المسألة الخامسة: في نجاسة سباع البهائم والطير
اختلف الفقهاء في نجاسة سباع البهائم والطير،
فقيل: إنها نجسة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: إنها طاهرة، وهو مذهب المالكية (3) ، والشافعية (4) .
دليل من قال بالنجاسة:
الدليل الأول:
(1517-45) ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب،
أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص: لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب
_________
(1) وإن كان الحنفية يفرقون بين سؤر سباع البهائم، وسؤر سباع الطير على ما سيأتي ذكره عند الكلام على الأسآر إن شاء الله تعالى. انظر بدائع الصنائع (1/64) ، المبسوط (1/48) ، حاشية ابن عابدين (1/223) ، البناية على الهداية (1/439) ، شرح فتح القدير (1/111) .
(2) يرى الحنابلة نجاسة سباع البهائم والطير إلا الهر وما دونه في الخلقة فإنه طاهر عندهم، وقد سبق مناقشة تعليلهم النجاسة بالخلقة قياساً على الهر عند الكلام على حكم الهر. انظر الإنصاف (1/342) ، رؤوس المسائل الخلافية (1/93) ، الهداية (1/22) ، المبدع (1/431) ، مطالب أولي النهى (1/232) .
(3) بناء على أصلهم في أن الحياة علة الطهارة، فكل حي طاهر عندهم. انظر: الاستذكار (2/121) ، الإشراف (1/43) ، الخرشي (1/84) .
(4) بناء على أصلهم: في أن كل الحيوانات طاهرة خلا الكلب والخنزير، انظر روضة الطالبين (1/13) ، كفاية الأخيار (1/43) ، حاشيتا القليوبي وعميرة (1/69) ، مغني المحتاج (1/80) .(13/123)
الحوض، لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا (1) .
[رجاله ثقات إلا أن إسناده منقطع] (2) .
وجه الاستدلال:
لولا أنه كان إذا أخبر بورود السباع يتعذر عليهم استعماله لما نهاه عن ذلك.
وأجيب:
بأن الأثر ضعيف أولاً.
وثانياً: ليس فيه دلالة، فإن قول عمر: فإنا نرد على السباع وترد علينا صريح أنه لا يؤثر ورود السباع على الماء حتى مع العلم بورودها، ولو قال: لا تخبره، فإنا لم نكلف السؤال، عملاً بالأصل لكان الاستدلال له وجه.
_________
(1) الموطأ (1/23) ، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق في المصنف (250) .
وأخرجه الدارقطني (1/32) من طريق حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد به. وانظر إتحاف المهرة (15834) .
(2) قال النووي في المجموع (1/226) : هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن
عبد الرحمن، لكنه مرسل منقطع؛ فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب، قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل، وكذا قاله غير ابن معين. الخ كلامه رحمه الله.
وقال ابن أبي حاتم وابن حبان مثل قول ابن معين بأنه ولد في خلافة عثمان. الجرح والتعديل (9/165) ، الثقات (5/523) ، وانظر جامع التحصيل (ص: 298) .(13/124)
الدليل الثاني:
(1518-46) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله،
عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (1) .
[إسناده صحيح إن شاء الله] (2) .
وجه الاستدلال:
لو لم يكن ولوغ السباع مؤثراً في طهارة الماء لما قال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فإن مفهومه إذا كان الماء دون القلتين فقد يحمل الخبث من ولوغ السباع والدواب، والله أعلم.
وأجيب:
بأن السباع والدواب منها ما هو نجس كالكلب، فالكلب داخل في لفظ السباع كما أنه داخل في لفظ الدواب، ومنها ما هو طاهر، فلا يدل على نجاسة كل السباع، وإذا كان الكلب من جملة ما ينوب الماء لم يكن الحديث دالاً على نجاسة كل سبع، وإنما يدل على نجاسة السباع النجاسة التي من جملتها الكلب.
ثانياً: ورد في بعض ألفاظ الحديث: وما ينوبه من الكلاب والدواب.
_________
(1) المصنف (1/133) رقم 1526.
(2) سبق تخريجه في أحكام الطهارة (المياه والآنية) رقم 88.(13/125)
ثالثاً: أن كلمة ينوبه لا تعني فقط الاقتصار على الولوغ، فقد تبول فيه أيضاً، وبولها غير ريقها، والله أعلم.
الدليل الثالث:
(1519-47) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني،
عن أبي ثعلبة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، ورواه مسلم (1) .
الدليل الرابع:
(1520-48) ما ورواه مسلم، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران،
عن ابن عباس قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير (2) .
وجه الاستدلال:
أن الحديث دال على أن هذه السباع من البهائم والطير محرمة الأكل، وكل ما كان محرم الأكل لا لحرمتها، وأمكن التحرز منها كانت نجسة.
الدليل الخامس:
ما قلناه سابقاً في نجاسة الخنزير، نعيده هنا: فالهر، حين حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطهارتها، لم يقل: إنه لا يوجد دليل يقتضي النجاسة، ولم ير في كونها
_________
(1) البخاري (5530) ، ومسلم (1932) .
(2) مسلم (1934) .(13/126)
حية كافياً لاعتبارها طاهرة، بل إن التعليل يفهم منه الحكم بالنجاسة لولا وجود هذه العلة، فإنه قال: إنها من الطوافين عليكم. يعني: رفع الحكم بنجاسته دفعاً للحرج والمشقة علينا، لوجود علة التطواف، ومشقة التحرز منها، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلو كان جنس الهر لا يطوف علينا، وتوحش لكان مقتضى التعليل أن يعود الحكم عليها بالنجاسة، وإذا كانت هذه السباع يمكن التحرز منها كانت نجسة ولا بد.
دليل من قال بطهارة سباع البهائم والطير.
الدليل الأول:
الأصل في الأشياء الطهارة، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح.
وأجيب:
بأننا سقنا الأدلة على نجاستها، وهذا يكفي في النقل عن أصل الإباحة.
الدليل الثاني:
(1521-49) ما رواه ابن ماجه، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار،
عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة منها فقال: لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور (1) .
[ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (519) .
(2) الحديث أخرجه ابن ماجه كما تقدم، والبيهقي (1/258) ، من طريق عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد.
ورواه والدارقطني (1/31) ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/66) من طريق ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي هريرة. فجعله من مسند أبي هريرة.
وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، جاء في ترجمته:
قال البخاري: ضعفه علي جداً - يعني ابن المديني - التأريخ الكبير (5/284) .
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين للنسائي (360) .
وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. الكامل لابن عدي (4/269) .
وقال علي بن المديني: ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: له أحاديث حسان، وهو ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم، وهو ممن يكتب حديثه. المرجع السابق.
وجاء في الضعفاء للعقيلي (2/331) : عامة أهل المدينة لا تريد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، إنه كان لا يدري ما يقول.
قال الشافعي: ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا فقال: أذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح. تهذيب التهذيب (6/161) .
وقال البوصيري: هذا إسناد ضعيف، عبد الرحمن بن زيد، قال الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. مصباح الزجاجة (1/75) .
انظر تحفة الأشراف (4186) ، إتحاف المهرة (19574) .(13/127)
الدليل الثالث:
(1522-50) ما وراه الداقطني من طريق أيوب بن خالد الحراني، حدثنا محمد بن علوان، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فسار ليلاً، فمروا على رجل جالس عند مقراة له، فقال عمر: ياصاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا صاحب(13/128)
المقراة لا تخبره، هذا متكلف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب طهور (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الرابع:
(1523-51) ما رواه الشافعي في الأم عن إبراهيم بن محمد.
ورواه عن سعيد بن سالم عن ابن أبي حبيبة أو أبي حبيبة (شك الربيع) ، كلاهما (إبراهيم وابن أبي حبيبة) عن داود بن الحصين، عن أبيه،
_________
(1) سنن الدراقطني (1/26) ، ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في التحقيق (1/66) . وانظر إتحاف المهرة (11336) .
(2) في إسناده أيوب بن خالد،
قال ابن عدي: حدث عن الأوزاعي بالمناكير، ثم قال: ولأيوب بن خالد غير ما ذكرت من الأخبار قل ما يتابعه عليها أحد. الكامل (1/358) .
وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في أكثر أحاديثه. التنقيح (1/49) .
وذكره ابن حبان في الثقات (8/125) .
وقال القاسم بن زكريا المطرز عن إبراهيم بن هانئ، ثنا أيوب بن خالد الحراني وكان ثقة. المرجع السابق.
وفي إسناده أيضاً محمد بن علوان، قال ابن الجوزي: متروك الحديث، نقله الذهبي في المغني في الضعفاء (5832) .
وقال الأزدي: متروك. انظر ميزان الاعتدال (3/651) .
وهناك رجل اسمه محمد بن علوان يروي عن علي مرسلاً، قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (8/49) : مجهول. قال الحافظ في اللسان: أظنهما واحداً. (5/289) .
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/49) : هذا حديث منكر، ومحمد بن علوان ضعيف. اهـ(13/129)
عن جابر، قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: وبما أفضلت السباع كلها (1) .
[ضعيف] (2) .
_________
(1) الأم (1/6) ، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/249) .
(2) في إسناده إبراهيم بن محمد، جاء في ترجمته:
قال فيه أحمد: كان قدرياً معتزلياً، جهمياً، كل بلاء فيه.
وقال بشر بن المفضل: سألت فقهاء المدينة عنه كلهم يقولون: كذاب، أو نحو هذا.
وقال يحيى بن معين: كان فيه ثلاث خصال: كان كذاباً، وكان قدرياً، وكان رافضياً. تهذيب الكمال (2/184) .
ولا عبرة بتوثيق الشافعي رحمه الله؛ لأن الجرح إذا كان مفسراً كان مقدماً على التعديل، ولو كان من إمام واحد إذا لم يعرف أنه متشدد في الجرح، فكيف إذا اتفق الأئمة المعتبرون على تركه كالإمام أحمد والبخاري ويحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان والإمام مالك.
وفي إسناده أيضاً حصين والد داود، جاء في ترجمته:
قال البخاري: حديث ليس بالقائم. الضعفاء الكبير (1/315) ، وعبارة البخاري في التاريخ الكبير (3/7) : حديثه ليس في وجه صحيح.
وفي التقريب: لين الحديث.
وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره، حتى كان لا يدري ما يحدث به، واختلط حديثه القديم بحديثه الأخير فاستحق الترك. التنقيح (1/50) .
وقال أبو حاتم: ليس حديثه بالقائم ضعيف. تهذيب الكمال (6/551) .
وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة:
وثقه الإمام أحمد. وقال عثمان بن سعيد عن يحيى: صالح، يكتب حديثه ولا يحتج به.
وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن عدي: هو صالح في باب الرواية، ويكتب حديثه مع ضعفه. تنقيح التحقيق (1/50) .(13/130)
الدليل الخامس:
(1524-52) ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور (1) ، ومن طريقه ابن المنذر (2) ، عن ابن أبي عدي، عن حبيب بن شهاب، عن أبيه، قال:
قلت لأبي هريرة: أرأيت السؤر في الحوض يصدر عنها الإبل، فتردها السباع وتلغ فيها الكلاب ويشرب منها الحمار، هل أتطهر منه؟ فقال: لا يحرم الماء شيء.
[إسناده صحيح] .
وجه الاستدلال:
طهارة سؤرها دليل على طهارة عينها.
وأجيب:
الحديث ليس في مسألتنا، بل يتحدث عن تأثير النجاسة تقع في الماء الكثير هل تضره أم لا؟ ولم يقل أبو هريرة: إن هذه الأشياء طاهرة، وإنما قال: لا يحرم الماء شيء. بل إن السؤال دليل على أنها نجسة، وإنما لم تؤثر في الماء لكثرته، ولعدم تغيره بها، والاستدلال بها على طهارتها كالاستدلال به على طهارة الميتة والكلاب والحيضة حين سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء، فإذا كان الحديث لا يدل على طهارة هذه الأشياء الواقعة في بئر بضاعة، فلا يدل أثر أبي هريرة على طهارة سؤر السباع، والله أعلم.
_________
(1) الطهور (238) .
(2) الأوسط (1/310) .(13/131)
الدليل السادس:
أن السباع كالأسد والصقر ونحوها حيوانات يجوز بيعها والانتفاع بها من غير ضرورة، فكانت طاهراً كالشاة (1) .
وأجيب:
أن اشتراط الطهارة في المبيع شرط مختلف فيه بين الفقهاء بعد اتفاقهم على تحريم بيع الميتة، واختلفوا في العلة هل هي النجاسة، فيحرم بيع كل نجس؟
أو لأن الميتة ليست مالاً، وما يجوز بيعه يشترط أن يكون مالاً، فهذا القرد والحمار يجيز الحنابلة بيعه مع أنه نجس عندهم، فليس كل ما جاز بيعه حكمنا بطهارته.
الراجح والله أعلم: نجاسة هذه الحيوانات إلا ما كان يشق التحرز منها فهو طاهر لعلة التطواف، بصرف النظر عن حجمه هل هو أكبر من الهر خلقة أو مثله أو دونه؟ والله أعلم.
_________
(1) المجموع (1/174) ، المغني (1/49) .(13/132)
الباب الثاني
في فضلات الحيوان
الفصل الأول
في البول والغائط والروث
المبحث الأول
في بول الآدمي وعذرته
الفرع الأول
في بول الصبي والجارية
اختلف العلماء هل بول الصبي الذي لم يأكل الطعام طاهر أو نجس؟ .
فقيل: نجس، وهو قول العامة (1) .
وقيل: طاهر، وهو مذهب داود الظاهري (2) ، واختاره بعض الحنابلة (3) ،
_________
(1) سبق أن ذكرنا في تطهيره أقوال الأئمة الأربعة، هل يجب النضح أم الغسل، وكلهم يرون نجاسته، انظر العزو إليهم في المسألة التي قبل هذه.
(2) طرح التثريب (2/140) .
(3) الإنصاف (1/323) .(13/133)
ونصره الشوكاني (1) .
وأما الاختلاف في كيفية تطهيره فسوف يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب كيفية إزالة النجاسة.
دليل من قال بطهارته:
الدليل الأول:
(1525-53) ما وراه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة،
عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله. ورواه مسلم أيضاً (2) .
الدليل الثاني:
(1526-54) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم، فأتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه ولم يغسله. ورواه مسلم (3) .
فهذان الحديثان دليلان على أنه يكفي في بول الصبي النضح، وأن الغسل غير واجب لقوله في الحديث: ولم يغسله.
_________
(1) للشوكاني قولان في هذه المسألة، الطهارة والنجاسة، انظر الدراري المضيئة (1/22) ، والسيل الجرار (1/31، 35) .
(2) صحيح البخاري (323) ، ومسلم (287) .
(3) صحيح البخاري (6355) ، ومسلم (286) .(13/134)
وهذا النضح خاص في بول الصبي، وأما الجارية فيجب غسله،
(1527-55) لما رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي حدثني يحيى بن الوليد، حدثني محل بن خليفة،
حدثني أبو السمح، قال: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك، فأوليه قفاي، فأستره به، فأتي بحسن أو حسين رضي الله عنهما، فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام (1) .
[إسناده حسن] (2) .
فأخذوا من الاكتفاء بنضح بول الصبي أن بوله طاهر، إذ لو كان نجساً لوجب غسله كبول الجارية، بل وكغيره من النجاسات.
والصحيح أنه نجس، فالأمر بنضحه وبإتباع الماء إياه دليل على نجاسته، ولو كان البول طاهراً لم يكن هناك حاجة إلى تطهيره؛ إذ الطاهر لا يطهر.
قال القرطبي في " المفهم ": والعجب ممن يستدل برش بول الصبي، أو بالأمر بنضحه على طهارته، وليس فيه ما يدل على ذلك؛ وغاية دلالته على التخفيف في نوع طهارته، إذ قد رخص في نضحه ورشه وعفا عن غسله تخفيفاً خص هذا التخفيف الذكر دون الأنثى لملازمتهم حمل الذكران لفرط فرحهم بهم لمحبتهم لهم - واللَّه أعلم - (3) .
_________
(1) سنن أبي داود (376) .
(2) وسوف يأتي تخريجه في كيفية التطهير بالنضح، وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب، وحديث أم الفضل وأم كرز الخزاعية وغيرهم، وقد خرجناها كاملة في كيفية التطهير بالنضح فأغنى عن إعادتها هنا.
(3) المفهم (2/644) .(13/135)
ولو أخذنا بقاعدة، أن كل ما ثبت التخفيف في طهارته كان طاهراً لقلنا: بطهارة النعل الذي تصيبه النجاسة، فإن طهارته الدلك بالتراب، ومع ذلك هو نجس قبل الدلك، ولا يجب غسل النعل منها.
ولقلنا بطهارة ذيل المرأة إذا أصابته نجاسة، فإن تطهيره بأن يمر على مكان طاهر، فيطهره ما بعده، ولا يجب غسله، وهو نجس قبل أن يمر على مكان طاهر، وهكذا، فليس التخفيف في طهارة بعض الأماكن دليلا على طهارتها، بل هي نجسة، وإن خفف الشارع في تطهيرها، وهذا هو الراجح، والله أعلم.(13/136)
الفرع الثاني
ذكر العلة التي أوجبت التفريق بين بول الغلام والجارية
من المقطوع به أن الشارع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، فإذا فرق الشارع بين متشابهين فإن هناك علة أوجبت مثل ذلك، وقد تعلم العلة، وقد لا تعلم، والعقول قاصرة عن إدراك علل جميع الأحكام، فالله سبحانه وتعالى حكيم، ولا يأمر ولا ينهى إلا لحكمة، وإن كان طلب العلة ينبغي أن يكون مقصوراً على ما يفيد من تعدي الحكم إلى غيره مما يلحقه القياس، وإلا فالتسليم للنص الشرعي هو طريق المؤمنين {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة} (1) ،
{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (2) .
ولا يعارض المؤمن النص بعقله فيهلك، ويكون حاله كحال إبليس الذي قال معترضاً على أمر ربه {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من
طين} (3) .
وقد اختلف العلماء في تلمس تلك العلة
فمنهم من أرجع ذلك إلى طبيعة بول الأنثى، وأنه يختلف عن بول الذكر فيرى بعضهم أن بول الأنثى أنتن رائحة وأثقل من بول الذكر، ولذلك أمر بغسله دون بول الغلام.
_________
(1) الأحزاب: 36.
(2) النور: 51.
(3) ص: 76.(13/137)
(1528-56) ومما يدخل في هذا ما ذكره أبو الحسن بن سلمة قال: حدثنا أحمد بن موسى بن معقل، حدثنا أبو اليمان المصري قال: سألت الشافعي عن حديث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية، والماءان جميعاً واحد؟ قال: لأن بول الغلام من الماء والطين، وبول الجارية من اللحم والدم، ثم قال لي: فهمت؟ أو قال: لقنتَ؟ قال: قلت: لا، قال: إن اللَّه تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين، وصار بول الجارية من اللحم والدم، قال: قال لي: فهمت؟ قلت: نعم. قال: نفعك اللَّه به.
رواه أبو الحسن بن سلمة في زوائده على ابن ماجه، كما في " سنن ابن ماجه " (1) .
- ومنهم من أرجع ذلك إلى طريقة خروج البول فبول الغلام يخرج بقوة فينتشر فيشق غسله ولذلك تسومح فيه، أما بول الأنثى فيكون مجتمعاً فيسهل غسله.
ومنهم من أرجع ذلك إلى أن نفوس الناس تميل إلى الغلمان، فتحمله أكثر من غيره، فيكثر منهم التبول، ويشق عليهم غسله.
والأخيران قريبان؛ لأن العلة فيهما المشقة، وهي معتبرة شرعاً في تخفيف النجاسة، بل وفي العفو عنها كلياً، كما سيأتي أمثلة ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على النجاسة المعفو عنها.
_________
(1) سنن ابن ماجه (1/175) .(13/138)
الفرع الثالث
في البول والغائط من الآدمي الكبير
أجمع المسلمون على نجاسة بول وغائط الآدمي الكبير، ونقل الإجماع خلق من أهل العلم.
قال الطحاوي: " فنظرنا في ذلك، فإذا لحوم بني آدم كل قد أجمع على أنها لحوم طاهرة، وأن أبوالهم حرام نجسة.... (1) اهـ
وقال العيني: بول الآدمي الكبير فحكمه أنه نجس مغلظ بإجماع المسلمين من أهل الحل والعقد (2) .
وقال ابن رشد: " وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة، ثم ذكر منها: وعلى بول ابن آدم ورجيعه" (3) .
وقال ابن جزي: " وأما الأبوال والرجيع فذلك من ابن آدم نجس إجماعاً"
وقال أيضاً: النجاسات المجمع عليها في المذاهب، ثم ذكر منها: بول ابن آدم ورجيعه" (4) .
وقال النووي: وأما بول الآدمي الكبير فنجس بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيها ابن المنذر وأصحابنا وغيرهم (5) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/109) .
(2) البناية (1/387، 400) .
(3) بداية المجتهد (2/175، 192) .
(4) القوانين الفقهية (ص: 35، 36) .
(5) المجموع (2/567) .(13/139)
وقال العراقي: فيه نجاسة بول الآدمي, وهو إجماع من العلماء إلا ما حكي عن داود في بول الصبي الذي لم يطعم أنه ليس بنجس للحديث الصحيح فنضحه ولم يغسله, وهو مردود بالإجماع فقد حكى بعض أصحابنا الإجماع أيضا في نجاسة بول الصبي (1) .
وقال ابن المنذر: أجمعوا على إثبات نجاسة البول (2) .
ونقل الإجماع كذلك في كتابه العظيم الأوسط (3) .
وقال الزركشي: " نجس بلا نزاع، وهو البول والغائط " (4) .
وقال الصنعاني في سبل السلام: والحديث فيه دلالة على نجاسة بول الآدمي، وهو إجماع (5) .
وقال الشوكاني: واستدل بحديث الباب على نجاسة بول الآدمي، وهو مجمع عليه (6) .
وانظر للاستزادة كتاب إجماعات ابن عبد البر في العبادات (7) .
_________
(1) طرح التثريب (2/140) .
(2) الإجماع (ص: 34) .
(3) الأوسط (2/138) .
(4) شرح الزركشي (2/39، 40) .
(5) سبل السلام (1/34) .
(6) نيل الأوطار (1/61) .
(7) (1/314) .(13/140)
المبحث الثاني
في بول وروث الحيوان
الفرع الأول
في بول وروث الحيوان المأكول
اختلف العلماء في بول الحيوان المأكول وروثه،
فقيل: هو طاهر مطلقاً، وهو مذهب المالكية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: نجس مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (3) ، وقول في مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: إن بول الحيوان نجس، وأما بول الطير، فإن كان يذرق في الهواء كالعصافير والحمام والخفافيش فهو طاهر، وإن كان لا يذرق في الهواء كالدجاج والبط فهو نجس. وهذا مذهب الحنفية (5) .
وقيل: بطهارة الأبوال كلها عدا بول الآدمي، وهو مذهب داود الظاهري (6) .
_________
(1) مواهب الجليل (1/94) ، الخرشي (1/85-86) ، القوانين الفقهية (ص: 27) .
(2) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/31) ، ومسائل ابن هانئ (131) ، والمستوعب (1/314) ، المبدع (1/338) ، الإنصاف (1/339) ، الفروع (1/248-249) .
(3) المجموع (2/547) ، مغني المحتاج (1/79) ، نهاية المحتاج (1/224) .
(4) المستوعب (1/315) .
(5) بدائع الصنائع (1/61-62) ، البحر الرائق (1/239) ، حاشية ابن عابدين (1/210) .
(6) المحلى (2/169) .(13/141)
دليل من قال بالطهارة.
الدليل الأول:
الأصل في الأشياء الطهارة حتى يأتي دليل من القرآن أو من السنة أو من الإجماع على نجاستها، ومن ادعى النجاسة فعليه الدليل، خاصة ونحن نعلم أن الصحابة كانوا أصحاب إبل وغنم فالحاجة داعية إلى بيان حكمها لو كانت نجسة، وليست البلوى في ولوغ الكلب في الأواني أكثر من البلوى في أبوال المواشى وروثها، فلما لم يأت بيان بأنها نجسة علم أنها طاهرة.
قال ابن تيمية رحمه الله: وبول ما أكل لحمه وروثه طاهر, لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجسه، بل القول بنجاسته قول محدث لا سلف له من الصحابة (1) .
الدليل الثاني:
(1529-57) ما رواه مسلم من طريق جعفر بن أبي ثور،
عن جابر بن سمرة، أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.
وجه الاستدلال:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في الصلاة في مرابض الغنم، ومرابض الغنم لا تخلو من البول والروث، فدل على طهارتها.
_________
(1) الفتاوى الكبرى (5/313) .(13/142)
الدليل الثالث:
(1530-58) ما رواه البخاري، حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة
عن أنس بن مالك قال قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها. الحديث والحديث رواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالشرب من أبوال الإبل، ولم يأمرهم بغسل الأواني منها، ولو كانت نجسة ما أذن لهم بالشرب، ولأمرهم بغسل الأواني منها. وهذا نص صريح في محل النزاع.
الدليل الرابع:
(1531-59) ما رواه البخاري قال: حدثنا أحمد بن صالح ويحيى بن سليمان، قالا: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. ورواه مسلم (2) .
وجه الاستدلال:
إدخال البعير المسجد، والطواف عليه دليل على طهارة بوله، حيث لا
_________
(1) صحيح البخاري (233) ، ومسلم (1671) .
(2) صحيح البخاري (1608) ، ومسلم (1272) .(13/143)
يؤمن بول البعير في أثناء الطواف، ولو كان نجساً لم يعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد للنجاسة.
الدليل الخامس:
(1532-60) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال:
سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (1) .
وجه الاستدلال:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نستنجي بالروث؛ لأنه علف دواب إخواننا من الجن، ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا ننجسه عليهم، فلو كان البعر في نفسه نجساً لم يكن الاستنجاء به ينجسه، ولم يكن هناك فرق بين البعر
_________
(1) صحيح مسلم (450) .(13/144)
والمستنجى به، ثم إن البعر لو كان نجساً لم يصلح أن يكون علفاً لقوم مؤمنين، فإنها تصير بذلك جلالة، ولو جاز أن تصير جلالة لجاز أن تعلف رجيع الإنس ورجيع الدواب، فلا فرق حينئذ، وكونه شَرَطَ في طعام الجن طهارة العظم، بقوله: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، فكذلك لا بد أن يَشْرِط في علف دوابهم نحو ذلك من الطهارة (1) .
الدليل السادس:
(1533-61) ما رواه ابن خزيمة في صحيحه، قال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير،
عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا من شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل ينحر بعيره، فيعصر فرثه، فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيراً، فادع لنا فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يده فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فأظلمت، ثم سكبت فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جازت العسكر (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) بتصرف مجموع الفتاوى (21/577) .
(2) صحيح ابن خزيمة (101) .
(3) ومن طريق يونس أخرجه الطبري في تفسيره (11/55) .
ورواه ابن حبان في صحيحه (1383) ، والبزار في مسنده (1841) ، والحاكم في المستدرك (566) ، والبيهقي في دلائل النبوة (5/231) من طريق حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب به. وهذه متابعة من حرملة ليونس بن عبد الأعلى.
كما أخرجه الطبري في تفسيره (11/55) من طريق يعقوب بن محمد، ثنا عبد الله بن وهب به. وهذه متابعة أخرى.
ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (3292) من طريق ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة به. انظر إتحاف المهرة (15473) .(13/145)
وجه الاستدلال:
قال ابن خزيمة: لو كان ماء الفرث إذا عصر نجساً لم يجز للمرء أن يجعله على كبده، فينجس بعض بدنه، وهو غير واجد لماء طاهر يغسل موضع النجس منه، فأما شرب الماء النجس عند خوف التلف إن لم يشرب ذلك الماء فجائز إحياء للنفس بشرب ماء نجس، إذ الله عز وجل قد أباح عند الاضطرار إحياء النفس بأكل الميتة والدم ولحم الخنزير إذا خيف التلف إن لم يأكل ذلك. والميتة والدم ولحم الخنزير نجس محرم على المستغني عنه، مباح للمضطر إليه لإحياء النفس بأكله، فكذلك جائز للمضطر إلى الماء النجس أن يحيي نفسه بشرب ماء نجس إذا خاف التلف على نفسه بترك شربه، فأما أن يجعل ماء نجسا على بعض بدنه، والعلم محيط أنه إن لم يجعل ذلك الماء النجس على بدنه لم يخف التلف على نفسه، ولا كان في إمساس ذلك الماء النجس بعض بدنه إحياء نفسه بذلك، ولا عنده ماء طاهر يغسل ما نجس من بدنه بذلك الماء، فهذا غير جائز ولا واسع لأحد فعله (1) .
الدليل السابع:
كان الحَبُّ في عهد الصحابة ومن بعدهم يداس في البيادر عن طريق الدواب، ولا بد أن يصيب الحبوب شيء من أبوالها وأرواثها، ولم ينقل عن
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (1/53- 54) .(13/146)
النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته، ولا عن غيرهم أنهم كانوا يغسلون الحب بعد الفراغ من دياسها، فلو كانت نجسة لوجب غسلها، ولنقل الأمر بذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم يأمر بغسلها علم أن أبوالها طاهرة.
قال ابن تيمية حاكياً عن عهد الصحابة: " فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع، ونتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب، ونتيقن أنه لا بد أن تبول على البيدر الذي يبقى أياماً ويطول دياسها له، فهذه كلها مقدمات يقينية (1) .
الدليل الثامن:
إجماع المسلمين على اتخاذ الحمام في المسجد الحرام من غير نكير، فهذا دليل على طهارتها؛ خاصة أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بتطهير المسجد بقوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (2) .
الدليل التاسع:
(1534-62) ما رواه الدارقطني في سننه، من طريق سوار بن مصعب، عن مطرف بن طريف، عن أبي الجهم،
عن البراء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس ببول ما أكل لحمه (3) .
[ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/584) .
(2) الحج: 26.
(3) سنن الدارقطني (1/128) .
(4) ومن طريق سوار بن مصعب أخرجه البيهقي في السنن (1/252) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/101) .
قال أحمد ويحيى بن معين والنسائي والدارقطني: سوار بن مصعب متروك. انظر سنن الدارقطني (1/128) ، والتحقيق (1/101) .
قال الدارقطني: خالفه يحيى بن العلاء، ثم ساق الدراقطني إسناده (1/128) من طريق عمرو بن الحصين، نا يحيى بن العلاء، عن مطرف، عن محارب بن دثار، عن جابر.
وعمرو بن الحصين ويحيى بن العلاء متروكان.
قال الدارقطني: لا يثبت، عمرو بن الحصين ويحيى بن العلاء ضعيفان.
قال ابن الجوزي: قال أحمد: يحيى بن العلاء كذاب يضع الحديث. التحقيق (1/102) .
وعمرو بن الحصين: قال أبو حاتم الرازي: ليس بشيء.
وقال الدارقطني: متروك. وانظر إتحاف المهرة (2210) .(13/147)
دليل من قال بالنجاسة:
الدليل الأول:
(1535-63) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس،
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مر بقبرين يعذبان فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول. الحديث والحديث رواه مسلم بنحوه (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: " لا يستتر من البول " فـ" أل " في البول عام لجميع الأبوال، سواء جعلنا أل للجنس أو للاستغراق.
وعلى فرض الاختصاص ببول الإنسان فإن سائر الأبوال تلحق به قياساً.
قال الخطابي: " في الحديث دلالة على أن الأبوال كلها نجسة مجتنبة من مأكول اللحم وغير مأكوله، لورود اللفظ به مطلقاً على سبيل العموم.
_________
(1) صحيح البخاري (1361) ، ومسلم (292) .(13/148)
وأجيب:
بأن اللام في كلمة (البول) للعهد الذهني، أي بول نفسه، وقد نص أهل المعرفة باللسان أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود، فإن كان هناك شيء معهود لم يحمل على الجنس، والدليل على أن المقصود به بوله هو عدة أدلة:
الأول: ما جاء في الصحيحين في رواية أخرى للحديث " أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله"
الثاني أن الحديث قد أخرجه النسائي من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاووس،
عن ابن عباس بلفظ: " لا يستبرئ من بوله" (1) .
وإسناده في غاية الصحة.
والاستبراء: طلب البراءة من البول، وهو أن يستفرغ بقية البول، وينقي موضعه ومجراه، حتى يبرئهما منه: أي يبينه عنهما كما يبرأ من الدين والمرض، والاستبراء استنقاء الذكر عن البول (2) .
الدليل الثاني:
(1536-64) ما رواه عبد بن حميد، قال: خبرنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد،
_________
(1) النسائي (2069) .
(2) اللسان (1/33) ، التوقيف على مهمات التعريف (ص: 54) ، النهاية في غريب الحديث (1/112) .(13/149)
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عامة عذاب القبر في البول فتنزهوا من البول (1) .
[ضعيف] (2) .
الدليل الثالث:
(1537-65) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح،
_________
(1) المنتخب من مسند عبد بن حميد (642) ، وأخرجه الدارقطني (1/128) والحاكم (653) من طريق إسحاق بن منصور، عن إسرائيل به. قال الدارقطني: لا بأس به. وانظر إتحاف المهرة (8779) .
(2) في إسناده أبو يحيى القتات، جاء في ترجمته:
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل- أبو يحيى القتات؟ قال: روى عنه إسرائيل أحاديث كثيرة مناكير جداً. الجرح والتعديل (3/432) .
قلت: وهذا منها، فإن حديث ابن عباس في الصحيحين بغير هذا اللفظ.
وقال الدوري عن يحيى بن معين: أبو يحيى القتات في حديثه ضعف. المرجع السابق.
وروى الدارمي عن ابن معين أنه قال: ثقة. تهذيب التهذيب (12/303) .
وقال أحمد: كان شريك يضعف أبا يحيى القتات. الجرح والتعديل (3/432) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين له (672) .
وذكره العقيلي في الضعفاء (2/229، 230) .
وقال علي بن المديني: قيل ليحيى بن سعيد: إن إسرائيل روى عن أبي يحيى القتات ثلاثمائة، وعن إبراهيم بن مهاجر ثلاثمائة، فقال: لم يؤت منه، أتي منهما جميعاً. يعني من أبي يحيى ومن إبراهيم.
وقال ابن سعد: أبو يحيى القتات فيه ضعف. المرجع السابق.(13/150)
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أكثر عذاب القبر من البول (1) .
[رجاله ثقات ورجح أبو حاتم الرازي والدراقطني وقفه، وهو مما لا يدرك بالرأي] (2) .
_________
(1) المسند (2/326) .
(2) اختلف فيه على الأعمش، فرواه أبو عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً.
ورواه ابن فضيل عن الأعمش به موقوفاً على أبي هريرة.
وسئل عنه الدارقطني في علله (8/208) ، فقال: يرويه الأعمش، واختلف عنه، فأسنده أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وخالفه ابن فضيل، فوقفه، ويشبه أن يكون الموقوف أصح. اهـ
وفي علل ابن أبي حاتم (1/366) : سألت أبي عن حديث رواه عفان، عن أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أكثر عذاب القبر من البول. قال أبي: هذا حديث باطل. يعني: مرفوع. اهـ
ونقله الحافظ في التلخيص وأقره، فقال (1/106) : أعله أبو حاتم، فقال: إن رفعه باطل. اهـ
وقال الحافظ في إتحاف المهرة (14/486) ذكر الترمذي في العلل المفرد أنه سأل البخاري عنه، فقال: هو صحيح.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه ابن المنذر في الأوسط (689) ، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (5192) ، والبيهقي (2/412) من طريق يحيى بن حماد به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/115) ، وأحمد (2/388، 389) ، وابن ماجه (348) ، والدارقطني (1/128) ، والحاكم في المستدرك (653) عن عفان، ثنا أبو عوانة، به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه.
ورواه الدارقطني (1/128) من طريق محمد السمان البصري، نا أزهر بن سعد السمان، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه.
قال الدارقطني: الصواب مرسل.
قال الذهبي في المغني (2/593) : محمد بن صباح السمان البصري، عن أزهر السمان لا يعرف، وخبره منكر. وانظر لسان الميزان (5/203) .
وانظر إتحاف المهرة (18059) ، أطراف المسند (7/198) ، تحفة الأشراف (12501) .(13/151)
وجه الاستدلال:
استنزهوا من البول عام في كل بول، وكما قلنا في توجيه حديث ابن عباس نقوله هنا.
الجواب عن هذا الاستدلال:
أولاً: الأحاديث ضعيفة، وهذا الحكم يريحنا من الجواب عنها.
ثانياً: أن المقصود به بول الإنسان، كما قدمنا في حديث ابن عباس.
ثالثاً: أن البول الذي يصيب الإنسان، ويكون عامة عذاب القبر منه إنما هو بوله هو، وهو الذي يتعرض له كثيراً في كل يوم، بل ربما في اليوم عدة مرات، وأما بول غيره فيندر أن يصيب أحداً من الناس، فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحداً من الناس، فتعين حمله على بول نفسه، والله أعلم.
الدليل الرابع:
(1538-66) ما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه،
أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (156) .(13/152)
فإن قيل: ليس في الحديث دليل على النجاسة، وإنما فيه ترك الاستنجاء بالروث، ولا يلزم من ذلك النجاسة، كما لم يلزم من ترك الاستنجاء بالعظم والمحترمات كونها نجسة.
فالجواب: أن الاعتماد على نجاستها ليس لترك الاستنجاء فيها، ولكن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها ركس. والركس له معنيان:
أحدهما: الركس بمعنى الرجيع.
والمعنى الآخر: الركس: بمعنى النجس.
ولا ينبغي أن يحمل على أنه مجرد إخبار بأن الروث رجيع، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي إلى الحمل عليه خلو الكلام من الفائدة، فوجب حمله على ما ذكرنا بأن معنى الركس: النجس.
وأجيب:
بأن النهي عن الاستنجاء بالروث مركب من علتين، تنزل كل علة على محل: فالروث إن كان نجساً فإنه لا يستنجى به؛ لأنه نجس، ونحن لا نقول: إن كل روث طاهر.
وعليه يحمل كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إنها ركس.
وإن كان الروث طاهراً كما هو الحال هنا، فإنه لا يستنجى به؛ لا لأنه لا يطهر، ولكن لأنه طعام دواب إخواننا من الجن كما جاء في الحديث، وذكرناه في أدلة القول الأول.
الدليل الخامس:
قال تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (1) .
_________
(1) الأعراف: 157.(13/153)
ومعلوم أن الطباع الكريمة تستخبثه، وتحريم الشيء لا لكرامته واحترامه تنجيس له شرعاً.
وتعقب:
أولاً: الحكم على الشيء بأن هذا طيب أو خبيث ليس مرده إلى الطباع، وإنما مرده إلى الشرع؛ لأن الطباع قد تستقبح ما هو طيب، وتستطيب ما هو خبيث، والشرع عندنا لم يحكم على هذا بأنه خبيث، بدليل أنه أذن في شربها، والصلاة في مرابض الغنم، وهي لا تخلو من بولها وروثها.
ثم إن كراهة الشيء طبعاً لا تقتضي نجاسته، فهذه النخامة مستقذرة طبعاً، وهي طاهرة.
ثانياً: قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (1) ، فكل ما هو محرم، فهو خبيث، وليس كل محرم نجساً، فالخبث والنجاسة غير متلازمتين، قال تعالى عن المال الردئ {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (2) ، والخبث هنا في الشيء الطاهر.
وقال تعالى: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة} (3) ، والكلام ليس فيه ما هو نجس بالمعنى الاصطلاحي.
الدليل السادس:
القياس على بول الآدمي ورجيعه، فإذا كان بول الآدمي نجساً بالإجماع فكذلك بول الحيوان بجامع أن كلاً منهما قد استحال إلى فساد ونتن.
_________
(1) الأعراف: 157.
(2) البقرة: 267.
(3) إبراهيم: 24.(13/154)
وأجيب:
بأن هذا قياس مع الفارق، حيث أذن الشارع في شرب أبوال الإبل دون بول الآدمي، وأذن بالصلاة في مرابض الغنم، ولم يأذن في الصلاة في موضع فيها بول آدمي أو رجيعه، وقياس بول ما يؤكل لحمه على بول ما لا يؤكل قياس مع الفارق، وهو قياس مصادم للنص فلا عبرة به.
الدليل السابع:
القياس على نجاسة القيء بجامع أن كلاً منهما قد استحال إلى نتن وفساد في الباطن.
وأجيب:
لا نسلم لكم بنجاسة القيء، ولا يوجد دليل على نجاسته، وإذا لم يسلم لكم الأصل لم يسلم لكم الفرع، وسوف يعقد إن شاء الله تعالى فصل خاص في حكم القيء.
الدليل الثامن:
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في معاطن الإبل، وهذا يدل على نجاستها. وقد ذكر نص الحديث في أدلة القول الأول.
وأجيب:
أولاً: بأنه لو كان النهي عن الصلاة في معاطن الإبل من أجل النجاسة ما صلى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان يصلي النافلة على بعيره.
(1539-67) فقد روى الشيخان من طريق مالك، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب،(13/155)
عن سعيد بن يسار، أنه قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة، فقال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، ثم لحقته، فقال عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح، فنزلت، فأوترت، فقال عبد الله: أليس لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة؟ فقلت: بلى والله. قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على البعير (1) .
ثانياً: يقابل النهي هذا بإذنه في الصلاة في مرابض الغنم، فيقال: إن العلة ليست النجاسة، ولو كانت العلة هي النجاسة لم يكن هناك فرق بين بول الإبل والغنم، ولكن العلة شيء آخر:
فقيل: إن الحكم تعبدي، فتكون علته مخفية عنا.
وقيل: إنه يخشى إنْ صلى في مباركها أن تأوي إلى هذه المبارك، وهو يصلي، فتشوش عليه صلاته؛ لأنها كبيرة الجسم، ولأن من طبعها النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي، ولذلك ورد في الحديث أن الإبل خلقت من الشياطين.
(1540-68) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن،
عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقت من الشياطين (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (999) ، ومسلم (700) .
(2) المصنف (1/337) رقم 3877.
(3) الحديث رواه ابن أبي شيبة كما في إسناد الباب، ومن طريقه أخرجه ابن حبان في صحيحه (1702) .
ورواه البيهقي في سننه (2/449) من طريق هشيم به.
ورواه أحمد في مسنده (4/85) حدثنا إسماعيل بن علية، قال: أخبرنا يونس به. وزاد عليه قتل الكلب الأسود، وإباحة اتخاذ الكلب في الصيد والماشية.
ورواه أحمد أيضاً (5/56، 57) حدثنا عبد الأعلى، عن يونس به.
ورواه الرواياني في مسنده (898) من طريق سفيان، عن يونس به.
ورواه ابن ماجه (769) من طريق أبي نعيم، عن يونس به.
ورواه ابن حبان في صحيحه (5657) من طريق يزيد بن زريع، قال: حدثنا يونس به.
فهؤلاء ستة حفاظ رووه عن يونس بن عبيد: وهم هشيم وابن علية وعبد الأعلى وسفيان ويزيد بن زريع وأبو نعيم.
كما تابع أبو سفيان بن العلاء ومبارك بن فضالة يونسَ بن عبيد.
فقد أخرجه أحمد (5/54) ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/317) حدثنا وكيع، عن أبي سفيان بن العلاء، عن الحسن به.
وأبو سفيان بن العلاء لم أقف على أحد وثقه، لكن قال فيه يحيى بن سعيد القطان: كنت أشتهي أن أسمع من أبى سفيان حديث الحسن، عن عبد الله بن مغفل، كان يقول فيه: حدثني ابن مغفل. الجرح والتعديل (9/381) ، كما أنه قد توبع في هذا الحديث، فإذا روى حديثاً لم ينكر عليه، بل قد تابعه عليه الثقات، ولم نقف له على جرح كان هذا مما يقوي أمره، والله أعلم.
وأخرجه أبو داود الطيالسي (913) وأحمد (4/86) وعلي بن الجعد (3180) وابن عدي في الكامل (6/320) من طريق مبارك بن فضالة، عن الحسن به.
قال ابن عبد البر (22/333) : حديث عبد الله بن مغفل رواه نحو خمسة عشر رجلاً عن الحسن، وسماع الحسن من عبد الله بن مغفل صحيح. اهـ
وقد خرجت من هذه الطرق ما نص فيها على أن الإبل خلقت من الشياطين، وتركت غيرها مما لم يرد فيه موضع الشاهد، والله أعلم.
وانظر إتحاف المهرة (13415) ، أطراف المسند (4/241) ، تحفة الأشراف (9651)(13/156)
قال ابن حبان في صحيحه: لو كان الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل(13/157)
لأجل أنها خلقت من الشياطين لم يصل - صلى الله عليه وسلم - على البعير؛ إذ محال أن لا تجوز الصلاة في المواضع التي قد يكون فيها الشيطان ثم تجوز الصلاة على الشيطان نفسه، بل معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين على سبيل المجاورة والقرب (1) .
وقال ابن حبان في موضع آخر من صحيحه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين، وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله؛ فإنه شيطان، ثم قال في خبر صدقة بن يسار، عن ابن عمر: فليقاتله؛ فإن معه القرين (2) .
وقيل: معناه أن من طبعها الشيطنة، وليس معناه أن مادة خلقها الشيطنة، فهو كقوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} (3) ، يعني: طبيعته هكذا، فهي لا تكاد تهدأ، ولا تقر في العطن، بل تثور، فربما قطعت على المصلي صلاته، وشوشت عليه خشوعه، وهذه هي الشيطنة المذكورة في الحديث.
ولذلك لما صلى عليها أمن من شرها، بخلاف الصلاة في مباركها، فقد تأتي إليه مجتمعة في حالة من النفار فتفسد عليه صلاته.
وعلى كل حال فليس في نهيه عن الصلاة في معاطن الإبل دليل على نجاسة بولها وروثها.
الدليل التاسع:
(1541-69) ما رواه أبو يعلى، من طريق ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب،
_________
(1) صحيح ابن حبان (4/603) .
(2) صحيح ابن حبان (4/601) .
(3) الأنبياء: 37.(13/158)
عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
فقوله: " إنما تغسل ثوبك من البول " مطلق، فيشمل كل بول.
والحديث ضعيف، فلا داعي للجواب عنه، ولو صح لم يسلم لهم الاستدلال به، كما قدمناه في حديث ابن عباس " أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ".
دليل الحنفية في التفريق بين ما يذرق في الهواء وبين غيره.
الحنفية ذهبوا إلى ما ذهب إليه الشافعية في نجاسة الأبوال كلها من الحيوان، إلا أنهم خالفوهم في بعض الطيور، فقسموا الطيور إلى قسمين:
طير يذرق في الهواء كالعصافير والحمام فذرقه طاهر.
وطير لا يذرق في الهواء كالدجاج والبط، فذرقه نجس.
واستدلوا بطهارة ما يذرق في الهواء بوجود الحمام في المسجد الحرام، مع الأمر بتطهير المساجد من البول والقذر: قال تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (3) .
_________
(1) مسند أبي يعلى (1611) .
(2) سبق تخريجه، انظر كتابي آداب الخلاء، وهو جزء من هذه السلسلة، رقم (402) .
(3) الحج: 26.(13/159)
(1542-70) وروى مسلم في صحيحه من طريق عكرمة بن عمار، حدثنا إسحق بن أبي طلحة،
حدثني أنس بن مالك وهو عم إسحق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ولأن فضلات ما يطير في الهواء لا رائحة له، بخلاف ذرق الدجاج ونحوها مما لا يطير فإنه منتن.
ولأن الذي يذرق في الهواء يشق التحرز منه، فلا يمكن صيانة الثياب عنه، فيكون طاهراً دفعاً للحرج والمشقة.
دليل داود على طهارة الأبوال كلها عدا بول الآدمي.
الدليل الأول:
الأصل في الأشياء الطهارة، ولا نعدل عنه إلا بدليل من نص أو إجماع، ولا يوجد ما يدل على نجاسة الأبوال، فتبقى طاهرة.
ونوزع في هذا:
أما الأصل فصحيح، وأما دعوى أنه لا يوجد دليل على نجاسة بعض الأبوال فغير مسلم، بل هناك أدلة كثيرة تدل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، منها ما ذكرنا في قوله عن الروث: إنها ركس.
_________
(1) صحيح مسلم (285) .(13/160)
الدليل الثالث:
(1543-71) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبان، عن أنس، قال: لا بأس ببول ذات الكرش (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الراجح من الخلاف:
القول بطهارة بول ما يؤكل لحمه هو أقوى الأقوال، وأوسطها، بين قول من يرى طهارة جميع الأبوال عدا بول الآدمي، وقول من يرى نجاسة كل الأبوال.
ولا يمكن أن يباح لحمه، ثم يكون بوله نجساً.
ولا يمكن أن يكون الكلب والخنزير أطهر بولاً من الإنسان، وأن يكون ريق الكلب نجساً، وبوله طاهراً، وبوله أخبث من ريقه، لذا أجد مذهب المالكية والحنابلة أقوى الأقوال في هذه المسألة، والله أعلم.
_________
(1) المصنف (1483) .
(2) في إسناده أبان بن أبي عياش، وهو ضعيف.(13/161)
[صفحة فارغة](13/162)
الفرع الثاني
في بول وروث الحيوان غير المأكول
اختلف العلماء في بول وروث الحيوان غير المأكول عدا الآدمي،
فقيل: نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) .
وقيل: طاهر، وهو مذهب داود الظاهري (2) ، والشعبي (3) ،
والبخاري (4) ، رحمهم الله جميعاً.
دليل من قال بنجاسة البول والروث.
الدليل الأول:
قالوا: إن لحم هذا الحيوان خبيث، فكذلك بوله (5) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/60) ، الفتاوى الهندية (1/46) ، شرح فتح القدير (1/202) ، وحاشية ابن عابدين1/319) ، والبحر الرائق (1/241) .
وانظر في مذهب المالكية المدونة (1/116) ، الخرشي (1/94) ، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/58) والشرح الصغير 1/54) .
وانظر في مذهب الشافعية:
وانظر في مذهب الحنابلة الفروع (1/256) ، الإنصاف (1/340) ، كشاف القناع (1/193) ، المستوعب (1/321) ، مطالب أولي النهى (1/234) .
(2) الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي (ص: 171) .
(3) رواه ابن أبي شيبة (1/109) رقم 1244، قال: حدثنا ابن فضيل، عن ابن شبرمة، قال: كنت مع الشعبي في السوق، فبال بغل، فتنحيت عنه، فقال: ما عليك لو أصابك.
وسنده حسن.
(4) صحيح البخاري مع فتح الباري (1/335،278) ، والمحلى (1/196)
(5) مجموع الفتاوى (21/586،585) .(13/163)
الدليل الثاني:
إذا كان الحيوان الطاهر الحلال الأكل إذا أكل العذرة حبس كما في الجلالة، فما بالك بحيوان قد خبث لحمه بنفسه، وليس عن طريق أكل العذرة المستحيلة إلى شيء آخر، ألا يكون نجساً من باب أولى.
الدليل الثالث:
إذا كان ريق الكلب نجساً، ويغسل منه الإناء سبعاً، فما بالك ببوله الذي هو أخبث وأنتن من ريقه، وقد سبقت هذه الأحاديث في نجاسة الكلب.
الدليل الرابع:
(1544-72) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله،
عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (1) .
[إسناده صحيح إن شاء الله، وسبق تخريجه] (2) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضى بهذا الحديث الصحيح أن الماء الكثير لا يتأثر بسؤر السباع والدواب، ومفهومه أن الماء القليل قد يتأثر بسؤر السباع والدواب، وإذا كان هذا في سؤرها: أي بقية شرابها، فما بالك ببولها وروثها، فإنه أشد خبثاً ونتناً من ريقها.
_________
(1) المصنف (1/133) رقم 1526.
(2) انظر تخريجه مطولاً في كتابي أحكام الطهارة: كتاب المياه، رقم (88) .(13/164)
الدليل الخامس:
(1545-72) ما رواه مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها:
أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (1) .
[إسناده صحيح، وسبق تخريجه] (2) .
وجه الاستدلال:
لما علل طهارة الهرة بأنها من الطوافين علينا، علم أن المقتضي لنجاستها قائم، وهو كونها محرمة، لكن عارضه مشقة التحرز منها، فطهرت لذلك دفعاً للحرج، ومعنى ذلك أن الهرة لو لم تكن طوافة علينا لكان سؤرها نجساً، وإذا كان هذا في سؤرها، فما بالك في بولها، فإنه أشد نجاسة من سؤرها.
الدليل السادس:
قد ثبت عندنا أن الروث نوعان:
روث ما يؤكل لحمه، وهذا طاهر، لأدلة كثيرة ذكرناها في مسألة (بول مأكول اللحم) ، وروث نجس، وهو روث ما لا يؤكل لحمه،
_________
(1) الموطأ (1/44) .
(2) انظر حديث رقم (1507) من هذا الكتاب.(13/165)
(1546-74) لما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه،
أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (1) .
دليل من قال بالطهارة.
الدليل الأول:
الأصل في الأشياء الطهارة حتى يأتي نص من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا نص ولا إجماع في تنجيس غير بول الآدمي.
وأجيب:
قد قدمنا الأدلة على نجاسة سؤر الكلب، وعلى نجاسة سؤر الهرة لولا علة التطواف، وقدمنا أن الماء القليل قد يتأثر بسؤر الدواب والسباع، مع أن ريقها أطهر من بولها، وكل هذه الأدلة صحيحة ظاهرة في نجاسة بول هذه الحيوانات، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1547-75) ما رواه البخاري في صحيحه: قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله،
_________
(1) صحيح البخاري (156) .(13/166)
عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (1) .
وأجيب:
بأن بوله لن يكون أطهر من ريقه، وقد حكمنا على ريقه بالنجاسة كما في الحديث المتفق على صحته في غسل الإناء من ولوغ الكلب، ولكن عدم تطهير المكان من بول الكلب إما لكون الشمس حارة في بلاد الحجاز، فكانت تطهر الأرض بالاستحالة، فإذا أذهبت الشمس النجاسة لوناً وطعماً وريحاً فقد طهر المكان، وربما كان مرور الكلاب ليس في موضع مصلى المسلمين، بل في مؤخرة المسجد، فكان الأمر لا يتطلب المبادرة إلى تطهيره بالماء، بل يترك حتى تطهره الشمس.
وقد يقال: إن هذا الأمر كان في أول الإسلام، خاصة أن في بعض ألفاظه أن ابن عمر كان شاباً عزباً، وكان ينام في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تزوج ابن عمر في حياته - صلى الله عليه وسلم - كما في قصة طلاق ابن عمر للمرأة الحائض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحديث في الصحيحين.
الدليل الثالث:
(1548-76) روى البخاري تعليقاً، قال: صلى أبو موسى في دار البريد والسرقين والبرية إلى جنبه فقال هاهنا وثم سواء (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (174) ، قال الحافظ في الفتح: زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب المذكور موصولاً بصريح التحديث.
(2) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، في كتاب الوضوء، في باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها.
قال الحافظ في الفتح (1/336) : وهذا الأثر وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له، قال: حدثنا الأعمش، عن مالك بن الحارث هو السلمي الكوفي، عن أبيه، قال: صلى بنا أبو موسى في دار البريد، وهناك سرقين الدواب والبرية على الباب، فقالوا: لو صليت على الباب فذكره. اهـ
قلت: بل أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1606) .
وقال في تغليق التعليق (2/141) : ذكره البخاري في تاريخه عن أبي نعيم، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع، عن الأعمش نحوه.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبيه قال: كنا مع أبي موسى بعين التمر في دار البريد، فأذن وأقام، فقلنا له: لو خرجت إلى البرية، فقال: ذاك وذا سواء.
ومالك بن الحارث هو السلمي روى له مسلم من حديث الأعمش عنه، ووثقه يحيى بن معين، وأبوه ذكره ابن حبان في الثقات.
قلت روايتا ابن أبي شيبة التي أشار إليها الحافظ رحمه الله تعالى هي في المصنف، فأما روايته عن محمد بن عبيد فهي في (1/198) ، رقم 2268، وقد ذكر الحافظ لفظها.
وأما رواية ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن الأعمش به، فهي في (2/169) بلفظ: كنا مع أبي موسى في دار البريد، فحضرت الصلاة، فصلى بنا على روث ونتن، فقلنا: تصلي بنا هنا، والبرية إلى جنبك، فقال: البرية وهاهنا سواء. اهـ
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1606) عن الثوري، عن الأعمش به.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/196) من طريق شريك، عن الأعمش به.(13/167)
وجه الاستدلال:
أن أبا موسى صلى على السرقين في دار البريد، وكانت تربط فيها الدواب ذوات الحوافر من خيل وبغال وحمير، ولو كان نجساً لما صلى عليه.
وأجيب:
أولاً: أن هذه الدواب التي ترد إلى البريد طاهرة، لأنها إما خيل وإبل فأكلها حلال، فكذلك بولها، وإما بغال وحمر فهي طاهرة لمشقة التحرز منها(13/168)
كما قدمنا بحثه في مسألة مستقلة.
ثانياً: قد يكون أبو موسى صلى بحائل.
وهذا الاحتمال الأصل عدمه، ثم ظاهر اللفظ يأباه بقوله: صَلَّى على سرقين، ظاهره أنه مباشر له.
ثالثاً: على فرض أن يكون صلى على سرجين نجس، فهو فعل صاحبي قد خالفه غيره من الصحابة كابن عمر وغيره فلا يكون حجة، وقد قدمنا أدلة مرفوعة على نجاسة هذه الأبوال، وإنما يصار إلى الاستدلال برأي الصحابي بشرطين:
الأول: ألا يخالف نصاً من كتاب أو سنة مرفوعة.
الثاني: ألا يخالفه غيره من الصحابة، فإن خالفه غيره ذهبنا إلى الترجيح بينهما بحسب ما تقتضيه الأدلة والقواعد الشرعية.
رابعاً: قال بعضهم: لعل أبا موسى كان لا يرى الطهارة من النجاسة شرطاً أو واجباً في صحة الصلاة، وهو قول في مذهب المالكية.
الترجيح:
الراجح والله أعلم بالصواب، مذهب القائلين بنجاسة أبوال البهائم الحية غير المأكولة، وذلك لقوة أدلتهم وسلامتها من الاعتراضات القادحة.(13/169)
[صفحة فارغة](13/170)
الفصل الثاني
في المني والمذي والودي من الحيوان
المبحث الأول
في مني الإنسان
اختلف العلماء في مني الإنسان هل هو طاهر أم نجس،
فقيل: المني نجس، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ،
وقول في مذهب الشافعية (3) ، وقول في مذهب الحنابلة (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/85) ، المبسوط (1/81) ، الاختيار لتعليل المختار (1/32) ، شرح معاني الآثار (1/53) ، البحر الرائق (1/235،236) .
(2) قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/113) : ولا يجزئ عند مالك وأصحابه في المني ولا في سائر النجاسات إلا الغسل بالماء، ولا يجزئ فيه عنده الفرك، وأنكره، ولم يعرفه. اهـ
وقال في القوانين الفقهية (ص: 51) : لا يجوز الاستجمار -يعني: بالحجارة- من المني ولا من المذي، ولا إن تعدت النجاسة المخرجين أو ما قرب منهما. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/111) ، مواهب الجليل (1/285) ، مختصر خليل (ص: 15) ، التاج والإكليل (1/285،285) ، المفهم للقرطبي (1/558) ، والمدونة (1/128) ، المنتقى شرح الموطا (1/103) .
(3) المجموع (2/572) .
(4) المغني (1/516) ، الإنصاف (1/350،351) ، وعن أحمد ثلاث روايات في المني:
الأولى: أنه طاهر، قال في المغني: وهو المشهور.
الثانية: أنه نجس كالدم، ويعفي عن يسيره.
الثالثة: أنه لا يعفى عن يسيره، ويجزئ فرك يابسه من الرجل والمرأة. وقيل: من الرجل دون المرأة(13/171)
وقيل: المني طاهر، وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، ورجحه ابن حزم (3) ، وابن تيمية (4) .
وسبب اختلاف العلماء في هذه المسألة اختلافهم في تفسير ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا من غسل المني رطباً، وفركه يابساً.
فأخذ الحنابلة والشافعية من الاكتفاء بفركه يابساً دليلاً على طهارته، إذ لو كان نجساً لوجب غسله خاصة أن المني سائل ثخين، ويتشرب جزء منه الثوب، ولو كان المني نجساً لجاء الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، خاصة أن
_________
(1) المجموع (1/156) ، (2/553) ، مغني المحتاج (1/80) .
(2) انظر مسائل أحمد رواية أبي داود (1/32) رقم 158، 159، 150. وقال أحمد في مسائله رواية صالح (3/56) : قلت لأبي الفراش يصيبه المني، يبسط عليه؟ فقال: المني شيء آخر، وسهل في المني جداً، وقال: أين المني من البول، البول شديد، والمني يفرك، وقد جاء أنه بمنزلة المخاط، يقوله ابن عباس. اهـ وانظر مسائل أحمد رواية ابن هانئ (1/25) ، ورواية
عبد الله (1/59) رقم 52. ومسائل أحمد وإسحاق (1/157،192،257) .
وعن أحمد ثلاث روايات في المني:
الأولى: أنه طاهر، قال في المغني: وهو المشهور.
الثانية: أنه نجس كالدم، ويعفي عن يسيره.
الثالثة: أنه لا يعفى عن يسيره، ويجزئ فرك يابسه من الرجل والمرأة. وقيل: من الرجل دون المرأة. انظر المغني (1/516) ، الإنصاف (1/350،351) .
(3) قال في المحلى (1/135) مسألة: 131: المني طاهر في الماء كان أو في الجسد أو الثوب لا تجب إزالته، والبصاق مثله ولا فرق. اهـ
(4) مجموع الفتاوى (21/588) .(13/172)
البلوى فيه شديدة في الأبدان والثياب والفرش وغيرها، فلما لم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بغسل ما أصابهم، وكان الثابت عنه مجرد فعل، وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجردة لا تدل على الوجوب بل تدل على الاستحباب، علم أن المني طاهر.
وأخذ الحنفية من فركه يابساً وغسله رطباً دليلاً على نجاسته، فإن النجاسة قد تزول بالفرك كما تطهر النعلين بدلكهما في التراب، وذيل المرأة بمروره بتراب طاهر بعده، وهكذا.
ورجح المالكية أحاديث الغسل على أحاديث الفرك، ولم يروا أن النجاسة تزال بالفرك، بل لا بد من غسلها بالماء، وإليك أدلة كل فريق.
دليل من قال: إن المني نجس.
الدليل الأول:
(1549-77) ما رواه أبو يعلى من طريق ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب،
عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) مسند أبي يعلى (1611) .
(2) سبق تخريجه برقم (502) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء) .(13/173)
وجه الاستدلال:
قوله: " إنما يغسل الثوب من كذا وكذا "، وذكر منها المني، وهذا دليل على نجاسته، وقد ساقه مساق الحصر.
وأجيب:
بأن الحديث ضعيف جداً، والضعيف لا يثبت به حكم شرعي، ثم إنه مخالف لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يفركه يابساً من ثوبه، كما ثبت في الحديث الصحيح وسوف يأتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى.
الدليل الثاني:
(1550-78) ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريباً من بعض المياه، فاحتلم عمر، وقد كاد أن يصبح فلم يجد مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال عمر: واعجباً لك يا عمرو بن العاصي، لئن كنت تجد ثياباً أفكل الناس يجد ثياباً، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر (1) .
[إسناده منقطع] (2) .
_________
(1) الموطأ (1/50) .
(2) قال النووي في المجموع (1/226) : يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب، قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل، وكذا قاله غير ابن معين. الخ كلامه رحمه الله.(13/174)
وجه الاستدلال:
قال الباجي: قوله " فجعل يغسل ما رأى من الاحتلام حتى أسفر" يريد أنه تتبع ما كان في ثوبه من المني حتى أسفر الصبح، ورأى أن تطهير ثوبه الذي هو فرض، أولى من مبادرة أول الوقت الذي هو أفضل، وهذا يدل على نجاسة المني؛ لأن اشتغاله به وتتبعه له حتى ذهب أكثر الوقت وخيف عليه من ضيقه، وأنكر عليه عمرو بن العاص التأخير، وأمره باستبدال الثوب دليل على نجاسة الثوب عندهم، ولو لم يكن نجساً عندهم لما اشتغل عمر بغسله، ولو اشتغل به لقيل له: تشتغل عن الصلاة بإزالة ما لم تلزم إزالته (1) .
وأجيب:
أولاً: أن قوله " فاحتلم عمر وقد كاد أن يصبح " ظاهر أن عمر قد رأى ذلك منه قبل أن يصبح، ثم إن قوله: " حتى أسفر " ليس فيه دليل على تأخير الصلاة كثيراً، وكون أمير المؤمنين رضي الله عنه حريصاً أن ينظف ثوبه من المني غير مستغرب، فإن المني مستقذر طبعاً، لا سيما في الثوب الذي يبدو به أمام الناس، فليس فيه دليل على أن عمر يرى نجاسة المني.
ثانياً: كونه يغسل أثر الاحتلام ليس نصاً في أنه يغسل المني فقط، فأثر الاحتلام قد يكون منياً مصحوباً بمذي، والمذي نجس.
ثالثاً: على فرض أن يكون عمر بن الخطاب يرى نجاسته، وهذا من باب التنزل، فإنه قد خالفه غيره من الصحابة ممن لا يرى وجوب غسله، كعائشة رضي الله عنها، وابن عباس كما سيأتي عنه قريباً إن شاء الله تعالى، فإذا
_________
(1) المنتقى (1/103) .(13/175)
اختلف الصحابة رجعنا إلى السنة، لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فروده إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (1) ، فوجدنا أن السنة لم تحكم عليه بالنجاسة، كما سيأتي ذكر أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى.
الدليل الثالث:
استدل فقهاء الحنفية بما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعائشة: إذا وجدت المني رطباً فاغسليه، وإذا وجدته يابساً فحتيه.
[لا أصل له] (2) .
الدليل الرابع:
(1551-79) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا عمرو بن ميمون الجزري، عن سليمان بن يسار،
عن عائشة قالت: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه. ورواه مسلم بنحوه (3) .
وجه الاستدلال:
قالوا: إن غسل المني دليل على نجاسته، لأن الطاهر لا يطهر، ولا يقال:
_________
(1) النساء: 59.
(2) لم أقف عليه مسنداً في كتب السنة، وقد قال ابن الجوزي في التحقيق (1/107) : هذا الحديث لا يعرف، وإنما المنقول أنها هي كانت تفعل ذلك من غير أن يكون أمرها.
وقال الحافظ في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (1/91) : لم أجده بهذه السياقة. اهـ
وقال في التلخيص (1/33) : وأما الأمر بغسله فلا أصله له.
(3) البخاري (229) ، ومسلم (288) .(13/176)
إن غسله للنظافة؛ لأن الأصل في الغسل أنه للنجاسة، إذ هي المأمور بغسلها، ولأن في غسله إتلافاً للماء، وإتعاباً للغاسل من غير ضرورة.
وتعقب هذا من وجوه:
الأول: أن عائشة رضي الله عنها كانت تفركه يابساً، ولا تغسله، فلو كان نجساً لما اكتفت بفركه، ولوجب غسله كالمذي.
ثانياً: هذا الأمر مجرد فعل من عائشة، وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجرد لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره.
ثالثاً: إن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق وكل ما يستقذر، ولا يكون هذا كافياً في الدلالة على نجاسته، وقد حث الإسلام على النظافة، فقد يتلف الماء في إزالة ما هو طاهر كغسل الثوب لإزالة الأوساخ ونحوها، وكما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إزالة النخامة من المسجد وتطييب محلها (1) .
الدليل الخامس:
(1552-80) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا خالد ابن عبد الله، عن خالد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، أن رجلاً نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً فيصلي فيه.
وجه الاستدلال:
قال القرطبي: وهذا من عائشة يدل على أن المني نجس، وأنه لا يجزئ فيه إلا غسله، فإنها قالت: إنما: وهي من حروف الحصر، ويؤيد هذا ويوضحه
_________
(1) صحيح مسلم (3008) .(13/177)
قولها: فإن لم تر نضحت حوله، فإن النضح إنما مشروعيته حيث تحققت النجاسة، وشك في الإصابة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أصبح يغسل جنابة من ثوبه، فقال: أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر (1) .
فإن قيل: ألم تقل: ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، فيصلي فيه، ألا يدل هذا على طهارته؟
قيل: لا يدل؛ لأن النجاسة تزال بأي مزيل، والفرك في حق النجاسة اليابسة كاف في تطهيرها، كما كانت طهارة النعل بدلكه في الأرض، وسنذكره إن شاء الله في أدلة القول الثاني.
فالجواب:
أن المني سائل ثخين، ويتشرب جزء منه الثوب كالبول والمذي بخلاف النعل إذا علق به سرجين يابس فدلك زالت النجاسة بالكلية، فلو كان نجساً لما اقتصر على فركه، ولذلك فإن فالمالكية (2) ، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة (3) ،
_________
(1) المفهم (1/558) .
(2) قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/113) : ولا يجزئ عند مالك وأصحابه في المني ولا في سائر النجاسات إلا الغسل بالماء، ولا يجزئ فيه عنده الفرك، وأنكره، ولم يعرفه. اهـ
وانظر حاشية الدسوقي (1/111) ، مواهب الجليل (1/285) ، مختصر خليل (ص: 15) ، التاج والإكليل (1/285،285) ، المفهم للقرطبي (1/558) ، والمدونة (1/128) ، المنتقى شرح الموطا (1/103) .
(3) قال في بدائع الصنائع (1/85) : وإن جف -يعني: المني- فهل يطهر بالحت؟ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يطهر. وذكر الكرخي أنه يطهر. وجه رواية الحسن أن القياس أن لا يطهر في الثوب إلا بالغسل، وإنما عرفناه بالحديث. وأنه ورد في الثوب بالفرك، فبقي البدن مع أنه لا يحتمل الفرك على أصل القياس.
وجه قول الكرخي: أن النص الوارد في الثوب يكون وارداً في البدن من طريق الأولى؛ لأن البدن أقل تشرباً من الثوب، والحت في البدن يعمل عمل الفرك في الثوب في إزالة العين. انظر المبسوط (1/81) ، الاختيار لتعليل المختار (1/32) ، شرح معاني الآثار (1/53) ، البحر الرائق (1/235،236) .
وقال في الدر المختار (1/312) : ويطهر مني يابس بفرك إن طهر رأس حشفة كأن كان مستنجياً بماء. اهـ
قال ابن عابدين في حاشيته شرحاً لهذا النص: " قوله: إن طهر رأس حشفة. قيل: هو مقيد أيضاً بما إذا لم يسبقه مذي، فإن سبقه فلا يطهر إلا بالغسل. وعن هذا قال شمس الأئمة الحلواني: مسألة المني مشكلة؛ لأن كل فحل يمذي ثم يمني إلا أن يقال: إنه مغلوب بالمني، مستهلك فيه، فيجعل تبعاً. وهذا ظاهر، فإنه إذا كان كل فحل كذلك، وقد طهره الشرع بالفرك يابساً يلزم أنه اعتبر مستهلكاً للضرورة، بخلاف ما إذا بال فلم يستنج حتى أمنى لعدم الملجئ.
ثم قال: وقوله: كأن كان مستنجياً بماء: أي بعد البول، واحترز عن الاستنجاء بالحجر؛ لأنه مقلل للنجاسة لا قالع لها. اهـ
وعليه فمذهب الحنفية يكفي فرك المني من رأس الحشفة بشرط أن يكون قد استنجى بماء، فإن كان استنجاؤه بحجر، فيجب غسل المني. والله أعلم.(13/178)
واختارها أبو يوسف (1) لا يرون إزالته بالفرك، بل يوجبون الماء في تطهيره.
الدليل السادس:
قالوا: إن المني فضلة مستحيلة عن الغذاء، يخرج من مخرج البول، فكانت نجسة كالبول، ولا يرد علينا البصاق والمخاط والدمع والعرق؛ لأنها لا تخرج
_________
(1) قال في تبيين الحقائق (1/70) : وعن أبي يوسف أنه لا يجوز تطهير البدن إلا بالماء؛ لأنها نجاسة يجب إزالتها فلا يجوز بغير الماء كالحدث. اهـ
وقال في بدائع الصنائع (1/83) : وروي عن أبي يوسف أنه فرق بين الثوب والبدن، فقال في الثوب تحصل - يعني: الطهارة بكل مائع مزيل- وقال في البدن: لا تحصل إلا بالماء. اهـ
وفيه قول ثان عن أبي يوسف كقول أبي حنيفة، والله أعلم.(13/179)
من مخرج البول (1) .
ألا ترى أن الفضلات الخارجة من أعالي البدن ليست نجسة، وفي أسافله تكون نجسة.
وأجيب:
بأن حكمك بالنجاسة إما أن يكون للاستحالة عن الغذاء، أو للخروج من مخرج البول، أو لمجموع الأمرين:
فالأول باطل؛ إذ مجرد استحالة الفضله عن الغذاء لا يوجب الحكم بنجاستها، كالدمع والمخاط والبصاق.
وإن كان لخروجه من مخرج البول، فهذا إنما يفيدك أنه متنجس لنجاسة مجراه، لا أنه نجس العين وهذا فاسد أيضاً؛ فإن المجرى والمقر الباطن لا يحكم عليه بالنجاسة، وإنما يحكم بالنجاسة بعد الخروج والانفصال، ويحكم بنجاسة المنفصل لخبث عينه لا لمجراه ومقره، وقد علم بهذا بطلان الاستناد إلى مجموع الأمرين (2) .
ثم إن قياسه على جميع الخارجات بجامع إشتراكهن في المخرج ليس دليلا شرعياً، وهو منقوض بالدبر، فإنه مخرج الريح الطاهر، ومخرج الغائط النجس، وبالفم فانه مخرج النخامة والبصاق الطاهرين، ومخرج القيء النجس على قول.
الدليل السابع:
قالوا: إن المني خارج من البدن يجب الاغتسال بخروجه، فكان نجساً كدم الحيض، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة كالبول والغائط والمذي.
_________
(1) بدائع الفوائد (3/650) .
(2) المرجع السابق.(13/180)
وأجيب:
لا نسلم أن الأحداث الموجبة للطهارة كلها نجسة، فالريح طاهرة، ومع ذلك هي حدث إجماعاً، ولم يوجب كونها حدثاً أن يستنجى منها، ولا أن تغسل الثياب والأبدان بسببها.
ولو غيب ذكره في الفرج الحلال دون إنزال وجب عليه الغسل بينما لو غيب ذكره في دم خنزير أو عذرة، لم يجب عليه غسل.
فدل على إن إيجاب الغسل ليس معناه نجاسة المني، وإلا لوجب الغسل من البول والغائط، للإجماع على نجاستهما.
الدليل التاسع:
قياس المني على المذي، قال الباجي: دليلنا من جهة القياس أنه مائع تثيره الشهوة، فوجب أن يكون نجساً كالمذي (1) .
وأجيب:
بأن المني غير المذي، فالأول يتكون منه الولد الذي هو أصل الإنسان، والمذي بخلافه. وكون الجامع بين المني والمذي هو الشهوة قياس لا يصح؛ وذلك لأن الشهوة ليست هي مناط التنجيس حتى تكون علة في إلحاق الفرع بالأصل.
الدليل العاشر:
قال ابن تيمية: الاستنجاء من المني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على الدوام، ولا أعلم إخلالهم به بحال (2) . اهـ
_________
(1) المنتقى (1/103) .
(2) شرح العمدة (1/162) ، وقال أيضاً في مجموع الفتاوى (21/595) : الاستنجاء منه مستحب كما يستحب إماطته من الثوب والبدن، وقد قيل: هو واجب، كما قد قيل: يجب غسل الأنثيين من المذي، وكما يجب غسل أعضاء الوضوء إذا خرج الخارج من الفرج، فهذا كله طهارة وجبت لخارج، وإن لم يكن المقصود بها إماطته وتنجيسه بل سبب آخر، كما يغسل منه سائر البدن، فالحاصل أن سبب الاستنجاء منه ليس هو النجاسة بل سبب آخر، فقولهم: يوجب طهارة الخبث وصف ممنوع في الفرع، فليس غسله من الفرج للخبث، وليست الطهارات منحصرة في ذلك كغسل اليد عن القيام من نوم الليل، وغسل الميت والأغسال المستحبة، وغسل الأنثيين، وغير ذلك فهذه الطهارة إن قيل بوجوبها، فهي من القسم الثالث، فيبطل قياسه على البول؛ لفساد الوصف الجامع. اهـ(13/181)
(1553-81) والدليل على الاستنجاء من المني ما رواه البخاري، من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة،
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول (1) .
ويجاب عنه:
أن الاستنجاء من المني ليس كالاستنجاء من البول، وذلك أن المني يوجب غسل البشرة كلها، ومن ذلك رأس الذكر، فإن أخر غسل الذكر إلى آخر الغسل ربما أوجب هذا مس ذكره، فانتقض وضوءه، فكان غسله في بداية غسله للجنابة ليس غسلاً من نجاسة، وإنما هو رفع للحدث عن ذلك الموضع من البدن، والدليل أن الاستنجاء منه ليس كالاستنجاء من البول أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتحرز منه، فربما تلوث ثوبه به، وربما صلى بذلك الثوب، ورأته عائشة ففركته، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وسوف نذكر ذلك إن شاء الله
_________
(1) صحيح البخاري (260) ، ومسلم (317) .(13/182)
تعالى ونخرجه في أدلة القول الثاني.
دليل من قال بطهارة المني.
الدليل الأول:
الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يقال بنجاسة شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح سالم من المعارضة، ولا دليل على نجاسة المني.
الدليل الثاني:
قالوا: لو كان المني نجساً لجاء الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، خاصة أن البلوى فيه شديدة في الأبدان والثياب والفرش وغيرها، فلما لم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بغسل ما أصابهم علم أن المني طاهر، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من دم الحيض، مع أن البلوى في المني أكثر وأشد، وأمر بغسل المذي أيضاً، ولم يأمر بغسل المني، فعلم أن غسله ليس واجباً، وأن عينه ليست نجسة.
الدليل الثالث:
(1554-82) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أحمد بن جواس الحنفي أبو عاصم، حدثنا أبو الأحوص، عن شبيب بن غرقدة،
عن عبد الله بن شهاب الخولاني، قال: كنت نازلاً على عائشة، فاحتلمت في ثوبي، فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة، فأخبرتها، فبعثت إلي عائشة، فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه. قالت: هل رأيت فيهما شيئاً؟ قلت: لا. قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله - صلى الله(13/183)
عليه وسلم - يابساً بظفري.
وجه الاستدلال:
أن عائشة كانت تفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، وهذا دليل على طهارته؛ إذ لو كان نجساً لوجب غسله كسائر النجاسات.
وأجيب عنه:
أولاً: ثبت في طهارة النعل الدلك بالتراب، وكان ذلك طهارة له (1) .
فإذا كان الدلك في النعل لم يدل على طهارة الأذى الذي في النعل، لم يكن دلك المني دليلاً على طهارة المني. نعم يصح الاستدلال على طهارة المني لو أن عائشة تركت المني على ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تغسله رطباً، ولم تفركه يابساً، أو اكتفت بفركه، وهو رطب، أما ما دامت تغسله رطباً،
_________
(1) فقد روى أحمد في مسنده (3/20، 92) ، قال: يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري،
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما.
والحديث إسناده صحيح، وسبق تخريجه في كتابي آداب الخلاء، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أبي داود (385) : " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور " إلا أنه حديث ضعيف قد اضطرب إسناده على الأوزاعي، وكذلك حكم عليه ابن عبد البر بالاضطراب، وقد سبق تخريجه تبعاً للحديث السابق في نفس الكتاب المذكور. فيكفي الاحتجاج بحديث أبي سعيد.(13/184)
وتفركه يابساً فليس فيه دليل على طهارته، والله أعلم.
ورد هذا:
بأن المني سائل، وليس جامداً كالعذرة اليابسة، فدلك العذرة طهارة للنعل، لأنه لن يترك أثراً من تلك النجاسة، ولكن سلت المني من الثوب، حالة كونه رطباً، أو فركه حالة كونه يابساً لن يطهر الثوب من المني تماماً وهذا شأن الأعيان الطاهرة، وليست النجسة، وقد قدمنا مثل هذا الكلام.
ثانياً: قولكم: إن الفرك خاص بمنيه - صلى الله عليه وسلم -، ومنيه طاهر كسائر فضلاته عليه الصلاة والسلام.
يقال: لا نسلم أنه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفضلاته - صلى الله عليه وسلم - كسائر المسلمين، ولا يقدح هذا في ذاته الشريفة، فهو بشر كسائر البشر إلا أنه يوحى إليه {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} (1) ، وكان يستنجي من البول والغائط، فنص على بشريته - صلى الله عليه وسلم -، وأكدها بقوله: " مثلكم " والفرق بينه وبين غيره ما ذكره تعالى بقوله: "يوحى إلي ".
وعلى تقدير كونه من الخصائص، فإن منيه كان من جماع، فيخالط مني المرأة، فلو كان نجساً لم يكتف فيه بالفرك (2) .
الدليل الرابع:
بأنه ورد أن النبي كان يسلت المني من ثوبه، وهو رطب، من غير غسل،
_________
(1) الكهف: 110.
(2) اختلف الفقهاء في فضلاته - صلى الله عليه وسلم -، فالجمهور، وهو قول للشافعية على أن فضلاته طاهرة.
وقيل: فضلاته كفضلات غيره من سائر المسلمين، وهو قول للشافعية، وهو الصواب.
انظر حاشية ابن عابدين (1/318) ، حاشية الدسوقي (1/55) ، الشرح الصغير (1/75) ، مغني المحتاج (1/78، 79) ، مطالب أولي النهى (1/71) .(13/185)
وهذا يدل على طهارته؛ لأن سلت الرطب لا يزيل العين بالكلية، بخلاف ما قد يقال في فرك اليابس.
(1555-83) فقد روى أحمد من طريق عكرمة بن عمار، عن عبد الله ابن عبيد بن عمير،
عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه.
[إسناده حسن إن شاء الله] (1) .
الدليل الخامس:
ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما صلى، وهو في ثوبه، فتحته عائشة من ثوبه، وهو في الصلاة، وهذا فيه إشارة إلى أن إزالته من باب الاستقذار، لأنه لم يكن يتفقد ثوبه قبل صلاته.
(1556-84) فقد روى ابن خزيمة، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا إسحاق، يعني: الأزرق، قال: حدثنا محمد بن قيس، عن محارب بن دثار،
عن عائشة، أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي (2) .
[رجاله ثقات] .
الدليل السادس:
قالوا: كل ما لا يمكن الاحتراز عن ملابسته معفو عنه، ومعلوم أن المني
_________
(1) سبق تخريجه انظر رقم (511) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء) .
(2) صحيح ابن خزيمة (290) ، وانظر إتحاف المهرة (22719) .(13/186)
يصيب أبدان الناس وثيابهم وفرشهم بغير اختيارهم أكثر مما يلغ الهر في آنيتهم، فهو طواف الفضلات، بل قد يتمكن الإنسان من الاحتراز من البصاق والمخاط المصيب ثيابه، ولا يقدر على الاحتراز من مني الاحتلام والجماع، وهذه المشقة الظاهرة توجب طهارته لو كان المقتضي للتنجيس قائماً، ألا ترى أن الشارع خفف في النجاسة المعتادة فاجتزأ فيها بالجامد مع أن إيجاب الاستنجاء عند وجود الماء أهون من إيجاب غسل الثياب من المني لا سيما في الشتاء في حق الفقير، ومن ليس له إلا ثوب واحد (1) .
الدليل السابع:
(1557-85) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار وابن جريج، كلاهما يخبر عن عطاء،
عن ابن عباس أنه قال في المني يصيب الثوب: أمطه عنك. قال أحدهما: بعود أو إذخرة، وإنما هو بمنزلة البصاق أو المخاط (2) .
[إسناده صحيح، وروي مرفوعاً ولم يصح] (3) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/592) .
(2) الأم (1/56) .
(3) وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/159) من طريق عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني عطاء به.
