[صفحة فارغة](11/198)
المبحث الأول
خلاف العلماء في الموجب للغسل
اختلف العلماء في الموجب للغسل:
هل الموجب خروج الدم؟ أم انقطاعه؟ أم إرادة الصلاة؟ أم الموجب الجميع (خروج الدم وانقطاعه وإرادة الصلاة) ؟ إلى أقوال:
فقيل: الموجب للغسل خروج الدم.
اختاره بعض الحنفية (1) ، وقول العراقيين من الشافعية (2) .
وقيل: الموجب انقطاع دم الحيض.
اختاره بعض الحنفية (3) ، وأبو حامد من الشافعية (4) ، وهو مفهوم كلام الخرقي (5) .
وقيل: الموجب للغسل خروج الدم، لكن الانقطاع شرط لصحته. وهو مذهب المالكية (6) ، والحنابلة (7) .
_________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي (1/17) ، البحر الرائق (1/63) ، العناية شرح الهداية مطبوع بهامش فتح القدير (1/65) ، البناية للعيني (1/278) ، حاشية ابن عابدين (1/165) .
(2) انظر روضة الطالبين (1/81) ، المجموع (2/168) ، مغني المحتاج (1/69) .
(3) انظر البحر الرائق (1/63) ، وانظر المراجع السابقة للأحناف.
(4) انظر المجموع (2/168) .
(5) انظر المغني (1/276) ، والإنصاف (1/238) ، الفروع (1/200) .
(6) الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/130) ، منح الجليل (1/123) ، مواهب الجليل (1/374) ، الشرح الصغير (1/166) ، أسهل المدارك ((1/65) .
(7) كشاف القناع (1/146) ، شرح منتهى الإرادات (1/81) ، الفروع (1/200) ، الإنصاف (1/238) .(11/199)
وقيل: الموجب للغسل إرادة القيام إلى الصلاة.
اختاره بعض الحنفية (1) ، وهو وجه في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: الغسل يجب بمجموع خروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة. وهو وجه في مذهب الشافعية (3) .
دليل من قال: الموجب للغسل خروج الدم.
قالوا: إذا خرج الدم فقد نقض الطهارة الكبرى، وإن لم يجب الغسل مع سيلان الدم، لأنه ينافيه، فإذا انقطع أمكن الغسل. فوجوبه من أجل الحدث السابق.
التعليل الثاني: أن الحيض الذي أوجب الغسل من وجهين:
الأول: من حيث كونه سبباً في منع الصلاة والصيام ونحوهما.
الثاني: أننا لا يمكن أن نعتبر انقطاع الدم، وهو نوع من الطهارة موجباً للطهارة، فمحال أن الطهارة توجب الطهارة، وإنما الموجب للطهارة هو النجاسة، إنما أجل الاغتسال إلى حين انقطاع الحيض، لأنه لا فائدة من الاغتسال حينئذٍ.
دليل من قال: الموجب للغسل انقطاع الدم.
قالوا: لأن الدم ما دام باقياً لا يمكن الغسل، وما لا يمكن لا يجب.
ورد عليهم: بأن الحائض يحرم عليها الصلاة والصيام بخروج الدم، ولو كان الموجب هو الانقطاع لما حرم عليها حتى ينقطع.
_________
(1) شرح فتح القدير (1/64) .
(2) المجموع (2/168) ، الروضة (1/81) .
(3) انظر المراجع السابقة.(11/200)
ولأن النجاسة حصلت بخروج الدم، فوجب التطهير عنده، إذ التنجس ووجوب التطهير متلازمان.
دليل من قال: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة.
ولعل ملحظ هذا القول رأى بأن الإنسان لا تجب عليه الطهارة الصغرى والكبرى إلا إذا وجب عليه فعل عبادة تشترط لها الطهارة، فإذا طهرت المرأة بعد طلوع الشمس لم يجب عليها الاغتسال إلا عند إرادة فعل صلاة الظهر في وقتها، ولعلهم ذكروا الصلاة وأرادوا به المثال: أي ومثل الصلاة سائر العبادات التي تشترط لها الطهارة؛ ولأن الحدث الأصغر والأكبر إنما أمرنا بالطهارة منهما عند القيام إلى الصلاة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم..} إلى قوله: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) .
دليل من قال: لا يجب الغسل إلا بخروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة.
أدلته: مجموع أدلة الأقوال السابقة، وهي أن خروج الدم موجب للحدث الأكبر وانقطاعه وإرادة الصلاة موجبان للغسل كذلك.
والراجح من هذه الأقوال: أن خروج الدم موجب للغسل، لكن انقطاعه شرط للصحة، وهذا الوجوب على التراخي، وليس على الفور، فإذا وجبت عبادة تشترط لها الصلاة وضاق بوقتها ولم يبق من وقتها إلا ما يكفي للغسل والصلاة وجب الغسل حينئذ. والله أعلم.
_________
(1) المائدة آية (6) .(11/201)
[صفحة فارغة](11/202)
الفصل الثامن
من موجبات الغسل النفاس
يجب على النفساء الاغتسال إذا طهرت.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم أن على النفساء الاغتسال عند خروجها من النفاس. اهـ (1) .
وقال ابن حزم: ((ودم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض، هذا
لا خلاف فيه من أحد، ثم قال: ((وكذلك الغسل منه واجب بإجماع)) (2) .
وقال صاحب المجموع، وصاحب نيل المآرب يزيد بعضهم على بعض، قالا: والنفاس كحيض، فيما يجب: كغسل، وقضاء صوم، وكفارة بوطء فيه.
وفيما يحرم: كصلاة وصوم ووطء في فرج، وطلاق.
وفيما يسقط: كقضاء الصلاة، وطواف الوداع.
وفيما يحل: كاستمتاع بما دون فرج.
وفيما يمنع صحة الصلاة، والصوم، والطواف، والاعتكاف، والغسل (3) .
وقال ابن قدامة: وحكم النفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها، ويسقط عنها، لا نعلم في هذا خلافاً، وكذلك تحريم وطئها، وحل
_________
(1) الأوسط (2/248) .
(2) المحلى (مسألة: 261) .
(3) المجموع (2/536) ، ونيل المآرب (1/112) .(11/203)
مباشرتها، والاستمتاع بما دون الفرج منها، والخلاف في الكفارة بوطئها (1) .
وقال في المهذب: ((ودم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض، ويسقط ما يسقطه الحيض؛ لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل، فكان حكمه حكم الحيض)) (2) .
وقال في المعونة: ((وجميع ما ذكرناه من الظواهر - يعني من أحكام الحيض- وإن كان النص فيها متناولاً للحيض وحده، فإن النفاس ملحق به بالإجماع؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما في هذه الأحكام، أو بالقياس، وهو أنه دم خارج من الفرج، لا يكون إلا مع البلوغ)) (3) .
وقال ابن رجب: ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض فيما يحرمه ويسقطه، وقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء، منهم ابن جرير وغيره (4) .
_________
(1) المغني (1/432) .
(2) المجموع (2/535) .
(3) المعونة (1/187) .
(4) شرح ابن رجب للبخاري (2/187) .(11/204)
الباب الثاني
في الأغسال المستحبة
الفصل الأول
الغسل للإحرام
يسن لمن أراد أن يحرم بالحج أو بالعمرة أن يغتسل لإحرامه، ذكراً كان أو أنثى، صغيراً كان أو كبيراً، حتى الحائض والنفساء، وهذا مذهب الأئمة (1) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (4/3) ، بدائع الصنائع (2/143) ، شرح فتح القدير (2/429-430) ، البحر الرائق (2/344) ، الفتاوى الهندية (1/222) .
وفي مذهب المالكية، جاء في المدونة (2/360) : قلت لابن القاسم: هل يوسِّع مالك في ترك الغسل للرجل أو المرأة إذا أراد الإحرام؟ قال: لا، إلا من ضرورة. قال: وقال مالك: والنفساء تغتسل، والحائض تغتسل إذا أرادت الإحرام، ولا تدع الغسل إلا من ضرورة. اهـ وانظر: مواهب الجليل (3/11) ، الخرشي (2/322) ، حاشية الدسوقي (2/38) .
وفي مذهب الشافعية، قال الشافعي في الأم (2/145) : أستحب الغسل عند الإهلال للرجل والصبي والمرأة والحائض والنفساء وكل من أراد الإهلال اتباعاً للسنة، ومعقول أنه يجب إذا دخل المرء في نسك، لم يكن فيه أن يدخله إلا بأكمل الطهارة، وأن يتنظف له لامتناعه من إحداث الطيب في الإحرام، وإذا اختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة، وهي نفساء، لا يطهرها الغسل للصلاة، فاختار لها الغسل، كان من يطهره الغسل للصلاة أولى أن يختار له، أو في مثل معناه أو أكثر منه، ثم قال رحمه الله: وما تركت الغسل للإهلال، ولقد كنت أغتسل له مريضاً في السفر، وإني أخاف ضرر الماء، وما صحبت أحدا أقتدي به، فرأيته تركه، ولا رأيت منهم أحداً عدا به أن رآه اختياراً ". اهـ وانظر المجموع (7/220) ،
وفي مذهب الحنابلة: انظر المغني (3/119) ، الإنصاف (3/432) ، شرح منتهى الإرادات (1/528) ، كشاف القناع (2/406) .(11/205)
وقيل: يجب الغسل على النفساء إذا أرادت الإحرام، وعلى المرأة إذا أهلت بعمرة ثم حاضت، ثم أرادت أن تهل بالحج ففرض عليها الغسل أيضاً، وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله (1) .
وقيل: يجب الغسل على كل من أراد أن يهل، طاهراً كان أو غير طاهر، قال ابن عبد البر: وبه قال: أهل الظاهر (2) .
دليل من قال: الغسل للإحرام مسنون.
الدليل الأول:
(1196-69) ما رواه البزار، قال: حدثنا الفضل بن يعقوب الجزري، ثنا سهل بن يوسف، ثنا حميد، عن بكر،
عن ابن عمر، قال: من السنة أن يغتسل الرجل إذا أراد أن يحرم.
قال البزار: لا نعلمه عن ابن عمر من وجه أحسن من هذا (3) .
[رجاله ثقات] (4) .
_________
(1) المحلى (5/68) مسألة: 824، ومسألة: 849 وانظر أيضاً المحلى (1/274) .
(2) الاستذكار (4/5) .
(3) مختصر زوائد مسند البزار (746) .
(4) ورواه الدارقطني (2/220) والحاكم في المستدرك (1/447) من طريق سهل بن يوسف به، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وقال الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد مسند البزار: هو إسناد صحيح. اهـ انظر إتحاف المهرة (9371) .(11/206)
وقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر من فعله موقوفاً عليه، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
الدليل الثاني:
(1197-70) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا عبد الله بن يعقوب المدني، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت،
عن أبيه، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب (1) .
[تفرد به عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه] (2) .
_________
(1) سنن الترمذي (830) .
(2) الحديث أخرجه الترمذي كما في إسناد الباب، والدارمي (1794) ، وابن خزيمة (2595) من طريق عبد الله بن يعقوب،
وأخرجه الدارقطني (2/220) من طريق أبي غزية،
وأخرجه البيهقي (5/32) من طريق الأسود بن عامر شاذان، ثلاثتهم عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه.
قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وقال ابن صاعد: شيخ الدارقطني: هذا حديث غريب، ما سمعناه إلا منه.
وقال ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام (3/449) بعد أن نقل كلام الإشبيلي بأنه حديث حسن غريب، قال: كذا قال، ولم يبين لم لا يصح، وذلك أن الترمذي ساقه هكذا: حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا عبد الله بن يعقوب المدني، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجه بن زيد، عن أبيه، فذكره، فالذي لأجله حسنه الترمذي، هو الاختلاف على
عبد الرحمن بن أبي الزناد، ولعله عرف عبد الله بن يعقوب، وما أدري كيف ذلك، ولا أراني تلزمني حجته، فإني أجهدت نفسي في تَعرُّفه، فلم أجد أحداً ذكره. اهـ
قلت: قد توبع عبد الله بن يعقوب المدني، ولكن انفراد عبد الرحمن بن أبي الزناد بهذا الحديث عن أبيه يوجب في النفس شكاً من صحته، فأين أصحاب أبي الزناد عن هذا الحديث، وإن كان ما رواه المدنيون عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أحسن حالاً مما رواه البغداديون، قال علي بن المديني: ما حدث بالمدينة، فهو صحيح، وما حدث ببغداد، أفسده البغداديون. تهذيب التهذيب (6/171) ، وقد روى عنه هذا الحديث مدني، فليتأمل.
إتحاف المهرة (4759) ، التحفة (3710) .(11/207)
الدليل الثالث:
(1198-70) ما رواه الطبراني من طريق عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: نا خالد ابن إلياس، عن صالح بن أبي حسان، عن عبد الملك بن مروان،
عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج إلى مكة اغتسل حين يريد أن يحرم.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبد الملك بن مروان إلا صالح بن أبي حسان، ولا عن صالح إلا خالد بن إلياس، تفرد به عبيد الله بن عبدالمجيد (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) المعجم الأوسط (4889) .
(2) في إسناده خالد بن إلياس، جاء في ترجمته:
قال البخاري: ليس بشيء، منكر الحديث. الضعفاء الكبير للعقيلي (2/3) .
وقال النسائي: مدني، متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (172) .
وقال أحمد: متروك الحديث. تهذيب التهذيب (3/70) .
وقال ابن عبد البر: ضعيف عند جميعهم. المرجع السابق.
وفي التقريب: متروك الحديث.
وصالح بن أبي حسان، قال فيه البخاري فيما نقل الترمذي عنه: ثقة. انظر تهذيب التهذيب (4/337) .
وقال النسائي: مجهول. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وفي التقريب: صدوق.
وذكر الحافظ هذا الحديث في الدراية، وقال: حديث ضعيف جداً. اهـ قلت: فلا يصلح هذا الحديث للاعتبار، والله أعلم.(11/208)
الدليل الرابع:
(1199-72) ما رواه الحاكم في المستدرك من طريق يعقوب بن عطاء، عن أبيه،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لبس ثيابه، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم قعد على بعيره، فلما استوى على البيداء أحرم بالحج (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المستدرك (1/447) ، ومن طريق يعقوب بن عطاء أخرجه الدارقطني (2/219-220) . انظر إتحاف المهرة (8171) .
(2) في إسناده يعقوب بن عطاء، وهو ضعيف الحديث،
قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: ضعيف الحديث، وسمعته مرة يقول: أحاديثه أحاديث مناكير. الضعفاء الكبير (4/445) .
وقال يحيى بن معين: ليس بذاك، وقال أيضاً: ضعيف. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة والنسائي: ضعيف. تهذيب التهذيب (11/344) .
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن يعقوب بن عطاء ممن جمع أئمة الإسلام حديثه، ولم يخرجاه. اهـ(11/209)
الدليل الخامس:
أصح ما ورد في الاغتسال للإحرام، كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به أسماء بنت عميس، وهي نفساء، وأمر به عائشة، وهي حائض، واغتسال مثلهما لم يكن لرفع حدث، وإنما قصد به النظافة، فغيرهما ممن يصلي مع المسلمين أولى بالأمر بالغسل، والله أعلم.
(1200-73) فقد روى مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه في صفة حج الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه:
ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي..الحديث (1) .
وقوله: ((استثفري)) دليل على أن الدم ما زال ينزل منها.
(1201-74) وروى مسلم من طريق الليث، عن أبي الزبير،
عن جابر رضي الله عنه أنه قال في حديث طويل وفيه: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها، فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج... الحديث (2) .
الدليل السادس:
_________
(1) صحيح مسلم (1218) .
(2) صحيح مسلم (1213) .(11/210)
الإجماع، فقد حكى الإجماع بعض أهل العلم على استحباب الغسل للإحرام.
قال النووي: اتفق العلماء على أنه يستحب الغسل عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة أو بهما (1) .
(1202-75) ومن الآثار: ما رواه مالك، عن نافع،
أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة (2) .
[إسناده في غاية الصحة] .
دليل ابن حزم على وجوب الغسل على النفساء وعلى الحائض إذا خشيت فوات الحج.
(1203-76) ما رواه مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه في صفة حج الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه:
ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي..الحديث (3) .
وقوله: ((اغتسلي)) أمر، والأصل في الأمر الوجوب إلا لصارف، ولا صارف هنا.
(1204-77) وروى مسلم من طريق الليث، عن أبي الزبير،
_________
(1) المجموع (7/220) ،
(2) الموطأ (1/322) .
(3) صحيح مسلم (1218) .(11/211)
عن جابر رضي الله عنه أنه قال في حديث طويل وفيه: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك، قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج... الحديث (1) .
وجه الاستدلال:
كالاستدلال بالحديث الذي قبله حيث أمرها بالغسل، والأصل في الأمر الوجوب.
ويجاب:
هذا الحكم يتمشى مع ظاهرية ابن حزم رحمه الله، لكن أهل القياس يعلمون أن الأمر هنا ليس للوجوب، وذلك إذا كان الغسل في حق المرأة الطاهرة وكذلك في حق الرجل ليس واجباً بالإجماع، فكيف يكون واجباً في حق المرأة النفساء والحائض، خاصة أن الغسل لن يمكنها من الطواف، ولن يمنع نزول الدم، والله أعلم.
قال ابن المنذر في الأشراف: أجمع عوام أهل العلم على أن الإحرام بغير غسل جائز, قال: وأجمعوا على أن الغسل للإحرام ليس بواجب إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال: إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكره (2) .
قلت: هذه العبارة من الحسن البصري لا تدل على وجوب الغسل، لأن
_________
(1) صحيح مسلم (1213) .
(2) المجموع (7/220) .(11/212)
الغسل المراد به التنظيف، فإذا نسيه فقد تركه لعذر، فيقضيه، كما تقضى السنن الرواتب إذا تركها المرء لعذر، والله أعلم.
دليل من قال: الغسل للإحرام واجب.
ربما استدل بأمره صلى الله عليه وسلم للفنساء والحائض بالغسل، فإذا أمرن به، فالأصل في الأمر الوجوب، وإذا كان واجباً في حق النفساء والحائض كان واجباً في حق الطاهر من باب أولى.
والراجح: القول بالاستحباب، فإنه أقوى دليلاً، وقد علمت المناقشة الواردة على أدلة من قال بالوجوب.(11/213)
[صفحة فارغة](11/214)
الفصل الثاني
الاغتسال لدخول مكة
من الأغسال المسنونة الغسل عند دخول الحرم، وقبل الطواف، وهو مذهب الأئمة.
وهل الغسل لدخول الحرم، أو من أجل الطواف بحيث لا يشرع الغسل للحائض والنفساء، قولان.
فقيل: لدخول الحرم، فيشرع الغسل للجميع حتى الحائض والنفساء، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: بل من أجل الطواف، فلا يشرع الغسل للحائض والنفساء، وهو مذهب المالكية (4) ، ورجحه ابن تيمية رحمه الله (5) .
_________
(1) تبيين الحقائق (2/14) ، البحر الرائق (2/350-351) الفتاوى الهندية (1/224) ، حاشية ابن عابدين (2/492) .
(2) قال النووي في المجموع (8/6) : " وهو مستحب لكل محرم حتى الحائض والنفساء والصبي ". الخ كلامه رحمه الله، وانظر تحفة المحتاج (4/56) ،
(3) كشاف القناع (2/476) ، الفروع (1/203) ، المحرر (1/20) ، شرح منتهى الإرادات (1/84) ، الإنصاف (1/250) .
(4) وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (2/192) ، مواهب الجليل (3/103-104) ، الخرشي (2/322-323) ، الفواكه الدواني (1/355) ،
(5) الفروع (1/203) ، الإنصاف (1/250) .(11/215)
الدليل على مشروعية الغسل لدخول مكة.
(1205-78) ما رواه البخاري، قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا، أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك (1) .
(1206-79) وفي رواية لمسلم: أن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح، ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً، ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله (2) .
والذي يظهر أن الغسل كان للطواف، ولو كان الغسل لدخول الحرم لكان الغسل مشروعاً قبيل دخول الحرم، أو بعد دخوله مباشرة، أما كونه يغتسل بعد دخول الحرم، والمبيت بذي طوى، فيكون الغسل ظاهراً أنه من أجل الطواف، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر النفساء والحائض بالغسل عند دخول الحرم، كما أمر أسماء بنت عميس بالغسل عند الإحرام، ولو أمرهن لنقل وحفظ؛ لأنه من شريعة الله التي تعهد الله بحفظها، فلما لم ينقل علم أنه غير مشروع، والله أعلم.
ثم القياس على الجمعة، فكما أن الغسل مشروع يوم الجمعة للصلاة من أجل اجتماع الناس، فكذلك الغسل مشروع للطواف من أجل ازدحام الطائفين، لئلا يتأذى الناس والملائكة بسبب الروائح المنبعثة، والله أعلم.
_________
(1) البخاري (1573) .
(2) مسلم (1259) .(11/216)
الفصل الثالث
الغسل من زوال العقل
إذا أفاق المجنون أو المغمى عليه، فيشرع في حقه الغسل، ولا يجب عليه، نص عليه كثير من العلماء (1) .
وقيل: يجب الغسل، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) ، وحكاه الرافعي من الشافعية وجهاً (3) .
_________
(1) قال النووي في المجموع (2/26) : قال أصحابنا: ويستحب للمغمى عليه الغسل إذا أفاق، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن المنذر وابن الصباغ وغيرهما: أجمع العلماء على أن الغسل لا يجب عليه. اهـ
وانظر طرح التثريب (8/190) ، الأشباه والنظائر (ص: 213) ، تحفة المحتاج (2/467) روضة الطالبين (2/44) ، والإنصاف (1/248) ، كشاف القناع (1/150) ، الفروع (1/203) مطالب أولي النهى (1/176، 177) .
في المدونة (1/12) : قيل لمالك: فالمجنون أعليه الغسل إذا أفاق؟ قال: لا، ولكن عليه الوضوء. اهـ فهل نفي مالك للغسل يقصد به نفي الوجوب، أو يقصد به نفي المشروعية، محتمل، والذي يظهر أنه نفي للمشروعية، ولذلك قال القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم، عند الكلام على غسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أغمي عليه في مرض موته، قال (2/319) المراد هنا بالغسل الوضوء. اهـ قلت: وهو خلاف ظاهر اللفظ، فهذا دليل على أن المالكية لا يرون الغسل مشروعاً للمغمى عليه والمجنون، والله أعلم.
(2) الفروع (1/203) .
(3) قال النووي في المجموع (2/26) : "حكى الرافعي وجهاً ضعيفاً شاذاً، أنه يجب الغسل من الجنون مطلقاً, ووجهاً أشذ منه أنه يجب من الإغماء أيضا. ذكره في باب الغسل, والله أعلم.(11/217)
وقيل: لا يشرع الغسل، وهو مذهب مالك، وحمل بعضهم غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته حين أغمي عليه، ليقوى على الخروج، وهو اختيار ابن حزم (1) .
دليل من قال بأن الغسل سنة.
(1207-80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال حدثنا زائدة، عن موسى بن أبي عائشة،
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت: بلى، ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك. قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماء في المخضب، فقعد، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس... الحديث (2) .
_________
(1) المحلى (1/222) مسألة: 157.
(2) البخاري (687) ، ومسلم (418) .(11/218)
قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا، فاغتسل)) دليل الاستحباب بالغسل من الإغماء، وإذا تكرر الإغماء استحب تكرار الغسل لكل مرة، فإن لم يغتسل إلا بعد الإغماء مرات كفى غسل واحد، وقد حمل القاضي عياض الغسل هنا على الوضوء، ولكن الصواب أن المراد غسل جميع البدن، فإنه ظاهر اللفظ، ولا مانع يمنع منه، فإن الغسل مستحب من الإغماء، بل قال بعض أصحابنا: إنه واجب، وهذا شاذ، ضعيف (1) .
وإذا كان هذا الغسل في حق المغمى عليه، فالمجنون من باب أولى؛ لأنه أشد.
دليل من قال: لا يشرع الغسل.
ذكر إن حديث عائشة السابق ليس فيه دليل على أن الغسل كان بسبب الإغماء، وإنما الغسل كان من أجل الحاجة لكي يتقوى للخروج إلى الصلاة بالمسلمين؛ لأنه لم يطلب الماء للغسل إلا حين قيل له: الناس عكوف في المسجد، ينتظرونك للصلاة، فلو كانت الصلاة في بيته لم يغتسل من أجل الإغماء، وفرق بين الغسل من أجل النشاط والقوة، وبين الغسل من أجل الإغماء.
وهذا أجود من حمل القاضي عياض، بأن المراد بالغسل الوضوء؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ.
_________
(1) شرح صحيح مسلم (4/136) ، وقال أيضاً: فيه دليل على جواز الإغماء على الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، ولا شك في جوازه؛ فإنه مرض، والمرض يجوز عليهم بخلاف الجنون، فإنه لا يجوز عليهم؛ لأنه نقص، والحكمة في جواز المرض عليهم ومصائب الدنيا تكثير أجرهم، وتسلية الناس بهم؛ لئلا يفتتن الناس بهم، ويعبدوهم.. الخ كلامه رحمه لله.(11/219)
دليل من قال: الغسل واجب.
قال إن الجنون سبب في نزول المني غالباً، ويلحق به المغمى عليه، فما كان مظنة للحدث نزل منزلة الحدث كالنوم.
ويجاب: بأن الريح من النائم ليس لها أمارة يعرف بها خروج الحدث، فنزل النوم منزلة الحدث، بخلاف نزول المني فإن له أمارة وأثراً على البدن والثوب، ولذلك لا يجب الغسل من النوم مع أن فيه زوال العقل؛ لأن موجب الغسل له أمارة تدل عليه، بخلاف نقض الوضوء بالريح، والله أعلم.
الراجح والله أعلم،
أن المغمى عليه إذا هم بفعل الصلاة، فوجد ثقلاً في بدنه، فإنه يستحب له الغسل ليصلي بقوة ونشاط، فإن كان لا يريد الصلاة، فلا يستحب له الغسل، والله أعلم.(11/220)
الفصل الرابع
الغسل للعيدين
اختلف العلماء في غسل العيدين،
فقيل: يشرع الغسل للعيدين، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: لا يشرع الغسل (5) .
دليل مشروعية الغسل للعيدين.
الدليل الأول:
(1208-81) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني من لا أتهم،
_________
(1) شرح فتح القدير (1/65) ، المبسوط (1/102) ، بدائع الصنائع (1/35) ، تبيين الحقائق (1/18) ، البحر الرائق (1/66) ، الفتاوى الهندية (1/16) .
(2) المنتقى للباجي (1/316) ، مواهب الجليل (2/193) ، الفواكه الدواني (1/274) ، التمهيد (11/213) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 77) ، حاشية الصاوي (1/527) .
(3) الأم (1/197) المجموع (2/233) ، فتاوى الرملي (1/60) ، روضة الطالبين (2/75) حلية العلماء (2/254) .
(4) المغني (2/112) ، الفروع (1/202) ، الإنصاف (1/247) ، شرح منتهى الإرادات (1/325) ، كشاف القناع (1/150) .
(5) جاء في المنتقى (1/316) : " قال مالك: ولا أوجب غسل العيد كغسل يوم الجمعة، وجه ذلك: الاتفاق على غسل الجمعة، والاختلاف في غسل العيدين ". فأثبت الخلاف في مشروعيته، وهو إثبات للقول بعدم المشروعية، وهو واضح.(11/221)
عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنهم سمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم جمعة من الجمع، وهو على المنبر يقول: يا معشر المسلمين، إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين، فاغتسلوا فيه من الماء، ومن كان عنده طيب أن يمس منه، وعليكم بهذا السواك (1) .
[إسناده ضعيف لإبهام الواسطة بين الزهري وبين الصحابي] (2) .
_________
(1) المصنف (5301) .
(2) الحديث اختلف فيه على الزهري اختلافاً كثيراً، فرواه معمر كما في إسناد الباب، عن الزهري، عن من لا أتهم، عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ورواه مالك، عن الزهري، واختلف عليه فيه:
فرواه يحيى كما في الموطأ (1/65) عن مالك، عن الزهري، عن ابن السباق، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع.... فذكر الحديث.
وكذا رواه الشافعي في مسنده (ص: 63) عن مالك به.
وهذا مرسل. قال ابن عبد البر كما في التمهيد (11/210) : هكذا رواه جماعة من رواة الموطأ، عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن السباق مرسلاً، كما روي، ولا أعلم فيه بين رواة الموطأ اختلافاً. اهـ
ورواه يزيد بن سعيد الصباحي، واضطرب فيه، فقال مرة، عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وقال مرة: عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
وقال أخرى: عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري. وإليك بيانها:
فقد رواه الطبراني في الأوسط (3433) ، وفي الصغير (358) حدثنا الحسن بن مطرح الخولاني المصري، نا يزيد بن سعيد الصباحي، نا مالك بن أنس، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه،
عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع... وذكر الحديث. قال الطبراني: لم يروه عن مالك إلا يزيد بن سعيد، ومعن بن عيسى. اهـ
قال ابن عبد البر في التمهيد (11/210) : رواه يزيد بن سعيد الصباح، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، ولم يتابعه أحد من الرواة على ذلك، ويزيد بن سعيد هذا من أهل الإسكندرية ضعيف. اهـ
ثم ساقه بإسناده من طريق الحسن بن أحمد بن سليمان أبو علي البصري، عن يزيد بن سعيد الصباحي، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جمعة من الجمع: يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيداً.... وساقه بنفس اللفظ.
قال أبو عمر: لم يتابعه أحد على الإسنادين جميعاً في هذين الحديثين.
ثم ساقه ابن عبد البر بإسناده من طريقين، عن يزيد ين سعيد الصباحي، عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فأسقط من إسناده: والد سعيد المقبري.
قال ابن عبد البر: وهذا اضطراب عن يزيد بن سعيد، ولا يصح شيء من روايته في هذا الباب.
وقال ابن أبي حاتم في العلل (591) : وهم يزيد بن سعيد في إسناد هذا الحديث، إنما يرويه مالك بإسناد مرسل. اهـ
وقال ابن عبد البر في التمهيد (11/220) : ورواه حجاج بن سليمان الرعيني، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة وحميد ابني عبد الرحمن بن عوف، وعن أحدهما عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في يوم جمعة: جعله الله عيداً، فاغتسلوا، وعليكم بالسواك.
قال ابن عبد البر: ولا يصح فيه عن مالك إلا ما في الموطأ. يعني: مرسل.(11/222)
وجه الاستدلال:
قوله: ((جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا فيه)) فعلل الأمر بالاغتسال يوم الجمعة لكونه عيداً، فكذلك كل عيد للمسلمين يكون مشروعاً الاغتسال فيه، والله أعلم.(11/223)
الدليل الثاني:
(1209-82) ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، قال: قال حدثني نصر بن علي، قال: حدثنا يوسف بن خالد، قال حدثنا أبو جعفر الخطمي، عن عبدالرحمن بن عقبة بن الفاكه،
عن جده الفاكه بن سعد، وكانت له صحبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر قال: وكان الفاكه ابن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام (1) .
[موضوع] (2) .
_________
(1) المسند (4/78) .
(2) في إسناده: يوسف بن خالد السمتي، جاء في ترجمته:
قال يحيى بن معين: كذاب خبيث عدو لله، رجل سوء، رأيته بالبصرة ما لا أحصي لا يحدث عنه أحد فيه خير. الجرح والتعديل (9/221) .
وقال يحيى أيضاً: كذاب زنديق لا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبى، وسألته عن يوسف بن خالد السمتي فقال: أنكرت قول يحيى بن معين فيه: إنه زنديق، حتى حُمِل إليَّ كتاب قد وضعه في التجهم باباً باباً، ينكر الميزان في القيامة، فعلمت أن يحيى بن معين كان لا يتكلم إلا على بصيرة وفهم. قلت: ما حاله؟ قال: ذاهب الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث، ضعيف الحديث، اضرب على حديثه، كان يحيى بن معين يقول: كان يكذب. المرجع السابق.
وفي إسناده عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكه، لم يرو عنه إلا أبو جعفر الخطمي، ولم يوثقه أحد، ولذا قال عنه الحافظ في التقريب: مجهول.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه عبد الله بن أحمد كما في إسناد الباب، وأخرجه ابن ماجه (1316) ، والطبراني في الكبير (18/) رقم 828، والدولابي في الكنى (1/85) ، وابن قانع في معجمه (2/336) من طريق يوسف بن خالد به. وانظر أطراف المسند مما استدركه المحقق على ابن حجر (5/178) ، تحفة الأشراف (11020) .(11/224)
الدليل الثالث:
(1210-83) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا جبارة بن المغلس، حدثنا حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران،
عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (1315) . وانظر تحفة الأشراف (5/254) .
(2) الحديث أخرجه أيضاً ابن عدي في الكامل (2/229) ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (3/278) أخبرنا أبو يعلى، ثنا جبارة به.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/156) : هذا إسناد ضعيف؛ لضعف جبارة، وكذلك حجاج، ومع ضعفه، قال فيه إذنه: روى عن ميمون بن مهران أحاديث لا يتابع عليها..".
قلت: قال يحيى بن معين: جبارة بن المغلس كذاب. الجرح والتعديل (2/550) .
قال ابن أبي حاتم: كان أبو زرعة حدث عنه في أول أمره وكناه، قال: حدثنا أبو محمد الحماني، ثم ترك حديثه بعد ذلك، فلم يقرأ علينا حديثه.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سمعت أبا زرعة ذكر جبارة بن المغلس فقال: قال لي ابن نمير: ما هو عندي ممن يكذب. قلت: كتبت عنه؟ قال: نعم. قلت: تحدث عنه؟ قال: لا. قلت: ما حاله؟ قال: كان يوضع له الحديث فيحدث به، وما كان عندي ممن يتعمد الكذب.
وقال أبو حاتم الرازي: هو على يدي عدل، مثل القاسم بن أبى شيبة. الجرح والتعديل (2/550) .
وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (2/50) .
وقيل فيه غير ذلك.(11/225)
الدليل الرابع:
(1211-84) ما رواه الطبراني من طريق نصر بن حماد، قال: نا أيوب ابن خوط، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صام رمضان، وغدا بغسل إلى المصلى، وختمه بصدقة، رجع مغفوراً له (1) .
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا أيوب بن خوط، تفرد به نصر بن حماد.
[ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) الطبراني في الأوسط (5784) .
(2) في إسناده أيوب بن خوط، جاء في ترجمته:
قال البخاري: تركه ابن المبارك. التاريخ الكبير (1/414) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (26) .
وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (1/352) .
وقال عمرو بن علي: كان أمياً لا يكتب، وهو متروك الحديث، ولم يكن من أهل الكذب، كان كثير الغلط والوهم. المرجع السابق.
وقال الآجري عن أبي داود: ليس بشيء. المرجع السابق.
وفي التقريب: متروك.
قلت: وهذا الحديث دليل على غلطه ووهمه، فأين أصحاب قتادة عن هذا الحديث.
وفي إسناده نصر بن حماد،
قال فيه أبو حاتم الرازي: متروك الحديث. الجرح التعديل (8/470) .
وقال أبو زرعة: لا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال ابن حبان: كان من الحفاظ، ولكنه كان يخطئ كثيراً، ويهم في الأسانيد حتى يأتي بالأشياء كأنها مقلوبة، فلما كثر ذلك منه بطل الاحتجاج به إذا انفرد. المجروحين (3/54) .(11/226)
الدليل الخامس:
(1212-85) ما رواه البزار، قال: حدثنا محمد بن معمر، ثنا عبد العزيز، ثنا مندل، عن محمد بن عبيد الله، عن أبيه،
عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل للعيدين (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) كشف الأستار (648) .
(2) في إسناده مندل، جاء في ترجمته:
قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: سألت أبى عن مندل بن على، فقال: ضعيف الحديث. قلت له: حبان أخوه؟ قال: لا، هو أصلح منه ـ يعنى: مندل أصلح من أخيه. وقال مرة: ما أقربهما. الجرح والتعديل (8/431) .
وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: مندل بن على ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال عثمان بن سعيد: سألت يحيى بن معين عن مندل بن على؟ فقال: ليس به بأس. المرجع السابق.
وفي موضع آخر: سئل يحيى عن مندل وحبان، فقال: ضعيفان في الحديث. الكامل (6/455)
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبى يقول: سألت يحيى بن معين، عن مندل وحبان، أيهما أحب إليك؟ قال: ما بهما بأس. قال عبد الرحمن: سمعت أبى يقول كذا أقول، وكان البخاري أدخل مندلاً في كتاب الضعفاء، فقال أبى: يحول من هناك. الجرح والتعديل (8/431) .
وقال ابن نمير: حبان وأخوه مندل أحاديثهما فيها بعض الغلط. المرجع السابق.
وسئل أبو زرعة عن مندل، فقال: لين. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. المرجع السابق
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (578) .
وقال ابن سعد: فيه ضعف، ومنهم من يشتهي حديثه ويوثقه، وكان خيراً فاضلاً من أهل السنة. الطبقات الكبرى (6/381) .
وقال ابن عدي: لمندل غير ما ذكرت، وله أحاديث أفراد وغرائب، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (6/455) .
وفي التقريب: ضعيف.
قال الهيثمي في المجمع (2/198) : رواه البزار، ومندل فيه كلام، ومحمد هذا ومن فوقه لا أعرفهم. اهـ
قلت: عرفه ابن رجب كما في فتح الباري (6/71) وهو محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، وهو ضعيف جداً، واهي الحديث.(11/227)
الدليل السادس:
(1213-86) ما رواه مالك في الموطأ، عن نافع،
عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى (1) .
[إسناده في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر] .
الدليل السابع:
(1214-87) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا ابن علية، عن شعبة، عن عمرو بن مرة،
عن زاذان، قال: سأل رجل علياً رضي الله عنه عن الغسل؟ فقال: اغتسل كل يوم إن شئت، فقال: الغسل الذي هو الغسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر (2) .
[إسناده صحيح] .
_________
(1) الموطأ (1/177) .
(2) مسند الشافعي (ص: 385) ، ورواه الشافعي في الأم (7/163) .
ورواه ابن أبي شيبة (1/500) رقم: 5771، عن وكيع، عن شعبة به، وذكر فقط غسل الأضحى والفطر.
ووراه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/119) من طريق يعقوب بن إسحاق، ثنا شعبة به. انظر إتحاف المهرة (14251) .(11/228)
فينبغي أن يكون الاستدلال على مشروعية الاغتسال في يوم العيد على فعل ابن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ لأن فعل الصحابي حجة فيما لم يُخَالَف فيه، ولم يُخَالِف نصاً صريحاً مرفوعاً.
الدليل الثامن:
القياس على غسل الجمعة، بجامع أن كلاً منهما عيد للمسلمين، ويجتمع فيه الناس، فيستحب فيه أن يكون المسلم في كامل زينته، ومنها الاغتسال والطيب وغيرهما.
دليل من قال: غسل العيدين ليس مشروعاً.
هذا القول رأى أن العبادات توقيفية، ولا يتعبد الله سبحانه وتعالى إلا بما شرع لهم، ولا يوجد دليل صحيح مرفوع يأمر بالغسل يوم العيد، {وما كان ربك نسياً} .
وقد قال البزار: لا أحفظ في الاغتسال في العيدين حديثاً صحيحاً (1) .
ويجاب عنه:
كونه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث مرفوع، فهذا مسلم، ولكن قد فعله السلف، ومنهم علي بن أبي طالب، وهو خليفة راشد، وله سنة متبعة، كما فعله ابن عمر، وهو من أحرص الناس على السنة، فكل هذا يدل على أن استحباب الغسل للعيدين له أصل، والله أعلم.
الراجح من الخلاف:
استحباب الغسل يوم العيد يتنازعه عندي معنيان،
_________
(1) تلخيص الحبير (2/81) .(11/229)
فعدم ثبوت اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم للعيد، وعدم ثبوت الأمر به من لدن النبي صلى الله عليه وسلم، والعيد يتكرر في عهده صلى الله عليه وسلم، ولو فعله أو أمر به، لنقل إلينا برواية الثقات العدول، فلما لم ينقل ذلك علم أن هذا الأمر ليس مشروعاً، وكان ذلك بمثابة نقل عدم الفعل منه صلى الله عليه وسلم.
وينازع ذلك أن الغسل قد ثبت عن علي بن أبي طالب، وعن ابن عمر رضي الله عنهم، خاصة أن ما ورد عن علي بن أبي طالب كان قولياً، وهو أبلغ من الفعل، وهو إمام راشد، له سنة متبعة، والمعنى الذي من أجله شرع الغسل يوم الجمعة، وهو اجتماع الناس موجود في العيد، بل هو في العيد أكبر اجتماعاً من الجمعة، ومطلوب في العيد أن يكون الإنسان على هيئة حسنة، ومنها الاغتسال، فيكون الغسل لهذا المعنى مستحباً، وهذا ما أميل إليه، والله أعلم.(11/230)
المبحث الثاني
في وقت الاغتسال للعيد
بحثنا في المسألة السابقة استحباب الاغتسال للعيدين، واختلفوا في وقت الاغتسال،
فقيل: وقته بعد صلاة الفجر، فإن فعله قبل طلوع الصبح لم يصب سنة الاغتسال، نص عليه خليل في مختصره (1) ، وهو مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يجوز فعله قبل الفجر، وهو مذهب المالكية (3) ، والشافعية (4) ، والمنصوص عن أحمد (5) ، إلا أنهم اختلفوا في أي جزء من الليل يصح فعله،
_________
(1) انظر مختصر خليل (ص: 49) ، وانظر مواهب الجليل (1/193) ،
(2) مطالب أولي النهى (1/176) ، كشاف القناع (1/150) ، شرح منتهى الإرادات (1/325) .
(3) قال الباجي في المنتقى (1/316) : ويستحب أن يكون غسله متصلا بغدوه إلى المصلى، قال ابن حبيب: أفضل أوقات الغسل للعيد بعد صلاة الصبح، قال مالك في المختصر: فإن اغتسل للعيدين قبل الفجر فواسع، ووجه ذلك ما ذكرناه من أن من سنته الاتصال بالغدو إليها فلذلك استحب أن يكون بعد صلاة الصبح، فإن قدمه قبل الفجر فواسع؛ لقرب ذلك؛ ولأن الغسل لا تذهب آثاره قبل الغدو ولا تتغير نظافته. اهـ
(4) المجموع (5/11) ، ومغني المحتاج (1/312) ، حواشي الشرواني (3/47) ، المهذب (1/119) .
(5) قال ابن عقيل: والمنصوص عن أحمد أنه قبل الفجر وبعده؛ لأن زمن العيد أضيق من وقت الجمعة، فلو وقف على الفجر ربما فات، ولأن المقصود منه التنظيف، وذلك يحصل بالغسل بالليل لقربه من الصلاة. انظر المغني لابن قدامة (2/113) .(11/231)
فقيل: في يصح الغسل في أي جزء من الليل، وهو أحد الوجوه في مذهب الشافعية (1) .
وقيل: يختص في النصف الثاني من الليل، وهو وجه في مذهب الشافعية أيضاً (2) .
وقيل: يصح فعله عند السحر، وهو قول في مذهب المالكية (3) ، ووجه ثالث في مذهب الشافعية (4) .
دليل من قال: يجوز بساعة من الليل.
قال: لأن وقت الاغتسال ضيق، والناس يقدمون إلى الصلاة من مكان بعيد، فلو اشتغلوا بالاغتسال بعد صلاة الفجر ربما فاتتهم الصلاة.
دليل من قال: الغسل بعد طلوع الصبح.
قال: إن اليوم يبدأ من طلوع الصبح كما في الصيام، فإذا اغتسل قبل دخول وقته لم يصب السنة، شأنه شأن العبادات المؤقتة بوقت، لا تصح قبل أو بعد وقتها.
والحق أن اليوم إذا أطلق دخل فيه الليل والنهار، ويدخل من غروب الشمس إلى غروبها من الغد، وقد ذكرنا دليل ذلك في غسل الجمعة.
_________
(1) حلية العلماء (2/254) ، روضة الطالبين (2/75) ، مغني المحتاج (1/312) ، حواشي الشرواني (3/47) ، المهذب (1/119) .
(2) انظر المراجع السابقة.
(3) نصت بعض كتب المالكية على أن وقته يدخل بأول السدس الأخير من الليل، انظر منح الجليل (1/463) ، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/527) .
(4) حلية العلماء (2/254) ، روضة الطالبين (2/75) ، المجموع (5/11) ، ومغني المحتاج (1/312) ، حواشي الشرواني (3/47) ، المهذب (1/119) .(11/232)
المبحث الثاني
هل اغتسال العيد لليوم أو للصلاة
كما اختلف العلماء هل اغتسال العيد من أجل الصلاة، فيفوت وقته بفواتها، أو من أجل اليوم، فيغتسل ولو بعد الصلاة، ولو لم يحضر الصلاة مع المسلمين.
فقيل: إنه لليوم؛ لأنه يوم زينة وفرح واجتماع، فلا يفوت فعله بفوات الصلاة، وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) .
وقيل: إن الاغتسال للصلاة، فيفوت بفوات الصلاة، وهو مذهب الحنابلة (3) .
لأن الصلاة هي الاجتماع الكبير في ذلك اليوم، فشرع لإذهاب الروائح الكريهة، وحتى لا يتأذى الناس بعضهم من بعض.
ولا شك أن من فعله للصلاة فقد أحسن، ولكن لو لم يفعله للصلاة، هل يقال: خرج وقته، ولا تفعله لليوم، مع أن في هذا اليوم يشرع اتخاذ الزينة من لبس الثياب الحسنة، والتطيب وغير ذلك؟ مع أن هناك اجتماعاً آخر وإن كان أصغر من اجتماع الصلاة، وذلك أن الأقارب يجتمعون في ذلك اليوم بعد الصلاة، يصل بعضهم بعضاً، فمن هذا المعنى يكون مذهب الحنابلة قولاً مرجوحاً، والله أعلم.
_________
(1) الفواكه الدواني (2/266) ، حاشية الدسوقي (1/398) ، منح الجليل (1/463) ، الخرشي (2/101) ، مواهب الجليل (2/194) .
(2) مغني المحتاج (1/312) ، حواشي الشرواني (3/47) ، المهذب (1/119) .
(3) مطالب أولي النهى (1/176) ، كشاف القناع (1/150) ، شرح منتهى الإرادات (1/325) .(11/233)
[صفحة فارغة](11/234)
الفصل الخامس
الغسل يوم عرفة
استحب الفقهاء الغسل يوم عرفة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: لا يستحب الغسل ليوم عرفة، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله (5) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/35) ، تبيين الحقائق (1/18) ، شرح فتح القدير (1/65) ، البحر الرائق (1/66) ، الفتاوى الهندية (1/16) .
(2) كفاية الطالب (1/676) ، شرح الزرقاني (2/474) ، مواهب الجليل (3/104) ، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (ص: 371) .
(3) انظر الأم (2/146) ، المجموع (2/234) ، مغني المحتاج (1/479) ، إعانة الطالبين (2/308) .
(4) الفروع (1/203) ، كشاف القناع (1/151) ، مطالب أولي النهى (1/177) .
(5) قال في كتاب الإنصاف (1/250) : واختار الشيخ تقي الدين: عدم استحباب الغسل للوقوف بعرفة....
هكذا جاء في كتاب الإنصاف، والموجود في كتاب مجموع الفتاوى (26/132) : والاغتسال لعرفة قد روي فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن ابن عمر وغيره، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة، وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار، وللطواف والمبيت بمزدلفة فلا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة: لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه.... الخ كلامه رحمه الله.
فهذا الكلام يشعر بأن ابن تيمية يرى استحباب الغسل لعرفة، وأنه منسوب إلى الصحابة رضوان الله عليهم، وأن البدعة هي في الاغتسال لغير عرفة: كرمي الجمار والمبيت بمزدلفة، والله أعلم. كما أن ابن مفلح رحمه الله، وهو من تلاميذ ابن تيمية رحمه الله، ذكر في الفروع (1/203) : غسل عرفة وطواف زيارة ووداع ومبيت بمزدلفة ورمي جمار، ثم قال: "وخالف شيخنا - يعني ابن تيمية - في الثلاثة " يعني في الأخيرة منها: وهي الاغتسال لرمي الجمار والمبيت والطواف. وهذا يعني أنه يرى مشروعيته لعرفة، والله أعلم.(11/235)
دليل من قال: يستحب الغسل.
الدليل الأول:
(1215-88) ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، قال: قال حدثني نصر بن علي، قال: حدثنا يوسف بن خالد، قال حدثنا أبو جعفر الخطمي، عن عبدالرحمن بن عقبة بن الفاكه،
عن جده الفاكه بن سعد وكانت له صحبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر قال: وكان الفاكه ابن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام (1) .
[موضوع] (2) .
الدليل الثاني:
(1216-89) ما رواه مالك، عن نافع،
أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة (3) .
_________
(1) المسند (4/78) .
(2) سبق تخريجه في مسألة (الاغتسال للعيد) .
(3) الموطأ (1/322) .(11/236)
الدليل الثاني:
(1217-90) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا ابن علية، عن شعبة، عن عمرو بن مرة،
عن زاذان، قال: سأل رجل علياً رضي الله عنه عن الغسل؟ فقال: اغتسل كل يوم إن شئت، فقال: الغسل الذي هو الغسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر (1) .
[إسناده صحيح] .
دليل من قال: لا يستحب الغسل.
إذا ثبت هذا القول، فإنه يمكن أن يستدل له، بأن النسك قد تولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانه للأمة، منادياً: ((خذوا عني مناسككم)) ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اغتسل لعرفة، ولو اغتسل لحفظه الصحابة رضوان الله عليهم، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء مع إمكان فعله تشريع للأمة كفعله الشيء، فالترك والفعل كلاهما سنة، فلا يستحب الاغتسال لعرفة من أجل عرفة، أما لو اغتسل لوجود سبب يقتضي ذلك كوجود روائح كريهة في بدنه، فهذا سبب آخر لا علاقة له بعرفة.
والراجح:
استحباب الغسل لعرفة، خاصة أنه ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو خليفة راشد، وثبت عن ابن عمر وهو صحابي جليل، فهذا
_________
(1) سبق تخريجه، انظر رقم (2214) .(11/237)
كاف في الاستدلال على مشروعية الاغتسال، خاصة أن الثابت عن علي رضي الله عنه ليس مجرد الفعل الذي قد يدخله احتمال أن يكون هناك سبب يقتضي الغسل من درن ونحوه، وإنما هو نص قولي يذكر فيه الأغسال المستحبة، فذكر منها يوم عرفة.(11/238)
الفصل السادس
في الاغتسال للوقوف بمزدلفة
استحب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، الاغتسال لمزدلفة.
وقيل: لا يستحب، وهو اختيار ابن تيمية (4) .
دليل من قال بالاستحباب:
ربما استدل له بأنه مكان يجتمع فيه الناس، فكان الغسل مشروعاً قياساً على غسل الجمعة.
دليل من قال: لا يستحب.
قال ابن تيمية: لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة، وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار، وللطواف، والمبيت بمزدلفة، فلا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة: لا مالك ولا
أبو حنيفة ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه... الخ كلامه رحمه الله (5) .
وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم، والله أعلم.
_________
(1) شرح فتح القدير (1/66) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/20) ، تبيين الحقائق (1/19) ، الفتاوى الهندية (1/16) .
(2) قال الشافعي في الأم (2/221) : " وأحب له أن يغتسل لرمي الجمار والوقوف بعرفة والمزدلفة.... " الخ كلامه رحمه الله، وانظر المجموع (2/234) .
(3) الإنصاف (1/250) ، الفروع (1/203) ،
(4) مجموع الفتاوى (26/132)
(5) المرجع السابق، نفس الصفحة.(11/239)
[صفحة فارغة](11/240)
الفصل السابع
في الاغتسال لرمي الجمار
استحب الحنفية (1) ، والشافعية (2) والحنابلة (3) الغسل لرمي الجمار.
وقيل: لا يستحب، اختاره ابن تيمية (4) .
دليل المشروعية:
قالوا: إن هذه المواضع يجتمع لها الناس، فيستحب الاغتسال لها كالجمعة، وبسبب هذا التعليل نص الشافعية أنه لا يغتسل لرمي جمرة العقبة؛ لأن وقت الرمي من نصف الليل إلى آخر النهار، فلا يجتمع لها الناس في وقت واحد، ولأنه اغتسل للوقوف بالمشعر الحرام، وهو يرمي جمرة العقبة بعده بساعة، فأثر الغسل باق، فلا حاجة إلى إعادته (5) .
دليل من قال: لا يستحب.
أن هذه العبادة لو كانت مستحبة لفعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو أرشد إليها من قوله، فلما لم يفعلها مع إمكان الفعل علم أن الترك هو السنة، وكما
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/170) .
(2) المهذب (1/204) ، إعانة الطالبين (2/72) ، الإقناع للشربيني (1/72) ، الوسيط (2/634) .
(3) المحرر (1/20) ، الإنصاف (1/250) ، شرح العمدة (1/361) .
(4) مجموع الفتاوى (26/132) .
(5) المهذب (1/204) ، الوسيط (2/634) .(11/241)
ذكرت سابقاً أن الترك سنة كالفعل، فما تركه المصطفى فالسنة تركه، وما فعله فالسنة فعله، إلا أن يدل دليل على أنه خاص به، وهذا هو الراجح.(11/242)
الفصل الثامن
الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء
استحب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء.
وقيل: لا يستحب، وهو قول في مذهب الحنابلة (3) .
دليل من قال بالاستحباب:
قال: إن هذا موضع يجتمع فيه الناس، فيستحب الاغتسال دفعاً للروائح الكريهة، وقياساً على غسل الجمعة.
_________
(1) المجموع (2/234) و (5/75) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/328) .
(2) الإنصاف (1/247) ، الفروع (1/202) ، كشاف القناع (1/151) ، مطالب أولي النهى (1/176) .
(3) الإنصاف (1/247) ، وقد قال ابن نجيم في البحر الرائق (1/69) : " ولم أجده لأئمتنا فيما عندي ". يعني غسل الاستسقاء والكسوف.
قلت: قد وجدته في كتاب درر الحكام في شرح غرر الأحكام (1/20) ، وهو قبل ابن نجيم رحمهما الله تعالى، ولعله تابع بعض الكتب من غير المذهب، فإن متأخري أهل المذاهب ربما نقلوا من كتب غيرهم، إذا لم ينص على المسألة في كتبهم، خاصة إذا كانت المسألة تتمشى مع أصول مذهبهم، إلا أنهم في الغالب قد ينصون على الكتب التي نقلوا منها، والله أعلم.
كما نص عليها من المتأخرين ابن عابدين في حاشيته (1/170) .
ولم أقف على هذه المسألة في كتب المالكية، والله أعلم.(11/243)
دليل من قال: لا يستحب ذلك.
انظر دليله في المسألة التي قبل هذه، وعمدته أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ولا قول في الاغتسال لهذه الصلوات، والله أعلم.(11/244)
الفصل التاسع
الغسل من الحجامة
اختلف العلماء في الاغتسال من الحجامة،
فقيل: يسن الاغتسال، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: يجب الاغتسال من الحجامة (4) .
وقيل: لا يستحب الاغتسل منها، قال المرداوي الحنبلي: وهو الصحيح من المذهب (5) .
_________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاج (ص: 69) ، شرح فتح القدير (1/66) ، درر الحكام في شرح غرر الأحكام (1/20) .
(2) نص عليها الشافعي في القديم، كذا قال النووي في المجموع (2/234) ، وانظر أسنى المطالب (1/265) ، نهاية المحتاج (2/332) .
وقال الغزالي في الوسيط (2/292) : " هما اختياران لا يبلغان مبلغ السنن المتأكدة، وأنكر معظم الأصحاب استحبابهما ". اهـ
وقال النووي في روضة الطالبين (2/44) : " ومنها الغسل من الحجامة.... ذكر صاحب التلخيص عن القديم استحبابهما، والأكثرون لا يذكرونهما.. ".اهـ
(3) الفروع (1/203) ، الإنصاف (1/251) ، مطالب أولي النهى (1/178) .
(4) أشار إلى هذا القول إشارة صاحب الطحطاوي في حاشتيه على مراقي الفلاح (ص: 70) حيث علل الاستحباب بالغسل من الحجامة خروجاً من الخلاف القائل بلزوم الغسل، والله أعلم.
(5) الإنصاف (1/251) ، شرح العمدة (1/361) ، الفروع (1/183) .(11/245)
دليل من قال بالاستحباب:
الدليل الأول:
(1218-91) ما رواه أحمد من طريق مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله ابن الزبير،
عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغتسل من أربع من الجمعة، والجنابة، والحجامة، وغسل الميت (1) .
[ضعيف] (2) .
الدليل الثاني:
(1219-92) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا وكيع، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة،
عن زاذان، أن علياً رضي الله عنه كان يغتسل من الحجامة (3) .
[إسناده صحيح] (4) .
_________
(1) المسند (6/152) .
(2) سبق تخريجه، انظر رقم (2160) .
(3) الأم (7/165) .
(4) رجاله ثقات. ورواه عبد الرزاق في المصنف (701) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/180) عن إسرائيل بن يونس، عن ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، أن علياً كان يستحب أن يغتسل من الحجامة.
وهذا إسناد ضعيف جداً، أو موضوع، في إسناده ثوير بن أبي فاختة، قال الثوري: كان ثوير من أركان الكذب، وكان يحيى وابن مهدي لا يحدثان عنه. التاريخ الكبير (1/183) ، وانظر المجروحين لابن حبان (1/205) .(11/246)
الدليل الثالث:
(1220-93) ما رواه بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد،
عن عبد الله بن عمرو، قال: اغتسل من الحجامة (1) .
[ضعيف] (2) .
الدليل الرابع:
(1221-94) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: إذا احتجم الرجل فليتغتسل، ولم يره واجباً (3) .
[صحيح عن ابن عباس] (4) .
_________
(1) المصنف (1/48) رقم 480.
(2) لأنه من رواية الأعمش، عن مجاهد، وأكثرها لم يسمعه منه، بل هي مدلسة.
وقد رواه عبد الرزاق في المصنف (702) عن الثوري، عن الأعمش به، بأطول من هذا. ومن طريق عبد الرزاق رواه ابن المنذر في الأوسط (1/180) .
(3) المصنف (1/48) رقم 484.
(4) ومن طريق إسرائيل رواه ابن المنذر في الأوسط (1/180) .
ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (1/48) رقم: 484، حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل به. ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (1/48) رقم 479، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن المسيب ابن رافع، عن ابن عباس، قال: الغسل من الحجامة.
وهذا إسناد منقطع، وقد قال يحيى بن معين بأن المسيب بن رافع لم يسمع من صحابي إلا من البراء وأبي إياس عامر بن عبدة. تهذيب التهذيب (10/139) .(11/247)
دليل من قال: لا يغتسل من الحجامة.
الدليل الأول:
(1222-95) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله، عن نافع،
عن ابن عمر أنه كان إذا احتجم غسل أثر محاجمه (1) .
[إسناده صحيح] .
قلت: ما ثبت عن ابن عمر، لا يعارض ثبوت الغسل عن بعض الصحابة، لأن من اغتسل فقد استحب الغسل من الحجامة، ومن ترك الاغتسال دل على أن الاغتسال ليس بواجب، ونحتاج إلى أثر ينفي استحباب الاغتسال من الحجامة، ولم أقف عليه.
دليل من قال: الاغتسال من الحجامة واجب.
لم أقف له على دليل، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من قول الصحابة رضوان الله عليهم.
الراجح:
ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - احتجم، ولم ينقل أنه اغتسل، ولا يقال: عدم النقل ليس نقلاً للعدم، بل يقال: قام المقتضي للغسل، ولم يفعل - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الغسل مشروعاً لفعله عليه الصلاة والسلام، ولو فعله لنقل إلينا، فلما لم يفعله دل على أن الترك منه - صلى الله عليه وسلم - هو السنة، مثله مثل ما لو فعل أمراً على وجه التعبد كان الفعل هو السنة، فيكون قول الصحابي ليس بحجة، ولا يرجع إلى المسألة
_________
(1) المصنف (1/47) .(11/248)
الأصولية، هل فعل الصحابي حجة، أو ليس بحجة، فإني أميل إلى الاحتجاج بقول الصحابي وفعله إذا لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه ترك أو فعل، أما وقد ثبت الترك، فالسنة الترك، ولا يبدع من فعل الاغتسال لفعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم، والله أعلم.(11/249)
[صفحة فارغة](11/250)
الباب الثالث
أحكام الجنب
الفصل الأول
تحريم فعل الصلاة
يحرم على الجنب فعل الصلاة،
ودليله كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين،
أما الكتاب، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) .
فأمر بالطهارة من الجنابة عند القيام إلى الصلاة.
(1224-97) ومن السنة، ما رواه البخاري من طريق همام بن منبه،
أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ.
قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو
_________
(1) المائدة: 6.(11/251)
ضراط. ورواه مسلم عدا قول أبي هريرة (1) .
وإذا كان هذا في الحدث الأصغر فالحدث الأكبر من باب أولى.
الدليل الثاني:
(1225-98) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: مكانكم، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر، فصلينا معه (2) .
الدليل الرابع:
(1226-99) ما رواه مسلم من طريق سماك بن حرب، عن مصعب ابن سعد، قال:
دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة (3) .
وأما الإجماع، فقد قال النووي: ((أجمع المسلمون على تحريم الصلاة على المحدث، وأجمعوا على أنها لا تصح منه، سواء كان عالماً بحدثه، أو جاهلاً، أو ناسياً، لكنه إن صلى جاهلاً أو ناسياً فلا إثم
_________
(1) البخاري (135) ، ومسلم (225) .
(2) البخاري (275) ، ومسلم (605) .
(3) مسلم (224) .(11/252)
عليه، وإن كان عالماً بالحدث وتحريم الصلاة مع الحدث فقد ارتكب معصية عظيمة...)) (1) .
قلت: وإذا كان هذا في الحدث الأصغر، كان ذلك في الحدث الأكبر من باب أولى؛ لأنه أغلظ الحدثين.
_________
(1) المجموع (2/78) .(11/253)
[صفحة فارغة](11/254)
الفصل الثاني
في طواف الجنب
اختلف العلماء في طواف الجنب.
فقيل: يشترط الطهارة من الجنابة، بل ومن الحدث الأصغر، وهو المشهور من مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها، وتجبر بدم، وهو الراجح عند الحنفية (4) ، ورواية عن أحمد (5) .
وقيل: الطهارة من الجنابة سنة، وهو رواية عن أحمد (6) ، واختاره ابن
_________
(1) المدونة (2/402) ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/475) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 166) ، المنتقى ـ الباجي (2/290) ، مواهب الجليل (1/374) القوانين الفقهية ـ ابن جزي (ص55) ، الخرشي (2/314) .
(2) المجموع النووي (8/17) ، حلية العلماء (3/280) ، روضة الطالبين (3/79) ، حاشية البيجوري (1/600) .
(3) المغني (3/186) ، الإنصاف (4/16) ، الفروع (1/260،261) ، المبدع (3/221) .
(4) أحكام القرآن للجصاص (3/355) ، المبسوط (1/44) ، شرح فتح القدير (1/51) ، حاشية ابن عابدين (2/536) .
(5) شرح العمدة (3/586) .
(6) قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (26/206) : " نص أحمد في رواية، على أن الجنب إذا طاف ناسياً أجزأه ذلك، فمن أصحابه من قصر ذلك على حال النسيان، ومنهم من قال: هذا يدل على أن الطهارة ليست فرضاً؛ إذ لو كانت فرضاً لما سقطت بالنسيان؛ لأنها من باب المأمور به، لا من باب المنهي عنه، كطهارة الحدث في الصلاة، بخلاف اجتناب النجاسة في الصلاة، فإن ظاهر مذهب أحمد أنه إذا صلى ناسياً لها، أو جاهلاً بها لا يعيد؛ لأن ذلك من باب المنهي عنه، فإذا فعله ناسياً أو جاهلاً به لم يكن عليه إثم، فيكون وجوده كعدمه... الخ كلامه رحمه الله. وانظر المغني (3/186) .(11/255)
حزم رحمه الله (1) .
دليل الجمهور على اشتراط الطهارة من الجنابة.
الدليل الأول:
لا خلاف في اشتراط الطهارة الصغرى والكبرى في الصلاة، وقد حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فيثبت للطواف ما يثبت للصلاة، ومنه اشتراط الغسل من الجنابة.
(1227-100) فقد روى الترمذي رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا، جرير، عن عطاء بن السائب، عن طاوس،
عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير.
[إسناده ضعيف، والراجح وقفه على ابن عباس] (2) .
_________
(1) المحلى (5/189) مسألة: 839.
(2) إسناده ضعيف؛ لأن جريراً متأخر السماع من عطاء بن السائب، وهو قد اختلط، إلا أنه لم ينفرد به، فقد تابعه الثوري، وقد اتفقوا على أنه سمع منه قبل الاختلاط.
وقد اختلف على عطاء في هذا الحديث، فرواه عنه الثوري، وابن عيينة، وجرير، والفضيل بن عياض، وموسى بن أعين، كلهم عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس مرفوعاً.
وخالفهم ابن فضيل، فرواه عن عطاء بن السائب به موقوفاً على ابن عباس، كما في مصنف ابن أبي شيبة، ولا شك أن الراجح من رواية عطاء بن السائب أنها مرفوعة، ولكن عطاء قد خالفه من هو أفضل منه، فرواه عبد الله بن طاووس، وإبراهيم بن ميسرة، والحسن ابن مسلم، عن طاووس، عن ابن عباس موقوفاً.
وهؤلاء أرجح من عطاء بن السائب وليث بن أبي سليم، والله أعلم.
فإبراهيم بن ميسرة، وعبد الله بن طاووس أحاديثهما في الكتب الستة، وتوثيقهما لا نزاع فيه، وهما من أخص أصحاب طاووس، أضف إلى ذلك أن عطاء بن السائب لم يرو عنه ممن اتفق على سماعه قبل الاختلاط إلا الثوري، وقد اختلف عليه في رفعه ووقفه، ورجح ابن حجر رواية من رواه عن سفيان موقوفاً.
وتابع ليث بن أبي سليم عطاء بن السائب في رفعه، إلا أن ليثاً ضعفه مشهور، وفي التقريب: صدوق اختلط جداً، ولم يتميز حديثه فترك. وعلى هذا يكون المحفوظ من رواية طاووس عن ابن عباس أنها موقوفة عليه.
ومع مخالفة عطاء بن السائب لمن هو أوثق منه، فقد اختلف عليه اختلافاً كثيراً.
فقيل: عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس.
وقيل: عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، تارة موقوفاً، وتارة مرفوعاً.
وقيل: عن عطاء بن السائب، عن طاووس، أو عكرمة، أو كلاهما عن ابن عباس.
وهذا الاختلاف على عطاء مما يضعف روايته، ولا يعارض بها رواية الثقات عن طاووس.
وقد تتبعت طرق الحديث، وخرجته وتكلمت عليه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، (336) فأغنى عن إعادته هنا.(11/256)
وقد رجح كونه موقوفاً جمع من الأئمة. قال الحافظ: ((رجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي)) اهـ (1) .
