسعيد والمنصورة والزقازيق وأسيوط، والمشتركون فيها خليط من المسلمين والمسيحيين واليهود.
والمقر الدائم لنادى الروتارى المصرى رقم 3 شارع بهلر، افتتح فى 21 من مارس 1955 م. ومن 14 من أبريل سنة 1959 م انتقلت اجتماعاته من فندق سميراميس إلى فندق النيل هيلتون وهو تابع لوزارة الشئون الاجتماعية.
ومن أراد أن يعرف أسماء الأعضاء والرؤساء فليرجع إلى كتاب "العيد الذهبى للروتارى فى مصر " 1929 -1979 م فى 13 من مارس 1979 - 15 من مارس 1979 م.
هذا مختصر من بحث طويل عن الروتارى ربما أنشره فى فرصة أخرى(8/398)
الدروز
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هم الدروز وهل هم مسلمون؟
الجواب
هم أتباع أبى محمد الدرزى - بفتح الدال المشددة - وكانوا أولا من الإسماعيلية ثم خرجوا عليهم، ويسكنون سوريا ولبنان.
تقوم عقيدتهم على تأليه الحاكم بأمر الله الفاطمى وبرجعته، ويتخذون سنة 408 هجريه مبدأ لتاريخهم الذى أعلن فيه الدعاة الوهية الحاكم، وهم يعتبرون فى الرسميات مسلمين، وإن كانت مبادئهم الدينية سرية لا يصرحون بها، فنشأت شائعات عن عقائدهم وعباداتهم، حتى كانت حملة الجيش السورى على جبل الدروز فى أواخر عهد "الشيشكلى" فعثر على بعض مخطوطاتهم التى شرحت مذهبهم، وألف بعض مؤرخى العصر الحديث كتابا عليهم.
يقولون بالتقية أى التظاهر بموافقة الآخرين، ويقولون أيضا بالتناسخ وهم ثلاث درجات: الأولى: العقل أو العقال -بتشديد القاف المفتوحة - وهم رجال الدين ذوو النفوذ الكبير، والثانية: الأجاويد المطلعون على تعاليم الدين والملتزمون بها، والثالثة: العامة أو الجهال.
وليس لهم مساجد بل خلوات خاصة لا يدرى ما يجرى فيها،ولا يصومون إلا ما يقال عن الشيوخ العقَّل من صيام أيام غير رمضان، ولا يحجون إلى الكعبة، بل إلى خلوة البياضية فى بلدة "حاصبية" التابعة لبيروت، ويقال إنهم لا يقرون تعدد الزوجات ولا الرجعة فى الطلاق، ولا يورثون البنات.
هذا بعض ما تسرب من المعلومات عنهم فى الكتب والأخبار، ونظرا للسرية التامة ولتشددهم فى مبدأ التقية فإن حقيقة مذهبهم لا يعرف منها إلا القليل، لكن كتب عنهم، عصام الجيتاوى كلاما تفصيليا نشرته مجلة " المجتمع " التى صدرت بالكويت بتاريخ 25/ 4 /1978 م، فيرجع إليه.
وقد صدرت عن دار الإفتاء المصرية فتوى فى15 من ديسمبر سنة 1934 م مأخوذة عن ابن عابدين (رد المختار - الجزء الثالث - باب المرتد) نصها:
تنبيه، يعلم مما هنا حكم الدروز والنيامنة فإنهم فى البلاد الشامية يظهرون الإسلام والصوم والصلاة مع أنهم يعتقدون تناسخ الأرواح، وحل الخمر والزنا، وأن الألوهية تظهر فى شخص بعد شخص، ويجحدون الحشر والصوم والصلاة والحج، ويقولون: المسمى بها غير المعنى المراد، ويتكلمون فى جناب نبينا صلى الله عليه وسلم كلمات فظيعة، وللعلامة المحقق عبد الرحمن العمادى فيهم فتوى مطولة، وذكر فيهم أنهم ينتحلون عقائد النصيرية والإسماعيلية الذين يلقَّبون بالقرامطة والباطنية الذين ذكرهم صاحب المواقف، ونقل عن علماء المذاهب الأربعة أنه لا يحل إقرارهم فى ديار الإسلام بجزية ولا غيرها، ولا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم - انتهى.
وقال ابن عابدين أيضا فى رد المحتار فى فصل المحرمات عند قول المصنف:
وحرم نكاح الوثنية بالإجماع ما نصه: قلت: وشمل ذلك الدروز والنصيرية والنيامنة فلا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبيحتهم، لأنهم ليس لهم كتاب سماوى. انتهى (الفتاوى الإسلامية - المجلد الأول صفحة 202)(8/399)
الشياطين...... لماذا؟
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا خلق الله الشياطين؟
الجواب
خلق الله الشياطين ليمتحن بها بنى آدم هل يستجيبون لأمر الله أو لأمر الشيطان، وإيمان المؤمن لا تكون له قيمته إذا كان نابعا منه ذاتيا بحكم أنه خلق مؤمنا كالملائكة، فإن استقر الإيمان بعد الانتصار فى معركة الشيطان الذى أقسم أن يغوى الناس أجمعين كان جزاء هذا المؤمن عظيما، لأنه حصل بتعب وكد ومجاهدة، دفع بها أجر الحصول على تكريم الله له.
والحياة الدنيا لابد فيها من معركة بين الخير والشر، لتتناسب مع خلق الله لأدم على وضع يتقلب فيه بين الطاعة والمعصية، وقد تزعَّم الشيطان، هذه المعركة انتقاما من آدم الذى طرد من الجنة بسبب عدم السجود له فقال:
{قال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} الأعراف: 16، 17.
\\\وحذر الله الإنسان من طاعة الشيطان فقال، {ألم أعهد إليكم يا بنى اثم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} وقال: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} فاطر: 6.
فمجاهدة الشيطان بعصيانه لها ثواب، ووجوده يساعد على الحركة القائمة على المتقابلات، والحركة سر الحياة، وقد سئل أحد العلماء: لماذا خلق الله إبليس فقال: لنتقرب إلى الله بالاستعاذة منه وعصيانه، فكل شر فيه خير ولو بقدر(8/400)
خلق الأصنام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أرجو تفسير قوله تعالى: {أم خلقوا السماوات والأرض} الطور: 36؟
الجواب
هذه آية من سورة الطور جاء قبلها قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون. أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون} الطور: 35، 36.
وهما من ضمن الأساليب التى ترد على المشركين الذين كذَبوا الرسول صلى الله عليه وسلم فى دعوته أن هناك إلهًا واحدًا خلقهم جميعًا، وأن الأصنام التى يعبدونها عاجزة عن خلق أى شىء.
فتستنكر الآية الأولى أنهم خلقوا من غير شىء أى من غير إله خلقهم وقدرهم كما قال ابن عباس، ولم يعرفوا المادة التى خلقوا منها وهى ماء مهين سواه الله ونفخ فيه من روحه، فهل خلقوا هم أنفسهم أو خلقتهم الأصنام التى يعبدونها.
والآية الثانية تستنكر أن الأصنام خلقت أى شىء، بل هى نفسها مخلوقة وصنعها من يعبدونها بأيديهم، وأين كان هؤلاء الأصنام حين خلق السموات والأرض، وما داموا لم يخلقوا السموات والأرض ولم يخلقوا أنفسهم فبأى شىء يستحقون العبادة؟ إن المشركين لا يؤمنون بالحق الذى جاءهم به محمد-صلى الله عليه وسلم - ولا يوقنون بإجابة صحيحة عن هذه التساؤلات(8/401)
الجن والتوراة والإنجيل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى القرآن الكريم قول الجن للرسول صلى الله عليه وسلم {إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى} فلمَ لم يذكروا الكتاب الذى أنزل على عيسى، وهل آمن هؤلاء الجن بسيدنا موسى وكانوا من اليهود؟
الجواب
من المعلوم أن الرسالات السابقة كانت خاصة لأقوام دون آخرين ولعصر دون آخر، وهنا يقال: لماذا لم يذكر الجن الكتاب الذى نزل على عيسى وهو الإنجيل، واقتصروا على ذكر كتاب موسى وهو التوراة مع أن الإنجيل نزل بعدها وهو أقرب عهدا بالقراَن؟ قال المفسرون: هؤلاء الجن من منطقة لم يرسل إليها عيسى، وكانت داخلة ضمن حدود الرسالة الموسوية فهم آمنوا بموسى ولم يبلغهم دعوة عيسى:
وقيل إن التوراة كانت مشهورة لأن كثيرا من أنبياء بنى إسرائيل تتابعوا على الحكم بها، فعرفها الجن أكثر من معرفتهم للإنجيل وقيل: إن كلام الجن ليس فيه حصر لما أنزل من الكتب، وبالتالى ليس فيه نفى لنزول الإنجيل بعد ما ذكروا التوراة.
وقيل: إن التوراة كتاب شريعة مفصَّلة فالجن الذين آمنوا بها كانوا أشد اتصالا بمعرفة ما فيها أكثر من الإنجيل الذى كان أكثره مواعظ وأخلاقا.
هذا بعض ما ظهر لى من الإجابة على هذا السؤال(8/402)
الشيعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
من هم الشيعة وما هى أهم فرقهم الموجودة الآن؟
الجواب
الشيعة هم أتباع سيدنا على رضى الله عنه والموالون لاَل البيت، والمسلمون جميعا مأمورون بحب آل البيت وتكريمهم وقد وردت فى ذلك عدة نصوص، منها قول الله تعالى {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى} الشورى: 23، وقوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} الأحزاب: 33، وذلك على خلاف للمفسرين فى تحديد القربى وأهل البيت. وقوله صلى الله عليه وسلم "أذكركم الله فى أهل بيتى" ثلاث مرات رواه مسلم وقوله:"يا أيها الناس ارقبوا محمدا فى أهل بيته " رواه البخارى.
غير أن بعضا من المسلمين اشتد حبهم لسيدنا على وذريته، وتغالوا فى تكريمهم لدرجة أن بعضهم اعتقد ألوهية سيدنا على، وبعضهم اعتقد أنه النبى المرسل وغلط جبريل فنزل بالوحى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال، إنهما شريكان فى النبوة، وقالوا إنه الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالنص الجلى أو الخفى، دون أبى بكر وعمر وعثمان وان الإمامة لا تخرج عنه ولا عن أولاده، وإن خرجت فبظلم أو بتقية.
وأشهر فرقهم الموجودة الآن خمسة:
1 - الزيدية:
وهم أتباع زيد بن على بن الحسين، لما دعى الشيعة لحرب الأمويين سألوه رأيه فى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، فأثنى عليهما فرفضوه وسموا بالرافضة وهم يوجدون الآن فى اليمن، ومذهبهم قريب من مذهب أهل السنة، وهم وإن اعتقدوا أفضلية على على أبى بكر وعمر أجازوا إمامة المفضول مع قيام الفاضل.
2 - الإمامية:
وهم الذين قالوا بإمامة اثنى عشر من آل البيت، ويسمون بالاثنى عشرية وبالموسوية، لأن الأئمة عندهم هم: على، الحسن، الحسين، على زين العابدين بن الحسين، وكانت الإمامة لابنه الأكبر "زيد" فلما رفضوه كما تقدم ولوا بدله أخاه محمدا الباقر، ثم جعفر الصادق، وكان له ستة أولاد، أكبرهم إسماعيل ثم موسى، ولما مات إسماعيل فى حياة أبيه أوصى والده بالإمامه إلى ابنه موسى الكاظم، وبعد وفاة جعفر انقسم الأتباع فمنهم من استمر على إمامة إسماعيل وهم: الإسماعيلية أو السبعية، والباقون اعترفوا بموسى الكاظم، وهم الموسوية، ومن بعده على الرضا، ثم ابنه محمد الجواد، ثم ابنه على الهادى، ثم ابنه الحسن العسكرى نسبة إلى مدينة العسكر "سامرا" وهو الإمام الحادى عشر، ثم ابنه محمد الإمام الثانى عشر، وقد مات ولم يعقب فوقف تسلسل الأئمة وكانت وفاته سنة265 هـ.
ويقول الإمامية: إنه دخل سردابا فى "سامرا" فلم يمت، وسيرجع بعد ذلك باسم المهدى المنتظر.
وهذه الطائفة منتشرة فى إيران والعراق وسوريا ولبنان، ومنهم جماعات متفرقة فى أنحاء العالم، ولهم كتب ومؤلفات كثيرة من أهمها كتاب "الوافى" فى ثلاثة مجلدات كبيرة جمعت كثيرا مما فى كتبهم الأخرى، كتب عليه أحد أهل السنة نقدا سماه "الوشيعة فى نقد عقائد الشيعة" وكان ذلك فى فبراير سنة1935 م كما كتب رئيس أهل السنة بباكستان "محمد عبد الستار التونسوى" رسالة فى ذلك.
ومن أهم أصولهم:
1 - تكفير الصحابة ولعنهم، وبخاصة أبو بكر وعمر رضى الله عنهما إلا عددا قليلا جدا كانوا موالين لعلى رضى الله عنه. وقد رووا عن الباقر والصادق: ثلاثة لا يكلَّمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. من ادعى إمامة ليست له ومن جحد إماما من عند الله، ومن زعم أن أبا بكر وعمر لهما نصيب فى الإسلام.
ويقولون: إن عائشة وحفصة رضى الله عنهما كافرتان مخلدتان، مؤولين عليهما قول الله تعالى {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط} التحريم: 10.
2 - ادعاء أن القرآن الموجود فى المصاحف الآن ناقص، لأن منافقى الصحابة (هكذا) حذفوا منه ما يخص عليا وذريته، وأن القرآن الذى نزل به جبريل على محمد سبعة آلاف آية، والموجود الآن 6263 والباقى مخزون عند آل البيت فيما جمعه على، والقائم على أمر آل البيت يخرج المصحف الذى كتبه على، وهو غائب بغيبة الإمام.
3-رفض كل رواية تأتى عن غير أئمتهم، فهم عندهم معصومون بل قال بعضهم: إن عصمتهم أثبت من عصمة الأنبياء.
4 - التقية: وهى إظهار خلاف العقيدة الباطنة، لدفع السوء عنهم.
5 - الجهاد غير مشروع الآن، وذلك لغيبة الإمام، والجهاد مع غيره حرام ولا يطاع، ولا شهيد فى حرب إلا من كان من الشيعة، حتى لو مات على فراشه.
وهناك تفريعات كثيرة على هذه الأصول منها:
عدم اهتمامهم بحفظ القرآن انتظارا لمصحف الإمام، وقولهم بالبداء بمعنى أن الله يبدو له شىء لم يكن يعلمه من قبل ويتأسف على ما فعل، والجمعة معطَّلة فى كثير من مساجدهم وذلك لغيبة الإمام، ويبيحون تصوير سيدنا محمد وسيدنا على وصورهما تباع أمام المشاهد والأضرحة، ويدينون بلعن أبى بكر وعمر. . .
3 - الإسماعيلية:
وهى تدين لإسماعيل بن جعفر الصادق، وهم أجداد الفاطميين والقرامطة، يعتقدون التناسخ والحلول، وبعضهم يدعى ألوهية الإمام بنوع من الحلول، وبعضهم يدعى رجعة من مات من الأئمة بصورة التناسخ.
وهذه الفرقة طائفتان، إحداهما فى الهند وتسمى " البهرة" ويتركزون فى بومباى، يعترفون بالأركان الخمسة الواردة فى الحديث وهو: " بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" رواه البخارى.
ويزيدون عليه ركنا اسمه " الطهارات " ويتضمن تحريم الدخان والموسيقى والأفلام، وهم فى صلواتهم يجمعون بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، ولا يصلون الجمعة ويحتفلون بغدير "خم " فى 18 من ذى الحجة كل عام، حيث تمت فيه الوصية لعلى (مجلة العربى سبتمبر 1975، المصور 20/1/ 1978) .
والطائفة الأخرى فى "سلمية" بسوريا وفى زنجبار وشرقى أفريقيا وتسمى "الأغاخانية" نسبة إلى زعيمهم " أغاخان ".
4 - النصيرية:
وهم أتباع أحد وكلاء الحسن العسكرى واسمه محمد بن نُصير، والذين تسموا فى عهد الاحتلال الفرنسى بسوريا باسم "العلويين ".
ومن كتاب "تاريخ العلويبن " لمحمد أمين غالب الطويل، وهو نصيرى ومن غيره من الكتب والمراجع نوجز أهم مبادئهم فيما يلى:
(1) الولاية لعلى، زاعمين أن النبى صلى الله عليه وسلم بايعه ثلاث مرات سرًّا، ومرة رابعة جهرا.
(ب) عصمة الأئمة، لأن الخطايا رجس وقد قال الله فى أهل البيت:
"ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ".
وبناء على ذلك يعتقدون أن الإمام أعلى من بعض الوجوه من الأنبياء، لأنهم معرضون للخطأ ولم يرد فى القرآن ما ينزههم عنه، أما الأئمة فمعصومون بنص القرآن.
(ج) التقية: أو التكتم فى الدين فإخفاء عقيدتهم من كمال الإيمان.
(د) علم الباطن: فهو فى زعمهم مختص بهم،وهم على صواب دائم فى تفسير القرآن وعلم أسراره لأنهم معصومون.
وبناء على هذه الأصول قالوا بألوهية متحدة الحقيقة مثلثة الأجزاء فالألوهية معنى وحقيقة، وهو علي، ولها اسم وحجاب، وهو محمد، ولها باب يوصل إليها، وهو سلمان، فعلي رب العالمين، والقرآن منه، وكل نبى بعث فهو الذى بعثه ليتكلم بلسانه، وكان هو مع كل رسول متجسدا فى صورة وصى له، ويرمزون إلى هذا الثالوث برمز" ع. م. س ".
ولهم تفريعات على ذلك: فالعبادات الواردة فى القرآن بما فيها من أوامر ونواه، هى أسماء أماكن، والأشهر الحُرم عندهم هى: فاطمة والحسن والحسين وعلى ابنه، والقيامة عندهم فى قيامة المحتجب صاحب الزمان.
والمنتسبون إلى هذا المذهب طبقات، منهم متعلمون لا يدينون به، لكن لا يجدون عوضا عنه، ومنهم الشيوخ والرؤساء المتمسكون، ومنهم العامة الذين يعيشون على غير هدى، والحكم عليهم مذكور مع الدروز(8/403)
ذرية إبليس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ذرية إبليس نتجت عن زواج، وهل فى الجن ذكر وأنثى؟
الجواب
يقول الله تعالى {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو} . الكهف: 50، تفيد هذه الآية الكريمة أن إبليس له ذرية، ولكن كيف أتت هذه الذرية؟ ومع أن معرفة الجواب ليست مهمة لكن العلماء شغلوا أنفسهم به، فنقلوا من الأقوال ما نقلوا واستنبطوا ما شاء لهم الاستنباط وذكر القرطبى حديثا فى ذلك قال إنه صحيح وهو "لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فبها باض الشيطان وفرَّخ " ذكره الحميدى فى الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبى بكر الباقلانى أنه خرجه فى كتابه عن سلمان عن النبى صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا الحديث يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه كما قال القرطبى وهو موافق لما جاء فى الآية الكريمة فإن عبارة "باض الشيطان وفرخ " ليست نصا قاطعا فى أن الذرية نتجت عن وضع الشيطان للبيض ثم التفريخ كما يحدث للطيور، فقد يكون المراد ذرية إبليس يكثر وجودها فى الأسواق من أجل الإفساد.
يقول القشيرى أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس أتباعا وذرية وأنهم يوسوسون إلى بنى آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية فى كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح. انتهى، وهذا هو الكلام الصحيح. يقول الشعبى: سألنى رجل فقال: هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده. ثم ذكرت قوله تعالى {أفتتخذونه وذريته أولياء} فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة، فقلت نعم. وينقل القرطبى "ج 10 ص 420 " عن مجاهد أن إبليس أدخل فرجه فى فرج نفسه فباض خمس بيضات، فهذا أصل ذريته، وقيل: أن الله تعالى خلق له فى فخذه اليمنى ذكرا، وفى اليسرى فرجا، فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير. . . ذلك بعض ما فى الكتب وغيره كثير مما أربأ بالمسلمين اليوم أن يعنوا به(8/404)
الوضوء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل كان الوضوء للصلاة مشروعا فى الأديان السابقة؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء وضحه الزرقانى فى شرحه للمواهب اللدنية للقسطلانى " الجزء الخامس " وخلاصة ما جاء فيه:
قيل إنه خاص بالأمة الإسلامية، وكان من قبل ذلك للأنبياء خاصة وليس للأفراد، ولكن عورض هذه القول بأن "سارة " زوج إبراهيم عليهما السلام لما استدعاها الطاغية توضأت وقامت تصلى فعصمها اللَّه منه، والحديث رواه البخارى ومسلم.
وهذا الطاغية مختلف فيه، فقيل: هو عمرو بن امرئ القيس بن سبأ وكان على مصركما ذكره السهيلى وهو قول ابن هشام فى التيجان، وقيل: اسمه صادق وكان على الأردن، كما حكاه ابن قتيبة، وقيل: سنان بن علوان. . . بن سام بن نوج، حكاه الطبرى، ويقال: إنه الضحاك الذى ملك الأقاليم.
ولا تهمنا معرفته، بل المهم أن سارة تحصنت بالوضوء والصلاة فمنعها اللَّه من شر،وهى لم تكن نبية كما قال الجمهور، وعلى هذا فالوضوء كان للأفراد أيضا كما كان للأنبياء.
وفى قصة جريج الراهب الذى اتهمته المرأة بالزنا بها ونسبت إليه غلاما منها، قام وتوضأ وصلى وسأل الغلام فنطق باسم والده الحقيقى، وبرأ اللَّه جريجا، والحديث رواه أحمد عن أم سلمة.
فالظاهر أن خصوصية أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى الغرة والتحجيل، لا فى أصل الوضؤ. وحديث هذا وضوئى ووضوء الأنبياء من قبلى ضعيف. وروى الطبرانى أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا بوَضُوء، فتوضأ واحدة واحدة وقال " هذا وضوء لا يقبل اللَّه الصلاة إلا به "، ثم توضأ مرتين مرتين وقال " (هذا وضوئى ووضوء الأنبياء من قبلى ". " الزرقانى على المواهب ج 5 ص 368 "(8/405)
نقض الوضوء بمس الفرج؟
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ينتقض الوضوء بمس الفرج؟
الجواب
1 -عن بُسْرَة بنت صفوان قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مس ذكره فلا يصلى حتى يتوضأ " رواه الخمسة وصححه الترمذى، قال البخارى: هو أصح شىء فى هذا الباب.
2 -وعن بسرة أيضا قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول " ويتوضأ من مس الذكر" رواه أحمد والنسائى.
3-وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: " ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضأون ". أخرجه الدارقطنى.
4 -وعن أم حبيبة رضى اللَّه عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من مس فرجه فليتوضأ " رواه ابن ماجه وصححه أحمد.
5 -سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره: أعليه وضوء؟ فقال: "إنما هو بضعة منك " رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه وأحمد، وصححه عمر بن القلاس، وقال: هو عندنا أثبت من حديث بسرة، وصححه ابن حبان.
بناء على الأحاديث الأربعة الأولى قال جماعة من الصحابة والتابعين بنقض الوضوء بمس الفرج، وعليه جمهور الفقهاء، على أن يكون المس بغير حائل، لحديث رواه أحمد وابن حيان والحاكم وصححاه " من أفض بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء" وإليك بعض التفصيل لأقوال الفقهاء:
أ- قالت المالكية: ينتقض الوضوء بمسي الإنسان ذكر نفسه المتصل به، فلو مس ذكر غيره يكون لامسا يجرى عليه حكم اللمس - وقد تقدم ذلك فى نقض الوضوء باللمس -ويشترط أن يكون بدون حائل وببطن الكف أو باطن الأصابع أو جنبها أو رأس الأصبع، ولا ينتقض بمس امرأة فرجها ولو أدخلت فيه إصبعها ولو التذت، ولا بمس حلقة الدبر، ولا بإدخال أصبعه فيه على الأصح وإن كان حراما لغير حاجة، أما مس دبر غيره أو فرج امرأته فهو لمس يجرى عليه حكم الملامسة- وقد تقدم.
ب - وقالت الشافعية: مس الذكر المتصل أو المنفصل الذى لم يتجزأ ينقض الوضوء بشرط عدم الحائل، وأن يكون ببطن الكف أو الأصابع، ولا فرق بين ذكر نفسه أو غيره، ولو صغيرا أو ميتا، ومثله مس حلقة الدبر وقبل المرأة.
ج - وقالت الحنابلة: ينتقض الوضوء بمس ذكر الآدمى من نفسه ومن غيره صغيرا أو كبيرا، حيا أو ميتا، بشرط الاتصال وبغير حائل وباليد ظهرا أو بطنا إلا الأظافر، وينتقض بمس حلقة دبره أو دبر غيره، وبمس فرج الأنثى، ولا ينتقض بمس امرأة فرج نفسها، إلا إذا أولجت إصبعها إلى الداخل.
وبناء على الحديث الخامس ذهب بعض الصحابة والتابعين، وعليه أبو حنيفة والثورى إلى أن مس الذكر غير ناقض للوضوء وردوا على رأى الجمهور بأن الوضوء الوارد فى الأحاديث الأولى هو الوضوء اللغوى أى غسل اليدين.
أما الجمهور فردوا رأى الأحناف بأن الحديث الخامس الذى اعتمدوا عليه ضعفه الإمام الشافعى وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطنى والبيهقى وابن الجوزى، وادعى ابن حبان والطبرانى واَخرون أنه منسوخ، وقالوا: إن راوى هذا الحديث وهو طلق بن على روى أيضا حديث " من مس فرجه فليتوضأ " كما صححه الطبرانى، فقيل سمع. أولا عدم النقض، ثم سمع آخرا النقض.
وبهذا يظهر رجحان رأى الجمهور وهو النقض(8/406)
ما يخرج من القبل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب الغسل نتيجة لنزول سائل أبيض عند الاستيقاظ من النوم؟
الجواب
السائل الذى يخرج من القبل - الذكر أو الفرج - عادة أربعة أنواع: البول والمذى والودى والمنى، والبول نجس لابد من تطهير ما يصيبه بغسله، والمذى سائل أبيض لزج يخرج عند التفكير فى الناحية الجنسية أو الملاعبة، وربما لا يحس الإنسان بخروجه، وهو يكون من الرجل والمرأة إلا أنه منها أكثر، وهو نجس بالاتفاق، يجب غسل ما أصاب البدن أو الثوب منه، ولا يجب الاغتسال أى غسل الجسم كله منه، روى البخارى وغيره أن عليا رضى اللَّه عنه كان مذاء واستحيا أن يسأل النبى عن حكمه لأنه زوج بنته فاطمة، فأمر رجلا أن يسأله فقال له " توضأ واغسل ذكرك " غسل الذكر يكون قبل الوضوء. والودى ماء أبيض ثخين يخرج بعد البول، وهو كالمذى والبول نجس باتفاق ولا يجب منه الاغتسال، روى البيهقى ذلك عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما.
والمنى ماء يخرج بلذة وتدفق ويعرف برائحته كالعجين أو طلع النخل، وهذا يوجب الغسل باتفاق، ففى الحديث الذى رواه مسلم "الماء من الماء " أى الاغتسال بالماء يكون من نزول الماء أى المنى. وفى حديث البخارى ومسلم أن أم سليم قالت: يا رسول اللَّه، إن اللَّه لا يستحى من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ قال: "نعم، إذا رأت الماء ".
ولكن مع وجوب الغسل هل يكون المنى طاهرا بحيث لو أصاب الملابس مثلا لا تنجس ويمكن أن يصلى فيها، أو يكون نجسا كالبول لابد من تطهير ما يصيبه؟ جمهور العلماء على أنه طاهر، لأنه الأصل الذى خلق منه الإنسان الطاهر الذى لا ينجس حيا ولا ميتا، ولا يوجد دليل على نجاسته، فعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن المنى يصيب الثوب فقال " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة" رواه الدارقطنى والبيهقى، واختلف فى رفعه إلى النبى ووقفه على ابن عباس، والإذخر نوع من الحشائش.
وقال جماعة: إن المنى نجس، واستدلوا بحديث رواه الدارقطنى والبزار وأبو عوانة عن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أفرك المنى من ثوب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا، وأغسله إذا كان رطبا.
ورد عليه الجمهور، بأن فرك النجاسة لا يطهرها، وإنما فعلت عائشة ذلك من باب الحياء أن يظهر النبى صلى الله عليه وسلم أمام الناس وفيه آثار الجماع، وهو أمر مستحب فليس عملها نصا فى نجاسته(8/407)
الوضوء فى الحمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى الأبنية الحديثة يوجد حوض الغسل وأدوات الاستحمام وقضاء الحاجة فى حجرة واحدة. فهل يجوز أن أتوضأ فى هذا المكان. وهل يجوز أن أسمى وأذكر الله أثناء الوضوء؟
الجواب
من المعروف عند الفقهاء أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن الكراهة تراعى قبل الندب والاستحباب، كما تراعى الحرمة قبل الوجوب، وذلك للاحتياط على الأقل 0 ومعلوم أن المكان الواحد الذى يجمع هذه المرافق يغلب عليه التلوث والتعرض للنجاسة إن لم تكن هناك عناية بالغة بالنظافة 0 والوضوء من الصنبور " الحنفية " داخل الحمام مكروه إن خشى الإنسان النجاسة من تساقط المياه على الأرض المنتجسة، ووجد مكانا آخر يتوضأ فيه غير هذا المكان، فإن أمن النجاسة أو لم يوجد مكان آخر للوضوء فلا بأس بالوضوء فى الحمام 0 ومن آداب قضاء الحاجة عدم الكلام ومنه الذكر والدعاء وقراءة القرآن، حتى لو عطس لا يحمد الله، ولو سلَّم عليه إنسان لا يرد عليه السلام.
ولو سمع الأذان لا يجيب المؤذن، أى لا يقول مثل قوله. فقد روى مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رجلا مر على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه السلام.
ورأى العلماء أن هذا المنع لا يقتصر على حالة قضاء الحاجة "التبول والتغوط " بل يشمل وجود الإنسان فى هذا البيت المعد لقضاء الحاجة. وعليه فإن المتوضئ فى الحمام لا يسمى ولا يذكر الله أثناء الوضوء ولا قبله ولا بعده حتى يخرج منه، والحكم هو الكراهة لا الحرمة، فليس فى المخالفة عقوبة، والأفضل عدمها. .
مع التنبيه على أن النية الواجبة فى الوضوء أو الغسل محلها القلب، ولا يجب التلفظ بها باللسان، فلا داعى لهذه النية القولية ما دام فى الحمام، ويكتفى بالنية القلبية عند من يقول بوجوبها.
ومحل كراهة الكلام إذا لم تكن هناك ضرورة أو حاجة تدعو إليه، كالتنبيه على خطر أو الرد على من ينادى ونحو ذلك، فإن وجدت فلا كراهة، والضرورة تقدر بقدرها(8/408)
الحمامات العامة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الإسلام فى دخول الحمامات العامة؟
الجواب
الحمامات أماكن خاصة للاستحمام، وكانت للبيوت الموسرة حمامات خاصة بها، ثم اقيمت حمامات عامة للناس، وهى قديمة موجودة قبل الإسلام، يقول المقريزى، فى خططه " ج 3 ص 129 ": قال محمد بن إسحاق فى كتاب " المبتدى": إن أول من اتخذ الحمامات والطلاء بالنورة سليمان وإنه لما دخله ووجد حميمه قال: أوَّاه من عذاب الله أواه! ! وذكر المستحى فى تاريخه أن أول من بنى الحمامات فى القاهرة " العزيز باللَّه نزار بن المعز " وكان بها ثمانون حماما فى سنة 685 ط. وأقل حمامات كانت ببغداد زمن الناصر أحمد بن المستنصر ألفا حمام. انتهىـ. .
ولهذه الحمامات آثار باقية إلى الآن بالشام. وهى آخذة فى الانقراض. وقد ألف الحافظ ابن كثير كتابا فى الحمام. ووردت فيه أحاديث كثيرة لم يتفق على صحة شىء منها، قال المنذرى:
وأحاديث الحمام كلها معلولة، وإن ما يصح منها فهو عن الصحابة "نيل الأوطار ج 1 ص 277 ".
ومن هذه الأحاديث ما يأتى:
1 - روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إنها ستفتح لكم أرض العجم،،ستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات. فلا يدخلها الرجال إلا بالإزار، وامنعوا النساء، إلا مريضة أو نفساء " نيل الأوطار ج اص 178 والترغيب والترهيب ج اص 65. وقد تكلم فى هذا الحديث بما يضعف حجيته.
2 -وأخرج المنذرى فى كتابه " الترغيب والترهيب "ج اص 66 أن نساء من أهل حمص، أو من أهل الشام دخلن على عائشة فقالت: أنتن اللاتى تدخلن نساءكن الحمامات؟ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول " ما من امرأة تضع ثيابها فى غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها " رواه الترمذى وقال: حديث حسن وأبو داودو وابن ماجه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. وروى معنى هذا الحديث عن أم سلمة حين دخل عليها نساء حمص. رواه أحمد وأبو يعلى والطبرانى والحاكم.
3- وعن طاووس عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " احذروا بيتا يقال له الحمام ". قالوا: يا رسول اللَّه ينقى الوسخ. قال " فاستتروا " رواه البزار وقال: رواه الناس عن طاووس مرسلا. قال الحافظ المنذرى: رواته كلهم محتج بهم فى الصحيح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. ورواه الطبرانى فى الكبير بنحو ما رواه الحاكم " الترغيب ج اص 65 " وصححه الألبانى.
4 -عن عائشة قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول " الحمام حرام على نساء أمتى " رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد " الترغيب ج 1 ص 65".
د -وعن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئرر. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام ". رواه النسائى والحاكم وصححه، وحسنه الترمذى "المرجع السابق " وفي ص 66 روى مثله عن طريق أبى سعيد الخدرى.
قال القرطبي فى تفسيره "ج 12 ص 224 ": حرم العلماء دخول الحمام بغير مئزر، وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم بالجُحْفَة، فدخوله للرجال بالمآزر جائز، وكذلك النساء للضرورة، والأولى بهن البيوت إن أمكن. وذكر حديثا لم يصح: أن النبى صلى الله عليه وسلم لقى أم الدرداء عندما خرجت من الحمام فقال لها " والذي نفسى بيده ما من امرأة تضع ثيابها فى غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهى هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل " وذكر حديثا هو أصح إسنادا عن طاووس عن ابن عباس " تقدم تحت رقم 3 ".
ثم يقول القرطبي: دخول الحمام فى زماننا حرام على أهل الفضل والدين، لعدم مراعاة الأدب فى ستر العورة، لا سيما بالديار المصرية، ثم ذكر أن العلماء اشترطوا لدخوله عشرة شروط:
أ - أن يدخل بنية التداوى أو التطهر من العرق إثر الحمى.
2 -أن يتعمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.
3-أن يستر عورته بإزار صفيق.
4 -أن يكون نظره إلى الأرض أو الحائط، لئلا يقع على محظور.
د -أن يغير ما يرى من منكر برفق، نحو، استتر سترك الله.
6 -إن دلكه أحد فلا يمكنه من عورته، من سرته إلى ركبته.
7 - أن يدخل بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس.
8 -عدم الإسراف فى الماء.
9 -إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع أمناء على الدين على كرائه.
10 -أن يتذكر به جهنم.
وذكر حديثا فيه مدح دخوله الحمام، لانه يذكر الإنسان بالنار، فيستعيذ منها ويسأل الجنة، وفيه ذم دخول بيت العروس، لأنه يرغبه فى الدنيا وينسيه الآخرة، ولكن الحديث ليس صحيحا.
وجاء فى القرطبي أيضا أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة:
إنه بلغنى أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين، فامنع من ذلك، وحُلْ دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة. فقام أبو عبيدة وابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسوَّد الله وجهها يوم تبيض الوجوه. انتهىـ. "ج 12 ص 224 ". وفى الشوكانى "ج 1 ص 145 " أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يدخل الحمام ويتنور، أى يستعمل النورة لإزالة الشعر، ولم يبين درجة هذا الحديث، مع أن الحمام لم يكن معروفا ببلاد العرب، أو لم يكن شائعا على الأقل، ويبدو-إن صح هذا الحديث - أن المراد به مكان منعزل يستحم فيه الشخص، وليس حماما عاما بالمعنى المعروف.
وإذا كانت الحمامات المبنية لا يرغب فى دخولها، فما بالك بالحمامات المكشوفة فى النوادى والساحات، وعلى الشواطىء التى لا يلتزم فيها حجاب يستر العورة ولا يعزل الجنسين بعضهما عن بعض؟ إنها أشد نكرا(8/409)
سلس البول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عندى مرض فى المسالك البولية ولا أتحكم في البول فكيف أصل ووضوئى لا يستمر إلا دقائق بسيطة لا تسع أداء الصلاة؟
الجواب
قال العلماء: إن الوضوء ينتقض بالخارج من السبيلين إن كان خروجه فى حال الصحة فإن خرج حال المرض كالسلس كان صاحبه معذورا، وللفقهاء فى ذلك خلاف:
1 -فالشافعية قالوا: ما خرج على وجه السلس يجب على صاحبه التحفظ منه، بأن يحشو محل الخروج ويعصبه، فإن فعل ذلك ثم توضأ ثم خرج منه شىء فهو غير ضار فى إباحة الصلاة وغيرها بهذا الوضوء، وذلك بشرط أن يقدم الاستنجاء على الوضوء، وأن يوالى بين الاستنجاء وبين الوضوء والصلاة، وأن تكون هذه الأعمال بعد دخول الوقت، ويصلى بهذا الوضوء فرضا وما شاء من النوافل، وتكون النية فى الوضوء هى الاستباحة، لا رفع الحدث لأنه لا يرفع بل مستمر.
2 - والمالكية قالوا: لا ينتقض الوضوء بما خرج حال المرض كالسلس، بشرط أن يلازم أغلب أوقات الصلاة أو نصفها، وأن يكون غير منضبط، وألا يقدر على رفعه بعلاج ونحوه، وذلك على المشهور من مذهب مالك، وهناك رأى بأن السلس لا ينتقض وضوءه ولكن يستحب منه الوضوء إذا لم يلازم كل الزمن، ومن استوفى السلس هذه الشروط ندب الوضوء منه، ويصلى صاحب السلس بوضوئه ما شاء إلى أن ينتقض بناقض آخر.
3 - والحفنيه قالوا: من به سلس بول أو ريح أو استحاضة مثلا يقال له معذور، إذا استمر عذره وقتا كاملا لصلاة مفروضة، ويتوضأ لوقت كل صلاة ويصلى ما شاء من الفرائض والنوافل، وينتقض وضؤه بخروج الوقت على تفصيل فى ذلك، وعلى المعذور أن يدفع عذره بكل ما يستطيع.
4 -والحنابلة قالوا: لا ينتقض وضوء من به سلس، بشرط أن يغسل المحل ويعصبه جيدا، وأن يكون الحدث دائما، وأن يكون الوضوء بعد دخول الوقت، وعليه أن يتوضأ لكل وقت، ويصلى بوضوئه مع الفرض ما شاء من فروض ونوافل " ملخص من الفقه على المذاهب الأربعة نشر وزارة الأوقاف "(8/410)
أذكار الوضوء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نسمع بعض من يتوضأون يأتون بأذكار خاصة تتناسب مع أعضاء الوضوء، فهل لهذه الأذكار أصل صحيح؟
الجواب
1 -ليكن معلوما أن من لم يذكر اللَّه أثناء الوضوء فوضوءه صحيح، ومن تكلم بكلام الدنيا فوضوءه أيضا صحيح.
2 - لكن هل الأفضل السكوت أو ذكر اللَّه؟ قال جماعة: الأفضل السكوت، وذلك لاتباع النبى صلى الله عليه وسلم. وقال جماعة: الذكر أفضل، وذلك للأمر بالذكر عموما، وعدم ورود نهى عنه من النبى صلى الله عليه وسلم.
والخلاف جاء بسبب الحديث " من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخارى ومسلم.
فالقائلون بالسكوت قالوا: إن إحداث ذكر يعتبر إحداثا لأمر ليس من الدين، والقائلون بالذكر قالوا: الذكر مطلوب بوجه عام دون التقيد بزمان أو مكان كما قال تعالى {يا أيها الذين أمنوا اذكروا اللَّه ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا} الأحزاب: 41، 42، فالذكر أثناء الوضوء داخل تحت الأمر العام، وعليه فليس فيه إحداث أمر فى الدين ليس منه 3-تسن التسمية فى أول الوضوء، لحديث " كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم فهو أقطع " وفى رواية بالحمد للَّه. رواه أبو داود وغيره وحسنه ابن الصلاح وغيره ولحديث " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " رواه أبو داود وغيره، ولأحاديث أخرى فى سنن البيهقى وحكم هو وغيره بضعفها. ومن تركها سهوا أو عمدا فوضوءه صحيح على رأى جمهور العلماء. وقال الحنابلة بوجوبها لو تركت عمدا بطل الوضوء.
ويسن بعد الانتهاء من الوضوء قول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ففى حديث مسلم أن من قالها فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. وقى رواية الترمذى زيادة " اللهم اجعلنى من التوابين واجعلنى من المتطهرين " وفى رواية ضعيفة للنسائى زيادة " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ". كما رويت أحاديث ضعيفة فى تكرار الشهادة ثلاث مرات " الأذكار للنووى ص 32 " أما الذكر أثناء الوضوء، فقد ورد فيه حديث صحيح عن أبى موسى الأشعرى أنه أتى النبى صلى الله عليه وسلم بوَضوء-بفتح الواو أى الماء الذى يتوضأ به -فسمعته يقول "اللهم اغفر لى ذنبى، ووسع لى فى دارى، وبارك لى فى رزقى " وفيه اختلاف فى مكان هذا الذكر، فرواه ابن السنى على أنه فى خلال الوضوء، ورواه النسائى على أنه بعد الوضوء، وفيه أن أبا موسى قال: يا نبى اللَّه سمعتك تدعو بكذا وكذا، قال " وهل تركن من شىء "؟ .
4 -أما الدعاء على أعضاء الوضوء فلم يرد فيه شىء عن النبى صلى الله عليه وسلم. يقول النووى فى كتابه " الأذكار". قال الفقهاء: يستحب فيه دعوات جاءت عن السلف وزادوا ونقصوا فيها، فالمتحصل مما قالوه: أن يقول بعد التسمية:
الحمد للَّه الذى جعل الماء طهورا، ويقول عند المضمضة: اللهم اسقنى من حوض نبيك صلى الله عليه وسلم كأسا لا أظمأ بعده أبدا، ويقول عند الاستنشاق:
اللهم لا تحرمنى رائحة نعيمك وجناتك، ويقول عند غسل الوجه: اللهم بيض وجهى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، ويقول عند غسل اليدين: اللهم أعطنى كتابى بيمينى وحاسبنى حسابا يسيرا، اللهم لا تعطنى كتابى بشمالى ولا من وراء ظهرى، ويقول عند مسح الرأس اللهم حرم شعرى وبشرى على النار، وأظلنى تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
ويقول عند مسح الأذنين: اللهم اجعلنى من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويقول عند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمى على الصراط المستقيم.
فهذه الأدعية وإن لم يرد بها حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم لا بأس بها، وبخاصة أنها وردت عن السلف، وداخلة تحت الأمر العام بذكر اللَّه ولم يرد نهى عنها(8/411)
التيمم لضيق الوقت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قمت من النوم قبل شروق الشمس بدقائق ولو توضأت أو اغتسلت فاتنى وقت الصبح، فهل يجوز لى أن أتيمم لإدراك الصلاة أو لا يجوز؟
الجواب
إذا وجد الماء وكان الإِنسان قادرا على استعماله ولكنه خشى باستعماله خروج الوقت بحيث لو تطهر لا يدركه، ولو تيمم لأدركه، فللعلماء فى ذلك خلاف.
1 - فأبو حنيفة يقول: لا يجوز التيمم إذا خاف فوات الوقت، ويجوز إذا خاف فوت صلاة الجنازة أو العيد، وقال: الصلاة فى هذه الحالة ثلاثة أنواع، نوع لا يخشى فوته أصلا، وذلك لعدم توقيته، كالنوافل المطلقة غير المؤقتة، ونوع يخشى فواته بدون بدل عنه، كالجنازة والعيدين، ونوع يخشى فواته مع وجود بدل عنه كالجمعة والصلوات المكتوبة المفروضة، فان للجمعة بدلا هو الظهر، وللمكتوبات المفروضة بدلا هو قضاؤها فى غير وقتها. فأما النوافل فإنه لا يتيمم لها مع وجود الماء، إلا إذا كانت مؤقتة كالسنن الراتبة بعد الظهر والمغرب والعشاء، فإن أخرها بحيث لو توضأ فات وقتها فإن له أن يتيمم ويدركها وأما الجنازة والعيد فإنه يتيمم لهما مع وجود الماء إن خاف فواتهما لحديث " إذا فاجأتك جنازة وأنت على غير وضوء فتيمم ". وأما الجمعة والمكتوبة فإنه لا يتيمم لهما مع وجود الماء، بل يجب الوضؤ ولو خاف فوت الوقت، ويصلى بدلها ظهرا، ويقضى المكتوبة، فإن تيمم وصلاها فى الوقت وجبت عليه إعادتها.
2 -والشافعى يقول: لا يتيمم مطلقا خوف خروج الوقت، أو خوف فوات الجنازة أو العيد، لأنه يكون قد تيمم مع فقد شرط التيمم، وهو عدم وجود الماء، فالجمعة لو فاتت تقضى ظهرا، والصلوات المفروضة لو فاتت تقضى فى غير وقتها، والصلوات الأخرى غير واجبة أو غير مؤقتة فلا داعى لصلاتها بالتيمم.
3-وقال مالك: إذا خشى باستعمال الماء فى الأعضاء الأربعة فى الحدث الأصغر، وتعميم الجسد بالماء فى الحدث الأكبر-خروج الوقت، فإنه يتيمم ويصلى، ولا يعيد الصلاة على المعتمد، أما صلاة الجنازة فإنه لا يتيمم لها إلا إذا كان فاقدا للماء وتعينت عليه بأن لم يوجد شخص متوضىء يصلى عليها بدله، وإذا كان تيمم للفرض فإنه يصح له أن يصلى بتيممه على الجنازة تبعا، وأما الجمعة ففى صحة التيمم لها قولان والمشهور لا يتيمم لها.
4 -وقال الحنابلة: لا يجوز التيمم لخوف خروج الوقت إلا إذا كان المتيمم مسافرا وعلم وجود الماء فى مكان قريب، وأنه إذا قصده وتوضأ منه يخاف خروج الوقت، فإنه يتيمم فى هذه الحالة، ويصلى ولا إعادة عليه، وكذلك لو وصل إلى الماء وقد ضاق الوقت عن الطهارة به، أو لم يضق لكنه علم أنه يوزع بالنوبة وأن النوبة لا تصل إليه إلا بعد خروج الوقت، فإنه فى هذه الحالة يتيمم ويصلى ولا إعادة عليه. " الفقة على المذاهب الأربعة نشر وزارة الأوقاف "(8/412)
الكولونيا
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إن الكولونيا والعطور المحلولة فى الكحول نجسة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الحكم فى استعمال الكولونيا والعطور المحلولة فى الكحول متوقف على حكم الكحول نفسه. هل هو نجس أو طاهر، وقد اختلفت أنظار العلماء فيه، بناء على أنه من قبيل المسكرات كالخمر أو من قبيل المواد السامة أو شديدة الضرر، والكل متفقون على حرمة شربه، فهو مسكر وكل مسكر خمر وكل خمر حرام، كما جاء فى السنة النبوية والإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار كما جاء فى السنة أيضا بنصوص كثيرة.
والقائلون بأنه كالخمر اختلفوا فى نجاسته، فالأئمة الأربعة على أن الخمر نجسة، بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} المائدة: 90،حيث قالوا: إن الرجس هو النجس أو المستقذر والخبيث، والشرع قد حكم عليها بأنها رجس وأمر باجتنابها فتكون مع حرمتها نجسة، وعلى هذا يكون الكحول نجسا.
وخالف فى هذا الحكم الإمام ربيعة شيخ الإمام مالك، والليث بن سعد، والمزنى صاحب الإمام الشافعى، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين، فقالوا: إن الخمر طاهرة، واستدل سعد بن الحداد القروى على طهارتها بِسَكْبِها فى طرق المدينة عند ما جاء النص بتحريمها، حيث قال: لو كانت نجسة ما فعل الصحابة ذلك، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلى فى الطرق -أى البول والغائط فيها-وعلى هذا يكون الكحول طاهرا.
وهؤلاء ردُّوا دليل الجمهور على نجاستها-وهو الآية المذكورة - فقالوا: إن الرجس إذا أريد به النجس فالنجاسة هنا حكمية، كنجاسة المشركين الواردة فى قوله تعالى {إنما المشركون نجس} التوبة: 28،ولا شك أن كل محرم نجس حكما، ويقوى ذلك أن الرجس وصف به كل ما ذكر فى الآية مع الخمر، وهو الميسر والأنصاب والأزلام، ولم يقل أحد بنجاسة هذه الأشياء نجاسة عينية، فالخمر لذلك ليست نجاستها عينية بل هى حكمية، ويبقى القول بنجاستها العينية محتاجا إلى دليل، وأجاب الجمهور على ادعاء أن نجاسة الخمر لا نص فيها، وعلى أنه لا يلزم من كونها محرمة أن تكون نجسة، فقالوا:
إن قوله تعالى {رجس} يدل على نجاستها، لأن الرجس فى اللسان -أى اللغة العربية - النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا إذا وجدنا فيه دليلا منصوصا لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليلة.
لكن كما قدمنا إذا كان الرجس هو النجاسة فهو محتمل للنجاسة الحسية والمعنوية كما ذكر فى المشركين، فالدلالة اللفظية هنا ظنية، وليست قطعية، ولو صح قولهم -كما قدمنا-للزم عليه نجاسة الميسر والأنصاب والأزلام، ولم يقل أحد بنجاستها نجاسة حسية،- وقد يرد عليهم بأن الأصل فى الأشياء الإباحة والطهارة ما لم يدل دليل على غير ذلك، ولا يوجد دليل على نجاستها، أما الدليل على حرمتها فثابت بالكتاب والسنة ومن هنا يعوزكم الدليل الخالى من الاحتمال على نجاستها.
كما أجاب الجمهور القائلون بنجاسة الخمر على دليل القائلين بطهارتها وهو سَكْبُها فى طرق المدينة، بأن الصحابة فعلت ذلك لأنه لم يكن لهم سروب - حفر تحت الأرض -أى المجارى، ولا آبار يريقون الخمر فيها، لأن الغالب من أحوالهم اْنهم لم يكن لهم (كُنُف) فى بيوتهم. والضرورات تبيح المحظورات.
وهذا الخلاف كله فى الخمر المتخذة من عصير العنب، أما باقى المسكرات المتخذة من.الشعير والعسل والتين وغيرها فالأئمة الثلاثة على نجاستها، والمذهب المفتى به عند الحنفية أنها نجسة أيضا وإن قال بعضهم بطهارتها.
والخلاصة أن الخمر نجسة عند الجمهور، فيكون الكحول نجسا أيضا عندهم، أما عند غير الجمهور فهى طاهرة، وبالتالى يكون الكحول طاهرا أيضا.
هذا عند من جعل الكحول من المسكرات، أما من جعله من المواد السامة والضارة فهو طاهر كطهارة الحشيش والأفيون وكل ضار، حيث لم يقل أحد بنجاستها نجاسة عينية، وإن كانت نجسة حكما بمعنى أنها محرَّمة.
ومن القائلين بطهارة الخمر من المتأخرين الشوكانى والصنعانى صاحب " سبل السلام " وصدِّيق حسن خان فى كتابه " الروضة البهية " ذاهِبَا إلى أن الأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح، والشيخ محمد رشيد رضا فى تفسير " المنار " مال إلى القول بعدم نجاسة الكحول والخمر، وكذلك العطور المختلطة به، لعدم وجود الدليل الصحيح على النجاسة، ولأن الرجس فى الخمر رجس حكمى بمعنى التحريم، والكحول موجود فى كثير من المواد الغذائية بنسب متفاوتة وهو غير مستقذر لأنه يستعمل فى التطهير، وشيوع استعماله فى الأغراض الطبية والنظافة وغيرها يجعل القول بنجاسته من باب الحرج وهو منفى بنص القرآن، كما حكى الغزالى وجها فى الخمر المحترمة وهى التى اعتصرت بقصد أن تتخذ خلا. ثم ذكر القول بأن ما اعتصره أهل الكتاب من المحترمة، بناء على عدم تكليفهم بفروع الشريعة، فكل خمور أهل الكتاب طاهرة على هذا الوجه.
وينتهى الشيخ محمد رشيد رضا فى تفسيره إلى أن الخمر مختلف فى نجاستها عند علماء المسلمين، وان النبيذ طاهر عند أبى حنيفة وفيه الكحول قطعا، وأن الكحول ليس خمرا، وأن الأعطار الإفرنجية ليست كحولا، وإنما يوجد فيها الكحول كما يوجد فى غيرها من المواد الطاهرة بالإجماع، وأنه لا وجه.
للقول بنجاستها حتى عند القائلين بنجاسة الخمر " انظر تفسير المنار- المجلد الرابع ص 505، 821، 866 ".
هذا بعض من المعركة التى، دارت حول نجاسة الكحول وطهارته بسطناها فى كتابنا " الإسلام ومشاكل الحياة "ج 1. وما دام الأمر خلافيا فلعل من التيسير بعد شيوع استعماله فى الطب والتطهير والتحاليل المختلفة والعطور وغيرها - الميل إلى القول بطهارته إن جعل من المواد السامة والضارة، وإن كان يستعمل أحيانا كالخمر فإن نجاستها غير متفق عليها، وبخاصة إن كانت من غير عصير العنب، وهو يستخرج الآن من مواد مختلفة.
وعليه فلا يجب غسل ما أصابته الكولونيا من البدن والملابس وغيرها، وتصح الصلاة مع وجودها. " انظر الفتاوى الإسلامية المجلد الخامس ص 1652 "(8/413)
الدواجن التى تتغذى بالنجاسات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم أكل الطيور والحيوانات التى تتغذى على النجاسات؟
الجواب
ثار الجدل فى هذه الأيام حول لحم الدجاج الذى يضاف إلى علفه بعض المواد النجسة أو الكيماوية التى تسرع نموها وتزيد حجمها أو وزنها، وكان محور الجدل فى نقطتين، إحداهما صحية والأخرى دينية.
وقد اختلف ذوو الاختصاص والخبرة فى تأثير ذلك على صحة الإنسان، ما بين مثبت للضرر، وبخاصة فى علاقته بالفشل الكلوى والسرطان، وناف لهذا الضرر، وبخاصة بهذه الصورة الرهيبة، مع إشارة بعضهم إلى أن ما يمكن أن يكون من ضرر فهو ليس بهذا الحجم الذى يحرم تناول هذه اللحوم.
ومبدئيا نقول: مادام لم يجزم أهل الذكر بوجود الضرر البيِّن الذى يؤثر تأثيرا بالغا بالصحة والمال والعقل وسائر ما حاطه الإسلام بالرعاية من أجل تأدية الإنسان وظيفته فى الحياة على الوجه المطلوب، فلا وجه للقول شرعا بمنع تناوله لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فما دامت العلة، وهى الضرر المذكور غير محققة فالأصل فى الأشياء الحل، فإن تحققت كان المنع، وقد جاء الشرع لتحقيق المصلحة ومنع المفسدة، والله سبحانه يقول {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} البقرة:195 والنبى صلى الله عليه وسلم يقول فى الحديث " لا ضرر ولا ضرار" رواه ابن ماجه والدارقطنى وغيرهما مسندا:
ورواه مالك فى الموطأ مرسلا، كما قال النووى فى متن " الأربعين حديثا النووية " وقال: حديث حسن.
وعلماء الإسلام تحدثوا عن هذا الموضوع من قديم الزمان بناء على نصوص وردت فى ذلك منها:
1 - عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس.
أخرجه الدارقطنى والحاكم والبيهقى، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال البيهقى: ليس بالقوى.
2 - عن ابن عمر أيضا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها، رواه الخمسة إلا النسائى. وقال الشوكانى " نيل الأوطار ج 8 ص 128 ": حسَّنه الترمذى، واختلف فيه على لد ابن أبى نجيح " فقيل:
عن مجاهد عنه، وقيل: عن مجاهد مرسلا، وقيل: عن مجاهد عن ابن عباس.
3 - عن ابن عباس رضى الله عنهما: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلاَّلة، رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذى، وقال الشوكانى:،وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقى، وصححه أيضا ابن دقيق العيد، ولفظه: وعن الجلالة وشرب ألبانها.
4 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحُمر الأهلية، وعن الجلالة، عن ركوبها وأكل لحومها رواه أحمد والنسائى وأبو داود- وقال الشوكانى: أخرجه أيضا الحاكم والدارقطنى والبيهقى، وفى الباب عن أبى هريرة مرفوعا، وفيه النهى عن الجلالة، قال فى التلخيص: إسناده قوى.
هذا بعض ما ورد عن الجلالة، والكلام فى هذا الموضوع يدور حول تعريف الجلالة ومناط النهى، ودرجة هذا النهى وما ينبغى أن يتخذ حيالها. وما هو المنهى عنه منها.
أ- فالجلالة هى كل ما يتناول العَذِرَة - بكسر الذال - والأرواث، مأخوذ من الجَلَّة-بفتح الجيم -وهى البعرة، وهى تشمل الإبل والبقر والغنم والدجاج والأوز وغيرها من كل ما يتناول هذه المواد.