وأخرجه الطحاوي (1/53) من طريق عبد الرحمن: هو ابن زياد، ثنا شعبة، عن عمرو ان دينار به، موقوفاً.
وأخرجه الطبراني في الكبير (11/158) رقم 11321، والدارقطني (1/124) والبيهقي في السنن (2/418) من طريق إسحاق الأزرق، نا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، عن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً.
وابن جريج وعمرو بن دينار أثبت من طريق ابن أبي ليلى، فإنه من رواية شريك عن ابن أبي ليلى، وكلاهما في حفظه شيء.
على أن الخطأ قد لا يكون من قبل ابن أبي ليلى، فقد رواه الدارقطني (1/125) من طريق وكيع، ثنا ابن أبي ليلى به موقوفاً.
قال الدارقطني (1/124) : " لم يرفعه غير إسحاق الأزرق، عن شريك، عن محمد بن عبد الرحمن: هو ابن أبي ليلى، ثقة في حفظه شيء ".
قال البيهقي في السنن (2/418) : ورواه وكيع، عن ابن أبي ليلى موقوفاً على ابن عباس، وهو الصحيح.
وقال أيضاً (2/518) : هذا صحيح عن ابن عباس من قوله، وقد روي مرفوعاً ولا يصح رفعه.
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/590) : وأما رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنكر باطل لا أصل له.
وقال أيضاً (21/591) : أهل نقد الحديث والمعرفة به ليسوا يشكون في أن هذه الرواية وهم. وانظر في مراجعة طرق الحديث: إتحاف المهرة (8068) .(13/187)
الدليل الثامن:
قال الشافعي في الأم: بدأ الله جل وعز خلق آدم من ماء وطين، وجعلهما معاً طهارة، وبدأ خلق ولده من ماء دافق، فكان في ابتدائه خلق آدم من الطهارتين اللتين هما الطهارة دلالة أن لا يبدأ خلق غيره إلا من طاهر لا من نجس.
وأجيب:
بأن قولكم إن المنى مبدأ خلق البشر، فكان طاهراً كالتراب غريب، فالتراب وضع طهوراً ومساعداً للطهور في الولوغ، ويرفع الحدث أو حكمه، فأين ما يتطهر به إلى ما يتطهر منه؟ على أن الاستحالات تعمل عملها، فأين الثواني من المبادىء، وهل الخمر إلا ابنة العنب، والمني إلا المتولد من الأغذية(13/188)
في المعدة ذات الإحالة لها إلى النجاسة، ثم إلى الدم، ثم إلى المني (1) .
ورد هذا الجواب:
أما كون المني يتطهر منه، فقد أجبنا على هذا، وأن هذا لا يقتضي تنجيسه.
وأما اعتبار الإحالة، فهذا صحيح، وهو حجة عليكم، فالاستحالة تقلب الطيب إلى خبيث، كالغذاء ينقلب إلى عذرة، وتقلب الخبيث إلى طيب، كاللبن من دم الحيض، فلو اعتبرنا الإحالة لحكمنا بطهارة المني، فإن كان المني قد استحال من الدم، فالدم على الصحيح طاهر، وسوف نذكر الخلاف فيه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وإن كان قد استحال من البول والغائط، فأين الغائط النتن من المني ذو الرائحة الطيبة، فلو أعطينا الاستحالة حكمها لحكمنا بطهارة المني، والله أعلم.
الراجح من الخلاف.
القول بطهارة المني قول قوي جداً، ويكفي حجة لهذا القول أن الشارع لم يأت منه أمر بغسله، ولو كان نجساً لجاء الأمر بغسله، والتوقي منه كما جاء الأمر بالاستتار من البول، وغسل دم الحيض، وغسل المذي، وغيرها من سائر النجاسات، ولا مع من قال بنجاسته إلا مجرد أن عائشة كانت تغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفركه إذا كان يابساً، ولو كان الفاعل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ذلك حجة على نجاسة المني؛ لأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - المجردة لا تقتضي الوجوب، والله أعلم.
_________
(1) بدائع الفوائد (3/639) .(13/189)
[صفحة فارغة](13/190)
الفرع الأول
في المني الخارج بعد الاستجمار
إذا خرج المني، وقد سبقه استجمار، فاختلف العلماء القائلون بطهارة المني هل يبقى المني طاهراً أم يتنجس؛ لاختلاطه بأثر البول المتبقي بعد الاستجمار؟.
فقيل: يتنجس، وإليه ذهب الشافعية (1) .
وقيل: لا يؤثر ذلك، ويبقى المني طاهراً، وهو مذهب الحنابلة (2) .
دليل من قال بنجاسته:
هذا القول مركب من مقدمة ونتيجة.
المقدمة: أن الاستجمار لا يطهر المحل، وإنما يخفف النجاسة، فأثر النجاسة الباقية على المحل معفو عنها.
النتيجة: إذا اختلط أثر البول بالمني الخارج تنجس المني، ولو كان الالتقاء في الباطن لم يضر، أما في الخارج فإنه يُنَجِس المني.
وحتى القائلون بنجاسة المني كالحنفية يرون أن طهارته بالفرك إذا كان يابساً، فإذا سبقه استجمار تعين الماء في تطهيره، ولا يجزئ الفرك، ولو كان يابساً للعلة نفسها.
وقال في الدر المختار: ويطهر مني يابس بفرك إن طهر رأس حشفة كأن كان مستنجياً بماء (3) . اهـ
_________
(1) مغني المحتاج (1/80) .
(2) مجموع الفتاوى (21/606) ، مطالب أولى النهى (1/235) .
(3) الدر المختار (1/312) .(13/191)
قال ابن عابدين في حاشيته شرحاً لهذا النص: " قوله: إن طهر رأس حشفة. قيل: هو مقيد أيضاً بما إذا لم يسبقه مذي، فإن سبقه فلا يطهر إلا بالغسل. وعن هذا قال شمس الأئمة الحلواني: مسألة المني مشكلة؛ لأن كل فحل يمذي ثم يمني إلا أن يقال: إنه مغلوب بالمني، مستهلك فيه، فيجعل تبعاً. وهذا ظاهر، فإنه إذا كان كل فحل كذلك، وقد طهره الشرع بالفرك يابساً يلزم أنه اعتبر مستهلكاً للضرورة، بخلاف ما إذا بال فلم يستنج حتى أمنى لعدم الملجئ.
ثم قال: وقوله: كأن كان مستنجياً بماء: أي بعد البول، واحترز عن الاستنجاء بالحجر؛ لأنه مقلل للنجاسة لا قالع لها. (1) اهـ
وعليه فمذهب الحنفية يكفي فرك المني من رأس الحشفة بشرط أن يكون قد استنجى بماء، فإن كان استنجاؤه بحجر، فيجب غسل المني. والله أعلم.
والعجيب: أن الحنفية لا يرون الاستنجاء واجباً إذا لم يتجاوز الخارج موضعه المعتاد، فكيف أوجبوا غسل المني من رأس الحشفة إذا كان قد استجمر!!
دليل الحنابلة:
أن غالب الصحابة كانوا يستجمرون بالحجارة، حتى إن بعضهم أنكر استعمال الماء في إزالة النجاسة، وقد قدمنا ذلك في كتاب الاستنجاء، ومع ذلك لم يأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسل المني، ولو كان غسله واجباً لبينه - صلى الله عليه وسلم - لأمته.
كما أن الصحيح أن الاستجمار مطهر، وأما أثر الاستنجاء،
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/312) .(13/192)
فقيل: نجس، معفو عن يسيره.
وقيل: طاهر (1) . وحكي الإجماع على أنه معفو عنه.
قال ابن قدامة: وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع:
أحدها: محل الاستنجاء، فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه.
واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه.
ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه (2) .
وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه (3) .
وقد ذكرنا الأدلة على أن الاستجمار مطهر على الصحيح في كتاب الاستنجاء.
الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين نرى أن ما ذهب إليه الحنابلة من أن المني طاهر، ولو اختلط في أثر الاستجمار أقوى حجة، والله أعلم.
_________
(1) الإنصاف (1/109) ، المغني (1/511) .
(2) المغني (1/511) .
(3) كشاف القناع (1/192) .(13/193)
[صفحة فارغة](13/194)
الفرع الثاني
في طهارة ماء المرأة
اختلف العلماء القائلون بطهارة مني الرجل، اختلفوا في حكم مني المرأة.
فقيل: إن ماءها طاهر كالرجل، وهو الراجح في مذهب الشافعية (1) ، ومذهب الحنابلة (2) . والأدلة على طهارته هي الأدلة على طهارة مني الرجل وقد سبق ذكرها في المسألة السابقة.
وقيل: إن ماءها نجس، وهو قول في مذهب الشافعية والحنابلة (3) ؛ لأن رطوبة فرجها نجسة.
والصواب الأول، وسوف يأتي الكلام على رطوبة فرج المرأة، ولو قدر أن رطوبة فرج المرأة نجسة فإن اختلاط الماء في الباطن لا يضر.
_________
(1) المجموع (2/572) .
(2) المغني (1/517) .
(3) المجموع (2/572) ، الإنصاف (1/351) ، المغني (1/517) ولم نتعرض لمذهب الحنفية والمالكية؛ لأنهم يرون نجاسة المني مطلقاً من الرجل والمرأة، وقد ذكرنا الإحالة على مذهبهم في المسألة التي قبل هذه، والله أعلم.(13/195)
[صفحة فارغة](13/196)
المبحث الثاني
في مني الحيوان
اختلف العلماء في مني الحيوان
فقيل: نجس مطلقاً من غير فرق بين مأكوله وغير مأكوله، وهو مذهب الحنفية (1) ، والقول المعتمد في مذهب المالكية (2) ، وقول للشافعية (3) .
وقيل: بنجاسة مني الكلب والخنزير أو فرع أحدهما، وطهارته من سائر الحيوانات مطلقاً، وهو الأصح عند الشافعية (4) .
وقيل: إن كان المني من مأكول اللحم فهو طاهر، وإن كان من محرم الأكل فهو نجس. وهذا قول في مذهب المالكية (5) ، وقول في مذهب الشافعية (6) ، والمشهور في مذهب الحنابلة (7) .
_________
(1) البناية على الهداية (1/720) ، حاشية ابن عابدين (1/315) ، بدائع الصنائع (1/60- 61) .
(2) المدونة (1/23) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/55، 55) ، منح الجليل (1/53) ، حاشية الدسوقي (1/56) ، الخرشي (1/92) .
(3) روضة الطالبين (1/17) .
(4) مغني المحتاج (1/79، 80) ، نهاية المحتاج (1/225) ، روضة الطالبين (1/17) .
(5) الخرشي (1/92) ، وعلل الطهارة بطهارة بول ما يؤكل لحمه، فإذا كان بوله طاهراً كان منيه كذلك.
(6) روضة الطالبين (1/17) .
(7) بلغة الساغب (ص: 37) ، الإنصاف (1/339) ، المستوعب (1/315) ، المبدع (1/338) ، الفروع (1/257) الإقناع (1/63) .(13/197)
دليل من قال بنجاسة مني الحيوان مطلقاً.
الدليل الأول:
كل دليل استدلوا به على نجاسة مني الآدمي استدلوا به على نجاسة مني الحيوان، وقد سبقت أدلة الحنفية والمالكية على نجاسة مني الآدمي في مسألة مستقلة.
الدليل الثاني:
أن هذا المني نجس لأنه يجري مجرى البول.
وقد أجبنا على هذا الدليل في مسألة مني الآدمي.
الدليل الثالث:
أن أصله من الدم، والدم نجس، فيكون نجساً تبعاً لأصله.
وقد أجيب عن هذا في الأدلة السابقة.
دليل من قال بطهارة مني كل حيوان عدا الكلب والخنزير:
لما كان مذهب الشافعية طهارة كل حيوان عدا الكلب والخنزير جعلوا منيه تبعاً لبدنه، فما كان من حيوان طاهر عندهم كان منيه كذلك، وما كان من حيوان نجس عندهم كان منيه نجساً.
والشافعية لم يجعلوا حكم المني حكم البول؛ لأنهم يقولون بنجاسة البول مطلقاً من كل حيوان وطير، وإنما جعلوا العبرة لبدن الحيوان.
دليل من فرق بين مني الحيوان المأكول وغير المأكول.
الدليل الأول:
قالوا: إن الحيوان المأكول بوله طاهر فكذلك منيه.
لكن يشكل على هذا أنهم حكموا على بول الآدمي بالنجاسة، وحكموا على منيه بأنه طاهر، فإن كان المني تبعاً للبول فلماذا قالوا بطهارة مني الآدمي.
الدليل الثاني:
القياس على لبن الحيوان، فمادام أن لبن الحيوان المأكول طاهر، فكذلك منيه.(13/198)
الذي يظهر لي أن المني تبعاً لحكم الحيوان، فإذا كان الحيوان طاهراً في الحياة فإن منيه طاهر، لأن المني فضلة كسائر فضلاته، فإذا حكمنا بالطهارة لعرق الحيوان وريقه فكذلك منيه لا يخرج عن سائر فضلاته.
وإن حكمنا لعرقه وريقه بالنجاسة كان منيه أولى بهذا الحكم.
ولأن كل حيوان منيه أصل له، فإذا كان طاهراً حال حياته، فيلزم أن يكون منيه كذلك، والله أعلم.
وقد حكمنا بالطهارة لكل حيوان حلال الأكل.
كما حكمنا بالطهارة لكل حيوان يشق التحرز منه كالبغل والحمار والهر ونحوها.
وقد حكمنا بالنجاسة لكل حيوان محرم الأكل كالكلب والخنزير وسباع البهائم والطير، والله أعلم.(13/199)
[صفحة فارغة](13/200)
المبحث الثالث
في المذي
اختلف أهل العلم في نجاسة المذي،
فقيل: نجس، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة.
وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (4) .
دليل من قال: إن المذي نجس.
الدليل الأول:
(1558-86) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى -ويكنى أبا يعلى- عن ابن الحنفية،
عن علي قال كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال يغسل ذكره ويتوضأ، ورواه البخاري بنحوه (5) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/58) ، شرح فتح القدير (1/72) ، المبسوط (1/67) .
(2) مواهب الجليل (1/285) ، الخرشي (1/159) ، حاشية الدسوقي (1/112) ، فتح البر بترتيب التمهيد (3/323) .
(3) المجموع (2/165) ، روضة الطالبين (1/67) ، مغني المحتاج (1/79) .
(4) في المبدع شرح المقنع (1/159) : وعن أحمد أن المذي طاهر كالمني، اختاره أبو الخطاب في خلافه؛ لأنه خارج بسبب الشهوة. اهـ وانظر المغني (1/513) ، والإنصاف (1/351) .
(5) صحيح مسلم (303) ، وصحيح البخاري (269) .(13/201)
الدليل الثاني:
(1559-87) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبيه،
عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الاغتسال منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: إنما يجزئك منه الوضوء. فقلت: كيف بما يصيب ثوبي؟ فقال يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتمسح بها من ثوبك حيث ترى أنه أصاب (1) .
[إسناده حسن] (2) .
_________
(1) المسند (3/585) .
(2) رجاله ثقات غير محمد بن إسحاق، فإنه صدوق، فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى.
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/88) 972، وأبو داود (210) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1913) ، والطبراني في الكبير (5595) ، وابن خزيمة (291) ، وابن حبان كما في الموارد (250) عن إسماعيل بن علية به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (7/320) ، والدارمي (1/185) والطبراني (5595) من طريق يزيد بن هارون.
وأخرجه الترمذي (115) ، وابن ماجه (506) من طريق عبدة بن سليمان.
وأخرجه ابن ماجه (506) والطبراني في الكبير (5595) من طريق عبد الله بن المبارك.
وأخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب (568) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/57) والطبراني في الكبير (5593) من طريق حماد بن زيد.
وأخرجه ابن خزيمة (291) من طريق محمد بن أبي عدي.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (5196) من طريق العلاء بن هارون، كلهم عن محمد ابن إسحاق به.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق في المذي مثل هذا، وقد اختلف اهل العلم في المذي يصيب الثوب، فقال بعضهم: لا يجزئ إلا الغسل، وهو قول الشافعي وإسحاق.
وقال إسحاق: يجزئه النضح، وقال أحمد: أرجو أن يجزئه النضح بالماء.
انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (2/543) ، تحفة الأشراف (4664) ، إتحاف المهرة (6163) .(13/202)
الدليل الثالث:
(1560-88) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حزام بن حكيم،
عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وإنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (211) .
(2) في إسناده العلاء بن الحارث، قد اختلط، ولم يتميز لي ما سمع منه قبل الاختلاط ممن سمع منه بعد، كما أن معاوية بن صالح صدوق له أوهام، وقد تفرد به عن العلاء، وقد ضعفه الحافظ في التلخيص (1/117) .
والحديث أخرجه ابن الجارود (7) ، والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/111) ، والطبراني في الكبير (3/158) رقم: 1989، والبيهقي في السنن الكبرى (2/511) ، والمقدسي في الأحاديث المختارة (9/512) وابن عساكر في تاريخ دمشق (29/50) من طريق معاوية بن صالح به.
وأخرجه أحمد (4/342) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (865) ، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (29/49) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح به. بطوله وذلك بذكر السؤال عما يوجب الغسل، وعن الصلاة في المسجد، وعن مؤاكلة الحائض.
وأخرجه ابن ماجه (651) من طريق عبد الرحمن بن مهدي به، مقتصراً على مؤاكلة الحائض.
وأخرجه ابن ماجه أيضاً (1378) وابن خزيمة (1202) من طريق ابن مهدي به، بالاقتصار على الصلاة في المسجد.
وأخرجه أبو داود (212) ، والدارمي (1075) من طريق الهيثم بن حميد، حدثنا العلاء ابن الحارث به، بالسؤال عن مباشرة الحائض ومؤاكلتها فقط، واقتصر الدارمي على مؤاكلة الحائض.
وانظر مراجعة بعض طرق الحديث في إتحاف المهرة (7175، 7176) ، أطراف المسند (3/27) ، تحفة الأشراف (5328، 5326) .(13/203)
الدليل الرابع:
(1561-89) ما رواه ابن ماجه، من طريق مصعب بن شيبة، عن أبي حبيب بن يعلى ابن منية،
عن ابن عباس أنه أتى أبي بن كعب ومعه عمر، فخرج عليهما، فقال: إني وجدت مذياً، فغسلت ذكري، وتوضأت، فقال عمر: أو يجزئ ذلك؟ قال: نعم قال: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (507) .
(2) أبو حبيب بن يعلى، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/359) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/575) .
وقال الذهبي في الميزان: تفرد عنه مصعب بن شيبة.
وقال الحافظ في التقريب، وفي اللسان (7/558) : مجهول.
ومصعب بن شيبة، فيه كلام، فقد جاء في ترجمته:
قال أبو حاتم الرازي: لا يحمدونه، وليس بالقوي. الجرح والتعديل (8/305) .
وقال أحمد: روى أحاديث مناكير. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين: ثقة. المرجع السابق.
وقال النسائي: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (10/157) .
وقال في موضع آخر: في حديثه شيء. المرجع السابق.
وقال الدارقطني: ليس بالقوي ولا بالحافظ. المرجع السابق.
والحديث في مصنف ابن أبي شيبة (1/87) رقم 969.(13/204)
الدليل الخامس:
(1562-90) روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال في المذي والودي والمني: من المني الغسل، ومن المذي والودي الوضوء، يغسل حشفته ويتوضأ (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل السادس:
حكى الإجماع على نجاسته، وعلى وجوب الوضوء.
قال ابن عبد البر: وأما المذي المعهود المتعارف عليه، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة، أو لطول عزبة، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا، وعليه وقع الجواب، وهو موضع إجماع لا
_________
(1) المصنف (608) .
(2) ورواه ابن أبي شيبة (1/89) رقم 985، حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان به. وانظر زيادة تخريج لهذا الأثر في رقم (392) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء) .(13/205)
خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، وإيجاب غسله لنجاسته (1) .
وقال النووي: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي (2) .
وسبق لنا أن الإمام أحمد في رواية عنه يرى أن المذي طاهر، فالخلاف محفوظ.
دليل من قال بطهارته:
الدليل الأول:
قالوا: إن المذي خارج بسبب الشهوة، فيكون طاهراً (3) .
وكأن هذا القول قاسه على المني، ولو صح القياس لوجب فيه الغسل، فلما لم يجب فيه الغسل علم أن قياسه على المني لا وجه له.
الدليل الثاني:
(1563-91) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب،
عن عمر، قال: إني لأجد المذي على فخذي ينحدر وأنا على المنبر ما أبالي بذلك (4) .
[إسناده منقطع] (5)
_________
(1) الاستذكار (1/199) .
(2) المجموع (2/571) .
(3) المبدع (1/159) .
(4) المصنف (613) .
(5) في سماع ابن المسيب من عمر خلاف بين أهل العلم.
وقد روى مالك في الموطأ (1/51) عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال: إني لأجد ينحدر مني مثل الخزيزة، فإذا وجد أحدكم، فليغسل ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة، يعني: المذي.
وهذا إسناد صحيح، وهو أصح من الإسناد السابق.(13/206)
الدليل الثالث:
ربما يؤخذ من كونه ورد في بعض الأحاديث النضح في طهارته ربما يفهم بعضهم منه أن ذلك دليل على طهارته، كما قالوه في بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، وليس في ذلك ما يدل على طهارته؛ لأنه لو كان طاهراً لما وجب في حقه النضح، مع أن النضح مختلف فيه، هل المقصود به الغسل، أو مجرد الرش، وهل ذلك على البدن أم في الثياب خاصة، وسوف يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في كيفية تطهير النجاسات في باب مستقل بلغنا الله إياه بمنه وكرمه ورحمته.(13/207)
[صفحة فارغة](13/208)
المبحث الرابع
في نجاسة الودي
اختلف العلماء في حكم الودي،
فقيل: الودي نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) .
وقيل: طاهر، وهي رواية عن أحمد (2) .
الدليل على نجاسة الودي:
الدليل الأول:
(1564-92) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن حصين بن قبيصة الفزاري،
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/60) ،
في مذهب المالكية: جاء في المدونة (1/121) : قال مالك: المذي عندنا أشد من الودي؛ لأن الفرج يغسل عندنا من المذي، والودي عندنا بمنزلة البول. اهـ
واختلف أصحاب مالك في فهم عبارة إمامهم:
فقيل: يحتمل قول مالك المذي أشد من الودي، أنه يجب غسل الذكر كله، بخلاف الودي، فيغسل رأس الحشفة منه.
وقال بعضهم: معنى المذي أشد من الودي؛ لأن الودي يستنجى منه بالأحجار، والمذي لا بد من غسله. انظر التمهيد لابن عبد البر (21/205) ، الخرشي (1/159) ، الفواكه الدواني، حاشية العدوي (1/133) ، وفي مواهب الجليل (1/105) أن شاس نقل الإجماع على نجاسة الودي. اهـ وحاشية الدسوقي (1/56) .
وقال الشافعي في الأم (1/72) : كل ما خرج من ذكر من رطوبة بول، أو مذي، أو ودي، أو ما لا يعرف، أو يعرف، فهو نجس كله ما خلا المني. اهـ
بل قال النووي في المجموع (2/571) : أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي. اهـ
وانظر الفروع (1/258) ، الإنصاف (1/351) ، كشاف القناع (1/193) .
(2) المبدع (1/259) ، الإنصاف (1/351) .(13/209)
عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكانت تحتي بنت رسول الله صلىالله عليه وسلم، فكنت أستحي أن أسأله، فأمرت رجلاً فسأله فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل (1) .
[رجاله ثقات إلا أن ذكر الودي فيه غير محفوظ] (2) .
الدليل الثاني:
(1565-93) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (3) .
[إسناده صحيح] (4) .
دليل من قال: إن الودي طاهر.
قالوا: لا نعلم في الكتاب، ولا في السنة المرفوعة نصاً بأن الودي نجس، وإذا كان كذلك فالأصل طهارته، ولا يكفي في كونه يخرج من مخرج البول
_________
(1) المصنف (1/89) .
(2) وأخشى أن تكون لفظة الودي تحرفت عن المني، فتكون العبارة وإذا رأيت المني فضخ الماء فاغتسل، خاصة أن الودي مجمع على أنه لا يوجب الغسل، ولا يوجب الغسل شيء سوى المني، وقد وقفت على رواية أبي بكر بن أبي شيبة من رواية ابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة (2/513) فقد روى الحديث من طريق ابن أبي شيبة، وقال: وإذا رأيت نضح الماء فاغتسل. وهذا أرجح.
وانظر تخريج الحديث برقم (399) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء) .
(3) مصنف ابن أبي شيبة (1/89) رقم 985.
(4) وسبق تخريجه، انظر كتابي آداب الخلاء، رقم (392) .(13/210)
حتى يعطى حكمه، فهذا المني يخرج من نفس المخرج، ومع ذلك فهو طاهر، وإذا كان يخرج عقب البول، كان الاستنجاء منه بسبب البول، لا بسببه.
قلت: لا شك أن أكثر الأقوال على أن الودي يخرج عقب البول، لكن قال بعض الفقهاء: إن خروج الودي بعد البول غالب لا دائم، فقد يخرج بعد حمل شيء ثقيل، وقد يخرج وحده بلا سبب (1) .
_________
(1) قال في حاشية ابن عابدين (1/165) : الودي ماء ثخين أبيض كدر، يخرج عقب البول.
وقال في الفتاوى الهندية (1/10) : الودي بول غليظ. وقيل: ماء يخرج بعد الاغتسال من الجماع وبعد البول. كذا في التبيين. اهـ
وقال في شرح خليل (1/152) : واعلم أن ودي المرأة يخرج أيضا بأثر البول إلا أنه حينئذ لا حكم له، نعم يكون ناقضاً فيما إذا خرج بأثر سلس بول، أو خرج عند حمل شيء ثقيل. اهـ(13/211)
[صفحة فارغة](13/212)
فرع
مذي الحيوان غير الآدمي
المذي تبع للبول، فماكان بوله نجساً كان مذيه نجساً، وما كان بوله طاهراً فإن مذيه لن يكون أخبث من بوله، فحكمهما واحد.
فالإنسان حين كان بوله نجساً بالإجماع كان مذيه نجساً، وكذلك الودي منه.
وينبغي أن يكون حكم المذي من الحيوان حكم البول، وقد فصلنا مسألة بول الحيوان في مسألة مستقلة.(13/213)
[صفحة فارغة](13/214)
الفصل الثالث
في حكم الدم
المبحث الأول
في نجاسة دم الحيض
نقل الإجماع على نجاسة دم الحيض بعض الفقهاء، وإليك النقول عن بعضهم.
قال النووي بعد أن ساق حديث أسماء في الأمر بغسل دم الحيض، قال:
" والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، لكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم... الخ كلامه رحمه الله (1) .
قال الشوكاني: "واعلم أن دم الحيض نجس بإجماع المسلمين كما قال النووي" (2) .
مستند الإجماع على نجاسة دم الحيض.
مستند الإجماع أدلة كثيرة، نسوق منها ما يلي:
الدليل الأول:
(1566-94) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت
_________
(1) المجموع (2/576) .
(2) نيل الأوطار (1/58) .(13/215)
امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت:
أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (1) .
قال الحافظ رحمه الله: (تحته) : أي تحكه. كذا رواه ابن خزيمة، والمراد بذلك إزالة عينه.
(ثم تقرصه) : أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها، ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه.
(وتنضحه) قال الخطابي: أي تغسله. وقال القرطبي: المراد به الرش؛ لأن غسل الدم استفيد من قوله: " تقرصه بالماء ". وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب. قال الحافظ: فعلى هذا فالضمير في قوله: تنضحه يعود على الثوب، بخلاف تحته. فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل. ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئاً؛ لأنه إن كان طاهراً فلا حاجة إليه، وإن كان متنجساً لم يطهر بذلك. فالأحسن ما قاله الخطابي (2) .
قلت: النضح يأتي في اللغة بمعنى الغسل، كما يأتي بمعنى الرش.
قال ابن الأثير: قد يرد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (3) .
(1567-95) قلت: الحديث قد رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع ومحمد بن بشر، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، قال:
_________
(1) البخاري (227) ، ومسلم (291) .
(2) الفتح بتصرف يسير (1/539) .
(3) النهاية في غريب الحديث (5/70) .(13/216)
كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه (1) .
قال السيوطي في شرحه للحديث ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (2) .
وقال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون أراد بالنضح الغسل؛ لأن النضح قد يسمى غسلاً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبها يعني يضرب البحر بجانبها. (3) اهـ.
الدليل الثاني:
(1568-96) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي.
قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (4) .
وجه الاستدلال من الحديث:
قوله: " فاغسلي عنك الدم " أمر، والأصل فيه الوجوب إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة هنا.
_________
(1) رواه مسلم (1972) ، وهو في الصحيحين إلا أنه بلفظ: " وهو يمسح الدم عن وجه ".
(2) الديباج (5/502) .
(3) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/53) ، وقد سبق تخريجه، وإسناده ضعيف.
(4) رواه البخاري (228) ، ورواه مسلم (333) دون قوله وقال أبي... الخ(13/217)
الدليل الثالث:
(1569-97) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، حدثه عن أبيه، عن عائشة قالت:
كانت إحدانا تحيض، ثم تقترص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله، وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه (1) .
الدليل الرابع:
(1570-98) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدي بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت:
سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع (2) واغسليه بالماء والند وسدر.
_________
(1) البخاري (308) .
(2) قال ابن حجر في التلخيص (1/56) : " قوله بصلع ضبطه ابن دقيق العيد بفتح الصاد المهملة وإسكان اللام ثم عين مهملة، وهو: الحجر، ووقع في بعض المواضع بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام، ولعله تصحيف؛ لأنه لا معنى يقضي تخصيص الضلع بذلك، كذا قال، لكن قال الصاغاني في العباب في مادة ضلع بالمعجمة: وفي الحديث حتيه بضلع، قال ابن الأعرابي: الضلع ههنا العود الذي فيه اعوجاج، وكذا ذكره الأزهري في المادة المذكورة وزاد عن الليث، قال: الأصل فيه ضلع الحيوان، فسمي به العود الذي يشبهه. قوله ثم اقرصيه وقع في حديث عائشة في الصحيحين فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء وقوله فلتقرصه بفتح التاء وضم الراء ويجوز كسرها وروي بفتح القاف وتشديد الراء أي فلتقطعه بالماء ومنه تقريص العجين، قاله أبو عبيد، وسئل الأخفش عنه فضم بإصبعيه الإبهام والسبابة وأخذ شيئا من ثوبه بهما وقال هكذا يفعل بالماء في موضع الدم ".(13/218)
[إسناده صحيح] (1) .
قال السندي: حكيه بضلع بكسر معجمة وفتح لام: أي بعود وفي الأصل واحد أضلاع الحيوان أريد به العود لشبهه به، وقد تسكن اللام تخفيفا. قال الخطابي: وإنما أمر بحكه لينقلع المتجسد منه، اللاصق بالثوب، ثم يتبعه الماء ليزيل الأثر، وزيادة السدر للمبالغة، وإلا فالماء يكفي، وذكر الماء لأنه المعتاد ولا يلزم منه أن غيره من المائعات لا تجزى كيف ولو كان لبيان اللازم لوجب السدر أيضاً، ولا قائل به (2) .
الدليل الخامس:
(1571-99) ما رواه أحمد، قال: ثنا حسن، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمن الحبلي حدثه،
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها طرقتها الحيضة من الليل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فأشارت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب، وفيه دم فأشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة اغسليه، فغسلت موضع الدم ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الثوب فصلى فيه (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المسند (6/355) ، وقد سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم: 205.
(2) حاشية السندي على النسائي (1/155) .
(3) المسند (6/66) .
(4) الإسناد فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، إلا أنه صالح في الشواهد.
وفيه حيي بن عبد الله، مختلف فيه.
فقال أحمد: حيي أحاديثه مناكير. تهذيب الكمال (6/588) .
وقال البخاري: فيه نظر انظر التاريخ الكبير (3/76) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. انظر الضعفاء والمتروكين له (162) .
وقال أبو أحمد ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة. انظر الكامل في الضعفاء (2/559) وتهذيب الكمال (6/588) .
وذكره ابن حبان في الثقات (6/235) . وفي التقريب: صدوق يهم.
وشيخ أحمد هو الحسن بن موسى الأشيب، ثقة. انظر ترجمته في الجرح والتعديل (3/37) ، والثقات (8/170) ، والتهذيب (2/323) .
وانظر موضع الحديث من إتحاف المهرة (22981) ، أطراف المسند (9/286) .(13/219)
المبحث الثاني
في نجاسة دم الإنسان من عرق ونحوه
اختلف العلماء في نجاسة الدم،
فقيل: إنه نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) ،
إلا أنهم يرون العفو عن يسيره، على خلاف بينهم في مقدار اليسير:
فقيل: المرجع في تقدير القليل والكثير إلى العرف، فما اعتبره الناس كثيراً فهو كثير، وما عده الناس قليلاً فهو قليل، وهو قول في مذهب الحنفية (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) .
_________
(1) قال مالك في المدونة (1/20) : " في الرجل يصلي وفي ثوبه دم يسير من دم حيضة أو غيره، فيراه وهو في الصلاة، قال: يمضي على صلاته ولا يبالي ألا ينزعه، ولو نزعه لم أر به بأساً، وإن كان دماً كثيراً كان دم حيضة أو غيره نزعه، واستأنف الصلاة من أولها بإقامة، ولا يبني على شيء مما صلى.... الخ آخر كلامه رحمه الله.
وقال الشافعي في الأم (1/67) : وفي هذا دليل على أن دم الحيض نجس، وكذا كل دم غيره".
وقال ابن تيمية: لما سئل أحمد الدم والقيح عندك سواء، قال: الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه". اهـ أنظر شرح العمدة (1/105) ، إغاثة اللهفان (1/151) .
وانظر الأوسط لابن المنذر (2/153) ، أحكام القرآن للجصاص (1/51) ، الاجماع لابن حزم، والمحلى (7/389) .
(2) جاء في بدائع الصنائع (1/80) : " روي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أبا حنيفة عن الكثير الفاحش، فكره أن يحد له حداً، وقال: الكثير الفاحش ما يستفحشه الناس، ويستكثرونه ".
(3) الإنصاف (1/336) .(13/221)
وقيل: القليل: ما دون الدرهم، والكثير ما زاد عنه، وحقيقة الدرهم عند الحنفية هو الدرهم المالي (1) ، وعند المالكية الدرهم البغلي (2) .
وقيل: كل شخص بحسبه، فما فحش بنفسه فهو كثير، والقليل: ما لم يفحش، فيكون التقدير راجعاً إلى الشخص نفسه، وهذا هو الأصل المروي عن أبي حنيفة (3) ، ونص عليه الإمام أحمد (4) .
وفيه أقوال أخرى في تقدير القليل والكثير لا دليل عليها، سنتعرض لها إن شاء الله تعالى في باب العفو عن النجاسات.
وقيل: دم العرق من الإنسان طاهر، اختاره بعض المتكلمين (5) ، ورحجه الشوكاني (6) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/80) ، البناية على الهداية (1/733) ، وقد قدروا الدرهم بمقدار عرض الكف، وقيل الدرهم مقداره مثقال، ومنهم من جمع بين القولين، فقال: إن التقدير بالوزن بالنسبة للنجاسة الجامدة، وبالعرض والمساحة بالنسبة للنجاسة المائعة.
(2) حاشية الدسوقي (1/72) ، المنتقى للباجي (1/55) ، أحكام القرآن لابن العربي (2/76) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/221)
(4) جاء في مسائل أحمد رواية عبد الله (1/75) : قرأت على أبي: كل ما خرج من السبيلين ففي قليله وكثيره الوضوء، وإذا كان من الجسد، فإذا كان فاحشاً أعاد، وإن لم يكن فاحشاً لم يعد. قلت: ما الفاحش عندك؟ قال: ما يفحش عند الرجل، ما أحده بأكثر من هذا. اهـ
وقال ابن عبد البر في التمهيد (22/230) : وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس، إلا أن المسفوح وإن كان أصله الجاري في اللغة، فإن المعنى فيه في الشريعة الكثير، إذ القليل لا يكون مسفوحاً، فإذا سقطت من الدم الجاري نقطة في ثوب أو بدن لم يكن حكمها حكم المسفوح الكثير، وكان حكمها حكم القليل، ولم يلتفت إلى أصلها في اللغة" أهـ
(5) المجموع (2/576) .
(6) الدراري المضية (1/26) ، وتبعه صديق خان في الروضة الندية (1/81) .(13/222)
دليل من قال بنجاسة الدم المسفوح.
الدليل الأول:
الإجماع على نجاسة دم الآدمي حكاه جماعة منهم الإمام أحمد وابن عبد البر كما في التمهيد، والنووي في المجموع وغيرهم.
قال أحمد لما سئل عن الدم: الدم والقيح عندك سواء؟ قال: الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه" (1) .
وقال ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع: واتفقوا على أن الكثير من أي دم كان حاشا دم السمك، وما لا يسيل دمه نجس" (2) .
قال النووي: والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين، إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين، أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع. الخ كلامه رحمه الله (3) .
وقال القرطبي: اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس (4) .اهـ
وقال ابن حجر: والدم نجس اتفاقاً (5) . اهـ
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا
_________
(1) شرح العمدة لابن تيمية (1/105) .
(2) مراتب الإجماع (ص: 19) .
(3) المجموع (2/511) .
(4) تفسير القرطبي (2/222) .
(5) فتح الباري (1/352) .(13/223)
أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به} (1) .
وأجيب:
أولاً: تحريم الأكل لا يستلزم النجاسة، لأن الآية نصت على تحريم الأكل بقوله: على طاعم يطعمه.
ثانياً: الرجس، قد يراد به النجاسة المعنوية، قال تعالى: {إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت} (2) .
وقال تعالى عن المنافقين {فأعرضوا عنهم إنهم رجس} (3) .
الدليل الثالث:
(1572-100) ما رواه البخاري في صحيحه، من طريق هشام، قال: حدثتني فاطمة،
عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه وتصلي فيه، ورواه مسلم (4) .
فهذا صريح في نجاسة دم الحيض، وتدخل سائر الدماء قياساً عليه.
_________
(1) الأنعام: 155.
(2) الأحزاب: 33.
(3) التوبة: 95.
(4) البخاري (227) ، ومسلم (291) .(13/224)
الدليل الرابع:
(1573-101) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي، ورواه مسلم (1) .
فقوله: (فاغسلي عنك الدم) فيه الأمر بغسله، ولو لم يكن نجساً لم يجب غسله.
وأجيب:
بأن الغسل بمثابة الاستنجاء من الدم الذي حكم له بأنه حيض حال إقباله وإدباره، فلم يتوجه الأمر بغسل دم الاستحاضة، والله أعلم.
أدلة من قال: إن الدم طاهر.
استدلوا بأدلة كثيرة، منها:
الدليل الأول:
أن الصحابة أهل جهاد، والمجاهدون تكثر فيهم الجراح، فلم يوجد أمر من الشارع لهم بغسله، ولو كان نجساً لجاء الدليل الصريح على وجوب غسله، فلما لم يأت دليل صحيح صريح على وجوب غسله علم من ذلك طهارته.
_________
(1) البخاري (228) ، ومسلم (333) .(13/225)
الدليل الثاني:
أن الشهيد يدفن بدمه، ولا يغسل، ولو كان نجساً لوجب غسله، وقولهم: إن العلة أنه يبعث يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك، أو قولهم: إنه أثر عبادة كل ذلك ليس كافياً في ترك النجاسة على بدن المسلم، فالدم يوم القيامة ليس هو الدم الذي يدفن على ثيابه، لأن الله ينشئه نشأة أخرى، وأثر العبادة لا يجعلنا نترك الميت متضمخاً بالنجاسة، وإذا ثبتت طهارة دم الشهيد فغيره من الدماء طاهر قياس عليه.
الدليل الثالث:
أن الرسول لم ينزه المسجد من أن يجلس فيه الجريح والمستحاضة، وهما أصحاب جرح ينزف، وهذا مظنة تلويث المسجد بالدم، فلو كان نجساً لجاء الأمر بالنهي عن دخول المسجد، كما منعت الحائض، بل منع من هو أقل من هذا مما يؤذي، كما منع من دخول المسجد من أكل كراثاً أو بصلاً، مع الإجماع على طهارتهما.
(1574-102) فقد روى البخاري في صحيحه، من طريق هشام، عن أبيه،
عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دماً فمات فيها، ورواه مسلم بنحوه (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (563) ، ومسلم (1769) .(13/226)
(1575-103) وروى البخاري من طريق خالد، عن عكرمة،
عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف معه بعض نسائه، وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم، وزعم أن عائشة رأت ماء العصفر فقالت: كأن هذا شيء كانت فلانة تجده (1) .
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم:
إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
فإذا كان القذر لا يصلح للمسجد، وأقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المكلوم والمستحاضة في دخول المسجد مع أن الدم منهما قد ينزف، لم يكن هذا من المستخبث شرعاً.
الدليل الرابع:
جواز وطء المستحاضة ودمها ينزل، فلو كان الدم نجساً لحرم الجماع كما حرم حال الحيض في قوله تعالى: {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} فدم الاستحاضة ليس أذى، فلا يمنع من الجماع، ولا من التلطخ به.
الدليل الخامس:
أن الآدمي ميتته طاهرة، فيكون دمه طاهراً كالسمك.
قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: إن المؤمن لا ينجس.
_________
(1) صحيح البخاري (309) .
(2) صحيح مسلم (285) .(13/227)
الدليل السادس:
(1576-104) ما رواه أحمد، من طريق محمد بن إسحاق، حدثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر،
عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع، فأصيبت امرأة من المشركين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً، وجاء زوجها وكان غائبا، فحلف أن لا ينتهي حتى يهريق دماً في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: فكونوا بفم الشعب، قال: وكانوا نزلوا إلى شعب من الوادي، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل أحب إليك أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال: اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم رماه بسهم آخر، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم عاد له بثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أوتيت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذروا به، فهرب فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله ألا أهببتني؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع الرمي ركعت، فأريتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغراً(13/228)
أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها (1) .
[الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن] (2) .
الدليل الخامس: من الآثار
(1577-105) ما رواه ابن أبي شيبة، ومن طريقه أخرجه البيهقي، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن التيمي،
_________
(1) المسند (3/353) .
(2) أما ضعف الإسناد فلأن عقيلا الراوي مجهول.
وأما نكارة المتن فإن الإنسان مأمور بحفظ نفسه، فلا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للهلاك، من أجل نافلة لا يضره لو قطع القراءة من غير سبب، فكيف إذا كان ذلك سبيلاً لحفظ نفسه وحفظ أصحابه من المؤمنين الذين قد وكلوا له أمر حفظهم وحراستهم.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه أحمد أيضاً في موضع ثان من المسند (3/359) ، والبخاري في التاريخ الكبير (7/53) ، وأبو داود (198) ، وابن خزيمة في صحيحه (36) ، والدارقطني (1/223- 225) ، وابن حبان (1096) ، والحاكم (1/156- 157) وصححه، والبيهقي (1/150) من طريق ابن إسحاق به.
وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند الدارقطني والحاكم.
وعلقه البخاري في صيغة التمريض، في كتاب الوضوء، قال: ويذكر عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة ذات الرقاع، فرمي بسهم، فنزف الدم، فركع، وسجد، ومضى في صلاته. اهـ
وله شاهد ضعيف، أخرجه البيهقي في الدلائل (3/378، 379) من طريق عبد الله بن عمر، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه خوات ابن جبير الأنصاري، بنحوه.
وإسناده ضعيف، لضعف العمري (عبد الله بن عمر) المكبر.
انظر طرق الحديث من: إتحاف المهرة (3006) تحفة الأشراف (2497) ، أطراف المسند (2/68) .(13/229)
عن بكر، قال: رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه، فخرج شيء من دمه، فحكه بين أصبعيه، ثم صلى ولم يتوضأ (1) .
[وسنده صحيح] .
(1578-106) ومنها ما رواه عبد الرزاق (2) ، وابن المنذر (3) ، من طريق الثوري وابن عيينة،
عن عطاء بن السائب، قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى بزق دماً ثم قام فصلى.
[سنده حسن] .
وعطاء لا يضر اختلاطه لأن الراوي عنه الثوري، وهو ممن سمع منه قبل اختلاطه.
(1579-107) ومنها ما رواه عبد الرزاق (4) ، ومن طريقه ابن المنذر (5) ، من طريق جعفر بن رقان،
عن ميمون بن مهران قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه أدخل أصبعه في أنفه، فخرج فيها دم، ففته بأصبعه، ثم صلى ولم يتوضأ.
والراجح فيه أن إسناده منقطع، فقد رواه ابن أبي شيبة (6) ، من طريق شعبة، عن غيلان بن جامع، عن ميمون بن مهران قال: أنبأني من رأى أبا هريرة فذكره.
_________
(1) البيهقي في السنن (1/151) .
(2) المصنف (1/158) .
(3) المصنف (1/182) .
(4) المصنف (1/155) .
(5) الأوسط (1/173) .
(6) المصنف (1/128) .(13/230)
والقول بأن هذه الآثار كان الدم فيها يسيراً فعفي عنه، هي في الحقيقة دعوى في محل النزاع، فلا فرق بين قليل الدم وكثيره في النجاسة، كما لا فرق بين قليل البول وكثيره في الحدث.
(1580-108) ويعارض هذا ما رواه ابن أبي شيبة من طريق خالد ومنصور، عن ابن سيرين، عن يحيى ابن الجزار،
أن ابن مسعود صلى وعلى بطنه فرث ودم، قال: فلم يعد الصلاة.
[وسنده صحيح] (1) .
هذا فيما يتعلق بالخلاف في طهارة الدم، والذي نفسي تميل إليه رجحان طهارة الدم من الإنسان، للأدلة الكثيرة الصحيحة على طهارته، وما نقل من إجماع يعتذر لهم بأن المراد إجماع أهل المذهب الذين نقل عنهم هذا الرأي، أو يقال: إن بعض من ينقل الإجماع يتابع بعضهم بعضاً، وعلى كل فالذي لا شك فيه أن القول بالنجاسة هو قول عامة أهل العلم، إلا أن الصواب لا يدرك بكثرة الرجال، وإنما حسب قربه أو بعده من الأدلة الشرعية، والله أعلم.
_________
(1) ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/156) من طريق أبي شهاب، أنبأ هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين به، بلفظ: أن ابن مسعود نحر جزوراً فأصابه من فرثها ودمها، فصلى ولم يغسله. وقد تصحفت في المطبوع كلمة (فرثها) إلى كلمة (قرشها) .
وهذه متابعة لخالد ومنصور من هشام بن حسان، وهو من أثبت أصحاب ابن سيرين.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (559) عن معمر، عن قتادة، عن ابن سيرين به.
واختلف على ابن سيرين، فرواه خالد ومنصور وقتادة وهشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن يحيى ابن الجزار، عن ابن مسعود.
ورواه عبد الرزاق (560) عن الثوري، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود، فأسقط عاصم من إسناده يحيى ابن الجزار، ورواية الجماعة أولى.(13/231)
[صفحة فارغة](13/232)
المبحث الثالث
في دم الشهيد
اختلف الفقهاء في دم الشهيد إذا لم ينفصل عن صاحبه، فقيل بطهارته، وهو مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: إنه نجس، وهو مذهب المالكية (3) ، والشافعية (4) ، وقول في مذهب الحنابلة (5) .
دليل من قال بطهارته:
الدليل الأول:
(1581-109) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك،
_________
(1) تبيين الحقائق (1/29) ، البحر الرائق (1/127) ، حاشية ابن عابدين (1/211) .
(2) الإنصاف (1/328) ، الفروع (1/252) ، شرح منتهى الإرادات (1/108) ، كشاف القناع (1/191) .
(3) كتب المالكية تذكر من الدم النجس الدم المسفوح، ولا تستثني دم الشهيد، فظاهر كلامهم أنه نجس، حتى جاء في مواهب الجليل ذِكْرٌ للدم النجس والطاهر، فقال (1/96) : قال اللخمي: الدم على ضربين: نجس ومختلف فيه: فالأول دم الإنسان، ودم ما لا يجوز أكله، ودم ما يجوز أكله إذا خرج في حال الحياة، أو حين الذبح؛ لأنه مسفوح، واختلف فيما بقي في الجسم بعد الذكاة، وفي دم ما ليس له نفس سائلة، وفي دم الحوت. اهـ
فهذا هو الدم النجس المتفق عليه عندهم والمختلف فيه، وبعموم الدم المسفوح يدخل دم الشهيد وأنه نجس. ولم أقف على نص عندهم يستثني دم الشهيد من الدم النجس، والله أعلم.
(4) حاشية الجمل (1/194) ، حاشية البجيرمي على المنهج (1/488) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/397) .
(5) الإنصاف (1/328) .(13/233)
عن جابر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ادفنوهم في دمائهم يعني يوم أحد ولم يغسلهم (1) .
وجه الاستدلال:
أنه لو كان الدم نجساً لأمر بإزالته عن بدن الميت، فلما أمر بدفنهم بدمائهم دل ذلك على طهارته.
قلت: هذا دليل على طهارة الدم مطلقاً، دم الشهيد وغيره سواء؛ لأن الحكم بالنجاسة هو حكم وضعي، أكثر من كونه حكماً تكليفياً، فلو كان الدم نجساً لكان نجساً على الشهيد وعلى غيره، فالخبيث لا يمكن أن يكون طيباً إلا إذا تغيرت عينه باستحالة ونحوها، فلما لم يأمر بغسلها دل على طهارة دم الإنسان مطلقاً.
الدليل الثاني:
(1582-110) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك. وأخرجه مسلم بنحوه (2) .
وجه الاستدلال:
حيث شبه لون ريح دم الشهيد بريح المسك، والمسك طاهر، فالدم إذاً على الشهيد طاهر أيضاً.
_________
(1) صحيح البخاري (1346) .
(2) صحيح البخاري (2803) ، ومسلم (3486) .(13/234)
وأجيب:
بأن هذا الحكم يوم القيامة، وأحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، والدم الذي رائحته ريح المسك ليس هو الدم الذي على الميت، فهو دم آخر، فقد جاء في رواية مسلم " إلا جاء يوم القيامة، وجرحه يثعب، اللون لون الدم، والريح ريح المسك ".
نعم يؤخذ من الحديث فضل المطعون في سبيل الله.
دليل من قال بنجاسته:
قالوا: إنه دم مسفوح، فيكون نجساً كسائر الدماء، وعدم غسله من الشهيد لا لكونه طاهراً، وإنما عدم غسله للنص، ولأنه أثر ناتج عن عبادة، وأثر العبادة له فضل، كما جاء في خلوف فم الصائم ونحوه.
(1583-111) ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا، معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والحديث في مسلم (1) .
_________
(1) وهذا لفظ البخاري.
وأخرجه البخاري (1904) ومسلم (1151) ، من طريق ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن أبي صالح الزيات، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله ـ زاد مسلم: يوم القيامة ـ من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه.(13/235)
الراجح:
سبق أن رجحنا طهارة دم الإنسان مطلقاً إلا دم الحيض، وعدم غسل دم الشهيد دليل على صحة هذا الاختيار، لا أنه مستثنى كما رأى بعض الفقهاء رحمهم الله جميعاً؛ إذ أن دم الشهيد في الدنيا كسائر الدماء من حيث الحكم، وإنما يفارق غيره من الدماء يوم القيامة فقط، والله أعلم.(13/236)
المبحث الرابع
في علقة الحيوان الطاهر
اختلف العلماء في العلقة تخرج من الحيوان الطاهر،
فقيل: إنها نجسة، وهو مذهب الحنفية (1) ، ووجه في مذهب الشافعية (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) .
وقيل بطهارتها، وهو وجه في مذهب الشافعية صححه النووي (4) ، واختاره بعض الحنابلة (5) .
_________
(1) البحر الرائق (1/239) ، حاشية ابن عابدين (1/327) ، المبسوط (1/81) ، شرح فتح القدير (1/201) ، تبيين الحقائق (1/71) .
(2) المجموع (2/578) .
(3) كشاف القناع (1/191) . وقال ابن قدامة في المغني (1/417) : أما العلقة, فقال ابن عقيل: فيها روايتان, كالمني; لأنها بدء خلق آدمي. والصحيح نجاستها; لأنها دم, ولم يرد من الشرع فيها طهارة, وقياسها على المني ممتنع, لكونها دما خارجا من الفرج, فأشبهت دم الحيض. اهـ وانظر الفروع (1/251) ، مطالب أولي النهى (1/233) .
(4) قال الشيرازي في المهذب (2/578) : وأما العلقة ففيها وجهان, قال أبو إسحاق: هي نجسة; لأنه دم خارج من الرحم فهو كالحيض, وقال أبو بكر الصيرفي: هي طاهرة; لأنه دم غير مسفوح, فهو كالكبد والطحال.
قال النووي في شرحه لهذه العبارة: هذان الوجهان في العلقة مشهوران , ودليلهما ما ذكره المصنف ; أصحهما الطهارة , ونقله الشيخ أبو حامد عن الصيرفي وعامة الأصحاب , وصرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد والمحاملي والرافعي في المحرر وآخرون. اهـ وانظر مغني المحتاج (1/81) .
(5) المغني (1/417) .(13/237)
دليل من قال بالنجاسة:
القياس على دم الحيض، بجامع أن كلاً منهما دم خارج من الفرج.
وأجيب:
بأن القياس على دم الحيض قياس مع الفارق، حيث إن الحيض يتعلق به أحكام من ترك الصلاة والصيام، بخلاف العلقة.
دليل من قال بالطهارة:
الدليل الأول:
لا يوجد دليل على نجاسة العلقة، والأصل في الأعيان الطهارة.
الدليل الثاني:
أن العلقة أصلها مني، وهو طاهر على الصحيح كما قدمنا.
وإن كان هذا الدليل يمكن مناقشته، بأن المني قد تحول إلى دم، فالعين الثانية صارت غير الأولى.
الدليل الثالث:
العلقة وإن كانت دماً، إلا أنها ليست دماً مسفوحاً، فهي تشبه دم الكبد والطحال ونحوها، فتكون طاهرة.(13/238)
المبحث الخامس
في دم القلب واللحم والدم الباقي
في العروق من الحيوان المأكول بعد الذبح
اختلف العلماء في هذا الدم،
فقيل: طاهر، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: نجس، ولكنه معفو عنه، وهو مذهب الشافعية (4) .
ولا فرق كبير بين القولين، سواء قلنا: إنه طاهر أصلاً، أو قلنا: إنه نجس عفي عنه، لأن المحصلة النهائية أنه لا حكم له من حيث وجوب غسله.
_________
(1) البحر الرائق (1/241) ، حاشية ابن عابدين (1/319، 320) .
(2) حاشية الدسوقي (1/52) ، الخرشي (1/87) ، مواهب الجليل (1/96) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/48) .
(3) قال في الإنصاف (1/327) : دم عروق المأكول طاهر على الصحيح من المذهب. ولو ظهرت حمرته نص عليه, وهو الصحيح من المذهب, وهو من المفردات؛ لأن العروق لا تنفك عنه. فيسقط حكمه; لأنه ضرورة. وظاهر كلام القاضي في الخلاف: نجاسته.
قال ابن الجوزي: المحرم هو الدم المسفوح. ثم قال القاضي: فأما الدم الذي يبقى في خلال اللحم بعد الذبح, وما يبقى في العروق فمباح.
قال في الفروع: ولم يذكر جماعة إلا دم العروق. وقال الشيخ تقي الدين فيه: لا أعلم خلافاً في العفو عنه, وأنه لا ينجس المرق, بل يؤكل معها. انتهى
قلت: وممن قال بطهارة بقية الدم الذي في اللحم غير دم العروق, وإن ظهرت حمرته: المجد في شرحه, والناظم, وابن عبيدان, وصاحب الفائق, والرعايتين, ونهاية ابن رزين, ونظمها وغيرهم. وانظر مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (2/234) ، والفروع (1/254) .
(4) تحفة المحتاج (1/293، 294) ، نهاية المحتاج (1/240) ، مغني المحتاج (1/78) .(13/239)
الدليل على طهارة دم العروق:
الدليل الأول:
قوله تعالى {أو دماً مسفوحاً فإنه رجس} (1) ، فنصت الآية على تحريم الدم المسفوح، وهذا غير مسفوح.
الدليل الثاني:
الإجماع، قال ابن تيمية: وقد ثبت أنهم يضعون اللحم بالقدر، فيبقى الدم في الماء مخلوطاً، وهذا لا أعلم بين العلماء خلافاً في العفو عنه (2) .
ومن قال بالعفو عنه، هل كان يرى العفو بسبب كونه دماً يسيراً، فلو كان كثيراً فإنه لا يعفى عنه؟ أو كان يرى العفو لمشقة التحرز، فيكون طاهراً سواء كان الدم يسيراً أم لا؟ محل تأمل.
قال ابن العربي: قال الإمام الحافظ: الصحيح أن الدم إذا كان مفرداً حرم منه كل شيء, وإن خالط اللحم جاز; لأنه لا يمكن الاحتراز منه, وإنما حرم الدم بالقصد إليه (3) .
وقال في الجوهرة النيرة: أما الذي يبقى في اللحم بعد الذكاة فهو طاهر، وعن أبي يوسف أنه معفو عنه في الأكل, ولو احمرت منه القدر, وليس بمعفو عنه في الثياب والأبدان; لأنه لا يمكن الاحتراز منه في الأكل، ويمكن في غيره (4) .
_________
(1) الأنعام: 145.
(2) مجموع الفتاوى (21/542) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (2/291) .
(4) الجوهرة النيرة (1/38) .(13/240)
والظاهر من التعليلات المذكورة ضمن كلام العلماء المنقول آنفاً: أن الدم المخالط لغيره من اللحم والعروق طاهر لمشقة التحرز منه، وبناء على ذلك يكون طاهراً قليله وكثيره عند من أطلق، ولم يقيده بقليل ولا كثير كابن العربي ومن نحا نحوه، والله أعلم.(13/241)
[صفحة فارغة](13/242)
المبحث السادس
دم الكبد والطحال
الكبد والطحال من الحيوان الطاهر طاهران بالإجماع، نقل الإجماع النووي وغيره (1) .
وقال المرداوي: الكبد والطحال، وهما دمان، ولا خلاف في طهارتهما،
وقداختلف العلماء في الدم المتحلب من الكبد والطحال.
فقيل: إنه دم طاهر، وإليه ذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، والحنابلة (4) ، والشافعية في أحد الوجهين (5) .
وقيل: إنه دم نجس، وإليه ذهب الشافعية في القول الراجح عندهم (6) .
دليل الجمهور:
(1584-112) أن الكبد والطحال مأكولان، كما جاء في أثر ابن
_________
(1) المجموع (2/578) و (9/77، 78) .
(2) أحكام القرآن للجصاص (2/429) ، وقال في الجوهرة النيرة (1/38) : وكذلك دم الكبد والطحال طاهر حتى لو طلي به الخف لا يمنع الصلاة. اهـ
(3) الجامع لأحكام القرآن (2/290) .
(4) مطالب أولي النهى (1/234) .
(5) انظر العزو التالي عن النووي.
(6) قال النووي في المجموع (2/576) : وأما الوجهان في دم السمك فمشهوران ونقلهما الأصحاب أيضا في دم الجراد، ونقلهما الرافعي أيضا في الدم المتحلب من الكبد والطحال, والأصح في الجميع النجاسة.(13/243)
عمر، رواه الشافعي في مسنده (1) ، وأحمد (2) ، وعبد بن حميد في المنتخب (3) ، وابن ماجه (4) ، وابن حبان في المجروحين (5) ، والدارقطني (6) ، والبيهقي (7) ، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه زيد بن أسلم،
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال.
[الراجح وقفه على ابن عمر، وقول الصحابي أحل لنا كذا في حكم المرفوع] (8) .
_________
(1) (2/173) .
(2) المسند (2/97) .
(3) (820) .
(4) (3218) .
(5) (3/58) .
(6) في السنن (4/271) .
(7) في السنن (1/254) .
(8) الحديث أخرجه الدارقطني في السنن (4/271- 272) من طريق عبد الله بن زيد ابن أسلم،
وأخرجه ابن عدي في الكامل (1/388) ، وذكره البيهقي في السنن (9/275) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن عبد الرحمن وعبد الله وأسامة أبناء زيد بن أسلم، عن أبيهم به.
وقد اختلف الرواة فيه على زيد بن أسلم:
فرواه أبناء زيد بن أسلم: عبد الله وعبد الرحمن وأسامة، عن أبيهم عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق.
وأبناء زيد هؤلاء كلهم ضعفاء، وأمثلهم عبد الله وثقه أحمد وعلي بن المديني، وضعفه علي بن المديني في رواية، وقال النسائي: ليس بالقوي، وضعفه ابن عدي وأبو زرعة ويحيى بن معين وغيرهم.
ورواه سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر موقوفاً عليه، من قوله كما في البيهقي (1/254) ، وسليمان بن بلال مقدم على أولاد زيد بن أسلم.
قال البيهقي عقب روايته: هذا إسناد صحيح، وهو في معنى المسند، وقد رفعه أولاد زيد عن أبيهم، ثم ساق روايتهم، ثم قال: والصحيح من هذا الحديث هو الأول.
وكذلك رجح الدارقطني في علله أن الصواب الموقوف كما في نصب الراية (4/202) .
أنظر أطراف المسند (3/354-355) ، إتحاف المهرة (9473) ، التحفة (6738) .(13/244)
وإذا كانت الكبد والطحال حلال الأكل، مع أنهما دمان، دل ذلك على طهارتهما، إذ لا يؤكل إلا ما كان طاهراً، فكذلك ما تحلب منهما لا بد أن يكون طاهراً.
الدليل الثاني:
أن المحرم هو الدم المسفوح، ودم الكبد والطحال ليس مسفوحاً، فيكون طاهراً.
دليل الشافعية على النجاسة:
أن الدم المتحلب من الكبد والطحال دم مسفوح، فحقه أن يكون نجساً، لكن عفا عنه الشرع.(13/245)
[صفحة فارغة](13/246)
المبحث السابع
في دم السمك
اختلف القائلون بنجاسة الدم المسفوح، في حكم دم السمك،
فقيل: إنه طاهر، وهو مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) ، وقول في مذهب المالكية (3) ، ووجه في مذهب الشافعية (4) .
وقيل: نجس، اختاره أبو يوسف من الحنفية (5) ، وهو قول في مذهب المالكية (6) ، والوجه المعتمد في مذهب الشافعية (7) ، واختيار ابن حزم (8) .
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (1/174) ، تبيين الحقائق (1/75) ، فتح القدير (1/84) وقال في بدائع الصنائع (1/61) : وأما دم السمك فقد روي عن أبي يوسف أنه نجس، وبه أخذ الشافعي اعتبارا بسائر الدماء , وعند أبي حنيفة ومحمد طاهر؛ لإجماع الأمة على إباحة تناوله مع دمه, ولو كان نجسا لما أبيح؛ لأنه ليس بدم حقيقة، بل هو ماء تلون بلون الدم ; لأن الدموي لا يعيش في الماء , والدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر ; لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله مع اللحم، وروي عن أبي يوسف أنه معفو في الأكل غير معفو في الثياب؛ لتعذر الاحتراز عنه في الأكل وإمكانه في الثوب. اهـ
ولو عكس أبو يوسف لكان أقرب، فالعفو في باب الملبوسات أولى من العفو في باب المطعومات، لأن أكل النجاسات قد يؤثر في البدن، بخلاف لبس النجس، فالعفو عنه في الأكل سبب في العفو عنه في الثياب من باب أولى، هذا لو قيل بنجاسة دم السمك.
(2) الإنصاف (1/327) ، المبدع (1/328) ، المغني (1/410) ، الفروع (1/250) .
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/53) .
(4) المجموع (2/576) ، الأشباه والنظائر (ص: 431) .
(5) بدائع الصنائع (1/61) ، تبيين الحقائق (1/75) .
(6) المدونة (1/128) الخرشي (1/93) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/53) .
(7) قال النووي في المجموع (2/576) : وأما الوجهان في دم السمك فمشهوران ونقلهما الأصحاب أيضا في دم الجراد، ونقلهما الرافعي أيضا في الدم المتحلب من الكبد والطحال, والأصح في الجميع النجاسة. وانظر الأشباه والنظائر (ص: 431) .
(8) المحلى (مسألة: 124) (1/116) .(13/247)
دليل من قال بطهارته:
(1585-113) حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال.
[سبق تخريجه والراجح وقفه، وله حكم الرفع] (1) .
وجه الاستدلال:
قال أبو بكر الجصاص: لما أباح السمك بما فيه من الدم من غير إراقة دمه, وقد تلقى المسلمون هذا الخبر بالقبول في إباحة السمك من غير إراقة دمه, وجب تخصيص الآية (يعني: قوله تعالى: أو دماً مسفوحاً) في إباحة دم السمك; إذ لو كان محظوراً لما حل دون إراقة دمه كالشاة وسائر الحيوان ذوات الدماء, والله أعلم (2) .
الدليل الثاني:
قالوا: إن دم السمك ليس بدم في الحقيقة، وذلك لأن الدم يسود إذا شمس، ودم السمك يَبْيَضَّ، ولأن طبع الدم حار، وطبع الماء بارد، فلو كان للسمك دم لم يدم سكونه في الماء (3) .
_________
(1) انظر رقم (1584) .
(2) أحكام القرآن للجصاص (1/174) .
(3) البناية (1/748) .(13/248)
دليل من قال بنجاسته:
الدليل الأول:
قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} (1) ، وهذا عام في كل دم، ومنه دم السمك.
الدليل الثاني:
قالوا: إن دم السمك داخل في عموم قوله تعالى: {أو دماً مسفوحاً فإنه رجس} (2) .
الدليل الثالث:
من جهة القياس، أن دم السمك دم سائل، فوجب أن يكون نجساً كسائر الدماء.
وأجيب:
بأن الاستدلال بالعام أو المطلق غير صحيح؛ لأن الخاص مقدم على العام، وقد دل الدليل على جواز أكل ميتة السمك، مع أن الدم منحبس فيها، وقد أجاز الشافعية أكل السمك الميت، فكيف يكون الدم طاهراً إذا كان محبوساً في ميتته، ويكون نجساً إذا خرج منها؟ فهذا دليل على ضعف قولهم.
_________
(1) المائدة: 3.
(2) الأنعام: 145.(13/249)
[صفحة فارغة](13/250)
الفصل الرابع
في حكم القيء
إذا خرج القيء إلى الفم، ففيه أقوال:
فقيل: نجس مطلقاً، تغير أو لم يتغير، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والمعتمد عند الشافعية (2) .
وعبر ابن حزم بالتحريم، بدلاً من النجاسة، فقال: القيء حرام يجب اجتنابه من كل مسلم وكافر (3) .
وقيل: طاهر مطلقاً تغير أو لم يتغير، وهو قول الشوكاني (4) .
وقيل: إن خرج غير متغير فهو طاهر، وإن تغير ولو بحموضة فهو نجس، ولو لم يشبه أوصاف العذرة، وهذا اختيار الحسن من الحنفية (5) ، والمالكية (6) ،
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/26) : " لا فرق بين أن يكون القيء مرة صفراء أو سوداء, وبين أن يكون طعاما أو ماء صافيا؛ لأن الحدث اسم لخروج النجس, والطعام أو الماء نجس لاختلاطه بنجاسات المعدة ". وانظر تبيين الحقائق (1/9) ، البناية (1/215) .
(2) المجموع (2/570) ، نهاية المحتاج (1/240) ، مغني المحتاج (1/79) ،
(3) المحلى (مسألة: 143) .
(4) السيل الجرار (1/43) .
(5) قال في تبيين الحقائق (1/9) : ولا فرق بين أنواع القيء; لأنها نجسة، خلافا للحسن في الماء والطعام إذا لم يتغيرا. اهـ وانظر حاشية ابن عابدين (1/309) ، البحر الرائق (1/37) .
(6) قال في الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/51) : ومن الطاهر قيء: وهو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة، إلا المتغير منه بنفسه عن حالة الطعام فنجس، ولو لم يشابه أحد أوصاف العذرة. الخ كلامه رحمه الله.
وقال في مواهب الجليل (1/94) : كلام المصنف أن المتغير نجس كيفما كان التغير، وعلى ذلك حملها سند والباجي وابن بشير وابن شاس وابن الحاجب.
وقال اللخمي: يريد إذا تغير إلى أحد أوصاف العذرة، وتبعه عياض.
وقال أبو إسحاق التونسي وابن رشد: إن شابه أحد أوصاف العذرة , أو قاربها، فتحصل أن القيء على ثلاثة أقسام:
ـ ما شابه أحد أوصاف العذرة , أو قاربها فنجس اتفاقاً.
ـ وما كان على هيئة الطعام لم يتغير فطاهر اتفاقاً، لكن ألزم ابن عرفة من يقول بنجاسة الصفراء والبلغم أن يقول بنجاسة القيء مطلقاً.
ـ وما تغير عن هيئة الطعام ولم يقارب أحد أوصاف العذرة، قال ابن فرحون: بأن يستحيل عن هيئة الطعام ويستعد للهضم. وقال البساطي: بأن تظهر فيه حموضة، فإذا كان كذلك فهو نجس على المشهور، خلافا للخمي وأبي إسحاق وابن بشير وعياض.(13/251)
وقول في مذهب الشافعية (1) .
وقيل: لا ينجس القيء إلا إذا أشبه أحد أوصاف العذرة، اختاره من المالكية ابن رشد، والقاضي عياض (2) .
وقيل: قيء ما يؤكل لحمه طاهر، وأما غيره فنجس مطلقاً، وهو مذهب الحنابلة (3) .
هذا مجمل الخلاف في مسألة القيء.
دليل من قال بنجاسته مطلقاً:
الدليل الأول:
(1586-114) ما رواه أبو يعلى من طريق ثابت بن حماد أبي زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب،
_________
(1) المجموع (2/570) .
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/51) .
(3) قال في شرح منتهى الإرادات (1/107) : والقيء مما لا يؤكل نجس. اهـ(13/252)
عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (1) .
[إسناده ضعيف جداً، وسبق تخريجه] (2) .
الدليل الثاني:
أنه طعام مستخبث مستقذر لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه، فكان نجساً كالبول.
وأجيب:
بأن الاستقذار الشرعي دليل على النجاسة، ولا يوجد هنا، وأما استقذار الطبائع فلا يكفي للتنجيس، فإن الناس قد يستقذرون أشياء كثيرة، وهي طاهرة كالبصاق والنخامة ونحوهما.
الدليل الثاني:
قالوا: إن القيء ينقض الوضوء، وهذا دليل على نجاسته كالبول والغائط.
والدليل على أن فيه الوضوء،
(1587-115) ما رواه البيهقي في الخلافيات، من طريق سهل بن عفان السجزي، ثنا الجارود بن يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب،
_________
(1) مسند أبي يعلى (1611) .
(2) سبق تخريجه، انظر كتابي آداب الخلاء، رقم (392) .أحكام الوضوء، رقم حديث (1014) .(13/253)
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعاد الوضوء من إقطار البول، والدم السائل، والقيء، ومن دسعة يملأ بها الفم، والنوم المضطجع، وقهقهة الرجل في الصلاة، ومن خروج الدم (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
(1588-116) ومنها ما رواه الدارقطني من طريق سوار بن مصعب، عن زيد بن علي، عن أبيه،
عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القلس حدث (3) .
قال الدارقطني: سوار متروك، ولم يروه عن زيد غيره.
(1589-117) ومنها ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، أنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد بن هشام، عن معدان أو معدان،
عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاء، فأفطر قال: فلقيت ثوبان في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك فقال: أنا صببت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه.
[سبق تخريجه في كتاب الوضوء] (4) .
(1590-118) ومنها ما رواه ابن ماجه، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا الهيثم بن خارجة، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة،
_________
(1) الخلافيات للبيهقي (658) .
(2) قال البيهقي: سهل بن عفان مجهول، والجارود بن يزيد ضعيف في الحديث، ولا يصح هذا. اهـ
(3) سنن الدارقطني (1/155) .
(4) انظر كتابي أحكام الوضوء، رقم (1014) .(13/254)
عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (1221) .
(2) الحديث ضعيف، أولاً: لأن في إسناده إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين فيها كلام، وهذا منها.
ثانياً: أن إسماعيل بن عياش قد خالف أصحاب ابن جريج، فقد رووه عن ابن جريج مرسلاً، فقد رواه الدارقطني (1/155) ، والبيهقي (1/142) من طريق أبي عاصم، ومحمد بن عبد الله الأنصاري وعبد الرزاق وعبد الوهاب، كلهم رووه عن ابن جريج، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قاء أحدكم أو قلس أو وجد مذياً وهو في الصلاة فلينصرف، فليتوضأ، وليرجع، فليبن على صلاته ما لم يتكلم. وهذا هو الصحيح من حديث ابن جريج.
قال الدارقطني: أصحاب ابن جريج الحفاظ عنه يروونه عن ابن جريج، عن أبيه مرسلاً.
ورجح أبو حاتم الرازي إرساله، كما في العلل لابنه (1/31) .
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه الطبراني في المعجم الأوسط (5429) ، والدارقطني (1/153،ط 154) ، ومن طريقه البيهقي (2/255) من طريق داود بن رشيد، عن إسماعيل بن عياش، حدثني
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن أبيه، وعن عبد الله بن أبي مليكة به.
ورواه البيهقي (1/143) من طريق هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش به.
وتابع سليمان بن أرقم إسماعيل بن عياش، فقد رواه الدارقطني (1/155) من طريق سليمان بن أرقم، حدثني ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به.
وسليمان بن أرقم متروك.
ورواه الدارقطني (1/154) من طريق إسماعيل بن عياش، عن عباد بن كثير وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به.
ومع كون عباد بن كثير وعطاء بن عجلان ضعيفين فإن هذا الاختلاف ربما يكون ناتجاً عن تخليط إسماعيل بن عياش، فمرة يرويه مرسلاً، ومرة موصولاً، ومرة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة.
ومرة عن عباد وعطاء، عن ابن أبي مليكة.
قال البيهقي في السنن (2/255) : وهذا الحديث أحد ما أنكر على إسماعيل بن عياش، والمحفوظ ما رواه الجماعة عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، كذلك رواه محمد بن عبد الله الأنصاري، وأبو عاصم النبيل، وعبد الرزاق، وعبد الوهاب بن عطاء وغيرهم، عن ابن جريج، وأما حديث ابن أبي مليكة، عن عائشة، فإنما يرويه إسماعيل بن عياش وسليمان بن أرقم، عن ابن جريج، وسليمان بن أرقم متروك، وما يرويه إسماعيل بن عياش عن غير أهل الشام ضعيف لا يوثق به، وروي عن إسماعيل بن عياش، عن عباد بن كثير وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها، وعباد وعطاء هذان ضعيفان، والله تعالى أعلم. اهـ كلام البيهقي رحمه الله تعالى.
انظر إتحاف المهرة (21834) ، تحفة الأشراف (16252) .(13/255)
وهناك آثار عن بعض الصحابة في الوضوء من القيء والقلس ذكرناها في كتاب الوضوء، فارجع إليها إن شئت.
وجه الشاهد من هذه الأحاديث:
أن الخارج من البدن من غير السبيلين لا ينقض الوضوء إلا إذا كان نجساً، فحين توضأ من القيء، كان ذلك دليلاً على نجاسته.
وأجيب:
بأن القيء مختلف في نقضه للوضوء، وقد سبق بيان القول الراجح فيه في كتاب الوضوء، وعلى التسليم بأنه ينقض الوضوء، فهل ثبت أنه لا ينقض الوضوء إلا الشيء النجس، فهذه الريح تنقض الوضوء إجماعاً، وهي طاهرة.
وأما الجواب عن حديث ثوبان، وقوله رضي الله عنه: أنا صببت عليه وضوءه، فمن وجهين:(13/256)
الأول: أن الوضوء مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، أقصى ما يدل عليه الفعل إذا كان على وجه التعبد أن يكون ذلك مستحباً، ولذلك لما تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام لم يقل أحد بوجوب التيمم لرد السلام.
الثاني: أن الوضوء قد يكون بعد القيء من أجل النظافة، وإزالة القذر الذي يبقى في الفم، أو في البدن وربما في الأنف، لا من أجل كون القيء ناقضاً للوضوء، فلا نستطيع أن نحكم على من تطهر بموجب الكتاب والسنة أن نحكم عليه بفساد عبادته إلا بدليل صريح على أن عبادته أصبحت باطلة، فما صح بموجب الكتاب والسنة لا يبطل إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، أو قول صحابي لا مخالف له من الصحابة.
دليل من قال بطهارته مطلقاً:
الدليل الأول:
الأصل في الأشياء الطهارة، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل شرعي صحيح، وحديث عمار لا تقوم به حجة، وهو ضعيف جداً، كما سبق بيانه عند تخريج الحديث.
الدليل الثاني:
أن هذا القيء مما تبتلى به الأمهات، ويكثر من الأطفال، فلو كان نجساً لقامت الحاجة إلى بيانه بدليل صحيح صريح، لأننا نعلم أن كل حكم شرعي تحتاج إليه الأمة، ويكثر وقوعه وتكراره لا بد أن تأتي فيه الأدلة صحيحة صريحة بما تقوم به الحجة على الخلق، ويحفظ به الشرع عن رب العالمين، فلا يمكن أن يكون القيء نجساً، وهو لا تكاد تسلم أم من التلوث به، ثم مع ذلك لا يأتي في نجاسته إلا حديث ضعيف جداً، فهذا مما يجعل الباحث يجزم بطهارته.(13/257)
دليل من قال: ينجس إن تغير وإلا فطاهر:
اعتبر الطعام عيناً طاهرة تغير بنجاسة، وكل شيء طاهر تغير بشيء نجس، تنجس حكماً، وإن لم يتغير وخرج على هيئة الطعام، فالطعام ما زال طاهراً حيث لم يتغير بالنجاسة.
ويجاب عنه:
بأن تغير الطعام إنما هو بسائل المعدة، والتي تسهله للهضم، وهذا السائل ليس بنجس حتى يحكم عليه بالنجاسة إذا غير أوصاف الطعام، فالصحيح أن الطعام طاهر، تغير بشيء طاهر، فلا يخرجه عن حكمه.
دليل من قال: ينجس إن أشبه العذرة وإلا فطاهر:
هذا القول يختلف عن القول الذي قبله، لأن القول الذي قبله يرى أن الطعام طاهر تغير بنجس فتنجس.
وهذا القول يعتبر الطعام نفسه نجساً، لأنه استحال إلى ما يشبه العذرة، والاستحالة لها حكمها، فكما أن الخبيث إذا استحال إلى طاهر أصبح طاهراً كما في الخمرة تتحول إلى خل، فكذلك الطيب إذا استحال إلى خبيث أخذ حكم الخبيث، كالطعام يتحول إلى عذرة.
دليل من قال: ينجس إن كان من حيوان لا يؤكل لحمه:
رأى أن القيء من الحيوان المأكول لا يمكن أن يكون أخبث من بوله، فإذا كان من حيوان بوله طاهر، كان طاهراً، وإن كان من حيوان ذاته نجس، أُعْطِي حكم بول هذا الحيوان.(13/258)
الراجح:
الذي أطمئن له أن قيء الحيوان ليس تبعاً لبوله، وإنما هو تبع لذاته، فإن كان من حيوان طاهر كالإنسان والحمار والبغل والهر فهو طاهر، وإن كان من حيوان نجس كالكلب، والخنزير ونحوهما فهو نجس؛ لاختلاطه بالنجاسة، فإن ريق الكلب نجس، فما بالك بسائل معدته، وبناء على ذلك يكون القول بنجاسة القيء مطلقاً قول ضعيف، وذلك لعدم الدليل المعتمد على نجاسته، فيبقى طاهراً على الأصل، والله أعلم.(13/259)
[صفحة فارغة](13/260)
الفصل الخامس
حكم القلس
اختلف العلماء في القلس، هل هو طاهر أم نجس.
فقيل: إن القلس نجس، وهو مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: القلس حكمه حكم القيء في التفصيل، وهذا مذهب المالكية (3) .
وقيل: القلس طاهر مطلقاً، اختاره ابن رشد من المالكية (4) .
_________
(1) الحنفية يرون القلس نجساً، وذلك لأنهم قد ذكروا في نواقض الوضوء كما في بدائع الصنائع (1/26) وغيره: أن الحدث اسم لخروج النجس. اهـ
وقد اعتبروا أن القلس ينقض الوضوء بشرط أن يكون ملء الفم كالقيء عندهم، فهذا منهم ذهاب إلى نجاسة القيء، وإلا فخروج الطاهر عندهم لا ينقض الوضوء. وانظر المبسوط (1/74، 75) .
(2) قال في كشاف القناع (2/329) : (وإن تنجس فمه ولو بخروج قيء ونحوه) كقلس. اهـ وهذا نص منهم على تنجس الفم بالقلس.
(3) قال في الشرح الكبير (1/51) : والقلس كالقيء في التفصيل. وقد قدمنا مذهب المالكية في القيء في المسألة التي قبل هذه، وأنهم يقسمونه ثلاثة أقسام:
1 ـ إذا لم يتغير، فهو طاهر بالاتفاق.
2 ـ إذا تغير تغيراً يشبه العذرة، فهو نجس بالاتفاق.
3 ـ إذا تغير، ولم يشبه العذرة، ففيه قولان: المشهور أنه نجس، وقيل: طاهر. وانظر مواهب الجليل (1/95) .
واختار بعضهم طهارة القلس مطلقاً.
(4) مواهب الجليل (1/94، 95، 496) .(13/261)
وقيل: القلس تبع لذات صاحبه، فإن كان من حيوان طاهر، فهو طاهر، وإن كان من نجس، فهو نجس، وهذا اختيار ابن حزم (1) .
والأدلة في القلس هي الأدلة نفسها المذكورة في حكم القيء سواء بسواء، فارجع إليها إن شئت.
وما رجح هناك فهو الراجح هنا، وهو أن القلس من الحيوان الطاهر طاهر، ومن الحيوان النجس نجس تبعاً لذاته، وللأدلة والتعليلات ذاتها؛ لأن القلس قيء أو فرع عنه، وبالتالي فإنه يأخذ حكمه تماماً، والله أعلم.
_________
(1) المحلى (مسألة: 139) .(13/262)
الفصل السادس
في رطوبة الفرج
إن كانت رطوبة الفرج من حيوان نجس، فهي نجسة تبعاً لذات الحيوان.
وإن كانت رطوبة الفرج من حيوان طاهر، فهي قسمان:
أن تكون الرطوبة من ظاهر الفرج، فهي طاهرة.
وقد نقل الإجماع على طهارتها ابن عابدين في حاشيته، فقال: وأما رطوبة الفرج الخارج، فطاهرة اتفاقاً (1) .
وقال أيضاً: " مطلب في رطوبة الفرج، قوله: الفرج: أي الداخل، أما الخارج فرطوبته طاهرة اتفاقاً (2) .
ولأن رطوبة الفرج الظاهرة بمنزلة رطوبة الأنف والفم والعرق الخارج من البدن.
وإن كانت من باطن الفرج ففيها خلاف بين أهل العلم،
فقيل: إن رطوبة الفرج طاهرة، وهو مذهب أبي حنيفة (3) ، وقول في مذهب الشافعية، رجحه النووي وغيره (4) ،
والمشهور من مذهب
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/313) .
(2) حاشية ابن عابدين (1/166) .
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (1/64) ، الدر المختار (1/349) .
(4) قال في روضة الطالبين (1/18) : وليست رطوبة فرج المرأة بنجس في الأصح. اهـ وقال في المجموع (2/588، 589) : رطوبة الفرج ماء أبيض متردد بين المذي والعرق, فلهذا اختلف فيها، ثم إن المصنف رحمه الله رجح هنا وفي التنبيه النجاسة, ورجحه أيضا البندنيجي وقال البغوي والرافعي وغيرهما: الأصح: الطهارة, وقال صاحب الحاوي في باب ما يوجب الغسل: نص الشافعي رحمه الله في بعض كتبه على طهارة رطوبة الفرج, وحكي التنجيس عن ابن سريج فحصل في المسألة قولان منصوصان للشافعي, أحدهما ما نقله المصنف, والآخر نقله صاحب الحاوي, والأصح طهارتهما. اهـ
وقال في شرح صحيح مسلم (3/198) : وقد استدل جماعة من العلماء بهذا الحديث على طهارة رطوبة فرج المرأة، وفيها خلاف مشهور عندنا وعند غيرنا، والأظهر طهارتها. اهـ(13/263)
الحنابلة (1) ، رحجه ابن قدامة (2) .