_________
(1) تلخيص الحبير (1/225) .(11/257)
وقال الترمذي رحمه الله: ((روي هذا الحديث عن ابن طاووس وغيره، عن طاووس، عن ابن عباس موقوفاً، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء ابن السائب)) (1) اهـ.
ورجح وقفه أيضاً ابن تيمية رحمه الله تعالى (2) ، وابن عبد الهادي كما في فيض القدير (3) .
كما أن متنه شاهد على أنه ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث يعتبر الطواف كالصلاة إلا في الكلام، وقد قال علماء الأصول: الاستثناء معيار العموم، بمعنى أنها تثبت للطواف جميع أحكام الصلاة إلا ما استثني، وعند التأمل نرى أنه يجوز بالطواف الأكل والشرب، وليس فيه تسليم، ولا دعاء استفتاح، ولا استقبال القبلة، ولا تجب له قراءة الفاتحة، وله أن يقطع طوافه لشهود صلاة الجنازة، أو لحضور الجماعة، ثم يبني على طوافه بخلاف الصلاة، ولا يحتاج فيه إلى تسوية صفوف، ولا تقديم الرجال على النساء، وله أن يطوف وهو عاري الكتفين، وبالتالي فهذه المخالفات تدل على أن الكلام ليس من عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (4) (5) .
_________
(1) السنن (3/93) .
(2) مجموع الفتاوى (21/274) (26/126) .
(3) (4/293) .
(4) النساء آية (82) .
(5) وقد قال بعضهم: إن هذا الحديث على فرض صحته يشبه حديث أبي هريرة في الصحيح، فقد روى البخاري (647) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة. وهو في مسلم (276) بغير هذا اللفظ.
والذي ينتظر الصلاة لا يلزمه ما يلزم المصلي، فله أن يأكل ويلتفت عن القبلة، وغيرها، فقد يكون الطواف صلاة من أجل أن الصلاة شرعت لإقامة ذكر الله، قال تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} والطواف إنما شرع لإقامة ذكر الله، وإن كانت الصلاة في اللغة: الدعاء، والطواف يدعو به الطائف ما شاء من أمور الدنيا والآخرة.
وهذا الكلام ليس دقيقاً؛ لأن هناك فرقاً بين أن أقول: الطواف كالصلاة في الأجر والمثوبة، وبين أن أقول: الطواف صلاة إلا في الكلام، فهذا واضح أن الحديث لم يتعرض للثواب، وإنما تعرض فيما يجب ويلزم ويمنع.
قال الكاساني في بدائع الصنائع (2/129) : تعليقاً على حديث "الطواف بالبيت صلاة ": يحمل على التشبيه كما في قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} أي كأمهاتهم، ومعناه أن الطواف كالصلاة إما في الثواب، أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة؛ لأن كلام التشبيه لا عموم له فيحمل على المشابهة في بعض الوجوه، عملاً بالكتاب والسنة " وانظر المبسوط (4/38) .(11/258)
الدليل الثاني:
دل الدليل على اشتراط الطهارة الصغرى، وما اشترطت فيه الطهارة الصغرى كانت الطهارة الكبرى شرطاً فيه من باب أولى؛ لأنها أغلظ،
والدليل على اشتراط الطهارة الصغرى،
(1228-101) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ، عن ابن وهب، أخبرني عمرو، عن محمد بن عبد الرحمن، ذكرت لعروة، قال:
فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها، أن أول شيء بدأ به حين قدم(11/259)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ، ثم طاف، ثم لم تكن عمرة. الحديث (1) .
ولا يقال: إن الوضوء مجرد فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لأننا نقول:
(1229-102) قد روى مسلم في صحيحه من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير،
أنه سمع جابراً يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمى على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (2) .
قال الشنقيطي: وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لطوافه، قد دل دليلان على أن الوضوء لازم لابد منه:
أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: ((خذوا عني مناسككم)) ، وهذا الأمر للوجوب والتحتم، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالاً لأمره، في قوله - صلى الله عليه وسلم - ((خذوا عني مناسككم)) .
الثاني: أن فعله في الطواف من الوضوء له، ومن هيئته التي أتي به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم، ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع؛ لأن قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - للسارق من الكوع، بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى {فاقطعوا
_________
(1) رواه البخاري (1614) ، ومسلم (1235) وفي مسلم قصة.
(2) صحيح مسلم (1297) .(11/260)
أيديهما} لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق، وإلى المنكب)) (1) .
وأجيب عن هذا الدليل:
أما كونه لما طاف توضأ، فهذا وحده لا يدل على الوجوب؛ فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة حتى ولو كان طاهراً، وتيمم لرد السلام، وقال: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر.
وأما الجواب عن قوله: ((لتأخذوا عني مناسككم)) .
قال ابن القيم: ((أن نفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا كان قد فعل فعلاً على وجه الاستحباب، فأوجبناه لم نكن قد أخذنا عنه وتأسينا به، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل في حجته أشياء كثيرة جداً لم يوجبها أحد من الفقهاء)) اهـ (2) .
وعلى كل حال، لا أرى الاستدلال بمثل هذا الأمر العام المشتمل على أحوال وهيئات، وصفات وأقوال، أحكامها مختلفة، لا أرى أن يستدل على وجوبها بهذا العموم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم)) يدل على كونه مشروعاً، وأنه من أفعال المناسك، أما دلالته على الوجوب فيحتاج إلى دليل خاص، كما أن دلالته على الشرطية أو الركنية يحتاج إلى دليل خاص كذلك، فإذا كان ورود الأمر الخاص فيه نزاع في دلالته على الوجوب كما هو معلوم في أصول الفقه، فما بالك في حديث: ((خذوا عني مناسككم)) والذي يشمل جميع أفعال المناسك.
_________
(1) أضواء البيان (5/203) .
(2) تهذيب السنن (1/53) .(11/261)
الدليل الثالث:
دل الدليل على منع الجنب من المكث في المسجد، ويلزم من طواف الجنب المكث فيه؛ لأن الطواف متعلق بالبيت، والبيت في وسط المسجد الحرام، والدليل على منع الجنب من المكث في المسجد، من الكتاب ومن السنة، أما الكتاب: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (1) .
(1230-103) وأما السنة فهو ما رواه أبو داود (2) من طريق أفلت بن خليفة، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة، قالت:
سمعت عائشة تقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد)) ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجهوا البيوت عن المسجد؛ فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب.
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) سورة النساء: 43.
(2) سنن أبو داود (232) .
(3) وقد ضعف الحديث الإمام أحمد كما في شرح السنة (2/46) للبغوي، وابن المنذر في الأوسط (2/110) ، وابن حزم كما في المحلى (2/186) والخطابي في معالم السنن (1/159)
وقال ابن رجب في شرح البخاري (1/321) : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " أخرجه أبو داود من حديث عائشة، وابن ماجه من حديث أم سلمة، وفي إسناديهما ضعف. وعلى تقدير صحة ذلك فهو محمول على اللبث في المسجد".
وقال عبدالحق الإشبيلي كما في بيان الوهم والإيهام لابن القطان (5/327) : " لا يثبت من قبل إسناده ".
وقال ابن رشد كما في بداية المجتهد المطبوع مع الهداية (2/31) : " وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث ".
وقوى الحديث بعضهم.
فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1327) وهذا ذهاب منه لتصحيح الحديث لأنه قد رسم كتابه بالصحيح، وحسن إسناده ابن القطان كما في كتاب الوهم والإيهام (5/332) ، وتابعه الزيلعي في نصب الراية (1/194) ، وحسنه ابن سيد الناس كما في الهداية في تخريج أحاديث البداية (2/31) .
والحق مع من ضعف الحديث، وعلة الحديث جسرة لم يوثقها معتبر والحمل عليها فيه. والله أعلم، وقد سبق تخريج هذا الحديث في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (300) ، فأغنى عن إعادة تخريجه هنا.(11/262)
وسوف نناقش مسألة المكث في المسجد في فصل مستقل إن شاء الله تعالى، فانظر فيه الجواب عن الآية والحديث.
الدليل الرابع:
منعت الحائض عن الطواف بالبيت بالإجماع مع القدرة على الطواف في حال الطهر، فيقاس عليها الجنب بجامع أن كلاً منهما حدث أكبر يوجب الغسل، ويمنع من الصلاة.
قال ابن عبد البر: الحائض لا تطوف بالبيت، وهو أمر مجتمع عليه، لا أعلم فيه خلافاً (1) .
وقال ابن رشد: ((اتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء، وذكر الثالث منها، قال: والثالث: فيما أحسب الطواف)) (2) .
_________
(1) التمهيد (17/265) .
(2) بداية المجتهد مع الهداية (2/59،60) .(11/263)
وقال النووي: وقد أجمع العلماء على تحريم الطواف على الحائض والنفساء. وأجمعوا على أنه لا يصح منهما طواف مفروض ولا تطوع، وأجمعوا على أن الحائض والنفساء لا تمنع من شيء من مناسك الحج إلا الطواف وركعتيه، نقل الإجماع في هذا كله ابن جرير وغيره (1) .
وقال ابن تيمية: ((وأما الذي لا أعلم فيه نزاعاً، أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض، إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر، فما أعلم منازعاً أن ذلك يحرم عليها، وتأثم به)) (2) .
وقال ابن حزم: أما امتناع الصلاة والصوم والطواف والوطء في الفرج حال الحيض فإجماع متيقن مقطوع به، لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيه (3) .
(1231-104) وعمدة الإجماع ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت:
خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفِست؟ قالت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري، ورواه مسلم (4) .
_________
(1) المجموع (2/386) .
(2) مجموع الفتاوى (26/206) .
(3) المحلى (مسألة 254) .
(4) () صحيح البخاري (305) . رواه مسلم (120ـ1211) .(11/264)
(1232-105) وبما رواه البخاري رحمه الله من طريق الزهري، حدثني عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن،
أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتهما، أن صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضت في حجة الوداع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحابستنا هي؟ فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله، وطافت بالبيت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلتنفر. ورواه مسلم (1) .
وأجيب:
بأن قياس الجنب على الحائض قياس مع الفارق، فأنتم لا تقولون بأن أحكامهما واحدة من كل وجه حتى يتم القياس،
فهذه الحائض لا تقضي الصلاة، بخلاف الجنب، ولا يصح الصوم مع الحيض، بخلاف الجنب فإنه يصح أن يصبح صائماً، وهو جنب، وإذا توضأ الجنب مكث في المسجد عندكم، مع أن الجنابة لم ترتفع، ولا تبيحون للحائض أن تمكث في المسجد ولو توضأت، فكل هذا يجعل قياس الأخف على الأغلظ قياساً ضعيفاً، مع أن مكث الحائض في المسجد متنازع فيه، وقد رجحت في كتابي الحيض والنفاس جواز مكث الحائض في المسجد، فانظره هناك.
الدليل الخامس:
استدل بعضهم بقوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (4401) ، ومسلم (382ـ 1211)
(2) سورة الحج آية (26) .(11/265)
وجه الاستدلال من وجهين:
الأول: أن الطواف ذكر مع الصلاة، فإذا كانت الصلاة تشترط لها الطهارة، فكذلك الطواف، بل إن تقديم الطواف على الصلاة يدل على أن الطهارة فيه أولى.
الوجه الثاني:
إذا وجب تطهير مكان الطائف، فبدنه من باب أولى.
وأجيب:
بأن هذه الدلالة دلالة اقتران، وهي من أضعف الدلالات، ولا يلزم من اقترانهما اشتراكهما في الحكم.
قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} (1) .
والأكل مباح، فهل إتيان حقه يوم حصاده تقولون: إنه مباح، ثم إنه قال في الآية الأخرى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} (2) .
هل تقولون: إن المعتكف لا يصح اعتكافه إلا على طهارة؛ لأنه قرن بالصلاة، فإذا سقطت الدلالة من هذه الآية سقطت من تلك.
وكونه قدم الطواف على الصلاة ليس دليلاً على كونه أولى بالطهارة من الصلاة، فقد يكون قدم باعتبار أن الطواف أخص بالبيت من الصلاة، فالصلاة يصليها الإنسان في كل المساجد، بل في الأرض كلها، وأما الطواف فلا يطوف الإنسان إلا في هذا البيت، والله أعلم.
_________
(1) سورة الأنعام آية (141) .
(2) سورة البقرة آية (125) .(11/266)
وأما الأمر بتطهير المكان، فالمراد من الشرك: وهو نجاسة معنوية، ومن الخبث: وهو نجاسة حسية، وأما المؤمن فإنه ليس بنجس، ولا ينجس بالحدث، ولا يمنع المحدث من دخول البيت، فليس مقصوداً في الآية.
دليل من قال: الطهارة من الجنابة سنة في الطواف.
الدليل الأول:
هذا القول لا يحتاج إلى دليل، وإنما الذي يطالب بالدليل الذي يقول باشتراط الطهارة من الجنابة ومن الحدث الأصغر للطواف، فعدم الدليل الموجب للطهارة كاف في الاستدلال، كما أن الأصل براءة الذمة حتى يثبت الدليل الصحيح الصريح، فدليل هذا القول هو عدم وجود دليل يدل على وجوب الطهارة من الحدث في الطواف، ومنه الطهارة من الجنابة.
قال ابن تيمية: ((لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف، مع العلم أنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر عمراً متعددة، والناس معتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضاً في الطواف لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً، ولو بينه لنقل ذلك المسلمون عنه، ولم يهملوه)) (1) .
وقال ابن القيم: ((لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المسلمين بالطهارة، لا في عمرته، ولا في حجته، مع كثرة من حج معه واعتمر، ويمتنع أن يكون ذلك واجباً ولا يبينه للأمة، وتأخير البيان عن وقته ممتنع)) (2) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/273) .
(2) تهذيب السنن (1/52،53) .(11/267)
قلت: وقد طاف مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجته خلق كثير، وكثير منهم حديث عهد بالإسلام، ومع ذلك لم يأمرهم بالطهارة، وقد ينتقض وضوء كثير منهم أثناء الطواف، ومع هذا الاحتمال القوي، لم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يلزمهم الطهارة في الطواف، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه يعلن أفعاله ليأخذ الناس مناسكهم، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشعر بأنه قد لا يحج العام القابل، وكان كما تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا لم يدل دليل على وجوب الطهارة الصغرى للطواف، فكذلك لم يدل دليل على وجوب الطهارة من الجنابة، والله أعلم.
الدليل الثاني:
قال ابن تيمية: ((ثبت أيضاً أن الطهارة لا تجب لغير الصلاة)) .
(1233-106) لما ثبت في صحيح مسلم، من حديث ابن جريج، حدثنا سعيد بن الحارث،
عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب له طعام، فأكل، ولم يمس ماء. قال ابن جريج: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد ابن الحارث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم تتوضأ؟ قال: ما أردت صلاة فأتوضأ.
قال عمرو: سمعته من سعيد بن الحارث. اهـ (1) .
ثم قال: ((ما أردت صلاة، فأتوضأ)) يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة، وأن وضوءه لما سوى ذلك مستحب، وليس بواجب)) اهـ.
_________
(1) انظر الكلام علي الحديث، من حيث الاختلاف في متنه في رقم (228) من كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية.(11/268)
وما يقال في عدم اشتراط الطهارة من الحدث الأصغر للطواف يقال: في عدم اشتراط الطهارة من الجنابة، سواء بسواء.
دليل من قال: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها وتجبر بدم.
استدلوا: على أن الطهارة واجبة بقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (1) .
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى أمر بالآية بالطواف، وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، فاشتراط الطهارة في الطواف يكون زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بدليل قاطع، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل، ولا يوجب علم اليقين والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين. وأصل الطواف ركن ثابت بالنص، والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد، فيكون موجباً للعمل دون العلم، فلم تصر الطهارة ركناً، ولكنها واجبة، والدم يقوم مقام الواجبات في الحج (2) .
ويجاب:
أولاً: لا نسلم أنه قد قام دليل على وجوب الطهارة للطواف ولو بخبر آحاد، فأين هذا الدليل الموجب للطهارة حتى نأخذ به؟
ثانياً: تفريق الحنفية بين ما هو قطعي الدلالة، وما هو ظني الدلالة،
_________
(1) سورة الحج: آية (29) .
(2) المبسوط ـ السرخسي (4/38) .(11/269)
والأول يصلح أن يكون دليلاً على الفرض، والثاني يكون دليلاً على الواجبات دون الشروط والأركان، والتفريق بين الواجب والفرض كل هذه الأمور مرجوحة لاتقوم على دليل صحيح، ولا يوافقهم فيها الجمهور، ثم الراجح من خبر الآحاد أنه يفيد العلم ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وتجويز الخطأ في خبر الآحاد تجويز عقلي، والأصل عدمه، ولو فتح الباب للتجويز العقلي لهدم الشرع، وهي لا تخرج عن أوهام ووساوس، لا تبنى على أسس، إنما بنيت على شفا جرف هار، وقد كان البلاغ في الرسالة يقوم على خبر الواحد، وهو أصل الشرع، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل الآحاد من الصحابة لتبليغ رسالته، وتقوم الحجة بذلك، فغيره من باب أولى. وليس هذا مقام بسط الكلام بالاحتجاج بخبر الواحد.
الراجح:
جواز الطهارة من المحدث، سواء كان حدثاً أصغر أو أكبر عدا الحيض، فإن الطواف لا يصح مع الحيض مع القدرة على الطواف في حال الطهر، فإن اضطرت إلى الطواف صح منها، والخلاف في طواف الحائض قد عقدت له فصلاً مستقلاً في كتابي الحيض والنفاس، فليراجع من هناك، والله أعلم.(11/270)
الفصل الثالث
في مكث الجنب في المسجد
اختلف العلماء في مكث الجنب للمسجد،
فقيل: لا يجوز للجنب أن يمكث في المسجد مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) .
وقيل: يجوز له المكث في المسجد بشرط الوضوء، وهو مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: يجوز له المكث مطلقاً، سواء كان متوضئاً أو غير متوضئ، وهو اختيار ابن حزم (5) .
دليل من قال: لا يجوز للجنب المكث في المسجد.
من الكتاب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (6) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/38) ، المبسوط (1/118) ،
(2) المدونة (1/32) ، التاج والإكليل (1/338) ، أحكام القرآن لابن العربي (1/557) ،
(3) الأم (1/54) ، وقال النووي في المجموع (2/184) : " مذهبنا أنه يحرم عليه المكث في المسجد جالساً أو قائماً أو متردداً أو على أي حال كان، متوضئاً كان أو غيره، ويجوز له العبور من غير لبث، سواء كان له حاجة أم لا.... الخ كلامه رحمه الله تعالى.
(4) المغني (1/97) ،
(5) المحلى (1/39) مسألة: 262.
(6) سورة النساء: 43.(11/271)
(1234-107) فقد روى عبدالرزاق (1) ، قال: عن معمر، عن عبدالكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله،
عن ابن مسعود أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد مجتازاً ولا أعلمه إلا قال: {ولا جنباً إلا عابر سبيل} (2) .
[إسناده منقطع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، وقيل بل هو على الاتصال؛ لأن كل ما حدثه به عن أبيه، فقد رواه عن أهل بيته، فهو في حكم المتصل] (3) .
(1235-108) وروى ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبدالعزيز، ثنا أبونعيم، ثنا أبو جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن ابن عباس قال: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} قال: إلا وأنت مار فيه (( (4) .
[سنده ضعيف، والثابت عن ابن عباس خلاف هذا كما سيأتي إن شاء الله تعالى] (5) .
_________
(1) المصنف (1613) .
(2) سورة النساء: 43.
(3) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (305) .
(4) الأوسط (2/106) ورواه الطبري في تفسيره (9555) من طريق عبدالله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي به.
(5) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (306) .(11/272)
وقد ذهب عطاء (1) ، والحسن (2) ، وإبراهيم النخعي (3) ، إلى أن معنى قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} الجنب يمر في المسجد.
وقد اختلف العلماء في معنى الآية على قولين:
الأول: أن معنى قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أي: لا تقرب موضع الصلاة وأنت جنب إلا أن تكون ماراً في المسجد غير ماكث فيه.
وعليه فيكون معنى قوله: {لا تقربوا الصلاة} أي لا تقربوا مواضع الصلاة (4) .
وقد تقدم أن هذا القول مروي عن ابن مسعود.
_________
(1) رواه ابن أبي شيبة (1/135) بسند رجاله ثقات وفيه عنعنة ابن جريج عن عطاء لكنه مكثر عن عطاء فلعلها تغتفر.
(2) رواه ابن جرير الطبري (9559) بسند رجاله ثقات وفيه عنعنة قتادة، وهو مدلس مكثر.
(3) رواه ابن أبي شيبة (1/135) رقم 1554 بسند صحيح.
(4) انظر تفسير القرطبي (5/100) ، تفسير مجاهد (1/158) ، زاد المسير (2/90) ، فتح القدير (1/469) ، مشكل إعراب القرآن (1/198) ، تفسير ابن كثير (1/503) ورجح أن المراد بقوله " إلا عابري سبيل " أي المجتاز مراً. قال ابن كثير: " لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله {وإن كنتم مرضى أو على سفر} معنى مفهوم.
وفي أحكام القرآن للجصاص (3/169) ورجح أن المراد به المسافر، قال: " وما روي عن علي وابن عباس في تأويله: أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم أولى من تأويل من تأوله على الاجتياز في المسجد؛ وذلك لأن قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} نهي عن فعل الصلاة في هذه الحال، لا عن المسجد؛ لأن ذلك حقيقة اللفظ، ومفهوم الخطاب، وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز: بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها، كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة، أو لأنه تسبب منه كقوله تعالى {لهدمت صوامع وبيع وصلوات} يعني به مواضع الصلاة، ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرف ذلك عن الحقيقة، وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة وهو قوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} .(11/273)
المعنى الثاني: أن معنى قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أي: لا يقرب الصلاة الجنب إلا أن يكون مسافراً فيتيمم ويصلي، وهذا التفسير هو الثابت عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهم، وجماعة من التابعين.
(1236-109) فقد روى ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، ومحمد ابن المثني، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز،
عن ابن عباس في قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} (1) ، قال: المسافر. وقال ابن المثنى: السفر (2) .
فهذا سند في غاية الصحة، ولا تضر عنعنة قتادة، وقد جاء حديثه من طريق شعبة (3) .
وله شاهد من قول علي - رضي الله عنه -.
(1237-110) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله وزر
عن علي: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} (4) ، قال: المار الذي لايجد الماء يتيمم ويصلي (5) .
_________
(1) النساء: 43.
(2) تفسير الطبري (9537) .
(3) وقد سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودارية، رقم (307) ، فأغنى عن إعادته هنا.
(4) سورة النساء: 43.
(5) المصنف (1/144) رقم 1663.(11/274)
ورواه ابن جرير الطبري (1) ، وابن المنذر (2) ، من طريق ابن أبي ليلى إلا أن ابن المنذر لم يذكر عباد بن عبد الله، وابن جرير رواه عن عباد أو عن زر.
[وهذا إسناد فيه ضعف] (3) .
وقد فسر قوله تعالى: {عابري سبيل} بالمسافرين جماعة من التابعين، منهم مجاهد (4) ، وعمرو بن دينار (5) ، وسعيد بن جبير (6) ، وسليمان بن موسى (7) ، والحكم بن عتيبة (8) ، والحسن بن مسلم (9) .
هذان هما القولان الواردان في معنى الآية، ولكل قول عندي مرجح.
فأما ترجيح أن المراد به المجتاز، وليس المسافر، فيرجحه أن الله سبحانه وتعالى قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
_________
(1) تفسير الطبري (9539) .
(2) الأوسط (2/108) .
(3) وقد سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس، برقم (308) .
(4) رواه عبد الرزاق (1615) ، وابن جرير الطبري في تفسيره (9543) ، (9544) ، (9545) ، (9546) من طرق عن مجاهد.
(5) رواه عبد الرزاق (1614) بسند صحيح عنه.
(6) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9540) بسند صحيح عنه.
(7) رواه ابن أبي شيبة (1/145) رقم 1666 بسند صحيح عنه.
(8) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9551) بسند صحيح عنه.
(9) رواه ابن أبي شيبة (1/144) رقم 1664 بسند صحيح، ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9547) من طريق شيخ ابن أبي شيبة.(11/275)
فلم تجدوا ماء فتيمموا...} (1) الآية، فلو كان يقصد بقوله: إلا عابري سبيل هو المسافر، لم يكن لإعادة ذكره معنى.
وأما ترجيح تفسير {عابري سبيل} بالمسافر، فيكفي أنه تفسير اثنين من الصحابة رضي الله عنهما: ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، ولأنه لا يحتاج إلى تقدير في الآية، فمعنى: {لا تقربوا الصلاة} على حقيقته وليس مواضع الصلاة.
الدليل الثاني:
(1238-111) ما رواه أبو داود (2) من طريق أفلت بن خليفة، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة، قالت:
سمعت عائشة تقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد)) ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجهوا البيوت عن المسجد؛ فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب)) .
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) سنن أبو داود (232) .
(3) وقد ضعف الحديث الإمام أحمد كما في شرح السنة (2/46) للبغوي، وابن المنذر في الأوسط (2/110) ، وابن حزم كما في المحلى (2/186) والخطابي في معالم السنن (1/159)
وقال ابن رجب في شرح البخاري (1/321) : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " أخرجه أبو داود من حديث عائشة، وابن ماجه من حديث أم سلمة، وفي إسناديهما ضعف. وعلى تقدير صحة ذلك فهو محمول على اللبث في المسجد".
وقال عبدالحق الإشبيلي كما في بيان الوهم والإيهام لابن القطان (5/327) : " لا يثبت من قبل إسناده ".
وقال ابن رشد كما في بداية المجتهد المطبوع مع الهداية (2/31) : " وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث ".
وقوى الحديث بعضهم.
فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1327) وهذا ذهاب منه لتصحيح الحديث لأنه قد رسم كتابه بالصحيح، وحسن إسناده ابن القطان كما في كتاب الوهم والإيهام (5/332) ، وتابعه الزيلعي في نصب الراية (1/194) ، وحسنه ابن سيد الناس كما في الهداية في تخريج أحاديث البداية (2/31) .
والحق مع من ضعف الحديث، وعلة الحديث جسرة لم يوثقها معتبر والحمل عليها فيه. والله أعلم، وقد سبق تخريج هذا الحديث في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (300) ، فأغنى عن إعادة تخريجه هنا.(11/276)
الدليل الثالث:
روي أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب، والمساجد بيوت الله، وأماكن إقامة ذكره، والملائكة فيها أكثر من غيرها، ولذا منع من يأكل الثوم والبصل من دخول المساجد؛ وعُلِّل ذلك بأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فإذا كانت الملائكة لا تدخل مكاناً فيه جنب، منع الجنب من دخول المسجد حتى لا يؤذي الملائكة،
(1239-112) فقد روى أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثني علي بن مدرك، عن أبى زرعة، عن ابن نجي، عن أبيه،
عن علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا صورة ولا كلب (1) .
_________
(1) المسند (1/84) .(11/277)
[زيادة ذكر الجنب منكرة، وإسناد هذا الحديث ليس بالقوي، وحديث ابن عباس وعائشة وابن عمر وميمونة في الصحيح بدون ذكر الجنب] (1) .
_________
(1) في إسناده نجي الحضرمي، لم يرو عنه غير ابنه عبد الله،
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد.
كما أن في إسناده ولده عبد الله بن نجي،
قال فيه العجلي: ثقة تابعي من خيار التابعين. معرفة الثقات (984) .
وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (16/220) .
وقال البخاري، عن علي: فيه نظر. الكامل (4/234) .
وقال الدارقطني: ليس بقوي في الحديث. تهذيب التهذيب (6/50) .
وقال الشافعي: مجهول. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: أخباره فيها نظر. الكامل (4/234) .
ولعل الحمل على حديثه هذا من أبيه، وليس منه، والله أعلم.
[تخريج الحديث]
الحديث قيل فيه: عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، عن علي.
وقيل: عن عبد الله بن نجي، عن علي، بإسقاط والد عبد الله بن نجي، وعبد الله لم يسمع من علي.
أما طريق عبد الله بن نجي، عن أبيه، عن علي، فأخرجه النسائي في المجتبى (261،4281) ، وفي الكبرى (4792) وأبو يعلى (626) من طريق يحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه أبو يعلى (313) والنسائي في المجتبى (261) ، وفي الكبرى (257) ، وابن حبان (1205) ، والمقدسي في الأحاديث المختارة (756) من طريق هشام بن عبد الملك.
وأخرجه أبو داود (227) عن حفص بن عمر النمري.
وأخرجه الطحاوي (4/282) من طريق عبد الله بن رجاء وحبان بن هلال.
وأخرجه الحاكم (1/171) من طريق آدم بن أبي إياس.
وأخرجه الطحاوي (4/282) ، والبيهقي (1/201) من طريق يعقوب بن إسحاق الحضرمي، كلهم عن شعبة به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح.
ولم يعترض عليه الذهبي في التلخيص، لكن قال الذهبي في الميزان: نجي الحضرمي لا يدرى من هو؟
ووراه أحمد (1/85) والبزار (879) ، وابن خزيمة (902) من طريق محمد بن عبيد، حدثني شرحبيل بن مدرك، عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، عن علي.
وأخرجه النسائي (1213) من طريق أبي أسامة مختصراً، عن شرحبيل بن مدرك به.
قال ابن خزيمة (2/54) : لست أحفظ أحداً قال: عن أبيه غير شرحبيل بن مدرك هذا.
وأما طريق عبد الله بن نجي، عن علي،
فرواه أبو داود الطيالسي (110) ،
وأخرجه البزار (880) من طريق محمد بن جعفر، كلاهما عن شعبة به بإسقاط والد عبد الله بن نجي.
ورواه عبد الواحد بن زياد، واختلف عليه فيه:
فرواه الدارمي (2663) ، عن أبي النعمان،
وابن خزيمة (904) من طريق معلى بن أسد، كلاهما عن عبد الواحد بن زياد، عن عمارة، عن الحارث العكلي، عن أبي زرعة، عن عبد الله بن نجي، عن علي.
ووراه البزار (881) حدثنا أبو كامل (يعني: فضيل بن حسين الجحدري) ، عن عبد الواحد بن زياد، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن عبد الله بن نجي، عن علي، بإسقاط الحارث.
كما رواه مغيرة بن مقسم، واختلف عليه فيه:
فقيل: عن مغيرة بن مقسم، عن الحارث العكلي، عن عبد الله بن نجي.
أخرجه أحمد (1/80) وابن أبي شيبة (5/242) رقم 52676، وابن ماجه (3708) ، والنسائي (1212) والطحاوي (4/282) حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا مغيرة بن مقسم، حدثني الحارث العكلي، عن عبد الله بن نجي، عن علي بنحوه.
واقتصر ابن أبي شيبة والنسائي وابن ماجه على بعض الحديث بذكر فضل علي.
وقيل: عن مغيرة بن مقسم، عن الحارث، عن أبي زرعة، عن عبد الله بن نجي، بزيادة أبي زرعة بين الحارث، وبين عبد الله بن نجي.
أخرجه ابن خزيمة (904) عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن ابن عياش.
ورواه النسائي (1211) ، وأبو يعلى (592) ، وابن خزيمة (904) من طريق جرير بن عبد الحميد، كلاهما (ابن عياش وجرير) عن المغيرة به بزيادة أبي زرعة.
وقال الدارقطني في العلل (3/258) : ورواه زيد بن أبي أنيسة، عن الحارث العكلي، عن أبي زرعة، عن عبد الله بن نجي، عن علي.
فهذه متابعة من زيد بن أبي أنيسة لمغيرة على زيادة أبي زرعة بين الحارث، وبين عبد الله ابن نجي.
وأخرجه أحمد (1/107) من طريق سفيان، عن جابر (يعني: الجعفي) عن عبد الله ابن نجي، عن علي. وذكر قصة امتناع دخول جبريل البيت لوجود جرو في البيت، وجابر ضعيف مشهور الضعف.
قال الدارقطني في العلل (3/258) : ويقال: إن عبد الله بن نجي لم يسمع هذا الحديث من علي، وإنما رواه عن أبيه، عن علي، وليس بقوي في الحديث. اهـ
انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (4/444) ، تحفة الأشراف () ، إتحاف المهرة (1450، 14551، 14552، 14779، 14780) .(11/278)
وله شاهد ضعيف من حديث عمار، أخرجه أحمد، من طريق حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر،
أن عماراً قال: قدمت على أهلي ليلاً، وقد تشققت يداي، فضمخوني بالزعفران، فغدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلمت عليه، فلم يرد علي، ولم يرحب بي، فقال: اغسل هذا. قال: فذهبت، فغسلته، ثم جئت، وقد بقي علي منه شيء، فسلمت عليه، فلم يرد علي، ولم يرحب بي وقال: اغسل هذا عنك، فذهبت فغسلته، ثم جئت، فسلمت عليه، فرد علي، ورحب بي وقال: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر، ولا المتضمخ بزعفران، ولا(11/280)
الجنب، ورخص للجنب إذا نام، أو أكل، أو شرب أن يتوضأ (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
ويجاب:
أولاً: أن الحديث ضعيف، كما وضح من تخريجه.
ثانياً: حديث عائشة (3) ، وأبي طلحة (4) ، وميمونة (5) ، وابن عمر (6) ، في
_________
(1) المسند (4/320) .
(2) يحيى بن يعمر لم يلق عمار بن ياسر، ذكره الدارقطني في التهذيب (11/305) .
وعطاء الخرساني كثير الوهم والتدليس.
وقد أخرج الحديث الطيالسي (646) ، وابن أبي شيبة (4/50) ، وأبو داود (225،4176، 4601) ، والترمذي (613) ، والبزار (1402) ، وأبو يعلى (1635) ، والبيهقي (5/36) من طرق عن حماد بن سلمة به.
قال أبو داود: بين يحيى بن يعمر وعمار بن ياسر في هذا الحديث رجل.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (1087) عن معمر، عن عطاء به، وهذه متابعة من معمر لحماد بن سلمة.
وأخرجه عبد الرزاق (6145) ، وأحمد (4/320) وأبو داود (4177) ومن طريقه البيهقي (5/36) من طريق ابن جريج، أخبرني عطاء بن أبي الخوار، أنه سمع يحيى بن يعمر يخبر عن رجل أخبره عن عمار بن ياسر بنحوه في قصة غسل الخلوق من ثوبه ثلاثاً.
وأخرجه أبو داود (4180) ، والبيهقي (5/36) من طريق الحسن البصري، عن عمار رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا تقربهم الملائكة بخير: جيفة الكافر والمتمضخ بخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ. والحسن لم يسمع من عمار.
(3) مسلم (2104) .
(4) البخاري (3225) ، ومسلم (2106) .
(5) مسلم (2105) .
(6) البخاري (3227) .(11/281)
الصحيح، بذكر الكلب والصورة دون ذكر الجنب.
ثالثاً: ترجم البخاري في صحيحه: باب كينونة الجنب بالبيت، وساق حديث عائشة المتفق عليه في نوم الجنب إذا توضأ (1) .
قال الحافظ: ((أشار المصنف بهذه الترجمة إلى تضعيف ما ورد عن علي مرفوعاً: ((إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ولا جنب)) رواه أبو داود وغيره، وفيه نجي بضم النون وفتح الجيم الحضرمي، ما روى عنه غير ابنه عبد الله، فهو مجهول، لكن وثقه العجلي، وصحح حديثه ابن حبان، والحاكم، فيحتمل كما قال الخطابي: أن المراد بالجنب من يتهاون بالاغتسال، ويتخذ تركه عادة، لا من يؤخره ليفعله، قال: ويقويه: أن المراد بالكلب غير ما أذن في اتخاذه، وبالصورة ما فيه روح وما لا يمتهن. قال النووي: وفي الكلب نظر. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد با لجنب في حديث علي من لا يرتفع حدثه كله ولا بعضه، وعلى هذا فلا يكون بينه وبين حديث الباب منافاة؛ لأنه إذا توضأ ارتفع بعض حدثه على الصحيح (2) .
قلت: لست بحاجة إلى الجمع أو التأويل والحديث ضعيف، فالمعروف هو امتناع الملائكة من دخول بيت فيه كلب أو صورة، وليست الجنابة أغلظ من النجاسة، ومع ذلك لا تمنع النجاسة دخول الجنابة، والجنب طاهر البدن والعرق، وقد رجحت في كتاب النجاسة جواز دخول المشرك مساجد الله عدا المسجد الحرام، كما ربط ثمامة في سارية من سواري المسجد، والمشرك جنب وزيادة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربما قرأ القرآن، ورأسه في حجر عائشة، وهي
_________
(1) البخاري (286) ، ومسلم (305) .
(2) فتح الباري تحت رقم (286) .(11/282)
حائض، ولو كانت الجنابة تمنع دخول الملائكة لوجدت نصوص تحث على المبادرة في غسل الجنابة، ولم يؤمر المسلم بالغسل إلا عند القيام إلى الصلاة، أو تخفيف الجنابة بالوضوء عند النوم، والله أعلم.
دليل الحنابلة على جواز المكث بشرط الوضوء.
(1240-113) ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد الداروردي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم،
عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة (1) .
[وهشام بن سعد وإن كان فيه كلام، إلا أن أبا داود قال فيه: أثبت الناس في زيد بن أسلم، وباقي رجاله ثقات إلا الداروردي فإنه صدوق، إلا أن هشام بن سعد قد اختلف عليه في هذا الأثر] (2) .
_________
(1) تفسير ابن كثير (2/313) .
(2) فقد رواه ابن أبي شيبة (1/135) 1557: حدثنا وكيع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال: كان الرجل منهم يجنب ثم يدخل المسجد فيتحدث فيه " اهـ.
ووكيع أثبت من الداروردي ولا مقارنة، وذكره عن زيد. ولم يذكر عطاء بن يسار، كما لم يذكر وضوءاً.
وروى حنبل بن إسحاق صاحب أحمد، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنباً فيتوضأ، ثم يدخل المسجد فيتحدث ".
وهنا تابع أبو نعيم وكيعاً في عدم ذكر عطاء، إلا أنه ذكر الوضوء. وكما ذكرت بأن ذلك حكاية فعل لا تدل على الوجوب، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره (2/313) بأن إسناده صحيح على شرط مسلم.(11/283)
وعلى فرض صحته فإنه لايدل على الوجوب.
أولاً: أن هذا حكاية فعل عن بعض أصحاب رسول الله، والفعل المجرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب فكيف من غيره.
ثانياً: أن هذا الأثر فيه اختلاف سنداً ومتناً كما تبين من تخريجه.
ثالثاً: على تفسير: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (1) ، بأن المقصود به المجتاز فإنه يعارض هذاالأثر، فإن الآية تضمنت نهي الجنب عن المكث في المسجد، وجعلت غاية النهي هي الاغتسال، بينما الأثر جعل غاية النهي الوضوء.
رابعاً: أن الأثر لم يحك عنهم أن هذا الفعل منهم كان زمن التشريع، بل صريح في أن زيد بن أسلم رآهم، وهذا يدل على أن ذلك كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحك عن عموم الصحابة حتى يكون حكاية للإجماع، فلا يصلح للاحتجاج.
دليل من قال: يجوز مكث الجنب في المسجد.
الدليل الأول:
أصحاب هذا القول ليسوا بحاجة إلى دليل؛ لأن المطالب بالدليل من منع ذلك؛ لأن الأصل الحل، وبراءة الذمة، ولم يرد دليل صحيح صريح في منع الجنب من المكث في المسجد، ولا يجوز منعه إلا بدليل صحيح صريح سالم من المعارضة، ولم يوجد هنا.
الدليل الثاني:
إذا كان المشرك يدخل المسجد، ويمكث فيه، ولا يبعد أن يكون جنباً، فالمسلم الجنب من باب أولى،
_________
(1) سورة النساء آية: 43(11/284)
(1241-114) فقد روى البخاري، قال: حدثناعبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد،
أنه سمع أبا هريرة، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقد اختصره البخاري (1) .
وأجاب النووي عن هذا الدليل بقوله: ((القياس على المشرك جوابه من وجهين:
الأول: أن الشرع فرق بينهما!! فقام دليل تحريم مكث الجنب، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس بعض المشركين في المسجد، فإذا فرق الشرع لم يجز التسوية.
الثاني: أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد، فلا يكلف بها، بخلاف المسلم، وهذا كما أن الحربي لو أتلف على المسلم شيئاً لم يلزمه ضمانه، لأنه لم يلتزم الضمان بخلاف المسلم والذمي إذا أتلفا (2) .
ويمكن أن يدفع هذا الكلام، بأن الكافر منهي عما ينهى عنه المسلم، فإذا منع المسلم من دخول المسجد، وقد أكل بصلاً أو ثوماً، منع الكافر كذلك في
_________
(1) صحيح البخاري (462) ، وقد رواه البخاري (3472) ومسلم (1764) بأطول من هذا.
(2) المجموع (2/185) .(11/285)
هذه الحال، وكذلك إذا منع المسلم من البصق في المسجد لم يترك الكافر ليبصق فيه، ومثله النهي عن البيع فيه وإنشاد الضالة ونحوها، يلزم الكافر بما يلزم به المسلم، فما كان من قبيل المنهيات أو كان من قبيل الأحكام الوضعية يستوي فيه الكبير والصغير والمسلم والكافر، كالكذب والسرقة والزنا ونحوها، وإذا مكنا الكافر من دخول المسجد، وإن كان لا يعتقد حرمته، فإن هذا الفعل أصبح من كسبنا، وليس من كسب الكافر، والله أعلم.
الدليل الثالث:
أن الجنب ليس نجساً، فبدنه، وعرقه، وريقه طاهر، فلا يمنع من دخول المسجد، بل إن المسلم المتضمخ بالنجاسة على وجه لا يتعدى لا يمنع من دخول المسجد، فإذا كان على بدن المسلم أثر بول، أو على ثوبه، لم يحرم عليه دخول المسجد، فالجنب من باب أولى.
(1242-115) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عياش، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا حميد، عن بكر، عن أبي رافع،
عن أبي هريرة قال: ((لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت له: فقال: سبحان الله، يا أبا هريرة إن المؤمن لا ينجس)) ورواه مسلم (1) .
وجه الشاهد منه، قوله: ((إن المؤمن لا ينجس)) سواء قلنا: إن معنى الحديث: إن المؤمن لا ينجس بالجنابة، وإن كانت قد تلحقه النجاسة الحسية
_________
(1) البخاري (285) ، ومسلم (371) واللفظ للبخاري.(11/286)
كغيره، أو قلنا: إن المؤمن طاهر بإيمانه، كما أن المشرك نجس بشركه، فهي طهارة معنوية، فعلى كلا التفسيرين إذا كان المؤمن لا ينجس، ولو كان جنباً، فالطاهر لا يمنع من دخول المسجد.
الدليل الرابع:
إذا كانت الحائض لا تمنع من دخول المسجد على الصحيح، مع أن حدثها أغلظ من حدث الجنابة، فالجنب من باب أولى،
(1243-116) فقد روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد،
عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفِست؟ قالت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي في البيت)) . فيقال: إن الاستثناء معيار العموم، فلم يستثن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الطواف، ومعلوم أن الحاج يمكث في المسجد، ولو كان لا يحل لها لنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. وبهذا الاستدلال قال ابن حزم، فقد قال: ((لو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك عليه السلام عائشة إذ حاضت، فلم ينهها إلا عن الطواف في البيت، ومن الباطل
_________
(1) () صحيح البخاري (305) . رواه مسلم (120ـ1211) .(11/287)
المتيقن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه السلام عن ذلك، ويقتصر على منعها من الطواف (1) .
وهذا الاستدلال فيه نظر، لأن استثناء الطواف من العموم السابق:
((افعلي ما يفعل الحاج)) فكأنه قال: ((افعلي جميع المناسك ما عدا الطواف، والمكث في المسجد ليس من الأعمال الخاصة بالمناسك، والله أعلم.
ومع أن هذا الدليل لا أراه كافياً في الاستدلال بمنع الحائض من دخول المسجد، إلا أنه ليس الدليل الوحيد في الباب، وقد بحثت هذا الفصل ورجحت جواز دخول الحائض المسجد في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، وهو جزء من هذه السلسلة، فأغنى عن إعادته هنا، فالدليل متوجه في الجملة: وهو أن ما جاز للحائض فعله جاز للجنب، وليس العكس، وقد صح عندي جواز دخول الحائض المسجد، فالجنب أولى.
الراجح من أقوال أهل العلم.
بعد استعراض أدلة الأقوال أرى أن الراجح من أقوال أهل العلم جواز دخول الجنب المسجد، والحدث ليس أغلظ من النجاسة، ومع ذلك لا يمنع المسلم المتلبس بالنجاسة على وجه لا يتعدى من دخول المسجد، والله أعلم.
_________
(1) المحلى مسألة (262) .(11/288)
الفصل الرابع
في قراءة الجنب للقرآن
اختلف العلماء في قراءة الجنب للقرآن،
فقيل: لا يجوز له، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: يجوز للجنب أن يقرأ القرآن، وهو مذهب ابن عباس (5) ، وسعيد
_________
(1) مذهب الحنفية المنع من قراءة الآية، وأما ما دون الآية ففي مذهب قولان: انظر شرح معاني الآثار (1/90) ، البحر الرائق (1/209) ، حاشية ابن عابدين (1/248) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 94) ، المبسوط (1/62) ، بدائع الصنائع (1/37) ، الهداية شرح البداية (1/31) .
(2) رخص مالك في الآيات اليسيرة للتعوذ، بل أجاز بعضهم قراءة المعوذتين، وذكر الآية للاستدلال أو الرقية ونحوها انظر مواهب الجليل (1/317) ، القوانين الفقهية (ص: 25) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:24) ، الخرشي (1/173) ، حاشية الدسوقي (1/138-139) .
(3) المجموع (2/178) ، المهذب (1/30) ، حلية العلماء (1/172) ، إعانة الطالبين (1/69) ، روضة الطالبين (1/86) ، شرح زبد بن رسلان (ص: 70) .
(4) البخاري معلقاً عنه بصيغة الجزم، في كتاب الحيض، باب (8) تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، قال: ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً. وسوف يأتي تخريجه عن إن شاء الله تعالى.
(5) المبدع (1/187) شرح العمدة (1/386) ، الإنصاف (1/243) ، الكافي (1/58) ، كشاف القناع (1/147) .(11/289)
ابن المسيب (1) ، واختيار ابن حزم (2) .
دليل الجمهور على منع الجنب من قراءة القرآن.
الدليل الأول:
(1244-117) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبدالله بن سَلِمة، عن علي، قال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن مالم يكن جنباً (3) .
[إسناده ضعيف، والمعروف أنه موقوف على عليّ] (4) .
_________
(1) حلية العلماء (1/173)
(2) المحلى (1/94) مسألة: 116.
(3) المسند (1/83) .
(4) في الإسناد عبد الله بن سَلِمة، لم يرو عنه غير عمرو بن مرة على الصحيح.
قال شعبة: سمعت عبدالله بن سلمة يحدثنا، وكان قد كبر، فكنا نعرف وننكر. تهذيب الكمال (15/50) .
وقال البخاري: لا يتابع في حديثه. التاريخ الكبير (5/99) .
وقال النسائي: يعرف وينكر. الضعفاء والمتروكين له (347) ، لسان الميزان (2/431) .
وقال الدارقطني: ضعيف. السنن (2/121) .
وقال ابن حبان: يخطئ. الثقات (5/12) .
وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/169) .
وقال: يعقوب بن شيبة: ثقة. تهذيب التهذيب (2/212) .
وقال أبو حاتم: تعرف وتنكر. الجرح والتعديل (5/73) .
وذكره ابن الجوزي في الضعفاء، وقال الذهبي في الكاشف: صويلح.
فالأكثر على ضعفه، وعلى التنزل بأنه ثقة، فقد تغير، وحدث بهذا الحديث بعد أن كبر قال عمرو بن مرة: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فيعرف، وينكر، كان قد كبر وبالرغم من أن شعبة كان يقول: هذا الحديث ثلث رأس مالي، فإنه كان يقول أيضاً: روى عبد الله ابن سلمة هذا الحديث بعدما كبر. وإذا كان قد رواه زمن تغيره لم يقبل منه.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث.
فضعفه أحمد رحمه الله، والشافعي والنووي والخطابي والبيهقي. انظر معرفة السنن والآثار (1/323) ، ومعالم السنن (1/156) ، المجموع (2/183) ، الخلاصة للنووي (1/207) ،
وخالفهم الترمذي وابن السكن وعبد الحق والبغوي والحاكم، وحسنه الحافظ ابن حجر، وقد نقلت كل ذلك عنهم مع تتبع مصادر الحديث في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (225) فأغنى عن إعادته هنا.(11/290)
وعبد الله بن سلمة، وإن كان فيه كلام، إلا أنه قد توبع،
(1245-118) فقد روى أحمد، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن السمط، عن أبي الغريف، قال:
أتي علي بوضوء، فمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية (1) .
[إسناده ضعيف، وقوله: ((هذا لمن ليس بجنب...)) الخ موقوف] (2) .
_________
(1) المسند (1/110) .
(2) في إسناده أبو الغريف، ضعفه بعضهم بحجة أنه لم يوثقه إلا ابن حبان، والحق أنه قد وثقه يعقوب بن شيبة كما في المعرفة والتاريخ (3/200) ، وذكره البرقي فيمن احتملت روايته، وقد تكلم فيه، وقال الحافظ في التقريب: صدوق رمي بالتشيع.
وأما أبو حاتم الرازي فقد خسفه، وهو من المتشددين في الجرح غالباً، فقال: كان على شرطة علي، وليس بالمشهور، قيل: هو أحب إليك أو الحارث الأعور؟ قال: الحارث أشهر، وهذا شيخ قد تكلموا فيه، من نظراء أصبغ بن نباتة. الجرح والتعديل (5/313) .
وأصبغ قد قال فيه الحافظ: متروك. اهـ وباقي رجاله ثقات إلا شيخ أحمد فإنه صدوق.
وأمر آخر، وهو المهم، أن الحديث ظاهره أن لفظه كله مرفوع، ويحتمل أن المرفوع ينتهي عند قوله: " هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ "، وأما قوله: " ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، وأما الجنب فلا ولا آية " فيحتمل أنه من قول علي موقوفاً عليه، ويحتمل أن يكون موصولاً بالقدر المرفوع، ومع الاحتمال يطلب مرجحاً لأحد الأمرين، فوجدت الدارقطني في سننه (1/118) قد أخرجه من طريق يزيد بن هاورن، نا عامر بن السمط، ثنا أبو الغريف الهمداني، قال: كنا مع علي في الرحبة، فخرج إلى أقصى الرحبة، فوالله ما أدري أبولاً أحدث أم غائطاً؟ ثم جاء فدعا بكوز من ماء، فغسل كفيه، ثم قبضهما إليه، ثم قرأ صدراً من القرآن، ثم قال: اقرؤا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة، فإن أصابته جنابة، فلا ولا حرفاً واحداً.
وقال الدارقطني: هو صحيح عن علي.
فرواية يزيد بن هارون عن عامر بن السمط صريحة بالوقف.
وأخرجه عبد الرزاق (1306) عن الثوري، عن عامر الشعبي، قال سمعت أبا الغريف الهمداني، يقول:... . وذكر الأثر موقوفاً على علي.
وأظن قوله (عامر الشعبي) خطأ، بل هو عامر بن السمط. وقد راجعت ترجمة أبي الغريف في تهذيب المزي ولم أجد من تلاميذه عامر الشعبي.
ورواه شريك، عن عامر بن السمط به موقوفاً على علي، كما في المصنف لابن أبي شيبة (1086) .
ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/96،97) من طريق خالد بن عبد الله الواسطي (الطحان) ، ومن طريق إسحاق بن راهوية، فرقهما، عن عامر بن السمط به، موقوفاً على عليّ.
فيكون على هذا رواه الثوري، ويزيد بن هارون، وإسحاق بن راهوية، وخالد بن عبد الله الطحان، وشريك، خمستهم رووه عن عامر بن السمط عن أبي الغريف، عن عليّ موقوفاً عليه، وخالفهم عائذ بن حبيب، فرواه عن عامر بن السمط، عن علي بلفظ محتمل للرفع والوقف، ورواية الجماعة مقدمة على رواية عائذ على القول بالتعارض، لأن الواحد من هؤلاء مقدم على عائذ ابن حبيب ولا مقارنة. فتكون رواية عائذ بالرفع شاذة؛ لمخالفتها من هو أوثق. وإن كنت أرجح أن الروايتين موقوفتان على علي، لأن الرواية المحتملة ترد إلى الرواية الصريحة. والله أعلم.
فإن قيل: هذا الموقوف ألا يقوي رواية عبد الله بن سلمة المرفوعة.
فالجواب أن الموقوف غالباً علة برد المرفوع، فكون عبد الله بن سلمة هو الذي تفرد برفعه، مع كونه قد تغير، وحدث به في زمن الكبر، كل هذا دليل على خطئه ووهمه، وإن كانت طريقة جمهور الفقهاء لا يعللون المرفوع بالموقوف، ولكن طريقة جمهور المحدثين أدق وأحوط.
[تخريج الحديث]
أخرجه مع أحمد، أبو يعلى (365) حدثنا أبو خيثمة، حدثنا عائذ بن حبيب به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/276) رجاله موثوقون. اهـ(11/291)
وجه الاستدلال من الحديثين:
قالوا: إن تبليغ القرآن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجب، وكونه يترك هذا الواجب يدل على أنه تركه لما هو أوجب منه، وهو اشتراط الطهارة من الجنابة لقراءة القرآن.
ويجاب عن هذا الأثر بما يأتي:
الأول: أننا أثبتنا أن الأثر موقوف على علي رضي الله عنه، وليس مرفوعاً، فإن قيل: أليس الموقوف حجة، قيل: نعم يكون حجة لو لم يخالف من صحابي آخر، وقد خالفه ابن عباس، فأجاز قراءة القرآن للجنب كما سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.
ثانياً: قولهم: إن قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبيل التبليغ، يقال لهم: هل كل قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقرآن من قبيل ذلك، أو يقال: إن قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها ما هو واجب، ومنها ما هو على سبيل الاستحباب، كالتعبد بتلاوته؟ كما(11/293)
أن تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - واحداً من أمته للقرآن تبليغ للأمة، فأكثر ما تكون قراءته له - صلى الله عليه وسلم - على وجه الذكر والتعبد، فإذا كان كذلك، كان حديث عليّ لو صح مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
قال ابن خزيمة: ((لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من القراءة؛ لأنه ليس فيه نهي، وإنما هو حكاية فعل)) (1) .
وقال ابن حزم: ((فأما منع الجنب من قراءة القرآن فاحتجوا بما رواه عبدالله بن سلمة، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه نهي عن أن يقرأ الجنب القرآن، وإنما هو فعل منه عليه السلام... الخ كلامه رحمه الله تعالى (2) .
الدليل الثاني:
(1246-119) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا علي بن حجر والحسن بن عرفة، قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع،
عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) تلخيص الحبير (1/242) رقم 184
(2) المحلى (مسألة 116) .
(3) سنن الترمذي (131) .
(4) وسبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (223) .(11/294)
الدليل الثالث:
(1247-120) ما رواه الدارقطني، من طريق أبي نعيم النخعي (عبد الرحمن بن هانئ) ، نا أبو مالك النخعي، عن عبد الملك بن حسين، حدثني أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي.
قال أبو مالك: وأخبرني عاصم بن كليب، عن أبي بردة، عن أبي موسى كلاهما قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا علي إني أرضى لك ما أرضى لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقرأ القرآن وأنت جنب، ولا أنت راكع، ولا أنت ساجد، ولا تصل، وأنت عاقص شعرك، ولا تدبح تدبيح الحمار (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
الدليل الرابع:
(1248-121) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنود،
عن مالك بن عبادة الغافقي، قال: أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جنب، فأخبرت عمر بن الخطاب، فجرني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إن هذا أخبرني أنك أكلت، وأنت جنب، قال: نعم إذا توضأت أكلت
_________
(1) سنن الدارقطني (1/118) .
(2) في إسناده أبو مالك النخعي، متروك الحديث، وقد سبقت ترجمته وافية مع تخريج الحديث في كتابي الحيض والنفاس (226) ، فانظره هنالك.(11/295)
وشربت، ولكني لا أصلي، ولا أقرأ حتى أغتسل (1) .
[إسناده ضعيف، ولو صح لكان حكاية فعل في الجنب خاصة] (2) .
الدليل الخامس:
(1249-122) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن الثوري، عن أبي وائل، عن عبيدة السلماني، قال:
كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب.
[رجاله ثقات، والكراهة عند السلف تعني التحريم، وعمر له سنة متبعة؛ لأنه من الخلفاء الراشدين المأمورين باتباع سنتهم] (3) .
ويجاب عن هذا:
أولاً: الكراهة في الشرع لفظ مشترك بين التحريم والكراهة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر.
وقال تعالى: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} (4) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال،
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/88) .
(2) في إسناده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف، وفيه أيضاً ثعلبة بن أبي الكنود، ذكره البخاري وابن أبي حاتم، وسكتا عليه، الجرح التعديل (2/463) ، التاريخ الكبير (2/175) ، وانظر تخريجه بطوله في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (227) .
(3) المصنف (1307) وقد سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (228) ، فأغنى عن إعادته هنا.
(4) الإسراء: 38.(11/296)
فالكراهة في النص الأول كراهة تنزيه، وفي الثاني والثالث المراد منها التحريم، وإذا كانت الكراهة نصاً مشتركاً لم يكن الدليل نصاً في التحريم.
ثانياً: على فرض أن المراد بها التحريم، فإن الصحابة قد اختلفوا في قراءة الجنب للقرآن، وليس قول بعضهم حجة على البعض، وإذا اختلفوا كان الموقف الشرعي النظر في أقرب أقوالهم للحق، كما هو الحال في هذه المسألة.
الدليل السادس:
(1250-123) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا غندر، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم،
أن ابن مسعود كان يمشي نحو الفرات، وهو يقرئ رجلاً القرآن، فبال ابن مسعود، فكف الرجل عنه، فقال ابن مسعود: مالك؟ فقال: إنك بلت. فقال ابن مسعود: إني لست بجنب (1) .
[إسناده منقطع، إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات إلا حماد بن أبي سليمان فإنه صدوق له أوهام، كما أن الأثر موقوف] (2) .
وعلى فرض صحته، فإن الجواب عنه لا يختلف عن الجواب عن أثر عمر رضي الله عنه.
الدليل السابع:
(1251-124) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد، نا العباس بن محمد الدوري (ح)
_________
(1) المصنف (1/97) .
(2) سبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رقم (229) .(11/297)
وحدثنا إبراهيم بن دُبَيْس بن أحمد الحداد، نا محمد بن سليمان الواسطي، قالا: نا أبو نعيم، نا زمعة ابن صالح، عن سلمة بن وهرام،
عن عكرمة، قال: كان ابن رواحة مضطجعاً إلى جنب امرأته، فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة، فوقع عليها، وفزعت امرأته، فلم تجده في مضجعه، فقامت وخرجت، فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت، فأخذت الشفرة، فقال: مهيم؟ فقالت: مهيم! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتيني؟ فقالت: رأيتك على الجارية. فقال: ما رأيتيني، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا القرآن، وهو جنب، قالت: فاقرأ، فقال:
أتانا رسول الله يتلو كتابه... كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا... به موقنات أن ما قال واقع
فقالت: آمنت بالله، وكذبت البصر، ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فضحك حتى رأيت نواجذه - صلى الله عليه وسلم - (1) .
] إسناد القصة ضعيف، وفيه انقطاع، والشعر ثابت لعبد الله ابن رواحة من غير هذا الطريق] (2) .
قالوا: فهذه الأحاديث في منع الجنب صالحة للاحتجاج إما بنفسها، وأما بمجموعها، وكلها تدل على أن الجنب ليس له أن يقرأ القرآن.
وأجيب:
بأن أحاديث منع الجنب من قراءة القرآن كونها لا تأتي إلا من طريق
_________
(1) سنن الدارقطني (1/120) .
(2) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (229) .(11/298)
الضعفاء، فانفرادهم بهذا الحكم مع حاجة الأمة إليه، يوجب في النفس ريبة من قبول هذا الحكم، فالحكم إذا كانت الأمة بحاجته، لا بد أن تأتي النصوص صحيحة صريحة تقوم بمثلها الحجة، وكما قلنا في أحاديث البسملة في الوضوء، وأحاديث تخليل اللحية في الوضوء نقوله هنا، والاعتبار بالحديث الضعيف ليس على إطلاقه، وقد حكم العلماء بأن البسملة بالوضوء لا يثبت فيها حديث، وكذلك أحاديث التخليل مع كثرة الشواهد في الباب، والله أعلم.
دليل من قال: يجوز للجنب قراءة القرآن.
الدليل الأول:
الأصل عدم وجوب الغسل لقراءة القرآن، فمن أوجب الغسل لقراءة القرآن فعليه الدليل، وبالتالي فهذا القول لا يطالب بالدليل، وإنما يطالب بأن يجيب عن أدلة القائلين بالوجوب، وقد فعل فيما سبق، وهذا كاف في عدم وجوب الغسل من قراءة القرآن، ومع ذلك فسوف نلتمس دليلاً إيجابياً على صحة قراءة القرآن من الجنب، فيقال:
أمر الله بتلاوة القرآن وتدبره، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (1) .
وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (2) .
وهذا الأمر بالتدبر مطلق، فمن ادعى منع الجنب أو غيره كلف أن يأتي بالبرهان.
_________
(1) سورة ص: 29.
(2) محمد: 24.(11/299)
الدليل الثاني:
لو كان الجنب ممنوعا ًمن قراءة القرآن لجاءت النصوص الصحيحة الصريحة بمنعه، كما جاء في منعه من الصلاة، فلما كانت الأحاديث الواردة لا تقوم بها حجة، وتدور على الضعفاء والمتروكين علم أن الشرع لا يمنع من ذلك؛ لأن كل شيء يحتاج إليه في الشرع، ويتكرر، وتكون حاجته عامة ليست مقصوة على فرد معين، لا بد أن تأتي النصوص فيه صحيحة صريحة واضحة تقوم بمثلها الحجة، قال سبحانه وتعالى: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} (1) .
الدليل الثالث:
(1252-125) ما رواه مسلم من طريق البهي، عن عروة،
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (2) .
وجه الاستدلال:
قال ابن حجر: الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف (3) .
فإذا كان لفظ الذكر يشمل قراءة القرآن، وكان لفظ الذكر مطلقاً في الحديث، فمن قيد الذكر بما عدا القرآن فعليه الدليل.
وحاول أن يرده ابن رجب، فقال: ((ليس فيه دليل على جواز قراءة
_________
(1) التوبة: 115.
(2) مسلم (117) .
(3) الفتح، تحت حديث (305) .(11/300)
القرآن للجنب؛ لأن ذكر الله إذا أطلق لا يراد به القرآن)) .
وهذا غير صحيح؛ لأن قوله: ((الذكر إذا أطلق لا يراد به القرآن، هل يريد لا يراد به القرآن شرعاً، أم عرفاً، فإن كان يقصد العرف فمسلم، والعرف يختلف من قوم إلى قوم، ومن زمان إلى آخر، وأما في الشرع فإن القرآن كله يسمى الذكر، قال سبحانه وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (1) ، وقال سبحانه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (2) ، والآيات في هذا كثيرة، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة العرفية.
الدليل الرابع:
(1253-126) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن عمرو ابن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث،
أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه طعام فأكل ولم يمس ماء.
قال: وزادني عمرو بن دينار عن
_________
(1) الحجر: 9.
(2) النحل: 44.(11/301)
سعيد بن الحويرث
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (1) .
(1254=127) ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. وفيه: ((إنما أمرتم بالوضوء للصلاة)) .
وسنده صحيح، وفيه التعبير بالحصر بـ (إنما) .
وجه الاستدلال:
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أردت صلاة فأتوضأ)) وقوله: ((إنما أمرتم بالوضوء للصلاة)) منطوقه: أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة، ومفهومه: أنه لا يجب الوضوء لغير الصلاة من قراءة القرآن للجنب والحائض وغيرهما.
وقد استدل به ابن تيمية: على جواز الطواف من غير وضوء، فالباب واحد، فينبغي أن يستدل به على هذا الباب أيضاً، والله أعلم.
الدليل الخامس:
(1255-128) ما روى ابن المنذر من طريق عبيد بن عبيدة من بني عباب الناجي، قال: قرأ ابن عباس شيئاً من القرآن، وهو جنب، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما في جوفي أكثر من ذلك (2) .
[صحيح عن ابن عباس] (3) .
القول الراجح:
بعد استعراض أدلة كل قول، نجد أن القول بجواز قراءة الجنب للقرآن أقوى حجة من القائلين باشتراط الطهارة من أجل القراءة، وهو مذهب ابن عباس رحمه الله تعالى، والله أعلم.
_________
(1) مسلم (374) .
(2) الأوسط (2/98) .
(3) سبق تخريجه، انظر كتاب الحيض والنفاس (233) .(11/302)
الفصل الخامس
في مس الجنب للمصحف
اختلف العلماء في مس الجنب للمصحف،
فقيل: تشترط له الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) .
واختيار ابن تيمية (2) .
وقيل: يجوز للجنب أن يمس المصحف، وهو مذهب ابن حزم رحمه الله (3) .
وقد ناقشت هذه المسألة مناقشة مستفيضة في كتابي الحيض والنفاس وكتبت فيها في أكثر من أربعين صفحة، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم.
_________
(1) شرح فتح القدير (1/ 168) ، تبيين الحقائق (1/57ـ58) ، البحر الرائق (1/211) ، بدائع الصنائع (1/33ـ34) ، مراقي الفلاح (ص: 60) .
وانظر في مذهب المالكية مختصر خليل (ص:14) ، الخرشي (1/160) ، حاشية الدسوقي (1/125) ، الكافي (ص: 24) ، مواهب الجليل (1/303) ، منح الجليل (1/117،118) ، القوانين الفقهية (ص: 25) ، الشرح الصغير (1/149) ، وانظر في مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/36) ، روضة الطالبين (1/79) ، المجموع (2/77) ، الحاوي الكبير (1/143ـ145) .
وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/134) ، المحرر (1/16) ، شرح منتهى الإاردات (1/77) الإنصاف (1/222) المغني (1/202) الفروع (1/188) الكافي (1/48) .
(2) مجموع الفتاوى (21/266) .
(3) قال ابن حزم في المحلى (1/97) : " وأما مس المصحف، فإن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه، فإنه لا يصح منها شيء; لأنها إما مرسلة، وإما صحيفة لا تسند، وإما عن مجهول، وإما عن ضعيف... الخ كلامه رحمه الله تعالى.(11/303)
[صفحة فارغة](11/304)
الفصل السادس
في صيام الجنب
اختلف العلماء في الرجل يجامع أهله قبل الفجر، ثم يطلع عليه الفجر، وهو جنب، هل يصح صومه، أو يلزمه الغسل قبل طلوع الفجر؟
فقيل: يصح صوم الجنب مطلقاً، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) .