قال العلماء: ولا يطلق عليها وصف الجلاَّلة إلا إذا كان غالب علفها من النجس، كما جزم به النووى فى تصحيح التنبيه، يقول الخطابى: فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب، وكانت تتناول مع ذلك شيئا من الجلة فليست بجلالة، وإنما هى كالدجاج المخلاّة ونحوها من الحيوان الذى ربما نال الشىء منها وغالب غذائه وعلفه من غيره، فلا يكره أكلها، وجاء فى حياة الحيوان الكبرى للدميرى " مادة سخلة " قوله واختلفوا فيما يناط به الحرمة والكراهة، فقال الرافعى عن " تتمة التتمة ": إنه إن كان أكثر أكلها الطاهرات فليست بجلالة، والأصح أنه لا اعتبار بالكثرة، بل بالرائحة، فإن كان يوجد فى مرقتها أو فيها أدنى ريح النجاسة وإن قلَّ فالموضع موضع النهى، وإلا فلا، وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن موضع النهى ما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها أو كانت تقرب من الرائحة، فأما إذا كانت الرائحة التى توجد يسيرة فلا اعتبار بها، والصحيح الأول، إلحاقا لها بالتغير اليسير بالنجاسة فى المياه:
فإن علفت الجلالة علفا طاهرا مدة حتى طاب لحمها وزالت النجاسة زالت.الكراهة، ولا تقدر مدة العلف عندنا بزمن، بل المعتبر زوال الرائحة بأى وجه كان.
ب - يؤخذ من هذا أن مناط النهى هو وجود رائحة النجاسة وتغير اللحم أو اللبن أو البيض، وذلك تابع فى الغالب إلى كثرة ما تعلف به الدابة من النجاسة أو قوة تأثيره، يقول الدميرى: ثم إن لم يظهر بسبب ذلك تغير فى لحمها فلا تحريم ولا كراهة، ويقول القرطبى فى تفسيره "ج 7 ص 122" بعد ذكر الجلالة: هذا نهى تننزيه وتنظف، وذلك أنها إذا اغتذت الجلة وهى العذرة وجدنتن رائحتها فى لحومها.
ب - فإذا وجدت الرائحة أو تغير اللحم طعما وقال العلماء بمنع تناول لحمها وما ينتج عنه. فما هى درجة هذا المنع هل هى الحرمة أو الكراهة؟ يقول الشوكانى: والنهى حقيقة فى التحريم فأحاديث الباب ظاهرها تحريم أكل لحم الجلالة وشرب لبنها وركوبها، وقد ذهبت الشافعية إلى تحريم أكل لحم الجلالة، وحكاه فى البحر عن الثورى وأحمد بن حنبل، وقيل: يكره فقط، كما فى اللحم المذكى إذا أنتن قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لو غذَّى شاة عشر سنين بأكل حرام لم يحرم عليه أكلها ولا على غيره، وهذا أحد احتمالى البغوى.
قال الدميرى فى السخلة المرباة بلبن كلبة أن لها حكم الجلالة، فيكره أكلها كراهة تنزيه على الأصح فى الشرح الكبير والروضة والمنهاج، وبه جزم الرويانى والعراقيون. وقال أبو إسحاق المروزى والقفال: كراهة تحريم، ورجحه الإمام الغزالى والبغوى والرافعى فى المحرر.
ثم قال الدميرى: وسئل سحنون "من فقهاء المالكية "عن خروف أرضعته خنزيره فقال: لا بأس بأكله، وقال الطبرى: العلماء مجمعون على أن الجَدى إذا اغتذى بلبن كلبة أو خنزيره لا يكون حراما ولا خلاف فى أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة، وقال غيره: المعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك فى الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم ولا رائحة، فقد نقله الله تعالى وأحاله كما يحيل الغذاء، وإنما حرم الله تعالى أكل أعيان النجاسات المدركات بالحواس، كذا قاله أبو الحسن على بن خلف بن بطال القرطبى فى شرح البخارى [ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وهو أحد شيوخ أبى عمرو بن عبد البر رحمة الله تعالى عليه] انتهى ما فى الدميرى.
د - وإذا كان المنع من أكل لحم الجلالة وشرب لبنها منوطا بوجود النتن والتغير فى الطعم والرائحة، فكيف تزول هذه العلة حتى يزول المنع؟ قال جماعة: يكفى زوال الرائحة والطعم بأية وسيلة من الوسائل، وقال آخرون: لابد من حبس الدابة مدة حتى تزول الرائحة. وقال جماعة من هؤلاء لابد مع الحبس من العلف الطيب، وبدون ذلك يكره أكل اللحم وشرب اللبن، جاء فى تفسير القرطبى: وقال أصحاب الرأى والشافعى وأحمد: لا تؤكل حتى تحبس أياما وتعلف علفا غيرها، - يعنى غير الجلة - فإذا طاب لحمها أكلت. وكان ابن عمر يحبس الدجاج ثلاثا ثم يذبح، وقال إسحاق: لا بأس بأكلها بعد أن يغسل لحمها غسلا جيدا، وكان الحسن لا يرى بأسا بأكل لحم الجلالة، وكذلك مالك بن أنس.
ويقول القرطبى: ومن هذا الباب نهُى أن تلقى فى الأرض العذرة عن ابن عمر أنه كان يكرى أرضه ويشترط ألا تُدْمن - تُسَمَّد - بالعذرة، وروى أن رجلا كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر: أنت الذى تطعم الناس ما يخرج منهم. انتهى.
يقول الدميرى فى كتابه حياة الحيوان " مادة دجاج " وفى الكامل والميزان فى ترجمة غالب بن عبد الله الجزرى وهو متروك -عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياما ثم يأكلها بعد ذلك. وذكر فى مادة " سخلة " حديث ابن عمر فى نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس.
وجاء فى" نيل الأوطار "للشوكانى: قال ابن رسلان فى شرح السنن: وليس للحبس مدة مقدرة، وعن بعضهم: فى الإبل والبقر أربعين يوما، وفى الغنم سبعة أيام، وفى الدجاج ثلاثة، واختاره فى المهذب والتحرير، قال الإمام المهدى فى البحر: فإن لم تحبس وجب غسل أمعائها ما لم يستحل ما فيه استحالة تامة ... وقد اختلف فى طهارة لبن الجلالة، فالجمهور على الطهارة، لأن النجاسة تستحيل فى بلطنها، فيطهر بالاستحالة، كالدم يستحيل فى أعضاء الحيوانات لحما ويصير لبنا.
ويقول الدميرى فى " مادة سخلة " بعد نقل ما قيل عن مدة الحبس وأنها محمولة على الغالب عندهم: فإن لم تعلف لم يزُل المنع بغسل اللحم بعد الذبح.ولا بطبخه وشَيَّه وتجفيفه فى الهواء وإن زالت الرائحة بمرور الزمان عند صاحب التهذيب، وقيل بخلافه.
ر- هذا، والممنوع فى الجلالة بوصف كونها جلالة، هو أكل لحمها وشرب لبنها وكذلك أكل البيض، وأيضا حمل الأمتعة عليها، وركوبها بغير حائل بين ما يحمل عليها وبين جلدها، وذلك على سبيل الكراهة فى الركوب.
بعد العرض لأحاديث الجلالة وأقوال العلماء نستخلص أن الدواب التى يخلط علفها بمادة نجسة ولم يظهر فساد فى لحمها أو لبنها أو بيضها، ولا ضرر فى تناوله لا يحرم أكل ذلك ولا يكره، لزوال علة النهى وهى الفساد، أما إن كان علفها كله من مادة نجسة وظهر فساد اللحم واللبن والبيض فالخلاف موجود بين الحكم بالحرمة أو الكراهة التحريمية أو الكراهة التنزيهية، وإن لم يكن فساد فلا حرمة، والأولى علفها بمادة طيبة مدة من الزمان حتى تقبل النفس عليها، فإن بعض النفوس لا تقبل الحلال الذى لا شك فى حله، فقد امتنع النبى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الضب وهو حلال، وجاء فى الصحيحين أنه قيل له: أحرام هو؟ قال " لا، ولكنه لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه " وفى رواية مسلم " لا آكله ولا أحرمه " وفى رواية " كلوه فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامى ". وكلام الأطباء والمختصين فى هذا المقام له وزنه إن أجمعوا عليه(8/414)
الفسيخ
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم أكل الفسيخ والأسماك المملحة؟
الجواب
نشرت مجلة الأزهر فى المجلد الخامس صفحة 243 إجابة للمرحوم الشيخ يوسف الدجوى عن الأسماك المحفوظة بالتمليح جاء فيها، مع زيادة للتوضيح:
إن السمك لا شك فى طهارته حيا أو ميتا لحديث " أحلت لنا ميتتان ودمان:
السمك والجراد والكبد والطحال " رواه أحمد والشافعى وابن ماجه والبيهقى والدارقطنى، وهو ضعيف، وصحح الإمام أحمد وقفه على ابن عمر، كما قاله أبو زرعة وأبو حاتم، ومثل هذا له حكم المرفوع، لأن قول الصحابى: أحل لنا كذا وحرم علينا كذا، مثل قوله أمِرْنا ونُهينا. ولحديث الخمسة أى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وقد سئل الرسول عن الوضوء بماء البحر فقال لا هو الطهور ماؤه الحل ميتته ".
لكن الدم المسفوح نجس، وهو السائل عن مقره فى حال الحياة بنحو الفصد أو بعد الموت ولو بعد التذكية الشرعية من سائر الحيوانات ولو من السمك، خلافا للقابسى وابن العربى، حيث قالا: إن الدم المسفوح من السمك طاهر.
فالسمك إذا مُلِّح ووضع بعضه على بعض صار فسيخا، فإن لم يتحلل منه دم مسفوح كان طاهرا وحل أكله، أما إن خرج منه دم مسفوح بواسطة الضغط عليه بمثقل مثلا فقد صار نجسا لا يحل منه إلا الصف الأعلى، مع غسله قبل أكله، أما الطبقات السفلى فلا يحل أكلها على القول المشهور، وذلك لنجاستها بمرور الدم عليها وعدم إمكان تطهيرها لامتزاجها بالدم. ويحل أكل جميعه على رأى القابسى وابن العربى، وعلى المشهور إن شك فى كونه من الصف الأعلى أو غيره جاز أكله، لأن الطعام لا يطرح بالشك.
هذا هو حكم الفسيخ على مذهب الإمام مالك، ومذهب الحنفية أن السمك لا دم له، فإذا ملِّح حتى صار فسيخا حَل أكله، سواء أكان من الصف الأعلى أم من غيره، وذلك كله ما لم يخش ضرره، وإلا حرم أكله من أجل الضرر لا من أجل النجاسة. انتهى.
بعد هذا العرض يكون أكل الفسيخ حلالا عند الأحناف وبعض المالكية، فليست الحرمة متفقا عليها، والدين يسر، وذلك بشرط عدم الضرر من أكله، ويختم الشيخ الدجوى كلامه بقوله: والورع تركه(8/415)
دخول بيت الخلاء بما فيه قرآن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز دخول بيت الخلاء بحلية أو كتاب فيه اسم الله أو شىء من القرآن؟
الجواب
روى أصحاب السنن وصححه الترمذى عن أنس رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، وقد صح أن نقش خاتمه كان " محمد رسول الله " وذلك أن بيوت الخلاء مستقذرة وتأوى إليها الشياطين والحشرات والهوام، ولذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخلها يقول " اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث " رواه البخارى ومسلم، والخبث -بضم الخاء والباء-جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة، والمراد بهم ذكور الشياطين وإناثهم، وليس من اللائق أن توضع الأشياء الكريمة أو يدخل بها فى مثل هذه الأمكنة.
هذا هو حكم الدخول بأى شىء فيه اسم الله مثل " ما شاء الله " أما الدخول بالقرآن أو بأية منه فقال الأحناف والشافعية بكراهته، وقال المالكية والحنابلة بحرمته، وذلك لمجرد الدخول إذا كان حامله طاهرا أما إذا كان غير طاهر من الحدثين فانه يحرم حمله بصرف النظر عن الدخول وعدم الدخول به فى بيت الخلاء، وذلك عند الشافعية.
ثم قالوا: محل حرمة الدخول أو كراهته إذا لم يكن القرآن مستورا بما يمنع وصول الرائحة الكريهة إليه ولم يخف الضياع عليه، فإن اتخذ كحجاب مجلد، أو خاف ضياعه أو ضياع الحلية المكتوب عليها القرآن جاز الدخول به.
فالمرأة الحاملة لحلية فيها القرآن إن كانت فى بيتها يجب أو يستحب أن تخلعها عند دخول بيت الخلاء، وذلك للأمن عليها. أما إذا كانت فى سفر أو محل عام أو فى محل عمل فيه غيرها وخافت عليها الضياع لو خلعتها فلا بأس بدخول بيت الخلاء وهى لابسة لها.
" انظر: كتاب الفقه على المذاهب الأربعة نشر وزارة الأوقاف، ونيل الأوطار للشوكانى ج 1 ص 85، 86، والفتاوى الإسلامية، المجلد الخامس ص 1599(8/416)
نقض الوضوء بخروج الدم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ينتقض الوضوء بخروج الدم؟
الجواب
عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أصابه قىء أو رعاف أو قلس أو مذى فلينصرف فليتوضأ، ثم لِيَبن على صلاته وهو فى ذلك لا يتكلم " رواه ابن ماجه والدارقطنى، وهو حديث ضعيف كما قاله غير واحد، وقال الحفاظ من أصحاب ابن جريح: يروونه عن ابن جريح عن أبيه عن النبى مرسلا، أى سقط منه الصحابى، وصحح كونه مرسلا الدارقطنى وأبو حاتم والبيهقى.
2 - وورد أيضا حديث لا إذا رعف أحدكم فى صلاته فلينصرف فليغسل عنه الدم ثم لِيُعدْ وضوءه وليستقبل صلاته لا وهو ضعيف أيضا.
3 - وعن ابن عمر رضى الله عنهما عند مالك فى الموطأ: أنه كان إذا رعف رجع فتوضأ ولم يتكلم ثم يرجع ويبنى.
الرعاف هو الدم الذى ينزل من الأنف. والقىء ما يخرج من المعدة إلى الحلق.
والقلس -بفتح القاف وسكون اللام أو فتحها - ما خرج من الحلق أو الجوف ملء الفم أو دونه وليس بقىء، قاله الجوهرى فى الصحاح وابن الأثير فى النهاية. والمذى هو الماء الأبيض الرقيق الذى ينزل من القبل عقب ثوران الشهوة بدون لذة أو تدفق.
4 - أصيب عباد بن بشر بسهام وهو يصلى فاستمر فى صلاته، رواه البخارى تعليقا بدون سند، ورواه أبو داود وابن خزيمة.
5 - عن أنس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه، وهو حديث ضعيف.
بناء على هذه المرويات اختلف الفقهاء فى نقض الوضوء بالدم الخارج من الجسم، فقال الشافعى وأصحابه بعدم نقض الوضوء بخروج الدم من غير السبيلين لا القُبل والدبر" إلا إذا كان من ثقبة تحت المعدة تقوم مقام السبيلين فى خروج الفضلات، وكذلك قال مالك بعدم النقض بخروج الدم من غير السبيلين إلا إذا كان من ثقبة تحت المعدة أو من الفم إذا صار ذلك مخرجا للفضلات يقوم مقام السبيلين مع بعض التوضيحات عندهما فى الخارج من الثقبة.
وسند هؤلاء فى عدم النقض للوضوء بالرعاف والحجامة والجرح أن الأصل عدم النقض للمتوضئ إلا بما يدل عليه دليل مقبول، ولا يوجد هذا الدليل.
يقول الشوكانى: لا يصار إلى القول بأن الدم أو القئ ناقض إلا بدليل ناهض، والجزم بالوجوب قبل صحة المستند كالجزم بالتحريم قبل صحة النقل، والكل من التقول على الله بما لم يقل [يشير بهذا إلى قوله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} النحل: 116،ويؤيد قول هؤلاء الحديث عباد بن بشر، فإنه يبعد ألا يطلع النبى صلى الله عليه وسلم على مثل هذه الواقعة العظيمة ولم ينقل أنه أخبره بأن وضوءه بطل كما يؤيد هذا القول حديث احتجام النبى صلى الله عليه وسلم وعدم وضوئه وإن كان ضعيفا.
أما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا بنقض الوضوء بالرعاف وبنزول الدم من أى مكان فى الجسم، بشرط السيلان الذى يجاوز به الدم محل خروجه، وكذلك قال أحمد بن حنبل بشرط كثرة الخارج من الدم.
وسند هؤلاء هو المرويات الثلاثة الأولى، وهى ضعيفة. أما المذى فهو نافض للوضوء باتفاق لخروجه من القبل.
فإذا خرج بعض الدم من الأسنان أو من أثر الحلافة أو من سكين أو غير ذلك فالوضوء صحيح على مذهب جمهور الفقهاء، والواجب هو تطهير المحل الذى أصابه الدم.
" نيل الأوطار للشوكانى ج 1 ص 257 - 209، الفقه على المذاهب الأربعة "(8/417)
قص الشعر وتقليم الظفر للجنب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز قص الشعر أو الظفر أثناء الجنابة قبل الغسل؟
الجواب
جاء فى شرح الإقناع لمتن أبى شجاع "ج 1 ص 60 "فى فقه الشافعية: قال فى الإحياء-أى إحياء علوم الدين للأمام الغزالى- لا ينبغى أن يحلق أو يقلم أو يستحد-يحلق عانته -أو يخرج دما، أو يُبين -يقطع -من نفسه جزًا وهو جنب، إذْ ترد سائر أجزائه فى الآخرة فيعود جنبا، ويقال: إن كَل شعرة تطالبه بجنابتها.
لكن هذا الكلام لا دليل فيه على منع ذلك أثناء الجنابة، ولا فى مطالبة الجز المفصول بجنابته يوم القيامة، وقد وُجِّه مثل هذا السؤال لابن تيمية كما قال السفارينى فى كتابة " غذاء الألباب ج 1 ص 382 " فأجاب: قد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر الجنب قال " إن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا " فال: وما أعلم لكراهة إزالة شعر الجنب وظفره دليلا شرعيا، بل قد قال النبى صلى الله عليه وسلم للذى أسلم " ألق عنك شعر الكفر واختتن " فأمر الذى أسلم بذلك ولم بأمره بتأخير الاختتان وإزالة الشعر حتى يغتسل، فإطلاق كلامه يقتضى جواز الأمرين، وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط فى غسلها مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر، فعلمنا عدم كراهة ذلك. وأن ما يقال فيه مما ذكر لا أصل له. قال عطاء: يحتجم الجنب ويقلم أظفاره ويحلق رأسه وإن لم يتوضأ، رواه البخارى.
وعلى هنا فلا كراهة فى قص الشعر والظفر أثناء الجنابة. أما دفن قلامة الظفر ومشاطة الشعر فله موضع آخر(8/418)
الدراسة الدينية أثناء الجنابة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سألت مدرسة للدين عن حمل كتاب الدين وفيه آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأحيانا تقرأ بعض الآيات وهى فى عادتها الشهرية، وأحيانا تقرأ القرآن وهى مكشوفة الرأس، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
يحرم على الجنب - ومن الجنابة الحيض والنفاس - الصلاة والطواف والمكث فى المسجد وقراءة القراَن ومس المصحف وحمله.
كما يحرم على الحائض والنفساء الصيام، وعلى الرجل اعتزالها حتى تطهر.
أما حملها لكتاب الدين فليس ممنوعا، لأنه ليس بمصحف ولا ينطبق عليه قول الله تعالى {إنه لقرآن كريم. فى كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون} الواقعة: 77-79، وأما قراءتها للقرآن من غير مس المصحف ولا حمله فممنوعة أيضا عند جمهور الفقهاء، وذلك للحديث الذى رواه أصحاب السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن القراءة شىء إلا الجنابة، وصحح الترمذى هذا الحديث، وقيل: إنه حديث حسن يصلح للاحتجاج به، وكذلك للحديث الذى رواه أحمد عن على رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن، ثم قال " هكذا لمن ليس بجنب،. أما الجنب فلا ولا آية " قال الهيثمى: رجاله موثقون قال الشوكانى: فإن صح هذا الحديث صلح للاستدلال به على التحريم.
كما تمسكوا بحديث رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن " وقد ضعف هذا الحديث وغير الجمهور أجازوا للحائض والجنب قراءة القراَن، ومنهم أهل الظاهر والطبرى والبخارى الذى قال: لا بأس أن تقرأ الحائض الآية، ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأسا.
قال ابن حجر: لم يصح عند البخارى شىء من الأحاديث الواردة فى منع الجنب والحائض وإن كان مجموع ما ورد فى ذلك تقوم به الحجة عند غيره، لكن أكثرها قابل للتأويل.
هذا، وذهب أبو حنيفة، إلى قراءة ما دون الآية (انظر الجزء الثانى من موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام) .
وبعد عرض هذه الآراء يختار قول الجمهور فى المنع، ولا يجوز للحائض أن تقرأ شيئا من القرآن عند دراسة لدين ما دامت لا توجد ضرورة لقراءتها.
كالامتحان مثلا، ويمكنها أن تؤجل دراسة الباب الذى فيه القرآن حتى تطهر، فإن تحتمت القراءة جازت قراءة آية أو أقل أى الاقتصار على الضرورى، محافظة على قدسية القرآن.
أما قراءة الأحاديث النبوية وذكر الله بما ليس بقرآن، والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وإجابة المؤذن فلا حرمة ولا كراهة فيها مع الجنابة.
وقراءة القرآن جائزة ورأس المرأة مكشوف أو كانت بملابس البيت ما دام لا يوجد اْجنبى يراها، وإن كان الأفضل الستر الكامل والطهارة واستقبال القبلة، وذلك لزيادة الأجر.
ولا يجوز لمن عندها العذر الموجب للغسل أن تدخل المسجد وتمكث فيه لحضور مجلس علم حتى تطهر، لأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كما رواه أبو داود وابن ماجه، ويمكنها أن تتلقى العلم بعيدا عن المسحد أو فى مكان ملحق به لا يصلى فيه.
أما حمل المصحف ومسه ففى موضع آخر.
توجيهات للجنب من المستحب أن يبادر الجنب بالطهارة بالغسل لأنها كمال ولأن فيها تنشيطا للبدن وتعويضا لما فقد من قوة، ويكره له أن يؤخرها إلا إذا كان هناك عذر، وهنا يستحب له أن يتوضأ بدل الغسل لمزاولة أعمال غير التى حرمت عليه كالأكل والشرب والنوم والسفر وإن ترك الطهارة بالغسل أو الوضوء عند التمكن من أحدهما كانْ ذلك مكروها لأنه يدل على الاستهانة وقد يصير عادة له.
ومما ورد فى استحباب المبادرة بالطهارة ما ثبت فى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ، وما رواه أبو داود والنسائى وابن حبان فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب " وما رواه البزار بإسناد صحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: " ثلاثة لا تقربهم الملائكة الجنب والسكران والمتضمخ بالخلوق " وهو طيب كان خاصا بالنساء. وما روى من أن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر والجنب.
ويكره للجنب تشييع الجنازة لأن الملائكة تشيع بعض الجنازات كما ثبت فى الصحيح، وربما لا تشيع لوجود جنب مع المشيعين فيمنع الرحمة عن الجنازة.
يقول العلماء: إن الملائكة التى لا تقرب الجنب حتى يغتسل أو يتوضأ هم ملائكة الرحمة، أما الحفظة وغيرهم فلا يفارقونه أبدا، والمراد بالصورة المجسمة وبالكلب غير ما أذن فيه كالحراسة والصيد، ولا بأس من الذبح مع الجنابة وذكر اسم الله، وإن كان الأولى الطهارة(8/419)
التيمم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هي فروض التيمم، وما أسباب نزول آياته في القرآن الكريم؟
الجواب
يجوز للإنسان أن يتيمم بدلا من الوضوء أو الغسل في عدة حالات، منها:
إذا لم يجد الماء أصلا، أو وجده ولكن لا يكفيه للطهارة، أو كان به جراحة أو مرض وخاف من الماء زيادة المرض أو تأخر الشفاء أو كان الماء شديد البرودة وغلب على ظنه حصول ضرر باستعماله وقد عجز عن تسخينه، أو كان الماء قريبا منه وخاف من طلبه فوت الرفقة أو خاف على نفسه أو عرضه أو ماله ضرر من عدو أو حيوان مفترس مثلا، وكذلك إذا عجز عن استخراج الماء من العمق، أو خاف تهمة له يتضرر بها عند استعمال الماء في الغسل، كمن بات عند صديق متزوج وأصبح جنبا بالاحتلام مثلا أو كان محتاجًا إلى الماء في شرب أو طبخ أو عجن أو إزالة نجاسة، أو خاف من استعماله خروج وقت الصلاة.
والتيمم يكون بالتراب الطاهر وكل ما كان من جنس الأرض كالرمل والحجر والجص، وكيفيته: أن يقدم النية ثم يضرب الصعيد الطاهر بيديه ويسمح بهما وجهه ويديه إلى الرسغين، ويكفى في ذلك ضربة واحدة كما تدل عليه الأحاديث القوية. وقال بعض الأئمة، لابد من ضربتين، إحداهما للوجه، والأخرى لليدين، على أن يكون مسحهما إلى المرفقين لا إلى الرسغين.
ويصلي بالتيمم الواحد للوقت ما شاء من الفرائض والنوافل، وقال بعض الأئمة: لا يصلي بالتيمم الواحد إلا فرضا واحدًا وما شاء من النوافل، واشترط بعضهم لصحة التيمم دخول وقت الصلاة ولم يشترط البعض الآخر.
والتيمم ينتقض بكل ما ينتقض به الوضوء والغسل، وكذلك ينتقض بوجود الماء أو القدرة على استعماله لمن عجز عنه.
أما سبب نزول آية التيمم في القرآن الكريم فقد ورد فيه حديث السيدة عائشة رضي اللَّه عنها الذي رواه البخارى ومسلم وغيرهما، قلت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقد لى، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معه ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ فجاء أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم على فخذي قد نام، فعاتبني وقال ما شاء اللَّه أن يقول، وجعل يطعن بيده خاصرتي فما يمنعني من التحرك إلا مكان النبي صلى الله عليه وسلم على فخذي فنام حتى أصبح على غير ماء، فأنزل اللَّه تعالى آية التيمم {فتيمموا صعيدًا طيبًا} قال أسيد بن حضير: ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر، فقالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته(8/420)
حمل كيس البول
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
عملت لى عملية جراحية تحول بها مجرى البول إلى أنبوبة تصب فى كيس أحمله، وقد تتسرب منه بعض النقط، فكيف أصلى؟
الجواب
معلوم أن الصلاة لا تقبل بغير طهارة من الحدث والنجس، وخروج شىء من السبيلين المعتادين وهما القبل والدبر، من بول أو غائط أو ريح يبطل الوضوء أما الخارج من غير السبيلين كفتحة فى البطن، فقد اختلف فيه العلماء، فالشافعية والمالكية يقولون: إذا انقطع الخروج من السبيلين أو من أحدهما، أو انسد المخرج المعتاد لعارض، فإن الخارج ينقض الوضوء، والحنابلة يقولون بالنقض فى كل الأحوال.
أما الحنفية فيقولون: إن الخارج النجس من غير السبيلين ينقض الوضوء إذا سال وتجاوز موضع خروجه واستمر نزوله وكان صاحبه معذورا. والحالة الواردة فى السؤال ينطبق عليها حكم سلس البول، فصاحبها يوالى بين الاستنجاء والوضوء والصلاة ويصلى بالوضوء فى الوقت ما شاء من الفرائض والنوافل، " فتاوى معاصرة للشيخ جاد الحق على جاد الحق ص 81، 82"(8/421)
الصبيان والمساجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يصحب بعض المصلين أولادهم إلى المساجد فيعارضهم آخرون لما يحدث منهم من تشويش، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
نحن مأمورن بأن نعود أولادنا منذ الصغر على الصلاة والصيام وسائر أعمال الخير، حتى إذا بلغوا حد التكليف كانت ممارستها سهلة عليهم، وفى ذلك يقول النبى صلى الله عليه وسلم " مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم فى المضاجع ". رواه أبو داود بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وثبت أن الصحابة عندما فرض الصيام كانوا يصومون أطفالهم، ويحضرون لهم كرات الصوف ليتسلوا بها حتى يحين وقت الإفطار، كما رواه البخارى ومسلم عن الربيِّع بنت معوِّذ.
وكما يندب تدريب الأولاد على الصلاة والطاعات فى المنازل، يندب تدريبهم على الأعمال الجماعية لتقوية روح الاجتماع فى نفوسهم، ومن ذلك شهودهم لصلاة الجمع والجماعات فى المساجد، وتحدث الفقهاء عن ترتيب صفوف الجماعة فقالوا: يكون الرجال فى الصفوف الأولى ثم يليهم الصبيان ثم يليهم النساء.
ومع ذلك جاء حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخدوا على أبوابها المطاهر وجمروها فى الجمع " رواه ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع ورواه الطبرانى فى معجمه الكبير عن أبى الدرداء وأبى أمامة وواثلة، ورواه أيضا فى الكبير بتقديم وتأخير من رواية مكحول عن معاذ ولم يسمع منه. هكذا قال الحافظ المنذرى فى كتابه " الترغيب والترهيب ".
وإذا كان فى الحديث ضعف فإن هناك مرويات قوية بخصوص ما جاء فيه، ويمكن قبوله فى فضائل الأعمال التى منها المحافظة على نظافة المساجد وتوفير الجو الهادى الذى يليق بمكانتها ويساعد المتعبدين على أداء عبادتهم فى خشوع، ومن أجل هذا نهى الحديث عن الأمور المذكورة فيه.
وقد جاء فيه تجنيب الصبيان والمجانين للمساجد لأن الغالب منهم صدور أعمال تتنافى مع كرامة المسجد وتؤذى المتعبدين، وحتى لا يكون هناك تعارض بين صلاة الصبيان فى المساجد والأمر بإبعادهم عنها قال العلماء: إن التجنيب يكون للأطفال غير المميزين الذين يكثر منهم العبث، أما المميزون العقلاء فلا بأس باصطحابهم إلى المساجد ومشاركتهم للكبار فى الصلاة والعبادة وأعمال الخير، مع متابعة تنبيههم على المحافظة على آداب المساجد والآداب الاجتماعية بوجه عام.
وقد حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ الحسن معه إلى المسجد فكان يركب على ظهره وهو ساجد فى الصلاة فيطيل السجود رحمة به، كما جاء فى روايات لأحمد والنسائى والحاكم وغيرهما، وحمل العلماء ذلك على ضمان ألا يكون فى دخولهم المسجد تشويش وعبث، أما ترك الأطفال يعبثون بدون رقابة فهو الممنوع.
وكذلك لم يكن اصطحاب النبى للأطفال اعتياديا ومستمرا، بل فلتات أو فى بعض الأحيان(8/422)
الكلام أثناء الوضوء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى الحديث أثناء الوضوء؟
الجواب
الحديث أثناء الوضوء لا يبطله وإن كان مكروها، فالمستحب الانصراف إلى العبادة ومقدماتها وذلك لإتقانها، وإن كان هناك كلام فليكن بذكر الله وبالخير، وسوف يجىء الكلام عن الأذكار التى تقال عند الوضوء، قبله أو أثناءه أو بعده(8/423)
التطهير بالمسح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن يكتفى فى تطهير السكين من أثر الدم بمسحها دون غسلها؟
الجواب
كان الصحابة رضى اللَّه عنهم يصلون وهم حاملو سيوفهم وقد أصابها الدم فكانوا يمسحونها ويجتزئون بذلك، ويقاس على السيوف كل صقيل ليست له مسام مثل المرآة والسكين والظفر والعظم والزجاج والأوانى، فيكتفى بالمسح الذى يزول به أثر النجاسة "فقه السنة ص ا 3 من المجلد الأول نشر دار الكتاب العربى-بيروت "(8/424)
الوشم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعت من أحد العلماء أن الرجل الذى بيديه وشم لا يصح أن يكون إماما فى الصلاة فهل هذا صحيح؟
الجواب
قال الخطيب الشافعى: الوشم -وهو غرز الجلد بالإبرة-حرام للنهى عنه، فتجب إزالته وذلك إذا لم يخف ضررا من الأضرار التى تبيح التيمم - بإحداث مرض أو زيادته - فإن خاف لم تجب إزالته ولا إثم بعد التوبة.
وهذا كله إذا فعله برضاه بعد بلوغه، وإلا فلا تلزمه إزالته، وتصح صلاته وإمامته لغيره، ولا ينجس ما وضع يده فيه مثلا إذا كان عليها وشم.
ومن هذا يعلم أن الرجل المذكور فى السؤال تجب عليه إزالة الوشم الذى فعله باختياره بعد البلوغ، وهذا إن كانت إزالته بطريقة لا تضر العضو الموشوم، فإن كانت الإزالة تضره فلا حرج وتصح صلاته، أما من وُشِمَ صغيرا فلا يجب عليه إزالة الوشم وبالتالى تصح صلاته وإمامته.
والوشم منهى عنه بحديث "لعن اللَّه الواشمة والمستوشمة" والصحيح أن حرمته مرتبطة بقصد الغش والتدليس، أو الفتنة والإغراء، وإن كان البعض حرمه لأن فيه تغييرا لخلق اللَّه، ولأن الدم النجس انعقد بسبب اللون الموشوم به،ولا تزول نجاسته بالغسل كسائر النجاسات، ومن هنا حكم بعدم صحة الصلاة إلا بعد إزالته إن أمكن بدون ضرر كما تقدم توضيحه.
وكان الوشم معروفا عند العرب قبل الإسلام كغيرهم من الأمم. وكان يقصد به الجمال إن كان فى شفتى المرأة، ويعرف باللَّمَى، فاللمياء حسنة فى أعين الرجال عندهم، كما قصد به فى بعض البلاد تمييز القبائل بعضها عن بعض، بخطوط ذات اتجاهات وأعداد متنوعة، كالموجودة فى بلاد النوبة جنوبى مصر، كما يعمل لأغراض أخرى فى مواضع معينة من الجسم من أجل الجمال فى عرف بعض القبائل، أو إظهار البأس والقوة وغير ذلك من الأغراض.
ولزيادة المعلومات عنه انظر ص 298 من الجزء الثالث من كتابنا "الأسرة تحت رعاية الإسلام"(8/425)
احتلام الضيف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن ينزل إنسان ضيفا على إنسان آخر ويعتريه فى نومه الاحتلام الذى يوجب الغسل، فكيف يتصرف منعا للشبهة؟
الجواب
إذا علم الضيف من صلته القوية وصداقته المتينة لصاحب البيت أنه لا يظن به سوءا كان عليه أن يطلب الاستحمام للصلاة، أما إذا تيقَّن أو غلب على ظنه أنه سيتهمه بسوء فإنه يمكن بأسلوبه اللبق أن يطلب ذلك، كأن يدعى أنه يريد النظافة لطول عهده مثلا بالاستحمام أو يريد التبرد من شدة الحر مثلا، وذلك محاولة أن يصرف ذهن صاحبه عن الظن السيئ به، وذلك على مثال ما قال العلماء للمصلى الذى يخرج منه ناقض "للوضوء" وهو فى الصلاة فإنه ينصرف منها واضعا يده على أنفه لإيهام الناس أن به رعافا لا أنه أحدث فى الصلاة.
على أن جماعة من العلماء قالوا: يجوز له التيمم عند ضيق الوقت ويصلى حتى لا تفوته الصلاة، ثم يتصرف فى الغسل بعد ذلك بطريقة تنقذه من هذا الحرج. هذا وخوف اتهام الضيف بالسوء يكون لو نام فى الدور أو الشقة التى فيها حريم، أما لو كان نائما فى مكان منعزل عن الحريم فالواجب عليه أن يغتسل فى البيت أو خارجه، ولا يعبأ بشك صاحب البيت، لأنه حينئذ يكون متجنيا عليه وظالما له، وبخاصة إذا كان الضيف معروفا بالخلق الطيب واستقامة السلوك، فلا يخشى بأسا من الاغتسال، فالمؤمن المستقيم جدير بأن يدفع اللَّه عنه قالة السوء.
وإذا أعيته الحيل لدفع الشكوك والظنون السيئة عنه قال بعض العلماء: إنه صار كالسجين فى بيت صديقه، فيسقط عنه الغسل اتقاء للتهمة، ولأن الضرورات تبيح المحظورات، وهنا يقول بعض علماء الحنفية: يجب عليه أن يصلى بدون غسل فى الوقت، لحرمة الوقت ولكن صلاة غير حقيقية، بل يتشبه بالمصلين فى الحركات ولا ينوى ولا يقرأ ولا يصلى إماما، ثم يعيد الصلاة بعد التمكن من الغسل.
وقال بعض المحققين: يستحسن له أن يتوضأ عقب الاحتلام ويصلى الصلاة الصورية رمزا لمواظبته على طاعة اللَّه ثم يعيدها بعد الغسل "نور الإسلام - مايو - 1949 م "(8/426)
نجاسة الخنزير
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الفراجين "الفُرش " التى تصنع من شعر الخنزير؟
الجواب
معلوم أن لحم الخنزير يحرم أكله كما قال تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} المائدة: 3، وتحريم أكل اللحم يشمل تحريم كل أجزائه من الشحم والكبد والطحال وغيرها، لقوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحى إلىَّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} الأنعام:145، لأن الضمير فى قوله {فإنه رجس} عائد على لفظ الخنزير لا على لفظ "لحم " لأن تحريم اللحم معلوم بالنص عليه، فلو عاد الضمير عليه لزم خلو الكلام من فائدة التأسيس، فوجب عوده إلى كلمة "خنزير" ليفيد الكلام تحريم بقية أجزائه.
ومع تحريم أكل أى جزء منه فهو نجس، لأن الله وصفه بأنه رجس، والرجس هو النجس، وجمهور الفقهاء على نجاسته حيا وميتا بدليل هذه الآية، وإن كان فى الدليل مناقشة، فقد يراد بالنجاسة النجاسة الحكمية وهى حرمة الأكل، وليس النجاسة العينية، كنجاسة المشركين فى قوله تعالى {إنما المشركون نجس} فالمراد نجاسة الاعتقاد وليس النجاسة العينية، حيث لم يقل أحد بأن المشرك ينجس. على مثل ما جاء فى قوله {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} فنجاسة الأنصاب والأزلام حكمية وهى الحرمة وليست نجاسة عينية.
ولما كانت الآية لا تدل دلالة قطعية على نجاسة الخنزير نجاسة عينية استدل بعض العلماء على ذلك بالقياس على نجاسة الكلب، لأنه أسوأ حالا منه حيث لا يجوز الانتفاع به، لكن هذا الدليل غير مسلَّم، لأن الحشرات لا ينتفع بها ومع ذلك هى طاهرة.
ومن هنا قال النووى: ليس لنا-أى الشافعية-دليل على نجاسة الخنزير، بل مقتضى المذهب طهارته كالأسد والذئب والفأر، وقال ابن المنذر الإجماع على نجاسة الخنزير، لكن دعوى الإجماع فيها نظر، لأن مالكا يخالف فيه ويقول بطهارته.
نخلص من هذا إلى أن الخنزير يحرم أكله، أما طهارته فالجمهور على أنه نجس، والبعض قال إنه طاهر كالحمار والذئب يحرم أكلهما ومع ذلك طاهران.
وكل حيوان لم يذبح ذبحا شرعيا أو كان مما يحرم أكله حتى لو كان طاهرا حال حياته كالحمار فإنه يعتبر "ميتة" ولحم الميتة مع حرمة أكله نجس، والنجاسة تشمل الجلد والشعر وكل ما يتصل به، غير أن جلد الميتة يطهر بالدباغ عند الجمهور، إلا جلد الكلب والخنزير فلا يطهره الدباغ، ومثله الفراء والشعر، ومذهب داود الظاهرى وأبى يوسف أن الدباغ يطهر كل جلود الميتة حتى الكلب والخنزير، لأن الأحاديث الواردة فى ذلك (من هذه الأحاديث ما رواه مسلم " أيما إهاب دبغ فقد طهر" وما رواه الدارقطنى " طهور كل أديم دباغه ".) لم يفرق فيها بين الكلب والخنزير وما سواهما، ذكره النووى فى شرح صحيح مسلم ونقله الشوكانى فى نيل الأوطار " ج 1ص 75". وعليه فلا يجوز استعمال جلد الخنزير وشعره فى ملابس أو أحذية أو غيرهما على رأى جمهور العلماء.
هذا هو حكم شعر الخنزير إذا أخذ بعد موته، أما إذا أخذ حال حياته فإن حكمه كحكم ميتته، وميتته نجسة فشعره بالتالى نجس، وذلك لحديث رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين "ما قطع من حى فهو كميتته " [الإقناع للخطيب ج 1 ص 24] واستثنى العلماء من هذا الحديث شعر وصوف ووبر مأكول اللحم فهى طاهرة، وعلى هذا لا يجوز استعمال شعر الخنزير إذا قص منه وهو حى فى عمل الفراجين "الفرش " حتى لو غلى هذا الشعر وعقم سواء أخذ حال الحياة أو بعد الموت، لأن هذه الإجراءات الصحية لا تطهره، بل هى للتأكيد من خلوه من الأمراض المعدية، والنجاسة باقية، لأنها نجاسة عين لا تطهر بهذه الوسائل مطلقا، بخلاف الشيء الطاهر الذى لاقته النجاسة فإنه يقال عنه إنه متنجس، ويطهر بالغسل بالماء على ما هو مفصل فى كتب الفقه.
هذا، وقد يُقرأ فى بعض الكتب أن شعر الخنزير يجوز الانتفاع به فى خرازة النعال، لما روى أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لا بأس، كما رواه ابن خويز منداد، فكانت الخرازة به موجودة فى عهد النبى وبعده، ولم يعلم أنه أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده.
لكن جواز خرازة النعال بشعر الخنزير لا ينفى نجاسته، ولذلك لا يجوز المسح على النعل المخروز به ولا الصلاة فيه، وإن أجاز بعضهم ذلك فهو عند الضرورة "حياة الحيوان الكبرى للدميرى-خنزير برى"(8/427)
الوضوء من لحوم الإبل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
وردت أحاديث تأمر بالوضوء من لحوم الإبل ومما مسته النار، وتنهى عن الصلاة فى مبارك الإبل دون مرابض الغنم، فهل هذا صحيح وما الحكمة فى ذلك؟
الجواب
روى مسلم أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ" قال الرجل: أتوضأ من لحوم الإبل، قال: "نعم فتوضأ من لحوم الإبل " قال الرجل: أصلى فى مرابض الغنم؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم "نعم " قال الرجل: أصلى فى مبارك - الإبل؟ قال "لا".
وروى مسلم أيضا "إنما الوضوء مما مست النار، توضأوا مما مست النار".
وروى أبو داود عن جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار"؟ ذهب أكثر العلماء إلى أن أكل لحوم الإبل لا ينقض الوضوء، قال النووى: ممن ذهب إلى ذلك الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأبى بن كعب وابن عياض. . . وجماهير من التابعين، ومالك وأبو حنيفة والشافعى وأصحابهم، محتجين بحديث جابر المذكور وهو عام يشمل لحوم الإبل وغيرها، وذهب أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه ويحيى ابن يحيى وأبو بكر بن المنذر وابن خزيمة،، وحكى عن أصحاب الحديث وعن جماعة من الصحابة، إلى انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل اعتمادا على الحديثين الأولين. والجمع بين أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحوم الإبل وما كان عليه فى آخر الأمر من ترك الوضوء مما مست النار-هذا الجمع فيه كلام كثير لعلماء الأصول لا يتسع له المقام، وقد رأى بعض العلماء أن الأمر بالوضوء يراد به غسل اليدين، أى الوضوء اللغوى.
وإن كان هذا الرأى فيه مناقشة عند إيراده للجمع بين الوضوء وعدمه. والمختار للفتوى هو رأى جمهور الفقهاء من عدم نقض الوضوء بأكل لحوم الإبل أو ما مسته النار ... . أما الصلاة فى مبارك الإبل فهى حرام عند أحمد، وقال: لا تصح،فإن صلى فعليه الإعادة، وسئل مالك عمن لا يجد إلا عطن إبل هل يصلى فيه؟ فقال: لا يصلى فيه، قيل:
فإن بسط عليه ثوبا؟ قال: لا، وقال ابن حزم: لا تحل فى عطن إبل.
أما جمهور الفقهاء فقالوا: إن الصلاة تصح فى مبارك الإبل، وحملوا النهى على الكراهة إذا لم تكن هناك نجاسة، وعلى التحريم إن وجدت النجاسة، وليست علة قولهم هى النجاسة، فإنها موجودة فى مرابض الغنم، بل لأن الإبل فيها نفور، فربما نفرت والإنسان يصلى فيؤدى نفورها إلى قطع الصلاة أو إلى أذى يحصل له منها، أو يشوش بخاطره ويلهيه عن الخشوع، ويؤيد هذا التعليل حديث أحمد بإسناد صحيح "لا تصلوا فى أعطان الإبل فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت " أما الصلاة فى مرابض الغنم فهى جائزة بنص الحديث لعدم وجود العلة الموجودة فى مبارك الإبل(8/428)
التيمم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو القدر الواجب مسحه من اليدين بالتراب عند التيمم؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن عمار بن ياسر رضى الله عنه أنه لما أصابته الجنابة ولم يجد ماء تمرغ فى التراب قال له الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما كان يكفيك هكذا" وضرب بكفيه الأرض "ونفخ فيهما " ثم مسح بهما وجهه وكفيه. وجاء فى رواية الدارقطنى أنه قال له "ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين ".
يفيد هذا أن ضرب الأرض بالكفين كان مرة واحدة، وأنه مسح بهما وجهه وكفيه إلى الرسغين وليس إلى المرفقين.
وجمهور الفقهاء على أن الضرب يكون مرتين، مرة للوجه ومرة لليدين، وذلك لورود حديث بذلك "التيمم ضربتان " والشافعية والحنفية قالوا: مسح اليدين يكون إلى المرفقين، أما المالكية والحنابلة فقالوا: الفرض هو المسح إلى الكوعين "الرسغين ". وأما المسح إلى المرفقين فهو سنة، كما فى "فقه المذاهب الأربعة ".
وفى نيل الأوطار للشوكانى ج 1 ص 286، 287 مناقشة للأدلة ظهر منها أن حديث " التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين " ضعيف، ونقل عن النووى فى شرح مسلم أن المسح إلى المرفقين هو قول مالك وأبى حنيفة، وأن المسح إلى الكفين هو مذهب أحمد، الأمر يحتاج إلى توفيق بين ما فى فقه المذاهب والنقل عن النووى، لكن الخلاصة أن هناك رأيين فى عدد الضربات أحدهما يكتفى بضربة واحدة، والآخر يوجب ضربتين، وكذلك هناك رأيان فى القدر الواجب مسحه من اليدين، أحدهما إلى الرسغين والآخر إلى المرفقين(8/429)
إزالة النجاسة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك رأى يقول: إن إزالة النجاسة وتطهير البدن والثوب منها أمر مستحب غير واجب، بحيث تصح الصلاة مع النجاسة؟
الجواب
جاء فى تفسير القرطبى"الجامع لأحكام القرآن "ج 8 ص 262:
اختلف العلماء فى إزالة النجاسة من الأبدان والثياب - بعد إجماعهم على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش - على ثلاثة أقوال:
الأول: أن إزالتها واجبة مفروضة، فلا تجوز صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا، وهو قول الشافعى وأحمد، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبى الفرج المالكى والطبرى، إلا أن الطبرى قال: إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة، وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف فى مراعاة قدر الدرهم، قياسا على حلقة الدبر.
الثانى: أن إزالة النجاسة واجبة بالسنة من الثياب والأبدان، وجوب سنة وليس بفرض، قالت بذلك طائفة، فمن صلى بثوب نجس أعاد الصلاة فى الوقت فإن خرج الوقت فلا شىء عليه، هذا قول مالك وأصحابه إلا أبا الفرج ورواية ابن وهب عنه، وقال مالك فى يسير الدم:
لا تعاد منه الصلاة فى الوقت ولا بعده. وتعاد من يسير البول والغائط، ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث.
الثالث: قال ابن القاسم: تجب إزالة النجاسة فى حال الذّكْر دون النسيان، وهى من مفرداته.
والقول الأول أصح، بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال "إنهما ليعذبان، وما يعذبان فى كبير، أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله " رواه البخارى ومسلم، ولا يعذب الإنسان إلا على ترك واجب. وروى أحمد وابن ماجه والحاكم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر عذاب القبر من البول ".
واحتج من قال بأن إزالتها سنة والصلاة بها صحيحة بخلع النبى نعليه فى الصلاة لما أعلمه جبريل عليه السلام أن فيهما قذرا وأذى كما رواه أبو داود وغيره، قالوا: ولمَّا لم يعد الرسول صلى الله عليه وسلم ما صلى دل على أن إزالتها سنة وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام فى الوقت، طلبا للكمال.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة أن إزالة النجاسة واجبة عن بدن المصلى وثوبه ومكانه، إلا ما عفى عنه لتعذر إزالته أو عسر الاحتراز منه، دفعا للحرج، أما عن ثوب المصلى فلقوله تعالى: {وثيابك فطهر} المدثر: 4، وأما عن البدن فلأن البدن أولى بالطهارة من الثوب المنصوص على طهارته فى الآية.
والمالكية لهم قولان مشهوران فى إزالة النجاسة، أحدهما أنها تجب شرطا فى صحة الصلاة، وثانيهما أنها سنة، وشرط وجوبها أو سنيتها أن يكون ذاكرا للنجاسة قادرا على إزالتها، فإن صلى أحد بالنجاسة وكان ناسيا أو عاجزا عن إزالتها فصلاته صحيحة على القولين، ويندب له إعادتها فى الوقت، أما إن صلى بها عامدا أو جاهلا فصلاته باطلة على القول الأول وصحيحة على القول الثانى، فتجب عليه إعادة الصلاة أبدا، فى الوقت أو بعده على القول الأول لبطلانها، ويندب له إعادتها أبدا على القول الثانى. انتهى.
2 - وجاء فى كتاب المغنى لابن قدامة "ج 1 ص 717".
أن الطهارة من النجاسة فى البدن والثوب شرط لصحة الصلاة فى قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعى وأصحاب الرأى [الأحناف] .
ويروى عن ابن عباس أنه قال: ليس على ثوب جنابة، ونحوه عن سعيد بن جبير والنخعى، وقال ابن أبى ليلى: ليس فى ثوب إعادة، ورأى طاوس دمًا كثر فى ثوبه وهو فى الصلاة فلم يباله، يقول ابن قدامة: ولنا -أى الحنابلة- قول الله تعالى {وثيابك فطهر} قال ابن سيرين: هو الغسل بالماء، وعن أسماء بنت أبى بكر قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون فى الثوب فقال "اقرصيه وصلى فيه ". وفى لفظ قالت: سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تصلى إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر، أتصلى فيه؟ قال: "تنظر فيه، فإن رأت فيه دما فلتقرصه بشىء من ماء، ولتنضح ما لم تر، ولتصل فيه "رواه أبو داود ثم ذكر حديث صاحبى القبرين، وقال: لأنها - أى طهارة الثوب - إحدى الطهارتين - الحدث والنجس - فكانت شرطا للصلاة كالطهارة من الحدث. انتهى.
والخلاصة أن طهارة الثوب والبدن شرط لصحة الصلاة عند جمهور الأئمة وليست شرطا عند بعض التابعين كسعيد بن جبير وطاوس وبعض العلماء كالنخعى وابن أبى ليلى، وعن ابن عباس روايتان.
ودليل الجمهور "فى الثوب "" قوله تعالى {وثيابك فطهر} والمراد غسل النجاسة بالماء كما قال ابن سيرين، ويؤيده قول النبى صلى الله عليه وسلم لعائشة عن دم الحيض فى الثوب " اقرصيه وصلى فيه " وفَسَّر القرص بالغسل كما فى رواية لأبى داود " فلتقرصيه بشىء من ماء".
وفى بعض روايات أبى داود: بلَّته بريقها ثم قصعته بظفرها. وهو يدل على العفو، لأن الريق لا يطهر به ودليل الجمهور "فى البدن " حديث الاستبراء أو الاستنزاه من البول، وقياسه على طهارته من الحدث.
وشبهة المخالفين عدم وجود آية فى ذلك، أى فى غسل الثياب، وأن الثياب ليس عليه جنابة، وعدم مبالاة طاوس بالدم الكثير فى الصلاة.
والرد عليهم أن الآية موجودة وهى {وثيابك فطهر} وأن عدم الجنابة على الثوب لا ينافى نجاسته، وعدم مبالاة طاوس لا تدل على صحة الصلاة، فهو رأى له، ولعل الدم الكثير كان دم براغيث يشق الاحتراز عنه.
أما طهارة المكان فقد يستدل عليها بصب الماء على بول الأعرابى فى المسجد(8/430)
التطهير بماء زمزم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نحن نعلم أن ماء زمزم مقدس، فهل يجوز التطهر منه بالوضوء والغسل؟
الجواب
جاء فى فتاوى النووى المسماة بالمسائل المننثورة، فى المسألة الخامسة: لا تكره الطهارة بماء زمزم عندنا-الشافعية-وبه قال العلماء كافة، إلا أحمد فى رواية. دليلنا أنه لم يثت فيه نهى، وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " الماء طهور لا ينجسه شىء"-أخرجه أحمد من حديث أبى سعيد الخدرى - وأما ما يقال عن العباس من النهى عن الاغتسال بماء زمزم فليس بصحيح عنه. انتهى(8/431)
الإسراف فى الماء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نحن نعلم أن الإسراف بوجه علم مذموم، فهل الإسراف فى الماء عند الوضوء أو الغسل مذموم على الرغم من توافر الماء؟
الجواب
من المعلوم أنه من السنة فى الوضوء والغسل أن يكون ثلاث مرات، حتى يتأكد الإنسان من طهارة ما يغسل، مع العناية بالأماكن التى تحتاج إلى مزيد من النظافة.
وما زاد على المرات الثلاثة التى عمت العضو كله أو البدن كله كان إسرافا منهيا عنه، بالنصوص العامة المعروفة. ذلك إلى جانب نصوص خاصة بذلك:
جاء فى "كشف الغمة" للشعرانى "ج 1 ص 61 " حديث "لا تسرف فى الماء ولو كنت على طرف نهر جار"وحديث "لا تسرف " قيل: يا رسول الله: وفى الوضوء إسراف؟ قال "نعم، وفى كل شىء إسراف لما رواه الحاكم وابن عساكر مرسلا. وحديث "لا تسرف " رواه ابن ماجه عن ابن عمر.
وجاء فى "المغنى لابن قدامة ج 1 ص 228" عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد بن أبى وقاص وهو يتوضأ، فقال " ما هذا السرف "؟ فقال: أفى الوضوء إسراف؟ قال " نعم وإن كنت على نهر جار" رواه ابن ماجه. وعن أبى بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن للوضوء شيطانا يقال له "ولهان " فاتقوا وسواس الماء" رواه أحمد وابن ماجه.
هذا، وروى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. وروى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يغسله الصاع من الماء من الجنابة ويوضئه المد. وتحدث ابن قدامة فى صفحة 226 عن الصاع والمد بالتقديرات المعروفة قديما. ورأى الفقهاء فيها. والمهم أن الزيادة على ما يعم العضو ثلاث مرات يعد إسرافا.
وحكم هذا الإسراف أنه مكروه إذا كان الماء مملوكا أو مباحا، أما الماء الموقوف على من يتطهر. ومنه ماء المرافق العامة-فإن الزيادة فيه على الثلاث حرام، لكونها غير مأذون فيها. أخرج أحمد والنسائى وابن ماجه وأبو داود وابن خزيمة من طرق صحيحة أن أعرابيا سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا وقال "هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم " قال ابن المبارك: لا آمن إذا زاد فى الوضوء على الثلاث أن يأثم.
وقال أحمد وإسحاق: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى " نيل الأوطار ج 1 ص 190 "(8/432)
البول قائما
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن التبول والإنسان واقف منهى عنه، مع أن كثيرا من دورات المياه فى الأماكن العامة يكون التبول فيها عن قيام؟
الجواب
جاء فى "زاد المعاد" لابن القيم "ج 1 ص 43" أن أكثر ما كان يبول النبى صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، يرتاد لبوله اللين الرخو من الأرض، وإذا كانت هناك أرض صلبة أخذ عودا من الأرض فنكت به حتى يثرى، يعنى حتى يكون فيه ثرى ورماد، وقالت عائشة رضى الله عنها: من حدثكم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا.
وقد روى مسلم فى صحيحه من حديث حذيفة أنه بال قائما، فقيل هذا بيان للجواز، وقيل: إنما فعله من وجع كان بمأبطه، وقيل: فعله استشفاء.
قال الشافعى رحمه الله: والعرب تستشفى من وجع الصلب بالبول قائما، والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزها وبعدا من إصابة البول، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم - وهو ملقى الكناسة، ويسمى المزبلة وهى تكون مرتفعة - فلو بال فيها الرجل قاعدا لارتد عليه بوله، وهو صلى الله عليه وسلم استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط، فلم يكن بد من بوله قائما، والله أعلم.
ثم قال ابن القيم: وقد ذكر الترمذى عن عمر بن الخطاب قال: رآنى النبى صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما، فقال " يا عمر لا تبل قائما" فما بلت قائما بعد، قال الترمذى: وإنما رفعه عبد الكريم بن أبى المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث.
وفى مسند البزار وغيره من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من الجفاء، أن يبول الرجل قائما، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ فى سجوده " ورواه الترمذى وقال: هو غير محفوظ، وقال البزار: لا نعلم من رواه عن عبد الله بن بريدة إلا سعيد بن عبيد الله، ولم يجرحه بشىء، وقال ابن أبى حاتم، هو بصرى ثقة مشهور.
فالخلاصة أن التبول من قيام مكروه وليس بحرام، لما يترتب عليه من خوف التلوث من الرشاش، واطلاع الغير على العورة(8/433)
الاستنجاء من الريح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب الاستنجاء من الريح الخارج من الدبر؟
الجواب
شرع الاستنجاء لإزالة النجاسة الخارجة من السبيلين، القبل والدبر، وهى البول والغائط وما فى حكمهما من مائع وجامد، والريح الخارج من اسبر ليس نجسا، وبالتالى لا يجب الاستنجاء منه، حيث لم يرد نص فيه، والبلوى تكثر به، ولعدم حصر ما يصيبه من الجسم أو الثوب، بل قال بعض الأئمة بكراهة الاستنجاء منه، والدين يسر، فلو خرج الريح بعد الاستنجاء لا يجب الاستنجاء مرة ثانية حتى لو كان المحل لا يزال رطبا.