وقيل: إن رطوبة الفرج نجسة، اختاره أبو يوسف ومحمد من الحنفية (3) ، وقول في مذهب الشافعية (4) ، وقول في مذهب الحنابلة (5) .
وقيل: إن رطوبة الفرج إن كانت من مباح الأكل فطاهرة، وإن كانت من غيره كالآدمي فنجسة، وهو المشهور من مذهب المالكية (6) .
_________
(1) المبدع (1/255) ، وقال في الإنصاف (1/341) : وهو الصحيح من المذهب مطلقاً. اهـ وانظر الكافي في فقه أحمد (1/87) ، كشاف القناع (1/195) .
(2) المغني (1/414) ، المبدع (1/255) .
(3) قال في الدر المختار المطبوع مع حاشية الدر المحتار (1/349) : رطوبة فرج المرأة طاهرة، خلافاً لهما. اهـ
(4) قال الشيرازي في المهذب (1/48) : وأما رطوبة فرج المرأة، فالمنصوص أنها نجسة؛ لأنها رطوبة متولدة في محل النجاسة، فكانت نجسة. ومن أصحابنا من قال: هي طاهرة كسائر رطوبات البدن. اهـ
(5) المغني (1/414) ، الإنصاف (1/341) .
(6) قال في الشرح الكبير في معرض كلامه على عدد النجاسات (1/57) : (ورطوبة فرج) من غير مباح الأكل، أما منه فطاهرة إلا المتغذي بنجس.
واشترط الدسوقي شرطين للقول بطهارة رطوبة فرج المرأة من مباح الأكل:
ألا يتغذى بالنجاسات، وأن يكون الحيوان ممن لا يحيض.
وقال في مواهب الجليل (1/105) : يستثنى من رطوبة فرج رطوبة ما بوله طاهر. اهـ(13/264)
وقيل: ما أصاب منه في حال الجماع فهو نجس، وإلا فطاهر، اختاره القاضي من الحنابلة (1) .
دليل من قال بطهارة رطوبة الفرج:
الدليل الأول:
عدم الدليل المقتضي للنجاسة، والأصل في الأشياء الطهارة، ولو كانت رطوبة الفرج نجسة لنقل إلينا تحرز الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إصابة الرطوبة لثيابه، ولنقل إلينا غسله ما أصابه منها، ولجاء الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته بالتحرز منها، والتطهر منها إذا لحق الثوب شيء من ذلك، فلما لم يأت شيء من هذا علم أن الرطوبة طاهرة.
الدليل الثاني:
قال ابن مفلح الصغير: كانت عائشة تفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان من جماع؛ لأن الأنبياء لا يحتلمون (2) ، وهو يصيب الرطوبة، فلو حكمنا بنجاسته لحكمنا بنجاسة منيها؛ لأنه يلاقي رطوبته بخروجه منه (3) .
وقال ابن قدامة: لو حكمنا بنجاسة فرج المرأة لحكمنا بنجاسة منيها؛ لأنه يخرج من فرجها، فيتنجس برطوبته (4) .
_________
(1) المغني (1/414) .
(2) الأنبياء كغيرهم في هذا، ولم يثبت حديث صحيح في نفي الاحتلام عنه - صلى الله عليه وسلم -.
(3) المبدع (1/451) .
(4) المغني (1/414) .(13/265)
الدليل الثالث:
القول بنجاسة رطوبة فرج المرأة فيه حرج شديد، لأن في التحرز منه مشقة كبيرة، أكثر من المشقة في التحرز من ولوغ الهرة ونحوها، فلو كانت الرطوبة نجسة العين لخفف ذلك من أجل المشقة، فكيف والأدلة على نجاستها ليست صريحة في الباب.
دليل من قال: رطوبة الفرج نجسة:
الدليل الأول:
(1591-119) مارواه البخاري من طريق هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني أبو أيوب،
قال أخبرني: أبي بن كعب، أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل. قال: يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي.
قال ابن حجر:
قوله: " يغسل ما مس المرأة منه " أي يغسل الرجل العضو الذي مس فرج المرأة من أعضائه، وهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم؛ لأن المراد رطوبة فرجها. ورواه مسلم بنحوه (1) .
الدليل الثاني:
(1592-120) ما رواه البخاري من طريق يحيى، عن أبي سلمة، أن عطاء بن يسار أخبره، أن زيد بن خالد أخبره،
_________
(1) البخاري (284) ، ومسلم (522) .(13/266)
أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه قلت: أرأيت إذا جامع فلم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره.
قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علياً والزبير وطلحة وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك (1) .
وجه الاستدلال:
قال النووي: هذان الحديثان (يعني: حديث أبي بن كعب وعثمان) في جواز الصلاة بالوضوء بلا غسل منسوخان كما سبق في باب ما يوجب الغسل. وأما الأمر بغسل الذكر وما أصابه منها فثابت غير منسوخ، وهو ظاهر في الحكم بنجاسة رطوبة الفرج.
واعترض على هذا التوجيه بجوابين:
الأول: قالوا: إن غسل الذكر من الجماع مستحب، وليس بواجب.
الثاني: قالوا: إن الوضوء وغسل الذكر عند الإكسال منسوخان بأحاديث إيجاب الغسل (2) ، فالحكم الشرعي الأول في أول الإسلام كان في الإيلاج واجبان: الوضوء، وغسل الذكر.
والحكم المتأخر: هو إيحاب غسل البدن، فنسخ الحكم الأول برمته، واستقر الحكم الثاني.
والحقيقة أن كلام النووي عندي أقوى، وعند التأمل ليس فيه نسخ للحكم الأول، بل زيادة عليه.
_________
(1) صحيح البخاري (173) ، ومسلم (524) .
(2) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ (ص: 30- 36) .(13/267)
فمن وجب عليه غسل بدنه كله فقد غسل في ذلك ذكره ضمناً من باب أولى، فلم ينسخ الحكم بغسل العضو.
ومن وجب عليه الغسل دخل في ذلك الوضوء، فالوضوء وغسل الذكر دخلا تبعاً لوجوب الغسل.
لكن لفظ مسلم " يغسل ما أصابه من المرأة " ولفظ البخاري " يغسل ما مس المرأةَ منه "
فالمغسول في اللفظ الأول يختلف عن المغسول في اللفظ الثاني، فالمغسول في قوله: "يغسل ما أصابه من المرأة " هو رطوبة فرج المرأة، سواء على العضو أو على البدن أو عليهما.
والمغسول في لفظ البخاري " يغسل ما مس المرأة منه " هو ذكره؛ لأنه هو الذي مس المرأة منه.
فإن أخذنا بلفظ البخاري: وهو غسل الذكر " فلم ينسخ، لأنه داخل في وجوب غسل البدن.
وإن أخذنا لفظ مسلم " يغسل ما أصابه من المرأة " فهل نسخ هذا الحكم أم لا؟ الأولى والله أعلم حمل لفظ مسلم على لفظ البخاري، وأن المقصود من اللفظين غسل الذكر، لا سيما أنه ورد في الصحيحين اللفظ الصريح في ذلك، قال: " في الرجل يأتي أهله ثم لا ينزل، قال: يغسل ذكره ويتوضأ.
الدليل الثالث:
أن هذه الرطوبة في الفرج، ولا يخلق منه الولد فأشبه المذي (1) .
_________
(1) المغني (1/414) .(13/268)
وأجيب:
بأنه ليس كل شيء في الفرج لا يخلق منه الولد فهو يشبه المذي، لأن الفرج يطلق على القبل والدبر كما هو معلوم، ومع ذلك هذه الريح في الفرج، ولا يخلق منها الولد، وهي طاهرة.
الدليل الرابع:
قالوا: إنه عرق متولد من مكان النجاسة (1) .
اعتراض عليه:
لا نسلم أن فرجها نجس، لأنه لو كان نجسا لحكمنا بنجاسة منيها لخروجه من الفرج.
دليل من قال بطهارتها إن كانت من مباحة الأكل:
قاس رطوبة فرجها على بولها، فإذا كان بول ما يؤكل لحمه طاهراً -كما قدمنا في مسألة مستقلة- فرطوبة فرجها تأخذ حكمه، إلا المتغذي على النجاسة فهو في حكم الجلالة عنده، والجلالة بولها نجس عندهم، وقد نوقشت في مسألة مستقلة، أو كان ذلك بعد الحيض، فإنه يتنجس بدم الحيض.
دليل من قال: ما أصاب منه في حال الجماع فنجس:
لأن حال الجماع مظنة تلوثه بالمذي، فيتنجس لمخالطته النجاسة.
والراجح القول بالطهارة من الحيوان الطاهر، لأنه بمنزلة العرق، خاصة من الإنسان ومن الحيوان حلال الأكل، أما الأول فلعدم الدليل المقتضي
_________
(1) مغني المحتاج (1/81) .(13/269)
للنجاسة كما قدمنا، وأما الثاني فلأن بوله طاهر على الصحيح، فكذلك رطوبة فرجه من باب أولى، ولأن من قال بالنجاسة ليس له دليل يعتمد عليه، والله أعلم.(13/270)
الفصل السابع
في اللبن
المبحث الأول
في طهارة لبن الآدمي الحي
إن كان لبن المرأة من امرأة مسلمة حال الحياة فهو طاهر بالإجماع، لأن ما جاز تناوله كان ذلك دليلاً على طهارته.
وإن كان من امرأة كافرة كان الخلاف فيه مبنياً على طهارة الكافر، فمن رآى أن الكافر طاهر، كان لبن المرأة الكافرة طاهراً، ومن رأى أنه نجس، كان لبن المرأة نجساً، تبعاً لعينه كرأي ابن حزم (1) ، وقد تقدم الخلاف في عين الكافر، هل هو طاهر أم نجس؟ ورجحنا طهارة عينه، وأن نجاسته نجاسة معنوية.
_________
(1) المحلى (مسألة: 139) .(13/271)
[صفحة فارغة](13/272)
المبحث الثاني
في طهارة لبن الآدمي الميت
اختلف العلماء في لبن المرأة الميتة،
فقيل: إنه نجس، وهو قول في مذهب المالكية (1) ، وقول في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: لبنها طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (3) ، والمذهب عند الشافعية (4) .
وقد ذكرت أدلة هذه المسألة في باب أحكام الميتة (5) .
_________
(1) الخرشي (1/85) ، حاشية الدسوقي (1/51) ، وقال القرطبي في تفسيره (10/126) : فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حياً وميتاً، فهو طاهر، ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. الخ كلامه رحمه الله.
(2) المجموع (1/299، 300) .
(3) قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/182) : وأما لبن الآدمي فطاهر مباح مطلقاً، خرج في الحياة أو بعد الموت على المعتمد. اهـ وانظر منح الجليل (1/48) .
(4) قال النووي في المجموع (1/299، 300) : إذا ماتت امرأة وفي ثديها لبن - فإن قلنا ينجس الآدمي بالموت - فاللبن نجس كما في الشاة. وإن قلنا بالمذهب: إن الآدمي لا ينجس بالموت فهذا اللبن طاهر; لأنه في إناء طاهر. اهـ
(5) في المبحث الخامس من الباب الرابع.(13/273)
[صفحة فارغة](13/274)
المبحث الثالث
في لبن البهيمة المأكولة حال الحياة أو بعد التذكية الشرعية
لا خلاف بين العلماء في طهارة لبنها.
قال النووي: الألبان أربعة أقسام: أحدها: لبن مأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم والخيل والظباء وغيرها من الصيود وغيرها , وهذا طاهر بنص القرآن والأحاديث الصحيحة والإجماع. اهـ
فأما القرآن فلقوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ممن بين فرث ودم لبنا خالصا سائغاً للشاربين} (1) .
قال الكاساني: خرجت الآية مخرج الامتنان، والمنة في موضع النعمة تدل على الطهارة (2) .
(1593-121) وقد روى البخاري، من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال ابن المسيب:
قال أبو هريرة: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن. قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك (3) .
قال الشيرازي: إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذبح شيء من أجزائه, ويجوز الانتفاع بجلده وشعره وعظمه ما لم يكن عليها نجاسة; لأنه جزء طاهر
_________
(1) النحل: 66.
(2) بدائع الصنائع (1/63) .
(3) صحيح البخاري (4709) ، ومسلم (168) .(13/275)
من حيوان طاهر مأكول، فجاز الانتفاع به بعد الذكاة كاللحم.
قال النووي في شرح هذه العبارة: هذا الذي ذكره متفق عليه , وقوله: "من حيوان مأكول " احتراز من أجزاء غير المأكول، فإنه لا يجوز الانتفاع بها بمجرد الذكاة (1) .
قلت: ومن ذلك اللبن، فإنه طاهر بعد التذكية، كما أنه طاهر قبلها. والله أعلم.
_________
(1) المجموع (1/301) .(13/276)
المبحث الرابع
في لبن البهيمة المأكولة الميتة
اختلف أهل العلم في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم،
فقيل: إنه طاهر، وهذا قول أبي حنيفة (1) ، ورواية عن الإمام أحمد (2) ، واختيار داود الظاهري (3) ، ورجحه ابن تيمية (4) .
وقيل: نجس، اختاره أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (5) ، وهو مذهب المالكية (6) ، والشافعية (7) ،والمشهور من مذهب الحنابلة (8) .
وانظر أدلة كل قول في الباب الرابع في أحكام الميتة (9) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/96) ، و (3/455) ، أحكام القرآن للجصاص (1/168) ، المبسوط (24/27) ، تبيين الحقائق (1/26) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/102، 103) .
(3) المغني (1/57) ، الفروع (1/107) ، الإنصاف (1/92) .
(4) مجموع الفتاوى (21/103) ، الفتاوى الكبرى (1/171) .
(5) بدائع الصنائع (1/63) ، شرح فتح القدير (1/96، 97) .
(6) قال ابن عبد البر في الكافي (ص: 188) : " ولا تؤكل بيضة أخرجت من دجاجة ميتة، وكذلك لبن الميتة؛ لأنه في ظرف نجس؛ لأنه يموت بموت الشاة. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/50) ،
(7) قال الشيرازي (1/299، 300) : وأما اللبن في ضرع الشاة الميتة فهو نجس ; لأنه ملاق للنجاسة فهو كاللبن في إناء نجس. اهـ
قال النووي شارحاً هذه العبارة: أما مسألة اللبن فهو نجس عندنا بلا خلاف, هذا حكم لبن الشاة وغيرها من الحيوان الذي ينجس بالموت. اهـ
(8) الفروع (1/107) ، المغني (1/57) ، الإنصاف (1/92) ، الإقناع.
(9) المبحث الخامس: الفرع الثاني.(13/277)
[صفحة فارغة](13/278)
الفصل الثامن
في القيح والصديد
إن خرج القيح والصديد من الحيوان حالة كونه نجساً
فهي نجسة، سواء كان نجساً حياً وميتاً، أو كان نجساً ميتاً، وخرجت منه في هذه الحالة.
وإن خرج القيح والصديد من حيوان حال طهارته، فهل تكون هذه الأشياء طاهرة بناء على طهارة الحيوان، أو تكون نجسة؟ هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم.
فقيل: إنها نجسة، وهو رأي الأئمة الأربعة (1) .
وقيل: إنها طاهرة، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) ، رجحه ابن حزم (3) ، واختاره الشوكاني (4) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/60) ، المبسوط (1/76) ، العناية شرح الهداية (1/38، 39) .
وفي مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/105) ، القوانين الفقهية (ص: 27) .
وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/577) ، روضة الطالبين (1/18) .
وفي مذهب الحنابلة: الفتاوى الكبرى (5/313) ، الفروع (1/253) ، الإنصاف (1/328) .
(2) الفروع (1/253) ، الإنصاف (1/328) .
(3) المحلى مسألة: 139 (1/181) .
(4) السيل الجرار (1/43) .(13/279)
دليل الجمهور على نجاسة القيح والصديد:
هذا القول مبني على القول بنجاسة الدم، وأن القيح والصديد أصلهما دمان استحالا إلى نتن وفساد، فيكون لهما حكم أصلهما.
وقد ساق النووي الإجماع على نجاسة القيح، فقال: القيح نجس بلا خلاف، وكذا ماء القروح المتغير نجس بالاتفاق (1) .
والخلاف محفوظ كما قدمنا في عرض الأقوال في طهارة القيح، وأنه قول في مذهب الحنابلة، رجحه ابن حزم.
دليل من قال بطهارة القيح والصديد:
الدليل الأول:
الأصل في الأعيان الطهارة، ولا نحكم بنجاسة شيء حتى يقوم دليل من الشرع صحيح صريح على النجاسة، ولا يوجد دليل على نجاسة القيح والصديد.
الدليل الثاني:
إذا كان الحيوان طاهراً، كان بعضه طاهراً كذلك، ومنه القيح والصديد،
الدليل الثالث:
القياس على نجاسة الدم أو لكونه استحال إلى نتن وفساد غير مسلم من ثلاثة وجوه:
الأول: أن الدم طاهر على الصحيح، وإذا كان الأصل طاهراً كان الفرع طاهراً كذلك.
_________
(1) المجموع (2/577) .(13/280)
الوجه الثاني:
أن القيح والصديد ليسا بمنزلة الدم حتى عند القائلين بالنجاسة، قال ابن قدامة: القيح والصديد كالدم فيما ذكرناه، وأسهل وأخف منه حكماً عند أبي عبد الله لوقوع الاختلاف فيه، فإنه روي عن ابن عمر والحسن أنهم لم يروا القيح والصديد كالدم، وقال أبو مجلز في الصديد لا شيء فيه، إنما ذكر الله الدم المسفوح (1) .
الوجه الثالث:
القول بأنهما استحالا إلى نتن وفساد غير كاف للحكم بالنجاسة، فهذا الطعام واللحم إذا ترك قد يلحقه نتن وفساد، ولا يحكم عليه بالنجاسة.
الراجح القول بطهارة القيح والصديد، لعدم وجود دليل صحيح يقتضي نجاسة هذه الأشياء، فتبقى على الأصل، وهو الطهارة حتى يثبت الدليل على نجاستها، والله أعلم.
_________
(1) المغني (1/120) .
وأثر أبي مجلز رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/110) رقم 1252، عن وكيع، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز أنه كان لا يرى القيح شيئاً، قال: إنما ذكر الله الدم. وسنده صحيح.(13/281)
[صفحة فارغة](13/282)
الفصل التاسع
في بيض الحيوان
المبحث الأول
في بيض مأكول اللحم
إن خرج البيض من حيوان مأكول في حال حياته, أو بعد تذكيته شرعاً, أو بعد موته, وهو مما لا يحتاج إلى التذكية كالسمك, فبيضه طاهر مأكول إجماعاً, إلا إذا فسد، وسوف يأتي معنى الفساد في البيض في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.
نقل الإجماع على ذلك النووي رحمه الله تعالى، حيث قال: البيض من مأكول اللحم طاهر بالإجماع (1) .
وإذا انفصلت البيضة من حيوان مأكول بعد موته دون تذكية شرعية، وهو مما يحتاج إلى التذكية، وكانت البيضة لم تتغير، فاختلف العلماء فيها:
فقيل: إنها طاهرة مطلقاً، سواء صلب قشرها أم لا، وهو مذهب الحنفية (2) ، واختاره بعض الشافعية (3) ، وابن عقيل من الحنابلة (4) .
_________
(1) المجموع (2/574) .
(2) بدائع الصنائع (1/76، 77) ، تبيين الحقائق (1/26، 27) ،
(3) المجموع (1/300) .
(4) الإنصاف (1/94) ، وقال في المستوعب (1/333) : وما جمد، ولم يصلب قشره في طهارته وجهان. اهـ(13/283)
وقيل: إنها نجسة مطلقاً سواء صلب قشرها أم لا، وهذا مذهب المالكية (1) .
وقيل: إن صلب قشرها فهي طاهرة، وإلا كانت نجسة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، واختاره ابن حزم (4) .
وانظر أدلة كل قول في الباب الرابع من أحكام الميتة (5) .
_________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/50) ، مواهب الجليل (1/93) ، التاج والإكليل (1/132) ، الخرشي (1/85) .
(2) المجموع (1/300) .
(3) قال في المستوعب (1/333) : وما صلب قشره من بيضها طاهر قولاً واحداً. اهـ وقال في الإنصاف (1/94) : إذا صلب قشر بيضة الميتة من الطير المأكول, فباطنها طاهر بلا نزاع ونص عليه, وإن لم يصلب فهو نجس على الصحيح من المذهب. وعليه أكثر الأصحاب. اهـ وانظر المغني (1/57، 58) ، شرح منتهى الإرادات (1/32) .
(4) المحلى، مسألة: 1010 (6/95) .
(5) الباب الرابع: المبحث السادس: في بيض الحيوان الميت.(13/284)
المبحث الثاني
بيض غير مأكول اللحم
اختلف العلماء في البيض غير مأكول اللحم،
فقيل: إنه طاهر، وهو مذهب المالكية (1) ، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: إنه نجس، وهو وجه في مذهب الشافعية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: إن بيضه تبع لأصله، فإن كان أصله طاهراً كان بيضه طاهراً، وإن كان أصله نجساً كان بيضه كذلك (5) .
_________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/43) ، مواهب الجليل (1/93) ، وقد أشار إلى خلاف في المذهب، فقد اختار بعضهم أن بيض الطير طاهر، وبيض السباع والحشرات تبع للحومها، ورجح المصنف الطهارة مطلقاً.
(2) قال النووي في المجموع (2/574) : البيض من مأكول اللحم طاهر بالإجماع , ومن غيره فيه وجهان كمنيه، والأصح الطهارة. اهـ وانظر الأشباه والنظائر (ص: 448) ، مغني المحتاج (4/306) .
(3) مغني المحتاج (4/306) ، إعانة الطالبين (2/352) .
(4) كشاف القناع (1/195) .
(5) استفدت هذا من كلام ابن قدامة في حكم بيع بيض ما لا يؤكل لحمه، حيث يقول في المغني (4/175) : أما بيض ما لا يؤكل لحمه من الطير, فإن كان مما لا نفع فيه, لم يجز بيعه , طاهراً كان أو نجساً. وإن كان ينتفع به, بأن يصير فرخاً, وكان طاهراً, جاز بيعه; لأنه طاهر منتفع به; أشبه أصله, وإن كان نجساً, كبيض البازي, والصقر, ونحوه, فحكمه حكم فرخه. وقال القاضي: لا يجوز بيعه; لأنه نجس, لا ينتفع به في الحال. وهذا ملغى بفرخه, وبالجحش الصغير. اهـ(13/285)
دليل من قال بالطهارة:
ذهب إلى عدم الدليل المقتضي للنجاسة، والأصل في الأعيان الطهارة، وفرق بين الطهارة وبين إباحة الأكل، فليس كل محرم الأكل يكون نجساً، وإن كان كل نجس محرم الأكل، ومن ادعى نجاسة شيء فعليه الدليل.
دليل من قال بالنجاسة:
قال: ما دام أن لحمه محرم الأكل، فكذلك ما نتج منه، كاللبن والبيض ونحوهما، وتحريم الأكل من غير ضرر أو تكريم دليل على النجاسة.
دليل من قال: إن البيض تبع لأصله:
هذا القول قاس البيض على الحيوان، فإن كانت من حيوان نجس، كان بيضه نجساً، وإن كانت من حيوان طاهر كان بيضه طاهراً قياساً على أصله.
والذي يبدو أن القول بقياس البيض على أصله قول فيه قوة، جرياً على قاعدة: التابع تابع، ولأن البيض مستخلص من الحيوان، فهو جزء منه، فيكون حكمه تبعاً لأصله، والله أعلم.(13/286)
المبحث الثالث
في البيض الفاسد
البيض تارة يتغير بعفن، وتارة يصير دماً.
فإن تغير بعفن، فقيل: إنه طاهر، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: نجس، وهو مذهب المالكية (2) .
وإن تغير بأن صارت البيضة دماً،
فقيل: إنها نجسة، وهو مذهب الجمهور (3) .
وقيل: إنها طاهرة، إذا قال أهل المعرفة: إنها صالحة للتخلق، وهذا مذهب الشافعية (4) ، ووجه في مذهب الحنابلة (5) .
_________
(1) مغني المحتاج (4/305) ، حواشي الشرواني (9/388) ، المجموع (2/575) ، الفروع (1/79، 218) ، الإنصاف (1/328) ، كشاف القناع (1/191) ، الموسوعة الكويتية (8/267) .
(2) منح الجليل (1/47) ، مواهب الجليل (1/93) ، الشرح الصغير (1/44) ، حاشية الدسوقي (1/50) .
(3) انظر في مذهب الحنفية: العناية شرح الهداية (1/84) ،
وفي مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/93) ، الشرح الصغير (1/44) .
وفي مذهب الحنابلة: الفروع (1/218) ، الإنصاف (1/328) ، كشاف القناع (1/191) ، شرح العمدة (1/130) .
(4) قال في إعانة الطالبين (1/84) : ولو استحالت البيضة دماً، وصلح للتخلق فطاهرة، وإلا فلا. وقال أيضاً: ولو استحالت البيضة دماً فهي طاهرة على ما صححه المصنف في تنقيحه، وصحح في شروط الصلاة منه، وفي التحقيق وغيره أنها نجسة. اهـ وانظر الإقناع للشربيني (1/89) ، حواشي الشرواني (1/298) ، مغني المحتاج (1/80) ، تحفة المحتاج (1/298) .
(5) الفروع مع تصحيح الفروع (1/218) ، الإنصاف (1/328) ، وهذا الوجه عند الحنابلة لم يشترطوا فيه صلاحيتها للتخلق كما شرطه الشافعية.(13/287)
دليل الجمهور:
أن الدم المسفوح نجس، وهذا منه، ولذلك نص المالكية لو أن الدم مجرد نقطة لم تنجس البيضة؛ لأن النقطة ليس من الدم المسفوح، فيفهم منه: أنه إذا كان أكثر من ذلك كان نجساً.
ودليل من قال بالطهارة:
قال: إن هذا التغير من جنس اللحم إذا تغيرت رائحته، فلا يحكم له بالنجاسة، وهذا أقرب القولين، والله أعلم.(13/288)
المبحث الرابع
سلق البيض بماء نجس
إذا سلق البيض بماء نجس،
فقيل: لا يضره، وهذا مذهب الجمهور (1) .
وقيل: لا يحل أكله، وهو مذهب المالكية (2) .
دليل الجمهور:
قالوا: إذا سلق البيض بالماء النجس، فإنه بمنزلة الماء المسخن بالنجاسة، فإذا كان ذلك لا يضر الماء، فكذلك لا يضر البيض.
ودليل المالكية:
إن البيض يتأثر بالماء، ويتعذر تطهيره منه، لسريان الماء النجس في مسامه.
الراجح من القولين:
ينبني على ما إذا كان لقشرة البيض مسام أو لا، فإن ثبت أن لها مساماً فلا شك في نجاسة البيض حينئذ، لمخالطة ما بداخلها للنجاسة، وإن لم يثبت لها مسام كما هو الظاهر فليست نجسة، وذلك لأن السائل الذي بداخلها قد تجمد بفعل الحرارة، فلم تصل إليه النجاسة، والله أعلم.
_________
(1) روضة الطالبين (3/279) ، مغني المحتاج (4/305) ، المجموع (9/32) ، شرح العمدة (1/130) .
(2) التاج والإكليل (1/113) ، مواهب الجليل (1/115) ، الدسوقي (1/60) .(13/289)
[صفحة فارغة](13/290)
الباب الثالث:
في الآسار
الفصل الأول
في سؤر الآدمي
ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى طهارة سؤر الآدمي مطلقاً، سواء كان محدثاً أم غير محدث، وسواء كان رجلاً أم امرأة، واستثنى بعضهم سؤر الآدمي حال شرب الخمر، أما لو مكث قدر ما يغسل فمه بلعابه، فلا بأس بسؤره (1) ،
واشترط ابن حزم في طهارة سؤر الآدمي الكافر عدم ظهور أثر لعاب
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (1/108) ، المبسوط (1/47) ، الهداية شرح البداية (1/23) ، تبيين الحقائق (1/31) ، بدائع الصنائع (1/63) ، البحر الرائق (1/133) .
وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/45) ، وقال في التاج والإكليل (1/52) : ولا بأس بسؤر الحائض والجنب، وما فضل عنهما من وضوء أو غسل، لا بأس بشربه وبالوضوء منه. اهـ وانظر الشرح الكبير (1/34، 35) ، مواهب الجليل (1/52) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/225) وقد ذهب إلى طهارة سؤر جميع الحيوانات المأكول منها وغير المأكول عدا الكلب والخنزير وما تولد منهما.
وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/245) ، الكافي (1/13) ، الفروع (1/264) ، كشاف القناع (1/193) .(13/291)
الكافر فيه، فإن ظهر تنجس السؤر؛ لأنه يرى نجاسة بدن الكافر وقد ذكرنا أدلته في مسألة مستقلة.
الأدلة على طهارة سؤر الآدمي:
الدليل الأول:
عدم الدليل على نجاسة سؤر الآدمي، والأصل في الأشياء الطهارة.
الدليل الثاني:
إذا كان بدن الآدمي طاهراً، فكذلك سؤره؛ لأن سوره متحلب من بدنه، وقد تقدم ذكر الأدلة على أن بدن الآدمي طاهر في فصل مستقل.
الدليل الثالث:
(1594-122) ما رواه البخاري، من طريق الزهري، قال:
حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه، أنها حُلِبَت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاةٌ داجن، وهي في دار أنس بن مالك، وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدح، فشرب منه حتى إذا نزع القدح من فيه، وعلى يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي فقال عمر - وخاف أن يعطيه الأعرابي- أعط أبا بكر يا رسول الله عندك، فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه ثم قال: الأيمن فالأيمن. ورواه مسلم بنحوه (1) .
فإن قيل: هذا سؤر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس سؤره كسؤر غيره، قيل: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: الأيمن فالأيمن دليل على طهارة السؤر، ولو من غيره - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن الأصل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كغيره في الطهارة والنجاسة على الصحيح.
_________
(1) صحيح البخاري (2352) ، ومسلم (3783) .(13/292)
وأصرح منه ما رواه البخاري، قال: حدثني أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث، حدثنا عمر بن ذر، حدثنا مجاهد،
أن أبا هريرة كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحق، ومضى، فتبعته فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم، فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح(13/293)
فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح، فوضعه على يده فنظر إلي، فتبسم، فقال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت.
قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد، فاشرب، فقعدت، فشربت فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. قال: فأرني فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى، وشرب الفضلة (1) .
وجه الشاهد من الحديث:
أن الصحابة رضي الله عنهم شرب بعضهم من سؤر بعض، ولو كان سؤر الآدمي نجساً لم يتناوله، ولم يشرب منه - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الدليل على طهارة سؤر المحدث:
(1595-123) فهو ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير ابن حرب، قالا: حدثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن المقدام بن شريح عن أبيه،
عن عائشة، قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيِّ فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيّ. ولم يذكر زهير فيشرب (2) .
قال القرطبي: قولها: " أتعرق العرْق ": أي العظم الذي عليه اللحم،
_________
(1) صحيح البخاري (6451) .
(2) صحيح مسلم (300) .(13/294)
وجمعه عراق، وأتعرقه: آكل ما عليه من اللحم، وهذه الأحاديث متفقة الدلالة على أن الحائض لا ينجس منها شيء، ولا يجتنب إلا موضع الأذى منها فحسب" (1) .
وأما طهارة سؤر الكافر، فقد أباح الله لنا نكاح نساء أهل الكتاب، ومعاشرة الرجل للمرأة يقتضي منه أن يخالط ريقه ريقها، وأن يمس بدنه بدنها، وكذلك أباح الله لنا طعام أهل الكتاب، وقد ذبحوه في أيديهم، وطبخوه في آنيتهم، فإذا كانت أبدانهم طاهرة فكذلك سؤرهم، وقد سبق في فصل مستقل طهارة أبدان الكفار في أول الكتاب.
_________
(1) المفهم (1/559) .(13/295)
[صفحة فارغة](13/296)
الفصل الثاني
في طهارة سؤر الحيوان المأكول اللحم
ذهب الأئمة الأربعة إلى طهارة سؤر ما يؤكل لحمه (1) .
واستدلوا:
الدليل الأول:
الإجماع، فقد أجمع الفقهاء على طهارة سؤر ما يؤكل لحمه (2) .
الدليل الثاني:
أن لعاب الحيوان متحلب من لحمه، ولحمه طاهر فيكون سؤره طاهراً أيضاً، لأن ملاقاة الطاهر للطاهر لا توجب تنجيسه.
_________
(1) المبسوط (1/47، 48) ، تبيين الحقائق (1/31) ، شرح فتح القدير (1/108) ، مواهب الجليل (1/51،52) ، الخرشي (1/65) ، المجموع (1/225) ، المغني (1/45) ، المحلى، مسألة: 133 (1/136) .
(2) المغني (1/45) .(13/297)
[صفحة فارغة](13/298)
الفصل الثالث
في طهارة سؤر الحيوان غير مأكول اللحم
اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً كثيراً، ولم يطردوا القول في الحيوانات غير المأكولة لاختلافهم في طهارتها، وذلك لأن الحيوانات غير المأكولة منها ما هو طاهر في الحياة، ومنها ما هو نجس متفق على نجاسته، ومنها ما هو مختلف في نجاسته، ولذلك سوف نعرض لذكر هذه الحيوانات على سبيل التفصيل، ويمكن لنا أن نقسم الحيوانات غير المأكولة إلى أقسام عدة، منها:
ـ سؤر الهرة.
وسؤر الحمار والبغل.
وسؤر سباع البهائم والطير.
وسؤر الخنزير.
وسؤر الكلب، هذه أهم التقسيمات للحيوانات غير المأكولة.(13/299)
[صفحة فارغة](13/300)
المبحث الأول
في سؤر الهرة وما دونها في الخلقة.
ذهب الحنفية إلى أن سؤر الهرة وحشرات البيوت كالفأرة والحية طهور مكروه (1) .
وذهب الأئمة الثلاثة إلى طهارة سؤرها بلا كراهة (2) .
وقيل: يغسل الإناء من ولوغ الهرة، قال به أبو هريرة (3) ، وسعيد بن
_________
(1) (1) قال في المبسوط (1/50) : فأما سؤر حشرات البيت كالفأرة, والحية, ونحوهما في القياس فنجس; لأنها تشرب بلسانها, ولسانها رطب من لعابها, ولعابها يتحلب من لحمها, ولحمها حرام, ولكنه استحسن فقال: طاهر مكروه; لأن البلوى التي وقعت الإشارة إليها في الهرة موجودة هنا، فإنها تسكن البيوت, ولا يمكن صون الأواني عنها. اهـ وانظر البناية (1/444) شرح معاني الآثار (1/19) ، إعلاء السنن للتهانوي (1/288) ، مرقاة المفاتيح (2/61) شرح المشكاة للطيبي (2/108) .
(2) انظر في مذهب المالكية: الاستذكار (2/112) ، البيان والتحصيل (1/44) ، التمهيد (3/18) ، عارضة الأحوذي لابن العربي (1/137) .
وانظر في مذهب الشافعية: الوسيط للغزالي (1/341) ، الأوسط (1/277) ، روضة الطالبين (1/143) .
وانظر في مذهب الحنابلة: المبدع (1/257) ، الإنصاف (1/243) ، تنقيح التحقيق (1/267) ، شرح الزركشي (1/139) .
(3) رواه أبو داود (72) عنه بسند صحيح. وقد جاء عن أبي هريرة خلافه، فعلى هذا يكون لأبي هريرة قولان في المسألة.
فقد أخرجه أبو عبيد في الطهور (222) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/302) قال: نا علي بن معبد، عن أبي المليح: الحسن بن عمرو الفزاري، عن ميمون بن مهران، أنه سئل عن سؤر السنور؟ فقال: إن أبا هريرة كان لا يرى بأساً، وربما كفى له الإناء، وقال: إنما هو من أهل البيت. وهذا سند صحيح أيضاً.(13/301)
المسيب (1) ، ومحمد بن سيرين (2) ، وعطاء (3) ، وقتادة (4) ، والحسن (5) رضي الله عنهم جميعاً.
دليل من قال: يكره سؤر الهرة:
يرى الحنفية أن الهرة عينها نجسة، لكن سقطت نجاسة سؤرها لعلة التطواف، وبقيت الكراهة لإمكان التحرز منه.
دليل من قال بطهارة سؤرها:
(1596-124) ما وراه مالك، عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها:
_________
(1) روى ابن أبي شيبة (1/38) رقم 344 من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: يغسل مرتين.
وروى عبد الرزاق (345) عن معمر، عن قتادة، قال: سألت ابن المسيب عن الهر يلغ في الإناء؟ قال: يغسل مرة أو مرتين.
(2) روى ابن أبي شيبة في المصنف (1/38) رقم: 340 من طريق أيوب، عن محمد في الإناء يلغ فيه الهر، قال: يغسل مرة. وسنده صحيح.
(3) روى عبد الرزاق في المصنف (342) عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: الهر؟ قال: هو بمنزلة الكلب، أو شر منه. وسنده صحيح.
وروى ابن أبي شيبة (1/38) رقم: 342 عن الحسن بن علي، قال: سمعت عطاء يقول في الهر يلغ في الإناء: يغسله سبع مرات.
(4) روى ابن أبي شيبة (1/38) رقم 345 حدثنا غندر، عن هشام، عن قتادة، قال: يغسل مرتين أو ثلاثاً. وسنده صحيح.
(5) روى ابن أبي شيبة (1/38) رقم: 341 حدثنا معتمر، عن يونس، عن الحسن أنه سئل عن الإناء يلغ فيه السنور، قال: يغسل.(13/302)
أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل الثاني:
(1597-125) ما رواه إسحاق بن راهوية في مسنده (3) ، قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، نا داود بن صالح التمار، عن أمه،
عن عائشة أنها قالت في الهرة: إنما هي من الطوافين عليكم، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها.
[إسناده ضعيف، واختلف في وقفه ورفعه] (4) .
دليل من قال: يغسل الإناء من ولوغ الهر:
(1598-126) ما رواه الترمذي في سننه، قال: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب يحدث، عن محمد ابن سيرين،
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة.
_________
(1) الموطأ (1/44) .
(2) سبق تخريجه، انظر رقم: 1507 من هذا الكتاب.
(3) المسند (2/458، 436) ح 460.
(4) سبق تخريجه، انظر رقم (1507) فقد ذكرت تخريجه ضمن شواهده.(13/303)
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولم يذكر فيه إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة (1) .
[المحفوظ أن الأمر بغسل الإناء من ولوغ الهر موقوف على أبي هريرة] (2) .
الدليل الثاني:
(1599-127) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، قال: ثنا محمد بن سيرين،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين. قرة شك (3) .
[أخطأ فيه أبو عاصم في رفعه، والمحفوظ في رواية قرة كونه موقوفاً على أبي هريرة] (4)
الدليل الثالث:
(1600-128) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عيسى ابن المسيب، عن أبي زرعة،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الهر سبع (5) .
[إسناده ضعيف] (6) .
_________
(1) سنن الترمذي (91) .
(2) سبق تخريجه، انظر رقم: 1504.
(3) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/19) .
(4) سبق تخريجه، انظر رقم: 1505.
(5) المسند (2/442) .
(6) سبق تخريجه انظر رقم: 1506.(13/304)
وإذا كان الهر سبعاً، فإن غسل الإناء منه واجب.
الراجح:
إذا كنا قد رجحنا طهارة عين الهرة، كما في الكلام على ذوات الحيوان، فإننا نطهر سؤره كذلك، وحديث أبي قتادة نص في الموضوع في المسألتين: في طهارة عينه، وفي طهارة سؤره، حيث قال: إنها ليست بنجس، فنفى النجاسة عن ذاتها وجعله ذلك علة في الوضوء من سؤرها.(13/305)
[صفحة فارغة](13/306)
المبحث الثاني
في طهارة سؤر البغل والحمار
اختلف العلماء في طهارة سؤر الحمار والبغل،
فقيل: مشكوك فيه، وهذا مذهب الحنفية (1) ، وبناء عليه يكون استعمال سؤرهما مكروهاً.
وقيل: سؤرهما طاهر، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، ورواية عن أحمد (4) .
وقيل: نجس، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (5) .
وهذه الأقوال مبنية على اختلاف الفقهاء في ذواتهما، فمن ذهب إلى نجاسة عين الحمار والبغل ذهب إلى نجاسة سؤره، ومن رأى طهارتهما في حال الحياة ذهب إلى طهارة سؤرهما، ومن توقف في أعيانهما كالحنفية لاختلاف الأدلة رأى أن سؤرهما مشكوك فيه، وقد ذكرنا أدلة كل فريق في هذه المسألة - أعني الخلاف في ذواتهما - وذكرنا الراجح فيما سبق، فلا داعي لإعادته في هذا الباب.
_________
(1) بدائع الصنائع (1/65) ، تبيين الحقائق (1/34) ، الجوهرة النيرة (1/25) ، البحر الرائق (1/140) ، الفتاوى الهندية (1/24) .
(2) المنتقى للباجي (1/63) ، مواهب الجليل (1/51) .
(3) المجموع (2/607) .
(4) الإنصاف (1/342) ، الفروع (1/256) ، كشاف القناع (1/192) .
(5) الإنصاف (1/342) .(13/307)
ويزاد على ما لم يذكر هناك ما نذكره هنا في مناقشة الحنفية في ذهابهم إلى أنه مشكوك فيه.
فالقول بأن هناك شيئاً من أحكام الشريعة مشكوكاً فيه غير صحيح، ولا يجوز القول به ولا اعتقاده؛ لأن الشك إنما هو أمر عارض يعتري المجتهد عند تعارض الأدلة، وما يكون مشكوكاً فيه عند مجتهد لا يكون مشكوكاً فيه عند آخر؛ لأن الشك في الشيء هو عجز عن الوصول إلى الحكم الشرعي قطعياً كان أو ظنياً، والتوقف وإن صح أن يكون من آحاد المجتهدين لقصور أو تقصير، لكن لا يصح كونه مذهباً يدعى إليه وإلى تبنيه من أتباع المذهب الحنفي، بل يجب على غيرهم من علماء المذهب الحنفي الاجتهاد في الوصول إلى الحكم الشرعي، واختلاف الصحابة في شيء لا يوجب الشك في طهارة الشيء، فليس كل ما اختلف فيه الصحابة يكون حكمه مشكوكاً فيه، وإلا أدى الأمر إلى الشك في كثير من الأحكام الشرعية؛ لأن الأمور التي اختلف فيها الصحابة أكثر من الأمور التي اتفقوا عليها، بل يجب النظر في خلافهم، والأخذ بما هو أقرب إلى الكتاب والسنة وقواعد الشرع.
ثم إن الأحكام الشرعية جميعها قد بينها الله سبحانه وتعالى بياناً واضحاً، كما قال تعالى: {وأنرلنا إليك الكتاب تبياناً لكل شيء} ولكن هذا البيان لم يعلمه كل أحد، والخلاف إنما هو ناشئ عن اختلاف الأفهام، فالقصور والتقصير إنما هو من قبل البشر، لا من قبل التشريع قطعاً.(13/308)
المبحث الثالث
في سؤر سباع البهائم والطير
اختلف العلماء في سؤر سباع البهائم والطير،
فقيل: سؤر سباع الطير طاهر، وسؤر سباع البهائم نجس، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: سؤرهما طاهر، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) .
وقيل: سؤرهما نجس، وهو مذهب الحنابلة (4) .
وهذا الخلاف راجع إلى الخلاف في أعيانها هل هي طاهرة أم نجسة، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة مستقلة، إلا أن هنا كلاماً يزاد على ما ذكر، وهو وجه التفريق عند الحنفية بين سباع الطير، وبين سباع البهائم، مع أن ذواتها نجسة عندهم، قالوا في وجه التفريق:
إن القياس نجاسة سؤرها على نجاسة لحمها، ولكن ترك هذا القياس للاستحسان، وذلك أن سباع الطير تشرب بمنقارها، وهو عظم جاف، بخلاف سباع البهائم التي تشرب بلسانها، والذي يكون فيه رطوبة من لعابها، وهو نجس، وسباع الطير تنقض من علو لتشرب من الأواني، وفي الحكم بتنجيس آسارها حرج شديد، والحرج مرفوع عن هذه الأمة، والله أعلم.
_________
(1) المبسوط (1/51، 52) ، بدائع الصنائع (1/64، 65) ، تبيين الحقائق (1/33) .
(2) المنتقى للباجي (1/62) ، أحكام القرآن لابن العربي (3/443) ، حاشية الدسوقي (1/44) وعبر بعضهم بكراهة سؤر ما لا يتوقى النجاسة منها إلا أن يشق الاحتراز منه فلا كراهة.
(3) المجموع (1/223) .
(4) كشاف القناع (1/192) ، الإنصاف (1/329) .(13/309)
الراجح:
قد سبق فيما مضى ترجيح أن أعيان السباع نجسة، ولكن هذا لا يكفي للحكم بنجاسة سؤرها؛ لأن نجاسة سؤرها مبني على مسألة أخرى، وهي إذا وقعت نجاسة في الماء، فهل ينجس بمجرد وقوع النجاسة، أو يشترط للحكم بالنجاسة أن يتغير أحد أوصاف الماء: طعمه أو لونه أو ريحه؟.
فالعلماء متفقون على أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فإنه طهور،
وقد نقل الإجماع على ذلك ابن الهمام من الحنفية (1) ، وابن رشد، من المالكية (2) ، وابن المنذر من الشافعية (3) ، وعبد الرحمن بن قدامة من الحنابلة (4) .
وطوائف من العلماء، منهم: الطبري (5) ، وابن حزم (6) ، وابن تيمية (7) ،
_________
(1) شرح فتح القدير (1/77،78) ، وانظر البناية (1/319) ، البحر الرائق (1/94) .
(2) مواهب الجليل (1/53) ، ونقل الإجماع كذلك ابن عبد البر كما في التمهيد (9/108) ، وقال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد (1/245) : " واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه، وأنه طاهر ".
وقال الحطاب في مواهب الجليل (1/53) : الماء الكثير إذا خالطه شيء نجس، ولم يغيره، فإنه باق على طهوريته. اهـ وانظر الخرشي (1/77) .
(3) الإجماع (ص: 33) ، وانظر الأوسط (1/261) .
(4) الشرح الكبير (1/13) .
(5) تهذيب الآثار (2/219،233) .
(6) مراتب الإجماع (ص: 17) .
(7) نقد مراتب الإجماع (ص: 17) .(13/310)
وابن قدامة (1) ، وابن دقيق العيد (2) ، والزركشي (3) ، وابن رجب (4) ، والعراقي في طرح التثريب (5) ، وابن عبد الهادي (6) ، والشوكاني (7) ، وغيرهم.
واتفقوا كذلك على أن الماء إذا تغير بالنجاسة فإنه ينجس مطلقاً كثيراً كان أو قليلاً.
وممن نقل الإجماع على ذلك الطحاوي (8) ، وابن نجيم (9) من الحنفية.
وأبو الوليد ابن رشد من المالكية (10) .
وقال الشافعي رحمه الله: وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه، أو لونه، كان نجساً، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يثبت مثله أهل الحديث،
_________
(1) المغني (1/39) .
(2) إحكام الأحكام (1/22،23) .
(3) شرح الزركشي (1/134،134) .
(4) القواعد (29) .
(5) طرح التثريب (1/36) .
(6) مغني ذوي الأفهام (ص: 42) .
(7) نيل الأوطار (1/45) .
(8) شرح معاني الآثار (1/12) ، ونقل الإجماع العيني كما في البناية (1/130) ، وابن الهمام كما في شرح فتح القدير (1/77) ، وغيرهما.
(9) البحر الرائق (1/74) .
(10) مواهب الجليل (1/53،60) ، وانظر مقدمات ابن رشد (1/57) ، والمنتقى للباجي (1/56،59) ، وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي (1/223) : فإن تغير الماء لم يطهر إجماعاً. وانظر البيان والتحصيل (1/42،60،134) ، القوانين الفقهية (32) .(13/311)
وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه اختلافاً (1) ، ونقله النووي أيضاً (2) .
وقال ابن تيمية: إذا وقع في الماء نجاسة، فغيرته، تنجس اتفاقاً (3) .
وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء منهم:
ابن عبد البر (4) ، وأبو العباس بن سريج (5) ، وابن جرير الطبري (6) ، وابن المنذر (7) ، وابن حبان (8) ، والقاضي عياض (9) ، وابن القطان الفاسي (10) ، وابن
_________
(1) الأم (1/13) .
(2) المجموع (1/131) ، وقد نقل الإجماع مجموعة من الشافعية، منهم الماوردي في الحاوي (1/325) ، والعراقي في طرح التثريب (2/32،35) ، 33) ، شرح المنهج (1/41) ، الغرر البهية (1/34) .
(3) مختصر الفتاوى المصرية (ص: 18) .
(4) التميهد (18/235،236) ، (19/16) ، والاستذكار (1/211) .
(5) الودائع لنصوص الشرائع (1/93) .
(6) تهذيب الآثار (2/213،216) .
(7) الأوسط (1/260) ، والإجماع (ص: 33) .
(8) قال ابن حبان في صحيحه (4/59) : قوله صلى الله عليه وسلم: الماء لا ينجسه شيء، لفظة أطلقت على العموم، تستعمل في بعض الأحوال، وهو المياه الكثيرة التي لا تحتمل النجاسة فتظهر فيها، وتخص هذه اللفظة التي أطلقت على العموم ورود سنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ويخص هذين الخبرين الإجماع على أن الماء قليلاً كان أو كثيراً فغير طعمه أو لونه أو ريحه نجاسة وقعت فيها أن ذلك الماء نجس بهذا الإجماع الذي يخص عموم تلك اللفظة المطلقة التي ذكرناها. اهـ
(9) مواهب الجليل (1/60) .
(10) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني (1/49) .(13/312)
دقيق العيد (1) ، وابن الفاكهاني (2) ، وابن الملقن (3) ، وابن مفلح (4) ، وغيرهم (5) .
ومن النظر: أن الله سبحانه وتعالى حرم استعمال النجاسة، والماء المتغير بالنجاسة إذا استعمل فقد استعملت النجاسة، لظهور أثرها في الماء من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم.
واختلفوا في الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره:
فالجمهور على أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة فإن الماء ينجس مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، على خلاف بينهم في حد الماء الكثير والقليل.
وذهب مالك في رواية المدنيين عنه (6) ، وراية عن أحمد (7) إلى أن الماء لا ينجس إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة، وهو الراجح للأدلة التالية.
_________
(1) إحكام الأحكام (1/22،23) .
(2) مواهب الجليل (1/85) .
(3) نيل الأوطار (1/40) .
(4) المبدع (1/52) .
(5) انظر إجماعات ابن عبد البر في العبادات (1/124) .
(6) المدونة (1/132) ، ورجحه ابن عبد البر في التمهيد (1/327) ، والاستذكار (2/103) ، الخرشي (1/76،81) ، وقال ابن رشد في بداية المجتهد (1/249) : " ويتحصل عن مالك في الماء اليسير تقع فيه النجاسة ثلاثة أقوال، قول: إن النجاسة تفسده، وقول: إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه، وقول: إنه مكروه ".
(7) المغني (1/31) ، المحرر (1/2) .(13/313)
الدليل الأول:
قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) .
وهذا الماء الذي ولغت فيه السباع ولم تغيره باق على صفته التي خلقها الله عليها، لا في لونه ولا في طعمه ولا في رائحته، فكيف يحرم الوضوء منه، ونعدل إلى التيمم مع وجوده؟
الدليل الثاني:
(1601-129) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب (2) ، عن ابن أبي سعيد الخدري،
عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن؟ فقال: إن الماء لا ينجسه شيء (3) .
[صحيح بشواهده وسبق تخريجه] (4) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم أن الماء طهور لا ينجسه شىء، وهذا يشمل القليل والكثير، ولغت فيه السباع أم لا؟ بقى ما تغير بالنجاسة فإنه نجس بالإجماع، وما عداه فهو طهور.
_________
(1) المائدة: 6.
(2) سقط اسم (سليط بن أيوب) من المطبوع واستدركته من أطراف المسند (6/269)
(3) المسند (3/15،16) .
(4) سبق تخريجه في كتاب المياه، رقم (10) ، وهو جزء من هذه السلسلة.(13/314)
الدليل الثالث:
الأصل في الماء أنه طهور، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول صاحب لا مخالف له، والفرق بين الماء النجس والماء الطهور: هو أنه يوجد في الماء النجس صفات يحكم من خلالها بنجاسته، فإذا لم يظهر في الماء أثر النجاسة لا في لونه، ولا في طعمه، ولا في رائحته، فكيف نحكم عليه بأنه نجس (1) .
الدليل الرابع:
معلوم أنه إذا استحال الشيء بالشيء حتى لا يرى له ظهور يحكم له بالعدم، وعلى هذا فلو وقعت قطرة من لبن امرأة في ماء، فاستهلكت، وشربه الرضيع خمس رضعات فأكثر لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة لم يجلد بشربه، فكذلك لو كانت قطرة بول لم تغير الماء يبقى الماء على أصله (2) .
الدليل الخامس:
(1602-130) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود،
أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (3) .
_________
(1) انظر بتصرف مجموع الفتاوى (21/35) .
(2) بدائع الفوائد (3/258) ، مجموع الفتاوى (21/33) .
(3) صحيح البخاري (220) .(13/315)
وجه الاستدلال:
قالوا: نعلم قطعاً أن بول الأعرابي باق في موضعه، وإن صب ذلك الماء عليه، وإنما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك الموضع لغلبة الماء له، واستغراقه عليه، واستهلاك أجزائه لأجزاء البول لغلبته عليه.
وقال الباجي: وهو حجة على أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، في قولهم: إن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة، وإن لم تغيره، وهذا مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أرفع المواضع التي يجب تطهيرها، وقد حكم النبي فيه - صلى الله عليه وسلم - بصب دلو من ماء على ما نجس بالبول، ولا معنى له إلا تطهيره للمصلين فيه (1) .
قلت: ولا ينفكون منه بالتفريق بين ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة؛ لأن هذا التفريق لم يقم عليه دليل، ولا أثر له في الحكم الشرعي.
(1603-131) وأما الجواب عما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد ابن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله،
عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (2) .
[إسناده صحيح إن شاء الله] (3) .
_________
(1) المنتقى (1/129) .
(2) المصنف (1/133) رقم 1526.
(3) سبق تخريجه، انظر حديث رقم (88) من أحكام الطهارة: كتاب المياه.(13/316)
قالوا في وجه الاستدلال: من الحديث:
إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، مفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، فلو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس، ولو كان مائة قلة.
فالجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن يقال عندنا منطوق ومفهوم، والمنطوق مقدم علىالمفهوم.
فحديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" منطوقه يشمل القليل والكثير.
وحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" منطوقه موافق لحديث:"إن الماء طهور لا ينجسه شىء" لأن منطوقه أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء.
ومفهومه: أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه ينجس، وهذا المفهوم معارض لمنطوق حديث أبي سعيد، فيقدم المنطوق على المفهوم، فنأخذ من حديث القلتين منطوقه فقط، ولا نأخذ مفهومه؛ لأنه يعارض منطوق حديث أبي سعيد.
قال ابن المنذر في الأوسط للتدليل على هذه القاعدة: ونظير ذلك قوله تعالى {حافظوا على الصلوات} الآية (1) ، فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: {حافظوا على الصلوات} (2) ، ثم خص
_________
(1) البقرة: 238.
(2) البقرة: 238.(13/317)
الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: {والصلاة الوسطى} (1) ، فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مخرجاً سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر بالمحافظة على الصلوات " اهـ (2) .
فكأن ابن المنذر يقول مفهوم {والصلاة الوسطى} (3) الآية، لم يؤخذ ويعارض به منطوق حافظوا على الصلوات.
أو نقول بتعبير آخر: إذا ذكر عموم، ثم ذكر فرد من أفراد العموم يوافق العموم في الحكم، فإن هذا الفرد لا يعتبر مخصصاً ولا مقيداً للعموم.
مثال ذلك: إذا قلنا: أكرم طلبة العلم، فهذا لفظ يفيد عموم الطلبة، ثم قلنا: أكرم زيداً، وكان زيد من طلبة العلم، فإنه لا يفهم منه تخصيص الإكرام لزيد وحده.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الماء طهور لا ينجسه شىء" هذا عام يشمل القليل والكثير، ثم أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحديث القلتين، أن الماء الكثير لا ينجس، فهو فرد من أفراد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شيء" فلا يقتضي تخصيصه ولا تقييده.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعطي حكماً أغلبياً وليس حكماً مطرداً. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: في حديث ابن عمر: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " هل معنى ذلك أنه لا ينجس أبداً؟ .
الجواب: لا. إذ لو تغير بالنجاسة لنجس إجماعاً، ولكن معنى لم يحمل الخبث: أي غالباً لا يتغير بالنجاسة.
_________
(1) البقرة: 238.
(2) الأوسط (1/270) .
(3) البقرة: 238.(13/318)
ومفهومه: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث أي في الغالب أيضاً، وليس مطلقاً، وكيف نعرف أنه حمل الخبث أو لم يحمل؟
الجواب: نعرف ذلك بالتغير، فالغالب أن الماء إذا كان دون القلتين أنه يتغير بالنجاسة فإن لم يتغير عرفنا أنه لم يحمل الخبث.
فإذا كان منطوق الحديث يحمل على الغالب بالإجماع، فكذلك مفهوم الحديث ينبغي أن يحمل على الغالب من باب أولى؛ لأن المفهوم أضعف من المنطوق (1) .
فالراجح أن الماء إذا كان سؤراً من سباع، وهو بقية شرابها، ولم يتغير بهذا اللعاب، ولم يظهر للعاب به أثر فإنه طهور، وقد تعرضنا لهذه المسألة مع ذكر أدلة كل قول بشيء من البسط في ما يقارب أربعين صفحة تجده في مباحث المياه، مما أغنى عن إعادته هنا، والله الموفق.
_________
(1) راجع للاستزادة إغاثة اللهفان (1/156) وفتح الباري (1/408، 414) ، والأوسط (1/260) وتهذيب السنن (1/56-74) .(13/319)
[صفحة فارغة](13/320)
المبحث الرابع
في سؤر الخنزير
اختلف العلماء في سؤر الخنزير،
فذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، وقول في مذهب المالكية (4) إلى أنه نجس.
وقيل: طاهر، وهو مذهب المالكية (5) .
وهذا الخلاف راجع إلى الخلاف في ذات الخنزير، هل هو طاهر أو نجس، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة مستقلة، إلا أن نجاسة عينه لا يلزم منها نجاسة سؤره؛ لأن نجاسة سؤره مبني على مسألة أخرى، وهي إذا وقعت نجاسة في الماء، فهل ينجس بمجرد وقوع النجاسة، أو يشترط للحكم بالنجاسة أن يتغير أحد أوصاف الماء: طعمه أو لونه أو ريحه؟.
_________
(1) البناية على الهداية (1/360) ، بدائع الصنائع (1/63) ، شرح فتح القدير (1/94-110) ، حاشية ابن عابدين (1/206) .
(2) مغني المحتاج (1/78) ، الأم (1/5، 6) ، الوسيط (1/309) ، 338، 339) ، المجموع (2/585) ، روضة الطالبين (1/31) .
(3) الفروع (1/235) ، الكافي لابن قدامة (1/89) ، المحرر (1/87) ، الإنصاف (1/310) ، رؤوس المسائل (1/89) .
(4) التمهيد (1/320) .
(5) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/50) ، المدونة (1/5، 6) ، أحكام القرآن لابن العربي (1/80) ، الخرشي (1/85) .(13/321)
وقد فصلنا هذا الخلاف في سؤر السباع فانظره، وعليه فالراجح أنه إن ظهر أثر للعاب في الماء كان السؤر نجساً، وإن لم يكن له أثر، فالماء باق على خلقته التي خلقه الله عليها، لا يمكن أن يحكم بنجاسته إلا إذا ظهر أثر النجاسة من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم.(13/322)
المبحث الخامس
في سؤر الكلب
اختلف العلماء في سؤر الكلب.
فقيل: إنه نجس، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: سؤره طاهر، وهو مذهب المالكية (4) .
دليل الجمهور:
الدليل الأول:
(1604-132) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب.
ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح،
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/24) ، المبسوط (1/48) ، بدائع الصنائع (1/64) .
(2) المجموع شرح المهذب (1/221) .
(3) الفتاوى الكبرى (1/417) ، الفروع (1/236) ، طرح التثريب (2/120) ، الإنصاف (1/310) ، كشاف القناع (1/181) .
(4) مواهب الجليل (1/74) ، الخرشي (1/76) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/85، 86) .(13/323)
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار.
وجه الاستدلال:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، وجعله طهارة لهذا الإناء، كما أمر بإراقة سؤره، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير.
دليل المالكية على طهارة سؤره:
الدليل الأول:
من الكتاب قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (1) .
وجه الاستدلال:
أباح الله سبحانه وتعالى الأكل مما أمسكت الكلاب، ولم يأمرنا بغسل المكان الذي أمسكته معه، مع أنه لا يخلو من التلوث بريق الكلب، ولو كان نجساً لأمرنا بغسله، ولنقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم غسله.
الدليل الثاني:
(1605-133) ما رواه البخاري في صحيحه: قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله،
عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (2) .
_________
(1) المائدة: 4.
(2) صحيح البخاري (174) ، قال الحافظ في الفتح: زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب المذكور موصولاً بصريح التحديث.(13/324)
وقد أجبنا عن هذه الأدلة في ذكر الخلاف في عين الكلب، هل عينه طاهرة أم نجسة، فارجع إليه إن شئت.
الجواب عن حديث الولوغ.
فيمكن أن يجاب بأحد جوابين.
أولاً: زيادة " فليرقه " زيادة شاذة (1) .
ومع الحكم بشذوذ " فليرقه "، فإن المعنى يقتضي تنجس الماء ولو لم يتغير، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء، وجعل ذلك طهارة للإناء.
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب.
ومعلوم أن نجاسة الإناء إنما جاءت من نجاسة الماء؛ لأن الولوغ إنما وقع على الماء، فتنجس الإناء لنجاسة الماء؛ ولأن النجاسة لو كانت للإناء وحده لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل من الإناء جهة الولوغ فقط، فلما أمر بغسل الإناء
_________
(1) قال النسائي في السنن (1/53) : لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: فليرقه.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/273) : وأما هذا اللفظ من حديث الأعمش "فليهرقه " فلم يذكره أصحاب الأعمش الثقات الحفاظ مثل شعبة وغيره
وقال ابن مندة كما في فتح الباري (1/331) ، وتلخيص الحبير (1/23) : لا تعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا من روايته.
وقال حمزة الكناني كما في فتح الباري (1/330) : إنها غير محفوظة.
وقد بحثت هذا الحديث وجمعت طرقه في كتاب المياه، وبينت أن علي بن مسهر قد خالف أكثر من خمسة عشر حافظاً رووا الحديث بدون هذه الزيادة، انظر أحكام الطهارة كتاب المياه (ص: 363) .(13/325)
كله، علم أن النجاسة إنما سرت عن طريق الماء المتنجس. فإن قال قائل: إذاً كيف حكمتم على الأمر بالإراقة بالشذوذ؟
فالجواب: لا يلزم من الحكم بنجاسة الماء الحكم بوجوب إراقته؛ لأن الماء إذا تنجس لا يكون نجس العين، إذ يمكن تطهيره، وإذا أمكن تطهيره أمكن الانتفاع به بخلاف ما إذا أوجبنا إراقته.
ولا يعني ذلك إذا حكمنا بنجاسة الماء أن نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها التسبيع، ومنها التتريب، فلا يقاس الأخف على الأغلظ.
على أنه قد يقال: لا نسلم عدم التغير؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء فتظهر على شيء منه، فيكون هذا نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة، فينجس والله أعلم.
فالراجح أن سؤر الكلب نجس، خاصة إذا وقع الولوغ في الآنية، لأن الحديث إنما جاء نصاً في الآنية: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، وأما إذا ولغ في البرك والمستنقعات الكبيرة فإن ذلك لا يضر الماء، لأن الماء في هذه الحال كثير، وقد كانت مياه المسلمين في الفلاة يردها السباع والكلاب، ولم ينقل أنهم كانوا يجتنبون ذلك، والله أعلم.(13/326)
الباب الرابع
في أحكام الميتة
الفصل الأول
الميتة الطاهرة
المبحث الأول
في ميتة الآدمي
اختلف العلماء في ميتة الآدمي،
فقيل: نجس مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) ، وقول عند الشافعية (2) ،
_________
(1) البحر الرائق (1/243) وقد حكم الحنفية بنجاسة البئر إذا مات فيه آدمي انظر الاختيار لتعليل المختار (1/17) المبسوط (1/58) ، بدائع الصنائع (1/75) ، الهداية شرح البداية، مطبوع مع شرح فتح القدير (1/104) ، ومذهبهم هذا متسق مع مذهبهم القائل بنجاسة المحدث، وذلك لأن الميت يجب غسله، لأن فيه معنى الحدث. والصحيح أن الحدث لا يعتبر من النجاسة، وكونه سمي رفع الحدث الأصغر أو الأكبر طهارة فلا يعتبر ذلك من نجاسة، وقد بحثنا هذه المسألة بحثاً مستقلاً، وأجبنا عن أدلة الحنفية رحمهم الله تعالى.
(2) المجموع (2/579، 580) .(13/327)
وقول عند المالكية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: طاهر مطلقاً، وهو الراجح في مذهب الشافعية (3) ، والمالكية (4) ،
_________
(1) مواهب الجليل (1/99) .
(2) المغني (1/42) ، الإنصاف (1/337) .
(3) قال النووي في المجموع (2/579، 580) : "وأما الآدمي هل ينجس بالموت أم لا؟ فيه هذان القولان، الصحيح منهما: أنه لا ينجس، اتفق الأصحاب على تصحيحه، ودليله الأحاديث السابقة والمعنى الذي ذكره. اهـ وانظر أسنى المطالب (1/10) ، نهاية المحتاج (1/238، 239) .
(4) قال في مواهب الجليل (1/99) : في معرض ذكره للنجس، قال: (وآدمياً، والأظهر طهارته) قال في شرحه لهذه العبارة: يعني أن ميتة الآدمي نجسة، واستظهر ابن رشد القول بطهارته، وسواء كان مسلماً أو كافراً، قال في أوائل الجنائز من البيان: والصحيح أن الميت من بني آدم ليس بنجس، بخلاف سائر الحيوان التي لها دم سائل انتهى. وجزم ابن العربي بطهارته ولم يحك فيه خلافاً، وقال في كتاب الجنائز من التنبيهات وهو الصحيح الذي تعضده الآثار، سواء كان مسلماً أو كافراً؛ لحرمة الآدمية وكرامتها وتفضيل الله لها، وذهب بعض أشياخنا إلى التفرقة بين المسلم والكافر، ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين فرق بينهما، وفي كلام ابن عبد السلام ترجيح القول بطهارته أيضاً، ونقل ذلك في التوضيح وقبله، وصدر به في الشامل، واستظهره فقال: والظاهر طهارة الآدمي كقول سحنون وابن القصار خلافا لابن القاسم وابن شعبان. وقال ابن الفرات: الظاهر طهارة الميت المسلم؛ لتقبيله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن مظعون، وصلاته على ابني بيضاء في المسجد، وصلاة الصحابة على أبي بكر وعمر فيه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً "، رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين انتهى..وفي كلام صاحب الطراز في كتاب الاعتكاف ترجيح القول بالطهارة فإنه لما تكلم على قص أظفاره في المسجد قال: الاعتكاف لا ينافي إصلاح الرأس بأي وجه كان، ولا إصلاح الظفر، وهو أيضا طاهر لا ينجس , وعلى القول بأن الميت نجس تكون الأظفار نجسة انتهى. ولم أر من صرح بتشهير القول الذي صدر به المصنف ولا من اقتصر عليه، بل أكثر أهل المذهب يحكي القولين من غير ترجيح , ومنهم من يرجح الطهارة , وإن كان غير اللخمي أخذ القول بالنجاسة من المدونة من كتاب الرضاع من نجاسة لبن الميتة، فقد أخذ القاضي وغيره القول بالطهارة من كتاب الجنائز من إدخاله المسجد. اهـ نقلاً من كتاب مواهب الجليل. واعتبر الخرشي القول بالطهارة هو المعتمد، انظر حاشية الخرشي (1/88، 89) .(13/328)
والمشهور عند الحنابلة (1) .
وقيل: المسلم الميت طاهر، والكافر الميت نجس، وهو قول في مذهب المالكية (2) ، وقول عند الحنابلة (3) ، وهو اختيار ابن حزم (4) .
_________
(1) المغني (1/42) ، كشاف القناع (1/193) ، مطالب أولي النهى (1/233) .
(2) قال في مواهب الجليل (1/99) : وذهب بعض أشياخنا إلى التفرقة بين المسلم والكافر، ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين فرق بينهما. اهـ
(3) ساقه ابن قدامة احتمالاً، قال في المغني (1/42) : لم يفرق أصحابنا بين المسلم والكافر; لاستوائهما في الآدمية, وفي حال الحياة, ويحتمل أن ينجس الكافر بموته; لأن الخبر إنما ورد في المسلم, ولا يصح قياس الكافر عليه; لأنه لا يصلى عليه, وليس له حرمة كحرمة المسلم. اهـ
وقال في الإنصاف (1/337) : وقيل: ينجس الكافر, دون المسلم, وهو احتمال في المغني. قال المجد في شرحه, وتابعه في مجمع البحرين: ينجس الكافر بموته على كلا المذهبين في المسلم، ولا يطهر بالغسل أبداً كالشاة. وخص الشيخ تقي الدين في شرح العمدة الخلاف بالمسلم. وأطلقهما ابن تميم في الكافر. اهـ
(4) أخذ ابن حزم رحمه الله بظاهر حديث " إن المؤمن لا ينجس " فيأخذ بمنطوقه، وأن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً، ويأخذ بمفهومه، وهو أن الكافر نجس، حياً وميتاً، ويؤيد هذا المفهوم منطوق الآية عنده: " إنما المشركون نجس " وبالتالي يحكم على نجاسة لعاب الكافر وعرقه ولبنه وسائر أجزائه في الحياة والموت، انظر المحلى (مسألة: 134، و، 139، و 603، و 2018) .(13/329)
دليل من قال: إن ميتة الآدمي طاهرة:
الدليل الأول:
(1606-134) ما رواه البخاري من طريق حميد، عن بكر، عن أبي رافع،
عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له: فقال: سبحان الله، ياأبا هر إن المؤمن لا ينجس (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: إن المؤمن لا ينجس. هذا مطلق، وهو يشمل حال الحياة وحال الموت.
الدليل الثاني:
(1607-135) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء،
عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً (2) .
ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (3) .
[إسناده صحيح]
_________
(1) البخاري (285) مسلم (371) .
(2) المصنف (2/469) .
(3) في باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر.(13/330)
الدليل الثالث:
قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} (1) .
وجه الاستدلال:
أن التكريم يقتضي بأن لا يحكم عليه بالنجاسة سواء في حال الحياة أو في حال الموت.
ويمكن يجاب عنه:
بأن هذا الدليل ليس فيه دلالة واضحة على طهارة الميت، كما أن الحكم على بوله وغائطه ومذيه بأنه نجس، لا ينافي تكريم الله له،، فكذلك الحكم على بدنه بأنه نجس حال الموت لا ينافي التكريم، وقد يكون المراد من التكريم هو ما أعطاه الله لهذا المخلوق من عقل، وسخر له ما في السموات والأرض وغير ذلك من نعم الله على بني آدم.
الدليل الرابع:
يشرع للميت الغسل قبل الدفن، ولو كان نجس العين لما طهره الغسل، ولم يكن لمشروعيته فائدة، وهذا ما ينزه عنه الشارع.
وأجيب:
بأنه لو كان طاهراً لم يؤمر بغسله كسائر الأعيان الطاهرة.
ورد هذا:
بأن الغسل هو بمنزلة رفع الحدث من الحي، فكما أن المسلم الحي طاهر، سواء كان محدثاً أو غير محدث، فكذلك الميت، والطهارة من الحدث ليست
_________
(1) الإسراء: 70.(13/331)
طهارة عن نجاسة، وذلك لأن غسل الأعضاء المخصوصة في الوضوء لا دخل لها في مخرج البول والغائط والريح وسائر الأحداث، وإنما هي طهارة تعبدية.
الدليل الخامس:
(1608-136) ما روه مسلم، قال: حدثني علي بن حجر السعدي وإسحق بن إبراهيم الحنظلي واللفظ لإسحق، عن عبد العزيز بن محمد عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير،
أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها فقالت: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد (1) .
وجه الاستدلال:
كون المسلمين إلى يومنا هذا يصلون على موتاهم في المساجد، دليل على طهارة الميت، ولو كان الموت يجعل الآدمي نجساً ما صلي على الميت في المسجد، مع الأمر بحفظ المساجد عن النجاسات، بل وعن القاذورات ولو كانت طاهرة كالبصاق والنخامة ونحوهما.
دليل من قال: إن الميت نجس مطلقاً:
الدليل الأول:
إذا كان الحيوان الطاهر المأكول اللحم إذا مات من غير تذكية أصبح نجساً بالإجماع، فكذلك بدن الآدمي، فإن طهارته حال الحياة لا تمنع من نجاسته إذا مات، لكونه حيواناً له نفس سائلة.
_________
(1) مسلم (973) .(13/332)
وأجيب:
بأن هذا القياس في مقابل النص، فيكون قياساً فاسداً، فقد دلت النصوص على طهارة المسلم حياً وميتاً كما ذكرناها في أدلة القول الأول، فيكون الآدمي مخصوصاً من الحيوان الذي له نفس سائلة، وينجس بالموت.
كما يمكن أن يقال: بأن هذا قياس مع الفارق، حيث إن الحيوان حلال الأكل خلقه الله ليكون مائدة تؤكل، ويفتقر عند التذكية إلى ذكر اسم الله عليه ليكون طاهراً حلالاً، بخلاف الآدمي فلا يحل أكله حياً ولا ميتاً كما هو معلوم، وإذا ثبت الفارق سقط القياس، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1609-137) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن منصور،
عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم، فمات، قال: فأمر ابن الزبير أن ينزف ماء زمزم، قال: فجعل الماء لا ينقطع، قال: فنظروا فإذا عين تنبع من قبل الحجر الأسود، قال: فقال ابن الزبير: حسبكم (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل الثالث:
(1610-138) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة،
_________
(1) المصنف (1/150) رقم: 1721.
(2) والأثر قد أخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور (188) ، وابن المنذر في الأوسط (2/274) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/17) من طريق هشيم، أخبرنا منصور به.(13/333)
عن ابن عباس: أن زنجياً وقع في ماء زمزم، فأنزل إليه رجلاً فأخرجه، ثم قال: انزفوا ما فيها من ماء، ثم قال للذي في البئر: ضع دلوك من قبل العين التي تلي البيت أو الركن؛ فإنها من عيون الجنة (1) .
[قتادة لم يسمع من ابن عباس] (2) .
الدليل الرابع:
(1611-139) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق جابر،
عن أبي الطفيل، قال: وقع غلام في ماء زمزم، فنزفت أي نزح ماؤها (3) .
[إسناده ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) المصنف (1/150) رقم: 1722.
(2) وقد تابع ابن سيرين قتادة في الرواية عن ابن عباس فقد أخرجه الدارقطني (1/33) ومن طريقه البيهقي (1/266) من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن ابن عباس.
وابن سيرين لم يسمع من ابن عباس أيضاً كما أفاده البيهقي في سننه (1/266) ، وفي المعرفة (1/94) .
ورواه البيهقي في المعرفة (1/93) من طريق القعنبي، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو ابن دينار، عن ابن عباس. وابن لهيعة فيه ضعف.
فهذه ثلاثة طرق عن ابن عباس، وإن كان كل طريق منها ضعيفاً إلا أن هذه الطرق بمجموعها قد يشد بعضها بعضاً. وانظر إتحاف المهرة (8884) .
(3) شرح معاني الآثار (1/17) .
(4) في إسناده جابر الجعفي، وهو متروك.
وقال البيهقي في المعرفة (1/94) : رواه جابر الجعفي مرة عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، ومرة عن أبي الطفيل نفسه، ثم قال: وجابر الجعفي لا يجتح به.(13/334)
وجه الاستدلال من هذه الآثار:
لو لم يكن الآدمي ينجس بالموت لما نجس ماء زمزم بموت الآدمي فيه، ولما كان هناك حاجة إلى نزحه.
ويجاب عن هذا من وجهين:
أولاً: هناك من يضعف قصة وقوع الزنجي في بئر زمزم، وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة رحمه الله.
فقد روى البيهقي بإسناده عن سفيان قوله: أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر أحداً صغيراً ولا كبيراً يعرف حديث الزنجي الذي قالوا: إنه مات في زمزم، وما سمعت أحداً يقول: ينزح زمزم (1) .
ثانياً: هذه الآثار إن صحت فهي موقوفة على صحابي، وفعل الصحابي حجة إذا لم يخالف المرفوع، وهنا قد خالف ما رواه أحمد،
(1612-140) قال أحمد في مسنده: حدثنا أبو أسامة، حدثنا الوليد ابن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله - وقال أبو أسامة مرة: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج -
عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء (2) .
[حديث صحيح بشواهده] (3)
_________
(1) المعرفة (1/95) .
(2) المسند (3/31) .
(3) انظر حديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة.(13/335)
(1613-141) وروى أحمد أيضاً، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء لا ينجسه شيء " (1) .
[سبق تخريجه] (2) .
بل إن فعل ابن عباس بالأمر بنزح البئر على التسليم بصحته عنه معارض بما صح عن ابن عباس نفسه،
(1614-142) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء،
عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً (3) .
وهذا نص صريح بأن الموت لا ينجس المؤمن، وإذا كان الموت ليس من أسباب النجاسة في حق المؤمنين، لم يكن من أسبابها في حق غيرهم، لأن الشيء لا يمكن أن يكون إذا لحق زيداً لم ينجسه، وإذا لحق عمراً نجسه، بل الحكم يكون شاملاً لعموم الناس على صورة واحدة.
ثالثاً: ربما نزح البئر لسبب آخر غير وقوع الجثة في البئر، فإنه يبعد أن يسقط أحد في بئر ويسلم من الجروح، وقد يغير الدم لون الماء وطعمه، ومعلوم أن الدم يحرم شربه، فنزحت من أجل ذلك، أو لإجل استقذار الماء.
(1615-143) ويؤيد ذلك ما رواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس،
_________
(1) المسند (1/308) .
(2) انظر الحديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة.
(3) المصنف (2/469) ، وسبق تخريجه قبل قليل.(13/336)
عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (1) .
فإذا كان هذا في الفأرة الميتة وهي بلا شك نجسة، وفي إناء السمن، وهو إناء صغير ليس كالبئر، والسمن ليس كالماء في دفعه للنجاسة، ومع ذلك لم ينجس السمن كله، فما بالك بالبئر والذي غالباً ما يكون الماء فيه كثيراً، ومع الآدمي وهو على الصحيح عين طاهرة، فإنه بلا شك يكون طاهراً، وأن الأمر بنزح الماء إنما هو للاستقذار أو لحرمة شرب الدم وقد تغير الماء به، والله أعلم.
رابعاً: أنكم تقولون بنزح البئر مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، مع أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو ماء طهور بالإجماع كما نقلنا الإجماع على ذلك عند الكلام على سؤر الخنزير فلماذا أخرجتم البئر من هذا الإجماع، وما الحاجة إلى نزحه، وبئر زمزم من الماء الكثير، وليس من الماء القليل.
دليل من قال: إن الكافر الميت نجس بخلاف المؤمن:
الدليل الأول:
استدلوا بعموم قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} (2) .
فهذا مطلق يشمل حال الحياة وحال الموت.
الدليل الثاني:
مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ".
معناه: أن غير المؤمن نجس.
_________
(1) صحيح البخاري (235) .
(2) التوبة: 28.(13/337)
وقد أجبنا على هذه الأدلة في الكلام على طهارة الكافر في حال الحياة، ولا يوجد دليل على نجاسته في حال الوفاة، وترك غسله والصلاة عليه؛ لأنه ليس من أهل العبادة، وليس هذا راجعاً إلى نجاسته.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض أدلة الأقوال تبين لنا أن القول بطهارة بني آدم أرجح من غيرها، وذلك لقوة أدلتهم، وسلامتها من الاعتراض، على خلاف أدلة بقية الأقوال، فإنها لا تكاد تسلم من الاعتراضات، والله أعلم.(13/338)
المبحث الثاني
في ميتة ما لا نفس له (دم)
اختلف العلماء في الحيوان الذي لا دم له، كالصراصير والجراد ونحوهما:
فقيل: هو طاهر مطلقاً، سواء تولد من شيء طاهر أو من شيء نجس، وهذا هو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، وقول في مذهب الشافعية (3) ، وقول في مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: هو نجس، لكن إن تولد من شيء طاهر، ومات فيما تولد منه، لم ينجسه، كدود التمر والتين والجبن يموت فيها، وإن أخرج ومات في غيره، نجسه، وهو قول في مذهب الشافعية (5) .
وقيل: إن تولد من شيء طاهر، فهو طاهر مطلقاً، سواء مات فيما تولد منه أم لا، وإن تولد من شيء نجس، كصراصير الكنف، فهو نجس، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (6) .
وسبق أن عرضت أدلة الأقوال في ذكر الخلاف في هذا الحيوان حال الحياة، والأدلة على طهارته حال موته هي الأدلة ذاتها على طهارته في حال موته، فانظرها مشكوراً.
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (3/34) ، المبسوط (1/51) ، بدائع الصنائع (1/62) .
(2) المدونة (1/115) .
(3) الأم (1/5) .
(4) المغني (1/41) .
(5) الأم (1/5) .
(6) الإنصاف (1/338) ، الكافي لابن قدامة (1/16) ، الهداية (1/22) ، بلغة الساغب (ص: 37) ، غاية المطلب في معرفة المذهب (ص: 35) .(13/339)
[صفحة فارغة](13/340)
المبحث الثالث
في ميتة البحر
اختلف العلماء في ميتة البحر،
فقيل: إن إباحة الأكل إنما تختص بالسمك دون سائر ميتات البحر، بشرط أن يكون موت السمك بسبب ظاهر، كانحسار الماء أو نبذه له، أو ضرب صياد ونحو ذلك، فإن مات السمك حتف أنفه بغير سبب ظاهر وطفا، فإنه يكره أكله، وأما الطهارة فجميع ميتات البحر طاهرة، فلم يعلقوا حكم الأكل بالطهارة، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: إن مات في البحر ما لا نفس له سائلة فهو طاهر، وإن مات ما له نفس سائلة فهو نجس، وهذا منسوب إلى أبي يوسف من الحنفية (2) .
وقيل: بإباحة جميع ميتات البحر، مما لا يعيش إلا في الماء، وهذا مذهب الجمهور، إلا أن بعضهم استثنى كلب وإنسان وخنزير الماء (3) .
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (1/151) ، بدائع الصنائع (1/79) و (5/36) ، حاشية ابن عابدين (6/306، 307) البناية (10/726) ، تبيين الحقائق (5/297) ، المبسوط (1/57) و (11/267) .
(2) الجوهرة النيرة (1/15) .
(3) انظر في مذهب المالكية: المدونة (1/5) ، المنتقى للباجي (3/128) ، التفريع (1/215، 216) ، ومختصر خليل (ص: 6) ، القبس (1/134) ، حاشية الدسوقي (1/49) ، ومنح الجليل (1/45) ، الخرشي (3/26) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 186) .
وانظر في مذهب الشافعية: الحاوي (15/63) ، المجموع (1/180) ، روضة الطالبين (3/275) ، مغني المحتاج (1/78) و (4/298) ، إعانة الطالبين (1/90) ، نهاية المحتاج (1/239) .