وقيل: لا يصح صومه مطلقاً، وهو مروي عن أبي هريرة، وسالم بن عبد الله، والحسن البصري (2) .
وقيل: إن أخر الاغتسال لغير عذر بطل صومه. وهو قول عروة بن الزبير (3) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (3/56) ، بدائع الصنائع (2/92) ،
وفي مذهب المالكية انظر: المنتقى للباجي (2/43) ، تفسير القرطبي (2/326) ، التمهيد (17/424) .
وفي مذهب الشافعية: الأم (2/97) ، المهذب (1/181-182) ، المجموع (6/327) ، الوسيط (2/537) ، مغني المحتاج (1/436) .
وفي مذهب الحنابلة: المغني (3/36) ، الكافي في فقه أحمد (1/350) ، شرح العمدة (1/458) .
(2) نقل النووي في المجموع (6/327) عن ابن المنذر قوله: " وقال سالم بن عبد الله: لا يصح صومه - يعني فيمن أصبح جنباً - قال: وهو الأشهر عن أبي هريرة والحسن البصري".
وفي حلية العلماء (3/160) : وحكي عن أبي هريرة وسالم بن عبد الله رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا أصبح جنباً بطل صومه، ويلزمه إمساك بقية النهار، ويقضي يوماً مكانه. اهـ وانظر المغني (3/36) ، ويحكى أن أبا هريرة رجع عن رأيه، انظر طرح التثريب (4/124) .
(3) حلية العلماء (3/160) ، طرح التثريب (4/123) .(11/305)
وقيل: يصح في النفل دون الفرض، وهو قول إبراهيم النخعي (1) .
دليل الجمهور على صحة صوم الجنب.
الدليل الأول:
قال تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} (2) .
وجه الاستدلال:
دلت الآية على إباحة الوقاع في كل أجزاء الليل إلى طلوع الفجر، ويفهم منه إباحة الإصباح جنباً في حالة الصوم؛ لأن إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، يستلزم أن يطلع عليه الفجر، وهو جنب. وهذه إشارة لطيفة من النص القرآني على صحة صوم الجنب.
الدليل الثاني:
(1256-129) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن عروة وأبي بكر،
قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدركه الفجر في رمضان من غير حلم، فيغتسل ويصوم، ورواه مسلم (3) .
_________
(1) المجموع (6/327) .
(2) البقرة: 187.
(3) البخاري (1930) ، ومسلم (1109) .(11/306)
وفي رواية للبخاري: ((كان يدركه الفجر، وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم)) (1) .
وجه الاستدلال:
يؤخذ من الحديث فائدتان:
الأولى: أنه كان يجامع في رمضان، ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بياناً للجواز.
الثانية: أن ذلك كان من جماع، لا من احتلام (2) .
الدليل الثاني:
(1257-130) ما رواه مسلم، من طريق أبي بكر (يعني ابن الحارث) حدثه،
أن مروان أرسله إلى أم سلمة رضي الله عنها يسأل، عن الرجل يصبح جنبا أيصوم؟ فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من جماع لا من حلم، ثم لا يفطر، ولا يقضي. وهو في البخاري (3) .
وجه الاستدلال من الحديث كالذي قبله.
دليل من قال: لا يصح صوم الجنب.
الدليل الأول:
(1258-131) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال:
_________
(1) البخاري (1926) .
(2) فتح الباري تحت رقم (1926) .
(3) صحيح مسلم (1109) ، وانظر البخاري (1931، 1925) .(11/307)
هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نودي للصلاة، صلاة الصبح وأحدكم جنب، فلا يصم يومئذ (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المسند (2/314) .
(2) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن حبان (3485) ، وعلقه البخاري بإثر حديث (1926) من طريق همام وابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالفطر.
وأخرجه النسائي في الكبرى (2925) من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، أنه احتلم ليلاً في رمضان، فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر، ثم نام قبل أن يغتسل، فلم يستيقظ حتى أصبح، قال: فلقيت أبا هريرة حين أصبحت، فاستفتيته في ذلك، فقال: أفطر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان يأمر بالفطر إذا أصبح الرجل جنباً. قال عبد الله بن عبد الله: فجئت عبد الله بن عمر، فذكرت له الذي أفتاني به أبو هريرة، فقال: أقسم بالله لئت أفطرت لأوجعن شبيبتك، صم فإن بدا لك أن تصوم يوماً آخر، فافعل.
وخالف عقيل بن خالد، شعيب بن أبي حمزة، فأخرجه النسائي في الكبرى (2926) من طريق الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة بلفظه.
وعبد الله وعبيد الله كلاهما ثقة، وسواء كان هذا الراجح أو ذاك، فالإسناد صحيح، قال ابن عبد البر في التمهيد (17/422) : وعبد الله وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر ثقتان. اهـ
ورواه أحمد (2/248) قال: سفيان، عن عمرو، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو القاري قال: سمعت أبا هريرة يقول لا ورب هذا البيت ما أنا قلت: من أصبح جنبا فلا يصوم، محمد ورب البيت قاله، ما أنا نهيت عن صيام يوم الجمعة، محمد نهى عنه ورب البيت.
وعبد الله بن عمرو القارئ، لم يرو عنه فيما يظهر إلا يحيى بن جعدة، وذكره ابن سعد، وقال: كان قليل الحديث كما في الطبقات (5/482) .
وأخرجه الحميدي (1018) ، وابن ماجه (1702) والنسائي في الكبرى (2744) وابن خزيمة (3/314-315) ، وابن حبان (3609) ، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (393) من طريق سفيان بن عيينة به.
وأخرجه أحمد (2/286) حدثنا محمد بن بكر البرساني، أخبرني ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، أخبره عن عبد الرحمن بن عمرو القارئ، عن أبي هريرة به. وقرنه برواية عبد الرزاق، عن ابن جريج إلا أن عبد الرزاق قال: عن عبد الله بن عمرو القارئ كما هي رواية سفيان المتقدمة، وهي أرجح. وقد أخطأ أبو محمد بن بكر البرساني في قوله: عبد الرحمن، وإنما هو عبد الله.
انظر أطراف المسند (7/331) ، إتحاف المهرة (19027) ، التحفة (13583، 13585) .(11/308)
وقد وقف العلماء من حديث عائشة وأم سلمة، ومن حديث أبي هريرة إما موقف الترجيح أو موقف الجمع، أو القول بالنسخ،
فأما موقف الترجيح فمن وجوه:
الأول: أن حديث عائشة موافق لحديث أم سلمة، ورواية الاثنين تقدم على رواية الواحد، لا سيما وهما زوجتان، وهما أعلم بذلك من غيرهما من الرجال.
الوجه الثاني: أن حديث عائشة وحديث أم سلمة موافقان للقرآن، وذلك أن الله سبحانه وتعالى في آية البقرة أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر، ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزم منه أن يصبح جنباً، وصيامه صحيح.
الوجه الثالث: أن حديث عائشة وأم سلمة موافقان للنظر، وهو أن المحرم هو الجماع في وقت الصيام، وأما كون حكم الجنابة باقياً عليه في وقت الصيام فهذا لا يحرم عليه، فقد يحتلم بالنهار ويجب عليه الغسل، ولا يغتسل مباشرة بل يبقى ساعات كثيرة بالنهار، وهو جنب، ولا يفسد صومه بالإجماع، ولا يجب عليه الغسل إلا عند القيام إلى الصلاة، فكذلك إذا احتلم(11/309)
ليلاً، ثم بقي ساعات جنباً وهو صائم، بل هو من باب أولى، وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهاراً، وهو شبيه بمن يمنع من التطيب، وهو محرم، لكن لو تطيب، وهو حلال، ثم أحرم فبقي عليه لونه أو ريحه لم يحرم ذلك عليه.
الوجه الرابع: إن أبا هريرة قد رجع عن قوله حين بلغه حديث عائشة وأم سلمة، فهذا يدل على أن أبا هريرة رضي الله عنه قد رجح حديث عائشة وأم سلمة على ما سمعه من الفضل بن عباس،
(1259-132) فقد روى مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر، قال:
سمعت أبا هريرة يقص، يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنباً فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث (لأبيه) فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً من غير حلم، ثم يصوم، قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول، قال: فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله، قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن عباس، فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك (1) .
_________
(1) مسلم (1109) .(11/310)
ورواه أحمد من طريق شعبة، عن الحكم عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه به، وفيه:
قال أبو هريرة: عائشة إذن أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
[إسناده صحيح] (1) .
(1260-133) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب،
أن أبا هريرة رجع عن فتياه من أصبح جنباً فلا صوم له (2) .
ورجاله ثقات إلا أن رواية قتادة عن سعيد بن المسيب فيها كلام (3) .
_________
(1) المسند (6/99) وسنده صحيح، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (300) من طريق محمد بن جعفر به.
وأخرجه إسحاق بن راهوية (1085) عن وهب بن جرير
والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/103) من طريق أبي داود وروح، كلاهما عن شعبة به.
ورواه أبو داود الطيالسي (1503) عن شعبة به، دون ذكر قصة أبي هريرة.
(2) المصنف (2/330) رقم 9581. ورواه البيهقي (4/215) من طريق عبد الوهاب ابن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة به.
(3) جاء في تهذيب التهذيب في ترجمة قتادة (8/318) : " قال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن: سمعت علي بن المديني يضعف أحاديث قتادة، عن سعيد بن المسيب تضعيفاً شديداً، وقال: أحسب أن أكثرها بين قتادة وسعيد فيها رجال".
وفي جامع التحصيل للعلائي (ص: 255) : " قال أحمد بن حنبل: أحاديث قتادة، عن سعيد بن المسيب، ما أدري كيف هي؟ قد أدخل بينه وبين سعيد نحواً من عشرة رجال لا يعرفون ".
قلت: ولعل هذا الكلام إما أن يراد به الحكم على غالب حديث قتادة عن سعيد، أو على أحاديث بعينها؛ لأن الشيخين قد أخرجا أحاديث لقتادة، عن سعيد بن المسيب، منها على سبيل المثال:
ما أخرجه البخاري (1292) ومسلم (927) من طريق شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن عمر مرفوعاً الميت يعذب في قبره بما نيح عليه.
كما روى له مسلم أيضاً (1198) من طريق شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة مرفوعاً: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم. وهو في البخاري من غير هذا الطريق.
وأخرج له البخاري (2621) ومسلم (1622) من طريق شعبة، عن قتادة، عن سعيد ابن المسيب، عن ابن عباس مرفوعاً في العائد في هبته كالعائد في قيئه.
وأخرجه له البخاري (4162) ومسلم (1859) من طريق شعبة، عن قتادة، عن سعيد ابن المسيب، عن أبيه، قال: لقد رأيت الشجرة، ثم أتيتها بعد فلم أعرفها.
وأنت تلحظ أن هذه الأحاديث جاءت من طريق شعبة، عن قتادة، وشعبة لا يروي عن قتادة إلا ما صرح فيه بالتحديث كما هو معلوم لطلبة أهل العلم بالحديث.
وأخرج له مسلم أيضاً (2127) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن معاوية في قصة الشعر... وقد أخرجه البخاري من غير هذا الطريق (3468) .
وأخرج له البخاري (4153) من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر في عدد الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية.
ورواه مسلم أيضاً لكن من غير هذا الطريق. فهذه الأحاديث تدل على أن كلام ابن المديني والإمام أحمد رحمهما الله تعالى ليس على إطلاقه، فتأمل، والله أعلم.(11/311)
(1261-143) وأخرج النسائي في الكبرى (1) ، من طريق عبد الله بن المبارك، عن ابن أبي ذئب، عن سليمان بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أخيه محمد،
_________
(1) السنن الكبرى (2928) .(11/312)
أنه كان يسمع أبا هريرة يقول: من احتلم من الليل أو واقع أهله، ثم أدركه الفجر، ولم يغتسل، فلا يصوم، قال: ثم سمعته نزع عن ذلك.
[إسناده فيه لين] (1) .
فيكفي في التصريح بالرجوع من أبي هريرة بما ورد في صحيح مسلم، وسقته في أول الاستدلال على رجوع أبي هريرة، وبما رواه أحمد من طريق شعبة، عن الحكم، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عائشة وأم سلمة في صحة صيام الجنب، وإخبار عبد الرحمن لأبي هريرة بما قالتاه، وشهادة أبي هريرة بأن أمهات المؤمنين أعلم.
(1262-135) وأما ما رواه أحمد (2) ، عن علي بن عاصم، عن خالد، عن أبي قلابة، عن عبد الرحمن بن عتاب، قال:
كان أبو هريرة يقول: من أصبح جنباً فلا صوم له، قال: فأرسلني مروان بن الحكم أنا ورجل آخر إلى عائشة وأم سلمة، وفيه: فقال مروان لعبد الرحمن: أخبر أبا هريرة بما قالتا، فقال: أبو هريرة: كذا كنت أحسب، وكذا كنت أظن. قال: فقال له مروان: بأظن وبأحسب تفتي الناس!
[فإسناده ضعيف، ومتنه منكر] (3) .
_________
(1) في إسناده سليمان بن عبد الرحمن بن ثوبان، لم يرو عنه إلا ابن أبي ذئب، ولم يوثقه إلا ابن حبان، ولذلك قال عنه الحافظ في التقريب: مقبول، يعني حيث يتابع، وإلا فلين الحديث. ولم يرو له أحد من أصحاب الكتب الستة إلا النسائي روى له هذا الحديث فقط، والله أعلم.
(2) المسند (6/184) .
(3) انفرد علي بن عاصم الواسطي بذكر عبد الرحمن بن عتاب، والحديث في الصحيحين، من طريق عبد الرحمن بن الحارث، عن أبي هريرة، وعن عبد الرحمن بن الحارث عن عائشة وأم سلمة. وعبد الرحمن بن عتاب لم أقف له على ترجمة، ولا تحتمل تعدد القصة، فإنما هي قصة واحدة.
ثانياً قد رواه الثقات عن أبي قلابة، عن عائشة، وعن أبي قلابة عن أم سلمة، وكلاهما منقطع، لم يسمع أبو قلابة منهما. وهو أرجح من طريق علي بن عاصم، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عبد الرحمن بن عتاب، عن عائشة وأم سلمة.
فقد رواه عبد الوهاب بن عطاء، واختلف عليه فيه:
فرواه النسائي في السنن الكبرى (2939،2940) من طريق محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن عبد الوهاب، قال: وحدثنا وذكر خالد، عن أبي قلابة، عن عبد الرحمن بن الحارث، أنا أبا هريرة كان يقول: وفي آخره: قال أبو هريرة: هكذا كنت أحسب. قال النسائي: واللفظ لابن المثنى. قال النسائي: وأرسله خالد بن عبد الله وعبد العزيز بن المختار.
فرواه النسائي في الكبرى (2944) من طريق محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أم سلمة..
ورواه النسائي (2941) من طريق خالد بن عبد الله الواسطي.
وأخرجه أيضاً (2942) من طريق عبد العزيز بن المختار، كلاهما عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عائشة..
وأخرجه النسائي في الكبرى (2943) من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -... وكل هذه الأسانيد منقطعة كما أسلفت، وليس في هذه الأسانيد ذكر لأبي هريرة، وإنما فيه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من غير احتلام ثم يتم صومه.(11/313)
(1263-136) وأما ما رواه ابن عبد البر من طريق عمر بن قيس، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أنه قال: كنت حدثتكم: من أصبح جنباً فقد أفطر، فإنما ذلك من كيس أبي هريرة، فمن أصبح جنباً فلا بفطر (1) .
[فإسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) التمهيد (22/44) .
(2) في إسناده عمر بن قيس، متروك الحديث، انظر الجرح والتعديل (6/129) ، وقال الحافظ في الفتح تحت حديث (1926) : وأما ما أخرجه ابن عبد البر من رواية عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة... وذكر الأثر. قال الحافظ: فلا يصح ذلك عن أبي هريرة؛ لأنه من رواية عمر ابن قيس، وهو متروك. اهـ(11/314)
الوجه الخامس: من وجوه الترجيح ما ذكره البخاري في صحيحه، بعد أن أخرج حديث عائشة وأم سلمة، ثم ساق بعده ما يعارضه معلقاً، قال البخاري: قال همام وابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالفطر.
قال البخاري: والأول أسند، يعني: حديث عائشة وأم سلمة.
ومقصود البخاري بقوله: والأول أسند، أي أكثر طرقاً إلى عائشة وأم سلمة، قال الحافظ: والذي يظهر لي أن مراد البخاري أن الرواية الأولى: أقوى إسناداً، وهي من حيث الرجحان كذلك؛ لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جداً بمعنى واحد، حتى قال ابن عبد البر: إنه صح وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أن كان يفتي به، وجاء عنه من طريق هذين (يعني همام وابن عبد الله بن عمر) أنه كان يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك وقع في رواية معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره.. أخرجه عبد الرزاق. وللنسائي من طريق عكرمة بن خالد، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: بلغ مروان أنا أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..... فذكره، وله من طريق المقبري، قال: بعثت عائشة إلى أبي هريرة لا تحدث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأحمد من طريق عبد الله بن عمرو القارئ، سمعت أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت، ما أنا قلت: من أدرك الصبح، وهو جنب فلا يصم، محمد(11/315)
ورب الكعبة قاله. اهـ نقلاً من الفتح (1) . وقد سبق تخريج كل هذه الطرق عند ذكر أثر أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما طريقة من سلك مسلك الجمع، فله في الجمع أقوال:
الأول: قال بعضهم: إن حديث أبي هريرة إرشاد إلى الأفضل، فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز.
قال النووي: وهذا مذهب أصحابنا، وجوابهم عن الحديث، فإن قيل: كيف يكون الاغتسال قبل الفجر أفضل، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه؟ فالجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله لبيان الجواز، ويكون في حقه حينئذ أفضل؛ لأنه يتضمن البيان للناس، وهو مأمور بالبيان، وهذا كما توضأ مرة مرة في بعض الأوقات بياناً للجواز، ومعلوم أن الثلاث أفضل، وطاف على البعير، ومعلوم أن الطواف ساعياً أفضل (2) .
وهذا الجواب غير ظاهر، فلا يمكن حمل حديث أبي هريرة على فعل الأفضل وقد وقع التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر لمن أصبح جنباً، وبالنهي عن الصيام لمن أصبح وهو جنب.
القول الثاني في الجمع:
قال بعضهم: إن حديث عائشة وأم سلمة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث أبي هريرة في حق أمته، فلا تعارض، فيكون من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - كونه يصبح جنباً، وهو صائم، ولا يجوز هذا الفعل لأمته عليه الصلاة والسلام.
_________
(1) تحت حديث رقم (1926) .
(2) شرح النووي لصحيح مسلم، تحت حديث (1109) .(11/316)
وهذا القول ضعيف؛ لأن خصائص النبي لا تثبت إلا بدليل صريح على أن هذا الحكم خاص به، وإلا فالأصل التأسي به - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (1) .
وقد ورد دليل صريح بأن هذا الحكم ليس خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -،
(1264-137) فقد روى مسلم من طريق أبي يونس مولى عائشة،
عن عائشة أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة، وأنا جنب، أفأصوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب، فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي (2) .
القول الثالث في الجمع:
قال بعضهم: لعل حديث أبي هريرة محمول على من أدركه الفجر مجامعاً، فاستدام بعد طلوع الفجر عالماً فإنه يفطر، ولا صوم له (3) .
(1265-138) قال الحافظ ابن حجر: ويعكر عليه ما رواه النسائي من طريق أبي حازم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه،
أنا أبا هريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه، ولم يغتسل حتى
_________
(1) الأحزاب: 21.
(2) مسلم (1110) .
(3) ذكره النووي في شرحه لصحيح مسلم تحت حديث رقم (1109) .(11/317)
أصبح فلا يصوم (1) .
إسناده صحيح.
وأما وجه من اتبع طريقة النسخ، فقال البيهقي: ((وروينا عن أبي بكر ابن المنذر أنه قال: أحسن ما سمعت في هذا، أن يكون ذلك محمولاً على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرماً على الصائم في الليل بعد النوم، كالطعام والشراب، فلما أباح الله عز وجل الجماع إلى طلوع الفجر، جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم؛ لارتفاع الحظر، فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن عباس على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه)) (2) .
قال ابن حجر: ((ويقويه أن في حديث عائشة هذا الأخير ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية، لقوله فيها: ((قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر)) وأشار إلى آية الفتح، وهي إنما نزلت عام الحديبية، سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، وإلى دعوى النسخ ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد)) (3) .
دليل من فرق بين الفرض والنفل أو بين المعذور وغير المعذور.
هذان القولان هما من وجوه الجمع بين حديث أبي هريرة، وبين حديث عائشة وأم سلمة، فحمل حديث أبي هريرة على الفرض، وحمل حديث عائشة وأم سلمة على النفل.
_________
(1) ذكره الحافظ في الفتح تحت رقم (1926) ، وقد رواه النسائي في السنن الكبرى (2933) .
(2) سنن البيهقي (4/215) .
(3) فتح الباري تحت رقم (1926) .(11/318)
أو حمل حديث أبي هريرة على غير المعذور، وحمل حديث عائشة وأم سلمة على المعذور، ومن سلك طريق الجمع لم ير حديث أبي هريرة غلطاً، أو منسوخاً، وإنما رأى أن هناك دليلين ظاهرهما التعارض، فحاول الجمع، وما زال بعض التابعين لا يرون أن أبا هريرة رجع عن حديثه.
ولذلك قال الترمذي في سننه: حديث عائشة وأم سلمة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، ثم قال: وقد قال قوم من التابعين: إذا أصبح جنباً يقضي ذلك اليوم، والقول الأول أصح (1) .
فهنا الترمذي يرى أن هناك قوماً من التابعين يأخذون بحديث أبي هريرة.
(1266-139) وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيبيت الرجل جنباً في شهر رمضان حتى يصبح، يتعمد ذلك، ثم يصوم؟ قال: أما أبو هريرة فكان ينهى عن ذلك، وأما عائشة فكانت تقول: ليس بذلك بأس، فلما اختلفا على عطاء، قال: يتم يومه ذلك، ويبدل يوماً (2) .
[وإسناده صحيح عن عطاء] .
الراجح من خلاف أهل العلم.
بعد استعراض أدلة الأقوال نرى أن استصحاب حكم الجنابة لا يؤثر على الصيام، وقد دللنا على ذلك أثراً ونظراً، وهذا القول قد رأى بعضهم أن الإجماع انعقد عليه عند المتأخرين، قال النووي: ((وأما حكم المسألة فقد أجمع
_________
(1) سنن الترمذي (779) .
(2) المصنف (7400) .(11/319)
أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب، سواء كان من احتلام أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين)) (1) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((وقد بقي على مقالة أبي هريرة بعض التابعين كما نقله الترمذي، ثم ارتفع ذلك الخلاف، واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النوووي، وأما ابن دقيق العيد، فقال: صار ذلك إجماعاً أو كالإجماع)) (2) .
وهل ينعقد الإجماع بعد ثبوت الخلاف عند الصحابة والتابعين، هذه مسألة خلافية عند أهل الأصول، ليس هذا موضع تحريرها، فلعل الله أن ييسر لأكتب في هذه المسألة بحثاً مستقلاً إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم تحت رقم (1109) .
(2) الفتح تحت رقم (1926) .(11/320)
مبحث
في الحائض والنفساء تطهر قبل الفجر
ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح
إذا طهرت المرأة من الحيض ليلاً، ونوت الصيام، وأخرت الغسل إلى طلوع الفجر، فهل يصح صومها ذلك اليوم؟
اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: إن طهرت قبل الفجر بوقت يتسع فيه للغسل، فلم تغتسل حتى طلع الفجر أجزأها، وإن كان الوقت ضيقاً، لا يتسع للغسل، لم يصح صومها (1) .
وهذا مذهب الحنفية، واختاره من المالكية عبد الملك، ومحمد بن مسلمة (2) .
_________
(1) إلا أن الحنفية يستثنون ما لو كان حيضها أكثر الحيض عندهم (عشرة أيام) ، أو كان نفاسها أكثر النفاس عندهم (أربعون يوماً) ففي هذه الحالة إذا طهرت قبل الفجر صح صومها إذا أمكنها أن تنوي، ولو لم تدرك من الوقت ما يتسع للغسل.
ووجهه: أن المرأة إذا طهرت لأكثر الحيض أو النفاس فإنها تخرج من الحيض والنفاس بمجرد انقطاع الدم، أما إذا انقطع الحيض لدون عشرة أيام، أو انقطع النفاس لدون أربعين يوماً، فإن مدة الاغتسال محسوبة من الحيض والنفاس، فلا بد أن تدرك من الليل ما يتسع فيه للاغتسال ". انظر بدائع الصنائع (2/89) وقال في شرح فتح القدير (1/171) : " واعلم أن مدة الاغتسال معتبرة من الحيض في الانقطاع لأقل من العشرة، وإن كان تمام عادتها، بخلاف الانقطاع للعشرة " اهـ.
(2) انظر المعونة على مذهب مالك (1/481) ، التفريع (1/308،309) ، الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي (2/326) ، والموجود في تفسير القرطبي منسوباً لعبد الملك بأنه إذا طهرت قبل الفجر، ولم تغتسل فإن يومها يوم فطر مطلقاً، بينما الموجود في التفريع التفصيل: إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الاغتسال ففرطت، فلم تغتسل حتى أصبحت، لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقاً لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها، وقد أشار إلى مثل ذلك القرطبي رحمه الله.(11/321)
وقيل: صيامها صحيح، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: لا يباح الصيام مطلقاً حتى تغتسل، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) ، وحكي قولاً للأوزاعي (3) .
وسبب الخلاف في هذه المسألة، اختلافهم فيها: هل هي مقيسة على من أجنب من الليل، ثم طلع عليه الفجر ولم يغتسل، أو لا؟
فمن رأى أن الحيض حدث يمنع من الصيام لم يجر القياس.
ومن رأى أن الحائض إذا طهرت من الدم أصبحت كالجنب بجامع أن
_________
(1) المدونة (1/207) وفيه: " وسألت مالكاً عن المرأة ترى الطهر في آخر ليلتها من رمضان، قال: إن رأته قبل الفجر اغتسلت بعد الفجر، وصيامها مجزئ عنها ".
وقال الخرشي (2/247) : يجب الصوم على من رأت علامة الطهر قبل الفجر، وإن كان ذلك بلحظة، ولو لم تغتسل إلا بعد الفجر، بل ولو لم تغتسل أصلاً، فقوله في المدونة: "فاغتسلت " لامفهوم له؛ لأن الطهارة ليست شرطاً فيه، بخلاف الصلاة... . " الخ كلامه رحمه الله. وانظر مختصر خليل (ص: 71) ، والمعونة على مذهب مالك (1/481) ، التفريع (1/308،309) ، الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي (2/326) ونسبه قولاً للجمهور.
وقال ابن المنذر في الإقناع (1/194) : " وإذا أصبح المرء جنباً، أو كانت امرأة حائضاً فطهرت آخر الليل، ثم أصبحا صائمين يغتسلان " أي وصيامهما صحيح.
(2) الإنصاف (1/349) المبدع (1/262) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (2/326) . ونسبه ابن قدامة في المغني (4/393) قولاً للأوزاعي، والحسن بن حيّ، وعبد الملك بن الماجشون، والعنبري ".(11/322)
كلاً منهما يملك أن يرفع حدثه متى شاء، فالحائض عندما انقطع دمها قد طهرت من الخبث، وبقيت طهارتها من الحدث، فأصبح حدثها بعد انقطاع دمها لا يوجب إلا الغسل، كالجنب تماماً، وصفة الغسل في الجنابة والحيض واحدة، أجرى القياس، فصحح صيام الحائض إذا طهرت من الليل ولم تغتسل إلا بعد طلوع الصبح.
وهناك من رأى أنه يشترط أن تدرك من الوقت زمناً يتسع للغسل، حتى يكون الصيام واجباً في ذمتها، فإن كان الوقت ضيقاً، لا تدرك فيه الغسل، لم يصح صومها، ويومها يوم فطر، ويخرج الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في من طهرت قبل خروج وقت الصلاة، هل يشترط أن تدرك من الوقت زمناً يتسع للغسل حتى تكون الصلاة واجبة في ذمتها، أو يكفي أن تدرك من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام، أو مقدار ركعة، على الخلاف المعروف ولا مدخل فيه لوقت الغسل.
وقد ذكرنا أدلة هذه الأقوال بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودارية فأغنى عن إعادته هنا (1) .
_________
(1) انظر كتاب الحيض والنفاس (2/685) .(11/323)
[صفحة فارغة](11/324)
الفصل السابع
في أذان وإقامة الجنب للصلاة
المبحث الأول
في أذان الجنب
اختلف الفقهاء في أذان الجنب،
فقيل: يكره أذانه، وهو مذهب الحنفية (1) ، وأحد القولين في مذهب المالكية (2) ، ومذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: لا بأس بذلك في غير المسجد، وهو قول في مذهب المالكية (5) ، وقول في مذهب الحنابلة (6) .
_________
(1) قال في البحر الرائق (1/277) : " أما أذان الجنب فمكروه رواية واحدة..". وقال في الفتاوى الهندية (1/54) : " وكره إذان الجنب وإقامته باتفاق الروايات، والأشبه أن يعاد الأذان، ولا تعاد الإقامة.. ". وانظر تبيين الحقائق (1/93) ، شرح فتح القدير (1/252) .
(2) قال في مواهب الجليل (1/435) : " وهل يجوز أذان الجنب والصبي، في المذهب قولان... ". وانظر الخرشي (1/232) ، حاشية الدسوقي (1/195) .
(3) قال في الأم (1/85) : " فإذا أذن، أو أقام، محدثاً، أو جنباً كره، وصح أذانه. والكراهة في الجنب أشد ". وانظر المجموع (3/113) الأم (1/85) ، مغني المحتاج (1/138) ، روضة الطالبين (1/313) .
(4) شرح منتهى الإرادات (1/82) ، كشاف القناع (1/329) ، الكافي (1/102) .
(5) النوادر والزيادات (1/167) ، مواهب الجليل (1/435) .
(6) قال عنه صاحب الإنصاف (1/415) : " وهو الصحيح من المذهب ".(11/325)
وقيل: إن أذن جنباً أعاد، وهو اختيار الخرقي من الحنابلة (1) .
دليل من قال: لا يصح الأذان إلا بطهارة.
(1267-140) استدلوا: بما رواه البيهقي من طريق سلمة بن سليمان الضبي، ثنا صدقة بن عبيد الله المازني، ثنا الحارث بن عتبة، عن عبد الجبار بن وائل،
عن أبيه، قال: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر، ولا يؤذن إلا وهو قائم (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
الدليل الثاني:
قالوا: إن للأذان شبهاً بالصلاة، وذلك أنهما يفتتحان بالتكبير، ويؤديان مع الاستقبال، ويختصان بالوقت، ولا يتكلم فيهما (4) .
_________
(1) وقال أبو داود في مسائله لأحمد (198) : سمعت أحمد سئل، يؤذن الجنب؟ قال: لا. وقال أحمد مثله في مسائل أحمد رواية ابنه صالح رقم (38) . وقال فيها أيضاً (1038) : يعجبني أن يتوقى. اهـ وقال في رواية ابن هانئ (188) : لا يعجبني أن يؤذن الجنب. اهـ
وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/322) : " أكثر الرويات عن أحمد المنع من أذان الجنب، وتوقف عن الإعادة في بعضها، وصرح بعدم الإعادة في بعضها، وهو اختيار أكثر الأصحاب، وذكر جماعة عنه رواية بالإعادة، واختارها الخرقي ".
(2) سنن البيهقي (1/392) .
(3) في إسناده سليمان بن سلمة الضبي، قال فيه ابن عدي: بصري، منكر الحديث عن الثقات، أظنه يكنى أبا هشام. ثم قال: ولم أر لسليمان كثير حديث. الكامل (3/332) ونقله الذهبي في المغني في الضعفاء (2537) ، ولم يتعقبه بشيء.
وقال النووي في المجموع (3/112) : وهو موقوف مرسل؛ لأن أئمة الحديث متفقون على أن عبد الجبار لم يسمع من أبيه شيئاً، وقال جماعة منهم: إنما ولد بعد وفاة أبيه بستة أشهر. اهـ
(4) العناية (1/252) .(11/326)
ويجاب عنه:
بأن الجنابة أحد الحدثين، ولو كان الأذان صلاة، ما صح مع الحدث الأصغر، ولما أجزأ عندهم.
الدليل الثالث:
قالوا: إن الأذان يتطلب دخول المسجد، والجنب ممنوع من دخول المسجد.
ويجاب:
بأن هذه المسألة قد بحثت في فصل مستقل، وعُرِض فيها أقوال أهل العلم، فمنهم من منع مطلقاً، ومنهم من أباح المرور فيه بدون مكث، ومنهم من أجاز المكث بشرط الوضوء، وقد ترجح من خلال البحث جواز دخول الجنب للمسجد مطلقاً، فأغنى عن إعادته هنا.
دليل من قال: يكره أذان الجنب.
الدليل الأول:
قالوا: قد ذهب بعض أهل العلم إلى أن أذان الجنب لا يصح، فخروجاً من الخلاف قلنا بالكراهة (1) .
والتعليل بالخلاف تعليل ضعيف، مع أنهم في هذه المسألة لم يخرجوا من الخلاف، بل زادوا منه لأمور:
أولاً: أنتم لم تأتوا بقول يجمع بين القولين حتى يقال: قد وفقتم بين الخلاف، فلا أنتم قلتم بصحته بلا كراهة، ولا أنتم منعتم منه، فأنتم في الحقيقة
_________
(1) كشاف القناع (1/239) ، الكافي (1/102) .(11/327)
أحدثتم قولاً ثالثاً في المسألة، لا بسبب دليل دعاكم إلى القول بهذا، ولكن الذي دعاكم إلى القول به، وجود قولين في المسألة، وبدلاً من أن يكون في المسألة قولان، أصبح فيها ثلاثة أقوال، فأصبح تعليلكم زاد من الخلاف، ولم تخرجوا منه.
ثانياً: الكراهة حكم شرعي، يقوم على دليل شرعي، ووجود الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها حتى نعلل به الحكم الشرعي.
ثالثاً: لو أخذنا بالخلاف كدليل أو تعليل للحكم الشرعي، للزم أن كل مسألة خلافية، نقول: إنها مكروهة، وهذا لا يقول به أحد، فالصحيح أن الخلاف قسمان: خلاف يكون ضعيفاً جداً، فهذا نطرحه ولا نبالي.
وليس كل خلاف جاء معتبراً... إلا خلافاً له حظ من النظر
وخلاف يكون قوياً، فتجد كل خلاف في المسألة له دليل قوي، وله حظ من النظر، فهنا ينظر: فإن أمكن الخروج من الخلاف، بحيث نأخذ بقول يجمع بين القولين، فهو جيد، ويكون من باب الاحتياط، وليس السبب وجود الخلاف، ولكن السبب تنازع الأدلة، فهو من باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وليس كل خلاف يمكن الخروج منه، فإن هناك أقوالاً متضادة لا يمكن الخروج من الخلاف فيها، وذلك مثل قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية، فهناك قول يقول: تجب قراءتها، وقول آخر يقول: تحرم قراءتها، فلا يمكن هنا في مثل هذه المسألة الخروج من خلاف أهل العلم، ولا بد من ترجيح أحد القولين لامتناع جمع هذين القولين في قول ثالث، والله أعلم.(11/328)
الدليل الثاني:
قالوا: إنه ذكر مشروع للصلاة يتقدمها أشبه الخطبة.
قلت: القياس في العبادات ضعيف، ولا يصح إلا مع النص على العلة ووجودها في المقيس، وهذا لا يتأتى هنا، مع أن المقيس عليه، وهو الخطبة لا دليل فيها على كراهتها من الجنب.
الدليل الثالث:
قالوا: إن المؤذن يدعو الناس إلى التأهب للصلاة، فإذا لم يكن متأهباً لها دخل تحت قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (1) .
ويجاب:
بأن الآية ليس هذا موضعاً لها، ولذا قال في آخر الآية: {أفلا تعقلون} والأذان من الجنب ليس منافياً للعقل، ثم إن الجنب سوف يصلي فلا يدخل تحت من يأمر الناس بشيء ولا يفعله، غاية ما فيه أنه سوف يذهب للغسل بعد الأذان، فهو كمن أذن، وهو محدث حدثاً أصغر، ثم ذهب يتوضأ بعد الأذان، ولا فرق إلا أن هذه طهارة لأربعة أعضاء، وهذه طهارة للبدن كله.
دليل من قال: يصح الأذان من الجنب.
قالوا: لم يأت نهي من كتاب الله، ولا من سنة رسول - صلى الله عليه وسلم - للجنب يمنعه من الأذان، وقد قال سبحانه وتعالى:
{وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (2) .
_________
(1) البقرة: 44.
(2) الأنعام: 119.(11/329)
فصح أن كل ما لم يفصل لنا تحريمه، فهو مباح (1) .
الدليل الثاني:
أن الأذان ذكر لله، والجنب لا يمنع من ذكر الله سبحانه وتعالى اتفاقاً في غير القرآن الكريم، فكذا لا يمنع من الأذان.
القول الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بصحة أذان الجنب هو أقوى الأقوال، وذلك أن من منع أو كره أذان الجنب لم يأت بدليل صحيح صريح على ما ذهب إليه، والأصل عدم المنع، وإذا كنتم لا تمنعون الجنب من إجابة المؤذن، وهو سوف يقول مثل ما قال المؤذن، فكيف يمنع من الأذان، فلا فرق بينهما، والله أعلم.
_________
(1) انظر المحلى (3/143) .(11/330)
المبحث الثاني
في إقامة الجنب للصلاة
اختلف أهل العلم في إقامة الجنب للصلاة،
فقيل: لا تصح الإقامة من الجنب، وهو مذهب المالكية (1) ،
وقول عطاء (2) ، ومجاهد (3) ، والأوزاعي (4) ، وإسحاق (5) .
وقيل: تكره، وهو مذهب الحنفية (6) ، والشافعية (7) ، والحنابلة (8) ، وقول في مذهب المالكية (9) .
_________
(1) قال في المدونة (1/60) : " يؤذن المؤذن، وهو على غير وضوء، ولا يقيم إلا على وضوء".
وقال في الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 38) : " ويجزئ الأذان على غير طهارة، ولا يقيم أحد إلى طاهراً.. ".
(2) ذهب عطاء إلى كراهة أذان المحدث وإقامته، انظر المجموع (3/114) ، ومصنف عبد الرزاق (1/465) .
(3) المجموع (3/114) ، الأوسط (3/37) .
(4) المجموع (3/114) ، عمدة القارئ (5/148) .
(5) المجموع (3/114) .
(6) المبسوط (1/131) ، البحر الرائق (1/277) ، الفتاوى الهندية (1/54) ، حاشية بن عابدين (1/392) .
(7) المجموع (3/113) ، روضة الطالبين (1/313) .
(8) الفروع (1/320) ، كشاف القناع (1/239) ، الروض المربع (1/125) .
(9) الخرشي (1/232) ، مواهب الجليل (1/437) .(11/331)
وقيل: تصح الإقامة من الجنب بلا كراهة، وهو اختيار ابن حزم (1) .
وجه منع الجنب من إقامة الصلاة.
كل الأدلة التي استدلوا بها على منع الجنب من الأذان، استدلوا بها هنا على منع الجنب من إقامة الصلاة، بل قالوا: إن الإقامة أشد في المنع من الأذان.
وجه كراهة إقامة الجنب.
أنه يلزم منه الخروج من المسجد بعد الأذان، ويترتب عليه فوات قدر من الصلاة، وفواته المكان الفاضل، ويلزم منه الفصل بين الإقامة والصلاة، وهي متصلة بها.
وجه تصحيح إقامة الجنب.
نفس الأدلة التي استدلوا بها على تصحيح أذان الجنب يستدل بها هنا على صحة إقامة الجنب، فلم يأت دليل من كتاب أو سنة يمنع من إقامة الجنب للصلاة، والتعاليل التي ذكروها لا تكفي في الكراهة الشرعية.
الراجح:
صحة إقامة الجنب، ولو قيل: إنها خلاف الأولى لم يبعد هذا القول، أما الجزم بالكراهة، فيفتقر إلى نهي من الشارع، ولم يثبت، والله أعلم.
_________
(1) المحلى (1/180) مسألة: 325,(11/332)
الفصل الثامن
في نوم الجنب
اتفق العلماء على جواز النوم للجنب قبل الاغتسال، واختلفوا في جواز النوم قبل الوضوء،
فقيل: الوضوء قبل أن ينام أفضل، وهو مذهب الحنفية (1) ،
وإليه مال
_________
(1) قال في المبسوط (1/73) ، ولا بأس للجنب أن ينام, أو يعاود أهله قبل أن يتوضأ؛ لحديث الأسود عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصيب من أهله, ثم ينام من غير أن يمس ماء، فإذا انتبه ربما عاود, وربما قام فاغتسل"، ثم قال: "وإن توضأ قبل أن ينام فهو أفضل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصاب من أهله، فتوضأ, ثم نام, وهذا لأن الاغتسال والوضوء محتاج إليه للصلاة لا للنوم والمعاودة، إلا أنه إذا توضأ ازداد نظافة فكان أفضل". اهـ
وعبارة الفتاوى الهندية أن الوضوء حسن، قالوا (1/16) : " ولا بأس للجنب أن ينام ويعاود أهله قبل أن يتوضأ، وإن توضأ فحسن " فهذه العبارة لا يؤخذ منها سنية الوضوء للجنب، كما لا يؤخذ منها استحباب الوضوء له، وإنما يدل على أن الوضوء من الفضائل فحسب. وانظر بدائع الصنائع (1/38) .
بينما الزيلعي في تبيين الحقائق (1/3) اعتبر الوضوء للجنب عند إرادة النوم سنة.
وفي شرح معاني الآثار للطحاوي (1/125) بعد أن ساق حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ينام وهو جنب، ولا يمس ماء.
قال الطحاوي: فذهب قوم إلى هذا، وممن ذهب إليه أبو يوسف، فقالوا: لا نرى بأساً أن ينام الجنب من غير أن يتوضأ؛ لأن التوضئ لا يخرجه من حال الجنابة إلى حال الطهارة، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ينبغي له أن يتوضأ للصلاة قبل أن ينام ".
فهذا ظاهره أن أبا يوسف لا يرى الوضوء للنوم من الجنب، لأنه جعل قول أبي يوسف في مقابلة قول من قال: ينبغي له أن يتوضأ " حيث قال الطحاوي: وخالف أبا يوسف آخرون، فقالوا: ينبغي له أن يتوضأ، فمعنى ذلك أن قول أبي يوسف: أنه لا ينبغي للجنب أن يتوضأ، وهذا قول آخر في مذهب الحنفية.
وقد فهم هذا الفهم أيضاً صاحب التاج والإكليل (1/145) من المالكية، فقال: " ونقل الطحاوي أن أبا يوسف ذهب إلى عدم الاستحباب، وتمسك بما رواه أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجنب، ثم ينام، ولا يمس ماء. "(11/333)
ابن عبد البر رحمه الله (1) .
وقيل: يندب للجنب أن يتوضأ قبل أن ينام، هو مذهب المالكية (2) ،
_________
(1) قال ابن عبد البر في التمهيد (17/44) : " وأولى الأمور عندي في هذا الباب، أن يكون الوضوء للجنب عند النوم كوضوء الصلاة حسناً مستحباً، فإن تركه فلا حرج؛ لأنه لا يرفع به حدثه، وإنما جعلته مستحباً، ولم أجعله سنة لتعارض الآثار فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلاف ألفاظ نقلته، ولا يثبت ما كانت هذه حاله سنة ".
(2) في مذهب المالكية وقفت على ثلاثة أقوال: القول بأنه مندوب، وآخر بأنه مرغب فيه، أي من الفضائل، وثالث: بأنه واجب، ففي الشرح الصغير (1/176) اقتصر على القول بالندب فقط، وهو ما اختاره خليل في مختصره رحمه الله تعالى (ص: 17) ، وتابعه عليه شراح المختصر، كما في حاشية الدسوقي (1/138) ، وتأتي عبارته بعد قليل إن شاء الله تعالى.
وجاء في شرح الزرقاني (1/143) : " ذهب الجمهور إلى أنها للاستحباب - يعني وضوء الجنب للنوم - وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وذهب أهل الظاهر إلى وجوبه، وهو شذوذ ".
وقال القاضي عياض في إكمال المعلم (2/142) : ظاهر مذهب مالك أنه ليس بواجب، وإنما هو مرغب فيه ".
وهذا يجعل الوضوء أقل من المندوب؛ لأن المستحب والمرغب فيه عند فقهاء المالكية يلحق بالفضائل، وليس بالسنن.
وهناك قول بالوجوب عند المالكية، ونسب إلى مالك، ولكن أكثر أصحابه على عدم ثبوت هذا القول عن مالك، قال ابن العربي في العارضة كما في شرح الزرقاني (1/142) : " قال مالك والشافعي: لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ، وأُنْكِر عليه؛ لأنهما لم يقولا بوجوبه، ولا يعرف عنهما ".
وقد قال الدسوقي في حاشيته (1/138) : " لا خلاف في أن الجنب مأمور بالوضوء قبل النوم، وهل الأمر بذلك واجب أو ندب؟ في المذهب قولان ".
وعبارة المدونة (1/30) : " قال مالك: لا ينام الجنب حتى يتوضأ، ولا بأس أن يعاود أهله قبل أن يتوضأ، قال: ولا بأس أن يأكل قبل أن يتوضأ، قال: وأما الحائض فلا بأس أن تنام قبل أن تتوضأ، وليس الحائض في هذا بمنزلة الجنب. اهـ
فنهى مالك الجنب أن ينام حتى يتوضأ، وجَوَّز أكل الجنب ومعاودته الوطء بدون وضوء، كما جوز النوم للحائض بدون وضوء، وقوله: ليس الحائض بمنزلة الجنب، فظاهر هذا الكلام أن مالك يرى وجوب الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام، فقول ابن العربي ليس بمستنكر، خاصة أن الدسوقي في حاشيته ذكر أن في المذهب المالكي قولين: الوجوب والندب، وممن قال بالوجوب من المالكية ابن حبيب، فيستغرب كيف يقول ابن عبد البر: إن القول بالوجوب شاذ، فيكفي أنه قد قال به اثنان من المالكية: ابن حبيب وابن العربي، وهو ظاهر عبارة الإمام في المدونة، أضف إلى ذلك، أن القول بالوجوب هو ظاهر السنة، حيث علق جواز النوم بشرط الوضوء، فجاء في الحديث: " أينام الجنب؟ قال: نعم إذا توضأ وسيأتي تخريجه في ذكر الأدلة إن شاء الله تعالى.(11/334)
وقيل: يكره أن ينام بدون وضوء، وهو مذهب الشافعية (1) ، والمشهور عند المتأخرين من الحنابلة (2) ، واختيار ابن تيمية رحمه الله (3) .
وقيل: يجب عليه الوضوء إذا أراد أن ينام، اختاره ابن حبيب من
_________
(1) المهذب (1/30) ، وقال النووي في المجموع (2/178) : " ويكره للجنب أن ينام حتى يتوضأ ". وانظر: مغني المحتاج (1/63) ، روضة الطالبين (1/87) ، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/78) ، الفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي (1/63) .
وفي إعانة الطالبين (1/79) : ويحصل أصل السنة بغسل الفرج إن أراد نحو جماع أو نوم أو أكل أو شرب، وإلا كره. اهـ ر
(2) قال في مطالب أولي النهى (1/185-186) : " وكره تركه أي الوضوء لجنب لنوم فقط، أي دون الأكل والشرب ". اهـ وانظر كشاف القناع (1/158) .
(3) مجموع الفتاوى (21/343) .(11/335)
المالكية (1) ، وهو مذهب الظاهرية (2) .
دليل من قال: للجنب أن ينام دون أن يمس ماء.
الدليل الأول:
(1268-141) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن الأسود،
عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام، وهو جنب، ولا يمس ماء (3) .
[حديث معلول] (4) .
_________
(1) انظر إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/142) ، مواهب الجليل (1/316) ، وسبق لنا أن هذا القول منسوب إلى مالك، وهو ظاهر عبارة المدونة، والله أعلم.
(2) قال ابن عبد البر في التمهيد (17/44) : وأما من أوجبه من أهل الظاهر، فلا معنى للاشتغال بقوله لشذوذه؛ ولأن الفرائض لا تثبت إلا بيقين". اهـ
(3) المسند (6/146) .
(4) هكذا رواه أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة بلفظ: " دون أن يمس ماء ".
وخالفه إبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن الأسود، فروياه عن الأسود، ولم يقولا: " دون أن يمس ماء "
أما رواية إبراهيم النخعي، فرواها أبو داود الطيالسي (1384) حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم عن الأسود،
عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً، فأراد أن ينام، أو يأكل توضأ.
ومن طريق شعبة أخرجه أحمد (6/126) ومسلم (305) وأبو داود في السنن (224) ، والنسائي (255) ، وفي الكبرى (525، 253) ، وابن ماجه (591) ، والدارمي (2078) ، وأبو عوانة (1/278) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/125) ، وابن خزيمة (215) ، والبيهقي في السنن (1/193، 202) .
وأخرجه الطبراني في الأوسط (5203) من طريق ميمون، عن إبراهيم به.
وأما رواية عبد الرحمن بن الأسود، عن الأسود، عن عائشة، فأخرجها أحمد (6/273) من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي،
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: سألتها، كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع، إذا كان هو جنب، وأراد أن ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كان يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم ينام.
وهذا سند حسن، رجاله كلهم ثقات إلا ابن إسحاق، فإنه صدوق، ومن طريق ابن إسحاق أخرجه ابن راهوية في مسنده (1485) ، والدارمي (757) .
وتابع حجاج بن أرطأة ابن إسحاق، وحجاج ضعيف، ويمشي في المتابعات، فقد أخرجه أحمد (6/224) حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا حجاج، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه،
عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب من الليل، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح، ولا يمس ماء.
وأخرجه أحمد (6/260) حدثنا سليمان بن حيان، حدثنا حجاج به.
وهذا المتن وإن كان إسناده فيه مقال، إلا أنه يوضح الإشكال القائم في إسناد أبي إسحاق، وأن المقصود بقوله: " ولا يمس ماء " يعني به: ولا يغتسل، وليس معناه أنه لا يتوضأ، وبهذا ينتفي الإشكال لكن هذا يقال: لو كان إسناد الحديث صحيحاً، أما وقد انفرد به مثل حجاج، فهو ضعيف، ومتنه منكر؛ لتفرده بهذا اللفظ.
كما أن الحديث رواه غير الأسود عن عائشة، في الصحيحين وفي غيرهما، موافقاً لرواية إبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن الأسود، عن الأسود، عن عائشة، ولم يذكروا ما ذكره أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، وسوف يأتي تخريجها إن شاء الله تعالى عند ذكر أدلة القائلين بوجوب الوضوء عند النوم.
فاختلف العلماء هل الحديثان محفوظان؟ أعني لفظ حديث أبي إسحاق، عن الأسود، ولفظ إبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن الأسود عن الأسود أو أن أحدهما أرجح من الآخر؟
فذهب أكثر العلماء إلى ترجيح رواية إبراهيم، وعبد الرحمن بن الأسود، وأن رواية أبي إسحاق خطأ ووهم، ذهب إلى ذلك إمام أهل السنة أحمد رحمه الله، وشعبة، ومسلم، والثوري وأبو داود، والترمذي، ويزيد بن هارون، وأبو حاتم الرازي وغيرهم، فهؤلاء هم أدرى الناس بعلل بالحديث، ومن خالفهم في هذا الشأن فقد تكلف، وتكلم بما لا يعرف.
قال أبو داود في السنن (228) حدثنا الحسن بن علي الواسطي، قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: هذا الحديث وهم، يعني حديث أبي إسحاق.
وجاء في كتاب العلل لابن أبي حاتم (1/49) : سمعت أبي، وذكر حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة.... وذكر الحديث. فقال أبي: سمعت نصر بن علي، يقول: قال أبي: قال شعبة: قد سمعت حديث أبي إسحاق، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كا ينام جنباً، ولكني أتقيه ".
وقال الترمذي بعد أن ذكر رواية أبي إسحاق: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب، ولا يمس ماء " قال: وقد روى غير واحد، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتوضأ قبل أن ينام. وهذا أصح من حديث أبي إسحاق عن الأسود، وقد روى عن أبي إسحاق هذا الحديث: شعبة، والثوري، وغير واحد، ويرون أن هذا غلط من أبي إسحاق ". اهـ كلام الترمذي.
وقال الحافظ في تلخيص الحبير (187) : " قال أحمد: إنه ليس بصحيح.
وقال أبو داود: هو وهم ". ثم ذكر كلام يزيد بن هارون المتقدم، ثم قال الحافظ: "وأخرج مسلم الحديث دون قوله: " ولم يمس ماء " وكأنه حذفها عمداً؛ لأنه عللها في كتاب التمييز.
وقال مهنأ، عن أحمد ابن صالح: لا يحل أن يروى هذا الحديث.
وفي علل الأثرم: لو لم يخالف أبا إسحاق في هذا إلا إبراهيم النخعي وحده لكفى، فيكف وقد وافقه عبد الرحمن بن الأسود، وكذلك روى عروة وأبو سلمة عن عائشة.
وقال ابن مفوز: أجمع المحدثون على أنه خطأ من أبي إسحاق ". وتعقبه الحافظ، فقال: "كذا قال، وتساهل في نقل الإجماع، فقد صححه البيهقي، وقال: إن أبا إسحاق قد بين سماعه من الأسود في رواية زهير عنه، ثم قال: وقال الدارقطني في العلل: يشبه أن يكون الخبران صحيحين، قاله بعض أهل العلم.
وقال الترمذي: يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق، وعلى تقدير صحته فيحمل على أن المراد: " لا يمس ماء " للغسل، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن أحمد بلفظ: "كان يجنب من الليل، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، حتى يصبح، ولا يمس ماء"، أو كان يفعل الأمرين لبيان الجواز، وبهذا جمع ابن قتيبة في اختلاف الحديث، ويؤيده ما رواه هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة، مثل رواية أبي إسحاق، عن الأسود، وما رواه ابن خزيمة في صحيحيهما، عن ابن عمر، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال: نعم، ويتوضأ إن شاء، وأصله في الصحيحين دون قوله: " إن شاء ". اهـ نقلاً من تلخيص الحبير. وزيادة " إن شاء " زيادة شاذة كما سيأتي تخريجها إن شاء الله تعالى ضمن أدلة هذا القول.
قلت: والحق مع من ضعف هذا الحديث، وخلاف البيهقي لا يعارض به جهابذة أهل الحديث، كأحمد وأبي حاتم وشعبة والثوري وأبو داود والترمذي ويزيد بن هارون، وأحمد بن صالح، وغيرهم.
وأما كلام الدارقطني، فهو مع أنه نقله عن بعض أهل العلم، فإنه مع ذلك ليس فيه جزم بصحة الحديث، وإنما قال: يشبه أن يكون الخبران صحيحين، فليس في هذا الكلام جزم بالصحة، والحديث الشاذ يشبه في إسناده إسناد الحديث الصحيح من جهة عدالة نقلته، إلا أن فقد شرطاً من شروط الحديث الصحيح، وهو سلامته من العلة القادحة.
[تخريج رواية أبي إسحاق]
الحديث يرويه جماعة عن عائشة، منهم الأسود كما في هذا الحديث، وقد رواه عن الأسود، عبد الرحمن بن الأسود وإبراهيم النخعي، وسبق تخريج روايتهما قبل قليل.
ورواه أبو إسحاق السبيعي، عن الأسود، وانفرد بقوله: " دون أن يمس ماء " وقد علمت ما فيها، ويرويه جماعة عن أبي إسحاق، منهم:
الأول: إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق به،
أخرجه أحمد (6/146) ، والنسائي في السنن الكبرى (9054) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/125) من طريق هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد به، وقد صرح هشيم بالتحديث عند الطحاوي، كما أن رواية النسائي ليس فيها قوله: " ولا يمس ماء ".
الثاني: الأعمش، عن أبي إسحاق به.
أخرجه أحمد (6/43) وإسحاق بن رواهوية (1518) ، والترمذي (118) ، والنسائي في الكبرى (9052) وابن ماجه (584) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/125) من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش به.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/125) من طريق عبيد الله بن عمرو، عن الأعمش به.
الثالث: سفيان الثوري، عن أبي إسحاق.
أخرجه الطيالسي (1397) ، وعبد الرزاق في المصنف (1082) ، وأحمد (6/107) ، وإسحاق بن راهوية (1512) ، وأبو داود (228) ، والترمذي (119) ، وابن ماجه (583) ، وأبو يعلى في مسنده (4729) ، وابن المنذر في الأوسط (605) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/124) ، والبيهقي في السنن (1/201) من طرق عن سفيان الثوري به.
الرابع: أبو الأحوص، عن أبي إسحاق.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/64) رقم 682 عن أبي الأحوص به، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت له حاجة إلى أهله قضاها، ثم نام كهيئته، لا يمس ماء ".
ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (582) ، وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/125) من طريق مسدد، عن أبي الأحوص به.
الخامس: إسرائيل، عن إبي إسحاق.
أخرجه أحمد (6/214) حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به بتمامه.
وأخرجه أحمد (6/63) حدثنا وكيع، عن أبيه وإسرائيل، عن إبي إسحاق به، ببعضه.
وأخرجه ابن ماجه (1365) ، وابن حبان (2589) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل وحده به.
وأخرجه أحمد (6/109) حدثنا أسود بن عامر، قال: حدثنا إسرائيل به، ببعضه.
السادس: شعبة، عن أبي إسحاق.
أخرجه الطيالسي (1386) ، وإسحاق بن راهوية (1513، 1514) ، وأحمد (6/176) ، والبخاري في صحيحه (1146) ، والنسائي في الكبرى (1389) ، وفي المجتبى (1680) ، وابن حبان (2593) وتعمد شعبة ترك قوله: " دون أن يمس ماء "
السابع: شريك، عن أبي إسحاق.
أخرجه أحمد (6/109) حدثنا أسود بن عامر، قال: أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق به، بلفظ: " إذا كانت له حاجة إلى أهله، أتاهم، ثم يعود، ولا يمس ماء ".
الثامن: زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق به.
واختلف على زهير فيه، فرواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/125) من طريق أبي غسان، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، قال:
أتيت الأسود بن يزيد - وكان لي أخاً وصديقاً - فقلت: يا أبا عمرو حدثني ما حدثتك عائشة رضي الله عنها: أم المؤمنين عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام أول الليل، ويحيى آخره، ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يمس ماء، فإذا كان النداء الأول وثب - وما قالت: قام - فأفاض عليه الماء - وما قالت: اغتسل، وأنا أعلم بما تريد - وإن كان جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة.
فبناء على هذه الرواية بهذا اللفظ لا إشكال، " فإن كانت له حاجة قضى حاجته، ثم نام قبل أن يمس ماء، وإن كان جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة "
قال ابن العربي في شرحه لسنن الترمذي (1/182) : فهذا يدل على أحد وجهين:
إما أن يريد الحاجة حاجة الإنسان من البول والغائط، فيقضيها، ثم يستنجي، ولا يمس ماء، وينام، فإن وطئ توضأ كما في آخر الحديث.
ويحتمل أن يريد بالحاجة حاجة الوطء، وبقوله: " ثم ينام ولا يمس ماء " يعني: الاغتسال، ومتى لم يحمل الحديث على أحد هذين الوجهين تناقض أوله وآخره، فتوهم أبو إسحاق أن الحاجة هي حاجة الوطء، فنقل الحديث على معنى ما فهم ".
ووافق المباركفوري ابن العربي على هذا الفهم في تحفته (1/115) ، والشوكاني في نيل الأوطار.
والحق أن هذا اللفظة أعني قوله: " وإن كان جنباً توضأ وضوءه للصلاة " قد انفرد بها أبو غسان، عن زهير، وقد رواه غيره عن زهير بلفظ: " إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم نام قبل أن أن يمس ماء ثم قال: وإن لم يكن جنباً توضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى ركعتين ".
رواه أحمد (6/102) والبيهقي في السنن (1/201) عن حسن بن موسى.
وأخرجه مسلم في صحيحه (739) والبيهقي في سننه (1/201) عن أحمد بن يونس ويحيى بن يحيى.
وأخرجه إسحاق بن راهوية أيضاً (1515) عن أبي نعيم الملائي.
وأخرجه البيقهي (1/201) من طريق عمرو بن خالد، كلهم أعني (أحمد بن يونس، ويحيى بن يحيى، وحسن بن موسى، وعمرو بن خالد، وأبا نعيم الملائي) ستتهم رووه عن زهير بلفظ: " وإن لم يكن جنباً توضأ " وليس بلفظ: " وإن كان جنباً توضأ " كما قال أبو غسان، إلا أن مسلم تعمد أن يحذف قوله: " دون أن يمس ماء "، وأعلها في كتابه التمييز، فبناء على هذا اللفظ ليس فيه حجة للطحاوي، وأبي بكر بن العربي، والمباركفوري، والشوكاني، ويبقى الكلام على مخالفة أبي إسحاق لإبراهيم وعبد الرحمن، وسبق أن ذكرنا أن أبا إسحاق قد حكم أكثر العلماء على غلطه في هذا الحديث.
انظر بعض طرق الحديث في: أطراف المسند (9/24) ، إتحاف المهرة (21525) ، تحفة الأشراف (16017، 16018، 16020، 16023، 16024) .(11/336)
الدليل الثاني:
(1269-142) ما رواه ابن خزيمة من طريق أحمد بن عبدة، أخبرنا سفيان، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر،
عن عمر، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال: ينام، ويتوضأ إن شاء (1) .
[الحديث رجاله ثقات إلا أن زيادة إن شاء زيادة شاذة] (2) .
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (211) ، ومن طريق ابن خزيمة أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر (1216) .
(2) الحديث في سؤال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن نومه، وهو جنب، ويرويه
عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، تارة من مسند عمر (أي عن ابن عمر، عن عمر) وتارة من مسند ابن عمر (أي عن ابن عمر أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -) والخطب في هذا سهل جداً، وأكثر الرواة يسوقونه من مسند ابن عمر رضي الله عنهما.
ورجح الدارقطني أن الحديث عن ابن عمر أن عمر، قال في العلل (2/64) بعد أن ساق الاختلاف على رواته، قال: " والصحيح قول من قال: عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن عمر. وكذلك رواه الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن عمر.. وكذلك قال يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو المحفوظ المضبوط ".
تخريج الحديث من مسند عمر رضي الله عنه:
رواه سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر، إلا أنه قد اختلف على سفيان في لفظه:
فرواه ابن خزيمة (211) ، ومن طريقه ابن حبان (1216) من طريق أحمد بن عبدة، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر، بلفظ: " ينام ويتوضأ إن شاء ".
وأخرجه أحمد رحمه الله تعالى (1/24-25) حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال: يتوضأ، وينام إن شاء " وقال سفيان مرة: ليتوضأ، ولينم ".
فهنا الشرط راجع إلى النوم، وليس إلى الوضوء، كأنه قال: إذا توضأ إن شاء نام، وإن شاء اغتسل.
وأشار أحمد إلى أن سفيان بن عيينة رواه مرة أخرى بدون ذكر المشيئة.
وقد رواه أيضاً عن ابن عيينة سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، كما في صحيح ابن خزيمة (212) بلفظ: " إذا أراد أن ينام، فليتوضأ " ولم يذكر لفظ (المشيئة) .
وخالفهم الحميدي (657) فرواه عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن دينار به من مسند ابن عمر، بلفظ: " أينام أحدنا، وهو جنب، فقال: نعم إذا توضأ، ويطعم إن شاء ".
جعل المشيئة راجعة إلى الأكل لا إلى النوم، ومع هذا الاختلاف على سفيان فقد رواه من هو أكثر منه عدداً، ولم يذكروا لفظ المشيئة.
فقد رواه أحمد (1/38) من طريق الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر،
عن عمر، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنه تصيبني الجنابة من الليل، فأمره أن يغسل ذكره، ويتوضأ وضوءه للصلاة.
فهنا الثوري رواه عن عبد الله بن دينار، وجعله من مسند عمر كما فعل ابن عيينة، ولم يذكر ما ذكره سفيان من ذكر المشيئة، كما رواه الثوري أيضاً من مسند ابن عمر، وليس فيه ذكر المشيئة.
فقد أخرجه أحمد (2/56) حدثنا يحيى.
وأخرجه أحمد (2/116) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/127) عن أبي نعيم (الفضل بن دكين)
وأخرجه الدارمي (756) عن عبيد الله بن موسى.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/127) من طريق أبي حذيفة النهدي، والفريابي، خمستهم (يحيى بن سعيد القطان، وعبيد الله بن موسى، وأبو حذيفة والفريابي وأبو نعيم) عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر من مسنده، وليس فيه ذكر المشيئة، ولفظ أحمد، عن ابن عمر، قال: سأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: تصيبني الجنابة من الليل؟ فأمره أن يغسل ذكره وليتوضأ.
كما رواه جماعة عن عبد الله بن دينار بدون زيادة (إن شاء) ، عن ابن عمر من مسنده، ولم يذكروا ما ذكره سفيان بن عيينة، وإليك من وقفت على روايتهم:
الأول: إمام دار الهجرة، مالك بن أنس، أخرجه في الموطأ (1/47) ،
ومن طريق مالك أخرجه أحمد (2/64) ، والبخاري (290) ، ومسلم (306) ، وأبو داود (221) ، والنسائي في السنن الكبرى (256،9055،9056) ، وفي المجتبى (260) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/127) ، وابن حبان (1213) والبيهقي في السنن (1/199) ، بلفظ: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يصيبه جنابة من الليل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، واغسل ذكرك، ثم نم".
الثاني: شعبة، عن عبد الله بن دينار.
أخرجه الطيالسي (17) ، وأحمد (1/50) و (2/79) ، وعبد الله بن أحمد وجادة عن أبيه (2/46) ، وأبو عوانة (1/278) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/127) ، وابن خزيمة (214) ، وابن حبان (1212) من طريق شعبة، عن عبد الله بن دينار،
عن ابن عمر، قال: إن عمر قال: يا رسول الله تصيبني من الليل الجنابة؟ فقال: اغسل ذكرك، ثم توضأ، ثم ارقد. وليس فيه ذكر المشيئة.
الثالث: إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، أخرجه ابن حبان بإسناد صحيح (1214) بلفظ: " فأمره أن ينام ".
ورواه غير عبد الله بن دينار، فقد رواه نافع وسالم، عن ابن عمر، بدون ذكر الشرط: أعني قوله: إن شاء.