جاء فى كتاب "الإقناع فى حل ألفاظ أبى شجاع " للشربينى الخطيب ما نصه: نقل الماوردى وغيره الإجماع على أنه لا يجب الاستنجاء من النوم والريح. قال ابن الرفعة: ولم يفرق الأصحاب بين أن يكون المحل رطبا أو يابسا، ولو قيل بوجوبه إذا كان المحل رطبا لم يبعد، كما قيل به فى دخان النجاسة. وهذا مردود، فقد قال الجرجانى: إن ذلك مكروه، وصرح الشيخ نصر الدين المقدسى بتأثيم فاعله، والظاهر كلام الجرجانى "ج 1 ص 47 ".
وجاء فى المغنى لابن قدامة"ج 1 ص 141 "ما نصه: وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء، ولا نعلم فى هذا خلافا، قال أبو عبد الله:
ليس فى الريح استنجاء فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله إنما عليه الوضوء، وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم "من استنجى من ريح فليس منا" رواه الطبرانى فى معجمه الصغير، إلى أن قال: لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة. النجاسة ولا نجاسة هاهنا. أى فى النوم والريح(8/434)
مآذن المساجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن المآذن الموجودة فى المساجد بدعة لا يقرها الدين فهل هنا صحيح؟
الجواب
من المعلوم أن الأذان شرع لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة وندائهم لشهود صلاة الجماعة فى المسجد، وهو علامة على أن أهل هذا الحى الذى أذن فيه مسلمون، وللمؤذن ثواب عظيم لأنه يدل الناس على الخير، والدال على الخير كفاعله كما صح فى الحديث، ولقول النبى صلى الله عليه وسلم " لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة" رواه البخارى وأحمد والنسائى وابن ماجه.
ومن أجل كثرة من يستجيبون للأذان فيصلون، وكثرة من يسمعون ليشهدوا للمؤذن كان من السنة رفع الصوت بأقصى ما يمكن، ولهذا استعان الأولون عليه بأن يؤذن المؤذن على مكان مرتفع، وحدث فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم أن بلالا كان يؤذن من فوق بناء مرتفع بجوار المسجد، روى أبو داود والبيهقى أن امرأة من بنى النجار قالت: كان بيتى من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر، وجاء فى كتاب "خلاصة الوفا" للسمهودى "ص 192 " أن دار عبد الله بن عمر كان فيها اسطوانة فى قبلة المسجد يؤذن عليها بلال، يرقى إليها بأقتاب.
والقتب هو رحل البعير الذى يوضع على ظهره ليركب الراكب.
فاتخاذ مكان عال للأذان عليه مشروع ومستحب، وتبعا لسنة التطور بنيت أبراج عالية فى المساجد للأذان، وهى التى تسمى بالمآذن أو المنارات، لأن الأنوار كانت ترفع عليها فى مناسبات الأفراح، أو لأنها منارات وعلامات تدل على المساجد أو إسلام أهلها، كما أن للإسلام صُوًى ومنارات هى شرائعه التى تدل عليه كما قال ابن الأثير فى النهاية.
وجاء فى خلاصة الوفا للسفهودى "ص 191" أن عمر بن عبد العزيز جعل لمسجد النبى صلى الله عليه وسلم أربع منارات فى زواياه الأربع، طول كل منها نحو ستين ذراعا، وعرضها ثمانية أذرع فى ثمانية، وأن إحداها جددت سنة 706 هـ أيام الناصر محمد بن قلاوون، وكان طول بعض المنارات فى بعض التجديدات قد بلغ مائة وعشرين ذراعا فى عهد الأشرف قايتباى 892 هـ.
وجاء فى خطط المقريزى "ج 4 ص 27" أن معاوية بن أبى سفيان أمر ببناء منار لمسجد الفسطاط "عمرو بن العاص " وإن كان عمر بن الخطاب نهى عَمْرًا عن اتخاذ المنابر والمآذن كما فى صبح الأعشى "ج 3 ص 341" لكن بعد وفاة عمر اتخذت "مساجد مصر ج 1 ص 64".
وعلى مدى التاريخ بنيت المآذن وارتفعت شامخة، وأذِّن من فوقها وامتلأت الأجواء بإعلان الشهادتين والدعوة للصلاة، فأى ضرر فى ذلك؟ ومهما يكن من شىء فإن لم تكن فيها فائدة فليس فيها ضرر، وإذا كانت للمشيدين لها نيات فالله يجزيهم بما نووا، لكنها على كل حال مظهر من المظاهر الإسلامية، وبخاصة فى هذه الأيام التى تحتاج إلى تكثيف للدعوة للإسلام بكل الوسائل الممكنة.
فالمآذن ليست بدعة منكرة، وإذا كان المؤذن يرقى فوقها لإبلاغ صوته لأكبر عدد ممكن، فإن مكبرات الصوت الآن ساعدت كثيرا على بلوغ الصوت مدى بعيدا، مع الرجاء ألا نقنع برفع المآذن ونقصر فى ارتياد المساجد، بل ينبغى أن يكون هناك تناسب بين المظهر والمخبر، والإعلان والواقع(8/435)
كشف الجبهة عند السجود
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب أن تكون الجبهة مكشوفة عند السجود، وما الحكم فيما لو جاء طرف الخمار على موضع السجود فسجدت عليه؟
الجواب
الأعضاء التى يسجد عليها الإنسان سبعة هى اليدان والركبتان والقدمان والجبهة، وهى كلها من العورة فى الصلاة بالنسبة إلى المرأة يجب سترها على خلاف فى القدمين عند بعض الفقهاء، وذلك فيما عدا الجبهة فلا يجب سترها، لأن الوجه ليس بعورة فى الصلاة. لكن هل يجوز سترها أو لا يجوز؟ الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل قالوا: يجوز سترها بحيث لا تلمس موضع السجود وهى مكشوفة. والإمام الشافعى قال: يجب كشفها ولا يجوز أن يحول بينها وبين موضع السجود حائل.
وعلى رأى الجمهور يجوز السجود على جزء من الملبوس الذى يتحرك بحركة المصلى، كالكم وطرف الثوب وطرف الخمار، وكور العمامة التى يلبسها الرجال. ودليلهم على هذا ما رواه البخارى ومسلم عن أنس قال:
كنا نصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود. كما قاسوا الجبهة على بقية أعضاء السجود حيث يصح السجود وهى مستورة.
وممن رخص فى السجود على طرف الثوب عطاء وطاوس من التابعين، وكذلك النخعى والشعبى والأوزاعى، وذلك لاتقاء شدة الحر والبرد من الرمل أو الحصباء التى يسجدون عليها.
ورخص أيضا فى السجود على كور العمامة ومثله -طرف الخمار الحسن البصرى ومكحول وعبد الرحمن بن زيد. وسجد شريح القاضى على برنسه، والبرنس: كل ثوب رأسه منه ملتزق به، من دُراعة أو جبة أو مِمْطر أو غيره، وقال الجوهرى: هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها فى صدر الإسلام. وهو من البرس -بكسر الباء -وهو القطن والنون زائدة، وقيل: إنه غير عربى كما فى النهاية لابن الأثير: وما روى من أن النبى صلى الله عليه وسلم سجد على كور العمامة فسنده ضعيف، والاستدلال هو القياس على طرف الثوب المتقدم ذكره.
ودليل الشافعى على وجوب كشف الجبهة حديث رواه مسلم عن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فى جباهنا وأكفنا فلم يُشكنا-يعنى لم يُزل شكوانا بالترخيص بالسجود على حائل يقينا حرارة الأرض -كما قال فى الاستدلال على ذلك: لو سجد على ما هو حامل له لأشبه ما إذا سجد على يديه -أى وضع جبهته على يديه وهو ممنوع.
قال ابن قدامة فى "المغنى ج 1 ص 561، 652": المستحب مباشرة المصلى بالجبهة واليدين ليخرج من الخلاف ويأخذ بالعزيمة.
قال أحمد: لا يعجبنى-أى الستر. إلا فى الحر والبرد. وكان ابن عمر يكره السجود على كور العمامة. وكان عبادة بن الصامت إذا قام إلى الصلاة يحسر عمامته، أى يكشف جبهته بإزاحة العمامة عنها. وقال النخعى:
أسجد على جبهتى أحب إلىَّ.
فالخلاصة: أن الجمهور على جواز السجود على طرف الثوب والكم والخمار وكور العمامة، ولكن يكره إلا عند الحاجة كَشدة الحر والبرد فى موضع السجود. أما الشافعى فلا يرى جواز ذلك أبدا، ورخص فى المنديل الذى يحمله فى يده أن يضعه ليسجد عليه، كما رخص فى ستر الجبهة لعذر كجراحة يخاف من نرغ العصابة أو الساتر حصول مشقة.
أما السجود على اليد أو اليدين فلا يجوز، وتبطل الصلاة به عند الجمهور.
وأبو حنيفة رخص فيه مع كراهة "الفقه على المذاهب الأربعة "(8/436)
المسبوق وتحمل الإمام الفاتحة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا دخل الإنسان فوجد الجماعة قائمة فنوى الصلاة ولم يدرك الفاتحة أو بعضها فركع الإمام هل يركع أو ينتظره لقراءة الفاتحة أو ما بقى منها، وإذا ركع هل تحسب له ركعة أم لا تحسب لأنه لم يقرأ الفاتحة؟
الجواب
ثبت فى الحديث الذى رواه الجماعة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " قال الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد: قراءة الفاتحة لا بد منها لصحة الصلاة، فلو تركت كلها أو ترك بعضها بطلت الصلاة، وعند أبى حنيفة: الفرض هو قراءة ما تيسر من القرآن ولا يتحتم أن يكون الفاتحة، ومناقشة هذا الرأى ليس محلها هنا، ويمكن الاطلاع عليها فى نيل الأوطار للشوكانى "ج 2 ص 218" وكل ذلك فيمن يقدر على القراءة.
وقراءة الفاتحة مفروضة فى كل ركعة كما علم النبى صلى الله عليه وسلم المسىء لصلاته، وكما رواه البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقروها فى كل ركعة ورأى أبو حنيفة أنها تقرأ فى الركعتين الأوليين، وفيما زاد تجوز قراءتها أو التسبيح أو السكوت.
ولو نسى المصلى قراءتها بطلت صلاته عند الشافعية والحنابلة، أما المالكية فقالوا: إن كان النسيان فى صلاة ثنائية بطلت، وإن كان فى ثلاثية أو رباعية ففى ذلك روايات عن مالك، رواية بالبطلان، ورواية بالصحة مع سجود السهو، ورواية بإعادة الركعة التى نسى فيها الفاتحة مع سجود السهو بعد السلام.
هذا هو الحكم بالنسبة للمنفرد وللإمام، أما المأموم فقد ذكرنا حكمه فى إجابة سابقة عن القراءة خلف الإمام، وملخصها: أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم عند الشافعية ومكروهة كراهة تحريم عند الحنفية، فى الصلاة السرية والجهرية، ومندوبة فى السرية مكروهة فى الجهرية عند المالكية، وكذلك قال الحنابلة: إنها مستحبة فى السرية وفى سكتات الإمام من الجهرية وكره حال قراءة الإمام فى الصلاة الجهرية.
وبعد استعراض الآراء ومناقشة الأدلة انتهى الشوكانى إلى قوة الرأى القائل بوجوب قراءتها على الإمام والمأموم فى كل ركعة. ثم قال: ومن هنا يتبين لك ضعف ما ذهب إليه الجمهور أن من أدرك الإمام راكعا دخل معه واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئا من القراءة، واستدلوا على ذلك بحديث أبى هريرة "من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة فى صلاته يوم الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى" رواه الدارقطنى من طريق ياسين بن معاذ وهو متروك، وأخرجه الدارقطنى بلفظ "إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة فقد أدرك، وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى" وقال الشوكانى: فى أحد السندين راو متروك وفى الآخر راو ضعيف، وأن الحديث هو فى الجمعة وذلك يشعر بأن غيرها مخالف لها، ثم وضح بطلان رأى الجمهور. وذكر أن السبكى كان يختار عدم الاعتداد بالركعة لمن لا يدرك الفاتحة. وأن حديث أبى بكرة الذى ركع ليدرك الرسول فى الركوع، وأن الرسول قال له " لا تعد" فيه مناقشة فى معنى "لا تعد" وأن حديث "ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" يشمل فوت الركعة والركن والذكر المفروض لأن الكل فرض لا تتم الصلاة إلا به، فلا يجوز تخصيص شىء من ذلك بغير نص آخر، ثم انتهى الشوكانى إلى القول بأن العلامة محمد بن إسماعيل الأمير ألَّف رسالة رجح فيها مذهب الجمهور، وكتب هو أبحاثا فى الجواب عليها.
فخلاصة الموضوع: أن المسبوق إن أدرك مع الإمام الركوع ولم يقرأ الفاتحة أو شيئا منها فاتتة الركعة خلافا للجمهور الذى قال بالاعتداد بالركعة، وحجتهم ضعيفة، ودعوى الإجماع غير صحيحة "نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 218 ت 228 "(8/437)
الكلام فى دورات المياه
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمتوضىء فى دورة المياه أن يستعيذ بالله من الشيطان؟
الجواب
من الأماكن التى يكره ذكر اسم الله فيها، بل يكره الكلام مطلقا بيوت الخلاء "المراحيض" وإذا أراد الإنسان أن يتوضأ فليكن فى مكان غير المرحاض، وذلك خشية التعرض للنجاسة، فإذا لم يجد غيره توضأ فيه وأخذ الحيطة حتى لا يتلوث بالنجاسة. ومع الوضوء يكره، له أن يذكر الله، وإذا نوى الوضوء فالنية بالقلب لا باللسان.
والاستعاذة بالله لا تكون داخل المرحاض، وإنما قبل دخوله كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يفعل، حيث كان يقول "اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث" رواه البخارى ومسلم.
وجاء فى كتاب " الأذكار للنووى ص 20" أن الذكر والكلام فى بيوت الخلاء وعند قضاء الحاجة فيها مكروه إلا للضرورة، حتى إذا عطس لا يحمد الله، ولا يرد السلام، ولا يجيب المؤذن. والكراهة تنزيهية لا تحريمية، أى لا عقاب فيها.
ومهما كانت دورات المياه الحديثة نظيفة ومجهزة بآلات طرد النجاسة فالأفضل عدم الوضوء فيها إذا وُجد مكان آخر، وكذلك يكره الكلام والذكر أيًّا كان(8/438)
تطهير حبل الغسيل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن بعض الطيور تنجس بروثها الحبال التى ننشر عليها الثياب المغسولة لتجف، وقد يصعب علينا معرفة مكان النجاسة فكيف نتصرف؟
الجواب
قال بعض العلماء وهم المالكية: إن فضلات مأكول اللحم طاهرة فلا حاجة إلى غسل ما يصاب بها، ولو تنجس الحبل بغير ذرق الطيور المأكولة فإن جفافها بالشمس أو الريح يطهرها، ولا حاجة لصب الماء عليها(8/439)
غسل دهن الشعر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب على المرأة عند الغسل أن تزيل الزيوت والمواد التى فى شعرها؟
الجواب
روى أحمد وأبو داود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار ".
قال العلماء: لابد من وصول الماء إلى كل جزء من الجسم من جلد أو ظفر أو شعر، ولو لم يصل الماء إلا بنقض الضفائر المشدودة فلابد من نقضها، أما إذا كانت غير مشدودة بقوة ويمكن للماء أن يصل إلى كل الأجزاء والمواضع فلا داعى لنقضها كما صح فى حديث مسلم عن أم سلمة، وفى سنن ابن ماجه عن عائشة.
وعليه فلابد من إزالة الدهن أو غسله جيدا حتى يزول. ورخص الإمام مالك للعروس فى أيامها الأولى إن كان فى شعرها دهن أو طيب له جرم ألا تغسل رأسها، لما فى ذلك من إتلاف المال، ويكفيها المسح على الشعر. ولا يترخص فى ذلك لغير العروس. وفى أيامها الأولى فقط، بل قال: إذا كان الطيب فى جسمها كله تيممت "الفقه على المذاهب الأربعة".
لكن جاء فى فتوى الشيخ أحمد هريدى بتاريخ 10 من أغسطس سنة 1966 م أن المالكية قالوا: يجب على المرأة عند الغسل جمع الشعر المضفور وتحريكه ليعمه الماء، وطبقا لما ذكر فإنه يجب على المرأة عند الغسل من الجنابة إزالة ما على الشعر من الطيب مما يمنع من وصول الماء إلى باطنه ولو عروسا، ولا يمنع من هذا الوجوب أن تكون المرأة قد صففت شعرها على أى وجه كان، وأنفقت فى ذلك مالا قليلا أو كثيرا.
"الفتاوى الإسلامية - المجلد الخامس ص 1648،1649"(8/440)
تطهير المصقول بمسحة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن السكين التى عليها دم يمكن أن تطهر بمسحها بقطنة دون غسل بالماء؟
الجواب
فى فقه المذاهب الأربعة عند الحنفية أن من وسائل تطهير النجاسة المسح الذى يزول به أثر النجاسة، ويطهر به الصقيل الذى لا مسام له كالسيف والمرآة والظفر والعظم والزجاج والآنية المدهونة ونحو ذلك، وفيه أيضا عندهم أن القطن إذا تنجس يطهر بندفه ولا حاجة إلى غسله(8/441)
الفراء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن الفراء الذى تلبسه النساء نجس فهل هذا صحيح؟
الجواب
الفراء الذى يتخذ من جلود بعض الحيوانات اختلف العلماء فى طهارته ونجاسته تبعا لاختلافهم فى حل أكل الحيوان المأخوذ منه وحرمته، وفى حكم طهارة جلد الميتة عن طريق الدباغ.
فقال الشافعى: يحل أكل الثعلب ولكن إذا ذبح ذبحا شرعيا، فلو مات بدون ذلك فلحمه نجس وكذلك جلده ولكنه يطهر بالدباغ، وحرمه أحمد بن حنبل، وكرهه أبو حنيفة ومالك. على أن بعض القائلين بحرمة أكله أجازوا استعمال فروه للبس لا للصلاة فيه.
وقد ذكر النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 4 ص 54" سبعة مذاهب فى طهارة جلد الميت بالدباغ، وجاء فى أحد الأقوال أنه يطهر كل الجلود حتى جلود الخنازير والكلاب. وذلك ظاهرا وباطنا، أى تستعمل للصلاة عليها والصلاة فيها، وهو مذهب الظاهرية، وحكى عن أبى يوسف صاحب الإمام أبى حنيفة.
وعلى هذا فلا مانع من لبس الفراء والصلاة فيه.
وجاء فى كتاب "غذاء الألباب " للسفارينى ج 2 ص 220- 222 كلام كثير عن حكم الفراء من هذه الحيوانات. وذكر أن أول من اتخذ الفراء والجلود من مثل السنجاب ولبسها وألبسها هو"شيخ شاه " الملقب عند العجم "بيش داديان " كان ملكا عادلا، وله كتاب فى الإلهيات، حتى قال العجم بنوته، وهو أول من ترك الملك وتخلى للعبادة، فقتل فى معبده، وانتقم له "طمهورث " من القتلة، وبنى موضعه مدينة "بلخ "(8/442)
الوضوء بالماء المالح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز الوضوء من ماء البحر الملح؟
الجواب
نعم يجوز فقد روى أحمد وأصحاب السنن أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وقال الترمذى حسن صحيح، والميتة هى السمك الذى يموت(8/443)
دخول الخلاء بما فيه قرآن
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ألبس "دَلاَّية" منقوشا عليها اسم الله، فهل يجوز دخول الحمَّام بها؟
الجواب
روى أحمد وأصحاب السنن عن أنس رضى الله عنه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، قال الترمذى: حديث صحيح وقد صح أن نقش خاتمه "محمد رسول الله ".
بيوت الخلاء مستقذرة طبعا، وهى أكثر الأمكنة التى تردها الحشرات والهوام بل والشياطين، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء "اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث " أى ذكور الشياطين وإناثها. رواه الجماعة.
وليس من اللائق أن توضع الأشياء الكريمة أو يدخل بها فى مثل هذه الأمكنة، وذلك إن لم يكن تشريعا منصوصا عليه فهو ذوق واحترام.
وبناء على هذا قال الحنفية والشافعية: يكره دخول المرحاض بالمصحف أو بعضه ولو آية واحدة، وقال مالك وأحمد: يحرم ذلك، ومحل المنع إذا لم يتخذه حرزا، بأن يكون مستورا بما يمنع وصول الرائحة إليه، أو لم يخف عليه الضياع، فإن كان مصونا أو خاف ضياعه لو تركه خارج المرحاض جاز الدخول به.
هذا فى القرآن، أما فيما ينقش عليه اسم كريم فقالوا: يكره دخول بيت الخلاء بما فيه اسم الله، من أوراق وغيرها كالحلية التى نقش عليها اسم الله، ومعنى الكراهة، عدم العقوبة على الدخول بذلك، ومحله أيضا إذا لم يكن مغَّلفا بما يمنع وصول الرائحة إليه، أو لم يخف عليه الضياع إذا تركه خارجا "نيل الأوطار للشوكانى ج 1 ص 85، 86، غذاء الألباب للسفاريني ج 2 ص 246، الفقه على المذاهب الأربعة(8/444)
الوضوء مما تشرب منه المواشى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا أعمل راعيا للمواشى، وأحيانا يصيبنى بعض رشاش من بولها، وقد تشرب من ماء واحتاج إلى الوضوء مما بقى منه، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
قال تعالى {وثيابك فطهر} المدثر: 4 وقال صلى الله عليه وسلم "الطهور شطر الإيمان " رواه مسلم. أكثر الفقهاء على أن طهارة الثوب والبدن شرط لصحة الصلاة، ونقل عن الإمام مالك قول بأن إزالة النجاسة سنة وليست بفرض، وفى قول قديم للشافعى أنها غير شرط لصحة الصلاة "نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 123 ".
فعلى هذين القولين تجوز الصلاة فى الثوب إذا كانت فيه نجاسة، وهذا الحكم فى النجاسة المتفق على أنها نجاسة كالبول والغائط وهناك أشياء مختلف فى نجاستها منها أبوال الحيوانات التى يؤكل لحمها وكذلك أرواثها، مثل البقر والإبل والغنم والدجاج والحمام والعصافير، فقد قال الإمام مالك: إنها ليست نجسة، وعلى هذا يجوز لراعى المواشى أن يصلى بالملابس التى أصيبت ببعض البول أو الروث من مأكول اللحم، وليس منه الحمار والكلب، وإن كان الأفضل تطهيرها مراعاة للنظافة والصحة.
أما الوضوء من الماء المتبقى من شرب الحيوانات، فقد جاء فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يُصغى إلى الهرة الإناء حتى تشرب -أى يميل الإناء الذى فيه ماء لتشرب منه القطة: ثم يتوضأ بفضلها، أى بما بقى فى الإناء وقال "إنها ليست بنجس " رواه أحمد وأصحاب السنن وقال الترمذى: حسن صحيح.
وروى أنه سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحُمُر؟ قال "نعم وبما أفضلت السباع كلها" أخرجه الشافعى والدارقطنى والبيهقى. وقال: له أسانيد يقوي بعضها بعضا.
بناء على هذا قال العلماء: إن الحيوانات الطاهرة -غير الكلب والخنزير-إذا شربت من الماء وكان كثيرا لا ينجس مطلقا، أما إذا كان قليلا كملء دلو أو قِدْرٍ فإنه لا ينجس أيضا ما دمنا لا نعلم أنها وضعت فى فمها شيئا نجسا، وغالب حيوانات الحقل كالبقرة والغنم لا تأكل نجسا، وعلى هذا فإن الماء المتبقى من شربها تجوز الطهارة به، ومع ذلك لو وجد ماء غيره أنظف منه يكون الوضوء منه أفضل(8/445)
القبلة وقضاء الحاجة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أنه لا يجوز أن يكون الإنسان متوجها إلى القبلة وهو يقضى حاجة البول، فماذا نفعل وبعض البيوت قد يكون الاتجاه فى ذلك إلى القبلة دون قصد؟
الجواب
روى مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها".
يدل هذا الحديث على احترام القبلة، فلا يكون الإنسان أثناء قضاء حاجته المعروفة متوجها إليها ولا موليا ظهره إياها، وذلك أمر مندوب إليه وليس واجبا، فلو لم يفعل ذلك لم يرتكب إثما، بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يلتزمه، فقد روى الجماعة عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: رقيت يوما بيت حفصة -وهى أخته أم المؤمنين -فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة، ورأى جماعة من الفقهاء أن حرمة استقبال القبلة واستدبارها أو كراهته إنما يكون فى الصحراء والخلاء، حيث لا يوجد بناء ولا حواجز، أما إذا كان ذلك فى البنيان فلا حرمة ولا كراهة.
ومعلوم أن أماكن قضاء الحاجة فى المدن وغيرها توجد فى أبنية مستورة، فلا ينطبق عليها هذا الحديث. ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم بسند حسن -كما فى فتح البارى لابن حجر-أن ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها، فقال له مروان: أليس قد نُهى عن ذلك؟ قال: بلى، إنما نُهى عن هذا فى الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شىء فلا بأس(8/446)
تطهير الملابس فى الغسالة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أن نضع ملابس الأطفال المتنجسة مع الملابس الأخرى فى غسالة واحدة لتصير طاهرة؟
الجواب
جاء فى الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء ما يفيد أن الماء الكثير لا ينجس بملاقاة النجاسة له إلا إذا غيرت طعمه أو لونه أو رائحته، أما الماء القليل فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة له، سواء غيرت شيئا من طعمه أو لونه أو رائحته أو لم تغير، والماء يكون قليلاً إذا كان في حدود خمسمائة رطل والماء الذى يكون فى الغسالة العادية فى البيوت يعتبر ماءً قليلا، وعليه فلو وضعت فيه ملابس متنجسة فإنه ينجس، وكذلك ينجس كل شىء أصابه هذا الماء.
والإمام الشافعى يرى أن الماء القليل ينجس إذا وضعت الملابس المتنجسة فيه، أى كانت واردة عليه، أما لو وضعت الملابس قبل الماء ثم صب عليها كان الماء واردا فإن الغُسالة بضم الغين -وهى الماء المتخلف عن الغسل لا يكون نجسا، وتكون الملابس قد تطهرت إذا كان الماء خاليا من المنظفات التى تضاف إليه، أى كان ماء مطلقا لا يتغير بشىء آخر من الطاهرات وزالت عين النجاسة ولونها ورائحتها.
وتيسيرًا للغسل ووقاية من النجاسة يمكن وضع الملابس المتنجسة -وهى ملابس الأطفال فى الغالب- فى "البانيو" أو فى وعاء كبير ثم يصب عليها الماء وتزال عين النجاسة، وتعصر بعد ذلك فتكون طاهرة من النجاسة ولأجل التنظيف أكثر تغسل فى الغسَّالة مع المنظفات مرة أو أكثر، وفى النهاية تشطف بماء صافٍ فيتم غسلها وتطهيرها على هذه الصورة.
ومن الأفضل غسل ملابس الكبار إذا كانت طاهرة وحدها، ثم تغسل ملابس الأطفال على النحو الذى ذكرناه، لتستريح النفس ويبعد الوسواس(8/447)
متى فرضت الطهارة للصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لفت نظرى أن آية الوضوء التى فى سورة المائدة مدنية، مع أن الصلاة فرضت فى مكة، فهل كان النبى صلى الله عليه وسلم يصليها بغير وضوء؟
الجواب
يقول الله سبحانه {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... } المائدة: 6 نزلت هذه الآية بغسل هذه الأعضاء فقط -وهى المعتبرة فى الوضوء- بالمدينة.، وفيها أيضا الطهارة من الجنابة، كما نزلت بالمدينة آية سورة النساء: 43 الموجبة للغسل من الجنابة، ومعه التيمم بدل الغسل وبدل الوضوء الذى ينتقض بالبول والغائط.
والمعروف أن الصلاة فرضت بمكة، وتحددت بخمس فى اليوم والليلة فى ليلة المعراج قبل الهجرة، فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلى فى مكة بغير وضوء وبدون غسل من الجنابة؟ يقول ابن عبد البر: إن أهل السِّير- التاريخ - اتفقوا على أن غسل الجنابة فرض على النبى صلى الله عليه وسلم بمكة لما افترضت الصلاة وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، وهذا ما لا يجهله أحد.
وفى مستدرك الحاكم حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبى صلى الله عليه وسلم وهى تبكى فقالت: هؤلاء الملأ من قريش تعاهدوا ليقتلوك فقال "ايتونى بوضوء، فتوضأ ... قال فى الفتح - فتح البارى لابن حجر- وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه.
فالمتفق عليه أن الوضوء ومثله الغسل للصلاة كان موجودا بمكة، لكن الخلاف فى: هل كان وجوده على سبيل الندب أو على سبيل الوجوب؟ قال جماعة بالندب، بناء على أن الأمر به فى آيتى المائدة والنساء هو للوجوب، وهما نازلتان بالمدينة، وجزم بذلك ابن الجهم المالكى وقال آخرون بالوجوب. قال القرطبى-كما نقله ابن مفلح -: إن آية الوضوء - النازلة بالمدينة- إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم -يعنى على إنزالها-متلوًّا فى التنزيل أى أن الوضوء كان مفروضا بمكة ولكن بغير القرآن ثم نزل به القرآن فى المدينة.
وابن حزم جزم بأن الوضوء لم يشرع -لا وجوبا ولا ندبا- إلا فى المدينة، ومعنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلوا فى مكة بغير وضوء، وكلامه مردود بمرويات ليست قوية، منها ما أخرجه ابن لهيعة فى المغازى أن جبريل علَّم النبى الوضوء عند نزوله عليه بالوحى، وهو حديث مرسل سقط منه الصحابى، وما رواه أحمد والدارقطنى من رواية ابن لهيعة أيضا مرفوعا وليس مرسلا: أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم فى أول ما أوحى إليه فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه.
هل يفهم من هذا أنه استنجى بعد الوضوء، وأن النضح ليس فيه مس للفرج، أو أن مس الفرج غير ناقض للوضوء؟ معروف أن ابن لهيعة وضعه العلماء فى الضعفاء، قيل مطلقا وقيل بعد أن مرض.
ومن المرويات ما أخرجه ابن ماجه من حديث أسامة عن أبيه، وأخرجه الطبرانى فى الأوسط من طريق الليث بن سعد عن عقيل موصولا، وهو أن جبريل علَّم النبى الوضوء بمكة. وفى ثبوت هذا كلام.
فالخلاصة أن الفقهاء أجمعوا على أن الطهارة للصلاة بالوضوء والغسل واجبة، وأن آية الوجوب نزلت بالمدينة، والصلاة التى صلاها الرسول وأصحابه بمكة أو قبل نزول الآية فى المدينة فيها خلاف: هل كانت بوضوء أو لا؟ والجمهور على أنها كانت بوضوء، وابن حزم هو الذى قال بعدم مشروعيته إذ ذاك، ومن قال بمشروعية الوضوء بمكة اختلفوا هل كان واجبا أو مندوبا؟ قيل بالندب وقيل بالوجوب.
ونحن لا يهمنا من ذلك إلا ما استقر عليه العمل بعد الأمر به فى آيتى النساء والمائدة فى وجوب الطهارة للصلاة بالوضوء والغسل، أما ما حدث قبل ذلك فالخلاف فيه لا أثر له فى حياتنا نحن. يراجع الشوكانى فى نيل الأوطار، والمواهب اللدنية للقسطلانى فى باب الخصائص لمعرفة إن كان الوضوء خاصا بأمة محمد أو كان قبل ذلك - وانظر ص 83 من المجلد الثانى من هذه الفتاوى(8/448)
الحمل والحيض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا حامل وفى بعض الأحيان ينزل علىَّ دم، هل يعتبر حيضا فأمتنع عن الصلاة والصوم،أو يعتبر نزيفا لا يمنع من الصلاة والصوم؟
الجواب
اختلف العلماء فى الدم الذى ينزل من الحامل هل هو دم حيض أم لا، فرأى أبو حنيفة ومن قبله عطاء والشعبى أنه ليس حيضا ولا يأخذ حكمه، لقوله تعالى: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد} الرعد: 8 على معنى أن الحيض هو انقطاع دم الحيض أثناء الحمل، والازدياد هو دم النفاس بعد الوضع، وهو رأى الأمام أحمد أيضا.
ورأى مالك والشافعى فى أحد قوليه أن الحامل تحيض، وهو تأويل ابن عباس للآية بأنه حيض الحبالى، وكذلك روى عكرمة ومجاهد وهو قول عائشة وأنها كانت تفتى النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع قاله ابن القصار، وذكر القرطبى فى تفسيره "ج 9 ص 286" حادثة أيام عمر استدل بها على أن الحامل تحيض، ثم قال: احتج المخالف -وهو أبو حنيفة ومن معه- بأن قال: لو كانت الحامل تحيض وكان ما تراه المرأة فى الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض، وهو إجماع وروى عن مالك فى كتاب محمد: ما يقتضى أنه ليس بحيض.
انتهى.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة أن من شروط الحيض أن يكون الرحم خاليا من الحمل، فما تراه الحامل من الدم يكون دم فساد، لكن المالكية والشافعية قالوا: إنه يكون دم حيض، إلا أن الشافعية قالوا: تعتبر مدة حيضها فى الحمل كعادتها فى غيره، أما المالكية فإنهم قالوا: إن رأت الحامل الدم بعد شهرين من حملها إلى ستة أشهر فإن مدة حيضها تقدر بعشرين يوما إن استمر الدم، وفى ستة أشهر إلى آخر الحمل تقدر بثلاثين يوما، أما إذا رأت الدم فى الشهر الأول أو الثانى من حملها كانت كالمعتادة، وفسروا ذلك بأن حيضها يقدَّر بثلاثة أيام زيادة على أكثر عادتها استظهارا، فإن اعتادت خمسة أيام ثم تمادى حيضها مكثت ثمانية أيام، فإن استمر بها الدم فى الحيضة الثالثة كانت عادتها ثمانية، لأن العادة تثبت بمرة، فتمكث أحد عشر يوما، فإن تمادى فى الحيضة الرابعة تمكث أربعة عشر يوما، فإن تمادى بعد ذلك فلا تزيد على الخمسة عشر يوما، ويكون الدم الخارج بعد الخمسة عشر، أو بعد الاستظهار بثلاثة أيام على أكثر العادة قبل الخمسة عشر يوما -دم استحاضة. انتهى.
هذا هو الحكم الشرعى فى رأى الفقهاء فى الدم الذى ينزل على الحامل هل هو حيض أو لا؟ ولعل الطب له كلام فى هذا الموضوع، يمكن به التمييز بين دم الحيض والنزيف، بناء على ما قيل: إن دم الحيض أعداد للرحم لاستقبال البويضة الملقحة فإن استقرت فيه يقال لا توجد فرصة لاستقبال بويضة أخرى ليوجد حملان فى الرحم بينهما مدة، ولو وجدت بويضتان معا كان الحمل توأما، فهل يمكن أن تحل بالرحم بويضة ثم بعد فترة تحل بويضة أخرى فيكون هناك حملان، أحدهما قبل الآخر؟ وقد يولدان معا أو يوجد فاصل بينهما فى الوضع، لعل هناك جوابا يوضح ذلك عند المختصين.
هذا، وقد جاء فى المغنى لابن قدامة "ج 1 ص 375" أن الحامل لا تحيض، إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس، وهو مذهب أحمد وأبى حنيفة ورأى جمهور التابعين. وقال مالك والشافعى:
ما تراه من الدم حيض إذا أمكن، لأنه دم صادف عادة فكان حيضا كغير الحامل، واستدل لمذهب أحمد بالحديث "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل -أى غير حامل- حتى تستبرأ بحيضة" موجها ذلك بأن وجود الحيض علامة على براءة الرحم، فدل على أنه لا يجتمع مع الحمل وقال: إن الحامل لا يعتادها الحيض غالبا، فلم يكن ما تراه فيه حيضا كالآيسة، قال أحمد إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم. وحمل رأى عائشة فى أنه حيض على ما تراه الحامل من الدم قريبا من ولادتها فهو نفاس لا تصلِّى فيه.
ورأيى أن مذهب أبى حنيفة وأحمد أيسر فى التطبيق فلا يعدُّ دم الحامل حيضا، إلا ما يرى قبيل الولادة فيكون نفاسا لا تصلى ولا تصوم - فيه، ومذهب مالك فيه صعوبة بالصورة التى ذكرت فى كتاب الفقة على المذاهب الأربعة، ولا يجب التعصب لرأى فى الفروع ودين الله يسر(8/449)
سن اليأس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا بلغت من العمر خمسين سنة، والعادة الشهرية غير منتظمة،فقد يمر شهران وثلاثة دون أن أرى دما، وإذا نزل كان بسيطا ثم ينقطع مدة طويلة، فما حكم الشرع فى هذه الحالة، هل يعتبر الدم بعد هذه السن حيضا؟
الجواب
سن اليأس هو السن الذى لا يكون معه للمرأة حيض ولا حمل، ومن الأحكام الشرعية الخاصة به أن عدة المطلقة تنتهى بثلاثة أشهر، مثلها مثل الصغيرة التى لم تر الحيض، قال تعالى {واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن} الطلاق: 4.
واختلف الفقهاء فى سن اليأس فهو عند الحنفية خمس وخمسون سنة على المختار، وعند الحنابلة خمسون سنة، وعند المالكية من خمسين إلى سبعين، بمعنى أنه يرجع فى هذه المدة إلى ذوى الخبرة من النساء أو غيرهم فيما إذا كان الدم الذى ينزل من المرأة دم حيض أو غيره، وعند الشافعية لا آخر له، والغالب أن ينقطع الدم بعد اثنتين وستين سنة، فهو سن الإياس من الحيض غالبا "فقه المذاهب الأربعة".
وفى فقه الحنفية الذى يجرى عليه العمل فى المحاكم المصرية -أن القول قول المرأة فى انقطاع الحيض أو نزوله عليها، وتصدق إذا ادعت رؤيتها دم الحيض مع هذه السن ومع ذكر علاماته وتُحلف اليمين بطلب خصمها إذا لم يصدقها فيما ادعت. "الفتاوى الإسلامية المجلد التاسع ص 3287"(8/450)
سلس المنى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل ينزل منه المنى كثيرا على الرغم من علاج نفسه، فهل كلما نزل عليه منى يجب عليه الغسل؟
الجواب
قال العلماء: إذا خرج المنى من غير شهوة، كأن نزل لمرض أو برد فلا يجب عليه الغسل، وذلك لحديث رواه أحمد عن على رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "فإذا فضخت الماء فاغتسل " أى خرج منك المنى بشدة.
ويروى عن مجاهد أنه كان فى حلقة بالمسجد ومعه أصحاب ابن عباس: طاوس وعكرمة وسعيد بن جبير، وكان ابن عباس قائما يصلى، فسألهم رجل وقال: إنى كلما بُلْتُ تبعه الماء الدافق، وهو المنى، فقالوا: عليه الغسل، ولكن الرجل لم يقتنع، ولما انتهى ابن عباس من الصلاة استدعى الرجل، وعجب من إفتائهم إياه بما لم يرد فى الكتاب والسنة، بل بالرأى، وذكر قول النبى صلى الله عليه وسلم "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" ثم سأل الرجل: أرأيت إذا كانت ذلك منك، أتجد شهوة فى قبلك؟ قال: لا، قال: فهل تجد خدرا فى جسدك؟ قال: لا، قال: إنما هذه أبردة يجزيك منها الوضوء، يعنى إصابة بالبرد لا يجب منها الغسل. نقل هذا الحكم الشوكانى فى نيل الأوطار "ج 1 ص 240".
وحكم سلسل المنى وسلسل البول والريح مقيس على حكم الاستحاضة التى تزيد على أكثر مدة الحيض [عشرة أيام عند الحنفية وخمسة عشر يوما عند غيره] وذلك لورود النص فيها، فالحنفية والحنابلة يكتفون بوضوء واحد لوقت كل صلاة، والشافعية يوجبون الوضوء لكل فريضة(8/451)
الماء المتنجس
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الماء الذى وقعت فيه نجاسة هل تنجسه حتى لو كان كثيرا؟
الجواب
قال العلماء: إن غيرت النجاسة طعم الماء أو لونه أو ريحه صار نجسا، لا يجوز استعماله فى الطهارة إجماعا، نقل ذلك ابن المنذر وغيره، وإن لم تغير النجاسة شيئا من ذلك، أى من أوصافه الثلاثة، فهو طاهر فى نفسه، ومطهر لغيره، سواء أكان الماء قليلا أو كثيرا، ودليل ذلك حديث "الماء طهور لا ينجسه شىء" رواه أحمد والشافعى وأبو داود والنسائى والترمذى وحسّنه.
وهذا الحديث جاء عند سؤال الصحابة عن التوضؤ من بئر بضاعة -وهى بئر بالمدينة يبلغ عمق الماء فيها نصف قامة الرجل تقريبا، من وقف فيها وصل الماء إلى عانته إذا كان الماء كثيرا، فإذا نقص وصل الماء إلى ما دون العورة، وكان الماء فيها متغيرا.
ومن هنا قال العلماء: لا يضر تغير الماء بما فى مقره وممره.
والإمام مالك أخذ بذلك كما أخذ به الحسن البصرى والثورى والنخعى وداود الظاهرى. وقال الإِمام الغزالى: وددت لو أن مذهب الشافعى فى المياه كان كمذهب مالك، ذلك أن الشافعى أخذ بحديث ابن عمر مرفوعا "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" رواه الخمسة.
وطعن فيه ابن عبد البر.
القلتان بالرطل المصرى أربعمائة وستة وأربعون رطلا وثلاثة أسباع الرطل، وبالمساحة ذراع وربع ذراع طولا وعرضا وعمقا بذراع الآدمى المتوسط، وفى المكان المدور كالبئر تكون المساحة ذراعا عرضا، وذراعا ونصف ذراع عمقا، وثلاثة أذرع وسبع ذراع محيطا، وفى المكان المثلث ذراع ونصف عرضا ومثل ذلك طولا وذراعان عمقا " فقه المذاهب الأربعة ".
ومهما يكن من الخلاف فى تنجس الماء بما يلقى فيه من المواد النجسة فإن عدم التطهر به أقرب إلى المحافظة على الصحة، وأبعد عن الضرر الذى نهى عنه الدين(8/452)
تشريع الوضوء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل كان المسلمون يصلُّون قبل الهجرة بدون وضوء حيث فرضى الوضوء فى سورة النساء وهى سورة مدنية؟
الجواب
شرع الوضوء للصلاة بالآية السادسة من سورة المائدة، وأما الآية الثالثة والأربعون من سورة النساء فهى لمشروعية الغسل من الجنابة، وكلتا الآيتين نزلتا بالمدينة، والصلاة فرضت بمكة، فهل كان الرسول يصليها بدون وضوء؟ ابن حزم يقول: الوضوء لم يشرع إلا بالمدينة، بناء على آية المائدة، وقال العلماء إنه كان مشروعا بمكة، مع الخلاف فى كونه كان واجبا أو مندوبًا، والجمهور على وجوبه وجزم ابن الجهم المالكى بأنه كان مندوبًا. ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل االجنابة فرض على النبى صلى الله عليه وسلم وهو بمكة كما فرضت الصلاة بمكة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، يجهله عالم بالأخبار.
ومما يدل على أن الوضوء كان مشروعًا بمكة ما وراه الحاكم فى المستدرك عن ابن عباس رضى الله عنهما أن فاط صلى الله عليه وسلم دخلت عليه وهى تبكى لأن الملأ من قريش تعاهدوا على قتله، فقال " ائتونى بوضوء.. ..
ومن الأدلة أيضًا ما رواه أحمد والطبرانى أن جبريل عليه السلام علَّم النبى صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحى {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] . وقيل ب جبريل بقوله {يا أيها المدثر} التى فيها {وثيابك فطهِّر} [المدثر: 4] .
فالخلاصة أن الوضوء كان مشروعًا بمكة، والتشريع كما يكون بالقرآن يكون بالسنة.
ولما نزلت أية المائدة تأمر بالوضوء للصلاة اختلف العلماء فى مدى هذا الأمر فقيل للوجوب عند كل صلاة حتى لو لم ينتقض الوضوء فلا تصح صلاته بوضوء واحد، وقيل للوجوب إذا انتقض، وللندب إذا لم ينتقض حيث يسن تجديد الوضوء لكل صلاة.
وكان من عادة النبى صلى الله عليه وسلم تجديد الوضوء لكل صلاة، ولكن خالف هذه العادة يوم الفتح فصلَّ بوضوء واحد، ولما سأله عمر عن ذلك قال " تعمدته يا عمر "، وذلك حتى لا يظن الناس أنه واجب فيشق عليهم، مثل ذلك فى خيبر، النصوص المثبتة لذلك يرجع إليها فى فتح البارى لابن حجر: كتاب الوضوء، وفى كتاب الموا بشرح الزرقانى (ج 7 ص 6 4 2، 47 2)(8/453)
التطهر بالماء المستعمل وبالماء الفائض
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى استعمال الماء الفائض من اغتسال المرأة فى الوضوء أو الاغتسال من الجنابة؟
الجواب
روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة.
وروى مسلم وأحمد أنه كان يغتسل بفضل ميمونة، وفى رواية لأحمد وابن ماجه أنه توضأ بفضل غسلها من الجنابة.
وروى أحمد وأبو داود والنسائى والترمذى وقال: حديث حسن صحيح:
" أن بعض أزواج النبى @ اغتسلت فى جفنة -إناء كبير-فجاء النبى @ ليتوضأ منها يغتسل، فقالت له: يا رسول الله إنى كنت جنبا فقال "إن الماء لا يجنب ".
وفى هذه الأحاديث تضارب فى الظاهر بعضها ينهى عن التطهر بفضل طهور المرأة وبعضها يجيزه.
وبعيدا عن الترجيح بين الروايات من جهة السند، أقول: إن التطهر بفضل الماء الذى تطهر به الغير يطلق على معنيين:
الأول: التطهر بالماء الذى استعمل قبل ذلك فى التطهر.
الثانى: التطهر بالماء الباقى من كمية الماء الذى سبق التطهر ببعضه، ويصور بأن كمية من الماء فى جفنة أو إناء مثلا أخذ واحد منها بعضا وتطهر به وبقى فى الإناء بعض اَخر دون استعمال له.
أما بالنسبة للإطلاق الأول: فالماء الذى استعمل من قبل فى الطهارة لا يجوز التطهر به فى إزالة نجاسة أو وضوء أو غسل، وهو ما عليه جمهور الفقهاء، وإن كان هو طاهرا فى نفسه لا يتنجس ما يصيبه، وأجاز مالك فى رواية عنه جواز استعماله مرة أخرى فى الطهارة.
وبالنسبة للإطلاق الثانى: يجوز التطهر بالماء الباقى فى الإناء بعد أن أخذ منه شخص بعضه وتطهر به، لأن الماء الباقى لا يجنب كما صرح به الحديث الأخير أى لا يصير جنبا.
وبهذا التوضيح يمكن الجمع بين الأحاديث الناهية عن التطهر بفضل الماء والأحاديث المجيزة له.
وهذا ما قام به الخطابى وذكره الشوكانى فى "نيل الأوطار"ج 1 ص 37 ونص عبارته "وقد جمع بين الأحاديث بحمل أحاديث النهى على ما تساقط من الأعضاء لكونه قد صار مستعملا، والجواز على ما بقى من الماء".
وينبغى ألا تحمل أحاديث النهى على احتقار المرأة، التى تطهرت بماء فلا يجوز التطهر بفضله، فذلك شامل للرجال والنساء، غاية الأمر أن الحادثة التى وردت فيها الأحاديث كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجاته.
وخلاصة الحكم أن الماء الذى استعمل مرة فى الطهارة برفع الحدث الأصغر بالوضوء أو الحدث الأكبر بالغسل لا يجوز استعماله مره أخرى فى الطهارة، وهو ما عليه جمهور الفقهاء، وأجازه مالك فى رواية، أما الماء الباقى بعد التطهر فيجوز التطهر به مرة أخرى ما دام باقيا على طهوريته(8/454)
حكم بول الصبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تقول سائلة يحدث أن طفلى الرضيع يبول على ملابسى وأجد مشقة فى قلعها وغسلها من أجل الصلاة، فهل يكفى المسح عليها دون حاجة إلا غسلها؟
الجواب
جاء فى صحيح البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنِّكهم بالتمر، فأتته أم قيس بنت محصن بابن لها لم يأكل الطعام، فبال في حجره صلى الله عليه وسلم فلم يزد على أن دعا بماء فنضحه، أى رشه على ثوبه ولم يغسله غسلا، وروى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائى قوله صلى الله عليه وسلم " بول الغلام ينضح عليه وبول الجارية يغسل " قال قتادة: وهذا ما لم يطعما، فإن طعما غسل بولهما.
ذكر النووى فى شرح صحيح مسلم اختلاف العلماء فى كيفية طهارة بول الولد والبنت وقال إن القول بوجوب غسلهما، والقول بالاكتفاء بنضجهما شاذان ضعيفان، واختار القول الصحيح المشهور عند الشافعية والحنابلة وما ذهب إليه ابن وهب من أصحاب مالك، وروى عن أبى حنيفة-وهو نضح بول الولد وغسل بول البنت كما يدل عليه حديث أحمد ومن معه، وحكم بصحته الحافظ ابن حجر فى الفتح.
(أبو حنيفة ومالك يقولان بوجوب غسلهما فى المشهور عنهما) مسلم ج 3 ص 193.
والنضح -كما اختاره النووى من أقوال العلماء - هو غمر الثوب بالماء غمرا كثيرا لا يبلغ درجة جريانة وتقاطره، ولا يشترط عصره، والشرط فى الاكتفاء بالنضح كما قال قتادة إلا يطعم الرضيع شيئا غير لبن المرضع، فلو تناول طعاما على جهة التغذية فإنه يجب غسل بوله بلا خلاف، وعليه فإن الأولاد الذين يعتمدون الآن على الغذاء الصناعى أكثر من لبن المرضع يجب غسل بولهم ولا يكتفى بالنضح والرش، ولا يجوز المسح كما يقول السؤال(8/455)
الحكمة من التفريق بين بول الصبى والصبية
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك من حكمة للتفريق بين بول الصبى وبول الصبية؟
الجواب
مبدئيا أقول: تنفيذ الأحكام الشرعية لا يشترط له النص على حكمة مشروعيتها، ولا فهم هذه الحكمة، فإن كانت منصوصة فبها، وإلا كان علينا الاتباع ولا بأس من البحث لالتماس حكمة للتشريع، وسواء صح ما وصل إليه البحث أو لم يصح فذلك لا يؤثر على الحكم الشرعى، وقد حاول العلماء أن يجدوا حكمة لهذا التفريق فأتوا بوجوه ذكر صاحب كفاية الأخيار فى فقه الشافعية عن الشيخ تقى الدين ابن دقيق العيد أنها ركيكة جدًا لا تستحق أن تذكر، وهى راجعة إلى اختلاف طبيعة البول لكل منهما تحتاج فى تحقيقها إلى ذوى الخبرة، ومن أقرب الوجوه أن النفوس أشد تعلقا بالصبيان ولذلك يميلون إلى حملهم كثيرا فخفف الله عنهم طهارة بولهم، وهذا المعنى مفقود غالبا بالنسبة للإناث، فجرى الغسل فيهن على القياس، هذا ما قالوه فىَ ذلك(8/456)
بول الطفل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن طفلى الرضيع يبول على ملابسى وأجد مشقة فى خلعها وغسلها من أجل الصلاة، فهل يكفى المسح عليها دون حاجة إلى غسلها، وهل هناك فرق بين بول الطفل وبول الطفلة؟
الجواب
جاء فى صحيح البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم يدعو لهم بالبركة - ويحنكهم بالتمر، فأتته أم قيس بنت محصن بابن لها لم يأكل الطعام، فبال فى حجره صلى الله عليه وسلم فلم يزد على أن دعا بماء فنضحه، أى رشه على ثوبه ولم يغسله غسلا.
وروى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائى قوله صلى الله عليه وسلم "بول الغلام ينضح عليه، وبول الجارية يغسل " قال قتادة: وهذا ما لم يطعما، فإن طعما غسل بولهما.
يؤخذ من هذا أن بول الطفل والطفلة نجس، ويجب تطهير الثوب منهما، فقد ثبت ذلك من فعل النبى صلى الله عليه وسلم ومن قوله، والتطهير يكون بنضح بول الطفل الذكر، وبغسل بول الطفلة الأنثى، والشرط فى ذلك عدم تغذيهما بالطعام كما قال قتادة.
والإمام النووى ذكر فى شرح صحيح مسلم " ج 3 ص 193 " اختلاف العلماء فى كيفية طهارة بول الولد والبنت -وقال إن القول بوجوب غسلهما والقول بالاكتفاء بنضحهما شاذان ضعيفان -أى القول بوجوب الغسل مطلقا فيهما، والقول بالاكتفاء بالنضح مطلقا فيهما شاذان ضعيفان -واختار القول الصحيح المشهور عند الشافعية والحنابلة وما ذهب إليه ابن وهب من أصحاب مالك، وروى عن أبى حنيفة، وهو نضح بول الولد وغسل بول البنت، كما يدل عليه حديث أحمد ومن معه، وحكم بصحته الحافظ ابن حجر فى الفتح. [أبو حنيفة ومالك يقولان بوجوب غسلهما فى المشهور عنهما] .
والنضح -كما اختاره النووى من أقوال العلماء -هو غمر الثوب بالماء غمرا كثيرا لا يبلغ درجة جريانه وتقاطره ولا يشترط عصره، والشرط فى الاكتفاء بالنضح -كما قال قتادة - ألا يطعم الرضيع شيئا غير لبن المرضع. فلو تناول طعاما على جهة التغذية فإنه يجب غسل بوله بلا خلاف. وعليه فإن الأولاد الذين يعتمدون الآن على الغذاء الصناعى أكثر من لبن المرضع يجب غسل بولهم، ولا يكتفى بالنضح والرش، ولا يجوز المسح كما جاء فى السؤال.
أما عن الفرق فى الحكم بين الصبى والصبية فأقول: إن تنفيذ الأحكام الشرعية لا يشترط له النص على حكمة مشروعيتها. فإن كانت منصوصة فبها، وإلا كان علينا الاتباع ولا مانع من البحث لمعرفة حكمة التشريع وسواء صح ما وصل إليه البحث أو لم يصح فذلك لا يؤثر على الحكم الشرعى.
وقد حاول العلماء أن يجدوا حكمة لهذا التفريق فأتوا بوجوه ذكر صاحب "كفاية الأخيار" فى فقه الشافعية عن الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد أنها ركيكة جدا لا تستحق أن تذكر، وهى راجعة إلى اختلاف طبيعة البول لكل من الولد والبنت تحتاج فى تحقيقها إلى ذوى الخبرة.
ومن أقرب الوجوه أن النفوس أشد تعلقا بالصبيان الذكور، ولذلك يميل الناس وبخاصة الآباء والأمهات إلى حملهم كثيرا، فخفف الله عنهم فى طهارة بولهم. وهذا المعنى مفقود غالبا بالنسبة للإناث فجرى الغسل فيهن على القياس.
هذا ما قالوه، والله أعلم بصحته، وإن كان الحكم لا يتغير(8/457)
تجديد الوضوء لكل صلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للإنسان ان يصلِّى بالوضوء الواحد فرضين أو ثلاثة، أو لابد من الوضوء لكل فرض؟
الجواب
إذا توضأ الإنسان ولم ينتقض وضوءه يجوز أن يصلى به أكثر من فرض من فروض الصلاة، ولكن الأفضل أن يجدد هذا الوضوء الذى لم ينتقض أما إن نقض فالواجب أن يتوضأ للصلاة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك " رواه أحمد بإسناد حسن، ويقول "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه "الترغيب والترهيب للحافظ المنذرى"ج 1 ص 73. وقال بعد ذلك. وأما الحديث الذى يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " الوضوء على الوضوء نور على نور" فلا يحضرنى له أصل من حديث النبى صلى الله عليه وسلم ولعله من كلام بعض السلف.
هذا، وقد كان من عادة النبى صلى الله عليه وسلم تجديد الوضوء لكل صلاة ولكن خالف هذه العادة يوم الفتح، فصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، ولما سأله عمر عن ذلك قال " تعمدته يا عمر" وذلك حتى لا تظن أنه واجب فيشق عليهم، وفعل مثل ذلك فى خيبر، والنصوص المثبتة لذلك يرجع إليها فى فتح البارى لابن حجر "كتاب الوضوء" وفى كتاب المواهب اللدنية بشرح الزرقانى "ج 7 ص 246، 247 "(8/458)
النوم والوضوء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ينتقض الوضوء بالنوم؟
الجواب
من الأمور التى ينتقض بها الوضوء النوم المستغرق الذى لا يبقى معه إدراك مع عدم تمكن المقعدة من الأرض، فالذى ينام على جنبه أو على ظهره ينتقض وضوءه، أما الذى ينام جالسا فإن كان متمكنا من المقعد لا يميل يمنة ولا يسرة مثلا فإن وضوءه لا ينتقض.
وبهذا يمكن التوفيق بين النصوص التى فيها نقض الوضوء بالنوم مطلقا، والنصوص التى ليس فيها نقض الوضوء بالنوم.
فمما جاء بالنقض مطلقا حديث رواه أحمد والنسائى والترمذى وصححه عن صفوان بن عسال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا - مسافرين - ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم. والمراد أن الخف لا ينزع عند انتقاض الوضوء بالغائط أو البول أو النوم وينزع عند الحنابلة الموجبة للغسل والسفر جمع سافر كصاحب وصحب، وهو الخارج للسفر.
ومما جاء بعدم النقض بالنوم حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذى كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون، وفى رواية أخرى، لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى لأسمع لأحدهم غطيطا ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون.
ومن الأحاديث الواردة فى النقض ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه " العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ" والوكاء هو الخيط الذى يربط به الكيس، والسه هو الدبر. ومما ورد فى عدم النقض ما رواه مسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: بتُّ عند خالتى مميونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى للصلاة-فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدى فجعلنى من شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت - نمت أو نعست - يأخذ بشحمة أذنى قال: فصلى إحدى عشرة ركعة.
والنووى فى شرحه لصحيح مسلم "ج 4 ص 73" ذكر ثمانية مذاهب فى نقض الوضوء بالنوم:
الأول -أنه لا ينقض الوضوء على أى حال كان.وهو محكى عن أبى موسى الأشعرى من الصحابة، وسعيد بن المسيب من التابعين وغيرهما.