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/42) و (9/314) ، شرح الزركشي (1/137) و (6/647) ، الإنصاف (10/384) ، كشاف القناع (6/204) ، المبدع (1/253) .(13/341)
وقيل: إن ميتة البحر نجسة مطلقاً، سواء مات في البر أو في البحر، اختاره ابن نافع من المالكية (1) .
وقيل: ما مات في البحر فهو طاهر، وما مات في البر فهو نجس، وهذا ختيار ابن قاسم من المالكية (2) .
فمذهب الحنفية أضيق المذاهب فيما يتعلق بالأكل، ومن أوسع المذاهب فيما يتعلق بالطهارة.
دليل الحنفية على اقتصار الإباحة على ميتة السمك خاصة:
الدليل الأول:
جاء النص من كتاب الله بتحريم الميتة مطلقاً في قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم} (3) .
واستثني الحديث من الميتات ميتة السمك والجراد، فدل على أن ميتة غير السمك والجراد ليست حلالاً.
(1616-144) فقد روى أحمد (4) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه زيد بن أسلم،
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/49) ، منح الجليل (1/45) .
(2) انظر المراجع السابقة.
(3) النحل: 115.
(4) المسند (2/97) .(13/342)
الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال.
[سبق تخريجه] (1) .
الدليل الثاني:
استدلوا بعموم قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (2) .
وجه الاستدلال:
بأن ميتة البحر فيما عدا السمك تعافه الطباع السليمة، وما عافته فهو خبيث.
وأجيب:
بأن الحكم على الشيء بأنه خبيث يحتاج إلى حكم شرعي، وليس مرد ذلك إلى الطباع، ولا يوجد دليل شرعي يقضي بأن ميتة ما سوى السمك من الخبائث، بل يوجد دليل على أنها من الطيبات، كما سأذكره في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى.
الدليل الثالث:
(1617-145) ما رواه أحمد، من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن سعيد ابن المسيب،
عن عبد الرحمن بن عثمان قال: ذكر طبيب الدواء عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الضفدع تكون في الدواء، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها (3) .
[إسناده أرجو أن يكون حسناً] (4) .
_________
(1) انظر حديث (1584) .
(2) الأعراف: 157.
(3) المسند (3/499) .
(4) في إسناده سعيد بن خالد،
قال النسائي: ضعيف. كما في الضعفاء والمتروكين (118) .
قال ابن جحر في التهذيب متعقباً المزي في نقله التضعيف عن النسائي: قال النسائي في الجرح والتعديل: ثقة، فينظر في أين قال: إنه ضعيف. اهـ وق سبق أن نقلت لك كلام النسائي من الضعفاء والمتروكين له.
وقال الدارقطني: مدني يحتج به. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات (6/357) .
وفي التقريب: صدوق.
وبقية رجال الإسناد ثقات مشهورون.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه أبو داود الطيالسي (1183) وابن أبي شيبة (5/62) ، وأبو داود (3871، 5269) ، وعبد بن حميد في المنتخب (313) ، والنسائي (4366) ، والفسوي في المعرفة (1/285) ، والدارمي (1988) ، والحاكم (4/410) ، والبيهقي (9/258، 318) ، والمزي في تهذيب الكمال (10/405) من طرق عن ابن أبي ذئب به. وصححه الحاكم، وأقره الذهبي.
انظر إتحاف المهرة (13508) ، تحفة الأشراف (9705) ، أطراف المسند (10/621) .(13/343)
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرم قتل الضفدع، وهو يستلزم تحريم أكلها، وهذا حيوان غير السمك.
وأجيب:
بأن الضفدع ليس من حيوان البحر خاصة، بل هو يعيش في البحر كما يعيش في الماء، وعليه فالحديث ليس في محل النزاع.
وأما الدليل على أن السمك الطافي الذي مات حتف أنفه حرام:
(1618-146) فهو ما رواه أبو داود من طريق يحيى بن سليم الطائفي، قال: ثنا إسماعيل ابن أمية، عن أبي الزبير،(13/344)
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه (1) .
[إسناده ضعيف، واختلف في وقفه ورفعه] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (3815) .
(2) في إسناده يحيى بن سليم الطائفي، قال الحافظ عنه في التقريب: صدوق سيء الحفظ.
وقال أبو داود عقب روايته للحديث: روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد، عن أبي الزبير، أو قفوه على جابر. وقد أسند هذا الحديث أيضاً من وجه ضعيف، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر. اهـ
رواية أيوب الموقوفة التي أشار إليها أبو داود قد رواها ابن أبي شيبة في المصنف (4/253) رقم 19739، قال: أخبرنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي الزبير به موقوفاً.
ورواه الدارقطني (4/268) ومن طريقه البيهقي (9/265) من طريق عبيد الله بن عمر، عن أبي الزبير به موقوفاً. ولم يذكر أبو داود عبيد الله بن عمر ممن روى الحديث عن أبي الزبير موقوفاً.
ورواه الدراقطني (4/268) ، والبيهقي (9/255) من طريق أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر مروفوعاً.
قال الدارقطني: لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد، وخالفه وكيع والعدنيان وعبد الرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم عن الثوري، رووه موقوفاً وهو الصواب.
وكذلك رواه أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر وابن جريج وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفاً. وروي عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير. وابن أبي ذئب، عن أبي الزبير مرفوعاً ولا يصح رفعه، رفعه يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية ووقفه غيره. اهـ
وقال البيهقي: نحو كلام الدارقطني.
ورواية عبد الرزاق عن الثوري وقفت عليها في المصنف لعبد الرزاق (8662) موقوفة.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه ابن ماجه (3247) والطبراني في المعجم الأوسط (2880) ، والدارقطني (4/268) ، والبيهقي في السنن (9/255، 256) ، من طريق يحيى بن سليم الطائفي به.
قال الدارقطني: رواه غيره موقوفاً.
وقال البيهقي: يحيى بن سليم الطائفي كثير الوهم سيء الحفظ، وقد رواه غيره عن إسماعيل بن أمية موقوفاً.
وذكر المزي في زيادته على تحفة الأشراف (2/287) : أن إسحاق بن عبد الواحد الموصلي رواه عن يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فجعله من مسند ابن عمر.
انظر: إتحاف المهرة (3189) ، تحفة الأشراف (2657) .(13/345)
دليل من قال: يباح حيوان البحر كله:
الدليل الأول:
قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} (1) .
قال ابن عباس: طعامه ميتته (2) .
وأجيب:
بأن المقصود من قوله: " أحل لكم صيد البحر " هو فعل الصيد، وهو الاصطياد؛ لأنه هو الصيد حقيقة لا المصيد؛ لأنه مفعول فعل الصيد، وقوله: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً المراد منه الاصطياد من المحرم، لا أكل الصيد؛ لأن ذلك مباح للمحرم إذا لم يصطده بنفسه ولا غيره بأمره، فثبت أنه لا دليل في الآية على إباحة الأكل، بل خرجت للفصل بين الاصطياد في البحر وبين الاصطياد في البر للمحرم (3) .
_________
(1) المائدة: 96.
(2) أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم في كتاب الذبائح والصيد، باب قول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} . قال الحافظ في الفتح: وصله الطبري من طريق أبي بكر بن حفص، عن عكرمة، عن ابن عباس.
(3) بتصرف انظر بدائع الصنائع (5/35) .(13/346)
الدليل الثاني:
(1619-147) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق،
عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماء البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته (1) .
[الحديث صحيح وسبق تخريجه] (2) .
فقوله: " الحل ميتته " يشمل جميع ميتات البحر سواء كان سَمَكاً أو غيره.
الدليل الثالث:
(1620-148) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو،
أنه سمع جابراً - رضي الله عنه - يقول: غزونا جيش الخبط، وأُمِّر أبو عبيدة، فجعنا جوعاً شديداً، فألقى البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه، فمر الراكب تحته، فأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: قال أبو عبيدة: كلوا، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كلوا رزقاً أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم، فأتاه بعضهم فأكله (3) .
_________
(1) أحمد (2/237) .
(2) انظر حديث رقم (7) من الكتاب نفسه (أحكام الطهارة) .
(3) صحيح البخاري (4362) ، ورواه مسلم بنحوه (1935) .(13/347)
وأجاب الحنفية عنه بجوابين:
الأول: أن الحوت نوع من السمك.
الثاني: أن أكل ذلك الميت كان في حال ضرورة ومخمصة، وهي حال تباح فيها أكل الميتة مطلقاً.
ورد عليهم:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: كلوا رزقاً أخرجه الله، فقوله " كلوا " تعبير عن المستقبل، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل منه، وهو في المدينة، وليس في حال الضرورة والمخمصة.(13/348)
الفصل الثاني
في الميتة النجسة
أجمع العلماء على نجاسة الحيوان البري الذي له نفس سائلة إذا مات حتف أنفه بغير ذكاة، أو بذكاة غير معتبرة شرعاً.
قال ابن رشد: " وأما أنواع النجاسات فإن العلماء قد اتفقوا في أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي... " (1) .
وقال ابن قدامة: لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ , ولا نعلم أحدا خالف فيه (2) .
وقد شذ الشوكاني فذهب إلى طهارة الميتة، ولا أعلم أحداً سبقه إلى هذا القول (3) .
دليل الجمهور على نجاسة الميتة:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خِنْزير فإنه رجس} (4) .
_________
(1) بداية المجتهد (1/66) .
(2) المغني (1/53) ، وانظر الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (1/40) ، تحفة المحتاج (1/292) ، نهاية المحتاج (1/238) .
(3) الدراري المضية شرح الدرر البهية (1/26) .
(4) الأنعام: 145.(13/349)
وقد رد الشوكاني هذا الاستدلال بقوله:
إن الضمير راجع إلى أقرب مذكور، وهو لحم الخنزير، لإفراد الضمير بقوله: " فإنه رجس "
وهذا الجواب ضعيف، وقد يجاب بجواب أقوى من هذا بأن يقال: إن الآية سيقت لبيان تحريم الأكل، بقوله: " على طاعم يطعمه " ولا نزاع في تحريم أكل الميتة.
وأما القول: بأنه رجس، فالرجس هو الشيء المستقذر، وليس نصاً في النجاسة. وهذا يقال لو كان هذا هو الدليل الوحيد في نجاسة الميتة، ويكفي في نجاسته ما حكي من إجماع على نجاستها.
الدليل الثاني:
(1621-149) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح،
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه. ورواه مسلم (1) .
فالعلة في تحريم بيع الميتة عند جمهور الفقهاء: هو كونها نجسة، وخالف في ذلك الحنفية، فقالوا: إن العلة كونها ليست مالاً.
_________
(1) البخاري (2236) ، ومسلم (1581) .(13/350)
الدليل الثالث:
(1622-150) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا سليمان ابن بلال، عن زيد بن أسلم، أن عبد الرحمن بن وعلة أخبره،
عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا دبغ الإهاب فقد طهر (1) .
فإذا كان الجلد قبل الدبغ نجساً كان ذلك دليلاً على نجاسة لحم الميتة وذلك لأن نجاسة الجلد إنما هو لاتصاله بشحم ولحم الميتة، فإذا دبغ قطع منه ما تعلق به من شحم ولحم ورطوبة، فبقي لحم المينة نجساً لعدم إمكان دبغه،
قال ابن تيمية: فالميتة ثلاثة أقسام:
منها ما هو طاهر مطلقاً، كالشعر إذا جز، سواء جز في حال الحياة، أو بعد الموت.
ومنها ما لا يطهر بحال كاللحم، والدم المسفوح.
ومنه ما يحكم بنجاسته ما دام متصلاً برطوبة النجاسة ودمها، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً. ونجاسة الجلد قبل الدباغ كنجاسة الثوب، فإذا دبغ قطعت عنه النجاسة (2) .
الدليل الرابع:
الإجماع، وقد نقلته عن ابن رشد، وعن ابن قدامة في رأس المسألة ولم يخالف إلا الشوكاني كما سبق.
_________
(1) مسلم (366) ، وقد ورد بلفظ: إذا دبغ الإهاب فقد طهر، وبلفظ: " أيما إهاب دبغ، وتكلمنا على الراجح من اللفظين في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية) من هذه السلسلة.
(2) مجموع الفتاوى بتصرف (21/90-102) .(13/351)
دليل الشوكاني على طهارة الميتة:
الدليل الأول:
الأصل في الأعيان الطهارة، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح.
ويجاب:
بأن هذا أصل عظيم، وهو مسلم، ولكننا لا نسلم أن الميتة لم يأت فيها دليل على النجاسة، بل وردت أدلة من الأثر ومن النظر على نجاستها كما سبق، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1623-151) ما رواه البخاري، قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هلا انتفعتم بجلدها؟ قالوا: إنها ميتة. قال: إنما حرم أكلها، ورواه مسلم (1) .
فقوله: " إنما حرم أكلها " دليل على أنه لا يحرم من الميتة إلا الأكل.
وأجيب:
بأن هذا الحديث دليل على جواز الانتفاع بالنجاسات على وجه لا يتعدى، وليس فيه دليل على الطهارة، ولو أخذنا بظاهر الحصر لقلنا بجواز بيع الميتة، وقد جاء حديث جابر المتفق عليه في النهي عن بيع الميتة، وهو غير الأكل، وبالتالي ليس في الحديث دليل على طهارة أو نجاسة الميتة.
_________
(1) صحيح البخاري (1492) ، صحيح مسلم (363) .(13/352)
الراجح من الخلاف.
أن الميتة نجسة، ولم أقف على قول لأحد قال بطهارة الميتة قبل الشوكاني، وقد حكي الإجماع على نجاستها، وعلى تحريم أكلها، والله أعلم.(13/353)
[صفحة فارغة](13/354)
الفصل الثالث
في أجزاء الميتة
المبحث الأول
في عظم الميتة وقرنها وحافرها
عظم الحيوان المأكول اللحم المذكى طاهر إجماعاً، كما أن عظم الآدمي طاهر تبع لذاته على الصحيح، ولكن لا يجوز استعماله ولو من كافر لكرامة المؤمن، وتحريم المثلة في الكافر (1) .
وأما عظم الحيوان غير المذكى، سواء كان من مأكول اللحم أم غير مأكول اللحم فقد اختلف العلماء في طهارته على النحو التالي:
فقيل: إن عظام هذا الحيوان طاهرة، وهو مذهب الحنفية، ورجحه ابن تيمية (2) إلا أن الحنفية يستثنون أمرين:
الأول: عظم الخنزير.
الثاني: ما أبين من الحي فهو عندهم كميتته، فيحكمون بنجاسة السن والأذن وغيرهما في حق غير صاحبها، أما في حق صاحبها فطاهرة (3) .
_________
(1) انظر غمز عيون البصائر (4/214) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/52) ، تحفة المحتاج (1/117) ، كشاف القناع (1/51) ، المحلى (1/426) .
(2) الفتاوى الكبرى (1/267) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 167) ، البحر الرائق (1/112) ، تبيين الحقائق (1/26) ، بدائع الصنائع (1/63) ، الهداية شرح البداية (3/46) ، الجامع الصغير (ص: 329) ، أحكام القرآن للجصاص (1/170) و (3/33) .(13/355)
وقيل: إن العظم له حكم ميتته، فما كانت ميتته طاهرة فعظمه طاهر، وما كانت ميتته نجسة فعظمه نجس، وهو المشهور من مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ،
والحنابلة (3) .
_________
(1) المنتقى (3/136) ، حاشية الدسوقي (1/53،54) ، الخرشي (1/89) ، مختصر خليل (ص:7) ، حاشية العدوي (1/585) ، الفواكه الدواني (2/287) ، التمهيد (9/52) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/50) .
(2) قال الشافعي في الأم (1/23) : " ولا يتوضأ ولا يشرب في عظم ميتة، ولا عظم ذكي لا يؤكل لحمه، مثل عظم الفيل والأسد وما أشبهه؛ لأن الدباغ والغسل لا يطهران العظم. اهـ وانظر المجموع (1/291) ، وقد نص النووي رحمه الله على كراهة استعمال عظام الميتة في شيء يابس، ولا يحرم؛ لأن النجاسة هنا لا تتعدى، قال رحمه الله (1/198) : العاج المتخذ من عظم الفيل نجس عندنا كنجاسة غيره من العظام، لا يجوز استعماله في شيء رطب، فإن استعمل فيه نجسه، قال أصحابنا: ويكره استعماله في الأشياء اليابسة لمباشرة النجاسة، ولا يحرم؛ لأنه لا يتنجس به، ولو اتخذ مشطاً من عظم الفيل فاستعمله في رأسه أو لحيته، فإن كانت رطوبة من أحد الجانبين تنجس شعره، وإلا فلا، ولكنه يكره ولا يحرم، هذا هو المشهور للأصحاب. ورأيت في نسخة من تعليق الشيخ أبي حامد أنه قال: ينبغي أن يحرم، وهذا غريب ضعيف. قلت (القائل النووي) : وينبغي أن يكون الحكم هكذا في استعمال ما يصنع ببعض بلاد حوران من أحشاء للغنم على هيئة الأقداح والقصاع ونحوها، لا يجوز استعماله في رطب، ويجوز في يابس مع الكراهة، قال الروياني: ولو جعل الدهن في عظم الفيل للاستصباح أو غيره من الاستعمال في غير البدن فالصحيح جوازه، وهذا هو الخلاف في جواز الاستصباح بزيت نجس؛ لأنه ينجس بوضعه في العظم..هذا تفصيل مذهبنا في عظم الفيل، وإنما أفردته عن العظام كما أفرده الشافعي ثم الأصحاب، قالوا: وإنما أفرده لكثرة استعمال الناس له، ولاختلاف العلماء فيه، فإن أبا حنيفة قال بطهارته بناء على أصله في كل العظام، وقال مالك في رواية: إن ذكي فطاهر وإلا فنجس، بناء على رواية له أن الفيل مأكول، قال إبراهيم النخعي: إنه نجس، لكن يطهر بخرطه، وقد قدمنا دليل نجاسة جميع العظام وهذا منها، ومذهب النخعي ضعيف بين الضعف. والله أعلم. وانظر في مذهب الشافعية: حاشية البجيرمي (1/35) ، وحاشية الشرواني (1/117) ، روضة الطالبين (1/43، 44) .
(3) مختصر الخرقي (ص: 16) ، المغني (1/56) ، دليل الطالب (ص: 5) ، المبدع (1/74، 76) ، كشاف القناع (1/56) ، الإنصاف (1/92) ، الكافي (1/20) .(13/356)
وقيل: لا يجوز بيع العظام، ويجوز الانتفاع بها، وهو اختيار ابن حزم (1) .
وقال بعضهم: إن العظام نجسة، تطهر بالدباغ، ودباغها غليها، اختاره بعض المالكية (2) .
وسبب اختلافهم في عظام الميتة، اختلافهم في نجاسة الميتة هل هو بسبب احتقان الدم فيها، ولذلك الحيوان الذي لا دم له لا ينجس بالموت، فكذلك العظام من باب أولى؛ لأنه لا دم فيها، وهذا جلد الميتة إذا دبغ وانقطعت عنه الرطوبة النجسة أصبح طاهراً، فالعظام من باب أولى؛ إذ لا رطوبة فيها أصلاً. أو أن الموت هو سبب النجاسة، والعظام جزء من الميتة فتنجس بالموت؟
وهل النمو والتغذية في هذه العظام من خصائص الحياة الحيوانية، فيدخله الموت، أو أن الموت خاص في الحس والحركة المستقلة، وليس في العظام شيء من ذلك، وبالتالي لا يلحقها الموت؟.
وقد سبق ذكر هذه المسألة في بحث مستقل، وذكر أدلة كل قول، والجواب عن أدلة القول المرجوح، وسبق أيضاً رجحان طهارة عظام الميتة مما أغنى عن إعادته في هذا الكتاب (3) .
_________
(1) قال في المحلى (1/132) : وأما العظم والريش والقرن فكل ذلك من الحي بعض الحي، والحي مباح ملكه وبيعه إلا ما منع من ذلك نص، وكل ذلك من الميتة ميتة، وقد صح تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع الميتة، وبعض الميتة ميتة، فلا يحل بيع شيء من ذلك، والانتفاع بكل ذلك جائز، لقوله عليه السلام: " إنما حرم أكلها" فأباح ما عدا ذلك إلا ما حرم باسمه من بيعها والادهان بشحومها، ومن عصبها ولحمها. اهـ
(2) المنتقى شرح الموطا (3/136، 137) .
(3) انظر كتابي أحكام الطهارة (باب المياه والآنية) (ص: 545) .(13/357)
[صفحة فارغة](13/358)
المبحث الثاني
في شعر الميتة وريشها ووبرها
إذا كان هذا الشعر والوبر قد جُزَّ من حيوان طاهر، وهو حي، فإنه طاهر بالإجماع (1) ، أما إذا كان الشعر والوبر والصوف من حيوان ميت، فقد اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: إذا جز الشعر والوبر والصوف والريش من الحيوان فهو طاهر، سواء كان من حيوان طاهر أم نجس، وهو مذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، ورواية عن أحمد (4) ، إلا أن الحنفية استثنوا شعر الخنزير فقط.
_________
(1) نقل الإجماع على ذلك النووي في المجموع (1/296) ، وابن رشد في بداية المجتهد (2/183) ، وابن تيمية في الفتاوى (21/98) .
(2) البناية على الهداية (1/377) ، البحر الرائق (1/112) ، أحكام القرآن للجصاص (1/170،171) ، تبيين الحقائق (1/26) ، العناية شريح الهداية (1/96) ، الجوهرة النيرة (1/16) ، شرح فتح القدير (1/96) ، الفتاوى الهندية (1/24) ، مجمع الأنهر في ملتقى الأبحر (1/32،33) ، حاشية ابن عابدين (1/206) .
(3) حاشية الدسوقي (1/46، 47) ، المنتقى (1/180) ، تفسير القرطبي (2/219) ، أحكام القرآن لابن العربي (3/150) ، مواهب الجليل (1/89) ، حاشية العدوي (1/584) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/50،51) ، هذا قولهم في الشعر والوبر والصوف، وأما الريش من الميتة، فقد ذكر ابن عبد البر في الكافي مذهب المالكية، فقال: (ص: 189) لا يجوز الانتفاع بريش الميتة"، ونص على ذلك ابن الجلاب في التفريع (1/408) ، واستثنى الباجي في المنتقى (3/137) الريش الذي لا سنخ له، مثل الزغب ونحوه.
(4) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/263) ، مجموع الفتاوى (21/617) .(13/359)
وقيل: إن كان الحيوان طاهراً في الحياة ولو كان غير مأكول، فشعره طاهر، وإن كان الحيوان نجساً فالشعر تبع له، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: إن الشعر والوبر والصوف من الميتة نجس إلا شعر الآدمي، وهو المشهور مذهب الشافعية (2) ، ورواية عن أحمد (3) .
وقيل: صوف الميتة وشعرها ووبرها نجس قبل الدباغ طاهر بعده، وهو اختيار ابن حزم (4) .
واشترط من قال بطهارته أن يجز جزاً.
قال ابن نجيم: شعر الميتة إنما يكون طاهراً إذا كان محلوقاً، أو مجزوزاً، وإن كان منتوفاً فهو نجس (5) .
وقال الدردير: والمقصود بالجز: ما يقابل النتف، فيشمل الحلق والإزالة بالنورة، فلو جزت بعد النتف، فالأصل الذي فيه أجزاء الجلد نجس، والباقي طاهر (6) .
_________
(1) الإنصاف (1/92) ، المبدع (1/76) ، الفروع (1/78) ، الكافي (1/20) ، كشاف القناع (1/57) ، مجموع الفتاوى (21/617) ، المغني (1/60) .
(2) المجموع (1/291) ، المهذب (1/11) ، حلية العلماء (1/96) ، روضة الطالبين (1/15، 43) .
(3) الإنصاف (1/92) ، الفروع (1/77، 78) .
(4) المحلى (1/128) .
(5) البحر الرائق (1/113) .
(6) الشرح الكبير (1/49) .(13/360)
وقد ذكرنا أدلة كل قول في بحث مستقل، في كتابي أحكام الطهارة (أحكام المياه والآنية) (1) فأغنى عن إعادته هنا.
وقد ترجح لي أن رأي الحنفية والمالكية أقوى من حيث الدليل، وأن الشعر لا تدخله الحياة الحيوانية، والحياة النباتية لا تكفي لتنجيسه إذا فارقها، وأنه لا فرق بين شعر الحيوان الطاهر بالحياة والحيوان النجس، ومن استثنى شعر الكلب أو الخنزير إن كان في ذلك إجماع فالدليل الإجماع، وإن لم يصح في المسألة إجماع فلا فرق بين شعره وشعر غيره، وبهذا يتبن لنا أن الميتة ثلاثة أقسام:
نجس مطلقاً لا يطهر بحال، وهو اللحم والدم.
وطاهر مطلقاً، وهو الشعر والوبر والصوف إذا جز جزاً.
وطاهر بشرط الدباغ، وهو الجلد.
وهناك قول آخر لم أذكره لأنه راجع إلى أحد الأقوال السابقة، وهو أن الشعر طاهر بعد الغسل، وهو مروي عن عطاء والحسن والأوزاعي كما ذكر ذلك عنهما ابن قدامة والنووي، وهذا المذهب يرجع إلى قول من قال بطهارة الشعر؛ لأن الشعر والوبر والصوف لو كان نجس العين لما طهره الغسل. والله أعلم.
_________
(1) (ص: 553) .(13/361)
[صفحة فارغة](13/362)
المبحث الثالث
في جلد الميتة
اختلف العلماء في جلد الميتة، هل هو نجس أو متنجس يمكن أن يطهر بالدباغ ونحوه، وهل يباح الانتفاع به قبل الدبغ أو بعده؟ فأقول:
اختلف العلماء على قولين:
فقيل: إن جلد الميتة نجس، وليس متنجساً، وعلى هذا لا يمكن أن يطهره الدباغ، وقبل الدبغ لا ينتفع بالجلد مطلقاً، وهو مذهب مالك (1) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وأما بعد الدبغ فيباح استعماله في يابس عندهما، وفي الماء عند المالكية (3) .
وقيل: إن جلد الميتة متنجس، وليس بنجس، وعلى هذا يمكن أن يطهره الدباغ على خلاف بينهم في عين الجلود التي يطهرها الدباغ.
فقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود، إلا جلد الإنسان والخنزير، وهو مذهب الحنفية (4) .
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/54،55) ، التاج والإكليل (1/101) ، مواهب الجيل (1/101) ، البيان والتحصيل (1/100) ، التمهيد (4/156،157) و (1/162) ، الكافي (ص: 189) .
(2) المبدع (1/70) ، شرح العمدة (1/122) ، كشاف القناع (1/54) ، الإنصاف (1/86) ، الإقناع (1/13) ، الفروع (1/72) ، الكافي (1/19) ، المغني (1/53) .
(3) والفرق بين الماء وبين غيره من السوائل كالعسل واللبن والسمن، قالوا: إن الماء له قوة الدفع عن نفسه لطهوريته، فلا يضره إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة، بخلاف غيره.
(4) الهداية شرح البداية (1/21) ، البحر الرائق (1/105) ، بدائع الصنائع (1/85) ، تبيين الحقائق (1/24) ، حاشية ابن عابدين (1/203) ، المبسوط (1/202) ، حاشية الطحطاوي (1/111) ، بد.(13/363)
وقيل: الدباغ يطهر جميع جلود الميتة بما في ذلك جلود ما لا يؤكل لحمه، إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما، وهو مذهب الشافعية (1) .
وقيل: الدباغ لا يطهر إلا ما تحله الذكاة، وهو رواية عن مالك (2) ، واختاره أبو ثور (3) ، ورجحه بعض الحنابلة كالمجد وابن رزين وابن
عبد القوي (4) ، وابن تيمية (5) .
وقيل: الدباغ يطهر كل حيوان طاهر في الحياة، وهو رواية عن أحمد، واختارها بعض أصحابه، وهو رواية ثانية عن ابن تيمية (6) .
وقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود حتى جلد الكلب والخنزير، وهو
_________
(1) الأم (1/9) حلية العلماء (1/93) ، الإقناع للشربيني (1/28) ، الوسيط (1/129) ، روضة الطالبين (1/41) ، المجموع (1/275) .
(2) جاء في البيان والتحصيل (1/101) : وسئل مالك: أترى ما دبغ من جلود الدواب طاهراً؟ فقال: ألا يقال هذا في جلود الأنعام، فأما جلود ما لا يؤكل لحمه فكيف يكون طاهراً إذا دبغ، وهو مما لا ذكاة فيه، ولا يؤكل لحمه. اهـ ونقل ابن عبد البر هذا الكلام في الاستذكار (15/326) . وقال في التمهيد (4/182) : وقالت طائفة من أهل العلم لا يجوز الانتفاع بجلود السباع لا قبل الدباغ ولا بعده، مذبوحة كانت أو ميتة، وممن قال هذا القول: الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق، وأبو ثور، ويزيد بن هارون. اهـ
(3) الاستذكار (15/326) .
(4) الإنصاف (1/87) .
(5) مجموع الفتاوى (21/95) .
(6) الإنصاف (1/86) .(13/364)
مذهب الظاهرية (1) .
فتلخص لنا من هذا الخلاف ما يلي:
قيل: الدباغ لا يطهر مطلقاً.
وقيل: يطهر مطلقاً.
وقيل: يطهر جميع الجلود إلا الكلب والخنزير والإنسان.
وقيل: يطهر ما تحله الذكاة.
وقيل: يطهر ما كان طاهراً في الحياة، وإن كان محرماً أكله كالهرة ونحوها.
وأما الانتفاع بالجلود، فقيل:
يباح الانتفاع بالجلود مطلقا، سواء دبغت أم لا (2) .
وقيل: يباح الانتفاع بها بشرط الدبغ.
وقيل: يباح الانتفاع بها في يابس، وقيل: في يابس وماء.
وقد ذكرت أدلة كل قول في بحث مطول في أكثر من أربعين صفحة تقريباً، يرجع إليها في كتابنا أحكام الطهارة، في باب الآنية.
_________
(1) المحلى (1/118) ، وذكره مذهباً لداود الظاهري ابن رشد في البيان والتحصيل (3/357) ، وعون المعبود (11/179) .
(2) هذا القول يراه الإمام الزهري رحمه الله، كما في مصنف عبد الرزاق (1/62) ، ومسند أحمد (1/365) ، وأبو داود (4122) ، مجموع الفتاوى (21/101) ، وحكاه ابن تيمية عن بعض السلف.(13/365)
[صفحة فارغة](13/366)
المبحث الرابع
في عصب الحيوان الميت
اختلف العلماء في عصب الحيوان الميت،
فقيل: إنه طاهر، إلا من الخنزير فإنه نجس، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: إنه نجس، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وقول في مذهب الحنفية (5) .
دليل الحنفية على طهارة عصب الميتة:
الدليل الأول:
قالوا: إن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، ولذلك كان ما لا نفس له سائلة، إذا مات لم ينجس؛ لأنه لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فالعصب ونحوه أولى بعدم التنجس من هذا، فإن العصب ليس فيه دم سائل، ولا كان
_________
(1) بدائع الصنائع (5/142) ، البحر الرائق (1/114) ، حاشية ابن عابدين (1/107) ، شرح فتح القدير (1/96، 211) .
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/54) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/50) ، الخرشي (1/89) ،
(3) قال النووي في المجموع (2/581) : عصب الميتة غير الآدمي نجس بلا خلاف. اهـ ويقصد رحمه الله بقوله: بلا خلاف أي في المذهب.
(4) المبدع (1/75) ، الفروع (1/110) الإنصاف (1/92) كشاف القناع (1/56) ، مطالب أولي النهى (1/61) .
(5) المبسوط (1/203) .(13/367)
متحركاً بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الإحساس المتحرك بالإرادة، لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العصب الذي ليس فيه دم سائل أصلاً؟! (1) .
الدليل الثاني:
قالوا: إن هذه الأشياء ليست بميتة، فليست داخلة في عموم تحريم الميتة؛ لأن الميتة من الحيوان في عرف الشارع اسم لما زالت حياته، ولا حياة في هذه الأشياء، وما لا تحله الحياة لا يحله الموت.
فإن قيل: إنها داخلة في الميتة؛ لأنها تحس وتتألم.
قيل لهم: أنتم لم تأخذوا في عموم اللفظ، فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب لا ينجس عند جماهير العلماء، مع أنه ميتة (2) .
الدليل الثالث:
أن طهارة العصب أولى من طهارة الجلد بالدباغ، فهذا الجلد جزء من الميتة، فيه الدم كسائر أجزائها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الدباغ طهارة له؛ لأن الدباغ ينشف رطوبته، فدل على أن سبب التنجس هو الرطوبات، والعصب ليس فيه رطوبة سائلة، فهو أولى بالطهارة من الجلد (3) .
الدليل الرابع:
ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه قال
_________
(1) انظر مجموع الفتاوى (21/99-100) بتصرف يسير.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.(13/368)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الميتة: إنما حرم أكلها. (1) ، وقد سبق الحديث بتمامه.
فهذا دليل على جواز الانتفاع بعصب الميتة، ولا يلزم من تحريم أكل الميتة نجاستها، فالأكل شيء، والنجاسة شيء آخر، فلا تلازم بينهما.
وقد يقال: ولا يلزم من جواز الانتفاع بعصب الميتة طهارته، فباب الانتفاع أوسع من باب الطهارة، فهذا الكلب نجس، ويجوز الانتفاع به بالصيد والحراسة ونحوهما.
دليل الجمهور على نجاسة العصب:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (2) ، والعصب جزء من الميتة.
الدليل الثاني:
(1624-152) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،
عن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا غلام، أن لا تنتفعوا بإهاب ميتة، ولا عصب (3) .
[رجاله ثقات، إلا أن عبد الله بن عكيم لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو مرسل، وقد اختلف في إسناده اختلافاً كثيراً] (4) .
_________
(1) صحيح البخاري (1492) ، صحيح مسلم (363) .
(2) المائدة: 3.
(3) المصنف (5/206) .
(4) الحديث في إسناده اختلاف كثير، فرواه الحكم بن عتيبة، واختلف عليه:
فقيل: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم مرسلا.
وقيل: عن الحكم عن عبد الله بن عكيم.
وقيل: عن الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم.
وتارة يحدث به عبد الله بن عكيم مباشرة، وتارة يرويه عبد الله بن عكيم، عن مشايخ من جهينة.
ورواه القاسم بن مخيمرة، واختلف عليه أيضاً:
فقيل: عن القاسم، عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة.
وقيل: عن القاسم، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم.
وكما اختلفوا في إسناده، اختلفوا في متنه:
فقيل: قبل وفاته بشهر.
وقيل: قبل وفاته بشهر أو شهرين على الشك.
وقيل: قبل وفاته بأربعين يوماً.
وقيل: قبل وفاته بثلاثة أيام. وقد فصلنا هذه الأختلافات وخرجناها تخريجاً كاملاً في كتابي أحكام الطهارة، باب المياه من هذه السلسلة، رقم (103) فارجع إليه غير مأمور.(13/369)
الراجح:
بعد استعراض أدلة الفريقين يتبين لي أن العصب طاهر، وأن تحريم الأكل لا يلزم منه النجاسة، وأنه يجوز الانتفاع به، شأنه شأن العظم والظفر والقرن والحافر ونحوها، والله أعلم.(13/370)
المبحث الخامس
فيما قطع من البهيمة وهي حية
إذا انفصل من الحيوان عضو حال الحياة فما حكم هذا المنفصل؟ هل يعتبر طاهراً أو نجساً؟.
وقبل الجواب على هذا نشير إلى أننا تكلمنا عن الشعر والصوف والوبر والعظم والقرن والظفر، وذكرنا خلاف العلماء في هذا، فلا نريد أن نعيد الكلام على ذلك، وإنما المقصود فيما انفصل من الحيوان غير هذه، كالكرش والأمعاء والشحم والأذن والأنف واليد والرجل ونحوها تنفصل بلا تذكية شرعية.
فهذه الأشياء إذا انفصلت من الحي فلها حكم ميتته، فإن كانت ميتته طاهرة إجماعاً كانت هذه الأجزاء طاهرة إجماعاً، وإن كانت ميتته نجسة اتفاقاً كانت منه نجسة كذلك، وإن كانت ميتته مختلفاً فيها كان الخلاف في أجزائها كذلك، فمن رجح طهارة ميتته حكم بطهارتها، ومن رجح نجاسة ميتته رجح نجاستها، وهكذا.
فالسمك والجراد مجمع على طهارة ميتتهما، فالعضو المبان منهما حال الحياة طاهر.
والعجب أن النووي قد ساق خلافاً في العضو المبان من السمك مع الاتفاق على طهارة ميتته (1) .
_________
(1) قال النووي في المجموع (2/581) : وأما العضو المبان من السمك والجراد والآدمي كيده ورجله وظفره ومشيمة الآدمي ففيها كلها وجهان:
أصحهما طهارتها, وهو الذي صححه الخراسانيون كميتاتها.
والثاني: نجاستها، وإنما يحكم بطهارة الجملة لحرمتها، وبهذا قطع العراقيون أو جمهورهم في يد الآدمي وسائر أعضائه، وتكرر نقل القاضي أبي الطيب الاتفاق على نجاسة يد السارق, وغيره إذا قطعت أو سقطت, ونقل القاضي أيضا الاتفاق على نجاسة مشيمة الآدمي, والصحيح الطهارة كما ذكرناه, وأما مشيمة الآدمي فنجسة بلا خلاف كما في سائر أجزائه المنفصلة في حياته، والله أعلم.(13/371)
وما أجمع على نجاسة ميتته مما له نفس سائلة غير الآدمي والسمك كالإبل والغنم والبقر فإن العضو المبان منها نجس، وحكي الإجماع على نجاسته (1) .
قال النووي: العضو المنفصل من حيوان حي - كألية الشاة وسنام البعير وذنب البقرة والأذن واليد وغير ذلك- نجس بالإجماع (2) .
وما اختلف في نجاسة ميتته - كالآدمي وما لا نفس له سائلة - فما انفصل منه حال الحياة يكون على الخلاف (3) .
_________
(1) قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/133) : إن كان المبان جزءاً فيه دم كاليد والأذن والأنف ونحوها فهو نجس بالإجماع، وإن لم يكن فيه دم كالشعر والصوف والظفر ونحوه فهو على الاختلاف. اهـ
(2) المجموع (2/580) .
(3) قال ابن قدامة في المغني (8/258) : ومن ألصق أذنه بعد إبانتها, أو سنه, فهل تلزمه إبانتها؟ فيه وجهان, مبنيان على الروايتين, فيما بان من الآدمي, هل هو نجس أو طاهر؟ إن قلنا: هو نجس لزمته إزالتها, ما لم يخف الضرر بإزالتها, كما لو جبر عظمه بعظم نجس. وإن قلنا بطهارتها لم تلزمه إزالتها. وهذا اختيار أبي بكر, وقول عطاء بن أبي رباح, وعطاء الخراساني، وهو الصحيح; لأنه جزء آدمي طاهر في حياته وموته, فكان طاهرا كحالة اتصاله. اهـ وانظر من المغني أيضاً (1/42) .
ويرى ابن حزم كما في المحلى (1/181) مسألة: 39: أن ما أبين من المسلم فهو طاهر، وما أبين من الكافر فهو نجس تمشياً مع مذهبه بنجاسة الكافر، وقد ذكر دليله في مسألة مستقلة في الباب الأول وسبق ترجيح طهارة الكافر مطلقاً حياً وميتاً.(13/372)
وقد سبق الحديث عن الميتة وطهارتها بشيء من التفصيل، فليرجع إليه.
الدليل على أن المنفصل له حكم ميتته.
(1625-153) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو النضر، حدثنا
عبد الرحمن - يعني: ابن عبد الله بن دينار- عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن أبي واقد الليثي قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، والناس يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قطع من البهيمة وهي حية، فهي ميتة (1) .
[الراجح أنه مرسل] (2)
_________
(1) المسند (5/218) .
(2) الحديث فيه اختلاف كثير، والحديث مداره على زيد بن أسلم، فروي عنه تارة من مسند أبي واقد، ومرة من مسند ابن عمر، ومرة من مسند أبي سعيد، وجاء موصولاً ومرسلاً، والراجح فيه رواية ابن مهدي، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتابعه معمر، عن زيد بن أسلم، وقد سبق الكلام على هذه الطرق بشيء من التفصيل في أحكام الطهارة (المياه والآنية) رقم: 153.(13/373)
[صفحة فارغة](13/374)
المبحث الخامس
في لبن الميتة
الفرع الأول
في لبن الآدمي الميت
اختلف العلماء في لبن المرأة الميتة،
فقيل: إنه نجس، وهو قول في مذهب المالكية (1) ، وقول في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: لبنها طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (3) ، وهو مذهب الشافعية (4) .
_________
(1) الخرشي (1/85) حاشية الدسوقي (1/51) وقال القرطبي في تفسيره (10/126) : فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حياً وميتاً فهو طاهر، ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. الخ كلامه رحمه الله.
(2) المجموع (1/299، 300) .
(3) قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/182) : وأما لبن الآدمي فطاهر مباح مطلقا خرج في الحياة أو بعد الموت على المعتمد. اهـ وانظر منح الجليل (1/48) .
(4) قال النووي في المجموع (1/299، 300) : إذا ماتت امرأة، وفي ثديها لبن، فإن قلنا: ينجس الآدمي بالموت، فاللبن نجس كما في الشاة، وإن قلنا بالمذهب: إن الآدمي لا ينجس بالموت فهذا اللبن طاهر; لأنه في إناء طاهر. اهـ(13/375)
دليل من قال: إن لبن المرأة الميتة نجس.
هذا القول مبني على قول ضعيف، وهو أن الآدمي ينجس بالموت، وإذا نجس الظرف تنجس المظروف، وإذا لم تصح المقدمة لم تصح النتيجة، فالصحيح أن الآدمي طاهر حياً وميتاً، وهي مسألة خلافية، انظر أدلتها في باب أحكام الميتة.(13/376)
الفرع الثاني
في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم
اختلف أهل العلم في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم،
فقيل: إنه طاهر، وهذا قول أبي حنيفة (1) ، ورواية عن الإمام أحمد (2) ، واختيار داود الظاهري (3) ، ورجحه ابن تيمية (4) .
وقيل: نجس، اختاره أبو يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (5) ، وهو مذهب المالكية (6) ، والشافعية (7) ،والمشهور من مذهب الحنابلة (8) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/96) ، و (3/455) ، أحكام القرآن للجصاص (1/168) ، المبسوط (24/27) ، تبيين الحقائق (1/26) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/102، 103) .
(3) المغني (1/57) ، الفروع (1/107) ، الإنصاف (1/92) .
(4) مجموع الفتاوى (21/103) ، الفتاوى الكبرى (1/171) .
(5) بدائع الصنائع (1/63) ، شرح فتح القدير (1/96، 97) .
(6) قال ابن عبد البر في الكافي (ص: 188) : " ولا تؤكل بيضة أخرجت من دجاجة ميتة، وكذلك لبن الميتة؛ لأنه في ظرف نجس؛ لأنه يموت بموت الشاة. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/50) .
(7) قال الشيرازي (1/299، 300) : وأما اللبن في ضرع الشاة الميتة فهو نجس ; لأنه ملاق للنجاسة، فهو كاللبن في إناء نجس. اهـ
قال النووي شارحاً هذه العبارة: أما مسألة اللبن فهو نجس عندنا بلا خلاف, هذا حكم لبن الشاة وغيرها من الحيوان الذي ينجس بالموت. اهـ
(8) الفروع (1/107) ، المغني (1/57) ، الإنصاف (1/92) .(13/377)
دليل من قال بالطهارة:
الدليل الأول:
قال تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} (1) .
وجه الاستدلال:
فالآية عامة في سائر الألبان، ومن قيده في حال الحياة فعليه الدليل.
الدليل الثاني:
قالوا: اللبن لا يجوز أن يلحقه حكم الموت; لأنه لا حياة فيه. ويدل عليه أنه يؤخذ منها وهي حية فيؤكل, فلو كان مما يلحقه حكم الموت لم يحل إلا بذكاة الأصل، كسائر أعضاء الشاة. اهـ
وهذا معنى قول السرخسي: لو كان اللبن يتنجس بالموت لتنجس بالحلب أيضا (يعني: ولو كان من بهيمة حية) فإن ما أبين من الحي ميت, فإذا جاز أن يحلب اللبن , فيشرب عرفنا أنه لا حياة فيه , فلا يتنجس بالموت.
وسوف يناقش - إن شاء الله تعالى - في مسألة مستقلة (حكم ما أبين من الحي) .
الدليل الثالث:
قياس لبن الميتة على أنفحتها، فإذا كانت الأنفحة طاهرة، وهي مأخوذة من وعاء نجس، فكذلك اللبن طاهر، ولو أخذ من وعاء نجس.
قال ابن تيمية: الصحابة لما فتحوا العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا
_________
(1) النحل: 66.(13/378)
ظاهراً شائعاً بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر؛ فإنه من نقل بعض الحجازيين، وفيه نظر، وأهل العراق كانوا أعلم بهذا؛ فإن المجوس كانوا ببلادهم، ولم يكونوا بأرض الحجاز (1) .
وفي طهارة الأنفحة خلاف، وسوف تناقش الآثار الواردة في طهارة الأنفحة في فصل مستقل - إن شاء الله تعالى - فانظره في بابه.
دليل من قال بالنجاسة:
الدليل الأول:
قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (2) .
وهذا عام في جميع أجزاء الميتة، ومنه لبنها.
وأجيب:
بأن اللبن ليس جزءاً من الميتة، وقد تبين أنه إذا انفصل عنها في حال الحياة جاز شربه إجماعاً، ولو كان جزءاً منها لأعطي حكم ميتته، ثم إن أجزاء الميتة ليست على درجة واحدة، فمنه الشعر والوبر والصوف، فهذا طاهر على الصحيح.
ومنه الجلد، فهذا يطهر بالدباغ.
ومنه اللحم فهذا محرم الأكل، وحكي الإجماع على نجاسته.
الدليل الثاني:
أنه لبن طاهر في ذاته، ولكنه تنجس لنجاسة الوعاء، فهو بمنزلة لبن طاهر
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/103) .
(2) المائدة: 3.(13/379)
صب في قصعة نجسة.
قال ابن تيمية: واللبن والإنفحة لم يموتا، وإنما نجسهما من نجسهما لكونهما في وعاء نجس، فالتنجس مبني على مقدمتين: على أن المائع لاقى وعاء نجساً، وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجساً (1) .
وأجيب:
قال أبو بكر الجصاص: إن قيل: ما الفرق بينه وبين ما لو حلب من شاة حية ثم جعل في وعاء نجس وبين ما إذا كان في ضرع الميتة؟
قيل: الفرق بينهما أن موضع الخلقة لا ينجس ما جاوره بما حدث فيه خلقة. والدليل على ذلك اتفاق المسلمين على جواز أكل اللحم بما فيه من العروق مع مجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل لذلك, فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه.
ودليل آخر, وهو قوله: {من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين} (2) ، فهذا إخبار بخروجه من بين فرث ودم، وهما نجسان مع الحكم بطهارته, ولم تكن مجاورته لهما موجبة لتنجيسه; لأنه موضع الخلقة, كذلك كونه في ضرع ميتة لا يوجب تنجيسه (3) .
وقال مثله ابن تيمية، قال: هذا القول مبني على مقدمتين: على أن المائع لاقى وعاء نجساً، وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجساً.
فيقال: لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة، وقد تقدم أن السنة
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/103) .
(2) النحل: 66.
(3) أحكام القرآن للجصاص (1/169) .(13/380)
دلت على طهارته، لا على نجاسته.
ويقال ثانياً: إن الملاقاة في الباطن لا حكم لها، كما في قوله سبحانه وتعالى: {نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} (1) ، ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في بطنه (2) .
الراجح والله أعلم القول بالطهارة، لكن إن كان فيه أدنى تغير من طعم أو لون أو رائحة خبيثة، فهو نجس، وإن كان باقياً على خلقته فهو طاهر، وإن قال الأطباء إن مثله يضر بالصحة لتلوثه بالميكروبات والجراثيم حرم تناوله ولو حكمنا بطهارته، لأجل الضرر، لا لأجل تنجيسه، والله أعلم.
_________
(1) النحل: 66.
(2) مجموع الفتاوى (21/103) .(13/381)
[صفحة فارغة](13/382)
المبحث السادس
في بيض الحيوان الميت
إذا انفصلت البيضة من حيوان مأكول بعد موته، بغير تذكية شرعية، وهو مما يحتاج إلى التذكية، وكانت البيضة لم تتغير فاختلف العلماء فيها:
فقيل: إنها طاهرة مطلقاً، سواء صلب قشرها أم لا، وهو مذهب الحنفية (1) ، واختاره بعض الشافعية (2) ، وابن عقيل من الحنابلة (3) .
وقيل: إنها نجسة مطلقاً، سواء صلب قشرها أم لا، وهذا مذهب المالكية (4) .
وقيل: إن صلب قشرها فهي طاهرة، وإلا كانت نجسة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (5) ، والحنابلة (6) ، واختاره ابن حزم (7) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/76، 77) ، تبيين الحقائق (1/26، 27) ،
(2) المجموع (1/300) .
(3) الإنصاف (1/94) ، وقال في المستوعب (1/333) : وما جمد، ولم يصلب قشره في طهارته وجهان. اهـ
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/50) ، مواهب الجليل (1/93) ، التاج والإكليل (1/132) ، الخرشي (1/85) .
(5) المجموع (1/300) .
(6) قال في المستوعب (1/333) : وما صلب قشره من بيضها طاهر قولاً واحداً. اهـ وقال في الإنصاف (1/94) : إذا صلب قشر بيضة الميتة من الطير المأكول, فباطنها طاهر بلا نزاع ونص عليه, وإن لم يصلب فهو نجس على الصحيح من المذهب. وعليه أكثر الأصحاب. اهـ وانظر المغني (1/57، 58) ، شرح منتهى الإرادات (1/32) .
(7) المحلى، مسألة: 1010 (6/95) .(13/383)
دليل من قال بالطهارة مطلقاً:
الدليل الأول:
أن البيض لا تحله الحياة، فلا ينجس بموت الحيوان، مثله مثل لبن الميتة وإنفحتها، وقد قدمنا أن الراجح طهارتها، فكذلك البيضة.
الدليل الثاني:
أن البيض هذا لو أخذ، واستخرج منه فرخه، كان الحيوان طاهراً إجماعاً، فهذا دليل على طهارة البيض.
الدليل الثالث:
أن البيض هو الأصل الذي يخلق منه الحيوان، وهو طاهر، فكذا أصله.
الدليل الرابع:
أن البيض محمي بغشاء رقيق، وهذا الغشاء بمثابة الجلد، يمنع من تسرب النجاسة إلى البيض.
الدليل الخامس:
أن البيضة تؤخذ من الطائر حال حياته، وهي طاهرة إجماعاً كما قدمنا، فلو كانت جزءاً منه كان لها حكم ميتته، لحديث ما أبين من حي فهو كميتته (1) .
دليل من قال بالنجاسة مطلقاً:
أن البيضة جزء من الميتة، والميتة نجسة، فكذلك بيضها.
_________
(1) سبق تخريجه في مبحث " حكم ما قطع من البهيمة، وهي حية، ورجحت أنه مرسل، والله أعلم.(13/384)
وأجيب:
بأن البيض ليس جزءاً من الميتة، بل هو منفصل عنها، وعلى التسليم فليس كل أجزاء الميتة نجسة، فهذا الشعر من الميتة طاهر، ولا ينجس بالموت، وكذلك عظم الميتة على الصحيح وقرنها، وكذلك جلدها إذا دبغ، وهذا الأشياء تتكون منها الميتة، فما بالك بالبيض الذي هو بمنزلة الجنين من الميتة لا ينجس بنجاسة الأم، فلو خرج الجنين من الميتة حياً كان طاهراً، فكذلك البيضة إذا خرجت ولم تكن فاسدة فهي طاهرة، والله أعلم.
دليل من قال: إن صلب قشرها فهي طاهرة، وإلا فهي نجسة:
قالوا: إذا تصلب قشر البيضة منع من تسرب النجاسة إليها، بخلاف غير المتصلب، فإنه لا يمنع من التأثر بالنجاسة.
وأجيب:
على التسليم بهذا، فإننا نعرف أن النجاسة قد تسربت إليها أو لم تتسرب بالفساد، فإذا خرجت البيضة غير فاسدة جزمنا أن النجاسة لم تتسرب إليها، إذ لو تسربت إليها لم تبق البيضة على حالتها لم تتغير، بل لو تسرب إليها سائل طاهر لغير البيضة، فكيف إذا تسرب إليها شيء نجس؟.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض الأدلة يظهر أن القول بطهارة البيضة أرجح من حيث قوة الاستدلال، والحكم بالنجاسة يحتاج إلى دليل صحيح سالم من المعارضة، والله أعلم.(13/385)
[صفحة فارغة](13/386)
المبحث السابع
في إنفحة الميتة
اختلف العلماء في أنفحة الميتة إذا أخذت من حيوان رضيع،
فقيل: إنها طاهرة، وهو مذهب أبي حنيفة (1) ، ورواية في مذهب الحنابلة (2) ، رجحها ابن تيمية (3) .
وقيل: إنها نجسة، وهو مذهب المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (6) .
وقيل: إن كانت جامدة فلا بأس، وإن كانت مائعة فإنها مكروهة، وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (7) .
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (1/147) ، البحر الرائق (1/112) ، حاشية ابن عابدين (1/206) ، المبسوط (24/27) ، شرح فتح القدير (1/96) ، بدائع الصنائع (1/63) .
(2) الإنصاف (1/92) ، مجموع الفتاوى (21/102) .
(3) الإنصاف (1/92) ، مجموع الفتاوى (21/103) .
(4) تفسير القرطبي (2/220) ، القوانين الفقهية (ص: 121) .
(5) قال النووي في روضة الطالبين (1/16) : " وأما الأنفحة فإن أخذت من السخلة بعد موتها أو بعد أكلها غير اللبن فنجسة بلا خلاف " وانظر مغني المحتاج (1/80) .
(6) المبدع (1/74) ، شرح العمدة لابن تيمية (1/130) ، الإنصاف (1/92) ، كشاف القناع (1/56) ، المغني (9/342) .
(7) أحكام القرآن للجصاص (1/147) ، البحر الرائق (1/112) ، حاشية ابن عابدين (1/206) .(13/387)
دليل من قال بالطهارة:
الدليل الأول:
كل دليل ساقه الفقهاء على طهارة لبن الميتة فإنه دليل على هذه المسألة، إذ لا فرق بينهما، فكما أن لبن الميتة سائل في وعاء نجس، فكذا الأنفحة، فمن رأى طهارة لبن الميتة رأى طهارة الأنفحة، والعكس بالعكس، ويضاف إلى هذه الأدلة أدلة خاصة في الأنفحة.
الدليل الثاني:
(1626-154) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن شرحبيل، قال:
ذكرنا الجبن عند عمر فقلنا: إنه يصنع فيه أنافيح الميتة، فقال: سموا عليه وكلوه.
[وهذا سند في غاية الصحة] .
الدليل الثالث:
(1627-155) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الفضيل بن دكين، عن عمرو بن عثمان،
عن موسى بن طلحة. قال: سمعته يذكر أن طلحة كان يضع السكين ويذكر اسم الله، ويقطع، ويأكل (1) .
[سنده صحيح] .
_________
(1) المصنف (8/100) .(13/388)
الدليل الرابع:
(1628-156) ما روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جحش، عن معاوية بن قرة،
عن الحسن بن علي أنه سئل عن الجبن فقال: لا بأس به ضع السكين واذكر اسم الله وكل (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الخامس:
(1629-157) روى الترمذي، قال: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، حدثنا سيف بن هارون البرجمي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان،
عن سلمان، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه (3) .
[إسناده ضعيف مرفوعاً، والمعروف أنه موقوف على سلمان] (4) .
_________
(1) المصنف (8/100) .
(2) في إسناده جحش بن زياد، روى عنه جماعة، وسكت عليه ابن أبي حاتم، فلم يذكر فيه جرحاً. الجرح والتعديل (2/550) .
وذكره ابن حبان في الثقات (6/157) . وباقي رجال الحديث كلهم ثقات.
(3) سنن الترمذي (1726) .
(4) والحديث أخرجه ابن ماجه (3367) عن شيخ الترمذي: إسماعيل بن موسى به.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/115) من طريق منجاب بن الحارث، عن سيف بن هارون به.
وفي إسناده سيف بن هارون، جاء في ترجمته:
قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال فيه مثله أبو داود.
وقال الدارقطني: ضعيف متروك.
وقال النسائي: ضعيف.
وقال ابن عدي: له أحاديث ليست بالكثيرة، وفي رواياته بعض النكرة.
ووثقه أبو نعيم. انظر تهذيب الكمال (12/334) .
وقال الذهبي في استدراكه على المستدرك: ضعفه جماعة.
وقال البخاري فيما رواه عنه الترمذي (4/192) : مقارب الحديث. وقال الحافظ في التقريب (2727) : ضعيف. أفحش ابن حبان القول فيه.
فقد خالف سفيان بن عيينة ابن هارون، فرواه عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان عن سلمان موقوفاً عليه. ذكره الترمذي (1/192) وقال: وكأن الحديث الموقوف أصح. وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظاً، روى سفيان عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان عن سلمان موقوفاً.
ورجح أبو حاتم الرازي في العلل كون الحديث مرسلاً، فقد جاء في العلل لابن أبي حاتم (2/10) : " وسألته عن حديث رواه سيف بن هاورن البرجمي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سليمان، قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفراء والسمن والجبن؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " قال أبي: هذا خطأ رواه الثقات، عن التيمي، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، ليس فيه سلمان، وهو الصحيح "
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (8/98) قال حدثنا وكيع، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية عن سويد - غلام سلمان - وأثنى عليه خيراً. قال: لما افتتحنا المدائن خرج الناس في طلب العدو، قال: قال سلمان: وقد أصبنا سلة، فقال: افتحوها، فإن كان طعاماً أكلناه، وإن كان مالاً دفعناه إلى هؤلاء، قال: ففتحنا فإذا أرغفة حواري، وإذا جبنة وسكين، قال: وكان أول ما رأت العرب الحواري، فجعل سلمان يصف لهم كيف يعمل، ثم أخذ السكين وجعل يقطع، وقال: بسم الله كلوا.
في إسناده أبو جعفر الرازي، جاء في ترجمته:
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بقوي في الحديث. وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: صالح الحديث.
وقال فيه يحيى ابن معين: كان ثقة. وقال مرة: يكتب حديثه، ولكنه يخطئ. وقال في أخرى: صالح. وقال أيضاً: ثقة، وهو يغلط فيما يروي عن مغيرة.
وقال علي بن المديني: هو نحو موسى بن عبيدة. وهو يخلط فيما روى عن مغيرة ونحوه.
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كان عندنا ثقة.
ووثقه: محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي.
وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق. سئ الحفظ.
وقال أبو زرعة: شيخ يهم كثيراً.
وقال أبو حاتم: ثقة، صدوق، صالح الحديث.
وقال زكريا الساجي: صدوق ليس بمتقن. وقال النسائي: ليس بالقوي. انظر تهذيب الكمال (33/192) . وقال في التقريب (8019) : صدوق سئ الحفظ، خصوصاً عن مغيرة.
وقد توبع أبو جعفر فزال ما يخشى من سوء حفظه.
وأما الربيع بن أنس. قال فيه النسائي: ليس به بأس.
وقال فيه أحمد العجلي: صدوق.
سمع منه ابن المبارك أربعين حديثاً، وكان يقول: ما يسرني أن لي بها كذا وكذا لشئ سماه.
ونقل عن ابن المبارك أنه قال: أعطيت ستين درهماً حتى أدخلت على الربيع بن أنس، فلم ينصحني من أدخلني عليه، أعطاني أحاديث مقطعات. انظر تهذيب الكمال (9/60ـ 62) . جاء في الجرح والتعديل (3/454) عن أبي حاتم صدوق، أحب إلي في أبي العالية من أبي خلدة. وفي التقريب (1882) : صدوق له أوهام.
وسويد، غلام سلمان. ذكره البخاري في تأريخه الكبير القسم الثاني، من الجزء الثاني (ص: 144) وقال: روى عنه الربيع بن أنس، وسمع سلمان قوله.
وفي الجرح والتعديل (4/236) سويد غلام سلمان، وأثني عليه خيراً، روى عنه الربيع ابن أنس، ومن الناس من يقول الربيع بن أنس، عن أبي العالية عن سويد، سمعت أبي يقول ذلك. اهـ
وأخرج الحديث البيهقي (9/60) من طريق يعقوب بن القعقاع، عن الربيع بن أنس عن سويد به.
وهذه متابعة لأبي جعفر الرازي.
وروى البيهقي في السنن (9/320) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو العباس القاسم ابن القاسم السياري، ثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي، ثنا أبي، ثنا أبي، ثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني يونس بن خباب، عن أبي عبيد الله، عن سلمان رضي الله عنه بمثله.
وفي إسناده: عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي،
ذكره الذهبي في الميزان، وقال: حدث عنه علي بن محمد بن مهرويه القزويني، فذكر خبراً موضوعاً. اهـ
كما أن في إسناده يونس بن خباب، جاء في ترجمته:
قال يحيى بن معين: رجل سوء. الجرح والتعديل (9/238) .
وقال أخرى: ليس بشيء. الكامل (7/172) .
وقال في رواية ابن أبي مريم عنه: ليس به بأس، يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (11/384) .
قال أحمد: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن يونس بن خباب. الجرح والتعديل (9/238) .
قال يحيى بن سعيد: ما تعجبنا الرواية عن يونس بن خباب. المرجع السابق.
قال أبو حاتم الرازي: مضطرب الحديث، ليس بالقوي. المرجع السابق.
قال الجوزجاني: كذاب مفتر. أحوال الرجال (22) .
وقال يحيى بن سعيد: كان كذاباً. ميزان الاعتدال.
قال عباد بن عباد: لقيت يونس بن خباب، فسمعته يقول: قتل عثمان بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت له: قتل واحدة فزوجه الأخرى؟ قال: قم عني فإنك صاحب هوى. الكامل (7/172) .
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (619) .
وقال العقيلي: كان ممن يغلو في الرفض. الضعفاء الكبير (4/458) .
وفي التقريب: صدوق يخطئ.
وانظر إتحاف المهرة (5942) ، تحفة الأشراف (4496) .(13/389)
وكونه موقوفاً، لا يعني أنه لا يستدل به. فهذا عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والحسن بن علي، وسلمان كلهم يرون طهارة الأنفحة، فإذا لم نجد في السنة المرفوعة حكماً فإنا لا نتجاوز ما اختاره الصحابة رضي الله عنهم، فسبيلهم سبيل المؤمنين.
قال ابن تيمية في الفتاوى: ويدل لذلك أن سلمان الفارسي كان هو نائب عمر بن الخطاب على المدائن، وكان يدعو الفرس إلى الإسلام. وقد ثبت عنه أنه سئل عن شئ من السمن والجبن والفراء؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه" (1) .اهـ
الدليل السادس:
(1630-158) روى أبو داود، قال: حدثنا يحيى بن موسى البلخي، قال: ثنا إبراهيم بن عيينة، عن عمرو بن منصور، عن الشعبي،
عن ابن عمر قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجبنة في تبوك، فدعا بسكين،
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/103) .(13/393)
فسمى وقطع (1) .
[انفرد إبراهيم بن عيينة برفعه، وخالفه من هو أوثق منه فأرسله] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (3819) .
(2) في إسناده إبراهيم بن عيينة، جاء في ترجمته:
قال فيه يحيى بن معين: كان مسلماً، صدوقاً.
وقال أبو حاتم: شيخ يأتي بالمناكير.
وقال النسائئ: ليس بالقوي.
وقال الحافظ في التقريب (227) : صدوق. يهم.
وقد اختلف فيه على عمرو بن منصور.
فرواه إبراهيم بن عيينة كما في سنن أبي دواد (3819) ، وابن حبان (5241) ، والطبراني في المعجم الصغير (1026) ، والبيهقي في السنن (10/6) عن عمرو بن منصور، عن الشعبي، عن ابن عمر مرفوعاً.
وخالفه عيسى بن يونس عند ابن أبي شيبة. قال أبو بكر (8/100) حدثنا عيسى بن يونس، عن عمرو بن منصور، عن الشعبي قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك بجبنة... وذكره.
وتابعه قيس بن الربيع عند عبد الرزاق. (8795) قال عبد الرزاق عن قيس بن الربيع أن عمرو بن منصور الهمداني أخبره عن الشعبي والضحاك بن مزاحم قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجبنة في غزوة تبوك، فقيل: يا رسول الله، إن هذا طعام يصنعه أهل فارس، أخشى أن يكون فيه ميتة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سموا الله عليه وكلوا.
فعيسى بن يونس: روى له الجماعة. وهو مقدم على إبراهيم بن عيينة بكل حال، ولا مقارنة. وقد توبع عيسى بن يونس من قيس بن الربيع، وقيس قد اختلف فيه، وثقه شعبة، وكان شديد المنافحة عنه، ووثقه سفيان الثوري، وقال فيه ابن عيينة: ما رأيت رجلاً بالكوفة أجود حديثاً منه. وضعفه يحيى بن معين، ويحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال عنه الذهبي في السير (8/43) : الامام الحافظ المكثر أبو محمد الأسدي الكوفي أحد أوعية العلم، على ضعف فيه من قبل حفظه.
وقال فيه ابن عدي في الكامل (6/46، 47) : عامة رواياته مستقيمة وقد حدث عنه شعبة وغيره من الكبار، وهو قد حدث عن شعبة، وعن ابن عيينة، ويدل ذلك على أنه صاحب حديث، والقول فيه ما قاله شعبة وأنه لا بأس به.
وقال يعقوب بن شيبة: هو عند جميع أصحابنا صدوق، وكتابه صالح، ثم قال: وهو رديء الحفظ جداً، كثير الخطأ.
وقال فيه الحافظ في التقريب (5573) صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه.
فقيس: صدوق على ضعف في حفظه كما قال الذهبي، إلا أن ما يخشى من سوء حفظه يزول بالمتابعة، وقد تابعه ثقة مأمون عيسى بن يونس، بينما إبراهيم بن عيينة لم يتابع عليه. قال القاسم الطبراني كما في تهذيب الكمال (22/248) لم يروه عن الشعبي إلا عمرو ابن منصور. تفرد به إبراهيم بن عيينة. اهـ وقوله تفرد به إبراهيم بن عيينة أي مرفوعاً، وإلا قد رواه غيره عن عمرو بن منصور كما علمت. والله أعلم.
انظر تحفة الأشراف (7114) .(13/394)
الدليل السابع:
(1631-159) ما رواه البيهقي من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن تملك،
عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجبن: كلوا واذكروا اسم الله عليه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن البيهقي (10/6) .
(2) في إسناده تملك، لم يوثقها سوى ابن حبان. الثقات (4/88) ، ولم يرو عنها سوى أبي إسحاق، والله أعلم.(13/395)
الدليل الثامن:
(1632-160) ما رواه البيهقي من طريق مخرمة بن بكير، عن أبيه،
عن أبي بكر بن المنكدر، قال: سألت امرأة منا عائشة عن أكل الجبن، فقالت عائشة: إن لم تأكليه، فأعطنيه آكل (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
دليل من قال بالنجاسة:
الدليل الأول:
كل دليل ساقوه على نجاسة لبن الميتة فإنهم يسوقونه دليلاً هنا، بجامع أن
_________
(1) البيهقي (10/6) .
(2) قال يحيى بن معين: مخرمة بن بكير ضعيف، وحديثه عن أبيه كتاب، ولم يسمعه من أبيه. الجرح والتعديل (8/363) .
وقال أحمد: هو ثقة، لم يسمع من أبيه شيئاً، إنما يروي من كتاب أبيه. المرجع السابق.
وقال ابن حبان: من متقني أهل المدينة، في سماعه عن أبيه بعض النظر. مشاهير علماء الأمصار (1102) .
وقال في الثقات (7/510) : يحتج بروايته من غير روايته عن أبيه؛ لأنه لم يسمع من أبيه ما يروى عنه.
وقال ابن عدي: عند ابن وهب ومعن بن عيسى وغيرهما أحاديث عن مخرمة، حسانٌ مستقيمة، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (6/428) .
وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال العلائي: أخرج له مسلم عن أبيه عدة أحاديث، وكأنه رأى الوجادة سبباً للاتصال، وقد انتقد ذلك عليه. جامع التحصيل (ص: 275) .
وقال الحافظ في التقريب: صدوق، وروايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما. وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلاً.
كما أن في إسناده المرأة المبهمة، لا أعرف من هي.(13/396)
كلاً منهما سائل في وعاء نجس، فيتنجس به، أو لأن الله حرم الميتة، وهذا منها، وقد سبق الجواب عن ذلك في الحديث عن حكم لبن الميتة، ويضاف إلى ما سبق أدلة خاصة في إنفحة الميتة.
الدليل الثاني:
(1633-161) ما رواه البيهقي من طريق سفيان الثوري، حدثني إبراهيم العقيلي، حدثني عمي ثور بن قدامة، قال:
جاءنا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا تأكلوا من الجبن إلا ما صنع أهل الكتاب (1) .
[إسناده فيه لين، وقد ثبت عن عمر خلافه بسند صحيح] (2) .
_________
(1) سنن البيهقي (10/6) ، ورواه البيهقي (10/6) من طريق شعبة، عن رجل من بني عقيل، عن عمه، قال: قرئ علينا كتاب عمر.
قال البيهقي: هو إبراهيم العقيلي، وعمه ثور بن قدامة.
(2) في إسناده إبراهيم العقيلي، روى عنه شعبة وسفيان، وسكت عليه البخاري وابن أبي حاتم، ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان ذكره في ثقاته.
وهو مخالف لما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن شرحبيل، عن عمر رضي الله عنه.
ومخالف لما رواه البيهقي (10/6) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت قرظة يحدث عن كثير بن شهاب، قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الجبن؟ فقال: إن الجبن من اللبن واللبا، فكلوا واذكروا اسم الله عليه، ولا يغرنكم أعداء الله.
ورواه ابن حبان في الثقات (5/330) من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن قرظة بن أرطأة به.
وقرظة بن أرطاة، ذكره ابن أبي حاتم والبخاري وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه شيئاً. التاريخ الكبير (7/193) ، والجرح والتعديل (7/144) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/348) .
وقال ابن المديني: مجهول كما في ميزان الاعتدال (3/387) .
قلت: قد توبع قرظة، قال ابن حجر في الإصابة (5/571) أخرج ابن عساكر من طريق جرير، عن حمزة الزيات، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى كثير بن شهاب، مر من قبلك فليأكلوا الخبز الفطير بالجبن، فإنه أبقى في البطن. اهـ وهذا إسناد حسن.(13/397)
الدليل الثالث:
(1634-162) ما رواه البيهقي من طريق شعبة وسفيان، عن منصور، عن عبيد بن أبي الجعد، عن قيس بن سكن، قال:
قال عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه: كلوا الجبن ما صنع المسلمون وأهل الكتاب (1) .
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (2) .
الدليل الرابع:
(1635-163) ما رواه البيهقي من طريق علي بن عباس، ثنا محمد ابن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن قتادة،
عن علي البارقي، أنه سأل ابن عمر عن الجبن، فقال: كل ما صنع
_________
(1) سنن البيهقي (10/6) .
(2) عبيد بن أبي الجعد، هو أخو سالم بن أبي الجعد، سكت عليه البخاري في التاريخ الكبير (5/445) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي عن جماعة من الصحابة، روى عنه أهل الكوفة. الثقات (5/138) .
وقال ابن سعد: قليل الحديث. تهذيب التهذيب (7/57) .
وفي التقريب: صدوق.(13/398)
المسلمون وأهل الكتاب (1) .
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (2) .
وكون ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم لا يأكلون إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب ذلك لأن السخال والعجول تذبح لتؤخذ منها الإنفحة التي يصلح بها الجبن، فإذا كانت من ذبائح أهل الأوثان أو المجوس لم تحل ذبيحتهم، فكان الصحابيان لا يريان طهارة الإنفحة من الميتة إذا جاءت من قبل أناس لا تحل ذبيحتهم.
الدليل الخامس:
(1636-164) ما رواه البيهقي من طريق أبان بن أبي عياش،
عن أنس، قال: كنا نأكل الجبن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده لا نسأل عنه، وكان أنس لا يأكل إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب (3) .
[الحديث ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) البيهقي (10/6) .
(2) علي بن عباس بن الوليد أبو الحسن البجلي، المقانعي، قال فيه الذهبي: الشيخ المحدث الصدوق. انظر ترجمته في السير (430) ، والأنساب (12/384) ، والشذارت (2/259) .
وعلي البارقي، سبقت ترجمته، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ.
وباقي رجال الإسناد ثقات.
(3) سنن البيهقي (10/7) .
(4) فيه أبان بن أبي عياش، وهو متروك.(13/399)
دليل من فرق بين الجامد والمائع:
لعلهم رأوا أن المائع قد يتأثر بمخالطته النجاسة، التي هي كرش الميتة، بخلاف الجامد فإن النجاسة لا تمازجه، وبالتالي يحافظ على طهارته، والله أعلم.
الراجح من الخلاف.
كما رجحنا طهارة لبن الميتة، فإننا نرجح هنا طهارة الإنفحة للسبب نفسه، ويكفي أن الحل هو قول عامة الصحابة، وقد ضعف ابن تيمية ما نقل عن بعض الصحابة من التحريم، وقال: والأظهر أن جبنهم حلال، وأن إنفحة الميتة ولبنها طاهر، وذلك لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا ظاهراً شائعاً بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر، فإنه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر. وأهل العراق كانوا أعلم بهذا، فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز (1) .
وحتى على القول بنجاسة الإنفحة، فإنها مستهلكة في الجبن، ولا يظهر لها طعم أو لون أو رائحة، فإن الكمية اليسيرة من الإنفحة تستخدم في كميات كبيرة من الجبن، والشيء إذا استهلك في الأعيان الطاهرة، ولم يظهر له أثر من طعم أو لون أو رائحة لم يكن له حكم، ولو خالط الأعيان الطاهرة، والله أعلم.
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/103) .(13/400)
الباب الخامس:
في الجمادات
الفصل الأول
في طهارة الخمر
اختلف العلماء في الخمرة، هل هي طاهرة أم نجسة؟.
فقيل: إنها نجسة نجاسة حسية، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) ،
واختيار ابن حزم (2) ، ورجحه ابن تيمية (3) .
وقيل: الخمرة طاهرة، وإليه ذهب ربيعة الرأي (4) ، والمزني من أصحاب
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (9/31- 32) ، حاشية ابن عابدين (1/320) ، تبيين الحقائق (1/76) ، المبسوط (1/52) ، بدائع الصنائع (1/66) ، شرح فتح القدير (1/79) .
وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (1/43) ، التاج والإكليل (1/98) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/46) ، حاشية الدسوقي (1/49، 50) .
وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/52) ، المجموع (2/565) ،
وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/319) ، المغني (1/49) ، الفروع (1/242) ، الكافي (1/88) ، قواعد ابن رجب (ص: 230) ، كشاف القناع (1/187) .
(2) المحلى (مسألة: 121، (1/105)
(3) الإنصاف (1/320) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (6/288) .(13/401)
الشافعي (1) ، وداود الظاهري (2) ، ورجحه الشوكاني (3) ، والصنعاني (4) .
دليل من قال: إن الخمر نجسة.
الدليل الأول:
قال تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (5) .
وجه الاستدلال:
أن الله تعالى وصف الخمر بأنها رجس، والرجس في عرف الشرع هو النجس نجاسة عينية.
وأجيب:
بأن الرجس في الآية لا يراد به النجاسة الحسية، لما يأتي:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قرن الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام، وإذا كانت هذه الأشياء ليست نجسة نجاسة حسية، فكذلك الخمرة، ولو كانت كلمة رجس نصاً في النجاسة الحسية لكانت هذه الأشياء نجسة نجاسة حسية، فلما لم تدل على نجاسة تلك الأشياء، لم تدل على نجاسة
_________
(1) المرجع السابق.
(2) المجموع (2/581) .
(3) السيل الجرار (1/35) .
(4) سبل السلام (1/61) .
(5) المائدة: 90.(13/402)
الخمرة (1) .
ثانياً: أن الرجس هنا وصف بقوله: " من عمل الشيطان " فهو رجس عملي، أي معنوي، وليس رجساً حسياً، ولذلك قال القرطبي: من عمل الشيطان: أي بحمله وتزيينه.
ثالثاً: الرجس في كلام الشارع أكثر ما جاء في النجاسة المعنوية، قال تعالى: {إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت} (2) ، وقال تعالى: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} (3) ، وقال تعالى: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} (4) ، وقال سبحانه: {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} (5) ، وقال سبحانه: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} (6) ، وقال سبحانه: {فأعرضوا
_________
(1) وحاول المخالفون الخروج من هذا بقولهم: إن الميسر والأنصاب والأزلام خرجت بالإجماع على طهارتها، وبقي ما عداها على النجاسة.
فيقال: ما دام أن كلمة رجس ليست نصاً في النجاسة الحسية، لم يكن هذا الدليل حجة في النجاسة؛ لأن الإجماع دل على أن كلمة رجس قد تطلق على الشيء وهو ليس بنجس.
ثم إنه ليس هناك إجماع، فقد خالف ابن حزم، فقال بنجاسة الميسر والأنصاب والأزلام، ولكن لا يعرف هذا القول إلا لابن حزم رحمه الله، وهو رأي لا يستند إلى حجة.
(2) الأحزاب: 33.
(3) يونس: 100.
(4) الأنعام: 125
(5) الأعراف: 71.
(6) التوبة: 125.(13/403)
عنهم إنهم رجس} (1) ، وقال: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (2) ،
فإذا كان الأكثر في كلام الشارع إطلاق الرجس على النجاسة المعنوية، كما مر معنا في الآيات السابقة، والميسر والأنصاب والأزلام يراد بها النجاسة المعنوية، والخبر هنا إخبار عن الأربعة الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فالقول بأن الرجس في الخمر وحده فقط دليل على النجاسة الحسية، وعلى غيره مما قرن معه يراد به النجاسة المعنوية فيه نوع تحكم لا دليل عليه.
ولذلك لم ير النووي - وهو ممن يرى نجاسة الخمر - في الآية نصاً على نجاسة الخمر، حيث يقول رحمه الله:
" ولا يظهر من الآية دلالة ظاهرة لأن الرجس عند أهل اللغة القذر ولا يلزم من ذلك النجاسة، وكذا الأمر بالاجتناب لا يلزم منه النجاسة" (3) .
(1637-165) رابعاً: ساق ابن جرير الطبري من طريق عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة،
عن ابن عباس قوله: رجس من عمل الشيطان، يقول: سخط (4) .
[إسناده ضعيف] (5) .
_________
(1) التوبة: 95.
(2) الحج: 30.
(3) المجموع (2/582) .
(4) تفسير الطبري (7/32) .
(5) علي بن أبي طلحة قال الحافظ عنه في التقريب: أرسل عن ابن عباس، ولم يره.
وعبد الله بن صالح كثير الخطأ.(13/404)
الدليل الثاني:
(1638-166) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة،
أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إنى بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبنه قال: واشربوا (1) .
[أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة، واختلف في ذكر زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين، وليس فيه زيادة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير] (2) .
وأجيب:
أولاً: أن هذا الحديث في الصحيحين، وليس فيه ذكر هذه الزيادة.
ثانياً: لو كانت العلة النجاسة لأمر بغسلها مباشرة، فالنهي عن استعمالها مع وجود غيرها مطلق، سواء تيقنا طهارتها أم لا، والأصل في النهي المنع،
_________
(1) سنن أبي داود الطيالسي (1014) .
(2) سبق تخريجه في كتابي (أحكام الطهارة) كتاب المياه والآنية برقم: 129، وذكر من تفرد بذكر هذه الزيادة، ولفظ الصحيحين: يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل.(13/405)
لكن لما قال سبحانه وتعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (1) ، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم وأوانيهم، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - طعام أهل الكتاب في أحاديث صحيحة، فدل على أن الغسل من باب الاحتياط والاستحباب.
ثالثاً: أننا لو تنزلنا وقلنا بوجوب غسل الأواني، فإن غسل الأواني من أثر الخمر ليس فيه دليل على النجاسة؛ وإنما لكون الخمر والخنزير يحرم تناولهما، فخشية الوقوع في المحرم أمر بغسل الأواني منهما.
الدليل الثالث:
قوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} (2) ،
وجه الاستدلال:
قال الشنقيطي: وصفه شراب أهل الجنة بأنه طهور، يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح الله تعالى بها خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله تعالى {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} (3) ، وقوله تعالى: {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} (4) ، بخلاف خمر الدنيا، ففيها غول يغتال العقول، وأهلها يصدعون أي يلحقهم الصداع (5) .
_________
(1) المائدة: 5.
(2) الإنسان: 21.
(3) الصافات: 47.
(4) الواقعة: 19.
(5) أضواء البيان (2/128) .(13/406)
وأجيب بأجوبة منها:
الأول: أن قوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} (1) ، لا يوجد نص بأن المقصود به خمر الآخرة، وإنما هو شراب مخصوص يشربه المؤمنون، فيطهرهم من الذنوب وعن خسائس الصفات، كالغل والحسد، فجاءوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ سلام عليكم طبتم فادخولها خالدين (2) .
ثانياً: على التسليم بأن المراد به في قوله تعالى {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} أن المراد به خمر الآخرة، فإن هذا لا يعني أن خمر الدنيا نجس، فلو أخذنا بالمفهوم - على ضعفه- فإنه يعني أن خمر الدنيا ليست بطهور، وما كان غير طهور لا يعني أنه نجس، بل قد يعني كونه طاهراً، ومعلوم أن الطهور غير الطاهر.
الدليل الرابع:
قالوا: إن الخمر عين يحرم تناولها من غير ضرر فيها، فأشبهت الدم، يعني في النجاسة (3) .
ورده النووي بقوله:
هذا لا دلالة فيه لوجهين:
أحدهما: أنه منتقض بالمني والمخاط وغيرهما، يعني أنه يحرم تناولهما من غير ضرر فيهما، وهما طاهران.
_________
(1) الإنسان: 21.
(2) الجامع لأحكام القرآن (13/40) .
(3) ذكر ذلك الشيرازي في المهذب المطبوع مع المجموع (2/583) ، وابن مفلح في المبدع شرح المقنع (2/242) .(13/407)
والثاني: أن العلة في منع تناولهما مختلفة فلا يصح القياس ; لأن المنع من الدم لكونه مستخبثاً, والمنع من الخمر لكونها سببا للعداوة والبغضاء وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما صرحت به الآية الكريمة.
قلت: والعجب كيف يقال: إنه لا ضرر فيه، مع أن العقل والنقل دالان على أضرار الخمر، وأي ضرر أكبر من كونه يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، هذا مع ما يقع بسببه من العدواة والبغضاء بين المسلمين، فضلاً عما قد يؤول إليه الأمر من مضاره التي لا تحصى، فقد يؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل والمال والعيال،، وخسارة الدنيا والآخرة، كما هو معلوم، نسأل الله العافية.
هذه أضراره الدينية، وأضرراه البدنية قد تكلم فيه الأطباء، بما لا مجال لذكره هنا.
الدليل الخامس:
أن الخمرة نجسة تغليظاً وزجراً عنها، قياساً على الكلب، نقله النووي عن الغزالي، واستحسنه (1) .
وأجيب:
بأن هذا الدليل ليس من أدلة الشرع المتفق عليها ولا المختلف فيها، والكلب ليست نجاسته من باب الزجر والتغليظ، ولو قلنا: بأن الزجر والتغليظ سبب في النجاسة لنجسنا كثيراً من المحرمات مما لم يقل أحد بنجاستها، كنجاسة التماثيل والأصنام، لكونها من أشد المحرمات.
_________
(1) المجموع (2/582) .(13/408)
الدليل السادس:
إن النصوص الشرعية حرمت وجوه الانتفاع بالخمر، فأمرت بإراقتها، ومنعت من التداوي بها، وحرمت بيعها، ومنع من تخليلها، وكل هذه الأمور جاءت فيها نصوص صحيحة صريحة، فلو كانت طاهرة العين لأبيح التداوي بها أو الانتفاع بأي وجه من الوجوه، وكل هذا دليل على نجاستها.