فأما رواية نافع عن ابن عمر، فجاء الحديث تارة من مسند ابن عمر، وتارة عن ابن عمر، عن عمر، كما هو الحال في رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
وإليك بيان الحديث في مسنديه:
ما جاء من مسند ابن عمر:
فقد أخرجه أحمد في المسند (2/17، 36، 102) ، وابن أبي شيبة (1/63) رقم 677، ومسلم (306) ، والنسائي في المجتبى (259) ، وفي الكبرى (9060،9061) ، وابن ماجه (585) وعبد بن حميد كما في المنتخب (750) من طريق عبيد الله بن عمر.
وأخرجه البخاري (287) وابن حبان (1215) من طريق الليث بن سعد.
وأخرجه البخاري أيضاً (289) من طريق جويرية.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1074) ومن طريقه أخرجه أحمد (1/35) ، وأبو عوانة (1/277) عن عبد الله بن عمر العمري.
وأخرجه أيضاً (1075) من طريق أيوب.
وأخرجه عبد الرزاق أيضاً (1077) ومن طريقه البيهقي (1/201) عن ابن جريج.
وأخرجه النسائي في الكبرى (9064) من طريق عمرو بن سعد.
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (103) من طريق عبد الرحمن بن ثابت، كلهم عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر...
وجاء الحديث عن نافع، عن ابن عمر، عن أبيه من مسند عمر.
أخرجه أحمد (1/17، 35) ، والنسائي في السنن الكبرى (9058، 9059) ، والترمذي (120) ، والبزار (147) من طريق عبيد الله بن عمر.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1074) عن عبد الله بن عمر العمري.
وأخرجه النسائي في الكبرى (9063) والبزار في مسنده (131) ، والطبراني في الكبير (1/26) ح 80 من طريق أيوب.
وأخرجه أحمد (1/16) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/127) من طريق ابن إسحاق،
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/127) من طريق ابن عون، كلهم (أيوب، وعبد الله بن عمر، وعبيد الله بن عمر ومحمد بن إسحاق وابن عون) عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد.
أما رواية سالم، عن ابن عمر، فقد أخرجه عبد الرزاق (1088) عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنام، وأنا جنب؟ قال: توضأ وضوءك للصلاة. قال سالم: فكان ابن عمر إذا أراد أن ينام أو يطعم، وهو جنب، غسل فرجه ووجهه ويديه، لا يزيد على ذلك.
ففي هذه الرواية جعل السائل ابن عمر، وحذف اسم عمر رضي الله عنه، والمحفوظ أن القصة كانت لعمر، وجاء الحديث من مسند ابن عمر، ومن مسند أبيه، وفي كلا الحديثين لا يختلفون أن القصة كانت لعمر.
ورواه النسائي في السنن الكبرى (9068) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/127) من طريق محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. قال النسائي: عن عمر.
وقال الطحاوي: أن عمر رضي الله عنه.... وذكر الحديث.
وهذا الإسناد وإن كان يوافق رواية الجماعة عن ابن عمر، إلا أن محمد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي نزيل المصيصة، صدوق كثير الغلط.
انظر إتحاف المهرة (9563) و (9834) ، وأطراف المسند (5/50) و (3/543) ، تحفة الأشراف (8178) .(11/342)
الدليل الثالث:
(1269-143) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن عمرو ابن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث،
أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه طعام فأكل ولم يمس ماء.(11/346)
قال: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث،
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (1) .
(1271-144) ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. وفيه: ((إنما أمرتم بالوضوء للصلاة)) .
وسنده صحيح، وفيه التعبير بالحصر بـ (إنما) .
وجه الاستدلال:
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أردت صلاة فأتوضأ)) وقوله: ((إنما أمرتم بالوضوء للصلاة)) منطوقه: أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة، ومفهومه: أنه لا يجب الوضوء لغير الصلاة، ومنه الوضوء عند النوم للجنب.
دليل القائلين بوجوب الوضوء إذا أراد الجنب أن ينام.
الدليل الأول:
(2272-145) ما رواه البخاري من طريق الليث، عن نافع،
عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد، وهو جنب، ورواه مسلم (2) .
فأذن بالنوم بشرط الوضوء، وهذا دليل على وجوبه.
_________
(1) صحيح مسلم (374) ، وانظر تخريج متنه وافياً في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (234) .
(2) البخاري (287) ، ومسلم (306) .(11/347)
الدليل الثاني:
صح من فعله - صلى الله عليه وسلم -، أنه إذا أراد أن ينام توضأ، وهذا وإن كان فعلاً إلا أنه مؤيد لحديث عمر بن الخطاب، في عدم النوم إلا بشرط الوضوء، ولم ينقل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث صحيح حتى يقال: يجوز تركه.
(1273-146) فقد روى البخاري من طريق عن عروة،
عن عائشة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ للصلاة، ورواه مسلم (1) .
فقوله: ((كان)) دليل على الاستمرار من حاله - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل الثالث:
(1274-147) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخرساني، عن يحيى بن يعمر،
عن عمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه رخص للجنب، إذا أراد أن ينام، أو يأكل، أو يشرب، أن يتوضأ وضوءه للصلاة (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) البخاري (288) ، ومسلم (305) .
(2) المصنف (1/63) رقم 678.
(3) ضعيف، وقد سبق تخريجه على إثر حديث رقم (2239) ، فأغنى عن إعادته هنا.
وروى الطبراني في المعجم الكبير (11/361) من طريق يوسف بن خالد السمتي، عن عيسى بن هلال السدوسي، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو ينام أن يتوضأ.
وهذا موضوع، وعلته يوسف بن خالد، وقد سبقت ترجمته في حديث رقم (2209) .(11/348)
فقوله: ((رخص)) يدل على أنه في مقابل المنع، فيؤخذ منه أن غير المتوضئ لا يرخص له في النوم.
وهذا ممكن أن يتوجه القول به لو صح الحديث.
دليل من قال: يكره النوم للجنب بدون وضوء.
هذا القول حين رأى أن القول بالوجوب قول قوي، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام، وهو جنب إلا وهو على وضوء، وحين استفتاه عمر رضي الله عنه في النوم أذن له بشرط الوضوء، رأى أن ترك الوضوء والحالة هذه مكروه، خروجاً من خلاف القائلين بالوجوب، والله أعلم.
الراجح:
بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بالوجوب قول قوي، والقول بالاستحباب أقوى، وعلى كل فعلى المسلم أن يحرص على النوم على وضوء، خروجاً من خلاف أهل العلم، والله أعلم.(11/349)
[صفحة فارغة](11/350)
الفصل التاسع
في أكل الجنب وشربه
اختلف العلماء في وضوء الجنب للأكل والشرب،
فقيل: يغسل يديه إن كان أصابهما أذى، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) .
وقيل: يستحب للجنب أن يتوضأ عند الأكل، وهو مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
_________
(1) قال في حاشية الطحطاوي (ص: 55) : الجنب إذا أراد أن يأكل، أو يشرب غسل يديه وفاه، وإن ترك فلا بأس به " وانظر البحر الرائق (1/49) ، بدائع الصنائع (1/38) ، الفتاوى الهندية (1/16) .
(2) جاء في المدونة (1/30) : " قلت: هل كان مالك يأمر من أراد أن ينام، أو يطعم إذا كان جنباً بالوضوء؟ قال: أما النوم فكان يأمره أن لا ينام حتى يتوضأ... ثم قال: وأما الطعام فكان يأمره بغسل يده إذا كان الأذى قد أصابها، ويأكل، وإن لم يتوضأ ".
وجاء في المنتقى للباجي (1/98) : " قال مالك: لا يتوضأ إلا من أراد أن ينام فقط، وأما من أراد أن يطعم، ويعاود الجماع، فلم يؤمر بالوضوء ".
وقد اقتصر خليل في مختصره (ص: 17) : باستحباب الوضوء للنوم، واستحباب غسل الفرج لمعاودة الوطء، ولم يذكر الوضوء للأكل. وانظر حاشية الدسوقي (1/137-138) .
(3) المهذب (1/30) ، المجموع (2/178) ، روضة الطالبين (1/87) ، مغني المحتاج (1/63) .
(4) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/148) ، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/343) ، كشاف القناع (1/157) ، مطالب أولى النهى (1/186) ، شرح منتهى الإرادات (1/88) ، كشاف القناع (1/158) .(11/351)
دليل من قال: يستحب له أن يغسل يديه.
(1278-148) ما رواه أحمد، قال: حدثنا علي بن إسحاق، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن،
أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل ويشرب، قالت: يغسل يده ثم يأكل ويشرب (1) .
[حديث الوضوء للنوم محفوظ في الصحيحين، وحديث غسل اليد للأكل المحفوظ أنه من قول عائشة رضي الله عنها غير مرفوع] (2) .
_________
(1) المسند (6/118-119) .
(2) اختلف على الزهري في ذكر غسل اليد من الجنب للأكل،
فقد رواه جماعة عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة بذكر الوضوء للنوم فقط، منهم:
الأول: رواه الليث، واختلف عليه،
فرواه يحيى بن يحيى كما في صحيح مسلم (305) ، وسنن البيهقي (1/200) .
ومحمد بن رمح كما في صحيح مسلم (305) ، وسنن ابن ماجه (584) .
وقتيبة بن سعيد كما في صحيح مسلم (305) ، والنسائي في المجتبى (258) ، وفي الكبرى (9044) .
وعبد الله بن وهب، كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/126) ، وسنن البيهقي (1/200) .
ومعلى، وهاشم بن القاسم كما في مسند أبي عوانة (1/277) ، ستتهم: (يحيى بن يحيى، ومحمد بن رمح، وقتيبة بن سعيد، وعبد الله بن وهب، ومعلى، وهاشم بن القاسم رووه عن الليث بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة به، بالاقتصار على الوضوء للنوم، فقط.
ورواه محمد بن الحسن بن قتيبة، واختلف عليه في لفظه:
فرواه ابن حبان في صحيحه (1217) عن الحسن بن قتيبة، عن يزيد بن موهب، عن الليث به، بلفظ الجماعة بالاقتصار على الوضوء للنوم.
ورواه البيهقي (1/203) من طريق أبي علي الحافظ، عن محمد بن الحسن بن قتيبة به، بزيادة غسل اليد للأكل، ولفظه: " عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام. قالت عائشة: وإذا أراد أن يأكل، أو يشرب، يغسل يديه، ثم يأكل أو يشرب إن شاء.
فقول عائشة موقوف على عائشة، وليس مرفوعاً، فمقصودها بقولها: (وإذا أراد يعني: الجنب أن يأكل، أو يشرب، يغسل يديه) وليس مقصودها: وإذا أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قلتُ ذلك:
أولاً: لأن الحديث لو كان حكاية لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لماذا يقول الرواي: وقالت عائشة: والكلام كله تحكيه عائشة عن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وثانياً: قولها: إن شاء، هذا تعليق فعل للمستقبل، وليس حكاية عن فعل ماض.
وثالثاً: أن هذا هو فهم البيهقي وأبي داود، حيث قال البيهقي: قال أبو داود: ورواه ابن وهب، عن يونس، فجعل قصة الأكل قول عائشة مقصوراً، قال البيهقي: وكذلك رواه الليث ابن سعد، عن الزهري. اهـ
ومع كون هذه الزيادة موقوفة على عائشة، إلا أنه انفرد بها عن الليث، أبو علي الحافظ، عن ابن قتيبة، عن يزيد بن موهب الرملي، عن الليث.
وقد رواه ابن حبان كما ذكرت، عن ابن قتيبة، ولم يذكر قول عائشة، وقد رواه ستة حفاظ عن الليث، ولم يذكروا ما زاده أبو علي الحافظ، فهذا يجعل في النفس شيئاً من قبولها، من طريق الليث.
الثاني: سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب.
أخرجه الإمام أحمد (6/36) ، وابن أبي شيبة (1/62) رقم 657، وإسحاق بن راهوية (1040) ، وأبو داود (222) ، والنسائي في الكبرى (9043) ، وأبو يعلى (4522) ، وابن خزيمة (213) ، وأبو عوانة (1/277) ، من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب به بالاقتصار على الوضوء للنوم.
الثالث: ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب.
أخرجه عبد الرزاق (1073) ، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (612) .
وأخرجه أحمد (6/200) حدثنا محمد بن بكر، كلاهما، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب به، بالاقتصار على الوضوء للنوم دون ذكر الأكل.
الرابع: يونس، عن ابن شهاب.
أخرجه عبد الرزاق (1085) ، وأحمد (6/118-119) وابن أبي شيبة (1/62) رقم 658، وأبو داود (223) ، والنسائي في المجتبى (256،257) ، وفي الكبرى (254،255) ، وابن ماجه (593) ، وأبو يعلى (4595، 4782، 4891) ، وابن حبان (1218) ، والدارقطني (1/126) ، والبيهقي في السنن (1/203) من طريق ابن المبارك، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري به، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل ويشرب قالت: يغسل يديه، ثم يأكل ويشرب.
فزاد عبد الله بن المبارك، عن يونس عن ابن شهاب ذكر غسل اليدين مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد اختلف على يونس في هذه الزيادة، فرواها ابن المبارك رحمه الله تعالى، عن يونس به، مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وتابع عامرُ بنُ صالح عبدَ الله بن المبارك، فرواه أحمد (6/279) عنه، عن يونس بن يزيد به، بلفظ ابن المبارك، إلا أن عامر بن صالح متروك الحديث، قال فيه النسائي: ليس بثقة. الضعفاء والمتروكين (437) .
وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. المجروحين (2/188) .
وقال يحيى بن معين: كان كذاباً. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين: جُنَّ أحمد بن حنبل، يحدث عن عامر بن صالح. الكامل (5/83) .
ولا يبعد أن يكون عامر بن صالح قد سرق إسناد حديث ابن المبارك، فإنه معروف بالسرقة، قال ابن عدي: عامة أحاديثه مسروقة من الثقات... الكامل (5/83) .
وقد خالف ابن وهب، عبد الله بن المبارك، وعامر بن صالح هذا، فقال أبو داود في سننه على إثر حديث (222) : "رواه ابن وهب، عن يونس، فجعل قصة الأكل قول عائشة مقصوراً ".
ورواية ابن وهب المرفوعة عن يونس قد اقتصر فيها على ذكر الوضوء للنوم، كما في رواية سفيان وابن جريج والليث عن ابن شهاب،
فقد أخرجه النسائي في الكبرى (9044) ، وأبو عوانة (1/277-278) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/126) ، والبيهقي في السنن (1/200) من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب به، بذكر الوضوء للنوم فقط، دون ذكر غسل اليدين.
وكذا رواه الحسن بن قتيبة، عن الليث، عن الزهري به، فذكر غسل اليدين من قول عائشة موقوفاً عليها كما هي رواية ابن وهب، عن يونس، وتقدم ذكرها في تخريج طريق الليث بن سعد، وهذا هو المحفوظ، خاصة أن الحديث كما قلت رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة والليث بن سعد، فاقتصروا على ذكر الوضوء للنوم، ولم يذكروا غسل اليدين للأكل والشرب، ورواه يحيى بن أبي كثير، ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة موافقاً لرواية الليث، وابن جريج، وسفيان، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة: في عدم ذكر غسل اليد للأكل والشرب، مما يجعل طريق ابن المبارك رحمه الله طريقاً شاذاً. وسيأتي إن شاء الله تعالى تخريج طريقهما بعد الفراغ من طريق يونس هذا.
وكما اختلف على يونس بن يزيد في متنه، فقد اختلف عليه في إسناده،
فأخرجه ابن خزيمة (218) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/128) من طريق عيسى بن يونس، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به. فجعل بدلاً من أبي سلمة، جعل عروة.
وأخرجه الدارقطني (1/125-126) من طريق طلحة بن يحيى، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة أو عروة - على الشك - عن عائشة به.
وأخرجه الدارقطني في سننه (1/126) من طريق أبي ضمرة، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة وعروة، عن عائشة.
قال الدارقطني في العلل (5/ورقة 71) : "ورواه أبو ضمرة فصح القولين جميعاً ". وسيأتي تخريج طريق عروة، عنها مستقلاً إن شاء الله تعالى.
وقد رواه صالح بن أبي الأخضر أيضاً بزيادة غسل اليدين، إلا أنه قد اختلف على صالح في إسناده:
فرواه أحمد (6/102) ، قال: حدثنا ساكن بن نافع، قال: حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة، أن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، فإذا أراد أن يأكل، أو يشرب، غسل كفيه، ثم يأكل، أو يشرب إن شاء.
ورواه أحمد (6/192) عن وكيع،
ووراه أيضاً (6/119) من طريق عبد الله بن المبارك كلاهما، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة وأبي سلمة به.
وصالح بن أبي الأخضر ضعيف،
قال علي بن المديني: سمعت ابن عدي أو معاذ بن معاذ يقول: ألححنا على صالح بن أبي الأخضر في حديث الزهري، فقال: منه ما سمعت، ومنه ما عرضت، ومنه ما لم أسمع، فاختلط عليَّ. الكامل (4/64) .
وقال يحيى بن معين: ضعيف. المرجع السابق.
وقال العجلي: يكتب حديثه، وليس بالقوي. معرفة الثقات (745) .
كما أن الحديث قد رواه الأوزاعي، ومحمد بن عبد الرحمن المعروف بيتيم عروة، روياه عن عروة، عن عائشة فلم يذكرا ما ذكره صالح بن أبي الأخضر.
فقد أخرجه البخاي (288) والطبراني في الأوسط (8723) من طريق عبيد الله بن أبي جعفر، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب، غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة.
فلم يذكر ما ذكره صالح بن أبي الأخضر من ذكر غسل اليد للأكل والشرب.
ورواه أحمد (6/92) حدثنا قتيبة.
ورواه أيضاً (6/103) حدثنا حسن كلاهما، عن ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود به، بلفظ البخاري.
وأخرجه الطحاوي (1/126) من طريق الأوزاعي، عن عروة به، بلفظ البخاري.
فتبين بهذا خطأ صالح بن أبي الأخضر، والله أعلم.
طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة.
أخرجه أحمد (6/202) حدثنا يحيى، عن هشام الدستوائي، قال: حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، قال:
سألت عائشة: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام، وهو جنب؟ قالت: نعم، ولكن كان يتوضأ مثل وضوئه للصلاة.
وهذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات، وقد اقتصر على ذكر الوضوء للنوم، ولم يذكر غسل اليدين، وهي موافقة لرواية الزهري من طريق الليث وسفيان وابن جريج عنه، عن أبي سلمة.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/63) رقم 673 حدثنا ابن علية.
وأخرجه أحمد (6/128) حدثنا عبد الوهاب بن عطاء.
وأخرجه البخاري (286) حدثنا أبو نعيم.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/126) من طريق أبي داود، كلهم عن هشام الدستوائي به.
وأخرجه البخاري (286) من طريق شيبان.
وأخرجه الطحاوي (1/126) من طريق الأوزاعي،
وأخرجه الطيالسي (1485) عن حرب بن شداد.
وأخرجه أحمد (6/121) من طريق همام أربعتهم، عن يحيى بن أبي كثير به.
وأما طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة.
فأخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (6/216) حدثنا إسماعيل بن علية.
وأخرجه أيضاً (6/237) حدثنا يزيد، كلاهما عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به، بذكر الوضوء للنوم، ولم يذكر غسل اليد للأكل.
فبهذه الطرق عن أبي سلمة يتضح لنا شذوذ من روى غسل اليدين للجنب عند الأكل مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن المحفوظ أن هذا من قول عائشة رضي الله عنها، فهي مدرجة في الحديث، وأن حديث عائشة المرفوع يتفق مع حديث ابن عمر في سؤال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن نوم الجنب، وأن الجنب إذا أراد أن ينام فليتوضأ، وما زاد على ذلك فليس بمرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.(11/352)
دليل من قال: يستحب له الوضوء.
(1276-149) ما رواه مسلم، قال: من طريق ابن علية، ووكيع، وغندر، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود،(11/357)
عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة (1) .
[زيادة الوضوء للأكل انفرد به الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، وكان شعبة يرويه عن الحكم، ثم ترك ذكره بعد، قال الحافظ: ((لعله تركه بعد أن كان يحدث به؛ لتفرده بذكر الأكل كما حكاه الخلال عن أحمد)) ] (2) .
_________
(1) مسلم (305) .
(2) قول الحافظ: " لعله تركه لتفرده بذكر الأكل.. الخ " في تلخيص الحبير (1/140) ، وسوف أسوق كلام الإمام أحمد إن شاء الله تعالى نقلاً من كتاب الإمام لا بن دقيق العيد في ثنايا البحث.
وهذا الطريق (أعني: طريق الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة) سبق تخريجه عند الكلام على حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة في نومه - صلى الله عليه وسلم -، وهو جنب دون أن يمس ماء، ولم أشأ أن أتكلم عن هذه الزيادة هناك؛ لأن لها مناسبة أخرى سوف تأتي هنا، فالذي أراه أن وضوء الجنب للأكل ليس محفوظاً،
أولاً: أن الحديث قد رواه أبو سلمة وعروة، عن عائشة، ولم يذكروا الوضوء للأكل، ورواه الأسود، واختلف عليه فيه:
فرواه عبد الرحمن بن الأسود، وأبو إسحاق السبيعي عن الأسود، ولم يذكروا الوضوء للأكل، وقد سبق تخريج هذه الطرق عند الكلام على حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة: في نوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون أن يمس ماء.
ورواه إبراهيم، عن الأسود، واختلف عليه:
فرواه الحكم، عن إبراهيم به، بذكر الوضوء للأكل، تفرد به شعبة عنه.
قال النسائي في السنن النسائي الكبرى (9048) خالفه منصور، ثم ساقه مسنداً عنه، عن إبرهيم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة.
وهو يحتمل أنه أرسله إبراهيم، ويحتمل أنه أراد أي بالإسناد السابق: أي عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة به، ومع ذلك لم يذكر الوضوء للأكل.
ومنصور من أخص أصحاب إبراهيم رحمه الله تعالى، جاء في المنتخب من العلل للخلال (ص:325) : " قال مهنأ: سألت أحمد: أيهما أحب إليك إذ حُدَّث عن إبراهيم؟ فقال: منصور. قلت: كيف ذاك؟ قال: بلغني أن الأعمش كان إذا حُدِّث عن أصحاب إبراهيم تكلم، وإذا حدث عن منصور سكت.
قلت: كان الحكم ومنصور قرينان في الرواية عن إبراهيم، وهما مقدمان في غيرهما من أصحاب إبراهيم رحمه الله، وسواء كان التفرد من الحكم، أو من إبراهيم نفسه، فقد خالف غيره ممن روى الحديث عن الأسود، كما خالف كل من روى الحديث عن عائشة من غير طريق الأسود، وهذا هو المقصود.
ثانياً: أن الإمام أحمد رحمه الله ما كان يسوي بين وضوء الجنب للنوم، ووضوئه للأكل، مع أن حديث عائشة قد قرن بينهما في هذا الطريق، ففي مسائل أحمد رواية ابنه صالح (433) : وسألته عن الجنب يأكل، أو يشرب؟ قال: هو أسهل من النوم، والنوم يتوضأ ".
فهنا الإمام أحمد لم يجعل الوضوء للنوم والأكل سواء.
مع ما ذكره الخلال عن أحمد من تفرد شعبة بذكر الوضوء للأكل يدرك أن هذه الزيادة في النفس منها شيء.
وكان الإمام مالك أيضاً لا يسوى بين الوضوء للنوم، والوضوء للأكل، كما في المدونة (1/30) : قال مالك: لا ينام الجنب حتى يتوضأ، ولا بأس أن يعاود أهله قبل أن يتوضأ، قال: ولا بأس أن يأكل قبل أن يتوضأ ".
ثالثاً: أن شعبة، وهو الراوي لهذه الزيادة قد تركها عمداً في آخر الأمر.
قال أحمد بن حنبل كما في مسنده (6/191) : قال يحيى، يعني ابن سعيد القطان: ترك شعبة حديث الحكم في الجنب: " وإذا أراد أن يأكل توضأ ". اهـ
فإذا كان الرواي لهذه الزيادة قد تركها، وحذفها عمداً في آخر الأمر، فكيف لي أن أقبلها، خاصة مع ما ذكر من التفرد.
وفي الإمام لابن دقيق العيد (3/92) : " عن أحمد بن القاسم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: " إذا أراد أن ينام فليتوضأ وضوءه للصلاة على الحديث (ثم ينام) ، فأما إذا أراد أن يطعم، فليغسل يديه، ويمضمض، ويطعم؛ لأن الأحاديث في الوضوء لمن أراد النوم، قال: وبلغني أن شعبة ترك حديث الحكم بآخرة، فلم يحدث به في من أراد أن يطعم؛ وذلك لأنه ليس يقوله غيره، إنما هو في النوم ".
فهذا صريح من الإمام أحمد أن الحديث إنما هو في الوضوء للنوم فقط.
فتلخص لي من هذا، ومن التخريج السابق أن حديث عائشة يتفق عليه الرواة بذكر الوضوء للنوم، ويزيد بعضهم على بعض في غيره، وكل زيادة في هذا الحديث فهي إما زيادة شاذة كالوضوء للأكل، ونوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون أن يمس ماء، أو موقوفة على عائشة كغسل اليد للأكل أدرجها بعض الرواة ضمن الحديث المرفوع، ولله أعلم.
انظر أطراف المسند (9/20) ، إتحاف المهرة (21524) ، تحفة الأشراف (15926) .(11/358)
الدليل الثاني:
(1277-150) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن عمر بن هياج، حدثنا إسمعيل ابن صبيح، حدثنا أبو أويس، عن شرحبيل بن سعد،
عن جابر بن عبد الله قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجنب، هل ينام، أو يأكل، أو يشرب؟ قال: نعم إذا توضأ وضوءه للصلاة (1) .
[تفرد به أبو أويس، وليس بالقوي] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (592) .
(2) ورواه ابن خزيمة في صحيحه (217) من طريق إسماعيل بن إبان الوراق، قال: حدثنا أبو أويس المدني به. وانظر إتحاف المهرة (2711) ، تحفة الأشراف (2280) .
تفرد به أبو أويس: عبد الله بن عبد الله بن أويس، جاء في ترجمته:
قال ابن حبان: كان ممن يخطئ كثيراً، لم يفحش خطؤه حتى استحق الترك، ولا هو ممن سلك مسلك الثقات، فيسلك مسلكهم، والذي أرى في أمره، تنكب ما خالف الثقات من أخباره، والاحتجاج بما وافق الثقات منها. المجروحين (2/24) .
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني، وسئل عن أبي أويس، فقال: كان عند أصحابنا ضعيفاً. تاريخ بغداد (10/7) .
وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو عندهم من أهل الصدق. المرجع السابق.
وقال يعقوب بن شيبة: أبو أويس صدوق، وصالح الحديث، وإلى الضعف ما هو. المرجع السابق.
وقال أبو داود: صالح الحديث. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق.
وسئل الداقطني عن حديثه عن الزهري؟ فقال: في بعضها شيء. المرجع السابق.
وقال أحمد: ليس به بأس. الكامل (4/182) .
وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين: ليس بثقة. الجرح والتعديل (5/92) .
ونقل المزي في تهذيبه أقوالاً كثيرة ليحيى بن معين فيه، منها:
قال معاوية بن صالح عن يحيى: ليس بالقوي.
وقال يحيى في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة عنه: صالح، ولكن حديثه ليس بذاك الجائز.
وقال في موضع آخر: أبو أويس ضعيف، مثل فليح.
وقال في موضع آخر: أبو أويس وابنه ضعيفان. المرجع السابق.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي، عن يحيى بن معين: أبو أويس ضعيف، وفليح ضعيف ما أقربهما.
وقال عباس الدوري عن يحيى: صدوق، وليس بحجة. الجرح والتعديل (5/92) .
وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه، ولا يحتج به. الجرح والتعديل (5/92) .
وقال أبو زرعة: صالح صدوق، كأنه لين. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: ولأبي أويس غير ما ذكرت من الحديث، وفي أحاديثه ما يصح، ويوافقه والثقات عليه، ومنها ما لا يوافقه عليها أحد، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (4/183) .
وفي التقريب: صدوق يهم.
قلت: ومن هذا حاله، لا ينبغي أن يقبل تفرده، وقد انفرد في هذا الإسناد من حديث جابر.(11/360)
الدليل الثالث:
(1278-151) ما رواه الطبراني من طريق جابر بن يزيد الجعفي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أجنب لم يطعم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) مجمع البحرين (484) .
(2) في إسناده جابر بن يزيد الجعفي، وهو مشهور الضعف.(11/361)
الدليل الرابع:
(1279-152) ما رواه الطبراني من طريق إسحاق بن إبراهيم القرقساني، ثنا حجاج بن محمد، ثنا شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك،
عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً، وأراد أن يأكل أو ينام توضأ (1) .
[قال الطبراني: لم يروه عن قتادة إلا شعبة، ولا عنه إلا حجاج تفرد به إسحاق] (2) .
_________
(1) مجمع البحرين (485) .
(2) إسحاق بن إبراهيم القرقساني، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحاً، وقال: روى عنه أبو زرعة. الجرح والتعديل (2/209) .
وذكره ابن حبان في الثقات (8/121) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/274) : إسناده حسن.
قلت: قد روى الطحاوي (1/126) حدثنا علي بن شيبان، ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً بذكر الوضوء للنوم، وغسل الفرج، ولم يذكر الوضوء للأكل.
وخالفه يزيد بن هارون، فروى أحمد (6/237) عن يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة، بذكر الوضوء للنوم فقط.
وأخرجه أحمد بن حنبل أيضاً في مسنده (6/216) حدثنا إسماعيل بن علية، عن محمد ابن عمرو به، من مسند عائشة.
وكذا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، فقال: عن عائشة بذكر الوضوء للنوم. وتم تخريجه في هذه الفصل، والله أعلم.(11/362)
الراجح: بعد استعراض الأقوال نجد أن الأدلة بوجوب الوضوء للأكل ليست سالمة من علة التفرد أو المخالفة، والأصل براء الذمة، وعدم المشروعية حتى يأتي دليل صحيح صريح سالم من المخالفة، نقطع بموجبه أو يغلب على ظننا استحباب وضوء الجنب للأكل، وما لم نصل إلى ذلك فلا أرى الجزم بالمشروعية، والله أعلم.(11/363)
[صفحة فارغة](11/364)
الفصل العاشر
في استحباب الوضوء لمعاودة الوطء
اختلف العلماء في الوضوء من الجنب إذا رغب أن يعاود الوطء قبل الغسل،
فقيل: يستحب الوضوء، وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: يجب الوضوء، اختاره ابن حبيب من المالكية (3) ، وهو مذهب الظاهرية (4) .
وقيل: يستحب له غسل فرجه مطلقاً، سواء عاد إلى المرأة التي جامعها أو غيرها، وهذا مذهب المالكية (5) .
_________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم (3/217) ، المجموع (2/178) .
(2) المغني (1/144) ، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/148) ، كشاف القناع (1/157) ،
(3) فتح الباري (1/376) .
(4) قال ابن حزم في المحلى (1/102) : " إلا معاودة الجنب للجماع، فالوضوء فرض بينهما ". وذكر ابن حجر في الفتح أن القول بالوجوب هو مذهب الظاهرية (1/376) ، وكذا قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (3/218) .
(5) قال مالك في المدونة (1/30) : " لا ينام الجنب حتى يتوضأ، ولا بأس أن يعاود أهله قبل أن يتوضأ... ".
وفي التاج والإكليل (1/316) " يستحب له غسل فرجه، ومواضع النجاسة إذا أراد أن يعاود الجماع ". وانظر المنتقى شرح الموطأ للباجي (1/107) ، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/176) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/137) ، مواهب الجليل (4/13) .(11/365)
وقيل: يجب غسل فرجه، وهو مذهب إسحاق بن راهوية (1) .
وقيل: إن كانت الموطوءة أخرى وجب غسل الفرج، اختاره بعض المالكية (2) .
دليل من قال: يجب الوضوء لمعاودة الوطء.
(1280-153) ما رواه مسلم من طريق عاصم، عن أبي المتوكل،
عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ (3) .
وجه الاستدلال:
قوله: ((فليتوضأ)) أمر، والأصل في الأمر الوجوب.
دليل من قال: يستحب الوضوء.
دليله حديث أبي سعيد المتقدم، وإنما حملوه على الاستحباب للتعليل الوارد في بعض طرق الحديث،
(1281-154) فقد رواه ابن خزيمة من طريق مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي المتوكل،
_________
(1) فتح الباري (1/377) .
(2) قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/176) : " يندب للجنب أيضاً غسل فرجه إذا أراد العود للجماع، سواء كانت التي جامعها أو غيرها؛ لما فيه من إزالة النجاسة، وتقوية العضو. وقيل: إن كانت الموطوءة أخرى وجب الغسل؛ لئلا يؤذيها بنجاسة غيرها".اهـ
(3) صحيح مسلم (308) .(11/366)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أراد أحدكم العود فليتوضأ؛ فإنه أنشط له في العود (1) .
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (1/110) رقم 221. وأخرجه ابن حبان (1211) ، والحاكم في المستدرك (1/152) ، والبيهقي في السنن (1/204) ، والبغوي في شرح السنة (271) من طريق مسلم بن إبراهيم به.
وقد انفرد مسلم بن إبراهيم عن شعبة بهذه الزيادة.
ورواه أبو داود الطيالسي (2215) .
وأحمد (3/21) حدثنا محمد بن جعفر
والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/129) من طريق يوسف بن يعقوب،
وأخرجه ابن خزيمة (219) من طريق خالد بن الحارث، أربعتهم (محمد بن جعفر، والطيالسي، ويوسف بن يعقوب، وخالد بن الحارث) عن شعبة به، بدون ذكر هذه الزيادة.
ولا يقدم أحد من أصحاب شعبة على محمد بن جعفر، فكيف وقد وافقه ثلاثة.
كما رواه جماعة عن عاصم، فلم يذكروا ما ذكره مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، وإليك من وقفت عليه منهم.
الأول: سفيان بن عيينة كما في مسند أحمد (3/7) ، والحميدي (753) ، والنسائي في المجتبى (262) ، وفي الكبرى (258) ، وابن خزيمة (219، 220) .
الثاني: حفص بن غياث، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/79) وصحيح مسلم (308) وسنن أبي داود (220) ، وسنن الترمذي (141) ، والسنن الكبرى للنسائي (9039) ، وابن خزيمة (219) ، وسنن البيهقي (1/203) .
الثالث: أبو الأحوص، كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/129) ، وصحيح ابن حبان (1210) .
الرابع: ابن أبي زائدة، كما في سنن البيهقي (7/192) .
الخامس: عبد الله بن المبارك، كما في السنن الكبرى للنسائي (9038) .
السادس: عبد الواحد بن زياد، كما في سنن ابن ماجه (587) .
السابع: جرير، كما في مسند أبي يعلى (1164) .
الثامن: محاضر بن المورع، كما في مسند أحمد (3/28) ، وأبي عوانة (1/280) ، والبيهقي في السنن (1/203-204) ثمانيتهم، عن عاصم به، بدون ذكر فإنه أنشط للعود.
وقد ذهب الحاكم، والبيهقي إلى أنها زيادة محفوظة، فمن رأى ذلك مع هذا التفرد، فله أن يأخذ به، ومن لم ير ذلك فإن القواعد الحديثية تأبى قبولها، ولو كان المتفرد بها حافظ كبير مثل مسلم بن إبراهيم، والله أعلم.
وقد أخطأ الحاكم رحمه الله حين ظن أن المتفرد بكلمة (فإنه أنشط للعود) هو شعبة، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال في إتحاف المهرة (5/359) : " والمتفرد باللفظ مسلم بن إبراهيم، لا شيخه، فقد رواه غيره عن شعبة بدونها ". اهـ
وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: إتحاف المهرة (5581) ، تحفة الأشراف (4250) ، أطراف المسند (6/352) .(11/367)
فدل على أن الأمر للإرشاد، أو للندب؛ لأن تحصيل النشاط للعود ليس بواجب، فكذلك وسيلته، وهو الوضوء.
(1282-155) كما أنه يصرفه عن الوجوب بما رواه الطحاوي، من طريق يحيى بن أيوب، عن موسى بن عقبة وأبي حنيفة، عن أبي إسحاق، عن الأسود،
عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجامع، ثم يعود ولا يتوضأ، وينام ولا يغتسل (1) .
[انفرد بهذا اللفظ يحيى بن أيوب، عن موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، وكل من رواه عن أبي إسحاق لم يذكروه بهذا اللفظ، فلعل يحيى رواه بالمعنى، فأخطأ فيه] (2) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/127) .
(2) يحيى بن أيوب، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق ربما أخطأ.
وقد خالف يحيى جماعة، منهم: إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، والثوري، وأبو الأحوص، وزهير بن معاوية كلهم رووه عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة، فلم يذكروا معاودة الوطء أصلاً، وقد سبق تخريج روايتهم في فصل الوضوء لنوم الجنب، والله أعلم.(11/368)
دليل من قال: يغسل فرجه.
استدلوا بحديث أبي سعيد المتقدم، ولكنهم حملوا الأمر بالوضوء على الوضوء اللغوي، وهو غسل الفرج (1) .
وحملهم هذا خطأ؛ لأن كلام الشارع يحمل على الحقيقة الشرعية إذا أمكن، فإن تعذر حمله على الحقيقة الشرعية حمل على الحقيقة اللغوية، فإن تعذر أيضاً حمل على الحقيقة العرفية، ولا تترك الحقيقة الشرعية مع إمكان الحمل عليها، ولم يمنع من حمله على الحقيقة الشرعية مانع.
دليل من قال: يجب غسل فرجه إن كانت الموطوءة أخرى.
قالوا: إذا عاد إلى امرأة أخرى لوثها بنجاسة غيرها؛ لأن فرجه لا يسلم من النجاسة، وهذا لا يجوز، بخلاف تلويثها بنجاستها هي، فإنه يتسامح فيه حتى تتمكن من إزالته.
وهذا القول من المالكية مبني على قولهم بنجاسة المني، وهو قول مرجوح، بينت ضعفه في مباحث أحكام النجاسة، وفي كتاب آداب الخلاء في الاستنجاء من المني، وحتى على التنزل بأن المني نجس، فأين الدليل على تحريم التلوث بالنجاسة في مثل الجماع والاستنجاء ونحوهما، ولذلك قال الدسوقي في حاشيته: ((غاية ما يلزم عليه التلطخ بالنجاسة، وهو مكروه على المعتمد ولو بالنسبة للغير إذا رضي بها)) (2) .
_________
(1) المنتقى للباجي (1/107) .
(2) حاشية الدسوقي (1/138) .(11/369)
الراجح:
بعد استعراض أدلة الأقوال في المسألة نجد أن القول باستحباب الوضوء لمعاودة الوطء هو القول الراجح؛ لدلالة السنة عليه من حديث أبي سعيد؛ ولأنه قول وسط بين القائلين بوجوب الوضوء، وبين القائلين بأنه يغسل فرجه فقط، ولحديث ((ما أردت صلاة فأتوضأ)) ((إنما أمرتم بالوضوء للصلاة)) وسبق تخريجه والله أعلم.(11/370)
الفصل الحادي عشر
في طهارة جسد الجنب وعرقه
عرق الجنب وسؤره وبدنه طاهر، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: إن بدن الجنب نجس نجاسة حكمية، وهو مذهب أبي حنيفة (5) .
_________
(1) المبسوط (1/47،70) ، الجوهرة النيرة (1/21) ، بدائع الصنائع (1/67) .
(2) المدونة (1/26) ، المنتقى للباجي (1/106) ، شرح الزرقاني للموطأ (1/156) ، الاستذكار (1/299) ط: دار الكتب العلمية، تحقيق سالم عطاء ومحمد معوض.
(3) قال الشافعي في الأم (1/18) : " ولا ينجس عرق جنب ولا حائض من تحت منكب ولا مأبض، ولا موضع متغير من الجسد، ولا غير متغير، فإن قال قائل: وكيف لا ينجس عرق الجنب والحائض؟ قيل: بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحائض بغسل دم الحيض من ثوبها، ولم يأمرها بغسل الثوب كله، والثوب الذي فيه دم الحيض الإزار، ولا شك في كثرة العرق فيه". اهـ وانظر المجموع (2/171) .
(4) المغني (1/135) ، مجموع الفتاوى (21/58) .
(5) البناية (1/350) ، حاشية ابن عابدين (1/201) وذكر عن أبي حنيفة أنه لو نزل رجل محدث في بئر أن الماء والرجل نجسان "
وقال في البناية (1/351) : " رواية الحسن، عن أبي حنيفة، أن الماء المستعمل نجس نجاسة مغلظة، فسرها في المبسوط (1/46) : أي لا يعفى عنه أكثر من قدر الدرهم.
ثم قال العيني: ورواية أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه نجس نجاسة مخففة، فسرها بالمبسوط (1/46) أن التقدير فيه بالكثير الفاحش. والله أعلم.
وقد ذكرنا أدلة مذهبهم في كتاب المياه والآنية في مبحث (الماء المستعمل في رفع الحدث) وذكرنا الجواب عليها في مبحث طويل، فانظره هناك لزاماً.
وذكر النووي في المجموع (2/171) ، فقال: " وحكى أصحابنا، عن أبي يوسف، أن بدن الحائض نجس، فلو أصابت ماء قليلاً نجسته، وهذا النقل لا أظنه يصح عنه، فإن صح فهو، محجوج بالإجماع، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن حيضتك ليست في يدك " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن المسلم لا ينجس " رواهما البخاري ومسلم. اهـ(11/371)
الدليل على طهارة بدن الجنب وعرقه.
الدليل الأول:
(1283-156) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا حميد، قال: حدثنا بكر، عن أبي رافع،
عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طريق المدينة، وهو جنب، فانخنست منه، فذهب، فاغتسل، ثم جاء فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك، وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله إن المسلم لا ينجس. ورواه مسلم (1) .
الدليل الثاني:
من الإجماع، فقد حكى الإجماع بعض أهل العلم على طهارة بدن الجنب وعرقه وسؤره.
قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، ثبت ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وغيرهم (2) .
وقال ابن تيمية: ((متفق عليه بين الأئمة، أن بدن الجنب طاهر، وعرقه طاهر، والثوب الذي يكون فيه عرقه طاهر، ولو سقط الجنب في دهن، أو
_________
(1) البخاري (283) ، ومسلم (371) .
(2) المغني (1/135) .(11/372)
مائع لم ينجسه بلا نزاع بين الأئمة، بل وكذلك الحائض عرقها طاهر، وثوبها الذي يكون فيه عرقها طاهر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أذن للحائض أن تصلي في ثوبها الذي تحيض فيه، وأنها إذا رأت دماً أزالته، وصلت فيه" (1) .
وقد ذكرت لك أن في مذهب الحنفية قولاً بأن الجنب إذا انغمس في ماء قليل نجسه، مما يجعل المسألة خلافية، وليست محل إجماع.
دليل الحنفية على نجاسة بدن الجنب.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (2) .
والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة؛ إذ تطهير الطاهر لا يعقل (3) .
وأجيب:
أولاً: إنما سمي طهارة؛ لأنه يطهر العبد من الذنوب، لا أنه طهره من نجاسة حلت فيه؛ ولذلك لما اعتبر أبو هريرة حدثه نجاسة، بين له - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن المؤمن لا ينجس ". متفق عليه.
وقوله: ((لا ينجس" أى بمثل ذلك، وإلا فالمؤمن قد تطرأ عليه النجاسة الحسية كغيره.
وثانياً: تجديد الوضوء يسمى طهارة شرعية مع أنه متطهر.
_________
(1) الفتاوى الكبرى (1/226) .
(2) المائدة: 6.
(3) البناية بتصرف (1/350،351) .(11/373)
وثالثاً: لو كان المحدث نجساً، لما صح حمله فى الصلاة، وقد جاء في حديث أبي قتادة في الصحيحين: ((أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب " (1) .
ورابعاً: المغتسل لابد أن يتساقط عليه من الماء المستعمل، ومعنى هذا أنه سوف يتنجس به، وكذلك سوف يتنجس بما يصيب ثيابه وما يتنشف به.
الراجح:
أن بدن الجنب طاهر، وقد ثبتت طهارة من هو أغلظ من الجنب، أعني بذلك بدن الحائض، وإنما كانت الحائض أغلظ من الجنب، ذلك لأن الحائض قد اتصفت بالحدث الأكبر، وهو موجود في الجنب، واتصفت بنجاسة الخبث، وهو خروج الدم النجس منها، كما منعت من الصلاة والصيام، ومع ذلك فقد قام الدليل على طهارة بدن الحائض، فما بالك بالجنب.
قال النووي: " قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا قبلتها، ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة، وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها، أو غيره من محارمها، وترجيله، ولا يكره طبخها وعجنها، وغير ذلك من الصنائع، وسؤرها وعرقها طاهران. وكل هذا متفق عليه، وقد نقل الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري في كتابه (مذاهب العلماء) إجماع المسلمين على هذا كله ودلائله من السنة ظاهرة مشهورة " (2) .
_________
(1) البخاري (516) ، ومسلم (41 - 543) .
(2) شرح النووي لصحيح مسلم (3/267) .(11/374)
الفصل الثاني عشر
في انغماس الجنب في الماء الدائم
ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الانغماس في الماء الدائم، والإنسان جنب،
(1284-157) فقد روى مسلم في صحيحه من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه،
أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً (1) .
والبحث في هذا الحديث في مسألتين:
الأولى: حكم الانغماس في الماء الدائم من الجنب.
الثانية: أثر انغماس الجنب على الماء القليل.
_________
(1) مسلم (283) .(11/375)
[صفحة فارغة](11/376)
المبحث الأول
في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم
اختلف العلماء في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم،
فقيل: يحرم، وهو قول في مذهب أبي حنيفة (1) ، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (2) .
وقيل: يكره، وهو مذهب المالكية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة (5) .
وقيل: يجوز بلا كراهة بشرط أن يغسل عنه الأذى، وهو اختيار ابن القاسم من المالكية (6) .
وقيل: يجوز اغتسال الجنب في الماء الدائم ما لم يبل فيه، فإن بال فيه منع من الاغتسال (7) .
_________
(1) وهذا القول مبني على رواية في المذهب، تقول بنجاسة الماء المستعمل في رفع الحدث، قال في بدائع الصنائع (1/67) : " وجه رواية النجاسة ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلن فيه من جنابة " حَرُمَ الاغتسال في الماء القليل؛ لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام، فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة، لم يكن للنهي معنى؛ لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر فحرام.... ". الخ كلامه رحمه الله تعالى.
(2) المحلى (1/203) ، ورأى أن الغسل لا يجزئ.
(3) مواهب الجليل (1/75) ، الخرشي (1/76) ، حاشية الدسوقي (1/44) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/41) ، منح الجليل (1/39) .
(4) شرح النووي على صحيح مسلم (3/189) ، المجموع (2/108) .
(5) الفروع (1/116) ، الإنصاف (1/44،98) .
(6) المنتقى للباجي (1/108) .
(7) فتح الباري (1/347) .(11/377)
دليل من قال: يحرم الاغتسال في الماء الدائم.
(1285-158) ما رواه مسلم من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه،
أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاغتسال فيه، والأصل في النهي التحريم، ولا نصرفه للكراهة إلا بقرينة، ولا قرينة صارفة.
دليل من قال: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم للكراهة.
قال: إن بدن الجنب طاهر، وقد ذكرنا أن ذلك إجماع من أهل العلم في فصل مستقل، ولا يمكن أن ينجس الماء الطهور بملاقاة البدن الطاهر، فكان النهي لمعنى آخر غير معنى تنجس الماء بذلك.
فقيل: إن النهي عن الاغتسال فيه من أجل ألا يكون الماء مستعملاً، فيسلبه الطهورية، ويدل لذلك قول أبي هريرة حين سئل: كيف يفعل: قال: يتناوله تناولاً، فدل على أن المنع إنما هو من الانغماس فيه، لئلا يصير الماء مستعملاً، فيمتنع على الغير الانتفاع منه، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره، وهذا التعليل هو قول الجمهور كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في حكم أثر إنغماس الجنب على الماء في الفصل التالي (2) .
_________
(1) مسلم (283) .
(2) التعليل بأن النهي عن الاغتسال في الماء الدائم حتى لا يتحول إلى ماء مستعمل قول ضعيف لأمور:
أولاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل بأن الماء يكون مستعملاً، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قط بأن الماء يكون مستعملاً، فهذا الكلام زيادة على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: أن الحديث نص في الماء الدائم، وهو يشمل ما فوق القلتين، وما دون القلتين، وأنتم قلتم بأنه لا يكون مستعملاً إلا إذا كان دون القلتين، فهذه مخالفة ثانية للحديث.
ثالثاً: أن الحديث نهي عن الاغتسال، وذلك يعني غسل البدن كله، وأنتم أدخلتم حتى الوضوء، بل أدخلتم ما دون ذلك، وذلك كما لو أدخل بعض أعضائه ناوياً رفع الحدث، فإن الماء يكون مستعملاً عندكم: أي طاهر، غير مطهر، فالحديث نص في الحدث الأكبر، فخالفتم الحديث، فأدخلتم الحدث الأصغر، بل حتى ولو غمس بعض أعضاء الحدث الأصغر. وهذه مخالفة ثالثة للحديث مع أن أبا هريرة قد أرشد إلى تناول الماء باليد، وهو نوع من إدخال العضو فيه، والتفريق بين اليد وغيرها تفريق بين متماثلين.
رابعاً: الحديث نهى الجنب أن يغتسل في الماء ما دام جنباً، سواء نوى رفع الحدث، أو لم ينو؛ لأن معنى: " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " أي لا يغتسل حالة كونه جنباً، ولم يتطرق الحديث إلى اشتراط النية، وأنتم قلتم: لو انغمس، وهو جنب، ولم ينو رفع الحدث لايكون الماء مستعملاً، بل يبقى طهوراً، وهذه مخالفة رابعة.
فتبين أن تعليل النهي حتى لا يكون الماء مستعملاً تعليل ضعيف، والله أعلم.(11/378)
وقيل: نهى عن ذلك كراهة أن يستقذر الماء، فإن الطباع تنفر من الماء الراكد القليل إذا اغتسل فيه الجنب (1) .
وسواء كان لهذا المعنى أو ذاك، فإن مثل هذا لا يجعل النهي يبلغ مبلغ التحريم، وإنما هو الكراهة فقط.
دليل من قال: يجوز بلا كراهة بشرط غسل الأذى.
هذا القول من ابن القاسم مبني على أن ذكر الإنسان لا يسلم من المني والمذي، وهما نجسان في مذهب المالكية كما سنبينه إن شاء الله تعالى في باب
_________
(1) عون المعبود (1/101) .(11/379)
النجاسات. فإذا غسل الإنسان الأذى عنه أصبح بدنه طاهراً، فلا كراهة في هذه الحالة في انغماسه في الماء الدائم، لأن الماء لا ينجس إلا بملاقاته النجاسة، ولا نجاسة هنا.
وهذا قول ضعيف أيضاً؛ لأن النهي لو كان خوفاً من تلوث الماء بالنجاسة؛ لأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غسل الأذى قبل الاغتسال، خاصة وأنه يسن لمن أراد الغسل أن يغسل فرجه وما أصابه من أذى في أول غسله، فالنص النبوي مطلق، سواء غسل الأذى أو لم يغسله، ولا يجوز أن يخص النص العام ولا يقيد النص المطلق إلا بنص مثله.
دليل من قال: إن النهي عن الجمع بين البول والاغتسال.
(1286-159) استدلوا بما رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج،
أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه.
هذا القول خرجه أصحابه على إمكان نصب كلمة (يغتسل)
فقوله: ((ثم يغتسل فيه" وذلك على تقدير (أن) محذوفة بعد حرف العطف (ثم) وكأنهم جعلوا (ثم) مقام واو المعية، أي: وأن يغتسل فيه.
فكأنه نهى عن البول والاغتسال معاً، أي نهى عن الجمع بينهما، وليس فيه تعرض للبول مفرداً، أو للاغتسال مفرداً.
وهذا الحمل مبني على تجويز نصب كلمة (يغتسل) ، وتفسير النصب بأنه محمول على النهي عن الجمع بين البول والاغتسال.
والذي يدل على أن النصب إنما ذكره النحاة من باب التجويز، وليس من باب الرواية.(11/380)
قال ابن حجر: ((قال القرطبي: لا يجوز النصب؛ إذ لا تضمر أن بعد (ثم) وأجازه ابن مالك بإعطاء (ثم) حكم (الواو) وتعقبه النووي: بأن ذلك يقتضي أن يكون المنهي عنه الجمع بين الأمرين، دون إ فراد أحدهما، وضعفه ابن دقيق العيد، بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر" (1) .
فهذا واضح أن الكلام على التخريج اللغوي، وليس مبنياً على رواية محفوظة، رواها الرواة بالنصب، وقام النحويون بتخريجها بناء على ما حفظ من أفواه الرواة، فالمشهور في الحديث كما قال ابن حجر هو على رفع (ثم يغتسلُ فيه) (2) .
_________
(1) الفتح تحت رقم (238) .
(2) قال ابن حجر في الفتح تحت رقم (238) : " قوله: " ثم يغتسلُ فيه " بضم اللام على المشهور ".
فيكون قوله (ثم يغتسل فيه) : خرج مخرج التعليل، أي: لا تبل في هذا الماء الراكد؛ لأنه ليس من الحزم، ولا من المروءة أن تبول فيه، وأنت ستحتاجه عما قليل لغسل أو وضوء أو غيره.
فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن زمعة مرفوعاً " لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم " رواه البخاري (5204) .
وفي رواية لمسلم (2855) : إلام يجلد أحدكم امرأته جلد العبد - وفي رواية: الأمة - ولعلها يضاجعها من آخر يومه.
وهذا الحديث لم يروه أحد بالجزم؛ لأن المراد النهي عن الضرب؛ لأنه يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها، فتمتنع لإساءته إليها، فلا يحصل له مقصوده.
وهناك طريق آخر عند أبي داود، قال فيه: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة " فيكون الحديث فيه النهي عن كل واحد منهما مستقلاً، والجمع بين النهي عن البول في الماء الدائم والنهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، ولو لم يبل فيه جمع بيهما ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وليس النقاش في ثبوت النهي عن الاغتسال في الماء الدائم للجنب، وإنما جمع الحديثين في حديث واحد انفرد به ابن عجلان في سائر من روى الحديث، وانفراده يوجب ريبة أن الحديث بهذا اللفظ لم يثبت، وقد اختلف على ابن عجلان أيضاً في إسناده. كما روى الحديث جماعة عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما، لم يذكروا ما ذكره محمد بن عجلان: منهم: محمد بن سيرين، وهو من أثبت أصحاب أبي هريرة، وهمام، والأعرج من غير طريق ابن عجلان، وحميد بن عبد الرحمن، وخلاس بن عمرو، وعطاء بن مينا، وأبو عثمان مولى المغيرة بن شعبة، وأبو مريم، فهؤلاء ثمانية رواة رووه عن أبي هريرة، ولم يقل واحد منهم ما قاله ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن أبي هريرة بجمعه حديثين في حديث واحد، وإذا أحببت أن تقف على بيان تخريج ذلك من مصادر كتب السنة فانظر تخريجه في كتاب أحكام الطهارة من هذه السلسلة (أحكام المياه والآنية) في فصل: حكم الماء المستعمل في رفع الحدث. والله أعلم.(11/381)
وعلى فرض أن اللفظ ورد بالنصب، فإنه لا يمكن منع أنه ثبت في صحيح مسلم من طريقين مستقلين:
النهي عن البول في الماء الراكد من حديث جابر، والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم، وهو جنب دون تعرض للبول.
فيكون قد ورد النهي عن البول منفرداً، وعن الاغتسال منفرداً، وعن الجمع بينهما على تقدير أن تكون رواية النصب محفوظة، والله أعلم..
الراجح:
بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بأن اغتسال الجنب في الماء الدائم مكروه، وليس بحرام، هو القول القوي من حيث التعليل، كما أن هذا القول وسط بين قولين: القول بالتحريم مطلقاً، والقول بالجواز إذا غسل ما به من أذى، والله أعلم.(11/382)
المبحث الثاني
أثر انغماس الجنب على الماء القليل
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الجنب إذا انغمس في ماء قليل تحول الماء إلى ماء مستعمل،
وسبق لنا أن بينا في مباحث المياه متى يكون الماء مستعملاً؟
وذكرنا أن: الماء المتقاطر من أعضاء الوضوء في رفع الحدث مستعمل بالاتفاق.
وأما إذا غمس يده في ماء بنية رفع الحدث، فهل يكون مستعملاً؟
قالوا: إذا كان الماء قليلاً كان مستعملاً.
واختلفوا في حد القليل:
فيرى الحنفية أن الجنب إذا انغمس في البئر بنية رفع الحدث فسد الماء، وإن انغمس لطلب الدلو فسد الماء على رأي أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه.
ومعنى هذا أن البئر في حد القليل عندهم.
وأما المالكية فيرون اليسير كآنية الوضوء والغسل، فإن غمس يده فيها صار مستعملاً، وإن كان أكثر من ذلك لم يكن مستعملاً.
والشافعية والحنابلة يحدون القليل بما دون القلتين، فإن انغمس في ماء دون القلتين صار مستعملاً، وإلا فلا.
ولا يكون الماء مستعملاً إذا أدخل يده في الإناء ليغترف منها.
وقيل: بشرط أن يدخلها بنية الاغتراف (1) .
_________
(1) انظر العزو إلى كتب المذاهب في مباحث (كتاب المياه - والآنية) فصل: في حكم الماء المستعمل.(11/383)
إذا عرفنا هذا نأتي إلى الأقوال في حكم الماء القليل إذا استعمل في رفع الجنابة، كما لو انغمس فيه جنب بنية رفع الحدث،
فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة (1) ، واختارها أبو يوسف (2) .
وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية (3) .
وقيل: إنه طاهر غير مطهر، وهو الرواية المشهورة عن أبي حنيفة، وعليه الفتوى (4) ،
_________
(1) البناية (1/350) ، حاشية ابن عابدين (1/201) وذكر عن أبي حنيفة أنه لو نزل رجل محدث في بئر أن الماء والرجل نجسان "
وقال في البناية (1/351) : " رواية الحسن عن أبي حنيفة أن الماء المستعمل نجس نجاسة مغلظة، فسرها في المبسوط (1/46) : أي لا يعفى عنه أكثر من قدر الدرهم.
ثم قال العيني: ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه نجس نجاسة مخففة، فسرها بالمبسوط (1/46) أن التقدير فيه بالكثير الفاحش. والله أعلم.
(2) المراجع السابقة.
(3) الشرح الصغير (1/37) ، حاشية الدسوقي (1/37) ، بداية المجتهد مع الهداي في تخريج أحاديث البداية (1/274) .
والكراهة مقيدة بأمرين:
الأول: أن يكون ذلك الماء قليلاً كآنية الوضوء والغسل.
الثاني: أن يوجد غيره، وإلا فلا كراهة.
(4) انظر شرح فتح القدير (1/87) ، والمبسوط (1/46) ، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/200، 201) ، قال العيني في البناية (1/349) : ورواه زفر رحمه الله أيضاً عن أبي حنيفة يعني، كونه طاهراً، ثم قال: حتى كان قاضي القضاة أبو حازم عبد الحميد العراقي يقول: ارجو أن لا تثبت رواية النجاسة فيه عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر، قال في المحيط: وهو الأشهر الأقيس. قال في المفيد: وهو الصحيح. قال الاسبيجابي: وعليه الفتوى(11/384)
ومذهب الشافعية (1) ،
والحنابلة (2) ، واختيار محمد بن الحسن من الحنفية (3) .
وقيل: طهور بلا كراهة، وهو رواية عن أحمد (4) ، ورجحها ابن حزم (5) ،
_________
(1) الأم (8/100) ، الروضة (1/7) ، وقال النووي في المجموع (1/202) : " قال الشيخ أبو حامد: نص الشافعي في جميع كتبه القديمة والجديدة، أن المستعمل ليس بطهور ".
وقال الماوردي: الماء المستعمل في رفع الحدث، وهو ما انفصل من أعضاء المحدث في وضوئه، أو من بدن الجنب في غسله، فذهب الشافعي المنصوص عليه في كتبه القديمة والجديدة، وما نقله عنه جميع أصحابه سماعاً، ورواية، أنه طاهر مطهر. هكذا في الحاوي (1/296) ، وهذه العبارة نصها نقلها النووي إلا أنه قال: " وما نقله جميع أصحابه سماعاً ورواية أنه غير طهور ". المجموع (1/203) .
وعبارة النووي أصوب؛ لما عرف من مذهب الشافعي رحمه الله.
ولذلك قال الماوردي بعد العبارة السابقة مما يبين أنها خطأ، قال: فكان أبو إسحاق المروزي، وأبو حامد المروزي يخرجان الماء المستعمل على قولين:
الأول: أنه طاهر غير مطهر، وهو ما صرح به في جميع كتبه، ونقله جمهور أصحابه. اهـ
فهذا يدل على خطأ في النص السابق، ولم ينتبه له محقق الكتاب - إن لم يكن الخطأ من الناسخ - ثم قال: والثاني: أنه طاهر مطهر، وهو ما حكاه عيسى بن أبان، ودلت عليه رواية أبي ثور، وكان أبو العباس، وابن أبي هريرة يمنعان من تخريج القولين، ويعدلان عن رواية عيسى؛ لأنه وإن كان ثقة، فهو مخالف لما يحكيه أصحاب الخلاف، ولم يلق الشافعي فيحكيه سماعاً من لفظه، ولا هو منصوصه، فيأخذ من كتبه، ولعله تأول كلامه في نصرة طهارته رداً على أبي يوسف فحمله على جواز الطهارة به. الخ كلامه.
(2) الإنصاف (1/35،36) ، كشاف القناع (1/32) ، شرح منتهى الإرادات (1/14) .
(3) شرح فتح القدير (1/87) ، والمبسوط (1/46) ، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/200، 201) ، البناية (1/349) .
(4) الكافي (1/5) ، المبدع (1/44) ، وقال صاحب الانصاف (1/36) : وهو أقوى في النظر.
(5) المحلى (1/183) .(11/385)
وابن تيمية (1) ، وابن عبد الهادي (2) ، والشوكاني (3) ، وغيرهم.
وقد ذكرت دليل كل قول، والراجح من الأقوال في كتاب أحكام المياه والآنية، فأغنى عن إعادته مرة أخرى، وذهبت إلى أن الراجح أن الماء المستعمل في غسل الجنابة طهور غير مكروه.
_________
(1) الاختيارات للبعلي (ص: 3) ، ومجموع الفتاوى (20/519) .
(2) التنقيح (1/211) .
(3) نيل الأوطار (1/44) .(11/386)
الفصل الثالث عشر
في ذبيحة الجنب
ذهب الأئمة الأربعة (1) إلى جواز أكل ذبيحة الجنب.
وقيل: تكره، وهو رواية عن أحمد (2) .
وقال عكرمة وقتادة: يذبح الجنب إذا توضأ (3) .
والصحيح جواز ذبيحة الجنب بلا كراهة، لأدلة منها:
الدليل الأول:
القياس الجلي على ذبيحة الكتابي، فإذا كان القرآن قد نص على جواز ذبيحة أهل الكتاب، مع نص القرآن على أنهم مشركون، وأنجاس.
قال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} (4) . مع قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (5) .
_________
(1) انظر مواهب الجليل (3/209) ، والمجموع (9/88) ، والمغني (9/322) ، شرح منتهى الإرادات (3/418) ، مطالب أولي النهى (6/329) .
(2) قال في الإنصاف (10/389) : " وعنه - يعني عن الإمام - تكره ذبيحة الأقلف، والجنب، والحائض، والنفساء ".
(3) المحلى (6/143) ، قلت: وقد ذكر عن عكرمة وقتادة أن الجنب لا يذبح، ولو توضأ، انظر مواهب الجليل (3/209) ، ولا أعلم صحة إسناده عنهما.
(4) المائدة:
(5) التوبة: 28.(11/387)
والنصارى من جملة المشركين؛ لأنهم يعتقدون بأن الله ثالث ثلاثة، وأن المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام إله من دون الله، فكون ذبيحة الجنب تجوز من باب أولى فأولى، ثم أولى فأولى، وقد نصت السنة بأن المؤمن الجنب ليس بنجس، كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين، قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت ثم جئت، وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له، فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس (1) .
الدليل الثاني:
نقل بعض أهل العلم الإجماع على جواز ذبيحة الجنب
قال النووي: ((نقل ابن المنذر الاتفاق على حل ذبيحة الجنب، قال: وإذا دل القرآن على حل ذبيحة الكتابي، مع أنه نجس، فالذي نفت السنة عنه النجاسة أولى)) (2) .
وقال ابن قدامة: وإن كان جنباً جاز له أن يسمي ويذبح، وذلك أن الجنب تجوز له التسمية، ولا يمنع منها؛ لأنه إنما يمنع من القرآن، لا من الذكر، ولهذا تشرع له التسمية عند اغتساله، وليست الجنابة أعظم من الكفر، والكافر يسمي ويذبح، وممن رخص في ذبح الجنب: الحسن، والحكم، والليث، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً منع من ذلك (3) .
_________
(1) رواه البخاري (285) ومسلم (371) .
(2) المجموع (9/88) .
(3) المغني (9/331) .(11/388)
(1321-194) وقد روى البخاري في صحيحه من طريق عبيد الله، عن نافع، أنه سمع ابن كعب بن مالك يحدث عن أبيه، أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتاَ، فكسرت حجراً، فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من يسأله، وأنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذاك، أو أرسل، فأمره بأكلها (1) .
وجه الاستدلال من الحديث:
ففي هذا الحديث دليل على جواز إباحة ذبيحة المرأة، والحائض، والجنب، أما المرأة فظاهر، وأما الحائض، فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل، هل المرأة كانت حائضاً أم لا؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وإذا جازت من الحائض جازت من الجنب، لأن الحيض أشد، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (2304) .(11/389)
[صفحة فارغة](11/390)
الباب الرابع
في آداب الغسل
الفصل الأول
في عدم الإسراف في الماء مع إحكام الغسل
سبق أن ذكرنا الأقوال في مقدار ماء الوضوء، في كتاب الوضوء، ونبين هنا الأقوال في مقدار ماء الغسل،
فالجمهور على كراهة الإسراف في ماء الغسل (1) .
وقيل: يحرم الإسراف فيه، اختاره البغوي والمتولي من الشافعية (2) .
كما أن الفقهاء متفقون على أنه لا يشترط قدر معين في ماء الغسل، لا يجوز النقص عنه، ولا الزيادة عليه، فإذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان.
قال النووي: ((أجمعت الأمة على أن ماء الوضوء والغسل لا يشترط فيه قدر معين، بل إذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان، وممن نقل الإجماع فيه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري " (3) .
_________
(1) قال البخاري في صحيحه، في كتاب الوضوء: وكره أهل العلم الإسراف فيه.
وقال النووي في المجموع (2/220) : واتفق أصحابنا وغيرهم على ذم الإسراف في الماء في الوضوء والغسل، وقال البخاري في صحيحه: كره أهل العلم الإسراف فيه، والمشهور أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال البغوي والمتولي: حرام...".