الثانى-أنه ينقض الوضوء بكل حال، وهو مذهب الحسن البصرى والمزنى وإسحاق بن راهويه، وهو قول غريب للشافعى، وأخذ به ابن المنذر وروى معناه عن ابن عباس وأنس وأبى هريرة.
الثالث - أن كثير النوم ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض بحال، وهذا مذهب الزهرى وربيعة والأوزاعى، ومذهب مالك وكذلك أحمد فى إحدى الروايتين.
الرابع -أنه إذا نام على هيئة من هيئات المصلين كالراكع والساجد والقائم والقاعد لا ينتقض وضوءه، سواء كان فى الصلاة أو لم يكن، وإن نام مضطجعا أو مستلقيا على قفاه انتقض.وهذا مذهب أبى حنيفة وداود، وهو قول للشافعى غريب.
الخامس -أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، روى هذا عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
السادس - أنه لا ينقض إلا نوم الساجد، وروى أيضا عن أحمد رضى الله عنه.
السابع -أنه لا ينقض النوم فى الصلاة بكل حال وينقض خارج الصلاة، وهو قول ضعيف للشافعى رحمه الله تعالى.
الثامن -أنه إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإلا انتقض، سواء قل أو كثر سواء كان فى الصلاة أو خارجها، وهذا مذهب الشافعى، وعنده أن النوم ليس حدثا فى نفسه، وإنما هو دليل على خروج الريح، فإذا نام غير ممكن المقعدة غلب على الظن خروج الريح. فجعل الشرع هذا الغالب كالمحقق.
ثم قال النووى: قال أصحابنا: وكان من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعا للحديث الصحيح عن ابن عباس قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه، ثم صلى ولم يتوضأ.
ثم ذكر النووى فروعا فيها حكم النعاس وهو النوم الخفيف الذى تفتر فيه الحواس من غير سقوطها وفيها حكم القاعد المحتبى إذا نام وفيه ثلاثة أقوال، فيرجع إليها فى المرجع المذكور(8/459)
وضع اليدين فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو الوضع الصحيح لليدين أثناء القيام فى الصلاة؟
الجواب
اتفق العلماء على أنه لم يرد ما يوجب على المصلى أن تكون يداه فى وضع معين وهو في قيام الصلاة، فليس ذلك ركنا ولا شرطا من شروط صحة الصلاة. وحجتهم فى ذلك حديث المسىء صلاته، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما علمه كيفية الصلاة لم يتعرض فيها لوضع اليدين. فدل ذلك على عدم وجوبه. ولكن اختلفوا بعد ذلك فى الوضع المختار لليدين أثناء القيام فى الصلاة.
1 -فقيل: يسن وضع إحدى اليدين على الأخرى، وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. روى ذلك عن علي وأبى هريرة، وعن النخعى وسعيد بن جبير، وعن الثورى والشافعى وأصحاب الرأى.
. وحكاه ابن المنذر عن مالك، كما نقله ابن الحكم عنه أيضا.
2 - وقيل: يسن إرسال اليدين. أى تركهما إلى الجانبين، رواه ابن المنذر عن ابن الزبير، وعن الحسن البصرى، كما نقله النووى عن الليث بن سعد، ونقله ابن القاسم عن مالك، وهو ظاهر مذهبه الذى عليه أصحابه، كما نقله المهدى فى البحر عن القاسمية والناصرية والباقر " من الشيعة".
3 - وقيل: يخير المصلى بين وضع يديه وبين إرسالهما دون ترجيح واحد منهما. نقله ابن سيد الناس عن الأوزاعى وجاء فى كلام الشافعى ما يشير إليه.
وأصحاب الرأى الأول الذين قالوا بسنية وضع اليدين إحداهما على الأخرى قالوا: إن ذلك يكون بوضع اليد اليمنى على اليد اليسرى.
وحجتهم فى ذلك ما ياتى:
(أ) عن أبى حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى فى الصلاة. قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمى ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. رواه البخارى.
(ب) عن وائل بن حجر أنه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فى وصفه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد. رواه مسلم وأحمد. وفى رواية لأحمد وأبى داود: ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد.
(ج) عن ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم مر به وهو واضع شماله على يمينه. فأخذ يمينه فوضعها على شماله. رواه أبو داود.
(د) عن غطيف قال: ما نسيت من الأشياء فلم أنس أنى رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واضعا يمينه على شماله فى الصلاة: رواه أحمد فى مسنده.
(هـ) عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. رواه الترمذى وقال:
حديث حسن.
إلى غير ذلك من الأحاديث التى أوصلها بعضهم إلى عشرين حديثا مروية عن ثمانية عشر من الصحابة والتابعين. وحكى الحافط عن ابن عبد البر أنه قال: لم يأت عن النبى صلى لله عليه وسلم فيه خلاف.
وأصحاب هذا القول اختلفوا فى أمرين، الأمر الأول في كيفية وضع اليد اليمنى على اليسرى، والأمر الثانى فى مكان وضعهما على الصدر.
أما الأمر الأول فقد ورد فى حديث وائل بن حجر الذى سبق ذكره، وجاء فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسر والرسغ والساعد. وصور الفقهاء ذلك، كما فى شرح المنهاج وغيره، فقالوا: بأن يقبض بيمينه كوع يساره وبعض ساعدها والرسغ. روى بعضه مسلم، وبعضه ابن خزيمة، والباقى أبو داود. وقيل يخير بين بسط أصابع اليمنى فى عرض المفصل وبين نشرها صوب الساعد. والمعتمد الأول. ويفرج بين أصابع يسراه وسطا. قال الإمام الشافعى:
والقصد من القبض المذكور تسكين اليدين، فإن أرسلهما ولم يعبث بهما فلا باس، كما نص عليه فى " الأم " والكوع هو العظم الذى يلى إبهام اليد، والرسغ هو المفصل بين الكف والساعد، أما البوع فهو العظم الذى يلى إبهام الرجل.
وأما الأمر الثانى فقد ورد فيه ما يأتى:
(أ) عن وائل بن حجر قال: صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. أخرجه ابن خزيمة فى صحيحه.
(ب) عن أبى جرير الضبى عن أبيه قال: رأيت عليا يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. وفى إسناده أبو طالوت عبد السلام بن أبى حازم. قال أبو داود: يكتب حديثه.
(ب) أخرج أبو داود عن طاوس قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى. ثم يشد بهما على صدره وهو فى الصلاة. وهذا الحديث مرسل، أى سقط منه الصحابى.
(د) عن على رضى اللَّه عنه: أن من السنة فى الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة. رواه أحمد وأبو داود وفى إسناده عبد الرحمن ابن إسحاق الكونى. قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يضعفه. وقال البخارى: فيه نطر. وقال النووى: هو ضعيف بالاتفاق.
وإزاء هذه النصوص اختلف فى مكان وضع اليدين:
1 -فقال كثيرون: يسن أن يكون وضعهما تحت الصدر وفوق السرة. اعتمادا على النصوص الثلاثة الأولى، وهو قول سعيد بن جبير، وعليه أحمد فى رواية عنه ومالك فى روايته التى قال فيها بمشروعية وضع اليدين لا إرسالهما. وعليه الشافعى أيضا. قال فى شرح المنهاج: ويسن جعل يديه تحت صدره وفوق سرته فى قيامه، لما صح من فعله صلى الله عليه وسلم. وحكمة جعلهما تحت صدره أن يكون فوق أشرف الأعضاء وهو القلب، فإنه تحت الصدر مما يلى الجانب الأيسر. والعادة أن من احتفط على شىء جعل يديه عليه.
2 -وقال جماعة: يسن وضعهما تحت السرة، استنادا إلى الأثر الرابع المروى عن على. وقد علمت أنه ضعيف، وعليه أبو حنيفة وسفيان الثورى، وإسحاق بن راهويه وأبو إسحاق المروزى من أصحاب الشافعى. وعليه أحمد فى رواية ثانية عنه.
3-وهناك قول ثالث بالتخيير بينهما بلا ترجيح، وهو قول الأوزاعى وابن المنذر الذى قال فى بعض تصانيفه: لم يمبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك شىء فهو مخير. وكذلك هو قول أحمد فى رواية ثالثة عنه كما قال ابن قدامة فى " المغنى " لأن الجميع مروى، والأمر فى ذلك واسع. قال الشوكانى فى " نيل الأوطار ": ولا شىء فى الباب أصح من حديث وائل بن حجر أهـ. وهو قول الأكثرين.
أما أصحاب الرأى الثانى وهو إرسال اليدين إلى الجانبين لا وضعهما على الصدر فحجتهم فى ذلك ما يأتى:
(أ) حديث جابر بن سمرة، قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "مالى أراكم رافعى أيديكم كأنها أخناب خيل شمس؟ اسكنوا فى الصلاة " رواه مسلم وأبو داود. قالوا: إن وضع اليدين على الصدر رفع لهما، ورفعهما منهى عنه 0 ورد ذلك بان هذا الحديث ورد على سبب خاص، فإن مسلما رواه أيضا عن جابر بلفظ: كنا إذا صلينا مع النبى صلى الله عليه وسلم وقلنا:
السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه، وأشار بيديه إلى الجانبين، فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم " علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمس، إنما يكفى أحدكم أن يضع يديه على فخذه. ثم يسلم على أخيه من على يمينه ومن على شماله ".
كما رد هذا الحديث بأن قياس وضع اليدين على الصدر على رفعهما عند السلام قياس مع الفارق، فإن وضعهما على الصدر ضم وتسكين لهما. أما رفهما عند السلام فحركة واضحة لا تناسب الخشوع.
(ب) قالوا: إن وضع اليدين على الصدر مناف للخشوع المأمور به فى الصلاة، ورد قولهم هذا بأن المنافاة للخشوع ممنوعة. بل أن وضعهما على الصدر هو المساعد على الخشوع قال الحافظ: قال العلماء: الحكمة من هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل، وهو أمنع للعبث وأقرب إلى الخشوع. قال المهدى فى البحر: ولا معنى لقول أصحابنا " الشيعة ": ينافى الخشوع والسكون.
(ج) كما احتجوا أيضا على أن إرسال اليدين سنة بأن النبى صلى الله عليه وسلم علم المسىء صلاته كيف يصلى، ولم يذكر وضع اليمين على الشمال. كذا حكاه ابن سيد الناس عنهم.
قال الشوكانى: وهو عجيب، فإن النزاع فى استحباب الوضع لا وجوبه، وترك ذكره فى حديث المسىء صلاته إنما يكون حجة على القائل بالوجوب. وقد علم أن النبى صلى الله عليه وسلم اقتصر على ذكر الفرائض فى حديث المسىء أنتهى. هذا وعدم ذكر النبى صلى الله عليه وسلم لوضع اليدين فى حديث المسىء صلاته لا ينفى استحبابه الذى دل عليه قوله وفعله كما مر ذكره.
أما أصحاب الرأى الثالث وهو التخيير بين وضع اليدين على الصدر وإرسالهما إلى الجانبين فاحتجوا بأن عدم ذكر شىء عنهما فى حديث المسىء صلاته يدل على عدم تعين كيفية خاصة، ورد ذلك بأن المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله وفعله يعين استحباب وضعهما لا إرسالهما.
وخلاصة الموضوع أن أرجح الأقوال هو استحباب قبض اليد اليمنى على رسغ اليد اليسرى، ووضعهما على أسفل الصدر فوق السرة، ويجوز إرسالهما عند السكون، وذلك هو قول الشافعية، هذا وليس هناك دليل صحيح على أن اليدين يسن وضعهما لأعلى الصدر عند العنق وأن أخذ بعض الناس من قوله تعالى {فصل لربك وانحر} أن المراد: ضع يدك اليمنى على اليسرى تحت النحر، تفسير لا أصل له يعتمد عليه، يقول ابن كثير: ويروى هذا عن على ولا يصح. كما ذكره الشوكانى، لأن المعنى-الصحيح للآية: اجعل يا محمد صلاتك وتقربك بنحر الإبل للَّه لا للأصنام كما يفعل المشركون.
وأنبه إلى أن الأمر واسع كما قال ابن قدامة،. ولا يجوز التعصب لرأى من الآراء، والخلاف والتنازع فى هذه الهيئة البسيطة مع عدم الاهتمام بالخشوع الذى هو روح الصلاة والأساس الأول فى قبولها عند اللَّه، هو ظاهرة مرضية لا صحية. والإسلام قد نهى عن الجدل وبخاصة فى هذه الهيئات البسيطة(8/460)
قراءة البسملة فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم قراءة البسملة فى الصلاة؟
الجواب
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، آية من القرآن الكريم باتفاق العلماء، وهى آية من النمل {إنه من سليمان وإنه بسم اللَّه الرحمن الرحيم} أما كونها آية من كل ومن الفاتحة بالذات ففيه خلاف بين الفقهاء، بعضهم جعلها فاصلة بين كل سورتين، وبعضهم جعلها آية من كل، وعلى هذا لو لم يقرأها المصلى مع الفاتحة هل تصح صلاته أو لا تصح؟ هناك ثلاثة مذاهب مشهورة فى هذه المسالة، المذهب الأول أنها آية من الفاتحة ومن كل، فقراءتها واجبة فى الفاتحة، وحكمها حكم الفاتحة فى السر والجهر، وأقوى دليل لهذا المذهب حديث نعيم قال: صليت وراء أبى هريرة فقرأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن -أى الفاتحة- وجاء فى آخر الحديث قوله: " والذى نفسى بيده إنى لأشبهكُمْ صلاة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ". رواه النسائى وابن خزيمة وابن حبان، وقال الحافظ ابن حجر: هو أصح حديث ورد فى البسملة.
المذهب الثانى أنها آية مستقلة نزلت للتبرك والفصل بين السور، وقراءتها فى الفاتحة جائزة بل مستحبة، لكنها غير واجبة وتصح الصلاة بدونها، وهذا المذهب يقول: لا يجهر بالبسملة، ولكن تقال سرا.
والدليل عليه قول أنس: صليت خلف الرسول وأبى بكر وعمر وعثمان وكانوا لا يجهرون ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، رواه النسائى وابن حبان بإسناد على شرط الشيخين.
والمذهب الثالث أنها ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها، وتصح الصلاة بدونها، وقراءتها مكروهة فى الفرض دن النافلة، وليس لهذا المذهب دليل قوى.
ويمكن أن يقال:أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها أحيانا وأحيانا كان يسر بقراءتها، وما دام الأمر خلافيا فلا يجوز التعصب لرأى من الآراء، وأرى أن الإتيان بها ينفع ولا يضر، وأن عدم الإتيان بها لا يفسد الصلاة(8/461)
قول آمين بعد الفاتحة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجب على من يقرا الفاتحة فى الصلاة أن يقول بعدها " آمين " وهل يجهر بها أو يسر؟
الجواب
كلمة آمين معناها: اللهم استجب، وفيها لغتان مشهورتان: المد على وزن فاعيل مثل ياسين، والقصر على وزن يمين. وهى ليست من القراَن، ويسن قولها بعد كل دعاء، روى أبو داود عن أبى زهير النميرى أن النبى صلى الله عليه وسلم وجد رجلا يلح فى المسألة، أى الدعاء، فوقف يسمع منه ثم قال " أوجب إن ختم " وسئل عن الختم فقال "بآمين ".
وفى الخبر " لقننى جبريل آمين عند فراغى من فاتحة الكتاب وقال: إنه كالخاتم على الكتاب.
وثبت فى الحديث " إذا أمنَ الإمام فأمنوا، فإنه مَنْ وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه البخارى ومسلم وغيرهما بعبارات مختلفة ويستحب التأمين فى الصلاة للإمام والمأموم والمنفرد.
يقول النووى فى " الأذكار ": ويجهر به الإمام والمنفرد فى الصلاة الجهرية، والصحيح أن المأموم أيضا يجهر به، سواء كان الجمع قليلا أو كثيرا، ويستحب أن يكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام لا قبله ولا بعده - للحديث المتقدم - وليس فى الصلاة موضع يستحب أن يقترن فيه قول المأموم بقول الإمام إلا فى قوله آمين. وأما باقى الأقوال فيتأخر قول المأموم.
وجاء فى تفسير القرطبى "ج 1 ص 129" أن العلماء اختلفوا: هل يقولها الإمام وهل يجهر بها فذهب الشافعى ومالك فى رواية المدنيين إلى ذلك، وقال الكوفيون وبعض المدنيين: لا يجهر بها. وروى ابن القاسم عن مالك أن الإمام لا يقولها بل يقولها المأمون، والدليل حديث مسلم " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، يحبكم اللَّه " والصحيح قول الإمام لها لحديث أبى داود والدارقطنى عن وائل بن حُجْر: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قرأ "ولا الضالين " قال " آمين " يرفع بها صوته.
وقال عطاء "آمين " دعاء، أمَّن ابن الزبير ومن وراءه، حتى إن للمسجد للجَّة أى صوتا أو دويا، قال الترمذى: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين لا يخفيها، وبه يقول الشافعى وأحمد وإسحاق، وفى الموطا والصحيحين قال ابن شهاب: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول "آمين " وفى سنن ابن ماجه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا قال " غير المغضوب عليهم ولا للضالين " قال " آمين " حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد.
يقول القرطبى: قال أصحاب أبى حنيفة: الإخفاء بآمين أولى من الجهر بها، لأنه دعاء وقد قال اللَّه تعالى " ادعوا ربكم تضرعا وخفية " ورد عليه بأن إخفاء الدعاء أفصل لما يدخله من الرياء. أما صلاة الجماعة فشهودها إشهار شعار ظاهر، وإظهار حق يُنْدَبُ العباد إلى إظهاره، وقد ندب الإمام إلى إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين فى آخرها، فإذا كان الدعاء مما يُسنُّ الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له وجارٍ مجراه. وهذا بيِّن.
ثم تحدث القرطبى عن أن كلمة " آمين " لم تكتب قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السلام. ذكر حديث ابن ماجه " ما حسدتكم اليهود على شىء ما حسدتكم على السلام والتأمين " والمراد بالسلام هو تحية المسلمين لأنها تحية أهل الجنة، هذا وذكر الحافظ المنذرى هذا الحديث وقال: رواه ابن ماجه بإسناد صحيح وابن خزيمة فى صحيحه وأحمد ولفظه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود فقال " إنهم لم يحسدونا على شىء كما حسدونا على الجمعة هدانا اللَّه لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التى هدانا اللَّه لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين ".
يؤخذ من هذا أنه يندب قول آمين لكل مصلٍّ قراءة الفاتحة كما يندب الجهر بها للإمام والمأموم وتحرى موافقة المأموم للإمام فيها، وذلك على رأى جمهور الفقهاء وفيه إظهار لشعيرة الصلاة والاجتماع عليها، وهو أولى بالأتباع من رأى أبى حنيفة لأمرين: أنه رأى الأغلبية الذى تؤيده النصوص القوية، وأن فيه إشهارًا وإعلامًا بشعيرة إسلامية ومظهرا من مظاهر الوحدة(8/462)
ركعتان قبل المغرب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك ركعتان سنة قبلية لصلاة المغرب؟
الجواب
هناك أحاديث عامة يؤخذ من عمومها مشروعية صلاة ركعتين قبل المغرب، وهناك أحاديث خاصة بمشروعيتها.
فمن الأحاديث العامة ما رواه البخارى ومسلم " بين كل أذانين - الأذان والإقامة - صلاة لمن شاء " وما رواه ابن حبان فى صحيحه " ما من صلاة مفروضة إلا وببن يديها ركعتان ".
ومن الأحاديث الخاصة ما رواه البخارى ومسلم أن الصحابة كانوا يصلون ركعتين قبل المغرب قبل أن يخرج إليهم النبى صلى الله عليه وسلم. وفى رواية لمسلم وأبى داود، وقال أنس رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا ولم ينهنا، وقال عقبة: كنا نفعل على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما رواه البخارى ومسلم، وجاء حديث البخارى وأحمد وأبى داود " صلوا ركعتين قبل المغرب لمن شاء ".
يؤخذ من هذا أن مشروعية صلاة ركعتين قبل المغرب ثابتة بقول النبى صلى الله عليه وسلم وبإقراره، وكون الرسول لم يصلها لا ينفى الاستحباب، كما أن مشروعيتها ثابتة بفعله أيضا كما رواه ابن حبان.
وبعض الفقهاء لم يستحبها بناء على ما روى عن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما أنه لم ير أحدا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يصليهما. لكن رواية المثبت، وهو أنس، تقدم على رواية النافى وهو ابن عمر ذلك إلى جانب أن الأحاديث السابقة لم يرد ما ينسخها، فتبقى محكمة. وما يقال من أن صلاتهما تؤدى إلى تأخير صلاة المغرب قول مردود بأمر النبى بهما وبإقراره لهما، وبأن زمنهما يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها " نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 8 ".
وجاء فى المواهب اللدنية القسطلانى (ج 2 ص 272، 273) أنهما مستحبتان عند الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وأصحاب الحديث، وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونها، رواه عنهم محمد بن نصر وغيره من طريق إبراهيم النخعى عنهم، وهو منقطع كما قال الزرقانى شارح المواهب، فادعى بعض المالكية نسخهما، وتُعُقِّب بأن دعوى النسخ لا دليل عليها.
وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين. ويتابع القسطلانى كلامه فيقول: وعن مالك قول أخر باستحبابهما، وهو عند الشافعية وجه رجحه النووي ومن اتبعه، وقال فى شرح مسلم: مجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما، وقال المحب الطبري: لم يرد نفى استحبابهما لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أول الأدلة على استحبابهما.
وروى مسلم عن أنس: كنا بالمدينة إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السوارى فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما.
وبعد، فأرجو من المسلمين ألا يثيروا فتنة بسبب التعصب لمسائل فرعية خلافية. فمن شاء صلاهما ومن شاء لم يصلهما كما أرجو ألا يبادروا بالحكم على الأشياء قبل دراستها والتثبت منها ومعرفة آراء العلماء فيها، وأن تكون دعوتهم إلى ما يريدون دعوة قائمة على الحكمة والموعظة الحسنة(8/463)
عدد ركعات التراويح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صلى الرسول صلى الله عليه وسلم التراويح عشرين ركعة؟
الجواب
روى البخارى وغيره عن السيدة عائشة رضى اللَّه عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى ثلاثا.
وقولها: " يصلى أربعا " لا ينافى أنه كان يسلم من ركعتين، وذلك لقول النبى صلى الله عليه وسلم " صلاة الليل مثنى مثنى ". وقولة " يصلى ثلاثا" معناه أنه يوتر بواحدة والركعتان شفع. روى مسلم عن عروة عن السيدة عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، وجاء فى بعض الطرق لهذا الحديث: يسلم من كل ركعتين.
وروى ابن حبان وابن خزيمة فى صحيحيهما عن جابر رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى بهم ثمانى ركعات والوتر، ثم انتظروه فى القابلة فلم يخرج إليهم.
هذا هو ما صح من فعل النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه شىء غيرذلك.
لكن صح أن الناس كانوا يصلون على عهد عمر وعثمان وعلى رضى اللَّه عنهم عشرين ركعة، وهو رأى جمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة وداود.
قال الترمذى: وأكثر أهل العلم على ما روى عن عمر وعلى وغيرهما من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم عشرين ركعة. وهو قول الثورى وابن المبارك والشافعى. وقال: هكذا أدركت الناس بمكة يصلون عشرين ركعة، وذهب مالك إلى أنها ست وثلاثون ركعة غير الوتر. قال الزرقانى فى شرح المواهب اللدنية: وذكر ابن حبان أن التراويح كانت أولا إحدى عشرة ركعة، وكانوا يطيلون القراءة، فثقل عليهم، فخففوا القراءة وزادوا فى عدد الركعات. فكانوا يصلون عشرين ركعة غير الشفع والوتر بقراءة متوسطة. ثم خففوا القراءة وجعلوا الركعات ستا وثلاثين غير الشفع والوتر. ومضى الأمر على ذلك.
هذا، وقد قال الحافظ فى الجمع بين الروايات: أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث تطؤل القراءة تقلل الركعات، وبالعكس.
وبه جزم الداودى وغيره.
ثم ذكر الحافظ أن أهل المدينة كانوا يصلونها ستا وثلاثين لمساواة أهل مكة، فإنهم كانوا يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، فجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات(8/464)
اختلاف الصلاتين بين الإمام والمأموم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تصح صلاة الظهر خلف إمام يصلى العصر؟
الجواب
لو صلى المأموم الظهر خلف إمام يصلى العصر مثلا، أو صلى خلف إمام يصلى نافلة، أو صلى أداء خلف قضاء فهل تصح الصلاة؟ الإمام الشافعى أجاز الإقتداء بأى إمام يصلى أية صلاة، فرضا كانت أو نافلة قضاء أو أداء، ما دامت صلاة الإمام ذات ركوع وسجود، والممنوع هو صلاة فرض أو نفل خلف من يصلى صلاة الجنازة لخلوها من الركوع والسجود. وخلف صلاة الكسوف.
أما عند غير الشافعى فقد جاء فى فقه المذاهب الأربعة: أنه لا يجوز إقتداء المفترض بالمتنقل إلا عند الشافعية، وأن من شروط صحة الإمامة اتحاد فرض الإمام والمأموم، فلا تصح صلاة ظهر خلف عصر، ولا ظهر أداء خلف ظهر قضاء ولا عكسه، ولا ظهر يوم السبت خلف ظهر يوم الأحد وإن كان كل منهما قضاء، وذلك عند الأحناف والمالكية، أما الشافعية والحنابلة فقالوا: يصح الإقتداء فى كل ما ذكر، إلا أن الحنابلة قالوا: لا يصح ظهر خلف عصر ولا عكسه ونحو ذلك، والشافعية قالوا: يشترط اتحاد صلاة المأموم وصلاة الإمام فى الهيئة والنظام، فلا يصح ظهر مثلا خلف صلاة جنازة لاختلاف الهيئة، ولا صلاة صبح مثلا خلف صلاة كسوف، لأن صلاة الكسوف ذات قيامين وركوعين ومذهب الشافعى أيسر المذاهب فى هذا الموضوع(8/465)
انفراد المأموم عن الصف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم المأموم الذى يصلى منفردا خلف الصفوف؟
الجواب
1 - عن أنس رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة " رواه البخارى ومسلم، وفى رواية للبخارى عن أبى هريرة " فإن إقامة الصف من حسن الصلاة ".
2 - وعن أنس رضى الله عنه قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول " تراصوا واعتدلوا " رواه البخارى ومسلم.
3- وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " سووا صفوفكم، وحافوا بين مناكبكم، ولينوا فى أيدى إخوانكم، وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل فيها بينكم بمنزلة الحذف " يعنى أولاد الضأن الصغار. رواه أحمد.
4 - وعن جابر بن سمرة رضى اللَّه عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها " فقلنا يا رسول اللَّه كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال " يتمون الصف الأول، يتراصون فى الصف " رواه الجماعة إلا البخارى والترمذى.
التسوية والاعتدال والإقامة والاستقامة معناها: اتخاذ سمت واحد وعدم الاعوجاج، والتراص عدم وجود فرج، وقد يراد به التسوية.
تدل هذه الأحاديث على ندب التسوية فى الصفوف وسد الفرج وإتمام الصف الأول، وجاءت أحاديث صحيحة بفضل الصلاة فى الصف الأول، وأنه خير من الصف الذى يليه.
وبهذا يعلم أن المصلى لو دخل فوجد الجماعة مقامة وأن الصف الأول غير تام أو فيه فرجة فانفراده بصف مكروه، ولا خلاف فى ذلك، لكن هل مع الكراهة تصح صلاته أو تبطل وعليه إعادتها؟ الجواب عن ذلك يترتب على بيان الحكم فيمن لم يجد فرصة فى الصف الأول فصلى وحده، وقد وردت فى ذلك أحاديث منها:
1 - عن على بن شيبان أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلى خلف الصف فوقف حتى انصرف الرجل فقال له " استقبل صلاتك، فلا صلاة لمنفرد خلف الصف " رواه أحمد وابن ماجه، وقال أحمد: انه حديث حسن.
2 - عن وابصة بن معبد أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلى خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد صلاته. أخرجه الخمسة إلا النسائى، ورواه الدارقطنى وابن حبان وحسنه الترمذى.
3 - عن أبى بكرة أنه انتهى إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال " زادك اللَّه حرصا ولا تعد "، أخرجه أحمد والبخارى وأبو داود والنسائى وابن حبان.
إزاء هذه الأحاديث اختلف السلف فيمن لم يجد فرجه ولا سعة فى الصف الأول فصلى وحده.
أ - فقالت طائفة: لا يجوز ولا تصح صلاته. وممن قال به النخعى وأحمد وإسحاق، وحجتهم الحديثان الأولان، وعلى قولهم هذا يكون الحكم من باب أولى على من تمكن من الدخول فى الصف الأول ولم يدخل بل صلى وحده.
ب - وقالت طائفة أخرى: تجوز صلاته ولا إعادة عليه، ومنهم الحسن البصرى والأوزاعى ومالك والشافعى وأصحاب الرأى، وحجتهم فى ذلك الحديث الثالث، حيث لم يأمر النبى صلى الله عليه وسلم أبا بكرة بالإعادة، ومثل هذا الحكم فيمن صلى وحده مع وجود فرجة فى الصف الأول.
ورد هؤلاء على حجة الأولين بأن الأمر بالإعادة فى حديث وابصة هو للندب، للمبالغة فى المحافظة على الأولى والأحسن. ومن متمسكاتهم ما روى أن الشافعى كان يضعف حديث وابصة ويقول: لو ثبت لقلت به، ولكن البيهقى-وهو من الشافعية- قال: إن الخبر المذكور ثابت وهناك اتجاه للجمع بين الأخبار، وهو: أن الأمر بالإعادة يحمل على من انفرد عن الصف لغير عذر، والأمر على سبيل الوجوب عند أحمد والندب عند غيره، ويحمل عدم الأمر بالإعانة على من انفرد عن الصف لعذر، مع خشية الفوات لو انضم إلى الصف. وفسّر الشراح قول النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكرة " ولا تعد " بمعنى لا تعد إلى التأخر عن الصلاة، أو لا تعد إلى الإتيان إلى الصلاة مسرعا، وذلك مبنى على الخلاف فى التاء من " تعد" هل هى مفتوحة أو مضمومة.
وعلى هذا من لم يجد فرجة ولا سعة فى الصف فما الذى يفعله؟ قيل: يقف منفردا ولا يجذب إلى نفسه أحدا، لأنه لو جذبه إليه لفؤت عليه فضيلة الصف الأول، ولأوقع الخلل فى الصف. وبهذا قال الطبرى، وحكاه عن مالك. وقال أكثر أصحاب الشافعى: يجذب إلى نفسه واحدا، ويستحب للمجذوب أن يساعده، وروى عن عطاء والنخعى أن الداخل إلى الصلاة والصفوف قد استوت واتصلت يجوز أن يجذب إلى نفسه واحدا ليقوم معه، واستقبح ذلك أحمد وإسحاق، وكرهه الأوزاعى ومالك. وقال بعضهم: جذب الرجل فى الصف ظلم.
واستدل القائلون بالجواز بما رواه الطبرانى فى الأوسط والبيهقى من حديث وابصة: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجل صلى خلف الصف " أيها المصلى، هلا دخلت فى الصف أو جررت رجلا من الصف، أعد صلاتك " وهو ضعيف ورواه أبو داود مرسلا، وما رواه الطبرانى عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما فى جذب رجل إليه إسناده واه.
" انظر نيل الأوطار للشوكانى ج 3 ص 226 "(8/466)
القراءة خلف الإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم قراءة المأموم خلف الإمام؟
الجواب
قراءة المأموم خلف الإمام فيها خلاف كبير للفقهاء، نشرت خلاصته فى كتاب " الإسلام ومشاكل الحياة " جاء فيها:
أن القراءة إما أن تكون للفاتحة أو للسورة والآية، فقراءة المأموم للفاتحة واجبة عند الإمام الشافعى إلا إذا كان مسبوقا بجميع الفاتحة أو بعضها فإن الإمام يتحمل عنه ما سبق به فى الركعة الأولى إن كان الإمام أهلا للتحمل، ودليله حديث " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " رواه البخارى ومسلم.
وعند الحنفية مكروهة كراهة تحريم فى الصلاة السرية والجهرية لحديث " من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له " وهو حديث ضعيف وقد أثر هذا المنع عن ثمانين من كبار الصحابة، وإعمالا للنصين قال الشافعى: إن عدم قراءة المأموم خاص بالسورة لا بالفاتحة.
وعند المالكية أن القراءة خلف الإمام مندوبة فى الصلاة السرية، مكروهة فى الصلاة الجهرية، إلا إذا قصد مراعاة الخلاف فتندب.
وكذلك قال الحنابلة إنها مستحبة فى السرية وفى سكتات الإمام فى الجهرية، وتكره حال قراءة الإمام فى الصلاة الجهرية.
هذا حكم قراءة الفاتحة، أما قراءة غيرها فهى سنة عند الشافعية إذا لم يسمع المأموم قراءة الإمام، أما إذا سمع فلا تسن له. وقال الحنفية:
لا يجوز للمأموم أن يقرأ خلف الإمام مطلقا لا الفاتحة ولا السورة، وقال المالكية: تكره القراءة للمأموم فى الجهرية وإن لم يسمع أو سكت الإمام.
وقد روى فى ذلك حديث عبادة بن الصامت، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: " إنى أراكم تقرءون وراء إمامكم " قال: قلنا يا رسول اللَّه إى واللَّه، قال: " لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن يقرأ بها " رواه أبو داود والترمذى. وفى لفظ: " فلا تقرءوا بشىء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن " رواه أبو داود والنسائى والدارقطنى وكلهم ثقات.
هذا وروى أبو داود وأحمد والترمذى وقال حديث حسن، عن الحسن بن سمرة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يسكت سكتتين، إذا استفتح الصلاة - يعنى بعد تكبير الإحرام -وإذا فرغ من قراءة الفاتحة.
قال الخطابى: إنما كان يسكت فى الموضعين ليقرأ من خلفه فلا ينازعونه القراءة إذا قرأ.
وفى الحديث المتقدم الذى رواه أبو داود وغيره قال النووى، عن أصحاب الشافعى: يسكت قدر قراءة المأمومين للفاتحة، وقد ذهب إلى استحباب هذه السكتات الثلاثة - قبل دعاء الاستفتاح، وبعد الفاتحة، وقبل الركوع - الأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأى- أبو حنيفة وأصحابه -ومالك: السكتة مكروهة.
وللمأموم أن يختار من هذه الآراء ما يشاء دون تعصب ضد من يختار رأيا آخر، والموضوع مبسوط فى تفسير القرطبى " ج 1 ص 117 -127 " لمن أراد الإطلاع على أدلة الأقوال ومناقشتها، فيرجع إليه(8/467)
إمامة الفاسق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يجوز لرجل يتعاطى المخدرات أن يكون إماما فى الصلاة؟
الجواب
روى البخارى أن عبد اللَّه بن عمر كان يصلى خلف الحجاج ابن يوسف الثقفى، وروى مسلم أن أبا سعيد الخدرى صلى خلف مروان صلاة العيد، وصلى عبد الله بن مسعود خلف الوليد بن عقبة بن أبى معيط وكان يشرب الخمر، وفى مرة صلى الصبح بالمصلين أربع ركعات فجلده عثمان بن عفان على ذلك، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن عبيد، وكان متهما بالإلحاد وداعيا إلى الضلال.
فكل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره ما لم يكن أقل منه.
ولكن الصلاة خلف المنحرفين مكروهة، فقد حدث أن رجلا أمَّ قوما فبصق جهة القبلة والرسول ينظر إليه فقال: " لا يصلى لكم " فمنعوه من الصلاة من أجل ذلك، ولما شكا للرسول قال له " نعم، إنك آذيت اللَّه ورسوله " رواه أبو داود وابن حبان، وسكت عنه أبو داود والمنذرى فهو حديث مقبول.
فإذا وجد شخص مستقيم كانت الصلاة خلفه أولى. أما إذا تحتم المشبوه أو المنحرف لأن وظيفته الإمامة مثلا جازت الصلاة خلفه مع القيام بواجب نصحه ليرضى عنه الناس ويستريحوا لإمامته، فقد جاء فى الحديث الذى رواه ابن ماجه وابن حبان فى صحيحه " ثلاثة لا يقبل اللَّه منهم صلاة: إمام قوم وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها غضبان، وأخوان متصارمان ".
هذا، ومع كون الصلاة خلف الفاسق مكروهة فهى صحيحة غير باطلة، ويؤيد ذلك إلى جانب ما سبق من روايات البخارى ومسلم حديث البيهقى " صلوا خلف كل بر وفاجر، صلوا خلف كل بر وفاجر، وجاهدوا مع كل بر وفاجر".
جاء فى تفسير القرطبى "ج 1 ص 326 " قوله: وأما أهل البدع من أهل الأهواء كالمعتزلة والجهمية وغيرها فذكر البخارى عن الحسن: صَل وعليه بدعته، وقال أحمد لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه، وقال مالك: ويصلى خلف أئمة الجور، ولا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم، وقال ابن المنذر: كل من أخرجته بدعته إلى الكفر لم تجز الصلاة خلفه، ومن لم يكن كذلك فالصلاة خلفه جائزة، ولا يجوز تقديم مَنْ هذه صفته.
ثم قال القرطبى: وأما الفاسق بجوارحه كالزانى وشارب الخمر ونحو ذلك فاختلف المذهب - المالكى-فيه، فقال ابن حبيب: من صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد أبدا-حتمًا -إلا أن يكون الوالى الذى تؤدى إليه الطاعة، فلا إعادة على من صلى خلفه إلا أن يكون حينئذ سكران، قاله من لقيت من أصحاب مالك. ثم ذكر القرطبى حديثا فيه " ولا يؤمَّن فاجر برًا إلا أن يكون ذا سلطان " وحكم بأنه ضعيف(8/468)
الأذان والطهارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن المؤذن إذا لم يكن طاهرا يكون سببا فى كثرة الأمراض؟
الجواب
لم يقل أحد من الفقهاء بأن المؤذن يجب أن يكون متطهرا من الحدث والنجس، وأن الأذان بغير طهارة باطل، ولكن الطهارة أفضل، وما يقال من أن الأذان بغير وضوء يكثر الآفات فلا أصل له، وهو كلام يقصد منه الحث على الطهارة(8/469)
القيام للأذان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض الناس إذا سمعوا الأذان يظلون واقفين ولا يجلسون، فما هو رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
إذا سمع الإنسان الأذان وهو واقف لا يلزمه الاستمرار فى الوقوف حتى ينتهى الأذان، فله أن يجلس ويتحرك كما يشاء، ولم يرد بذلك حديث صحيح ولا ضعيف، كما أنه لا يشرع له الجلوس عند سماع الأذان إذا كان مضطجعا، فله أن يحكى ألفاظ الأذان مع المؤذن وهو مضطجع، لأن الآية وردت فى جواز ذكر الله تعالى على كل حال لأولى الألباب قال تعالى {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والأرض} آل عمران: 191، وروى مسلم فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه(8/470)
تقبيل الأصابع عند الأذان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض من يسمعون الأذان يقبلون أصابعهم ويمسحون بها عيونهم عند ذكر النبى صلى الله عليه وسلم، فهل هذا مشروع؟
الجواب
مسح العينين بالأصابع عند سماع الشهادة برسالة النبى صلى الله عليه وسلم فى الأذان، وقول: مرحبا بحبيبى محمد بن عبد الله وقرة عينى، والدعاء بالشفاعة -لم يرد به نص صحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم. وقد عزا الديلمى فى الفردوس هذا الفعل لأبى بكر الصديق رضى الله عنه وأن النبى صلى الله عليه وسلم قال - لما رآه فعل ذلك "من فعل مثل ما فعل خليلى فقد حلت له شفاعتى" وهو غير صحيح كما قال الحافظ السخاوى، بل اخترعت أحاديث تذكر أن من فعل ذلك لم ترمد عيناه أبدا، منها ما ذكره أحمد بن أبى بكر الرداد اليمنى فى كتابه " موجبات الرحمة وعزائم المغفرة " بسند فيه انقطاع ومجاهيل أن الذى قال ذلك هو الخضر عليه السلام. وما ذكره شمس الدين محمد بن صالح المدنى فى تاريخه مرويا عن الحسن رضى الله عنه.
وما ذكره صاحب " المسائل الملقوطة " أن نور الدين الخراسانى العالم المشهور بمدية شيراز كان يفعل ذلك من غير رواية حديث، ولما تركه مرضت عيناه، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم فى المنام فأمره أن يعود لمسح عينيه ففعل فبرئت عيناه.
ذكر ذلك الشيخ عبد الله محمد الصديق الغمارى الحسنى " مجلة الإسلام - المجلد الرابع - العدد 29 " وذكر فى حاشية الصعيدى على كفاية الطالب الربانى على رسالة أبى زيد القيروانى فى مذهب الإمام مالك (ج 1 ص 165 المطبعة العثمانية) وانظر المنحة الوهبية ج 2 ص 36(8/471)
الأوقات التى تكره فيها الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى الأوقات التى تحرم أو تكره فيها الصلاة؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس " وروى مسلم أن عمرو بن عبسة سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال له " صل صلاة الصبح ثم اقعد عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع بين قرنى شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فان الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقعد عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفىء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر، ثم اقعد عن الصلاة حتى تغرب، فإنها تغرب بين قرنى شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار ". وروى الجماعة إلا البخارى عن عقبة بن عامر قال:
ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلى فيهن وأن نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضَيَّفُ - تميل - للغروب حتى تغرب.
فالأوقات المذكورة فى هذه الأحاديث خمسة: بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وعند طلوعها حتى ترتفع قدر رمح، وعند استواء الشمس فى وسط السماء، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، وعند غروبها.
وهناك وقت آخر جاء فى صحيح مسلم وهو عند إقامة الصلاة " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة".
والصلاة المنهى عنها فى هذه الأوقات هى النافلة عند الجمهور، وقصرها الشافعى على النافلة التى لا سبب لها، أو التى لها سبب متأخر كالاستخارة. وأبو حنيفة منع كل أنواع الصلاة حتى المفروضة، ما عدا عصر اليوم وصلاة الجنازة.
هذا هو الحكم إجمالا، وهناك تفصيلات فى المذاهب نلخصها فيما يلى:
أولا: مذهب الحنفية:
قالوا: يكره التنفل تحريما فى أوقات هى:
1 - بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح، إلا سنتها فلا تكره.
2-بعد طلوع الصبح حتى تطلع الشمس، فلا يصلى فى هذا الوقت نافلة ولو سنة الفجر إذا فاته، لأنها متى فاتت وحدها سقطت ولا تعاد.
3-بعد صلاة فرض العصر إلى غروب الشمس.
4 - بعد الغروب قبل صلاة المغرب إذا أطال، أما صلاة ركعتين خفيفتين فهى مباحة لأنه لم يثبت دليل على الكراهة.
5-عند خروج الخطيب من خلوته للخطبة.
6 - عند إقامة المؤذن للصلاة المكتوبة، إلا سنة الفجر إذا أمن فوت الجماعة فى الصبح.
7 -قبل صلاة العيد وبعدها.
8-بين الظهر والعصر المجموعتين فى عرفة جمع تقديم، ولو سنة الظهر.
9 -بين المغرب والعشاء المجموعتين فى المزدلفة جمع تأخير، ولو سنة المغرب.
10 -عند ضيق وقت المكتوبة.
وإذا وقع النفل فى وقت من هذه الأوقات انعقد مع الكراهة التحريمية، ويجب قطعه وأداوه فى وقت الجواز.
ولا تنعقد صلاة الفريضة والجنازة وسجدة التلاوة فى ثلاثة أوقات:
1-وقت طلوع الشمس حتى ترتفع، فلو شرع فى صلاة الصبح ثم طلعت عليه الشمس أثناءها بطلت صلاته.
2-وقت توسط الشمس فى كبد السماء إلى أن تزول.
3-عند احمرار الشمس حتى تغيب، ويستثنى من ذلك عصر اليوم الحاضر، فإنه يصح أداؤه عند غروب الشمس مع الكراهة التحريمية.
ثانيا - مذهب الحنابلة:
قالوا: يحرم التنفل ولا ينعقد ولو كان له سبب فى أوقات ثلاثة:
1 -من طلوع الفجر إلى ارتفاع الشمس قدر رمح، ما عدا ركعتى الفجر فإنها تصح فى هذا الوقت قبل صلاة الصبح، وتحرم ولا تنعقد بعده.
2 -من صلاة العصر ولو مجموعة مع الظهر تقديما إلى غروب الشمس.
إلا سنة الظهر فإنها تجوز بعد العصر المجموعة مع الظهر.
3- عند توسط الشمس، فى كبد السماء حتى تزول، ما عدا ركعتى الطواف فإنها تصح فى هذه الأوقات مع كونها نافلة، ومثلها تحية المسجد حال خطبة الإمام، أما صلاة الجنازة فتحرم وقت توسط الشمس فى كبد السماء، وفى وقت شروعها فى الغروب حتى يتكامل، وفى وقت طلوعها حتى يتكامل، ولا تنعقد إلا لعذر.
ثالثا - الشافعة:
قالوا: تكره النافلة التى ليس لها سبب تحريما، وكذلك التى لها سبب متأخر، ولا تنعقد فى خمسة أوقات:
1 - بعد صلاة الصبح أداء إلى أن تطلع الشمس.
2 -عند طلوعها إلى ارتفاعها قد رمح.
3-بعد صلاة العصر أداء ولو مجموعة مع الظهر فى وقته.
4 - عند اصفرار الشمس حتى تغرب.
هـ -عند استواء الشمس فى كبد السماء حتى تزول.
ويستثنى من ذلك الصلاة بمكة، فإنها تنعقد بلا كراهة فى أى وقت من الأوقات كما يستشنى أيضا من الاستواء يوم الجمعة.
نعم تحرم الصلاة مطلقا بعد جلوس الخطيب على المنبر يوم الجمعة إلا تحية المسجد، ويكره تنزيها التنفل عند إقامة الصلاة المكتوبة غير الجمعة، أما هى فيحرم التنفل عند إقامتها إن ترتب عليه فوات ركوعها الثانى مع الإمام.
رابعا - المالكية:
قالوا: يحرم التنفل فى سبعة أوقات:
1 -من ابتداء طلوع الشمس إلى تمامه.
2 -من ابتداء غروب الشمس إلى تمامه.
3-حال خطبة الجمعة اتفاقا، والعيد على الراجح.
4 - حال خروج الإمام للخطبة.
5 - حال ضيق الوقت الاختيارى أو الضرورى للمكتوبة.
6 - حال تذكر الفائتة.
7 - حال إقامة الصلاة للإمام الراتب.
ويكره التنفل فى خمسة أوقات:
1 -بعد طلوع الفجر إلى قبيل طلوع الشمس، ما عدا سنة الفجر وصلاة الشفع والوتر إذا لم يصلهما حتى طلع الفجر، وصلاة الجنازة وسجود التلاوة فى أحوال خاصة.
2-بعد طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح.
3-بعد أداء صلاة العصر إلى قبيل الغروب، ما عدا بعض أشياء.
4 -بعد تمام الغروب إلى أن تصلى المغرب.
5 - قبل صلاة العيد أو بعدها بالمصلى.
هذه هى أقوال المذاهب الأربعة، وأيها يطمئن إليه القلب فلا حرج فى أتباعه. ولا يجوز أن يخطئ بعضنا بعضا فى ذلك، وإن كان مذهب الشافعى فى رأيى أقرب إلى الحق.
هذا وجمهور العلماء على جواز قضاء الصلاة الفائتة فى الوقت الذى بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، لحديث البخارى ومسلم "من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك "(8/472)
صلاة غير المحجبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أنا غير محجبة ولكن أصوم رمضان 0 فهل يقبل الله صلاتى وصيامى؟
الجواب
العبادة إذا صحت يرجى أن يقبلها الله إذا كانت خالصة لوجهه، ولا ينبغى أن نجزم بالقبول، فالأمر مفوض إلى الله سبحانه وهو القائل "إنما يتقبل الله من المتقين " والراجح أن المراد بالمتقين هنا المؤمنون لا المشركون، لأنها وردت فى قصة هابيل وقابيل، أما المتقون من المؤمنين فهم الذين لا يعصون الله، وإن عصوه بادروا بالتوبة، وهؤلاء أعمالهم الصالحة مقبولة كما أخبر الله، وذلك من باب التفضل منه، وليس من باب الوجوب عليه وهم فى الدرجة العليا من القبول.
أما المؤمنون الذين يعصون الله فإن أعمالهم الصالحة لا يحرمهم الله من قبولها، كما قال سبحانه {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} الكهف: 30، إلى جانب أن يعاقبهم الله على سيئاتهم كما قال سبحانه {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} الزلزلة: 7، 8.
فالتى تصلى وتصوم صوما صحيحا خالصا لوجه الله يرجى قبول عملها، ومع ذلك تعاقب على خلع الحجاب لأنه معصية، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول {إن الحسنات يذهبن السيئات} هود:
114، فهو أعلم بحجم المعصية وهل يمكن لثواب الطاعة أن يذهب عقابها، ذلك أمر موكول إليه سبحانه.
والمؤمن لا ينبغى أن يركن إلى العفو ويؤمل المغفرة، وينزع من قلبه الخشية والخوف من الله حتى لا يتمادى فى العصيان. بل الواجب عليه إذا فعل معصية أن يبادر بالاستغفار والتوبة حتى يغفر الله له. قال تعالى {وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} طه: 82، وفى الحديث الذى رواه الترمذى " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ".
وأنبه إلى أن المتمردة على الحجاب غير خائفة من الله، لا تبالى بأمره ولا تخشى عقابه، فهل إذا صلت أو صامت تكون خائفة من عقاب الله إذا لم تصل ولم تصم؟ لو كانت صلاتها أو صيامها مع هذا الخوف اللازم للقبولا لكان لهذا الخوف أثره على سلوكها فالتزمت الحجاب، فتمردها على الحجاب أمارة على أنها كانت تصلى وتصوم بدون خوف من الله، وبالتالى لا يقبل الله منها صلاتها ولا صيامها. قال تعالى {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت: 45، وفى المأثور: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا.
روى من حديث الحسن مرسلا بإسناد صحيح. ورواه الطبرانى وأسنده ابن مردويه فى تفسيره بإسناد لين، والطبرانى من قول ابن مسعود: من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وإسناده صحيح " العراقى على الإحياء ج 1 ص 134 " وفى الحديث الصحيح أن امرأة ذكرت عند الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة صيامها وصلاتها غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها فأخبر أنها لا خير فيها وأنها فى النار.
فالخلاصة أن علامة قبول الطاعة استقامة السلوك، مع العلم بأن قبول العبادة شىء وصحتها شىء آخر، فقد تكون الصلاة صحيحة بأركانها وشروطها ولكنها غير مقبولة عند الله ولا يحكم عليها بأنها باطلة فليس هناك ربط بين الصحة والقبول. وقد جاء فى الحديث " إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته أو تسعها أو ثمنها أو سبعها أو سدسها أو خمسها أو ربعها أو ثلثها أو نصفها " رواه أبو داود والنسائى وابن حبان فى صحيحه.
ومع كل ما تقدم لا ننسى قوله الله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48، لكن لا ينبغى أن نرتكن على المشيئة فربما لا يشاء الله المغفرة للإنسان، كما لا ينبغى الارتكان على قوله تعالى {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم، إن الله غفور رحيم} التوبة: 102، بل ينبغى أن نبادر بالتوبة من المعصية رجاء أن يختم الله لنا بالخير(8/473)
القراءة فى الصلاة من المصحف
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى كثيرا ممن يصلون التراويح يمسكون المصحف بأيديهم ويقرءون منه ثم يضمونه ويضعونه فى جيوبهم أو على كرسى، ثم يأخذونه مرة ثانية، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
معلوم أن قراءة بعض القرآن بعد الفاتحة سنة فى الركعتين الأوليين من الصلاة، وذلك للإمام والمنفرد، ولو تركت القراءة فالصلاة صحيحة وإن قلَّ ثوابها. وإذا أحب المصلى أن يقرأ فليقرأ ما يحفظه ولو كرره فى الركعات والصلوات، ولا يلزمه تغيير ما يحفظه، فإذا أراد أن يقرأ ما لم يحفظ احتاج إلى مصحف أو مكتوب فيه قرآن، فهل يجوز ذلك؟ أخرج الإمام مالك أن ذكوان مولى السيدة عائشة رضى الله عنها كان يؤمها فى رمضان ويقرأ من المصحف، ولا بأس بذلك كما ذهب إليه الشافعية، والشرط ألا يفعل حركات تبطل الصلاة، كوضع المصحف ثم حمله وفتحه ليقرأ منه، فإن ثلاث حركات ليس بينها فاصل طويل تبطل الصلاة، وقد يستعان على عدم كثرة الحركات بوضع المصحف ذى الخط الكبير على شىء مرتفع أمام المصلى ليقرأ منه الصفحة والصفحتين، ولا يحتاج إلى تقليب الأوراق كثيرا، والقليل من التقليب لا يبطل الصلاة، قال النووى فى المجموع: ولو قلَّب أوراق المصحف أحيانا فى صلاته لم تبطل.
من هذا نرى أن القراءة فى الصلاة من المصحف جائزة عند المالكية، ولكن محل ذلك هو فى التراويح والنوافل، أما فى صلاة الفرض، فمكروهة، لكن الصلاة صحيحة، وكذلك جائزة عند الشافعية والحنابلة كالمالكية فى الجواز فى النفل والكراهة فى الفرض مع صحة الصلاة، أما الحنفية فقد نقل عن الإمام أبى حنيفة أنها تبطل الصلاة إذا لم يكن حافظا، لأنه عمل طويل. ولأن التلقُّن من المصحف كالتلقن من غيره، ومثل الحنفية الظاهرية فى البطلان. ومن أدلة المجيزين ما سبق ذكره عن مولى السيدة عائشة وأخرجه مالك. وسئل الزهرى عن رجل يقرأ فى رمضان فى المصحف فقال: كان خيارنا يقرءون فى المصحف، ومن أدلة المانعين ما رواه ابن أبي داود فى " كتاب المصاحف " أن ابن عباس قال: نهانا أمير المؤمنين أن نؤم الناس فى المصاحف. وروى عن بعض التابعين كراهته. والشرط عند الجواز عدم الفعل الكثير. والأولى أن يكون ذلك لغير الحافظين وفى النوافل، واختلافهم رحمة(8/474)
الذكر بين ركعات التراويح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
للذين يصلون التراويح جماعة بعض أذكار يقولونها بين كل ركعتين أو أربع ركعات، ويرى بعضهم أنها بدعة غير مشروعة، فما هو رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
ليس هناك نص يمنع من الذكر أو الدعاء أو قراءة القراَن فى الفصل بين كل ركعتين من التراويح أو كل أربع منها مثلا، وهو داخل تحت الأمر العام بالذكر فى كل حال. وكون السلف الذين يؤخذ عنهم التشريع لم يفعلوه لا يدل على منعه، إلى جانب أن النقل عنهم فى منع الذكر المذكور غير موثوق به. وهذا االفاصل يشبه ما كان يفعله أهل مكة من قيامهم بالطواف حول البيت سبعا بين كل ترويحتين، الأمر الذى جعل أهل المدينة يزيدون عدد التراويح على العشرين، تعويضا عن هذا الطواف، وهو أسلوب تنظيمى يعرفون به عدد ما صلوه، إلى جانب ما فيه من تنشيط للمصلين، فلا مانع مطلقا، وبهذا لا يدخل تحت اسم البدعة، فالنصوص العامة تشهد له، فضلا عن عدم معارضته لها، ولئن يسمى بدعة فهو على نسق قول عمر رضى الله عنه: نعمت البدعة هذه، عند ما رأى تجمع المسلمين لصلاة التراويح خلف أبى بن كعب(8/475)
حكم صلاة الجماعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن صلاة الجماعة واجبة، ومن صلى منفردا أثم وبطلت صلاته؟
الجواب
وردت عن النبى صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث صحيحة فى صلاة الجماعة تحث عليها وتبين فضلها وتحذر من تركها والتهاون فيها. وللعلماء إزاء هذه الأحاديث آراء ألخصها فيما يلى:
الرأى الأول: قال أحمد بن حنبل: إنها فرض عين على كل قادر عليها، وذهب إلى ذلك عطاء والأوزاعى وأبو ثور، ومن أهل الحديث ابن خزيمة، وابن حبان، كما ذهب إليه الظاهرية الذين يأخذون بظاهر النصوص. ومع قول هؤلاء بفريضة الجماعة اختلفوا. هل الفرضية شرط فى صحة الصلاة فتبطل بدونها، أو ليست شرطا فتصح بدون جماعة مع الإثم؟ والمجال لا يتسع لتفصيل ذلك. ومن أدلة الموجبين وجوبا عينيا للجماعة فى الصلاة ما يأتى:
1 - حديث مسلم والنسائى وغيرهما عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: أتى النبى صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله ليس لى قائد يقودنى إلى المسجد، فسأله أن يرخص له ليصلى فى بيته، فرخص له، فلما ولى الرجل دعاه فقال " هل تسمع النداء بالصلاة"؟ قال: نعم. قال " فأجب ".
وجاء مثل هذا فى رواية أحمد وابن حبان والطبرانى، وفيها أن الأعمى هو عبد الله ابن أم مكتوم. ووجه الاستدلال فى هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرخص فى تركها للأعمى-وله عذره -فكيف بالصحيح الذى لا عذر له؟ .
2 -حديث مسلم وغيره عن أبى الشعثاء المحاربى قال: كنا قعودا فى المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشى، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم. ووجه الاستدلال أن تارك الصلاة مع الجماعة عاص، وهذا يدل على وجوب الجماعة.
3- حديث مسلم وغيره عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لقد هممت أن آمر فتيتى فيجمعوا لى حزما من الحطب، ثم آتى قوما يصلُّون فى بيوتهم ليست بهم علة فأحرِّقها عليهم " فقيل ليزيد بن الأصم: الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صمت أذناى إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر جمعة ولا غيرها. ووجه الاستدلال أن هم النبى صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة يدل على معصيتهم وهذا يدل على وجوبها. الرأى الثانى: قال مالك وأبو حنيفة وكثير من الشافعية: إن صلاة الجماعة سنة مؤكدة، ومما استدلوا به ما يأتى:
1 -حديث (إذا صليتما فى رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة) رواه الخمسة عن يزيد بن الأسود إلا ابن ماجه. ووجه الاستدلال أنه حكم على الصلاة جماعة بأنها نافلة، ويلزمه أن الصلاة الأولى وقعت صحيحة وأجزأت عن الفريضة.