وإليك النصوص الشرعية التي تؤكد هذه الأحكام.
(1639-167) منها ما رواه البخاري من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح،
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه. ورواه مسلم (1) .
(1640-168) ومنها، ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة رجل من أهل مصر،
أنه سأل عبد الله بن عباس عما يعصر من العنب؟ فقال ابن عباس: إن رجلا أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل علمت أن الله قد حرمها؟ قال: لا، فسار إنساناً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) صحيح البخاري (2236) ، ومسلم (2960) .(13/409)
بم ساررته؟ فقال: أمرته ببيعها. فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها. قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها (1) .
(1641-169) ومنها ما رواه البخاري من طريق ثابت،
عن أنس رضي الله عنه: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة. الحديث، والحديث رواه مسلم (2) .
(1642-170) ومنها: ما روه مسلم من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه وائل الحضرمي،
أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر؟ فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء (3) .
(1643-171) ومنها ما رواه مسلم من طريق عبد الرحمن، عن سفيان، عن السدي، عن يحيى بن عباد، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ فقال: لا.
وأجيب:
تحريم بيعها لا يلزم منه نجاستها، فقد قرن تحريم بيع الخمر بتحريم بيع الأصنام، والأصنام ليست نجسة، فالنهي عن بيع الخمر جاء معللاً في
_________
(1) صحيح مسلم (1579) .
(2) صحيح البخاري (2464) ، ومسلم (3662) .
(3) صحيح مسلم (3670) .(13/410)
الحديث: إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، ولم يقل: إن الله إذا حرم شيئاً اقتضى نجاسته، وسائر وجوه الانتفاع بها محرم لا لنجاستها، ولأن هناك أشياء نجسة، ولا يحرم الانتفاع بها، ولذلك جاء في الحديث: أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، قال: لا. هو حرام. أي البيع، فجواز الانتفاع بشحوم الميتة لا يسوغ صحة البيع، ولو كانت النجاسة دليلاً على تحريم الانتفاع بها ما جاز الاستصباح بشحوم الميتة وطلي السفن بها ودهن الجلود وغير ذلك من وجوه الانتفاع.
وهذا الكلب نجس، ويباح الانتفاع به في صيد وحراسة ونحوهما.
دليل من قال: إن الخمر طاهرة:
الدليل الأول:
النجاسة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، ولم يرد في الشرع نص يقتضي النجاسة الحسية للخمر، والأصل في الأشياء الطهارة، والخمر طاهرة قبل تحريمها، فكذلك بعد تحريمها، والتحريم وحده لا يقتضي النجاسة، ألا ترى إلى السم، فإنه محرم الأكل، ومع ذلك ليس بنجس، وهي مصنوعة من أشياء طاهرة كالعنب ونحوه، وكونه يتخمر ويشتد ويغلي فهذا لا يقتضي النجاسة، فإن اللحم قد ينتن وتتغير رائحته، ومع ذلك لا يقال عنه: إنه نجس.
الدليل الثاني:
(1644-172) ما رواه البخاري من طريق ثابت، عن أنس رضي الله عنه، قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال:(13/411)
فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. الحديث، والحديث رواه مسلم (1) .
وحديث ابن عباس في مسلم في قصة الرجل الذي أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريمها، فأراقها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب ما فيها. وسبق ذكره بتمامه.
وجه الاستدلال:
لو كان الصحابة يعتقدون نجاستها لتحروا لإراقتها أماكن النجاسات، ولنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إراقتها في الشوراع كما نهاهم عن التخلي في الطريق والظل،
(1645-173) فقد روى مسلم من طريق العلاء، عن أبيه،
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا اللعانين قالوا وما اللعانان يا رسول الله قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم (2) .
وأجيب عن هذا الاستدلال:
قال القرطبي: إن الصحابة أراقوا هذا؛ لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم، وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت،
_________
(1) صحيح البخاري (2464) ، ومسلم (3662) .
(2) صحيح مسلم (269) .(13/412)
ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور، وأيضاً فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة واسعة، ولم يكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهراً يعم الطرق كلها، وإنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها، هذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك، والله أعلم (1) .
ويمكن أن يتعقب هذا:
أولاً: قولهم إن الخمر كانت يسيرة، وجرت في مواضع يسيرة، ويمكن التحرز منها.
هذا خلاف الحديث السابق، من قول الصحابي: حتى جرت في سكك المدينة، فظاهره أنها جرت في جميع سكك المدينة، وأقل ما يدل عليه أنها جرت في غالب سكك المدينة.
ثانياً: قوله: يمكن التحرز منها، فإن التحرز من بول الإنسان في الطريق أهون من التحرز من الخمرة التي جرت في غالب سكك المدينة، ومع ذلك لم يكن هذا مبرراً لأن يؤذن في التبول في الطريق.
ثالثاً: قوله: إن نقل الخمر خارج المدينة يلحقهم مشقة كبيرة، فهل كانت المدينة كبيرة جداً؟ بحيث يلحقهم تلك المشقة، وهذا الفعل لن يتكرر، بل إن المشقة تلحقهم في تحري البول خارج المدينة أكثر من نقل الخمر مرة واحدة والتخلص منها؛ لأن البول قد يفاجئ الإنسان وهو في الطريق، ويتكرر
_________
(1) الجامع لأحكام القرآن (6/288) .(13/413)
في اليوم عدة مرات، ومع ذلك لا يؤذن له بالبول في طريق الناس، مع كون البول يسيراً، ويمكن التحرز منه.
رابعاً: قوله: إن في إرقاتها في طرق المدينة فائدة من كونه يشتهر ليشيع العمل، فيقال: ألا يشيع العلم حتى تراق في طرق المدينة، ألا تحصل هذه الفائدة لو أريقت في الأماكن التي لا تطرق من جوانب الطريق، والأماكن الخالية في المدينة، مع نزول آيات القرآن في تحريمها، وشدة عناية الصحابة بقراءة كتاب الله وتعلم ما فيه.
الدليل الثالث:
لم يأت نص من السنة بغسل الأواني من أثر الخمر، فالرجل الذي أهدى للرسول - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بتطهير راويته منها، بل اكتفى بإراقتها فقط.
وقد كان المسلمون قبل تحريم الخمر تكون في أوانيهم، وربما أصابت شيئاً من أبدانهم وثيابهم، فلما نزل تحريمها وأراقوها لم ينقل أن أحداً منهم غسل شيئاً من ذلك من بدنه أو من ثيابه أو من آنيته، ولو كانت نجسة لفعلوا ولأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض أدلة الفريقين، أرى أن القول بالطهارة أقوى من حيث الأثر ومن حيث النظر، والقول بالنجاسة وإن كان قول الأكثر إلا أن هذا غير كاف في الحكم بالنجاسة، ويكفي القائلين بالطهارة الجواب عن أدلة القائلين بالنجاسة، فإن الأصل في الأعيان الطهارة، ومن ذهب إلى طهارة عين فإنه لا يطالب بالدليل، بل يكفيه الدليل السلبي، وهو عدم(13/414)
وجود دليل على النجاسة، وإنما يطالب بالجواب عن أدلة القائلين بالنجاسة، وقد فعلوا، فكيف إذا كان القائلون بطهارة الخمر معهم دليل إيجابي على طهارته. ثم إن أصل تكوين الخمرة مواد طاهرة، فكيف تنجست، وهي لم تؤكل ولم تشرب، غاية ما في الأمر أنها تغيرت، وهذا لا يقتضي نجاستها، والله أعلم.(13/415)
[صفحة فارغة](13/416)
الفصل الثاني
في حكم الطيب الموجود فيه كحول
اختلف العلماء في طهارة الكحول،
فقيل: نجس، وهو اختيار الشنقيطي رحمه الله تعالى (1) .
وقيل: طاهر. وهو يلزم كل من قال بطهارة الخمر، وقد سبق بيان من قال بهذا القول في مسألة مستقلة.
دليل من قال بالنجاسة:
الدليل الأول:
هذه العطور ثبت أنها مسكرة، ويشربها بعض الفقراء بديلاً عن الخمر، أو في المواضع التي يمنع فيها بيع الخمر، وإذا كانت مسكرة، كانت (1646-174) خمراً بمقتضى النص النبوي، فقد روى مسلم، من طريق حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن نافع،
عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات، وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة (2) .
فقوله " كل مسكر" من ألفاظ العموم، فيشمل كل مسكر، سواء كان من العطور أو عصير العنب أو غيرهما.
(1647-175) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسحاق بن
_________
(1) أضواء البيان (2/129) .
(2) صحيح مسلم (2003) .(13/417)
إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عيسى وابن إدريس، عن أبي حيان، عن الشعبي،
عن ابن عمر، قال: سمعت عمر رضي الله عنه على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.
فقوله رضي الله عنه: الخمر ما خامر العقل، دليل على أنه ليس خاصاً بنوع معين.
وإذا ثبت الإسكار في الطيب، ثبت له حكم الخمر، وذلك:
في تحريم بيعه وشرائه، كما في حديث: إن الله حرم بيع الخمر. الحديث متفق عليه وسبق تخريجه في حكم الخمر.
وحرم الانتفاع بها بأي وجه من الوجوه، ومن ذلك تحريم تخليلها، كما جاء في الحديث الصحيح، وتحريم التداوي بها، ووجب إراقتها، وكل هذه الأحكام ثبتت في أحاديث في الصحيحين أو في أحدهما ذكرناها في الخلاف في بيع الخمر، فالخمر لا يعتبر مالاً حتى يمكن أن يصح بيعه وشراؤه، ووجب التخلص منه.
الدليل الثاني:
إن الله سبحانه وتعالى قال في الخمر " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " وهو أبلغ من النهي عن شربه، واستعماله في الأبدان والثياب مخالف للأمر الرباني.
الدليل الثالث:
كل دليل استدل به على نجاسة الخمر، يستدل به هنا على نجاسة هذه العطور.(13/418)
دليل من قال بطهارة العطور ونحوها:
الدليل الأول:
كل دليل سيق على طهارة الخمر يساق هنا، وقد ذكرتها على وجه التفصيل في حكم الخمر فارجع إليها إن شئت.
الدليل الثاني:
أكثر القائلين بنجاسة الخمر يرى طهارة الحشيشة، مع أن نسبة الكحول الموجودة فيها ربما أكثر من العطور، وكونه صلباً أو سائلاً لايكفي لاختلاف الحكم، ولا يغير في حقيقته شيئاً.
الدليل الثالث:
الكحول يتكون في كثير من المأكولات، وجميع ما نخمره مثل الخمير والخبز والكعك والبسكويت.... بل إن الكحول يتكون داخل أمعائنا بفعل البكتريا، فهذا دليل أن الكحول ليس نجساً.
وإذا علمنا أن الكحول المستخدم من الكولونيا وغيرها لا يستخرج من الخمر أبداً...، وإنما يصنع بطرق كيماوية منها تحويل غاز الإيثان إلى الكحول الإيثيلي أو الإيثانول كما يسمى علمياً، فإنه ليس نجساً، بل طهور لأنه مصنوع من مواد ليست نجسة (1) .
الدليل الخامس:
على فرض أن الكحول نجس، فالتلبس بالنجاسة ليس حراماً إلا إذا كان يريد فعل عبادة يشترط لفعلها الطهارة، ولذلك صرح الشافعية بأن الاستجمار لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره حتى يريد الطهارة أو
_________
(1) انظر الخمر بين الطب والفقه (ص: 52) .(13/419)
الصلاة (1) ، وقاسوا إزالة النجاسة على بقية شروط الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب الاستنجاء وجوباً موسعاً بسعة الوقت، ومضيقاً بضيقه كبقية الشروط (2) .
(1648-176) ولما رواه البخاري في صحيحه: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله،
عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (3) .
وقد استدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك
الدليل السادس:
الطيب يغاير الخمر؛ لأن الطيب في أصله وضع للتطيب به لا للسكر، والخمر إنما وضع للسكر، فحرم بيعه وشرؤه، وإخراج الطيب عن أصله الذي
_________
(1) المجموع (1/146) ، إعانة الطالبين (1/107) ، الإقناع للشربيني (1/53) ، حواشي الشرواني (1/174) ، شرح زبد بن رسلان (ص: 52) ، مغني المحتاج (1/43) ، أسنى المطالب (1/50) .
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/181) .
(3) صحيح البخاري (174) .(13/420)
وضع له لفعل شواذ من الناس لا يقتضي القول بتحريم بيعه مطلقاً، لكن من اشتراه ليسكر به حرم منه هذا الفعل، كشراء العنب لمن يريد عصره خمراً، والقول بتحريم بيع العطور يلزم منه القول بتحريم زراعة العنب وبيعه مطلقاً، ولا قائل به، وهكذا يلزم منه تحريم سائر الأشياء المباحة التي قد تستعمل فيما حرم الله.
الدليل السابع:
الكحول سائل، سرعان ما يتطاير ويتحول إلى غاز (بخار) ، وهذا البخار يعتبر طاهراً ولو كان أصله نجساً، كما أن الخمر إذا تحول إلى خل أصبح طاهراً عندكم.
الراجح من الخلاف.
بعد استعراض أدلة الفريقين يتبين لي طهارة الكحول كما سبق ترجيح طهارة الخمرة في المسألة التي قبل هذه، ولكن مع ذلك إذا ثبت أن الكثير من هذه الأطياب مسكرة، فينبغي للمسلم أن يجتنبها تحقيقاً لقوله تعالى: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (1) ، والله أعلم.
_________
(1) المائدة: 90.(13/421)
[صفحة فارغة](13/422)
الفصل الثالث
في الحشيشة المسكرة
تقدم لنا الخلاف في حكم الخمر، وقد عرفنا أن علة النجاسة عند القائلين بها كونه مسكراً مائعاً، وبقي لنا حكم الحشيشة المسكرة، وهي ذات جامدة، فهل تكون نجسة أو يحكم لها بالطهارة، في ذلك خلاف:
فقيل: إن الحشيشة طاهرة، وهو مذهب الحنفية (1) ، المالكية (2) ، والشافعية (3) ، وقول في مذهب الحنابلة، قال في غاية المطلب: وهو المشهور (4) .
وقيل: نجسة، اختاره بعض الشافعية (5) ، وهو قول في مذهب الحنابلة (6) ، اختاره ابن تيمية (7) ، قال في الإنصاف: نجسة على الصحيح (8) .
_________
(1) البحر الرائق (1/277) ، وأباح الحنفية أكل القليل من الحشيشة غير المسكرة، وهذا ذهاب منهم إلى طهارتها، انظر حاشية ابن عابدين (6/458) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 441) ،
(2) حاشية الدسوقي (1/50) ، الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/50) ، مواهب الجليل (1/90) .
(3) أسنى المطالب (1/10) ، الغرر البهية شرح البهجة الوردية (1/39) ، المنهج القويم (ص: 96) ، حواشي الشرواني (1/288) ، شرح زبد ابن رسلان (ص: 29) ،.
(4) غاية المطلب في معرفة المذهب (ص: 36) ، وانظر الإنصاف (1/320، 321) .
(5) الغرر البهية شرح البهجة الوردية (1/39) .
(6) المبدع (1/242) ، منار السبيل (1/58) ،
(7) الفتاوى الكبرى (3/419) ، الإنصاف (1/320) ، مجموع الفتاوى (23/358) .
(8) الإنصاف (1/320، 321) .(13/423)
وقيل: نجسة إن أميعت، وهو قول في مذهب الحنابلة (1) .
دليل من قال طاهرة:
الدليل الأول:
ما سبق وذكر في طهارة الخمر، فكل دليل سقناه على طهارة الخمر فهو دليل يساق هنا على طهارة الحشيشة، بل هي أولى بالطهارة من الخمر.
الدليل الثاني:
الإجماع، فقد حكى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرحه لفروع ابن الحاجب الإجماع على أنها ليست نجسة. وكذلك نقل الإجماع القرافي في القواعد (2) .
دليل من قال بالنجاسة:
قال: إن علة النجاسة في الخمر هي الإسكار، وهي موجودة في الحشيشة، فيكون الحكم واحداً لا فرق بين الخمر والحشيشة، وعليه فكل دليل ذكر في نجاسة الخمر يصلح أن يكون دليلاً على نجاسة الحشيشة.
دليل من قال: إن ميعت نجست:
رأى هذا أن الخمر نجاسته مركبة من أمرين:
1- كونه مسكراً.
وكونه مائعاً، فإذا فقد واحدة من هذين حكم بطهارته، والحشيشة وإن كانت
_________
(1) غاية المطلب في معرفة المذهب (ص: 36) ، الفتاوى الكبرى (3/419) ، الإنصاف (1/320، 321) ، المبدع (1/242) .
(2) الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/231) .(13/424)
مسكرة، إلا أنها جامدة، والجامد عنده سبب في الطهارة.
وكونه جامداً أو سائلاً ليس علة في الطهارة ولا في النجاسة، فإن الطاهرات والنجاسات منها الجامد ومنها السائل، وهذا القول أضعف الأقوال.
الراجح من الخلاف:
سبق أن رجحنا طهارة الخمر، والحشيشة مختلف فيها هل هي مسكرة أو مخدرة، على قولين لأهل العلم، فمن رأى أنها مخدرة لم ير نجاستها، ومن قال: إنها مسكرة، اختلف في نجاستها، والقائلون بالنجاسة ألحقوها بالخمرة، وقد ذكرت الخلاف في نجاسة الخمرة، وبيان القول الراجح في المسألة التي قبل هذه، والله أعلم.(13/425)
[صفحة فارغة](13/426)
الباب السادس:
في حكم الطهارة من النجاسة
الفصل الأول
في حكم إزالة النجاسة
لما تبين حكم الأعيان النجسة من الإنسان والحيوان والجماد، ومن الحي والميت، ومن المائع والجامد، ناسب معرفة حكم إزالة النجاسة، فأقول:
يختلف حكم إزالة النجاسة من مسألة إلى أخرى، فهناك عبادات تصح ولو كان الإنسان متلبساً بالنجاسة، فكون العبد يذكر الله لا يجب لذلك الطهارة من النجاسة، فيمكن للإنسان أن يذكر الله على أي حال من أحواله.
(1649-177) وقد روى مسلم من طريق البهي، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (1) .
وهذه الحائض قد اجتمع في حقها عدم الطهارة من الحدث والخبث، ومع ذلك لم تمنع من ذكر الله.
_________
(1) صحيح مسلم (117) .(13/427)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (1) .
وقوله: " افعلي ما يفعل الحاج " دخل فيه جميع ما يفعله الحجاج من ذكر الله، فهي تقف بعرفة، وتدعو هناك وتذكر الله، وتقف في المشعر الحرام وتذكر الله هناك، وترمي الجمرات، وتذكر الله بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى، فهي ليست ممنوعة من ذكر الله.
(1650-178) وروى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا محمد، حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي، عن عاصم، عن حفصة،
عن أم عطية قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، حتى تخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته.
وهو في مسلم، دون قوله: ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته (2) .
كما أنه يصح وضوء الرجل ولو كانت هناك نجاسة على بدنه، فطهارة الخبث لا علاقة لها بطهارة الحدث، وإنما يكون الإنسان مطلوباً أن يتخلى عن النجاسة إذا كان يريد أن يؤدي عبادة من شرطها أو من واجبها الطهارة من الخبث كالصلاة، وبالتالي يستطيع المسلم أن يمس المصحف ولو كان بدنه أو ثوبه فيه نجاسة ما دام أنه قد توضأ؛ ويستطيع أن يلبس خفيه؛ لأن الطهارة من الخبث ليست شرطاً في مس المصحف، ولا شرطاً في لبس الخف.
_________
(1) صحيح البخاري (305) ، ورواه مسلم أيضاً (1211) .
(2) صحيح البخاري (971) ، مسلم (890) .(13/428)
وهناك عبادات تجب لها الطهارة من النجاسة قبل التلبس بها وبعض الفقهاء يرى الطهارة شرطاً لصحة العبادة، وذلك في طهارة الثوب والبدن والبقعة في الصلاة، وهذا ما سوف يخصص له فصل مستقل إن شاء الله تعالى.(13/429)
[صفحة فارغة](13/430)
الفصل الثاني
في الصلاة مع التلبس بالنجاسة
إذا صلى المصلي، وهو متلبس بالنجاسة، عالماً بها، قادراً على إزالتها، فما حكم ذلك، وهل تصح صلاته؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة،
فقيل: إن الطهارة من الخبث شرط في صحة الصلاة، ومن صلى، وهو متلبس بالنجاسة، عالماً بها قادراً على إزالتها، فصلاته باطلة.
وهذا مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، وقول في مذهب المالكية (4) .
وقيل: الطهارة من الخبث سنة، اختاره بعض المالكية (5) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/79، 114) ، الاختيار لتعليل المختار (1/45) ، تبيين الحقائق (1/95) ، حاشية ابن عابدين (1/402) ، البحر الرائق (1/281) ، شرح فتح القدير (1/256) .
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/101) ، وقال النووي في المجموع (3/139) : مذهبنا أن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة فإن علمها لم تصح صلاته بلا خلاف , وإن نسيها أو جهلها فالمذهب أنه لا تصح صلاته. اهـ
(3) قال ابن قدامة في المغني (1/401) وهو شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم. وانظر الإنصاف (1/483) ،
(4) مواهب الجليل (1/131) ، حاشية الدسوقي (1/201) .
(5) التاج والإكليل (1/188) ، حاشية الدسوقي (1/201) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/260) ، مواهب الجليل (1/131) .(13/431)
وقيل: إن صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً أو مضطراً أعاد صلاته في الوقت، وإن صلى عالماً متعمداً غير مضطر أعاد أبداً، وهذا القول هو رواية ابن القاسم، عن مالك رحمه الله (1) .
وقيل: تجب الطهارة من النجاسة، فإن صلى بالنجاسة عالماً متعمداً فصلاته صحيحة مع الإثم، ويعيد ما دام في الوقت وهو قول في مذهب المالكية (2) ،
اختاره الشوكاني (3) .
_________
(1) التاج والإكليل (1/188) ، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (1/333) ، الخرشي (1/101) ،
(2) قال الباجي في المنتقى (1/41) : فأما إزالة النجاسة فإن أصحابنا العراقيين اختلفوا فيما حكوا عن مالك في ذلك:
فحكى القاضي أبو محمد في المعونة عن مالك في ذلك روايتين.
إحداهما: أن إزالتها واجبة وجوب الفرائض، فمن صلى بها عامدا ذاكرا أعاد أبداً، وهو الذي رواه أبو طاهر عن ابن وهب.
والثانية: أنها واجبة وجوب السنن، ومعنى ذلك أن من صلى بها عامدا أثم ولم يعد إلا في الوقت استحباباً، وهذا ظاهر قولي ابن القاسم.
وعلى الوجهين جميعا من صلى بها ناسيا أو غير قادر على إزالتها أجزأته صلاته ويستحب له الإعادة في الوقت.
وذهب القاضي أبو الحسن إلى أننا إن قلنا: إنها واجبة وجوب الفرائض أعاد الصلاة أبداً من صلى بها ناسيا أو عامداً.
وإذا قلنا: إنها واجبة وجوب السنن أعاد الصلاة أبدا من صلى بها عامدا , ومن صلى بها ناسيا أو مضطراً أعاد في الوقت استحباباً.
وقال القاضي أبو محمد مثل هذا في شرح الرسالة، وقال في تلقين المبتدئ: إنها واجبة لا خلاف في ذلك من قوله وإنما الخلاف في الإزالة هل هي شرط في صحة الصلاة أم لا، وهذا هو الصحيح عندي إن شاء الله وبالله التوفيق. اهـ وانظر فتح العلي المالك (1/112) .
(3) السيل الجرار (1/158) .(13/432)
فبهذه الأقوال يتبين لنا أن الأقوال كالتالي.
الأول: أن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة، واختلفوا هل تسقط مع الجهل والنسيان أو لا تسقط على قولين.
الثاني: أنها سنة، ويستحب له أن يعيد الصلاة ما دام في الوقت.
الثالث: أن الطهارة واجبة للصلاة، وتصح الصلاة بدونها مع الإثم.
دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة.
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: {وثيابك فطهر} (1) .
أمر الله سبحانه وتعالى بطهارة الثياب، والمقصود فيه في الصلاة، لأن طهارتها خارج الصلاة ليست واجبة إجماعاً.
وأجيب بجوابين:
الأول: أن المراد بالثياب غير اللباس، وإنما المقصود بالثياب القلب، وتطهيره من الشرك، خاصة أن هذه الآية أول ما نزل من القرآن، فهي قد نزلت قبل الأمر بالصلاة والوضوء.
ولو حملنا الآية على طهارة الثياب الظاهرة، فإن الآية فيها الأمر بتطهير الثياب، وهو مطلق، ليس فيه أن ذلك خاص بالصلاة، فهل تقولون بوجوب طهارة الثياب من النجاسة مطلقاً ولو خارج الصلاة؟ فإن قلتم ذلك، فإن الإجماع منعقد على أنه لا يجب على الإنسان الطهارة من الخبث إلا حال
_________
(1) المدثر: 4.(13/433)
الصلاة (1) ، وإن قلتم إن الآية مقيدة بالصلاة فقط، قلنا: لكم، إن الصلاة وقت نزول الآية لم تكن معلومة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما علمه جبريل كيفية الصلاة بعد أن فرضها الله عليه ليلة الإسراء.
وقد جاء في اللغة ما يدل على إطلاق الثياب على غير اللباس:
يقال: فلان طاهر الثياب، إذا لم يكن دنس الأخلاق
قال امرؤ القيس: ثياب بني عوف طهارى نقية.
وقوله تعالى: {وثيابك فطهر} (2) ، معناه: وقلبك فطهر، وعليه قول عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه... ليس الكريم على القنا بمحرم
أي شككت قلبه. وقيل: معنى وثيابك فطهر: أي نفسك.
وقيل: معناه لا تكن غادراً، فتدنس ثيابك؛ فإن الغادر دنس الثياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر: دنس الثياب.
وقيل: معناه: وثيابك فقصر؛ فإن تقصير الثياب طهر؛ لأن الثوب إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن تصيبه نجاسة، وقصره يبعده من النجاسة.
وقيل معنى قوله: وثيابك فطهر، يقول: عملك فأصلح، وروى عكرمة، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وثيابك فطهر} (3) ، يقول: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على فجور وكفر، وأنشد قول غيلان:
_________
(1) نقل الإجماع ابن حزم في المحلى (3/203) مسألة: 343.
(2) المدثر: 4.
(3) المدثر: 4.(13/434)
إني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من خزية أتقنعا (1) .
واللفظ إذا منع مانع من حمله على ظاهره، وكان للتأويل وجه في اللغة العربية لم يمنع من حمله عليه، فالأصل في لفظ " الثياب " هو إطلاقها على اللباس الظاهر، لكن منع من ذلك ما سبق أن ذكرناه من كون الآية نزلت قبل فرض الصلاة والوضوء.
الوجه الثاني: سلمنا أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي، وهو اللباس الظاهر، فإن غاية ما يستفاد من الآية الوجوب، والوجوب لا يستلزم الشرطية؛ لأن كون الشيء شرطاً: حكمٌ شرعيٌ وضعيٌ، لا يثبت إلا بتصريح الشارع بأنه شرط، أو بتعليق الفعل به بأداة الشرط، أوبنفي الفعل بدونه نفياً متوجهاً إلى الصحة لا إلى الكمال، أو بنفي الثمرة ولا يثبت بمجرد الأمر به.
فلم يأت من الشارع قوله: لا صلاة إلا بالطهارة من الخبث، أو من لم يتطهر من الخبث فلا صلاة له. أو لا يقبل الله صلاة أحدكم إلا بالتطهر من الخبث، كما قال في الطهارة من الحدث: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (2) ، وما دام أنه لم يأت ما يفيد الشرطية فلا يصح القول بالشرطية.
ورد هذا الوجه:
بأن قولكم: إن الآية نزلت قبل الأمر بالصلاة، وفي هذا دليل على أن المراد القلب، فغير صحيح، لجواز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خص بذلك في أول
_________
(1) لسان العرب (4/504-505) ، القاموس المحيط (ص: 554) العين (4/18، 19) ، مختار الصحاح (2/379) ، وانظر أنيس الفقهاء (ص:46) .
(2) البخاري (135) ، ومسلم (225) .(13/435)
الإسلام، وفرض عليه دون أمته، ثم ورد الأمر بذلك لأمته.
وجواب ثان: وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيحتمل أن يكون قد اتبع في الصلاة شرع من قبله من النبيين، فأوجب ذلك اتباعهم، وتأخر الأمر به بنص شرعنا عن ذلك الوقت. اهـ
والذي يرجح أن المراد بالثياب اللباس الظاهر أننا لو حملنا الثياب على ترك المعاصي لكان في سياق الآيات تكرار، فإن قوله: وثيابك فطهر والرجز فاهجر؛ فإن هجر الرجز من معانيه هجر المعاصي، فتكون هذه قرينة على أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي المتبادر إلى الذهن، وهو طهارة اللباس الظاهر.
وهذا الكلام جيد، إلا أن التعميم بعد التخصيص، والتخصيص بعد التعميم كلاهما وارد في كتاب الله،
فمن الأول قوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (1) .
فإن جبريل من الملائكة، فذكر الله سبحانه وتعالى عموم الملائكة بعد تخصيص جبريل بالذكر، وهذا منه.
ومثال التخصيص بعد التعميم، قوله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} (2) .
فهنا ذكر الملائكة على سبيل العموم ثم خص بالذكر جبريل وميكال،
ومثله قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (3) ،
_________
(1) التحريم: 4.
(2) البقرة: 98.
(3) البقرة: 238.(13/436)
وليس هذا على وجه التكرار، بل لمزيد عناية واهتمام.
والقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فنكون مخاطبين بطهارة الثياب من النجاسة، هذا القول بعيد عن الصواب، فإن الصحابة لم ينقل عنهم أنهم كانوا يصلون على طريقة أهل الكتاب، ولم يكلفوا بالصلاة إلا بعد الإسراء، وهل يقول أحد: بأن أول الإسلام كان المسلمون مخاطبين في تعلم ديانة أهل الكتاب أو غيرها من الديانات؛ لأن شرع من قبلهم شرع لهم، ما دام أنه لم يأت في شرعهم ما ينفيه، وأن الإنسان لو لم يقم بمثل هذا لكان مفرطاً، أو نقول: إن الأصل براءة الذمة حتى يأتي الخطاب المكلف من الشارع، كما قال سبحانه {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} (1) ،
ولم يعمل بقوله تعالى {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} (2) الآية.
وأما قولكم: إنه يجوز أن يكون الرسول قد خص بالتكليف في الطهارة من الثياب وفي الصلاة، فإن كان الأمر من باب التجويز العقلي فهذا جائز، وإن كان من باب الدعوى فأين الدليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلف بالصلاة دون سائر أمته في أول الإسلام؟ والله أعلم.
_________
(1) الأنعام: 145.
(2) الأنعام: 146.(13/437)
الدليل الثاني على أن الطهارة شرط لصحة الصلاة:
(1651-179) ما رواه البخاري، من طريق هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر،
عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت: سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة، فلتقرصه، ثم لتنضحه بماء، ثم لتصلي فيه (1) .
وجه الاستدلال:
فكونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الثوب من دم الحيض قبل الصلاة فيه، دليل على امتناع الصلاة وعدم صحتها في الثوب المتنجس بدم الحيض، وإذا كان وجود دم الحيض مانعاً من صحة الصلاة فيه، فكذلك سائر النجاسات.
وأجيب:
بأن حديث أسماء غاية ما فيه الدلالة على الوجوب، والوجوب لا يستلزم الشرطية.
الدليل الثالث:
(1652-180) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما
_________
(1) صحيح البخاري (307) ، ورواه مسلم بنحوه (291) .(13/438)
يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (1) .
وجه الاستدلال:
أن العذاب على عدم الاستتار من البول يدل على أن التلبس بالنجاسات في الصلاة من الكبائر، وأن التنزه عن النجاسات من أوكد الواجبات، ويبعد أن تكون صلاته صحيحة ثم يعذب في قبره، فالذي يظهر أن صلاته غير صحيحة مع عدم التنزه من البول، وهذا مفيد لمعنى الشرطية.
وأجيب عن هذا الدليل:
بما أجيب به عن الأدلة السابقة، بأن الحديث دال على تأثيم من صلى في النجاسة، وليس فيه دليل على وجوب إعادة الصلاة على من صلى متلبساً بالنجاسة، والوجوب لا يفيد معنى الشرطية، والعذاب على ترك الواجب لا يفيد بطلان الصلاة، لأن من ترك الواجب فقد استحق العقاب بخلاف المندوب.
الدليل الرابع:
(1653-181) ما رواه الدارقطني من طريق روح بن غطيف، عن الزهري، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم.
قال الدارقطني: لم يروه عن الزهري غير روح بن غطيف، وهو متروك الحديث (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (216) ، ومسلم (292) .
(2) سنن الدارقطني (1/401) ورواه البيهقي في السنن (2/404) ونقل بإسناده عن يحيى بن معين أنه قال: بلغني عن محمد بن يحيى الذهلي أنه قال: أخاف أن يكون هذا موضوعاً، وروح هذا مجهول. اهـ
وقال البخاري: هذا الحديث باطل، وروح منكر الحديث. الضعفاء الكبير (2/56) .
وقال ابن حبان: هذا خبر موضوع لا شك فيه. المجروحين (1/299) .
وانظر إتحاف المهرة (20433) .(13/439)
الدليل الخامس:
(1654-182) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا المقرئ، حدثنا يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع،
عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن الترمذي (346) .
(2) الحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/383) ، والروياني في مسنده (1431) وابن عدي في الكامل (3/203) ، والعقيلي في الضعفاء (2/71) وابن حبان في المجروحين (1/310) من طريق يحيى بن أيوب به.
ورواه ابن ماجه (746) من طريق سويد بن سعيد، عن زيد بن جبيرة به.
وضعفه الترمذي، وقال: إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة. اهـ
وقال البخاري: زيد بن جبيرة منكر الحديث. الكامل (2/71) .
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً، متروك الحديث، لا يكتب حديثه. الجرح والتعديل (3/559) .
وقال يحيى بن معين: لا شيء. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس بثقة.
ورواه ابن ماجه (747) والبزار في مسنده (161) من طريق أبي صالح (كاتب الليث) عن الليث، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بنحوه، فجعله من مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الترمذي: حديث داود، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد، وعبد الله بن عمر العمري ضعفه بعض أهل الحديث من قبل حفظه، منهم يحيى بن سعيد القطان. اهـ
وقال أبو حاتم في العلل (1/148) : جميعاً واهيين. يعني حديث الليث وحديث زيد بن جبيرة.
وانظر إتحاف المهرة (10524) ، تحفة الأشراف (7660) .(13/440)
ويغني عنه حديث صب الماء على بول الأعرابي حين بال في المسجد، فإنه دليل على وجوب تطهير المسجد عن النجاسات، ووجوب طهارة بقعة المصلي، وليس فيه دليل على أن الطهارة شرط.
الدليل السادس:
القياس على الطهارة من الحدث، فإذا كانت الطهارة من الحدث شرطاً، فإن الطهارة من الخبث كذلك، لأنها إحدى الطهارتين.
وأجيب:
بأن هناك فرقاً بين الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث، فلا يصح القياس مع وجود الفارق، فمن ذلك:
أولا: طهارة الحدث من باب فعل المأمور، وأما طهارة الخبث فمن باب ترك المحظور.
ثانياً: طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح خلافاً للحنفية، بخلاف طهارة الخبث فهي من باب التروك لا تشترط لها النية كترك الزنا والخمر ونحوها.(13/441)
وقد حكى جماعة الإجماع على أن طهارة الخبث لا تجتاج إلى نية، منهم القرطبي في تفسيره (1) ، وابن بشير وابن عبد السلام من المالكية (2) ، والبغوي، وصاحب الحاوي من الشافعية (3) .
ثالثاً: طهارة الحدث طهارة تعبدية محضة غير معقولة المعنى، فبدن المحدث وعرقه وريقه طاهر، وأما طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية.
رابعاً: طهارة الحدث الصغرى تختص بأعضاء مخصوصة، ربما ليس لها علاقة بالحدث، فالحدث: الذي هو البول والغائط موجب لغسل الأعضاء الأربعة الطاهرة، بينما طهارة الخبث تتعلق بعين النجاسة أين ما وجدت.
خامساً: طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان على الصحيح، بخلاف طهارة الخبث.
دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة واجبة، وليست بشرط:
أدلتهم هي أدلة القول الأول، إلا أنهم لا يرون في هذه الأدلة ما يقتضي الحكم بالشرطية، وأن الحكم بالشرطية يحتاج إلى نص بنفي القبول أو نفي الصحة عن الفعل، ولم يوجد، فبقيت هذه الأدلة دالة على وجوب التخلي من النجاسة حال الصلاة.
_________
(1) تفسير القرطبي (5/213) ،.
(2) مواهب الجليل (1/160) .
(3) المجموع (1/354) .(13/442)
دليل من قال: الطهارة من النجاسة سنة:
الدليل الأول:
(1655-183) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري،
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (1) .
[الحديث إسناده صحيح] (2) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنى على صلاته رغم أنه كان متلبساً بالنجاسة، ولو كانت الطهارة من النجاسة واجبة أو شرطاً لاستأنف الصلاة.
وأجيب:
بأن الحديث دليل على صحة صلاة من صلى وفي ثوبه نجاسة، ولم يكن عالماً بها فصلاته صحيحة، وليس فيه ما يدل على أن التخلي عن النجاسة مستحب، وليس بواجب.
الدليل الثاني:
(1656-184) ما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، قال: حدثني عمرو بن ميمون،
_________
(1) المسند (3/20، 92) .
(2) انظر تخريجه في كتابي آداب الخلاء، رقم (397) ، وهو جزء من هذه السلسلة.(13/443)
أن عبد الله بن مسعود حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض، أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كان لي منعة قال فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات. الحديث (1) .
وجه الاستدلال:
أن هذا السلى نجس، لأنه من ذبيحة أهل الأوثان، ولا يخلو من دم.
وأجيب:
بأن الأمر لعله كان قبل أن يتعبد باجتناب النجاسة في لباسه؛ لأن هذا الفعل كان بمكة قبل ظهور الإسلام، والأمر باجتناب النجاسة متأخر.
وهذا الجواب جائز، إلا أن غير المقبول أنه عندما كان الكلام على قوله تعالى: {وثيابك فطهر} قالوا: من الجائز أن يكون المسلمون مكلفين في شريعة من قبلهم باجتناب النجاسة، أو أن الرسول قد خص في هذا الواجب قبل الأمة، وعندما كان الدليل عليهم قالوا: إن هذا كان قبل أن تفرض الصلاة، وقبل أن يكون اجتناب النجاسة واجباً، فهذا نوع من التناقض!
_________
(1) صحيح البخاري (240) ، ومسلم (1794) .(13/444)
الراجح من أقوال أهل العلم:
بعد استعراض الأدلة نجد أن القول بأن اجتناب النجاسة في الصلاة واجب قول وسط بين قولين: القول بالشرطية، والقول بالاستحباب، وقد دلت الأدلة على وجوب اجتناب النجاسة، ولم يأت في الأدلة ما يدل على بطلان الصلاة إذا صلى وهو متلبس بالنجاسة، فيكون القول بالوجوب هو القول الراجح، والله أعلم.(13/445)
[صفحة فارغة](13/446)
الفصل الثالث
هل التطهر من النجاسة على الفور أم على التراخي
إزالة النجاسة تارة تكون على الفور، وتارة تكون على التراخي، فمثلاً إزالة النجاسة عن الكتب المحترمة، كالكتب السماوية، وكتب أهل العلم واجبة على الفور، لأن بقاءها على هذه الحال من المنكرات،
(1657-185) بدليل ما رواه مسلم، من طريق قيس بن مسلم،
عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1) .
فقوله: " من رأى منكم منكراً فليغيره " أي على الفور.
قال النووي: إزالة النجاسة التي لم يعص بالتلطخ بها في بدنه ليس على الفور , وإنما تجب عند إرادة الصلاة ونحوها، لكن يستحب تعجيل إزالتها (2) .
فقوله: " التي لم يعص بالتلطخ بها " دليل على أن النجاسة إذا كان التلطخ بها معصية فإزالتها على الفور كما لو وقعت النجاسة على كتب محترمة شرعاً.
_________
(1) صحيح مسلم (49) .
(2) المجموع (2/620) .(13/447)
وأما إذا كانت إزالة النجاسة واجبة للصلاة، فلا يجب إزالتها على الفور، بل يجوز تأخير ذلك حتى يريد الطهارة أو الصلاة (1) ، ويستجب تعجيلها.
واستدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
قياس إزالة النجاسة على بقية شروط الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب الاستنجاء وجوباً موسعاً بسعة الوقت، ومضيقاً بضيقه كبقية الشروط (2) .
الدليل الثاني:
(1658-186) ما رواه البخاري في صحيحه: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله،
عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (3) .
واستدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك بغير تطهير.
_________
(1) المجموع (1/146) ، إعانة الطالبين (1/107) ، الإقناع للشربيني (1/53) ، حواشي الشرواني (1/174) ، شرح زبد بن رسلان (ص: 52) ، مغني المحتاج (1/43) ، أسنى المطالب (1/50) .
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/181) .
(3) صحيح البخاري (174) .(13/448)
وأما الدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة:
(1659-187) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق،
عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (219) ، وصحيح مسلم (284) .(13/449)
[صفحة فارغة](13/450)
الفصل الرابع
في اشتراط النية في إزالة النجاسة
اتفق الجمهور على أن الطهارة من الخبث لا تشترط له نية (1) .
وخالف أكثر المالكية فاشترطوا النية في طهارة الاستنجاء من المذي خاصة، وهو المعتمد في المذهب (2) .
وقال القرافي: تشترط النية في إزالة كل النجاسات، وهو قول شاذ (3) .
_________
(1) أما الحنفية فإنهم لا يشترطون النية لا في طهارة الحدث، ولا في طهارة الخبث، انظر في كتب الحنفية شرح فتح القدير (1/32) ، البناية في شرح الهداية (1/173) ، تبيين الحقائق (1/5) ، البحر الرائق (1/24) ، بدائع الصنائع (1/19) ، مراقي الفلاح (ص:29) ، أحكام القرآن للجصاص (3/337) .
وفي مذهب الشافعي انظر المهذب (1/14) ، والمجموع (1/354) ،
وفي مذهب الحنابلة مطالب أولي النهي (1/105) ، انظر المبدع (1/117) .
(2) قال في حاشية الدسوقي (1/112) : واعلم أن غسل الذكر من المذي وقع فيه خلاف، قيل: إنه معلل بقطع المادة، وإزالة النجاسة.
وقيل: إنه تعبد، والمعتمد الثاني. (أي كونه تعبداً) ثم قال: ويتفرع أيضاً، هل تجب النية في غسله أو لا تجب، فعلى القول بالتعبد تجب، وعلى القول بأنه معلل لا تجب، والمعتمد وجوبها. اهـ
وأما في غير المذي فقد صرحوا بأن الاستنجاء يجزئ بلا نية، جاء في التاج والإكليل (1/229) : قال ابن أبي زيد في الاستنجاء: ويجزئ فعله بغير نية، وكذلك غسل الثوب النجس. اهـ وانظر مواهب الجليل (1/160) .
(3) مواهب الجليل (1/160) .(13/451)
دليل الجمهور على عدم اشتراط النية:
الدليل الأول: الإجماع.
حكى جماعة الإجماع على أن طهارة الخبث لا تجتاج إلى نية، منهم القرطبي في تفسيره (1) ، وابن بشير وابن عبد السلام من المالكية (2) ، والبغوي، وصاحب الحاوي من الشافعية (3) .
الدليل الثاني:
قالوا: إن الطهارة من الخبث من باب التروك، وهو لا يحتاج إلى نية كترك الزنا والخمر، فلو أن المطر نزل على ثوب نجس، فزالت النجاسة طهر الثوب ولو لم ينو؛ لأن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها.
دليل المالكية على اشتراط النية:
(1660-188) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن،
عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (4) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسل ذكرك، حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، فيعم جميع الذكر، فيغسل مخرج الذكر من أجل النجاسة، أما بقية الذكر فالراجح عندهم أن غسله تعبدي غير معقول المعنى، وهذا سبب اشتراط النية.
_________
(1) تفسير القرطبي (5/213) ،.
(2) مواهب الجليل (1/160) .
(3) المجموع (1/354) .
(4) صحيح البخاري (269) ، ومسلم (303) .(13/452)
وأجيب:
بما قاله بعضهم: إن غَسْل الذكر إنما هو من أجل قطع مادة المذي، فهو كغسل النجاسات، لا يفتقر إلى نية (1) .
والراجح قول الجمهور، وأن طهارة الخبث لا تفتقر إلى نية، وقد بينا في مسألة كيفية التطهير من المذي أن الواجب هو غسل رأس الحشفة فقط، وهو ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح، ومن غسل رأس حشفته، فقد صح أنه غسل ذكره، فقد يطلق غسل البعض على الكل في لغة العرب، وليس في السنة دليل على وجوب تعميم الذكر بالغسل، وإذا صح هذا لم تكن الطهارة من الاستنجاء استثناء من إزالة النجاسة، فتفتقر إلى نية، بل غسل النجاسات كلها لا يحتاج إلى نية، والله أعلم.
_________
(1) قال القاضي أبو الوليد كما في المنتقى للباجي (1/50) : الصحيح عندي أنه يفتقر إلى النية لأنها طهارة تتعدى محل وجوبها. وانظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/285) ، الخرشي (1/149) ، حاشية الدسوقي (1/112) ، فتح البر بترتيب التمهيد (3/323) .(13/453)
[صفحة فارغة](13/454)
الفصل الخامس
في ما يعفى عنه من النجاسات
يتفق الفقهاء على القول بالعفو في بعض أحكام النجاسة، ويختلفون في سبب هذا العفو، فبعضهم يرى أن قليل النجاسة معفو عنها بخلاف كثير النجاسة، ويستدلون على ذلك بالعفو عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء والعدد، وبعضهم يقسم النجاسة إلى مغلظة ومخففة، والمغلظة يعفى فيها عن قدر الدرهم والمخففة يعفى عنها بمقدار ربع الثوب، وهكذا، وحتى يمكن وضع ضابط تقريبي للعفو عن النجاسة يمكن لنا أن نرجع سبب العفو من حيث الجملة إلى أمور منها:
الأول: الاضطرار، وتعريف الاضطرار: " هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعاً " (1) ، كالاضطرار إلى أكل النجاسة (الميتة)
أو الاضطرار إلى لبس الثوب النجس في الصلاة لستر العورة المغلظة، ونحو ذلك.
الثاني: مشقة الاحتراز من النجاسة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الهر " إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات " فلعلة التطواف نفى عنها النجاسة.
ويقاس على الهرة البغل والحمار والفأرة؛ لمشقة الاحتراز منها، فيعفى عن سؤرها وعرقها.
_________
(1) درر الحكام شرح مجلة الحكام (1/34) .(13/455)
ومما يصعب الاحتراز منه العفو عما يصيب القدم من النجاسة والاكتفاء بدلكها بالتراب، حيث يتكرر مرور الناس في الطرقات، وهي لا تخلو من النجاسات التي تعلق بأقدامهم، وقد تكون هذه الطرقات موحلة.
وقد يتنجس ذيل المرأة ويتأثر بهذه النجاسات فكان يكفي في ذلك مروره على تراب طاهر بعده.
الثالث: عموم البلوى، وذلك في الاستنجاء، فإن الاستنجاء مما تعم به البلوى، ويضطر كل أحد إليه في كل وقت وكل مكان، ولا يمكن تأخيره فلو كلف إزالته بالماء شق وتعذر ذلك في كثير من الأوقات ووقع الحرج.
الرابع: عسر الإزالة، فلا يكلف الإنسان إزالة لون النجاسة وريحها إذا عسر عليه ذلك، ويكفي إزالة عينها.
الخامس: كون الشيء يسيراً، فالشريعة تعفو عن الشيء الحقير غالباً في جوانب كثيرة من الشريعة، وليس فقط في باب النجاسة، كالعفو عن دم البراغيث، والبول الذي ترشش على الثوب بقدر رؤوس الإبر، وظهور شيء يسير من العورة أثناء الصلاة، والعمل الأجنبي القليل في الصلاة لا يبطلها، والغرر اليسير في البيوع.
فإذا عرفنا الضوابط التقريبية للعفو عن النجاسة بقي الأمر معلقاً على تحقيق المناط، هل هذه النجاسة داخلة في عفو الشارع عنها لكثرة وقوعها وتكرره ولوجود المشقة في الاحتراز منها أو للاضطرار إلى فعلها، أو ليست كذلك فلا يعفى عنها؟ وكما قسنا الفأرة والحمار على الهرة لعلة التطواف،(13/456)
نقيس غيرها عليها، فما ظهر فيه مشقة من التحرز منه خففنا طهارته، وكما قسنا من به سلس بول على المستحاضة في الصلاة في كونه لا عبرة بحدثه ويصلي ولو كان البول نازلاً، وكونه يؤذن له في الجمع بين الصلوات، وهكذا إذا ظهر لنا في نجاسة ما مشقة أو تكرار أو عموم بلوى أو اضطرار أو كونها نجاسة يسيرة عفونا عن ذلك قياساً لما ليس فيه نص على ما فيه نص، والله أعلم.(13/457)
[صفحة فارغة](13/458)
مبحث
طهارة المعفو عنه حقيقة أو حكمية؟
اختلف العلماء في المعفو عنه، هل يصبح طاهر العين بعد العفو عنه، أو أن حكم النجاسة سقط مع قيامها، ويتبين أثر الخلاف بين القولين إذا قلنا: إن الهر قد حكمت السنة بطهارته لعلة التطواف ومشقة الاحتراز، فإذا ذهبت علة التطواف، وكان الهر متوحشاً وليس طوافاً فهل يرجع إلى أصله من النجاسة، أو يكون طاهراً مطلقاً، اختلف العلماء في هذا؟.
فقيل: إن المعفو عنه طاهر حقيقة، وهو قول في مذهب الحنفية (1) ، وقول في مذهب الحنابلة (2) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/337) ، وقد قالوا بنجاسة البئر إذا سقط فيها الرجل ولم يستنج بالماء، وإنما اقتصر على الحجارة، كما سيأتي مذهبهم في طهارة البئر.
(2) الإنصاف (1/109) ، وقال ابن قدامة في المغني (1/411) : واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه.
ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه. اهـ(13/459)
وقيل: إنه نجس، وإنما سقط حكم النجاسة، وهذا قول في مذهب الحنفية (1) ، ومذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
دليل من قال: إنه طاهر:
(1661-189) استدلوا بما وراه مالك من طريق حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها:
أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (5) .
[إسناده صحيح] (6) .
وجه الاستدلال:
أنه نفى - صلى الله عليه وسلم - عن الهر النجاسة، مع تعليله طهارتها بعلة التطواف، أي مشقة التحرز منها، فلو كانت الهرة نجسة معفواً عنها لم يقل عليه الصلاة والسلام: إنها ليست بنجس.
دليل من قال: إنها نجسة:
قالوا: الميتة نجسة، لكن أبيحت للمضطر للعذر، وهذا لا يحولها إلى عين طاهرة، ولذلك إذا زال العذر رجع التحريم.
ولأن المستجمر في الحجارة يبقى بعده أثر من النجاسة في المحل، لا يزيله إلا الماء، وهذا الأثر عينه نجسة؛ لأنه جزء من الغائط، فكيف يكون
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/337) ، تبيين الحقائق (1/72) ، البحر الرائق (1/238) .
(2) مواهب الجليل (1/45) ، حاشية الدسوقي (1/111) .
(3) حيث اعتبر أثر الاستجمار نجساً، انظر حاشيتا قليوبي وعميرة (1/208) ، تحفة المحتاج (2/128) ، الأشباه والنظائر (ص: 84) ،
(4) المغني (1/411) . وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه. اهـ
(5) الموطأ (1/44) .
(6) سبق تخريجه، انظر رقم (1507) .(13/460)
المحل طاهراً حقيقة والنجاسة لا تزال عليه؟ وإنما عفي عن حكمها تخفيفاً من الله سبحانه وتعالى، وتيسيراً على المكلف، فالحمد لله على تيسيره ومنه.
وسواء رجحنا هذا أو ذاك، فالذي يعنينا من النجاسات هو حكمها، فإذا سقط حكم النجاسة، وعفي عنها، سواء قلنا بعد ذلك: إن العين نجسة أو طاهرة لم يكن للخلاف أثر، والله أعلم.(13/461)
[صفحة فارغة](13/462)
الفصل السادس
في مذاهب العلماء في العفو عن النجاسات
في معرض ذكر النجاسة المعفو عنها في كل مذهب لا حاجة لنا في بيان أن بعض الأعيان المعتبرة في بعض المذهب نجسة، هي في راجح الأمر من الأعيان الطاهرة؛ أو العكس؛ لأنه يفترض أننا قد حرر فيما سبق الراجح في كل الأعيان المختلف في طهارتها، سواء كان من إنسان أو حيوان أو جماد في الأبواب التي قبل هذا الفصل، وإنما أوردنا في هذا الفصل سرد النجاسات المعفو عنها في كل مذهب، فإن أردت أن تعرف هل النجاسة المذكورة في هذا المذهب هي حقاً من الأعيان النجسة أو الطاهرة فارجع إلى باب ذكر الأعيان النجسة، وراجع خلاف العلماء ومعرفة الراجح.
القول الأول: مذهب الحنفية:
ذهب الحنفية إلى العفو عن قليل النجاسة مطلقاً في حق المصلي في بدنه وثوبه وبقعته، إلا أن تقديرهم للقليل يختلف من نجاسة إلى أخرى،
فتقدير القليل في النجاسة المخففة: هو ما لم يفحش.
وتقدير القليل في النجاسة المغلظة: هو قدر الدرهم (1) .
_________
(1) جاء في حاشية ابن عابدين (1/318) والبحر الرائق (1/240) أن المغلظة عند أبي حنيفة: ما ورد فيها نص لم يعارض بنص آخر، فإن عورض بنص آخر فمخفف.
مثاله: دم الحيض نجس مغلظ؛ لورود النص على نجاسته، ولم يعارض بنص آخر.
بينما بول ما يؤكل لحمه نجس مخفف؛ لأن حديث استنزهوا من البول يدل على نجاسته، وحديث العرنيين يدل على طهارته، فلما عورض بنص آخر دل على أن نجاسته مخففة.
وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن النجاسة المغلظة: ما أجمع على نجاسته. والمخفف: ما اختلف الأئمة في نجاسته. فروث ما يؤكل لحمه مغلظ عند أبي حنيفة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إنها ركس" ولم يعارض بنص آخر.
والروث عند صاحبيه مخفف لقول مالك وأحمد بطهارته.(13/463)
ويستدلون بأدلة منها:
أولاً: أن الاستنجاء والاستجمار ليس بواجب عندهم، ومعنى هذا أنه يعفى عن غسل النجاسة من بول أو غائط في مكانه المعتاد.
وقد نوقشت هذه المسألة في باب مستقل في كتاب أحكام الطهارة " آداب الخلاء " وترجح أن الاستنجاء أو الاستجمار واجب.
ويستدلون أيضاً بالعفو عن الأثر المتبقي بعد الاستجمار، وهو أثر لا يزيله إلا الماء، ومع ذلك عفي عنه، وهو دليل على العفو عن قليل النجاسة.
ويعفى عن النجاسة الكثيرة إن كانت في بقعة المصلي في موضع اليدين والركبتين؛ لأن وضعهما في حال السجود ليس بركن، ولا يعفى عن كثير النجاسة في موضع قدم المصلي لأن القيام ركن.
وأما في موضع السجود فاختلف في العفو عن النجاسة الكثيرة على قولين.
فقيل: لا يعفى؛ لأن الجبهة أكبر من الدرهم.
وقيل: يعفى؛ لأن فرض السجود يؤدى بقدر أرنبة الأنف، وهي أقل من الدرهم.
والتفريق بين الركن والواجب تفريق بلا دليل
كما يعفى عن النجاسة المنتضحة كرؤوس الإبر، وإن كثرت بشرط ألا(13/464)
ترى، فإن رؤيت وكان بحال لو جمعت بلغت أكثر من الدرهم وجبت إزالتها.
وكالبول المنتضح والدم على ثوب القصاب
كما يعفى عن النجاسة الكثيرة إذا كانت مختلطة في طين الشوارع وكانت طرق المصلي لا تنفك عنها النجاسات غالباً لكن ما لم ير عين النجاسة فإن رأى عين النجاسة فلا يعفى إلا عن قليلها كما سبق.
كما يعفى عن بعر الإبل والغنم إذا وقع في البئر ما لم يكثر كثرة فاحشة أو يتفتت فيتلون به الماء.
كما يعفى عن ذرق ما لا يؤكل لحمه من الطيور، كالبازي والصقر وإن كثر؛ لأنها تذرق في الهواء، فيصعب الاحتراز منها (1) .
القول الثاني: مذهب المالكية:
يعفى في مذهب المالكية عما يعسر الاحتراز عنه من النجاسات كحدث مستنكح (أي ملازم كثيراً) وكبلل باسور وكثوب مرضعة أو جسدها إذا اجتهدت في درء البول أو الغائط بأن تنحيه عنها حال البول فإذا أصابها شيء بعد التحفظ عفي عنه، ومثل المرضع: الكناف، أي الذي ينزح الكنف، والجزار، فيعفى عما أصابهما بعد التحفظ، فإن لم يتحفظا فلا عفو.
ـ ويعفى عما دون قدر الدرهم البغلي عن عين أو أثر من دم مطلقاً منه ومن غيره ولو دم حيض أوٍٍٍ خنزير في ثوب أو بدن أو مكان.
ـ ويعفى عن يسير الدم والقيح والصديد، فمثله مثل الدم من كل وجه.
ـ ويعفى عن أثر موضع الحجامة إذا كان يتضرر بالغسل فلا يجب غسله،
_________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 104-105) ، حاشية ابن عابدين (1/322) ، شرح فتح القدير (1/202-205)(13/465)
ولكن إن كان زائداً عن قدر الدرهم مسح حتى يبرأ، وإن كان أقل من الدرهم البغلي عفي عنه بلا مسح، ويستمر العفو إلى أن يبرأ ذلك الموضع.
ـ ويعفى عما أصاب النعل والخفاف من أرواث الدواب وأبوالها، بموضع يطرقه الدواب كثيراً، فإن أصابت الثياب فلا عفو، وإن كانت النجاسة من غير أرواث الدواب وأبوالها فلا عفو أيضاً، ولا بد من غسله (1) .
ـ كما يعفى عن الدم المباح في الصقيل كالسيف والسكين والمرآة وإن لم يمسحه لئلا يفسد.
_________
(1) قال في مواهب الجليل (1/152) : إذا كانت النجاسة يابسة فمعفو عن الذيل الواصل إليها، وفي الرطبة قولان: المشهور لا يعفى، والثاني أنه يعفى.
وقال أيضاً في المرجع المذكور (1/153) : ويعفى عن أثر ما يصيب الخف، وعما يصيب النعل من أرواث الدواب وأبوالها، ولو كانت رطبة، كما قاله في المدونة، بشرط أن يدلك ذلك، فإذا دلكه جاز له أن يصلي بذلك الخف والنعل، والعلة في ذلك المشقة، وهو الذي ارتضاه ابن الحاجب.
وبعضهم ساوى بين الذيل والخف، فقال يعفى عنهما ولو كانت النجاسة رطبة، وخرج حكم ذيل المرأة على كلام مالك في الخف.
قال في مواهب الجليل (1/152) : الأشبه أن ذلك فيما لا تنفك منه الطرقات من أرواث الدواب وأبوالها، وإن كانت رطبة، فإن ذلك لا ينجس ذيلها للضرورة، كما قال مالك في الخف. قال سند: ولعمري أن تخريج ذلك على الخف حسن؛ لأن غسل الثوب كل وقت فيه حرج ومشقة، ربما كانت فوق مشقة غسل الخف، فإن الخف يغسله وينزعه وينشف، والثوب إن تركه عليه مبلولاً فمشقة إلى مشقة، وإن نزعه فليس كل أحد يجد ثوباً آخر يلبسه. قال الحطاب تعليقاً: وما قالاه ظاهر، لكنه خلاف مذهب المدونة.
وقال في حاشية الدسوقي (1/75) : وحاصله أن الخف إذا أصابه شيء من النجاسات غير أرواث الدواب وأبوالها كخرء الكلاب أو فضلة الآدمي أو أصابه دم فإنه لا يعفى عنه كما مر، ولا بد من غسله. اهـ(13/466)
ـ ويعفى عن أثر الدمل الواحد ومثله الجرح الواحد ما لم ينك أي يعصر أو يقشر بلا حاجة، فإن عصره أو قشره بلا حاجة لم يعف عما زاد عن الدرهم، وإن عصره أو قشره لحاجة عفي عنه ولو كثر.
وإن كثرت الدمامل فيعفى عنها مطلقاً، ولو عصرها أو قشرها لاضطراره لذلك كالحكة والجرب.
ـ كما يعفى عن أثر ذباب وناموس يحملها على أعضائه، ثم يحطها على الثوب أو البدن.
ـ يعفى عن طين الشوارع المتنجس، سواء كان الطين لسبب المطر أو الرش أو نحوهما، بشرط أن يكون الطين طرياً يخشى منه الإصابة، وأن لا تغلب النجاسة على الطين يقيناً أو ظناً، وأن لا يصيب الإنسان عين النجاسة غير المختلطة.
ـ ويعفى عما يعلق من غبار النجس بذيل المرأة إذا أطالته للستر وليس للخيلاء، وكذا ما يعلق برجل مبلولة من نجاسة يابسة إذا مر عليها، وليس العفو عنهما مترتباً بمرورهما على ما يطهرهما (1) .
هذا جل ما يعفى عنه من النجاسات في مذهب المالكية، وهو كما سبق يرجع إلى الضوابط التي ذكرت سابقاً من مشقة التحرز وعموم البلوى والاضطرار ويسير النجاسة.
القول الثالث: مذهب الشافعية:
ـ يعفى عن أثر استجمار بمحله، وفي الأصح أنه يعفى عنه ولو عرق محل الأثر وانتشر؛ لعسر الاحتزار منه (2) .
_________
(1) انظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/71- 78) ،
(2) نهاية المحتاج (1/25) ،(13/467)
ـ ويعفى عن شعر الحيوان المركوب النجس، ولو كان كثيراً؛ لمشقة الاحتراز عنه (1) .
ـ ويعفى عن قليل بول الخفاش، وونيم الذباب، وبول وروث الزنابير والبعوض، وروث السمك في الماء ونحوها؛ لمشقة الاحتراز (2) .
ـ أما دم القمل والبراغيث والبق والقردان وغيرهما مما لا نفس له سائلة فقد اتفق أصحاب الشافعية على أنه يعفى عن قليله, وفي كثيره وجهان مشهوران أصحهما العفو عنه. قال صاحب البيان هذا قول عامة أصحابنا.
وأما دم الشخص نفسه، فضربان:
أحدهما: ما يخرج من بثرة من دم وقيح وصديد، فله حكم دم البراغيث بالاتفاق , يعفى عن قليله قطعاً, وفي كثيره الوجهان: أصحهما العفو.
الضرب الثاني: ما يخرج منه لا من البثرات، بل من الدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة وغيرها. وفيه طريقان:
أحدهما: أنه كدم البراغيث والبثرات فيعفى عن قليله، وفي كثيره الوجهان قال الرافعي: هذا مقتضى كلام الأكثرين.
والثاني: وهو الأصح اختاره إمام الحرمين وسائر العراقيين أنه كدم الأجنبي. أي فلا يعفى عنه.
وإذا عصر هو البثرة أو الدمل أو قتل البرغوث عفي عن قليله فقط دون كثيره (3) .
_________
(1) مغني المحتاج (1/81) .
(2) مغني المحتاج (1/81) أسنى المطالب (1/175) منظومة ابن العماد (ص: 18-19) .
(3) المجموع (3/143) .(13/468)
ـ وإذا تيقن نجاسة طين الشوارع فلا خلاف في العفو عن القليل الذي يلحق ثياب الطارقين.
أما إذا غلب على الظن نجاسة طين الشوارع، فهناك قولان، الأول: يحكم بنجاسته، والثاني: بطهارته، بناء على تعارض الأصل والظاهر (1) .
ـ كما يعفى عن ميتة ما لا نفس له سائلة إذا وقع في الماء شرط أن يكون الواقع قليلاً، وألا يغير الماء، وهذا مبني على مذهب الشافعية القائل بنجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة (2) .
ـ يعفى عن القليل من دخان وغبار النجاسة، وقليل دخان السرجين (3) .
ـ يعفى عن النجاسة التي لا يدركها البصر المعتدل، كنقطة خمر لا تبصر لقلتها، أما من كان بصره حاداً فأبصر تلك النجاسة فلا عبرة برؤيته (4) .
وقد قسم السيوطي النجاسات المعفو عنها في مذهب الشافعية أقساماً تارة باعتبار مقدارها، وتارة باعتبار محلها، وننقله بحروفه، نظراً لأن التقسيم يعين الطالب على الحفظ:
قال السيوطي: النجاسات أقسام:
أحدها: ما يعفى عن قليله وكثيره في الثوب والبدن.
وهو: دم البراغيث والقمل والبعوض والبثرات والصديد والدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة، ولذلك شرطان:
_________
(1) المجموع (1/261-262) ، نهاية المحتاج (1/27-28) .
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/323) ، شرح منظومة ابن العماد (ص: 55) .
(3) مغني المحتاج (1/81) .
(4) انظر حاشية البجيرمي (1/88) ، شرح منظومة ابن العماد (ص: 48-49) .(13/469)
أحدهما: أن لا يكون بفعله, فلو قتل برغوثاً، فتلوث به وكثر، لم يعف عنه.
والآخر: أن لا يتفاحش بالإهمال؛ فإن للناس عادة في غسل الثياب, فلو تركه سنة مثلا، وهو متراكم لم يعف عنه.
الثاني: ما يعفى عن قليله دون كثيره.
وهو دم الأجنبي، وطين الشارع المتيقن نجاسته.
الثالث: ما يعفى عن أثره دون عينه.
وهو أثر الاستنجاء, وبقاء ريح أو لون، عسر زواله.
الرابع: ما لا يعفى عن عينه ولا أثره، وهو ما عدا ذلك.
تقسيم ثان لما يعفى عنه من النجاسة.
أحدها: ما يعفى عنه في الماء والثوب، وهو ما لا يدركه الطرف، وغبار النجس الجاف، وقليل الدخان والشعر، وفم الهرة والصبيان. ومثل الماء: المائع، ومثل الثوب: البدن.
الثاني: ما يعفى عنه في الماء والمائع دون الثوب والبدن، وهو الميتة التي لا دم لها سائل ومنفذ الطير وروث السمك في الحب والدود الناشئ في المائع.
الثالث: عكسه , وهو: الدم اليسير وطين الشارع ودود القز إذا مات فيه لا يجب غسله، صرح به الحموي، وصرح القاضي حسين بخلافه.
الرابع: ما يعفى عنه في المكان فقط, وهو ذرق الطيور في المساجد والمطاف، كما أوضحته في البيوع، ويلحق به ما في جوف السمك الصغار على القول بالعفو عنه؛ لعسر تتبعها وهو الراجح.
ثم أتبع ذلك السيوطي بوضع عنوان آخر، فقال:(13/470)
الصور التي استثني فيها الكلب والخنزير من العفو.
الأولى: الدم اليسير من كل حيوان يعفى عنه إلا منهما، ذكره في البيان قال في شرح المهذب: ولم أر لغيره تصريحا بموافقته ولا مخالفته، قال الإسنوي: وقد وافقه الشيخ نصر المقدسي في المقصود.
الثانية: يعفى عن الشعر اليسير إلا منهما، ذكره في الاستقصاء.
الثالثة: يعفى عن النجاسة التي يدركها الطرف إلا منهما، ذكره في الخادم بحثاً.
الرابعة: الدباغ يطهر كل جلد إلا جلدهما بلا خلاف عندنا.
الخامسة: يعفى عن لون النجاسة أو ريحها إذا عسر زواله إلا منهما، ذكره في الخادم بحثاً.
السادسة: قال في الخادم: ينبغي استثناء نجاسة دخان نجاسة الكلب والخنزير؛ لغلظهما, فلا يعفى عن قليلها (1) . اهـ
القول الثالث: مذهب الحنابلة:
لا تختلف الرواية في مذهب أحمد أنه يعفى عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء والعدد.
كما يعفى عن يسير الدم والقيح والصديد في غير مائع ومطعوم من حيوان طاهر في الحياة، سواء كان من مأكول اللحم أو من غيره كالهر، بشرط أن يكون من غير السبيلين، فإن وقع في مائع أو مطعوم أو كان من حيوان نجس كالكلب والخنزير أو خرج من أحد السبيلين فلا يعفى عن شيء من ذلك.
_________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 432) .(13/471)
وأما القيء فلا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب.
وفيه قول ثان بأنه يعفى عن يسيره.
كما أن ريق الحمار والبغل وعرقهما على القول بنجاستهما لا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب.
وفيه رواية ثانية أنه يعفى عن يسيره.
كما أن ريق سباع البهائم - غير الكلب والخنزير - والطير وعرقها على القول بنجاسته لا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب.
وقيل: يعفى عن يسيره.
كما أن بول الخفاش وكذا الخشاف وكذا الخطاف نجس، فلا يعفى عنه على الصحيح من المذهب.
وعنه يعفى عن يسيره.
ولا يعفى عن يسير بول كل بهيم نجس أو طاهر لا يؤكل، وينجس بموته على الصحيح من المذهب.
وأما النبيذ النجس، فلا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب.
وعنه يعفى عن يسيره.
ويعفى عن دم البق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها على القول بنجاستها، وقد تقدم أن الراجح فيها الطهارة.
ومنها يسير النجاسة إذا كانت على أسفل الخف والحذاء بعد الدلك يعفى عنها على القول بنجاسته، وقطع به الأصحاب.
ومنها يسير سلس البول مع كمال التحفظ يعفى عنه، قال الناظم: وظاهر كلام الأكثر عدم العفو، وعلى قياسه يسير دم الاستحاضة.(13/472)
ومنها يسير دخان النجاسة وغبارها وبخارها يعفى عنه ما لم تظهر له صفة على الصحيح من المذهب.
قال جماعة: يعفى عنه ما لم يتكاثف، وقيل: ما لم يجتمع منه شيء ويظهر له صفة، وقيل: أو تعذر أو تعسر الاحتراز منه.
وقيل: لا يعفى عن يسير ذلك.
ومنها يسير نجاسة الجلالة قبل حبسها لا يعفى عنه على الصحيح من المذهب، وقيل: يعفى عنه (1) .
هذا جل ما يعفى عنه وما لا يعفى في مذهب الحنابلة، وكما قلنا: إن الشأن في هذا الفصل هو تحرير المذاهب دون تعرض لمناقشتها؛ وذلك لأنه سبق أن تحرير الأعيان النجسة والطاهرة، والراجح فيها في أبواب وفصول ومباحث متقدمة، وأما الراجح في العفو فكما سبق محاولة ضبط ذلك من خلال ضوابط جامعة،
فكل نجس يسير عرفاً فهو معفو عنه على الصحيح، دون تفريق بين البول وبين الدم النجس، وسواء كان من الإنسان أو من الحيوان، وسواء تعلقت النجاسة في البدن أو في الثوب أو في المكان.
ويقاس ما لم يرد فيه نص بالعفو على ما ورد فيه النص، إذا اتحدا في العلة.
كما أن كل ما يشق التحرز منه فهو عفو من غير فرق، {وما جعل
_________
(1) الإنصاف (1/331-334) ، المستوعب (1/340) ، المبدع (1/249-250) ، مطالب أولي النهى (1/235) .(13/473)
عليكم في الدين من حرج} (1) ، وقال: {يريد الله أن يخفف عنكم} (2) ، {يريد الله بكم اليسرى ولا يريد بكم العسر} (3) .
كما أن الضرورة تبيح تعاطي النجاسات، سواء في ستر العورة أو في أكل الميتة أو في غيرها.
كما أن كل ما تعم به البلوى فإنه مدعاة للتخفيف، وفقاً للقاعدة الشرعية المشقة تجلب التيسير، هذه هي الضوابط الشرعية في العفو عن النجاسة، ويبقى على طالب العلم تحقيق المناط، في تنزيل هذه الضوابط على الأعيان، والله أعلم.
_________
(1) الحج: 78.
(2) النساء: 28.
(3) البقرة: 185.(13/474)
الفصل السابع
في ما يحرم استعماله في إزالة النجاسة
المبحث الأول
إزالة النجاسة بالكتب الشرعية
إزالة النجاسة بالمصحف الشريف كفر بالله وإلحاد به.
قال النووي: لو استنجى بشيء من أوراق المصحف والعياذ بالله عالماً صار كافراً مرتداً.
وأما إزالة النجاسة بالكتب الشرعية، فقد تكلم العلماء عن الاستنجاء به، ونهوا عن ذلك، وهل هو على التحريم أو الكراهة خلاف؟
فقيل: يكره، ويجزئ، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يحرم ويجزئ، وهو مذهب المالكية (2) .
وقيل: يحرم ولا يجزئ، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (3)
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/340) ، نور الإيضاح (ص: 16) .
(2) قال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/151) : أما المحترم من مطعوم ومكتوب وذهب وفضة يحرم عليه -يعني الاستنجاء بها- سواء أراد الاقتصار عليه أم لا؟ ولكن إذا أنقى يجزئ. اهـ وانظر مواهب الجليل (1/286) ، التاج والإكليل (1/286) ، مختصر خليل (ص: 15) ، التمهيد (1/347) .
(3) قال النووي في المجموع (2/137) : من الأشياء المحترمة التي يحرم الاستنجاء بها الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع، فإن استنجى بشيء عالماً أثم. وفي سقوط الفرض الوجهان: الصحيح لا يجزئه. وانظر الوسيط (1/306) ، المنهج القويم (ص: 79، 80) ، شرح زبد ابن رسلان (ص: 55) ، روضة الطالبين (1/68) .(13/475)
والحنابلة (1) .
تعليل الكراهة أو المنع:
قالوا: إن الكتب الشرعية يجب احترامها، لما فيه من علم محترم، وإزالة النجاسة بها إهانة لها، وهذا منهي عنه.
ولأن الكتب الشرعية تعتبر من المال، فلها قيمة شرعاً، وإزالة النجاسة بها إفساد لهذا المال، وإفساد الأموال منهي عنه.
ولأن الكتب الشرعية لا تخلو من أسماء الله سبحانه وتعالى، ومن أحاديث شريفة يجب توقيرها، ولا يجوز إهانتها.
وقياساً على النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام إخواننا من الجن وطعام دوابهم، فإذا كان زاد الأبدان منهياً عنه، فكذلك زاد الأرواح من العلوم الشرعية.
والكراهة التي عند الحنفية لا يبعد أن تكون كراهة تحريم، لا كراهة تنزيه، والله أعلم.
_________
(1) المغني (1/105) ، الإنصاف (1/110،111) ، المبدع (1/93) ، المحرر (1/10) ،(13/476)
المبحث الثاني
في إزالة النجاسة بالأطعمة
نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام الجن وطعام دوابهم، فالنهي عن طعام الإنس وطعام دوابهم من باب أولى، والاستنجاء نوع من إزالة النجاسة عن البدن.
وكما أنه إذا نهي عن الاستنجاء بها نهي عن التبول عليها من باب أولى.
(1662-190) فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال:
سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (1) .
_________
(1) مسلم (450) .(13/477)
ولهذا ذهب الأئمة الأربعة (1)
إلى تحريم الاستنجاء بالطعام.
وإذا خالف واستنجى أجزأه إذا حصل الإنقاء عند الحنفية والمالكية.
وقيل: لا يجزئ في مذهب الشافعية والحنابلة.
ومثل طعام الآدمي طعام البهيمة فلا يستنجي به (2) .
ولأن الاستنجاء بالطعام مناف لشكر النعمة وتعظيمها، وعدم امتهانها، وقد ينتفع بها حيوان أو طير أو غيرهما من دواب الأرض.
وأجاز بعض الفقهاء إزالة النجاسة ببعض الأطعمة إذا اضطر إلى ذلك كما لو لم يكن هناك ماء، أو كان يفسد الماء المحل المتنجس.
_________
(1) أطلق الكراهة في مراقي الفلاح (ص: 20) قال: ويكره الاستنجاء بعظم وطعام لآدمي... الخ. ولعلها كراهة تحريم كالجمهور، فإن الموجود في الدر المختار (1/339) "وكره تحريماً بعظم وطعام وروث.. الخ. وقال في البحر الرائق (1/255) : والظاهر أنها كراهة تحريم.
وقال ابن عبد البر من المالكية في كتابه الكافي (ص: 17) : وما يجوز أكله لا يجوز الاستنجاء به. اهـ وانظر حاشية العدوي على الخرشي (1/151) ، مواهب الجليل (1/286) ، التاج والإكليل (1/286) ، مختصر خليل (ص: 15) .
وفي مذهب الشافعية: قال في المجموع (2/135) : لا يجوز الاستنجاء بعظم ولا خبز ولا غيرهما من المطعوم، فإن خالف واستنجى به عصى، ولا يجزئه هكذا نص عليه الشافعي، وقطع به الجمهور، ثم قال: وإذا لم يجزئه المطعوم كفاه بعده الحجر إن لم ينشر النجاسة. اهـ وانظر إعانة الطالبين (1/108) ، الإقناع للشربيني (1/54) ، شرح زبد بن رسلان (ص:55) .
وفي مذهب الحنابلة انظر: كشاف القناع (1/67،69) ، المغني (1/104) ، الإنصاف (1/110،111) ، المبدع (1/93) ، المحرر (1/10) .
(2) نص على طعام البهيمة الحنفية في نور الإيضاح (ص: 16) ، حاشية ابن عابدين (1/339) .
ومن الحنابلة دليل الطالب (ص: 6) ، ومنار السبيل (1/24) ، المبدع (1/93) ، الإنصاف (1/110) ، كشاف القناع (1/69) .(13/478)
(1663-191) واستدل لذلك بما ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، حدثني سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت،
عن امرأة من بني غفار، قالت: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله. قالت: فوالله لنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح فأناخ، ونزلت عن حقيبة رحله وإذا بها دم مني، فكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم، قال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قالت: قلت: نعم، قال: فأصلحي من نفسك، وخذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك. الحديث (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
وجه الاستدلال: استعمال الملح في إزالة دم الحيض، والملح مطعوم.
قال الخطابي تعليقاً على هذا الحديث: فيه من الفقه أنه استعمل الملح في غسل الثياب وتنقيته من الدم، والملح مطعوم، فعلى هذا يجوز غسل الثياب بالعسل إذا كان ثوباً من إبريسم يفسده الصابون، وبالخل إذا أصابه الحبر ونحوه، ويجوز على هذا التدلك بالنخالة، وغسل الأيدي بدقيق الباقلى والبطيخ ونحو ذلك من الأشياء التي لها قوة الجلاء.
وحدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت الحمام بمصر، فرأيت الشافعي يتدلك بالنخالة " (3) .
_________
(1) المسند (6/380) .
(2) سيأتي تخريجه في مسألة: إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء
(3) معالم السنن للخطابي مطبوع مع تهذيب السنن (1/197) .(13/479)
وأجاز الحنفية (1) وهو قول في مذهب الحنابلة (2) ، إزالة النجاسة بالخل، والخل قد قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: نعم الإدام الخل (3) .
وقال النووي: اتفق أصحابنا على تحريم الاستنجاء بجميع المطعومات كالخبز واللحم والعظم وغيرها, وأما الثمار والفواكه فقسمها الماوردي تقسيماً حسناً، فقال: منها ما يؤكل رطباً لا يابساً, كاليقطين فلا يجوز الاستنجاء به رطباً، ويجوز يابساً إذا كان مزيلاً.
ومنها ما يؤكل رطباً ويابساً وهو أقسام:
أحدها: مأكول الظاهر والباطن، كالتين والتفاح والسفرجل وغيرها, فلا يجوز الاستنجاء بشيء منه رطباً ولا يابساً.
والثاني: ما يؤكل ظاهره دون باطنه، كالخوخ والمشمش وكل ذي نوى فلا يجوز بظاهره, ويجوز بنواه المنفصل.
والثالث: ما له قشر ومأكوله في جوفه كالرمان, فلا يجوز الاستنجاء بلبه, وأما قشره فله أحوال:
أحدها: لا يؤكل رطبا ولا يابساً كالرمان، فيجوز الاستنجاء بالقشر, وكذا لو استنجى برمانة فيها حبها جاز إذا كانت مزيلة.
والثاني: يؤكل قشره رطباً ويابساً كالبطيخ، فلا يجوز رطباً ولا يابساً.
_________
(1) قال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/69) : يطهر البدن بالماء وبمائع مزيل كالخل وماء الورد. اهـ وعندما منعوا إزالة النجاسة باللبن والدهن لم يعللوا ذلك بأنه مطعوم، وإنما عللوا ذلك بأن فيه دسومة فيبقى بنفسه بالثوب فلا يزيل غيره انظر درر الحكام (1/44) .
(2) الإنصاف (1/309) .
(3) رواه مسلم (2051) .(13/480)
والثالث: يؤكل رطباً لا يابساً كاللوز والباقلاء, فيجوز بقشره يابساً لا رطباً.
ثم قال: وقال البغوي: إن استنجى بما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز اليابس كره وأجزأه, فإن انفصل القشر جاز الاستنجاء به بلا كراهة, والله أعلم (1) .
والصحيح أن إزالة النجاسة بالأطعمة إن كان مع وجود الماء، واستوى الماء وغيره في النظافة، فأقل أحواله أن يكون مكروهاً، والقول بالتحريم وجيه جدًَّا؛ لأن في ذلك إفساداً للطعام وامتهاناً له، وقد يأكله حيوان أو دواب الأرض، وليس هذا الصنيع من شكر النعمة، فإن احتاج له في زيادة تنظيف أو قلع لون النجاسة أو نحوها، أو كان الماء غير متوفر، فإنه والله أعلم قد يباح في ذلك قدر الحاجة، قال ابن تيمية: لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة (2) .
_________
(1) المجموع (2/136) .
(2) مجموع الفتاوى (21/475) .(13/481)
[صفحة فارغة](13/482)
المبحث الثالث
في إزالة النجاسة بالعظام والروث
منع الشافعية (1) ، والحنابلة (2) الاستنجاء بالعظام والروث وهو نوع من إزالة النجاسة عن البدن، واختاره ابن حزم من الظاهرية (3) .
وقيل: يستنجي بهما، وهو اختيار أشهب من المالكية (4) .
وقيل: لا يستنجي بهما، وإن خالف وأزال النجاسة أجزأه، وهو مذهب الحنفية (5) ، والمالكية (6) ، وابن تيمية من الحنابلة (7) .
_________
(1) المهذب (1/28) ، حلية العلماء (1/65) ، الإقناع للشربيني (1/54) ، إعانة الطالبين (1/108) ، التنبيه (ص: 18) .
(2) الفروع (1/92) ، كشاف القناع (1/69) ، المبدع (1/92) ، المحرر (1/10) .
(3) المحلى (1/110) .
(4) قال أشهب كما في المنتقى للباجي (1/68) : ما سمعت في العظم والروث نهياً عاماً، وأما أنا في علمي فما أرى به بأسا. اهـ فواضح أن النهي عن الاستنجاء بالعظم والروثة لم يبلغه.
(5) ذكرنا العزو إلى كتبهم في المسألة المتقدمة في اشتراط طهارة ما يستنجى به، فانظره إن شئت.
(6) قال في الخرشي (1/151) فإن أنقت -يعني: الاستجمار بروث وعظم أجزأت. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/289) ، الشرح الكبير (1/114) ، المنتقى للباجي (1/68) ، مواهب الجليل (1/290) ، حاشية الدسوقي (1/114) ، حاشية الصاوي (1/102) ، القوانين الفقهية (ص:42) ، منح الجليل (1/106) ..