(2) انظر المجموع (2/220) .
(3) المجموع (2/219) .(11/391)
وإذا قلنا لا يشترط قدر معين في ماء الغسل، فهل يستحب الصاع؟
فقيل: الصاع أدنى ما يكفي في الغسل، وهل يكفي الصاع حتى لو جمع بين الوضوء والغسل؟ أو الصاع يكفي إن ترك الوضوء، فإن توضأ قبل الغسل زاد على الصاع مداً للوضوء؟ قولان في مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يستحب أن يغتسل بالصاع، وهو مذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: لا تقدير في ماء الغسل مطلقاً، وهو مذهب المالكية (4) .
وقيل: لا يجزئ في الغسل أقل من صاع، اختاره شعبان من المالكية (5) ، وبعض الشافعية (6) .
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/ 35) : وأما بيان مقدار الماء الذي يغتسل فيه، فقد ذكر في ظاهر الرواية، وقال: أدنى ما يكفي في الغسل من الماء صاع، وفي الوضوء مد " ثم قال: "وهذا التقدير الذي ذكره محمد، من الصاع والمد في الوضوء، ليس بتقدير لازم، بحيث لا يجوز النقصان عنه، أو الزيادة عليه، بل هو بيان مقدار أدنى الكفاية عادة، حتى إن من أسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك أجزأه ". اهـ وانظر المبسوط (1/45) ، الفتاوى الهندية (1/16)
(2) قال في المجموع (1/492) : " ماء الوضوء والغسل غير مقدر، لكن يستحب أن لا ينقص في الوضوء عن مد، ولا في الغسل عن صاع، والإسراف مكروه بالاتفاق...
(3) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/309) ، الفروع (1/205) ، شرح منتهى الإرادات (1/87) ، كشاف القناع (1/155) .
(4) مواهب الجليل (1/256) ،
(5) مواهب الجليل (1/256) .
(6) المجموع (2/219) .(11/392)
دليل من قال: باستحباب الصاع للغسل:
الدليل الأول:
(1287-160) ما رواه البخاري، من طريق أبي جعفر،
أنه كان عند جابر بن عبد الله هو وأبوه، وعنده قوم، فسألوه عن الغسل؟ فقال: يكفيك صاع؟ فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعراً، وخير منك، ثم أمنا في ثوب (1) .
الدليل الثاني:
(1288-161) ما رواه مسلم من طريق أبي ريحانة،
عن سفينة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسله الصاع من الماء من الجنابة، ويوضئه المد (2) .
الدليل الثالث:
(1289-162) ما رواه الشيخان من طريق عبد الله بن عبد الله بن جبر، قال:
سمعت أنساً يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. رواه البخاري (3) ، ومسلم (4) .
_________
(1) البخاري (252) .
(2) مسلم (336) .
(3) البخاري (201) .
(4) مسلم (326) .(11/393)
دليل من قال: لا تقدير في ماء الغسل.
استدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
الإجماع، قال ابن عبد البر: ((أجمعوا على أن الماء لا يكال للوضوء، ولا للغسل، من قال منهم بحديث المد والصاع، ومن قال بحديث الفرق، لا يختلفون أنه لا يكال الماء لوضوء ولا غسل، لا أعلم في ذلك خلافاً، ولو كانت الآثار في ذلك على التحديد الذي لا يتجاوز استحباباً، أو وجوباً، ما كرهوا الكيل، بل كانوا يستحبونه اقتداء وتأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكرهونه" (1) .
الدليل الثاني:
أن النصوص الواردة في مقدار الماء الذي يغتسل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت بمقادير متفاوتة، وهذا دليل على أنه ليس هناك مقدار معين يمكن استحبابه، بل المطلوب هو إحكام الغسل، مع قلة الماء.
(1290-163) منها ما رواه مسلم من طريق حفصة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر،
أن عائشة أخبرتها، أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد، يسع ثلاثة أمداد، أو قريباً من ذلك (2) .
(1291-164) ومنها ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن عروة،
_________
(1) التمهيد (8/105) .
(2) مسلم (321) .(11/394)
عن عائشة قالت كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من قدح يقال له الفرق. ورواه مسلم (1) .
قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع (2) .
قال ابن حجر: ((فهذا يدل على اختلاف الحال بقدر الحاجة، وفيه رد على من قدر الوضوء والغسل بالمد والصاع، كابن شعبان من المالكية، وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع " (3) .
دليل من قال: لا يجزئ أقل من صاع.
استدلوا بحديث أنس في الصحيحين وتقدم ذكره، وليس فيه تحديد، بل ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اغتسل بأقل من صاع، كما ذكرت ذلك في أدلة المالكية.
الراجح من الخلاف:
مذهب المالكية أقوى من غيرهم، وأن الوارد لم يكن على سبيل استحباب التحديد؛ وذلك لأن الناس يختلفون في هذا، فهناك من الناس من هو معتدل الخلقة، ومنهم النحيف، ومنهم المتفاحش الخلق طولاً وعرضاً، ومنهم صاحب الشعر الكثير، ومنهم غير ذلك، فاستحباب مقدار معين لكل الناس على اختلاف خلقتهم قول ضعيف، فالأولى أن يقال كما قال المالكية: المستحب إحكام الغسل، مع قلة الماء، بأي مقدار تحقق ذلك، فقد حقق السنة، الله أعلم.
_________
(1) البخاري (250) ، ومسلم (319) .
(2) الفتح تحت رقم (201) .
(3) فتح الباري تحت رقم (201) .(11/395)
[صفحة فارغة](11/396)
الفصل الثاني
من آداب الغسل أن يستتر عن أعين الناس
والستر تارة يكون للبدن، وتارة يكون للعورة، وحرصاً على هذا الأدب تكلم الفقهاء في هاتين المسألتين، وتعرضوا للكلام عليهما في حكم دخول الحمام؛ لأنه يلزم من دخول الحمام غالباً، أن يتعرض: إما لكشف عورته، أو النظر إلى عورة الآخرين ممن يتساهل في سترها،، وسوف أسوق البحث في هذه المسائل الثلاث في حكم ستر العورة، وفي حكم ستر البدن حال الغسل، وفي حكم دخول الحمام.(11/397)
[صفحة فارغة](11/398)
المبحث الأول
في حكم ستر العورة
الفرع الأول
ستر العورة عن النظر إليها من الأجانب
أما ستر العورة عن النظر إليها فهو واجب، ويحرم على المسلم أن يكشف عورته لناظر من غير حاجة (1) .
وهو أمر مجمع عليه، قال النووي: ((ستر العورة عن العيون واجب بالإجماع " (2) .
ومستند الإجماع كتاب الله وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم -،
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (2/185) ، شرح معاني الآثار (1/476) ، المبسوط (10/155) ، العناية شرح الهداية (10/28) ، درر الحكام (1/313،314) ، واعتبر الزيلعي النظر إلى عورة الغير موجباً للفسق، انظر تبيين الحقائق (3/194) .
وانظر في مذهب المالكية: حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/736) ، والخرشي (1/246) ، حاشية العدوي (2/456) ، المنتقى شرح الموطأ (2/2) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/237) ، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/115) ، وطرح التثريب (2/227) و (6/103) ، وحاشيتا قليوبي وعميرة (4/320) .
وانظر في مذهب الحنابلة: الفتاوى الكبرى (1/284،300) ، الإنصاف (8/28) ، كشاف القناع (1/265) .
(2) المجموع (3/171) .(11/399)
أما الكتاب فقال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} (1) .
(1292-165) ومن السنة: روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، عن الضحاك بن عثمان قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري،
عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد (2) .
بقي للبحث مسألة كشف العورة، والإنسان خالٍ من غير حاجة، وكشف العورة للحاجة كما لو كشفها للغسل، وهذا الكشف يعبر عنه بالحاجة، وليس بالضرورة؛ لأنه يمكنه أن يغتسل بدون كشف العورة، كما لو اغتسل، وهو متسرول، وهاتان المسألتان قد خصصت لهما مباحث مستقلة، لوجود الخلاف فيها، والله أعلم.
_________
(1) النور: 30.
(2) صحيح مسلم (338) .(11/400)
الفرع الثاني
في كشف العورة بالخلوة من غير حاجة
أختلف أهل العلم في حكم كشف العورة بالخلوة من غير حاجة.
فقيل: يكره، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، ووجه في مذهب الشافعية (3) .
وقيل: لا يجوز، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (4) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (5) ، وقول في مذهب الحنفية (6) .
_________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 36) ، المبسوط (30/265) ، البحر الرائق (8/219) ، الكسب (ص: 77) .
(2) الفواكه الدواني (2/595) ، حاشية العدوي (2/595) .
(3) طرح التثريب (2/227) .
(4) قال النووي في شرح صحيح مسلم (4/32) : " وأما كشف الرجل عورته في حال الخلوة، بحيث لا يراه آدمي، فإن كان لحاجته جاز، وإن كان لغير حاجته ففيه خلاف بين العلماء في كراهته وتحريمه، والأصح عندنا أنه حرام". وانظر شرح زبد ابن رسلان (ص:59) .
وفي كتاب أسنى المطالب (1/176) " قال صاحب الذخائر: يجوز كشف العورة في الخلوة لأدنى غرض، ولا يشترط حصول الحاجة، ومن الأغراض كشف العورة للتبريد، وصيانة الثوب من الأدناس والغبار عند كنس البيت وغيره، وهي فائدة جليلة نقلها ابن العماد ".اهـ
(5) الفروع (1/329) ، الآداب الشرعية لابن مفلح (3/322) ، مجموع الفتاوى (21/247) ، كشاف القناع (1/264) .
(6) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 36) .(11/401)
دليل من قال بالتحريم:
(1293-166) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم، عن بهز قال: حدثني أبي،
عن جدي قال: قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها، وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك. قال، قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه.
حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز فذكر مثله قال فالله عز وجل أحق أن يستحيا منه، ووضع يده على فرجه (1) .
[إسناده حسن، وسبق تخريجه] (2) .
وجه الاستدلال:
قال ابن حجر: ((ظاهر حديث بهز يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقاً".اهـ
قلت: لأن وجوب ستر العورة عن الناس لا ينازع فيه أحد، فإذا كان الله أحق أن يستحيا منه من الناس، كان ستر العورة خالياً أولى بالمنع هذا ما يفيده قوله: ((فالله أحق" كما استُدِلَ به في قوله: ((اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء"
_________
(1) المسند (5/3،4) .
(2) انظر من هذه السلسلة كتاب أحكام الطهارة (آداب الاستنجاء) رقم (250) .(11/402)
(1294-167) فقد روى البخاري، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إن أختي قد نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان عليها دين، أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقض الله، فهو أحق بالقضاء (1) .
وكونه ثبت عن موسى وأيوب عليهما السلام اغتسالهما عريانين، فهذا في شريعتهما، وقد جاء في شريعتنا ما يدل على وجوب ستر العورة خالياً.
قال الشوكاني: أصل ستر العورة الوجوب، فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة، كما يكون عند خروج الحاجة، فالاستتار قبل حالة الخروج واجب، فيكشف عورته حالا الانحطاط لخروج الخارج، لا حال كونه قائماً، ولا حال كونه ماشياً إلى قضاء الحاجة (2) . اهـ
وممكن أن يجاب:
بأن يقال: قوله: ((فالله أحق بالقضاء " هذا التعبير لا يدل على الوجوب، فالصيام عن الميت، ووفاء نذره لا يجب على غير الميت، ولكن القضاء عنه من الوفاء له، والبر به، لأن الأصل في العبادة أنها واجبة على الإنسان نفسه، لكن إن تطوع أحد من الورثة كان محسناً، فلا يدل تعبير ((فالله أحق" على وجوب قضاء العبادة عن الميت، وبالتالي لا يدل على وجوب ستر العورة، والإنسان خالياً، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (6699) .
(2) السيل الجرار (1/64) .(11/403)
دليل من قال: يستحب ولا يجب.
عورة الإنسان بضعة منه، ولا يحرم عليه النظر إلى أي جزء من جسمه، فكما أنه يباح له النظر إلى عورة زوجته، وما ملكت يمينه، فعورته أولى بالجواز، وتحريم النظر إلى عورة الغير هي من باب تحريم الوسائل، حتى لا يكون وسيلة إلى الوقوع في المحرم، وهذا منتف في نظره إلى عورته، وإنما يستحب الستر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فالله أحق أن يستحيا منه ".
الراجح:
القول باستحباب ستر العورة إذا كان الإنسان خالياً أقوى من حيث النظر، والله أعلم.(11/404)
الفرع الثالث
في كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خالياً
اختلف الفقهاء في حكم كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خالياً،
فقيل: بالجواز، والستر أفضل، وهو مذهب الأئمة الربعة (1) ، واختاره البخاري رحمه الله تعالى (2) .
وقيل: لا يجوز، اختاره ابن أبي ليلى (3) .
دليل من قال بالجواز.
(1295-168) ما رواه البخاري من طريق معمر، عن همام بن منبه،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر،
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (30/265) البحر الرائق (8/219) ، الكسب (ص: 77) .
وفي مذهب المالكية، انظر حاشية العدوي (2/595) ، الفواكه الداني (2/311) .
وفي مذهب الشافعية، انظر طرح التثريب (2/226) ، المجموع (2/227) و (3/171) إعانة الطالبين (1/80) ، شرح زبد ابن رسلان (ص: 59) .
وفي مذهب الحنابلة، انظر الإنصاف (1/447) ، الفتاوى الفقهية الكبرى (1/48) ، المغني (1/147) ، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/247) ، المغني (1/146) ..
(2) المجموع (2/228) .
(3) طرح التثريب (2/225) .(11/405)
حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، فقال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر (1) .
وجه الاستدلال:
أن موسى عليه الصلاة والسلام اغتسل عرياناً، وهذا وإن كان في شرع من قبلنا، إلا أنه لم يأت في شرعنا ما ينسخه، ولو كان الاغتسال عرياناً في الخلوة منافياً للآداب لمنع منه الأنبياء.
وقال الشوكاني: ((وجه الدلالة منه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قص القصتين، ولم يتعقب شيئاً منهما، فدل على موافقتهما لشرعنا، وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق لبينه " (2) .
الدليل الثاني:
(1296-169) ما رواه البخاري من طريق معمر، عن همام،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك (3) .
وجه الاستدلال:
وجه الاستدلال منه كالاستدلال بالحديث السابق سواء بسواء.
_________
(1) صحيح البخاري (278) ، ومسلم (339) .
(2) نيل الأوطار (1/318) .
(3) البخاري (7493) .(11/406)
الدليل الثالث:
الاغتسال عرياناً غاية ما فيه أن يكون محرماً، وكل ما كان محرماً لغيره تبيحه الحاجة، وإن لم تكن ضرورة، انظر النظر إلى العورة في الختان، والنظر إلى العورة في التداوي، بل أباح الشرع ربا الفضل كما في بيع العرايا لحاجة التفكه، فالحاجة إلى الاغتسال عرياناً محافظة على ثيابه من البلل، وعلى بدنه من البرد يكفي في إباحة التعري للاغتسال، والله أعلم.
دليل من قال: يحرم التعري للاغتسال.
الدليل الأول:
(1297-170) حديث بهز بن حكيم، قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها، وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك. قال، قلت: يا رسول الله، فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه.
فإذا كان التعري حال الخلوة محرماً، فكذلك التعري حال الاغتسال، لأنه تعر حال الخلوة، وليس هناك ضرورة بحيث يباح التعري للاغتسال، فيمكنه أن يغتسل، وهو متزر أو عليه سراويل.
وسبق الجواب عن هذا الحديث بالمسألة التي قبل هذه.
الدليل الثاني:
(1298-171) ما رواه ابن عدي، من طريق يحيى بن سعيد، ثنا أبو الزبير،(11/407)
عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل أحدكم الماء إلا بمئزر؛ فإن للماء عامراً (1) .
[ضعيف جداً أو موضوع] (2) .
الراجح:
بعد استعراض أدلة القولين، نجد أن القول بجواز الاغتسال عرياناً هو الأقوى من حيث الدلالة، وهو الذي يليق بالفتوى، فإن المنع فيه تضييق على الناس، مع أنه لا يدفع مفسدة، ولا يحقق مصلحة، ويكفي أن الجواز قد دل عليه فعل موسى عليه الصلاة والسلام، وهو من أولى العزم من الرسل، ولو كان منافياً للفطرة، أو مخالفاً للمرؤة لكان أبعد ما يكون عنه أنبياء الله سبحانه وتعالى، والله أعلم.
_________
(1) الكامل في ضعفاء الرجال (7/194) .
(2) في إسناده يحيى بن سعيد، قال النسائي: يروي عن الزهري أحاديث موضوعة. الكامل (7/194) .
وقال البخار ي وأبو حاتم: منكر الحديث. لسان الميزان (6/258) .(11/408)
المبحث الثاني
في ستر سائر البدن حال الغسل
تكلمت فيما سبق في ستر العورة، وبقي الكلام في ستر سائر البدن من غير العورة عن أعين الناس،
وقد دلت أحاديث كثيرة على استحباب ستر سائر البدن، منها:
(1299-172) ما رواه البخاري من طريق أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره،
أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة تستره فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ (1) .
(1300-173) ومنها ما رواه البخاري من طريق الأعمش، عن سالم ابن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،
عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، وما أصابه، ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه (2) .
_________
(1) البخاري (280) ، ومسلم (336) .
(2) البخاري (281) ، ورواه مسلم (317) ، ولم يذكر فيه قولها: " سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -.(11/409)
[صفحة فارغة](11/410)
المبحث الثالث
في دخول الحمام من أجل الاغتسال
تعريف الحمام:
الحمام: مشدد، والمستحم في الأصل: الموضع الذي يستحم فيه بالحميم، وهو الماء الحار.
قال في الفتاوى الهندية: ((الحمام يذكره العرب، هكذا في عين الخليل، وهو فعال: من الحميم، واستحم الرجل: إذا دخل الحمام، وحقيقته: إغتسال بالماء الحميم)) (1) .
وقال في الشرح الكبير: ((حمام، بتشديد الميم: وهو بيت الماء، المعد للحموم فيه بالماء الساخن، لتنظيف البدن والتداوي)) (2) .
_________
(1) الفتاوى الهندية (6/250) .
(2) الشرح الكبير (4/43) .(11/411)
[صفحة فارغة](11/412)
خلاف أهل العلم في دخول الحمام
اختلف أهل العلم في حكم دخول الحمام للاغتسال،
فقيل: إنه ينهى عنه الرجال والنساء، وهو رواية عن الإمام أحمد وإسحاق (1) .
وقيل: يباح دخوله للرجال، وهو مذهب الجمهور (2) ،
واختلفوا في
_________
(1) في كتاب المسائل (ص: 138) : قلت يغتسل من الحمام؟ قال: لا. قال إسحاق: كما قال. وفي مسائل أحمد رواية عبد الله (24) : سمعت أبي سئل عن الغسل من ماء الحمام؟ قال: لا يغتسل من ماء الحمام.
(2) نص على أن القول بالجواز هو مذهب الجمهور ابن كثير في كتابه (الآداب والأحكام المتعلقة بدخول الحمام) (ص: 44) ،
وانظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (4/213) ، المبسوط (10/147) ، تبيين الحقائق (3/58) ، شرح فتح القدير (4/399) .
وفي مذهب المالكية ذكر الحطاب في مواهب الجليل (1/80) : أن دخول الحمام وقع فيه اختلاف في الروايات، وفتاوى الشيوخ، والذي حصله ابن رشد في جامع المقدمات وتبعه عليه المتأخرون: ابن شاس، والقرافي، وابن ناجي، وغيرهم، أن دخوله للرجال على ثلاثة أقسام:
الأول: إذا كان خالياً، قال ابن ناجي: أو مع زوجته، أو جاريته، فهو جائز بلا كراهة.
الثاني: إذا كان غير مستتر، أو معه من لا يستتر، فقال في المقدمات: لا يحل ذلك، ولا يجوز، ومن فعله كان جرحة في حقه.
الثالث: إذا كان مستوراً مع مستورين، فذكر في هذا قولين: الجواز، والكراهة.
وذكروا في وجه الكراهة، أنه قد لا يسلم من النظر إلى عورة أحد.
وقيل: من أجل الاغتسال بالماء المسخن بالنجاسات والقذروات، ولاختلاف الأيدي فربما تناول أخذه بيده من لا يتحفظ لدينه.
وقيل: من أجل الاغتسال بالماء الدائم.
وانظر في مذهب الشافعية: إعانة الطالبين (1/80) ، مغني المحتاج (1/76) ، المجموع شرح المهذب (2/237-237) .
وفي مذهب الحنابلة: مسائل أحمد رواية ابن هانئ (12) : وسألته عن ماء الحمام، يجزئ عن الغسل؟ قال: نعم. وفي مسائل أحمد رواية صالح (558) قلت: ما تقول في الغسل بماء الحمام؟ قال: الحمام بمنزلة الماء الجاري عندي. وانظر: غاية المطلب (ص: 29) ، المستوعب (1/247) ، كشاف القناع (1/159) ، الإنصاف (1/262) .(11/413)
دخول النساء،
فقيل: يباح للنساء بلا كراهة، اختاره بعض الحنفية (1) ، وقال ابن رشد: الذي يوجبه النظر أنهن بمنزلة الرجال (2) .
وقيل: يحرم على النساء إلا لعذر، اختاره بعض الحنفية (3) ، وهو مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: يكره للنساء ولو من عذر، إلا أن تكون مفردة، وهو قول في مذهب المالكية (5) .
_________
(1) قال في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 67) : " وفي الخانية: دخول الحمام مشروع للرجال والنساء " وانظر المبسوط (10/147-148) تبيين الحقائق (3/58) ، فتح القدير (4/399) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/416) ، البحر الرائق (4/213) .
(2) مواهب الجليل (1/81) ، حاشية العدوي (2/595) ..
(3) شرح فتح القدير (4/399) ، درر الحكام (1/416) .
(4) قال في الفروع (2/206) : " وللمرأة دخوله لعذر، وإلا حرم، نص عليه ". وانظر غاية المطلب (ص: 29) الإنصاف (1/262) ، شرح منتهى الإرادات (1/89) ، الروض المربع (1/351) ، شرح العمدة (1/405) .
(5) قال في الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 611) " وكره مالك دخول الحمام للمرأة بمئزر أو بغير مئزر، مريضة أو صحيحة ". وانظر القوانين الفقهية (ص: 289) .(11/414)
وقيل: يكره للنساء إلا لعذر وهو مذهب الشافعية (1) ، واختاره بعض المالكية (2) .
دليل من قال: يحرم الدخول للحمام.
الدليل الأول:
(1301-174) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، قال:
قال علي: بئس البيت الحمام (3) .
[إسناده صحيح] (4) .
الدليل الثاني:
(1302-175) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن ابن سيرين،
عن ابن عمر قال: لا تدخل الحمام، فإنه مما أحدثوا من النعيم (5) .
[إسناده صحيح] .
_________
(1) المجموع (2/236-237) ، مغني المحتاج (1/76) ، نهاية المحتاج (1/131) ، قوله (إلا لعذر) لا حاجة إلى الاستثناء، لأن المكروه تبيحه الحاجة وليست الضرورة.
(2) حاشية العدوي (2/595) .
(3) المصنف (1/103) رقم 1166.
(4) عمارة هو ابن القعقاع، وجرير هو ابن عبد الحميد.
(5) المصنف (1/103) رقم 1165.(11/415)
الدليل الثالث:
(1303-176) ما رواه مسدد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، ثنا عبد الرحمن، قال: سألت محمد بن سيرين عن دخول الحمام؟ فقال: كان عمر بن الخطاب يكرهه (1) .
[ابن سيرين لم يسمع من عمر] (2) .
وأجيب:
أولاً: أن كلام الصحابة رضي الله عنهم إنما هو عن اتخاذ الحمام في بلاد الحجاز، وهي بلاد حارة، لا يضطر فيها الإنسان إلى اتخاذ الحمام، ولذلك لم تعرف الحمامات في عهد النبوة، ولم تعرف كذلك في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم.
ثانياً: على تقدير أن كلام الصحابة رضي الله عنهم عن الحمامات
_________
(1) المطالب العالية (175) .
(2) لم أجد في شيوخ محمد بن سيرين عمر بن الخطاب، وقد أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1120) عن معمر، عن قتادة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري ألا تدخلن الخمام إلا بمئز، ولا يغتسل اثنان من حوض.
ورواه ابن أبي شيبة (1/104) رقم 1175من طريق منصور، عن قتادة به.
وقتادة لم يدرك عمر.
ورواه عبد الرزاق أيضاً (1121) عن ابن جريج، بلغه عن عمر.
ومع انقطاع هذين الإسنادين، فإن الكراهة مقيدة بدخول الحمام بدون إزار، فلا يكون دليلاً على مسألتنا.
ورواه مكحول وقبيصة، عن عمر بنحو رواية قتادة، وسوف أذكرها، إن شاء الله تعالى، في أدلة من أجاز دخول الحمام.(11/416)
الموجودة في الشام، وهي أرض باردة، فإن الصحابة مختلفون فيها، والحجة إنما هو فيما أجمعوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه فينظر في أقربها للصواب، وسوف أسوق في أدلة المجيزين بعض الآثار عن الصحابة في دخولها، والانتفاع بها، والله أعلم.
الدليل الثالث من أدلة المانعين:
أن دخول الحمام من الإرفاه والتنعم الذي ينهى عنه، ومن ذلك:
(1304-177) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا إسمعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن الحارث، عن كهمس،
عن عبد الله بن شقيق، قال: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه، فإذا هو شعث الرأس مشعان، قال: ما لي أراك مشعاناً، وأنت أمير؟ قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن الإرفاه، قلنا: وما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم (1) .
[إسناده صحيح وسبق تخريجه] (2) .
وجه الاستدلال:
كون الصحابي ذكر في تفسير الترفه الترجل كل يوم، إنما قصد به المثال، لأن السؤال كان عن ترك الرأس شعثاً، وإلا كل ما فيه تنعم وترفه، فإن المؤمن منهي عن الإكثار منه؛ لأن المؤمن لا يذهب طيباته في حياته الدنيا، وإنما هذا شأن الكفار، قال سبحانه {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم
_________
(1) سنن النسائي (5058) .
(2) انظر أحكام الطهارة ح 661.(11/417)
طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} (1) .
وأجيب:
بأنه الحمام يختلف اتخاذه من بلد لآخر، فالحمام في البلاد الحارة كالبلاد الحجازية يمكن أن يكون من الترفه، وعليه يحمل كلام ابن عمر رحمه الله المتقدم ذكره في الدليل الثاني، وأما اتخاذه في البلاد الباردة، لا سيما في العصور المتقدمة كان من الضرورة، حيث لم يكن موجوداً في ذلك العصر وسائل تسخين للمياه، وقد يكون الغسل واجباً، أو مستحباً، ثم على التسليم أن دخول الحمام من الترفه، فإن الترفه ليس من المحرمات، فقد يكون من باب المكروهات، والمكروه يرتفع بالحاجة، {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (2) ، فلا يؤمر الإنسان أن يغتسل بالماء البارد لا سيما في البلاد الباردة، وهو قادر على استعمال الماء الحار في استعمال مياه الحمام، والله أعلم.
الدليل الرابع:
(1305-178) ما رواه الطبراني من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي ابن يزيد، عن القاسم،
عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ((إن إبليس لما أنزل إلى الأرض، قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض، وجعلتني رجيماً، أو كما ذكر، فجعل لي
_________
(1) الأحقاف: 20.
(2) الأعراف: 32.(11/418)
بيتاً، قال: الحمام....)) وذكر الحديث بطوله (1) .
[الحديث ضعيف جداً] (2) .
الدليل الخامس:
أن العقد مشتمل على غرر، والغرر منهي عنه، فإن العقد في استئجار الحمام يكون على الماء، وعلى مقدار مدة الليث في الحمام، وهما مجهولان، والإجارة لا تصح إلا بشرط معرفة العين المستهلكة من الماء، ومدة اللبث في الحمام، وإلا كان العقد مشتملاً على جهالتين: جهالة المدة، وجهالة المعقود عليه، وكل ذلك كاف في إفساد مدة الإجارة.
وأجيب:
بأن الأجرة في العقد في مقابلة الماء، واستعمال الأصطال، وسكنى المكان، وحفظ الثياب، والغرر ليس كله منهي عنه، بل هناك غرر متفق على قبوله، كالغرر اليسير، وغرر مجمع على النهي عنه كالغرر الكثير، وغرر مختلف
_________
(1) المعجم الكبير للطبراني (8/207) رقم 7837.
(2) قال ابن حبان: إذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم. المجروحين (2/62) .
وفي إسناده أيضاً علي بن يزيد الألهاني.
قال البخاري: منكر الحديث، عن القاسم بن عبد الرحمن، روى عنه عبيد الله بن زحر، ومطرح. التاريخ الكبير (6/301) ، الضعفاء الصغير (255) .
وقال أيضاً: ذاهب الحديث، كما في علل الترمذي الكبير. انظر حاشية تهذيب الكمال
وقال النسائي: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال أيضاً: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (432) .(11/419)
فيه، هل يدخل في الغرر اليسير، فيقبل، أو في الغرر الكثير، فيمنع، وعقد الاستحمام من الغرر اليسير المقبول إن شاء الله تعالى؛ لأن عموم البلوى في هذا العمل، وتعارف الناس عليه يجعله جائزاً، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ((واغتفر في هذا الباب ما لم يغتفر في غيره؛ لأن منه ما ليس بمقدر كالماء، ومقدار الإقامة، والمتبع في ذلك عرف الناس، وتسامحهم بمثل ذلك؛ لأنه مما تدعو الحاجة إليه، ويعسر ضبطه على الناس، والله أعلم، وقد حكي عن بعض المتقشفين أنه كان يشارط الحمامي على قدر ما يستعمله من الماء، ولا يحتاج الأمر إلى ذلك إن شاء الله تعالى؛ لأن فاعله بعد مستهجناً، وكان يلزمه أن يجلس في الحمام بالمنكام؛ لينضبط له مقدار الزمان. ولم يجعل الله سبحانه وتعالى علينا في الدين من حرج، بل أموال اليتامى التي من تعمد أكلها أطعم يوم القيامة ناراً، قد أباح الله تعالى شركتهم في أطعمتهم من غير تقدير، بل بما جرت به العادة، وقال تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم} )) (1) (2) .
ويقول ابن عابدين: ((وللعرف؛ لأن الناس في سائر الأمصار يدفعون أجرة الحمام، وإن لم يعلم مقدار ما يستعمل من الماء، ولا مقدار العقود، فدل إجماعهم على جواز ذلك، وإن كان القياس يأباه لوروده على إتلاف العين مع الجهالة)) (3) .
_________
(1) البقرة: 220.
(2) الآداب والأحكام المتعلقة بدخول الحمام (ص: 96) .
(3) حاشية ابن عابدين (5/32) .(11/420)
الدليل السادس:
أن دخول الحمام وإن كان الإنسان قد يعرف من نفسه القيام بستر العورة، لكنه لا يضمن ذلك من قبل الناس، فلا يجوز له أن ينظر إلى عورة الناس، كما يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثل الناس اعتزلهم، وإذا كان الناس في الأزمان المتقدمة يغلب عليهم الحياء، فإنهم في هذا العصر انقلبت فطر كثير منهم، وصاروا يمشون عراة على شواطئ البحار من غير نكير، لا تعرف الرجل منهم من المرأة، ولم يقتصر الأمر على العورة المخففة، بل قد يصل ذلك إلى العورة المغلظة، فيجب قطع الباب سداً للذريعة.
وأجيب:
بأن دخول الحمام محرم إذا اشتمل على فعل محرم، وذلك مثل كشف العورة، أو تعمد النظر إلى عورة الغير، أو كان فيه تمكين للأجنبي بمس العورة، وقد أجمع العلماء على أن ستر العورة واجب بالنص والإجماع.
وممن حكى الإجماع على ذلك ابن كثير (1) ، والنووي (2) ، وغيرهم، وإنما تنازع الناس في حكم كشف العورة في الوحدة، وسبق ذكرها في بحث مستقل في ذكر هذه المسائل وأدلتها.
واعلم أن دخول الحمام قد يكون محرماً، وقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون مباحاً، وقد يكون مكروهاً، فتدخله الأحكام الخمسة.
_________
(1) الآداب المتعلقة بدخول الحمام (ص: 48) .
(2) المجموع (3/171) .(11/421)
فيكون محرماً، إذا اشتمل على فعل محرم، كأن يترتب على دخوله ترك للصلاة، أو كشف للعورات.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ((الواجب على الكافة منعهن من تعاطي مثل ذلك، فإنه مما يترتب عليه من المفاسد الخاصة والعامة، اللازمة والمتعدية ما الله به عليم، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((لو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل)) (1) .
فهذا قولها في المساجد التي زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال أن يمنعوهن إذا أردن الخروج إليها، فيكف بالحمامات)) (2) .
وقد يكون دخول الحمام واجباً إذا احتاج إلى طهارة واجبة، لا يمكنه فعلها إلا في الحمام، كالغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس، أو للجمعة على القول بوجوبه، ولا يمكنه الاغتسال بالماء البارد ولا بغيره بالبيت، فهذا يجب عليه الذهاب للاغتسال؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بأن هذه الاغتسال في البلاد الباردة لا يمكن إلا في حمام، وإن اغتسل في غير حمام خيف عليه الموت، أو المرض، فلا يجوز الاغتسال في غير حمام حينئذ (3) .
وقد يكون مستحباً إذا لم يمكنه فعل المستحب من الطهارة وغيرها إلا فيها، كغسل الجمعة على القول باستحبابه، ومثله الاغتسال الذي يقصد بها
_________
(1) البخاري (869) ، ومسلم (445) .
(2) الآداب والأحكام المتعلقة بدخول الحمام (ص: 37) .
(3) مجموع الفتاوى (21/311) .(11/422)
إزالة الدرن من البدن، فإن نظافة البدن من الدرن مستحب شرعاً، فهذا يستحب له الذهاب إلى الحمام إذا كان لا يستطيع الاغتسال في غير الحمام؛ ليحصل له هذا المقصود؛ لأنه والحالة هذه يعتبر الحمام وسيلة إلى فعل المستحب، فيكون مستحباً.
وقد يكون مكروهاً إذا كان يترتب على دخول الحمام الوقوع في بعض المكروهات، كالإسراف في الماء.
وقد يكون مباحاً كما لو كان دخوله للتلذذ والترفه، أو للتداوي على القول بأن التداوي مباح (1) .
الدليل السابع:
أن مياه هذه الحمامات قد يغتسل فيه من لا يتحفظ عن النجاسات، وقد يبول فيها، وقد يكون على بدنه نجاسة، أو مرض، ثم الأواني المستعملة قد تكون نجسة، وقد يكون ما يغسل فيها من الثياب نجساً.
ولذلك نهي عن الصلاة في الحمام، وذلك لأن أرضه لا تسلم من النجاسة.
(1306-179) فقد روى أحمد من طريق محمد بن إسحاق، عن عمرو ابن يحيى بن عمارة، عن أبيه،
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل الأرض مسجد وطهور إلا المقبرة والحمام (2) .
_________
(1) انظر مجموع الفتاوى (21/305) ، والآداب والأحكام المتعلقة بدخول الحمام (ص:35) .
(2) المسند (3/83) .(11/423)
[حديث مضطرب، اختلف في وصله وإرساله، وقد رجح الترمذي والدارقطني، والبيهقي، والنووي إرساله، كما أشار الترمذي والنووي إلى اضطرابه، ثم إن كلمة طهور انفرد بها محمد بن إسحاق، وكل من روى الحديث لم يذكرها، فليست محفوظة، فلا يكون النهي لعلة النجاسة] (1) .
_________
(1) رواه السفيانان: الثوري وابن عيينة مرسلاً، وخالفهم محمد بن إسحاق، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد الواحد بن زياد، وحماد بن سلمة على اختلاف عليه في إسناده.
قال الترمذي في سننه على إثر حديث (317) : وكأن رواية الثوري، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت وأصح.
وقال الدارقطني في العلل (4/ورقة 3) : والمرسل المحفوظ. اهـ ونقله ابن عبد الهادي عنه في تنقيح التحقيق (1/303) .
وذكره النووي في الخلاصة (938) في قسم الأحاديث الضعيفة، وقال: ضعفه الترمذي وغيره، وقال: هو مضطرب، ولا يعارض هذا بقول الحاكم: " أسانيده صحيحة " فإنهم أتقن في هذا منه؛ ولأنه قد تصح أسانيده، وهو ضعيف لاضطرابه ".اهـ
وقال ابن عبد البر في التمهيد (5/221) : " في إسناد هذا الخبر من الضعف ما يمنع الاحتجاج به ".
وقال أيضاً (5/225) : " هذا الحديث رواه ابن عيينة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلاً، فسقط الاحتجاج به ".
وقال ابن الجوزي في التحقيق (1/319) : " وأما حديث أبي سعيد فمضطرب، كان الدراوردي يقول فيه تارة: عن أبي سعيد، وتارة لا يذكره ".
وصححه ابن خزيمة حيث أورده في صحيحه (2/7) رقم 791، كما خرجه ابن حبان في صحيحه (2321) ، كما حكم الحاكم بصحته أيضاً، فقال (1/251) : " هذه الأسانيد كلها صحيحة على شرط البخاري ومسلم ". ولم يتعقبه الذهبي بشيء.
كما رجح الوصل ابن المنذر في الأوسط (2/182) ، فقال: " إذا روى الحديث ثقة، أو ثقات مرفوعاً متصلاً، وأرسله بعضهم، يثبت الحديث برواية من روى موصولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يوهن الحديث، تخلف من تخلف عن إيصاله، وهذا السبيل في الزيادات في الأسانيد، والزيادات في الأخبار ".
وقال ابن دقيق العيد في الإمام نقلاً من نصب الراية للزيلعي (2/324) " حاصل ما أعل به الإرسال، وإذا كان الرافع ثقة، فهو مقبول ".
قلت: ليس هذا القول على إطلاقه، والعمل عند أئمة الحديث أحمد، والبخاري، وعلي ابن المديني، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والدارقطني إنما ينظرون إلى القرائن، ومقارنة من وصل بمن أرسل، ومن زاد بمن نقص، فإن أمكن الترجيح بين من أرسله ومن وصله، فالذهاب للترجيح، فيرجح الإرسال إذا كان المرسل أوثق، أو أكثر عدداً ممن وصله، أو أخص بالرواي من غيره، ويرجح الوصل إن كان العكس، وقد كتبت صفحات في أول الكتاب في كتاب المياه والآنية وبينت عمل أئمة الحديث في الزيادات الواردة في الحديث، وعرضت أحاديث كثيرة حكم الأئمة بشذوذها للمخالفة، ويمكن للقارئ مراجعة البحث مشكوراً، وحديث الباب لا يمكن للباحث الترجيح؛ لأن غالب من وصل الحديث روي عنه بالإرسال أيضاً، وبالتالي فالحديث أقرب ما يكون إلى أنه مضطرب، فلا يمكن والحالة هذه، أن أرجح بين من رواه مرسلاً وبين من رواه موصولاً، إذا أضفت إلى ذلك أن غالب أئمة الحديث ممن حكموا على الحديث حكموا عليه بالضعف، فهذا الترمذي، والدارقطني، والبيهقي، وابن عبد البر والنووي وابن الجوزي، كلهم ضعفوا الحديث.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه عمرو بن يحيى، عن أبيه، ورواه عن عمرو جماعة، منهم:
الأول: حماد بن سلمة، عن عمرو بن يحيى.
أخرجه أحمد (3/83) حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد.
ومن طريق يزيد بن هارون أخرجه ابن ماجه (745) ، وأبو يعلى (1350) ، والبيهقي في السنن (2/434-435) .
وهنا رواه حماد من غير شك.
وأخرجه أحمد (3/83) حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، فقال: عن أبي سعيد فيما يحسب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهنا لم يجزم بالوصل.
وأخرجه أبو داود (492) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد (ح) ،
وحدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال موسى في حديثه: فيما يحسب عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة.
فهنا رواية موسى بن إسماعيل، عن حماد على الإرسال، وليست على الوصل.
وقد فهم المزي كما في تحفة الأشراف (3/484) : أن موسى شك في رفعه، فتعقبه الحافظ في النكت الظراف، فقال: بل في وصله.
فأنت ترى أن حماد بن سلمة روايته ليست متفقة على الوصل، بل اختلف عليه في وصله وإرساله وأيضاً على الظن في وصله دون جزم كما في مسند أحمد.
الثاني: محمد بن إسحاق، عن عمرو بن يحيى.
أخرجها أحمد في المسند، وذكرتها في المتن، وقد رواها أحمد موصولة في المسند، وأشار الترمذي إلى اختلاف حاصل على محمد بن إسحاق، فقد قال رحمه الله في سننه بإثر ح 317: ورواه محمد بن إسحاق، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر فيه عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.اهـ كلام الترمذي رحمه الله.
وهذا اختلاف آخر أيضاً على محمد بن إسحاق، وهو ممن روى الحديث موصولاً.
الثالث: عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن يحيى.
أخرجها الترمذي (317) ، والدارمي (323) ، وابن خزيمة (791) ، والبيهقي في السنن (2/435) ، والبغوي في شرح السنة (506) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي به.
وأشار الترمذي إلى اختلاف واقع على الدراوردي، فقال: قد روي عن عبد العزيز بن محمد روايتين، منهم من ذكره عن أبي سعيد، ومنهم من لم يذكره. وهذا حديث فيه اضطراب.... الخ كلامه رحمه الله تعالى.
فهذا راو ثالث ممن روى الحديث موصولاً يذكر الترمذي أنه قد اختلف عليه في وصله وإرساله.
بل إن الدارمي رحمه الله تعالى ذهب إلى أن الأكثر على إرساله، ففي سنن الدارمي، بعد أن روى الحديث، قيل له: تجزئ الصلاة في المقبرة؟ قال: إذا لم تكن على القبر، فنعم، وقال: الحديث أكثرهم أرسلوه. اهـ
الرابع: عبد الواحد بن زياد، عن عمرو بن يحيى.
أخرجه أحمد (3/96) ، وأبو داود (492) ، وابن خزيمة (791) ، وابن حبان (1699، 2316،2321) ، والحاكم في المستدرك (1/251) ، والبيهقي في السنن (2/435) من طرق عن عبد الواحد بن زياد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد.
الخامس: سفيان الثوري، عن عمرو بن يحيى.
أخرجه عبد الرزاق (1582) عن الثوري، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام.
وهذا مرسل، وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة (2/153) رقم 7574 حدثنا وكيع، ثنا سفيان به.
ورواه أحمد (3/83) حدثنا يزيد، أخبرنا سفيان الثوري وحماد بن سلمة، عن عمرو ابن يحيى، عن أبيه، قال حماد في حديثه: عن أبي سعيد الخدري، ولم يجز سفيان أباه.
فهذا صريح أن رواية يزيد بن هارون، عن سفيان مرسلة، لقوله: ولم يجز سفيان أباه.
ورواه أبو يعلى (1350) من طريق يزيد بن هارون به، كإسناد أحمد تماماً، حيث قال: ولم يجاوز سفيان أباه.
ومع هذا النقل الصريح بأن رواية يزيد بن هارون، عن الثوري مرسلة، فقد وقع لبس لبعض العلماء في رواية ابن ماجه.
فقد رواه ابن ماجه (745) فقال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه. وحماد بن سلمة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:... وذكر الحديث.
فتوهم أن طريق الثوري وطريق حماد بن سلمة كلاهما موصول عن أبي سعيد، وممن فهم ذلك المزي في تحفة الأشراف، فتعقبه الحافظ في النكت الظراف، فقال: فقد أخرجه ابن ماجه من رواية حماد والثوري، فجمعهما بلفظ يوهم أنهما متفقان على وصله... ثم ذكر سياق ابن ماجه، ثم قال: فقوله: عن أبي سعيد: ظاهر في رواية حماد، ومحتمل في رواية الثوري، والتحقيق أن رواية الثوري ليس فيها عن أبي سعيد. اهـ كلام الحافظ.
وما رجحه الحافظ هو الحق، وقد رواه البيهقي في السنن (2/434) بنفس إسناد ابن ماجه، ولم يلتبس عليه كما التبس على المزي، فقال بعد أن ساق إسناد الحديث: حديث الثوري مرسل، وقد روي موصولاً وليس بشيء، وحديث حماد بن سلمة موصول، وقد تابعه على وصله عبد الواحد بن زياد والدراوردي.. الخ كلام البيهقي رحمه الله تعالى.
فحكم على طريق الثوري بأنه مرسل، وعلى طريق حماد بن سلمة بأنه موصول، ولم يجعل الطريقين كليهما موصولاً، كما فهم المزي.
وأبعد النجعة أحمد شاكر حين قال: ولم أجده مرسلاً من رواية الثوري، إنما رأيته كذلك من رواية سفيان بن عيينة، فماذا يقول رحمه الله عن رواية أحمد وأبي يعلى عندما قالا: ولم يجاوز سفيان أباه..
قال أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تحقيقه للترمذي: ولا أدري كيف يزعم الترمذي ثم البيهقي أن الثوري رواه مرسلاً في حين أن روايته موصولة أيضاً.... حتى قال رحمه الله: وأنا لم أجده مرسلاً من رواية الثوري، وإنما رأيته كذلك من رواية سفيان بن عيينة، فلعله اشتبه عليهم سفيان بسفيان... ".
قلت: لقد علمت أن الذين رواه مرسلاً لم يكن الثوري وابن عيينة فقط، ولذلك قال الدارمي: والأكثر على إرساله. وقال الدارقطني في العلل ونقله ابن عبد الهادي في التنقيح (1/303) : وراه جماعة عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلاً، والمرسل هو المحفوظ. اهـ
نعم أشار الداقطني في العلل، ونقله ابن عبد الهادي في التنقيح، أن أبا نعيم وسعيد بن سالم، ويحيى بن آدم، قد رووه عن الثوري، فوصلوه.. ومعنا هذا أن الثوري كغيره قد اختلف عليه في وصله وإرساله، والله أعلم.
السادس: سفيان بن عيينة، عن عمرو بن يحيى.
أخرجه الشافعي في مسنده (ص: 20) أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
قال الشافعي: وجدت هذا الحديث في كتابي في موضعين: أحدهما منقطعاً، والآخر عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
السابع: عمارة بن غزية، عن عمرو بن يحيى.
أخرجه ابن خزيمة (792) من طريق بشر بن المفضل، ثنا عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة الأنصاري، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
ومن طريق بشر بن المفضل، أخرجه البيهقي في السنن (2/435) ، هذا ما وقفت عليه من طرقه، وأرى أن الحديث كما قال الترمذي: مضطرب، فكل من رواه موصولاً قد اختلف عليه فيه إلا طريقين: طريق عبد الواحد بن زياد، وهو ضعيف، وطريق عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة، وهذا ليس كافياً في ترجيح الوصل على الإرسال، ولا العكس، والله أعلم.
أضف إلى ذلك أن الحديث في الصحيحين من مسند جابر، وليس فيه استثناء، وإنما فيه: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " ولم يستثن.
وأما ما رواه الترمذي (346) ، وابن ماجه (746) ، وعبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (765) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/383) ، والروياني في مسنده (1431) وابن عدي في الكامل (3/203) من طريق زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى في سبعة مواطن... وذكر منها المقبرة والحمام..
فإن هذا الحديث غير صالح للاعتبار، فهو ضعيف جداً، وزيد بن جبيرة متروك الحديث.
ورى الحديث ابن ماجه (747) من طريق أبي صالح، حدثني الليث، (عن عبد الله بن عمر) عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر.
وهذا إسناد ضعيف أيضاً فيه العمري، وفيه عبد الله بن صالح أيضاً، وقد سقط من إسناد المطبوع (عبد الله بن عمر) ، وقد ذكر الترمذي هذا الإسناد على إثر حديثه السابق بذكر عبد الله بن عمر، كما أشار الحافظ ابن حجر إلى سقوطه في بعض النسخ في تلخيص الحبير (1/215) .
قال ابن أبي حاتم في العلل (1/148) : سألت أبي عن حديث رواه الليث، عن عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى أن يصلي الرجل في سبع مواطن:... وذكر الحديث ورواه زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: جميعاً واهيين. اهـ
وانظر لمراجعة بعض طرق حديث أبي سعيد: أطراف المسند (6/322) ، تحفة الأشراف (4406) ، إتحاف المهرة (5781)(11/424)
فاستثنى الحمام من الأرض الطهور، وهذا دليل على نجاستها، وإنما تنجس الحمام بتنجس الماء المستعمل فيه.
ويجاب عن هذا:
أولاً: أما قولكم بأن مياه هذه الحمامات قد يغتسل فيها من لا يتحفظ عن النجاسات.
فيقال: الأصل في الماء أنه طهور حتى يتغير بالنجاسة، ولم يتغير بها.
ثانياً: الشك لا يقضي على اليقين، فنجاسة الماء مشكوك فيها، وطهوريته متيقنة، فلا ننتقل عن اليقين بمجرد الشك.
ثالثاً: أننا إذا افترضنا أن الماء قد خالطته نجاسة، فإن ماء الحمامات كثير، وفي حكم الماء الجاري، والماء الجاري على الصحيح لا ينجس إلا بالتغير، كما قال الإمام أحمد ففي مسائله رواية صالح، قلت: ما تقول في الغسل بماء الحمام؟ قال: الحمام بمنزلة الماء الجاري عندي (1) .
وأما الجواب عن الحديث، والنهي عن الصلاة في الحمام، فيجيب عنه ابن تيمية رحمه الله تعالى، فيقول:
((استثنى الحمام مطلقاً، فيتناول الاسم ما دخل في المسمى، فلهم طريقان:
_________
(1) مسائل أحمد رواية صالح رقم (558) .(11/430)
الأول: أن النهي تعبد لا يعقل معناه، كما ذهب إليه طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأتباعه.
والثاني: أن ذلك؛ لأنه مأوى الشياطين، كما في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتاً، قال: بيتك الحمام... وذكر الحديث المتقدم (1) .
وهذا التعليل كتعليل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل بنحو ذلك، كما في الحديث: إن على ذروة كل بعير شيطاناً، وإنه جن، خلقت من جن، إذ لا يصح التعليل هناك بالنجاسة؛ لأنه فَرَّق بين أعطان الإبل ومبارك الغنم، وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء، كما لا يصح تعليل الأمر بالوضوء بأنه لأجل مس النار مع تفريقه بين لحوم الإبل ولحوم الغنم، وكلاهما في مس النار وعدمه سواء)) (2) .
دليل من قال بالجواز مطلقاً للرجال والنساء.
الدليل الأول:
قال الموصلي رحمه الله تعالى: ((لم يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (3) .
وقال ابن القيم: ((ولم يدخل - صلى الله عليه وسلم - حماماً قط، ولعله ما رآه بعينه، ولم يصح في الحمام حديث)) (4) .
_________
(1) ضعيف جداً، وسبق توضيح ذلك.
(2) مجموع الفتاوى (21/320) .
(3) المغني عن الحفظ والكتاب (ص: 247) .
(4) زاد المعاد (1/44) .(11/431)
وقال عبد الحق في أحكامه: ((وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة، فلا يصح منه شيء؛ لضعف الأسانيد)) (1) .
وإذا كان لم يصح فيه حديث، فالأصل في دخوله الإباحة للرجال والنساء، بشرط أن يخلو من محظور آخر، كالتعري ونحوه، فهذا إنما يمنع لا من أجل الحمام، ولكن من أجل كشف العورة، وهو غير خاص في دخول الحمام، بل في كل مكان يتعرض فيه الناس إلى كشف عوراتهم فيجب أن يمنعوا من ذلك، ولو كان هذا في أماكن العبادة ونحوها.
الدليل الثاني:
(1307-180) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة،
عن ابن عباس أنه دخل حمام الجحفة (2) .
[إسناده صحيح] .
وإذا جاز دخوله للرجال جاز دخوله للنساء إلا بدليل، وإنما النساء شقائق الرجال.
الدليل الثالث:
(1308-181) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة،
عن أبي هريرة، قال: نعم البيت الحمام، يذهب الدرن، ويذكر النار (3) .
[إسناده صحيح] .
_________
(1) الأحكام الوسطى (1/244) .
(2) المصنف (1/103) رقم: 1169.
(3) المصنف (1/103) رقم: 1170.(11/432)
الدليل الرابع:
(1309-182) ما رواه البزار حدثنا يوسف بن موسى، ثنا يعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احذروا بيتاً يقال له الحمام، قالوا: يا رسول الله ينفي الوسخ؟ قال: فاستتروا.
قال البزار: وهذا رواه الناس عن طاوس مرسلاً، ولا نعلم أحداً وصله إلا يوسف، عن يعلى، عن الثوري (1) .
وقال عبد الحق في أحكامه عن حديث البزار: هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب، على أن الناس يرسلونه عن طاوس (2) .
[المحفوظ أنه مرسل] (3) .
_________
(1) مختصر مسند البزار (211) ، وكشف الأستار (319) .
(2) الأحكام الوسطى (1/244) .
(3) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/277) : رواه البزار، والطبراني في الكبير، إلا أنه قال: قالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض؟ ورجاله عند البزار رجال الصحيح إلا أن البزار، قال: رواه الناس عن طاوس مرسلاً. اهـ
قلت: الرواية المرسلة أخرجها ابن أبي شيبة (1/105) رقم: 1184، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، رفعه: قال: من دخله منكم فليستتر.
رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، وقد قال الحافظ ابن كثير في كتابه الآداب المتعلقة بدخول الحمام (ص: 34) : وهذا إسناد جيد. اهـ
كما رواه عبد الرزاق عن الثوري (117) عن ابن طاوس به مرسلاً.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه (1116) عن معمر، عن ابن طاووس به. وسقط من إسناد المصنف معمر، واستدركته من كتاب ابن كثير الآنف الذكر، والله أعلم.
وأخرجه الطبراني في الكبير (10932) والحاكم في المستدرك (4/288) من طريق يحيى الحراني، ثنا محمد بن مسلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ابن طاوس. وعن أيوب السختياني، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعاً.
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7765) من طريق محمد بن سلمة به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. قلت: الحراني لم يخرج له مسلم، وقال فيه الحافظ: صدوق، ربما وهم، ومحمد بن إسحاق إنما أخرج له استشهاداً.
انظر إتحاف المهرة (7866) .(11/433)
أدلة من فرق بين الرجال والنساء.
الدليل الأول:
(1310-183) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد،
عن أبي مليح الهذلي، أن نساء من أهل حمص، ومن أهل الشام دخلن على عائشة، فقالت: أنتن اللاتي يدخلن نساؤكم الحمامات؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها، إلا هتكت الستر بينها وبين الله (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) مسند أبي داود الطيالسي (1518) .
(2) الحديث رواه منصور، واختلف عليه فيه:
فرواه شعبة، عن منصور، واختلف على شعبة، فرواه أبو داود الطيالسي كما في إسناد الباب، ومن طريقه الترمذي (2803) ، والبيهقي في السنن (7/308) ،
ومحمد بن جعفر كما في مسند أحمد (6/173) ، وسنن أبي داود (4010) .
وآدم بن إياس كما في المستدرك (4/288،289) ، ثلاثتهم، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي المليح، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات.
وخالفهم حجاج بن محمد، كما في المسند (6/173) فقال: عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي الميح، عن رجل، عن عائشة، فزاد في إسناده (هذا الرجل المبهم)
ورواية الجماعة أولى؛ أولاً: لأنهم أكثر عدداً.
وثانياً: لأن فيهم محمد بن جعفر، وهو من أثبت أصحاب شعبة.
وثالثاً: لأنه قد رواه الثوري وإسرائيل، عن منصور، كرواية الجماعة عن شعبة.
فقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1132) ، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الإمام أحمد (6/173،198) ، والحاكم في المستدرك (4/288) .
وأخرجه ابن ماجه (3750) من طريق وكيع.
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/157) ، من طريق محمد بن شرحبيل، ثلاثتهم (وكيع، وعبد الرزاق، ومحمد بن شرحبيل) عن سفيان.
وأخرجه الدارمي (2652) من طريق إسرائيل، كلاهما (سفيان وإسرائيل) روياه عن منصور، عن سالم، عن أبي الميح، عن عائشة.
فهذان الطريقان يرجحان رواية الجماعة عن شعبة، وبهما يتبين خطأ حجاج بن محمد.
وخالف جرير بن عبد الحميد، شعبة والثوري وإسرائيل، فأخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده (1605) ، وأبو داود (4010) عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن سالم، عن عائشة، فأسقط من إسناده أبا المليح، وسالم لم يسمع من عائشة.
ورواية الجماعة هي المحفوظة، ولم يحفظ عن منصور روايته بإسقاط أبي المليح.
وتابع جرير الأعمش في إسقاطه أبا المليح، إلا أن الأعمش قد اختلف عليه فيه:
فرواه أحمد (6/41) حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عائشة. فأسقط من إسناده أبا المليح.
وخالفه يعلى بن عبيد، فأخرجه الدارمي (2651) عنه، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن عائشة.
فزاد الأعمش في إسناده عمرو بن مرة، وأسقط أبا المليح.
قال الدارقطني في العلل (5- ورقة 95) وقول شعبة والثوري، عن منصور أشبه بالصواب.
وقال المزي في تهذيب الكمال (10/131) : والصحيح عن أبي المليح عنها.
وأخرجه أبو يعلى (4680) من طريق إسحاق بن سليمان الرازي، عن معاوية بن يحيى الصدفي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به.
قلت: لم يروه عن الزهري إلا معاوية بن يحيى الصدفي، انفرد به عنه إسحاق بن سليمان الرازي، وقد قال البخاري في معاوية: روى عنه إسحاق بن سليمان أحاديث مناكير، كأنها من حفظه. التاريخ الكبير (7/336) .
قلت: لو كان هذا من حديث الزهري، فأين أصحاب الزهري المعروفين بالرواية عنه عن هذا الحديث؟ فلا يثبت الحديث من هذا الطريق، وله شاهدان من حديث أم الدرداء، وأم سلمة في مسند أحمد، وفي غيرهما، وفيهما ضعف، كما أن في متن حديث أم الدرداء نكارة.
انظر في مراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (9/290) ، تحفة الأشراف (17804) ، إتحاف المهرة (22996) ، و (21664) .(11/434)
والحديث استنبطت منه عائشة رضي الله عنها حرمة دخول النساء للحمام، وإن كان الحديث مطلق، ولم يقيد بدخول الحمام، ولذا لا يشمل الحديث امرأة دخلت الحمام بقميص مثلاً؛ لأن الوعيد على من وضعت ثيابها، وهذه لم تضع ثيابها، كذلك الحديث لا يشمل من وضعت بعض ثيابها عند من تحل له رؤية زينتها الظاهرة، كالأزواج والنساء ونحو ذلك، فالحديث يقصد به تلك المرأة التي تضع ثيابها أمام الرجال الأجانب بقصد الفاحشة أو مقدماتها، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1311-184) ما رواه أحمد من طريق عمر بن السائب، أن القاسم ابن أبي القاسم السبئي حدثه، عن قاص الأجناد بالقسطنطينية أنه سمعه يحدث،(11/436)
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل الحمام (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
فجعل النهي للرجال متوقف على لبس الإزار، ونهى المرأة نهياً مطلقاً من دخوله، لكن الحديث ضعيف.
الدليل الثالث:
(1312-185) ما رواه الطبراني من طريق علي بن يزيد، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية،
_________
(1) المسند (1/20) .
(2) إسناده ضعيف؛ فيه أكثر من علة:
الأولى: الانقطاع، قال البخاري في التاريخ الكبير (6/162) : عمر بن السائب، عن القاسم بن أبي القاسم، روى عنه عمرو بن الحارث المصري، منقطع.
الثانية: القاسم بن أبي القاسم، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/117) ، والبخاري كما في التاريخ الكبير (7/167) فلم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولم يوثقه إلا ابن حبان كما في الثقات (7/333) ، فهو رجل مستور.
العلة الثالثة: جهالة قاص الأجناد، حيث لم أعرف عينه، والله أعلم.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه أبو يعلى الموصلي (251) ، والبيهقي (7/266) من طريق عمر بن السائب به.
أطراف المسند (5/90) ، إتحاف المهرة (15877) .(11/437)
عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام... الحديث (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الرابع:
(1313-186) ما رواه أحمد من طريق عبد الله بن شداد، عن أبي عذرة، قال - وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - -
عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجال والنساء عن الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها في المآزر (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المعجم الأوسط للطبراني (7320) .
(2) ورواه البزار كما في كشف الأستار (318) من طريق علي بن يزيد به. وفي مجمع الزوائد (1/277) رواه الطبراني في الأوسط والبزار باختصار ذكر الجمعة، وفيه علي بن يزيد الألهاني، ضعفه أبو حاتم، وابن عدي، ووثقه أحمد وابن حبان. اهـ
وفي إسناده عطيبة بن سعد العوفي، ضعيف الحديث، ضعفه جماعة من أهل العلم، انظر الجرح والتعديل (6/382) .
(3) المسند (6/132) .
(4) في إسناده أبو عذرة، قال ابن القطان: مجهول الحال، وفي التقريب: مجهول.
وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، وإسناده ليس بذاك القائم.
والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/104) ، وابن ماجه (3749) من طريق عفان به، إلا أن ابن أبي شيبة خالف في لفظه، فليس فيه الترخيص للرجال، واستثنى من النساء المريضة والنفساء.
وأخرجه أحمد (6/139) وابن ماجه (3749) من طريق وكيع.
وأخرجه أحمد (6/179) والترمذي (2802) عن عبد الرحمن بن مهدي،
وأخرجه أبو داود (4009) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (2/228) وفي شعب الإيمان (7765) عن موسى بن إسماعيل.
وأخرجه البهقي (7/308) من طريق هشام بن عبد الملك، كلهم عن حماد بن سلمة به. قال الحازمي في الاعتبار (ص: 194) لا يعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه، وأبو عذرة غير مشهور، وأحاديث الحمام كلها معلولة، وإنما يصح فيها عن الصحابة رضي الله عنهم، فإن كان هذا الحديث محفوظاً فهو صريح في النسخ، والله أعلم بالصواب.
إتحاف المهرة (22986) ، أطراف المسند (9/287) ، تحفة الأشراف (17798) .(11/438)
الدليل الخامس:
(1314-187) ما رواه أحمد من طريق أبي خيرة، عن موسى بن وردان، قال أبو خيرة: لا أعلم إلا أنه قال: عن أبي هريرة،
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل السادس:
(1315-188) ما رواه أحمد من طريق ابن لهيعة، عن أبي الزبير،
_________
(1) المسند (2/321) .
(2) في إسناده أبو خيرة، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/444)
وقال الحسيني والذهبي: لا يعرف. انظر تعجيل المنفعة (ص: 394) ، ميزان الاعتدال (4/521) .(11/439)
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام... الحديث (1) .
[ضعيف بهذا الإسناد] (2) .
_________
(1) المسند (3/339) .
(2) رواه عن أبي الزبير اثنان: أبو الزبير وطاووس.
أما رواية أبو الزبير فله طرق، منها:
الأول: ابن لهيعة، عن أبي الزبير، أخرجها أحمد في المسند، وقد تقدمت في حديث الباب.
الثاني: عطاء، عن أبي الزبير.
ورواه النسائي في المجتبى (401) ، وفي الكبرى (6741) ، والطبراني في الأوسط (8214،1694) ، والحاكم في المستدرك (1/162) ، والبيهقي في الشعب (5596) والخطيب في تاريخ بغداد (1/244) من طريق معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن عطاء، عن أبي الزبير،
عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدخل الحمام إلا بمئزر. ولم يذكر النسائي النهي عن دخول النساء.
وعطاء في جميع الطرق التي وقفت عليها هنا لم ينسب، فهل هو عطاء بن أبي رباح، أو عطاء بن السائب؟ وبينهما فرق كبير، فإن كان عطاء هو عطاء بن أبي رباح، فالحديث إسناده صحيح إلى أبي الزبير، لكن الطبراني قال: في الأوسط: يقال: إن عطاء الذي روى عنه هشام الدستوائي هذا الحديث هو عطاء بن السائب، ولم يرو عنه إلا هشام، ولا عن هشام إلا ابنه، تفرد به إسحاق. اهـ يشير الطبراني إلى علة التفرد في الحديث.
وهذا الذي ذكره الطبراني محتمل جداً، وهو أولى من صنيع المزي رحمه الله في التحفة، حيث جعله عطاء بن أبي رباح؛ أولاً: لأن عطاء بن أبي رباح من شيوخ أبي الزبير، وليس من تلاميذه.
وثانياً: لم يذكر المزي من تلاميذ عطاء بن أبي رباح هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، كما لم يذكر المزي أيضاً من شيوخ هشام عطاء بن أبي رباح.
ثالثاً: هشام الدستوائي يروي عن عطاء بن السائب، فيما ذكره أبو داود في مسائل أحمد، وقد سمع هشام من عطاء بن السائب قبل تغيره، نص عليه أبو داود في مسائل أحمد، قال أبو داود (1852) قال غير أحمد: قدم عطاء البصرة قدمتين، فالقدمة الأولى سماعهم صحيح، وسمع منه في القدمة الأولى: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وهشام الدستوائي، والقدمة الثانية: كان متغيراً فيها، سمع منه وهيب، وإسماعيل، وعبد الوارث، سماعهم منه ضعيف. اهـ
رابعاً: أن حديث هشام في صحيح مسلم وفي غيره، بينه وبين عطاء دائما إما قتادة كما في ح (901) ، أومطر كما في ح (997) ، أوقتادة وبديل كما في ح (1674) .
فإذا كان عطاء هو ابن السائب، فإنه ليس معروفاً بالرواية عن أبي الزبير، وقد بحثت في الكتب التسعة عن رواية لحديث يرويه عطاء بن السائب، عن أبي الزبير فلم أجد له إلا هذا الإسناد المبهم، كما أن عطاء بن أبي رباح لم أجد له رواية في الكتب التسعة عن أبي الزبير، وإنما هناك أحاديث كثيرة يرويها عطاء بن أبي رباح وأبو الزبير، عن جابر، وهناك أحاديث يرويها أبو الزبير، عن عطاء كما في سنن النسائي (3845) ، وأحمد (2661،2711) وموطأ مالك (872) ، وأما رواية عطاء ابن أبي رباح، عن أبي الزبير، فلم أقف على إسناد واحد إلا أن يكون هذا الإسناد.
وفي تحفة الأشراف (2/333) استدراك على المزي من جعل عطاء هو عطاء بن أبي رباح، فقد وجد المحقق في الحواشي تعليقاً من العراقي، فقال (2/333) : في حاشية ل: ذكر شيخنا الحافظ العراقي أن س قال في الوليمة: إن عطاء هذا: هو ابن دينار مديني.
وفي حاشية ل أيضاً: عطاء بن دينار، عن أبي الزبير، عن جابر، يذكر معه الحديثان الأولان من الترجمة التي قبل هذا، كما ذكره شيخنا أبو الفضل الحافظ العراقي. اهـ
وعطاء بن دينار ذكر المزي في تهذيبه اثنين: أحدهما: مصري ثقة، والآخر ذكره تمييزاً، وقال: مولى قريش، ولعله هذا، وقال: ذكره أبو سعيد بن يونس، في أثناء ترجمة الهذلي، وقال: وهو منكر الحديث. تهذيب الكمال (20/69) .