2 - حديث (والذى ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام فى جماعة أعظم أجرا من الذى يصليها ثم ينام) رواه البخارى ومسلم. ووجه الاستدلال أن التفضيل فى الأجر يدل على أن الصلاة مع غير الإمام لها أجر، ويقتضى ذلك أن تكون صحيحة، غير أن أجر الجماعة أعظم، ذلك أن أفعل التفضيل يقتضى المشاركة وزيادة، كما هو معروف. وهناك أحاديث أخرى ترغب فى صلاة الجماعة بما يفيد أن ثوابها أعظم من الصلاة المنفردة وإن صحت. وقد أجاب هؤلاء على أدلة الموجبين للجماعة فقالوا:
(أ) إن عدم ترخيص النبى صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم بالتخلف عن الجماعة ليس دليلا على وجوبها حتى على ذوى الأعذار، وإنما ذلك لما يعلمه من حرص عبد الله على الخير مهما كلفه من جهد، ولما يعلمه أيضا من ذكائه وفطنته واستطاعته حضور الجماعة بغير قائد، ويدل على هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام رخص لغيره ممن له عذر أن يصلى في بيته ولا يذهب للجماعة فى المسجد، فقد روى البخارى ومسلم أن عتبان بن مالك -وهو ممن شهد بدرا - قال: يا رسول الله قد أنكرت بصرى - أى ضعف نظرى - وأنا أصلى لقومى، فإذا كانت الأمطار سال الوادى بينى وبينهم، لم أستطع أن آتى مسجدهم فأصلى بهم، ووددت يا رسول أنك تأتينى فتصلى في بيتى فاتخذه مصلى فاستجاب له وصلى فيه ركعتين. ولا يقال إن الترخيص لعتبان -وهو لعذر-دليل على أن الجماعة واجبة على غير المعذورين، لأنها لو كانت واجبة لقال له: انظر من يصلى معك فى بيتك، فعدم أمره بذلك دليل على أن الجماعة سنة.
(ب) إن حديث الهم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة لا يدل على وجوبها، بل يدل على عدم الوجوب لأمرين، الأول: أن همه بترك الصلاة وإنابة واحد يصلى بالناس دليل على عدم وجوبها، وإلا فكيف يترك واجبا؟ ولا يقال إنه لو عاد من تحريق البيوت لأمكنه أن يجد جماعة يصلى بهم، لأن وجود جماعة غير مضمون، والثانى أن الجماعة لو كانت واجبة تستحق تحريق بيوت المتخلفين، ما تأخر عن تحريقها معاقبة لهم على المعصية، لكنه لم يفعل فدل ذلك على عدم وجوبها وغايته أنها هامة.
3 -إن أحاديث الهم بالتحريق وردت فى شأن المنافقين لتخلفهم كثيرا عن الفجر والعشاء، وذلك فى رواية أبى هريرة نفسه التى اتفق عليها البخارى ومسلم، فقد جاء فى آخرها (والذى نفسى بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) والعرق بقية لحم أو عظم عليه لحم، والمرماتان ما بين ظلف الشاة من اللحم. فالحديث منصب على من يكثرون التخلف وبخاصة عن الفجر والعشاء، وهذا دأب الذين فيهم نفاق، جاء فى بعض روايات الشيخين (إن أثقل صلاة على المنافقين هى الفجر والعشاء) .
4 -إن الوعيد بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة يراد به الزجر لا حقيقته لأن الإحراق لا يكون إلا للكفار والإجماع على منع إحراق المسلمين.
5 -إن فريضة الجماعة يراد بها صلاة الجمعة كما جاء عن ابن مسعود فى صحيح مسلم، لكن رد هذا بأن التهديد يجوز أن يكون للتخلف عن الجمعة وعن الصلوات الأخرى وبخاصة الفجر والعشاء.
6 -إن فريضة الجماعة كانت فى أول الأمر لحرص النبى صلى الله عليه وسلم على حضور الناس جميعا معه لتبليغ الوحى وإرشادهم ثم نسخ الوجوب. قال الحافظ ابن حجر: ويدل على النسخ الأحاديث الواردة فى تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، أى المنفرد لأن الأفضلية تقتضى الاشتراك فى أصل التفضيل، ومن لازمه الجواز، هذا بعض ما قيل فى مناقشة أدلة الموجبين، إلى جانب أن الوجوب فيه حرج، والأرض كلها مسجد.
الرأى الثالث: قال الشافعى فى أحد قوليه وجمهور المتقدمين من أصحابه وكثير من المالكية والحنفية:
إن صلاة الجماعة فرض كفاية، يجب على أهل كل محلة أن يقيموها، وإذا أقامها بعضهم سقط الطلب عن الباقين، وكانت فى حقهم سنة - وذلك لإظهار شعيرة الإسلام بإجابة المؤذن وإقامة الصلاة، وسند هذا القول ما ورد من الأحاديث المؤكدة لفضلها والمحذرة من تركها، ويوضحه أو يبين حكمته ما قاله ابن مسعود-كما رواه مسلم -: ولو أنكم صليتم فى بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وفى رواية أبى داود لكفرتم. والمراد بسنة النبى دينه وطريقته لا السنة بمعنى المندوب، فإن ترك المندوب لا يؤدى إلى الكفر والضلال.
وهذا الرأى الثالث له وجاهته وهو كون الجماعة فرض كفاية على المجموع يسقط بأداء بعضهم، وسنة مؤكدة فى حق الجميع أى فى حق كل واحد على حدة. وأداء الجماعة فى المسجد أفضل من أدائها فى البيت أو السوق بنص حديث البخارى ومسلم " صلاة الرجل فى جماعة تفضل صلاته فى بيته وفى سوقه خمسا وعشرين درجة، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان فى صلاة ما كانت تحبسه، وما تزال الملائكة نصلى عليه ما دام فى مجلسه الذى صلى فيه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث فيه ".
وقد رأى جماعة أن من له زوجة أو أولاد يصلى بهم فى بيته ولو تركهم وصلى فى المسجد مع الناس لتركوا الصلاة فإن صلاته جماعة بهم أفضل من تركهم وصلاته فى المسجد ما دام هناك من يقيم صلاة الجماعة فيه غيره، وأما حديث " لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد " فليس بصحيح، ولو صح لكان المراد به نفى الكمال لا تفى صحة الصلاة - ذكره المناوى فى " فيض القدير " على " الجامع الصغير" للسيوطى.
وكان المسلمون الأولون حريصين على صلاة الجماعة وإقامتها فى المسجد مضاعفة الثواب، حتى إن الرجل منهم كان يؤتى به يهادى بين الرجلين -أى يسندانه -حتى يقام فى الصف كما رواه مسلم عن ابن مسعود.
وقد اخترنا الرأى الثالث جمعا بين الأحاديث التى يشعر ظاهرها بالوجوب وبين الأحاديث التى تدل على الندب لما فيها من الفضل، والجمع بين الأحاديث أفضل من إهدار بعضها.
وهذا كله فى حق الرجال أما صلاة الجماعة للنساء فى المسجد فليست واجبة ولا مندوبة، لأن صلاة المرأة فى بيتها أفضل، كما نصت على ذلك الأحاديث المقبولة، ولو صلت فى بيتها جماعة كان أفضل على ألا تكون إماما لرجل.
ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى تفسير القرطبى "ج 1 ص 348 " والمغنى لابن قدامة ج 2 ص 2(8/476)
المصافحة بعد الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الشرع فى مصافحة المصلين بعضهم لبعض عقب الانتهاء من صلاة الجماعة، وقولهم " حرما " وهل هذه بدعة محرمة؟
الجواب
مصافحة المسلم لأخيه عند اللقاء أصلها مستحب، وذلك لتوكيد الألفة والمحبة بين المسلمين، وقد وردت فى ذلك نصوص تدل على أنها كانت عادة جارية فعلها الصحابة كما أخرجه البخارى وغيره، وأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل حبب فيها بمثل قوله " ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا " رواه أبو داود والترمذى وقال: حديث حسن.
ولم تكن المصافحة عقب الانتهاء من صلاة الجماعة معروفة أيام النبى صلى الله عليه وسلم ولكن حدثت بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، بتأويل أن المصلين جماعة كانوا مع الله فى رحلة روحية، حطوا الرحال منها بالتسليم الذى برره البعض بأنه تحية لمن على يمين المصلى من الملائكة وغيرهم، لأنه كان منصرفا عنهم أثناء الصلاة.
ومع السلام عليهم كانوا يتصافحون بهذا المفهوم، ويدعو بعضهم لبعض أن يكون اللقاء فى الصلاة فى الحرم الشريف الذى تشد الرحال إليه لمضاعفة ثواب الصلاة وغيرها من الطاعات، ويختصرون هذا الدعاء بقولهم " حرما " كما يدعون لبعضهم بعد الوضوء أن يمن الله عليهم بالوضوء من ماء زمزم فى حج أو عمرة.
وتضاربت الأقوال فى هذا العمل الذى لم يكن أيام الرسول والصحابة وهم من يؤخذ عنهم التشريع فقال بعضهم إنه بدعة بالمعنى المذموم وهو كل بدعة ضلالة وقال بعضهم: إنه بدعة ولكن لا يوجد ما يصفها بأنها مذمومة وضلالة. حيث لم يرد نهى عنها، وكم من الأمور الحسنة حدثت بعد عهد التشريع ورأى الناس حاجتهم إليها فأخذوا بها وحرصوا عليها.
جاء فى كتاب " غذاء الألباب " للسفارينى ج 1 ص 283 أن ابن تيمية سئل عن المصافحة بعد العصر والفجر هل هى سنة مستحبة أم لا؟ فأجاب بقوله: أما المصافحة عقب الصلاة فبدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستحبها أحد من العلماء انتهى، قال السفارينى: ظاهر كلام العز بن عبد السلام من الشافعية أنها بدعة مباحة، وظاهر كلام الإمام النووى أنها سنة قال الحافظ ابن حجر فى شرح البخارى: قال النووى: وأصل المصافحة سنة وكونهم حافظوا عليها فى بعض الأحوال لا يخرج ذلك عن أصل السنة. قال الحافظ: وللنظر فيه مجال، وبعضهم أطلق تحريمها انتهى. ويتوجه مثل ذلك عقب الدروس ونحوها من أنواع مجامع الخيرات.
والوجه المختار أنها غير محرمة، وقد تدخل تحت ندب المصافحة عند اللقاء الذى يكفر الله به السيئات، وأرجو ألا يحتد النزاع فى مثل هذه الأمور. التى تفيد ولا تضر، وحديث مسلم صريح فى أن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة(8/477)
أين يصلى العيد؟
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الأفضل صلاة العيد فى الخلاء أم فى المسجد؟
الجواب
عن أبى هريرة رضى الله عنه أنهم أصابهم مطر فى يوم عيد فصلى بهم صلى الله عليه وسلم صلاة العيد فى المسجد، رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم، وسكت عنه أبو داود والمنذرى، أى لم يبينا درجته، وهو حديث ضعيف فى إسناده رجل مجهول، وهو عيسى بن عبد الأعلى، قال فيه الذهبى لا يكاد يعرف وقال هذا حديث منكر.
وأكثر الأحاديث الواردة فى صلاة العيد تذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم فعلها فى " المصلى " والمراد به غير المسجد وعبر عنه أحيانا بالجبانة. وهذا الحديث على الرغم من ضعفه، يفيد أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلاها فى المسجد لعذر المطر، حيث لا يوجد فى المصلى ما يتقى ومن هنا اختلف العلماء فى أفضلية صلاة العيد، هل تكون فى المصلى أو فى المسجد، فالإمام مالك يقول إن فعلها فى الجبانة أى فى غير المسجد، أفضل، واستدل بما ثبت من مواظبته عليه الصلاة والسلام على الخروج إلى الصحراء، فإن كان هناك عذر كمطر فالأفضل المسجد.
والأمام الشافعى ذهب إلى أن المسجد أفضل، لأنه خير البقاع فى الأرض، والأحاديث واردة بكثرة فى فضل التردد عليها والصلاة فيها، قال فى الفتح: قال الشافعى فى الأم: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج فى العيدين إلى المصلى بالمدينة، وهكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذا عامة أهل البلدان إلا أهل مكة، ثم أشار الشافعى إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة، قال: فلو عمر بلد وكان مسجد أهله يسعهم فى الأعياد لم أر أن يخرجوا منه، فإن لم يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة قال الحافظ: ومقتضى هذا أن العلة تدور على الضيق والسعة لا لذات الخروج إلى الصحراء، لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل فى المسجد مع أولويته كان أولى.
فأنت ترى أن حجة الأولين هى فعله صلى الله عليه وسلم وهو قدوة حسنة، لكن يقال: إن الفعل واقعة حال لا تنفى غيرها، ولم يرد من الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بفعلها فى غير المسجد عند الاختيار، ولا نهى عن فعلها فى المسجد، ولعل اختيار الرسول فعلها فى غير المسجد كان لأمرين، الأول ضيق المسجد لأنه دعا النساء أيضا لشهود صلاة العيد، كما ثبت فى الصحيحين وغيرهما، حتى الحيض منهن، والحيض لا يدخلن المسجد، والثانى إظهار شعيرة من شعائر الإسلام وإعلان الفرح بيوم العيد لما فيه من فضل الله على المسلمين، والاجتماع الواسع شعار كل الناس فى أعيادهم، والتوجيهات التى يلقيها على الحاضرين تعم أكبر عدد من المسلمين لم يكن ليوجد لو حضروا فى المسجد، ولذلك عندما حث على الصدقات توجه إلى حيث يجتمع النساء وذكرهن ووعظهن فجمع منهن خيرا كثيرا لمساعدة من لا يجدون سعة ولا يستطيعون التمتع ببهجة العيد لضيق ذات أيديهم.
ويقع فى نفسى بناء الحكم على نتيجة إقامة الصلاة وأثرها، فإن كان هناك مسجد واحد كبير فى محلة يسع كل الناس بما فيهم من لا يصلون العيد كانت صلاتها فيه أفضل، وذلك لأفضلية المسجد على غيره، ولحصول التجمع وفرصة التلاقى، تبادل التهانى بين كل أهل البلدة.
فإذا تعددت المساجد وضاق مسجد واحد عن استيعاب أهل البلد كان فعلها فى الخلاء أفضل، وذلك لأن التعارف وتبادل التهانى وشهود التوجيهات العامة الموحدة يحدث فى المصلى بشكل لا يوجد فى كل مسجد على حدة، حيث لا يتم التعارف الشامل، والإسلام يحب من المسلمين أن يظهروا وحدتهم وتعاونهم، وفى تجمعهم على شكل واسع إعلان عن قوة الإسلام ودعاية تجتذب لها قلوب غير المسلمين، والمظاهر إذا كانت تستهدف خيرا كانت مشروعة، وشواهد ذلك كثيرة(8/478)
اجتماع العيد والجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا وافق أول أيام العيد يوم جمعة فهل يسقط أداء الجمعة عمن صلى العيد؟
الجواب
روى أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائى أن زيد بن أرقم شهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا، فصلى العيد أول النهار ثم رخص فى الجمعة وقال " من شاء أن يجمع فليجمع " فى إسناده مجهول، فهو حديث ضعيف.
وفى رواية لأبى داود وابن ماجه عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " قد اجتمع فى يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون " فى إسناده كلام، وصحح أحمد بن حنبل أنه مرسل، أى سقط منه الصحابى.
وروى النسائى وأبو داود أنه اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرح فخطب ثم نزل فصلى، ولم يصل للناس يوم الجمعة، أى لم يصل العيد، ولما ذكر ذلك لابن عباس قال: أصاب السنة.
يلاحظ أنه صلى الجمعة بدليل تقديم الخطبة على الصلاة.
وجاء فى رواية لأبى داود أنه فى عهد ابن الزبير اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر، فجمعهما جميهعا فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليهما حتى صلى العصر. رجالهما رجال الصحيح.
إزاء هذه النصوص الخاصة باجتماع يوم الجمعة والعيد، قال الأحناف والمالكية:
لا تجزئ صلاة منهما عن صلاة الأخرى، فكل منهما مطلوب، ولا تجزئ صلاة عن صلاة بل لا يجوز الجمع بينهما. فالجمع رخصة خاصة بالظهر مع العصر، وبالمغرب مع العشاء.
والحنابلة يقولون: من صلى العيد سقطت عنه الجمعة، إلا الإمام فلا تسقط عنه إذا وجد العدد الكافى لانعقاد الجمعة، أما إذا لم يوجد فلا تجب صلاة الجمعة. وفى رواية عن أحمد أن الجمعة لو صليت أول النهار قبل الزوال أغنت عن العيد، بناء على أن وقتها يدخل بدخول وقت صلاة العيد.
والشافعية قالوا: إن صلاة العيد تغنى عن صلاة الجمعة لأهل القرى التى لا يوجد فيها عدد تنعقد بهم الجمعة ويسمعون الأذان من البلد الذى تقام فيه الجمعة، فيذهبون لصلاتها، ودليلهم قول عثمان فى خطبته: أيها الناس إنه قد اجتمع عيدان فى يومكم، فمن أراد من أهل العالية- قال النووى: وهى قريبة من المدينة من جهة الشرق - أن يصلى معنا الجمعة فليصل، ومن أراد أن ينصرف فليفعل.
وجاء فى فتاوى ابن تيمية أن أقوال الفقهاء فى اجتماع يوم الجمعة ويوم العيد ثلاثة:
أحدها: أن الجمعة على من صلى العيد ومن لم يصله، كقول مالك وغيره.
الثانى: أن الجمعة سقطت عن السواد الخارج عن المصر، كما يروى ذلك عن عثمان بن عفان واتبع ذلك الشافعى.
الثالث: أن من صلى العيد سقطت عنه الجمعة، لكن ينبغى للإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من أحب، كما فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم.
وعليه أحمد.
ثم قال: وهذا المنقول هو الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه، وهو قول من بلغه من الأئمة كأحمد وغيره، والذين خالفوه لم يبلغهم ما فى ذلك من السنن والآثار.
فالموضوع خلافى، لكن القول بالاكتفاء بصلاة العيد عن صلاة الجمعة أقوى ويستوى فى ذلك أهل القرى والأمصار، والإمام وغير الإمام، فالمقصود من الصلاتين قد حصل، وهو صلاة جمعتين مع الخطبة، اجتمع الناس لأداء صلاة الجماعة وسماع الموعظة، فبأى من الصلاتين حصل ذلك كفى. " انظر: نيل الأوطار للشوكانى ج 3 ص 299 والفتاوى الإسلامية-المجلد الأول ص 71 وفتاوى ابن تيمية -المجلد 24 ص 212 "(8/479)
زخرفة المساجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن زخرفة المساجد من علامات الساعة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
روى أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس فى المساجد ".
قال العلماء: تكره زخرفة المساجد باللونين الأحمر والأصفر، ونقشه وتزيينه، لئلا تشغل قلب المصلى، وهذا واضح فى الزخرفة من الداخل، أما من الخارج فقد تدخل تحت التباهى بمظهرها، والتباهى بفعل الخير حرام يبطل الثواب.
وهذا الحكم بالكراهة مقرر عند المالكية والحنابلة. وأجاز الحنفية نقش المسجد بالمال الحلال،، ما عدا المحراب فيكره، لأنه يلهى المصلى، وما دامت العلة هى الإلهاء فيكره النقش فى أى مكان فيه إلهاء.
وروى عن أبى حنيفة الترخيص فى ذلك، كما روى عن أبى طالب المكى عدم الكراهة فى تزيين المحاريب. فالمنع من التزيين لا يتعدى الكراهة إلى الحرمة، وذلك من أجل توفير الجو المناسب للمصلى والمتعبد لتحقيق الخشوع، أما الشكل الخارجى للمسجد فإن حان القصد به مجرد الفخر والتباهى كان ممنوعا، لكن لو كان لإظهار عناية المسلمين بمساجدهم فى مقابل تنافس غيرهم فى ذلك فلا مانع، كما أثر أن عمر رضى الله عنه لما زار الشام وقابله عامله معاوية بحفاوة غير معهودة سأله عن ذلك فقال:
نحن فى بلد يهتم بهذه المظاهر، فقال: لا آمرك ولا أنهاك. من هنا نعرف أن للظروف دخلا فى بعض أنواع السلوك.
أما الكتابة على جدران المسجد وسقفه فهى داخلة ضمن الزخرفة، وكرهها الجمهور من أجل شغل المصلى عن الخشوع، وإذا كانت الكتابة آيات قرآنية فحكمها فى مكان آخر(8/480)
الآكل فى المسجد والتدخين
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى تناول الأكل فى المسجد؟ وما حكم التدخين فيه؟
الجواب
تناول الطعام فى المسجد لا مانع منه ما لم يكن هناك تلويث له أو انبعاث رائحة كريهة بسببه، والذين يعتكفون في المساجد يتناولون طعامهم فيها، ويقدم الإفطار للصائمين فى كثير من المساجد دون نكير ولا اعتراض، جاء فى فتاوى الإمام النووى " الفتوى رقم 76 " أن الأكل فى المساجد جائز ولا يمنع منه لكن ينبغى أن يبسط الآكل شيئا ويصون المسجد ويحترز من سقوط الفتات والفاكهة وغيرها فى المسجد، وذلك فيما ليس له رائحة كريهة كالثوم والبصل، وإلا كره.
2 -أما التدخين فى حد ذاته فيتلخص حكمه فى أنه حرام إن حصل منه ضرر كبير على الصحة والمال، وإلا كان مكروها، والأولى صرف ثمنه فى مصارف الخير، " انطر رسالتى الخاصة بذلك -مطبوعة ملحقة بمجلة الأزهر ". ولما كان التدخين يؤذى غير المدخن برائحته، والملائكة تتأذى مما يتأذى به الإنسان كان التدخين فى المسجد بالذات مكروها بل أشد كراهة، كالثوم والبصل اللذين جاء النهى عن دخول من يأكلهما المسجد حتى لو حرم من ثواب صلاة الجماعة، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار، والمسجد ينبغى أن يصان عن كل خبيث، كما ينبغى أن نحرص على حضور الملائكة، وهم ملائكة الرحمة ففى ذلك خير كثير(8/481)
المؤذن والمقيم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يشترط أن يكون مقيم الصلاة غير المؤذن، أو يجوز أن يقوم بهما شخص واحد؟
الجواب
لا يوجد دليل يحتم أن يكون المؤذن هو المقيم للصلاة، كما لا يوجد دليل يمنع أن يكون الأذان من شخص والإقامة من شخص آخر(8/482)
المساجد تحت العمارات
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى الصلاة بالمساجد الموجودة أسفل العمارات؟ وهل الصلاة فى المساجد الأخرى أفضل؟
الجواب
مما اختص الله به الأمة الإِسلامية أنه جعل الأرض كلها مسجدا، فأينما أدركت الإنسان الصلاة صلى، وما دامت الأرض قد خصصها صاحبها للصلاة وصلى الناس فيها صارت مسجدا وله أحكام كل المساجد، وتكون الصلاة فيه أفضل من الصلاة فى أية بقعة أخرى من الأرض. والمساجد نفسها بينها تفاضل، فأفضلها المسجد الحرام بمكة، لأن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه، ثم مسجد المدينة لأن الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى لان الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، وفى كل ذلك وردت أحاديث. أما باقى المساجد فهى سواء فى الثواب. وبعض العلماء قال: المسجد الكبير أولى من المسجد الصغير للصلاة، وقال البعض: المسجد البعيد أولى لكثرة الخطا إليه، وكل ذلك خلاف فى الأفضلية، أما الصلاة فى أى مسجد منها فهى صلاة صحيحة لا غبار عليها. وتقام فيها الجماعات والجمع والأعياد وغيرها، على رأى الجمهور الذى يسوى بين المساجد فى صحة الجمعة، لا فرق بين القديم والجديد(8/483)
الصلاة فى الطائرة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تصح الصلاة أثناء تحليق الطائرة فى الجو وهى غير ملامسة للأرض وماذا يعمل لو كان الإنسان غير متطهر؟
الجواب
الصلاة جائزة فى الطائرة وهى محلقة فى الجو، وبالأولى إذا كانت رابضة على الأرض، والمالكية لا يجيزونها فيها وهى فى الجو، لأن شرط السجود عندهم أن يتصل المسجود عليه بالأرض اتصالا حقيقيا، ورأى الجمهور أقوى، والإنسان يضطر إلى الصلاة فى الطائرة إذا لم يأخذ برخصة الجمع بين صلاتى الظهر والعصر، وبين صلاتى المغرب والعشاء، أو كان تحليقها فى وقت الفجر الذى لا يجمع مع غيره.
ومهما يكن من شىء فإن التطهر للصلاة لابد منه إن أمكن بالماء فيها، وإلا فيكون بالتيمم، ويتحرى اتجاه القبلة - والملاحون يعرفون ذلك بالتقريب -إن لم تكن معه " بوصلة " يتعرف بها القبلة، وزمن أداء الصلاة قصير، لأن الرباعية تصلى ركعتين قصرا، فإن لم يستطع الصلاة من وقوف -لحصول دوار مثلا- فليصل قاعدا، والمهم أن الصلاة ممكنة فى الطائرة إن أراد أن يحافظ على الصلاة، وليست فيها مشقة حتى يجوز تأخيرها إلى حين الهبوط وانتهاء الرحلة(8/484)
الدعاء فى التشهد فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك دعاء مخصوص يقوله المصلى بعد التشهد الأخير، وهل هو فرض أو سنة؟
الجواب
الدعاء بعد التشهد الأخير فى الصلاة وقبل السلام ليس ركنا ولا فرضا ولا واجبا، بل هو سنة فقط، لو ترك لا تبطل االصلاة. وقد وردت أحاديث كثيرة ترغب فيه، منها ما جاء عن ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد ثم قال فى آخره " ثم لتختر من المسألة ما تشاء " رواه مسلم. وإذا استحب الدعاء بما يشاء الإنسان فالأفضل أن يكون بالمأثور فى القرآن والسنة، مثل " ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " وما جاء فى الحديث الذى رواه مسلم: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكون آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: " اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت " وما رواه أيضا " إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ باللَّه من أربع، يقول: اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة ألمسيح الدجال ".
أما الدعاء بغير المأثور فإليك ما قال فيه الفقهاء، منقولا من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة:
قال الأحناف: لا يجوز أن يدعو بما يشبه كلام الناس، كأن يقول: اللهم زوجنى فلانة، أو أعطنى كذا من الذهب والفضة والمناصب، لأنه يبطلها قبل القعود بقدر التشهد، ويفوت الواجب بعده قبل السلام.
وقال المالكية: له أن يدعو بما شاء من خيرى الدنيا والآخرة. وقال الشافعية:
يسن الدعاء بخيرى الدين والدنيا، ولا يجوز أن يدعو بشىء محرم أو مستحيل أو معلق، فإن دعا بشىء من ذلك بطلت صلاته.
وقال الحنابلة: له أن يدعو بما ورد أو بأمر الآخرة ولو لم يشبه ما ورد، وله أن يدعو لشخص معين بغير كاف الخطاب، وتبطل الصلاة بكاف الخطاب مثل:
اللهم أدخلك الجنة يا والدى. أما لو قال: اللهم أدخله الجنة فلا بأس به، وليس له أن يدعو بما يقصد منه ملاذ الدنيا وشهواتها، كأن يقول: اللهم ارزقنى جارية حسناء، أو طعاما لذيذا ونحوه، فإن فعل ذلك بطلت صلاته، ولا بأس بإطالة الدعاء ما لم يشق على مأموم(8/485)
مرور الحيوانات أمام المصلى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك حديث يقول إن مرور الكلب أو الحمار أمام المصلى يبطل الصلاة؟
الجواب
روى مسلم وغيره عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقى ذلك مثل مؤخرة الرحل " وعن أبى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قام أحدكم يصلى فإنه يستره مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود" قال عبد اللَّه بن الصامت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتنى فقال " الكلب الأسود شيطان ".
وروى البخارى ومسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة، ورويا عن ابن عباس أنه قال: أقبلت راكبا على حمار أتان والنبى صلى الله عليه وسلم يصلى، فمررت على بعض الصف ونزلت فأرسلت الأتان ترتع فدخلت فى الصف فلم ينكر علىَّ أحد. وروى أبو داود عن الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فى بادية فصلى فى صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه فما بالى ذلك. أمام هذه الأحاديث التى وردت فى كتب الصحاح من رواية البخارى ومسلم. رأى الأئمة الثلاثة أن الصلاة لا تبطل بمرور شىء من هذه الثلاثة المذكورة ولا من غيرها، فقد روى أبو داود عن أبى سعيد قوله صلى الله عليه وسلم " لا يقطع الصلاة شىء " ورأى أحمد بن حنبل بطلان الصلاة بها. استنادا إلى حديثى أبى هريرة وأبى ذر، ورُدَّ على حديث عائشة بأن البطلان بالمرور لا باللبث، وهو فى التطوع بصلاة الليل وهو أسهل.
وعلى حديث ابن عباس بأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. وعلى حديث أبى سعيد بأنه ضعيف. وإن كانت تفرقته بين الفرض والنفل لم يسلَم بها أتباعه " المغنى لابن قدامة ج 2 ص 80 - 85 " وتمسك الحنابلة بهذا الحكم بشدة، لدرجة أنهم رووا حديثا عن أبى داود عن ابن عباس - قال الروى أحسبه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر فيه غير الثلاثة وهو " إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير والمجوسى واليهودى والمرأة، ويجزى عنه إذا مروا بين يديه قذفة بحجر" لكن ابن قدامة رفض هذا الحديث لعدم الجزم برفعه وفيه ما هو متروك بالإجماع وهو ما عدا الثلاث: المرأة والكلب والحمار، وفى هامش المغنى عن هذا الحديث: إن زيادة الخنزير والمجوسى واليهودى فيها نكارة. وأرى أن الحديث الخاص بهذه الثلاثة لا يقصد منه إبطال الصلاة، بل قد يكون المقصود إبطال الخشوع فيها أو نقصه، لما يحدث للمصلى من خوف من هذين الحيوانين واشتهاء للمرأة. وفيه حث على اتخاذ السترة حتى لا تسمح بمرور هذه الأشياء أمامه، ولفت نظرى ما ذكره ابن قدامة أن عائشة قالت معترضة على هذا الحكم: عدلتمونا بالكلاب والحمر، مع أن الرسول كان يصلى وهى معترضة أمامه. وأقول: ليست تسوية فى ألتحقير أبدا، فالفرق كبير، ولكن الموضوع أساسه الاحتياط لعدم الانشغال فى الصلاة رَهَبًا بمثل الكلب الأسود والحمار، ورَغَبًا بمثل المرأة، وأثرها فى الانشغال لا ينكر، ومقام الرسول يأبى الانشغال بمثل ذلك، فما كان يبالى كما تذكر الروايات ولكن غيره.يتأثر فى أغلب الأحوال على الوجه المذكور(8/486)
الاقتداء بالمسبوق
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مأموم مسبوق قام ليكمل صلاته بعد سلام الإمام هل يصح أن يقتدى به أحد؟
الجواب
للفقهاء فى ذلك خلاف: فالحنفية قالوا: لا يصح الاقتداء بالمسبوق بعد قيامه لإِتمام صلاته. والمالكية وافقوهم: على ذلك، إذا كان المسبوق أدرك ركعة مع إمامه، لكن لو أدرك أقل من ركعة، صح الاقتداء به. والشافعية قالوا: من اقتدى بمأموم مسبوق بعد أن سلم الإِمام، أو نوى مفارقته: صح الاقتداء، وهذا فى غير الجمعة أما فى صلاتها فلا يصح الاقتداء. الحنابلة وافقوهم: على ذلك. " الفقه على المذاهب الأربعة ". وما دام هناك اختلاف فلا يصح التعصب لرأى(8/487)
السفر الدائم واداء الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز قصر الصلاة والإِفطار فى رمضان لمن تكون مهمتهم دوام السفر؟
الجواب
من المعلوم أن قصر الصلاة رخصة للمسافر كما قال تعالى {وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} النساء: 101، وأن الإِفطار رخصة للمسافر كما قال سبحانه {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} البقرة: 185، كما روى أبو داود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة". وذلك كله مع الشروط التى اشترطها الفقهاء لاستعمال هذه الرخصة.
والسفر قد يكون مؤقتا وقد يكون دائما، والسفر الدائم يطلق على معنيين، أولهما أن يكون معه أهله وكل ما يحتاجه، وثانيهما ألا يكون معه أهله ولكنه كثير الأسفار أو مهنته هى السفر كسائقى القطارات والطيارين والبحارين.
والسفر المؤقت يرخص فى القصر والفطر، أما مديم السفر الذى معه أهله وكل حاجاته فهو كالمقيم لا يجوز له قصر الصلاة ولا الفطر فى رمضان، اللهم إلا إذا كان الصيام يضره فله الفطر وقد يجب إذا كان الضرر بالغا يؤدى إلى هلاك النفس.
جاء فى " المغنى لابن قدامة ج 2 ص 14 " فى فقه الحنابلة أن الأثرم قال: سمعت أبا عبد اللَّه أحمد بن حنبل - يسأل عن الملاح أيقصر ويفطر فى السفينة؟ فقال:
أما إذا كانت السفينة بيته فإنه يتم ويصوم. قيل له: وكيف تكون بيته؟ قال:
لا يكون له بيت غيرها، معه فيها أهله، وهو فيها مقيم، وهذا قول عطاء.
وجاء فى شرح الشرقاوى على التحرير "ج 1 ص 441 " فى فقه الشافعية أنه لا يباح الفطر لمديم السفر، لأنه يؤدى إلى إسقاط الوجوب كلية، إلا أن يقصد القضاء فى أيام أخر فى سفره. أما الذى يسافر كثيرا بحكم عمله، وليس معه أهله فله قصر الصلاة والفطر، لأنه ستكون له أيام يقيم فيها فيقضى الصيام هذا، والقصر عزيمة عند الحنفية، ومن أتمَّ لا يجوز له الجمع "فتاوى الشيخ جاد الحق ج 5ص 53"(8/488)
البسملة فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى عدم ذكر البسملة فى الصلوات التى تصلى جهرا؟
الجواب
البسملة فى الفاتحة فيها ثلاث مذاهب، مذهب يقول: إنها لمجرد الفصل بين السور، فلا تجب قراءتها فى الفاتحة، والصلاة بدون قراءتها صحيحة، بل قال: قراءتها مكروهة فى الفرض دون النافلة، وليس لهذا المذهب دليل قوى.
ومذهب يقول: إنها اَية من الفاتحة، وقراءتها واجبة فيها، ولا تصح الصلاة بدونها، وتعطى حكم الفاتحة فى الإِسرار أو الجهر بها. وأقوى دليل لهذا المذهب حديث يقول راويه: صليت وراء أبى هريرة فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القراَن -الفاتحة-وجاء فى اَخر الحديث قوله: والذى نفسى بيده إنى لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه النسائى وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحيهما، وقال الحافظ ابن حجر: هو أصح حديث ورد فى البسملة.
ومذهب يقول: قراءتها فى الفاتحة جائزة، بل مستحبة، ولكنها غير واجبة، فتصح الصلاة بدونها، لكن هذا المذهب يقول: لا يجهر بالبسملة ولكن تقال سراً، والدليل عليه قول أنس صليت خلف الرسول وأبي بكر وعمر وعثمان وكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه النسائى وابن حبان بإسناد على شرط الشيخين.
ويمكن أن يقال: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها أحيانا، ويسر بها أحيانا أخرى، وما دام الأمر خلافيا فلا يجوز التعصب لأى رأى.
وأرى أن الإِتيان بها ينفع ولا يضر، وأن عدم الإِتيان بها لا يبطل الصلاة(8/489)
تحية المسجد والقرآن يقرأ
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
دخلت المسجد فوجدت قارئاً يقرأ القرآن، فهل أصلى تحية المسجد أو أجلس لاستماع القرآن؟
الجواب
لو دخل أحد المسجد والقرآن يقرأ بصوت مرتفع، سواء أكان ذلك فى يوم الجمعة قبل صلاتها أو فى غير يوم الجمعة، فهو مطالب بشيئين، أولهما تحية المسجد وثانيهما الاستماع إلى القرآن، فهل يضحى بأحدهما أو يمكنه أن يجمع بينهما؟ .
قال تعالى {وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} الأعراف:
204، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين ".
قال العلماء: إن الاستماع إلى القرآن واجب فى حالتين اثتين فقط هما إذا كان الإنسان فى الصلاة مَأمُومًا فإنه يجب عليه الاستماع إلى قراءة الإِمام، وخطبة الجمعة، لأنها فى الغالب تشتمل على قرآن، وفى غير هاتين الحالتين يكون الاستماع مندوبا، فالداخل للمسجد والقرآن يقرأ أمامه أمران مندوبان أحدهما له وقت محدود يفوت بفواته وهو تحية المسجد، لأنها تفوت بالجلوس، وهنا يبدأ بالتحية حتى لا تفوته، ثم يستمع بعد ذلك للقرآن، وقد رأينا أن الرسول أمر بالتحية للداخل وهو يخطب الجمعة مع أن الإنصات إليها واجب، فصلاتها مع القراءة مشروعة من باب أولى(8/490)
الكلام فى المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن الكلام فى المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؟
الجواب
جاء فى كتاب " غذاء الألباب " للسفارينى قوله: وأما ما اشتهر على الألسنة من قولهم إن النبى صلى الله عليه وسلم قال " الحديث فى المسجد- وبعضهم يزيد المباح - يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " فهو كذب لا أصل له، قال فى المختصر: لم يوجد، وذكره القاضى فى موضوعاته، كما ذكر العراقى على الإِحياء: أنه لا أصل له.
لكن روى ابن حبان فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " سيكون فى آخر الزمان قوم يكون حديثهم فى مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة " وظاهر الحديث أن الكلام فى المسجد أيا كان نوعه ممنوع، لكن المحققين من العلماء قالوا:
إنه يجوز فى الأمور المهمة فى الدين والدنيا من كل ما لا حرمة فيه ولا باطل.
وقد رأى الإِمام النووى جواز الحديث العادى وإن صحبه ضحك خفيف، لما رواه مسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذى صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، وقال: كانوا يتحدثون فيأخذون فى أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم. وفى رواية لأحمد عن جابر: شهدت النبى صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فى المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما يبتسم معهم. وهو حديث صحيح " نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 166 ". فالحديث الممنوع هو الباطل أو الذى يشوش على المصلين أو الذى يذهب بكرامة المسجد إذا تناوله جماعة فى شكل حلقات كما نص عليه. وقد أذن النبى صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت أن يقول الشعر فى المسجد ليرد على الكافرين ما يفترونه من كذب على اللَّه ورسوله كما ثبت فى الصحيحين.
وعليه فالكلام المباح غير محرم فى المساجد، وإن كنا ننصح بأن يكون فى أضيق الحدود وليكن شغل الجالسين فيها ذكر اللَّه والعبادة، فذلك هو ما بنيت له المساجد.
هذا، وقد جاء النهى عن رفع الأصوات فى المساجد بغير ذكر اللَّه والعبادة، مثل نشدان الضالة والبيع والشراء، وجاء فى " مشارق الأنوار" للعدوى حديث نقله عن المعارف لللشعرانى رواه الترمذى عن على مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم " إذا فعلت أمتى خمسة عشر حل بها البلاء " ومنها ارتفاع الأصوات فى المساجد.
وذكر الكتاب بقية العلامات الصغرى للقيامة وقال عن رفع الأصوات فى المساجد:
إنه من علامات الساعة حتى لو كان بالعلم، لقول الإمام مالك: ما للعلم ورفع الصوت؟ والمراد ما يكون فيه تشويش على المتعبدين، أو كان للرياء والفخر.
وجاء فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " ص 204، 205 ":
أن الحنفية قالوا: يكره رفع الصوت بالذكر فى المسجد إن ترتب عليه تشويش على المصلين أو إيقاظ للنائمين، وإلا فلا يكره، بل قد يكون أفضل إذا ترتب عليه إيقاظ قلب الذاكر وطرد النوم عنه وتنشيط للطاعة. أما رفع الصوت بالكلام فإن كان بما لا يحل فإنه يكره تحريما، وإن كان بما يحل فإن ترتب عليه تهويش على المصلى أو نحو ذلك كره، وإلا فلا كراهة ومحل عدم الكراهة إذا دخل المسجد للعبادة، أما إذا دخله لخصوص الحديث فيه فإنه يكره مطلقا، والشافعية قالوا:
يكره رفع الصوت بالذكر فى المسجد إن هوش على مصل أو مدرس أو قارئ أو مطالع أو نائم لا يسن إيقاظه، وإلا فلا كراهة أما رفع الصوت بالكلام فإن كان بما لا يحل كمطالعة الأحاديث الموضوعة ونحوها فإنه يحرم مطلقا، وإن كان بما يحل لم يكره إلا إذا ترتب عليه تهويش ونحوه.
والمالكية قالوا: يكره رفع الصوت فى المسجد ولو بالذكر والعلم، واستثنوا من ذلك أموراً أربعة، الأول ما إذا احتاج المدرس إليه لإسماع المتعلمين فلا يكره، الثانى ما إذا أدى الرفع إلى التهويش على مصل فيحرم، الثالث رفع الصوت بالتلبية فى مسجد مكة أو منى فلا يكره، الرابع رفع صوت المرابط بالتكبير ونحوه فلا يكره.
والحنابلة قالوا: رفع الصوت بالذكر فى المسجد مباح إلا إذا ترتب عليه تشويش على المصلين، وإلا كره، أما رفع الصوت فى المسجد بغير الذكر فإن كان بما يباح فلا كراهة إلا إذا ترتب عليه تهويش فيكره، وإن كان بما لا يباح فهو مكروه، مطلقا. انتهى(8/491)
دخول المسجد لغير المسلم
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض السائحين يدخلون المساجد، وقد ذكر القرآن أن المشركين نجس، وحرم عليهم دخول المسجد الحرام، فكيف نفسر السماح لهم بدخول مساجد المسلمين؟
الجواب
قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} التوبة: 28، وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا} النساء:
43،. تفيد الآية الأولى أن المشرك لا يدخل المسجد الحرام فى مكة، لأنه نجس، وهذا رأى إمام أهل المدينة مالك وغيره، وعليه الإمام الشافعى، أما الكتابى - وهو اليهودى والنصرانى - فلا مانع من دخوله. والمراد بالمسجد الحرام الحرم كله.
وقال أبو حنيفة بجواز دخول غير المسلم مطلقا المسجد الحرام والحرم، وحمل نجاسته على أنها نجاسة معنوية، وحمل قربان المسجد على المكث فيه، كما حمل دخول الحرم على الاستيطان، حيث لا يجتمع فى جزيرة العرب دينان، كما فى الحديث الذى أخرجه مالك فى الموطأ عن ابن شهاب وغيره، وأخرجه أحمد عن عائشة.
أما مساجد الحل -أى غير الحرم - فمنع أهل المدينة دخولها لغير المسلم أيضا، لأنه نجس بنص القرآن، ولأن الآية الثانية تفيد أن الجنب لا يمكث فى المسجد، وإنما يكون له العبور فقط، والكافر جنب فلا يجوز له المكث فى أى مسجد. وفى الحديث " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " رواه أبو داود ويؤيد هذا ما روى أن أبا موسى الأشعرى دخل على عمر رضى الله عنه ومعه كتاب كتب فيه حساب عمله، فقال له عمر: ادع الذى كتب ليقرأه، فقال: إنه لا يدخل المسجد، لأنه نصرانى. فَدَلَ هذا على أنه كان حكما معروفا لديهم، وهو رواية عن أحمد. وفى رواية عنه أيضا أنه لا يجوز له الدخول إلا بإذن المسلمين، ويؤيدها أن عليا رضى الله عنه رأى مجوسيا وهو على المنبر وقد دخل المسجد، فنزل وضربه وأخرجه من أبواب كندة، فإن أذن له المسلمون جاز دخوله، بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم أنزل أهل الطائف فى المسجد قبل أن يسلموا، وقال سعيد بن المسيب:
كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه، واستقبل النبى صلى الله عليه وسلم " نصارى نجران فى مسجد المدينة، ولما حان وقت صلاتهم صلوا فى المسجد إلى المشرق، وقال فيهم عليه الصلاة والسلام " دعوهم ".
وقد ترجم البخارى فى صحيحه دخول المشرك المسجد، وأورد حادثة ربط ثمامة بن أثال بسارية من سوارى المسجد النبوى، وكان ثمامة كافرا من بنى حنيفة، وعلى هذا الرأى أكثر الأئمة، وقصره الشافعى على الضرورة أو الحاجة، وليس بصفة مستمرة، ولعل هذا هو الرأى المناسب للفتوى.
قال ابن حجر فى فتح البارى "ج 2 ص 107 " عن هذه المسألة:
فيه مذاهب، فعن الحنفية الجواز مطلقا، وعن المالكية والمزنى المنع مطلقا، وعن الشافعية التفصيل بين المسجد الحرام وغيره، للآية، وقيل: يؤذن للكتابي خاصة، وحديث الباب يرد عليه، فإن ثمامة ليس من أهل الكتاب انتهى.
وأرى أنه لا مانع من دخول الزوار الأجانب غير المسلمين لمساجد المسلمين إذا كانوا فى برنامج سياحى، أو لعمل هام، ما دام ذلك بإذن المسلمين، وفى ثورة 1919 م دخل القمص سرجيوس الجامع الأزهر وخطب فيه خطبة سياسية على مشهد من علماء المسلمين. دون إنكار منهم، وذلك مراعاة للظروف، واختلاف الآراء فيه رحمة. وننبه إلى وجوب احترامهم للمساجد وعدم التبذل فيها أو عمل شىء لا يوافق عليه الدين(8/492)
قضاء الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا بعض الآراء تقول: من ترك الصلاة عمدا لا يجب عليه قضاؤها، فهل هذا صحيح؟
الجواب
يقول جمهور العلماء: إن الصلاة إذا خرج وقتها دون أن يؤديها المسلم المكلف وجب عليه أن يقضيها، قال تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} الإِسراء: 78، يقول القرطبى، مقتضى ظاهر الآية أنه لو فعلها فى غير وقتها تكون باطلة ولا ثواب عليها.
وإذا كانت باطلة فلا داعى لقضائها، مع أن فواتها معصية، ولولا حديث " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " لم ينتفع أحد بصلاة وقعت فى غير وقتها ومن هنا كان لابد من قضاء الصلاة في غير وقتها المحدود لها.
وخروج الصلاة عن وقتها قد يكون لعذر أو لغير عذر، ومن العذر النوم والسهو فمن فاتته بعذر وجب عليه قضاؤها، فقد روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك " وفي رواية " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها " فإن اللَّه عز وجل يقول {وأقم الصلاة لذكرى} طه: 14.
وكذلك يجب قضاؤها لأنها صارت دينا له، وقد روى الشيخان أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن أمه التى ماتت وعليها صوم شهر هل يقضيه عنها؟ فقال له " نعم، فدين اللَّه أحق أن يقضى " وفي رواية أن امرأة سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن أمها التى نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، هل تحج عنها؟ فقال: " حجى عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا، فالله أحق بالقضاء ".
فالحديث الأول يوجب القضاء على الناسى بالنص، والحديث الثانى يدل على وجوبه بعموم قضاء دين الله. ويؤكد وجوب القضاء التعبير بالكفارة، كأن النسيان ذنب فيه كفارة، مع أن القلم رفع عن الناسى.
أما من ترك الصلاة حتى خرج وقتها بدون عذر، فالقضاء واجب عليه أيضا كما قال جمهور العلماء، وحجتهم فى ذلك ما يأتى:
1 - قول اللَّه تعالى {وأقيموا الصلاة} ولم يفرق بين أن تكون في وقتها أو بعده، وهذا أمر يقتضى الوجوب، فى الوقت وغير الوقت.
2 -ثبت الأمر بالقضاء على النائم والناسى، مع أنهما غير آثمين، ك لها عمدا أولى بوجوب القضاء.
3 - الحديث يقول " من نام عن صلاة أو نسيها " وهو يدل على وجوب القضاء مطلقا، لأن النسيان ترك، وهو يشمل الترك المتعمد وغير المتعمد بدليل قول الله تعالى {نسوا اللَّه فنسيهم} التوبة: 67، والله لا ينسى فمعناه أنه تركهم وقوله {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم} السجدة: 14، والمعنى إنا تركناكم ومثله قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} البقرة: 106، فمعنى ننسها نتركها.
4 - يقول الحديث " فليصلها إذا ذكرها" وهو يشمل الذكر بعد النسيان وبعد غيره، ومنه حديث " من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى" وهو سبحانه لا ينسى حتى يكون ذكر بعد نسيان، بل المراد علمت، فمعنى ذكرها علمها.
5-أن ديون الآدميين المرتبطة بوقت، ثم جاء الوقت لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهى مما تسقط بالإبراء، فديون اللَّه لا يصح فيها الإِبراء، وأولى ألا يسقط قضاؤها إلا باذن منه، ولا يوجد هذا الإذن.
6 -أن العلماء اتفقوا على أن الفطر فى رمضان يوجب القضاء فى غير رمضان، فكذلك الصلاة إذا لم تؤد فى وقتها وجب قضاؤها فى وقت اَخر.
هذا هو رأى الجمهور فى وجوب قضاء الصلاة على من تركها متعمدا، وقال أهل الظاهر وبعض علماء الشافعية بعدم وجوب القضاء عليه، تمسكا بظاهر الحديث الذى شرط للقضاء النوم أو النسيان، بل عليه أن يتوب توبة نصوحا من معصيته بترك الصلاة، وذلك بالإِقبال على أدائها والمحافظة عليها، قال تعالى {وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} طه: 82. وردوا على أدله الجمهور، بما يأتى:
1 - لا يصح قياس المتعمد على الناسى، وذلك لوجود الفارق بينهما، فالناسى مأمور بالقضاء، والقضاء كفارة بمنطوق الحديث. مع أن الناسى لا إثم عليه لرفع القلم عنه، وكان مقتضى رفع الإِثم عدم وجوب القضاء، لكن الحديث نص على وجوبه، فكان هنا حكما خاصا بنسيان الصلاة، فلا يقاس عليه التعمد لتركها، وذلك للزوم الإثم له، ولا فائدة من القضاء فى رفع هذا الاثم، بل عليه التوبة.
2 -لو وجب القضاء على العامد لوجب أمر جديد له بالقضاء، ولا يوجد هذا الأمر. والحافظ ابن حجر رد على الدليل الأول بأن الكفارة لا يلزم أن تكون عن إثم، فقد تكون على الآثم كالقاتل عمدا، وعلى غيره كالقاتل خطأ، وحيث كانت كفارة الناسى هى القضاء، فكفارة المتعمد هى القضاء أيضا مع التوبة.
كما رُدَّ على الدليل الثانى، بأن وجوب القضاء لا يحتاج إلى أمر جديد، فهو مأمور بأداء الصلاة بالخطاب التكليفى الأول، وتاركها صار مدينا، والدين لا يسقط إلا بأدائه. هذا، وجاء فى تفسير القرطبى أن ما روى عن مالك من قوله: من ترك الصلاة متعمدا لا يقضى أبدا، هو إشارة إلى أن ما مضى لا يعود، أو هو كلام خرج مخرج التغليظ، كما روى عن على وابن مسعود أن من أفطر فى رمضان عامدا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه.
ومع هذا فلا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء، وإتباعه بالتوبة، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء، وما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم " من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه " فهو حديث ضعيف خرجه أبو داود، وإن صح حمل على التغليظ.
وهل يقال: إن حديث رَفْعَ القلم عن النائم حتى يستيقظ، فلماذا يأمر الرسول من نام عن الصلاة بقضائها؟ والجواب أن المراد رفع الإِثم لا رفع الفرض عنه، وليس هذا من باب قوله " وعن الصبى حتى يحتلم " وإن كان ذلك جاء فى أثر واحد، لأن رفعها عن الصبى رفع للوجوب، وبالتالى رفع للإِثم. أو يقال: إن حديث الصلاة مخصص لحديث رفع القلم، بمعنى أن حديث رفع القلم - أى عدم المؤاخذة -إن صدق على الصبى وعلى المجنون، فالصلاة مستثناة من رفع القلم، فالنائم عنها مؤاخذ وآثم، وكفارة ذلك هى قضاء الصلاة، اهـ.
وهناك قول عند الحنابلة بعدم وجوب القضاء على من ترك الصلاة عمدا، وذلك إذا طلبها منه الحاكم ودعاه إلى فعلها، لأن فى هذه الحالة يكون مرتدا عندهم، لكن هذا القول - مع، كونه أحد القولين وليس بأرجحهما-مقيد بحالة مخصوصة، وهى طلب الحاكم.
والخلاصة أن تارك الصلاة سهوا يجب عليه القضاء باتفاق العلماء، وتاركها عمدا يجب عليه القضاء عند الجمهور وهو الصحيح، والإِنسان حر فى كيفية القضاء من حيث الترتيب وعدمه على ما رآه بعض الفقهاء -وربما وضحناه فى موضع اَخر- ونختار هذا الرأى للتيسير، كما أنه يقضى ما علم أو غلب على ظنه تركه بعد الاجتهاد فى حصر المتروك، ولا معنى لانشغاله بالنوافل التى لا يحاسب عليها مع الإهمال فى القضاء.
وعلى تارك الصلاة عمدا - مع وجوب القضاء - أن يتوب إلى اللَّه ويواظب عليها ويندم على تقصيره ويعزم عزما صادقا على عدم التهاون فيها. كما يُسَنُّ له أن يبادر بالقضاء قبل مباغتة الأجل أو تغير الظروف التى يعجز معها عن القضاء. ومن مات وهو يقضى ولم يتم الوفاء فأمره مفوض إلى ربه، وبحسب نيته تكون آخرته، والرجاء فى رحمة اللَّه كبير(8/493)
ترك الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم تارك الصلاة، هل هو كافر أو مؤمن عاص؟
الجواب
الصلاة ركن من أركان الإسلام، ومنزلتها من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد، والنصوص كثيرة فى وجوب المحافظة عليها، وفى التحذير من تركها أو التهاون فيها، ومن أخطر ما ورد قى تركها حديث رواه مسلم " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ".
وهذا الحديث يدل ظاهره على ما ذهب إليه من قال إن الإِيمان عقيدة وعمل، يقول النووى فى شرح هذا الحديث ما ملخصه:
تارك الصلاة إن كان منكرا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين خارج من ملة الإِسلام إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه. وإن كان تركه تكاسلا مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشافعى وجماهير السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب، فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزانى المحصن، ولكنه يقتل بالسيف، وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر، وهو مروى عن على وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل وهو وجه لبعض أصحاب الشافعى، وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزنى صاحب الشافعى إلى أنه لا يكفر-ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلى.
ثم ذكر حجة القائلين بكفره وهى ظاهر الحديث والقياس على - كلمة التوحيد، وحجة القائلين بعدم قتله وهى حديث " لا يحل دم امرىء إلا بأحد ثلاث " وليس فيه ترك الصلاة، ومن قال لا يكفر احتج بقوله تعالى {إن اللَّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .
وبحديث " من قال لا إله إلا اللَّه دخل الجنة " وحديث " حرم على النار من قال لا إله إلا الله " وغيرها من الأعمال كالصلاة ونحوها.
ومع قولهم بعدم كفره قالوا بقتله حدا إن لم يتب محتجين بقوله تعالى " فإن تابوا وأقاموا الصلاة واَتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " أى لا تقتلوهم إن فعلوا ذلك، ومفهومه يقتلون إن لم يفعلوا. وبحديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا منى دماءهم وأموالهم ".
وأجاب هؤلاء الذين لا يكفرون تارك الصلاة عن الحديث " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " بأن المعنى أنه يستحق عقوبة الكفر وهى القتل، أو أنه محمول على المستحل، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر أو أن فعله فعل الكفار انتهى.
ذكر السبكى فى طبقات الشافعية أن الشافعى وأحمد تناظرا فى تارك الصلاة فقال الشافعى: أحمد أتقول أنه يكفر؟ قال نعم، قال إذا كان كافرا فبم يسلم؟ قال: يقول لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، قال الشافعى: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه، قال: يسلم بأن يصلى قال: صلاة الكافر لا تصح، ولا يحكم له بالإِسلام بها، فسكت أحمد.
ومن ترك الصلاة كسلا مع الإِيمان بوجوبها عليه يجب نصحه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن لم يتب وجبت مقاطعته وكراهيته وحَرُمَ حبه ومودته.
فذلك مظهر الإِنكار بالقلب الوارد فى حديث تغيير المنكر، وقد حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم هجر المتخلفين عن غزوة تبوك بغير عذر وأمر أصحابه بهجرهم، على أن يكون الهجر بدافع دينى لا لغرض شخصى، والأعمال بالنيات.
ولو أن المؤمنين الطائعين قاطعوا العصاة وهجروهم لكان ذلك من أكبر العوامل على مراجعة أنفسهم وتوبتهم إلى اللَّه، ضرورة حاجتهم إلى التعامل مع إخوانهم(8/494)
جمع التبرعات أثناء الخطبة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز جمع التبرعات أثناء خطبة الجمعة؟
الجواب
روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسَّ الحصا فقد لغا". قال العلماء: لقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن اللغو حال خطبة الجمعة، وحكمته أن فيه تشويشا على الخطيب بالكلام أو بأى عمل آخر، وأن فيه انصرافا عن الاستماع إليه. قال أبو حنيفة ومالك والشافعى وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة، وبخاصة إذا تلى فيها قرآن، قال تعالى {وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} الأعراف: 204، وقال أيضا {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} فصلت: 26، وقال أبو حنيفة: يجب الإنصات حتى قبل الخطبة، من حين خروج الإمام إليها. وقول الحديث: " ومن مس الحصا فقد لغا" يشير إلى أن كل ما يصرف الإنسان عن الاستماع إلى الخطبة يبطل ثواب الجمعة، وذلك كمس الحصا الذى كان يفرش به المسجد النبوى، ومثله اللهو بالمسبحة وبأى شىء آخر، فهو لغو أى باطل مذموم. ولما كان حامل صندوق التبرعات منصرفا عن الاستماع ومشوشا على غيره بصوت النقود المعدنية التى تقرع قاع الصندوق، وبمشيه بين الصفوف الذى قد يكون معه تخطً للرقاب وهو منهى عنه نهيا شديدا، وقد يشغل المتبرع بإخراج النقود فينصرف عن سماع الخطبة-لما كان ذلك كان جمع التبرعات بهذه الطريقة منافيا لواجب الاستماع إلى الخطبة، وليست هذه حالة ضرورة حتى يباح لها المحظور، فإن جمع التبرعات ممكن بعد الانتهاء من الصلاة.