(7) الفروع (1/123) ، المبدع (1/92) ، دليل الطالب (ص: 6) ، (1/10) ، منار السبيل (1/23) ، الكافي (1/53) ، كشاف القناع (1/69) .(13/483)
(1664-192) والصحيح أنه لا يجوز الاستنجاء بالعظم والروث لما رواه البخاري، من طريق أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه
أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (1) .
(1665-193) ولما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (2) .
فإن كان العظم والروث طاهرين، فعلة النهي أنهما طعام إخواننا من الجن، وطعام دوابهم.
_________
(1) صحيح البخاري (156) .
(2) صحيح البخاري (3860) .(13/484)
وإن كان العظم والروث نجسين، فالعلة ماذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فألقى الروثة وقال: هذا ركس (1) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: هذا ركس: أي نجس. وقد بسطنا الكلام على أدلة الأقوال في المسألة في كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء) فأغنى عن إعادته كاملاً هنا.
_________
(1) صحيح البخاري (156) .(13/485)
[صفحة فارغة](13/486)
الباب السابع:
في كيفية إزالة النجاسة
الفصل الأول
في إزالة النجاسة بالماء
المبحث الأول
في مشروعية إزالة النجاسة بالماء
يجوز إزالة النجاسة بالماء، وهو مذهب الأئمة الأربعة في ذهابهم إلى مشروعية الاستنجاء بالماء (1) .
ولا أعلم أحداً منع من إزالة النجاسة بالماء إلا ما رود عن بعض السلف من النهي عن الاستنجاء بالماء، والاكتفاء عنه بالاستجمار
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: أحكام القرآن للجصاص (3/229) ، بدائع الصنائع (1/21) ، تبيين الحقائق (1/77) ، البحر الرائق (1/254) ، الفتاوى الهندية (1/48) .
وانظر في مذهب المالكية: المدونة (1/117) ، المنتقى للباجي (1/44) ، مواهب الجليل (1/283) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/117) ، نهاية المحتاج (1/149) .
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/101) ، الفتاوى الكبرى (1/261) ، الإنصاف (1/105) .(13/487)
بالحجارة. وهو مرجوح (1) .
_________
(1) جاء في المنتقى للباجي (1/46) : كان سعيد بن المسيب وغيره من السلف يكرهون ذلك، ويقول ابن المسيب: إنما ذلك وضوء النساء. اهـ
وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (1/142) : حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة، قال: سئل عن الاستنجاء بالماء؟ فقال: إذاً لا تزال في يدي نتن.
وسنده صحيح، وقد صحح إسناده الحافظ في الفتح.
وروى ابن أبي شيبة (1/143) حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن نافع، قال: كان ابن عمر لا يستنجي بالماء.
وهذا إسناد حسن إن شاء الله تعالى.
وروى ابن أبي شيبة (1/142) ، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان الأسود وعبد الرحمن بن يزيد يدخلان الخلاء، فيستنجيان بأحجار، ولا يزيدان عليها، ولا يسمان ماء. وإسناده صحيح.
وروى ابن أبي شيبة أيضاً (1/142) : حدثنا وكيع، عن مسعر، عن عبيد الله ابن القبطية، عن ابن الزبير أنه رأى رجلاً يغسل عنه أثر الغائط، فقال: ما كنا نفعله. وهذا إسناد صحيح.
وقال ابن حجر في الفتح (ح 150) تعليقاً على ترجمة البخاري (باب الاستنجاء بالماء) : روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سئل عن الاستنجاء بالماء، فقال: إذا لا يزال في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء، وعن ابن الزبير: ما كنا نفعله. ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - استنجى بالماء. وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء؛ لأنه مطعوم. اهـ
كذا نقل ابن حجر عن ابن حبيب، مع أن الموجود عن ابن حبيب كما في حاشية الخرشي أنه يوجب الاستنجاء بالماء، ولا يجوز الاقتصار على الاستنجاء بالحجارة مع وجود الماء. والنقل هذا عكس ما نقله ابن حجر، وهو مقدم على نقل الحافظ؛ لأن هذا من كتب المالكية، وهم أعلم بمذهب أصحابهم، والله أعلم.(13/488)
دليل من قال: يجوز إزالة النجاسة بالماء:
الدليل الأول:
(1666-194) ما رواه البخاري من طريق هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت:
جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (1) .
الدليل الثاني:
(1667-195) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت،
عن أنس بن مالك، أن أعرابياً بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء، فصب عليه، ورواه مسلم (2) .
الدليل الثالث:
(1668-196) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة،
سمع أنس بن مالك يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة يستنجي بالماء (3) .
_________
(1) البخاري (227) ، ومسلم (291) .
(2) صحيح البخاري (6025) ومسلم (284) .
(3) صحيح البخاري (152) ، ومسلم (271) .
قال الأصيلي في الفتح (ح 150) متعقباً على البخاري استدلاله بهذا الحديث: بأن قوله: فيستنجي به " ليس من قول أنس، وإنما من قول أبي الوليد، أحد الرواة عن شعبة، فقد رواه البخاري عن أبي الوليد، عن شعبة، عن أبي معاذ، واسمه عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته، أجيء أنا وغلام، معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به.
والدليل على أنها من قول أبي الوليد: بأن الحديث قد رواه البخاري عن سليمان ابن حرب، عن شعبة به، كما في رقم (151) بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام، معنا إداوة من ماء. فلم يذكر فيستنجي به، فتعقبه الحافظ في الفتح، فقال: لكن رواه عقبة من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة به، فقال: يستنجي بالماء.
والإسماعيلي، من طريق ابن مرزوق، عن شعبة به، بلفظ: فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة من ماء يستنجي منها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وللبخاري من طريق روح بن القاسم، عن عطاء بن أبي ميمونة: " إذا تبرز لحاجته أتيته بماء، فيغتسل به.
قلت: فهذه الطريق غير طريق شعبة. قال الحافظ: ولمسلم من طريق خالد الحذاء، عن عطاء، عن أنس، فخرج علينا، وقد استنجى بالماء. وهذه متابعة ثانية لشعبة.
قال الحافظ: وقد بان بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس رضي الله عنه راوي الحديث، وكذا فيه الرد على من زعم أن قوله: يستنجي بالماء مدرج من قول عطاء، الرواي عن أنس، فيكون مرسلاً، فلا حجة فيه كما حكاه ابن التين عن أبي عبد الملك البوني، فإن رواية خالد الحذاء التي في مسلم، تدل على أنه قول أنس، حيث قال: (وقد خرج علينا، وقد استنجى بالماء) .(13/489)
دليل من قال: لا يستنجي بالماء:
استدل من منع الاستنجاء بالماء بأدلة منها:
أولاً: قالوا: إن الماء مطعوم، فيجب تكريمه، والاستنجاء به إهانة له.
وثانياً: أن في الاستنجاء بالماء تلفاً للماء.(13/490)
وثالثاً: أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء.
وللجواب على هذا أن يقال:
أما دعوى أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء، فممكن علاجها بتنظيف اليد بعده بالصابون ونحوه، وغاية ما فيه تفضيل الحجارة على الماء، مع أن الماء أبلغ في التطهير.
وأما دعوى أنه تلف للمال، فقد كان إتلافه في مقابل منفعة، وليس بدون مقابل، وبذل المال في مقابل أمر واجب، وهو طهارة المحل، لا يعتبر إتلافاً.
وأما دعوى أن الماء مطعوم، ويجب صونه، فكما ثبت في تطهير دم الحيض بالماء، وهو في الصحيحين، وبول الأعرابي بالماء، وهو في الصحيحين كذلك، فدل على أن ذلك لا يعتبر امتهاناً للماء، وقد أنزل الله الماء مطهراً {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (1) ، فامتن الله علينا بكونه مطهراً لنا من النجاسات والأحداث، والماء النازل من السماء ماء عذب، فهذا تعليل في مقابل النص، فيطرح.
_________
(1) الفرقان: 48.(13/491)
[صفحة فارغة](13/492)
المبحث الثاني
هل يتعين الماء لإزالة النجاسة.
اختلف العلماء في هذه المسألة.
فقيل: لا تزال النجاسة إلا بالماء الطهور.
وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، ومحمد وزفر من الحنفية (4) .
وقيل: النجاسة تزال بأي مائع مزيل، ولا يتعين الماء.
وهو المشهور من مذهب الحنفية (5) ، واختيار ابن تيمية (6) .
_________
(1) المقدمات لابن رشد (1/86) ، القوانين الفقهية ـ ابن جزي (ص: 25) ، منح الجليل (1/30) ، الشرح الصغير (1/31) .
(2) مغني المحتاج (1/17، 18) ، المجموع (1/142) ، روضة الطالبين (1/7) ، نهاية المحتاج (1/61) .
(3) الإنصاف (1/309) ، كشاف القناع (1/181) ، الفروع (1/259) .
(4) انظر بدائع الصنائع (1/83) ، حاشية ابن عابدين (1/309) ، البناية (1/711) .
(5) بدائع الصنائع (1/83) ، البحر الرائق (1/233) ، مراقي الفلاح (ص 64، 65) ، رؤوس المسائل للزمخشري (ص: 93) ، البناية (1/709) إلا أنهم نصوا على وجوب الماء في طهارة المذي، انظر شرح معاني الآثار (1/48) ، شرح فتح القدير (1/72) ، المبسوط (1/6) .
(6) الإنصاف (1/309) ، الفروع (1/259) ، مجموع الفتاوى (20/522) ، (21/610، 611) إلا أن ابن تيمية يرى أن النجاسة تزال بأي مزيل قالع للنجاسة، ولو لم يكن مائعاً بخلاف الحنفية.
قال العيني في البناية (1/709) : وشُرِط ثلاثة أشياء في إزالة النجاسة:
الأول: كونه مائعاً يسيل كالخل ونحوه.
الثاني: أن يكون المائع طاهراً؛ لأن النجس لا يزيل النجاسة.
الثالث: أن يكون المائع الطاهر مزيلاً كالخل وماء الورد ونحوهما، واحترز به عن الدهن والدبس واللبن ونحوها؛ لأن بها تنبسط النجاسة، ولا تزول.
وفي الذخيرة روى الحسن عن أبي يوسف: لو غسل الدم من الثوب بدهن أو سمن أو زيت حتى أذهب أثره جاز، الخ كلامه رحمه الله.
ومع ذلك فهم نصوا على طهارة بعض النجاسات بالدلك، وبعضها بالمسح بشروط معينة، كطهارة النعل والسكين، وسوف يأتي بسط هذه الأشياء في مسائل مستقلة إن شاء الله تعالى.(13/493)
وقيل: إن نص الشارع على تطهيره بالماء كنجاسة دم الحيض والمذي لم يجز العدول إلى غيره.
وإن نص الشارع على غير الماء كطهارة النعلين، فيجوز الاقتصار عليه.
ويجوز العدول إلى الماء؛ لأن الماء أقوى من غيره بالتطهير.
وإن كان الشارع لم ينص على مادة التطهير، وجب الاقتصار على الماء فقط. وهذا القول اختيار الشوكاني رحمه الله (1) .
وسبب الاختلاف بين الفقهاء: اختلافهم في فهم الأدلة الواردة في هذا الباب، فقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تطهير دم الحيض وبول الأعرابي والمذي والكلب يلغ في الإناء وآنية أهل الكتاب إذا لم يوجد غيرها ونحو ذلك إلى تطهيرها بالماء في أحاديث صحيحة، وكل هذه الأحاديث قد ذكرت في مسائل سابقة متفرقة، فأخذ منها الجمهور أن النجاسة لا تزال إلا بالماء.
وقاس عليه الحنفية كل مائع مزيل للنجاسة.
_________
(1) انظر نيل الأوطار (1/70) ، والسيل الجرار (1/49) .(13/494)
وورد الاستجمار بالحجارة، وهي إزالة للنجاسة بغير الماء، كما ثبت طهارة النعل بدلكها بالتراب، وذيل المرأة يمر بالمكان النجس يطهره ما بعده من التراب الطهور، والهرة تأكل الفأرة يطهره ريقها، والخمر يتخلل فيطهر بنفسه بدون أن يضاف إليه ماء طهور، والمسلم يشرب الخمر فيطهر الريق فمه على القول بنجاسة الخمرة، فأخذ منها بعض العلماء جواز إزالة النجاسة بكل مزيل، سواء كان مائعاً أو جامداً.
وأجاب الجمهور عن الاستجمار بالحجارة بأنه خاص في موضعه لعموم البلوى فيه، فإذا تجاوز الخارج موضع العادة تعين الماء عند الجمهور (1) ، وتعين المائع المزيل عند الحنفية (2) ، ولا يوجد دليل على أن إزالة النجاسة بالأحجار خاص بالاستجمار، والقياس يقتضي جواز إزالة النجاسة بالحجارة في أي موضع على البدن.
كما حملوا تطهير النعل بالدلك على نجاسة يابسة لا تتعدى، فإذا دلكها بالتراب سقطت وأما المحل فلم يتنجس أصلاً، وبعضهم يرى أن النعل نجس نجاسة معفواً عنها تخفيفاً من الشارع، وسيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى، ومثله ذيل المرأة.
_________
(1) انظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/285) ، الخرشي (1/148) ، حاشية الدسوقي (1/112) ، منح الجليل (1/105) .
وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/22) ، روضة الطالبين (1/68) ، المجموع (2/142) .
وانظر في مذهب الحنابلة: المبدع (1/89) ، الإنصاف (1/105) ، كشاف القناع (1/66) .
(2) البحر الرائق (1/254) ، مراقي الفلاح (ص: 18) .(13/495)
وقد بحثت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية وترجح أن النجاسة متى زالت بأي مزيل فقد زال حكمها، فأغنى عن إعادته هنا (1) .
_________
(1) في مبحث (هل يتعين الماء لإزالة دم الحيض) .(13/496)
المبحث الثالث
هل يجب تكرار الغسل في إزالة النجاسة
اختلف العلماء في وجوب تكرار غسل النجاسة بالماء،
فقيل: إن كانت النجاسة مرئية كالدم يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعينها، وإن كانت غير مرئية وجب غسلها ثلاثاً، وذلك مثل نجاسة ولوغ الكلب ونحوها، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: لا يجب العدد في غسل النجاسات مطلقاً ما عدا الكلب، وهو مذهب مالك (2) ، والشافعية، إلا أن الشافعية ألحقوا الخنزير بالكلب (3) .
وسوف يأتي الخلاف في كيفية التطهير من نجاسة الكلب والخنزير إن شاء الله تعالى.
وقيل: يجب غسل جميع النجاسات سبعاً، إلا نجاسة بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، والنجاسة التي على الأرض، وهو مذهب الحنابلة (4) .
وسبب اختلاف الفقهاء في وجوب العدد: أن العدد ورد في غسل بعض
_________
(1) تبيين الحقائق (1/75) ، بدائع الصنائع (1/88) ، مراقي الفلاح (ص: 64) . الاختيار لتعليل المختار (1/35،36) . شرح فتح القدير (1/209) .
(2) المدونة (01/69) ، بداية المجتهد (2/223) ، مختصر خليل (ص:9) ، الخرشي (1/114) .
(3) روضة الطالبين (1/31،32) ، المجموع (2/611) ، الأم (1/6) ، مغني المحتاج (1/83) ، حاشية القليوبي وعميرة (1/73) .
(4) كشاف القناع (1/182) ، شرح منتهى الإرادات (1/102) .(13/497)
النجاسات كغسل نجاسة الكلب، فإن النص ورد في غسلها سبعاً، كما ورد العدد في غسل اليدين من القيام من نوم الليل، وفهم منه بعض العلماء أن الغسل إنما هو لمظنة النجاسة، فقالوا: إذا كان العدد ورد في النجاسة المظنونة، فكيف بالنجاسة المتيقنة، كما ورد العدد في الاستجمار بالحجارة، فأخذ منه الحنابلة الأمر بغسل النجاسات سبعاً، وأخذ الحنفية الأمر بغسلها ثلاثاً في النجاسة غير المرئية، وورد في غسل دم الحيض بدون عدد، فأخذ منه العلماء أن النجاسة تزال بدون عدد، ويكفي فيه غسلة تذهب بعين النجاسة، وهذا هو الراجح، وأنه يكفي في غسل النجاسات غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، فإن لم تذهب كرر ذلك حتى تذهب. والله أعلم. وهذه أدلة كل قول فيما ذهب إليه.
دليل من قال لا يشترط التكرار في غسل النجاسات:
الدليل الأول:
(1669-197) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت:
أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في غسل نجاسة دم الحيض، والمقام مقام
_________
(1) البخاري (227) ، ومسلم (291) .(13/498)
بيان، وجواب عن سؤال كيف يطهر الثوب، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حته، وقرصه، وغسله، مع أن الحت ليس بواجب مع الغسل، فدل على أن التكرار ليس بواجب.
الدليل الثاني:
(1670-198) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي.
قال وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بغسل الدم، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " واغسلي عنك الدم، ثم صلي ". ولو كان العدد معتبراً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل الثالث:
(1671-199) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار،
قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
_________
(1) رواه البخاري (228) ، ورواه مسلم (333) دون قوله وقال أبي... الخ وسيأتي الكلام عليه في الاستحاضة إن شاء الله تعالى.(13/499)
الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند وسدر.
[إسناده صحيح] (1) .
وجه الاستدلال:
الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله، وقد ذكر السدر مع كونه ليس وجباً، فكيف يترك ذكر العدد مع وجوبه.
الدليل الرابع:
(1672-200) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (2) .
[إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (3) .
_________
(1) المسند (6/355) . وسبق تخريجه انظر (ح: 309) من كتاب أحكام الطهارة: آداب الخلاء من هذه السلسلة.
(2) المسند (2/371) .
(3) سبق تخريجه، انظر حديث رقم (159) من كتاب أحكام الطهارة.(13/500)
وجه الاستدلال:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في الاستجمار، والإيتار يصدق على الواحد.
وهذا الحديث ليس فيه دليل:
أولاً: لأنه ضعيف، والضعيف لا حجة فيه.
ثانياً: سبق لنا في كتاب آداب الخلاء وجوب الاستجمار بثلاثة أحجار، وهو خاص في الاستجمار؛ لأن إزالة النجاسة بالأحجار يختلف عن إزالتها بالماء، فالحجر لا يقلع النجاسة بالمرة، بل لا بد أن يبقى معه أثر لا يزيله إلا الماء، إلا أنه معفو عنه في هذه الحال.
الدليل الخامس:
من النظر، قالوا: النجاسة عين محسوسة، ووجوب غسلها معلل ببقائها، فإذا زالت من الغسلة الأولى ارتفع حكمها. والله أعلم.
دليل الحنابلة على وجوب غسل النجاسات سبعاً:
الدليل الأول:
(1673-201) قال ابن قدامة رحمه الله: روي عن ابن عمر أنه قال: أمرنا بغسل الأنجاس سبعاٌ (1) .
والجواب على هذا من وجهين.
الأول: أن هذا الأثر لا يعرف مسنداً في كتب الحديث، إنما ذكره الحنابلة في كتبهم الفقهية، فلا حجة فيه.
الثاني: على فرض صحته قد روي ما يدل على أنه منسوخ.
_________
(1) المغني (1/75) .(13/501)
(1674-202) فقد روى أحمد، قال:، ثنا حسين بن محمد، ثنا أيوب بن جابر، عن عبد الله ـ يعنى ابن عصمة ـ، عن ابن عمر قال:
كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (2/109) .
(2) فيه أيوب بن جابر.
ضعفه أبو حاتم الرازي، وابن المديني، ويحيى بن معين، وقال أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف. انظر الجرح والتعديل (2/242) .
وضعفه النسائي. انظر الضعفاء والمتروكين (ص: 5) .
وضعفه الذهبي انظر الكاشف (512) .
وقال معاوية بن صالح: ليس بشيء. انظر تهذيب التهذيب (1/349) .
وذكره ابن حبان في المجروحين (1/167) ، وقال: يخطئ. حتى خرج عن حد الاحتجاج به لكثرة وهمه.
وفي الإسناد: عبد الله بن عصم. وقيل: عصمة. مختلف فيه.
قال أبو زرعة: ليس به بأس، وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. كما في الجرح والتعديل (5/126) . وقال: مثله الذهبي في الكاشف.
واضطرب قول ابن حبان فيه، فذكره في المجروحين (2/5) ، وقال: منكر الحديث جداً على قلة روايته، يروي عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة، ثم رجع ابن حبان وذكره في الثقات (5/57) ، وقال: يخطئ كثيراً.
وفي التقريب: صدوق يخطئ، أفرط ابن حبان فيه وتناقض.
[تخريج الحديث] .
أخرجه أبو داود (247) ، والبيهقي في السنن (1/179، 244) ، والمعجم الصغير للطبراني (1/123) ح 182 من طرق عن أيوب بن جابر به.
وانظر إتحاف المهرة (9937) ، أطراف المسند (3/436) ، تحفة الأشراف (7282) .(13/502)
الدليل الثاني:
(1675-203) قالوا: ثبت الأمر بغسل نجاسة الكلب سبعاً، كما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال:
إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. ورواه مسلم (1) .
وغيرها من النجاسات تقاس على نجاسة الكلب.
وأجيب:
بأن نجاسة الكلب مغلظة، لا يمكن قياس النجاسة العادية على النجاسة المغلظة. أرأيت نجاسة دم الحيض مع أنه مجمع على نجاسته، كما قدمنا إلا أنه لم يرد فيه تكرار الغسل، ولم يرد ذكر التراب في تطهير شيء من النجاسات إلا نجاسة الكلب، والرواية التي فيها ذكر التراب رواها مسلم في صحيحه،
(1676-204) من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (2) .
دليل الحنفية على التفريق بين النجاسة المرئية وبين النجاسة غير المرئية:
قالوا: بأن النجاسة إذا كانت مرئية كالدم ونحوه فطهارتها زوال عينها،
_________
(1) البخاري (172) ، ومسلم (279) .
(2) صحيح مسلم (279) .(13/503)
ولا عبرة فيه بالعدد؛ لأن النجاسة في العين، فإذا زالت العين زالت النجاسة، وإن بقيت بقيت.
وأما إن كانت النجاسة غير مرئية فإنه يجب غسلها ثلاث مرات.
والدليل على ذلك:
(1677-205) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال ثنا أبو نعيم: قال ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة،
في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر قال: يغسل ثلاث مرار (1) .
[المحفوظ من حديث أبي هريرة الأمر بغسله سبعاً مرفوعاً وموقوفاً، ورواية عبد الملك عن عطاء متكلم فيها] (2) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/23) .
(2) شيخ الطحاوي إسماعيل بن إسحاق بن سهل الكوفي، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/158) : كتبت عنه، وهو صدوق ". وانظر مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار (1/48) .
وعبد السلام بن حرب. مختلف فيه.
سئل عنه ابن المبارك، فقال: قد عرفته. وكان إذا قال: قد عرفته فقد أهلكه. انظر ضعفاء العقيلي (3/69) ، وقيل لابن المبارك في عبد السلام، فقال: ما تحملني رجلي إليه. تهذيب الكمال (18/66) .
وقال ابن سعد: كان فيه ضعف في الحديث، وكان عسراً. الطبقات (6/386) .
وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، في حديثه لين.
وقال الترمذي: ثقة حافظ. تذكرة الحفاظ (1/271) .
وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. انظر الجرح والتعديل (6/47) .
وقال يحيى بن معين: عبد السلام ثقة، والكوفيون يوثقونه.
وقال أيضاً: صدوق. انظر المرجع السابق.
وقال مرة: ليس به بأس، يكتب حديثه. الكامل في الضعفاء (5/331) .
وقال النسائي في التمييز: ليس به بأس.
وقال الدارقطني: ثقة حجة. انظر تهذيب التهذيب (6/282) .
واختلف في رفعه ووقفه. كما أنه ثبت عن أبي هريرة مرفوعاً، وموقوفاً الأمر بغسله سبعاً، وهو المحفوظ.
وعبد الملك بن أبي سليمان.
قيل لشعبة مالك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان وكان حسن الحديث؟ قال: من حسنها فررت. انظر الجرح والتعديل (5/366) ، والضعفاء للعقيلي (3/31) .
وعن أبي بكر بن خلاد، قال: سمعت يحيى يقول عن عبد الملك بن سليمان: فيه شيء مقطع يوصله، أو موصل يقطعه. الضعفاء للعقيلي (3/31) .
وقال يحيى ابن معين أيضاً: ضعيف. كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (5/366) .
وسئل يحيى مرة عبد الملك بن أبي سليمان أحب إليك أو ابن جريج؟ فقال: كلاهما ثقتان. كما في رواية عثمان بن سعيد عنه. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: لا بأس به. انظر المرجع السابق.
وقال الخطيب: قد أساء شعبة في اختياره، حيث حدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي، وترك التحديث عن عبد الملك بن أبي سليمان؛ لأن محمد بن عبيد الله لم تختلف الأئمة من أهل الأثر في ذهاب حديثه وسقوط روايته، وأما عبد الملك فثناؤهم عليه مستفيض وحسن ذكرهم له مشهور. تاريخ بغداد (10/393) .
وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً ثبتاً. انظر الطبقات (6/350) .
وقال ابن عمار الموصلي: ثقة ثبت في الحديث.
وقال الترمذي: ثقة مأمون، لا نعلم أحداً تكلم فيه غير شعبة.
وقال الثوري: حفاظ الحديث أربعة، فذكره منهم. وسماه هو وابن المبارك: الميزان. انظر تهذيب التهذيب (6/352) .
وفي التقريب: صدوق له أوهام. والحق أنه ثقة، فقد وثقه أحمد، ويحيى بن معين، والنسائي، وابن سعد، والترمذي، وابن عمار الموصلي، والثوري وابن المبارك والدارقطني. وأخذ عليه وهمه في حديث الشفعة، ثم ماذا؟ ومن ذا الذي لا يهم؟ ولذلك لم يمنع هذا الوهم من أن يوثقه الأئمة. قال يحيى بن معين عندما سئل عن حديث الشفعة، قال: هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك، وقد أنكره الناس عليه، ولكن عبد الملك ثقة صدوق لم يرد عليَّ مثله.
وقال أحمد: هذا حديث منكر، وعبد الملك ثقة. انظر تهذيب التهذيب (6/352) .
والحديث مداره على عبد الملك بن أبي سليمان. وقد اختلف عليه فيه، فمنهم من يرويه عنه موقوفاً، ومنهم من يرويه من فعل أبي هريرة، ومنهم من يرويه مرفوعاً، مع كون الحديث فيه مخالفة لجميع من روى الحديث عن أبي هريرة، ورواياتهم في الصحيحين وغيرها مرفوعة وفيه الأمر بغسلها سبعاً. كما أن عبد الملك وإن كان الراجح فيه أنه ثقة إلا أن روايته عن عطاء فيها كلام، فقد انتقد العلماء روايته عن عطاء، ولو صح عن أبي هريرة موقوفاً عليه لم يكن فيه حجة، لأن الموقوف لا حجة فيه مع معارضتة للمرفوع. وقد سبق الكلام على هذا الحديث أيضاً في موضع آخر، انظر كيفية التطهير من نجاسة الكلب، والله أعلم.
وإليك تخريج الحديث.
رواه الطحاوي كما في اسناد الباب من طريق عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة من قوله.
ورواه إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان واختلف عليه فيه.
فرواه الدارقطني (1/66) من طريق سعدان بن نصر، عن إسحاق الأزرق، عن
عبد الملك به موقوفاً
ورواه ابن عدي في الكامل (2/366) ، ومن طريقه الجوزقاني في الأباطيل (1/365) ، وابن الجوزي في الواهيات (1/332) من طريق الكرابيسي، عن إسحاق الأزرق، عن
عبد الملك بن أبي سليمان به مرفوعاً.
قلت: أخطأ في الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي، فقد رواه عمر بن شبة، كما عند ابن عدي في الكامل (2/366) وسعدان بن نصر كلاهما روياه عن إسحاق الأزرق موقوفاً، ورواه عبد السلام بن حرب كما سبق، وابن فضيل، كلاهما روياه عن عبد الملك بن أبي سليمان به موقوفاً، فهؤلاء أربعة رووه موقوفاً، فلا شك أن الرواية المرفوعة كانت خطأ. والله أعلم.
قال ابن عدي: وهذا لا يرويه غير الكرابيسي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ما ذكر في متنه من الإهراق والغسل ثلاث مرات، والحسين الكرابيسي له كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس من المسائل، وكان حافظاً لها ولم أجد منكراً غير ما ذكرت من الحديث، والذي حمل أحمد بن حنبل عليه من أجل اللفظ في القرآن. فأما في الحديث فلم أر به بأساً.
وقال الخطيب: كان فهماً عالماً وله تصانيف كثيرة في الفقه وفي الأصول تدل على حسن فهمه وغزارة علمه، وقال أيضاً: تكلم فيه أحمد بسبب مسألة اللفظ في القرآن، وكان هو أيضاً يتكلم في أحمد، فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب. تاريخ بغداد (8/64) .
وأما الرواية التي جاءت من فعل أبي هريرة وليست من قوله، فقد رواه الدارقطني (1/66) من طريق ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان به. بلفظ: كان إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه وغسله ثلاث مرات.
وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: يغسل سبع مرات موقوفاً عليه، وهذا أصح. فقد روى ابن المنذر في الأوسط (1/305) ، والدارقطني (1/64) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/248) من طريق حماد بن زيد،
وأخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور (204) من طريق إسماعيل بن إبراهيم، كلاهما عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: إذا ولغ الكلب فاغسلوه سبع مرات، أولاهن بالتراب.
وأخرجه أبو داود (72) ، ومن طريقه البيهقي كما في المعرفة (2/60) عن أيوب عن ابن سيرين به موقوفاً.
قال الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (172) : " وثبت أنه أفتى ـ يعني أبا هريرة ـ بالغسل سبعاً. ورواية من روى عنه موافقة فتياه أرجح ممن روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر، أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين عنه. وهذا من أصح الأسانيد. وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه. وهو دون الأولى في القوة بكثير... الخ.
وقال البيهقي في المعرفة (2/59) : " لم يروه غير عبد الملك، وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات ". ثم قال أيضاً (2/61) : " ولمخالفته ـ يعني عبد الملك ـ أهل الحفظ والثقة في بعض رواياته تركه شعبة بن الحجاج، ولم يحتج به محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح. وحديثه هذا مختلف عليه، فروي عنه من قول أبي هريرة، وروي عنه من فعله. فكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الثقات الأثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطاً برواية واحد قد عرف بمخالفته الحفاظ في بعض الأحاديث؟ " اهـ.
وقال الدارقطني في العلل (8/101) " ورواه جماعة من التابعين عن أبي هريرة، منهم عبيد ابن حنين، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وعبد الرحمن الأعرج، وعقبة بن أبي الحسناء اليمامي، وأبو صالح السمان، عن أبي هريرة، فاتفقوا على أن يغسل من ولوغ الكلب سبع مرات، وخالفهم عطاء بن أبي رباح، فرواه عن أبي هريرة أنه يغسل ثلاثاً. ولم يرفعه. قاله عبد الملك بن أبي سليمان." وانظر إتحاف المهرة (19514) .(13/504)
قال الطحاوي: " فلما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاثة يطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به، فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته، فلم يقبل قوله ولا روايته " (1) .
قلت: الصحابي لا يتعمد مخالفة ما روى، ولكن قد يخالف ما يروي وليس بمعصوم، فقد ينسى ما روى، وقد يظن من عام أنه خاص، أو من مطلق أنه مقيد، أو العكس.
وقال البيهقي منتقداً الطحاوي فيما قال: " استدل به ـ يعني الطحاوي على نسخ السبع على حسن الظن بأبي هريرة بأنه لا يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عنه، وهلا أخذ بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع، وبما روينا من
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/23) .(13/508)
فتيا أبي هريرة بالسبع، وبما روينا عن عبد الله بن المغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
الدليل الثاني للحنفية:
(1678-206) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده (2) .
وجه الاستدلال:
قال الطحاوي: " كانوا يتغوطون أي: يقضون حاجتهم ويبولون ولا يستنجون بالماء، فأمرهم بذلك إذا قاموا من نومهم؛ لأنهم لا يدرون أين باتت أيديهم من أبدانهم، وقد يجوز أن يكون كانت في موضع قد مسحوه من البول أو الغائط فيعرقون، فتنجس بذلك أيديهم، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسلها ثلاثاً، وكان ذلك طهارتها من الغائط أو البول إن كان أصابها، فلما كان ذلك يطهر من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات كان أحرى أن يطهر بما دون ذلك من النجاسات " (3) .
قلت: لا يمكن أن يجعل تطهير الكلب النجس بمنزلة ما ورد في غسل اليدين الطاهرتين، والعلة في غسل اليدين ثلاثاً ليست النجاسة كما توهم الطحاوي؛ لأن العلة لو كانت النجاسة لكان حكم اليدين حكم نجاسة دم
_________
(1) معرفة السنن والآثار (2/61) .
(2) رواه مسلم (278) . ورواه البخاري، ولم يقل: ثلاثاً.
(3) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/22) .(13/509)
الحيض، وأنتم لا تشترطون عدداً في نجاسة دم الحيض، بل يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، بل لو كانت على يده نجاسة مرئية كان عليه أن يغسلها غسلة واحدة، وإذا كانت على يده نجاسة متوهمة كان عليه أن يغسلها ثلاثاً، فهذا من غريب الفقه.
قال البيهقي في المعرفة: " زعم الطحاوي أنه تتبع الآثار، ثم روى الأحاديث الصحيحة في ولوغ الكلب، وترك القول بالعدد في تطهير الإناء منه، واستعمال التراب فيه. وجعل نظير ذلك الأحاديث التي وردت في غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وهو يوجب غسل الإناء من الولوغ، ولا يوجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، فكيف يشتبهان؟ " (1) .
الراجح من أقوال أهل العلم:
أن النجاسة لا يشترط في إزالتها عدد معين، وإنما يغسلها حتى تذهب عينها، فإذا ذهبت فقد زال حكمها، إلا في طهارة الكلب فيجب غسلها سبعاً أولاهن بالتراب، وفي الاستجمار بالحجارة لا بد من ثلاثة أحجار مع الإنقاء والله أعلم.
_________
(1) المعرفة (2/60) .(13/510)
المبحث الرابع
في بقاء لون أو رائحة النجاسة بعد التطهير
إذا غسل المحل المتنجس، فإن بقي طعم النجاسة فهو ما زال نجساً بلا خلاف،
حكاه النووي في المجموع (1) ، وعلل ذلك: بأن بقاء الطعم يدل على بقاء جزء من النجاسة.
وحكى صاحب الإنصاف خلافاً للحنابلة في الطعم (2) .
وإن بقي اللون أو الرائحة أو هما معاً فقد اختلف العلماء،
فقيل: لا يضر بقاء أحدهما أو بقاؤهما معاً إذا شق إزالتهما، وهو مذهب الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، والحنابلة (5) .
وقيل: إن بقي اللون والرائحة معاً فإن المحل لم يطهر، وأما إن بقي أحدهما وشقت إزالته فلا يضر، وهذا هو القول المعتمد عند الشافعية (6) .
_________
(1) المجموع (2/613) .
(2) قال في الإنصاف (1/317) : ويضر بقاء الطعم على الصحيح من المذهب، وقيل: لا يضر. اهـ
(3) شرح فتح القدير (1/209) ، البحر الرائق (1/249) ،
(4) قال في حاشية الدسوقي (1/80) : ولا يشترط زوال لون وريح عسرا، بل يغتفر بقاء ذلك في الثوب، لا في الغسالة. اهـ وانظر مواهب الجليل (1/163) ، الخرشي (1/115) منح الجليل (1/73) .
(5) كشاف القناع (1/183) ، الفتاوى الكبرى (1/429) ، مطالب أولي النهى (1/228) ، شرح منتهى الإرادات (1/103) ، المبدع (1/239) ، الإنصاف (1/317) .
(6) المجموع (2/613، 614) ، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 433) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/86) ، تحفة المحتاج (1/318) .(13/511)
وقيل: يعفى عن اللون دون الريح، اختاره بعض الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
دليل من قال: لا يضر بقاء اللون والرائحة معاً:
الدليل الأول:
(1679-207) ما رواه أحمد، قال: حدثنا موسى بن داود الضبي، حدثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عيسى بن طلحة،
عن أبي هريرة، أن خولة بنت يسار أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فقالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه قال: فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) مغني المحتاج (1/85) .
(2) الإنصاف (1/317) .
(3) المسند (2/364) .
(4) في إسناده ابن لهيعة، وقد رأى بعضهم تحسين حديثه إذا كان من طريق من روى عنه قبل أن تحترق كتبه، خاصة أن هذا الحديث قد رواه عنه عبد الله بن وهب وقتيبة بن سعيد.
والراجح أنه ضعيف مطلقاً، لكن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها كما قال الحافظ، وهذه العبارة لا تقتضي تحسين حديثه،
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره وأوله سواء، إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه. الجرح والتعديل (5/145) .
فهذا نص على أنه ضعيف مطلقاً، وإن كان قد يتفاوت الضعف فرواية ابن المبارك أخف ضعفاً.
وقال عمرو بن علي: عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرى أصح من الذين كتبوا بعد ما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وهذا النص ليس فيه أن ما يرويه العبادلة صحيح مطلقاً، لأن كلمة أصح لا تعني الصحة كما هو معلوم، ولذلك قال: وهو ضعيف الحديث، هذا حاله قبل احتراق كتبه وبعدها.
وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي إذا كان من يروى عن ابن لهيعة مثل بن المبارك وابن وهب يحتج به؟ قال: لا. الجرح والتعديل (5/145) .
وقال ابن حبان: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه، فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجوداً، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيراً، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فالتزقت تلك الموضوعات به. قال عبد الرحمن بن مهدي: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيراً، كتب إلي ابن لهيعة كتاباً فيه: حدثنا عمرو بن شعيب، قال عبد الرحمن: فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه، عن ابن لهيعة قال حدثني: إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب.
ثم قال ابن حبان: وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة، وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة، سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه، لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه، لما فيه مما ليس من حديثه. المجروحين (2/11) .
وهذا عين التحرير، وهو أن رواية المتقدمين عنه فيها ما يدلسه عن الضعفاء، ورواية المتأخرين عنه فيها ما ليس من حديثه.
وجاء في ضعفاء العقيلي (2/294) : " حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن على، قال سمعت: أبا عبد الله، وذكر ابن لهيعة، وقال: كان كتب عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه.
وهذا صريح بأن ابن لهيعة يدلس عن الضعفاء.
وحديثنا هذا قد عنعنه ابن لهيعة وقد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الخامسة، والمرتبة الخامسة قال فيها الحافظ: " الخامسة: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس، فحديثهم مردود، إلا بما صرحوا فيه بالسماع، إلا إن توبع من كان ضعفه منهم يسيراً كابن لهيعة ".
قلت: هذا الطريق بهذا الإسناد لا أعلم أحداً تابع فيه ابن لهيعة، فهو ضعيف، والله أعلم.
وأما رواية قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، فهل تكون بمنزلة رواية العبادلة فتعتبر أعدل من غيرها أو لا؟ فالراجح فيه أن قتيبة بن سعيد سمع من ابن لهيعة بآخرة.
أولاً: أن قتيبة بن سعيد صغير، فقد ولد كما قال هو سنة 150 هـ
ثانياً: خرج قتيبة للرحلة من بغداد سنة 172 هـ، وكان عمره ثلاثاً وعشرين سنة، وكان احتراق كتب ابن لهيعة سنة 169هـ وحضر قتيبة جنازة ابن لهيعة سنة ثلاث وسبعين أو أربع وسبعين ومائة، فمن أين له أن يكون سماعه قديماً، ولذلك قال أبو بكر الأثرم: وسمعت
أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر قتيبة، فأثنى عليه، وقال: هو من آخر من سمع من ابن لهيعة. انظر الجرح والتعديل (7/ 140) . وتهذيب الكمال (23/528) .
وأما ما رواه الذهبي في السير (8/17) قال: " قال جعفر الفريابي سمعت بعض أصحابنا يذكر، أنه سمع قتيبة يقول: قال لي أحمد بن حنبل: أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح؟ فقلت: لأنا كنا نكتب من كتاب ابن وهب، ثم نسمعه من ابن لهيعة.
فهذه القصة إن لم يكن لها إلا هذا الإسناد فإنه ضعيف، لأن جعفر الفريابي لم يسمعها إنما قال: سمعت بعض أصحابنا يذكر... وذكرها، فلم يذكر لنا من هم بعض أصحابه؟ هل ممن يعتد به في النقل والجرح أم لا؟ فلا تعارض الحقائق التأريخية التي قدمتها، ولا تعارض ما رواه أبو بكر الأثرم سماعاً عن أحمد من أن قتيبة من آخر من سمع من ابن لهيعة، والله أعلم.
ثم وقفت على إسناد آخر في تهذيب الكمال (15/487) : " قال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: سمعت قتيبة يقول: كنا لا نكتب حديث ابن لهيعة إلا من كتب ابن أخيه، أو كتب ابن وهب إلا ما كان من حديث الأعرج ".
وعلى كل حال الذي أراه أن رواية العبادلة عن ابن لهيعة ليست صحيحة، إنما هي أعدل من غيرها فحسب، ولا أزيد على هذا. والله أعلم.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه ابن لهيعة، واختلف عليه فيه:
فرواه أحمد كما في إسناد الباب، عن موسى بن داود الضبي، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله ابن أبي جعفر، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد (2/380) وأبو داود (365) من طريق قتيبة بن سعيد.
والبيهقي (2/408) من طريق عبد الله بن وهب وعثمان بن صالح، ثلاثتهم عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة.
فجعلوا حديث ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب، وليس عن عبيد الله بن أبي جعفر.
وأخرجه البيهقي في السنن (2/408) من طريق علي بن ثابت، عن الوازع بن نافع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن خولة بنت نمار به.
قال البيهقي: قال أبو بكر بن إسحاق الفقيه: قال إبراهيم الحربي: الوازع بن نافع غيره أوثق منه، ولم يسمع من خولة بنت نمار أو يسار إلا في هذين الحديثين. اهـ
انظر إتحاف المهرة (19672) ، أطراف المسند (7/434) ، تحفة الأشراف (14286) .(13/512)
الدليل الثاني:
أن الله سبحانه وتعالى أمر بتطهير النجاسات بالماء وحده، كما في غسل دم الحيض، ومعلوم أن الماء وحده ليس من شأنه إزالة أثر النجاسة، فلو كانت إزالة الأثر مشترطة لأرشد الشارع إلى مطهر آخر، كما أرشد في تطهير ولوغ الكلب إلى التراب مثلاً.
الدليل الثالث:
(1680-208) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:(13/515)
قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها، فقصعته بظفرها (1) .
وجه الاستدلال:
أن الريق وحده لا يمكن أن يذهب بلون النجاسة، ولا يقطع رائحتها، وهذا دليل على أن ذهاب اللون والرائحة ليس بشرط، خاصة إذا كان يتعسر إزالتهما.
الدليل الرابع:
(1681-209) ما رواه البيهقي من طريق شعبة، عن يزيد الرشك،
عن معاذة، قالت: سألت عائشة رضي الله عنها عن الدم يكون في الثوب، فأغسله، فلا يذهب أثره، فقالت: الماء طهور.
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل الخامس:
أن في اشتراط ذهاب اللون والرائحة فيه كلفة ومشقة، والحرج مرفوع عن هذه الأمة.
الدليل السادس:
أن اللون والرائحة عرض، وليس عيناً، وبالتالي لا يضر بقاؤهما مع تعسر إزالتهما.
_________
(1) صحيح البخاري (312) .
(2) سنن البيهقي (2/408) ، ورواه البيهقي أيضاً في نفس الصفحة من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن معاذة، أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها عن دم الحيض يكون في الثوب، فيغسل فيبقى أثره؟ فقالت: ليس بشيء.(13/516)
الدليل السابع:
إذا باشر المستنجي الاستنجاء بيده فإنه مهما غسل يده فإنه يبقى فيها شيء من رائحة النجاسة، ولو كانت إزالة رائحة النجاسة شرطاً لأوجب الشارع على المستنجي إزالة هذه الرائحة من يده، أو عدم مباشرة إزالتها بيده، ومع ذلك كان الصحابة يستنجون بالماء، ويباشرون ذلك بأيديهم، ولم يكن هناك مطهرات معطرة تذهب برائحة النجاسة، ولم يأت في الشرع ما يوجب ذلك، فدل على أن بقاء رائحة النجاسة ليس مؤثراً في طهارة المحل.
دليل من قال: يشترط إزالة اللون والرائحة:
قالوا: ما دام أن لون النجاسة أو رائحتها باقية فهذا دليل على وجودها، وإذا كانت النجاسة موجودة فالمحل نجس؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
وأجيب:
لا نسلم أن النجاسة موجودة مع بقاء اللون، لأن اللون كما قلنا عرض، فهذا الحناء يوجد لونه على البدن أو على الشعر ولا يمنع وصول الماء، ولو كان الحناء موجوداً لمنع وصول الماء، وعلى التسليم بأنه موجود فإنه معفو عنه، للمشقة في إزالته، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها.
دليل من فرق بين الرائحة واللون:
قالوا: إنما قلنا يعفى عن اللون دون الريح، لأن المشقة في إزالة اللون ظاهرة، والمشقة مرفوعة، بخلاف الريح فلا يشق إزالتها.
والحقيقة لو أن هذا القول عكس الحكم لكان ربما يكون له وجه، لأن(13/517)
اللون دليل على بقاء النجاسة بخلاف الريح، والفقهاء دائماً يخففون مسألة الريح، ولذلك قالوا لو تروح الماء بنجاسة مجاورة فهو طهور، بخلاف ما لو تغير لونه من النجاسة فإنه نجس، وهذا دليل على التفريق بين اللون والرائحة، وأن اللون أشد تأثيراً من الرائحة، والله أعلم.
القول الراجح:
بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن قول الجمهور أقوى من حيث الدلالة، وأن اللون والرائحة إذا شق إزالتهما فإن ذلك لا يؤثر على طهارة المحل، والله أعلم.(13/518)
المبحث الخامس
إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء
فقيل: لا يجب الاستعانة بغير الماء، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: يستحب، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقال ابن مفلح: يتوجه احتمال أنه يجب، وكلام أحمد يحتمله (3) .
واختاره بعض الحنابلة في التراب (4) .
دليل من قال لا يجب الاستعانة بغير الماء:
الدليل الأول:
الأدلة التي سيقت في المسألة التي قبل هذه، من كون اللون والرائحة لا تجب إزالتهما مع المشقة.
الدليل الثاني:
أن النصوص أرشدت إلى غسل النجاسة بالماء، وبعض النجاسات كدم
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/88) ، تبيين الحقائق (1/75) .
وقال في مواهب الجليل، وهو مالكي: (1/163، 164) : " إذا أمكن زوال اللون أو الريح بغير الماء لم يجب، ثم نقل عن ابن العربي وابن الحاجب قولهما: لو أمكن زوال اللون والريح بأشنان أو صابون فالظاهر أنه لا يجب. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/80) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 18) .
(2) كشاف القناع (1/183) ، الإنصاف (1/317) .
(3) الفروع (1/240) ، الإنصاف (1/317) .
(4) المرجعان السابقان.(13/519)
الحيض لا يزيل الماء لون النجاسة، فلو كانت الإزالة واجبة لأرشد الشارع إلى مطهر آخر، فلما اكتفى بالماء علم أن إضافة غير الماء ليس بواجب.
الدليل الثالث:
أرشد الشارع إلى إضافة التراب في تطهير ولوغ الكلب، ولم يرشد إلى ذلك في طهارة دم الحيض، مع كون الدم له لون يلصق بالثياب، بخلاف ريق الكلب، فلو كانت الإضافة واجبة في سائر النجاسات لأرشد إليها الشارع كما أرشد إليها في طهارة ولوغ الكلب، وما كان ربك نسياً.
دليل من استحب إضافة مطهر أخر إلى الماء لإزالة لون النجاسة:
الدليل الأول:
(1682-210) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال:
سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند وسدر.
[إسناده صحيح] (1) .
وإنما لم نقل: إن الأمر للوجوب؛ لأنه قد ورد حديث أسماء في الاقتصار على الماء، وهو متفق عليه.
الدليل الثاني:
(1683-211) ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، حدثني
_________
(1) المسند الإمام أحمد (6/355) . وسبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم: (205) ، وهو جزء من هذه السلسلة.(13/520)
سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت،
عن امرأة من بني غفار - وقد سماها لي - قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة من بني غفار، فقلنا له: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: على بركة الله. قالت: فخرجنا معه، وكنت جارية حديثة، فأردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله، قالت: فوالله لنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح فأناخ، ونزلت عن حقيبة رحله وإذا بها دم مني، فكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي، ورأى الدم، قال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قالت: قلت: نعم، قال: فأصلحي من نفسك، وخذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك. الحديث (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (6/380) .
(2) إسناده ضعيف؛ لجهالة أمية بنت أبي الصلت، لم يرو عنها سوى سليمان ابن سحيم، وفي التقريب: لا يعرف حالها.
واختلف في اسمها، فقيل: أمية، وقيل: آمنة، انظر سنن البيهقي (2/407) .
تخريج الحديث:
الحديث رواه أحمد كما في إسناد الباب عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق.
وأخرجه أبو داود (313) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (2/407) من طريق سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق به.
وأخرجه البيهقي في السنن (2/407) من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق به.
واختلف فيه على سليمان بن سحيم:
فروي عنه كما سبق.
وأخرجه الواقدي في المغازي (2/685) ، ومن طريقه ابن سعد في الطبقات (8/293) من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت أبي الحكم، عن أمية بنت قيس أبي الصلت.
فزاد في إسناده أم علي بنت أبي الحكم، وجعله من مسند أمية بنت قيس.
والواقدي متروك، وكذا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة.(13/521)
الدليل الثالث:
(1684-212) ما رواه أبو داود، من طريق عبد الوارث، حدثتني أم الحسن يعني جدة أبي بكر العدوي،
عن معاذة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها عن الحائض يصيب ثوبها الدم، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرة، قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حيض جميعاً لا أغسل لي ثوباً (1) .
[إسناده ضعيف، ورواه الدارمي بإسناد صحيح] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (357) .
(2) في إسناده أم الحسن جدة أبي بكر العدوي، لم يرو عنها إلا عبد الوارث بن سعيد، ولم يوثقها أحد، وفي التقريب: لا يعرف حالها.
وقد رواه البيهقي في السنن (2/) من طريق عبد الوارث به.
وقد أخرجه الدارمي بإسناد صحيح (1011) من طريق عاصم الأحول، عن معاذة العدوية، عن عائشة، قال: إذا غسلت المرأة الدم، فلم يذهب فلتغيره بصفرة ورس أو زعفران. اهـ
وهذه متابعة صحيحة لأم الحسن عن معاذة، والله أعلم.
انظر إتحاف المهرة (23222) ، تحفة الأشراف (17971) .(13/522)
دليل من قال بوجوب إضافة شيء إلى الماء إذا أمكن إزالة لون النجاسة:
هذا القول لم يثبت عندي، وإنما ساقه ابن مفلح احتمالاً، فإن ثبت فلعل دليله، أنه مبني على وجوب إزالة لون النجاسة مع إمكان ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والله أعلم.
الراجح:
بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول الوسط، وهو استحباب إزالة اللون بمادة أخرى إذا لم يذهب بالماء أقوى، لقوة أدلته وتعليلاته، ويكفي أنه مذهب لأم المؤمنين رضي الله عنها عائشة الصديقة بنت الصديق، والله أعلم.(13/523)
[صفحة فارغة](13/524)
المبحث السادس
في اشتراط عصر الثياب النجسة عند غسل النجاسة
اختلف العلماء في اشتراط العصر في الأشياء التي تتشرب النجاسة كالثياب ونحوها،
فقيل: يشترط العصر، وهو مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: لا يشترط عصرها، وهو مذهب المالكية (3) ، والشافعية (4) ، واختيار أبي يوسف من الحنفية (5) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/88) ، تبيين الحقائق (1/76) ، البحر الرائق (1/249) ، حاشية ابن عابدين (1/332) .
(2) قال في الإنصاف (1/316) : يعتبر العصر في كل غسلة مع إمكانه فيما يتشرب النجاسة، أو دقه أو تقليبه إن كان ثقيلاً على الصحيح من المذهب. وانظر الفروع (1/239) ، شرح منتهى الإرادت (1/104) .
(3) التاج والإكليل (1/235) ، مواهب الجليل (1/159) ، الخرشي (1/114) ، حاشية الدسوقي (1/80) .
(4) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (3/200) : هل يشترط عصر الثوب إذا غسله؟ فيه وجهان: الأصح أنه لا يشترط. اهـ
وقال في مغني المحتاج (1/85) : ويسن عصر ما يمكن عصره خروجاً من الخلاف. اهـ وقال في روضة الطالبين (1/28) : ولا يشترط في حصول الطهارة عصر الثوب على الأصح بناء على طهارة الغسالة. وإن قلنا بالضعيف: إن العصر شرط قام مقامه الجفاف على الأصح؛ لأنه أبلغ في زوال الماء. اهـ
(5) بدائع الصنائع (1/88) .(13/525)
دليل من قال يشترط العصر.
الدليل الأول:
(1685-213) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت:
جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (1) .
وجه الاستدلال:
قوله " ثم تقرصه " قال ابن حجر: أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه (2) .
وأجيب:
بأن الحت والقرص ليس واجباً، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بحث ذلك في مسألة مستقلة.
الدليل الثاني:
قالوا: إن الثياب تتشرب النجاسة، ومرور الماء على الثياب دون عصرها لا يستخرج أجزاء النجاسة من الثوب، ولهذا اشترطنا العصر في الثياب.
الدليل الثالث:
أن غسالة النجاسة نجسة، وإذا كانت نجسة كان وجودها في الثوب سبباً في بقائه نجساً، فيجب إخراجها من الثوب حتى يمكن الحكم له بالطهارة.
_________
(1) البخاري (227) ، ومسلم (291) .
(2) فتح الباري تحت حديث: 227.(13/526)
دليل من قال: لا يشترط العصر:
الدليل الأول:
(1686-214) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق،
عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
معلوم أن الأرض تتشرب النجاسة، ومع ذلك اكتفى بصب الماء عليها، فإن قيل: إن الأرض لا يمكن عصرها. قيل: يمكن نقل غسالة النجاسة، بل يمكن حفر الأرض المتنجسة قبل تطهيرها، فلما لم يأمر بنقل غسالة النجاسة مع إمكانه علم أن المحل طهر بمجرد صب الماء عليه، فدل على أن عصر الثوب لإخراج غسالة النجاسة ليس شرطاً في الطهارة، والتفريق بين الأرض والثياب تفريق بغير دليل، بل قياس الثياب على الأرض هو الفقه، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1687-215) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه. ورواه مسلم (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (219) ، وصحيح مسلم (284) .
(2) صحيح البخاري (222) ومسلم (286) .(13/527)
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتبع البول الماء، ولم يعصر الثوب.
الدليل الثالث:
الأصل عدم وجوب العصر، ولم يأت في الشرع ما يرشد إلى عصر الثياب حين غسلها، ولو كان العصر واجباً لجاء الأمر به، كما جاء في حت الدم وقرصه بالماء، ومن غسل ثوبه حتى ذهبت عين النجاسة وطعمها وريحها فقد طهر الثوب، وفعل ما أمر به.
الدليل الرابع:
لم يقم دليل على أن غسالة النجاسة نجسة، وإذا انفصل الماء عن المحل ولم يتغير بالنجاسة فهو طهور، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن إخراج الغسالة إخراجاً للنجاسة حتى يجب إخراجه بالعصر، وسوف تبحث غسالة النجاسة في بحث مستقل من هذا الباب إن شاء الله تعالى.
وهذا القول هو الراجح.(13/528)
المبحث السابع
في حكم الحت والقرص
اختلف العلماء في حكم الحت والقرص،
فقيل: يستحب، وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) .
وقيل: يجب إن لم تذهب النجاسة بدونهما، ولم يتضرر المحل بهما، وهو قول في مذهب الشافعية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
دليل من قال بالاستحباب:
(1688-216) ما رواه البخاري، من طريق مالك عن هشام، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قالت:
سألت أمرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بماء، ثم لتصل فيه.
وفي رواية: قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (5) .
وجه الاستدلال:
بين الرسول في الثوب الذي أصابته نجاسة الدم أنها تحته ثم تدلكه بالماء،
_________
(1) مواهب الجليل (1/159) .
(2) فتاوى الرملي (1/65) ، روضة الطالبين (1/28) ، أسنى المطالب (1/21) .
(3) انظر روضة الطالبين (1/28) ،
(4) الفروع (1/241) ، شرح منتهى الإرادات (1/103) ، كشاف القناع (1/185) .
(5) البخاري (227) ، ومسلم (291) .(13/529)
ثم تغسله، ثم تصلي فيه، وهذا على وجه الاستحباب، لأن غسل الدم كاف في طهارته، ولأن المطلوب إزالة النجاسة، فكيف زالت فقد زال حكمها، ولم يتعين الحت والقرص في إزالتها، فلو غسلت الدم حتى زالت عين النجاسة بدون حت وقرص فقد حصل المطلوب وطهر الثوب.
دليل من قال بالوجوب:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: فلتقرصه أمر منه - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في الأمر الوجوب حتى يوجد صارف يصرفه عن ذلك.
والراجح، والله أعلم أن زوال عين النجاسة إن توقف على الحت، ولم يذهب بالغسل فإنه واجب لا لذاته، وإنما لأن إزالة النجاسة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإن زال عين النجاسة بمجرد مرور الماء على الثوب فقد حصل المطلوب، والله أعلم.(13/530)
المبحث الثامن
في كيفية تطهير المذي
لما كان المذي قد نص على تطهيره بالماء ناسب ذكر كيفية تطهيره في باب كيفية إزالة النجاسة بالماء، وقد اختلف الفقهاء في الطهارة من المذي، هل يتعين الماء، أو تكفي الحجارة؟
فقيل: يتعين الماء وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ،
على خلاف بينهم هل يجب غسل موضع الحشفة فقط كما هو مذهب الحنفية (5) ، والشافعية (6) ، ونسبه النووي للجمهور (7) ، ورجحه ابن عبد البر (8) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/48) ، شرح فتح القدير (1/72) ، المبسوط (1/67) .
(2) مواهب الجليل (1/285) ، الخرشي (1/149) ، حاشية الدسوقي (1/112) ، فتح البر بترتيب التمهيد (3/323) .
(3) المجموع (2/164) ، روضة الطالبين (1/67) ، مغني المحتاج (1/79) .
(4) الفروع (1/214) ، شرح منتهى الإرادات (1/21) ، الإنصاف (1/330) ، المبدع (1/249) ، الفتح الرباني بمفرادت ابن حنبل الشيباني (1/87) ، الكافي في فقه أحمد (1/56) ، المغني (1/112) .
(5) شرح معاني الآثار (1/48) ، شرح فتح القدير (1/72) ، المبسوط (1/67) .
(6) المجموع (2/164) ، روضة الطالبين (1/67) ، مغني المحتاج (1/79) .
(7) المجموع (2/164) .
(8) فتح البر بترتيب التمهيد (3/323) .(13/531)
أو يجب غسل الذكر كله، وعليه أكثر أصحاب مالك (1) ، وهو رواية عن أحمد (2) .
أو يجب غسل الذكر كله مع الأنثيين، كما هو مذهب الحنابلة، وذكروه من المفردات (3) ، وهو مذهب ابن حزم (4) .
وقيل: يجزئ الاستجمار، وهو قول في مذهب الشافعية (5) .
وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (6) .
وسبب اختلاف الفقهاء اختلافهم في الأحاديث الواردة في ذلك:
فمن أوجب غسل الذكر كله، أخذه من حديث علي المتفق عليه، وفيه: "يغسل ذكره ويتوضأ " هذا لفظ مسلم، ورواه البخاري بنحوه (7) .
فقوله: "يغسل ذكره ": حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف،
_________
(1) مواهب الجليل (1/285) ، الخرشي (1/149) ، حاشية الدسوقي (1/112) ، فتح البر بترتيب التمهيد (3/323) .
(2) الكافي في فقه أحمد (1/56) ، الإنصاف (1/330) .
(3) الفروع (1/214) ، شرح منتهى الإرادات (1/21) ، الإنصاف (1/330) ، المبدع (1/249) ، الفتح الرباني بمفرادت ابن حنبل الشيباني (1/87) ، الكافي في فقه أحمد (1/56) ، المغني (1/112) .
(4) المحلى (1/118) .
(5) المجموع (2/164) .
(6) في المبدع شرح المقنع (1/149) : وعن أحمد أن المذي طاهر كالمني، اختاره أبو الخطاب في خلافه؛ لأنه خارج بسبب الشهوة. اهـ وانظر المغني (1/413) ، والإنصاف (1/341) .
(7) صحيح مسلم (303) ، وصحيح البخاري (269) .(13/532)
فيعم جميع الذكر.
ومن قال: يغسل موضع الحشفة: قالوا: إن من غسل مخرج المذي من الذكر فقد غسل ذكره، فإيجاب غسل الذكر كله لا دليل عليه من الشرع.
وقد صح عن ابن عباس أنه يقول: تارة: "يغسل ذكره" وتارة يقول: "يغسل حشفته" فدل على أن مراده بقوله: " اغسل ذكرك" أي الحشفة، وفهم الصحابي أولى من فهم غيره؛ لأنه عربي قح لم تدخل لسانه العجمة، وهو ممن روى عن علي حديث غسل الذكر من المذي، فلو كان يقتضي ذلك غسل الذكر كله لكان ابن عباس أولى بفهم ذلك من غيره.
وقياساً على البول فإن الإنسان لا يغسل فيه الذكر كله.
ومن رأى أن الاستجمار لا يكفي استدل بقوله في الحديث: " يغسل ذكره " فهذا دليل على أن الاستجمار لا يكفي، قال ابن عبد البر: وليس في أحاديث المذي على كثرتها ذكر الاستجمار (1) .
وأما من قال: يغسل أنثييه: فاستدل بحديث علي، ففي رواية منه، قال: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ (2) .
وهذه الزيادة لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ضعفها أحمد في سؤالات أبي داود (3) .
_________
(1) شرح الزرقاني (1/125) ، التمهيد (21/205) .
(2) المسند (1/124) .
(3) جاء في مسائل أحمد لأبي داود (106) : قلت لأحمد: إذا أمذى يجب عليه غسل أنثييه؟ قال: ما قال غسل الأنثيين إلا هشام بن عروة - يعني: في حديث علي، فأما الأحاديث كلها فليس فيها ذا. اهـ(13/533)
وأما من قال: إن الاستجمار يكفي، فقد قاسه على البول:
وقد عرضنا أدلة كل قول، والجواب عنها في بحث طويل، فأغنى عن إعادته هنا (1) .
_________
(1) في كتابي أحكام الطهارة " كتاب آداب الخلاء ".(13/534)
المبحث التاسع
في الكلام على غسالة النجاسة
الماء المستعمل في إزالة النجاسة قبل أن ينفصل عن المحل فإنه طهور مطلقاً تغير أو لم يتغير؛ لأننا لو قلنا ينجس بمجرد الملاقاة ما طهر المحل أبداً، ولم يمكنا في هذه الحال تطهير النجاسات إلا بالماء الكثير وهذا فيه حرج (1) .
وأما إذا انفصل عن المحل فلا يخلو إما أن يتغير بالنجاسة أو لا.
فإن تغير الماء بالنجاسة، فهو نجس بالإجماع، وقد نقلناه عن جماعة من علماء المذاهب في مسألة سؤر سباع البهائم فانظره هناك.
وإن كان الماء المنفصل لم يتغير، وهو ماء قليل، فقد اختلف العلماء في حكمه بناء على اختلافهم في وجوب تكرار الغسل، فبعضهم يرى وجوب تكرار غسل النجاسة ثلاثاً، وبعضهم سبعاً، وبعضهم يرى أنه يكفي غسل النجاسة مرة واحدة ما لم تكن نجاسة كلب، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة سابقة، وترجح أن العدد لا يشترط في غسل النجاسات إلا نجاسة الكلب للنص عليها من الشارع.
وقد اختلف العلماء في الماء المنفصل عند تطهير هذا المحل المتنجس، وهو ما يسمى بغسالة النجاسة، إذا انفصل عن المحل، وهو لم يتغير هل يكون نجساً أو طاهراً أو طهورا؟.
فقيل: الماء المنفصل من غسل النجاسة الحقيقية من الغسلة الأولى حتى
_________
(1) مطالب أولي النهى (1/40) .(13/535)
الغسلة الثالثة نجس، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: الماء المنفصل طهور ما لم يتغير بالنجاسة، وهو مذهب المالكية (2) ، وهو الراجح.
وقيل: يكون طاهراً غير مطهر، وهو الأصح عند الشافعية (3) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/66) ، البحر الرائق (1/245) ، بريقة محمودية (4/240) ، حاشية ابن عابدين (1/325) ، وهذا مبني على وجوب غسل النجاسات الحقيقية ثلاث مرات، وضد الحقيقية الحكمية، وهي طهارة الحدث، فلا يجب فيها العدد، وهذا بناء على قولهم بأن الحدث نوع من النجاسة، وانظر بدائع الصنائع (1/87) .
(2) تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك (1/43) ، منح الجليل (1/72) ، القوانين الفقهية (ص: 35-36) ، الخرشي (1/80) ، حاشية الدسوقي (1/80) ، الاستذكار (3/259) .
(3) قال النووي في روضة الطالبين (1/34) : في غسالة النجاسة إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة فنجسة، وإلا فإن كان قلتين فطاهرة بلا خلاف، ومطهرة على المذهب، والله أعلم.
وإن كانت دونهما فثلاثة أقوال، وقيل أوجه:
أظهرها: وهو الجديد أن حكمها حكم المحل بعد الغسل، إن كان نجساً بعد فنجسة، وإلا فطاهرة غير مطهرة.
والثاني: وهو القديم، حكمها حكمها قبل الغسل فتكون مطهرة.
والثالث: وهو مخرج من رفع الحدث، حكمها حكم المحل قبل الغسل فتكون نجسة. اهـ
وقال في المجموع (2/544) : " والأصح طهارة غسالة النجاسة إذا انفصلت غير متغيرة، وقد طهر المحل " وانظر شرح زبد بن رسلان (1/34) . واشترط الشافعية للحكم بطهارة الغسالة شروطاً.
قال العراقي في طرح التثريب (2/134) : " الصحيح عند أصحابنا طهارة غسالة النجاسة بشرط عدم تغيرها، وبشرط طهارة المحل، فإن تغيرت كانت نجسة إجماعاً، وإن لم يطهر المحل بأن كان في المحل نجاسة عينية كالدم ونحوه فلم يزلها الماء وانفصل عنها، وهي باقية، فإنه نجس أيضا، وزاد الرافعي شرطاً آخر، وهو ألا يزداد وزن الغسالة بعد انفصاله على قدره قبل غسل النجاسة به. اهـ(13/536)
وقيل: المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس، حتى ولو زالت عين النجاسة في الغسلة الأولى، والمنفصل من الغسلة السابعة طاهر، غير مطهر، والمنفصل من الغسلة الثامنة طهور. وهذا المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث:
قولهم مبني على وجوب غسل النجاسات ثلاث مرات، وقد ذكرنا أدلتهم على وجوب الغسلات الثلاث في مسألة سابقة، وبناء على هذا قالوا: إن الماء المنفصل في الغسلة الأولى والثانية انفصل والمحل نجس فتنجس، وأما الغسلة الثالثة فنجسة، وإن كان المحل قد طهر بناء على أن الماء قد استعمل في إزالة نجاسة، فالماء عندهم ينجس إذا استعمل في الطهارة سواء في طهارة الحدث أم في طهارة الخبث، وسبق تحرير مذهبهم في الماء المستعمل في طهارة الحدث، وأجبنا عليه (2) .
_________
(1) قال أبو الخطاب في الانتصار (1/485) : يجب العدد في سائر النجاسات سبعاً نص عليه في رواية صالح وحنبل وأبي طالب والميموني. اهـ
وفي مسائل عبد الله لأبيه (1/34) : " سألت أبي عن الثوب يصيبه البول يجزيه أن يغمسه في الماء، أو لا بد من الدلك؟ فقال: يغسله سبعاً، ويعصره "وانظر مسائل ابن هانئ (1/27) رقم137. اهـ وانظركشاف القناع (1/36) ، شرح منتهى الإرادت (1/102) ، الفروع (1/238، 239) ، الإنصاف (1/313)
(2) في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية) .(13/537)
الدليل الثاني على نجاسة الغسالة:
(1689-217) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير- يعني: ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك- يعني: ابن عمير- يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القصة - يعني: قصة بول الأعرابي في المسجد- قال فيه: وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء (1) .
قال أبو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -.
[ضعيف، وزيادة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه زيادة منكرة والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (2) .
وجه الاستدلال:
لولا أن الغسالة نجسة لما احتاج إلى نقلها قبل غسلها.
دليل الحنابلة في غسالة النجاسة:
يرى الحنابلة أن الماء المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس، لأن الماء قد انفصل والمحل نجس، حتى ولو ذهبت عين النجاسة، فالمحل نجس حكماً، والتعليل عندهم: أنه ماء قليل لاقى نجاسة، فينجس ولو لم يتغير (3) .
_________
(1) سنن أبي داود (381) .
(2) وله شاهد من حديث أنس وحديث عبد الله بن مسعود، وهما ضعيفان، وسيأتي تخريج ذلك إن شاء الله تعالى في مسألة كيفية تطهير الأرض من النجاسة.
(3) وسبق لنا في كتاب المياه بحث الماء القليل إذا لاقى نجاسة ولم يتغير، وقد ترجح هناك أن الماء طهور ما لم يتغير بالنجاسة.(13/538)
وأما الماء المنفصل من الغسلة السابعة فإنه طاهر، ولماذا لا يكون طهوراً؟
قالوا: لأنه أثر في المحل، فحصل به إزالة حكم النجاسة.
ولماذا لا يكون نجساً؟
قالوا: لأنه انفصل عن محل طاهر؛ لأن المحل يطهر عندهم في الغسلة السابعة، إذا ذهبت عين النجاسة.
أما المنفصل من الغسلة الثامنة فهو طهور؛ لأن المحل قد طهر من الغسلة السابعة، فلم يتأثر الماء.
والقول بوجوب غسل النجاسات ثلاثاً عند الحنفية أو سبعاً عند الحنابلة قول ضعيف، إلا في ولوغ الكلب حيث ثبت العدد في غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وقد بُسِطَت أدلة كل قول في العدد المعتبر في غسل النجاسة في مسألة مستقلة.
دليل الشافعية على كون الماء طاهراً:
الدليل الأول:
إذا كان الماء المستعمل في رفع الحدث يكون طاهراً، وهو لم يستعمل في إزالة النجاسة، فكيف بالمستعمل في إزالة النجاسة؟
والدليل على أن الماء المستعمل في رفع الحدث يكون طاهراً
(1690-218) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه،
أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب. فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا (1) .
_________
(1) صحيح مسلم (283) .(13/539)
وجه الاستدلال:
قالوا: لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاغتسال في الماء الدائم دل ذلك على أن الاغتسال يؤثر في الماء، ولو كان لا يؤثر لما نهى عنه، فالمراد من نهيه حتى لا يصير الماء مستعملاً (1) .
وأجيب:
أولاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل بأن الماء يكون مستعملاً، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قط بأن الماء يكون مستعملاً، فهذا الكلام زيادة على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الحديث نص في الماء الدائم، وهو يشمل ما فوق القلتين وما دون القلتين، وأنتم قلتم بأنه لا يكون مستعملاً إلا إذا كان دون القلتين. فهذه مخالفة ثانية للحديث.
الدليل الثاني:
قولهم: إن الماء المستعمل ليس ماء مطلقاً، بل هو مقيد بكونه ماء مستعملاً، والذي يرفع الحدث هو الماء المطلق، كما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (2) (3) .
وأجيب:
بأن لفظ (ماء) في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، سواء كان مستعملاً أو غيره، وسواء كان متغيراً أم لم يتغير، ما
_________
(1) المجموع (1/206) .
(2) المائدة: 6.
(3) ذكره دليلاً لهم ابن حزم في المحلى (1/189) ورده عليهم.(13/540)
دام أنه يسمى ماء، نعم خرج الماء النجس للإجماع على أنه لا يجوز التطهر به، وبقي ما عداه.
والصحيح أن إثبات قسم من الماء يكون طاهراً غير مطهر قول ضعيف، وقد تبين في مبحث أقسام المياه، أن الماء قسمان: طهور، ونجس. ولا يوجد قسم الطاهر (1) ، والله أعلم.
دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة.
استدل المالكية على أن غسالة النجاسة من الماء الطهور إذا لم تتغير بعدة أدلته، منها:
الدليل الأول:
(1691-219) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت،
عن أنس بن مالك، أن أعرابياً بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء، فصب عليه، ورواه مسلم (2) .
وجه الاستدلال:
أن الماء الذي غسل به بول الأعرابي لو كان نجساً لم يقض النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك المحل، ولأمر أن يصب عليه الماء ثانية وثالثة، فصح أن المغسول به النجاسة طاهر مطهر (3) .
_________
(1) انظر المجلد الأول من أحكام الطهارة من هذه السلسة (مباحث المياه والآنية) .
(2) صحيح البخاري (6025) ومسلم (284) .
(3) انظر كتاب تهذيب المسالك (1/44) والحنابلة يفرقون بين النجاسة تكون على الأرض، وبين أن تكون على غيرها، ولا دليل على التفريق بينهما، بل الحكم واحد.(13/541)
الدليل الثاني:
(1692-220) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أُتِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه. ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال من الحديث الذي قبله، فإن قيل في الحديث الأول: إن النجاسة كانت على الأرض، فالحديث الثاني النجاسة على ثوب، وهذا دليل على أنه لا فرق بينهما.
الدليل الثالث:
قالوا من جهة المعنى: الماء المنفصل عن المحل المغسول هو من جملة الماء الباقي في المحل المغسول، فالمنفصل بعض المتصل، والماء الباقي في المحل المغسول طهور بإجماع، فوجب أن يكون المنفصل عنه مثله (2) .
الدليل الرابع:
إذا غلب الماء على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها، ولا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً، فقد جعل الله الماء طهوراً، وأنزله علينا ليطهرنا به، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء " يعني: إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره، ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها، فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها، فالحكم له، وإن غلبته
_________
(1) صحيح البخاري (222) ومسلم (286) .
(2) كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك (1/44) .(13/542)
النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها (1) .
وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر إذا صارت خلاً من غير صانع، لاستهلاك ما كان يخامر العقل منها بطريان التحليل عليه، فلأن تطهر النجاسة، ويزول حكمها باستهلاك الماء لها أولى وأحرى (2) .
وهذا القول هو الراجح، لدليل النقل والعقل، والله أعلم.
_________
(1) الاستذكار (3/259) .
(2) تهذيب المسالك (1/45) .(13/543)
[صفحة فارغة](13/544)
الفصل الثاني
في كيفية التطهير بالنضح
المبحث الأول
في تطهير بول الرضيع الذكر بالنضح
اختلف العلماء في بول الصبي والجارية هل حكمهما واحد أو لا؟.
فقيل: يجب غسلهما معاً، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) .
وقيل: بول الجارية يغسل، وبول الغلام ينضح، وهو مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وبه قال الحسن البصري (5) ، والزهري (6) ، وجماعة من أهل الحديث.
وقيل: يكفي النضح فيهما ما لم يطعما، فإذا طعما وجب غسلهما، وهذا القول مروي عن الحسن البصري، وسفيان، وأحد قولي الأوزاعي (7) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/69- 70) ، بدائع الصنائع (1/88) ، شرح معاني الآثار (1/9) ، حاشية ابن عابدين (1/318) .
(2) المنتقى للباجي (1/129) ، الخرشي (1/94) ، الاستذكار (2/67) .
(3) مغني المحتاج (1/84- 85) ، نهاية المحتاج (1/239- 240) ، المجموع (2/589) .
(4) المبدع (1/325- 326) كشاف القناع (1/217- 218) ، الفروع (1/346) ، الإنصاف (1/323) .
(5) التمهيد (9/112) .
(6) قال ابن شهاب كما في صحيح ابن حبان (4/211) : فمضت السنة بأن لا يغسل من بول الصبي حتى يأكل الطعام، فإذا أكل الطعام غسل من بوله. اهـ
(7) المحلى (1/133) ، فقه الإمام الأوزاعي (1/98) .(13/545)
وقيل: ينضح بول الذكر مطلقاً، كبيراً كان أم صغيراً، ويغسل بول الأنثى، وهو اختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (1) .
دليل من قال لا فرق بين بول الصبي والجارية في وجوب الغسل:
الدليل الأول:
(1693-221) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم، وإنه أتي بصبي، فبال عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صبوا عليه الماء صباً (2) .
[انفرد أبو معاوية عن هشام بقوله: صبوا عليه الماء صباً، وحديث أبي معاوية عن هشام في بعضها كلام] (3) .
_________
(1) المحلى (1/133) .
(2) المسند (6/46) .
(3) ومن طريق أبي معاوية أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/93) .
وقد انفرد أبو معاوية عن هشام في قوله صبوا عليه الماء صباً، وقد قال فيه أحمد: في غير حديث الأعمش مضطرب لا يحفظها جيداً.
وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام؟ قال: فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة،
وقد روي عنه بلفظين:
اللفظ الأول: فدعا بماء فأتبعه إياه. أخرجه مالك بن أنس كما في الموطأ (142) ومن طريق مالك أخرجه البخاري (222) .
ورواه يحيى بن سعيد القطان كما في البخاري (6002) ، ومسند أبي عوانة (1/20)
وعبد القدوس بن بكر بن خنيس، كما في مسند أحمد (6/212) .
وشريك كما في مسند أبي يعلى في مسنده (4623) كلهم رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. بلفظ: فدعا بماء فأتبعه إياه.
ورواه جرير بن عبد الحميد، عن هشام، كما في صحيح مسلم (286) بلفظ: فدعا بماء، فصبه عليه.
وهي رواية بالمعنى لقوله " فأتبعه إياه "
واللفظ الثاني: مثله إلا أنه زاد كلمة: ولم يغسله.
رواه عبد الله بن المبارك، كما في صحيح البخاري،
ووكيع كما في مسند أحمد (6/52)
وعبد الله بن نمير كما في صحيح مسلم (286) .
وعيسى بن يونس كما في صحيح مسلم (286) .
وسفيان، كما في صحيح ابن حبان (1372)
ومحاضر كما في مسند أبي عوانة (1/202)
وعبدة بن سليمان، كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (93) .
وزائدة، كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (92) ، ثمانيتهم رووه عن هشام به، وزادوا كلمة، ولم يغسله، فهي زيادة محفوظة بلا شك.
وهناك بعض الرواة رووه باللفظين، مثل يحيى بن سعيد القطان، فقد رواه مرة بدون كلمة ولم يغسله، ومرة رواه بهذه الزيادة عند أحمد (6/52) .
ومثله عبد الله بن نمير، رواية مسلم والبيهقي فيها " ولم يغسله " بينما رواية أبي عوانة
(1/202) ، بلفظ: فدعا بماء، فأتبعه بوله.
وكذلك أخرجه الحميدي (1/88) عن سفيان، بلفظ: فأتبع بوله الماء، بينما رواية ابن حبان " ولم يغسله ".
فتبين من هذا التخريج: أنهم أجمعوا على قولهم " فدعا بماء فأتبعه إياه " وزاد عليه جمع من الرواة، وقفت على ثمانية منهم قولهم " ولم يغسله " ولم يقل أحد منهم " صبوا عليه الماء صباً" وقد انفرد أبو معاوية عن هشام بلفظ " صبوا عليه الماء صباً " وأخشى أن يكون هذا من الرواية بالمعنى التي لم توافق ألفاظ الرواية للحديث، كما أن رواة الحديث أجمعوا على أن الرسول هو الذي باشر غسل النجاسة، لقولهم " فأتبعه إياه " بينما رواية أبي معاوية كأنه باشر غسل النجاسة غيره، والله أعلم.
انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: إتحاف المهرة (22259) ، أطراف المسند (9/157) ، تحفة الأشراف (16998، 16775، 16972، 17137)(13/546)
وجه الاستدلال:
أنه أمر بصب الماء على نجاسة بول الصبي صباً، وهذا دليل على أنه لا يكفي النضح، بل لا بد من الغسل، ألا ترى لو أن رجلاً أصاب ثوبه عذرة، فأتبعها الماء حتى ذهب بها، أن ثوبه قد طهر.
وأجيب:
أولاً: تفرد أبو معاوية بهذا اللفظ، عن هشام، وسائر الرواة عن هشام لم يذكروا ما ذكره أبو معاوية.
ثانياً: أن الحديث نص في قوله: " ولم يغسله " فإتباع الماء بدون غسل وبدون أن يتقاطر الماء إن كنتم تسمون هذا غسلاً فالخلاف معكم لفظي، وإن كنتم تشترطون مع إتباع الماء أن يتقاطر وأن يعصر الثوب حتى يخرج منه الماء، فالحديث لم يدل عليه، بل صرح بنفيه.
ثالثاً: على فرض صحة لفظ أبي معاوية فليس فيها ما يدل على وجوب الغسل، فإن مكاثرة المحل بالماء دون أن يصل إلى حد السيلان لا ينافي ذلك الصب، ولا يسمى غسلاً عندنا، فليس صب الماء مرادفاً للغسل، حتى يؤخذ من لفظ " صبوا " أن يكون هذا بمعنى الغسل، ولذلك جاء اللفظ صريحاً بقولهم " ولم يغسله " فلو كان الصب يعني الغسل لكان قوله " ولم يغسله " تناقضاً في الحديث، كما لو قال: غسله ولم يغسله، وهذا واضح بين.(13/548)
الدليل الثاني لمن قال بوجوب الغسل.
الأحاديث العامة الآمرة بوجوب الغسل من البول، منها:
(1694-222) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (1) .
(1695-223) ومنها: ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب،
عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (2) .
[إسناده ضعيف جداً] (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (216) ، ومسلم (292) .
(2) مسند أبي يعلى (1611) .
(3) سبق تخريجه في كتابي أحكام الطهارة: آداب الخلاء، رقم (402) .(13/549)
وأجيب:
أما حديث ابن عباس فهو في بول الكبير؛ لأنه في حق المكلف، وهو لا يكلف إلا وهو كبير، وأحاديث التفريق هي في بول الصبي، فلا يقضي الحديث العام على الحديث الخاص، وإنما الخاص مقدم على العام.
وأما حديث عمار فهو ضعيف جداً كما بينا، ومع ذلك لو صح لم يكن فيه دلالة، وكان الجواب عنه كالجواب عن حديث ابن عباس، والله أعلم.
الدليل الثالث:
قالوا: لا فرق بين بول الغلام والجارية بعد سن الرضاع، فكيف يفرق بينهما قبله (1) .
وأجيب:
بأن هذا النظر نظر فاسد؛ لأنه في مقابلة النص، فلا يقبل.
دليل من قال بالتفريق بين بول الجارية وبول الغلام.
الدليل الأول:
(1696-224) ما ورواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة،
عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله. ورواه مسلم أيضاً (2) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/94) .
(2) صحيح البخاري (323) ، ومسلم (287) .(13/550)
الدليل الثاني:
(1697-225) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم، فأتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه ولم يغسله. ورواه مسلم (1) .
فهذان الحديثان دليلان على أنه يكفي في بول الصبي النضح، وأن الغسل غير واجب، وأما الأدلة على التفريق بينه وبين الجارية فسوف نذكره في بقية أدلة هذا القول، فمنها.
الدليل الثالث:
(1698-226) ما رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي، حدثني يحيى بن الوليد، حدثني محل بن خليفة،
حدثني أبو السمح، قال: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك، فأوليه قفاي، فأستره به، فأتي بحسن أو حسين رضي الله عنهما، فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام (2) .
[إسناده حسن] (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (6355) ، ومسلم (286) .
(2) سنن أبي داود (376) .