وما دام أن هذا الإسناد بهذه الغرابة، فإن الباحث لا يستطيع أن يقبل هذا الإسناد، فعلة التفرد الذي أشار إليها الطبراني رحمه الله ما زالت قائمة في هذا الإسناد من هذا الطريق، والله أعلم.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (688) من طريق عمرو بن هشام أبي أمية الحراني، قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير به.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن إبراهيم، إلا عثمان.
وهذا إسناد رجاله إلى أبي الزبير ثقات، إلا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي،
قال فيه محمد بن عبد الله بن نمير: كذاب. المغني في الضعفاء (4036) .
لكن قال أبو حاتم: صدوق، وأنكر على البخاري إدخال اسمه في كتاب الضعفاء، وقال: يروي عن الضعفاء، يشبه ببقية في روايته عن الضعفاء. الجرح والتعديل (6/157) .
وقال يحيى بن معين: ثقة. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: لا بأس به، كما قال أبو عروبة، إلا أنه يحدث عن قوم مجهولين بعجائب، وتلك العجائب من جهة المجهولين، وهو في أهل الجزيرة كبقية في أهل الشام، وبقية أيضاً يحدث عن مجهولين بعجائب، وهو في نفسه ثقة، لا بأس به صدوق، وما يقع في حديثه من الإنكار، فإنما يقع من جهة من يروي عنه. الكامل (5/174) .
وفي التقريب: صدوق، أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل، فضعف بسبب ذلك، حتى نسبه ابن نمير إلى الكذب، وقد وثقه ابن معين.
ورواه الدارمي (2092) من طريق الحسن بن أبي جعفر، حدثنا أبو الزبير به، بلفظ: من كان يؤمن بالله واليوم والأخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر.
والحسن بن أبي جعفر ضعيف الحديث.
وأخرجه ابن خزيمة (249) ، والحاكم (1/162) من طريق الحسن بن بشر الهمداني، ثنا زهير، عن أبي الزبير به بلفظ: نهى أن يدخل الماء إلا بمئزر. وهذا اللفظ لم يذكر الحمام، كما لم يفرق بين الرجل والمرأة.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، فتعقبه الذهبي بأنه على شرط مسلم.
لكن قال ابن حبان في المجروحين (1/251) : " ليس له أصل يرجع إليه، وقد سمع الحسن ابن بشر هذا الخبر من حماد بن شعيب، ورواه عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، وَهِمَ فيه ".
قلت: وإذا كان حديث الحسن بن بشر، إنما رواه عن حماد بن شعيب، فإن حماد بن شعيب ضعيف الحديث.
وقد رواه أبو يعلى كما في المطالب العالية (179) ، والعقيلي في الضعفاء (1/312) ، وابن المنذر في الأوسط (1/119) ، وابن حبان في المجروحين (1/251) من طريق حماد بن شعيب، عن أبي الزبير به، بلفظ: ابن خزيمة.
قال العقيلي: ولا يتابعه - يعني: حماد بن شعيب - عليه إلا من هو دونه ومثله.
وقال ابن عدي: وهذا الحديث ليس يرويه بهذا اللفظ (أن يدخل الماء) غير أبي الزبير، وعن أبي الزبير غير حماد بن شعيب.
الطريق الثاني: طاوس، عن جابر.
أخرجه الترمذي (2801) ، وأبو يعلى (1925) من طريق ليث بن أبي سليم، عن طاووس، عن جابر، بلفظ ابن لهيعة، عن أبي الزبير.
قال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث طاووس، عن جابر إلا من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: ليث بن أبي سليم صدوق، وربما يهم في الشيء. قال محمد ابن إسماعيل: وقال أحمد بن حنبل: ليث لا يفرح بحديثه، كان ليث يرفع أشياء لا يرفعها غيره، فلذلك ضعفوه ".
هذا ما يتعلق بطرق الحديث، فطريق طاووس، عن جابر منكر؛ لأن المحفوظ من حديث طاووس، أنه يرويه مرسلاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم تخريجه، بقي في الحديث طريق أبي الزبير، وقد تبين لك أنه يرويه جماعة عن أبي الزبير، فلعله من غريب حديثه، ومما ينكر عليه، ولا أرى تعليل الحديث بعنعنة أبي الزبير، لأن أبا الزبير على الصحيح ليس مدلساً، وقد بينت هذا في رسالتي (نقد مظاهر الإنصاف) وهي جواب على رسالة كتبها بعض الشباب، يدافع بها عن بعض الغلاة في عصرنا، وهي مخطوطة، ولعلها ترى النور قريباً بعد أن يطبع كتاب أحكام الطهارة كاملاً.
انظر طرق الحديث في أطراف المسند (2/136) ، إتحاف المهرة (3539) و (3282) ، تحفة الأشراف (2/333) .(11/440)
الدليل السابع:
(1316-189) ما رواه أبو يعلى من طريق عمرو بن الربيع بن طارق، حدثني يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن عبد الله ابن سويد الخطمي،
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا يدخلن الحمام، قال: فنميته إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في خلافته، فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن سل محمد بن ثابت في حديثه، فإنه رضي، فسأله، فكتب إلى عمر رضي الله عنه، فمنع النساء من الحمام (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المطالب العالية (180) ولم أقف عليه في مسنده المطبوع، ولا في المقصد العلي في زوائد مسند أبي يعلى الموصلي، والله أعلم.
(2) في إسناده يعقوب بن إبراهيم، ذكره البخاري في التاريخ الكبير (8/395) ، وسكت عليه، وكذا فعل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/201) ، وقال: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري مصري، ولم يرو عنه إلا يحيى بن أيوب ".
ولم يوثقه إلا ابن حبان حيث ذكره في الثقات (7/642) فمثله مجهول.
وقد وهم الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي حين قال: ويعقوب بن إبراهيم هذا الذي روى عنه الليث بن سعد، هو أبو يوسف. يقصدون به صاحب أبي حنيفة، وقد علمت أن البخاري وابن أبي حاتم لم يجعلاه أبا يوسف، وهما أعلم من الحاكم والذهبي، والله أعلم.
كما أن في الإسناد وهماً أخر، فقد اختلف في إسناده على يحيى بن أيوب الغافقي،
فرواه أبو يعلى الموصلي كما في إسناد الباب وابن حبان (5597) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7/309) من طريق عمرو بن الربيع، عن يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن عبد الله بن سويد الخطمي، عن أبي أيوب.
وخالفه عبد الله بن وهب والليث،
أما رواية عبد الله بن وهب، فذكرها ابن أبي حاتم في العلل (192) عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن محمد بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي أيوب.
فجعل عبد الله بن وهب عبد الله بن يزيد بدلاً من عبد الله بن سويد.
وأما رواية الليث، فأخرجها الطبراني في المعجم الكبير (4/147) رقم 3873، وفي الأوسط (8658) من طريق عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن جبير، عن محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن أبي أيوب به.
فوافق رواية ابن وهب بكون عبد الله هو ابن يزيد، وليس ابن سويد، وزاد في إسناده بين يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن شرحبيل زاد رجلاً اسمه عبد الرحمن بن جبير، وهذه الزيادة وهم، جاءت من عبد الله بن صالح، كاتب الليث، فإن في حفظه شيئاً، لكنها تقوي رواية ابن وهب في كون عبد الله هو عبد الله بن يزيد، وليس ابن سويد.
وقد سأل ابن أبي حاتم أباه في العلل عن هذا الاختلاف (192) فقال أبوه: عبد الله بن سويد أشبه، فتعقبه ابنه، فقال: والذي عندي، والله أعلم، أن الأصح على ما رواه ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن يعقوب، عن محمد بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن أبي أيوب". اهـ والحق مع ابنه.
وعبد الله بن يزيد الخطمي، صاحبي صغير، من رجال الجماعة، وعبد الله بن سويد ليس له ذكر إلا في ثقات ابن حبان، ولم يذكر في ترجمته إلا حاصل ما في هذه الرواية، والله أعلم.(11/444)
هذه تقريباً الأحاديث التي وقفت عليها مرفوعة في التفريق بين الرجل والمرأة.(11/445)
الراجح والله أعلم.
قد يكون الرجل والمرأة فيما سبق يضطرون إلى دخول الحمام، خاصة في البلاد الباردة، وفي الغسل الواجب، فيكون الإنسان بين أن يدخل الحمام، ويغتسل، وبين أن يدع ويتيمم، وإذا اغتسل في غير الحمام ربما عرض نفسه للتلف، أما الآن والحمد لله فإن الحال قد تغيرت، وأصبح في كل بيت من بيوت المسلمين ما يقوم بتسخين المياه عن طريق الكهرباء، فلم يحتج الرجل ولا المرأة إلى الذهاب إلى الحمامات، ولكن من جهة النظر العلمي، فإن الأصل أن المرأة في الأحكام كالرجل إلا ما دل عليه الدليل، فإذا لم تتجرد المرأة في هذه الحمامات، ولم يكن معها أجانب ينظرون منها ما يحرم النظر إليه، فإن الأصل الحل، وأن المرأة كالرجل والله أعلم.(11/446)
المبحث الرابع
إذا دخل الحمام بنية الاغتسال ثم شك هل اغتسل
إذا دخل رجل الحمام بنية الاغتسال من الجنابة، وبعد ما خرج منه بمدة، حصل له شك، هل اغتسل من الجنابة أم لا؟
فقيل: لا غسل عليه، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يجب عليه الغسل، وهو مذهب الجمهور (2) .
وجه قول الحنفية:
قالوا: غلبنا الظاهر على الأصل، وذلك أن الظاهر من حاله أنه لا يخرج من الحمام إلا بعد أن يغتسل، والبناء على الظاهر واجب، ما لم يعلم خلافه.
وجه قول الجمهور:
العمل باليقين، وذلك أن الجنابة متيقنة، وأما رفع الجنابة فمشكوك فيه، والأصل عدم الغسل، وأنه باق على حكم الجنابة حتى يتيقن الانتقال منها.
وقد دل على هذه القاعدة حديث متفق عليه،
_________
(1) قال في المبسوط (1/86) : " وكذلك المحدث إذا علم أنه جلس للوضوء، ومعه الماء، وشك في أنه قام قبل أن يتوضأ، أو بعدما توضأ، فلا وضوء عليه؛ لأن الظاهر أنه لا يقوم حتى يتوضأ، والبناء على الظاهر واجب، ما لم يعلم خلافه ". اهـ وانظر بدائع الصنائع (1/33) .
(2) هذه المسألة تمشي على قاعدة مشهورة عند الجمهور، من تيقن الطهارة، وشك في الحدث، فإنه يبني على اليقين، انظر المجموع (2/74) ، المنثور في القواعد (3/136) ، البحر المحيط (1/16) ، القواعد لابن رجب (ص: 339) ، الإنصاف (1/222) ، الفروع (1/187) .(11/447)
(1322-195) فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب ح
وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (1) .
فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا شك في الحدث، وهو في الصلاة أن يستمر فيها، وأن يبقى على طهارته، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، وكذلك الحكم لا يختلف لو كان متيقناً الحدث، وشك في الطهارة، فإنه لا يزال محدثاً حتى يتيقن أنه اغتسل، وعلى هذه القاعدة فروع كثيرة منتشرة في كتب القواعد الفقهية، وكتب الفروق، فيرجع إليها في مظانها ليرى جوانب تطبيق هذه القاعدة، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (137) ، ومسلم (361) .(11/448)
الفصل الثالث
في اغتسال الرجل وزوجه من إناء واحد وهما جنبان
(1317-190) روى البخاري في صحيحه من طريق إبراهيم، عن الأسود،
عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، كلانا جنب، ورواه مسلم (1) .
وفي الصحيحين: ((كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من الجنابة)) (2) .
وفيهما: تختلف فيه أيدينا (3) .
(1318-191) وفي رواية لمسلم: ((كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دع لي، قالت: وهما جنبان)) (4) .
وللبخاري: نغرف منه جميعاً (5) .
ففي هذا الحديث دليل واضح على جواز وضوء الرجل من فضل المرأة الجنب والعكس؛ لأن اغتسالهما من إناء واحد يعني أن كلاً منهما يغتسل
_________
(1) البخاري (299) ، ومسلم (316) .
(2) البخاري (263) ، ومسلم (316) .
(3) البخاري (261) ، ومسلم (221) وكلمة (من الجنابة) جاءت في البخاري بلفظ آخر.
(4) مسلم (46-321) .
(5) البخاري (273) .(11/449)
بفضل صاحبه، وقد اختلف في الوضوء من فضل الجنب في الصدر الأول، بين ابن عمر رضي الله عنه، وبين ابن عباس رضي الله عنه.
(1319-191) فقد روى مالك، عن نافع،
أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن حائضاً أو جنباً (1) .
[وسنده صحيح] .
وبه أخذ إبراهيم النخعي، فقد قال ابن المنذر: انفرد إبراهيم النخعي بكراهة فضل المرأة إن كانت جنباً (2) .
وخالفهما حبر الأمة وترجمان القرآن، ابن عباس رضي الله عنهما.
فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي يزيد المديني، قال:
سئل ابن عباس عن سؤر المرأة، فقال: هي ألطف بناناً، وأطيب ريحا (3) ً.
[ورجاله ثقات] .
وقد ذهب إلى الأخذ برأي ابن عباس جماهير أهل العلم، فأجازوا الوضوء بفضل المرأة، جنباً كانت، أو غير جنب (4) ،
وهو رواية عن أحمد،
_________
(1) الموطأ (1/52) .
(2) الأوسط (1/297) .
(3) المصنف (348) .
(4) انظر في مذهب الحنفية: تبيين الحقائق (1/31) ، شرح معاني الآثار (1/26) ، المبسوط (1/61،62) ، حاشية ابن عابدين (1/133) .
وفي مذهب المالكية: الخرشي (1/66) ، مختصر خليل (ص: 5) ، بداية المجتهد (1/294) ، التاج والإكليل (1/72) ، المنتقى شرح الموطأ (1/63) ، أحكام القرآن لابن العربي (3/442) ، الاستذكار (1/372) ، حاشية الدسوقي (1/35) .
وفي مذهب الشافعية: الأم (1/21) ، المجموع (2/221) ، طرح التثريب (2/39،40) ، تحفة المحتاج (1/77) .(11/450)
اختارها ابن عقيل من الحنابلة (1) ، ورجحه ابن المنذر (2) ،
قال ابن عبد البر في التمهيد: ((والذي ذهب إليه جمهور العلماء، وجماعة فقهاء الأمصار، أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وتتوضأ المرأة بفضله، انفردت بالإناء، أو لم تنفرد، وفي مثل هذا آثار كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحاح، والذي يُذْهَب إليه أن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما ظهر فيه من النجاسات، أو غلب عليه منها، فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال، والله المستعان)) (3) . اهـ
قال ابن حجر: ونقل الطحاوي، ثم القرطبي، والنووي الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد، وفيه نظر؛ لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم، وهذا الحديث حجة عليهم (4) .
_________
(1) المغني (1/136) .
(2) قال في الأوسط (1/295) : " والذي نقول به الرخصة في أن يغتسل كل واحد منهما ويتوضأ بفضل طهور صاحبه، وإن كانا جنبين أو أحدهما، أو كانت المرأة حائضاً، وسواء ذلك خلت به، أو لم تخل به، لثبوت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدالة على صحة ذلك. اهـ
(3) التمهيد (14/165) .
(4) فتح الباري تحت رقم (193) .(11/451)
وخالف الحنابلة الجمهور في مسألتين:
في فهم فضل المرأة، وفي حكمه:
فقالوا في فضل المرأة: هو الماء الذي خلت به المرأة من مشاهدة مميز، سواء كان ذكراً أم أنثى، وليس ما انفردت به، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (1) .
وأما حكم هذا الماء، فقالوا: طهور في حق المرأة، وليس طهوراً في حق الرجل، فلا يستعمل في رفع حدث الرجل خاصة، ويستعمل في إزالة النجاسة، كما يستعمل في رفع حدث المرأة والصبي (2) ، ومذهب ابن
_________
(1) قال أحمد كما في مسائل عبد الله (1/22،23) : " سمعت أبي يقول: لا بأس أن يتوضأ - يعني بفضل وضوء المرأة - وهو يراها، ما لم تخل به ". اهـ
فشرط هنا أن يراها، فيكون معنى الخلوة: هي عدم المشاهدة، ولذلك قال المراداوي في الإنصاف (1/49) : إن في معنى الخلوة روايتين:
أحدهما: وهي المذهب، أنها عدم المشاهدة عند استعمالها من حيث الجملة.
والثانية: انفرادها بالاستعمال، سواء شوهدت أم لا، وتزول الخلوة بمشاركته لها في الاستعمال بلا نزاع.
(2) مذهب الإمام أحمد كما في المشهور من مذهبه عند المتأخرين أن الماء لا يرفع حدث الرجل بشروط، وهي:
الأول: أن تخلو به المرأة عن مشاهدة رجل، أو امرأة، أو مميز، وقد قدمنا أن في المذهب روايتين، هذه أحدهما.
الثاني: أن تكون خلوتها بماء، فلا تضر خلوتها بتراب.
الثالث: أن يكون الماء يسيراً دون القلتين.
الرابع: أن تكون خلوتها بالماء لطهارة كاملة.
الخامس: أن تكون طهارتها عن حدث، وليس عن إزالة نجاسة.
قال ابن قدامة في المغني (1/137) : " فإن خلت به في بعض أعضائها، أو في تجديد طهارة، أو استنجاء، أو غسل نجاسة، ففيه وجهان:
أحدهما: المنع؛ لأنه طهارة شرعية.
والثاني: لا يمنع؛ لأن الطهارة المطلقة تنصرف إلى طهارة الحدث الكاملة، وهذا ما عليه المتأخرون من أصحاب أحمد. وانظر في مذهب أحمد الكافي (1/62) ، الإنصاف (1/48) ، الفروع (1/83) ، تنقيح التحقيق (1/214) ، كشاف القناع (1/37) .(11/452)
حزم قريب منه (1) .
وهذا الرأي من غريب الفقه، إذ كيف يكون ماء طهور في حق المرأة، ولا يكون طهوراً في حق الرجل، والحكم بالطهورية هو حكم وضعي، وليس حكماً تكليفياً، فإما أن يكون الماء قد طرأ عليه ما يفسده، فَنَقَلَه عن الطهورية إلى غيرها، وإما أن تكون الطهورية باقية، فلا فرق حينئذ بين الرجل والمرأة.
_________
(1) قال ابن حزم في المحلى (1/204) : " وكل ماء توضأت منه امرأة - حائض أو غير حائض - أو اغتسلت منه، فأفضلت منه فضلاً، لم يحل لرجلٍ الوضوء من ذلك الفضل، ولا الغسل منه، سواء وجدوا ماء آخر، أو لم يجدوا غيره، وفرضهم التيمم حينئذ، وحلال شربه للرجال والنساء، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال، ولا يكون فضلاً إلا أن يكون أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله، أو أكثر فليس فضلاً، والوضوء والغسل به جائز للرجال والنساء ".
والفرق بين اختيار ابن حزم، ومذهب الحنابلة، أن ابن حزم لا يشترط أن تخلو به المرأة عن المشاهدة، بل يكفي أن تنفرد به عن الرجل، ولا يحد ابن حزم الماء اليسير في القلتين، بل يحده بأن يكون الماء المتبقي أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلاً، والله أعلم.(11/453)
والصحيح أن الوضوء بفضل المرأة، جنباً كانت، أو حائضاً، جائر بلا كراهة، وهل يكون سؤر الهرة أطيب من سؤر المرأة؟! فيتوضأ الإنسان من سؤر الهرة بدون حرج، ويتحاشى سؤر المرأة.
وقد ذكرت أدلة الأقوال في مسألة مستقلة من كتاب أحكام الطهارة، في مباحث المياه والآنية، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله.(11/454)
الفصل الرابع
من آداب الغسل
ذكر التسمية في أوله
اختلف الفقهاء في التسمية للغسل، ومعلوم أن المغتسل للجنابة تارة يتوضأ قبل أن يغتسل، وتارة يغتسل بدون وضوء، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم الوضوء في غسل الجنابة، فإن توضأ قبل غسله، فقد ذكرت في مباحث الوضوء حكم التسمية في الوضوء، وجرى تحرير الخلاف فيها مع ذكر الأدلة هناك، وتم ترجيح أن التسمية غير مشروعة في الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية،
جاء في التاج والإكليل (1) : ((أنكر مالك التسمية على الوضوء، وقال: ما سمعت بهذا، أيريد أن يذبح)) ؟.
وإن اغتسل بلا وضوء، فما حكم التسمية حينئذ عند الفقهاء رحمهم الله تعالى،
فقيل: التسمية سنة، وهو مذهب الحنفية (2) ، والشافعية (3) .
_________
(1) (1/347) وجاء في حاشيةالعدوي (1/182) : ولم ير بعض العلماء القول بالبداءة بالتسمية من الأمر المعروف عند السلف، بل رآه من الأمر المنكر.
وقد نقل عن مالك ثلاث روايات: إحداها، وبها قال ابن حبيب: الاستحباب.
الثانية: الإنكار، وقال: أهو يذبح؟
الثالثة: التخيير. اهـ بتصرف يسير.
(2) انظر إلى نور الإيضاح (ص: 23) ، حاشية ابن عابدين (1/156) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 67) .
(3) شرح زبد ابن رسلان (ص: 58) ، متن أبي شجاع (ص:24) ، المجموع (2/510)(11/455)
وقيل: التسمية من الفضائل، وهو المشهور في مذهب المالكية (1) .
وقيل: لا تستحب التسمية للجنب، وهو وجه في مذهب الشافعية (2) ، وينبغي أن يكون قولاً في مذهب المالكية (3) .
وقيل: تجب التسمية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (4) .
دليل من قال باستحباب التسمية في الغسل.
الدليل الأول:
(1323-196) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة،
_________
(1) الشرح الصغير (1/171) ، القوانين الفقهية (ص: 22) ، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (ص:60) ، الفواكه الدواني (1/147) ، حاشية العدوي (2/265) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:20) .
(2) ذكر النووي في المجموع (2/210) بأن هناك وجهاً في المذهب يرى أن التسمية غير مستحبة للجنب، حكاه القاضي حسين، والمتولي، وغيرهما، قال: ولم يذكر الشافعي في المختصر والأم والبويطي التسمية، وكذا لم يذكرها المصنف في التنبيه، والغزالي في كتبه، فيحتمل أنهم استغنوا بقولهم: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة؛ لأن وضوء الصلاة يسمي في أوله".
قلت: ويحتمل أنهم لا يرون التسمية للجنب، كما هو وجه في مذهب الشافعية، والله أعلم.
(3) قدمت في مباحث الوضوء بأن التسمية للوضوء مكروهة على قول في مذهب المالكية، فإذا كانت مكروهة في الوضوء لم يبعد أن تكون كذلك في الغسل.
(4) الفروع (1/204) ، الإنصاف (1/252) ، شرح منتهى الإرادت (1/85) ، كشاف القناع (1/154) .(11/456)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر، أو قال: أقطع (1) .
[إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب] (2) .
ويجاب عن ذلك:
أولاً: أن الحديث ضعيف.
ثانياً: ليس كل عبادة مشروعة تكون التسمية فيها مشروعة، فالتسمية في العبادات منها ما هو شرط كالذبح، ومنها ما هو مستحب كما في قراءة القرآن، بل قد تستحب في بعض المباحات كالأكل والشرب.
ومنها ما هو بدعة، كالتسمية في الأذان، وفي الإقامة، وفي الصلاة، وفي الحج والعمرة ونحوها، فليس كل فعل تشرع فيه التسمية (3) .
_________
(1) المسند (2/359) .
(2) سبق تخريجه، انظر كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم: 105.
(3) يقول البقوري في كتابه ترتيب الفروق واختصارها (1/368) : " أفعال العباد إما قربات، وإما محرمات، وإما مكروهات، وإما مباحات:
فالمباحات: جاءت البسملة في بعضها، كالأكل والشرب والجماع، والحث على ذلك في بعضها آكد من بعض، ولم يأت (أي الحث) في كل شيء من المباح، وأما ما لم يأت فيه، فحسن للإنسان أن يستعمله؛ ليجد بركة ذلك.
وأما المحرمات والمكروهات، فيكره له التسمية عند الشروع فيها، من حيث قصد البركة بها، وذلك لا يراد في الحرام والمكروه، بل المراد من الشرع عدمه، وتركه.
وأما القربات فقد جاء في بعضها وأُكِدَ فيه كالذبح، وجاء عند قراءة القرآن، واختلف فيه في بعضها، كالغسل والوضوء والتيمم.... الخ كلامه رحمه الله تعالى.
فعلم من كلامه هذا أن التسمية مختلف في مشروعيتها في الغسل والوضوء والتيمم، وهو ما أريد أن يطلع عليه القارئ؛ ليعلم أن إنكار التسمية في الوضوء والغسل كان ثابتاً من لدن السلف، وقد سبق أن نقلت إنكار مالك للتسمية على الوضوء، وقوله: ما سمعت بهذا، أيريد أن يذبح "؟.(11/457)
وقد قال القرافي في كتابه الفروق: ((فأما ضابط ما تشرع فيه التسمية من القربات، وما لم تشرع، فيه فقد وقع بحث مع جماعة من الفضلاء، وعسر تحرير ذلك وضبطه، ثم قال: والقصد من هذا الفرق بيان عسره، والتنبيه على طلب البحث عن ذلك، فإن الإنسان قد يعتقد أن هذا لا إشكال فيه، فإذا نبه على الإشكال استفاده، وحثه ذلك على طلب جوابه)) (1) .
قلت: رحمك الله رحمة واسعة يا أحمد بن إدريس القرافي، فلقد طلبت في بحثي هذا حديثاً صحيحاً أو ضعيفاً في مشروعية التسمية في غسل الجنابة، ولم أقف عليه حتى كتابة هذه السطور، وليس في قلبي شيء من عدم مشرعية التسمية في غسل الجنابة، فيبعد أن تكون التسمية مشروعة، ثم لا تأتي في الأحاديث التي تنقل لنا صفة الغسل من الجنابة، فهل يتصور أن يتتابع الصحابة على إهمال ترك التسمية، وعدم نقلها للأمة مع ثبوت مشروعيتها، ولو كانت التسمية من دين الله لحفظها الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (2) ، وحفظ الكتاب إنما يكون أيضاً بحفظ الشرع، فلا يمكن أن يكون شيء من شرع الله غير محفوظ لنا، ودع عنك أيها القارئ الكريم متابعة جمهور الفقهاء بلا نور من كتاب الله سبحانه وتعالى، أو حجة من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهما الحجة
_________
(1) أنواع البروق في أنواع الفروق (1/132) .
(2) الحجر: 9.(11/458)
على خلقه، وما ليس فيهما فلا تتبعه، وإن قال به من قال، فإن خطأ القائل معذور به مأجور عليه، وأما متابعتك لغيرك من غير هدى فإن سلمت من الإثم، فلا أجر فيها، والله المستعان، وعليه التكلان.
الدليل الثاني:
وردت أحاديث كثيرة في مشروعية التسمية في الوضوء، بلفظ: (لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) .
ورد ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن زيد، وأنس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وإن كان في أسانيدها مقال، فإنها صالحة للحجة بالمجموع (1) .
فإذا ثبتت التسمية في الطهارة الصغرى، كانت التسمية مشروعة في الطهارة الكبرى من باب أولى؛ لأنها صغرى وزيادة (2) .
وأجيب:
لا نسلم أن التسمية مشروعة في الطهارة الصغرى، وقد تقدم بحث التسمية في الطهارة الصغرى، وتبين أن التسمية فيها غير مشروعة، وإذا بطل الأصل بطل الفرع، ولو أخذنا بظاهر أحاديث ((لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) لقلنا: إن التسمية شرط في صحة الوضوء، من تركها، ولو سهواً، لم يصح وضوؤه، ووجب عليهم القول بأن منزلة التسمية في الوضوء، كمنزلة الوضوء للصلاة، ولما لم تكن هذه الأحاديث
_________
(1) وقد تم تخريجها والكلام على أسانيدها في كتاب الوضوء، فأغنى عن إعادته هنا.
(2) انظر بتصرف: المبدع (1/194) .(11/459)
بتلك الصحة لم يذهب الجمهور إلى أن التسمية شرط، بل لم يذهبوا إلى القول بالوجوب إلا رواية عن الإمام أحمد، وقد استقر مذهبه على القول بعدم الوجوب كما نقل الخلال عنه، ونقلت ذلك في كتاب الوضوء، وعليه فنقول لهم: لا تحتجوا علينا بأحاديث أنتم أنفسكم لا تقولون بمقتضاها، والله المستعان.
دليل الحنابلة على وجوب التسمية:
لما كان الحنابلة يوجبون التسمية في الطهارة الصغرى، أوجبوها في الطهارة في الكبرى من باب القياس.
والجواب عنهم، هو الجواب نفسه الذي رُدَّ به قول الجمهور، فهذا الدليل هو عين دليل الجمهور إلا أن الجمهور قالوا: لما كانت الطهارة مشروعة في الطهارة الصغرى كانت مشروعة في الطهارة الكبرى، والحنابلة قالوا: لما كانت التسمية واجبة في الطهارة الصغرى كانت واجبة في الطهارة الكبرى، ولا يصح القياس لما ذكرنا في الجواب عن الدليل الذي قبل هذا.
دليل من قال: التسمية غير مشروعة في الغسل.
الدليل الأول:
الأصل في العبادت الحضر، حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث الأغتسال من الجنابة ليس فيها ذكر التسمية، {وما كان ربك نسياً} (1) .
_________
(1) مريم: 64.(11/460)
الدليل الثاني:
أن أحاديث غسل الجنابة في السنة خلو من التسمية، ولو كانت مشروعة لما أغفل الصحابة رضي الله عنهم ذكرها، ولو كانت التسمية مشروعة لحفظها الله لنا، فلما لم تنقل لنا التسمية في الغسل، لا في حديث صحيح، ولا في حديث ضعيف، كان هذا دليلاً على عدم مشروعية التسمية، والقول بمشروعية التسمية في غسل الجنابة يعني أن التسمية كانت تفعل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صحابته، ولكن الصحابة قد قصروا في نقل هذه السنة للأمة، وأسوق لك بعض الأحاديث الصحيحة في صفة غسل الجنابة، وليس فيها ذكر للتسمية، منها:
(1324-197) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. ورواه مسلم (1) .
فهذه صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة وليس فيها ذكر البسملة.
(1325-198) ومنها ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال:
حدثتني خالتي ميمونة، قالت: أدنيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ بها على فرجه،
_________
(1) البخاري (272) ومسلم (316)(11/461)
وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بمنديل فرده. ورواه البخاري (1) .
وهذا الحديث كغيره ليس فيه التسمية، فيبعد أن تكون التسمية مشروعة ثم لا تنقل من قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله.
(1326-199) ومنها ما رواه مسلم من طريق سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة،
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين (2) .
فهذه الأحاديث هي التي نقلت لنا صفة غسل الجنابة، وليست التسمية فيها، وبالتالي يقطع الباحث بعدم مشروعية التسمية، ولا حاجة لنا إلى الذهاب إلى القياس على الوضوء، لأمرين بل لثلاثة:
الأول: عدم ثبوت التسمية في الوضوء.
الثاني: أن الغسل كان يتكرر منه - صلى الله عليه وسلم -، كما كان يتكرر من صحابته رضوان الله عليهم، فكانت الأمة بحاجة إلى معرفة حكم التسمية في الغسل، فلما لم يأت ذكر للتسمية في أحاديث صفة الغسل من الجنابة، علم أنها ليست مشروعة.
_________
(1) البخاري (257) ومسلم (317) .
(2) صحيح مسلم (330) .(11/462)
الثالث: أن القياس في العبادات، قياس ضعيف، ولذلك سبق لنا قول القرافي: ((يعسر الحصول على ضابط لما تشرع فيه التسمية وما لا تشرع))
وإذا كان لا يوجد ضابط كان القول بمشروعية التسمية في الغسل يحتاج إلى توقيف من الشارع، فالضابط المطرد: هو النص، فإذا لم نجد مثل ذلك لم نذهب ونتكلف بالقول بالقياس، وكيف نرد على من قال: إذا قلتم بالقياس، فقولوا بمشروعية التسمية في الصلاة والأذان بجامع أن كلاً منهما عبادة، فإذا منعتم القياس بهذه العبادات منعنا القياس على الوضوء، وهذا على التسليم في صحة التسمية في الوضوء، بل يمكن أن يعكس القياس، فيقال: لم يرد حديث صحيح ولا ضعيف في ثبوت التسمية في الغسل، أو في التيمم، وكلاهما طهارة من الحدث، فيقاس عليهم الوضوء بعدم مشروعية التسمية بجامع أن كلاً منهما طهارة من حدث، والله أعلم.
الراجح من الخلاف.
القول بعدم مشروعية التسمية، هو القول الذي يتمشى مع الأدلة، والأصل عدم المشروعية حتى تثبت التسمية في حديث صحيح خال من النزاع، والله أعلم، وإن عدم ثبوت حديث صحيح أو ضعيف في مشروعية التسمية في الغسل يؤكد لك أخي القارئ عدم مشروعية التسمية في الطهارة الصغرى، والتي وردت فيها أحاديث لا تقوم فيها حجة، فإذا كان اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة لم نقف فيه على أثر مرفوع في مشروعية التسمية، فالطهارة الصغرى لا يستنكر القول بعدم مشروعية التسمية فيها، وإن وردت فيها أحاديث ليست بذاك، وإذا كان الجمهور يرى مشروعية التسمية في الغسل، مع أنه لا يوجد فيها سنة مرفوعة، ولو ضعيفة، لم نجعل قول الجمهور حجة في ذهابهم إلى مشروعية التسمية في الطهارة الصغرى، والله أعلم.(11/463)
[صفحة فارغة](11/464)
الفصل الخامس
من آداب الغسل
غسل فرجه وما أصابه من أذى قبل الاغتسال
يستحب لمن أراد الغسل أن يغسل فرجه، وما أصابه من أذى، سواء كان هذا الأذى نجساً كالمذي، أو كان طاهراً مستقذراً كالمني (1) .
وهذا الاستحباب، هل يستحب مطلقاً، أو يستحب حيث يوجد على ذكره أذى، فإن لم يوجد لم يستحب ذلك، كما لو أولج ذكره بحائل، ولم ينزل، في ذلك خلاف بين أهل العلم.
فذهب الحنفية إلى أن تقديم غسل الفرج سنة مطلقاً، سواء كان على ذكره نجاسة أم لا، وقاسوه على تقديم الوضوء على غسل باقي البدن، سواء
_________
(1) معلوم أن المني قد اختلف العلماء في نجاسته، فذهب الحنفية والمالكية إلى نجاسته، انظر بدائع الصنائع (1/84) ، والمبسوط (1/81) ، والبحر الرائق (1/235-236) ، وفي مذهب المالكية، انظر الاستذكار (3/113) ، والقوانين الفقهية (ص: 41) ، حاشية الدسوقي (1/111) ، مواهب الجليل (1/284) .
وذهب الشافعية والحنابلة إلى طهارته، المني، انظر المجموع (1/146) ، انظر مسائل أحمد رواية أبي داود (1/32) رقم 148،149،150. وقال أحمد في مسائله رواية صالح (3/46) : قلت لأبي الفراش يصيبه المني، يبسط عليه؟ فقال: المني شيء آخر، وسهل في المني جداً، وقال: أين المني من البول، البول شديد، والمني يفرك، وقد جاء أنه بمنزلة المخاط، يقوله ابن عباس. اهـ وانظر مسائل أحمد رواية ابن هانئ (1/25) ، ورواية عبد الله (1/49) رقم 52. ومسائل أحمد وإسحاق (1/157،192،247) .(11/465)
كان هناك حدث أم لا (1) .
وقيل: إن لم يكن هناك أذى، فلا حاجة إلى غسل فرجه، وهذا مذهب الشافعية (2) .
وربما أخذ الشافعية من قول ميمونة في الحديث ((وغسل فرجه، وما أصابه من أذى)) وأن الأذى يطلق على النجاسة، لقوله سبحانه وتعالى عن الحيض: {يسألونك عن المحيض قل هو أذى} (3) . والمحيض: نجس بالإجماع.
فالجواب: أن الأذى قد يطلق على النجاسة كإطلاقه على دم الحيض، وقد يطلق على الشيء الطاهر،
قال تعالى: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر} (4) .
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن
والأذى} (5) .
وقال: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} (6) .
وقال: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه} (7) .
_________
(1) الفتاوى الهندية (1/14) .
(2) انظر حواشي الشرواني (1/284) .
(3) البقرة: 222.
(4) النساء: 102.
(5) 264.
(6) البقرة: 263.
(7) البقرة: 196.(11/466)
وأذى الرأس يقصد به القمل، كما هو معلوم من سبب النزول، وقصة كعب بن عجرة في الصحيحين (1) ، ولا يقال: إن القمل نجس.
وأرى أن غسل الفرج لا يتعين من أجل إزالة النجاسة، بل قد يبدأ بغسله حتى لا يحتاج إلى مسه بعد ذلك، فينتقض وضوؤه، ولو كان كل من جامع أصبح ذكره نجساً، لنقل عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مباشرة غسله بعد الجماع، خاصة أن الذكر يخرج من الجماع، وهو رطب، ولنقل عنه - صلى الله عليه وسلم - حرصه على توقيه، حتى لا تتعدى النجاسة إلى ثيابه، ولجاء الأمر بغسل الذكر بعد الجماع مباشرة، أو التحفظ منه، فلما لم ينقل عن المعصوم أمر بغسل الذكر من الجماع، ولم ينقل غسله مباشرة بعد الجماع، علم أن غسل الذكر في غسل الجنابة ليس واجباً، وسيأتي مزيد بيان لهذا، حين الكلام على دليل الاستحباب، والله أعلم.
الدليل على استحباب غسل الفرج في غسل الجنابة.
هناك دليلان أثري ونظري على استحباب البداءة بغسل الفرج.
أما الدليل الأثري:
(1327-200) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،
عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري اللفظ له ومسلم (2) .
_________
(1) البخاري (1815) ، ومسلم (1201) .
(2) صحيح البخاري (260) ، ومسلم (317) .(11/467)
قال ابن تيمية: الاستنجاء من المني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على الدوام، ولا أعلم إخلالهم به بحال (1) .
وأما الدليل النظري:
فإنه يستحب أن يغسل فرجه قبل ضوئه؛ لأنه إذا أخر غسل الفرج، فإنه إن مس فرجه انتقض وضوؤه، وإن لم يمسه أخل بسنة الدلك، وربما لا يتقين وصول الماء إلى مغابنه إلا بالدلك (2) .
وقد استدل الحنفية والمالكية بهذا الحديث على نجاسة المني، وذلك لكونه استنجى من المني فغسل فرجه، وليس بصواب، فإن الغسل ليس مقصوراً فقط على النجاسة، فقد يكون الغسل للنظافة، أو من أمر مستقذر وإن لم يكن نجساً، وقد يكون الغسل من مذي أصابه، وهو نجس، فلا يصح الحديث دليلاً على نجاسة المني، وقد يكون الغسل حتى لا يحتاج إلى مسه بعد ذلك، فيبطل وضوؤه (3) .
_________
(1) شرح العمدة (1/162) ، وقال أيضاً في مجموع الفتاوى (21/594) : الاستنجاء منه مستحب، كما يستحب إماطته من الثوب والبدن، وقد قيل: هو واجب، كما قد قيل: يجب غسل الأنثيين من المذي، وكما يجب غسل أعضاء الوضوء إذا خرج الخارج من الفرج، فهذا كله طهارة وجبت لخارج، وإن لم يكن المقصود بها إماطته وتنجيسه، بل سبب آخر، كما يغسل منه سائر البدن، فالحاصل أن سبب الاستنجاء منه ليس هو النجاسة، بل سبب آخر، فقولهم: يوجب طهارة الخبث، وصف ممنوع في الفرع، فليس غسله من الفرج للخبث، وليست الطهارات منحصرة في ذلك كغسل اليد عن القيام من نوم الليل، وغسل الميت، والأغسال المستحبة، وغسل الأنثيين وغير ذلك، فهذه الطهارة إن قيل بوجوبها، فهي من القسم الثالث، فيبطل قياسه على البول؛ لفساد الوصف الجامع. اهـ
(2) شرح العمدة (1/370) .
(3) وقد ذكرت خلاف العلماء في حكم المني من حيث الطهارة والنجاسة، وأدلة كل فريق في مبحثين: أحدهما في كتاب أحكام النجاسة، وفي كتاب الاستنجاء من المني، فانظره هناك في مبحث مطول، فلله الحمد.(11/468)
وقد أشار النووي إلى أن الاستنجاء من المني لا يكفي في رفع الجنابة، فلا بد من غسله مرة أخرى بنية رفع الجنابة،
قال النووي: ((وينبغي لمن اغتسل من إناء كالإبريق ونحوه، أن يتفطن لدقيقة قد يغفل عنها، وهي: أنه إذا استنجى، وطهر محل الاستنجاء بالماء، فينبغي أن يغسل محل الاستنجاء بعد ذلك بنية غسل الجنابة؛ لأنه إذا لم يغسله الآن ربما غفل عنه بعد ذلك، فلا يصح غسله لترك ذلك، وإن ذكره احتاج إلى مس فرجه، فينتقض وضوءه، أو يحتاج إلى كلفة في لف خرقة على يده، والله أعلم)) . (1) اهـ
قلت: إذا استنجى بنية رفع الحدث وإزالة النجاسة كفى، ولا يحتاج الأمر إلى إعادة غسل الفرج مرة أخرى بنية رفع الجنابة، بل إن إزالة النجاسة لا يحتاج الأمر فيها إلى نية، فإذا ذهبت النجاسة ولو كانت النية رفع الحدث فقد حصل المطلوب، وربما كان غسل الفرج أولاً لكي لا يحتاج إلى غسله مرة أخرى فينتقض وضوءه، ولو كان غسل الفرج يتكرر أكثر من مرة لبينته السنة.
ولذلك قال الخرشي: ((ثم يغسل ذلك المحل، أو غيره بنية غسل الجنابة؛ ليأمن من نقض الوضوء بمس ذكره بعد ذلك، وإن لم ينو رفع الجنابة عند غسل فرجه فلا بد من غسله ثانياً؛ ليعم جسده، وكثير من الناس لا يتفطن لذلك فينوي بعد غسل فرجه، ثم لا يمسه حفظاً للوضوء، فيؤدي لبطلان الغسل لعرو غسل الفرج عن نية، قاله المؤلف في شرحه على المدونة اللخمي، وإن نوى رفع الجنابة في حين إزالة النجاسة عنه، وغسل غسلاً وحداً أجزأ على مذهب المدونة)) (2) .
_________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم (3/229) .
(2) الخرشي (1/172) .(11/469)
فهذا الكلام أدق من كلام النووي، حيث لا يطلب غسل الفرج مرة أخرى إذا كان غسله للفرج بنية رفع الجنابة، أو نواهما معاً: إزالة النجاسة ورفع الحدث، وأرى أن الأمر سهل جداً، وأن النية العامة في رفع حدث الجنابة تكفي إن شاء الله تعالى، ولا يتطلب الأمر نية خاصة عند كل عضو من البدن، فإذا نوى نية عامة في هذا الغسل رفع الجنابة، يكون الفرج داخلاً في تلك النية، ولو غسله بنية إزالة الأذى، فنية الصلاة تكفي عن نية خاصة عند الركوع والسجود والجلوس، فكذلك نية الغسل تكفي عن نية خاصة عند غسل الفرج، أو الرأس، أو اليد، وهكذا، والله أعلم(11/470)
الفصل السادس
من آداب الغسل
غسل اليدين قبل الوضوء وقبل غسل الفرج
نحتاج في بحث هذه المسألة إلى الكلام أولاً: في محل غسل اليدين من غسل الجنابة.
وثانياً: هل يغسل كفيه كليهما، أو اليمنى فقط التي يغرف بها؟
وثالثاً: ما نية غسلهما، هل يغسلهما بنية النظافة، أو بنية رفع الحدث، أو ماذا؟
ورابعاً: عدد غسلات اليد، هل تغسل مرة واحدة، أو أكثر؟
المبحث الأول:
في محل غسل اليدين من غسل الجنابة
جاء السنة الصحيحة الصريحة في أن غسل الكفين إنما يكون في ابتداء الغسل، وقبل الاستنجاء.
(1328-201) لما روى البخاري من طريق سفيان عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب،
عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، وما أصابه، ثم مسح بيده الحائط، أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم(11/471)
أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه.
فهذه الرواية صريحة في أن غسل اليد كان قبل غسل الفرج، وأن غسل الفرج كان قبل الوضوء، ثم يفيض على جسده الماء، وكان التعبير بلفظ (ثم) الدالة على الترتيب في جميع ذلك.
(1329-202) وأما ما رواه البخاري رحمه الله تعالى من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،
عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه، وما أصابه من أذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحى رجليه، فغسلهما. هذه غسله من الجنابة.
فذكر غسل الفرج بعد الوضوء، فقد أجاب عنه الحافظ في الفتح، فقال: ((فيه تقديم وتأخير؛ لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء؛ إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وقد بين ذلك ابن المبارك عن الثوري عند البخاري في باب الستر في الغسل، فذكر غسل اليدين، ثم غسل الفرج، ثم مسح يده بالحائط، ثم الوضوء غير رجليه، وأتى بـ ((ثم)) الدالة على الترتيب في جميع ذلك)) (1) .
_________
(1) فتح الباري تحت حديث (249) .(11/472)
المبحث الثاني
هل يغسل يديه كليهما أو اليمنى فقط؛ لأنها آلة الغرف
قال الباجي: ((ويكفي غسل اليمنى في هذا الموضع على قول أشهب؛ ليمكنه غرف الماء بها، ولا معنى لغسل اليد اليسرى معها؛ لأنه يغسل بها فرجه بعد ذلك، فيباشر النجاسة، ولا يباشر شيئاً من ذلك بيمناه، فلذلك غسلها ليتناول بها الماء)) (1) .
(1330-203) واستدل الباجي بأثر موقوف على ابن عمر رضي الله عنه، رواه مالك في الموطأ، عن نافع،
عن عبد الله بن عمر كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فأفرغ على يده اليمنى، فغسلها، ثم غسل فرجه، ثم مضمض واستنثر... الخ (2) .
(1331-204) بل يمكن أن يستدل له بما رواه البخاري من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،
عن ميمونة بنت الحارث، قالت: وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله، وسترته، فصب على يده، فغسلها مرة أو مرتين، قال سليمان: لا أدري أذكر الثالثة أم لا، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه... الحديث.
قلت: الصحيح غسل الكفين معاً، وهذه الرواية لا بد من حملها على باقي الرويات الأخرى لحديث ميمونة، لأن الحديث واحد، فيقال: إن كلمة ((يده)) مفرد مضاف، فيعم كلتا يديه.
_________
(1) المنتقى للباجي (1/95) .
(2) الموطأ (102)(11/473)
فحديث ميمونة مداره على الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة،
(1332-105) رواه البخاري من طريق أبي حمزة، عن الأعمش به بلفظ: ((صب على يديه، فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها.... الحديث)) .
فهنا ذكر أن الغسل كان لكلتا يديه قبل غسل الفرج، وأما بعد غسل فرجه فكان الغسل ليده اليسرى؛ لأنها هي التي باشر بها غسل فرجه، وهي التي ضرب بها الأرض.
(2333-206) ورواه البخاري من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش به، بلفظ: ((صببت للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلاً، فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما، ثم غسل فرجه، ثم قال بيده الأرض، فمسحها بالتراب، ثم غسلها، ثم تمضمض واستنشق...)) الحديث.
ورواية حفص هذه توافق رواية أبي حمزة، بأن غسل اليدين كان قبل غسل الفرج، وأن الغسل كان لكلتا يديه، ثم عاد وغسل اليد اليسرى بعد أن مسحها بالتراب.
(1334-207) ورواه مسلم من طريق عيسى بن يونس، عن الأعمش به، بلفظ: ((فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ بها على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة)) (1) .
_________
(1) مسلم (317) .(11/474)
فهذه الروايات في حديث ميمونة صريحة في أن الغسل كان لكفيه كليهما، ولم يختلف الأمر في صفة الغسل في حديث عائشة،
(1335-208) فقد رواه البخاري من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بلفظ:
((كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة...)) الحديث (1) .
ورواه البخاري كذلك من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشام به (2) .
ورواه مسلم من طريق وكيع، عن هشام به، بلفظ: ((بدأ، فغسل كفيه ثلاثاً)) (3) .
ورواه مسلم أيضاً من طريق أبي معاوية، عن هشام به، بلفظ: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ، فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة)) (4) .
_________
(1) البخاري (248) .
(2) صحيح البخاري (272) .
(3) مسلم (316) .
(4) مسلم (316) .(11/475)
[صفحة فارغة](11/476)
المبحث الثالث
الموجب لغسل اليدين في غسل الجنابة
اختلف العلماء في موجب غسل اليدين،
قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون غسلهما من أجل النظافة، وإزالة ما بهما من مستقذر (1) .
قلت: يمنع من هذا اعتبار العدد في غسلهما، فإنه لو كان الأمر من أجل النظافة وإزلة المستقذر فقط لاكتفى بذلك بغسلة واحدة، فإن النجاسة العينية تكفي في غسلها غسلة واحدة تذهب بعينها، فلما كان الغسل ثلاث مرات، كان الأمر ليس من أجل النظافة، أو إزالة النجاسة، أو المستقذر.
وهذا الخلاف ليس لفظياً، فمن قال: إن الغسل من أجل النظافة، لم ير أن غسلهما مشروع فيما لو كانت يده نظيفة، أو كان قد غسلهما، ثم أحدث، فإذا استأنف الوضوء لم يشرع له إعادة غسلهما، كما أنه لا يرى وجوب النية في غسلهما؛ لأن الغسل إذا كان من قبيل النظافة، أو إزالة النجاسة لم تكن النية واجبة، بخلاف من يرى أن غسلهما من أجل الوضوء فحسب، سواء كانت اليد نظيفة، أو غير نظيفة.
فالراجح أن غسل اليدين مشروع، حتى ولو كانت اليد نظيفة؛ لأن الطهارة إذا دخلتها أحكام العبادة المحضة غلبت عليها، فلم يراع فيها السبب، فغسل اليدين حين دخله العدد غلبت عليه أحكام العبادة المحضة، ومثله غسل الجمعة أصله إزالة الرائحة، فلما دخلت عليه أحكام العبادة لزمه الاتيان به، وإن لم يوجد سببه، والله أعلم.
_________
(1) الفتح، تحت رقم (248) .(11/477)
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون غسلهما هو الغسل المشروع عند القيام من النوم (1) .
(1336-209) وقد أخذ ذلك بما رواه مسلم من طريق زائدة، عن معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء، ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة (2) .
ورواه الشافعي والترمذي من طريق سفيان بن عيينة، عن هشام به، وذكر غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء.
وكونه غسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ليس فيه دليل على أن ذلك بسبب القيام من النوم، بل كان ذلك هديه - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يتوضأ غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء،
(1337-210) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز ابن عبد الله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء ابن يزيد أخبره،
أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق. الحديث. وأخرجه مسلم (3) .
_________
(1) المرجع نفسه، والصحفة نفسها.
(2) مسلم (316) .
(3) صحيح البخاري (160) ، ومسلم (226) .(11/478)
فلم يدخل يمينه في الإناء حتى غسلها ثلاثاً، ولم يكن ذلك بسبب القيام من نوم الليل، لأن الحديث مطلق، نعم إذا كان غسل اليد بعد القيام من نوم الليل فإن غسلهما يتأكد، وقد قال بعض العلماء بالوجوب، وقد ذكرت خلاف العلماء في ذلك في باب المياه، والدليل على تأكد غسلهما إن كان ذلك بعد القيام من النوم،
(1338-211) ما رواه مسلم حديث أبي هريرة في مسلم، ((إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده)) . ورواه البخاري دون قوله ثلاثاً (1) .
فالذي يظهر أن غسل الكفين ثلاثاً في ابتداء الغسل كان من أجل الوضوء، فَفَعَلَ في وضوء غسله، كما كان يفعل في وضوئه المعتاد، والله أعلم، ومن أدخل يديه في الإناء قبل غسلهما لم يضر ذلك وضوءه، فإن كانت يده نظيفة فالأمر ظاهر، يد طاهرة لاقت ماء طهوراً فلم تؤثر فيه.
وإن كان في يده نجاسة، وتغير الماء بالنجاسة نجس إجماعاً، وإن لم يتغير الماء رجعت هذه المسألة إلى مسألة أخرى سبق أن حُرِّرت الأقوال فيها، وهي في حكم الماء إذا لاقته نجاسة فلم تغيره، وقد فصلت القول فيها في كتاب المياه.
وقد ترجم البخاري باباً في صحيحه، بعنوان: باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يده قذر غير الجنابة، ثم ساق حديث القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه، ورواه مسلم (2) .
_________
(1) مسلم (278) ، البخاري (162) .
(2) البخاري (261) ، ومسلم (316) .(11/479)
كما ساق أثراً معلقاً، قال البخاري: أدخل ابن عمر، والبراء بن عازب يده في الطهور، ولم يغسلها، ثم توضأ (1) .
قال الحافظ في الفتح في توجيه الاستدلال بحديث عائشة: ((لما جاز للجنب أن يدخل يده في الإناء، ليغترف بها قبل ارتفاع حدثه؛ لتمام الغسل كما في حديث الباب، دل على أن الأمر بغسل يده قبل إدخالها ليس لأمر يرجع إلى الجنابة، بل إلى ما لعله يكون بيده من نجاسة متيقنة أو مظنونة)) .
قلت: هذا التوجيه مبني على قول: إن الحدث لا يرتفع عن العضو المغسول حتى يرتفع الحدث عن البدن كله، أما من يرى: أن كل عضو تم غسله فقد ارتفع حدثه، فلا يتوجه هذا الاستدلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قول الحافظ: إن غسل اليد لا يرجع إلى أمر الجنابة، بل إلى ما لعله يكون بيده من نجاسة متيقنة أو مظنونة، ينتقض ذلك باستحباب غسل اليد، ولو تيقن نظافتها، فغسل اليد في ابتداء الوضوء والغسل إن كانت اليد بحاجة إلى النظافة فظاهر، وإلا كان غسلهما تعبدي، وذلك لكون غسلهما يسن فيه التثليث، وغسل النجاسة يكفي فيه غسلة واحدة تذهب بعينها، والله أعلم.
_________
(1) قال الحافظ: أما أثر ابن عمر فوصله عبد الرزاق بمعناه، وأما أثر ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة عنه، وعبد الرزاق من وجه آخر أيضاً عنه. اهـ
قلت: أثر ابن عمر يدل على أن غسل اليد قبل إدخاله في الإناء ليس بواجب، وليس يدل على عدم المشروعية عند نظافة اليد، فتأمل.(11/480)
المبحث الرابع
في عدد غسل الكفين في ابتداء الغسل
ذهب الأئمة الأربعة (1) ، إلى أن غسل الكفين في غسل الجنابة مرة واحدة إلى ثلاث مرات، ولا يزيد على الثلاث.
وقيل: يغسل كفيه سبع مرات، يروى هذا عن ابن عباس، ولا يصح (2) .
دليل الجمهور:
ما ورد في صفة الغسل من حديث ميمونة وحديث عائشة رضي الله عنهما من أنه غسل كفيه ثلاثاً، وسبق في الفصل الذي قبل هذا ذكر ألفاظهما.
(1339-212) واستدل من رأى غسل الكفين سبعاً بما رواه أحمد من طريق ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس،
أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا اغتسل من الجنابة أفرغ بيده اليمنى على اليسرى فغسلها سبعاً قبل أن يدخلها في الإناء، فنسي مرة كم أفرغ على يده، فسألني: كم أفرغت؟ فقلت: لا أدري؟ فقال: لا أم لك، ولم لا تدري، ثم توضأ وضوءه للصلاة... الحديث (3) .
[إ سناده ضعيف] (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/34) ، المبسوط (1/44) ، الشرح الكبير (1/137) ، الفواكه الدواني (1/147) ، المجموع (2/209) ، الإنصاف (1/252) ، شرح العمدة (1/370) .
(2) تفسير القرطبي (5/211) ، التمهيد (22/94) .
(3) المسند (1/307) .
(4) وقد سبق بحثه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (186) .(11/481)
ومع ضعف الحديث، فإن الظاهر أن التسبيع كان في غسل الفرج، لأنه لم يذكر التسبيع إلا في غسل اليد اليسرى، واليد اليسرى هي التي يغسل بها المرء فرجه قبل الاغتسال، ولأنه ربما كان على الذكر نجاسة من مذي ونحوه، ففي غسل النجاسة قد قيل بغسلها سبعاً، كما هو مذهب الحنابلة، وهو مرجوح (1) .
قال ابن رجب: ((وليس في هذه الرواية التسبيع سوى في غسل يده اليسرى قبل الاستنجاء، ويحتمل أن المراد به التسبيع في غسل الفرج خاصة، وهو الأظهر)) (2) .
والصحيح أنه غسلها بعد الاستنجاء وقبل إدخال اليد في الإناء؛ وذلك لمباشرتها غسل الفرج، وما كان عليه من أذى، ومع ذلك فلو صح هذا عن ابن عباس لم يكن فيه حجة، لأنه موقوف عليه، فكيف، وهو ضعيف، مخالف للسنة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
_________
(1) قد ذكرت خلاف العلماء في العدد المشروع في غسل النجاسة، وأن الصحيح أنه يكفي في غسل النجاسة غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، إلا في نجاسة الكلب، فإن النص قد ورد في غسلها سبعاً، والله أعلم.
(2) شرح ابن رجب للبخاري (1/267) .(11/482)
الفصل السابع
من سنن الغسل: الوضوء قبله
نحتاج في الكلام على الوضوء في غسل الجنابة إلى الكلام على مسائل كثيرة منها:
أولاً: حكم الوضوء في غسل الجنابة.
وثانياً: في موضع الوضوء من الغسل، هل يكون قبل الغسل أو بعده؟
وثالثاً: في نية الوضوء، هل يتوضأ بنية رفع الحدث الأصغر، أو يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر؟
رابعاً: لو اغتسل بدون وضوء، فهل يرتفع الحدث الأصغر، أو يرتفع الحدثان، ولو لم يتوضأ؟
خامساً: في التثليث في الوضوء، هل يغسل أعضاء الوضوء مرة، أو ثلاثاً؟ فهذه خمس مسائل سوف نتكلم عليها في المباحث التالية إن شاء الله تعالى، وأسأل الله سبحانه وتعالى منه التوفيق والعون، إنه على كل شيء قدير.(11/483)
[صفحة فارغة](11/484)
المبحث الأول
في حكم الوضوء في غسل الجنابة
اتفق العلماء على مشروعية الوضوء لمن أراد أن يغتسل للجنابة (1) ، واختلفوا في وجوبه،
فقيل: الوضوء سنة، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة (5) ، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (6) .
وقيل: الوضوء شرط في صحة الغسل، وهو رأي داود الظاهري رحمه الله تعالى (7) ، وأبي ثور (8) ، وراوية عن أحمد (9) .
_________
(1) التمهيد (22/93) .
(2) شرح فتح القدير (1/56) ، تبيين الحقائق (1/14) بدائع الصنائع (1/34) ، حاشية ابن عابدين (1/156) ، البناية (1/258) ، البحر الرائق (1/52) .
(3) مختصر خليل (ص:15) ، منح الجليل (1/128) ، الكافي (ص:24) ، الشرح الصغير (1/172) ، حاشية الدسوقي (1/136) ، القوانين الفقهية (ص:23) .
(4) المجموع (2/215) ، روضة الطالبين (1/89) ، مغني المحتاج (1/73) نهاية المحتاج (1/225) .
(5) كشاف القناع (1/152) ، الإنصاف (1/252) ، معونة أولي النهى شرح المنتهى (1/403) ، الممتع شرح المقنع (1/233) ، المغني (1/287) ، الفروع (1/204) .
(6) المحلى (المسألة 188) .
(7) انظر المجموع (2/215) الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي (ص:496)
(8) المجموع (2/215) .
(9) الفروع (1/205) .(11/485)
وقيل: إن كان أجنب، وهو محدث لزمه الوضوء، وإن كان حين أجنب طاهراً لم يلزمه، ذكره بعض الحنفية (1) ، وذهب إليه بعض الشافعية (2) ،
وبعض الحنابلة (3) .
هذه مجمل الأقوال في المسألة.
وسبب اختلافهم في حكم الوضوء، اختلافهم في آية المائدة في قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (4) ، هل هي من قبيل المجمل، أو من قبيل المبين، فداود يرى أن قوله سبحانه وتعالى: {فاطهروا} أمر مجمل، وبيانه يؤخذ من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والرسول قد حافظ على الوضوء في غسله، فتكون هذه الصفة بياناً للأمر الرباني في قوله تعالى: {فاطهروا} فما كان
_________
(1) المبسوط (1/44) .
(2) قال الشيرازي في المهذب (1/32) : " فإن أحدث وأجنب ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجب الغسل، ويدخل فيه الوضوء، وهو المنصوص في الأم؛ لأنهما طهارتان فتداخلتا، كغسل الجنابة وغسل الحيض.
والثاني: أنه يجب عليه الوضوء والغسل؛ لأنهما حقان مختلفان، يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كحد الزنا والسرقة.
والثالث: أنه يجب أن يتوضأ مرتباً، ويغسل سائر البدن؛ لأنهما متفقان في الغسل، ومختلفان في الترتيب، فما اتفقا فيه تداخلا، وما اختلفا فيه لم يتداخلا، قال الشيخ الإمام رحمه الله وأحسن توفيقه: سمعت شيخنا أبا حاتم القزويني يحكي فيه وجهاً رابعاً: أنه يقتصر على الغسل إلا أنه يحتاج أن ينويهما، ووجهه: لأنهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى، فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية، كالحج والعمرة. اهـ
(3) قال في الإنصاف (1/259) : " ذكر الدينوري وجهاً: أنه إن أحدث، ثم أجنب، فلا تداخل... الخ كلامه رحمه الله تعالى.
(4) المائدة: 6.(11/486)
بياناً لأمر واجب، يكون حكمه حكم ذلك الواجب، كما أن قوله سبحانه وتعالى: {وأقيموا الصلاة} (1) ، مجمل، وجاء بيانه من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان امتثال الصفة الورادة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة الصلاة واجبة؛ لكونها بياناً لأمر مجمل، وقل مثله في كثير من الأوامر المجملة في كتاب الله تعالى كما في قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} (2) .
وأما الجمهور فيرون أن قوله تعالى {فاطهروا} أمر مبين وليس مجملاً، وكذلك قوله تعالى {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (3) ، فالغسل ليس مبهماً، وإنما هو مبين، فأباح الله سبحانه وتعالى الصلاة بالاغتسال، فمن شرط الوضوء مع الغسل فقد زاد في الآية ما ليس فيها، ولو كان الوضوء واجباً لذكره الله سبحانه وتعالى، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أفتى الصحابة بالاغتسال من الجنابة، ولم يذكر لهم الوضوء في أحاديث صحيحة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، قال: خذ هذا فأفرغه عليك، رواه البخاري (4) ، فلم يطلب إلا إفراغ الماء على بدنه.
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: ((إنما كان يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين)) . رواه مسلم (5) .
فاكتفى بالإفاضة، ولم يذكر الوضوء، وجاء بلغة (إنما) الدالة على الحصر.
_________
(1) النور: 56.
(2) النور: 56.
(3) النساء: 43.
(4) صحيح البخاري (337) من حديث طويل.
(5) صحيح مسلم (330) .(11/487)
وأما قول من فرق بين من أجنب، وهو محدث، وبين من أجنب وهو طاهر، فيلزم الأول الوضوء دون الثاني، قالوا: إذا كان محدثاً يلزمه الوضوء؛ لأنه قبل الجنابة لزمه الوضوء، فلا يسقط غسل الجنابة الوضوء الواجب عليه، وهذا قول ضعيف؛ لأن الأحداث تتداخل.
قال القرافي في الذخيرة: ((اتفق أئمة الفقه على أن الوضوء غير واجب، سواء طرأت الجنابة على الحدث، أو الطهارة، إلا الشافعي في أحد قوليه: إن كان محدثاً قبل الجنابة، واحتج عليه القاضي بدخوله معاً إذا اجتمعا، أو سبقت الجنابة، فكذلك ههنا؛ ولأن الكبرى تدخل في الكبرى، فالصغرى أولى)) (1) .
وعليه فقول الجمهور هو الراجح، حتى حكى ابن جرير الإجماع على صحة الغسل بدون وضوء (2) ، ولا تصح حكاية الإجماع مع خلاف داود وأبي ثور، وقد استكملت أدلة الفريقين وبسطتها مع المناقشة والترجيح في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فليرجع إليه من أراد الاستزادة (3) .
_________
(1) الذخيرة (1/310) .
(2) المجموع (2/215) .
(3) كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية (1/357) من الطبعة الأولى.(11/488)
المبحث الثاني
موضع الوضوء من غسل الجنابة
في المبحث السابق تبين لنا أن الجمع بين الوضوء والغسل هو السنة عند الجمهور، وفي هذا البحث نتكلم على موضع الوضوء من الغسل،
فقد نص جمهور الفقهاء على استحباب تقديم الوضوء على الغسل واختلفوا في غسل الرجلين من الوضوء (1) :
فمنهم من استحب تأخير غسل رجليه إلى آخر الغسل.
ومنهم من رأى غسل الرجلين مع الوضوء.
ومنهم من قال: هو مخير، إن شاء غسل رجليه مع وضوئه، وإن شاء أخر غسلهما إلى آخر غسله، وسوف يأتي إن شاء الله التفصيل فيه عند الكلام على غسل الرجلين.
وقيل: الوضوء بعد الغسل أفضل، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: الوضوء قبل الغسل وبعده سواء، اختاره أصحاب الشافعي (3) ، وهو قول في مذهب الحنابلة (4) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/44) ، بدائع الصنائع (1/35) .
(2) الإنصاف (1/252) .
(3) حاشية الجمل (1/163) ، حاشية البجيرمي (1/95) ، قال النووي في كتابه المجموع (2/211) : قال أصحابنا: " وسواء قدم الوضوء كله أو بعضه، أو أخره أو فعله في أثناء الغسل، فهو محصل سنة الغسل، ولكن الأفضل تقديمه ". اهـ وذكر الحافظ ابن رجب في شرحه للبخاري (1/249) : " قال أصحاب الشافعي: إن الجنب مخير، إن شاء توضأ قبل الغسل، وإن شاء بعد ". اهـ
(4) الإنصاف (1/252) .(11/489)
وقيل: إن نسي الوضوء قبل الغسل، فإنه يتوضأ بعد الغسل، نص عليه مالك وأحمد (1) .