وقد جاء النهى عن تخطى الرقاب يوم الجمعة مقيدا بأنه يكون بعد خروج الإمام للخطبة، كما فى رواية أحمد والطبرانى، أو يكون أثناء الخطبة كما فى رواية لأحمد وأبى داود والنسائى وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحيهما، حيث رأى النبى صلى الله عليه وسلم رجلا يتخطى رقاب الناس وهو يخطب، فقال له " اجلس، فقد آذيت " وجاء النهى مطلقا لم يقيد بهذين القيدين كما فى رواية ابن ماجة والترمذى " من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم " وقال الترمذى: حديث غريب، أى رواه راو واحد فقط والعمل عليه عند أهل العلم.
واعتمادا على هذه الروايات يمكن أن يقال: لو كان جمع التبرعات قبل خروج الإمام للخطبة وليس فيه تخط للرقاب لم يكن ذلك ممنوعا.
والأفضل -كما قلنا-أن يكون ذلك بعد الانتهاء من الصلاة(8/495)
تحية المسجد والإمام يخطب
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
إذا دخل رجل المسجد والإمام يخطب الجمعة فهل يجوز له أن يصلى تحية المسجد، مع أن الاستماع للخطبة واجب؟
الجواب
روى مسلم أن سليكا الغطفانى جاء يوم الجمعة ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له " يا سليك، قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما " ثم قال " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " وفيه عدة روايات.
يقول النووى فى شرح صحيح مسلم "ج 6 ص 164 ": هذه الأحاديث كلها صريحة فى الدلالة لمذهب الشافعى وأحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإِمام يخطب، استحب له أن يصلى ركعتين تحية المسجد، ويكره الجلوس قبل أن يصليهما، وأنه يستحب أن يتجوز فيهما ليسمع بعدها الخطبة، وحكى هذا المذهب أيضا عن الحسن البصرى وغيره من المتقدمين.
قال القاضى: وقال مالك والليث وأبو حنيفة والثورى وجمهور السلف من الصحابة والتابعين: لا يصليهما. وهو مروى عن عمر وعثمان وعلى رضى اللَّه عنهم، وحجتهم الأمر بالإِنصات للإِمام، وتأولوا هذه الأحاديث على أنه -يعنى سليكا - كان عريانا فأمره النبى صلى الله عليه وسلم بالقيام ليراه الناس ويتصدقوا عليه.
وهذا تأويل باطل يرده صريح قوله صلى الله عليه وسلم " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإِمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " وهذا نص لا يتطرق إليه أى تأويل لأنه عام لا يخص سليكا وحده ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ صحيحا فيخالفه.
ثم قال النووى: وفى هذه الأحاديث أيضا جواز الكلام فى الخطبة لحاجة، وفيها جوازه للخطيب وغيره، وفيها الأمر بالمعروف والإرشاد إلى المصالح فى كل حال وموطن.
وفيها أن تحية المسجد ركعتان، وأن نوافل النهار ركعتان وأن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس فى حق جاهل حكمها، وقد أطلق أصحابنا - الشافعية - فواتها بالجلوس، وهو محمول على العالم بأنها سنة، أما الجاهل فيتداركها عن قرب لهذا الحديث.
والمستنبط من هذه الأحاديث أن تحية المسجد لا تترك فى أوقات النهى عن الصلاة، وأنها ذات سبب تباح فى كل وقت، ويلحق بها كل ذوات الأسباب، كقضاء الفائتة ونحوها، لأنها لو سقطت فى حال لكان هذا الحال أولى بها، فانه مأمور باستماع الخطبة فلما ترك لها استماع الخطبة وقطع النبى صلى الله عليه وسلم لها الخطبة وأمر بها بعد أن قعد وكان هذا الجالس جاهلا حكمها -دل على تأكدها وأنها لا تترك بحال ولا فى وقت من الأوقات.انتهى.
وبعد، فقد تحدث العلماء قديما وحديثا فى هذا الموضوع، وقد علمنا مما تقدم اْنه من الأمور الخلافية، فلا ينبغى التعصب لرأى خلافى، فمن صلى تحية المسجد قبل أن يجلس والإِمام يخطب لم يرتكب إثما، وكذلك من دخل وجلس ولم يصل التحية لم يرتكب إثما، ومن جلس ولم يصل ثم قام يصلى أثناء الخطبة وكان جاهلا بذلك فيوجه برفق لا شوشرة فيه(8/496)
قصر الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هو حد السفر الذى يبدأ منه قصر الصلاة، هل هو مغادرة المنزل أو مغادرة الحى أو مغادرة المدينة؟
الجواب
من المعلوم أن قصر الصلاة الرباعية فى السفر بأدائها ركعتين أمر مشروع، سواء جُعِلَ ذلك رخصة لا يضر الأخذ بها أو عزيمة يجب الأخذ بها، قال تعالى {وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} النساء: 100،. وقد وضع الفقهاء لذلك شروطا منها مجاوزة محل الإِقامة، وذلك لتحقيق السفر الذى بنى قصر الصلاة على أساسه. وكلهم متفقون على ذلك، مع اختلافهم فى تحديد المجاوزة، هل تكون بمجاوزة سور البلد أو عمرانها أو مينائها البحرى أو الجوى، أو خيام البادية. أو الملاعب والمرافق المتصلة بالبلد ولم يقل واحد من الفقهاء الأربعة بجواز قصر الصلاة عند نية السفر وهو يجهز أدواته فى بيته، أو عند مغادرة بيته قبل أن ينفصل عن العمران، فالمسافر من القاهرة مثلا لا يجوز له قصر الصلاة وهو منتظر فى محطة السكة الحديد أو فى المطار، بل ولا هو راكب للقطار أو الطائرة قبل التحرك، فلا بد من تحقق ما يطلق عليه العرف اسم السفر، وذلك إلى جانب الشروط الأخرى ككون السفر طويلا وكونه مباحا.
هذا، وقد جاء فى نيل الأوطار للشوكانى (ج 3 ص 220) ما نصه: وقد اختلف أيضا فيمن قصد سفرا يقصر فى مثله الصلاة على اختلاف الأقوال من أين يقصر؟ فقال ابن المنذر: أجمعوا على أن لمريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التى يخرج منها، واختلفوا فيما قبل الخروج من البيوت، فذهب الجمهور إلى أنه لابد من مفارقة جميع البيوت، وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلى ركعتين ولو فى منزله. ومنهم من قال: إذا ركب قصر إن شاء. ورجح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت، واختلفوا فيما قبل ذلك، فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له القصر. قال: ولا أعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قصر فى سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة(8/497)
صلاة التسابيح
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى صلاة التسابيح، وهل هى مشروعة أو غير مشروعة؟
الجواب
حديث صلاة التسابيح رواه أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة فى صحيحه والطبرانى، وقد روى من طرق كثيرة وعن جماعة من الصحابة كما قاله الحافظ ابن حجر، ومن أمثلتها حديث عكرمة بن عباس الذى قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب " إن استطعت أن تصليها فى كل يوم مرة فافعل، فان لم تستطع ففى كل جمعة مرة، فان لم تفعل ففى كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففى عمرك مرة " وقد صحح هذا الحديث جماعة من الحفاظ. وقال بعض الرواة: إن صح الخبر فإن فى القلب من هذا الإِسناد شيئا.
وذكر الإمام النووى فى كتابه " الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار" أن الترمذى قال: قد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم غير حديث فى صلاة التسابيح، ولا يصح منه كبير شىء. ورأى ابن المبارك وغير واحد من أهل العلم صلاة التسابيح، وذكروا الفضل فيها: ثم روى الترمذى حديث العباس الذى نقله أبو رافع وقال عنه: حديث غريب. ثم قال الإِمام أبو بكر بن العربى فى كتابه " الأحوذى فى شرح الترمذى " حديث أبى رافع هذا ضعيف ليس له أصل فى الصحة ولا فى الحسن، وإنما ذكره الترمذى لينبه عليه لئلا يُغْتر به، وقول ابن المبارك ليس بحجه.
هذا كلام أبى بكر بن العربى، وذكر أبو الفرج بن الجوزى أحاديث صلاة التسابيح وطرقها، ثم ضعَّفها كلها وبيَّن ضعفها، وقال النووى: وقد نص جماعة من أئمة أصحابنا - الشافعية - على استحباب صلاة التسابيح، منهم البغوى والرويانى الذى نقل عن عبد اللَّه بن المبارك أنها مرغب فيها، يستحب أن يعتادها فى كل حين ولا يتغافل عنها والحافظ المنذرى أورد فيها روايات كثيرة ذكر أن بعضها صحيح وأن فيها اختلافا كثيرا وجاء فى كتاب المغنى 0 لابن قدامة أن أحمد بن حنبل قال عنها: ما تعجبنى، قيل له:
ولم؟ قال: ليس فيها شىء يصح ونفض يده كالمنكر.
وبعد عرض هذه الأقوال والآراء يمكن أن يقال: إنه لا مانع من صلاتها، فإنها فضيلة، والأحاديث الضعيفة تقبل فى فضائل الأعمال كما قاله كثير من العلماء. وهى من جنس الصلوات، وفيها ذكر لله، ولم تشتمل على ما يتعارض مع الأصول الثابتة. أما كيفيتها فهى أربع ركعات، تصلى ركعتين ركعتين، أو تصلى أربعا بنية واحدة. يقرأ المصلى فى كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، وبعد السورة وقبل الركوع يسبح خمس عشر مرة، وفى الركوع يسبح عشرا وفى الاعتدال منه يسبح عشرا، وفى السجود الأول كذلك، وبين السجدتين كذلك، وفى السجود الثانى كذلك، وعقب السجود الثانى كذلك، فالجملة فى الركعة الواحدة خمس وسبعون تسبيحه، وفى الركعات الأربعة ثلاثمائة تسبيحة، وليست هناك صيغة معينة للتسبيح، ومن أمثلها " سبحان اللَّه والحمد لله ولا إلا إله اللَّه واللَّه أكبر ".
وأؤكد أن صلاتها ليست بدعة ضلالة، فهى كصلاة أى تطوع زيدت فيه هذه التسبيحات، وتسبيح الله مأمور به بكرة وأصيلا، والصلاة خير موضوع، وما دام بعض الفقهاء قال بها فلا وجه للإنكار عليها.
وفضل هذه الصلاة كما فى الحديث الذى رواه أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة، وقول النبى للعباس فيه " يا عماه ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحْبُوكَ ألا أفعل لك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر اللَّه لك ذنبك أوله وآخره وقديمه وحديثه وخطأه وعمده وصغيره وكبيره وسره وعلانيته عشر خصال أن تصلى أربع ركعات. . . ".
وينبغى أن نعلم أن الذنوب التى تكفرها صلاة التسابيح هى الصغائر، أما الكبائر فلابد لتكفيرها من التوبة النصوح، ويقال مثل ذلك فى الصلوات النافلة التى يجازى عليها بالمغفرة(8/498)
التنكيس فى القراءة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض الأئمة يصلون التراويح بآيات متناثرة من القرآن، وقد يقرأ فى الركعة الأولى آيات من آخر السورة، وفى الثانية آيات من أولها، أو من سورة متقدمة على السورة الأولى، فهل يسمى هذا تنكيسًا وما حكمه؟
الجواب
ورد في الصحيح أن حذيفة صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فسمعه قرأ فى الركعة الأولى البقرة، ثم افتتح آل عمران، ثم ركع ... رواه مسلم "ج 6 ص 61". قال القاضى عياض: إن ترتيب السور ليس بواجب فى الكتابة ولا فى الصلاة ولا فى الدرس ولا فى التلقين والتعليم، وإنه لم يكن من النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك نص، ولا تحرم مخالفته.
ثم قال: ولا خلاف أنه يجوز للمصلى أن يقرأ فى الركعة الثانية سورة قبل التى قرأها فى الأولى. وإنما يكره ذلك فى ركعة، ولمن يتلو فى غير الصلاة.
قال: وقد أباحه بعضهم، وتأويل نهى السلف عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، ولا خلاف فى أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله تعالى على ما بنى عليه الآن فى المصحف. وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم "نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 237 ".
وبهذا يعلم أن مخالفة ترتيب المصحف فى قراءة السور ليست محرمة، بل هى مكروهة فقط، والكراهة مرتبة أقل من الحرمة، بمعنى أنها لا مؤاخذة عليها.
أما مخالفة الترتيب فى قراءة الآيات فلم أر حديثا عن النبى صلى الله عليه وسلم فيها، بل الوارد إنما هو عن السلف. وقد جاء فى نهاية ابن الأثير- مادة نكس -: وفى حديث ابن مسعود قيل له: إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا.
فقال: ذلك منكوس القلب. قيل هو أن يبدأ من آخر السورة حتى يقرأها إلى أولها، وقيل: هو أن يبدأ من آخر القرآن فيقرأ السور، ثم يرتفع إلى البقرة. اهـ.
وقد علمت أن الثانى ليس بمحرم، والأول هو المنهى عنه(8/499)
أذانان للفجر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك أذان واحد للفجر أم أذانان، وما هو الأذان المعتبر للصلاة والصيام وهل التوقيت الموجود حاليا فى النتائج صحيح؟
الجواب
يقول اللَّه سبحانه فى شأن الصيام، {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} البقرة: 187، ويقول فى شأن الصلاة {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} ، الإسراء: 78، وروى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنعنكم أذان بلال عن سحوركم فإنه ينادى بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر". ورويا أيضا عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم " وكان رجلا أعمى لا ينادى حتى يقال له: أصبحت أصبحت.
وروى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الفجر فجران، فأما الفجر الذى يكون كذنب السرحان - الذئب - فلا يحل الصلاة ويحل الطعام، وأما الذى يذهب مستطيلا- أى ممتدا فى الأفق - فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام " ومن رواية البخارى أنه صلى الله عليه وسلم مد يده عن يمينه ويساره.
يؤخذ من هذا أنه كان هناك أذانان للفجر أيام النبي صلى الله عليه وسلم الأذان الأول كان للتنبيه والاستعداد للصيام، والثانى كان للامتناع عن الطعام والشراب وبدء الصوم وحل صلاة الفجر.
كما يؤخذ أن هناك ضوأين فى آخر اليل، أحدهما يظهر فى الأفق من أعلى إلى أسفل كالعمود، والثانى كان يظهر بعده ممتدا فى الأفق عرضا يمينا ويسارا، والثانى هو الفجر الصادق المعول عليه فى الصيام وصلاة الفجر، وجاء فى رواية لمسلم عن المدة التى بين الأذانين ما نصه: ولم يكن بينهما -أى بلال وابن أم مكتوم -إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا.
وجاء فى رواية للبخارى ومسلم أن مهمة أذان بلال أن يرجع القائم ويوقظ النائم.
وهنا تثار عدة استفهامات:
1-هل هذان الأذانان للفجر فقط أو لكل الأوقات؟ 2-وهل هما لرمضان فقط أو لكَل الشهور؟ .
3-وما هو مبدأ الأذان الأول؟ 4-وهل ألفاظ الأذانين واحدة، أو أن للأول ألفاظا خاصة؟ 5-وهل يجوز اتخاذ أكثر من مؤذن للمسجد الواحد؟ وللإجابة على ذلك نقول:
1-الجمهور على أن الأذانين هما للفجر خاصة، ولا يجوز أن - يكون هناك أذان سابق على دخول الوقت فى غير الفجر.
2- والجمهور أيضا على أن الأذانين للفجر لا تختص مشروعيتهما بشهر رمضان. فكما يكون الأول للسحور يكون للاستعداد لصلاة الفجر، أو تنظيم قيام الليل.
3- وبدء الأذان الأول مختلف فيه. فقيل يشرع وقت السحر، ورجحه جماعة من أصحاب الشافعى، وقيل يشرع من النصف الأخير، ورجحه النووى وتأول القول الذى يخالفه، وقيل يشرع للسبع الأخير فى الشتاء، أما فى الصيف فلنصف السبع، وقيل وقته الليل جميعه، وقيل بعد آخر وقت الاختيار للعشاء.
لكن قد يؤخذ تعيين مبدئه من رواية النسائي والطحاوى من حديث عائشة: أنه لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا أن يرقى هذا وينزل هذا، وكانا يؤذنان فى بيت مرتفع كما أخرجه أبو داود، فيكون الأذان الأول قبل الفجر بقليل، لكن جاء فى شرح النووى لصحيح مسلم:
قال العلماء: معناه أن بلالا كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه،.ثم يرقب الفجر فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها، ثم يرقى ويشرع فى الأذان مع أول طلوع الفجر. اهـ.
وهذا يدل على أن الأذان الأول كان قبل الوقت بوقت طويل لا يمكن تحديده 4- وألفاظ الأذانين واحدة عند الجمهور. وقال بعض الحنفية: إن النداء الأول لم يكن بألفاظ الأذان المعروفة، وإنما كان تذكيرا كما يقع للناس اليوم، ورده الجمهور بأن التذكير محدث قطعا ولم يكن أيام النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضافرت الأحاديث على التعبير بلفظ الأذان قطعا، فحمله الجمهور على معناه الشرعى. ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين ولما قال لهم الرسول " لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال " كما رواه مسلم. وأما التواشيح المعتادة اليوم فحكمها مذكور فى موضع اَخر.
5- والحديث يدل على جواز اتخاذ مؤذنين فى وقت واحد أما الزيادة عليهما فليس فى الحديث تعرض لها، ونقل عن بعض أصحاب الشافعى أنه يكره الزيادة على أربعة، لأن عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه اتخذ أربعة، ولم تنقل الزيادة عن أحد من الخلفاء الراشدين. وجوزه بعضهم من غير كراهة، لأن الزيادة إذا جازت لعثمان على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم جازت لغيره، قال أبو عمر بن عبد البر وإذا جاز اتخاذ مؤذنين جاز أكثر من هذا العدد، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له "يعنى نص أو خبر يعتمد عليه ". والمستحب أن يتعاقبوا واحدا بعد واحد كما اقتضاه الحديث إن اتسع الوقت لذلك كصلاة الفجر، فإن تنازعوا فيمن يبدأ منهم أقرع بينهم "ملخص من نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 51 - 53 ". هذا، وقد خالفت بعض الجماعات التقويم المعمول به لأوقات الصلاة وبخاصة الفجر وقالوا: إنه بعد التوقيت المنشور "بالنتائج " بثلث ساعة ورد على ذلك المكتب الفنى لوزارة الأوقاف المصرية بأن التقويم المعمول به الاَن صادر عن أصحاب الاختصاص من علماء الفلك والتقويم،ويجب اتباعه حتى لا يكون هناك فارق بين ما جاء به الدين وما يقول به العلم.اهـ.
وفد أفتت دار الإفتاء المصرية بتاريخ 22 من نوفمبر سنة 1981 م بما نصه: إن الحساب الفلكى لمواقيت الصلاة الذى تصدره هيئة المساحة المصرية عرض على لجنة متخصصة من رجال الفلك والشريعة فانتهت إلى أن الأسلوب المتبع فى حساب مواقيت الصلاة فى جمهورية مصر العربية يتفق من الناحية الشرعية والفلكية مع رأى قدامى علماء الفلك المسلمين.
واستئنافا لذلك ستشكل لجنة أخرى لمتابعة البحث. وقرر المفتى الالتزام بالمواقيت المذكورة، لأنها موافقة لما جاء فى الأحاديث التى رواها أصحاب السنن مما علَّمه جبريل للنبى صلى الله عليه وسلم. وأمر المفتى من يقولون فى الدين بغير علم أن يتقوا الله حتى لا يضلوا الناس فى دينهم، وألا يلبسوا الدين بأغراض أخرى يبتغونها، فالحق أحق أن يتبع "الفتاوى الإسلامية مجلد 8 ص 2733 "(8/500)
أذان النبى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن للصلاة، وما الحكمة من ذلك؟
الجواب
جاء فى كتاب "نور الأبصار للشبلنجى ص 49" قال النيسابورى:
الحكمة فى كونه صلى الله عليه وسلم كان يؤم ولا يؤذن أنه لو أذن لكان من تخلف عن الإجابة كافرا، وقال أيضا: ولأنه كان داعيا فلم يجز أن يشهد لنفسه. وقال غيره: لو أذن وقال: أشهد أن محمدًا رسول الله لتوهم أن هناك نبيا غيره. وقيل لأن الأذان رآه غيره فى المنام فوكله إلى غيره. وأيضا ما كان يتفرغ إليه من أشغال. وأيضا قال الرسول صلى الله عليه وسلم "الإمام ضامن والمؤذن أمين " رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فدفع الأمانة إلى غيره.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إنما لم يؤذن لأنه كان إذا عمل عملا أثبته، أى جعله دائما، وكان لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بتبليغ الرسالة، وهذا كما قال عمر: لولا الخلافة لأذنت.
وأما من قال: إنه امتنع لئلا يعتقد أن الرسول غيره فخطأ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول فى خطبته: وأشهد أن محمدا رسول اللَّه.
هذا، وجاء في نيل الأوطار للشوكانى "ج 2 ص 36" خلاف العلماء بين أفضلية الأذان والإمامة وقال فى معرض الاستدلال على أن الإمامة أفضل: إن النبى صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده أمُّوا ولم يؤذنوا، وكذا كبار العلماء بعدهم(9/1)
الإعلان فى ميكروفون المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى إعلام الناس عن موت أحد الأشخاص باستخدام مكبرات الصوت بالمساجد؟
الجواب
يقول اللَّه سبحانه {فى بيوت أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} النور: 360، 37، وروى مسلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال " من سمع رجلا ينشد ضالة فى المسجد فليقل لا ردها اللَّه عليك، فان المساجد لم تبن لهذا" وروىَ النسائى والترمذى بطريق حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يتباع - أى يشترى - فى المسجد فقولوا له: لا أربح اللَّه تجارتك ".
يؤخذ من هذه النصوص أن المساجد بيوت اللَّه جعلت للعبادة وعمل الخير، وينبغى أن يتوافر فيها الهدوء حتى لا يكون إيذاء أو مضايقة للمتعبدين فيها، كما ينبغى أن تصان حرمتها ولا يزاول فيها ما يخل بكرامتها، كالتخاصم والنداء على الأشياء المفقودة وغيرها.
فإذا لم يكن شيء من ذلك جاز رفع الصوت فى المسجد، وجاء فى شرح النووى لصحيح مسلم "ج 5 ص 55 " أن أبا حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك أجازا رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة - أى التقاضى- وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس لأنه مجتمعهم ولا بد لهم منه.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود فى المسجد، ويتلقى فيه تبرعات المحسنين، ويوزع فيه الأموال المستحقة، بل سمح بنصب خيمة فى غزوة الأحزاب لاستقبال الجرحى وتمريض المجاهدين،كما سمع إنشاد الشعر فيه من حسان بن ثابت، فالحكم مبنى على عدم التشويش على المصلين والمتعبدين وعدم الإخلال بحرمة المسجد، ولا شك أن ما سمح به الرسول كان مراعى فيه هذه الحكمة، أما ما منعه كالتجارة ونشدان الضالة فكان مراعى فيه أنه يتنافى مع هذه الحكمة، ومعروف أن البيع والشراء فيه مساومة وكلام يشوش على من فى المسجد، وكذلك نشدان الضالة فيه مساومة على الجعل الذى يدفع عند إحضار الضالة، وفيه استفسار عن مواصفاتها.
والاستدلال على المنع بقوله تعالى {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} ، الجن: 18، لا محل له هنا، لأن الآية ورادة فيمن يشركون مع اللَّه غيره فى العبادة، كما كان المشركون يفعلون ذلك فى المسجد الحرام عندما كان مملوءا بالأصنام.
والسيوطى فى كتابه "الحاوى للفتاوى" وضح ذلك بما لا يحتاج إلى مزيد، وقال: نص النووى فى شرح المهذب على أنه يكره رفع الصوت بالخصومة فى المسجد ولم يحكم عليه بالتحريم وكذا رفع الصوت بالقراءة والذكر إذا أذى المصلين والقيام نصوا على كراهته لا تحريمه، والحكم بالتحريم يحتاج إلى دليل واضح صحيح الإسناد غير معارض، ثم إلى نص من أحد أئمة المذاهب، وكل من الأمرين لا سبيل إليه. انتهى.
ومن هنا يمكن أن نقول: إن الإعلان عن الوفاة ليس مصلحة شخصية بقدر ما هو مصلحة عامة، فإذا كان مكبر الصوت - الميكروفون - لا يشوش على المصلين والمتعبدين فلا وجه لمنع الإعلان فيه عن الوفاة، أما إذا كان فيه تشويش فيكون ممنوعا ودرجة المنع هى الكراهة لا الحرمة(9/2)
الصلاة بالثياب اللاصقة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز صلاة الرجل أو المرأة بملابس لاصقة بالجسد؟
الجواب
ستر العورة فى الصلاة لا يقصد منه بالذات منع الفتنة، فقد يصلى الإنسان وحده دون رؤية أحد له، بل القصد منه هو الأدب مع الله سبحانه، وتنفيذ أمره بقوله تعالى {يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} ، الأعراف: 31،وبالمأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك.
ومن هنا قال جمهور العلماء: لا مانع من ستر العورة فى الصلاة بما يحدد شكلها بالملابس اللاصقة ما دامت العورة لا تراها العين. وقال مالك: تعاد الصلاة فى الوقت بثوب غير محدد(9/3)
هل قدم المرأة عورة فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فى صلاة المرأة وقدماها عاريتان؟
الجواب
جسم المرأة كله عورة فى الصلاة ما عدا وجهها وكفيها، فلو ظهر شيء منه بطلت الصلاة، والتى تصلى بملابس قصيرة كشفت عورتها المخففة عند مالك، فتصح صلاتها وإن كان كشفها حراما أو مكروها. ولكن تنبغى إعادتها بستر كامل ما دام وقت الصلاة باقيا، فإن خرج وقتها فلا إعادة مع بقاء المؤاخذة عليها.
وقدم المرأة من العورة المخففة عند مالك، وحكم كشفه هو ما ذكر، وبطن القدمين عورة يجب سترها عند الشافعية والأحناف، وظاهرهما عورة عند الشافعية يجب سترها، وليس بعورة عند الأحناف لو انكشف لا تبطل الصلاة.
وستر القدمين قد يكون بالجورب غير الشفاف، وقد يكتفى فيه بالثوب الطويل السابغ المغطى لهما عند السجود بالذات(9/4)
القنوت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل القنوت فى الصلاة مشروع، وإذا كان مشروعا فهل هو فى كل الصلوات، وهل له صيغة محدودة؟
الجواب
القنوت وهو الدعاء مشروع في الصلوات الخمس عند النوازل، لحديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما: قنت الرسول صلى الله عليه وسلم فى الصلوات الخمس مدة شهر، يدعو على حى من بنى سليم: رعل وذكوان وعصية، لأنهم قتلوا بعض الصحابة الذى أرسلهم ليعلموهم.
رواه أبو داود وأحمد، كما روى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع. وجاء فيه: قال: يجهر بذلك ويقول فى بعض صلاته وفى صلاة الفجر "اللهم العن فلانا وفلانا " حيبن من أحياء العرب، حتى أنزل الله تعالى {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} آل عمران: 128.
والقنوت فى الصبح على هذا مشروع عند النوازل كبقية الصلوات، أما فى غير النوازل فللفقهاء فيه أقوال خلاصتها.
قال الحنفية والحنابلة بعدم مشروعيته، مستدلين بما رواه ابن حبان وابن خزيمة وصححه عن أنس:: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت فى صلاة الصبح إلا إذا دعا لقوم أو دعا عليهم.
وقال المالكية والشافعية بمشروعيته. ودليلهم ما رواه الجماعة إلا الترمذى أن أنس بن مالك سثل هل قنت النبي صلى الله عليه وسلم فى صلاة الصبح؟ فقال: نعم، ورواه أحمد والبزار والدارقطنى والبيهقى والحاكم وصححه عن أنس قال: ما زال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقنت فى الفجر حتى فارق الدنيا.
ومناقشة هذه الأدلة وبيان الأرجح من الأقوال يمكن الرجوع إليه فى كتاب "زاد المعاد لابن القيم " الذى بين فى سرده للروايات أن أهل الحديث توسطوا بين من ينكرون القنوت مطلقا حتى فى النوازل وبين من يستحسنونه مطلقا عند النوازل وغيرها، فهم لا ينكرون على من داوم عليه ولا يكرهونه فعله، ولا يرونه بدعة ولا فاعله مخالفا للسنة،كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ولا يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفا للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن، وهذا من الاختلاف المباح الذى لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه، وذلك كرفع اليدين في الصلاة وتركه. وأنا أقول: إن الخلاف بسيط، وهو فى سنة وليس فى فرض، والدين يسر.
هذا وقد روى أحمد وأصحاب السنن عن أبى مالك الأشجعى أنه قال عن قنوت الفجر إنه بدعة، لأنه صلى خلف النبي وأبى بكر وعمر وعلى فلم يرهم يقنتون، كما روى الدارقطنى أن ابن عباس كان يقول: إن القنوت فى صلاة الفجر بدعة. ويمكن الجمع بين روايات الإثبات وروايات النفى بأن هؤلاء المروى عنهم كانوا يقنتون أحيانا ولا يقنتون أحيانا أخرى، لأنه سنة وليس بفرض ولا واجب، والمثبت مقدم على النافى كما هو معلوم، وإذا كان بعض الصحابة لم يقنت لأنه لم يره من النبى صلى الله عليه وسلم فإن عدم الرؤية لا يدل على النفى المطلق، وقد ذكر ابن حزم أن ابن مسعود الذى كان لا يقنت خفى عليه وضع الأيدى على الركب فى الركوع، وأن ابن عمر الذى لم يحفظه عن أحد من الأصحاب كما رواه البيهقى خفى عليه المسح على الخفين.
هذا فى قنوت الصبح، أما فى قنوت الوتر فهو سنة عند الشافعية فى النصف الثانى من شهر رمضان، أما فى غير ذلك، فهناك خلاف:
فعند الحنابلة أن القنوت مسنون فى الوتر فى الركعة الواحدة فى جميع السنة، وعند المالكية والشافعية لا يسن، ووافقهم الحنابلة فى رواية عن أحمد. وعند الحنفية مسنون فى كل أيام السنة، يقول ابن تيمية فى فتاويه "مجلد 22 ص 264 -269 ". . وأما قنوت الوتر فلعلماء فيه ثلاثة أقوال:
1- قيل لا يستحب بحال، لأنه لم يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قنت فى الوتر.
2- قيل: بل يستحب فى جميع السنة كما نقل عن ابن مسعود وغيره، ولأن فى السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم الحسن بن على دعاء يدعو به قنوت الوتر.
3- وقيل بل يقنت فى النصف الأخير من رمضان كما كان أُبى بن كعب يفعل.
وقنوت النوازل مشروع فى غير صلاة الصبح أيضا قال النووى - وهو شافعى المذهب فيه ثلاثة أقوال، والصحيح المشهور الذى قطع به الجمهور أنه مشروع فى كل الصلوات ما دامت فيه نازلة، وإلا فلا، ولم يقل بمشروعيته غيرهم، ورأى المالكية أنه إن وقع لا تبطل به الصلاة وهو مكروه.
ومحل القنوت بعد الركوع عند الشافعية والحنابلة، وفى رواية عن أحمد أنه قال: أنا أذهب إلى أنه بعد الركوع، فإن قنت قبله فلا بأس.
والمالكية والحنفية، يقنتون قبل الركوع. والقنوت عند الشافعية يحصل بأية صيغة فيها دعاء وثناء مثل (اللهم اغفر لى يا غفور) وأفضله: (اللهم اهدنى فيمن هديت، وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت، وقنى شر ما قضيت، فانك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت وتعاليت) وقد روى عن الحسن بن على رضى اللَّه عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه إياه، كما رواه أبو داود والنسائى والترمذى وغيرهم، وقال الترمذى: حديث حسن، ولا يعرف عن النبى صلى الله عليه وسلم شيء أحسن من هذا.
ولفظه المختار عند الحنفية كما رواه ابن مسعود وعمر رضى اللَّه عنهما: اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثنى عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.
يقول النووى: يستحب الجمع ين قنوت عمر وما روى عن الحسن، وإلا فليقتصر على رواية الحسن، وتسن الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بعد القنوت(9/5)
الصلاة مع نسيان النجاسة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الشرع فيمن صلى ثم اكتشف أن فى ثوبه نجاسة لم يكن يعلم بها هل تصح صلاته أم لا؟
الجواب
من المعلوم أن الطهارة من النجس شرط لصحة الصلاة عند جمهور الفقهاء فلو صلى وفى بدنه أو ثوبه نجاسة، وكان عالما بها بطلت صلاته، وهناك رأيان للمالكية في حكم الطهارة من النجاسة، هل هى واجبة لصحة الصلاة أم سنة، فعلى القول بالوجوب كانت الصلاة باطلة عند العلم بالنجاسة، وعلى القول بالندب لا تبطل الصلاة، فتجب إعادتها فى الوقت أو بعده على القول الأول وتندب إعادتها على القول الثانى.
فإذا صلى بالنجاسة ناسيا لها، أو جاهلا بها، أو عاجزا عن إزالتها فصلاته صحيحة على القولين عند المالكية، وتندب الإعادة فى الوقت المسموح به للصلاة. "الفقه على المذاهب الأربعة نشر وزارة الأوقاف حكم إزالة النجاسة" وفى فقه الحنابلة يقول ابن قدامة فى المغنى "ج 1 ص 718": وإذا صلى ثم رأى عليه نجاسة فى بدنه أو ثيابه لا يعلم هل كانت عليه فى الصلاة أو لا-فصلاته صحيحة، لأن الأصل عدمها فى الصلاة.
وإن علم أنها كانت فى الصلاة لكن جهلها حتى فرغ منها ففيه روايتان، إحداهما لا تفسد صلاته، هذا قول ابن عمر وعطاء وسعيد بن المسيب، وآخرين، والثانية يعيد، وهو قول أبى قلابة والشافعى، لأنها طهارة مشترطة للصلاة فلم تسقط بجهلها كطهارة الحدث، وقال ربيعة ومالك:
يعيد ما كان فى الوقت ولا يعيد بعده.
وجه الرواية الأولى- عدم الفساد-ما روى أبو سعيد قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فخلع الناس نعالهم، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاته قال " ما حملكم على إلقائكم نعالكم "؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، قال " إن جبريل أتانى فأخبرنى أن فيهما قذرا " رواه أبو داود. ولو كانت الطهارة شرطا مع عدم العلم بها لزمه استئناف الصلاة، وتفارق طهارة الحدث لأنها آكد، لأنها لا يعفى عن يسيرها وتختص البدن.
وإن كان قد علم بالنجاسة ثم أُنسيها وصلى فقال القاضى: حكى أصحابنا فى المسألتين روايتين، وذكر هو فى مسألة النسيان أن الصلاة باطلة، لأنه منسوب إلى التفريط، بخلاف الجاهل بها، قال الآمدى:
يعيد إذا كان قد توانى رواية واحدة، والصحيح التسوية بينهما. لأن ما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان، بل النسيان أولى لورود النص بالعفو عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم "عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان ".
وإن علم بالنجاسة فى أثناء الصلاة فإن قلنا: لا يعذر بالجهل والنسيان فصلاته باطلة، ويلزمه استئنافها، وإن قلنا يعذر فصلاته صحيحة.
ثم إن أمكنه طرح النجاسة من غير زمن طويل ولا عمل كثير ألقاها وبنى، كما خلع النبى صلى الله عليه وسلم نعليه حين أخبره جبريل بالقذر فيهما، وإن احتاج إلى أحد هذين - الزمن الطويل والعمل الكثير- بطلت صلاته، لأنه يفضى إلى أحد أمرين: إما استصحاب النجاسة مع العلم بها زمنا طويلا، أو يعمل فى الصلاة عملا كثيرا فتبطل به الصلاة فصار كالعريان يجد السترة بعيدة عنه. انتهى.
وفى فقه الشافعية جاء فى "كفاية الأخيار" ج 1 ص ا 8: إذا صلى بنجاسة لا يعفى عنها وهو جاهل بها حال الصلاة، سواء كانت فى بدنه أو ثوبه أو موضع صلاته، فإن لم يعلم بها ألبته فقولان، الجديد الأظهر يجب عليه القضاء، لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالجهل كطهارة الحدث، والقديم أنه لا يجب، ونقله ابن المنذر. عن خلائق واختاره، وكذا النووى اختاره فى شرح المهذب.
وإن علم بالنجاسة ثم نسيها فطريقان، أحدهما على القولين - أى الجديد والقديم كما لو لم يعلم بها - والمذهب القطع بوجوب القضاء لتقصيره.
ثم إذا أوجبنا الإعادة فيجب عليه إعادة كل صلاة صلاها مع النجاسة يقينا، فإن احتمل حدوثها بعد الصلاة فلا شيء عليه، لأن الأصل عدم وجدانها فى ذلك الزمن، ولو رأى شخصا يريد الصلاة وفى ثوبه نجاسة والمصلِّى لا يعلم بها لزم العالم إعلامه بذلك، لأن الأمر بالمعروف لا يتوقف على العصيان، بل هو لزوال المفسدة، قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وهى مسألة حسنة واللَّه أعلم. انتهى.
هذا، والحديث الذى دار عليه هذا الحكم وهو حديث خلع الرسول لنعليه، حديث ضعيف، والأقوال كلها اجتهادية، ويمكن الرجوع إلى كتاب "نيل الأوطار للشوكانى"ج 2 ص 123، حيث لخص الموضوع فيما سبق ذكره من أن طهارة الثوب شرط لصحة الصلاة عند الأكثرين، وذكر رأى مالك فى قوليه، وقولى الشافعى وقال: إن حجة الجمهور هى قوله تعالى {وثيابك فطهر} المدثر: 4، وتحدث عن كون الأمر للوجوب أو الندب، وأن الوجوب لا يستلزم الشرطية، وفيه كلام طويل(9/6)
المرور بين يدى المصلى
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم المرور بين يدى المصلى وما حكم اتخاذ ساتر أمامه، وبما يتحقق، وهل للمصلى أن يدفع المار أمامه حتى لا يمر؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لو يعلم المار بين يدى المصلى ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أين يمر بين يديه ".
وفى رواية البزار بسند صحيح "لو يعلم المار بين يدى المصلى ماذا عليه كان لأن يقوم أربعين خريفا خير له من أن يمر بين يديه ".
قال المحققون: إن التحريم يكون إذا صلى الإنسان أمام ساتر اتخذه أمامه. أما إذا لم يتخذ ساترا فلا يحرم المرور، وإن كان الأولى تركه.
ومن ذهبوا إلى تحريم المرور سواء اتخذ المصلى ساترا أم لم يتخذ قالوا: إن المنطقة المحرمة هى التى بين قدمى المصلى إلى موضع سجوده، أما ما بعد ذلك فلا حرمة فى المرور فيه.
هذا وحرمة المرور أمامه من الكبائر، والأربعون تحتمل أربعين يوما أو شهرا أو سنة لأن الراوى لم يستفسر ممن سمع الحديث، وقال الحافظ ابن حجر: ظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقا ولو لم يجد مسلكا، بل يقف حتى يفرغ المصلى من صلاته.
وقد استثنى الحنابلة من الحرمة ما لو كان ذلك فى المسجد الحرام بل فى مكة كلها والحرم، وذلك لحاجة الناس إلى المرور.
وبخاصة من يريدون الطواف، وخصه المالكية بمن لم يتخذ سترا، ومما يشفع لهذا ما رواه ابن حبان فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم حين فرغ من الطواف صلى جمعتين عند حاشية المطاف وليس بينه وبين الطوافين أحد، وفى رواية: صلى حذو الركن الأسود والرجال والنساء يمرون بين يديه، ما بينهم وبينه سترة.
هذا، ويستحب للمصلى أن يجعل بين يديه سترة تمنع المرور أمامه، لحديث رواه أبو داود وابن ماجه "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة ولْيَدْنُ منها" وروى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلى إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك فى السفر، ثم اتخذها الأمراء.
واستحباب جعل السترة يستوى فيه خشية مرور أحد وعدم الخشية كما قال الشافعية والحنابلة وقال الحنفية والمالكية: إذا أمن مرور أحد فلا يستحب، لأن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إن النبى صلى الله عليه وسلم صلى فى فضاء وليس بين يديه شيء. رواه أحمد وأبو داود ورواه البيهقى وقال: له شاهد بإسناد أصح من هذا عن الفضل بن عباس.
ويشرع للمصلى الذى أخذ سترة أن يدفع المار بين يديه، إذا كان مروره بينه وبين السترة، أما إذا كان بعد السترة فلا يدفعه ولا يضر المرور. روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فان أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان ".
هذا ويشترط فى السترة أن يكون طولها ذراعا فأكثر، وجعل الشافعية حدها الأدنى ثلثى ذراع، كها يستحب ألا يجعلها مقابلة له تماما، بل تكون على اليمين أو اليسار وأن يكون بينها وبين قدمى المصلى قدر ثلاثة أذرع أو أكثر قليلا.
والوضع الطبيعى للسترة هو غرزها لتكون منتصبة، وذلك إن أمكن، وإلا وضعت بين يديه عرضا عند الجمهور، وهو أولى من وضعها بالطول فإن لم يجد خط خطا بالأرض عند غير المالكية، واشترط الشافعية فى الخط أن يكون مستقيما طولا أو عرضا واكتفى غيرهم بأن يكون مقوسا كالهلال.
ويصح اتخاذ السترة النجسة عند غير المالكية.
وجاء فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة الذى نشرته وزارة الأوقاف المصرية، خلاف بين المذاهب فى القدر الذى يحرم المرور في بين يدى المصلى، ملخصه:
أن الحنفية قالوا: إن كان يصلى فى مسجد كبير أو صحراء حرم المرور بين يديه من موضع قدمه إلى موضع سجوده، وإن كان يصلى فى مسجد صغير حرم المرور أمامه إلى جدار القبلة (حوالى أربعين ذراعا) .
وقال المالكية: إن صلى لسترة حرم المرور بينه وبينها، ولا يحرم من ورائها، وإن صلى لغير سترة حرم المرور فى موضع ركوعه وسجوده فقط.
وقال الشافعية: يحرم المرور بين المصلى وسترته فى مسافة ثلاثة أذرع فأقل، وقال الحنابلة: إن اتخذ سترة حرم المرور بينه وبينها ولو بعدت، وإن لم يتخذ سترة حرم المرور فى ثلاثة أذرع من قدمه(9/7)
هل المسجد شرط لصحة صلاة الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كنا فى عمل خارج البلد وأدركتنا صلاة الجمعة وليس فى المكان مسجد وكنا حوالى خمسين شخصا، فهل يجوز لنا أن نقيم صلاة الجمعة فى أى مكان؟
الجواب
جاء في فقه المذاهب الأربعة أن المالكية قالوا: لا تصح الجمعة فى البيوت ولا فى الفضاء، بل لا بد أن تؤدى فى الجامع، ويشترط فى الجامع شروط أربعة الأول أن يكون مبنيا فلا تصح فى مسجد حُوِّط عليه بأحجار أو طوب من غير بناء، والثانى أن يكون بناؤه مساويا على الأقل للبناء المعتاد لأهل البلد، فلو كان البلد أخصاصا صح بناء المسجد من البوص، أما إذا كانت عادتهم البناء بالطوب المحروق وبنوا المسجد بالطوب التى فلا تصح الجمعة فيه، والثالث أن يكون فى البلد أو خارجا عنها قريبا منها بحيث يصل إليه دخانها، والرابع أن يكون متحدا، فلو تعدد فى البلد الواحد فلا تصح الجمعة إلا فى الجامع القديم، وهو الذى أقيمت فيه الجمعة أولا فى البلد، ولو تأخر بناؤه، ولا تصح فى المسجد الجديد الذى لا حاجة إليه ما دام القديم موجودا، ولم يحكم بصحتها فيه حاكم.
أما المذاهب الأخرى فلا تشترط لصحة الجمعة أن تكون فى مسجد، بل تصح فى أى مكان داخل البلد أو خارجها، ولهم خلاف فى العدد الذى تنعقد به الجمعة، سيكون الكلام عنه فى موضع آخر.
ومما يدل على مذهب الجمهور ما رواه ابن أبى شيبة أن عمر رضى اللَّه عنه كتب إلى أهل البحرين "أن جَمِّعوا حيثما كنتم " وإسناده جيد كما قال أحمد. وروى عبد الرزاق بسند صحيح أن ابن عمر كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعتب عليهم(9/8)
قضاء الصلاة والتنفل
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فاتتنى صلوات كثيرة وعزمت على قضائها، فهل الأفضل أن أشغل كل وقتى بالقضاء أم أصلى النوافل وأقضى ما فات متى على قدر استطاعتى؟
الجواب
اتفق الأئمة الأربعة على أن قضاء الصلاة الفائتة واجب على الفور إذا فاتت بغير عذر، واستثنى الشافعية من الفورية ثلاث حالات، الأولى إذا تذكر الفائتة وقت خطبة الجمعة فإنه يجب تأخير القضاء حتى يصلى الجمعة، والثانية إذا ضاق وقت الحاضرة، بحيث لا يسع القضاء مع الحاضرة، والثالثة إذا تذكر الفائتة بعد شروعه فى الصلاة الحاضرة.
أما إذا فاتت الصلاة بعذر، فالأئمة الثلاثة على أن القضاء واجب على الفور أيضا، والشافعية قالوا: القضاء واجب على التراخى.
ولعل مما يؤيد رأى الجمهور أن الحديث صرح بالقضاء عند التذكر حتى لو كان الفوات بعذر، فقد روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " وفي رواية "إذا رقد أحدكم عن الصلاة او غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن اللَّه عز وجل يقول {وأقم الصلاة لذكرى} طه: 14،.
وقد تجاوز اللَّه لأمة النبى صلى الله عليه وسلم عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
وقد استثنى الأئمة من الوجوب الفورى ما لو كان هناك عذر كالسعى فى تحصيل الرزق وتحصيل العلم الواجب وجوبا عينيا، وكالأكل والنوم.
وبناء على قولهم بوجوب القضاء فورا قالوا: إن مما ينافى الفورية الاشتغال بصلاة النوافل، واختلفت آراؤهم في ذلك على النحو الآتى:
1 -الحنفية قالوا: الاشتغال بصلاة النوافل لا ينافى القضاء فورا، وإنما الأولى أن يشتغل بقضاء الفوائت ويترك النوافل إلا السنن الراتبة، وصلاة الضحى وصلاة التسبيح وتحية المسجد وصلاة أربع قبل الظهر وست بعد المغرب.
2 -والمالكية قالوا: يحرم على من عليه فوائت أن يصلى شيئًا من النوافل إلا فجر يومه والشفع والوتر، وإلا السنة كصلاة العيد، فإذا صلى نافلة غير هذه كالتراويح كان مأجورا من جهة كون الصلاة فى نفسها طاعة، وكان آثما من جهة تأخير القضاء. ورخصوا فى يسير النوافل كتحية المسجد والسنن الرواتب.
3- والشافعية قالوا: يحرم على من عليه فوائت يجب عليه قضاؤها فورا- وقد تقدم ذكرها-أن يشتغل بصلاة التطوع مطلقا، سواء كانت راتبة أو غيرها حتى تبرأ ذمته من الفوائت.
4 - والحنابلة قالوا: يحرم على من عليه فوائت أن يصلى النفل المطلق، فلو صلاه لا ينعقد، وأما النفل المقيد كالسنن الرواتب والوتر فيجوز له أن يصليه فى هذه الحالة، ولكن الأولى تركه إن كانت الفوائت كثيرة، ويستثنى من ذلك سنة الفجر فإنه يطلب قضاؤها ولو كثرت الفوائت وذلك لتأكدها وحث الشارع عليها "فقه المذاهب - نشر وزارة الأوقاف المصرية "(9/9)
قضاء الصلاة فى السفر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم ما لو كنت مسافرا سفر قصر وفاتت منى صلاة الظهر هل أقضيها تامة أم مقصورة، وما حكم ما لو فاتت منى صلاة الظهر قبل السفر هل أقضيها فى السفر مقصورة أم تامة؟
الجواب
المسألة الأولى: إذا كان الإنسان مسافرا سفر قصر "حوالى خمسة وثمانين كيلو مترا" وفاتته صلاة الظهر مثلا، وأراد أن يقضيها، إذا أراد أن يقضيها وهو مسافر قضاها مقصورة، أى صلاها ركعتين فقط، لأن رخصة القصر وهى السفر كانت موجوده أثناء وجوب الظهر عليه، وهى أيضا موجودة عند قضائها.
أما إذا أراد أن يقضيها بعد أن انتهى من سفره فهناك رأيان للعلماء.
(ا) رأى يقول بقضائها مقصورة أى ركعتين فقط، نظرا لأن الرخصة وهى السفر كانت موجودة عندما فاتت منه، وعليه الحنفية والمالكية.
(ب) ورأى يقول: بقضائها تامة أى أربع ركعات، نظرا لأن الرخصة وهى السفر غير موجودة عند القضاء، وعليه الشافعية والحنابلة. ولا مانع من الأخذ بأحد الرأيين.
والمسألة الثانية: إذا فاتت صلاة الظهر فى الحضر- أى فى غير السفر-ثم سافر سفر قصر وأراد أن يقضيها وهو مسافر وجب عليه أن يصليها تامة أى أربع ركعات، وذلك باتفاق الأئمة، لأنها دين والدين لا بد أن يقضى بتمامه دون نقص منه "الفقه على المذاهب الأربعة نشر وزارة الأوقاف المصرية"(9/10)
المسبحة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إن التسبيح على السبحة بدعة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
السبحة "بضم السين المهملة وسكون الباء الموحدة" هى الحرز المنظوم والتى يعد بها الذكر والتسبيح، وقيل: إنها غربية وتجمع على "سبح " بضم السين وقيل إنها مولدة.
وإحصاء الذكر بالسبحة من اختراع الهند، كما يقول الأستاذ السيد أبو النصر أحمد الحسينى "مجلة ثقافة الهند -سبتمبر1955 " اخترعه الدين البرهمى فيها، ثم تسرب إلى البلاد والأديان الأخرى، وتسمى السبحة فى اللغة السنسكريتية القديمة فى الهند "جب ما لا " أى عقد الذكر.
ثم يقول: وتختلف الفرق البرهمية فى عدد حباتها وفى ترتيبها، فالفرقة الشيوائية سبحتها أربع وثمانون حبة، والفرقة الوشنوية سبحتها مائة وثمان حبات. والخلاف راجع إلى حاصل ضرب 12 "عدد الأبراج السماوية" فى 7 "عدد النجوم الظاهرة بما فيها الشمس والقمر عند الفرقة الأولى" أو فى 9 "عدد النجوم الظاهرة عند الفرقة الثانية بإضافة أحوال القمر الثلاثة" وكل سبع حبات فى مجموعة متميزة.
وعند ظهور البوذية فى الهند بعد البرهمية اختار رهبانها السبحة الوشنوية "108 " من الحبات. وعند تفرق طوائفها فى البلاد قلد رهبان النصرانية هؤلاء فيها، وكل ذلك قبل ظهور الإسلام.
جاء الإسلام فأمر بذكر الله كما أمر بسائر العبادات والقربات والطاعات، وإذا كان الأمر بالذكر قد ورد مطلقا بدون حصر فى عدد معين أو حالة خاصة كما فى قوله تعالى {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} آل عمران: 191، وقوله أيضا {يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللَّه ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا} الأحزاب: 41، 42، فقد وردت أحاديث تحدد عدده ووقته، كما فى ختام الصلاة بثلاث وثلاثين تسبيحة، وثلاث وثلاثين تحميدة، وثلاث وثلاثين تكبيرة، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده ... وكما جاء فى نصوص أخرى فى فضل بعض الذكر عشر مرات أو مائة مرة، وهنا يحتاج الذاكر إلى ضبط العدد، فبأى وسيلة يكون ذلك؟ ليس فى الإسلام وسيلة معينة أمرنا بالتزامها حتى لا يجوز غيرها، والأمر متروك لعرف الناس وعاداتهم فى ضبط أمورهم وحصرها، والإسلام لا يمنع من ذلك إلا ما تعارض مع ما جاء به. والمأثور أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يعقد التسبيح بيده، كما رواه أبو داود والترمذى والنسائى والحاكم وصححه عن ابن عمر، وأرشد أصحابه إلى الاستعانة بالأنامل عند ذلك، فقد روى أبو داود والترمذى والحاكم عن " بسرة " وكانت من المهاجرات، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين التوحيد، واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات ".
غير أن الأمر بالعد بالأصابع ليس على سبيل الحصر بحيث يمنع العد بغيرها، صحيح أن العد بالأصابع فيه اقتداء النبى صلى الله عليه وسلم لكنه هو نفسه لم يمنع العد بغيرها، بل أقر هـ، وإقراره من أدلة المشروعية.
ا-أخرج الترمذى والحاكم والطبرانى عن صفية رضى الله عنها قالت: دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدى أربعة آلاف نواة أسبح بهن، فقال "ما هذا يا بنت عمى "؟ قلت: أسبح بهن، قال "قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا" قلت علمنى يا رسول الله، قال: " قولى سبحان اللَّه عدد ما خلق من شيء ".
والحديث صحيح.
ب - وأخرج أبو داود والترمذى وحسنه والنسائى وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه عن سعد بن أبى وقاص أنه دخل مع النبى صلى الله عليه وسلم على امرأة، وبين يديها نوى أو حصى تسبح، فقال " أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل؟ قولى: سبحان الله عدد ما خلق فى السماء، سبحان اللَّه عدد ما خلق فى الأرض سبحان الله عدد ما بين ذلك. وسبحان اللَّه عدد ما هو خالق، الله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك ".
وإلى جانب إقرار النبى صلى الله عليه وسلم لهذا العمل وعدم الإنكار عليه، اتخذ عدد من الصحابة والسلف الصالح النوى والحصى وعقد الخيط وغيرها وسيلة لضبط العدد فى التسبيح ولم يثبت إنكار عليهم.
1 -ففى مسند أحمد - فى باب الزهد-أن أبا صفية-وهو رجل من الصحابة-كان يسبح بالحصى وجاء فى معجم الصحابة للبغوى أن أبا صفية، وهو مولى النبى صلى الله عليه وسلم، كان يوضع له نطع - فراش من جلد- ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار، ثم يرفع، فإذا صلى الأولى أتى به فيسبح به حتى يمسى.
2 - وروى أبو داود أن أبا هريرة كان له كيس فيه حصى أو نوى يجلس على السرير، وأسفل منه جارية سوداء، فيسبح حتى إذا نفد ما فى الكيس فدفعته إليه يسبح، ونقل ابن أبى شيبة عن عكرمة أن أبا هريرة كان له خيط فيه ألفا عقدة، فكان لا ينام حتى يصبح به اثنى عشر ألف تسبيحة.
3- وأخرج أحمد أيضا في باب الزهد أن أبا الدرداء كان له نوى من نوى العجوة فى كيس، فإذا صلى الغداة - الصبح - أخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفدن.
4 -وأخرج ابن أبى شيبة أن سعد بن أبى وقاص، كان يسبح بالحصى أو النوى، وأن أبا سعيد الخدرى كان يسبح أيضا بالحصى.
5 -وجاء فى كتاب "المناهل المسلسلة لعبد الباقى " أن فاطمة بنت الحسين كان لها خيط تسبح به.
6 - وذكر المبرد فى "الكامل " أن على بن عبد اللَّه بن عباس المتوفى 110 هـ -كان له خمسمائة أصل شجرة من الزيتون، وكان يصلى كل يوم إلى كل أصل ركعتين، فكان يدعى "ذا النفثات " فكأنه كان يعد تركعه بالأشجار.
[لا يهمنا من هذا الخبر الذى لم تتوفر له مقومات الصدق عدد ما كان يصليه صاحب هذه الأشجار فى اليوم الواحد، وهو ألف ركعة، إنما يهمنا هو أن وسيلة الإحصاء كانت الشجر،. وبناء على هذه الأخبار لم تكن "السبحة" المعهودة لنا معروفة عند المسلمين حتى أوائل القرن الثانى الهجرى، ويؤيد ذلك ما نقله الزبيدى فى "تاج العروس " عن شيخه أن السبحة ليست من اللغة فى شيء ولا تعرفها العرب، إنما حدثت فى الصدر الأول إعانة على الذكر وتذكيرا وتنشيطا.
يقول الأستاذ الحسينى فى المجلة المذكورة: ويظهر أن استعمالها تسرب بين المسلمين فى النصف الثانى من القرن الثانى الهجرى، فإن أبا نواس ذكرها وهو فى السجن، فى قصيدة خاطب بها الوزير ابن الربيع فى عهد الأمين "193-198".
أنت با ابن الربيع ألزمتنى النسك وعودتنيه والخير عادة فارعوى باطلى وأقصر حبلى وتبدلت عفة وزهادة المسابيح فى ذراعى والمصحف فى لبتى مكان القلادة وهو أقدم ذكر للسبحة بالشعر العربى فيما يعلم.
ولما شاعت بين المسلمين استعملها بكثرة العامة من المشتغلين بالعبادة، ولم يستحسنها علماؤهم، ولذلك لما رؤيت فى القرن الثالث الهجرى فى يد "الجنيد" اعترض عليه وقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟ فقال: طريق وصلت به إلى ربى لا أفارقه " الرسالة القشيرية ".
وذكر أبو القاسم الطبرى فى كتاب "كرامات الأولياء" أن أبا مسلم الخولانى كانت له سبحة، وأن كثيرا من الشيوخ كانت لهم سبح يسبحون بها، وذكروا فى فوائدها أنها تذكر الإنسان بالله كلما رآها أو حملها، وتساعده على دوام الذكر، وعلى ضبط العدد.