(3) ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي أخرجه النسائي في المجتبى (304) وفي الكبرى (293) ، وابن ماجه (526) ، والطبراني في الكبير (22/384) برقم: 958، والدارقطني (1/130) ، وابن خزيمة (1/143) رقم 283، وأبو نعيم في الحلية (9/62) ، والحاكم (1/166) ، وصححه، والبيهقي (2/415) .
والحديث رجاله كلهم ثقات إلا يحيى بن الوليد، فإنه صدوق،
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، الجرح والتعديل (9/193) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/609) .
وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (11/259) .
وقال الذهبي: صالح. الكاشف (6263) .
وفي التقريب: لا بأس به.
وفي إسناده محل بن خليفة، جاء في ترجمته:
قال يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (8/413) .
وقال أبو حاتم الرازي: صدوق ثقة. المرجع السابق.
ذكره ابن حبان في الثقات (5/453، 454) .
وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (27/290) .
وقال ابن عبد البر في التمهيد (9/112) : حديث المحل الذي ذكر فيه الرش حديث لا تقوم به حجة، والمحل ضعيف.
وقال أيضاً (9/111) رواية من روى الصب على بول الصبي واتباعه الماء أصح وأولى. اهـ
فتعقبه الحافظ في التهذيب (10/54) فقال في ترجمة محل بن خليفة: لم يتابع ابن عبد البر على ذلك. اهـ
وقد تابع عبد الحق الإشبيلي ابن عبد البر كما في البدر المنير (2/303) .
والحق أن الحديث حديث صحيح، ومحل بن خليفة قد وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي، على ما عرف عن هؤلاء الأئمة من التشدد في التوثيق، كما وثقه أيضاً الدارقطني.
وبناء على هذا يكون الحديث حسناً، ولولا يحيى بن الوليد لكان الحديث صحيحاً، وللحديث شواهد سنتعرض لها في ذكر باقي الأدلة إن شاء الله تعالى.
وانظر إتحاف المهرة (17753) ، وقد فات الحافظ أن يعزوه إلى ابن خزيمة ولم يستدركه المحقق، مع أنه على شرط الحافظ، وانظر تحفة الأشراف (12052) .(13/551)
الدليل الرابع:
(1699-227) ما رواه أحمد، قال: حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود الديلي،
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: في الرضيع ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية.
قال قتادة: وهذا ما لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلا جميعاً (1) .
[رفعه هشام الدستوائي، عن قتادة، ورواه غيره عن قتادة موقوفاً على علي، وهو المحفوظ] (2) .
_________
(1) المسند (1/97) .
(2) الحديث مداره على قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن علي، واختلف على قتادة فيه:
فرواه شعبة، وابن أبي عروبة، وهمام، عن قتادة به موقوفاً على علي رضي الله عنه.
ورواه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، واختلف عليه:
فرواه ابنه معاذ وعبد الصمد بن عبد الوراث، عن هشام به، مرفوعاً.
وخالفهم مسلم بن إبراهيم، فرواه عن هشام، عن قتادة، عن ابن أبي الأسود، عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هكذا مرسلاً.
وهذا يدل على أنه هشام لم يضبط الحديث، فرواه مرفوعاً مخالفاً أصحاب قتادة (شعبة وهمام وابن أبي عروبة) ثم رواه مرسلاً مما يدل على عدم ضبطه لهذا الحديث، والله أعلم.
وروي الحديث معضلاً كذلك، علقه ابن المنذر في الأوسط (2/145) من طريق عبدة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن محمد بن علي بن الحسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والراجح من حديث الإمام علي رضي الله عنه أنه موقوف عليه، ورأي الصحابي حجة فيما لم يخالف.
[تخريج الحديث] .
رواية الرفع: أخرجها أحمد (1/97، 137) ، وأبو داود (378) ، والترمذي (610) ، وابن ماجه (525) ، والبزار (717) ، وأبو يعلى في مسنده (307) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/92) ، وابن خزيمة (284) ، وابن حبان (1375) والدارقطني (1/129) ، والحاكم (1/165-166) ، والبيهقي (2/415) من طريق معاذ بن هشام، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود الديلي، عن علي بن أبي طالب به مرفوعاً.
ورواه أحمد (1/76، 137) والدارقطني (1/129) من طريق عبد الصمد بن
عبد الوارث، عن هشام به. مرفوعاً.
ورواه البيهقي (2/415) من طريق مسلم بن إبراهيم، عن هشام، عن قتادة، عن ابن أبي الأسود، عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هكذا مرسلاً.
وأما الموقوف فأخرجه عبد الرزاق (1488) ، وابن أبي شيبة (1/121) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حرب، عن علي موقوفاً. وليس في إسنادهما (أبو الأسود) .
ورواه أبو داود (377) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حرب بن الأسود، عن أبيه، عن علي موقوفاً.
وعلقه البخاري كما في العلل الكبير (38) عن شعبة، عن قتادة به موقوفاً.
وذكره الدارقطني في علله (4/185) عن همام، عن قتادة به موقوفاً.
وأما الرواية المعضلة فقد تم تخريجها في أول الكلام على الحديث.
قال الترمذي: حديث حسن.
وقال الحافظ في التلخيص (1/38) : إسناده صحيح، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي وصله وإرساله، وقد رجح البخاري صحته، وكذا الدارقطني. اهـ
قلت: قال البخاري كما في علل الترمذي (1/42) : سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال: شعبة لا يرفعه، وهشام الدستوائي حافظ، ورواه يحيى القطان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة فلم يرفعه. اهـ
وقال البزار كما في البحر الزخار (2/294-295) : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، بهذا الإسناد، وإنما أسنده معاذ بن هشام، عن أبيه، وقد رواه غير معاذ عن هشام، عن قتادة، عن أبي حرب، عن أبيه، عن علي موقوفاً. اهـ
انظر أطراف المسند (4/492) ، إتحاف المهرة (14353) ، تحفة الأشراف (10131) .(13/553)
الدليل الخامس:
(1700-228) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، قال: حدثنا أيوب، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث،
عن أم الفضل، قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني رأيت في منامي أن في بيتي أو حجرتي عضواً من أعضائك، قال: تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً، فتكفلينه، فولدت فاطمة حسناً، فدفعته إليها، فأرضعته بلبن قثم، وأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً أزوره، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوضعه على صدره، فبال على صدره، فأصاب البول إزاره، فزخخت بيدي على كتفيه، فقال: أوجعت ابني أصلحك الله -أو قال: رحمك الله- فقلت: أعطني إزارك أغسله، فقال: إنما يغسل بول الجارية، ويصب على بول الغلام (1) .
[رجاله كلهم ثقات] (2) .
_________
(1) المسند (6/340) .
(2) الحديث يرويه عن لبابة رضي الله عنها ثلاثة:
عطاء الخرساني، وعبد الله بن الحارث، وقابوس بن أبي المخارق.
أما رواية عطاء الخرساني، فقد أخرجه أحمد (6/339) من طريق حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء الخرساني، عن لبابة أم الفضل، وأشار أحمد أن عطاء الخرساني دلسه عن لبابة، فقال عقبه حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد، قال حميد: كان عطاء يرويه عن أبي عياض، عن لبابة. اهـ
وأبو عياض هذا مجهول.
وأما رواية عبد الله بن الحارث، فأخرجها أحمد (6/340) حدثنا عفان، حدثنا وهيب، قال: حدثنا أيوب، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن لبابة به.
وهذا أحسن إسناد روي فيه هذا الحديث، فإن رجاله كلهم ثقات.
وأما رواية قابوس بن أبي المخارق، فقد رواه ابن أبي شيبة (1/113) رقم 1288، وأحمد (6/339) ، وإسحاق بن راهويه (1/152) وأبو داود (375) ، وابن ماجه (522) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/92) وابن خزيمة (1/143) ، والحاكم (1/271) من طريق سماك بن حرب، عن قابوس بن المخارق، عن أم الفضل لبابة بنت الحارث.
وقد اختلف هل سمعه قابوس من أم الفضل أم سمعه من أبيه، عنها.
فقد أخرجه الطبراني في الكبير (25/26) رقم 41 من طريق أبي مالك الأشجعي، عن سماك بن حرب، عن قابوس الشيباني، عن أبيه، عن أم الفضل.
وأخرجه الطبراني أيضاً (25/25) رقم 38 من طريق علي بن صالح، عن سماك، عن قابوس، عن أبيه عن أم الفضل.
قال ابن دقيق العيد في الإمام (3/401) : " ففي هذه الرواية إثبات الواسطة بين قابوس وأم الفضل، وذلك يقتضي أن رواية أبي الأحوص التي أخرجها أبو داود منقطعة وعبد الملك أبو مالك المتقدم في الإسناد قبله ضعفه الرازيان أبو زرعة وأبو حاتم، وقال يحيى في رواية عباس: ليس بشيء. اهـ
وقال في مصباح الزجاجة (4/157) : هذا إسناد رجاله ثقات إن سلم من الانقطاع، قال المزي في التهذيب والأطراف: روى قابوس عن أبيه، عن أم الفضل.
انظر إتحاف المهرة (23340) ، أطراف المسند (9/461) ، تحفة الأشراف (18055) .(13/555)
الدليل السادس:
(1701-229) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو بكر الحنفي، قال: حدثنا أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب،
عن أم كرز الخزاعية قالت: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بغلام، فبال عليه، فأمر به(13/556)
فنضح، وأتي بجارية فبالت عليه، فأمر به فغسل (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل السابع:
(1702-230) ما رواه أبو داود، من طريق يونس، عن الحسن، عن أمه،
أنها أبصرت أم سلمة تصب الماء على بول الغلام ما لم يطعم فإذا طعم غسلته وكانت تغسل بول الجارية (3) .
[إسناده حسن] (4) .
_________
(1) المسند (6/422، 440) .
(2) وعلته الانقطاع حيث لم يدرك عمرو بن شعيب أم كرز، قاله المزي في تحفة الأشراف (13/100) ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/76) : إسناده منقطع، عمرو ابن شعيب لم يدرك أم كرز. اهـ
والحديث رواه ابن ماجه (527) ، والطبراني في الكبير (25/168) رقم: 408، من طريق أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أم كرز، وعمرو بن شعيب لم يدرك أم كرز.
قال الحافظ في التلخيص (1/38) : فيه انقطاع، وقد اختلف على عمرو بن شعيب، فقيل: عنه، عن أبيه، عن جده، كالجادة، أخرجه الطبراني في الأوسط ". اهـ
قلت: رواية الطبراني في الأوسط (824) من طريق عبد الله بن موسى التيمي، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
أخطأ فيه عبد الله بن موسى التيمي، ولذلك قال البزار: لم يرو هذا الحديث عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده إلا أسامة بن زيد، تفرد به عبد الله بن موسى.
إتحاف المهرة (23668) ، أطراف (9/466) ، تحفة الأشراف (18350) .
(3) سنن أبي داود (379) .
(4) في إسناده أم الحسن، قال الحافظ في التقريب: إنها مقبولة، يعني: في المتابعات، وإلا ففيها لين حيث التفرد، ولعلها أقوى درجة مما ذكر الحافظ، فقد روى لها مسلم حديث: "تقتل عماراً الفئة الباغية "، وحديث: " كنا ننبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سقاء يوكى أعلاه.
وذكرها ابن حبان في ثقاته (4/216) .
وقال ابن حزم: ثقة مشهورة. المحلى (3/127) فإذا اعتبرنا إخراج مسلم حديثها في صحيحه، يجعل حديثها على أقل الأحوال حسناً، فإذا أضفت إلى ذلك توثيق ابن حبان وابن حزم تأكد الاحتجاج بها، والله أعلم.
قال ابن عبد البر (9/111) : أولى وأحسن شيء في هذا الباب ما قالته أم سلمة، قالت: بول الغلام يصب عليه الماء صباً، وبول الجارية يغسل طعمت أو لم تطعم ".اهـ
وصحح إسناده الحافظ في التلخيص (1/38) وهذا ذهول منه عن ما قاله في أم الحسن، فإنه حكم عليها في التقريب بقوله: مقبولة، ولو قال: صحيح لقلت ربما صححه بالمجموع، ولكن حين حكم على إسناده بالصحة فهذا منه توثيق لأم الحسن، فتنبه.
[تخريج الأثر]
الحديث رواه أبو داود كما في حديث الباب، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن (2/416) .
ورواه ابن أبي شيبة (1/114) من طريق الفضل بن دلهم، وقد نزلت إلى سنن أبي داود، وإن كان مصنف ابن أبي شيبة أعلى منه إسناداً، نظراً إلى قوة إسناد أبي داود، فإن الفضل بن دلهم في حفظه شيء، إلا أنه قد زال ذلك في متابعة يونس، كما في إسناد أبي داود.
وأخرجه ابن الجعد في مسنده (3190) من طريق المبارك، عن الحسن، عن أمه به.
وروي مرفوعاً ولا يصح، أخرجه أبو يعلى (6921) عن إسماعيل بن عياش.
ورواه الطبراني في الكبير (23/ رقم 866) ، وفي الأوسط (2742) من طريق عبد الرحيم بن سليمان، كلاهما عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة مرفوعاً.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الحسن، عن أمه إلا إسماعيل، تفرد به عبد الرحيم.
قلت: رواه الطبراني كما تقدم من طريق إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل، فلم يتفرد به عبد الرحيم. وإسماعيل بن مسلم المكي. قال فيه يحيى ين معين: ليس بشيء.
وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه.
وقال أحمد: منكر الحديث.
ورواه أبو يعلى في مسنده أيضاً (6923) حدثنا حوثرة، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بول الغلام يصب عليه الماء صباً ما لم يطعم، وبول الجارية يغسل غسلاً طعمت أو لم تطعم.
قلت: خالف فيه حوثرة، فقد رواه علي بن الجعد في مسنده وسبق ذكرها، عن المبارك ابن فضالة، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة موقوفاً عليها، كما هي رواية ابن أبي شيبة ورواية أبي داود.
كما أن الحسن هنا رواه عن أم سلمة مباشرة، فدلسه، والحديث معروف من رواية الحسن، عن أمه، عن أم سلمة موقوفاً عليها.
وأخرجه البيهقي (2/415) من طريق كثير بن قاروند، أنبأ عبد الله بن حزم، عن معاذة بنت حبيش، عن أم سلمة به مرفوعاً.
ولم أقف على ترجمة لمعاذة بنت حبيش، وكذلك الرواي عنها عبد الله بن حزم.(13/557)
الدليل الثامن:
(1703-231) ما رواه أحمد بن منيع في مسنده، قال: حدثنا ابن علية، ثنا عمارة بن أبي حفصة، عن أبي مجلز، عن حسن بن علي، أو أن حسين بن علي، قال:
حدثتنا امرأة من أهلي، قالت: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستلقياً على ظهره يلاعب صبياً على صدره، إذ بال فقامت لتأخذه، وتضربه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: دعيه، إيتوني بكوز من ماء، فنضح الماء على البول حتى تفايض الماء على البول، فقال - صلى الله عليه وسلم -: هكذا يصنع بالبول، ينضح من الذكر، ويغسل من الأنثى (1) .
[رجاله ثقات إلا أن ابن معين يرى أن رواية أبي مجلز عن الحسن مرسلة] (2) .
اعتراض وجواب:
_________
(1) المطالب العالية (13) .
(2) انظر التهذيب (11/172) .(13/559)
اعترض الحنفية على هذا الاستدلال بقولهم: إن النضح الوارد في الحديث المقصود به الغسل، فإن النضح قد يطلق على الغسل.
(1704-232) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: عن علي بن أبي طالب أرسلنا المقداد بن الأسود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، وانضح فرجك (1) .
وقد رواه البخاري بلفظ: توضأ، واغسل ذكرك (2) .
وفي رواية لمسلم: " يغسل ذكره ويتوضأ " (3) .
فأطلق النضح على الغسل.
وأجيب:
لا إشكال في إطلاق النضح على الغسل وعلى الرش، وهو مشترك بينهما، وإذا جاءت قرينة تعين أن المراد من النضح الرش تعين، وامتنع حمله على الغسل، فلما قال في الحديث: ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية، امتنع حمل النضح على الغسل، ولو حملنا على الغسل كان كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التفريق بين بول الغلام والجارية لغواً لا فائدة منه.
قال ابن دقيق العيد: " ورد في بعض الأحاديث التفرقة بين بول الصبي والصبية، فإن الموجبين للغسل لا يفرقون بينهما، ولما فرق في الحديث بين النضح في الصبي والغسل في الصبية كان ذلك قوياً في النضح غير الغسل" (4) .
_________
(1) مسلم (303) .
(2) البخاري (269) .
(3) مسلم (303) .
(4) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/80- 81) .(13/560)
دليل من قال يكفي النضح فيهما:
قالوا: إن حكمهما بعد أن يطعما واحد وهو الغسل، فكذلك حكمهما قبل أن يطعما واحد وهو الاكتفاء بالرش، وهذا القول من أضعف ما قيل في المسألة، فلم يأخذ بالعموم في وجوب غسل الأبوال كلها من غير فرق بين بول الصبي والجارية، ولم يأخذ بأحاديث الباب في استثناء بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، فأخذ ببعض الأحاديث الواردة في الغلام قبل أن يطعم، وألغى نص هذه الأحاديث في التفريق بين الغلام والجارية.
دليل ابن حزم على التفريق بين بول الذكر مطلقاً وبول الأنثى.
لعله نظر إلى ظاهر الأحاديث، فوجد أن التفريق بين الغلام والجارية ثابت، والغلام في اللغة العربية الأصل فيه أنه يطلق على الصغير طعم أو لم يطعم، وقال الأزهري: سمعت العرب تقول للمولود حين يولد ذكراً غلام، وسمعتهم يقولون للكهل: غلام، وهو فاش في كلامهم (1) . اهـ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالأحاديث المرفوعة لم تذكر قيد الإطعام.
فهذا حديث أبي السمح قال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام.
وحديث أم الفضل: إنما يغسل بول الجارية، ويصب على بول الغلام.
فعموم الأحاديث القولية لم تشترط الإطعام.
والأحاديث التي اشترطت عدم الإطعام إما موقوفة كما في أثر علي رضي الله عنه، وأثر أم سلمة، وابن حزم لا يحتج بقول الصحابي، وإما ضعيفة، وإما حكاية فعل لم يقصد فيها التقييد، كما في حديث أم قيس بنت
_________
(1) مختار الصحاح (ص: 234) .(13/561)
محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فهذا بيان واقع، ولم يقصد تقييد الحكم الشرعي فيها، ولهذا ذهب ابن حزم إلى التفريق بين بول الذكر وبين بول الأنثى، فالذكر صغيراً كان أو كبيراً ينضح بوله، والأنثى يغسل.
ويجاب على ابن حزم.
أولاً: فهم الصحابة رضوان الله عليهم بأن المقصود بالغلام الذي لم يطعم حجة على فهم غيرهم، نظراً لقربهم من الوحي، وملازمتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهم أعلم الناس بمراد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: عندنا أحاديث عامة في وجوب التنزه من البول، ووجوب غسله، كحديث ابن عباس، وحديث بول الأعرابي في المسجد، وهو متفق عليه، وعندنا أحاديث تستثني من ذلك بول الصبي الذي لم يطعم، فيكفي في طهارته النضح، فيبقى الحكم خاصاً بها، ويبقي ما عداه على وجوب غسله، والخاص دائماً مقدم على العام، والله أعلم.(13/562)
المبحث الثاني
في تطهير المذي يصيب الثوب
علمنا كيفية تطهير المذي من البدن، وتبين أن الجمهور يرون وجوب غسله بالماء، على خلاف بينهم، هل يجب غسل رأس الحشفة من الذكر، أو يجب غسل الذكر كله، أو يجب غسل الذكر مع الأنثيين، واختلف العلماء في المذي يصيب الثوب،
فقيل: لا بد من غسله، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، وقول في مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: يكفي فيه النضح، وهو رواية عن أحمد، وأحد القولين للإمام إسحاق (5) ، ورجحه ابن تيمية، وابن القيم (6) .
دليل من قال: يجب غسل المذي:
(1705-233) ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن منذر بن يعلى ويكنى أبا يعلى، عن ابن الحنفية،
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/48) ، شرح فتح القدير (1/72) ، المبسوط (1/67) .
(2) مواهب الجليل (1/285) ، الخرشي (1/149) ، حاشية الدسوقي (1/112) ، فتح البر بترتيب التمهيد (3/323) .
(3) المجموع (2/164) ، روضة الطالبين (1/67) ، مغني المحتاج (1/79) .
(4) الكافي في فقه أحمد (1/56) ، الإنصاف (1/330) .
(5) سنن الترمذي (ح 115) .
(6) تهذيب السنن (1/148-149) ، إعلام الموقعين (4/277-278) ، بدائع الفوائد (3/119-120) و (4/88) .(13/563)
عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود، فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ. ورواه البخاري بنحوه (1) .
والثوب مقيس على البدن، فإذا كان البدن يجب غسل المذي منه، فكذلك يجب في الثوب، والله أعلم.
دليل من قال: يكفي فيه النضح.
(1706-234) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، عن سعيد بن السباق، عن أبيه،
عن سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الغسل منه، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما يكفيك من ذلك الوضوء. قال: قلت: يا رسول الله فكيف ما يصيب ثوبي؟ قال: إنما يكفيك كف ماء تنضح به من ثوبك حيث ترى أنه أصاب (2) .
[سبق تخريجه] (3) .
وأجيب عن ذلك:
بأن المراد بالنضح هو الغسل؛ لأن النضح لفظ مشترك بين الغسل وبين الرش، وإذا كان يجب غسل المذي من الذكر، وتَعَرُض الذكر للمذي أكثر من تعرض الثياب؛ لأنه يخرج أصلاً منه، ومع ذلك نص على غسله، فكذلك الثوب يجب فيه الغسل، لأن البلوى بالبدن أكثر منه بالثوب.
_________
(1) صحيح مسلم (303) ، وصحيح البخاري (269) .
(2) المصنف (7/320)
(3) في نجاسة المذي، رقم (1559) .(13/564)
والدليل على أن النضح يراد به الغسل:
(1707-235) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: عن علي بن أبي طالب أرسلنا المقداد بن الأسود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، وانضح فرجك (1) .
وقد رواه البخاري بلفظ: توضأ، واغسل ذكرك (2) .
وفي رواية لمسلم: " يغسل ذكره ويتوضأ " (3) .
فأطلق النضح على الغسل.
(1708-236) وروى البخاري من طريق هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت:
أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (4) .
قال الحافظ: (تنضحه) قال الخطابي: أي تغسله.
وقال القرطبي: المراد به الرش؛ لأن غسل الدم استفيد من قوله:"تقرصه بالماء ". وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب.
قال الحافظ: فعلى هذا فالضمير في قوله: تنضحه يعود على الثوب، بخلاف تحته فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل، ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئاً؛ لأنه إن كان
_________
(1) مسلم (303) .
(2) البخاري (269) .
(3) مسلم (303) .
(4) البخاري (227) ، ومسلم (291) .(13/565)
طاهراً فلا حاجة إليه، وإن كان متنجساً لم يطهر بذلك، فالأحسن ما قاله الخطابي (1) .
وقال ابن الأثير: قد يَرِد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (2) .
(1709-237) قلت: الحديث قد رواه مسلم من طريق الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، قال:
كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه (3) .
قال السيوطي في شرحه للحديث: ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (4) .
الراجح:
أن المذي يجب غسله، سواء كان على الثوب أو على البدن، ويكفي في غسله كف من ماء؛ لأن المذي عادة يكون يسيراً، فيكفيه الماء اليسير، ولفظ النضح مع كونه يراد به الغسل في اللغة، فهو من مفردات محمد بن إسحاق، فإن حملنا النضح على الغسل حسنا حديثه، حيث لم ينفرد بوجوب الغسل،
_________
(1) الفتح بتصرف يسير (1/439) .
(2) النهاية في غريب الحديث (5/70) .
(3) رواه مسلم (1972) ، وهو في الصحيحين إلا أنه بلفظ: " وهو يمسح الدم عن وجه".
(4) الديباج (4/402) .(13/566)
فحديث علي في الصحيحين نص في وجوب الغسل، وإن حملنا النضح على الرش ضعفنا حديث محمد بن إسحاق؛ لأن الحديث إذا كان أصلاً في الباب، فلا نقبل ما ينفرد به الصدوق، وهذه قاعدة مهمة يغفل عنها بعض المتأخرين ممن له عناية بالتصحيح والتضعيف، وقد نبه عليها ابن رجب في كتابه العظيم شرح علل الترمذي، والله أعلم.(13/567)
[صفحة فارغة](13/568)
الفصل الثالث
في كيفية تطهير النجاسة بغير الماء
المبحث الأول
في التطهير بالمسح
الفرع الأول
في تطهير الأشياء الصقيلة كالسيف والمرآة والسكين بالمسح
اختلف العلماء في تطهير الأشياء الصقيلة هل تطهر بالمسح، أم لا بد من غسلها؟
فقيل: يطهرها المسح مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يعفى عن الشيء الصقيل من دم مباح إن خشي عليه الفساد، وهل يعفى عنه بدون مسح، أو بعد المسح؟ قولان في مذهب المالكية والمعتمد الأول (2) .
_________
(1) البحر الرائق (1/236) ، بدائع الصنائع (1/85) ، تبيين الحقائق (1/72) ، البناية على الهداية (1/728) .
(2) فقوله: يعفى عن الشيء الصقيل: معنى ذلك أن طهارته حكمية، وإلا فالمحل نجس، إذ لو كان طاهراً لما احتاج إلى العفو عنه، وقوله: إن خشي عليه الفساد بالغسل، هذا شرط العفو، فإن لم يخش عليه من الفساد تعين الغسل.
وسواء مسحه من الدم أم لا على المعتمد: أي خلافاً لمن علله بانتفاء النجاسة بالمسح، قال عيسى في روايته عن ابن القاسم، عن مالك: مسحه من الدم أو لم يمسحه.
وقيل: إن العفو بشرط المسح، نقله الباجي عن مالك، وقال ابن رشد: إنه قول الأبهري.
وفهم من قوله: من دم مباح: أن العفو خاص بالدم، وهو المفهوم من أكثر عباراتهم، ومقتضى كلام ابن العربي عدم التخصيص. وقال في التوضيح: أكثر أمثلتهم في السيف إنما هو في الدم، فيحتمل أن لا يقصر الحكم عليه، ويحتمل القصر؛ لأنه الغالب من النجاسات الواصلة إليه. انظر مواهب الجليل (1/156) ، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/77) ، الخرشي (1/112) ، القوانين الفقهية (ص: 28) .(13/569)
وقيل: لا يطهر المسح مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
دليل من قال: المسح مطهر للأشياء الصقيلة.
الدليل الأول:
أن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقاتلون الكفار بسيوفهم، فيصيبها الدم، ومع ذلك يصلون، وهي معهم حاملون لها، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرهم بغسلها، ولو كان غسلها واجباً لأمرهم به - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل الثاني:
أن الأجسام الصقيلة ليس فيها مسام فلا تدخلها النجاسة، فإذا مسحت رجعت كما كانت قبل إصابتها للنجاسة، وهذا هو المطلوب في الطهارة.
الدليل الثالث:
أن النجاسة عين خبيثة، فمتى زالت فقد زال حكمها.
_________
(1) مغني المحتاج (1/85) ،
(2) المبدع (1/323) ، الإنصاف (1/322) .(13/570)
دليل من قال: لا بد من غسلها.
يرى أصحاب هذا القول أن النجاسة لا تزال إلا بالماء المطلق، وقد نوقشت أدلته مع بيان الجواب عليها في بحث مستقل تحت عنوان: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ فارجع إليه غير مأمور.(13/571)
[صفحة فارغة](13/572)
الفرع الثاني
في مسح البول والغائط بالحجارة
اختلف العلماء في جواز الاستجمار بالحجارة:
فقيل: يجوز الاستجمار بالحجارة، ولو مع وجود الماء والقدرة عليه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) ،
مع أن الحجر قد لا ينقي المحل، فلا بد أن يبقى به أثر لا يزيله إلا الماء، وهذا من تيسير الشريعة، ومن التخفيف الذي وضعه الله سبحانه وتعالى عن عباده، خاصة أن الإنسان قد يحتاج إلى قضاء حاجته في مكان لا يوجد فيه ماء، فكان من سعة الله على عباده أن يسر لهم إزالتها بأي مزيل من أجحار ونحوها.
وقيل: لا يجوز الاستجمار بالحجارة إلا لمن عدم الماء، وادَّعى أن العمل بالاستجمار قد ترك العمل به، اختاره ابن حبيب من المالكية (2) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/336) ، البحر الرائق (1/253) ، حاشية الطحطاوي (ص: 31) ، الفتاوى الهندية (1/48) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/48) .
وانظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/286) ، القوانين الفقهية (ص: 29) ، شرح الزرقاني (1/93) ، التاج والإكليل (1/286) ، الشرح الكبير (1/113) ، مختصر خليل (ص: 15) .
وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/22) المهذب (1/27) ، الإقناع للشربيني (1/53) ، روضة الطالبين (1/65) ، المجموع (2/119) .
وانظر في الفقه الحنبلي: الفروع (1/89) ، الإنصاف (1/109) ، المبدع (1/91) ، المحرر (1/10) ، عمدة الفقه (ص: 6) ، الكافي (1/52) .
(2) قال ابن رشد في البيان والتحصيل (17/485) : قال ابن حبيب: لا نبيح اليوم الاستنجاء -يعني: بالحجارة- إلا لمن عدم الماء؛ لأنه أمر قد ترك، وجرى العمل بخلافه، على ما قاله ابن هرمز. اهـ
وقال القرطبي في المفهم (1/520) : وقد شذ ابن حبيب من أصحابنا، فقال: لا يجوز استعمال الأحجار مع وجود الماء، وهذا ليس بشيء؛ إذ قد صح في البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل الحجارة مع وجود الماء في الإداوة مع أبي هريرة يتبعه بها. اهـ(13/573)
وقد سبق ذكرنا أدلة كل قول، ومناقشتها وتبين أن الراجح منها جواز استعمال الحجارة في إزالة النجاسة، بل تجوز بكل مزيل، سواء كان مائعاً أو جامداً، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً (1) .
_________
(1) انظر المسألة في كتاب أحكام الطهارة (آداب الخلاء) ص: 375.(13/574)
الفرع الثالث
في إزالة النجاسة بالمسح وهل هو مطهر حقيقة أو حكماً
معلوم أن الاستجمار - وهو إزالة للنجاسة بالمسح - يبقى بعده أثر لا يزيله إلا الماء، فهل الاستجمار والحالة هذه مطهر، أو أن المحل ييقى نجساً معفواً عنه، في هذا اختلف العلماء.
فقيل: طهارة الاستجمار طهارة حكمية، أي يبيح للمسلم فعل الصلاة، وليس رافعاً للنجاسة، فالمحل نجس معفو عنه.
وهذا مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، وقول في مذهب الحنفية (3) ، الحنابلة (4) .
وقيل: الاستجمار طهارته طهارة حقيقية، وهو القول الثاني في مذهب الحنفية (5) ، والحنابلة (6) .
_________
(1) مواهب الجليل (1/45) ، حاشية الدسوقي (1/111) .
(2) حاشيتا قليوبي وعميرة (1/208) ، تحفة المحتاج (2/128) ، الأشباه والنظائر (ص: 84) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/337) ، تبيين الحقائق (1/72) ، البحر الرائق (1/238) .
(4) المغني (1/411) . وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه. اهـ
(5) حاشية ابن عابدين (1/337) .
(6) الإنصاف (1/109) ، وقال ابن قدامة في المغني (1/411) : واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه.
ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه. اهـ(13/575)
الدليل على أن الاستنجاء مطهر.
(1710-238) ما رواه الدارقطني، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، نا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي،
عن أبي هريرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجى بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يطهران (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
وجه الاستدلال:
قوله: عن العظم والروث إنهما لا يطهران، معنى ذلك أن غيرهما مطهر مما يزيل النجاسة من حجر ونحوه، والله أعلم.
الدليل الثاني:
أن النجاسة تزال بأي مزيل، ولا يتعين الماء في إزالتها، فكيف زالت زال حكمها، وقد نوقشت هذه المسألة في باب مستقل، فإذا استنجى الإنسان، وأزال عين النجاسة فقد طهر المحل، والدليل على أن الماء لا يتعين في إزالة النجاسة: أحاديث كثيرة في تطهير ذيل المرأة بالتراب (3) ، وتطهير النعل بدلكه في التراب (4) ، فإذا كانت النعل تطهر بالتراب، وكان التراب لها طهوراً، وكان
_________
(1) سنن الدراقطني (1/56) .
(2) انظر تخريجه في كتاب أحكام الطهارة: آداب الخلاء رقم: 315.
(3) سبق تخريجه في كتابي آداب الخلاء، رقم (394) ، وهو جزء من هذه السلسلة.
(4) سبق تخريجه في كتابي آداب الخلاء، رقم (395) ، وهو جزء من هذه السلسلة.(13/576)
ذيل المرأة يطهره ما بعده من التراب الطيب، وكان الريق ربما طهر الثوب يصيبه شيء من دم الحيض (1) ، فكذلك مكان البول والغائط يطهره الأحجار ونحوها، والله أعلم.
دليل من قال: إن الاستجمار غير مطهر.
قالوا: إن الأصل في إزالة النجاسة هو الماء - وقد ذكرنا الأدلة على هذا في مسألة مستقلة: تحت عنوان: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة - ولكن لما كان البول والغائط يتكرران، وقد ينزلان بالإنسان وليس معه ماء خفف عنه في إزالتها، فاكتفي بالأحجار ونحوها عن الماء، ومعلوم أن الحجر لا يزيل النجاسة بالكلية، بل يبقى معه أثر لا يزيله إلا الماء، فهذا دليل على أن المحل نجس لبقاء جزء من النجاسة على المحل، وقد حكي الإجماع على أنه معفو عنه. قال ابن قدامة: وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع:
أحدها: محل الاستنجاء، فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه (2) .
وكونه معفواً عنه دليل على أن الطهارة حكمية وليست حقيقية.
الراجح من أقوال أهل العلم:
أن الاستجمار مطهر، وتطهير كل نجاسة بحسبها، فتطهير مكان البول
_________
(1) روى البخاري (312) ، عن عائشة قالت: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قال بريقها فقصعته بظفرها.
(2) المغني (1/411) .(13/577)
والغائط يكون بالحجارة، وذلك أن يرجع الحجر نظيفاً لا شيء عليه من النجاسة، وتطهير ذيل المرأة بمروره على تراب طاهر، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: يطهره ما بعده، وتطهير النعل بدلكها في التراب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: فإن التراب له طهور، ولا معنى لكلمة يطهره إلا أنه الطهارة الشرعية، وأما من حمله على الطهارة اللغوية - وهو النظافة - فلم يكن مصيباً؛ لأننا لا نحمله على الحقيقة اللغوية إلا إذا تعذر حمله على الحقيقة الشرعية، وهو هنا لم يتعذر، وقد سبق في بحث مستقل طهارة النعلين وذيل المرأة وذكر هناك خلاف العلماء فيهما، ورجحنا طهارتهما طهارة شرعية بما أرشد إليه الشارع من دلك النعل ومرور ذيل المرأة على مكان طاهر، والله أعلم.(13/578)
الفرع الرابع
في وجوب تكرار المسح في إزالة النجاسة
علمنا عند الكلام على كيفية التطهير بالماء: خلاف العلماء في وجوب العدد في إزالة النجاسة، وفي هذه المسألة نبحث وجوب العدد في التطهير بالمسح، فقد اختلف العلماء في وجوب العدد في إزالة النجاسة بالحجارة،
فقيل: لا يجب العدد، بل المعتبر الإنقاء، فكيف حصل أجزأ، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) .
وقيل: لا بد من ثلاثة أحجار، فأكثر، وهو مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، واختيار ابن حزم (5) .
وقد ذكرت أدلة كل قول مع الراجح في كتاب أحكام الطهارة آداب الخلاء فأغنى عن إعادته هنا (6) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/121) وما بعدها، بدائع الصنائع (1/19) ، تبيين الحقائق (1/76،77) ، البحر الرائق (1/253) .
(2) المنتقى (1/68) ، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/72) ، التاج والإكليل (1/270) ، التمهيد (11/17) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 17) ، مواهب الجليل (1/290) ، بداية المجتهد (1/62) .
(3) الأم (1/22) ، المجموع (2/120) ، المهذب (1/27) ، الإقناع للشربيني (1/54) ، شرح زبد بن رسلان (ص: 52) ، مغني المحتاج (1/45) .
(4) المغني (1/102) ، الفتاوى الكبرى (1/339،340) ، المبدع (1/94) ، مختصر الخرقي (ص: 17) ، منار السبيل (1/23) ، الكافي (1/52) ، كشاف القناع (1/69) ، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/211) .
(5) المحلى (1/108) ،
(6) انظر المناقشة في خمس عشرة صفحة (من ص:369 إلى ص:383) من الكتاب المذكور.(13/579)
[صفحة فارغة](13/580)
المبحث الثاني
في التطهير بالدلك
اختلف العلماء في التطهير بالدلك إلى أقوال:
الأول: مذهب الحنفية:
ذهب الحنفية إلى أن الدلك مطهر للنعل والخفاف خاصة، فلا يطهر بالدلك البدن مطلقاً، ولا يطهر الثوب بالدلك إلا في المني خاصة، ويشترطون أن تكون النجاسة لها جرم، فإن كانت بولاً لم يطهرها الدلك، ولا بد من الغسل، وهل يشترط في الجرم أن يكون جافاً؟.
فيه قولان: أحدهما قول أبي حنيفة حيث ذهب إلى اشتراط أن يكون جرم النجاسة جافاً، فإن كان رطباً تعين الغسل.
وذهب أبو يوسف إلى عدم اشتراط الجفاف (1) .
القول الثاني: مذهب المالكية: التفريق بين ذيل المرأة والنعل.
فإذا أصاب الذيل نجاسة فإنه لا يطهرها إلا الماء، وحمل حديث أم سلمة على القشب اليابس يعلق بالثوب ثم ينظفه ما بعده، وليس هذا من باب تطهير النجاسة، وإنما هو من باب التنظيف (2) .
_________
(1) البحر الرائق (1/234) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 108) ، شرح فتح القدير (1/195) .
(2) قال ابن عبد البر في التمهيد، قال: (13/105) اختلف الفقهاء في طهارة الذيل على المعنى المذكور في هذا الحديث: فقال مالك: معناه في القشب اليابس والقذر الجاف الذي لا يتعلق منه بالثوب شيء، فإذا كان هكذا كان ما بعده من المواضع الطاهرة حينئذ تطهيراً له، وهذا عنده ليس تطهيراً من نجاسة؛ لأن النجاسة عنده لا يطهرها إلا الماء، وإنما هو تنظيف؛ لأن القشب اليابس ليس بنجس ما مسه، ألا ترى أن المسلمين مجمعون على أن ما سفت الريح من يابس القشب والعذرات التي قد صارت غباراً على ثياب الناس ووجوههم لا يراعون ذلك، ولا يأمرون بغسله ولا يغسلونه، لأنه يابس، وإنما النجاسة الواجب غسلها ما لصق منها، وتعلق بالثوب وبالبدن. فعلى هذا المحمل حمل مالك وأصحابه حديث طهارة ذيل المرأة، وأصلهم: أن النجاسة لا يزيلها إلا الماء، وهو قول زفر بن الهذيل والشافعي وأصحابه وأحمد وغيره.(13/581)
وأما في النعل والخفاف فإن الدلك يطهر النعل من أرواث الدواب وأبوالها فقط يابسة كانت أو رطبة، فإن كانت النجاسة من غير أرواث الدواب وأبوالها، فإنه لا يعفى عنه، ولا بد من غسله (1) .
وهل الدلك في هذه الحالة مطهر أو يقال: إنه معفو عنه للمشقة، رجح ابن جزي الأول، ورجح خليل في مختصره وشراحه الثاني (2) .
_________
(1) قال في مواهب الجليل (1/152) : إذا كانت النجاسة يابسة فمعفو عن الذيل الواصل إليها، وفي الرطبة قولان: المشهور لا يعفى، والثاني: أنه يعفى.
وقال في (1/153) : ويعفى عن أثر ما يصيب الخف، وعما يصيب النعل من أرواث الدواب وأبوالها، ولو كانت رطبة، كما قاله في المدونة، بشرط أن يدلك ذلك، فإذا دلكه جاز جاز له أن يصلي بذلك الخف والنعل، والعلة في ذلك المشقة، وهو الذي ارتضاه ابن الحاجب.
وبعضهم ساوى بين الذيل والخف، فقال يعفى عنهما ولو كانت النجاسة رطبة، وخرج حكم ذيل المرأة على كلام مالك في الخف.
قال في مواهب الجليل (1/152) : الأشبه أن ذلك فيما لا تنفك منه الطرقات من أرواث الدواب وأبوالها، وإن كانت رطبة، فإن ذلك لا ينجس ذيلها للضرورة، كما قال مالك في الخف. قال سند: ولعمري إن تخريج ذلك على الخف حسن؛ لأن غسل الثوب كل وقت فيه حرج ومشقة، ربما كانت فوق مشقة غسل الخف، فإن الخف يغسله وينزعه وينشف، والثوب إن تركه عليه مبلولاً فمشقة إلى مشقة، وإن نزعه فليس كل أحد يجد ثوباً آخر يلبسه. قال الحطاب تعليقاً: وما قالاه ظاهر، لكنه خلاف مذهب المدونة.
وقال في حاشية الدسوقي (1/75) : وحاصله أن الخف إذا أصابه شيء من النجاسات غير أورواث الدواب وأبوالها كخرء الكلاب أو فضلة الآدمي أو أصابه دم فإنه لا يعفى عنه كما مر، ولا بد من غسله. اهـ
(2) القوانين الفقهية (ص: 28) ، وانظر حاشية الدسوقي (1/74) ، مواهب الجليل (1/152، 153) .(13/582)
القول الثالث: مذهب الشافعية:
يجب غسل ذيل المرأة وأسفل الخف مطلقاً، وهو قول الشافعي في الجديد (1) ،
والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
_________
(1) قال الشيرازي في المهذب المطبوع مع المجموع (2/619) : فإن أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه على الأرض نظرت، فإن كانت نجاسة رطبة لم يجزه , وإن كانت يابسة فقولان: قال في الجديد: لا يجوز حتى يغسله ; لأنه ملبوس نجس، فلا يجزئ فيه المسح كالثوب. وقال في الإملاء والقديم: يجوز.
وقال النووي في شرحه لهذا النص: قال الرافعي: إذا قلنا بالقديم وهو العفو فله شروط:
أحدها: أن يكون للنجاسة جرم يلتصق بالخف , أما البول ونحوه فلا يكفي دلكه بحال.
الثاني: أن يدلكه في حال الجفاف, وأما ما دام رطباً فلا يكفي دلكه قطعاً.
الثالث: أن يكون حصول النجاسة بالمشي من غير تعمد, فلو تعمد تلطيخ الخف بها وجب الغسل قطعاً, والقولان جاريان فيما لو أصاب أسفل الخف وأطرافه من طين الشوارع المتيقن نجاسته الكثير الذي لا يعفى عنه, وسائر النجاسات الغالبة في الطرق كالروث وغيره، واعلم أن الغزالي وصاحبه محمد بن يحيى جزما بالعفو عن النجاسة الباقية على أسفل الخف, وهذا شاذ مردود والله أعلم.
وقال النووي في المجموع أيضاً (1/144) : إن المراد بالقذر (يعني في حديث أم سلمة في طهارة ذيل المرأة) نجاسة يابسة , ومعنى يطهره ما بعده، أنه إذا انجر على ما بعده من الأرض ذهب ما علق به من اليابس, هكذا أجاب أصحابنا وغيرهم , قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: ويدل على هذا التأويل الإجماع أنها لو جرت ثوبها على نجاسة رطبة فأصابته لم يطهر بالجر على مكان طاهر, وكذا نقل الإجماع في هذا أبو سليمان الخطابي, ونقل الخطابي هذا التأويل عن آباء عبد الله مالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله - وأما حديث أبي سعيد (يعني في طهارة النعل بالدلك) فلنا في المسألة قولان: القديم: أن مسح أسفل الخف الذي لصقت به نجاسة كاف في جواز الصلاة فيه, مع أنه نجس عفي عنه, والجديد: أنه ليس بكاف. اهـ
(2) قال صاحب الإنصاف (1/323) : وإذا تنجس أسفل الخف أو الحذاء وجب غسله، هذا المذهب وعليه الجمهور، قال في الفروع: نقله، واختاره الأكثر. ثم قال:
وعنه يجزئ دلكه بالأرض، قال في الفروع: وهي أظهر، واختاره جماعة منهم ابن قدامة والمجد وابن عبدوس والشيخ تقي الدين. الخ ثم قال: وحمل القاضي الروايات على ما إذا كانت النجاسة يابسة، وقال: إذا دلكها وهي رطبة لم يجزه رواية واحدة، ورده الأصحاب، وأطلق ابن تميم في إلحاق الرطبة باليابسة الوجهين. ثم قال:
وعلى القول بأنه يجزئ الدلك لا يطهره، بل هو معفو عنه على الصحيح من المذهب، قال المجد في شرحه: وهذا هو الصحيح.
وقال أيضاً (1/324) : مفهوم كلام المصنف أنه إذا تنجس غير الخف والحذاء أنه لا يجزئ الدلك رواية واحدة، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب، وأحد الوجهين في ذيل المرأة.
والوجه الثاني: يطهر بمروره على طاهر بذيلها، اختاره الشيخ تقي الدين. اهـ وانظر المغني (1/411) .(13/583)
وفي القديم للشافعي: التفريق بين ذيل المرأة والخف، فيغسل الأول ويعفى عن نجاسة تصيب أسف النعل بعد دلكها وهي يابسة (1) .
فتلخص لنا من هذا الخلاف أقوال:
الأول: أن الدلك يطهر مطلقاً، في الرطب واليابس، في نعل المرأة وفي ذيلها.
الثاني: أن الدلك لا يطهر مطلقاً.
الثالث: أن الدلك يطهر النجاسة الجافة دون الرطبة.
الرابع: أن الدلك يطهر الخف والنعل فقط دون ذيل المرأة. وبعض هذه الأقوال ذكرناها في الحاشية، ولم نذكرها في المتن؛ لأنها أقوال في بعض
_________
(1) ومذهب الشافعي في القديم قريب من مذهب المالكية، والفرق بينهما أن المالكية يشترطون في طهارة النعل بالدلك: أن تكون النجاسة من أرواث الإبل وأبوالها، وأما الشافعية فلا يقيدونها بذلك.(13/584)
المذاهب ليست مشهورة، فلينتبه لهذا.
وأما أدلة هذه المسألة فهي ترجع إلى مسألة بحثناها في فصل مستقل: وهي: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة، أو أن النجاسة تزال بأي مزيل كان؟
فمن رأى أن النجاسة لا يزيلها إلا الماء المطلق منع إزالة النجاسة بالدلك، وأجاب عن حديث ذيل المرأة بما نقله ابن عبد البر في التمهيد، بأن المقصود به النجاسة اليابسة التي تعلق بالثوب، وهي نجاسة لا تتعدى، فالفرك يسقط النجاسة، والمحل لم يتنجس أصلاً، وقد نقلنا كلامه عند عرض الأقوال.
واعترض على هذا التفسير: بأن القشب اليابس لا يعلق بالثوب، وأي شيء يبقى حتى يقول - صلى الله عليه وسلم -: يطهره ما بعده.
وأجيب: بأن القشب قد يكون له غبار يعلق بالثوب، فإذا مر على ما بعده طهره (1) .
أو يقال: المراد يطهره الطهارة اللغوية، وليست الطهارة الشرعية (2) .
وهذا الجواب ليس بسديد؛ لأن غبار النجاسة ليس بنجس، ولم يقم دليل على أن الغبار منه ما هو طاهر ومنه ما هو نجس.
وأما حمل اللفظ على الطهارة اللغوية: أي النظافة، فالطهارة إذا جاءت من الشارع فهي على حقيقتها الشرعية، فالأصل في كلام الشارع حمله على الحقيقة الشرعية حتى يمنع من ذلك مانع، ولم يوجد مانع يمنع من ذلك.
ومن أجاز إزالة النجاسة بأي مزيل قالع للنجاسة أجاز إزالة النجاسة بالدلك.
_________
(1) مواهب الجليل (1/152) .
(2) حاشية الدسوقي (1/75) .(13/585)
ومن اشترط أن تكون النجاسة يابسة: رأى أن هناك إجماعاً أن النجاسة الرطبة على الخف لا يكفي في تطهيرها الدلك، كما نقله النووي عن الخطابي ونقلناه عن النووي (1) ،
والحقيقة أن المسألة ليس فيها إجماع، والأحاديث مطلقة، تشمل الرطب واليابس، بل إن الحديث نص في الرطب.
(1711-239) فقد روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير ـ يعنى ابن معاوية ـ ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت:
يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى قال: فهذه بهذه (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) وكلام الخطابي موجود في معالم السنن، حيث يقول (1/102) : وقال مالك: إن الأرض يطهر بعضها بعضاً، إنما هو أن يطأ الأرض القذرة، ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة، فإن بعضها يطهر بعضاً، فأما النجاسة مثل البول ونحوه يصيب الثوب أو بعض الجسد فإن ذلك لا يطهره إلا الغسل، قال: وهذا إجماع الأمة. اهـ
قلت: على التنزل بأن كلام الخطابي صحيح في أن الأرض النظيفة تطهر الأرض النجسة، فإذا أمكن تطهير نجاسة الأرض بالتراب، أمكن تطهير سائر النجاسات بالقياس. وأما قوله: إن النجاسة مثل البول تصيب الثوب أو البدن لا يطهرها إلا الغسل، فماذا يقول في الاستجمار، فإن الحجارة تطهر البول، وهو على البدن، فهذا كاف في خرق الإجماع المنقول، والله أعلم.
(2) المسند (6/435) .
(3) سبق تخريجه، في كتاب آداب الخلاء، رقم (394) ، والجهالة بالصحابية لاتضر. وله شاهد من حديث أم سلمة.(13/586)
ومن قيد النجاسة بأن تكون في أرواث الدواب وأبوالها خاصة نظر إلى أن هذا النوع من النجاسة يشق الاحتراز منه، ويكثر في الطرقات فعفي عنها، وخفف في طهارتها بخلاف غيرها من النجاسات.
وما سبق ترجيحه هناك بأن النجاسة أياً كانت تزال بأي مزيل فهو الراجح هنا، والله أعلم.(13/587)
[صفحة فارغة](13/588)
المبحث الثالث
التطهير بالجفاف
إذا أصابت النجاسة أرضاً، فتركت حتى جفت، إما بفعل الشمس أو بفعل الريح أو بغيرهما، فذهبت عين النجاسة ولونها وريحها، فهل هذا كاف في طهارتها، أو لا بد من غسل النجاسة؟
فقيل: إن الجفاف يطهر الأرض في حق الصلاة فقط، ولا يجوز التيمم بها، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: لا تطهر الأرض بالجفاف، بل لا بد من غسلها، وهذا مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، واختيار زفر من الحنفية (5) .
_________
(1) البحر الرائق (1/237) ، بدائع الصنائع (1/859، البناية على الهداية (1/728) .
وفرق الحنفية بين الصلاة والتيمم، بوجوه منها:
الأول: يشترط في التيمم أن يكون التراب طاهراً، وطهوراً، فإذا أصابت الأرض نجاسة فقد الوصفان معاً، فإذا ذهبت النجاسة بالجفاف فقد أصبح التراب طاهراً، ولم تثبت طهوريته، وحتى يتيمم به لا بد من ثبوت الوصفين معاً.
الثاني: طهارة التراب وطهوريته ثبتت شرطاً بنص قطعي، وهو الكتاب العزيز، فلا ينسخ بخبر الواحد الظني!!
الوجه الثالث: الطهارة بالجفاف يبقى معه شيء يسير من النجاسة، وهو معفو عنه، ولا يعفى عن شيء من النجاسة في التيمم، وسبق لنا بحث ما يعفى عنه من النجاسات، والله أعلم.
(2) المدونة (1/140) ، مواهب الجليل (1/162) ، المنتقى (1/64) .
(3) المجموع (2/616) ، طرح التثريب (2/144) .
(4) المبدع (1/318) ، الفروع (1/241) ، الإنصاف (1/317) ، المغني (1/419) .
(5) انظر الكتب التي أحيل عليها في مذهب الحنفية من هذه المسألة.(13/589)
وقيل: الجفاف مطهر مطلقاً، في حق الصلاة وفي حق التيمم وفي حق غيرهما، وهو رواية عن أحمد، نصرها ابن تيمية (1) .
دليل من قال: إن النجاسة يطهرها الجفاف:
الدليل الأول:
(1712-240) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله،
عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (2) .
استدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك
الدليل الثاني:
أن المطلوب زوال النجاسة، فإذا زالت فقد زال حكمها، والجفاف خاصة في البلاد الحارة يذهب بالنجاسة لوناً وطعماً وريحاً، وهذا هو عين المطلوب.
الدليل الثالث:
(1713-241) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسماعيل الأزرق، عن
_________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/480، 510) .
(2) صحيح البخاري (174) .(13/590)
ابن الحنفية، قال: إذا جفت الأرض فقد زكت (1) .
[في إسناده إسماعيل بن سلمان الأزرق ضعيف] (2) .
دليل من قال: إن الجفاف غير مطهر:
أدلة أصحاب هذا القول هي أدلتهم على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء الطهور، وقد سبق ذكر أدلتهم والجواب عليها في مسألة: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ فانظرها مشكوراً هناك.
فالراجح أن الجفاف مطهر بشرط أن يذهب معه أثر النجاسة.
_________
(1) المصنف (1/59) رقم 626.
(2) جاء في ترجمته:
قال أبو زرعة: ضعيف الحديث، واهي الحديث. الجرح والتعديل (2/176) .
وقال النسائي: متروك. الضعفاء (76) . وضعفه غيرهما.
وروى ابن أبي شيبة (1/59) من طريق عبد العزيز بن مهران البصري، قال: رأيت الحسن جالساً على أثر بول جاف، فقلت له: فقال: إنه جاف.
وابن مهران قال فيه الحافظ في التقريب: مقبول.
كما روى ابن أبي شيبة (1/59) من طريق الحارث بن عمير، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: إذا جفت الأرض فقد زكت. اهـ
والحارث بن عمير، قال فيه الحافظ في التقريب: وثقه الجمهور، وفي أحاديثه مناكير ضعفه بسببها الأزدي وابن حبان وغيرهما، فلعله تغير حفظه في الآخر.
وعلى كل حال هذه الآثار، وهي يستأنس بها، ولكن ليست من الأدلة الشرعية، لأنها أقوال رجال تابعين غير معصومة.(13/591)
[صفحة فارغة](13/592)
المبحث الرابع
في التطهير بالاستحالة
قد تتحول العين النجسة إلى عين أخرى، سواء بفعل آدمي، أو بمرور الوقت، أو بغيرهما (1) ، فإذا تغيرت هذه العين النجسة إلى عين طاهرة فهل ننظر إلى أصلها فنحكم لها بالنجاسة، أو ننظر إلى حالها الحادث، فنحكم لها بالطهارة؟.
هذه المسألة محل خلاف بين العلماء، بعد اتفقاهم على طهارة الخمر إذا انقلب خلاً بنفسه على القول بنجاسة الخمر.
واتفاقهم على طهارة الدم المنقلب إلى مسك، على القول بنجاسة الدم.
_________
(1) وأضرب أمثلة في تحول العين من حقيقة إلى حقيقة أخرى:
الأول: تحول الطعام الطيب إلى غائط خبيث. وهذا ممكن أن نسميه التحول عن طريق التغذية، وقد يكون عكس هذا الحال، كالجلالة التي تعلف النجاسة، والنبات يسمد بالنجاسة، فتتحول النجاسة إلى شيء طاهر.
الثاني: التحول عن طريق المعالجة، كتحول مياه المجاري إلى ماء طهور عن طريق التقطير، وتحول النجاسة إلى رماد أو دخان أو غبار، ومثله البخار الخارج من فم الحيوان النجس كالكلب مثلاً فهل يعطى هذا البخار حكم الريق، أو يقال: إنه تحول إلى بخار فأصبح طاهراً، ومثله بخار النجاسة كالمتصاعد من الغائط في أيام الشتاء، فلو أصاب ثوباً رطباً هل ينجس بمثل هذا أو يكون البخار طاهراً..
الثالث: أن يتغير بنفسه، وذلك كانقلاب الخمر إلى خل، وانقلاب الدم إلى مسك، أو بمرور الزمن أو بفعل الشمس أو الريح وذلك كانقلاب العذرة إلى تراب.
الرابع: التولد كأن تتولد الحشرات والدود من أعيان نجسة.(13/593)
فقيل: إن الاستحالة مطهرة، وهو مذهب الحنفية (1) ، ومذهب المالكية (2) ، واختيار ابن حزم (3) ، ورجحه ابن تيمية (4) .
وقيل: لا تأثير للاستحالة، وهو مذهب الشافعية (5) ، والحنابلة (6) .
دليل من قال: إن الاستحالة مطهرة.
الدليل الأول:
القياس على الخمرة تنقلب خلاً بذاتها، فقد أجمع العلماء على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها حَلَّت وجاز تناولها بالإجماع، فكذلك سائر النجاسات إذا انقلبت إلى عين طاهرة صار لها حكم الطاهرات.
قال ابن تيمية: إذا انقلبت الخمر خلا بغير قصد آدمي فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة (7) .
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (3/313) ، بدائع الصنائع (1/62) ،
(2) مواهب الجليل (1/97) .
(3) المحلى (6/101) .
(4) الفتاوى الكبرى (1/441) .
(5) المجموع (2/592) ، تحفة المحتاج (1/303) ، نهاية المحتاج (1/247) .
(6) المغني (1/65) ، الإنصاف (1/318) .
(7) الفتاوى الكبرى (1/441) .
وقال ابن قدامة في المغني (9/146) : إذا انقلبت (يعني الخمرة) بنفسها , فإنها تطهر وتحل , في قول جميعهم فقد روي عن جماعة من الأوائل, أنهم اصطبغوا بخل خمر; منهم علي, وأبو الدرداء, وابن عمر, وعائشة. ورخص فيه الحسن, وسعيد بن جبير، وليس في شيء من أخبارهم أنهم اتخذوه خلاً, ولا أنه انقلب بنفسه , لكن قد بينه عمر بقوله: لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله هو يتولى إفسادها؛ ولأنها إذا انقلبت بنفسها , فقد زالت علة تحريمها, من غير علة خلفتها, فطهرت, كالماء إذا زال تغيره بمكثه. اهـ(13/594)
واعترض عليه:
بأن هذا خاص بالخمرة، وذلك لأن نجاستها كانت عن طريق الاستحالة، فتكون طهارتها عن طريق الاستحالة، وأما غيرها من النجاسات فإنها نجسة العين ابتداء بدون استحالة.
ورد عليهم:
لا نسلم أن سائر النجاسات نجاستها ابتداء بدون استحالة، فهذا البول والغائط نجاسته عن طريق استحالة الطعام الطيب إلى خبيث، ومع ذلك تمنعون طهارته بالاستحالة، فما الفرق؟ .
وهذا الدم تقولون بنجاسته، وهو مستحيل من الطعام أيضاً، وهذا المني طاهر عند المالكية والحنابلة، وهو مستحيل من الدم النجس عند الأئمة الأربعة.
الدليل الثاني:
إذا كان الطعام الطيب إذا استحال إلى شيء خبيث كالبول والغائط أصبح له حكم البول والغائط من النجاسة، فكذلك الشيء النجس إذا استحال إلى طيب أعطي له حكم الطيب من الحل والطهارة.
قال ابن حزم: ومن خالف هذا لزمه أن يحرم اللبن , لأنه دم استحال لبنا, وأن يحرم التمر والزرع المسقي بالعذرة والبول, ولزمه أن يبيح العذرة والبول, لأنهما طعام وماء حلالان، استحالا إلى اسم منصوص على تحريم المسمى به (1) .
ومعلوم أنه إذا استحال الشيء بالشيء حتى لا يرى له ظهور يحكم له بالعدم، وعلى هذا فلو وقعت قطرة من لبن امرأة في ماء، فاستهلكت فيه،
_________
(1) المحلى (6/101) .(13/595)
وشربه الرضيع خمس رضعات فأكثر، لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة، لم يجلد بشربه، وهكذا، والاستهلاك بالشيء نوع من الاستحالة، ومع ذلك لم يعتبر الأصل بل اعتبر الحال.
والفرق بين الأعيان الطاهرة والأعيان النجسة وجود صفات فيها، فإذا وجدت في الأعيان حكم لها بالطهارة أو بالنجاسة، فإذا لم توجد هذه الصفات التي تجعلنا نحكم للشيء بالنجاسة لم نحكم له بذلك.
الدليل الثالث:
(1714-242) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله،
عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (1) .
فهذا النوع من الطهارة، وهو ذهاب النجاسة عن طريق الشمس والريح استحالة للنجاسة بانقلابها إلى عين طاهرة.
الدليل الرابع:
(1715-243) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسماعيل الأزرق، عن ابن الحنفية، قال: إذا جفت الأرض فقد زكت (2) .
[ضعيف وقد سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه] .
_________
(1) صحيح البخاري (174) .
(2) المصنف (1/59) رقم 626.(13/596)
الدليل الخامس:
قالو: إن المسلم قد يبتلى بشرب الخمر، والكافر يشربه ويأكل الخنزير، ولا يكون ظاهرهما نجساً؛ إذ لو تنجسا ما طهرهما الاغتسال، ويلزم من قولهم: إن الاستحالة مؤثرة أن تكون الحيوانات نجسة؛ لأنها متولدة من المني، والمني من الدم، والدم عندهم نجس.
دليل من قال: إن الاستحالة غير مطهرة:
الدليل الأول:
(1716-244) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا قتادة، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبن شاة الجلالة، وعن المجثمة، وعن الشرب من في السقاء (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
وأجيب بعدة أجوبة:
الأول: بأننا إذا عرفنا الجلالة على القول الصحيح بأنها: هي الدابة التي ظهر فيها أثر النجاسة من ريح ونتن، وهو قول في مذهب الحنفية (3) ،
_________
(1) المسند (1/226) .
(2) سبق تخريجه في حكم الجلالة، وله شاهد من حديث جابر وابن عمر وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وقد تم تخريجها، والحكم عليها في مسألة حكم الجلالة، فانظره هناك مشكوراً.
(3) قال في بدائع الصنائع (5/40) : ولا يكره أكل الدجاج المحلي، وإن كان يتناول النجاسة; لأنه لا يغلب عليه أكل النجاسة، بل يخلطها بغيرها، وهو الحب فيأكل ذا وذا.
وقيل: إنما لا يكره; لأنه لا ينتن كما ينتن الإبل، والحكم متعلق بالنتن; ولهذا قال أصحابنا: في جدي ارتضع بلبن خنزير حتى كبر: إنه لا يكره أكله; لأن لحمه لا يتغير ولا ينتن فهذا يدل على أن الكراهة في الجلالة لمكان التغير والنتن، لا لتناول النجاسة، ولهذا إذا خلطت لا يكره وإن وجد تناول النجاسة; لأنها لا تنتن فدل أن العبرة للنتن، لا لتناول النجاسة.(13/597)
ومذهب الشافعية (1) .
ففي الحالة التي يظهر فيها أثر للنجاسة دليل على تغير الطاهر بالنجاسة، فإذا كان الماء الذي خلق طهوراً، ومنه تطهر الأعيان النجسة إذا تغير بالنجاسة حكمنا له بالنجاسة، فما بالك بغير الماء، فلا يكون في هذا دليل على أن الاستحالة غير مؤثرة، فإذا أكل الحيوان النجاسة ولم يظهر فيه نتنها نحكم لها بالطهارة؛ لأن النجاسة استحالت واستهلكت في العين الطاهرة، كما حكمنا للماء إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره بأنه طهور.
(1717-245) ثانياً: روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن ميمون، عن نافع،
عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) قال النووي في المجموع (9/30) : الصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا اعتبار بالكثرة, وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن، فإن وجد في عرفها وغيره ريح النجاسة فجلالة, وإلا فلا. اهـ
وقال البيهقي في الشعب (5/19) : وما روي عنه من النهي عن الجلالة وما قال فيها أهل العلم من أن المراد بها إذا ظهر ريح القذر في لحمها. اهـ
(2) المصنف (5/148) رقم 24608.
(3) سبق تخريجه في حكم الجلالة.(13/598)
وهذا أحسن ما ورد في حبس الجلالة، فهذا دليل على أن الجلالة التي نهي عنها لتناولها النجاسة قد طهرت بالاستحالة، وذلك بحبسها فلما زال أثر النتن عن لحمها أصبحت طاهرة حلالاً بدون غسل النجاسة، وإنما عن طريق الاستحالة أيضاً.
الجواب الثالث:
قيل: إن النهي للكراهة، وهو ما سبق ترجيحه في الخلاف في حكم الجلالة.
الجواب الرابع:
قيل: إن تحريم الأكل لا يعني النجاسة، فليس كل محرم نجساً. وهذا الجواب لعله من أضعفها، فإن النهي إنما هو بسبب النجاسة لا غير.
الدليل الثاني:
(1718-246) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق،
عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بادر إلى صب الماء على النجاسة، ولو كانت الاستحالة تطهره أو تطهره الشمس أو الريح أو الجفاف لتركه عليه الصلاة والسلام، ولما أمر بصب الماء عليه.
_________
(1) صحيح البخاري (219) ، وصحيح مسلم (284) .(13/599)
ويجاب عن هذا:
بأن حديث الأعرابي مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، نعم فيه دليل على استحباب المبادرة إلى إزالة النجاسة؛ لأن الماء معلوم بأنه أسرع في إزالة النجاسة من الاستحالة؛ لأن الاستحالة ربما احتاجت إلى وقت طويل كي تتحول فيه النجاسة إلى عين طاهرة؛ ولأن بقاع المساجد أحب البقاع إلى الله تعالى، وأطهرها، فيجب أن تكون هذه البقاع أطهر ما يكون وعلى أتم الاستعداد لأداء العبادة فيها بين لحظة وأخرى لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، فالماء هو أسرع وسيلة في تطهير النجاسة وإزالتها، فمن أجل ذلك بادر بصب الماء عليها، وهذا لا يعني عدم زوال النجاسة بالجفاف، والله أعلم.
الراجح من أقوال أهل العلم:
الراجح أن الاستحالة مؤثرة سواء في انقلاب العين الطاهرة إلى نجسة أو العكس.
قال ابن القيم: على هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس؛ فإنها نجاسة لوصف الخبث، فإذا زال الموجِب زال الموجَب، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها، بل وأصل الثواب والعقاب، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت، وقد نَبَشَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبور المشركين من موضع مسجده، ولم ينقل التراب، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن اللبن أنه يخرج من بين فرث ودم، وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة، ثم حبست وعلفت بالطاهرات حَّلَ لبنها ولحمها، وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس، ثم سقيت بالطاهر(13/600)
حَلَّت؛ لاستحالة وصف الخبث وتبدله بالطيب، وعكس هذا أن الطيِّب إذا استحال إلى خبيث صار نجساً، كالماء والطعام إذا استحال بولاً وعذرة، فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثاً، ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيباً؟ والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب، ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه (1) .
وقال ابن تيمية: ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجس لم يطهر بل استحال، وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس، وإن كان مستحيلاً منه، والمادة واحدة، كما أن الماء ليس هو الزرع والهواء والحب، وتراب المقبرة ليس هو الميت، والإنسان ليس هو المني، والله تعالى يخلق أجسام العالم بعضها من بعض، ويحيل بعضها إلى بعض، وهي تبدل مع الحقائق، ليس هذا هذا (2) .
_________
(1) إعلام الموقعين (1/445) .
(2) مجموع الفتاوى (21/608-612) .(13/601)
[صفحة فارغة](13/602)
الفصل الرابع
في كيفية تطهير المائع المتنجس
المبحث الأول
في كيفية تطهير الماء المتنجس
اختلف العلماء في كيفية تطهير الماء، وقبل أن أذكر خلافهم ينبغي أن نعلم هل نجاسة الماء نجاسة عينية أو نجاسة حكمية؟
الصحيح أن نجاسة الماء حكمية، فهو كالثوب النجس؛ لأنه يطهر غيره فنفسه من باب أولى، وهذا مذهب الجمهور، كما سيأتي التفصيل عنهم في كيفية تطهير الماء المتنجس، وهو اختيار ابن تيمية (1) ، وصوبه فى الإنصاف (2) .
وقيل: إن نجاسته نجاسة عينية.
قال ابن مفلح فى الفروع: وهو ظاهر كلام الأصحاب، وتعقبه المرداوي في تصحيح الفروع (3) .
وفي قوله: إنها عينيه نظر، لأن الحنابلة قالوا: النجاسة العينية لايمكن تطهيرها، وهذا يمكن تطهيره (4) .
_________
(1) الفروع (1/87) .
(2) الإنصاف (1/62،63) .
(3) الفروع (1/87) .
(4) تصحيح الفروع (1/87) .(13/603)
وقيل: نجاسته نجاسة مجاورة سريعة الإزالة، ولهذا يجوز بيعه (1) .
وقد ذهب أهل العلم في عصرنا كالمجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلام إلى تطهير مياه المجاري إذا عولجت بالطرق الحديثة، وزال تغيرها بالنجاسة عن طريق الترشيح والتقطير، وتحولت بذلك إلى مياه عذبة، فلا مانع من استعمالها في الشرب وغيره، وسوف أنقل لكم نص قرار المجمع عند الكلام على كلام أهل العلم في كيفية تطهير المتنجس، وممكن أن نقسم لكم الكلام في تطهير الماء المتنجس إلى فروع.
_________
(1) الإنصاف (1/63) .(13/604)
الفرع الأول
أن يزول تغير الماء الكثير بنفسه
إذا زال تغير الماء بنفسه فإما أن يكون كثيراً وإما أن يكون قليلاً، على خلاف بين أهل العلم في حد القليل والكثير (1) .
_________
(1) اختلف الحنفية والشافعية في مقدار الماء القليل والماء الكثير، مع اتفاقهم أن الماء القليل ينجس ولو لم يتغير بخلاف الماء الكثير:
فمذهب الحنفية في حد الماء القليل هو أن ينظر، فإن كانت النجاسة تخلص إلى الطرف الآخر لم يتوضأ منه، وإن كانت لا تخلص إلى طرفه الآخر توضأ من الطرف الآخر، وكيف نعرف أن النجاسة تخلص إلى الجانب الآخر؟ على أقوال عندهم، أهمها ما يلي:
الأول: أن الرد إلى رأي المبتلى به، فإن غلب على ظنه وصول النجاسة إلى الجانب الآخر لم يتوضأ به، وإلا توضأ به، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقد رجحه ابن نجيم في البحر الرائق (1/78، 79) ، قال: وممن نص على أنه ظاهر المذهب شمس الأئمة السرخسي في المبسوط. وجاء في البناية في التحديد قال:" إن غلب على الظن وصول النجاسة إلى الجانب الآخر فهو نجس، وإن غلب عدم وصولها فهو طاهر "، وقال عنه:" هذا هو الأصح، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ".
القول الثاني: قالوا: يعتبر الخلوص بالحركة، فإن كان إذا حرك أحد طرفيه تحرك الطرف الآخر تنجس، ولو لم يتغير، وإن كان لا يتحرك الطرف الآخر فلا ينجس إلا بالتغير، واختلفوا في نوع الحركة:
فقيل: المعتبر حركة المغتسل، وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد في رواية؛ لأن الغالب في الحياض الاغتسال منها، وأما الوضوء فإنما يكون في البيوت.
وقيل: بحركة المتوضئ، وهو مروي عن أبي حنيفة.
وقيل: المعتبر حركة اليد من غير وضوء ولا اغتسال.
القول الثالث: قدره بالمساحة، على خلاف كثير بينهم، أشهرها عشرة أذرع في عشرة أذرع.
القول الرابع: قالوا: يوضع في الماء صبغ، فحيثما وصل الصبغ اعتبر وصول النجاسة.
ومنهم من اعتبر التكدر.
وأما مذهب الشافعية في حد القليل من الكثير، فجعلوا التقدير بالقلتين، فإذا بلغ الماء قلتين فهو كثير، لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان دون القلتين نجس ولو لم يتغير، وهو المشهور من مذهب الحنابلة.
وأما المالكية فيقدرون القليل بآنية الوضوء ونحوها.
انظر في مذهب الحنفية بدائع الصنائع (1/71) ، شرح فتح القدير (1/79) ، البناية (1/330-334) ، المبسوط (1/87) ، المبسوط للشيباني (1/50) ، البحر الرائق (1/78) .
وانظر في مذهب الشافعية الأم (1/18) ، أسنى المطالب (1/14) ، المهذب (1/6) .(13/605)
فإن كان كثيراً وزال تغيره بنفسه،
فقيل: إن الماء يتحول إلى طهور، وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: إنه نجس، وهو قول في مذهب المالكية (4) ، وقول في مذهب
_________
(1) الخرشي (1/80، 81) ، منح الجليل (1/42، 43) ، حاشية الدسوقي (1/46، 47) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/41، 42) .
(2) مغني المحتاج (1/22، 23) ، روضة الطالبين (1/20، 21) ، شرح زبد ابن رسلان (ص: 28، 29) ، المهذب (1/7) .
(3) الإنصاف (1/66) ، الكافي (1/10) ، كشاف القناع (1/38) .
(4) ومع أن هذا القول من المالكية يحكمون له بالنجاسة إلا أنهم قيدوا الحكم بالنجاسة مع وجود غيره، أما إذا لم يوجد إلا هو فيستعمله بلا كراهة مراعاة للخلاف.
وهذا يدل على ضعف القول بنجاسته عندهم؛ لأنهم لو جزموا بالنجاسة لما صح استعماله مطلقاً، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لأنه إذا لم يوجد إلا ماء نجس صار إلى التيمم، كما هو الحال إذا وجد ماء متغيراً بالنجاسة، ثم إن استعماله وهو نجس عندهم لا يرفع الحدث من جهة، ويلوثهم بالنجاسة من جهة أخرى، ولكن لما كان هذا القول ليس محل الجزم عندهم ذهبوا إلى الجمع بينه وبين التيمم. اهـ(13/606)
الحنابلة (1) .
وقيل: إنه طاهر، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) .
دليل من قال: إن الماء يتحول إلى طهور:
الدليل الأول:
قالوا: إن الحكم بالنجاسة إنما هو لأجل التغير بالنجاسة، وقد زالت النجاسة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
الدليل الثاني:
إذا كان الخمر إذا تحول بنفسه إلى خل أصبح طاهراً، فكذلك الماء من باب أولى؛ لأن الماء أصلاً خلق طهوراً مطهراً، بخلاف الخمر.
دليل من قال: إنه نجس:
الدليل الأول:
قالوا: الأصل في إزالة النجاسة هو الماء المطلق (الماء الطهور) وهذا ما لم يحصل هنا، فيبقى نجساً، ولو زال تغيره بالنجاسة.
الدليل الثاني:
إذا زال تغير الماء النجس فإنما طهر عن طريق الاستحالة، والاستحالة عندنا غير مطهرة.
_________
(1) المغني (1/52) ، المبدع (1/58) ، الإنصاف (1/66) ، الكافي (1/10) ، كشاف القناع (1/38) .
(2) انظر المراجع السابقة.(13/607)
وقد سبق بحث مستقل في طهارة الأعيان النجسة بالاستحالة، مع ذكر حجج الفريقين، فارجع إليها غير مأمور.
دليل من قال: يكون الماء طاهراً غير مطهر:
قالوا: لا يكون مثل هذا الماء طهوراً، وقد زالت به النجاسة، ولا يكون نجساً، وهو ماء كثير غير متغير، قاسوه على الماء القليل إذا كان آخر غسلة زالت بها النجاسة عندهم، فإنه عندهم يكون طاهراً غير مطهر.
وقد ترجح في بحث سابق أن الماء قسمان: طهور ونجس، ولا يوجد قسم من المياه يكون طاهراً غير مطهر (1) .
الراجح: أن الماء إذا زال تغيره بنفسه فإنه يكون طاهراً مطهراً، وإنما حكم عليه بالنجاسة لتغيره بها، وقد زال عنه هذا الوصف، فرجع إلى أصله.
هذا خلاف أهل العلم في الماء الكثير إذا زال تغيره بنفسه، وهل يختلف الحكم إذا كان الماء المتغير بنفسه قليلاً؟
الجواب: اختلف أهل العلم في الماء النجس القليل إذا زال تغيره بنفسه:
فقيل: إذا وقعت في الأواني أو في الحوض الصغير نجاسة، فلهم في تطهير الماء بشرط زوال تغيره إن وجد ثلاثة أقوال:
فقيل: إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه طهر، وإن قل إذا كان الخروج حال دخول الماء فيه؛ لأنه بمنزلة الجاري.
وقيل: لا يطهر إلا بخروج ما فيه.
وقيل: لا يطهر إلا بخروج ثلاثة أمثال ما كان فيه من الماء، وسائر
_________
(1) انظر كتابي أحكام الطهارة (مجلد المياه والآنية) من هذه السلسلة.(13/608)
المائعات كالماء في القلة والكثرة، وهذا مذهب الحنفية (1) .
تعليل الحنفية:
أن الماء النجس إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه، وكان خروج الماء حال دخول الماء الجديد فيه؛ أصبح بمنزلة الماء الجاري، والماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير.
وقيل: إنه لا يمكن أن يطهر بنفسه، وهو قليل، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
لأن الماء القليل عند الشافعية والحنابلة ينجس مطلقاً إذا لاقى النجاسة ولو لم يتغير، فزوال النجاسة إنما هو شرط في تطهير الماء الكثير، وأما الماء القليل فإنه ينجس بمجرد ملاقاته للنجاسة.
ويستدلون بأدلة أشهرها:
(1719-247) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله،
عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة
_________
(1) تبيين الحقائق (1/23) ، بدائع الصنائع (1/87) ، شرح فتح القدير (1/81) .
(2) الخرشي (1/80، 81) ، منح الجليل (1/42، 43) ، حاشية الدسوقي (1/46، 47) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/41، 42) .
(3) المجموع (1/183-191) ، الحاوي (1/339) ، مغني المحتاج (1/22، 23) ، روضة الطالبين (1/20، 21) ، شرح زبد ابن رسلان (ص: 1/28، 29) ، المهذب (1/7) .
(4) الإنصاف (1/66) ، الكافي (1/10) ، كشاف القناع (1/38) ، المغني (1/52) ، المبدع (1/58) .(13/609)
وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (1) .
[إسناده صحيح إن شاء الله] (2) .
وجه الاستدلال بالحديث من وجهين:
الوجه الأول:
أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، مفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث.
الوجه الثاني:
لو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس، ولو كان مائة قلة.
الدليل الثاني:
(1720-148) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه،
أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه.
ولمسلم: ثم يغتسل منه (3) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن البول في الماء الدائم، وقد يتغير، وقد لا يتغير، ونهيه عن الاغتسال فيه دليل على أنه يؤثر فيه البول، ولم يشترط الرسول - صلى الله عليه وسلم - التغير.
_________
(1) المصنف (1/133) رقم 1526.
(2) سبق تخريجه انظر حديث (88) من كتابي: أحكام الطهارة (المياه والآنية) .
(3) البخاري (239) ، ومسلم (239) .(13/610)
الدليل الثالث:
(1721-249) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب.
(1722-250) ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار (1) .
وجه الاستدلال:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، وجعله طهارة لهذا الإناء، كما أمر بإراقة سؤره، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير، وهذا دليل على أن النجاسة تؤثر في الماء ولو لم يتغير الماء.
وإذا كان الماء القليل يحكم له بالنجاسة ولو لم يتغير لم يكن زوال تغيره بنفسه مؤثراً في طهارته.
والصحيح أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وقد سبق الكلام على هذه المسألة في بحث مستقل، وذكرت أدلة الأقوال في كتاب أحكام الطهارة، فأغنى عن إعادته هنا.
_________
(1) صحيح مسلم (279) .(13/611)
[صفحة فارغة](13/612)
الفرع الثاني
أن يزول تغير الماء بإضافة ماء آخر عليه
إذا زال تغير الماء النجس بإضافة ماء آخر، فهل يطهر؟ اختلف العلماء في ذلك،
القول الأول: مذهب المالكية:
ذهب المالكية إلى أن الماء يطهر مطلقاً بإضافة ماء آخر عليه، ولا يشترط أن يكون الماء المضاف قلتين، وإنما يشترط أن يزول تغيره بنفسه، وأن يكون الماء المضاف ماء مطلقاً: أي ليس ماء نجساً، ولا ماء طاهراً غير مطهر. وهذا مذهب المالكية (1) .
القول الثاني: مذهب الشافعية:
قالوا: إن كان الماء قلتين فأكثر فإنه يطهر بإضافة ماء آخر عليه، سواء كان المضاف طاهراً أم نجساً، قليلاً أم كثيراً، صب عليه الماء أو نبع فيه، فإذا زال تغيره طهر.
وإن كان الماء دون القلتين فيكون تطهيره بأن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه حتى يبلغ قلتين، حتى ولو كان المضاف نجساً، ما دام أنه إذا بلغ الماء قلتين فقد زال تغيره، فإنه يطهر.
وأما إذا أضيف إليه ماء دون القلتين، ففيه وجهان عندهم:
الأول: يكون طاهراً غير مطهر.
_________
(1) الخرشي (1/80، 81) ، منح الجليل (1/42، 43) ، حاشية الدسوقي (1/46، 47) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/41، 42) .(13/613)
لماذا كان طاهراً، وقد لاقى النجاسة، وهو قليل؟
قالوا: لأن الماء القليل إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، أما إذا ورد الماء على النجاسة كما هو الحال هنا فلا ينجس.
ولماذا إذاً لا يكون طهوراً؟
قالوا: لأنه ماء استعمل فى إزالة النجاسة.
الوجه الثاني: قالوا لا يطهر، لأنه ماء استعمل في إزالة النجاسة، فيبقى نجساً (1) .
القول الثالث: مذهب الحنابلة.
أن يكون الماء دون القلتين، وفي هذه الحال إما أن تكون نجاسته بالتغير، أو بالملاقاة ولو لم يتغير.
فيشترط لتطهير الماء المتنجس بالملاقاة شرط واحد، هو أن تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، وبالتالي يصبح طهوراً فإن أضفت إليه دون القلتين لم يطهر.
التعليل: لأن الماء القليل لا يدفع النجاسة عن نفسه، فكيف يدفعها عن غيره؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فى حديث ابن عمر: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (2) .
لوقال قائل: لنفرض أن الماء المتنجس بالملاقاة قلة واحدة، فأضفت إليها قلة أخرى، حتى أصبح الماء قلتين، فهل يطهر؟ .
أكثر الأصحاب على أنه لا يطهر، وهو المشهور من المذهب، وحكى بعضهم وجهاً بالتطهير، وصوبه صاحب الإنصاف.
_________
(1) مغني المحتاج (1/22، 23) ، روضة الطالبين (1/20، 21) ، شرح زبد ابن رسلان (ص: 1/28، 29) ، المهذب (1/7) .
(2) سبق الكلام عليه، وأنه حديث صحيح.(13/614)
وإن كانت نجاسة الماء القليل أو الكثير بالتغير ففي هذه الحالة تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، ثم تنظر هل زال التغير أم بقي؟ فإن زال فقد طهر، وإن لم يزل فإنك تضيف إليه حتى يذهب تغيره.
أما إذا أضفت إليه دون القلتين فإن الماء يكون نجساً، حتى ولو زال تغيره، وهذا هو المذهب.
وقيل: إنه يكون طهوراً حتى على قواعد المذهب، أو القائلين بالنجاسة ولو لم يتغير، قالوا: لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا كانت واردة عليه وهنا قد ورد الماء على النجاسة.
ولو قلنا بنجاسة الماء هنا لقلنا بنجاسة الماء إذا صب على ثوب نجس، إلا أن يكون قلتين، ولما كان الدلو مطهراً لبول الأعرابي، لأنه بالتأكيد ليس قلتين ولا حتى قلة، بل إن هذا أولى من تطهير الخمر القليل الذي استحال إلى خل فطهر.