دليل من قال الوضوء قبل الغسل.
الدليل الأول:
(1340-213) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض
_________
(1) قال ابن رجب في شرح البخاري (1/245) : " وأما إن نسي الوضوء قبل الغسل، فإنه يتوضأ بعد الغسل، نص عليه أحمد ومالك وغير واحد".
كذا نسبه ابن رجب نصاً لمالك، وقد قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (22/93) : بعد أن ذكر إجماع العلماء على صحة الغسل بدون وضوء، قال: ومجمعون أيضاً على استحباب الوضوء قبل الغسل للجنب تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أعون على الغسل وأهذب فيه، وأما بعد الغسل فلا ". اهـ
وقال في الاستذكار (1/260) : " وأما الوضوء بعد الغسل فلا وجه له عند أهل العلم".
قلت: لكن جاء في الذخيرة للقرافي (1/310) : " قال صاحب الاستذكار: أجمع أهل العلم على أن الوضوء بعد الغسل لا وجه له، وإنما يستحب قبله. قال صاحب الطراز: ظاهر المذهب أنه يؤمر بالوضوء بعد الغسل ". اهـ فجعل الوضوء بعد الغسل ظاهر المذهب، فليتأمل.
وفي كتاب النوادر والزيادات وهو من كتب المالكية (1/64) : " قال عنه ابن القاسم وابن نافع: وإن لم يتوضأ قبل الغسل ولا بعده أجزأه الغسل إذا أمر يديه على مواضع الوضوء".
فظاهر هذا النص أن له أن يتوضأ بعد الغسل، والله أعلم.(11/490)
الماء على جلده كله. ووراه مسلم (1) .
وفي الباب حديث ميمونة في الصحيحين (2) .
الدليل الثاني:
(1341-214) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شريك وزهير، عن أبي إسحاق، عن الأسود،
عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتوضأ بعد الغسل (3) .
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (4) .
_________
(1) البخاري (248) ، ومسلم (316) .
(2) البخاري (260) ، ومسلم (317) .
(3) مسند أبي داود الطيالسي (1390) .
(4) شريك سيئ الحفظ، وزهير سمع من أبي إسحاق بآخرة، لكن تابعهما الحسن بن صالح، عن أبي إسحاق، فيكون الحديث حسناً إن شاء الله بهذه المتابعات، والله أعلم.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أحمد (6/68) و (6/192) ، وابن أبي شيبة (1/69) رقم 744، وأبو يعلى في مسنده (4531) ، والترمذي (107) ، والنسائي (252، 428) ، وفي الكبرى (249) ، وابن ماجه (579) ، والحاكم (1/153) والبيهقي (1/179) من طريق شريك وحده، عن أبي إسحاق به.
وأخرجه أحمد (6/119) وأيضاً في (6/154) وإسحاق بن راهوية (1521) ، وأبو داود (250) ، والحاكم (1/153) ، والبيهقي (1/179) من طريق زهير وحده، عن أبي إسحاق به.
وأخرجه أحمد (6/253) ، والنسائي (252،428) من طريق الحسن، عن أبي إسحاق به. وقد جزم الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (9/22) ، وفي إتحاف المهرة (21523) أن الحسن هو الحسن بن عياش، بينما المزي في التحفة سماه الحسن بن صالح.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال: وهذا قول غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين أن لا يتوضأ بعد الغسل.
ولا أرى التعليل بعنعنة أبي إسحاق؛ لأن التدليس علة إنما تكشف بجمع الطرق، والمتن ليس منكراً حتى يبحث له عن علة، وكنت سابقاً ربما عللت بعض الأحاديث بعنعنة المدلس، فتبين لي بعد الاطلاع على كلام لبعض أهل العلم في عصرنا، دلل على أن العنعنة مما تصرف بها الرواة، فلا تكفي وحدها لرد الحديث، على أن أبا إسحاق مختلف فيه، هل هو مكثر أو مقل من التدليس؟ وقد قبل الشيخان عنعنته في الصحيحين، والله أعلم.
انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (9/22) ، التحفة (16019) ، إتحاف المهرة (21523) .(11/491)
الدليل الثالث:
(1342-215) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن غنيم بن قيس،
عن ابن عمر، سئل عن الوضوء بعد الغسل؟ فقال: وأي وضوء أعم من الغسل (1) .
[إسناده صحيح، وروي مرفوعاً، ولا يصح] (2) .
_________
(1) المصنف (1/69) رقم 743.
(2) غنيم بن قيس، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه في الجرح والتعديل (7/58) .
قال النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (8/225) .
وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات (5/293) .
وفي التقريب: مخضرم ثقة، وباقي إسناده ثقات.
وأخرجه عبد الرزاق (1039) عن ابن جريج، أخبرني نافع،
عن ابن عمر، كان يقول: إذا لم تمس فرجك بعد أن تقضي غسلك، فأي وضوء أسبغ من الغسل؟ وسنده صحيح.
وأخرجه عبد الرزاق أيضاً (1038) قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، قال:
كان أبي يغتسل، ثم يتوضأ، فأقول: أما يجزيك الغسل؟ قال: وأي وضوء أتم من الغسل للجنب؟ ولكنه يخيل إلي أنه يخرج من ذكري الشيء، فأمسه، فأتوضأ لذلك. وسنده صحيح.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/130) من طريق الأوزاعي، عن الزهري به، بلفظ:
عن ابن عمر، أنه كان يرى أن الغسل من الجنابة يجزئ صاحبه من الوضوء. اهـ
ورواه الطبراني (12/371) ، والحاكم في المستدرك (1/153) من طريق عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وهو ضعيف، في إسناده عبد الله بن عمر العمري.(11/492)
الدليل الرابع من الآثار:
(1343-216) ما رواه عبد الرزاق، عن هشيم، عن جعفر بن أبي وحشية، عن أبي سفيان، قال:
سئل جابر بن عبد الله عن الجنب يتوضأ بعد الغسل؟ قال: لا، إلا أن يشاء، يكفيه الغسل (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل الخامس:
ذكر بعض أهل العلم أن الوضوء بعد الغسل لم يصح فيه شيء، منهم ابن رجب الحنبلي في شرحه لصحيح البخاري (3) .
دليل من قال: الأفضل بعد الغسل.
لا أعلم لهم دليلاً من السنة، بل السنة على خلافه،
_________
(1) المصنف (1045) .
(2) ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/130) من طريق عبد الرزاق به.
(3) فتح الباري لابن رجب (1/249) .(11/493)
(1344-217) ولعله يستدل له في أثر ابن عمر فيما رواه عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، قال:
كان أبي يغتسل، ثم يتوضأ، فأقول: أما يجزيك الغسل؟ قال: وأي وضوء أتم من الغسل للجنب، ولكنه يخيل إلي أنه يخرج من ذكري الشيء، فأمسه، فأتوضأ لذلك.
[سنده صحيح، وسبق تخريجه قبل قليل] .
ولا دليل فيه؛ لأن ابن عمر إنما حمله الوضوء على الغسل لانتقاض طهارته بمس ذكره، ولم يكن سبب الوضوء هو حدث الجنابة، إلا أن يفضل أحد الوضوء بعد الغسل من باب، أنه ربما مس ذكره أثناء الغسل، فاحتاج إلى إعادة الوضوء، فيقال: هذا الاستحسان كان قائماً في حق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولم يره سبباً في تقديم الغسل على الوضوء، فما بالك تراه سبباً في التقديم، فاحرص على عدم مس ذكرك، فإن مسسته فلا مانع من إعادة الوضوء، والله أعلم.
دليل من قال: هو مخير إن شاء توضأ قبل الغسل أو بعده.
يرى أن طهارة الجنب ليس فيها ترتيب، فمن اغتسل بعد الوضوء، أو توضأ بعد الغسل فقد حصل المطلوب، من القيام بالوضوء والغسل معاً في غسل الجنابة.
وإذا ثبت في حديث ميمونة تأخير غسل رجليه في الوضوء إلا أن يفرغ من غسله، فإن الوضوء في هذه الصورة لم يتم إلا بعد الفراغ من الغسل، فإذا شُرِعَ له تأخير بعض أعضاء الوضوء إلى نهاية الاغتسال، لم يمنع أن يكون مخيراً في الأعضاء الأخرى.(11/494)
ويقال لهم: قولكم ليس فيه ترتيب، إن كنتم تقصدون أنه لا يجب الترتيب فمسلم، فإن الوضوء كله لو تركه واقتصر على الغسل، فقد ارتفع حدثه، وإن قلتم: ليس فيه ترتيب، أي مشروع، فإنه غير مسلم، فإن السنة واضحة في الصحيحين وفي غيرهما من تقديم الوضوء، وأما تأخير غسل الرجلين فإنه لا مانع أن يقال: السنة للمغتسل في القدمين التخيير بين غسل القدمين أولاً، أو تأخيرهما إلى نهاية الغسل، ولا يقاس أعضاء بقية أعضاء الوضوء عليهما، تمسكاً بالنص الوارد، مع اختلاف العلماء في علة تأخير غسل القدمين، وسوف يبحث إن شاء الله تعالى في فصل قادم، العلة في تأخير غسل القدمين، والله أعلم.
دليل من قال: إن نسي أن يتوضأ في أول غسله توضأ بعده.
هذا القول رأى أن النسيان عذر شرعي، والمعذور يغتفر له ما لا يغتفر لغيره، فإذا ترك الوضوء قبل الغسل معذوراً فله أن يأتي به بعد الغسل.
وهذا القول في ظاهره أنه جيد، وليس كذلك، فالمعذور يكتب له الأجر؛ لأنه لم يتعمد الترك، ولا يشرع في حقه الوضوء بعد الغسل، وذلك لأن الوضوء قبل الغسل يراد به ليس الوضوء الخاص برفع الحدث الأصغر، وإنما المطلوب أن يبدأ في غسله في مواضع الوضوء، ثم يغسل سائر جسده، ولا يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، أما إذا اغتسل ثم توضأ يكون قد غسل أعضاء الوضوء مرتين، مرة في الغسل، ومرة في الوضوء، وهذا لا حاجة له.
وسيأتي مزيد بحث في مبحث مستقل عن نية الوضوء في الغسل، ليتبين لك أن المراد البداءة بأعضاء الوضوء، وليس الوضوء الذي سببه الحدث الأصغر، والله أعلم.(11/495)
الراجح: بعد ذكر الخلاف، ودليل كل قول، الذي يترجح لي أن السنة لا تحصل إلا بتقديم الوضوء على الغسل إلا في الرجلين، فإن شاء قدم غسل قدميه مع الوضوء، وإن شاء أخر غسلهما إلى نهاية الغسل، فإن ترك الوضوء قبل الغسل، فلا يعيده بعد الغسل، إلا أن تنتقض الطهارة الصغرى بحدث، والله أعلم.(11/496)
المبحث الثالث
إذا اغتسل بدون وضوء فهل يرتفع الحدث الأصغر
اختلف العلماء في هذه المسألة،
فقيل: يجزئ الغسل عن الوضوء مطلقاً، سواء كان محدثاً حدثاً أصغر قبل الجنابة، أم لا، وسواء نوى رفع الحدثين معاً، أو نوى رفع الجنابة، وهذا هو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ،
وأصح الأقوال في مذهب الشافعية (3) ،
_________
(1) يرى الحنفية أن الغسل يجزئ عن الحدثين الأصغر والأكبر، ولو لم ينو أحدهما، باعتبار أن النية في الوضوء والغسل ليست بشرط عندهم، بينما المالكية والشافعية وما اختاره ابن تيمية: يرى أنه إذا نوى الطهارة الكبرى أجزأه عن نية الطهارة الصغرى. انظر في مذهب الحنفية: البناية (1/173) تبيين الحقائق (1/5) ، البحر الرائق (1/24) .
وقال الجصاص في أحكام القرآن (2/515) : " قال تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} فأباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء، فمن شرط في صحته مع وجود الغسل وضوءاً، فقد زاد في الآية ما ليس فيها، وذلك غير جائز ".
فهذا نص من الحنفية رحمهم الله تعالى على إباحة الصلاة بالاغتسال فقط، والصلاة لا تجوز إلا وقد ارتفع الحدث الأصغر. وانظر المبسوط (1/44) .
(2) قال في الشرح الصغير (1/173) : " الغسل على الصفة المتقدمة أو على غيرها يجزئ عن الوضوء، ولو لم يستحضر نية رفع الحدث الأصغر؛ لأنه يلزم من رفع الأكبر رفع الأصغر ".
وقال في حاشية الدسوقي (1/140) : " وكذا إذا أفاض الماء على جسده ابتداء، وذلك بنية رفع الحدث الأكبر، ولم يستحضر الأصغر، جاز له أن يصلي به ". وانظر: حاشية العدوي (1/270) .
(3) قال النووي في المجموع (2/224-225) : " الحال الثاني: أن يحدث، ثم يجنب، كما هو الغالب، ففيه الأوجه الأربعة التي ذكرها المصنف، الصحيح عند الأصحاب، وهو المنصوص في الأم أنه يكفيه إفاضة الماء على البدن، ويصلي به بلا وضوء ".(11/497)
واختاره ابن تيمية (1) .
وقيل: لا يرتفع الحدث الأصغر حتى يتوضأ، سواء توضأ قبل الغسل، أو توضأ بعده، وهو أحد قولي الشافعي (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: لا تتداخل الطهارتان الكبرى والصغرى إلا بنية، فعلى هذا، إما أن يتوضأ قبل الغسل، أو ينوي بغسله الطهارة من الحدثين، وهذا نص أحمد رحمه الله (4) ، ووجه في مذهب الشافعية (5) .
_________
(1) قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (21/396) : " والقرآن يدل على أنه لا يجب على الجنب إلا الاغتسال، وأنه إذا اغتسل جاز له أن يقرب الصلاة، والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر، كما قال جمهور العلماء...". وانظر شرح العمدة لابن تيمية رحمه الله (1/377) .
(2) الشافعية يقولون بذلك في بعض الصور دون بعض، لأنهم يرون أن الجنب له ثلاث أحوال:
الحال الأولى: أن يجنب من غير أن يحدث حدثاً أصغر، فيكفيه في هذه الحالة غسل البدن، ولا يلزمه الوضوء قال النووي: بلا خلاف عندنا كما في المجموع (2/223) .
الحال الثانية: أن يحدث حدثاً أصغر، ثم يجنب، ففي مذهب الشافعية أربعة أوجه، أحدها: أنه يجب عليه الوضوء، فلو اغتسل بدون الوضوء لم يرتفع حدثه الأصغر. انظر المجموع (2/223) .
الحال الثالثة: أن يجنب من غير حدث، ثم يحدث، فهل يؤثر الحدث، فيه وجهان، أرجحهما أنه لا يؤثر، حكاه الدارمي عن ابن القطان، وحكاه الماوردي عن جمهور الأصحاب، فعلى هذا يجزيه الغسل بلا وضوء قطعاً.
(3) قال ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة (1/376) : " وعنه - أي: عن أحمد - أنه لا يرتفع الأصغر إلا بوضوء مع الغسل، بفعله قبل الغسل، أو بعده ".
(4) مجموع الفتاوى (21/396) ، وقال في كشاف القناع (1/89) : " إن نوى الغسل للجنابة لم يرتفع حدثه الأصغر إلا إن نواه ". وقال ابن تيمية في شرح العمدة في تقريره للمذهب (1/376) : وإذا نوى الأكبر فقط بقي عليه الأصغر ".
(5) الروضة (1/54) ، المجموع (2/223) .(11/498)
دليل الجمهور على أنه يكفي الغسل وحده في رفع الحدثين.
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (1) .
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى أباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء، فمن شرط في صحة الغسل وجود الوضوء، أو شرط نية رفع الحدث، فقد زاد في الآية ما ليس فيها، وذلك غير جائز.
الدليل الثاني:
(1345-218) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (2) .
[حديث حسن] (3) .
وجه الاستدلال:
لم يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - للمجنب إذا وجد الماء إلا أن يمسه بشرته، فلو كان الوضوء، أو نيته واجبة لذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) النساء: 43.
(2) المصنف (913) .
(3) سبق تخريجه في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية) رقم(11/499)
الدليل الثالث:
أن الطهارة الكبرى متضمنة للطهارة الصغرى، فالأكبر متضمن لغسل الأعضاء الأربعة، فيتداخلان، كما أن الوضوء إذا تعددت أسبابه، أو تكرر السبب الواحد تداخلا، ولم يجب لكل سبب وضوء، والغسل إذا اختلفت أسبابه، أو تكرر السبب الواحد كذلك، فالطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى وتغني عنها.
الدليل الرابع:
أن تقديم الوضوء لم يكن من أجل رفع الحدث الأصغر، بل هو غسل في صورة وضوء، فتقديمه لأعضاء الوضوء بمنزلة تقديم اليمنى على اليسرى في الوضوء، والدليل على أنه توضأ بنية الغسل، ولم يكن بنية رفع الحدث الأصغر، قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم عطية واللواتي غسلن ابنته:
اغسلنها، وابدأن بمواضع الوضوء منها. متفق عليه (1) .
فجعل الأمر موجه للغسل، وجعل ابتداء الغسل إنما هو لمواضع الوضوء، فهو لم يكن وضوءاً بنية رفع الحدث، وإنما كان غسلاً مقدماً فيه أعضاء الوضوء لشرفها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بدأ بمواضع الوضوء، ثم غسل سائر جسده، لم يكن يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل كان يكتفي بغسلها في أول الأمر، ولو كان غسله الأعضاء بنية رفع الحدث الأصغر لاحتاج إلى غسلها مرة أخرى بنية رفع الحدث الأكبر، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((الذين نقلوا لنا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها
_________
(1) البخاري (167) ، ومسلم (939) .(11/500)
ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه، ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل)) (1) . وسيأتي إن شاء الله تعالى كلام الفقهاء حول هذه المسألة بمزيد بحث في مبحث مستقل.
فظهر لنا أن من فهم من الوضوء في أول الغسل، أنه أراد نية رفع الحدث الأصغر فقد أخطأ، وعليه فيكفي نية الغسل ليرتفع الحدثان، والله أعلم.
دليل من قال: إذا لم ينو رفع الحدث الأصغر بالغسل لم يرتفع.
(1346-219) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ورواه مسلم (2) .
وجه الاستدلال:
لفظة: (إنما) للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ودليل آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) وهذا لم يتوضأ، ولم ينو رفع الحدث الأصغر، فلا يكون له (3) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/397) .
(2) صحيح البخاري (6689) ، ومسلم (1907) .
(3) المجموع (1/356)(11/501)
ويجاب: بأنه لا يمكن أن ينكر أحد تداخل بعض العبادات مع بعض، فهذه تحية المسجد مع الفرض تدخل تحية المسجد في الفرض، ولا يطالب بتحية المسجد، ومثله لو أفطر في نهار رمضان في اليوم الواحد مراراً لم يجب عليه إلا كفارة واحدة، ومثله طواف الإفاضة إذا أخره دخل فيه طواف الوداع على القول الصحيح، وهكذا، فكيف بالطهارة الصغرى والكبرى فكلاهما عبادتان من جنس واحد، فيتداخلان.
دليل من قال: لا يرتفع الحدث الأصغر حتى يتوضأ.
أنه يجب عليه الوضوء والغسل؛ لأنهما حقان مختلفان يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كحد الزنا والسرقة.
ولأنه قبل الجنابة قد لزمه الوضوء، فلا يسقط غسل الجنابة الوضوء الواجب عليه.
وهذا التعليل في مقابل النصوص، فلا يقبل.
الراجح من الخلاف.
بعد معرفة أدلة الأقوال نجد أن قول الجمهور أقوى لقوة أدلته، وضعف أدلة الأقوال الأخرى، وهناك أدلة أخرى لم أذكرها للجمهور قد ذكرتها في كتابي الحيض والنفاس فليراجع هناك (1) والله أعلم.
_________
(1) (1/370) .(11/502)
المبحث الرابع
في نية الوضوء في غسل الجنابة
عرفنا فيما سبق، أن السنة: هو أن يغسل أعضاء الوضوء في ابتداء الغسل، وأنه لا يشرع له الوضوء بعد الغسل، والكلام الآن في هذا المبحث في النية، هل يتوضأ قبل الغسل بنية رفع الحدث الأصغر؟ أو يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر؟ وكنت قد أشرت في المسألة السابقة إلى هذه المسألة، ووعدت أن أفصل فيها كلام أهل الفقه في مبحث مستقل، وهذا أوان الوفاء بالوعد،
فقيل: يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر، وهو مذهب المالكية (1) ، واختاره محمد بن عقيل الشهرزوي من الشافعية (2) ، وهو رأي ابن تيمية من الحنابلة (3) .
_________
(1) قال الدسوقي في حاشيته (1/140) : " إطلاق الوضوء على غسل أعضائه في الطهارة الكبرى مجاز؛ لأنه صورة وضوء، وهو في الحقيقة جزء من الغسل الأكبر ".
وقال الخرشي في شرح مختصر خليل (1/170) : " ثم يتوضأ بنية الجنابة وضوءاً كاملاً " اهـ فجعل الوضوء بنية الجنابة، وليس بنية رفع الحدث.
قال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/171) : " " لا يخفى أن هذا الوضوء قطعة من الغسل، فهو صورة وضوء ". اهـ
وقال في كفاية الطالب (1/267) : " وظاهر كلامه (يعني المصنف) أنه يغسل ما حقه الغسل في هذا الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وهو مصرح به في بعض النسخ، والمشهور أنه إنما يغسله مرة مرة بنية رفع حدث الجنابة". ونظر الفواكه الدواني (1/148) ، مواهب الجليل (1/314) .
(2) المجموع (2/211) .
(3) مجموع الفتاوى (21/397) .(11/503)
وقيل: يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر، إلا إن أحدث، ثم أجنب فإنه، ينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر، اختاره عمرو بن الصلاح من الشافعية (1) .
قلت: يلزم على هذا القول وجوب الوضوء مع الغسل إذا كان جنباً محدثاً، والراجح عدم وجوب الوضوء مطلقاً، وهو الصحيح حتى في مذهب الشافعية، وقد تقدم تحرير الخلاف في الفصل الذي قبل هذا.
_________
(1) قال النووي في المجموع (2/211) : " لم يذكر الجمهور ماذا ينوي بهذا الوضوء؟ قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: لم أجد في مختصر، ولا مبسوط تعرضاً لكيفية نية هذا الوضوء، إلا لمحمد بن عقيل الشهرزوي، فقال: يتوضأ بنية الغسل، قال: إن كان جنباً من غير حدث فهو كما قال، وإن كان جنباً محدثاً كما هو الغالب، فينبغي أن ينوي بوضوئه هذا رفع الحدث الأصغر ".
وقال ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام (1/131) : " قولها - يعني: عائشة - (وتوضأ وضوءه للصلاة) يقتضي استحباب تقديم الغسل لأعضاء الوضوء في ابتداء الغسل، ولا شك في ذلك، نعم، يقع البحث في أن هذا الغسل لأعضاء الوضوء: هل هو وضوء حقيقة؟ فيكتفي به عن غسل هذه الأعضاء للجنابة، فإن موجب الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد، أو يقال: إن غسل هذه الأعضاء، إنما هو عن الجنابة، وإنما قدمت على بقية الجسد تكريماً لها وتشريفاً، ويسقط غسلها عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى.
فقد يقول قائل: قولها: " وضوءه للصلاة " مصدر مشبه به، تقديره: وضوءاً مثل وضوئه للصلاة، فيلزم من ذلك أن تكون هذه الأعضاء المغسولة مغسولة عن الجنابة؛ لأنها لو كانت مغسولة عن الوضوء حقيقة، لكان قد توضأ عن الوضوء للصلاة، فلا يصح التشبيه؛ لأنه يقتضي تغاير المشبه والمشبه به، فإذا جعلناها مغسولة للجنابة صح التغاير، وكان التشبيه في الصورة الظاهرة. وجوابه بعد تسليم كونه مصدراً مشبهاً به من وجهين:... ثم ذكرهما، ويحسن بك أن ترجع إلى الكتاب لتقرأهما، فقد تركت نقلهما اختصاراً، والله الموفق.(11/504)
دليل من قال: يتوضأ بنية رفع الجنابة.
الدليل الأول:
الدليل على أن الوضوء في غسل الجنابة، هو غسل في صورة وضوء، وأن تقديمه لأعضاء الوضوء بمنزلة تقديم اليمنى على اليسرى في الوضوء، ولم يكن بنية رفع الحدث الأصغر، قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم عطية واللواتي غسلن ابنته:
اغسلنها، وابدأن بمواضع الوضوء منها. متفق عليه (1) .
فجعل الأمر موجه للغسل، وجعل ابتداء الغسل إنما هو لمواضع الوضوء، فهو لم يكن وضوءاً بنية رفع الحدث، وإنما كان غسلاً مقدماً فيه أعضاء الوضوء لشرفها.
الدليل الثاني:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من الوضوء غسل سائر جسده، ولم يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل كان يكتفي بغسلها في أول الأمر، ولو كان غسله الأعضاء بنية رفع الحدث الأصغر، لاحتاج إلى غسلها مرة أخرى بنية رفع الحدث الأكبر، وإلا فلا يمكن أن ينوي الأصغر، ويرتفع الأكبر؛ لأن الأصغر لا يتضمن الأكبر والعكس صحيح.
(1347-220) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بين شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، ورواه مسلم (2) .
_________
(1) البخاري (167) ، ومسلم (939) .
(2) البخاري (272) ، ومسلم (316) .(11/505)
فقولها: ((ثم غسل سائر جسده)) أي بقية جسده، وقد ذكر الزبيدي: أن كلمة سائر الناس: أي الباقي من الناس (1) .
وله شاهد من حديث ميمونة من رواية مسلم له، في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة، وفيه: ((ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده)) (2) .
والبخاري رحمه الله لا يرى غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل يتوضأ، ثم يغسل بقية بدنه، قال رحمه الله في صحيحه: ((باب: من توضأ في
_________
(1) انظر تاج العروس (6/489) . وفي حديث أبي موسى في البخاري (3411) ومسلم (2431) ، قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، فمعنى " سائر الطعام " أي على بقيته.
وقال ابن الأثير في النهاية (2/327) : "والسائر: الباقي، والناس يستعملونه بمعنى الجميع، وليس بصحيح، وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء"اهـ
وذكر الزبيدي في تاج العروس (6/489) إلى أن في السائر قولين:
الأول: وهو قول الجمهور من أئمة اللغة وأرباب الاشتقاق، أنه بمعنى الباقي، ولا نزاع فيه بينهم، واشتقاقه من السُّوْر، وهو البقية.
والثاني: أنه بمعنى الجميع، وقد أثبته جماعة، وصوبوه، وإليه ذهب الجوهري، والجواليقي، وحققه ابن بري في حواشي الدرة، وأنشد عليه شواهد كثيرة، وأدلة ظاهرة، وانتصر لهم الشيخ النووي في مواضع من مصنفاته، وسبقهم إمام العربية أبو علي الفارسي، ونقله بعضٌ عن تلميذه ابن جني... الخ كلامه رحمه الله، ولا مانع أن يكون معنى كلمة (سائر) مشتركاً بين المعنيين، والأصل فيها: أن تكون بمعنى الباقي إلا إن دلت قرينة على أن المراد بمعنى سائر: الكل فيقبل.
(2) مسلم له (317) .(11/506)
الجنابة، ثم غسل سائر جسده، ولم يعد غسل مواضع الوضوء فيه مرة أخرى)) (1) .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((الذين نقلوا لنا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه، ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل)) (2) .
وقال ابن حزم رحمه الله: ((وأما غسل الجنابة والوضوء، فإنه أجزأ فيهما عمل واحد، بنية واحدة لهما جميعاً، للنص الوارد في ذلك، ثم ذكر حديث ميمونة من رواية مسلم له، وفيه ((ثم غسل سائر جسده)) فقال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعد غسل أعضاء الوضوء في غسله للجنابة..)) (3) .
ويذكر ابن عبد البر أن غسل أعضاء الوضوء في غسل الجنابة ليس من قبيل المستحب، بل هو فرض، ويقصد أن المستحب هو تقديمها في الغسل، وأما غسلها إذا قدمتها فهو فرض؛ لأنه بنية رفع الجنابة، ونية رفع الجنابة فرض.
يقول ابن عبد البر في الاستذكار: ((والابتداء بالوضوء في غسل الجنابة يقتضي تقديم أعضاء الوضوء في الغسل سنة مسنونة في تقديم تلك الأعضاء خاصة؛ لأنه ليس في الغسل رتبة، وليس ذلك من باب السنة التي هي غير الفرض، ولذلك لم يحتج أن يعيد تلك الأعضاء بنية الجنابة؛ لأنه بذلك غسلها، وقدم الغسل لها على سائر البدن)) (4) .
_________
(1) كتاب الغسل باب (16) .
(2) مجموع الفتاوى (21/397) .
(3) المحلى، مسألة (95) .
(4) الاستذكار (3/61) .(11/507)
فقوله: ((وليس ذلك من باب السنة التي هي غير الفرض)) يقصد بالسنة: الطريقة المشروعة التي يدخل فيها الفرض والمندوب، ونص هنا على أن السنة المقصود بها الفريضة.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: ((وأما قوله في حديث عائشة: ((يتوضأ وضوءه للصلاة)) فيحتمل أنها أرادت بدأ بمواضع الوضوء، والدليل على ذلك أنه ليس في شيء من الآثار الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في غسل الجنابة أنه أعاد غسل تلك الأعضاء، ولا أعاد المضمضة ولا الاستنشاق، وأجمع العلماء على أن ذلك كله لا يعاد، من أوجب منهم المضمضة والاستنشاق ومن لم يوجبها)) (1) .
فإذا كان لا يرجع إلى أعضاء الوضوء مرة أخرى، وحكى فيه ابن عبد البر الإجماع، لزم على ذلك أحد ثلاثة أمور:
الأول: أما أن يكون غسله لأعضاء الوضوء كان بنية رفع الحدث الأصغر، فيلزم منه أنه لم يغسلها بنية رفع الحدث الأكبر، فيبقى الحدث الأكبر ما زال على أعضاء الوضوء؛ لأن الحدث الأصغر أدنى، فهو لا يغني عن الحدث الأكبر؛ لكونه أعلى منه وأشد، والأخف لا يتضمن الأشد.
الثاني: أن يكون غسل أعضاء الوضوء بنية رفع الحدثين، فيقال: هذه دعوى، إذ لو كان هذا شرطاً لرفع الحدث الأصغر، لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبينه القرآن، فلم يذكر في القرآن إلا قوله تعالى: {حتى تغتسلوا} وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((خذ هذا فأفرغه عليك))
الأمر الثالث: أن يكون غسله لأعضاء الوضوء كان بنية رفع الجنابة، وليس بنية رفع الحدث الأكبر، وهذا ما يفسر اكتفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسلها في الوضوء عن غسلها مرة أخرى عند غسل سائر جسده، وهذا هو المتعين.
_________
(1) التمهيد (22/95) .(11/508)
الدليل الثالث:
قد يستدل له بأنه لا يمكن رفع الحدث الأصغر، والأكبر باق، وعليه فتكون نيته في الوضوء، هي نية الغسل، وإنما بدأ بمواضع الوضوء لشرفها.
وبعضهم استدل بطريقة أخرى، فقال: الوضوء في غسل الجنابة مستحب، فلو توضأ بنية الوضوء المعروف للزم منه أن يجزئ المستحب عن الواجب (1) ، فلزم أن يكون الوضوء هو بنية الغسل، وليس بنية رفع الحدث.
قلت: وهذا الاستدلال يستأنس به مع الأدلة السابقة الذكر، وإن لم يكن وحده ملزماً.
دليل من قال: إن كان عليه حدث وجنابة لزمه نية رفع الحدث الأصغر.
ذكرنا دليلهم في الفصل الذي قبل هذا، من إيجابهم الطهارة الصغرى، وأجبنا عليه.
فالراجح: أن الوضوء يكون بنية رفع الحدث الأكبر، وليس بنية رفع الحدث الأصغر، ولو نواهما معاً لم يمنع من ذلك مانع، أما أن يكون ذلك حتم عليه، وإلا فلا يرتفع حدثه، أو يكون ذلك بنية رفع الحدث الأصغر، وهو لن يعود إلى غسل أعضائه مرة أخرى فهذا فيه نظر، والله أعلم.
وثمرة الخلاف بين القولين:
أن من يرى أن وضوءه هذا بنية رفع الحدث الأكبر، فلو أحدث في أثنائه بنى على وضوئه؛ لأن الترتيب في الغسل ليس بشرط، وأي عضو تم غسله، فقد فرغ منه، وبقي عليه غسل الباقي، كما أنه لو أحدث في أثناء غسله لم يؤثر ذلك في غسله، بل يتمه ويجزيه.
_________
(1) بتصرف الذخيرة للقرافي (1/313) .(11/509)
ولذلك نص المالكية على أن وضوء الغسل لا يبطله إلا الجماع:
قال في الشرح الصغير: ((وضوء الجنب لا يبطله إلا الجماع، بخلاف وضوء غيره فإنه ينقضه كل ناقض مما تقدم)) (1) .
وإنما كان لا يبطله إلا الجماع لأنه لم يكن وضوءاً، وإنما كانت صورته صورة الوضوء، والله أعلم.
_________
(1) الشرح الصغير (1/176) .(11/510)
المبحث الخامس
في التثليث في وضوء الغسل
اختلف العلماء في وضوء الغسل، هل يغسل أعضاء الوضوء مرة واحدة، أو يغسلها ثلاثاً، كما هو في الوضوء المستقل عن غسل الجنابة؟
فقيل: يسن في وضوء الغسل أن يكون ثلاثاً ثلاثاً.
وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، وبه قال سفيان الثوري (4) ، وإسحاق بن راهويه (5) ، ووجه في مذهب المالكية (6) .
وقيل: يتوضأ مرة مرة، وهو المشهور في مذهب المالكية (7) .
_________
(1) مراقي الفلاح (ص:43،44) ، بدائع الصنائع (1/34) ، حاشية ابن عابدين (1/156،157) . شرح فتح القدير (1/58) .
(2) مغني المحتاج (1/73) ، نهاية المحتاج (1/225) ، روضة الطالبين (1/89) ، الحاوي (1/219) .
(3) الكشاف (1/152) ، الفروع (1/204) ، الإنصاف (1/252) ، شرح منتهى الإرادات (1/85) ، الكافي (1/59) ، المحرر (1/20) .
(4) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/238) .
(5) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/238) .
(6) الشرح الصغير (1/172) ، حاشية الدسوقي (1/136) ، منح الجليل (1/128) .
(7) قال في كفاية الطالب (1/267) : " وظاهر كلامه أنه يغسل ما حقه الغسل في هذا الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وهو مصرح به في بعض النسخ، والمشهور: أنه إنما يغسله مرة مرة، بنية رفع حدث الجنابة ". اهـ وانظر: تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/540) ، مختصر خليل (ص15) ، حاشية الدسوقي (1/136) ، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل (1/314) .(11/511)
وقال ابن رجب: لم ينص أحمد إلا على تثليث غسل كفيه ثلاثاً، وعلى تثليث صب الماء على الرأس (1) . اهـ. وينبغي أن يتفطن أن هذه المسألة غير مسألة التثليث في غسل البدن، وسوف تأتي هذه إن شاء الله تعالى.
وقد ذكرت أدلة هذه الأقوال بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (2) ، فأغنى عن إعادته هنا، وقد رجحت في ذلك أنه لا يشرع التثليث في وضوء الغسل؛ لأن هذا الوضوء جزء من غسل البدن، وإنما صورته صورة الوضوء، كما تقدم بيانه في الفصل السابق، والبدن لا يشرع فيه التثليث كما سوف يتبين إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل من هذا الباب، إلا في غسل الكفين في ابتداء الغسل، فإنه يشرع فيهما التثليث،
(1348-221) لما روى البخاري من طريق عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال:
قالت ميمونة: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً... وذكر بقية الحديث. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (3) .
وروى مسلم من طريق وكيع، عن هشام، عن أبيه،
عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فبدأ، فغسل كفيه ثلاثاً... الحديث (4) .
_________
(1) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/238) .
(2) الحيض والنفاس (1/418) .
(3) البخاري (265) ، ومسلم (317) .
(4) مسلم (36-316) .(11/512)
وكأن غسل الكفين سنة مستقلة في ابتداء الطهارة، يغسلهن ثلاثاً إن أراد وضوءاً، أو أراد غسلاً، قبل إدخال يديه في الإناء، حتى ولو كانت اليد نظيفة، ويجب غسلهما في حالتين: إن كان في اليد نجاسة، أو كان قائماً من نوم الليل، ويستحب غسلهما في غير ذلك، والله أعلم. وقد بحثت مسألة حكم غسل اليدين بعد الاستيقاظ من النوم في كتاب أحكام الطهارة: في مباحث المياه، فأغنى عن إعادته هنا.
وكذلك يستحب التثليث في غسل الرأس، وسوف يأتي بحثه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى، وأما ما عدا الكفين والرأس فلا يستحب التثليث على الصحيح من أقوال أهل العلم.(11/513)
[صفحة فارغة](11/514)
الفصل الثامن
في استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل
اختلف أهل العلم في حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل،
فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء والغسل، وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) .
وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (3) .
هذان قولان متقابلان.
وفيه قولان آخران متقابلان أيضاً:
فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية (4) .
_________
(1) الخرشي (1/133-170) ، منح الجليل (1/128) ، مواهب الجليل (1/313) ، القوانين الفقهية (ص:22) ، مقدمات ابن رشد (1/82) ، بداية المجتهد مع الهداية (2/12) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:23،24) ، حاشية الدسوقي (1/136) ، الشرح الصغير (1/118-170) .
(2) الأم (1/41) ، المجموع (1/396) ، روضة الطالبين (1/88،58) ، مغني المحتاج (1/73-57) .
(3) الفروع (1/144) ، الإنصاف (1/152،153) ، المحرر (1/11،20) ، كشاف القناع (1/154) ، معرفة أولي النهى شرح المنتهى (1/403) ، المبدع (1/122) ، الكافي (1/26) ، الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/59) .
(4) شرح فتح القدير (1/25،56) ، البناية (1/250) ، تبيين الحقائق (1/4،13) ، البحرالرائق (1/47) ،حاشية ابن عابدين (1/156) ، مراقي الفلاح (ص:42) ، بدائع الصنائع (1/34) ، رؤوس المسائل (ص:101) .(11/515)
وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل (1) .
وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما (2) .
والراجح: أن المضمضة والاستنشاق سنة في غسل الجنابة،
فقد روى البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فأفرغه عليك (3) .
(1350-223) وروى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (4) .
فعبر بـ ((إنما)) الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر المضمضة والاستنشاق.
وقد بسطت الكلام في المسألة، وناقشت أدلة الأقوال في بحث مطول، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (5) .
_________
(1) انظر الفروع (1/144 - 145) ، المبدع (1/122) ، الإنصاف (1/152-
153) .
(2) انظر المصادر السابقة.
(3) صحيح البخاري (337) .
(4) صحيح مسلم (330) .
(5) الحيض والنفاس (1/386) .(11/516)
الفصل التاسع
في السنن الواردة في غسل الرأس
نحتاج في الكلام على السنن الواردة في غسل الرأس إلى الكلام على جملة من المسائل:
الأولى: هل يمسح الرأس في وضوء غسل الجنابة، أو لا يمسح باعتبار أن فرضه الغسل، وهو أعلى من المسح؟
الثانية: حكم تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس.
الثالثة: استحباب التثليث في مسح الرأس.
الرابعة: هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس.
الخامسة: هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة؟
السادسة: في حكم المسترسل من الشعر، هل يجب غسل ظاهره وباطنه؟
فهذه ستة مسائل متعلقة بالرأس في غسل الجنابة، وأسأل الله سبحانه وتعالى عونه وتوفيقه، إنه على كل شيء قدير.(11/517)
[صفحة فارغة](11/518)
المبحث الأول
ما السنة في وضوء الغسل غسل الرأس أو مسحه
علمنا فيما سبق أن غسل أعضاء الوضوء سنة في ابتداء الغسل، وأن أعضاء الوضوء تغسل بنية رفع الجنابة، ومعلوم أن أعضاء الوضوء منها ما هو مغسول كالوجه واليدين والرجلين، ومنها ما هو ممسوح كالرأس، هذا في رفع الحدث الأصغر، فهل يمسح الرأس في وضوء رفع الحدث الأكبر، أو يكون السنة فيه الغسل؟
أما الوضوء في رفع الحدث الأصغر، فالمشروع فيه المسح بلا خلاف بين أهل العلم، واختلفوا هل يجزئ الغسل على ثلاثة أقوال:
قيل: لا يجزئ مطلقاً.
وقيل: يجزئ مع الكراهة.
وقيل: يجزئ إن مر بيده على رأسه.
وقد تقدم بحثها في كتاب الوضوء من هذه السلسلة وذكرنا مستمسك كل قول مع مناقشتها في الكلام على فروض الوضوء.
وأما في غسل الجنابة، فهل يمسح الرأس في وضوء الغسل؟ أو يكتفي في غسل الرأس بدلاً من مسحه؟ في هذا خلاف بين أهل العلم،
فقيل: لا يمسح الرأس، بل يكتفي بغسله؛ إذ لا فائدة من مسحه، وهو سوف يغسل، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (1) ، ورواية ابن وهب عن
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/35) : " وهل يمسح رأسه عند تقديم الوضوء على الغسل؟ ذكر في ظاهر الرواية أنه يمسح، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يمسح؛ لأن تسييل الماء عليه بعد ذلك يبطل معنى المسح، فلم يكن فيه فائدة، بخلاف سائر الأعضاء ". وانظر تبيين الحاقئق (1/14) .(11/519)
مالك (1) ، وهو نص الإمام أحمد رضي الله عنه كما في المسائل (2) ، ونص عليه إسحاق (3) .
وقال ابن رجب: ((غسل الرأس في الوضوء يجزئ عن مسحه، لكنه في الوضوء المفرد مكروه، وفي الوضوء المقرون بالغسل غير مكروه)) (4) .
وقيل: يمسح الرأس في وضوء الغسل، وهو مذهب الجمهور (5) .
_________
(1) انظر المنتقى (1/93) ، تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/540) .
(2) قال أبو داود في مسائل أحمد (136) : قيل لأحمد: يمسح رأسه أعني الجنب إذا توضأ؟ قال: أي شيء يمسح، وهو يفيض على رأسه الماء. اهـ
(3) قال ابن رجب في شرح البخاري (1/239) : " وأما القول بأنه لا يمسح رأسه، بل يصب عليه الماء صباً، ويكتفي بذلك عن مسحه وغسله للجنابة، فهذا قد روي صريحاً عن ابن عمر رضي الله عنهما، ونص عليه إسحاق بن راهوية، نقله عنه حرب، ونقله أبو داود عن أحمد ".
(4) المرجع السابق، في الصفحة نفسها.
(5) انظر في مذهب الحنفية: مراقي الفلاح (ص: 44) ، بدائع الصنائع (1/35) ، البحر الرائق (1/52) ، تبيين الحقائق (1/14) .
وفي مذهب المالكية: الشرح المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/137) ، المنتقى للباجي (1/93) ، مواهب الجليل (1/314) ، منح الجليل (1/128) .
وفي مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/73) ، نهاية المحتاج (1/225) ، روضة الطالبين (1/89) ، الحاوي (1/219) .
وفي مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/152) ، الفروع (1/204) ، الإنصاف (1/252) ، معونة أولي النهى (1/403) ، المغني (1/287) .(11/520)
دليل من قال: لا يمسح رأسه بل يغسله.
الدليل الأول:
كل الأحاديث التي فصلت وضوء غسل الجنابة تذكر صراحة غسل الرأس، وليس في حديث منها ذكر للمسح، من ذلك:
(1351-224) ما رواه البخاري من طريق عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال:
قالت ميمونة رضي الله عنها: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح بيده الأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه، فغسل قدميه. وهو في مسلم بغير هذا اللفظ.
فانظر كيف قالت رضي الله عنها: ((غسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده)) فلو كان الرأس يمسح كيف تذكر المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين، ثم تذكر غسل الرجلين، ولا تذكر مسح الرأس؟ فدل على أن المشروع هو الغسل، ولا معنى لمسح الرأس في عضو سوف يغسل ثلاث مرات، وأي مسح أبلغ من الغسل؟
الدليل الثاني:
قد بينت في فصل سابق، أن هذا الوضوء لم يكن بنية رفع الحدث، وإنما هو جزء من الغسل الواجب قُدِّمَ فيه أعضاء الوضوء لشرفها، كتقديم اليمين بالنسبة للشمال، ولن يرجع إلى أعضاء الوضوء مرة أخرى، وإذا كان هذا الوضوء بنيه رفع الجنابة لم يكن فيه شيء ممسوح؛ لأن غسل الجنابة على اسمه غسل، وليس مسحاً، وهذا يوضح بجلاء كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح رأسه؟ وإنما أفاض عليه الماء حين بلغ الرأس، والله أعلم.(11/521)
دليل من قال: يمسح رأسه، ثم يغسله.
(1352-225) استدلوا بما رواه البخاري في صحيحه من طريق عبد الله، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، رواه البخاري واللفظ له، ومسلم (1) .
وجه الاستدلال:
قولها رضي الله عنها: ((توضأ وضوءه للصلاة)) يراد به الوضوء الكامل، ومنه مسح الرأس.
ويجاب عن هذا الحديث:
قولها رضي الله عنها: ((توضأ وضوءه للصلاة)) مجمل، قد يراد به الوضوء الكامل، وقد يقال: باعتبار الأغلب، فهذه ميمونة رضي الله عنها تقول: ((توضأ وضوءه للصلاة)) والمراد الأغلب، وليس كل أعضاء الوضوء،
(1353-226) فقد روى البخاري من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،
عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري واللفظ له، ومسلم (2) .
_________
(1) البخاري (272) ، ومسلم (316) .
(2) البخاري (260) ، ومسلم (317) .(11/522)
فإذا صح أن تقول ميمونة رضي الله عنها: ((توضأ وضوءه للصلاة)) والمراد غير رجليه، صح أن قول عائشة رضي الله عنها: ((توضأ وضوءه للصلاة)) أي وغسل رأسه بدلاً من مسحه، خاصة أن الرأس لم يترك حتى يستثنى، بل غسل غسلاً، وهو مسح وزيادة، وكوننا نحمل حديث عائشة على حديث ميمونة في صفة غسل الرأس، أولى من حمله على صفتين، خاصة أننا لم نقف على حديث واحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرح بمسح الرأس في غسل الجنابة، بل جاء عن عائشة ما يوافق حديث ميمونة عندما ذكر الوضوء بشيء من التفصيل،
(1354-227) فقد روى أحمد رحمه الله، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، قال:
سمعت أبا سلمة، قال: دخلت على عائشة، فسألتها عن غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة؟ قالت: كان يؤتى بإناء، فيغسل يديه ثلاثاً، ثم يصب من الإناء على فرجه، فيغسله، ثم يفرغ بيده اليمنى على اليسرى، فيغسلها، ثم يمضمض ويستنشق، ثم يفرغ على رأسه ثلاثاً، ثم يغسل سائر جسده (1) .
[حديث حسن، وشعبة روى عن عطاء قبل تغيره] (2) .
_________
(1) المسند (6/173-174) .
(2) الحديث مداره على أبي سلمة، عن عائشة، ويرويه عن أبي سلمة عطاء بن السائب وبكير بن عبد الله الأشج، ورواية بكير في مسلم، وليس فيها ذكر الوضوء، وأما عطاء بن السائب فقد رواه عنه زائدة وحماد بن سلمة وعمر بن عبيد الطناني، وذكروا فيه التثليث في الوضوء، ورواه شعبة، عن عطاء، كما في إسناد الباب، ولم يذكر التثليث، وشعبة عندي أرجح، فالمحفوظ عدم ذكر تثليث الوضوء، وقد تكلمت على طرق الحديث في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (139) من الطبعة الأولى، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم.(11/523)
فهذا حديث عائشة حين ذكر الوضوء فيه مفصلاً، ذكر غسل الرأس بدلاً من مسحه، وهو يؤكد أن قوله: ((توضأ وضوءه للصلاة)) أن ذلك يدخل فيه الرأس، ولكن بالغسل، وليس بالمسح، كما في رواية ميمونة، وكما في حديث عائشة من رواية أبي سلمة عنها، والله أعلم.
الدليل الثاني على أن الرأس يمسح في الوضوء.
(1355-228) ما رواه البخاري من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،
عن ميمونة، قالت: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه... وذكرت الحديث. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (1) .
فالاستثناء معيار العموم، فمعنى ذلك أنه لم يستثن إلا الرجلين، فدل على أن الرأس يمسح.
قلت: هذا الحديث ليس صريحاً، نعم فيه دليل على أن الرأس لم يترك كما ترك غسل الرجلين، ولكنه ليس صريحاً أنه مسح رأسه، فقد يكون غسل رأسه، وهو مسح وزيادة، خاصة أن رواية أبي سلمة، عن عائشة عندما فصلت الوضوء في حديث عائشة، ذكرت أنه غسل رأسه، وكذلك جاء في حديث ميمونة، والله أعلم.
الراجح من خلاف أهل العلم:
الذي يظهر لي أن الراجح من كلام أهل العلم هو القول بغسل الرأس؛ إذ لا فائدة ترجى من المسح، وهو يريد غسله، فيدخل المسح بالغسل، لكون الغسل أعلى، والمقصود واحد، وهو رفع الجنابة، والله أعلم.
_________
(1) البخاري (281) ، ومسلم (317) .(11/524)
المبحث الثاني
في تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس.
تكلمنا عن تخليل الشعر في الوضوء، وكان محل التخليل في الوضوء هو خاص في اللحية؛ لأن شعر الرأس في الوضوء يمسح مسحاً، فلا حاجة فيه إلى التخليل، وانتهينا إلى أن الراجح أن التخليل ليس بسنة، ولا يصح فيه حديث.
وأما في الغسل، فإن عندنا مع شعر اللحية شعر الرأس، فهل يشرع لهما التخليل، أو لا؟
قال مالك: ((ولم يأت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله في وضوئه، وجاء أنه خلل أصول شعره في الجنابة)) (1) .
الأصل في هذا الباب هو حديث عائشة رضي الله عنها.
(1356-229) فقد روى البخاري من طريق مالك، عن هشام، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب الماء على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله.
فقول عائشة رضي الله عنها: ((ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره)) نص على تخليل شعر الرأس.
(1357-230) ورواه مسلم من طريق أبي معاوية، عن هشام به، وفيه:
_________
(1) رواه ابن نافع، عن مالك، انظر النوادر والنوازل (1/33) .(11/525)
((ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه)) (1) .
قال ابن رجب في شرح البخاري: ((وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة، ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يتنبه لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وآدابه، ولم أر من صرح به منهم، إلا صاحب المغني من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد: الغسل على حديث عائشة، وكذلك ذكره صاحب المهذب من الشافعية)) (2) .
ويمكن أيضاً يستدل بمشروعية تخليل الشعر بالقياس على غسل الحيض، فإن غسل الحيض وغسل الجنابة متشابهان في كثير من الأحكام، وبجامع أن كلاً منهما حدث أكبر،
(1358-231) فقد روى مسلم في صحيحه من طريق إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث،
عن عائشة، أن أسماء بنت شكل سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: ((تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فَتَطَهَّر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكاً شديداً، حتى تبلغ شؤون رأسها...)) الحديث (3) ، والحديث ورواه البخاري بأخصر من هذا (4) .
_________
(1) مسلم (316) .
(2) شرح ابن رجب للبخاري (1/311) .
(3) صحيح مسلم (332) .
(4) صحيح البخاري (314) ، وسبق بحثه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (112) .(11/526)
قلت في مذهب المالكية قولان في تخليل اللحية:
قال أشهب: عن مالك: ((وعليه تخليل لحيته في غسل الجنابة. قيل له في موضع آخر: أيخللها في غسله من الجنابة؟ قال: نعم، ويحركها، واحتج في الموضعين بأن النبي عليه السلام خلل أصول شعر رأسه، وكذلك روى عنه ابن القاسم، وابن وهب في المجموعة، بأنه يخلل لحيته في الغسل ويحركها)) (1) .
وقال ابن حبيب: ((ومن ترك تخليل لحيته في ذلك وأصابع رجليه لم يجزه)) (2) .
وجه وجوب التخليل:
قال الباجي: ((وجه قول أشهب: قول عائشة في هذا الحديث:)) ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره. ومن جهة المعنى: أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته، فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها بالبلل، وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى؛ لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة، ولذلك جاز فيها المسح على الخفين، ولم يجز في الغسل)) (3) .
قلت: القول بوجوب التخليل قد يتمشى مع مذهب مالك القائل بوجوب الدلك في الغسل، ولكن الراجح أن تخليل أصول الشعر ليس بواجب لما يلي:
_________
(1) النوادر والنوازل (1/63) .
(2) المرجع السابق (1/64) .
(3) المنتقى للباجي (1/94) .(11/527)
أولاً: أن هذه الصفة لم يأت فيها أمر شرعي، كما لو قال: خللوا شعوركم أو نحو ذلك، وإنما هي حكاية فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، كما في القواعد الأصولية.
ثانياً: أن هناك أحاديث كثيرة أخرى، تنقل لنا صفة الغسل من الجنابة من قوله، ومن فعله - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيها ذكر التخليل،
أما الأحاديث القولية: فمنها:
قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة الرجل الذي أصابته جنابة، ولا ماء، قال له: ((خذ هذا فأفرغه عليك)) قطعة من حديث طويل رواه البخاري (1) ، فلم يطلب إلا إفراغ الماء على بدنه.
(1359-232) ومنها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة:
((إنما كان يكفيك إن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين)) . رواه مسلم (2) ، فاكتفى بالإفاضة، ولم يذكر التخليل.
وأما الأحاديث الفعلية:
وهي التي تحكي لنا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمنها وأشهرها حديث ميمونة:
(1360-233) فقد رواه البخاري رحمه الله، عنها، قالت: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه، فغسل قدميه، وراه مسلم، واللفظ للبخاري (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (337) من حديث طويل.
(2) صحيح مسلم (330) .
(3) البخاري (265) ، ومسلم (317) .(11/528)
القول الثاني في مذهب مالك: أنه ليس عليه تخليل لحيته.
روى ابن القاسم، عن مالك: ليس على المغتسل من الجنابة تخليل لحيته (1) .
قال الباجي: ((وجه رواية ابن القاسم: أن الفرض قد انتقل إلى الشعر النابت على البشرة، فوجب أن يسقط حكم إيصال الماء إلى البشرة بإمرار اليد عليها)) (2) .
قلت: إن كان نفي التخليل المقصود به نفي الوجوب، فذاك مسلم، وإن كان تعليل الباجي قد يفهم منه، أن إيصال الماء إلى البشرة قد سقط، وليس بمشروع، فإن كان هذا هو المقصود، فحديث عائشة رد عليه، وهو يفيد استحباب تخليل أصول شعر الرأس في الغسل، ولا يفيد الوجوب كما أسلفنا، وقد ترجم النسائي رحمه الله تعالى في سننه، في كتاب الطهارة، قال: باب: تخليل الجنب رأسه، ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها، وهو يدل على أن الاستحباب ما زال محكماً في غسل الجنابة، والله أعلم.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: ((قوله: ((ثم يخلل بيديه شعره)) التخليل ههنا: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر، ورأيت في كلام بعضهم إشارة إلى أن التخليل، هل يكون بنقل الماء، أو بإدخال الأصابع مبلولة بغير نقل الماء؟ وأشار به إلى ترجيح نقل الماء؛ لما وقع في بعض الروايات الصحيحة في كتاب مسلم: ((ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول شعره)) فقال هذا القائل: نقل الماء لتخليل الشعر: هو رد على من يقول: يخلل بأصابعه مبلولة
_________
(1) النوادر والنوزال (1/63) ، المنتقى للباجي (1/94) .
(2) المنتقى للباجي (1/94) .(11/529)
بغير نقل الماء، قال: وذكر النسائي في السنن ما يبين هذا، فقال: باب تخليل الجنب رأسه، وأدخل حديث عائشة رضي الله عنها فيه، فقالت فيه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب رأسه، ثم يحثي عليه ثلاثاً)) . قال: فهذا يبين أن التخليل بالماء. قال النووي: وفي الحديث دليل على أن التخليل يكون بمجموع الأصابع العشر، لا بالخمس)) (1) .
_________
(1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/131) .(11/530)
المبحث الثالث
استحباب التثليث في غسل الرأس
ذكرنا فيما سبق عند الكلام على وضوء الغسل أنه يتوضأ مرة واحدة بنية غسل الجنابة، ولا يشرع له تثليث الوضوء، إلا في غسل الكفين، فقد ثبت أنه غسلهما ثلاثاً، والكلام الآن في غسل الرأس، هل يشرع التثليث في غسله؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم،
فقيل: يشرع غسل الرأس ثلاث مرات، وهو مذهب الحنفية (1) ،
والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، وقول في مذهب المالكية (4) .
_________
(1) قال في العناية شرح الهداية (1/58) : " ثم يفيض الماء على رأسه، وسائر جسده ثلاثاً ". وقال في تحفة الملوك (ص: 28) : " ثم يغسل رأسه وجسده ثلاثاً ". وقال مثله في الفتاوى الهندية (1/14) .
والحنفية يذهبون إلى استحباب التثليث ليس في الرأس فقط، بل في سائر البدن، انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 68) ، نور الإيضاح (ص: 23) ،
(2) المجموع (2/214) ، تحفة المحتاج (1/279) ، المهذب (1/31) ، حلية العلماء (1/175) ، الوسيط (1/348) .
(3) جاء في الفروع (1/204) : " ويروي رأسه، والأصح ثلاثاً ". وانظر الإنصاف (1/253) ، والكافي (1/59) ، كشاف القناع (1/152) .
(4) استحباب التثليث في الرأس، هو ما اختاره خليل في مختصره، وذكره من مندوبات الغسل وسننه (ص: 17) . وتبعه على ذلك شراح المختصر. قال في مواهب الجليل (1/316) : " والتثليث مستحب، قال ابن حبيب: لا أحب أن ينقص من الثلاث، ولو عم بواحدة زاد الثانية والثالثة؛ إذ كذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو اجتزأ بالواحدة أجزأته ".
وقال في الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/137) (وتثليث رأسه) أي يغسلها بثلاث غرفات، يعمها بكل غرفة، والأولى: هي الفرض ".
وقال الخرشي (1/172) : ومنها تثليث غسل رأسه، بأن يعمها بكل واحدة ".
وذكر صاحب الشرح الصغير أن التثليث من الفضائل، قال (1/171) : "وفضائله... ثم ذكر "وتخليل أصول شعر رأسه، وتثليثه يعمه بكل غرفة ". اهـ وانظر الفواكه الدواني (1/147) ، التاج والإكليل (1/315) .(11/531)
وقيل: ليس فيه عدد معتبر، وإنما المطلوب أن يغسل رأسه، ويسبغ الغسل بدون توقيت عدد معين، فإذا بلغ الماء إلى بشرة الرأس فقد أدى ما عليه. وهذا نص مالك في المدونة (1) .
وقد نص القرطبي (2) ، والقاضي عياض (3) ، على أن التكرار في الغسل غير مشروع حتى في غسل الرأس.
دليل الجمهور على استحباب التثليث في غسل الرأس.
(1361-234) ما رواه البخاري من طريق عبد الله، قال: أخبرنا هشام، عن أبيه،
عن عائشة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (4) .
_________
(1) جاء في المدونة (1/2) : " ما رأيت عند مالك في الغسل والوضوء توقيتاً، لا واحدة، ولا اثنتين، ولا ثلاثاً، ولكنه كان يقول: يتوضأ، أو يغتسل، ويسبغهما جميعاً ". اهـ
(2) المفهم (1/576) .
(3) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/156) .
(4) البخاري (282) ، ومسلم (316) .(11/532)
فقوله رضي الله عنها: ((أفاض عليه الماء ثلاث مرات)) ظاهره أنه أفاضه على جميع رأسه، مما يدل على تعميم الرأس بكل غرفة.
وراه البخاري من طريق مالك، عن هشام، وفيه: ((ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه)) (1) .
فالصب ظاهره على جميع الرأس، وبكفيه كليهما.
(1361-235) وروى مسلم من طريق سليمان بن صرد، عن جبير بن مطعم، قال: تماروا في الغسل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض القوم: أما أنا فإني أغسل رأسي كذا وكذا،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث أكف. رواه مسلم (2) .
وفي لفظ للبخاري: ((فأفيض على رأسي ثلاثاً)) ، وأشار بيديه كلتيهما (3) .
فذه الرواية تدل على أن الغرفة كانت بكلتا يديه، وأنه أفاض على كل واحدة منها على جميع رأسه.
(1363-236) وروى البخاري رحمه الله من طريق أبي جعفر، قال:
قال لي جابر بن عبد الله: أتاني ابن عمك، يعرض بالحسن بن محمد بن الحنفية، قال: كيف الغسل من الجنابة؟ فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاثة أكف، ويفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده، فقال لي الحسن:
_________
(1) البخاري (248) .
(2) مسلم (327) .
(3) البخاري (254) .(11/533)
إني رجل كثير الشعر، فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر منك شعراً (1) .
دليل من قال: لا يشرع التكرار في غسل الرأس.
ذهب القرطبي والقاضي عياض من المالكية إلى أنه لا يشرع التكرار في غسل الجنابة، لا في وضوء الغسل، ولا في الرأس، ولا في سائر البدن.
وأجابوا عن الأحاديث السابقة بأنها لا تسلم إلا إذا دلت صراحة أن كل غرفة من الغرفات الثلاث حصل بها تعميم الرأس بالغسل.
قال الباجي: ((قوله: ((ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات)) يحتمل أن يكون على ما شرع في الطهارة من التكرار، ويحتمل أن يكون لتمام الطهارة؛ لأن الغرفة لا تجزئ في استيعاب ما يحتاج إليه من غسل رأسه)) (2) .
وقال القرطبي في المفهم: ((ولا يفهم من هذه الثلاث حفنات، أنه غسل رأسه ثلاث مرات؛ لأن التكرار في الغسل غير مشروع؛ لما في ذلك من المشقة، وإنما كان ذلك العدد؛ لأنه بدأ بجانب رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على وسط رأسه، كما في حديث عائشة)) .
(1364-237) قلت: حديث عائشة رواه مسلم من طريق القاسم، عنها، قالت:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه: بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقال بهما على رأسه (3) .
_________
(1) البخاري (256) ، ورواه مسلم (329) .
(2) المنتقى للباجي (1/94) .
(3) مسلم (318) .(11/534)
ولفظ البخاري: ((فأخذ بكفه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقال بهما على وسط رأسه)) (1) .
وتعقب ابن رجب كلام القرطبي في شرحه لصحيح البخاري، فقال عن كلامه: وهو خلاف الظاهر، قال: ((والظاهر، والله أعلم أنه يعم رأسه بكل مرة، ولكن يبدأ في الأولى بجهة اليمين، وفي الثانية: بجهة اليسار، ثم يصب الثالثة على الوسطى)) (2) .
قلت: كلام ابن رجب هو الذي خلاف الظاهر، فلو كان المقصود هو فقط البداءة باليمين إلى نهاية الرأس، فلماذا يقدم الجهة اليسرى على وسط الرأس، فإن الجانب الأيسر لا يعرف في الشرع تقديمه على غيره، وكان الأفضل بعد تقديم الجهة اليمنى أن يبدأ بأعلى الرأس، فالظاهر أنه بدأ بجوانب الرأس مقدماً فيه اليمين لاستحباب تقديم اليمين، ثم أنهى ذلك بأعلى الرأس، ثم هي غرفة واحدة، كيف تكفي في كل مرة من جانب الرأس الأيمن إلى أعلاه، وصولاً إلى جانبه الأيسر وانتهاء بمؤخرة الرأس؟ فلو كانت هذه الصفة هي المنقولة، لجاءت صريحة في الحديث، ثم القول بعدم تثليث الرأس يطرد مع بقية أعمال الغسل، فقد ثبت لنا أن الوضوء ليس فيه تكرار، وسبق بحثه، وأن سائر البدن فيما عدا الرأس لا يشرع فيه تكرار، كما سيأتي إثباته إن شاء الله تعالى، فما بال الرأس يستثنى من سائر الجسم، فالقول بعدم تكرار غسله متسق مع القول بأنه لا يشرع تكرار في سائر أحكام الغسل، وكنت فيما سبق أرى سنية غسل الرأس ثلاثاً، ثم بعد التأمل رأيت أن القول بعدم تكرار غسل الرأس، هو الراجح، والله أعلم.
_________
(1) البخاري (258) .
(2) شرح ابن رجب للبخاري (1/259) .(11/535)
[صفحة فارغة](11/536)
المبحث الرابع
هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس
الأحاديث المرفوعة في غسل الرأس للمرأة تذكر ثلاث غرفات، لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك.
(1365-238) فقد روى مسلم عن أبي الزبير عبيد بن عمير، قال:
بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو، هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة في صحيح مسلم:
((إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين)) (2) .
فهذا نص مرفوع أن عائشة لا تزيد على ثلاث إفراغات، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغتسل معها.
(1366-239) وروى البخاري من طريق صفية بن شيبة،
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنا إذا أصاب إحدانا جنابة، أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها على شقها الأيسر (3) .
_________
(1) مسلم (331) .
(2) مسلم (330) .
(3) صحيح البخاري (277) .(11/537)
فظاهر هذا الأثر أنها تصب على رأسها خمس حفنات، إلا أن الأثر جاء بصيغة ((كنا نفعل)) ولم تضف ذلك إلى زمن النبوة، فهل له حكم الرفع، أو يكون موقوفاً؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم.
وقد بينت في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية كلام أهل العلم حول الحديثين، وهل يؤخذ منه أن في غسل رأس المرأة صفتين، تارة بثلاث غرفات، وتارة بخمس، أو السبيل الترجيح بين ما ورد، أرجو مراجعة ما كتب هنالك لمن أراد الاستزادة، والله أعلم (1) .
_________
(1) كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية (1/428) .(11/538)
المبحث الخامس
هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة.
كانت المرأة العربية من عصر البنوة إلى عهد قريب، وهي تربي شعرها، حتى يكون لها ضفائر تنزل على ظهرها، فإذا أرادت المرأة أن تغتسل للجنابة أو للحيض، فهل عليها أن تنقض شعرها، ليتخلل الماء شعرها؟ أو يمكنها أن تغسل رأسها، ولو كانت لم تحل ضفائرها؟ وكذلك بعض الأعراب من أهل البادية يترك شعره حتى يكون له ضفائر طويلة، فهل إذا أراد أن يغتسل من الجنابة كان لزاماً عليه أن يحل ضفائره؟ في هذا المسألة اختلف الفقهاء:
فقيل: لا تنقض المرأة ولا الرجل رأسه مطقاً، لا في غسل الجنابة ولا في غسل الحيض.
وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، ورواية عن أحمد (3) .