وبقى استعمالها بين المسلمين بين راض،عنها وكاره لها، حتى كان القرن الخامس فانتشرت بين النساء المتعبدات، إلى أن عمت بين الناس جميعا، ويحتفظ فى أضرحة بعض الأولياء بسبحهم التى ينتظم بعضها ألف حبة ذات حجم كبير.
ولم يصح فى مدحها خبر عن النبى صلى الله عليه وسلم كالذى أخرجه الديلمى مرفوعا "نعم المذكر السبحة" كما لا يصح ما نقل عن الحسن البصرى أنه، عندما قال له: أنت مع السبحة مع حسن عبادتك؟ قال:
هذا شيء استعملناه فى البدايات ما كنا لنتركه فى النهايات.
ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من عد الذكر بالسبحة، ولا يعدون ذلك مكروها، وقد سئل بعضهم، وهو يعد بالتسبيح: أتعد على اللَّه؟ فقال: لا، ولكن أعد له.
وجعل حبات السبحة اليوم مائة أو ثلاثا وثلاثين راجع إلى الحديث الصحيح فى ختم الصلاة.
وبناء على ما سبق ذكره يكون التسبيح بغير عقد الأصابع مشروعا، لكن أيهما أفضل؟ يقول السيوطى: رأيت فى كتاب "تحفه العباد " ومصنفه متأخر عاصر الجلال البلقينى فصلا حسنا فى السبحة قال فيه ما نصه: قال بعض العلماء: عقد التسبيح بالأنامل أفضل من السبحة لحديث ابن عمرو، لكن يقال: إن المسبح إن أمن الغلط كان عقده بالأنامل أميل وإلا فالسبحة أولى. والسنة أن يكون باليمين كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء ذلك فى رواية لأبى داود وغيره.
"انظر: الحاوى للفتاوى للسيوطى رسالة "المنحة فى السبحة" ونيل الأوطار للشوكانى".
هذا، وقد تفنن الناس اليوم فى صنع السبحة من حيث المادة والحجم والشكل واللون والزخرفة وعدد الحبات، وعنى باقتنائها كبار الناس سواء أكان ذلك للتسبيح أم للهواية أم لغرض آخر، ولا يمكننا أن نتدخل فى الحكم على ذلك، فالله أعلم بنياتهم ولكل امرىء ما نوى.
وأقول: إذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قال: "واعقدن بالأنامل فانهن مسئولات مستنطقات " فإن حبات المسبحة لا تحركها فى يد الإنسان إلا الأنامل، وهى ستسأل وتستنطق عند الله لتشهد أنه كان يسبح بها، ولا يجوز التوسع فى إطلاق اسم البدعة على كل ما لم يكن معروفا فى أيام الرسول ولا أن يجر الخلاف فى السبحة إلى جدل عقيم قد يضر، والأهم من ذلك هو الإخلاص فى الذكر ولا تضر بعد ذلك وسيلته، والله ينظر إلى القلوب كما صح فى الحديث(9/11)
رفع الأيدى عند الدعاء
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
لماذا ترفع الأيدى إلى السماء عند الدعاء؟
الجواب
يقول الله سبحانه: {وللَّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} البقرة:115، فى صحيح مسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما قال:
كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلى وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله} وذلك فى صلاة النافلة، والمعنى أن الجهات كلها للَّه، فمن توجه بعبادته إلى أية جهة فإن الله مطلع عليه وعالم به. والتعبير بوجه الله يراد به ذاته، لأن الوجه يعبر به عن الذات لأنه أشرف الأعضاء، وفى مثل قوله تعالى {إنما نطعمكم لوجه اللَّه} يراد به قاصدين إياه بعملنا، لا نقصد غيره من المخلوقات، أى نحن موحدون لا نشرك به أحدا، ومخلصون لا نرائى بما عملنا.
ومن العبادة التى يتقرب بها إلى الله الدعاء. فإذا توجه الإنسان به إلى ربه فى أى اتجاه فإن الله حاضر لا يغيب -عالم لا يغفل، وهو سبحانه قريب لا بعيد، بمعنى أنه - وإن كانت له المنزلة العليا - قريب من الناس بعلمه {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن اللَّه بكل شيء عليم} المجادلة: 7، ولذلك قال سبحانه {وإذا سالك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} البقرة: 186، ولقربه من عباده لا داعى لرفع الصوت عند دعائه، فإنه يعلم السر وأخفى، قال تعالى {ادعوا بكم تضرعا وخفية إنه لايحب المعتدين} الأعراف: 55، وإذ تبين أن اللَّه قريب من الداعى، وهو فى الوقت نفسه فى مكانته العالية وسموه اللائق بجلاله، ظهر معنى مد اليدين عند الدعاء، طلبا واستجداء لخيره وبره، كأنه سبحانه، وهو الأعلى، أمام الداعى، وهو الأدنى، يمد إليه يديه، فاليد المعطية هى العليا والآخذة هى السفلى.
وهذه الصورة الرمزية للمواجهة يشير إليها قول النبى صلى الله عليه وسلم "إذا كان أحدكم فى الصلاة فإنه يناجى ربه، فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ... " رواه مسلم.
وقوله أيضا "ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فينخع أمامه، أيحب أحدكم أن يستقبل فينخع فى وجهه " رواه مسلم أيضا. فمد اليدين عند الدعاء تعبير عن المعتاد بين الناس عند طلب الأدنى من الأعلى، مستجديا متضرعا، وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى عدة أحاديث أنه رفع يديه عند الدعاء، فى الاستسقاء وغيره، وقد ساق البخارى عدة أحاديث فى ذلك فى آخر كتاب الدعوات وصنف المنذرى فى هذا جزءا. وقال النووى فى شرح صحيح مسلم، هى أكثر من أن تحصر قال: وقد جمعت فيها نحوا من ثلاثين حديثا من الصحيحين أو أحدهما. قال: وذكرتها فى آخر باب صفة الصلاة فى شرح المهذب "نيل الأوطار ج 4 ص 9 ".
من هذه الأحاديث ما رواه البخارى عن أبى موسى الأشعرى قال: دعا النبى صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه، وما رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه عن سلمان الفارسى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إن ربكم حيى كريم يستحيى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا" أو قال " خائبتين ". "الترغيب والترهيب ج 2 ص 195 ".
ومن هنا قال العلماء بمشروعية رفع اليدين عند الدعاء بل بالندب اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم غير أن جماعة كرهوا رفع اليدين فى غير الاستسقاء، لحديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا فى الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ". رواه البخارى ومسلم. والقائلون بالجواز فى غير الاستسقاء ردوا على هؤلاء بأن كون أنس نفى الرؤية عنه لا يستلزم نفى رؤية غيره، كما ثبت فى الأحاديث الصحيحة، والمثبت مقدم على النافى. أو يحمل حديث أنس على الرفع البليغ الذى يرى فيه بياض الإبطين وهو لا ينافى الرفع بغير ذلك، كمجرد مد اليدين وبسطهما عند الدعاء.
والبعض كره رفع اليدين مطلقا فى الاستسقاء وغيره، لحديث مسلم عن عمارة بن رويبة، وقد رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه، فقال:
قبح اللَّه هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة "تفسير القرطبى ج 7 ص 255 " ويرد عليهم بما رد على غيره.
يقول القرطبى "المرجع السابق ": والدعاء حسن كيفما تيسر، وهو المطلوب من الإنسان لإظهار موضع الفقر والحاجة إلى اللَّه عز وجل والتذلل له أو الخضوع، فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن وإن شاء فلا، فقد فعل ذلك النبى صلى الله عليه وسلم حسبما ورد فى الأحاديث وقد قال تعالى {ادعو ربكم تضرعا وخفية} الأعراف:55، ولم ترد صفة من رفع يدين وغيرهما، وقال تعالى {الذين يذكرون الله قياما وقعودا} آل عمران: 191، فمدحهم ولم يشترط حالة غير ما ذكر، وقد دعا النبى صلى الله عليه وسلم فى خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة. آه.
وكذلك روى عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال " اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد" وفى صحيح مسلم عن عمر: رفع النبى (صلى الله عليه وسلم) يديه بالدعاء يوم بدر.
وعلى القول بمشروعية رفع اليدين عند الدعاء رويت عدة حالات فى كيفية الرفع، منها جعل ظهورهما إلى جهة القبلة وهو مستقبلها، وجعل بطونهما مما يلى وجهه.
وروى عكس ذلك. ومنها جعل كفيه إلى السماء وظهورهما إلى الأرض، وروى عكس ذلك وكان ذلك فى الاستسقاء كما رواه مسلم "نيل الأوطار ج 4 ص 9 ".
قال ابن حجر فى الفتح:قال العلماء: السنة فى كل دعاء لرفع بلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا بحصول شيء أو تحصيله أن يجعل بطن كفيه إلى السماء. وكذلك قال النووى فى شرح صحيح مسلم، حاكيا لذلك عن جماعة من العلماء. وقيل: الحكمة فى الإشارة بظهر الكفين قى الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقلب الحال كما قيل فى تحويل الرداء "المرجع السابق ".
هذا، ويكره عند الدعاء النظر إلى السماء، لحديث مسلم وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء فى الصلاة إلى السماء، أو ليخطفن اللَّه أبصارهم ".
وقد يحمل النهى على رفع البصر فى الصلاة، أما فى غيرها فلا مانع، لرواية للبخارى جاء فيها: فنظر إلى السماء، وكان ذلك فى الاستسقاء " نيل الأوطار ج 4 ص 10 ". ومسح الوجه باليدين بعد رفعهما فى الدعاء ورد فيه عن عمر بن الخطاب أنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه فى الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه. رواه الترمذى وقال: غريب، أى رواه راو واحد فقط. وعن ابن عباس نحوه كما فى سنن أبى داود. قال النووى: فى إسناد كل واحد ضعف "الأذكار للنووى ص 399" وجاء فى "بلوغ المرام " شرح "سبل السلام "ج 4 ص 219 لابن حجر، بعد ذكر حديث عمر: أخرجه الترمذى وله شواهد منها عند أبى داود من حديث ابن عباس وغيره، ومجموعها يقضى بأنه حديث حسن فالوارد من ذلك ليس بصحيح، بل ضعيف، ولكن مجموع الشواهد يرفع درجتها إلى الحسن فتقبل. اهـ.
نكرر التنبيه فنقول: إن مد اليدين عند الدعاء يشبه ما يحدث عند طلب الفقير إحسانا من الغنى فعند شدة الحاجة قد يجثو السائل على ركبتيه، يستدر بهذا الوضع عطف المسئول، وهو فى هذا الوضع المتذلل يرفع يديه إلى أعلى يتلقى بهما الإحسان فالمسلم الذى يدعو ربه يرفع يديه دليلا على تذلله وشدة حاجته، ولذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى ذلك ويبالغ فيه فى الاستسقاء ونحوه، وليس ذلك مستلزما وجود اللَّه فى السماء، فهو سبحانه، منزه عن المكان، بل ذلك دليل على علو مكانته سبحانه وتعالى فى أذكار النووى عن رفع اليدين ومسح الوجه ثلاثة أوجه للشافعية أصحها استحباب الرفع وعدم مسح الوجه، والثانى الرفع والمسح والثالث عدم الاثنين(9/12)
صلاة أربعين فرضا بالمدينة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كنت فى زيارة للمدينة المنورة وحرصت على أن أصلى فى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أربعين صلاة، لكن موعد سفرى منعنى من صلاة هذا العدد فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
روى مسلم وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ". وروى أحمد بسند صحيح أنه قال "من صلى فى مسجدى أربعين صلاة لا تفوته صلاة كتبت له براءة من النار وبراءة من العذاب، وبرىء من النفاق " فإذا كان الإنسان حرا فى إقامته وفى سفره فالأفضل أن يصلى هذا العدد، بل وأكثر منه نظرا للثواب العظيم، فإذا كان مضطرا إلى السفر قبل أن يصلى الأربعين فلا حرج عليه، فهذا أمر مندوب وليس بواجب، والأمل كبير فى أن يعطى الله للإنسان هذا الثواب إذا كان حريصا عليه لكن منعه مانع خارج عن إرادته كما يقولون، بناء على الحديث الشريف "من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة" وقد قال العلماء: إن ذلك محله إذا كان عدم العمل بغير اختياره، أما لو تركها مختارا فلا ثواب له(9/13)
شَدُّ الرحال
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل هناك ثواب اكبر فى الصلاة فى بعض المساجد، أو أنها متساوية فى الثواب؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدى هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ".
إن حصر شد الرحال فى هذه الثلاثة لا يمنع شدها -أى السفر- لأى عمل مشروع كالجهاد وطلب العلم وابتغاء فضل الله من الرزق وزيارة الإخوان وصلة الرحم وغير ذلك من القربات، وكل ذلك وردت به النصوص القوية من القراَن والسنة، وإنما الحصر الوارد فى الحديث.
هو حصر إضافى بالنسبة إلى المساجد بمعنى أن المساجد كلها متساوية فى فضل الصلاة ما عدا هذه المساجد الثلاثة فهى أفضلها والصلاة فيها يضاعف ثوابها، فقد روى أحمد وابن ماجه بإسنادين صحيحين أن الصلاة فى المسجد الحرام بمكة تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه وروى البخارى ومسلم أن الصلاة فى مسجد المدينة بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وروى الطبرانى وابن خزيمة فى صحيحه، والبزار بإسناد حسن أن الصلاة فى المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة.
ونصت رواية أحمد وابن أبى شيبة بسند حسن على أن شد الرحال هو من أجل الصلاة فيها، وذلك لفصلها، فعن أبى سعيد الخدرى مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم " لا ينبغى أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى ".
ومن أجل هذا يُسَنُّ -أو على الأقل لا يمنع - السفر إليها وتحمل المتاعب البدنية والمالية من أجل الحصول على ثواب الصلاة فيها، أما المساجد الأخرى فلا داعى للسفر وتحمل المشقة من أجل الصلاة فيها فقط، بل إن بعض العلماء قال يحرم ذلك " انظر خلاصته الوفا للسمهودى ص 70 ". أما الذهاب لزيارة الصالحين أحياء أو أمواتا فلا بأس من شد الرحال والسفر إليها(9/14)
الصلاة فى مسجد فيه قبر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الصلاة فى مسجد فيه قبر؟
الجواب
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وروى مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إنى أنهاكم عن ذلك " وروى الجماعة إلا البخارى وابن ماجه قوله " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها".
تحدث العلماء عن هذه الأحاديث فقال بعضهم: محل الذم أن تتخذ المساجد على القبور بعد الدفن، وليس ذلك مذموما إذا بنى المسجد أولا وجعل القبر فى جانبه ليدفن فيه واقف المسجد أو غيره.
لكن العراقى قال: الظاهر أنه لا فرق، وأنه إذا بنى المسجد لقصد أن يدفن فى بعضه أحد فهو داخل فى اللعنة، بل يحرم الدفن فى المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط، لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدا.
وإذا كان بعض العلماء قد حمل النهى على التحريم فإن البعض الآخر حمل على الكراهة، بمعنى أن الصلاة إلى القبر صحيحة لكن مع الكراهة.
والذين قالوا بصحتها مختلفون، فقال بعضهم: هى مكروهة سواء أكان القبر أمام المصلى أم خلفه أم عن يمينه أم عن يساره. وقال آخرون: محل الكراهة إذا كان القبر أمامه، لأن هذا الوضع هو الذى يراد من اتخاذه مسجدا ومن الصلاة فيه أو إليه. أما إذا كان القبر خلفه أو عن يمينه أو عن يساره فلا كراهة.
والأئمة الثلاثة قالوا بصحة الصلاة وعدم كراهتها، اللهم إلا إذا كان القبر أمام المصلى فتكون مكروهة مع الصحة. أما أحمد بن حنبل فهو الذى حرم الصلاة وحكم ببطلانها - ومحل هذا الخلاف إذا كان القبر فى المسجد، أما إذا كان مفصولا عنه والناس يصلون فى المسجد لا فى الضريح أو الجزء الموجود فيه القبر فلا خلاف أبدا فى الجواز وعدم الحرمة أو الكراهة.
وأختار أنه إذا كان القصد من الصلاة إلى القبر تعظيمه فهى حرام وباطلة بصرف النظر عن وضع القبر، وإذا انتفى هذا القصد كانت مكروهة مع الصحة إذا كان القبر أمام المصلى وإلا فلا كراهة(9/15)
الصلاة على النبى بعد الأذان
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بعد الآذان؟
الجواب
الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم مطلوبة بوجه عام لقوله تعالى {إن الله وملائكته يصلُّون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب: 56،ومن مواضع تأكدها يوم الجمعة وعقب الأذان لورود الحديث الصحيح بذلك، فقد روى مسلم وأبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىَّ، فإنه من صلى علىَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا ... " وإذا كان الأمر فى هذا الحديث لمن يسمعون الأذان فإنه لم يرد نهى عنها للمؤذن، فيبقى طلبها منه مؤكدا كطلبها من غيره قائما كما قال بعض العلماء، ورأى آخرون أن نحافظ على ما كان عليه العمل أيام الرسول وصحابته من عدم رفع المؤذن صوته بها وإن لم يمنعوا أن يقولها سرا فهى قربة فى كل وقت. وما خالف ذلك فهو بدعة ضلالة تؤدى إلى النار وقال ابن حجر فى الفتاوى الكبرى: قال المشايخ: الأصل سنة والكيفية بدعة.
فهناك اجتهادان أو رأيان فى كونها ممنوعة أن يجهر بها المؤذن أو غير ممنوعة، ولهذا لا يجوز التعصب لأحد الرأيين، فالتعصب لغير القطعى منهى عنه، لأنه يحدث فتنة، مع العلم بأن الجهر بالصلاة على النبى بعد الأذان لا يحدث ضررا، ولم يرد عنه نهى بخصوصه كما قدمنا.
ومما هو جدير بالذكر أن المفتى الأسبق للديار المصرية المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعى المتوفى سنة 1935 م قال فى كتابه "أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام " أن أمير مصر فى القرن الثامن الهجرى أمر بها، ونحن مأمورون بطاعة ولى الأمر فيما ليس بمعصية، وهى ليست بدعة هوى بل سنة هدى، لأن الحديث يقول " من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " وفى رواية مسلم " من سَنَ سنة حسنة فى الإسلام فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شىء ".
ومع ذلك نقل الشيخ محمد عبده عن "الخانية " فى فقة الحنفية أنها بدعة، وقال: لا عبرة بقول من قال إنها بدعة حسنة، لأن كل بدعة فى العبادات سيئة.انتهى.
هذا مع العلم بأنها ليست من الأذان الشرعى، بل هى زائدة عليه، وإطلاق أن كل بدعة فى العبادات ضلالة غير مسلَّم عند كثير من العلماء.
فالخلاصة أن الجهر بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فيه رأيان الجواز والمنع، ولا ينبغى التعصب لرأى من الآراء، وأنصح كل مسلم أن يتريث فى الحكم على الأشياء، وأن يطلع على أقوال المجتهدين ليكوِّن من ذلك رأيا، وإذا دعا إليه فليكن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أنصح بعدم الإكثار من الزيادات بعد الأذان مما ليس له أصل يعتمد عليه، كذكر المشايخ والأولياء وغيرهم، وأشدد التنبيه على الاهتمام بالمسائل الأصلية وعلاج القضايا والمشكلات الضاغطة وبخاصة فى أيامنا الحاضرة، بدلا من بذل الجهد الكبير والمال الوفير فى الدعوة إلى سنة لو تركناها أصلا ما كان لها ضرر فى عبادتنا ولا فى سلوكنا.
وأرجو ألا يفهم أحد من ذلك أننى أقلل من شأن السنة، ولكن الأمر أمر أولويات، وبُعد عن الخلافات التى تنتهى إلى أمور محرمة كالاتهام الكاذب واحتقار الغير ومقاطعته، وفى احترام سلفنا الصالح من العلماء لأراء غيرهم ما يدل على بعد نظرهم وفهمهم الصحيح للدين(9/16)
سنة الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يرى بعض للناس أن صلاة ركعتين بعد أذان الجمعة بدعة فهل هذا صحيح؟
الجواب
صلاة النافلة بعد صلاة الجمعة لم يُختلف فى أنها مندوبة وراتبة للجمعة كراتبة الظهر لقول النبى صلى الله عليه وسلم " إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات " رواه مسلم. ولقول عبد الله بن عمر: كان النبى صلى الله عليه وسلم لا يصلى بعد الجمعة حتى ينصرف من المسجد إلى بيته فيصلى فيه ركعتين. رواه البخارى. وابن عمر كان إذا صلى فى المسجد صلى أربعا وإذا صلى فى بيته صلى ركعتين رواه أبو داود.
2 - أما صلاة النافلة قبل صلاة الجمعة فقد يراد بها التطوع المطلق، وقد يراد بها أنها سنة الجمعة راتبة قبلية كراتبتها البعدية.
فإذا أريد بها التطوع المطلق فهى جائزة بل مستحبة، سواء فعلت قبل الزوال وهو وقت صلاة الجمعة أو فعلت بعد الزوال قبل أن يخرج الإمام ليخطب الجمعة. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصله ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " رواه البخارى " ج 2 ص 4 طبعة الشعب " وفى رواية لمسلم "ج 6 ص 146 " " من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدِّر له ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته ثم يصلى معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام ".
وفى رواية لأخمد عن عطاء الخراسانى فال: كان نبيشة الهذلى رضى الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذى أحدا، فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقض. الإمام جمعته ... " الترغيب والترهيب للمنذرى ج 1 ص 194، قال المنذرى: وعطاء لم يسمع من نبيشة فيما أعلم. وقال الشوكانى وثقه الجمهور " نيل الأوطار ج 3 ص 27 " فيظهر من قوله: ما كتب له، وما قدر له، أن الصلاة تطوع مطلق وليست راتبة، لأن الراتبة محدودة بعدد من الركعات. كما يظهر من قوله: فإن لم يجد الإمام قد خرج صلى. . أن صلاة الجمعة تبدأ شعائرها بخروج الإمام ليخطب، وقد يتأخر خروجه عن الزوال الذى يدخل به وقت الجمعة إما -انتظارا لكمال حضور المصلين، الذين كان بعضهم يأتى من مناطق بعيدة، حيث كانوا يتناوبون الحضور إليها، والباقون يصلون فى مساجدهم، وإما لظروف الجو كما جاء فى البخارى "ج 2 ص 8 طبعة الشعب " عن أنس:كان النبى صلى الله عليه وسلم " إذا اشتد البرد بكر بالصلاة وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة، يعنى يوم الجمعة. وفى رواية لم يذكر الجمعة. فهناك فترة بين دخول الوقت بالزوال وبين خروج الإمام حيث كان أذان الجمعة وهو على المنبر.
3 - وقد يراد بصلاة النافلة قبل صلاة الجمعة سنتها الراتبة كسنتها الراتبة التى تصلى بعدها. وهذه هى التى وقع فيها الخلاف بين الفقهاء فى كونها مشروعة أو غير مشروعة.
وأحب لن يتنبه المسلمون إلى أن الخلاف فى هذه المسألة خلاف فى أحد الفروع الاجتهادية، التى لا ينبغى أن يتعصب أحد لرأيه فيها، أو ينكر على الآخر رأيه، فإن شرط الإنكار أن يكون المنكر مجمعا على انه منكر، كما لا ينبغى أن يُرمى صاحب الرأى الآخر بأنه عاص أو مبتاع. ولتكن لنا قدوة بما كان عليه الأئمة المجتهدون، فقد أثر عن غير واحد منهم أنه قال: رأى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب. وما دار بينهم من نقاش كأن موضوعيا بعيدا عن المهاترات ملتزما أدب المجادلة بالحسنى، لأنهم كانوا يبغون الوصول إلى الحق من أجل الحق، وقد يسر أحدهم إذا ظهر الحق على يد غيره.
كما أحب أن يتنبه المتجادلون إلى القاعدة الأصولية المعروفة:
الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال فلا يتمسك بالدليل لإثبات الوجوب أو الحرمة إذا احتمل الندب لو الكراهة، والاحتمال قد يكون فى ثبوت الدليل وقد يكون فى دلالته. ويكفى المتعبد أن يصل إلى معرفة الحكم ولو بطريق الظن، فذلك وسعه الذى لا يكلفه الله إلا وأعوذ إلى حكم هذه الصلاة التى يصليها-بعض المسلمين اليوم بعد الأذان الأول للجمعة وقبل الأذان الثانى بين يدى الخطيب. فأقول: إن الخلاف فى مشروعيتها قديم وليس جديدا، ولم يأت المتكلمون اليوم عنها بأكثر مما جاء به الأولون. قال بمشروعيتها أبو حنيفة وأصحاب الشافعى فى أظهر الوجهين عندهم والحنابلة فى غير المشهور ايضا. ولم يقل بمشروعيتها مالك والحنابلة فى المشهور عنهم. ومن أشد المتعصبين لعدم مشروعيتها ابن قيم الجوزية الحنبلى الذى خالف إمامه ابن تيمية فيها، وكذلك شهاب الدين أبو شامة الشافعى الذى خالف ابن حجر العسقلانى وعموم الأصحاب ورجال المذاهب. [عند الأحناف يسن صلاة أربع قبلها وأربع بعدها وعند الشافعية كالظهر] .
4 - حجة القائلين بمشروعيتها:
احتج هؤلاء بما يأتى:
1 - حديث " ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان " رواه ابن حبان وصححه من حديث عبد الله بن الزبير، وهاتان الركعتان سنة راتبة للفريضة، فالحديث يدل بعمومه على مشروعية صلاة ركعتين سنة قبل صلاة فريضة الجمعة. وليس هناك مخصص لهذا العموم، ولا يقال إنه مخصص بغير الجمعة لأن النبى كان إذا خرج لم يصلهما قبل أن يرقى المنبر، لأن العام لا يخصصه إلا منع خاص من صلاة ركعتين أو أربع بعد الزوال قبل الأذان للخطبة، ولم يوجد ذلك.
وصلاة النبى لهما سيأتى الكلام عليها.
2 - حديث " بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة لمن يشاء " رواه البخارى ومسلم من حديث عبد الله ابن مغفل. والمراد بالأذانين الأذان والإقامة، من باب التغليب، أو لأن فى كل منهما إعلاما، والتعبير عنهما بذلك كثير. والصلاة بينهما لمن يشاء هى تطوع من رواتب الصلاة المفروضة التى يؤذن ويقام لها.
ولا يقال: إن المراد بالأذانين أذان الفريضة وأذان الفريضة التى بعدها بمعنى أن وقت أى فريضة متسع يمكن أداؤها فى أى فترة من أول الوقت إلى آخره - لا يقال هنا لأن الصلاة المفروضة لا يقال عنها لمن يشاء، فذلك شأن التطوع. هذا هو الظاهر وإن كان يمكن أن يفسر لا لمن يشاء " لمن يريد تأخيرها عن أول الوقت، ولكنه بعيد.
وهذان.الحديثان أقوى ما يتمسك به فى مشروعية السنة القبلية للجمعة كما قال ابن حجر فى الفتح "ج 4 ص هـ 3 " وذكر النووى فى المجموع "ج 4 ص 10 " أن العمدة فى مشروعيتها حديث عبد الله ابن مغفل المذكور.
3- فعل النبى صلى الله عليه وسلم، فعن على رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصلى قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا، يجعل التسليم فى آخرهن ركعه. رواه الطبرانى فى الأوسط وهو حديث حسن وإن كان فيه محمد بن عبد الرحمن السهمى وهو مختلف فيه. على أن عليَا القارى قال فى المرقاة: وقد جاء فى إسناد جيد-كما قال الحافظ العراقى - أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى قبلها أربعا. وفى الأوسط للطبرانى عن أبى هريرة: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصلى قبل الجمعة ركعتين وبعدها ركعتين. وقد ساقه ابن حجر فى التلخيص وسكت عنه، فهو حديث صحيح أو حسن على قاعدته المشهورة. وروى أبو داود والترمذى عن أبى أيوب الأنصارى قال: كان عليه السلام يصلى بعد الزوال أربع ركعات، فقلت:
ما هذه الصلاة التى تداوم عليها؟ قال " هذه ساعة تفتح فيها أبواب السماء فأحب أن يصعد لى فيها عمل صالح ... " وهذا عام فى كل يوم لا يخرج منه يوم الجمعة إلا بنص عليه. وفى هذا الحديث أيضا مقال.
4 - فعل -ابن مسعود وابن عمر وغيرهما. فقد جاء فى الأثر عن ابن مسعود بسند صحيح أنه كان يصلى قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا، قاله الترمذى فى جامعه: وكان يأمر الناس ويعلِّمهم ذلك كما جاء فى "إطفاء الفتن على إعلاء السنن " لحكيم الهند " أشرف على التهانوى " وجاء فى نصب الراية: كان عبد الله يأمرنا أن نصلى قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا. رواه عبد الرزاق فى مصنفه اهـ. وفى "الدراية ": رجاله ثقات. وفى " آثار السنن ": إسناده صحيح.
لا يقال: إن هذا نفل مطلق لا سنة راتبة للجمعة، فالنفل المطلق يرغب فيه ترغيبا عاما ولا يعتَم ولا يؤمر به أمر إرشاد بهذه العناية وهذا التأكيد من ابن مسعود. وهذا الأثر الموقوف له حكم المرفوع لأن الظاهر أنه قد ثبت عنده من النبى صلى الله عليه وسلم فيه شىء، وإلا لما أمر به.
يقول الكمال بن الهمام تعليقا على قول صاحب " الهداية " " ولم يكن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا هذا الأذان ": إن ما روى عن ابن مسعود ذهب إليه ابن المبارك والثورى.
وروى أبو داود من طريق أيوب السختيانى عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلى بعدها ركعتين فى بيته ويحدِّث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يفعل ذلك. قال العراقى: إسناده صحيح. يقول الزرقانى على المواهب اللدنية "ج 8 ص 29": واحتج به النووى فى الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التى قبلها، لأن اسم الإشارة (ذلك) يرجع إلى الأمرين - الصلاة قبلها والصلاة. بعدها فى البيت - لكن الصحيح أن اسم الإشارة راجع إلى الثانى- الصلاة البعدية- لما رواه الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين فى بيته ثم قال: كان النبى يفعل ذلك. رواه مسلم. وأما إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة فإما أن يكون بعد دخول الوقت، وذلك لا يصح أن يكون مرفوعا، لأن النبى كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة ولا يتنفل، وإما أن يكون قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة التى قبلها، وقد ورد الترغيب فى التنفل قبل وقت الجمعة اهـ. لكن يرد على هذا بأن النبى صلى قبل الجمعة أربعا كما سبق فى بند (3) وكان ذلك فى بيته فيل أن يخرج إلى الناس لخطبة الجمعة.
وذكر الزيلعى " ج 1 ص 31 " أن ابن سعد روى فى الطبقات أن صفية بنت حُيَيٍّ صلت أربع ركعات قبل خروج الإمام للجمعة ثم صلت الجمعة مع الإمام ركعتين. وذكره ابن حجر فى الفتح "ج 3 ص 553 " فهو صحيح أو حسن كعادته. وصفية زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) والغالب أنها رأت النبى يفعل ذلك قبل خروجه إلى المسجد.
5- الجمعة بدل الظهر فى يومها فهى مثلها فى راتبتها وإن لم تكن مثلها تماما فى عدد ركعات الفريضة. ويؤخذ هذا من صنيع البخارى فى الترجمة " باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها " ولم يذكر شيئا عن الصلاة قبل الجمعة، كأنه -كما حكاه ابن حجر فى الفتح عن ابن المنير-يقول: الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل دليل على خلافه، لأن الجمعة بدل الظهر.
هذا هو أهم ما استند عليه القائلون بأن للجمعة سنة قبلية إلى جانب النفل المطلق الذى ورد الترغيب فى الإكثار منه كما سبق ذكره.
وكلها أدلة ليست قطعية الثبوت والدلالة، وإن كان أقواها حديث عبد الله بن مغفل.
5 - حجة القائلين بعدم مشروعيتها:
أقوى ما يستدل به القائلون بعدم مشروعية السنة القبلية للجمعة هو الحديث الذى رواه الجماعة إلا مسلما عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر رضى اللَّه عنهما فلما كان عثمان رضى اللَّه عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء. وفى رواية للبخارى زاد النداء الثانى. وزاد ابن ماجة: على دار فى السوق يقال لها الزوراء.
وتسميته ثالثا لأن الإقامة تسمى أذانا كما فى الحديث " بين كل أذانين صلاة ". يقول ابن القيم " زاد المعاد ج 1 ص 118 " فى بيان وجه الاستدلال: كان النبى يخرج من بيته، فإذا رقى المنبر أخذ بلال فى أذان الجمعة، فإذا أكمله أخذ النبى صلى الله عليه وسلم فى الخطبة من غير فصل، فمتى كانوا يصلون السنة؟ ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال من الأذان قاموا كلهم فركعوا ركعتين فهو أجهل الناس بالسنة.
وهذا الحديث وإن كان قويا إلا أنه ليس قطعى الثبوت، كما أنه ليس قطعى الدلالة على أن سنة الجمعة القبلية غير مشروعة، فيحتمل أن النبى كان يصلى بعد الزوال فى البيت قبل خروجه إلى الناس، وقد جاءت الروايات مؤكدة لهذا الاحتمال كما سبق. وبخاصة إذا علمنا أن الجمعة كانت تؤخر أحيانا عن بدء وقتها بالزوال. فوقتها ممتد إلى دخول وقت العصر. والفرصة سانحة للناس أن يصلوا بعد الزوال وقبل خروج الإمام كما دل عليه حديث أحمد عن عطاء الخراسانى السابق.
هذا، وعدم رؤية السائب بن يزيد لصلاة النبى لها لا يدل على عدمها، لما هو معروف أن عدم العلم بالشىء لا يدل على عدمه أو نفيه. فمن الجائز أنه يصليها ولم يعلم به السائب، والروايات التى تقدمت تؤيد ذلك.
ومن هذا نرى أن أدلة الطرفين ليست قطعية، ولكل مجتهد أن يرى ما أداه إليه اجتهاده، ولا ينبغى أن ينكر أحد على أحد، ويعجبنى فى هنا قول ابن تيمية فى فتاويه: إن صلاة ركعتين قبل الجمعة جائزة وحسنة وإن لم تكن راتبة ... ثم قال: فمن فعل ذلك لم يُنكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال وكلام الإمام أحمد يدل عليه.اهـ.
حديث سُلَيْك سُليك بن هدية، وقيل: ابن عمرو الغطفانى رجل رقيق الحال دخل المسجد النبوى والنبى يخطب، وكان فى هيئة بذة أى رثة بالية فجلس يستمع الخطبة دون أن يصلى، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : أصليت ركعتين قبل أن تجلس فقال: لا، فأمره أن يصلى ركعتين. وقال " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" وفى رواية " إذا أتى أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصل ركعتين " والحديث رواه البخارى ومسلم.
وجاء فى روايات غيرهما أن النبى نبه المسلمين على أن سُليكا يستحق الصدقة وأنه أمره بالصلاة ليراه الناس، كما جاء أن النبى أخبره ألا يعود لذلك.
رأى بعض العلماء أن صلاة سليك هى السنة القبلية للجمعة، ورأى بعض آخر: أنها صلاة خاصة بحال سليك للحث على الصدقة عليه وليست تشريعا عاما. ورأى آخرون: أنها تحية المسجد، وعلى هذا فلا يصلح حديثه حجه لأحد الطرفين المتنازعين فى السنة القبلية للجمعة. والكلام على تحية المسجد له فرصة أخرى إن شاء الله.
المراجع 1 - البخارى وشرحه فتح البارى.
2- مسلم وشرحه للنووى.
3- الزرقانى على المواهب اللدنية.
4 - زاد المعاد لابن القيم. .
5 - نيل الأوطار للشوكانى ج 3 ص 270- 275.
6 - مجلة الأزهر: مجلد 4 ص 714.
7- مجلة الإسلام: مجلد 2 عدد 48 ومجلد 3 عدد 4.
8 - مجلة نور الإسلام: عدد 7 بتاريخ 11 / 6 / 1945، عدد 8 بتاريخ 10/7 /945 1.
9 - الفقه على المذاهب الأربعة ص 328 - 240(9/17)
تبرع الكافر للمسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
أقمنا مسجدا بالجهود الذاتية فتبرع بعض المواطنين من الأقباط بمبلغ من المال مساهمة فى بنائه، فهل نقبل هذا التبرع؟
الجواب
قال العلماء: إن الكافر لا يثاب على عمل الخير كما قال سبحانه {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} الفرقان: 23، وثوابه يكون فى الدنيا بمثل حب الناس له وتكريمه وما يتبعه من نفع مادى.
ولو تبرع الكافر للمسجد ببناء أو تجهيز أو غيرهما هل يقبل المسلمون منه هذا التبرع؟ لقد نص فقهاء المذاهب الأربعة على إباحة التعامل مع غير المسلمين حتى فى التبرع لعمارة المساجد، وما جاء فى الحديث إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا لا تدخل تحته هذه المسألة، لأن قبول الله للطيب يعنى الثواب عليه، ولا ثواب لغير المسلم فى الآخرة كما نصت عليه الآية المذكورة.
وصرح الإمام الشافعى بجواز وصية غير المسلم ببناء مسجد للمسلمين، وكذلك الوقف منه للمسجد، حتى لو لم يعتقده من القربات، وذلك لاعتبارنا نحن أن الوقف للمسجد قربة، قال صاحب كفاية الأخيار (ج 2 ص 30) : ويجوز للمسلم والذمى الوصية لعمارة المسجد الأقصى وغيره من المساجد.
وفى كتب الأحناف أن وصايا غير المسلم ووقفه على إعمار وإنارة بيت المقدس جائزة، وكذلك بناؤه مسجدا لقوم معينين من المسلمين ولو جعل داره مسجدا للمسلمين وأذن لهم بالصلاة فيها جازت الصلاة فيها.
وجاء فى المغنى لابن قدامة صحة وصية الذمى للمسلم، وفى فقه المالكية خلاف فى قبول وقف غير المسلم على المساجد وأمثالها، وصحح العدوى جواز ذلك على القرب " انظر فتاوى الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق -نشر مجلة الأزهر- فى رجب 1412"(9/18)
ختم الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل الأفضل ختم الصلاة سرا أو جهرا؟
الجواب
وردت نصوص فى فضل الإسرار بالذكر والدعاء عامة، منها قوله تعالى {واذكر ربك فى نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال} الأعراف:205، وقوله تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} الأعراف:55، وروى مسلم عن أبى موسى قال: كنا مع النبى @ فى سفر-وفى رواية فى غزاة -فجعل الناس يجهرون بالتكبير-وفى رواية:
فجعل رجل كلما عَلاَ ثَنِيه قال: لا إله إلا الله - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم " وقال الرسول صلى الله عليه وسلم " خير الذكر الخفى "وقال " السر بالقرآن كالسر بالصدقة ".
كما وردت نصوص فى فضل الجهر بالذكر عامة، منها الحديث القدسى الذى رواه البخارى " أنا عند ظن عبدى بى، وأنا معه إذا ذكرنى، فان ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه " والذكر فى الملأ لا يكون غالبا إلا عن جهر، كما صح فى مسلم وغيره أن الملائكة تحف مجالس الذكر، وبخاصة فى بيوت الله، وأن الله يغفر لمن يجالسون الذاكرين لله. وأخرج البيهقى أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل:
لو أن هذا خفض من صوته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعه فإنه أوَّاه " وأخرج الحاكم عن عمر رضى الله عنه مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتا فى الجنة ".
وقد جمع النووى بين نصوص الجهر ونصوص الإسرار فقال -: إن الإخفاء أفضل حيثما خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل فى غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارى، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد النشاط.
وقال بعضهم: يجب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها، لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر. والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار انتهى.
وذلك كله فى غير التَّعْليم وفيما إذا كان الدعاء جماعيا كما فى صلاة الاستسقاء والقنوت مثلا، فالجهر أفضل.
وما سبق هو فى الذكر والدعاء عامة، أما بخصوص ما بعد الصلاة فقد وردت نصوص فى الجهر منها قول ابن عباس رضى الله عنهما، كما رواه البخارى ومسلم: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير. وفى رواية لمسلم: كنا ... وفى رواية لهما عنه أيضا أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا إذا سمعته.
ومعنى هذا أن الناس الذين كانوا يصلون خلف النبى صلى الله عليه وسلم، وبخاصة من يكونون فى الصفوف الخلفية لا يسمعون عبارة " السلام عليكم " التى ينتهى بها الرسول من الصلاة فيظلون منتظرين حتى يفرغ الرسول منها ويشرع فى ختام الصلاة بالتكبير والتسبيح والتحميد وما إلى ذلك، أى أن صوته كان مرتفعا فسمعوه.
وورد فى الإسرار بختام الصلاة ما رواه أحمد عن أبى سعيد الخدرى قال:
اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعهم يجهرون بالقراءة وهم فى قبة لهم، فكشف الستور وقال " ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءة " أو قال " فى الصلاة ".
وبناء على هذه النصوص اختلف الفقهاء، فى حكم الجهر بالذكر عقب الصلوات، فمنهم من قال: لا بأس به، بناء على ما رواه ابن عباس، ومنهم من قال بكراهته، بناء على ما رواه أبو سعيد الخدرى.
قال الإمام النووى فى شرح صحيح مسلم "ج هـ ص 84 " تعقيبا على حديث ابن عباس: هذا دليل لما قاله بعض السلف: إنه يستحب رفع الصوت بالتكبير والذكر عقب المكتوبة، وممن استحبه من المتأخرين ابن حزم الظاهرى.
ونقل ابن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير. وحمل الشافعى رضى الله عنه هنا الحديث - حديث ابن عباس - على أنه جهروا وقتا يسيرا حتى يعلمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا دائما. قال فأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة ويخفيا ذلك، إلا أن يكون إماما يريد أن يتعلَّم منه فيجهر، حتى يعلم أنه قد تعلم منه ثم يسر، وحمل الحديث على هذا.
والذى أختاره، بعد عرض هذا الكلام المبنى على النصوص العامة والخاصة بالذكر بعد الصلاة، هو الإسرار بالذكر، لأنه أعون على الإخلاص، وفيه عدم تشويش على المصلين الآخرين، وذلك فى الأوساط الإسلامية العارفة بختام الصلاة، أما فى المجتمعات الإسلامية الحديثة العهد بالإسلام فإن الجهر يكون أفضل للتعليم، وذلك بصفة مؤقتة ثم يكون الإسرار بعد ذلك هو الأفضل.
وليس المراد بالسر أن يكون همسا لا يسمع الإنسان نفسه، ولكن المراد ألا يشوش به على غيره.
يقول المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعى مفتى الديار المصرية الأسبق: وختم الصلوات بالذكر والأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مندوب مرغب فيه شرعا ما دام الذكر والدعاء منها وسطا لا إلى إفراط بحيث يجهد نفسه ويزعج غيره، ولا إلى تفريط بحيث لا يسمع نفسه بل يكون كما قال الله تعالى {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} الإسراء:
110، انتهى.
وأما قوله تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} الأعراف:55، فهو فى الدعاء وليس فى مطلق الذكر فإن الدعاء بالذات يفضَّل فيه الإسرار، لأنه أقرب إلى الإجابة، قال تعالى {إذ نادى ربه نداء خفيا} مريم: 3، إلا بنا كان فى جماعة ليعلمهم أو ليكون الدعاء مطلوبا من الجميع فالجهر أفضل، كما فى صلاة الاستسقاء والقنوت، والاعتداء فى الدعاء فسر بأنه تجاوز المأمور به، أو اختراع دعوة لا أصل لها فى الشرع(9/19)
الصلاة بالنعال
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يتعمد بعض الشبان دخول المساجد بالأخذية والصلاة بالنعال، ويقولون إن ذلك سنة عن النبى صلى الله عليه وسلم "، فهل هذا صحيح؟
الجواب
سئل أنس رضى الله عنه، هل كان النبى @ يصلى فى نعليه؟ .
قال: نعم. رواه البخارى. قال ابن حجر فى فتح البارى: قال ابن بطال:
إنه محمول على ما إذا لم يكن فيها نجاسة، وهى من الرخص لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل فى المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة - يقصد ما جاء فى قوله تعالى {يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} - إلا أن ملامسة الأرض التى تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة، وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة إزالة النجاسة قدمت الثانية لأنها من باب دفع المفاسد، والأخرى من باب جلب المصالح وقال:
إلا أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل به فيرجع إليه ويترك هذا النظر.
قال ابن حجر بعد إيراده كلام ابن بطال: قد روى أبو داود والحاكم من حديث شداد بن أوس: " خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون فى نعالهم ولا خفافهم " فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة وورد فى كون الصلاة فى النعال من الزينة المأمور بأخذها فى الآية حديث ضعيف جدا، أو رده ابن عدى فى الكامل وابن مردويه فى تفسيره من حديث أبى هريرة، والعقيلى من حديث أنس " فتح البارى ج 2 ص 41".
نرى من هذا أن الصلاة فى النعال لا تجوز إذا كانت متنجسة، أما إذا كانت طاهرة فلا مانع من الصلاة فيها، وأرجح جانب الرخصة وليس الاستحباب من جهة التقرب بالعبادة فلم يصح فيه دليل، وأنصح إذا كان المسجد مفروشا بفراش نظيف أن نصونه عن التلوث حتى لو كان بالشىء الظاهر، ومراعاة الذوق والعرف الذى فيه خير مما يؤيده الدين، هذا والصلاة فى النعال غير الصلاة فى الخف الممسوح عليه، فذلك مشروع بشروطه ومنها الطهارة، والله أعلم(9/20)
المرأة وصلاة الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
تذهب بعض النساء لصلاة الجمعة فى المسجد، فهل صلاتها واجبة عليها بحيث لو لم تصلها تعاقب عليها؟
الجواب
صلاة الجمعة غير واجبة على المرأة، وذلك للحديث الذى رواه أبو داود والحاكم، وصححه غير واحد " الجمعة حق واجب على كل مسلم فى جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبى أو مريض " ولحديث أم عطية الذى أخرجه ابن خزيمة: نهينا عن اتباع الجنائز، ولا جمعة علينا.
لكن مع ذلك لو صلت الجمعة صحت وأغنتها عن صلاة الظهر باتفاق الفقهاء، وهل يستحب لها صلاتها؟ قال الأحناف: الأفضل لها أن تصلى فى بيتها ظهرا، لمنعها عن الجمعة، سواه أكانت عجوزا أم غيرها، وقال المالكية: إن كانت عجوزا لا أرب للرجال فيها جاز حضورها الجمعة، وإن كان فيها أرب كره حضورها، أما الشابة فإن خيف من حضورها الفتنة حرم عليها الحضور، وإلا كره.
وقال الحنابلة: يباح لها الحضور لصلاة الجمعة إن كانت غير حسناء، فإن كانت حسناء كره.
وقال الشافعية: يكره للمرأة حضور الجماعة إن كانت مشتهاة ولو فى ثياب بالية، وكذا غير المشتهاة إن تزينت أو تطيبت. وكل ذلك إذا أذن لها وليها بالحضور، وإلا حرم عليها حضور الجماعة كمها يحرم حضورها إذا خيفت الفتنة " نيل الأوطار للشوكانى ج 3 ص 241 والفقة على المذاهب الأربعة " انظر كتابنا "س، ج للمرأة المسلمة " ص 70(9/21)
إمامة المرأة فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تكون إماما فى الصلاة؟
الجواب
معلوم أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد، والنصوص فى ذلك كثيرة، وإذا كان الإسلام يفضل أن تصلى المرأة فى بيتها بدل أن تصلى فى المسجد من أجل ثواب الجماعة فإنه يمكنها أن تقيم صلاة الجماعة فى بيتها، أو فى المدرسة التى تتعلم أو تعلم فيها، أو العمل الذى تمارسه مع الزميلات.
فإذا كان فى البيت زوجها أو ولدها أو أبوها أو أخوها مثلا كان هو الإمام والمرأة مأمومة، وكذلك فى المدرسة أو العمل يجوز أن يصلى بالنساء أحد المدرسين أو أحد الزملاء، سواء أكانت الصلاة فى مسجد أو مكان مُعَدّ لذلك. فإذا لم يوجد رجل أمكن للمرأة أن تكون إماما لبناتها أو نساء أخريات فى المنزل أو للزميلات فى المدرسة والعمل. وذلك على رأى جمهور الأئمة.
والإمام مالك هو الذى يمنع أن تكون المرأة إماما مطلقا، لا للرجال ولا للنساء، فلا يجوز أن يقتدى بها الرجل حتى لو كان ابنها أو أباها أو أخاها، فإمامتها على رأى الجمهور جائزة للنساء فقط.
روى أبو داود والحاكم وابن خزيمة وصححه أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل لأم ورقة مؤذنا، وأباح لها أن تؤم أهل بيتها، أى النساء فقط، وذلك لحديث رواه ابن ماجه عن جابر أنه سمع النبى صلى الله عليه سلم يقول على المنبر " لا تؤمَّن امرأة رجلا، لا فاجرا ولا مؤمنا ".
وكانت السيدة عائشة رضى اللَّه عنها تؤم النساء وتقف معهن فى الصف، وكذلك كانت أم سلمة رضى اللَّه عنها تفعله. ويرى بعض الأئمة أن المرأة إذا كانت إماما للنساء تقف معهن فى الصف ولا تتقدم عليهن. لكن لو تقدمت فصلاتها وصلاة المأمومات صحيحة، لعدم ورود النهى عن ذلك (انظر س، ج للمرأة المسلمة)(9/22)
تحريك الأصبع فى التشهد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يختلف المصلون فى تحريك إصبعهم عند التشهد فما هو الصحيح فى هذا الأمر؟
الجواب
جاء فى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة.
وجاء فى مسند أحمد وسنن النسائى وأبى داود من حديث وائل بن حجر: ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها: وفى رواية لهم ولابن حبان فى صحيحه من طريق ابن الزبير: كان يشير بالسبابة ولا يحركها.
الإشارة بالسبابة حديثها أصح من حديثى التحريك وعدم التحريك ومن هنا قال الفقهاء: تكون الإشارة بالسبابة، اما عند النطق بلفظ "لا" إشارة إلى النفى ثم يخفضها وعليه أبو حنيفة رضى الله عنه، وأما عند لفظ الجلالة " اللَّه " إشارة إلى الوحدانية ثم يستمر رفعها دون تحريك إلى الانتهاء من الصلاة وعليه الشافعى رضى الله عنه. ولا يرى الإمامان تحريك الإصبع غير هذه الحركة، وأما قول وائل: فرأيته يحركها، قال البيهقى: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها حتى لا يعارض حديث ابن الزبير " ولا يحركها ". لكن الإمام مالك اخذ بحديث وائل واستحب أن تحرك الإصبع من أول التشهد، وروى فى ذلك حديث ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم (تحريك الإصبع فى الصلاة مذعرة للشيطان) لكن نقاد الحديث قالوا: إن هذا الحديث ضعيف، فقد تفرد به الواقدى، والأرجح أن التحريك الوارد يحمل على الإشارة حتى لا يتعارض مع ما ورد ناهيا عن التحريك وأقول: إن تحريك الإصبع أو عدمه هيئة من الهيئات ليست من الأركان ولا من الواجبات، فأية كيفية تؤدى بها هذه الهيئة كافية، والمهم أن نكون مخلصين خاشعين فى صلاتنا محافظين على الأركان الأساسية، فعلى ذلك يدور القبول(9/23)
كلام لا يبطل الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يحدث أن يقول المأموم " استعنت بالله " عندما يقرأ الإمام {إياك نعبد وإياك نستعين} فهل هذا جائز؟ ويحدث أن يقرأ الإمام سورة التين وفى آخرها {أليس الله بأحكم الحاكمين} فيقول بعض المأمومين " بلى " فهل هذا يبطل الصلاة؟
الجواب
روى الترمذى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال " من قرأ سورة " التين والزيتون " فقرأ " أليس اللَّه بأحكم الحاكمين " فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. وكان على وابن عباس يفعلان ذلك.
هذا فى خارج الصلاة أما فيها فقد اتفق الفقهاء على أن ذكر الله فى الصلاة لا تبطل به إذا قصد الذكر، لأن الصلاة كلها محل لذكر الله، ومَثلَ الأحناف لذلك بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وقول " جل جلاله " عند ذكر اسم اللَّه، وقول " صدق اللَّه العظيم " عند فراغ القارى من القراءة. ومثله ما لو أخبر بخبر سيئ وهو فى الصلاة فقال "لا حول ولا قوة إلا بالله " ما دام يقصد مجرد الذكر والدعاء، وكذلك قال بقية الفقهاء، وجاء فى أمثلة الشافعية قول المأموم: استعنا باللَّه، عند قراءة الإمام {إياك نعبد وإياك نستعين} ما دام يقصد الدعاء.
وعليه فإن قول المأموم " بلى " عند قول الإمام " أليس اللَّه بأحكم الحاكمين " لا يبطل الصلاة وكلمة " بلى " تفيد الإثبات بعد النفى، وهى هنا إثبات أن اللَّه أحكم الحاكمين.
وجاء فى فقه المذاهب الأربعة " طبع وزارة الأوقاف المصرية " ما خلاصته: قال الحنفية: إذا تكلم المصلى بتسبيح أو تهليل أو أثنى على اللَّه تعالى عند ذكره، كأن قال: جل جلاله، أو صلى على النبى صلى الله عليه وسلم عند ذكره، أو قال صدق اللَّه العظيم عند فراغ القارى من القراءة أو قال مثل قول المؤذن ونحو ذلك، فإن قصد به الجواب على أمر من الأمور بطلت صلاته، أما إذا قصد مجرد الثناء والذكر أو التلاوة فإن صلاته لا تبطل.
وقال المالكية: إن الصلاة لا تبطل بالتسبيح أو التهليل أو قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه، حتى لو كان ذلك إجابة لأحد، لأن الصلاة كلها محل لها.
وقال الحنابلة: لا تبطل الصلاة بالتسبيح أو التهليل أو الذكر لغرض من الأغراض، كما إذا رأى ما يعجبه فقال: سبحان اللَّه، أو أصابته مصيبة فقال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، أو أصابه ألم فقال: بسم اللَّه، ونحو ذلك، فإن صلاته لا تبطل به، وإنما يكره لا غير.
وقال الشافعية: إذا قال: صدق اللَّه العظيم عند سماع آية، أو قال: لا حول ولا قوة إلا بالله عند سماع خبر سوء فإن صلاته لا تبطل به مطلقا، إذ ليس فيه.سوى الثناء على اللَّه تعالى، وإذا سمع المأموم إمامه يقول " إياك نعبد وإياك نستعين " فقال المأموم مثله محاكاة له، أو قال: استعنا باللَّه، أو نستعين باللَّه، بطلت صلاته إن لم يقصد تلاوة ولا دعاء، وإلا بأن قصد التلاوة أو الدعاء فلا تبطل، والإتيان بها بدعة منهى عنها.
من هذا نرى أن قول المأموم: استعنا بالله ما دام يقصد به ذكر الله أو الدعاء فإن صلاته لا تبطل باتفاق الأئمة، أما إذا لم يقصد الذكر ولا الدعاء فصلاته باطلة عند بعضهم، ويقاس على هذا ما يقوله المأمومون حين قيام الإمام بالقنوت، مثل آمين، أشهد، حقا، يا اللَّه وقول المأمومين عقب إنتهاء الإمام من قراءة الفاتحة: اللهم اغفر لى، ليكون تأمينه بعده موافقا لتأمين الإمام، وثواب ذلك عظيم.
وجاء فى كتاب " الأذكار " للنووى أنه يسن لكل من قرأ فى الصلاة أو غيرها إذا مر بآية رحمة أن يسأل اللَّه تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ به من النار ومن العذاب أو من الشر أو من المكروه، أو يقول: اللهم إنى أسألك العافية أو نحو ذلك.
وإذا مر بآية تنزيه لله سبحانه وتعالى نزَّه فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك اللَّه رب العالمين أو جلت عظمة ربنا أو نحو ذلك.
ثم ساق الدليل على ذلك بحديث مسلم عن حذيفة بن اليمان وهو يصلى خلف النبى بالليل وقرأ فى الركعة الأولى سورة البقرة ثم آل عمران ثم النساء، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. قال أصحابنا - الشافعية - يستحب هذا التسبيح والسؤال والاستعاذة للقارى فى الصلاة وغيرها، وللإمام والمأموم والمنفرد لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين [فى تعليقات ابن علان عند ذكر الصلاة قال: سواء كانت فرضا أو نفلا، خلافا للمالكية والحنفية] ثم قال النووى: ويستحب لمن قرأ {أليس اللَّه بأحكم الحاكمين} أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرا {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} - قال: بلى اشهد. وإذا قرأ {فبأى حديث بعده يؤمنون} قال:
أمنت بالله، وإذا قال {سبح اسم ربك الأعلى} قال: سبحان ربى الأعلى. ويقول هذا كله فى الصلاة وغيرها، وقد بينت أدلته فى كتاب " البيان فى آداب حملة القرآن ". ثم يعلق ابن علان بقوله:
الأدلة مروية عن أبى داود والترمذى وهى تشهد لما قاله المصنف مما يقال عند آخر كل من سورتى التين والقيامة واللَّه أعلم، ومثله قوله تعالى {أليس اللَّه بكاف عبده}(9/24)
الجهر والسر فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما معنى قوله تعالى {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} وما هى الصلاة السرية والصلاة الجهرية، وما هي الحكمة في ذلك؟
الجواب
قال تعالى {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} الإسراء: 110، قال بعض المفسرين: إن المراد بالصلاة هنا الدعاء، بدليل الفقرة السابقة عليها {قل ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} والمراد أن يكون الدعاء وسطا بين الجهر الذي يوقظ النائم ويزعجه أو يجر إلى الرياء، وبين الإسرار الذي لا يسمعه الداعي، ويكون أشبه بالهمس غير المفهوم. وهذا ما رواه مسلم. وأخرج البخاري ومسلم أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه ورفع صوته بالقرآن فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال اللَّه تعالى {ولا تجهر بصلاتك} فيسمع المشركون قراءتك {ولا تخافت بها} عن أصحابك. أي أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر وابتغ بين ذلك سبيلاً هو بين الجهر والمخافتة.