وهذه الطريقة في تطهير الماء عند الحنابلة رحمهم الله إذا كان تنجيس الماء بالتغير، سواء كان قليلاً أم كثيراً، ما لم تكن النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة، فإن كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة وكانت النجاسة لم تغير الماء، وكان لا يشق نزحه، فإن تطهيره بإضافة ما يشق نزحه، فيطهر بذلك.
وإن كانت نجاسة الماء بالتغير، فإنه يضيف إليه ما يشق نزحه، بشرط زوال التغير، فإن زالت فقد طهر، وإلا فيضيف إليه حتى يزول أثر النجاسة (1) .
_________
(1) الإنصاف (1/66) ، الكافي (1/10) ، كشاف القناع (1/38) .(13/615)
وهذا التفريق بين نجاسة بول الآدمي وعذرته المائعة، وبين غيرها من النجاسات من المسائل التي انفرد بها المذهب الحنبلي.
تلخص لنا مما سبق: أن التطهير بالإضافة عند العلماء يشترط له شروط:
الأول: أن يكون الماء المضاف طهوراً، وهذا شرط عند المالكية، والحنابلة، وليس بشرط عند الشافعية، إذ لا مانع أن تضيف عندهم ماء نجساً إذا كان بإضافته سوف يزول تغير الماء بالنجاسة.
الثاني: أن يكون المضاف كثيراً - قلتان فأكثر - وهذا شرط للحنابلة، وليس بشرط عند المالكية، والشافعية.
الثالث: أن يبلغ الماء قلتين بعد الإضافة، وليس بشرط عند المالكية، وأما الحنابلة فلا يكفي هذا عندهم؛ لأنهم يشترطون أن يكون المضاف نفسه قلتين.
والراجح أن الماء إذا زال تغيره بإضافة ماء عليه طهر، سواء كان المضاف قليلاً أم كثيراً، وسواء كان طهوراً أم نجساً، ما دام أنه قد زال تغيره بعد الإضافة، لأن الحكم عليه بالنجاسة إنما كان من أجل تغيره بالنجاسة، وقد زال، فيرجع إلى أصله، وهو أن الماء طهور.
وقد ذكرنا أن المجمع الفقهي الإسلامي رجح طهارة مياه المجاري إذا عولجت وذهب تغيرها بالنجاسة، وهذا أوان الوفاء بما وعدنا به من نقل نص القرار، يقول القرار:
صدر قرار من مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة، المنعقدة في مكة المكرمة يوم الأحد 13 رجب 1409هـ منه: " وبعد مراجعة المختصين بالتنقية بالطرق الكيماوية وما قرروه من أن التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل: وهي الترسيب(13/616)
والتهوية وقتل الجراثيم وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجاسة أثر في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدول موثوق بصدقهم وأمانتهم، قرر المجمع ما يأتي:
أن ماء المجاري إذا نقي بالطرق المذكورة أو ما يماثلها ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه، صار طهوراً، يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به، بناء على القاعدة الفقهية التي تقرر أن الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه إذا لم يبق لها أثر فيه، والله أعلم. اهـ(13/617)
[صفحة فارغة](13/618)
الفرع الثالث
أن يزول تغير الماء النجس بإضافة تراب أو طين
اختلف العلماء في حكم الماء النجس يضاف إليه التراب أو الطين فيزول تغيره، هل يطهر بذلك؟
فقيل: يطهر بشرط أن لا يتغير الماء بالتراب والطين، وهذا مذهب المالكية (1) ، وعليه أكثر الشافعية (2) .
وقيل: إذا زالت النجاسة طهر مطلقاً، سواء كان الماء كدراً بما ألقي فيه، أو كان صافياً، وهو قول في مذهب الشافعية (3) ، واختاره ابن عقيل من الحنابلة (4) .
وقيل: لا يطهر مطلقاً، أي سواء تكدر بما ألقي فيه أم لا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (5) .
دليل من قال: إن الماء يطهر بإضافة التراب مطلقاً:
الدليل الأول:
قال: إن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وإذا كنا حكمنا له
_________
(1) الخرشي (1/80، 81) ، منح الجليل (1/42، 43) ، حاشية الدسوقي (1/46، 47) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/41، 42) .
(2) مغني المحتاج (1/22، 23) ، روضة الطالبين (1/20، 21) ، شرح زبد ابن رسلان (ص: 1/28، 29) ، المهذب (1/7) .
(3) روضة الطالبين (1/20، 21) .
(4) الإنصاف (1/66) .
(5) الإنصاف (1/66) ، المبدع (1/58) ، المغني (1/52) .(13/619)
بالنجاسة لأنه متغير بها، فنحكم له بالطهارة إذا زالت هذه النجاسة.
الدليل الثاني:
إن النجاسة تزال بأي مزيل كان، سواء عن طريق إضافة ماء أو نزحه أو إضافة تراب أو غيره، ولا يتعين الماء لإزالة النجاسة، وقد قدمنا قرار مجمع الفقه الإسلامي أن المعالجة الكيمائية عن طريق التقطير والترشيح والتعقيم مطهر للماء النجس إذا زال تغيره بالنجاسة.
الدليل الثالث:
أن التراب أحد الطهورين، فهو يطهر النعل كما تقدم، ويطهر ذيل المرأة، ويطهر الأواني من ولوغ الكلاب بإضافته إلى الماء، ويطهر التراب أيضاً مكان البول والغائط، بل إن التراب خاصة يرفع الحدث عند فقد الماء، كما يرفع الخبث، فإذا زال تغير الماء النجس بسبب التراب فقد طهر.
ولا يخفى قوة هذا التعليل في تطهير التراب للنجاسة الواقعة في الماء وغيره.
دليل من قال: إن التراب لا يطهر مطلقاً:
هذا القول يرى أن النجاسة لا تزال إلا بالماء المطلق، وقد تقدمت أدلته كاملة والجواب عنها في بحث: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة، وترجح هناك أن النجاسة تزال بأي مزيل كان.
دليل من اشترط أن لا يتكدر الماء بالتراب:
قالوا: مع تكدر الماء بالتراب لا نستطيع أن نجزم بأن النجاسة قد زالت، فقد تكون اختفت بسبب التكدر، ولو كان الماء صافياً لأمكن الجزم ببقاء(13/620)
النجاسة أو زوالها، وما دام أننا لا نستطيع أن نجزم بذهاب النجاسة، فالأصل بقاء النجاسة، استصحاباً للحال، والله أعلم.
الراجح من الأقوال:
هو القول بأن إضافة التراب تطهر مطلقاً بشرط زوال النجاسة، وكما عُلِلَ سابقاً: بأن بقاء النجاسة سبب في الحكم للماء بالنجاسة، وذهابها بأي طريقة كانت سبب بالحكم له بالطهارة، وأن النجاسة تزال بأي مزيل كان، والله أعلم.(13/621)
[صفحة فارغة](13/622)
الفرع الرابع
أن يزول تغير الماء النجس عن طريق النزح
اختلف العلماء في تطهير الماء عن طريق نزح النجاسة أو نزح بعض الماء حتى يزول التغير، فهل مثل هذا النزح يطهر الماء أو لا؟ .
فالحنفية يفرقون بين هذه المسألة وبين المسائل التي قبلها، وذلك لأن النزح غالباً ما يكون لماء البئر، ومسائل البئر عندهم على خلاف القياس، بينما الجمهور يطردون قواعدهم السابقة بين الماء الكثير والماء القليل، وحين كان التفصيل في مذهب الحنفية متشعباً أحببت أن أفصل كل مذهب وأدلته قبل الانتقال إلى القول الثاني، وهكذا.
القول الأول: مذهب الحنفية:
يختلف الحكم عند الحنفية باختلاف البئر، وباختلاف حجم الحيوان، وهل أخرج الحيوان من البئر ميتاً أو حياً، فيمكن لنا نقسيم البئر إلى ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون البئر ليس معيناً - أي ليس في داخلها عين تنبع - والحيوان قد مات في البئر أو وقع فيه ميتاً، وكان الحيوان لم ينتفخ ولم يتفسخ، فالحكم على النحو التالي:
الأول: أن يكون الحيوان بحجم الفأرة والعصفور، فينزح منه عشرون دلواً.
ويستدلون لذلك بما يروى عن أنس أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر، وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلواً.
[ولم أقف عليه] (1) .
_________
(1) نقله الزيلعي في نصب الراية (1/128) ، وقال: قال شيخنا علاء الدين: رواه الطحاوي من طرق، قال الزيلعي: ولم أجده في شرح معاني الآثار للطحاوي.(13/623)
الثاني: - أن يكون الحيوان بحجم الدجاجة والسنور، فينزح منها أربعون دلواً إلى خمسين.
(1723-251) ويستدلون لذلك بما يروى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلواً.
[ولم أقف عليه] (1) .
الثالث: أن تكون النجاسة بحجم الشاة، أو تكون آدمياً، أو كلباً، فإنه ينزح ماء البئر كله.
ويستدلون بأدلة منها:
(1724-252) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن منصور،
عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم، فمات، قال: فأمر ابن الزبير أن ينزف ماء زمزم، قال: فجعل الماء لا ينقطع، قال: فنظروا فإذا عين تنبع من قبل الحجر الأسود، قال: فقال ابن الزبير: حسبكم (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
الدليل الثالث:
(1725-253) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة،
_________
(1) نقله الزيلعي في نصب الراية (1/128) ، وقال مثل ما قال عن أثر أنس، قال: قال شيخنا علاء الدين: رواه الطحاوي من طرق، قال الزيلعي: ولم أجده في شرح معاني الآثار للطحاوي.
(2) المصنف (1/150) رقم: 1721.
(3) سبق تخريجه في حكم ميتة الآدمي.(13/624)
عن ابن عباس أن زنجياً وقع في ماء زمزم، فأنزل إليه رجلاً فأخرجه، ثم قال: انزفوا ما فيها من ماء، ثم قال للذي في البئر: ضع دلوك من قبل العين التي تلي البيت أو الركن؛ فإنها من عيون الجنة (1) .
[قتادة لم يسمع من ابن عباس] (2) .
الدليل الرابع:
(1726-254) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق جابر، عن أبي الطفيل، قال: وقع غلام في ماء زمزم، فنزفت أي نزح ماؤها (3) .
[إسناده ضعيف جداً] (4) .
الحالة الثانية:
أن يكون البئر ليس مَعِيناً، والنجاسة لا جرم لها، كالبول وكالدابة تتفسخ بعد سقوطها، فهذا يجب نزح البئر كله.
الحالة الثالثة:
أن يخرج الحيوان حياً، وليس ميتاً، فينظر:
فإن كان الحيوان خنزيراً فإن البئر تنزح كلها قولاً واحداً في مذهب الحنفية.
_________
(1) المصنف (1/150) رقم: 1722.
(2) سبق تخريجه في حكم ميتة الآدمي.
(3) شرح معاني الآثار (1/17) .
(4) سبق تخريجه في حكم ميتة الآدمي.(13/625)
وإن كان الحيوان كلباً، ففيه خلاف مبني على اختلافهم في نجاسة عين الكلب، وقد تقدم تحرير مذهبهم.
وإن كان الحيوان غيرهما، فإن النزح يتوقف على حكم سؤره، فإن كان سؤره نجساً كالسباع، فإن البئر تنزح كلها، وإن كان سؤره مكروهاً استحب النزح، ويلحق به ما كان سؤره مشكوكاً فيه.
على خلاف بينهم في القدر المستحب نزحه، فمن قائل باستحباب نزح البئر كلها، ومنهم من قدره بعدد من الدلاء.
وأما الحيوانات التي سؤرها ليس بنجس، فإن كان عليها نجاسة حقيقية نزح البئر كله، وأما إن كان الحيوان ليس بنجس فلا ينزح البئر، إلا أنه يستحب أن ينزح من وقوع البقر والغنم؛ لعدم خلو أفخاذها وأرجلها من النجاسة.
الحالة الرابعة:
أن يكون البئر معيناً، كلما نزح منها دلو جاء مكانه آخر، فإذا وقعت فيه نجاسة فقد اختلفوا في مقدار ما ينزح منه،
فقيل: ينزح منها مائتا دلو، وهو رواية عن محمد بن الحسن.
وقيل: ينزح منها مائة دلو، وهو رواية عن أبي حنيفة.
وقيل: ينزح منها حتى يغلبهم الماء، ولم يقدِّر حداً للغلبة.
وأجيب عن هذا بعدة أجوبة.
الجواب الأول:
هناك من يضعف قصة وقوع الزنجي في بئر زمزم، وإلى هذا ذهب الشافعي وسفيان بن عيينة رحمه الله والنووي وغيرهم.(13/626)
فقد روى البيهقي بإسناده عن سفيان قوله: أنا بمكة منذ سبعين سنة، لم أر أحداً صغيراً ولا كبيراً يعرف حديث الزنجي الذي قالوا: إنه مات في زمزم، وما سمعت أحداً يقول: ينزح زمزم (1) .
قال النووي: فهذا سفيان كبير أهل مكة، قد لقي خلائق من أصحاب ابن عباس وسمعهم , فكيف يتوهم بعد هذا صحة هذه القضية التي من شأنها إذا وقعت أن تشيع في الناس لا سيما أهل مكة، ولا سيما أصحاب ابن عباس وحاضروها؟ وكيف يصل هذا إلى أهل الكوفة ويجهله أهل مكة؟ (2) .
وقال أيضاً: إن هذا الذي زعموه باطل لا أصل له , قال الشافعي: لقيت جماعة من شيوخ مكة فسألتهم عن هذا، فقالوا: ما سمعنا هذا (3) .
ورد هذا الاعتراض:
بأنه لا يلزم من عدم سماع سفيان لهذا الخبر عدم وقوعه، ثم إن الرواي مثبت، وسفيان نافٍ، والمثبت مقدَّم على النافي، خاصة إذا كان النافي لم يشهد الأمر الذي نفاه، ولم يعاصره، ولا يشترط لقبول الحديث أن يكون راويه من أهل مكة، وقد انتشر الصحابة في الأمصار، فما يبعد أن ينفرد أهل الكوفة أو غيرهم عن مدني أو مكي، والله أعلم.
الجواب الثاني:
هذه الآثار إن صحت فهي موقوفة على صحابي، وفعل الصحابي حجة إذا لم يخالف المرفوع، وهنا قد خالف السنة المرفوعة،
_________
(1) المعرفة (1/95) .
(2) المجموع (1/167) .
(3) المجموع (1/167) .(13/627)
(1727-255) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو أسامة، حدثنا الوليد ابن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله - وقال أبو أسامة مرة: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج -
عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء (1) .
[حديث صحيح بشواهده] (2)
(1728-256) وروى أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء لا ينجسه شيء " (3) .
[سبق تخريجه] (4) .
الجواب الثالث:
أن فعل ابن عباس بالأمر بنزح البئر على التسليم بصحته عنه معارض بما صح عن ابن عباس نفسه،
(1729-257) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء،
عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً (5) .
_________
(1) المسند (3/31) .
(2) انظر حديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة.
(3) المسند (1/308) .
(4) انظر الحديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة.
(5) المصنف (2/469) ، وسبق تخريجه، انظر في أحكام الميتة: حكم ميتة الآدمي.(13/628)
وهذا نص صريح بأن الموت لا ينجس المؤمن، وإذا كان كذلك لم يكن سقوطه في البئر سبباً في تنجيس البئر.
الجواب الرابع:
ربما نزح البئر لسبب آخر غير وقوع الجثة في البئر، فإنه يبعد أن يسقط أحد في بئر ويسلم من الجروح، فقد يكون دمه غلب على الماء، فغير لون الماء وطعمه، ومعلوم أن الدم يحرم شربه، فنزحت من أجل ذلك.
(1730-258) ويؤيد ذلك ما رواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس،
عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (1) .
فإذا كان هذا في الفأرة الميتة وهي بلا شك نجسة، وفي إناء السمن، وهو إناء صغير ليس كالبئر، والسمن ليس كالماء في دفعه للنجاسة، ومع ذلك لم ينجس السمن كله، فما بالك بالبئر والذي غالباً ما يكون الماء فيه كثيراً، ومع الآدمي وهو على الصحيح عين طاهرة.
الجواب الخامس:
أنكم تقولون بنزح البئر مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، مع أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو ماء طهور بالإجماع، فما الحاجة إلى نزحه، وبئر زمزم من الماء الكثير، وليس من الماء القليل.
وقد نقل الحنفية عن محمد قوله: " اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف أن ماء البئر في حكم الماء الجاري؛ لأنه ينبع من أسفله، ويؤخذ من أعلاه، فلا ينجس
_________
(1) صحيح البخاري (235) .(13/629)
بوقوع النجاسة فيه، كحوض الحمام إذا كان يصب فيه من جانب، ويغترف فيه من جانب آخر فإنه لا ينجس بإدخال اليد النجسة فيه، ثم قلنا: وما علينا لو أمرنا بنزح بعض الدلاء، ولا نخالف السلف؟ فتركنا القياس الظاهر بالخبر والأثر " (1) .
فيقال: هل تركتم قول ابن عباس لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بئر بضاعة، وما دمتم أنكم قد صرحتم بأن قولكم هذا خلاف القياس، فهل يوجد في الشرع شيء خلاف القياس، أو أن أحكام الشريعة مطردة منتظمة، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
وقد تركت أقوالاً وتفريعات وتفاصيل لا طائل من ذكرها، وهي أقوال مرجوحة، وأخشى أن نفسد على القارئ فهمه لهذه الأقوال مع تداخلها، وكثرة تفريعاتها، وهي أقوال ضعيفة جداً مخالفة للسنة المرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أسلفنا، والله أعلم.
القول الثاني: مذهب المالكية في التطهير بالنزح:
في المذهب المالكي قولان في الماء إذا زال تغيره بالنزح،
فقيل: يعود طهوراً؛ وإنما زال حكم النجاسة لزوال عينها.
وقيل: يستمر نجساً، ووجهه: أن النجاسة لا تزال إلا بالماء المطلق (2) .
_________
(1) البناية على الهداية (1/408-410) ، تبيين الحقائق (1/30) ، بدائع الصنائع (1/74-75) ، البحر الرائق (1/117) .
(2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/46) وقال ابن جزي في قوانينه (ص: 28) : وإذا وقعت دابة نجسة في بئر، وغيرت الماء، وجب نزح جميعه، فإن لم تغيره استحب أن ينزح منه بقدر الدابة والماء.(13/630)
القول الثالث: مذهب الشافعية والحنابلة:
أن الماء إذا نزح منه وزالت النجاسة وبقي بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير فإنه يطهر، ولم يشترطوا مقداراً للنزح، وإنما ينزح منه حتى يزول تغيره بالنجاسة، ويبقى بعد النزح ماء كثير.
فإن بقي بعد النزح ماء قليل دون القلتين لم يطهر بالنزح، لأن الماء القليل عندهم ينجس ولو لم يتغير، وقد سبق ذكر أدلة هذه المسألة في الماء الراكد تقع فيه نجاسة ولم تغيره (1) .
ويضيف المتقدمون من الحنابلة تفصيلاً آخر، وهو إن كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة فلا بد أن يبقى بعد النزح ماء يشق نزحه، وهو غير متغير بالنجاسة، وأما المتأخرون من الحنابلة فلا يفرقون بين نجاسة بول الآدمي وعذرته المائعة، وبين غيرها من النجاسات.
الراجح من أقوال أهل العلم:
الراجح أن الماء ينجس بالتغير ويطهر بزوال ذلك، فإذا زالت النجاسة، فلم يبق لها أثر من طعم أو لون أو رائحة فقد طهر الماء، والله أعلم.
_________
(1) تكلمنا على هذه المسألة في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية) (ص: 339) .(13/631)
[صفحة فارغة](13/632)
المبحث الثاني
في تطهير المائعات سوى الماء
إذا وقعت نجاسة في شيء جامد فإنه يكفي في تطهيره أن يلقي النجاسة وما حولها، ويكون الباقي طاهراً لعدم تعدي النجاسة إلى باقيه.
وأما إذا وقعت نجاسة في مائع غير الماء كالزيت والخل واللبن، فمتى نحكم له بالنجاسة؟ وهل يمكن تطهيره؟
اختلف الفقهاء في ذلك،
فقيل: إذا خالطت النجاسة مائعاً غير الماء فإنه يتنجس بملاقاة النجاسة، من غير فرق بين القليل والكثير، وبين المتغير وغير المتغير، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
_________
(1) الفتاوى الهندية (1/45) ، وأحكام القرآن للجصاص (1/166،167) ، المبسوط (10/198) .
(2) حاشية الدسوقي (1/59) ، وقال ابن عبد البر في الكافي (ص: 189) : ولا تطهر الأدهان النجسة بغسلها، وهذا تحصيل مذهب مالك وطائفة من المدنيين. اهـ
وانظر التمهيد (9/46) ، مواهب الجليل (1/110-114) ، التاج والإكليل (1/113) ، الفواكه الدواني (1/388) .
(3) قال النووي في المجموع (2/620) : إذا نجس الزيت والسمن والشيرج وسائر الأدهان، فهل يمكن تطهيره؟ فيه وجهان مشهوران، وقد ذكرهما المصنف في باب ما يجوز بيعه
أصحهما عند الأكثرين: لا يطهر بالغسل ولا بغيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الفأرة تقع في السمن: إن كان مائعاً فلا تقربوه. ولم يقل اغسلوه، ولو جاز الغسل لبينه لهم، وقياساً على الدبس والخل وغيرهما من المائعات إذا تنجست، فإنه لا طريق إلى تطهيرها بلا خلاف.
والثاني: يطهر بالغسل. وانظر المجموع أيضاً (9/40) ، وحاشية البجيرمي (1/26) ، روضة الطالبين (3/349) ، منهاج الطالبين (1/6) .
(4) الإنصاف (1/321) ، كشاف القناع (1/188) ، المبدع (1/243) .(13/633)
وقيل: حكمه حكم الماء، لا تنجس منه القلتان فما فوق إلا بالتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة.
وقيل: بالتفرقة بين المائع المائي كالخل ونحوه، وغيره، فالمائع الذي يشبه الماء حكمه حكم الماء، وغير الماء كالزيوت والأدهان فتنجس بملاقاة النجاسة، قل أو كثر، تغير أم لم يتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: المائعات إذا وقعت فيها نجاسة لا تنجس إلا إذا تغير طعمها أو لونها أو ريحها بسبب النجاسة، إلا السمن الذائب تقع فيه الفأرة، فإنه يتنجس مطلقاً، سواء ماتت فيه، أو خرجت وهي حية، وهذا اختيار ابن حزم (2) .
هذه الأقوال في حكم المائع إذا خالطته نجاسة، وأما خلافهم في إمكان تطهير ذلك المائع الذي وقعت فيه نجاسة،
فقيل: إنه يمكن تطهير جميع المائعات إذا وقعت فيها نجاسة، وهو مذهب الحنفية (3) ، واختاره ابن القاسم وابن العربي من المالكية (4) ، وابن سريج من الشافعية (5) .
وقيل: لا يطهر البتة، وهو مذهب الجمهور من المالكية (6) ، والشافعية (7) ،
_________
(1) المغني (1/33) ، الإنصاف (1/67) ، المبدع (1/56) ،.
(2) المحلى (1/142) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/3) ، الفتاوى الهندية (1/42) .
(4) عارضة الأحوذي (7/302) ، الذخيرة (1/185) ، الجامع لأحكام القرآن (2/219-220) .
(5) المجموع (2/620) .
(6) مواهب الجليل (1/113-115) ، الخرشي (1/95-96) ، الجامع لأحكام القرآن (2/219) .
(7) روضة الطالبين (1/29) ، المجموع (2/620) .(13/634)
والحنابلة (1) .
وقيل: يمكن تطهير الزيت، ولا يمكن تطهير غيره من المائعات، وذلك لأن الماء لا يخالط الزيت، بخلاف غيره، وهو قول في مذهب المالكية (2) ، والحنابلة (3) .
دليل من قال: إن المائع إذا وقعت فيه نجاسة لا يمكن تطهيره:
(1731-259) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا معمر، أنا ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن، فماتت قال: إن كان جامداً فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي، وإن كان مائعاً فلا تأكلوه (4) .
وجه الاستدلال:
لو كان يمكن تطهيره لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما أمر بإراقته، ولم يفرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحكم بين القليل والكثير، ولم يستفصل هل تغير أم لم يتغير، فدل على أنه لا فرق.
وأجيب:
أولاً: الحديث أخطأ فيه معمر سنداً ومتناً (5) .
_________
(1) المبدع (1/323-324) ، الإنصاف (1/321) .
(2) مواهب الجليل (1/113،114) .
(3) الإنصاف (1/321) ، المبدع (1/323) .
(4) المسند (2/232) .
(5) الحديث اختلف فيه على الزهري:
فرواه معمر بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فخالف في إسناده ومتنه، أما المتن فقد انفرد بقوله: " وإن كان مائعاً فلا تأكلوه "
وأما المخالفة في الإسناد فجعل الحديث من مسند أبي هريرة، وهو من مسند ميمونة، فقد رواه عن الزهري سفيان بن عيينة ومالك بن أنس، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن إسحاق، بل ومعمر بن راشد أيضاً رووه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة مرفوعاً وقد خرجت كل هذه الطرق وغيرها في كتابي: أحكام الطهارة (المياه والآنية) رقم 96. فراجعها هنالك بارك الله فيك.
وقد قال الترمذي عن رواية معمر: هو حديث غير محفوظ. قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هذا خطأ، أخطأ فيه معمر، قال: والصحيح حديث الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. سنن الترمذي (1798) .
وقال البخاري أيضاً: حديث معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وهم فيه معمر، ليس له أصل. ترتيب العلل الكبير للترمذي (2/758) .
وقال أبو حاتم في العلل لابنه عن رواية معمر بأنها وهم. انظر العلل (2/12) رقم 1507.
كما ضعف رواية معمر ابن تيمية في مجموع الفتاوى في أكثر من موضع، انظر مجموع الفتاوى (21/490، 492، 497)
وأطال ابن القيم في تعليل رواية معمر في تهذيب السنن (5/336-337) ، والله أعلم.(13/635)
ثانياً: أن ابن عباس لا يفرق بين السمن الجامد والمائع،
قال الحافظ ابن حجر: قد أخرج أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن عمارة ابن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس، سئل عن فأرة ماتت في سمن؟ قال: تؤخذ الفأرة وما حولها، فقلت: إن أثرها كان في السمن كله، قال: إنما كانت وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت. ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه أحمد من وجه آخر، وقال فيه: عن جَرِّ فيه(13/636)
زيت، وقع فيه جرذ، وفيه: أليس جال في الجَرِّ كله؟ قال: وإنما جال وفيه الروح، ثم استقر حيث مات. اهـ (1) .
(1732-260) ثالثاً: أن البخاري قد روى في صحيحه، قال: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، عن يونس،
عن الزهري، عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها، قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل.
فهذا الزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد بأن تلقى الفأرة، وما قرب منها، ويؤكل، فلو كان عنده هذا التفصيل الذي رواه معمر لكان أفتى به. ولا يقال: ربما نسي ما روى؛ لأن الزهري كان من أحفظ الناس في عصره، فاحتمال نسيانه بعيد (2) .
الدليل الثاني:
من النظر، قالوا: إن المائعات سوى الماء لا تدفع النجاسة عن غيرها، فلا تدفعها عن نفسها، بخلاف الماء الذي يدفع النجاسة عن غيره، فيدفعها أيضاً عن نفسه.
وقد سبق لنا في النجاسة أنها تزال بأي مزيل قالع للنجاسة، فلا مانع أن
_________
(1) فتح الباري (9/669) ، وهذا الذي عزاه الحافظ لأحمد لم أقف عليه في مسند أحمد، لكن عزاهما ابن تيمية إلى مسائل أحمد رواية ابنه صالح، كما في مجموع الفتاوى (21/497) ، ولم أقف عليه في مسائل صالح المطبوع، والله أعلم، فلعله اختلاف نسخ.
(2) صحيح البخاري (5539) .(13/637)
تزال النجاسة بالخل مثلاً أو بغيره من السوائل المزيلة للنجاسة.
الدليل الثالث:
أن النجاسة إذا وقعت في الجامد فإنها تجاور موضعاً واحداً، وهو الجزء الذي وقعت فيه النجاسة، بخلاف المائع، فإنها تجاوره كله، إذ تنتقل من مكان إلى آخر، فيتنجس بها.
دليل من قال: يمكن تطهيره:
(1733-261) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله،
عن ابن عباس، عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (1) .
وجه الاستدلال:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابهم جواباً عاماً مطلقاً، بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان مائعاً أو جامداً، وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، مع أن الغالب في سمن الحجاز أن يكون ذائباً لشدة الحرارة، والغالب على السمن أنه لا يبلغ قلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أم كثيراً.
الدليل الثاني:
الفرق بين المائع النجس والمائع الطاهر صفات جعلت هذا نجساً، وهذا طاهراً، فإذا لم يظهر في المائع أثر النجاسة لا في اللون، ولا في الطعم، ولا في
_________
(1) صحيح البخاري (235) .(13/638)
الرائحة، فكيف نحكم عليه بأنه نجس؟ وما الفرق إذاً بينه وبين المائع الطاهر.
الدليل الثالث:
أن في تنجيس المائعات حرجاً ومشقة، فهنالك القناطير المقنطرة من الدهون التي تكون في معاصر الزيتون وغيرها، ففي تنجيسها بوقوع قليل النجاسة فيها حرج شديد.
وأما طرق تطهير المائعات النجسة كالدهن مثلاً فمنها الطريقة النبوية التي أرشد إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك بأن تلقى النجاسة وما حولها، وينتفع بالباقي.
ومنها طرق أخرى يذكرها بعض الفقهاء:
فعند الحنفية يطهر بما يطهر به الماء، وقد ذكرنا مذهب الحنفية في تطهير الماء، وذلك بإجرائه مع جنسه مختلطاً به، أو يخلط إن كان قليلاً مع الماء حتى يفيض من الإناء، وكذلك يطهر بالاستحالة، وذلك بصنعه صابوناً (1) .
وذكر النووي في المجموع صفة التطهير فقال: " التطهير بالغسل. بأن يجعل في إناء ويصب عليه الماء ويكاثر به ويحرك بخشبة ونحوها تحريكاً يغلب على الظن أنه وصل إلى أجزائه، ثم يترك حتى يعلو الدهن، ثم يفتح أسفل الإناء، فيخرج الماء، ويطهر الدهن، وهذا الوجه قول ابن سريج " (2) .
الراجح من الخلاف.
بعد استعراض الأدلة نجد أن القول الراجح هو القول: بأن المائع لا ينجس إلا بالتغير، حيث لا يوجد دليل على نجاسة المائع بملاقاة النجاسة، لا دليل أثري، ولا دليل نظري، فالقول بنجاسة المائع مطلقاً فيه حرج ومشقة وإفساد للمال دون أن يكون هناك دليل يقضي بالنجاسة، وإن تغير هذا المائع
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/196) .
(2) المجموع (2/620) .(13/639)
بالنجاسة فهو نجس، وطهارته أن يذهب تغيره بأي مزيل كان، والله أعلم.(13/640)
الفصل الخامس
في كيفية تطهير الأرض المتنجسة
اختلف الفقهاء في كيفية تطهير الأرض المتنجسة،
فقيل: إن كانت الأرض رخوة، فيصب عليها الماء حتى يتخللها، ويكون تخلله قائماً مقام العصر.
وإن كانت الأرض صلبة، فإن كانت مستوية فتطهيرها يكون بحفر جزء منها، ونقل ترابه، ولا ينفعها الغسل، وإن كانت غير مستوية، فيحفر في أسفلها حفرة، ويصب الماء عليها حتى يستقر في الحفيرة ثلاث مرات، وهذا هو مذهب الحنفية رحمهم الله (1) .
وقيل: الاكتفاء بصب الماء على الأرض مطلقاً، وهو مذهب المالكية (2) .
وقيل: إن كانت النجاسة لها جرم مختلط بأجزاء الأرض، فلا بد من إزالة التراب الذي اختلطت به النجاسة، وإن كانت النجاسة لا جرم لها كالبول مثلاً فيكفي مكاثرة الأرض المتنجسة بالماء حتى يغمرها، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/89) ، البحر الرائق (1/237-238) ، البناية على الهداية (1/731) .
(2) مواهب الجليل (1/159) .
(3) روضة الطالبين (1/29) .
(4) الإنصاف (1/315) ، الفروع (1/238) ، مجموع الفتاوى (21/74) .(13/641)
دليل من قال بوجوب حفر الأرض:
الدليل الأول:
(1734-262) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير- يعني: ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك- يعني: ابن عمير- يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القصة - يعني: قصة بول الأعرابي في المسجد- قال فيه: وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء (1) .
قال أبو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -.
[ضعيف، وزيادة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه زيادة منكرة، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (381) .
(2) والحديث رواه أبو داود أيضاً في المراسيل (ص: 76) رقم 11 بالإسناد نفسه، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/428) ، والدارقطني (1/132) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/77) .
قال الدارقطني: عبد الله بن معقل تابعي، وهو مرسل.
وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. تنقيح التحقيق (1/265) .
كما أن فيه علة أخرى، عبد الملك بن عمير مدلس، وقد عنعن، وهو مدلس مكثر.
وله شاهدان:
الأول: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، رواه الدارقطني (1/131) ، من طريق أبي هشام الرفاعي: محمد بن يزيد، عن أبي بكر بن عياش، حدثنا سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: جاء أعرابي فبال في المسجد، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكانه، فاحتفر فصب عليه دلواً من ماء، فقال الأعرابي: يا رسول الله المرء يحب القوم ولما يعمل عملهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرء مع من أحب () .
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/14) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا أبو بكر بن عياش به.
وفي إسناده سمعان بن مالك:
قال أبو زرعة: هذا حديث منكر، وسمعان ليس بالقوي. الجرح والتعديل (4/316) .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لا أصل لهذا الحديث. العلل (1/24) .
قال الدارقطني: سمعان مجهول.
وفي إسناده أيضاً: أبو هشام الرفاعي:
قال أبو حاتم الرازي: ضعيف، يتكلمون فيه، هو مثل مسروق بن المرزبان. الجرح والتعديل (8/129) .
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (551) .
وقال العجلي: كوفي لا بأس به، صاحب قرآن. معرفة الثقات (2/434) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطىء ويخالف. الثقات (9/109) .
والشاهد الثاني: من حديث أنس رضي الله عنه، رواه ابن الجوزي في التحقيق (1/78) ، وفي العلل المتناهية (1/333) برقم 545، من طريق محمد بن صاعد، عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد،
عن أنس، أن أعرابياً بال في المسجد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوباً من ماء.
والحديث معلول، والمعروف أنه مرسل، قال ابن الجوزي: قال الدارقطني: وهم عبد الجبار على ابن عيينة؛ لأن أصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه عن يحيى بن سعيد فلم يذكر أحد منهم الحفر، وإنما روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: احفروا مكانه. مرسلاً، فاختلط على عبد الجبار المتنان. اهـ
قلت: مرسل طاووس أخرجه عبد الرازق في مصنفه (1/424) عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار عن طاووس.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/14) من طريق ابن عيينة به.
وقد ذكر الزيلعي في نصب الراية (1/211) وابن حجر في تلخيص الحبير (1/37) أن الدارقطني أخرج الحديث، ولم أقف عليه في سننه، فلعله في كتاب آخر، والله أعلم.(13/642)
قال الحافظ ابن حجر: " واحتجوا فيه - يعني الحنفية - بحديث جاء من ثلاث طرق، أحدها موصول عن ابن مسعود، أخرجه الطحاوي لكن إسناده ضعيف. قاله أحمد وغيره، والآخران مرسلان، أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل، والآخر من طريق سعيد بن منصور، ومن طريق طاووس، ورواتهما ثقات، وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقاً، وكذا من يحتج به إذا اعتضد، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سمى لا يسمي إلا ثقة، وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما، والله أعلم (1) . اهـ
والراجح: أنه لا يحتج بهما في كل حال، حتى على فرض أن يقوي بعضهما بعضاً، فإننا نحكم بشذوذها؛ لأن الحديث في الصحيحين وفي غيرهما من رواية الثقات، لم يذكروا إلا مجرد صب الماء على البول، ولم يذكروا الحفر، ولو كان الحفر ثابتاً لنقل لأهميته.
" ولو كان نقل التراب واجباً في التطهير لاكتفي به، فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود إلى المقصود، وهو تطهير الأرض " (2) .
دليل من قال: يكفي صب الماء على الأرض حتى يذهب بالنجاسة.
_________
(1) فتح الباري (1/325) .
(2) العدة شرح العمدة (1/336) .(13/644)
(1735-263) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود،
أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (1) .
(1736-264) وروى مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحق بن أبي طلحة،
حدثني أنس بن مالك -وهو عم إسحق- قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه. ورواه البخاري دون قوله: إن هذه المساجد..... الخ (2) .
ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح أنه نقل التراب، أو أنه نقل غسالة الماء،
الدليل الثاني:
من النظر قالوا: إذا غلب الماء على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد
_________
(1) صحيح البخاري (220) .
(2) صحيح مسلم (285) ، صحيح البخاري (219، 220،6025) .(13/645)
طهرها، ولا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً، فقد جعل الله الماء طهوراً، وأنزله علينا ليطهرنا به، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " الماء لا ينجسه شيء " يعني: إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره، ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها، فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها، فالحكم له، وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها (1) .
وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر، إذا صارت خلاً من غير صانع، لاستهلاك ما كان يخامر العقل منها بطريان التحليل عليه، فلأن تطهر النجاسة، ويزول حكمها باستهلاك الماء لها أولى وأحرى (2) .
الراجح من أقوال أهل العلم:
أن حفر الأرض ليس بواجب، وأنه يكفي صب الماء على النجاسة حتى تتحلل، وتستهلك في الماء، ويغلب عليها، ويذهب عينها وطعمها ولونها وريحها، وأن غسالة النجاسة طاهرة، وقد ذكرنا حكم غسالة النجاسة في حكم مستقل.
_________
(1) الاستذكار (3/259) .
(2) تهذيب المسالك (1/45) .(13/646)
الفصل الخامس
في كيفية تطهير بعض النجاسات المخصوصة
المبحث الأول
في كيفية التطهير من ولوغ الكلب
الفرع الأول
في عدد الغسلات من نجاسة الكلب
سبق لنا الخلاف في عين الكلب، وهل هو حيوان طاهر أو نجس، وذكرنا قولين في المسألة:
أحدهما: أن الكلب طاهر العين، وهو قول أبي حنيفة (1) ، ومذهب المالكية (2) ،
_________
(1) لا خلاف عند الحنفية في نجاسة لحم الكلب، ولا في نجاسة سؤره، وإنما الخلاف عندهم في نجاسة عينه، فالقول بطهارة عينه هو قول أبي حنيفة، والقول بنجاستها هو قول أبي يوسف ومحمد، وتظهر ثمرة الخلاف فيما لو وقع الكلب في بئر وأخرج حياً، فعند أبي حنيفة الماء طاهر، وعند صاحبيه الماء نجس.
وكذلك فيما لو انتفض الكلب المبتل بالماء، فأصاب رشاشه ثوب أحد أو بدنه، فعلى رواية أبي حنيفة الثوب والبدن طاهران، وعلى رواية صاحبيه أنهما نجسان، وهكذا، انظر البناية (1/367، 435) ، فتح القدير (1/93- 102) ، البحر الرائق (1/106- 108) ، حاشية ابن عابدين (1/208) ، بدائع الصنائع (1/63) .
(2) المدونة (1/5، 6) ، الاستذكار (1/208، 211) ، والتمهيد (18/271، 272) ، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/50) ، الجامع لأحكام القرآن (13/45) .(13/647)
وقول الزهري (1) ، واختاره داود الظاهري (2) .
والثاني: أن الكلب نجس العين، معلمه وغير معلمه، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (3) ، والمعتمد في مذهب الشافعية (4) ، والحنابلة (5) .
وقد ذكرنا أدلة الفريقين، ورجحنا أن الكلب عينه نجسة.
وقد اختلف القائلون بنجاسة الكلب، في كيفية تطهير الأواني من ولوغه،
فقيل: يجب غسل النجاسة ثلاث مرات، من غير فرق بين نجاسة الكلب وبين غيره من النجاسات غير المرئية (6) .
وقيل: يندب غسل الإناء تعبداً من ولوغ الكلب سبع مرات، ولا يستحب التتريب، كما يندب إراقة الماء الذي في الإناء دون الأحواض ولا يجب، ولا يراق الطعام الذي ولغ فيه الكلب، وهذا مذهب المالكية، وإنما
_________
(1) المجموع (2/585) .
(2) المجموع (2/585) ، الاستذكار (1/211) ، حلية العلماء (1/313) .
(3) انظر الإحالة على مذهب الحنفية في القول الأول.
(4) الأم (1/5، 6) ، الوسيط (1/309، 338) ، المجموع (2/585) ، روضة الطالبين (1/31) ، مغني المحتاج (1/78) .
(5) الفروع (1/235) ، الكافي لابن قدامة (1/89) ، المحرر (1/87) ، الإنصاف (1/310) ، رؤوس المسائل (1/89) .
(6) تبيين الحقائق (1/75) ، بدائع الصنائع (1/88) ، مراقي الفلاح (ص: 64) . الاختيار لتعليل المختار (1/35،36) . شرح فتح القدير (1/209) .(13/648)
قالوا: إن غسله تعبدي لأنهم يرون طهارة عين الكلب (1) .
وقول الحنفية والمالكية أنه يغسل بدون إضافة التراب.
وقيل: يجب غسل الإناء سبع مرات، إحداهن بالتراب، وهو مذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: يجب غسله ثمان مرات، إحداهن بالتراب، وهو قول في مذهب الحنابلة (4) .
_________
(1) قال في الشرح الكبير (1/83) : وندب غسل إناء ماء ويراق ذلك ندباً لا إناء طعام فلا يندب غسله ولا إراقته، بل يحرم لما فيه من إضاعة المال، إلا أن يريقه لكلب أو بهيمة فلا يحرم، ولا حوض فلا يندب غسل ولا يراق.
وقال في حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/83) اعلم أن كون الغسل تعبداً هو المشهور، وإنما حكم بكونه تعبداً لطهارة الكلب، ولذلك لم يطلب الغسل في الخنزير،
وقيل: إن نَدْبَ الغسل معلل بقذارة الكلب.
وقيل: لنجاسته إلا أن الماء لما لم يتغير قلنا بعدم وجوب الغسل، فلو تغير لوجب.
وعلى هذين القولين يلحق الخنزير بالكلب في ندب غسل الإناء من ولوغه، وعلى القول الأول يجوز شرب ذلك الماء، ولا ينبغي الوضوء به إذا وجد غيره للخلاف في نجاسته.
وعلى القول بالنجاسة فلا يجوز شربه ولا الوضوء به.
(2) الأم (1/5، 6) ، الوسيط (1/309، 338) ، المجموع (2/585) ، روضة الطالبين (1/32) ، مغني المحتاج (1/78) .
(3) الفروع (1/235) ، الكافي لابن قدامة (1/89) ، المحرر (1/87) ، الإنصاف (1/310) ، رؤوس المسائل (1/89) .
(4) الفروع (1/235) ، الإنصاف (1/310) .(13/649)
دليل الحنفية على وجوب الغسل ثلاث مرات:
الدليل الأول:
(1737-265) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال ثنا أبو نعيم: قال ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة،
في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر قال: يغسل ثلاث مرات (1) .
[متنه منكر؛ لمخالفته المرفوع، ومخالفته ما صح عن أبي هريرة من الغسل سبعا] (2) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/23) .
(2) الحديث مداره على عبد الملك بن أبي سليمان. وقد اختلف عليه فيه. فمنهم من يرويه عنه موقوفاً.
ومنهم من يرويه من فعل أبي هريرة موقوفاً عليه.
ومنهم من يرويه مرفوعاً.
ومع هذا الاختلاف فإنه مخالف أيضاً لجميع من روى الحديث عن أبي هريرة، ورواياتهم في الصحيحين وغيرهما مرفوعة، وفيه الأمر بغسلها سبعاً، فلو صح عن أبي هريرة موقوفاً عليه لم يكن فيه حجة؛ لأن الموقوف لا حجة فيه مع معارضتة للمرفوع، والله أعلم.
قال الدارقطني في العلل (8/101) " ورواه جماعة من التابعين عن أبي هريرة، منهم عبيد بن حنين، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وعبد الرحمن الأعرج، وعقبة بن أبي الحسناء اليمامي، وأبو صالح السمان، عن أبي هريرة، فاتفقوا على أن يغسل من ولوغ الكلب سبع مرات، وخالفهم عطاء بن أبي رباح، فرواه عن أبي هريرة أنه يغسل ثلاثاً، ولم يرفعه، قاله عبد الملك بن أبي سليمان." اهـ
ولا شك أن رواية الأكثر مقدمة على رواية الواحد، فكيف إذا كان هذا الواحد لم يضبط، واختلف عليه، فمرة يرويه مرفوعاً، ومرة يرويه موقوفاً على أبي هريرة، ومرة يرويه من قوله، والله أعلم.
وقد تكلمت على طرق هذا الحديث وبينت مصادر تخريجه، ووجوه الاختلاف فيه في بحث سابق باسم (تكرار الغسل في إزالة النجاسة) فليرجع إليه من أراد الاستزادة.(13/650)
قال الطحاوي: " لما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاثة يطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته ".
والجواب على ذلك من وجوه:
الأول: الصحابي لا يتعمد مخالفة ما روى، ولكن قد يخالفه خطأ، وليس بمعصوم، فقد ينسى ما روى، وقد يظن من عام أنه خاص، أو من مطلق أنه مقيد، أو العكس.
الثاني: ليس عندنا أن فعل أبي هريرة كان متأخراً عن حديث الأمر بغسل الإناء سبعاً حتى يمكن أن نجزم بالنسخ،
الثالث: فعل الصحابي لا ينسخ الحديث المرفوع؛ لأن الوحي معصوم بخلاف فعل الصحابي.
الرابع: قد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: يغسل سبع مرات موقوفاً عليه، وهذا أصح إسناداً، فلماذا يأخذ الحنفية برواية الثلاث، ولا يأخذون برواية السبع، مع أنه اجتمع في رواية السبع قوة الإسناد، وقوة المتن، وموافقة الموقوف للمرفوع، فهي أولى من رواية الأخذ بالثلاث.
(1738-266) فقد روى ابن المنذر من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة،(13/651)
قال: إذا ولغ الكلب فاغسلوه سبع مرات، أولاهن بالتراب (1) .
[إسناده صحيح، بل قال ابن حجر: إسناده من أصح الأسانيد] .
قال الحافظ: " ثبت أنه أفتى ـ يعني أبا هريرة ـ بالغسل سبعاً. ورواية من روى عنه موافقة فتياه أرجح ممن روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد، ومن حيث النظر. أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد. وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء عنه. وهو دون الأولى في القوة بكثير... الخ (2) .
وأما الدليل على عدم التتريب.
أولاً: أن أكثر الرواة الذين رووا الحديث عن أبي هريرة لم يذكروا التراب، وهم خلق كثير، وانفرد بذكرها ابن سيرين رحمه الله تعالى عن أبي
_________
(1) الأوسط (1/305) ومن طريق حماد بن زيد أخرجه الدارقطني (1/64) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/248) .
وأخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور (204) من طريق إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب به. وأخرجه أبو داود (72) ، ومن طريقه البيهقي كما في المعرفة (2/60) عن أيوب عن ابن سيرين به موقوفاً.
(2) الفتح (ح 172) . وقال البيهقي في المعرفة (2/59) : " لم يروه غير عبد الملك، وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات ". ثم قال أيضاً (2/61) : " ولمخالفته ـ يعني عبد الملك ـ أهل الحفظ والثقة في بعض رواياته تركه شعبة بن الحجاج، ولم يحتج به محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح، وحديثه هذا مختلف عليه، فروي عنه من قول أبي هريرة. وروي عنه من فعله، فكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الثقات الأثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطاً، برواية واحد قد عرف بمخالفته الحفاظ في بعض الأحاديث " اهـ.(13/652)
هريرة، وقد تجنب البخاري في صحيحه الرواية التي فيها ذكر التراب للاختلاف في ذكرها، فلعله لا يرى صحة هذه اللفظة.
قال البيهقي: لم يروه ثقة غير ابن سيرين عن أبي هريرة، يعني بذكر التراب (1) .
ثانياً: الاضطراب في ذكرها، فبعض الروايات تقول: " أولاهن " وبعضها " أخراهن" وبعضها: " إحداهن " وبعضها: السابعة، وبعضها الثامنة،
_________
(1) سنن البيهقي (1/241) ، والمعرفة (2/58) ، وهذا ذكر للجماعة الذين رووه بدون ذكر التراب من أصحاب أبي هريرة،
الأول: الأعرج، رواه البخاري (172) ، ومسلم (279) من طريق مالك، عن أبي الزناد، عنه.
الثاني والثالث: أبو صالح السمان، وأبو رزين، أخرجه مسلم (279) .
الرابع: همام بن منبه، كما في مسلم (279) .
الخامس: ثابت بن عياض الأحنف، كما في المسند (2/271) ، والنسائي (64) ، وفي الكبرى (66) .
السادس والسابع: عبيد بن حنين وعبد الرحمن بن أبي عمرة، كما في مسند أحمد (2/360، 398، 482) .
الثامن: أبو سلمة، كما في المسند (2/271) ، وسنن النسائي (64) ، وفي السنن الكبرى (67) .
التاسع: أبو السدي عبد الرحمن بن أبي كريمة، أخرجه أبو عبيد في الطهور (203) .
قال أبو داود في سننه بعد أن ذكر رواية ابن سيرين: وأما أبو صالح وأبو رزين والأعرج وثابت الأحنف وهمام بن منبه وأبو السدي عبد الرحمن رووه عن أبي هريرة ولم يذكروا التراب. اهـ يشير بذلك إلى تفرد ابن سيرين بذكر التراب.(13/653)
فهذا الاضطراب يوجب طرح هذه اللفظة، فيكون اجتمع في هذه اللفظة علتان: التفرد والاضطراب، وهما من علل الحديث.
قال القرطبي: هذه الزيادة مضطربة، ولهذا لم يأخذ بها مالك، ولا أحد من أصحابه (1) .
والجواب عن هذا:
أولاً: قد يقال: ابن سيرين إمام في الحفظ، وله عناية في الألفاظ، وكون مثله ينفرد بلفظة فهو دليل على كونها محفوظة، وقد رواها مسلم في صحيحه، وهذا لا يشفي؛ لأن الإمام قد يخطئ وليس بمعصوم.
ثانياً: وقد يقال أيضاً: إن ابن سيرين لم ينفرد بها، فقد تابعه فيها غيره،
فقد رواه الدارقطني (2) من طريق خالد بن يحيى الهلالي (3) ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ويونس عن الحسن، عن أبي هريرة. فقال فيه: الأولى بالتراب (4) .
_________
(1) المفهم (1/540) .
(2) سنن الدارقطني (1/64) .
(3) وفي إتحاف المهرة (الذهلي) .
(4) وخالد هذا لم أقف على ترجمته، إلا أن يكون هو الذي ذكره ابن عدي في الكامل، قال: خالد بن يحيى أبو عبيد السدوسي البصري، حدث عن يونس بن عبيد وغيره ما لا يرويه غيره، وذكر من أفراده وغرائبه ثلاثة أحاديث، قال: ولخالد هذا غير ما ذكرت من الحديث إفرادات وغرائب عمن يحدث عنه، وليس بالكثير، وأرجو أنه لا بأس به؛ لأني لم أر في حديثه متناً منكراً. اهـ انظر تراجم رجال الدراقطني للوادعي رحمه الله (ص: 216) .
وقال الذهبي: صويلح لا بأس به.(13/654)
كما أخرجه النسائي من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، وفيه ذكر التراب (1) .
إلا أن هذا الطريق في النفس منه شيء،
أولاً: انفرد به معاذ بن هشام، وهو صدوق ربما وهم، ولم يتابع في هذا الإسناد، ولذلك قال البيهقي في سننه: هذا حديث غريب إن حفظه معاذ بن هشام، عن أبيه فهو حسن؛ لأن التراب في هذا الحديث لم يروه ثقة غير ابن سيرين، عن أبي هريرة، وإنما رواه غير هشام عن قتادة، عن ابن سيرين كما تقدم. اهـ
ثانياً: أن سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد وسعيد بن بشير والحكم بن عبد الملك رووا الحديث عن قتادة، فقالوا: عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وخالفوا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة (2) ، فرجعت رواية قتادة والله أعلم إلى رواية ابن سيرين (3) ، خاصة أن الراوي عن ابن أبي عروبة عبدة بن
_________
(1) سنن النسائي (338) .
(2) وقد جعلت الحمل على معاذ بن هشام، ولم أجعل المخالفة من أبيه كما صنع ذلك البيهقي رحمه الله، فقد سبق أن نقلت عنه قوله: إن كان معاذ حفظه. قال ابن التركماني تعليقاً على عبارة البيهقي: لقائل أن يقول: كان ينبغي أن يقول: إن كان هشام حفظه؛ لأنه هو الذي انفرد به، عن قتادة، كما بينه البيهقي، ولعله إنما عدل إلى ابنه معاذ لجلالة هشام الدستوائي، وابنه معاذ وإن روى له الجماعة لكن ليس بحجة، كذا قال ابن معين. وقال أبو أحمد بن عدي: ربما يغلط في الشيء، وأرجو أنه صدوق". اهـ
(3) رواه النسائي (339) من طريق عبدة بن سليمان،
ورواه الطحاوي (1/21) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، كلاهما، عن سعيد بن أبي عروبة.
رواه أبو داود (73) والدارقطني (1/64) من طريق أبان بن يزيد،
ورواه الدارقطني (1/64) ، والبيهقي (1/241) من طريق سعيد بن بشير،
ورواه الدارقطني (1/64) من طريق الحكم بن عبد الملك، أربعتهم (سعيد بن أبي عروبة وأبان وسعيد بن بشير والحكم بن عبد الملك) عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة.(13/655)
سليمان، وهو من أصحاب سعيد القدماء، وكذلك أبان بن يزيد، وقد أشار البيهقي إلى هذا فيما نقلناه عنه قبل قليل.
كما أن هناك شاهداً آخر على إضافة التراب إلى الماء من حديث عبدالله ابن مغفل،
(1739-267) فقد روى مسلم، من طريق شعبة، عن أبي التياح، سمع مطرف بن عبد الله يحدث،
عن ابن المغفل قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب (1) .
وأما الجواب عن دعوى الاضطراب، في قوله: " إحداهن أو أولاهن أو أخراهن أو السابعة أو الثامنة أو بالشك الخ
فالجواب ما ذكره العراقي حيث يقول:
" الحديث المضطرب إنما تتساقط الروايات إذا تساوت وجوه الاضطراب، أما إذا ترجح بعض الوجوه فالحكم للرواية الراجحة، فلا يقدح فيها رواية من خالفها، كما هو معروف في علوم الحديث.
_________
(1) صحيح مسلم (280) .(13/656)
وإذا تقرر ذلك فلا شك أن رواية أولاهن أرجح من سائر الروايات؛ فإنه رواها عن محمد بن سيرين ثلاثة:
الأول: هشام بن حسان، قلت: وهو من أثبت أصحاب محمد.
الثاني: حبيب بن الشهيد.
الثالث: أيوب السختياني.
وأخرجها مسلم في صحيحه من رواية هشام، فتترجح بأمرين:
1- كثرة الرواة
2- تخريج أحد الشيخين لها، وهما من وجوه الترجيح عند التعارض.
وأما رواية أخراهن بالخاء المعجمة, والراء فلا توجد منفردة مسندة في شيء من كتب الحديث، إلا أن ابن عبد البر ذكر في التمهيد أنه رواها خلاس عن أبي هريرة (1) ، كما سيأتي في الوجه الذي يليه إلا أنها رويت مضمومة مع أولاهن كما سيأتي.
وأما رواية السابعة بالتراب فهي وإن كانت بمعناها, فإنه تفرد بها عن محمد بن سيرين قتادة، وانفرد بها أبو داود, وقد اختلف فيها على قتادة فقال إبان عنه هكذا, وهي رواية أبي داود.
وقال سعيد بن بشير عن قتادة الأولى بالتراب فوافق الجماعة، رواه كذلك الدارقطني في سننه, والبيهقي من طريقه, وهذا يقتضي ترجيح رواية أولاهن لموافقته للجماعة.
_________
(1) الظاهر أنه سقط منه ذكر أبي رافع، فقد رواه النسائي كما سبق، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة.(13/657)
وأما رواية إحداهن بالحاء المهملة, والدال فليست في شيء من الكتب الستة, وإنما رواها البزار كما تقدم.
وأما رواية أولاهن أو أخراهن فقد رواها الشافعي , والبيهقي من طريقه بإسناد صحيح, وفيه بحث أذكره, وهو أن قوله: أولاهن أو أخراهن لا تخلو إما أن تكون مجموعة من كلام الشارع، أو هو شك من بعض رواة الحديث؟
فإن كانت مجموعة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو دال على التخيير بينهما، ويترجح حينئذ ما نص عليه الشافعي رحمه الله من التقييد بهما؛ وذلك لأن من جمع بينهما معه زيادة علم على من اقتصر على الأولى أو السابعة; لأن كلا منهم حفظ مرة فاقتصر عليها، وحفظ هذا الجمع بين الأولى, والأخرى فكان أولى.
وإن كان ذلك شكاً من بعض الرواة فالتعارض قائم، ويرجع إلى الترجيح، فترجح الأولى كما تقدم، ومما يدل على أن ذلك شك من بعض الرواة لا من كلام الشارع: قول الترمذي في روايته " أولاهن "، أو قال: " أخراهن بالتراب" فهذا يدل على أن بعض الرواة شك فيه، فيترجح حينئذ تعيين الأولى، ولها شاهد أيضا من رواية خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة كما سيأتي في الوجه الذي يليه. وإذا كان ذكر الأولى أرجح ففيه حجة لما ذكر أصحابنا من كون التتريب في المرة الأولى أولى، وذكروا له معنى آخر, وهو أنه إذا قدم التتريب في الأولى فتناثر من بعض الغسلات رشاش إلى غير الموضع المتلوث بالنجاسة الكلبية لم يجب تتريبه، بخلاف ما إذا أخر، فكان هذا أرفق، لكن حمله على الأولوية متقاصر عما(13/658)
دلت عليه الرواية الصحيحة، فينبغي حمله على تعيين المرة الأولى والله أعلم" (1) . اهـ كلام العراقي رحمه الله تعالى.
وقال الصنعاني: رواية أولاهن أرجح لكثرة رواتها، وبإخراج الشيخين لها، وذلك من وجوه الترجيح عند التعارض " (2) .
وهذا وهم منه رحمه الله تعالى، فإن البخاري تجنب ذكر التراب في صحيحه، كما أشرت إليه سابقاً.
ومال النووي إلى صحة كل الألفاظ، فقد قال رحمه الله: قد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها، وفيه دليل على أن التقيد بالأولى وغيرها ليس للاشتراط، بل المراد: إحداهن، وهو القدر المتيقن من كل الروايات ".
وأما قوله في حديث عبد الله بن مغفل " وعفروه الثامنة بالتراب " وفي حديث أبي هريرة " سبعاً إحداهن بالتراب " فاختلف العلماء في الجواب عن هذا الاختلاف،
فقيل: إن رواية أبي هريرة أولى، فتقدم على رواية عبد الله بن مغفل، قال البيهقي في المعرفة: " وإذا صرنا إلى الترجيح بزيادة الحفظ، فقد قال الشافعي رحمه الله: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره " (3) .
وسبب آخر في ترجيح رواية أبي هريرة على رواية عبد الله بن مغفل، بكون الإجماع على خلاف رواية ابن مغفل، فإن الأقوال: ليست
_________
(1) طرح التثريب (2/130) .
(2) سبل السلام (1/39) .
(3) المعرفة (2/59) ، وقال مثله في السنن الكبرى (1/242) .(13/659)
إلا الغسل ثلاثاً أو سبعاً، ولم يقل أحد بغسل الإناء ثمان مرات.
وأجاب الحافظ عن هذا بقوله:
قال ابن دقيق العيد: وفي هذا القول نظر؛ لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصري، وبه قال أحمد بن حنبل في رواية حرب الكرماني عنه (1) ،
وقيل: إن رواية ابن مغفل أولى؛ لأنه زاد الغسلة الثامنة، والزيادة مقبولة، خصوصاً من مثله، ومن أخذ بحديث عبد الله بن مغفل فقد عمل بحديث أبي هريرة، وليس العكس (2) .
وهناك من يقول: لو أخذنا بالترجيح أصلاً لم نأخذ بالقول بالتراب لأن الرواة الذين رووا الحديث عن أبي هريرة بدون ذكر التراب أكثر عدداً ممن ذكرها، وبعضهم من أخص أصحاب أبي هريرة كالأعرج وأبي صالح السمان وغيرهما.
وهناك من جمع بين الروايتين، فقال: " لما كان التراب جنساً غير الماء، جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدوداً اثنتين.
وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله: وعفروه الثامنة بالتراب ظاهر في كونها غسلة مستقلة، لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازاً، وهذا الجمع من مرجحات تعين التراب في الأولى " (3) .
ومما يرجح كون التراب في الأولى أن الغسل بالتراب لو جعل في
_________
(1) فتح الباري (1/368) .
(2) الجوهر النقي (1/241) .
(3) فتح الباري (1/368) .(13/660)
الثامنة لاحتاج إلى غسله بالماء بعد ذلك؛ لإزالة التراب، أما على القول بغسل الأولى بالتراب فإن الماء في الغسلات التالية يزيل أثر التراب، ويكون في هذا أدعى لنظافة الإناء، والله أعلم.
دليل من قال: يستحب غسله سبعاً، ولا يجب:
يرى المالكية أن الأمر بغسل الإناء ليس بسبب نجاسة الكلب، فهم يرون أن عينه طاهرة، وهذا ما حملهم على القول باستحباب الغسل سبعاً، لأن الغسل لو كانت العلة فيه النجاسة، لكان المطلوب الإنقاء، وقد يحصل في مرة واحدة.
ولم يوجب المالكية إراقة الماء، لأن الماء عندهم لا ينجس إلا بالتغير، ولم يتغير الماء بسبب ولوغ الكلب، فلماذا يراق عندهم وهم يرون أنه ماء باق على خلقته، وقد سبق ذكر أدلتهم على طهارة الكلب في مسألة مستقلة، والجواب عنها، فالراجح أن الكلب عينه نجسة.
وأما قولهم إن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، لكن لا يعني أننا إذا حكمنا بنجاسة الماء إذا ولغ فيه الكلب أَنْ نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة، ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها الأمر بغسلها سبعاً، مع أن دم الحيض مع الإجماع على نجاسته لم نؤمر بغسله سبعاً، كما في حديث أسماء المتفق عليه، ومنها الأمر بالتتريب، وبالتالي لا يمكن أن يقاس الأخف على الأغلظ.
على أنه قد يقال: لا نسلم عدم تغير الماء من لعاب الكلب؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء، فتظهر على شيء منه، فيكون هذا(13/661)
نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة فينجس، والله أعلم.
دليل من قال بوجوب الغسل سبعاً مع التتريب:
(1740-268) ما رواه مسلم من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب (1) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " طهور إناء أحدكم" جعل طهارة الإناء متوقفة على الغسل سبع مرات أولاهن بالتراب، ومن نقص من هذا العدد فلم يحصل للإناء الطهور، ومعنى هذا أنه نجس، والطهارة: هي الطهارة الشرعية: لأننا لا نرجع إلى الحقيقة اللغوية إلا إذا امتنع حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية، ولم يمنع من ذلك مانع.
وكون الطهارة تتوقف على هذا الفعل دليل أن الأمر ليس تعبدياً، كما قال ذلك المالكية، إذ لو كان تعبدياً لما كان هذا الفعل طهارة للإناء، لأن الطهارة لا تكون إلا من حدث أو نجاسة، والإناء ليس محلاً لطهارة الحدث، فلم يبق إلا طهارة الخبث.
وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم، والله أعلم.
_________
(1) صحيح مسلم (279) .(13/662)
الفرع الثاني
في وضع الصابون والأشنان بدلاً من التراب
اختلف العلماء القائلون بإضافة التراب إلى الماء في تطهير نجاسة الكلب هل يقوم الأشنان والصابون مقام التراب؟ .
فقيل: لابد من التراب، ولا يقوم غيره مقامه، وهو مذهب الشافعية (1) .
وقيل: يقوم الأشنان والصابون وغيرهما من المنظفات مقام التراب، وهو مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: إذا فقد التراب أو كان التراب يفسد المحل كما لو كانت نجاسة الكلب في الثياب ونحوها أجزأ الصابون ونحوه، وإلا فلا، وهو وجه في مذهب الشافعية (3) .
دليل من قال: لا بد من التراب ولا يقوم غيره مقامه:
الدليل الأول:
أن النص إنما ورد في التراب، ولو كان غير التراب يقوم مقامه لذكره الشارع.
وقد يناقش هذا بأن أكثر المنظفات الموجودة اليوم لم تكن موجودة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي قد يكون فيها من قوة إزالة النجاسة وما شابهها أكثر مما يوجد في التراب.
_________
(1) نهاية المحتاج (1/236) ، روضة الطالبين (1/32) ، طرح التثريب (2/133) .
(2) كشاف القناع (1/209) ، الإنصاف (1/310) .
(3) نهاية المحتاج (1/236) ، روضة الطالبين (1/32) ، طرح التثريب (2/133) .(13/663)
الدليل الثاني:
القياس على التيمم، فكما أن التيمم لا يكون إلا بالأرض، فكذلك هنا، فالتراب والماء بينهما علاقة في باب الطهارة، فالتراب يرفع الحدث ويزيل الخبث، والماء يرفع الحدث ويزيل الخبث، ولا يرفع الحدث مائع آخر مهما كانت قوته في التطهير.
قال ابن القيم: وأما جمعها بين الماء والتراب في التطهير فلله ما أحسنه من جمع وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، وقد عقد الله سبحانه وتعالى الإخاء بين الماء والتراب قدراً وشرعاً، فجمعهما الله سبحانه وتعالى حيث خلق منهما آدم وذريته، وجعل منهما حياة كل حيوان، وأخرج منهما أقوات الدواب والناس والأنعام، وكانا أعم الأشياء وجوداً، وأسهلهما تناولاً... إلخ كلامه رحمه الله تعالى (1) .
دليل من قال: يجزئ عن التراب غيره:
الدليل الأول:
قالوا: إن الصابون والأشنان ونحوهما أقوى من التراب في الإزالة، ولما نص على التراب كان هذا تنبيهاً على أن غيره يقوم مقامه مما هو مثله أو أقوى منه.
الدليل الثاني:
قالوا: إذا كان يجوز الاستجمار بكل جامد مزيل، مع أن النص إنما ورد في الحجارة، فكذلك هنا.
_________
(1) إعلام الموقعين (2/161) .(13/664)
دليل من قال: يجزئ عند فقد التراب:
قالوا: قواعد الشريعة تدل على أن الواجبات كلها إنما تجب مع القدرة عليها، وعدم الضرر من استعمالها، فإذا عجز عن التراب أو خشي الضرر من استعماله لم يجب، والنص ورد في التراب، إشارة إلى أن الماء وحده لا يكفي في إزالة النجاسة، فإذا فقد التراب قام غيره مقامه، وكونه يغسل بالماء والصابون خيراً من كونه يغسل بالماء وحده.
وهذا القول وسط بين القولين السابقين، وهو أقواها عندي، والله أعلم.(13/665)
[صفحة فارغة](13/666)
الفرع الثالث
في تعفير الإناء بتراب نجس
اختلف القائلون باشتراط التراب في تطهير الإناء من ولوغ الكلب، هل يشترط أن يكون التراب طاهراً؟ .
فقيل: يشترط ذلك، وهو أصح الوجهين عند الشافعية (1) ، ومذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يجزئ التراب النجس، وهو وجه في مذهب الشافعية (3) .
دليل القائلين باشتراط الطهارة:
قالوا: إن التراب النجس لا يمكن أن يكون سبباً في طهارة المحل، فما كان نجساً في نفسه لا يمكن أن يطهر غيره.
الدليل الثاني:
إذا كان يشترط في التيمم طهارة التراب، فكذلك في طهارة الخبث، لأن طهارة الخبث إحدى الطهارتين.
الدليل الثالث:
إذا نهي عن الاستجمار بالنجس، وهو إزالة للنجاسة عن البدن، فكذلك إزالة النجاسة عن الآنية والثياب ونحوها.
_________
(1) قال في روضة الطالبين (1/32) : ولا يكفي التراب النجس على الأصح كالتيمم. اهـ، وانظر مغني المحتاج (1/84) ، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/74) .
(2) شرح منتهى الإرادت (1/97-98) ، كشاف القناع (1/209) ، الإنصاف (1/310-312) .
(3) مغني المحتاج (1/84) ، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/74) ، روضة الطالبين (1/32) .(13/667)
والدليل على أنه لا يستجمر إلا بطاهر:
(1741-269) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن ابن الأسود، عن أبيه
أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: هذا ركس. فإن معنى الركس في اللغة يحتمل أمرين:
الأول: الركس بمعنى: الرجيع.
والثاني: الركس بمعنى: النجس. فعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه بأنه رجس.
وقد قال بعضهم: ليس في الحديث دليل على اشتراط الطهارة، وإنما فيه ترك الاستنجاء بالروث، ولا يلزم من ذلك النجاسة، كما لم يلزم من تركه الاستنجاء بالعظم والمحترمات.
فأجاب النووي بقوله: إن الاعتماد في الاستدلال على قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها ركس" وليس على مجرد تركه الاستنجاء بها، قال: ولا يجوز أن يحمل على أنه مجرد إخبار بأنها رجيع، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي الحمل عليه إلى خلو الكلام عن فائدة، فوجب حمل الكلام على ما ذكرناه من تفسير الركس بمعنى: النجس (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (156) .
(2) المجموع (2/570) .(13/668)
دليل من قال: لا يشترط طهارة التراب:
الدليل الأول:
قالوا: ليس في الحديث اشتراط طهارة التراب، وإنما الحديث فيه " التعفير بالتراب " وهذا متحقق مع التراب النجس.
الدليل الثاني:
على فرض أن يكون التراب نجساً، فإنه سوف يتبع بالماء الطهور، وهذا كاف في تطهيره.
الدليل الثالث:
قالوا من النظر: النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها، وقولكم: إن النجس لا يطهر، هل تقصدون لا يطهر حقيقة أو لا يطهر حكماً؟
فإن قلتم: لا يطهر حقيقة، فإن الحجر الذي وقع عليه بول فإنه يمكن أن يستجمر به، ويقطع النجاسة.
وإن قلتم: إنه لا يطهر حكماً فلا يوجد دليل على اشتراط طهارة التراب.
فالراجح أن التراب النجس ممكن أن يطهر المحل إذا أتبع بالماء، ولم يكن التراب هو الغسلة الأخيرة، وهذه المسألة راجعة إلى مسألة أخرى وهي جواز الانتفاع بالشيء النجس على وجه لا يتعدى، والله أعلم.(13/669)
[صفحة فارغة](13/670)
الفرع الرابع
في كيفية الطهارة من بول الكلب ورجيعه
لو بال الكلب في الإناء، فهل يجب أن يغسل سبع مرات مع التراب، أو أن هذا مقصور على الولوغ فقط؟
اختلف العلماء في هذا.
فقيل: يجب التسبيع مع التراب في نجاسة الكلب مطلقاً، سواء كانت من بوله أو عَرَقِه أو ريقه أو غيرها، وهذا هو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (1) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: التسبيع خاص بالولوغ فقط، وهو وجه في مذهب الشافعية (3) .
وأما مذهب الحنفية والمالكية فهم لا يقولون بالتتريب أصلاً، لا في الولوغ ولا في غيره.
دليل من قال: يجب التسبيع من نجاسة الكلب مطلقاً:
قالوا: إذا كان ريق الكلب نجساً، ويغسل منه الإناء سبعاً، فما بالك ببوله الذي هو أخبث وأنتن من ريقه؟
دليل من قال: التسبيع خاص بالولوغ:
الأصل في النجاسات أن تغسل حتى تذهب عين النجاسة، لا فرق في
_________
(1) مغني المحتاج (1/83-84) ، روضة الطالبين (1/32) .
(2) الإنصاف (1/310- 312) ، كشاف القناع (1/209) ، الفروع (1/235-236) .
(3) انظر المراجع التي أحلنا عليها في القول الأول.(13/671)
ذلك بين الدم والبول والسؤر النجس وغيرها من النجاسات، وسواء كانت هذه النجاسة من الإنسان أوالحيوان، وورد في النص النبوي وجوب التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب خاصة، وما كان ربك نسياً، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أعطي جوامع الكلم، فلما خص الولوغ بهذه الأحكام دون سائر النجاسات، دل على اختصاصه بذلك، وأما بوله وروثه فحكمه حكم سائر النجاسات من بول الآدمي وغائطه وحكم دم الحيض وغيره من النجاسات، وهو الغسل حتى تذهب عين النجاسة، ومن قال بوجوب غسلها سبعاً مع التراب فعليه الدليل، وقد يكون في الريق معنى لا يوجد في البول والدم وغيرهما، والله سبحانه وتعالى أعلم بما خلق، فقد يوجد في ريق الكلب نوع من الجراثيم لا يطهره إلا التراب، كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن في أحد جناحي الذباب داء، وفي الآخر شفاء، مع تماثل الجناحين خِلْقَة، ومع ذلك لم يتماثلا حكماً، وكون ريق الكلب نجساً، وبوله نجساً لا يعني تماثلهما في طريقة التطهير، وانظر إلى بول الصبي وبول الجارية، فمع نجاستهما لم يتحدا في التطهير، فإذا فارقت نجاسة من النجاسات غيرها في طريقة التطهير قصرنا الحكم عليها حتى يوجد دليل صريح على تعدية الحكم إلى غيرها، ولا دليل على تعدية الحكم إلى بول الكلب وروثه وعرقه إلا القياس على ريقه، والقياس في مثل هذا ضعيف.
وهذا القول هو الراجح لقوة دليله، والله أعلم..(13/672)
الفرع الخامس
هل تقوم الغسلة الثامنة مقام التراب
اختلف العلماء فيما إذا اقتصر على الماء، وغسله ثماني مرات، فهل تكفي الغسلة الثامنة عن التراب.
فقيل: لا يطهر، وهو الوجه الأصح في مذهب الشافعية (1) ، ومذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يطهر مطلقاً، وهو وجه في مذهب الشافعية (3) .
وقيل: يطهر عند عدم التراب دون وجوده، وهو وجه ثالث في مذهب الشافعية (4) .
دليل من قال: تنوب الغسلة الثامنة عن التراب:
قال: إن الماء أقوى من التراب في التطهير، فإذا استبدل القوي بالأقوى قام مقامه في التطهير.
دليل من قال: لا بد من التراب:
إن التراب ليس غسلة مستقلة حتى يقال: إن الماء أقوى من التراب، وإنما المقارنة بين غسله بالماء وحده، أو بالماء مع التراب، ولا شك أن الجمع بين التراب والماء في الإزالة أقوى من الماء وحده، ولهذا المعنى قصد الشارع من
_________
(1) روضة الطالبين (1/32) ، طرح التثريب (2/133-134) .
(2) كشاف القناع (1/209) ، الإنصاف (1/310-312) .
(3) روضة الطالبين (1/32) .
(4) المرجع السابق.(13/673)
الجمع بينهما حصول الطهارة المستيقنة.
قال ابن قدامة: " فأما الغسلة الثامنة فالصحيح أنها لا تقوم مقام التراب؛ لأنه إن كان القصد به تقوية الماء في الإزالة، فلا يحصل ذلك بالثامنة؛ لأن الجمع بينهما أبلغ في الإزالة، وإن وجب تعبداً امتنع إبداله والقياس عليه" (1) .
وقال العراقي: " وأما من قال من أصحابنا يكفي؛ لأن الماء أبلغ في التطهير من التراب فمردود؛ لأنه لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال " (2) .
دليل من قال: يكفي إذا فقد التراب:
أن الواجب هو التراب، فإذا تعذر فإما أن نقول: إنه يسقط التراب إلى غير بدل، أو يسقط إلى بدل وهو الغسلة الثامنة، ولو كانت الغسلة السابعة كافية في التطهير لما أوجب التراب، فالإناء بعد غسله سبع مرات ما زال نجساً، يحتاج إلى التراب، وقد تعذر التراب فأقمنا الغسلة الثامنة مقامه، والله أعلم.
الراجح والله أعلم، أن الغسلة الثامنة لا تقوم مقام التراب، ولو غسل الإناء مائة مرة، لأن الماء قد عمل عمله بغسله سبع غسلات، ولا معنى لتكرار غسله بالماء، وقد امتثل المطلوب، فالمعنى الذي في التراب ليس موجوداً في الماء مهما كان تكراره، وليس الهدف فقط هو النظافة، بل الهدف هو تطهير من نوع خاص.
_________
(1) المغني (1/46) .
(2) طرح التثريب (1/133-134) .(13/674)
فالبول إذا غسلته مرة واحدة ذهبت بالنجاسة، فغسله مرة ثانية لا معنى لذلك، فالمحل قد طهر، وإذا كررت الغسل كان ذلك لمعنى لا يرجع إلى النجاسة، فإنها قد ذهبت، وإنما مبالغة في النظافة، وهو غير ذهاب النجاسة، فكذلك إذا غسلته سبع مرات، فلا معنى لوجود غسلة ثامنة أو عاشرة أو غيرهما؛ لأن الماء قد نظف المحل فيما يختص بالماء، وبقي معنى لا يذهب إلا بالتراب، وكأن التراب بمثابة التعقيم والوقاية من أمراض قد تكون موجودة في الإناء لا يذهب بها الماء، وإنما تحتاج إلى التراب لقطعها، وبالتالي إذا لم يوجد التراب فلا داعي لتكرار الماء، وإنما الانتظار حتى يتوفر التراب وإن اضطر إلى استعمال الإناء فلا حرج فيه لسقوط التراب لتعذره، وذلك لأن الواجبات إنما تجب بشرط القدرة، ولم يقدر على التراب فسقط، نعم لو كان هناك ما يقوم مقام التراب من صابون ونحوه ربما كان وجوده يضيف إلى الإناء شيئاً ليس موجوداً في الماء بخلاف تكرار الماء، والله أعلم.(13/675)
[صفحة فارغة](13/676)
الفرع السادس
في صفة التطهير بالتراب
اختلف العلماء في التراب هل يكفي ذره على الإناء أو لا بد من مزجه بمائع يوصله إليه،
فقيل: لا يكفي ذره، بل لا بد من مزجه بمائع يوصله إلى جميع أجزائه، وهو الأصح في مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: يكفي ذره، وهو وجه في مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
دليل من قال: لا يكفي ذر التراب:
استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " أولاهن بالتراب " فالباء للمصاحبة أو للإلصاق، أي مصحوباً بالتراب، فكونه جعل التراب داخلاً في مسمى الغسلات، فذر التراب وحده لا يسمى غسلاً.
قال ابن دقيق العيد: " قوله - صلى الله عليه وسلم - " فاغسلوه سبعاً أولاهن أو أخراهن بالتراب " قد يدل لما قاله بعض أصحاب الشافعي: أنه لا يكتفى بذر التراب على المحل، بل لا بد أن يجعله في الماء ويوصله إلى المحل ".
_________
(1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/78) ، طرح التثريب (2/132) ، حاشية البجيرمي (1/105) .
(2) الإنصاف (1/311) .
(3) طرح التثريب (2/132) .
(4) صوبه صاحب الإنصاف (1/311) .(13/677)
دليل من قال: يكفي ذر التراب:
استدل بحديث عبد الله بن مغفل " وعفروه الثامنة بالتراب " دليل على أنه يكفي التعفير بالتراب دون أن يكون مصحوباً بالماء، حيث جعل التراب مستقلاً عن الماء.
والأمر في هذا واسع، فإن غسل الإناء بالتراب وحده فليدلك الإناء بالتراب حتى يكون أقوى في التطهير، وإن خلطه بالماء أجزأ كذلك، والله أعلم.(13/678)
المبحث الثاني
في كيفية التطهير من نجاسة الخنزير
سبق لنا خلاف العلماء في الخنزير هل هو طاهر أم نجس؟ وتبين فيما مضى أن الجمهور ذهب إلى نجاسة الخنزير (1) .
وقيل: إن عينه طاهر، بناء على أن كل حيوان حي فهو طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (2) ، ورجحه الشوكاني (3) .
وقد سبق ذكر أدلة كل قول، ورجحت نجاسة عينه.
واختلف القائلون بنجاسته، في كيفية تطهير هذه النجاسة.
فقيل: لا فرق بين نجاسة الخنزير وبين غيره من سائر النجاسات، وهو مذهب الحنفية (4) ، والقديم في مذهب الشافعي (5) ، وقول في مذهب الحنابلة (6) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: البناية على الهداية (1/360) ، بدائع الصنائع (1/63) ، شرح فتح القدير (1/94-110) ، حاشية ابن عابدين (1/206) .
وانظر في مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/78) ، الأم (1/5، 6) ، الوسيط (1/309) ، 338، 339) ، المجموع (2/585) ، روضة الطالبين (1/31) .
وانظر في مذهب الحنابلة: الفروع (1/235) ، الكافي لابن قدامة (1/89) ، المحرر (1/87) ، الإنصاف (1/310) ، رؤوس المسائل (1/89) .
(2) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/50) ، المدونة (1/5، 6) ، أحكام القرآن لابن العربي (1/80) ، الخرشي (1/85) .
(3) السيل الجرار (1/38) .
(4) البناية على الهداية (1/360) ، بدائع الصنائع (1/63) ، شرح فتح القدير (1/94-110) ، حاشية ابن عابدين (1/206) .
(5) وانظر في مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/78) ، الأم (1/5، 6) ، الوسيط (1/309) ، 338، 339) ، المجموع (2/585) ، روضة الطالبين (1/32) .
(6) الفروع (1/235) ، الكافي لابن قدامة (1/89) ، المحرر (1/87) ، الإنصاف (1/310) .(13/679)
وقيل: يلحق الخنزير بالكلب في وجوب التسبيع والتتريب، وهو الجديد في مذهب الشافعية (1) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
دليل من قال: يلحق الخنزير بالكلب:
استدل بأن النص ورد في الكلب، والخنزير شر منه، لنص الشارع على تحريمه، وتحريم اقتنائه، بل إن الكلب مأذون في اتخاذ بعض أفراده ككلب الصيد والماشية والزرع بخلاف الخنزير فإنه منهي عن اتخاذه مطلقاً، وإنما السنة لم تنص على الخنزير؛ لأنهم لم يكونوا يعتادونه.
دليل من قال: لا فرق بين نجاسة الخنزير وبين غيره من النجاسات:
الدليل الأول:
الواجب في غسل نجاسة الخنزير غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، ولا يوجد نص من الشارع يوجب التسبيع والتتريب في نجاسة الخنزير، والأصل عدم الوجوب.
الدليل الثاني:
القول بأن الخنزير لم يكن معتاداً عندهم، ولذلك لم ينص على كيفية التطهير منه ليس كافياً لصحة القياس على الكلب، فإن الشريعة عامة، وبيانها للناس كافة، وكيف لا يكون معروفاً عندهم، والخنزير مذكور في كتاب الله {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو
_________
(1) المجموع (2/585) ، روضة الطالبين (1/32) .
(2) الفروع (1/235) ، الكافي لابن قدامة (1/89) ، المحرر (1/87) ، الإنصاف (1/310) ، رؤوس المسائل (1/89) .(13/680)
دماً مسفوحاً أو لحم خنزير} (1) .
الدليل الثالث:
القياس في كيفية التطهير ليس بصحيح، خاصة إذا كان الأصل المقيس عليه قد فارق سائر النجاسات، وخص بأحكام لم يماثله غيره فيها، من وجوب العدد، وإضافة التراب، فهذه الأمور لا تدرك الحكمة منها، فيكون القياس فاسداً، والله أعلم.
وهذا القول هو الراجح؛ لقوة أدلته وسلامتها من الاعتراض.
_________
(1) الأنعام: 145.(13/681)