وهذان السببان أصح ما ورد في نزول الآية. وورى أحمد وأبو داود أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مر ليلة بأبي بكر وهو يصلي يخفض صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعًا صوته. فلما اجتمعا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال "يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك "فقال: يا رسول اللَّه قد أسمعت من ناجيت. وقال لعمر"مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك " فقال يا رسول اللَّه أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. فقال صلى الله عليه وسلم "يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئًا" وقال لعمر"اخفض من صوتك شيئًا" ولعل هذه المحادثة كانت بعد نزول الآية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرشدهما إلى تطبيقها.
أما الصلاة المفروضة التي يجهر فيها فهي الصبح والجمعة والركعتان الأوليان من المغرب والعشاء، والتي يسر فيها ما عدا ذلك، وهي الظهر والعصر والركعة الثالثة من المغرب والركعتان والأخيرتان من العشاء.
والجهر يكون في قراءة الفاتحة وفي السورة أو الآية التي تليها، أما الأذكار والأدعية فيها فهي سرية إلا في قنوت الصبح، والذي يجهر هو المنفرد وكذا الإمام، أما المأموم فهو يسرُّ أبدًا في قراءته.
والحكمة في السر في الصلاة ما كان عليه الحال في مكة من إيذاء المشركين لمن كانوا يصلون ويجهرون بالقراءة فيها، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين، فبقيت في السفر على ذلك وزيدت في الحضر.
والكفار كانوا مشغولين عن المصلين قبل طلوع الشمس لأنهم نائمون، فبقي الجهر في صلاة الصبح كما كان. وكذلك كانوا مشغولين بعد غروب الشمس بالنوم أو السهر الخاص، فبقي الجهر في المغرب والعشاء كما كان.
وصلاة الظهر وصلاة العصر في وضح النهار فشرع السر فيهما خشية إيذاء الكفار أما الجمعة فشرعت صلاتها في المدينة أو بعد الهجرة وكان شرعها بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} الجمعة: 9، والنداء لها وللصلوات الأخرى بالأذان شرع في المدينة.
على أن كثرة عدد المصلين للجمعة فيها قوة ترهب عدوهم أن ينالهم بسوء كما كان الحال في مكة وإذا كان الأمن قد استتب في المدينة ولم يعد هناك خوف من المشركين عند الجهر بالقراءة نهارا فإن التشريع بقى كما كان تسجيلاً لفترة من التاريخ، وشكرا لله على النعمة كلما تذكرنا ما كان عليه المسلمون في مكة وما آل إليه الإسلام بعد ذلك من نصر وقوة(9/25)
الوتر
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء كتب الفقه أن الحنفية قالوا: الوتر واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم " الوتر حق فمن لم يوتر فليس منى " وأن المذاهب الأخرى قالت: إنه سنه فهل معنى ذلك أن السنة تلغى الفرض، وأن من لم يوتر فليس من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
إذا قال أبو حنيفة بوجوب الوتر، وقال غيره بأنه سنة فليس معنى هذا أن السنة تلغى الفرض، وإنما المعنى أن الوتر مطلوب في كل المذاهب، إلا أن درجة الطلب عند أبي حنيفة أقوى مما عند غيره من فقهاء، المذاهب، على معنى أن التقصير في أدائه عند أبي حنيفة موجب للمسئولية أمام اللَّه، معتمدا على الحديث المذكور، أما عند غيره فإن الوتر ليس بالدرجة في الطلب بحيث يكون التقصير فيه مفضيا للمسئولية كالفرض، بل هو مطلوب طلبًا مؤكدًا لمحافظة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، لكنه ليس من الفروض المحتمة، فليس بعد الصلوات الخمس المعروفة صلاة مفروضة كل يوم، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، من أقواها قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عما افترضه اللَّه عليه "خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة " قال: هل علىَّ غيرها؟ قال "لا، إلا أن تطوع " فولى الرجل وهو يقول: واللَّه لا أزيد عليهن ولا أنقص، فقال صلى الله عليه وسلم "أفلح إن صدق " رواه مسلم.
وقد حمل هؤلاء حديث " فمن لم يوتر فليس منى" على الترغيب الشديد في الإتيان به، وأن من قصر فيه لا يكون من عداد المسلمين الكاملين، فهو مسلم وليس بكافر، وهو من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وليس من أتباع غيره، وذلك على نحو ما قالوا في حديث "لا صلاه لجار المسجد إلا في المسجد " على معنى " لا صلاة كاملة لجار المسجد إلا في المسجد" وليس المعنى أن صلاته باطلة إذا صلاها في بيته، فإن الأرض كلها مسجد كما ورد في الأحاديث الصحيحة، ولا شك أن الصلاة في المسجد أكمل، لما فيها من صلاة الجماعة وكثرة الثواب بالخطا إلى المسجد، وبانتظار الصلاة، وبدعاء الملائكة وهذا الحديث رواه الدارقطنى بسند ضعيف.
وحديث "فمن لم يوتر فليس منى " رواه أحمد وأبو داود، وفي إسناده راو ضعفه النسائي وقال البخاري: عنده مناكير ووثقه بعضهم(9/26)
تحويل القبلة وموقف اليهود منها
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى المراحل التى تم بها تحديد القبلة واستقرت بها على الوضع الأخير؟
الجواب
روى أحمد بن حنبل عن السيدة عائشة رضى اللَّه عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن اليهود لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التى هدانا اللَّه إليها وضلوا عنها، وعلى القبلة التى هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين ".
على عادة اليهود فى الأثرة والأنانية النابعة من العنصرية الجامحة المعروفة فيهم كانوا يحبون أن يكون كل مجد لهم، سواء فى ذلك المجد الدينى والدنيوى، كما جعل اللَّه فيهم الأنبياء وجعلهم ملوكا.
قال تعالى {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا واَتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} المائدة:
20، ولما سمعوا بظهور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فى مكة كانوا يستفتحون به على أهل المدينة، لكنهم أبوا الانضمام إليه، لأنه من نسل عمهم إسماعيل دون أبيهم إسحاق.
وقد حدث أن الله سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم باستقبال بيت المقدس فى الصلاة، وظل على ذلك نحو سنة ونصف السنة بالمدينة، ثم صرفه اللَّه عن هذه القبلة إلى استقبال الكعبة، فقال اليهود: اشتاق محمد إلى بلد أبيه بمكة، وهو يريد أن يرضى قومه قريشا ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى الذى يأتى آخر الزمان.
وهذا القول منهم يدل على أنهم انتهازيون لا يجرون إلا وراء المصلحة، دون اعتبار للعقائد والقيم، فهم كفروا بالرسول لمجرد أنه حول وجهه - بأمر ربه -إلى البيت الحرام، ناسين أن الأرض كلها لله، وأن الجهات جميعها واحدة بالنسبة لوجود اللَّه واطلاعه على عباده والتوجه إليه بالطاعة، قال تعالى {وللَّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللَّه} البقرة: 115، وقال فى حقهم {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، قل للَّه المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم} البقرة: 142.
وندد الله بهم فى كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على الرغم من الأخبار المبشرة به فقال: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} البقرة: 144، وقد أيأسه اللَّه من إيمانهم به ما دامت قبلته للصلاة غير قبلتهم فقال {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض} البقرة: 145، ومن هنا انقطع أملهم فى ضم محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، فجاهروه بالعداوة، وكانت له معهم التحامات وقصص مذكورة فى كتب التاريخ.
إن بيت المقدس لم يتخذه بنو إسرائيل قبلة تبعا لوحى من اللَّه، بل باختيار منهم على ما يذكره المحققون، والحديث المذكور يدل على أن الصخرة التى يستقبلونها لم يؤمروا بها من اللَّه بعينها، فإن القبلة الحقيقية هى أول بيت وضع للناس فى مكة، روى أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن خالد بن يزيد بن معاوية قال: لم تجد اليهود فى التوراة القبلة، ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلما غضب الله على بنى إسرائيل رفعه، وكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشورة منهم.
وفى البغوى عند تفسير قوله تعالى {واجعلوا بيوتكم قبلة} يونس: 87، روى ابن جريج عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه وبه قطع الزمخشرى والبيضاوى، قال النسفى فى تفسير هذه الآية: اجعلوا بيوتكم مساجد متوجهة إلى القبلة وهى الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة.
وكما ضلوا عن القبلة ضلوا عن الجمعة، لأن الله فرض عليهم يوما من الأسبوع وكَلَه إلى اختيارهم، فاختلفوا ولم يهتدوا إلى الجمعة، قال الطبرى عن مجاهد فى قوله تعالى {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} النحل:
124، قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه، وروى ابن أبى حاتم عن السدى التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فقال: إن اللَّه فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، فجعله عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم فى قوله {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} البقرة: 58، فغيروا وبدلوا.
واستطرادًا للحديث فى شأن القبلة وتحويلها أتناول الموضوع فى عدة نقاط، تنويرًا للأذهان وعونا على الوصول إلى الحقيقة فى فهم حكمة التشريع:
1 -كل أمة من الأمم لها مكان مقدس تتعبد فيه بكل أنواع العبادة من صلاة وحج وذبح وغير ذلك، قال تعالى {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه} الحج: 67، وقال تعالى {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم اللَّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} الحج: 34، وسواء أكان هذا الجعَلْ تَشريعا من الله أراده ورضيه لعباده، أم جعْلَ تكوين لا يشترط أن يكون مرضيا عنه، كما فى قوله تعالى {كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم} الأنعام: 108، فإن لكل جماعة من الناس مكانا مقدسا يتقربون فيه إلى إلههم، ومن التقرب التوجه إليه عند الدعاء والصلاة.
والوثنيون كانوا يتوجهون إلى أصنامهم فى الأرض، أو إلى الكواكب فى السماء، كما توجه المصريون إلى الشمس فى بعض عهودهم فى الدعاء والمناجاة، وكما توجه البابليون إلى النجوم على ما حكاه القرآن الكريم فى محاجة إبراهيم لهم فى سورة الأنعام، حيث رأى كوكبا ثم رأى القمر ثم رأى الشمس وافترض أنها هى الإله الذى يعبدونه فلما غابت ألزمهم الحجة بأن الإله لا يجوز أن يغيب، ثم بنوا بيوتا رمزية - لآلهتهم يعبدونها فيها عند اختفائها وقت غروبها، فكانت البيوت قبلتهم ومنسكهم الذى يرتضون.
2 -أول بيت وضع للعبادة هو بيت اللَّه الحرام فى مكة " الكعبة " قال تعالى {إن أول بيت وضع للناس. للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين} آل عمران:
96، وكما تقول الروايات إنه موضوع من أيام آدم عليه السلام، وكانت الأنبياء تحج إليه، وكان دور إبراهيم عليه السلام إبراز معالمه التى عفى عليها الزمن أو جرفتها السيول على ما يفهم من التعبير بالرفع فى قوله تعالى {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} البقرة: 127، وقوله تعالى {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} الحج: 26، أى البيت المعهود سابقا فى التاريخ، أو الذى سيبنى بعد، ذلك جائز محتمل.
والحديث الصحيح ورد فى أن أول بيت وضع فى الأرض هو الكعبة ثم المسجد الأقصى، وبينهما أربعون سنة، فإن كان الوضع يعنى الاختيار للعبادة - وهو الظاهر-كان ذلك الاختيار من اللَّه موجودا قبل إبراهيم بالنسبة للكعبة وقبل سليمان وداود بالنسبة للمسجد الأقصى.
وإن كان الوضع يعنى الإقامة والبناء فإن المسافة بين بناء إبراهيم للكعبة وبين بناء المسجد الأقصى وهى أربعون سنة لا تكون إلا إذا قيل: إن الأنبياء بعد إبراهيم شرعوا فى بناء المسجد الأقصى على عهد يعقوب بن إسحاق كما قال بعض الباحثين، ولم يتم إلا فى عهد سليمان الذى كان أبوه داود معتزما بناءه، لكن الله لم يوفقه لذلك، وادخره لابنه سليمان كما تحكى التوراة.
وقد تقدم فى ذلك ما نقله البغوى عن ابن جريج عن ابن عباس وما قرره المفسرون من أن الكعبة كانت قبلة موسى ومن معه، وقال أبو داود فى الناسخ والمنسوخ فى قوله تعالى {إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة} قال: أعلم قبلته فلم يبعث نبى إلا وقبلته البيت وهذا القول قواه الحافظ العلائى فقال فى تذكرته: الراجح عند العلماء أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم كما دلت عليه الآثار.
قال بعضهم وهو الأصح، ويؤكد هذا الرأى حديث حسد اليهود لنا إذ هدانا اللَّه إلى القبلة وضلوا عنها، فقد كانت الكعبة قبلتهم لكنهم لم يهتدوا إليها..
غير أن ابن العربى وتلميذه السهيلى اختارا أن قبلة الأنبياء هى بيت المقدس، وصححه بعضهم وقال إنه المعروف، لكن هذا يمكن أن يحمل على أن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء بعد بناء الهيكل فى عهد سليمان، ارتضوها بعد أن ضلوا عن الكعبة، وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أول الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس وهو ما يزال فى مكة على ما سيأتى بيانه، وقد تقدم أنهم كانوا يستقبلون الصخرة التى كان عليها تابوت السكينة حتى بنى المسجد الأقصى.
ونظرا إلى أن المسيحية مكملة لليهودية جاءت مصلحة لليهود وداعية للعودة إلى أصولها الحقيقية كانت قبلتها هى قبلة اليهود فى المسجد الأقصى.
3-فرضت الصلاة فى الإسلام أولا بمكة، واستقرت خمس صلوات ليلة الإسراء قبل الهجرة بحوالى سنتين أو أكثر، فإلى أية قبلة كان يتجه المصلون بمكة؟ قيل: لم تكن هناك قبلة معينة، فالجهات كلها قبلة على ما فهمه البعض من قوله تعالى {وللَّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللَّه} البقرة:115، وإن كان هناك ميل إلى التوجه إلى الكعبة لأنها البيت المقدس عند العرب، وهو أثر سيدنا إبراهيم الذى قال اللَّه له فى إحدى السور المكية {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} النحل: 123، على ما يفيده عموم اللفظ، وكما حكت السيرة أن النبى صلى الله عليه وسلم اختار التحنث فى غار حراء، لأنه يشرف على الكعبة.
وقيل: إن قبلة المسلمين فى مكة كانت الكعبة أولا، لقوله تعالى {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها} البقرة: 143، أى حولناك فى المدينة من بيت المقدس إلى الكعبة وهى القبلة التى كنت عليها من قبل، فهذا نص على أن القبلة فى مكة كانت الكعبة، لكن ذلك كان لفترة، ويدل عليه ما أخرجه الطبرى عن ابن جريج: صلى النبى صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجه إلى الكعبة.
وقيل: إن القبلة فى مكة كانت بيت المقدس أولا، لحديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما الذى رواه أحمد: كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، لكن هل يدل هذا على أن بيت المقدس كان هو القبلة الأولى فى مكة وكان النبى يحب أن يستقبل معه الكعبة، فيجعلها بينه وبين بيت المقدس ليجمع بين القبلتين، أو أن بيت المقدس كان قبلة لاحقة بعد أن كانت هى الكعبة؟ ذلك كله جائز.
ولعل من التوفيق القريب بين الأحاديث التى يتضارب ظاهرها أن يقال: إن النبى صلى الله عليه وسلم صلى بمكة أولا إلى الكعبة، ثم صرف عنها إلى بيت المقدس ثلاث حجج، فكان يحب أن يجمع بينهما على النحو المذكور، ولما هاجر أمره الله بالاستمرار فى استقبال بين المقدس، وكان يشتاق لاستقبال الكعبة نحو سنة ونصف السنة فوجه بعد ذلك إليها.
4 -هل كانت قبلته فى مكة [الكعبة أو بيت المقدس] بوحى من اللَّه أو باجتهاد منه؟ أما استقبال الكعبة فقيل إنه بوحى، على ما يفهم من قوله تعالى {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها} فالتى كان عليها هى الكعبة، لكن هل كان هذا بأمر من اللَّه أم باجتهاد من الرسول أقره عليه؟ لم يرد فى ذلك نص واضح صريح، وقيل إنه باجتهاد على ما سبق بيانه من اقتفائه أثر أبيه إبراهيم، وتقديسه للبيت الذى يقدسه كل العرب ولتحرى النظر إليه فى خلوته بغار حراء.
وأما استقبال بيت المقدس فى مكة، فقيل بوحى، على ما تفيده رواية الطبرى عن ابن جريح أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى أولا بمكة إلى القبلة، ثم صرفه الله إلى بيت المقدس. وقيل باجتهاد كما قال القاضى عياض: الذى ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسنة لا بقرآن، وحكى الوجهين الماوردى فى " الحاوى ".
5 -والصلاة التى صلاها الرسول عند مقدمه إلى المدينة متوجها إلى بيت المقدس، هل كانت بوحى أم باجتهاد؟ .
ذلك راجع إلى الكلام فى استقبال بيت المقدس بمكة، فهو مستصحب للقبلة فى مهجره.
1 -الراجح أنه كان بوحى لما رواه ابن جرير الطبرى عن ابن عباس، قال:
لما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود أكثرهم يستقبلون بيت المقدس أمره اللَّه تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود لظنهم أنه استقبله اقتداء بهم، مع أنه كان لأمر ربه، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، وروى الطبرى أيضا عن ابن عباس قال: إنما أحب النبى أن يتحول إلى الكعبة، فكان يدعو ربه (كما نصحه بذلك جبريل عندما قال له: وددت أن اللَّه صرف وجهى عن قبلة يهود، فقال له جبريل:
إنما أنا عبد، فادع ربك وسله) وكان ينظر إلى السماء فنزلت {قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} البقرة: 144، وهذا ما عليه الجمهور كما قال القرطبى، ولحديث البراء بن عازب عند البخارى فى كتاب الإيمان: أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، فاستقباله لبيت المقدس مع شوقه لقبلة إبراهيم دليل على أنه بأمر من اللَّه.
ب - وقيل إن استقباله لبيت المقدس بالمدينة كان باجتهاد منه، كما قال الحسن البصرى، وكما قال الطبرى: كان محمد مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختاره طمعا فى إيمان اليهود، لكن يرده سؤاله لجبريل، إذ لو كان مخيرا لاختار الكعبة دون حاجة إلى سؤال جبريل أن يصرف إليها.
6 -كم من الزمن صلى النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلى بيت المقدس؟ جاءت الروايات مختلفة فى ذلك، وهى كلها ليست من كلام الرسول، بل من كلام الصحابة، فقيل ستة عشر شهرا، وقيل سبعة عشر، وقد جاء ذلك فى روايتين للبخارى ومسلم عن البراء بن عازب على ما سيأتى، وقيل تسعة عشر شهرا، وقيل بضعة عشر بدون تحديد لمقدار البضع، والاختلاف راجع إلى الخلاف فى تعيين الشهر الذى حولت فيه القبلة، مقيسا بشهر الهجرة إلى المدينة، وبحساب جمله من أيام الشهر شهرا، أو بغير ذلك من الاعتبارات.
7-فى أى شهر وفى أى يوم حولت القبلة؟ هنا لك أقوال:
أ-قيل إنها حولت فى منتصف شهر رجب من السنة الثانية، وكان ذلك يوم الاثنين، وقد رواه أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح، قال الواقدى: وهذا أثبت، قال الحافظ: وهو الصحيح، وبه جزم الجمهور، وقاله ابن إسحاق.
ب - وقيل إن التحويل كان فى شهر جمادى الآخرة، كما رواه الزهرى عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، قال أبو جعفر النحاس فى كتابه " الناسخ والمنسوخ ": وهو أولاها بالصواب، لأن الذى قال به أجل، ولأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فى شهر ربيع الأول، فإذا صرف اَخر جمادى الآخرة إلى الكعبة صار ذلك ستة عشر شهرا كما قال ابن عباس وأيضا إذا صلى إلى الكعبة فى جمادى الآخرة فقد صلى إليها فيما بعدها.
ج -وقيل فى نصف شعبان وفى يوم الثلاثاء منه، قاله محمد بن حبيب، وجزم به فى الروضة، وقاله الواقدى.
8 -ما هى الصلاة التى صلاها النبى صلى الله عليه وسلم بقبلتين وما هى أول صلاة كاملة للقبلة الجديدة؟ .
كان النبى صلى الله عليه وسلم يزور أم بشر بن معرور بعد موته، فلما حان وقت صلاة الظهر صلى بأصحابه ركعتين، ثم أمر بتحويل القبلة، فتحول فى ركوع الركعة الثالثة، وسمى هذا المسجد مسجد القبلتين، لأن التحويل نزل فيه أولا، وكان فى بنى سلمة -بكسر اللام فى شرح الزرقانى على المواهب، وضبطت فى تفسير القرطبى بفتحها - وهى أول صلاة صلاها، وهو الأثبت كما قال الواقدى، وكانت هذه الصلاة هى الظهر على ما رواه النسائى من رواية أبى سعيد بن المعلى، وكذا عند الطبرانى والبزار من حديث أنس فهذا الحديث يدل على أن مكان التحويل هو مسجد بنى سلمة " مسجد القبلتين " وأن الصلاة هى الظهر قال ابن سعد: صلى النبى صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر فى مسجده النبوى بالمسلمين.
وقال بعضهم إن الصلاة هى العصر، مستدلين برواية البراء بن عازب فى البخاري فى كتاب الإيمان: أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر- أى متوجها إلى الكعبة، لكن هذا لا يدل على أنها صليت بقبلتين، والأقرب أنها بقبلة واحدة هى الكعبة، وكانت أولى صلاة تامة بعد التحويل إلى الكعبة، ويبقى ادعاء أن صلاة الظهر هى التى أديت بقبلتين باقيا دون معارض.
قال ابن حجر فى كتاب الإيمان: التحقيق أن أول صلاة صلاها فى، بنى سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور هى الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوى هى العصر.
9 - ما هى الصلاة التى صلاها المسلمون الذين لم يكونوا مع الرسول - بقبلتين، وأين كانت؟ إن خبر التحويل وصل كل جماعة فى مواعيد مختلفة، ولعل عددا من الجماعات وقع منهم صلاة لقبلتين، قد تكون هى العصر وقد تكون غيرها، ومن الثابت ما يلى:
1 -صلاة العصر كانت بقبلتين وكانت فى بنى حارثة، دليله حديث البراء بن عازب: صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم"إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا-وفى رواية له سبعة عشر شهرا-حتى نزلت الآية التى فى البقرة {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} فنزلت بعدما صلى النبى، فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهو يصلون، فحدثهم فولوا وجوههم قبل البيت، رواه البخارى ومسلم.
وقوله: " بعدما صلى " فسره الشراح بأنه دخل فى الصلاة، لا أنه انتهى منها، وقالوا: إنها صلاة الظهر وقد صلى منها ركعتين، وقال بعضهم إنها صلاة العصر، كانت فى مسجد بنى سلمة، والرجل الذى نقل الخبر قيل: اسمه عبَّاد بن بشر بن قيظى " القرطبى-سيقول السفهاء " كما رواه ابن منده وابن أبى خيثمة، وقيل: اسمه عَبَّاد بن نَهيك.
والناس الذين أخبرهم هم بنو حارثة وكانوا يصلون العصر وعلى القول بأن الصلاة التى كان يصليها الرسول وحُوِّل فيها هى العصر يمكن أن ينقل خبرها بسرعة إلى جماعة آخرين هم بنو حارثة ما زالوا فى الصلاة، سواء أكان عباد بن بشر ناقل الخبر صلى مع النبى وهو الغالب -أم لم يصلِّ ورأى حاله فأبلغها إلى غيره.
2 -صلاة الفجر أو الصبح كانت بقبلتين، وكانت فى " قباء " موطن بنى عمرو بن عوف، وقد نص عليها فى حديث ابن عمر: بينما الناس -بنو عمرو بن عوف -فى صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، رواه البخارى ومسلم.
والشخص الذى أخبرهم قيل: هو رجل من بنى سلمة كما يدل عليه حديث أنس الآتى وهو الأصح، واسمه عباد كما تقدم.
يقول أنس رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى نحو بيت المقدس فنزلت {قد نرى تقلب وجهك فى السماء. . .} فمر رجل من بنى سلمة وهم ركوع فى الفجر وقد صلوا ركعة فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا كما هم نحو القبلة، رواه مسلم غير أن رواية أنس لا تدل على أن هؤلاء كانوا فى قباء.
3 - صلاة الظهر، فقد ذكر أبو عمرو فى " التمهيد " عن نويلة بنت أسلم - وكانت من المبايعات - قالت: كنا فى صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظى فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل القبلة، أو قال:
البيت الحرام، فتحول الرجال مكان النساء وتحول النساء مكان الرجال.
هذا، ولم يسم مسجد قباء ولا مسجد بنى حارثة بمسجد القبلتين لأن مسجد بنى سلمة هو الذى نزلت فيه أولا آية التحويل، وصليت فيه صلاة إلى جهتين كان النبى إماما فيها.
10-حكمة جعل القبلة إلى الشام فى المدينة فيها آراء:
أ-رأى يقول: إن ذلك تكريم من اللَّه للنبى صلى الله عليه وسلم، ليجمع له بين القبلتين، كما عده السيوطى من خصائصه التى تميز بها على الأنبياء والمرسلين، ونظهر هذه الحكمة إذا كان استقبال الشام بوحى وهو الظاهر.
ب -ورأى يقول: كان التوجه تأليفا لليهود، كما قاله أبو العالية، وقد يكون ذلك مرادا للَّه بالوحى أو مرادا للنبى باجتهاد على الخلاف فى ذلك.
ج -ورأى يقول: إن فيه تنبيها للرسول على أن المسجد الأقصى له منزلته وقداسته، فلابد من الحفاظ على هذه المنزلة والقداسة له.
11 -حكمة تحويل القبلة فى المدينة من الشام إلى مكة فيها وجهات نظر:
أ- امتحان المؤمنين الصادقين وتمييزهم عن غيرهم، كما قال سبحانه {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى اللَّه} البقرة: 143، كما قاله ابن عباس.
ب -تنبيه للرسول على عدم طمعه فى إيمان اليهود.
ج - العودة بالدعوة إلى أصلها، وهو عالميتها القائمة على قواعد إبراهيم، درن تمييز بين أبناء إسحاق " اليهود " وأبناء إسماعيل " العرب " {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} آل عمران: 67.
د-الإيحاء بأن مكة لا بد أن تعود إلى الإسلام، ففيها قبلة المسلمين، وأن يجاهد أهلها حتى يخضع البيت للمسلمين، وبشارة بنصر الرسول على قريش واستخلاص البيت منهم، لتطهيره من الأصنام وجعل الدين خالصا لله.
هذا، ومن الحكمة العامة لتحديد قبلة الصلاة تجميع أهل الدين وتوحيد اتجاههم ومشاعرهم وتقوية الرابطة بينهم.
ومن الأحكام التى تتصل بالقبلة:
أ- أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الانصراف عن التوجه إليها فى الدعاء، فقد روى البخارى ومسلم عن أنس أن النبى قال: " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء فى صلاتهم " فاشتد قوله فى ذلك حتى قال "لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم " ورواه مسلم عن أبى هريرة بلفظ "لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء فى الصلاة أو لتخطفن أبصارهم ".
ب - عدم بصق المصلى أمامه، فقد ورد عن ابن عمر: بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب يوما إذ رأى نخامة فى قبلة المسجد، فتغيظ على الناس ثم حكها، قال: وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطخت به وقال " إن اللَّه عز وجل قِبَلَ وجه أحدكم إذا صلى، فلا يبصق بين يديه " رواه البخارى ومسلم.
أما تحديد اتجاه القبلة ووضع علامات تدل عليها، والصلة بين المحاريب وبينها، فسيكون له بحث آخر إن شاء الله(9/27)
عورة المرأة فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرى بعض السيدات يصلين بملابس تكشف عن القدم وعن بعض الذراع، ويدعين أن صلاتهن صحيحة على بعض المذاهب، نرجو بيانا لحقيقة الموضوع؟
الجواب
ستر العورة مطلوب لصحة الصلاة باتفاق العلماء، حتى لو كان الإنسان يصلى وحده لا يراه أحد، فهو حق لله سبحانه، وعورة الرجل هى ما بين السرة والركبة تبطل الصلاة بانكشاف أى جزء منها عند الأئمة الثلاثة، أما عند مالك فتبطل الصلاة إذا انكشفت السوأتان وهما القبل والخصيتان وحلقة الدبر، ولا تبطل إذا انكشف سواهما مما هو بين السرة والركبة، ولا تسن إعادة الصلاة إلا إذا انكشفت العانة أو الإليتان أو ما بينهما حول حلقة الدبر، فيعيد فى الوقت، وإن كان كشف العورة حراما أو مكروها.
وقد جاء فى عورة المرأة قوله صلى الله عليه وسلم "لا يقبل اللَّه صلاة حائض إلا بخمار " رواه احمد وأصحاب السنن، والمراد بالحائض المرأة البالغة حد التكليف، وروى أبو داود عن أم سلمة رضى اللَّه عنها أنها سألت النبى صلى الله عليه وسلم أتصلى المرأة فى درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال "إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها"، الخمار هو غطاء الرأس، والإزار ما يستر الجزء الأسفل من الجسم، والدرع ما يستر أعلاه، وهو للمرأة ما يغطى بدنها ورجليها.
وإليك اَراء الفقهاء فى تحديد عورتها، مع العلم بأنه لا مانع من الأخذ بأحد هذه الآراء:
فعورة المرأة الحرة فى الصلاة عند الحنفية جميع بدنها، ويستثنى من ذلك باطن الكفين فإنه ليس بعورة، بخلاف ظاهرهما، كما يستثنى ظاهر القدمين فإنه ليس بعورة، بخلاف باطنهما فإنه عورة عكس الكفين.
وعورتها عند الشافعية جميع بدنها، ويستثنى من ذلك الوجه والكفان فقط، ظاهرهما وباطنهما.
وعورتها عند الحنابلة جميع بدنها، ويستثنى فقط الوجه وما عداه منها فهو عورة، وعورتها عند المالكية قسمان، مغلظة ومخففة، ولكل منهما حكمه، فالمغلظة جميع بدنها ما عدا الأطراف والصدر وما حاذاه من الظهر والمخففة لها هى الصدر وما حاذاه من الظهر والذراعين والعنق والصدر، ومن الركبة إلى آخر القدم، [هذا التحديد يقارب التحديد بأن المغلظة هى ما بين السرة والركبة، والمخففة ما عدا ذلك، كعورة الرجل] أما الوجه والكفان ظهرا وبطنا فهما ليسا من العورة مطلقا.
فإن انكشف شىء من العورة المغلظة بطلت الصلاة إن كان قادرا ذاكرا وإعادتها وجوبا، أما إن انكشف شىء من العورة المخففة فلا تبطل الصلاة وإن كان كشفها حراما أو مكروها فى الصلاة ويحرم النظر إليها، ولكن يستحب لها أن تعيد الصلاة بعد ستر العورة إذا كان الوقت باقيا.
والساتر للعورة لابد أن يكون كثيفا لا يصف لون البشرة التى تحته، ولا يضر إن كان محددا لها لاصقا بها عند الجمهور، وتبطل باللاصق عند المالكية وتعاد الصلاة فى الوقت.
هذا، وستر العورة لابد من دوامه إلى آخر الصلاة، فلو انكشف شىء منها قبل إتمام الصلاة وكان بقصد بطلت الصلاة، أما إن كان بغير قصد فلا تبطل إن كان يسيرا وسترها فى الحال بدون عمل كثير عند بعض الأئمة "الفقه على المذاهب الأربعة - نشر وزارة الأوقاف المصرية "(9/28)
الطهارة لصلاة الجنازة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس: إن صلاة الجنازة تجوز بدون طهارة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
صلاة الجنازة كأية صلاة لابد لها من شروط لصحتها ومنها الطهارة من الحدث والنجس، فى البدن والثوب والمكان، وذلك باتفاق العلماء، روى مالك عن نافع أن عبد اللَّه بن عمر رضى الله عنهما كان يقول: لا يصلى الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر، لكن جاء فى كتاب الزواجر لا بن حجر الهيتمى"ج 2 ص 361" أنه حكى عن الشعبى وغيره من السلف جواز صلاتها بغير وضوء، ونسب إلى الشافعى، وهو غلط وفى حاشية الشرقاوى على التحرير "ج 1 ص 312" فى فقه الشافعية، أن هذا القول حكى أيضا عن ابن جرير، كما حكى عن أبى حنيفة الاكتفاء بالطهارة لها بالتيمم حتى لو كان بجوار النهر.
ومن هذا يعلم أن من يصلى على الجنازة وهو لابس للحذاء، إن كان الحذاء طاهرا صحت صلاته، وإن كان متنجسا فلا تصح عند جمهور العلماء، أما الدعاء للميت بدون طهارة فلا مانع منه(9/29)
خطيب الجمعة والإمام
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يشترط أن يكون خطيب الجمعة هو الذى يؤم الناس فى صلاتها، أم يجوز أن يؤمهم غيره؟
الجواب
لا مانع أن يكون الخطيب غير الإمام حيث لا يوجد نص يمنع ذلك ولا يجوز عند المالكية كما فى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة(9/30)
حكم النوم فى المسجد
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى بعض الأوقات ينام الإنسان فى المسجد لاتقاء شدة الحر أو البرد مثلا، أو لعدم وجود مكان يستريح فيه ليستأنف السفر أو لغرض آخر فما حكم هذا النوم؟
الجواب
معروف أن بيوت اللَّه جعلت للعبادة ومزاولة أعمال الخير التى لا تخل بحرمتها ولا تؤذى من يتعبد فيها، ومعروف أيضا أن الملائكة تحب التردد على المساجد لما فيها من ذكر لله وقراءة القرآن ومدارسته كما ثبت فى الحديث، وأنها تحب الرائحة الطيبة وتنفر من الرائحة الكريهة، ومعروف أن الحديث نهى من أكل ثوما أو بصلا أن يؤذى من فى المسجد برائحته.
ومن المعروف أن النائم فى المسجد قد يخرج منه ما يؤذى ويضايق، وقد تبدو منه فى نومه بعض مواضع يستحيا من كشفها، أو أصوات شخير وغير ذلك مما فيه إيذاء، ومن هنا تحدث العلماء عن حكم النوم فى المسجد من واقع ما ورد من الآثار فى ذلك.
روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم رؤى فى المسجد مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى، كما صح أن عمر وعثمان كانا يستلقيان أحيانا بالمسجد النبوى، وروى البخارى وغيره أن ابن عمر كان ينام فى المسجد النبوى وهو أعزب، ومعه بعض الشبان ينامون ليلا ويقيلون وقت الظهيرة، كما أخرج البخارى أن عليا غاضب فاطمة فذهب إلى المسجد ونام فيه وسقط رداؤه عنه وأصابه تراب، فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يمسحه ويقول: " قم أبا تراب ".
وكان فى المسجد النبوى صفَّة، أى مكان مظلل يأوى إليه المساكين وينزل فيه ضيوف الرسول عليه الصلاة والسلام، وصح فى البخارى ومسلم أنه ضرب قبة أى خيمة فى المسجد على سعد بن معاذ لما أصيب يوم الخندق وذلك ليمرَّض فيها، وأنه جعل خيمة فى المسجد للمرأة السوداء التى ترفع القمامة منه، ولما أسر ثمامة بن أثال - وهو مشرك -ربط مدة بسارية فى المسجد النبوى.
وبناء على هذا قال العلماء: إذا كانت هناك حاجة إلى المبيت بالمسجد فلا حرج ومن ذلك المعتكف، وكذلك مالا يستدام كبيتوتة الضيف الذى لا أهل له. والمريض والمسافر والفقير الذى لا بيت له، ومن يشرف على المسجد من نظافة وخدمة وأذان وإمامة إذا لم تكن لهم بيوت خاصة.
وعلى هذا الحكم جمهور العلماء، وإن كان ابن مسعود كره النوم فى المسجد مطلقا، وسئل ابن عباس عن المبيت بالمسجد فقال: إن كان لحاجة كالغريب الذى لا أهل له أو الفقير الذى لا بيت له إذا كان يبيت بمقدار الحاجة ثم ينتقل فلا بأس وأما من اتخذه مبيتا ومقيلا فينهى عن ذلك، والإمام مالك أباح النوم فى المسجد لمن ليس له مسكن، أما من له مسكن فيكره نومه فى المسجد.
والخلاصة أن النوم فى المسجد ليس بحرام، ولكنه مكروه لغير حاجة، فإن كانت هناك حاجة سواء أكانت دائمة أو مؤقتة فلا كراهة "غذاء الألباب للسفارينى ج 2 ص 257 ".
موضوع (396) المساجد التى بها أضرحة.
سئل:
ما هو رأى الدين فى المساجد التى بها أضرحة؟ أجاب:
يوجد فى العمارة الإسلامية ما يسمى بالأضرحة، جمع ضريح، وهو الشق فى وسط القبر، وعرف بهذا الاسم إذا دفن فيه شخص له مكانة دينية أو علمية أو غيرهما من القيم، واتخذت الأضرحة شكلاً معينا من البناء تعلوه قبة، وكثرت فى مصر فى عهد الفاطميين الذين أقاموا كثيرا منها لآل البيت وكبار رجال الدولة، وعرفت بالمشاهد أسوة بما أطلق على أضرحة الأئمة العلويين، ثم جاءت الدولة الأيوبية وأقامت مثلها لكبار الرجال من أهل السنة، كان من أكبرها ضريح الإمام الشافعى المتوفى سنة 204 هـ والذى أقامته أم السلطان الكامل سنة 608 هـ، ثم أصبحت القاعدة بعد ذلك إلحاق القباب بالمدارس والمساجد والخانقاوات.
وأول قبة على ضريح فى تاريخ الإسلام هى قبة الصليبية فى مدينة "سمارا" بالعراق على الضفة الغربية من نهر دجلة، وأنشئت سنة 284 هـ ومن أقدمها ضريح الإمام على فى النجف الذى أقامه الحمدانيون سنة 317 هـ[مساجد مصر وأولياؤها للدكتورة سعاد ماهر] .
2- والمسجد كل مكان يسجد فيه للصلاة، ثم أطلق على المكان الذى يتقرب إلى الله فيه بالعبادة، وفيما قبل الإسلام كانت العبادات لا تؤدى إلا فى أماكن خاصة اختار لها الناس مكانا محترما عندهم، كالمكان الذى يدفن فيه الأنبياء والصالحون، أما فى الإسلام فإن العبادات وعلى رأسها الصلاة تؤدى فى أى مكان من الأرض، اللهم إلا ما كان من عبادة الحج فلها أماكن خاصة يقصدها المسلمون من كل فج عميق عند الاستطاعة، صح فى الحديث الذى فضل الله فيه سيدنا محمدا على الأنبياء السابقين أن اللَّه جعل له الأرض كلها مسجدا وترابها طهورا.
لقد تحدث القرآن الكريم عن أهل الكهف الذين كانوا قبل الإسلام، بأن من عثروا عليهم بنوا مسجدا على قبورهم كما قال تعالى {فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا} الكهف: 21، وصح فى البخارى ومسلم "مسلم ج 5 ص 11 " أن أم حبيبة وأم سلمة- وكانتا من المهاجرين إلى الحبشة - ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها فى الحبشة فيها تصاوير للرسول، فقال "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند اللَّه يوم القيامة" وجاء فى صحيح مسلم عن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فى مرضه الأخير "لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت عائشة:
فلولا ذلك أُبرز قبره، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا.
وفى بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يموت بخمس كما قاله جُنْدَب، ولما احتاج الصحابة إلى الزيادة فى مسجده وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة مدفن الرسول وصاحبيه أبى بكر وعمر -بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر فى المسجد فيصلى إليه العوام، ويؤدى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركنى القبر الشماليين حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر.
3- يؤخذ من هذا أن الإسلام لا يوافق على ما فعله اليهود والنصارى من بناء المساجد على القبور، واتخاذها أماكن للعبادة، واتخاذ القبر مسجدا يصور بصورتين: جعل مكان السجود على القبر ذاته، أو جعل القبر أمام المصلى ليتجه إليه بالعبادة، وبذلك يفسر قول النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم "لا تصلوا على القبور ولا تجلسوا عليها" وللحيلولة دون تقديس القبور وأصحابها بالصلاة عليها أمر النبى صلى الله عليه وسلم بعدم البناء على القبور أو رفعها، ففى صحيح مسلم عن على رضى اللَّه عنه أن الرسول قال له لما بعثه "ولا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها " يقول القرطبى فى تفسيره "ج 10 ص 379" قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة بالأرض، أى لاصقة، وبه قال بعض أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضى الله عنهما، على ما ذكره مالك فى الموطأ، وقبر أبينا آدم على ما رواه الدارقطنى من حديث ابن عباس، وأما تعلية البناء الكثيرة على ما كانت تفعله الجاهلية تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال، فالزيادة حرام، والتسنيم فى القبر ارتفاعه قدر شبر، مأخوذ من سنام البعير [يراجع نيل الأوطار للشوكانى ج 4 ص 89] .
ومما ورد فى النهى عن اتخاذها مساجد قول ابن عباس رضى الله عنهما: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، رواه أبو داود والترمذى وحسنه، قال القرطبى: قال علماؤنا:
هذا يحرِّم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد، وروى الأئمة عن أبى مرثد الغنوى أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لاتصلوا على القبور ولا تجلسوا عليها".
4- ومن احتياطات العلماء لعدم الصلاة على المقابر نهوا عن الدفن فى المساجد أو عمل مسجد على القبر، قال النووى فى شرح المهذب ص 316 ما نصه: اتفقت نصوص الشافعى والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء أكان الميت مشهورا بالصلاح أو غيره، لعموم الأحاديث، قال الشافعى والأصحاب: تكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحا أو غيره، قال الحافظ أبو موسى: قال الإمام الزعفرانى رحمه اللَّه: ولا يصلى إلى قبر ولا عنده تبركا ولا إعظاما، للأحاديث.
وأفتى ابن تيمية بأنه لا يجوز دفن ميت فى مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديدا، وقال: لا يجتمع فى دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، كما نقله عنه ابن القيم فى زاد المعاد [فتوى الشيخ عبد المجيد سليم سنة 1940 م -الفتاوى الإسلامية ج 2 ص 650] .
حكم الصلاة فى المسجد الذى فيه قبر: إذا كان القبر فى مكان منعزل عن المسجد أى لا يصلى فيه، فالصلاة فى المسجد الذى يجاوره صحيحة ولا حرمة ولا كراهة فيها أما إذا كان القبر فى داخل المسجد، فإن الصلاة باطلة ومحرمة على مذهب أحمد بن حنبل، جائزة وصحيحة عند الأئمة الثلاثة، غاية الأمر أنهم قالوا: يكره أن يكون القبر أمام المصلى، لما فيه من التشبه بالصلاة إليه، لكن إذا قصد بالصلاة أمام القبر تقديسه واحترامه كان ذلك حراما وربما أدى إلى الشرك، فليكن القبر خلفه أو عن يمينه أو عن يساره(9/31)
العطاس فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للإنسان إذا عطس وهو يصلى أن يقول: الحمد لله، وإذا عطس غيره، هل يقول له: يرحمك الله؟
الجواب
العطاس أمر قهرى فى الغالب لا يتحكم فيه الإنسان، وهو نعمة يسن حمد الله عليها، حتى لو كان فى الصلاة، ويسمع نفسه بالحمد كما قال النووى فى كتابه "الأذكار" وذلك على مذهب الإمام الشافعى، وبالتالى لا تبطل الصلاة بالحمد، فهى كلها موضع لذكر الله، وقال النووى: لأصحاب مالك ثلاثة أقوال، أحدها هذا، واختاره ابن العربى، والثانى يحمد فى نفسه، والثالث قال سحنون، لا يحمد جهرا ولا فى نفسه.
وأما أحكام العطاس خارج الصلاة فلها موضع آخر، ويمكن الرجوع إليه فى كتاب "غذاء الألباب " للسفارينى ج 1 ص 383.
2 -روى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله. فإذا قال له:
يرحمك الله فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم " وهذا خارج الصلاة، أما فى أثناء الصلاة فلا يسن تشميته، وإن شمته بطلت صلاته عند جمهور الفقهاء، سواء قال: "يرحمك الله " أو "يرحمه الله " أو " يرحمنا الله " والشافعى يبطل الصلاة إذا كان التشميت بكاف الخطاب، أى بالصيغة الأولى من هذه الصيغ الثلاثة، ولا تبطل بالصيغتين الأخريين، والأولى اتباع رأى الجمهور(9/32)
المسافر وصلاة الجمعة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجب صلاة الجمعة على المسافر؟
الجواب
من المعلوم أن صلاة الجمعة مفروضة بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} الجمعة: 9، وقال صلى الله عليه وسلم "لقد هممت أن آمر رجلا يصلى بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم "رواه مسلم. والإجماع قائم على الوجوب.
وقد أعفى الله منها جماعة نص عليهم حديث رواه أبو داود، "الجمعة حق واجب على كل مسلم فى جماعة، إلا أربعة هم العبد المملوك والمرأة والصبى والمريض " وكما استثنى هؤلاء من وجوب صلاتها استثنى المسافر ما دام مسافرا حتى لو كان نازلا للاستراحة وقت إقامة الجمعة، إقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم الذى كان فى سفر فصلى الظهر والعصر جمع تقديم ولم يصل الجمعة، وكذلك فعل الخلفاء وغيرهم.
ويستمر سقوطها عن المسافر ما دام مسافرا ولم يقطع سفره بالعودة إلى وطنه أو الإقامة أربعة أيام فأكثر عند الشافعية والحنابلة حيث لا يشترط عندهم الاستيطان الدائم إلا للانعقاد، وأوجبها المالكية على المستوطن المقيم بنية التأبيد، كما لا تصح إلا بذلك، فلو نزل جماعة كثيرة فى مكان نووا فيه الإقامة شهرا مثلا فلا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم، والأحناف قالوا: الاستيطان ليس شرطا للوجوب، وإنما الشرط هو الإقامة ولو من مسافر خمسة عشر يوما.
ومن هنا تحدَّث العلماء عن حكم السفر يوم الجمعة وهو الخروج من البلد حتى لو كان السفر قصيرا، وبينوا حكمه إن كان قبل طلوع الفجر أو بعده.
ا - فقال الشافعية: إن كان سفره قبل الفجر فهو مكروه، وذلك لسقوط الجمعة عنه وضياعها منه دون وجود مبرر للسفر، وضربوا لذلك مثلا بالحصادين ونحوهم من العمال الذين يخرجون للعمل فى الحقول والمنشآت قبل الفجر فلا تجب عليهم الجمعة إلا إذا كانوا فى مكان يسمعون فيه النداء من بلدهم، وإن كان سفره بعد الفجر فهو حرام، إلا إذا ظن أنه يدركها فى طريقه أو كان السفر واجبا كالسفر للحج الذى ضاق وقته وخاف فوته، أو كان لضرورة كخوفه فوات رفقة يلحقه ضرر بفوتهم.
2 - وقال المالكية: يجوز السفر قبل الفجر، ويكره بعده إذا كان لا يدركها فى طريقه، فإن كان يدركها فلا كراهة.
3-وقال الحنابلة: يكره السفر قبل الفجر إذا لم يأت بها فى طريقه، ويحرم بعد الزوال إلا عند خوف الضرر كتخلفه عن الرفقة.
4 -وقال الحنفية: لا يكره السفر قبل الزوال.
وهذا ما قاله العلماء فى حكم صلاة الجمعة بالنسبة للمسافر، وعن السفر فى هذا اليوم، يتلخص فى عدم وجوبها على المسافر الذى أنشأ السفر قبل يوم الجمعة حتى لو كان سفرا قصيرا، أما من أنشأ السفر بعد الفجر فأوجبها بعضهم ولم يوجبها البعض الآخر.
وأرى الحرص عليها فى السفر حتى لو كانت غير واجبة، فثوابها عظيم، وهى إن سقطت عنه كمسافر فلا تسقط عنه صلاة الظهر فى السفر القصير أو الطويل، وعليه الصلاة قصرا أو جمعا إذا كان السفر طويلا كما هو مقرر فى الفقه(9/33)
قضاء الصلاة عن الميت
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز لأهل الميت الذى كان لا يواظب على الصلاة أن يصلوا عنه أو يعملوا ما يسمى بإسقاط الصلاة؟
الجواب
الصلاة عبادة بدنية محضة، لم يرد نص خاص عن النبى صلى الله عليه وسلم بجواز قضائها عن الميت، والوارد هو عن بعض الصحابة، فقد روى البخارى أن ابن عمر رضى الله عنهما أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء - يعنى ثم ماتت -فقال: صلى عنها وروى ابن أبى شيبة بسند صحيح أن امرأة قالت لابن عباس رضى الله عنهما: إن أمها نذرت مشيا إلى مسجد قباء، أى للصلاة، فأفتى ابنتها أن تمشى لها، وأخرجه مالك فى الموطأ أيضا.
والصلاة المرادة هنا صلاة نفل نذر أداؤها فى قباء فوجبت ولزمت، ومن هنا رأى بعض العلماء جواز قضاء الصلاة عن الميت، سواء أكانت مفروضة أصلا أم منذورة. لكن الجمهور قال بعدم جواز قضاء المفروضة. نقل ابن بطال الإجماع على ذلك، ومع عدم التسليم بهذا الإجماع، فإن الجمهور رد استدلال القول المجيز للقضاء بأن النقل عن ابن عمر وابن عباس مختلف: فقد جاء فى موطأ مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلى أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، وأخرج النسائى عن ابن عباس مثل ذلك القول. ولكن لعل المنع فى حق غير المنذورة.
وقال الحافظ: يمكن الجمع بين النقلين بجعل جواز القضاء فى حق من مات وجعل النفى فى حق الحى (نيل الأوطار ج 9 ص 155) وبهذا يعلم أن ما يعمله بعض الناس مما يسمى بإسقاط الصلاة عن الميت غير مشروع، والواقع أن الله سبحانه وتعالى جعل أداء الصلاة من اليسر بحيث تصح بأية كيفية من الكيفيات عند العجز، حتى أنه لم يسقطها عن المجاهد وهو فى ساحة القتال أثناء المعركة، وعن المقيد بالأغلال، واكتفى بما يستطاع ولو بالإيماء. قول الجمهور بعدم جواز قضائها عن الميت هو المختار للفتوى، ولا يصح غيره، حتى لا يكون هناك تهاون بعمود الدين.
أما حكم الصلاة للميت فقد جاء فى رواية الدارقطنى "أن من البر بعد الموت أن تصلى لهما-للوالدين -مع صلاتك - وأن تصوم لهما مع صيامك " وذلك فى النوافل المهداة لا فى الفروض من حيث القضاء، وسيبين ذلك فى صلة الأحياء بالأموات وانتفاع الميت بما يهديه الحى إليه من قُربٍ(9/34)
صلاة الاستخارة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى صلاة الاستخارة وعدد ركعاتها والدعاء الخاص بها؟
الجواب
صلاَة الاستخارة ركعتان، والدعاء الذى يقال بعدها جاء فى الحديث الذى رواه البخارى عن جابر رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يعلمنا الاستخارة فى الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل:
اللهم إنى أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، إنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى- أو قال عاجل أمرى واَجله - فاقدره لى ويسره لى، ثم بارك لى فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى - أو قال عاجل أمرى وآجله - فاصرفه عنى واصرفنى عنه، واقدر لى الخير حيث كان، ثم رضنى به " قال ويسمى حاجته: يعنى يقول بدل عبارة -أن هذا الأمر-يعين هذا الأمر مثل السفر أو الزواج ونحو ذلك.
وسيحس بأمور وعلامات يدرك بها النتيجة، إما أن يكون ذلك بعد الانتهاء من الصلاة والدعاء فى حال اليقظة أو برؤيا منامية، وربما تتأخر العلامات بعض الوقت، فإن لم ير شيئا من ذلك يكرر الصلاة ويحاول أن يؤديها تامة وبخشوع، وكذلك الدعاء يكون بتضرع وحضور ذهن، فقبول الصلاة والدعاء وترتب آثارهما مرتبط بذلك. قال تعالى بعد ذكر أيوب وذى النون وزكريا ودعائهم الذى استجابه الله لهم {إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} الأنبياء: 90، والمسارعة فى الخيرات تستلزم الطاعة والحرص عليها والتسابق إليها، والبعد عن كل ما حرَّم الله، وبالتالى لا تقبل صلاة الاستخارة ولا دعاؤها من المقصر فى حق الله ولا يعرفه إلا عندما يحتاج إليه ليعرفه المشروع الذى يقدم عليه إن كان خير أو شرا، ومن المقرر أن اللقمة من الحرام فى بطن الإنسان تمنع قبول الدعاء، كما صح فى حديث رواه مسلم.
هذا، وصلاة الاستخارة تؤدى فى غير الأوقات التى تكره فيها الصلاة وأنسب الأوقات لها بعد منتصف الليل، فالدعاء يكون أقرب إلى الإجابة. ويسن أن يبدأه بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، ويختمه بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ولا تتعين قراءة بعد الفاتحة، مع مراعاة أن الاستخارة لا تكون إلا فى الأمور المباحة، أما الواجبات والمندوبات فلا استخارة فى عملهما، وكذلك المحرمات والمكروهات لأن المطلوب تركها، ومع مراعاة أن قلب الإنسان إذا مال إلى فعل الشيء أو الانصراف عنه قبل صلاة الاستخارة فلا معنى لهذه الصلاة، بل ينبغى ترك الاختيار لله سبحانه ويصلى من أجل ذلك.
وهذه الصلاة تغنينا عما يتورط فيه بعض الناس من قراءة الكف وضرب الرمل والوسائل الأخرى التى حذر الإسلام منها، أو لم يشرعها، فالعلم الحقيقى عند الله سبحانه والدعاء مع العبادات خير وسيلة لمساعدة الإنسان على ما يريد.
مع مراعاة أن الدعاء الذي تسبقه الصلاة قد يستجاب وقد يرد، والمدار هو على إتقان الصلاة والدعاء مع توافر عامل الخشوع والرهبة والرغبة، ومع كون العبد مطيعا لله قريبا منه بعيدًا عن المعاصى وبخاصة أكل الحرام الذى يحول دون قبول الدعاء، ولا يلزم أن يرى الإنسان بعدها رؤيا منامية، فقد يحصل القبول أو النفور بدونها(9/35)
ترجمة القرآن فى الصلاة
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل تجوز قراءة القرآن مترجما فى الصلاة؟
الجواب
من المعلوم أن قراءة شيء من القرآن فى الصلاة ركن من أركانها لا تصح بدونه، وقد حدد جمهور الفقهاء هذا الركن بقراءة الفاتحة، لعدة نصوص منها قوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " رواه الجماعة وقوله " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن -وفى رواية بفاتحة الكتاب - فهى خِدَاج، هى خداج غير تمام " رواه البخارى ومسلم.
وإلى جوار هذا الركن تسن القراءة لما تيسر من القرآن بعد الفاتحة فى الركعتين الأوليين، وقال العلماء: لابد أن تكون القراءة باللغة العربية لمن قدر عليها، فإن عجز عن القراءة باللغة العربية فلا يجوز أن يقرأها مترجمة بلغة أخرى، فلو فعل ذلك بطلت صلاته عند جمهور الفقهاء، يقول النووى فى "المجموع " ترجمة القرآن ليست قرآنا بإجماع المسلمين، ومحاولة التدليل لها تكلف، فليس أحد يخالف فى أن المتكلم بمعنى القرآن بالهندية ليس قرآنا، وليس ما لفظ به قرآنا، ومن خالف فى هذا كان مراغما جاحدا، وتفسير شعر امرئ القيس ليس بشعره، فكيف تفسير القرآن يكون قرآنا؟ ولا خلاف فى أن القرآن معجز، وليست الترجمة معجزة، مجلة الأزهر- المجلد السابع ص 129.
ونقل عن أبى حنيفة جواز القراءة بالترجمة فى الصلاة لمن كان قادرا على القراءة باللغة العربية أو غير قادر. مستدلا ببعض آيات ليست نصًا فى المدعى، ولا داعى لذكرها، وبأن سلمان الفارسى كتب لأهل الفرس - الفاتحة -بالفارسة فكانوا يقرؤون بها حتى لانت ألسنتهم للعربية وبعدما كتب لهم ذلك عرضه على النبى صلى الله عليه وسلم فأقره ووجهوا كلام أبى حنيفة بأن القراءة بالفارسية لمن يحسن العربية للرخصة، ولمن لا يحسنها للعذر، ولكن الإمامين محمدا وأبا يوسف لا يجيزان القراءة بها فى الصلاة إلا للمعذور فقط، لأن القرآن معجز باللفظ والمعنى، فإذا قدر عليهما لا يتأدى الواجب بغيرهما، وإن عجز عن النظم أتى بما يقدر عليه وهو المعنى كمن عجز عن الركوع والسجود يصلى بالإيماء.
وقال المحققون: أن أبا حنيفة رجع عن رأيه، فلم يجز القراءة بغير العربية، إلا لمن عجز عنها. وممن نقل رجوعه أبو بكر الرازى ونوح بن مريم وعلى بن الجعد. وقال أيضا: إن خبر سلمان مطعون بأنه لم يخرِّجه كبار رجال الحديث مع أهميته، وأن هناك اختلافا فى بعض رواياته بالزيادة والنقص، لأن النووى ذكره فى المجموع دون قراءتهم بالترجمة فى الصلاة.
وعلى هذا فلا يكون عند الأحناف إلا قول واحد، وهو جواز قراءة القرآن بغير العربية فى الصلاة للعاجز عن العربية، أما القادر عليها فلا يجوز له باتفاق الفقهاء.
يقول الشيخ محمود أبو دقيقة: إن الأئمة الأربعة اتفقوا على أن القادر على العربية إذا قرأ بغيرها فى الصلاة فسدت صلاته، وعلى أن العاجز عنها إذا قرأ بغيرها ما كان قصة أو أمرا أو نهيا فسدت صلاته، لأن ما أتى به ليس قرآنا وهو من كلام الناس فيفسد الصلاة، ولم يختلفوا إلا فيما إذا كان المقروء ذكرا أو تنزيها فالأئمة الثلاثة قالوا بفساد الصلاة وأبو حنيفة وأصحابه قالوا بجواز الصلاة، لأن العاجز عن العربية حكمه حكم الأمى فلا قراءة عليه، وإذا أتى بذكر بأى لغة لا تفسد صلاته، فكذلك من كان فى حكمه "مجلة الأزهر-المجلد الثالث ص 34"(9/36)