_________
(1) مختصر خليل (ص:15) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:24) ، الشرح الصغير (1/169) ، أسهل المدارك (1/68) ، شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/101) ، حاشية الدسوقي (1/134) ، منح الجليل (1/126،127) ، مواهب الجليل (1/312،313) ، المدونة (1/134) .
(2) الأم (1/40) وقال: " إذا كانت المرأة ذات شعر تشد ظفرها، فليس عليها أن تنفضه في غسل الجنابة، وغسلها من الحيض كغسلها من الجنابة لا يختلفان"، مغني المحتاج (1/73) ، المجموع (1/215) ، نهاية المحتاج (1/224) ، روضة الطالبين (1/88) ، الحاوي (1/224،225) .
(3) المغني (1/298) ، المبدع (1/197) ، الكافي (1/60) ، الفروع (1/205) ، الإنصاف (1/256) .(11/539)
وقيل: يجب على الرجل نقض شعره بخلاف المرأة، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: في التفريق بين غسل الجنابة والحيض، فلا يجب نقضه في الجنابة ويجب في غسل الحيض، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (2) ، واختاره الباجي من المالكية (3) ، وابن حزم من الظاهرية (4) .
والراجح القول الأول، وقد ذكرت أدلة الأقوال وناقشتها في كتابي الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق (5) .
_________
(1) مراقي الفلاح (ص:42،43) ، بدائع الصنائع (1/34) ، البحر الرائق (1/54) ، تبيين الحقائق (1/14) ، حاشية ابن عابدين (1/153) ، شرح فتح القدير (1/58) وانظر العناية مطبوعة معه (1/59) .
(2) كشاف القناع (1/154) ، الفروع (1/205) ، الإنصاف (1/256) ، المغني (1/298) ، شرح منتهى الإرادات (1/86) ، الكافي (1/60) ، المحرر (1/21) ، المبدع (1/197) .
(3) المنتقى (1/96) .
(4) المحلى (مسألة 192) .
(5) الحيض والنفاس رواية ودراية (1/433) .(11/540)
المبحث السادس
في حكم المسترسل من الشعر هل يجب غسل ظاهره وباطنه
إذا رجحنا أنه لا يجب عليها نقض الضفائر، فهل يجب غسل ظاهر الشعر وباطنه؟ أو يجب غسل ظاهره فقط؟ أو يجب غسل أصول الشعر (بشرة الشعر) دون المسترسل؟
هذه مسألة اختلف فيها العلماء:
فقيل: يجب غسل ما استرسل من الشعر، وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: لا يجب، وهو مذهب الحنفية (4) ، واختاره ابن قدامة من الحنابلة (5) .
وهذا القول هو الراجح، والقول الأول أحوط، وقد ذكرت أدلتهما في كتاب الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا (6) .
_________
(1) الشرح الصغير (1/169) ، مختصر خليل (ص:15) ، أسهل المدارك (1/68) ، حاشية الدسوقي (1/134) ، منح الجليل (1/126،127) ، مواهب الجليل (1/312) ، المدونة (1/134) .
(2) مغني المحتاج (1/73) ، نهاية المحتاج (1/224) ، روضة الطالبين (1/88) المجموع (1/215) .
(3) كشاف القناع (1/154) ، الفروع (1/205) ، الإنصاف (1/256) ، شرح الزركشي (1/322) ، شرح منتهى الإرادات (1/85) ، الكافي (1/60) ، المبدع (1/197) .
(4) مراقي الفلاح (ص:43) ، البحر الرائق (1/55) ، تبيين الحقائق (1/15) ، حاشية ابن عابدين (1/153) ، وصحح الكاساني في بدائع الصنائع القول بعدم وجوب إيصال الماء إلى أثناء الشعر إن كان مضفوراً (1/34) .
(5) المغني (1/301،302) .
(6) كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية (1/446) .(11/541)
[صفحة فارغة](11/542)
الفصل العاشر
استحباب التيامن في الاغتسال
أما التيامن في غسل الرأس ففيه دليل خاص:
(1367-240) فقد روى مسلم من طريق القاسم،
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه. رواه البخاري، ومسلم واللفظ لمسلم (1) .
وأما التيامن في البدن فالأحاديث كلها تنص على إفاضة الماء على البدن، ولم تذكر أنه بدأ بشقه الأيمن، ثم الأيسر.
فحديث عائشة في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، في البخاري: ((ثم يفيض الماء على جلده كله)) (2) .
ولفظ مسلم ((ثم أفاض على سائر جسده)) (3) .
وفي رواية أخرى للبخاري ((ثم غسل سائر جسده)) (4) .
وكذا قالت ميمونة رضي الله عنها في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) البخاري (258) ومسلم (318) .
(2) البخاري (248) .
(3) مسلم (316) .
(4) البخاري (273) .(11/543)
وقد وصفت عائشة وميمونة رضي الله عنهما كل شيء في غسله، من غسل الكفين ثلاثاً، ثم غسل الفرج، ثم وضوء الصلاة بتقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى، والرجل اليمنى على اليسرى، ثم تخليل أصول الشعر، ثم غسل الرأس بثلاث غرفات، ثم غسل القدمين بعد الفراغ من الغسل، فهل يمكن أن يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - التيامن في غسل البدن، من تقديم الشق الأيمن، ثم الأيسر، ولا ينقلان ذلك، بل إن عائشة نقلت تقديم غسل الجانب الأيمن من الرأس، ثم الجانب الأيسر منه، ثم وسط الرأس، ولما كان التيامن في غسل الرأس مشروعاً، حفظ لنا بالنقل الخاص الصريح، فهل نحن بحاجة إلى استخدام عمومات، أو استخدام القياس في استحباب التيامن في غسل البدن، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل عند أزواجه، وينقلان لنا صفة غسله، ثم لا ينقلان لنا التيامن في غسل البدن؟
إن التيامن إما أن يكون مشروعاً، فيكون أولى الناس بفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتكون أمهات المؤمنين قد أهملن نقل هذه الصفة لنا من فعله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإما أن يكون التيامن غير مشروع، ويكون تركهن لنقل التيامن في غسله دليلاً على أنه لم يكن يفعل هذه الصفة، وما تركه عليه الصلاة والسلام كانت السنة تركه، والله أعلم، إنني أبحث عن حديث صحيح صريح في استحباب تقديم الشق الأيمن في غسل البدن من الجنابة، وفي استحباب تأخير الشق الأيسر منه، إن الذي أراه أن البدن عضو واحد، والعضو الواحد الأصل فيه عدم تقسيمه إلى أيمن وأيسر، نعم ورد هذا في الرأس على خلاف الأصل، فنقتصر عليه، ولا نتعداه، انظر إلى الأذنين في الوضوء لما كانت من الرأس بحكم العضو الواحد مسحا جميعاً دون تقصد في تقديم اليمنى على اليسرى،(11/544)
مع أنه لو قيل في التيامن في مسح الأذنين لم يبعد؛ لأن الأذنين في واقع الأمر عضوان مستقلان، فما بالك بالبدن الذي هو عضو واحد، فإذا كان الأمر ليس فيه حديث صريح في غسل الجنابة والحيض، فهل يقاس غسل الجنابة على غسل الميت، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم عطية رضي الله عنها:
((ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها)) . رواه البخاري ومسلم (1) .
فهل كان غسل الجنابة لا يتكرر فعله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى نضطر إلى القياس في عبادة كانت تفعل كثيراً في بيوت أمهات المؤمنين، ونقلن رضي الله عنهن ما شاهدنه من فعله عليه الصلاة والسلام، ولم يذكرن في حديث واحد، أنه كان يبدأ بالشق الأيمن على الشق الأيسر؟
(1368-241) أو نحتاج إلى أخذ استحباب التيامن، بما رواه البخاري، ومسلم (2) ، من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق،
عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله.
أليس هذا الحديث مطلقاً، وليس نصاً في غسل الجنابة؟ فلماذا لم يؤخذ من هذا الحديث المطلق استحباب تقديم الأذن اليمنى على الأذن اليسرى، وذهب الفقهاء إلى أنهما يمسحان معاً، أو ذهب الفقهاء إلى استحباب تقديم الجانب الأيمن في مسح الرأس في الحدث الأصغر، خاصة أن التيامن في الرأس محفوظ في غسل الجنابة، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد فعل التيامن في غسل بدنه
_________
(1) البخاري (167) ومسلم (42ـ 939) .
(2) البخاري (168) (426) ومسلم (268) .(11/545)
من الجنابة، فلماذا لم تنقله عائشة وميمونة وغيرهما؟ وإذا كان لم يفعله فلماذا نستحب فعله اتكاء على حديث لم يكن سياقه في غسل الجنابة؟
فإن كانت المسألة إجماعاً في تقديم غسل الجانب الأيمن على الجانب الأيسر فهذا مسلم للإجماع؛ لأنه من الأدلة الشرعية، وإن لم يكن مسلماً فإني أترك هذه المسألة ليتأملها الباحثون وطلبة العلم، فيوجدوا أجوبة لما ذكرته، والله أعلم.(11/546)
الفصل العاشر
في حكم غسل البدن ثلاث مرات
تبين لنا في المبحث السابق أن الوضوء في غسل الجنابة لا يشرع فيه التثليث، واختلف العلماء في غسل البدن، هل يستحب التثليث فيه أو لا؟
فقيل: يستحب، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: لا يستحب، وهو المشهور من مذهب المالكية (4) ، واختاره
_________
(1) بدائع الصنائع (1/34) ، شرح فتح القدير (1/58) .
(2) روضة الطالبين (1/90) ، مغني المحتاج (1/74) ، المجموع (2/213) قال النووي: "المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه يستحب إفاضة الماء على جميع البدن ثلاث مرات ".
(3) الإنصاف (1/253) ، الفروع (1/204) ، كشاف القناع (1/152) ، المحرر (1/20) .
(4) نصت كتب المالكية على أن من سنن الغسل تثليث الرأس، ومعناه أنه لا يشرع التثليث لما عداه، وصرح بعضهم بأنه لا يشرع تثليث البدن، بل كره كثير منهم التثليث في أعضاء الوضوء فضلاً عن الغسل. انظر المسألة في الكتب التالية.
الشرح الصغير (1/172) ، بمختصر خليل (ص: 15) ، وشروحه الخرشي (1/171) ، وقال في حاشية العدوي المطبوع بهامش شرح الخرشي: " ليس شيء في الغسل يندب فيه التكرار غير الرأس " شرح الزرقاني (1/104) . منح الجليل (1/129ـ 130) ، وذكر فيه كراهة تثليث أعضاء الوضوء، ونص على إستحباب التثليث في الرأس.
وقال في الشرح الكبير (1/136، 137) " يندب بدؤه بأعضاء وضوءه كاملة مرة بنية رفع الجنابة، فلا يندب التثليث بل يكره ".(11/547)
ابن تيمية من الحنابلة (1) .
وهذا القول هو الراجح، وسبق أن بينت أن وضوء غسل الجنابة، وغسل الرأس وكذلك غسل البدن لا يشرع فيه التثليث، والخلاف في التثليث في الرأس خلاف قوي، فقد ورد فيه ثلاث غرفات، فمنهم من عد هذا من التكرار، ومنهم من أخذ بحديث عائشة، وأنه غسل جانب الرأس الأيمن بغرفة، والأيسر بغرفة، وأعالي الرأس بالغرفة الثالثة، وأما تثليث البدن فالخلاف فيه ضعيف، لأنه لم يرد فيه نص باستحباب التثليث، والراجح عندي طرد الباب، وأنه لا يشرع في غسل الجنابة تثليث البتة إلا في غسل الكفين، وغسلهما في ابتداء الطهارة سنة مستقلة تفعل في الوضوء وفي الغسل قبل مباشرة اليد للغسل، وقبل إدخالهما في الإناء.
وقد عرضت هذه المسألة مع أدلتها في كتاب الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا، فلله الحمد (2) .
_________
(1) الإنصاف (1/253) ، الفروع (1/204) .
(2) الحيض والنفاس رواية ودراية (1/464) .(11/548)
الفصل الحادي عشر
في حكم تأخير غسل الرجلين
إذا اغتسل المكلف من الجنابة، وبدأ بالوضوء، فهل يغسل رجليه مع الوضوء، أم يؤخر غسلهما إلى تمام الغسل، اختلف الفقهاء في ذلك.
فقيل: لا يغسلهما مع الوضوء، بل يؤخر غسلهما إلى تمام الغسل، وهو مذهب الحنفية (1) ، وقول في مذهب المالكية (2) ، وقول في مذهب الشافعية (3) ، ورواية عن أحمد (4) .
وقيل: يغسلهما مع الوضوء، وهو مذهب المالكية (5) ، والمشهور عند الشافعية (6) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/58) .
(2) قال الصاوري في حاشيته على الشرح الصغير (1/172) : " لهم ـ يعني أهل المذهب طريقتان في الوضوء: التثليث، وعدمه، وتقديم الرجلين قبل غسل الرأس، وتأخيرهما بعد تمام الغسل. ورجح تأخير غسل الرجلين محمد عليش في منح الجليل (1/128) .
(3) قال النووي في روضة الطالبين (1/89) : " تحصل سنة الوضوء سواء أخر غسل القدمين إلى الفراغ، أو فعله بعد مسح الرأس والأذن. وأيهما أفضل؟ قولان، المشهور أنه لا يؤخر.
(4) الفروع (1/204) ، المستوعب (1/240) ، المغني (1/288) .
(5) التفريع ـ ابن الجلاب (1/194) ، أسهل المدارك (1/67) ، الشرح الصغير (2/172) ، المعونة (1/132) ، وقال في جواهر الإكليل (1/23) : " ثم أعضاء وضوءه كاملة ـ أي يغسلهما ـ فلا يؤخر غسل رجليه إلى آخر غسله " اهـ.
(6) روضة الطالبين (1/89) .(11/549)
وقيل: يغسلهما مع الوضوء، ويعيد غسلهما بعد تمام الغسل، وهوالمشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: إن كان المكان غير نظيف، فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم (2) .
وقيل: التقديم في غسل الرجلين والتأخير سواء، وهو رواية عن أحمد (3) .
والذي يظهر لي أن السنة في تأخير غسلهما على حديث ميمونة، وقد بينت أن حديث عائشة والذي ظاهره أنه يكمل وضوءه ليس صريحاً، وقد جاء عن عائشة في معرض تفصيلها للوضوء ما يدل على تأخير غسلهما، فإذا أمكن حمل حديث عائشة على حديث ميمونة حملاً لا تكلف فيه تعين حمله، لأن الأصل عدم تعدد السنة في العضو المغسول، وقد بينت أنه يمكن حمل حديث عائشة على حديث ميمونة، وتكون الصفة الواردة في غسل الرجلين صفة واحدة، انظر الكلام على هذا في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فقد تكلمت عليه بشيء من التفصيل، فأغنى عن إعادته هنا (4) .
_________
(1) الإنصاف (1/253) .
(2) الفروع (1/204) .
(3) المغني ـ ابن قدامة (1/289) ، الفروع (1/204) .
(4) الحيض والنفاس رواية ودراية (1/476) .(11/550)
الفصل الثاني عشر
في الموالاة في غسل الجنابة
إذا فرق المغتسل غسله، بأن غسل بعض بدنه، ثم فصل بفاصل طويل، فهل يبني على غسله، أو يستأنف؟ اختلف الفقهاء في ذلك؛ لاختلافهم في حكم الموالاة في غسل الجنابة،
فقيل: الموالاة سنة، وهو مذهب الجمهور (1) ، ورجحه ابن حزم (2) .
وقيل: تجب الموالاة في الغسل، وهو مذهب المالكية (3) ، وقول في مذهب الحنابلة (4) .
دليل المالكية على الوجوب:
الدليل الأول:
أن الغسل المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - كان متوالياً، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فرق غسله،
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: حاشية ابن عابدين (1/156) ، الجوهرة النيرة (1/7) .
وفي مذهب الشافعية، قال النووي في المجموع (2/213) : " وأما موالاة الغسل فالمذهب أنها سنة ". وانظر تحفة الحبيب على شرح الخطيب (1/244) .
وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/257) ، شرح منتهى الإرادات (1/51) ، كشاف القناع (1/153) ، مطالب أولي النهى (1/181) .
(2) قال ابن حزم في المحلى (1/312) : " ومن فرق وضوءه أو غسله أجزأه ذلك ".
(3) جاء في المدونة (1/28) : " وسئل مالك عن الرجل يغسل جسده، ولا يغسل رأسه؛ وذلك لخوف من امرأته، ثم يدع غسل رأسه حتى يجف جسده، ثم تأتي امرأته لتغسل رأسه، هل يجزئه ذلك عن غسل الجنابة؟ قال: ليستأنف الغسل". وانظر مواهب الجليل (1/312) ، حاشية الدسوقي (1/133) ، الخرشي (1/168) ، الفواكه الدواني (1/147) .
(4) الإنصاف (1/257) .(11/551)
وليس المقصود هنا الاحتجاج بمطلق الفعل، ولكن هذا الفعل كان بياناً لقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) ، فكما أن الأمر بقوله تعالى: {فاطهروا} واجب، فكذلك ما وقع بياناً له من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان فعله متوالياً غير مفرق، فمن فرق غسله، فقد جاء أمراً ليس عليه أمر الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد.
ويجاب:
بأن الآية القرآنية في قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (2) ، لم تذكر إلا غسل البدن فقط، وهذا هو الواجب، وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذ هذا فأفرغه عليك)) .
وما فعله - صلى الله عليه وسلم - في السنة المطهرة زيادة على ما في الآية الكريمة، فهو من قبيل الاستحباب، ومنه الموالاة، والوضوء قبله، والمضمضة والاستنشاق وغيرها، والله أعلم.
الدليل الثاني:
القياس على الوضوء، فإذا كانت الموالاة واجبة في الوضوء، فكذلك الغسل؛ لأنه إحدى الطهارتين.
وأجيب:
بأن وجوب الموالاة في الوضوء ليست محل إجماع، فقد اختلف العلماء في وجوب الموالاة فيه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك فرقاً بين
_________
(1) المائدة: 6.
(2) النساء: 43.(11/552)
الغسل والوضوء، فإن الوضوء فيه أعضاء متعددة: الوجه واليدان والرجلان، بخلاف الغسل فإنه ينظر إليه بأنه عضو واحد، وهو جميع البدن.
وقد يقال: إذا كان لا يعذر في تفريق الأعضاء المختلفة في الوضوء، وهي أعضاء لا يرتبط بعضها ببعض، فكيف يعذر في تفريق غسل عضو واحد، فهو أولى بوجوب الموالاة من غيره.
ويجاب على هذا: بأن حقيقة الموالاة: هي أن تكون بين شيئين مختلفين، فإذا كان الغسل لشيء واحد، وهو البدن، فكيف يتصور وجوب الموالاة فيه؟
دليل الجمهور:
الدليل الأول:
لو كانت الموالاة واجبة لجاء النص الشرعي المقرر لوجوبها، لأن المسألة مهمة جداً، فإما أن يرتفع الحدث أو لا يرتفع، وبالتالي إما أن تصح صلاته، أو تكون صلاته باطلة، فإذا كان الأمر بهذه المثابة من الأهمية، وتتعلق بأعظم أركان الإسلام العملية، وهي الصلاة، فلا بد من وجود نص صحيح صريح تقوم به الحجة على وجوب الموالاة، ولم يوجد.
الدليل الثاني:
أن المأمور به في الغسل هو غسل البدن، فكيفما غسل فقد قام بما أوجب الله عليه.
الدليل الثالث:
(1369-242) ما رواه البخاري من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،(11/553)
عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه (1) .
فهنا غسل بدنه إلا رجليه، ثم تنحى من مقامه فغسل رجليه، فوجد مهلة بين فعله الأول وبين غسل رجليه، فإذا جاز وجود مهلة بين أفعال الغسل لم تكن الموالاة واجبة إلا أن يقال: إن هذا من التفريق اليسير، وهو لا يضر.
قال ابن حزم: ((إذا جاز أن يجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين وضوئه وغسله، وبين تمامهما بغسل رجليه مهلة خروجه من مغتسله، فالتفريق بين المدد لا نص فيه ولا برهان)) (2) .
الراجح:
أن القول بالوجوب هو حكم شرعي، يحتاج إلى دليل شرعي، ولم أجد دليلاً على وجوب الموالاة في الغسل، والأصل عدم الوجوب، والله أعلم.
_________
(1) البخاري (281) ، ورواه مسلم (317) ، ولم يذكر فيه قولها: " سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) المحلى (1/313) .(11/554)
الفصل الثالث عشر
في تدليك البدن في الغسل
اختلف العلماء في تدليك البدن في الغسل،
فقيل: التدليك ليس بفرض، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: التدليك فرض، وهو مذهب المالكية (2) .
قال القرافي: ومنشأ الخلاف: هل حقيقة الغسل لغة: الإيصال مع الدلك، فيجب، وهو الصحيح، ولذلك تفرق العرب بين الغسل والغمس لأجل التدليك، فتقول: غمست اللقمة في المرق، ولا تقول: غسلتها، أو نقول: حقيقته: الإيصال فقط، لقول العرب: غسلت السماء الأرض: إذا أمطرتها (3) .
قلت: إنما فرق بين المرق والماء، لأن الغسل يراد به الطهارة والنظافة، وهو مختص بالماء، فالماء مطهر بخلاف المرق، وليس هذا التفريق راجعاً إلى وجوب الدلك أو عدمه.
_________
(1) الفتاوى الهندية (1/14) ، حاشبة ابن عابدين (1/156) ، أحكام القرآن للجصاص (1/470-471) ، المبسوط (1/44) ، تحفة الحبيب (1/244) ، المغني لابن قدامة (1/183) .
(2) جاء في المدونة (1/27) " قال مالك: في الجنب يأتي النهر، فينغمس فيه انغماساً، وهو ينوي الغسل من الجنابة، ثم يخرج، قال: لا يجزئه إلا أن يتدلك، وإن نوى الغسل لم يجزه إلا أن يتدلك، قال: وكذلك الوضوء أيضاً. قلت: أرأيت إن أمر يديه على بعض جسده، ولم يمرهما على جميع جسده؟ قال: قال مالك: لا يجزئه ذلك حتى يمرهما على جميع جسده كله ويتدلك". وانظر الذخيرة (1/309) .
(3) الذخيرة (1/309) .(11/555)
دليل الجمهور على عدم وجوب الدلك:
الدليل الأول:
(1370-243) ما رواه مسلم من طريق سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة،
عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: ((إنما كان يكفيك)) ساقه مساق الحصر، ولم يذكر سواء إفاضة الماء على البدن، وهي لا تقتضي الدلك.
الدليل الثاني:
(1371-244) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (2) .
[حديث حسن وسبق تخريجه] (3) .
_________
(1) مسلم (330) .
(2) المصنف (913) .
(3) انظر الكلام على إسناد الحديث في كتاب أحكام الطهارة مباحث المياه: في باب خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ.(11/556)
لم يطلب الحديث إلا أن يمس الماء بشرة المسلم، ولا يلزم من ذلك التدليك، فدل الحديث على عدم وجوبه، والله أعلم.
الدليل الثالث:
لو كان الدلك فرضاً لجاء نقله عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك لما كان الدلك مشروعاً في غسل الرأس جاء ذكره في السنة،
(1372-245) فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من طريق إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث
عن عائشة، أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء.... الحديث (1) .
فلما لم يذكر دلك البدن في غسل الجنابة والحيض علم أنه ليس بواجب.
الدليل الرابع:
لو كان على بدنه نجاسة، فصب عليه الماء صباً حتى زالت عين النجاسة طهر المحل، ولو لم يدلك موضع النجاسة، فإذا كان لا يشترط الدلك مع طهارة الخبث، وقيام جرم النجاسة على البدن، فكيف يشترط الدلك في رفع الحدث، ولم يكن هناك شيء على البدن يزال بالدلك أصلاً؟
دليل المالكية على وجوب التدليك:
الدليل الأول:
قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء، والدلك شرط في حصول مسمى الغسل، فلا يكون هناك غسل إلا إذا كان معه دلك، فليس
_________
(1) مسلم (332) ، وقد سبق الكلام عليه في كتاب الحيض والنفاس.(11/557)
المطلوب هو وصول الماء إلى هذه الأعضاء، بل المطلوب إيصال الماء إلى الجسد على وجه يسمى غسلاً، ولا يتحقق هذا إلا بالدلك (1) .
قال عطاء في الجنب يفيض عليه الماء؟ قال: لا، بل يغتسل غسلاً؛ لأن الله تعالى قال: {حتى تغتسلوا} ولا يقال: اغتسل إلا لمن دلك نفسه (2) .
وهذا القول ليس عليه دليل، والصحيح أن الغسل هو جريان الماء على العضو وقد شهد لذلك حديث عمران بن الحصين وحديث أم سلمة المتقدمان.
قال ابن حزم: من ادعى أن اسم الغسل لا يقع إلا على التدلك باليد فقد ادعى ما لا برهان له به (3) .
الدليل الثاني:
القياس على طهارة التيمم، قال المزني: ولأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذلك هنا.
وأجيب:
قال ابن قدامة: وأما قياسه على التيمم فبعيد؛ لأن التيمم أمرنا فيه بالمسح، والمسح لا يكون إلا باليد، ويتعذر بالغالب إمرار التراب إلا باليد.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض أدلة القولين نجد أن قول الجمهور هو الصواب، وأن
_________
(1) مواهب الجليل بتصرف يسير (1/218) .
(2) المغني (1/290) .
(3) المحلى (مسألة: 115) .(11/558)
الدلك ليس بواجب، بل لو قيل: إن في استحبابه نظراً لم يبعد قائله عن الصواب (1) ،
ولا يقال: هذا من إسباغ الغسل، لأن الإسباغ في الطهارة المقصود به إكماله وإتمامه غير منقوص، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسبغوا الوضوء، ويل
_________
(1) اعتبر الحنفية الدلك من السنن والآداب انظر الفتاوى الهندية (1/14) كما استحب الدلك الشافعية وعللوا ذلك بالخروج من خلاف من أوجبه احتياطاً، وهذا يدل على أن المسألة ليست قائمة على سنة، وإنما على سبيل الاحتياط، انظر تحفة الحبيب (1/244) ، كما استحبه الحنابلة كذلك، انظر المغني لابن قدامة (1/138) .
وقد ناقش الجصاص موضوع الدلك وقال كلاماً مقتضاه عدم الاستحباب، حيث يقول: " قال الله تعالى (فاغسلوا) فهو متى أجرى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها، فمن شرط فيه دلك الموضع بيده، فقد زاد فيه ما ليس منه، وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ ". فقوله " غير جائز الزيادة " يتقضي التحريم، وهذا يعني عدم المشروعية.
وقال السرخسي في المبسوط (1/45) : " والدلك في الاغتسال ليس بشرط إلا على قول مالك يقيسه بغسل النجاسة العينية، ولنا أن الواجب بالنص الأطهار، والدلك يكون زيادة عليه، والدلك لمقصود إزالة عين من البدن، وليس على بدن الجنب عين يزيلها بالاغتسال، فلا حاجة إلى الدلك ". اهـ
فهل هذا الكلام رد لمشروعية الدلك، أو رد لاشتراط الدلك، يتأمل، وإن كان الظاهر من كلام الحنفية في متونهم رد للاشتراط، والله أعلم.
وإن كنت أميل إلى عدم استحباب الدلك، وليس لموجب الحنفية، وهو الزيادة على النص، وإنما لكون الدلك لم ينقل في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في الرأس خاصة، ولو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدلك لبدنه، لنقله إلينا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فلما لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - دلك البدن، بقي القول بمشروعيته يفتقر إلى دليل، إلا أن هذا القول مني معلق على القول به من السلف، فإن ثبت أن أحداً قال به، فهو متجه، وإلا لزمت مذهب الاستحباب؛ لأنه أخف القولين، والله أعلم.(11/559)
للأعقاب من النار)) فجعل عدم وصول الماء إلى العقب من ترك الإسباغ.
ولو كان الغسل لا يقع إلا على الدلك، لكان المواضع الذي لا يستطيع الوصول إليها بيده كبعض المواضع من ظهره لا يمكن أن يغسلها، فإما أن يقال: بسقوط الدلك للعجز، كما اختاره من المالكية ابن القصار (1) ، وبالتالي لم يقم بغسل جميع بدنه؛ لأن الغسل عندهم لا يطلق إلى على جريان الماء مع الدلك. أو يقال: يجب أن يتخذ خرقة ليستعين بها على دلك ما يعجز عن دلكه، كما اختاره سحنون من المالكية (2) ، وقال بعضهم: يجب استنابة من يدلكه من زوجة أو أمة، أو يتدلك بحائط إن كان ملكاً له، أو أذن له مالكها، ولم يكن الدلك يؤذيه (3) ، وهذا أيضاً لم يقم عليه دليل من السنة، ومن التعمق الذي لم نؤمر به، وكل هذا يدل على ضعف القول بوجوب التدليك، والله أعلم.
_________
(1) الذخيرة للقرافي (1/309) ، وسقوط الدلك في حالة العجز هو المعتمد في المذهب المالكي، انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/168) .
(2) الذخيرة للقرافي (1/309) .
(3) انظر الشرح الصغير (1/168) .(11/560)
الباب
في فروض الغسل
الفرض الأول
الماء الطهور مع القدرة عليه
لا يرفع الحدث إلا الماء الطهور مع وجوده،
فلا يرفع الحدث الماء النجس، وهذا إجماع.
قال ابن المنذر: قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) ، فالطهارة على ظاهر كتاب الله بكل ماء، إلا ما منع منه كتاب، أو سنة أو إجماع، والماء الذي منع الإجماع الطهارة منه: هو الماء الذى غلبت عليه النجاسة بلون، أوطعم، أو ريح (2) .
ولا يرفع الحدث سائل آخر غير الماء:
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الحدث لا يرفع بسائل آخر غير الماء، كالزيت، والدهن، والمرق (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) الأوسط (2/268) .
(3) الأوسط لابن المنذر (1/253) .(11/561)
وقال الغزالي: الطهورية مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما في طهارة الحدث فبالإجماع (1) .
وتعقبه النووي في المجموع شرح المهذب، فقال: حكى أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبي بكر الأصم: أنه يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة بكل مائع طاهر، قال القاضي أبو الطيب إلا الدمع فإن الأصم يوافق على منع الوضوء به، ثم قال: والأول أرجح؛ قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (2) ، فأحالنا إلىالتيمم عند عدم الماء، ولم ينقلنا إلى سائل آخر (3) .
قلت: ويستثنى من السوائل النبيذ فإنه مختلف في رفع الحدث به:
فقيل: يتوضأ به إن لم يجد غيره، وهو مذهب أبي حنيفة (4) .
وقيل: يتوضأ به ويتيمم، وهو مذهب محمد بن الحسن (5) .
وقيل: يتيمم، ولا يتوضأ به، وهو مذهب المالكية (6) ،والشافعية (7) ،
_________
(1) الوسيط (1/107،108) .
(2) المائدة: 6.
(3) المجموع (1/139) وقال النووي: وأما قول الغزالي في الوسيط: طهارة الحدث مخصوصة بالماء بالإجماع، فمحمول على أنه لم يبلغه قول ابن أبي ليلى إن صح عنه. اهـ
(4) المبسوط (2/90) ، بدائع الصنائع (1/15) ، العناية شرح الهداية (1/118) ، أحكام القرآن (2/543) .
(5) البناية (1/464) ، وفتح القدير (1/118، 119) ، بدائع الصنائع (1/15) ..
(6) قال مالك في المدونة (1/114) : " ولا يتوضأ بشيء من الأنبذة، ولا العسل الممزوج بالماء، قال: والتيمم أحب إلي من ذلك " اهـ.
(7) انظر الأم (1/7) قال النووي في المجموع (1/140) : " أما النبيذ فلا يجوز الطهارة به عندنا على أي صفة كان من عسل أو تمر، أو زبيب، أو غيرها، مطبوخاً كان أو غيره، فإن نشَّ أو أسكر فهو نجس يحرم شربه، وعلى شاربه الحد، وإن لم ينش فطاهر لا يحرم شربه، ولكن لا تجوز الطهارة به، هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور " اهـ.(11/562)
والحنابلة (1) ، واختاره أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (2) ، وهو رواية عن أبي حنيفة (3) ، وهو اختيار ابن حزم (4) .
وقد سبق أن ذكرت أدلتهم وبيان الراجح في كتاب أحكام الطهارة: أحكام المياه، فانظره هناك مشكوراً.
فإذا لم يوجد الماء الطهور فإنه يتيمم، وهذه مسألة خلافية أعني التيمم من الجنب، وسوف أتعرض لذكر الخلاف فيها إن شاء الله تعالى في كتاب التيمم، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه.
قولنا: لا يرفع الحدث إلا الماء الطهور، لا أعني به إثبات قسم الماء الطاهر في نفسه غير المطهر لغيره، وهي مسألة بحثت في أقسام المياه، وخلصت إلى أن الماء قسمان على القول الصحيح: طهور، ونجس، بخلاف مذهب الجمهور الذي يذهب إلى إثبات قسم الماء الطاهر، المستعمل عندهم في الأكل والشرب، ولا يستعمل في رفع الحدث، ومن أراد الإطلاع على أدلة القوم فليرجع إليه في كتاب الطهارة: في أحكام المياه، في مبحث أقسام المياه، والله الموفق.
_________
(1) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/22) ، ومسائل ابن هانئ (1/5) ، ومسائل أحمد وإسحاق (1/127) ، المغني (1/23) ، الانتصار في المسائل الكبار (1/136) ، الكافي لابن قدامة (1/6) ، المبدع (1/42) ، تنقيح التحقيق (1/225) .
(2) بدائع الصنائع (1/15) المبسوط (2/90) ، تبيين الحقائق (1/35) ، العناية شرح الهداية (1/118) .
(3) تبيين الحقائق (1/35) .
(4) المحلى (مسألة: 148) .(11/563)
[صفحة فارغة](11/564)
الفرض الثاني
النية
اختلف العلماء في حكم النية في طهارة الحدث عموماً: الأصغر والأكبر،
فقيل: النية سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في طهارة التيمم، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: النية شرط لطهارة الحدث مطلقاً الأصغر والأكبر، بالماء أو التيمم، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وهو الراجح.
وقيل: يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بلا نية، وهو قول الأوزاعي (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/32) ، البناية في شرح الهداية (1/173) ، تبيين الحقائق (1/5) ، البحر الرائق (1/24) ، بدائع الصنائع (1/19) ، مراقي الفلاح (ص:29) .
(2) المالكية يرون أن النية فرض من فروض الوضوء، فهم يتفقون مع الجمهور على وجوبها، ويختلفون في حكم الوجوب، هل هي شرط في صحة الوضوء، أو فرض من فروض الوضوء؟ فالشافعية والحنابلة يرون أن النية شرط، بينما المالكية يرون أن النية من فروض الوضوء انظر حاشية الدسوقي (1/85) ، مواهب الجليل (1/182،230) ، الفواكه الدواني (1/135) ، مختصر خليل (ص: 13) ، القوانين الفقهية (ص:19) ، الخرشي (1/129) ، الشرح الصغير (1/114،115) ، منح الجليل (1/84) ، الكافي (1/19) .
(3) المجموع (1/355) ، الروضة (1/47) ، مغني المحتاج (1/47) ، نهاية المحتاج (1/156) ، الحاوي الكبير (187) ، متن أبي شجاع (ص:5) .
(4) معونة أولي النهى شرح المنتهى (1277) ، الممتع شرح المقنع (1/176) ، المحرر (1/11) ، كشاف القناع (1/85) ، المغني (1/156) ، الكافي (1/23) ، المبدع (1/116) .
(5) الأوسط لابن المنذر (1/370) .(11/565)
وسبب الاختلاف في اشتراط النية للطهارة
ما قاله ابن رشد: اختلف العلماء هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا؟ بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (1) ثم قال: وسبب اختلافهم: تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى، كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى نية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين (2) .
وقد ذكرت أدلة الأقوال وناقشتها نقاشاً مستفيضاً في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية فارجع إليه غير مأمور.
ولما كان الكلام في النية طويلاً ومتشعباً عقدت فصلاً خاصاً في كتاب الوضوء عن النية من حيث تعريفها، وبيان حكمها وذكر محلها، وشروطها، ووقتها، وكيفيتها، فالحمد لله على منه وفضله.
_________
(1) البينة: 5.
(2) بداية المجتهد (1/103) .(11/566)
الفرض الثالث
تعميم جميع الجسد بالغسل
اتفق الفقهاء على أن تعميم الجسد كله بالماء فرض من فروض الغسل (1) .
نقل الإجماع في هذا النووي وغيره (2) .
ومستند الإجماع في هذا قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (3) .
وقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (4) .
ومن السنة أحاديث كثيرة سبق ذكرها، منها حديث عائشة وميمونة وهما في الصحيحين، وحديث أم سلمة في مسلم، وحديث عمران بن حصين في البخاري للرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، ثم حضر الماء بعد، وكل هذه الأحاديث سبق تخريجها في هذا الكتاب.
ولم يستثن من الإجماع إلا مسائل وقع فيها خلاف، منها:
داخل الفم والأنف، وقد سبق بحث حكم المضمضة والاستنشاق، وخلصت إلى أنهما غير واجبين في الغسل.
_________
(1) انظر: المبسوط (1/44) ، بدائع الصنائع (1/34) ، المدخل (2/175) ، الخرشي (1/167) ، الفواكه الدواني (1/147) ، حاشية الدسوقي (1/135) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/168) ، المغني لابن قدامة (1/139) ، الموسوعة الفقهية الكويتية (13/19) .
(2) انظر المجموع (2/212) ، الموسوعة الكويتية (13/19) .
(3) النساء: 43.
(4) المائدة: 6.(11/567)
وكذلك لا يجب نقض ضفائر الرأس في الغسل وقد سبق بحث الخلاف فيه، كما لا يجب غسل المسترسل من الشعر، وقد سبق تحرير الخلاف فيه،
وكذلك لا يجب غسل داخل فرج المرأة مطلقاً بكراً كانت أو ثيباً (1) .
وكذلك لا يجب غسل داخل العينين؛ لأنه لم ينقل غسلهما من المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولأنهما من الباطن الذي لم نؤمر بغسله؛ ولأن الغسل مضر بهما، ولأن غسلهما من الحرج المرفوع عن هذه الأمة، قال سبحانه وتعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (2) .
وقال سبحانه: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (3) ، (4) .
وما عدا ذلك فإنه يجب إيصال الماء إليه حتى ولو كان غائراً، كعمق السرة ونحوها (5) .
_________
(1) جاء في فتح الباري تحت حديث رقم (313) قوله: " نص أحمد على أنه لا يجب غسل باطن الفرج من حيض ولا جنابة ولا استنجاء.
قال جعفر بن محمد: قلت لأحمد: إذا اغتسلت من المحيض تدخل يدها؟
قال: لا إلا ما ظهر، ولم ير أن تدخل أصابعها ولا يدها في فرجها في غسل ولا وضوء". وانظر كتاب الإنصاف (1/255-256) .
(2) الحج: 78.
(3) المائدة: 6.
(4) انظر شرح فتح القدير (1/57) ، درر الحكام شرع غرر الأحكام (1/17) .
(5) قال في بدائع الصنائع (1/34) : " ويجب إيصال الماء إلى داخل السرة؛ لإمكان الإيصال إليها بلا حرج ".(11/568)
الباب السادس
صفة الغسل الكامل والمجزئ
بعد أن تكلمنا بشيء من تفصيل الخلاف، وذكر الأدلة على سنن الغسل، وآدابه، وفروضه، نستطيع أن نخلص من هذه المباحث بصفة الغسل الكامل والمجزئ منها على وجه الاختصار، وهذا العرض إنما هو خاص بما هو راجح لدى الباحث، وقد لا يكون راجحاً عند غيره، وربما لا يكون راجحاً في حقيقة الأمر، ومن أراد أن يطلع على وجه الترجيح، فلينظر المسألة في معرض ذكر خلاف العلماء فيها وأدلتها التفصيلية، المهم أن من اقتصر على الاطلاع على هذا الفصل، فلن يعرف وجه الحجة فيما رجحت، وكان يمكن أن يختم البحث بدون هذا الفصل، خاصة أن هذا الفصل خال من ذكر أدلة الترجيح، لولا ما تعود الفقهاء من ذكر صفة الغسل الكامل والمجزئ في بحوثهم، مما دفعني أن أختار هذه الطريقة لتجمع للطالب المبتدئ صفة الغسل على وجه الإيجاز، فأقول في صفة الغسل الكامل وبالله التوفيق:
إذا أراد أن يغتسل، فلا بد أولاً من النية، وذلك بأن ينوي رفع الحدث، أو ينوي استباحة ما تشترط له الطهارة من صلاة ونحوها.
ولا يتقدم الغسل أيُّ ذكر قولي، ومن ذلك البسملة، فإن الراجح أنها غير مشروعة لا في وضوء، ولا غسل، ولا تيمم.
ثم يقوم بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء، ثلاثاً، أو مرتين.
ثم يتمضمض ويستنشق مرة واحدة.(11/569)
ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين غسلة واحدة، ولا يشرع تكرار غسلهما، ويكون غسلهما بنية الغسل، لا بنية رفع الحدث الأصغر، فهذا الوضوء صوري، وإنما المراد هو غسل بدنه، قُدِّمَ فيه غسل مواضع الوضوء لشرفها.
ولا يشرع على الصحيح مسح رأسه، وإنما يخلل شعر رأسه بالماء حتى يبلغ الماء أصول شعره، وحتى يظن أنه قد أروى بشرته، ثم يفيض على رأسه ثلاثاً، مبتدئاً بجانب رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أعلى الرأس.
ثم يفيض الماء على سائر جسده، ولا يعيد غسل مواضع الوضوء مرة أخرى.
ثم يغسل قدميه.
وبهذا يكون قد انتهى من الغسل مراعياً فيه سنن الغسل، ويكفي هذا الفعل في رفع الحدثين الأصغر والأكبر.
وأما الغسل المجزئ، فهو أن ينوي الغسل، ثم يعم بدنه كله بالماء مرة واحدة، ولا يجب في هذا الغسل مضمضة ولا استنشاق، والله أعلم.(11/570)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلقنا من تراب، وجعله لأمتنا خاصة من بين سائر الأمم مسجداً وطهوراً، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين.،،، وبعد
لما انتهيت بتوفيق من الله سبحانه وتعالى من أحكام الوضوء والغسل بالماء ناسب أن أنتقل إلى طهارة البدل منهما: وهو طهارة التيمم عند تعذر الماء أو العجز عن استعماله.
ومن عناية الشارع بطهارة الحدث أن جعل لها بدلاً عند فقد آلته (الماء) أو عند العجز عن استعماله، بخلاف طهارة الخبث فلم يجعل لها بدلاً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن مكن عباده من الصلوات: التي هي صلة بين العباد وبين خالقهم حتى في حالة عدم التمكن من الطهارة المائية، ولو منع الإنسان من الصلاة إلا في حالة وجود الماء لربما قسا قلب العبد بسبب تركه للصلوات أياماً وربما أسابيع بسبب عدم قيامه بما هو صلة بينه وبين ربه، فكان لطفاً من الله أن شرع التيمم مطهراً بدلاً من الماء، ليكون العبد متهيئاً لمناجاة الله في أعظم ركن عملي، وهو الصلاة، وهو ما أشار الله إليه في آية التيمم، من كون الغاية من مشروعية التيمم رفع الحرج عن هذه الأمة، والغاية الثانية تطهيرها، قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (1) .
_________
(1) المائدة: 6.(12/3)
فكان الأمر قبل مشروعية التيمم إما أن يدع الإنسان الصلاة إلى حين وجود الماء ثم يقضي تلك الصلوات، أو يدع الصلاة من غير قضاء، وكل هذا فيه ما فيه من الحرج، فترك الصلوات فيه ما أشرنا إليه من قسوة القلب وغفلته عن ذكر ربه، وقد قال سبحانه وتعالى: {وأقم الصلاة لذكري} (1) ، كما أن القضاء قد يشق على العبد إذا اجتمع إليه صلوات كثيرة خاصة في الأسفار التي تطول، ولا يكون الماء مقدوراً عليه، ثم فوات تطهير العبد الطهارة المعنوية من الوضوء، ومن بدله وهو التيمم، فترك الطهارة يجعل الذنوب تتراكم عليه، ولكن إذا كان يتعاهد نفسه بالوضوء أو ببدله بالتيمم، ثم بعد ذلك بالصلوات والتي ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها مثلاً بالنهر في باب أحدنا، يغتسل فيه باليوم خمس مرات، فلا يبقى من درن الإنسان شيئاً، وهكذا التيمم الذي يجعل المسلم بإمكانه أن يصلي ويتطهر من تلك الذنوب التي لا يسلم منها أحد، وكان الشرط في هذا البحث كغيره من البحوث السابقة التي سبقته، يقوم على تمهيد، وأبواب، وفصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي:
خطة البحث:
التمهيد: ويشتمل: على خمسة مباحث:
المبحث الأول: تعريف التيمم.
المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية التيمم.
المبحث الثالث: في بدء مشروعية التيمم.
المبحث الرابع: التيمم من خصائص الأمة المحمدية.
المبحث الخامس: مشروعية التيمم على وفق القياس.
_________
(1) طه: 14.(12/4)
الباب الأول: في حكم التيمم:
الفصل الأول: في التيمم هل هو رخصه أو عزيمة.
الفصل الثاني: هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث؟ .
الفصل الثالث: إذا عدم الماء والصعيد.
الفصل الرابع: في تأخير الصلاة لمن يرجو وجود الماء في آخر الوقت.
الفصل الخامس: في حكم إمامه المتيمم للمتوضئ.
الفصل السادس: في وطء عادم الماء.
الباب الثاني: في الأسباب الموجبة للتيمم:
الفصل الأول: فقد الماء، ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: إذا وجد ماء، لا يكفي للطهارة.
المبحث الثاني: لو كان مع الجنب ما يكفي للوضوء.
المبحث الثالث: لو كان المحدث على بدنه نجاسة ووجد ماء يكفي أحدهما.
الفصل الثاني: في تعذر استعمال الماء، ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في تيمم المريض.
المبحث الثاني: في تيمم الصحيح إذا كان يحتاج الماء لشرب ونحوه.
المبحث الثالث: في الماء يباع بأكثر من ثمنه، هل يجب شراؤه، أو يتيمم؟.(12/5)
المبحث الرابع: إذا وهب للرجل الماء، فهل يجب قبوله؟
الفصل الثالث: في التيمم خوفاً من فوات العبادة، ويشتمل على ثلاثة مباحث.
المبحث الأول: إذا خاف خروج وقت الفريضة.
المبحث الثاني: إذا خاف فوت صلاة الجنازة والعيد، فهل يتيمم؟
المبحث الثالث: التيمم لخوف فوات الجمعة.
الباب الثالث: في شروط التيمم.
الشرط الأول: النية، وينقسم البحث في النية إلى فصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي:
الفصل الأول: في اشترط النية لطهارة التيمم.
الفصل الثاني: لو سفت الرياح التراب على وجهه ونوى به التيمم.
الفصل الثالث: في صفة النية.
المبحث الأول: لو نوى مطلق التيمم.
المبحث الثاني: إذا نوى المتيمم بتيممه رفع الحدث.
المبحث الثالث: في اشتراط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر.
الفرع الأول: لو تيمم ولم ينو ما تيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر.
الفرع الثاني: لو تيمم للحدث الأصغر، فهل يرتفع حدثه الأكبر؟.(12/6)
الفرع الثالث: في نية ما يتيمم له من صلاة ونحوهما.
المسألة الأولى: لو نوى بالتيمم الصلاة وأطلق.
المسألة الثانية: لو نوى أن يصلي نفلاً فهل يصلي به فريضة.
المسألة الثالثة: لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة؟.
المسألة الرابعة: إذا تيمم للفريضة، فهل يصلي به أكثر من فريضة.
المسألة الخامسة: إذا تيمم للنافلة فهل له أن يصلي به نوافل أخرى.
المبحث الرابع: لو تيمم يريد به تعليم الغير.
الشرط الثاني: الإسلام.
الشرط الثالث: التكليف.
الشرط الرابع: انقطاع ما يوجب الحدث إلا في المعذور.
الشرط الخامس: طلب الماء قبل التيمم.
الباب الرابع: فيما يتيمم عنه.
الفصل الأول: في التيمم عن الحدث.
الفصل الثاني: في التيمم عن النجاسة.(12/7)
الباب الخامس: في فروض التيمم
الفرض الأول: مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب.
المبحث الأول: في ضرب اليدين في الأرض ليمسح بهما وجهه ويديه.
المبحث الثاني: في استيعاب المسح للوجه واليدين.
المبحث الثالث: في مسح ما تحت الشعر الخفيف في التيمم.
المبحث الرابع: في صفة مسح الوجه واليدين عند الفقهاء،.
المبحث الخامس: لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب.
المبحث السادس: في مسح الوجه بيد واحدة أو إصبع واحد.
الفرض الثاني: الترتيب في التيمم.
الفرض الثالث: الموالاة في التيمم
الباب السادس: في سنن التيمم
الفصل الأول: في التسمية.
الفصل الثاني: في تكرار المسح في التيمم.
الفصل الثالث: في نفخ الأيدي بعد ضربها الأرض
الفصل الرابع: في استحباب تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى.
الفصل الخامس: في تجديد التيمم.
الفصل السادس: في استقبال القبلة حال التيمم.(12/8)
الفصل السابع: في إقبال اليدين وإدبارهما في التراب حال الضرب.
الفصل الثامن: في البدء بأعلى الوجه حين المسح.
الباب السابع: في مبطلات التيمم.
الفصل الأول: يبطل التيمم ما يبطل الوضوء.
الفصل الثاني: يبطل التيمم وجود الماء.
المبحث الأول: وجود الماء قبل الصلاة.
المبحث الثاني: إذا وجد الماء أثناء الصلاة.
المبحث الثالث: إذا وجد المتيمم الماء بعد الفراغ من الصلاة.
الفصل الثالث: خروج الوقت.
هذه خطة البحث في هذا الكتاب، فإن يكن من صواب فهو من الله سبحانه وتعالى، وإن يكن من خطأ فهو من الشيطان، ومن ضعفي وتقصيري، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(12/9)
[صفحة فارغة](12/10)
التمهيد
المبحث الأول:
تعريف التيمم
تعريف التيمم لغة واصطلاحاً:
التيمم لغة: القصد، يقال: يمَّمتُه وتَيَمَّمته: إذا قصدته، وأصله التعمد والتوخي.
ومنه قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (1) ، أي: لا تقصدوا.
وقوله سبحانه: {فتيمموا صعيداً طيباً} (2) ، أي اقصدوا الصعيد الطيب.
وقول كعب بن مالك: " فيممت بها التنور " أي: قصدت.
ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضاً... أريد الخير أيهما يليني
أأ الخير الذي أنا ابتغيه... أم الشر الذي هو يبتغيني
ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم اسماً علماً لمسح الوجه واليدين بالتراب (3) .
_________
(1) البقرة: 267.
(2) المائدة: 6.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث (5/299) ، مختار الصحاح (ص: 310) ، لسان العرب (12/23) .(12/11)
تعريف التيمم عند الفقهاء:
تعريف الحنفية:
قال في بدائع الصنائع: " عبارة عن استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهر بشرائط مخصوصة " (1) .
تعريف المالكية:
قال الصاوي في تعريف التيمم: " طهارة ترابية تشتمل على مسح الوجه واليدين بنية " (2) . زاد بعضهم: تستعمل عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله، والمراد بالتراب: جنس الأرض فيشمل جميع أجزائها (3) .
تعريف الشافعية:
قالوا: التيمم: إيصال التراب إلى الوجه واليدين بشروط بدلاً عن الوضوء، أو الغسل، أو بدلاً عن عضو من أعضائهما بشرائط مخصوصة (4) .
تعريف الحنابلة:
قال البهوتي: " مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص" (5) .
وهذه التعريفات متقاربة، وقد قال أبو بكر بن العربي بأن التيمم له ثلاثة
_________
(1) بدائع الصنائع (1/45) .
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/179) .
(3) الفواكه الدواني (1/152) ، شرح الخرشي لمختصر خليل (1/185) .
(4) حاشيتا قليوبي وعميرة (1/88) ، تحفة المحتاج (1/324) .
(5) كشاف القناع (1/160) ، وللاستزادة من الاطلاع على تعريف التيمم لغة انظر: شرح حدود ابن عرفة (ص: 42) ، معجم مقاييس اللغة (1108) .(12/12)
أسماء، الأول: التيمم، قال الله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (1) .
الثاني: الوضوء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الصعيد الطيب وضوء المسلم، ولو لم يجد الماء عشر حجج " (2) .
الثالث: الطهور، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً " (3) (4) .
والاسمان الأخيران ليسا من باب التسمية اللغوية، وإنما هو من باب الحكم الشرعي، فالتيمم يقوم مقام الوضوء، كما أنه يطهر المسلم، أي يرفع حدثه، أو في حكم الطهور كما سيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى، هل التيمم مبيح أو رافع؟ .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) سبق تخريجه في كتاب أحكام الطهارة، رقم (39) .
(3) البخاري (335) .
(4) القبس شرح الموطأ (1/176) .(12/13)
[صفحة فارغة](12/14)
المبحث الثاني:
الأدلة على مشروعية التيمم
التيمم مشروع عند عدم الماء، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع،
أما الكتاب فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (1) .
ومن السنة، أحاديث كثيرة، منها:
(1368-1) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال:
أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ..."الحديث (2) .
ورواه مسلم من طريق هشيم به، بلفظ: " وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً " (3) .
(1369-2) وروى مسلم في صحيحه من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه،
_________
(1) المائدة: 6.
(2) صحيح البخاري (335) .
(3) مسلم (521) .(12/15)
عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (1) .
(1370-3) وروى مسلم أيضاً من طريقين عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي،
عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى (2) .
وأما الإجماع فقد نقله طائفة من أهل العلم، منهم:
النووي فإنه قال: " إذا عدم الماء بعد طلبه المعتبر جاز له التيمم للآية، والأحاديث الصحيحة، والإجماع " (3) .
وقال صاحب كتاب رحمة الأمة: " التيمم بالصعيد الطيب عند عدم الماء أو الخوف من استعماله جائز بالإجماع " (4) .
وقال الشوكاني: " والحديث يدل على مشروعية التيمم للصلاة عند عدم الماء، من غير فرق بين الجنب وغيره، وقد أجمع العلماء على ذلك " (5) .
_________
(1) مسلم (523) .
(2) مسلم (522) .
(3) المجموع (2/300) .
(4) رحمة الأمة (21) .
(5) نيل الأوطار (1/301) .(12/16)
المبحث الثالث:
في بدء مشروعيته
روت كتب السنة بدء مشروعية التيمم في أحاديث صحيحة،
(1371-4) فقد روى البخاري رحمه الله من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه،
عن عائشة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته، ورواه مسلم (1) .
في هذا الحديث من الفقه:
قول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض
_________
(1) صحيح البخاري (334) ، ومسلم (367) .(12/17)
أسفاره " فيه دليل على جواز خروج النساء مع الرجال في الأسفار، وفي الغزوات إذا كان العسكر كبيراً يؤمن عليه الغلبة (1) .
وفيه أيضاً جواز تأديب الرجل ابنته ولو كانت متزوجة كبيرة خارجة عن بيته، ويلحق بذلك تأديب من له تأديبه (2) .
وفيه أيضاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لم يبعث رجالاً في طلب العقد، وهو تحت البعير.
وفيه أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى قد يربط تشريع بعض الأحكام بأسباب قدرية، وأخرى شرعية، فجعل غياب هذا العقد سبباً لمشروعية التيمم لجميع الأمة.
وفيه إثبات البركة لبعض الصالحين، قال أسيد (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر " أي بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، وفيه دليل على فضل عائشة وأبيها وتكرار البركة منهما (3) ، وفي رواية للبخاري: جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة" (4) .
وفيه فرح الصحابة رضي الله عنهم بتيسير الأحكام عليهم، على خلاف ما ينشده بعض الناس في عصرنا من النزعة إلى التحريم، وحجب الأقوال التي
_________
(1) التمهيد (19/266) .
(2) فتح الباري تحت حديث رقم (334) .
(3) المرجع السابق.
(4) البخاري (3773) .(12/18)
فيها تيسير على الأمة، بدعوى أن الناس قد يتهاونون، فيتجاوزن الحد المباح إلى الوقوع في المحرم، وهذا ليس من الفقه في شيء، واستحسان مخالف لمقاصد الشارع وقواعد الشرع.
إن تعامل بعض الناس مع الخلاف يكشف لك أننا نعاني من أزمة حقيقية في التعامل مع الخلاف الفقهي، ونظن أن بالإمكان إلغاء الخلاف المحفوظ، وأننا بالقدر الذي نسفه فيه قول المخالف نردع الناس من الأخذ به وقبوله، ونعتقد بأن هذا الأسلوب يكفل لنا ترويج اختياراتنا الفقهية، ولذا إذا أتينا إلى أدلة المخالفين، نضع عنوانين تحكي نزعة الإلغاء والازدراء للقول الآخر، فيقول بعضهم: شبهات القائلين بالجواز، فنجعل أدلتهم مجرد شبهات، وليست أدلة قائمة، حتى ولو كان هذا القول هو قول الجمهور، وكأننا قد نزل علينا الوحي بأن قولنا هو الصواب، بينما المطلوب منا أن نتعامل مع تراث المسلمين الفقهي بشيء من الاحترام بصرف النظر عن الصواب والخطأ، وأن تكون عباراتنا بالترجيح تعكس مقدار الأدب الإسلامي المأمور به شرعاً، فنتجنب قدر المستطاع القطع في مسائل الخلاف، ونتجنب القول بأن هذا القول ساقط أو باطل، أو ليس عليه آثارة من علم، أو هذا القول سبب في رقة الدين، أو هذا قول شاذ، مع العلم أنه مذهب جماهير أهل العلم.
إنني لا أدعو إلى اتباع قول الجمهور، لكونه كذلك، ومن قرأ البحوث السابقة تأكد له ذلك، ولكن مع وجوب اتباع ما يترجح يجب احترام قول الجمهور، بل وكل قول عالم من علماء هذه الأمة مع بيان الخطأ بالدليل الشرعي.(12/19)
إن الوحي قد انقطع، والخلاف الفقهي في هذه الأمة قدر كوني وشرعي، وما زال الصحابة يختلفون في أمور الفقه، وما لم يعصم منه الصحابة فلن يعصم منه غيرهم، وإني لا يعجبني أبداً في أي بلد من المسلمين أن تقوم لجنة أو هيئة رسمية أو غير رسمية فتجعل من نفسها مرجعاً يجب الرد إليه عند التنازع في أمور فقهية قد حفظ فيها الخلاف، ولا ينبغي لها أن تتصدى بالرد على فلان أو فلان من طلبة العلم بسبب اختياره الفقهي ما دام داخلاً تحت الخلاف السائغ الذي قيل به من لدن السلف، ولا حجر عليها أن تذكر رأيها دون أن تتعرض لأحد باسمه، فمن شاء أن يأخذ بفتواها فله ذلك، ومن رأى أنه يسعه أن يأخذ برأي أحد من الأئمة فإن له ذلك أيضاً، ولا حجر عليه، وإذا أبت إلا الخوض في ذلك فلا بد أن يحفظ للطرف الأخر حقه بالرد عليهم، وبيان حجته فيما يطرحون، وأن يكون في مأمن من ظلمهم من منع كتابه من الطبع، فإن منع مثل ذلك يعتبر من الظلم والعدوان الذي لا يرضاه خلق ولا دين، ولم يكن من عمل السلف، فمن أعطى لنفسه حق الرد على الناس فليعط غيره حق الجواب على رده، ولا يسوغ أبداً أن يتكلم أحد في نيته أو في منهجه لمجرد أن رد على أحد من علماء عصره في مسألة يسوغ فيها الخلاف، وإذا كنا نعطي أنفسنا أن نخالف أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وابن عباس في مسائل فقهية وقع الخلاف بينهم فيها، وهم أجل قدراً وأوسع علماً، وقد زكاهم القرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمخالفة غيرهم من باب أولى، ولا يضيق بالخلاف من أوتى قدراً من العلم الشرعي، وعلم أن هذا سبيل المؤمنين، وليست المشكلة في الكلام النظري المجرد عن التطبيق، فإن كل واحد من(12/20)
طلبة العلم يردد في مجالسه ودروسه المقولة المشهورة: كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن عند التطبيق تجد البون الشاسع بين ما يقال وبين ما يفعل، وليس هذا من صغار الطلبة، بل ممن ترأس وتصدر، فالله
المستعان، وقد تركت ضرب الأمثلة من الواقع حتى لا أنكأ الجراح، وأزيد في سعة الخلاف، ولا أبرئ نفسي مما يقع فيه غيري، فإن طبيعة الإنسان الظلم والجهل إلا من وفقه الله سبحانه وتعالى.(12/21)
[صفحة فارغة](12/22)
المبحث الرابع:
التيمم من خصائص الأمة المحمدية
التيمم من الخصائص التي اختص الله بها هذه الأمة، وقد دل على ذلك السنة والإجماع.
أما السنة،
(1372-5) فقد روى البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال:
أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل..."الحديث (1) .
ورواه مسلم من طريق هشيم به، بلفظ: " وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً " (2) .
(1373-6) وروى مسلم في صحيحه من طريق العلاء بن
عبد الرحمن، عن أبيه،
عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (335) .
(2) مسلم (521) .
(3) مسلم (523) .(12/23)
(1374-7) وروى مسلم أيضاً من طريقين عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي،
عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث (1) :
جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى (2) .
قال ابن عبد البر - رحمه الله تعالى -: " وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: جعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً " في تعديد فضائله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه (3) ،
_________
(1) اختلاف الأحاديث، ففي بعضها: أعطيت خمساً، وفي بعضها: ستاً، وفي بعضها: ثلاثاً، أجاب عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح تحت حديث (335) ، فقال: " طريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولاً على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي. ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله ". اهـ
قلت: الراجح أن العدد لا مفهوم له، وإنما هو طريقة من طرق الحفظ والتعليم.
(2) مسلم (522) . قال القاضي عياض في إكمال المعلم (2/437) : " قوله: " فضلنا على الناس بثلاث: ظاهره أنه ذكر ثلاث خصال، وإنما هي اثنتان كما ذكر؛ لأن قضية الأرض كلها خصلة واحدة، والثالثة التي لم تذكر بينها النسائي من رواية أبي مالك بسنده هنا، وقال: وأتيت هذه الآيات من خواتم البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن أحد قبلي، ولا يعطهن أحد بعدي"اهـ.
(3) حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رواه أحمد (1/98) ، وابن أبي شيبة
(6/304) رقم: 31647، والبزار (656) من طريق زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي،
عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم ".
رجاله ثقات إلا ابن عقيل، فإن أكثر العلماء على ضعفه، وإنما يتقى من حديثه ما ينفرد به، وهذا الحديث له شواهد كثيرة، فأرجو أن يكون ابن عقيل قد حفظ هذا الحديث، والله أعلم.(12/24)
وابن عباس (1) ، وجابر (2) ، وأبي هريرة (3) ، وأبي موسى (4) ،
وحذيفة (5) ، وهي آثار كلها صحاح ثابتة، كرهت ذكرها بأسانيدها خشية الإطالة، وقد ذكرها كلها أو أكثرها أبو بكر ابن أبي شيبة في أول كتاب الفضائل" (6) .
وأما الإجماع، فقد نقل الإجماع طائفة من أهل العلم.
_________
(1) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى في آخر هذا الفصل.
(2) تقدم تخريجه في أول الفصل، وأنه في الصحيحين.
(3) تقدم تخريجه، وأنه في صحيح مسلم.
(4) الحديث رواه إسرائيل، واختلف عليه فيه:
فرواه حسين بن محمد المروذي كما في مسند أحمد (4/416) عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى موصولاً.
وتابعه على وصله عبيد الله بن موسى في مصنف ابن أبي شيبة (6/304) ، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل به.
وخالفهما أبو أحمد الزبيري كما في مسند أحمد موصولاً بالرواية السابقة، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر معناه، ولم يسنده.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/258) : " رواه أحمد متصلاً ومرسلاً، ورجاله رجال الصحيح ".
(5) تقدم تخريجه، وهو في صحيح مسلم.
(6) التمهيد (5/223) .(12/25)
قال في منح الجليل: " وهو من خصائص هذه الأمة إجماعاً " (1) .
وقال الصاوي: "وهو من خصائص هذه الأمة اتفاقاً، بل إجماعاً " (2) .
وقال الحطاب: " وانعقد الإجماع على مشروعيته، وعلى أنه من خصائص هذه الأمة لطفاً من الله بها، وإحساناً " (3) .
كما صرح جملة من العلماء على أن التيمم من خصائص هذه الأمة، وإن لم ينصوا على ذكر الإجماع، منهم: ابن الهمام في فتح القدير (4) وابن نجيم في البحر الرائق (5) ، وابن عابدين في حاشيته (6) ، وهؤلاء من الحنفية.
ومن المالكية: الخرشي في شرحه لمختصر خليل (7) ، والنفرواي في الفواكه الدواني (8) ، والقرافي في الذخيرة (9) .
ومن الشافعية: العراقي في طرح التثريب (10) ،، وقليوبي وعميرة في حاشيتهما (11) .
_________
(1) منح الجليل (1/143) .
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/179) .
(3) مواهب الجليل (1/325) .
(4) شرح فتح القدير (1/137) .
(5) البحر الرائق (1/163) .
(6) حاشية ابن عابدين (1/229) .
(7) الخرشي (1/184) .
(8) الفواكه الدواني (1/152) .
(9) الذخيرة (1/334) .
(10) طرح التثريب (2/111) .
(11) حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/88) .(12/26)
ومن الحنابلة: ابن مفلح في الفروع (1) ،،، والبهوتي في كشاف القناع (2) .
وغيرهم خلق كثير من حملة العلم الشرعي تركتهم اقتصاراً واختصاراً.
قال النفرواي: " وهو من خصائص هذه الأمة؛ لأن الأمم السابقة لا تصلي إلا بالوضوء، كما أنها كانت لا تصلي إلا في أماكن مخصوصة يعينونها للصلاة، ويسمونها بيعاً وكنائس وصوامع، ومن عدم منهم الماء، أو غاب عن محل صلاته يدع الصلاة حتى يجد الماء، أو يعود إلى مصلاه " (3) .
وذكر اللالكائي في كتابه اعتقاد أهل السنة: " جعلت له ولأمته الأرض مسجداً، وكان غيره من الأنبياء لا تجزئ صلاته إلا في كنائسهم وبيعهم" وقال أيضاً: " وجعل التراب له ولأمته طهوراً إذا عدم الماء " (4) .
ونقل الحافظ عن ابن التين قوله:: " المراد جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وجعلت لغيري مسجداً، ولم تجعل له طهوراً؛ لأن عيسى كان يسبح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، كذا قال وسبقه إلى ذلك الداودي " (5) .
وقال القاضي عياض: " وأما اختصاصه بكون الأرض له مسجداً وطهوراً، فيدل أن التيمم لم يشرع لغيره قبله، وأما كونها مسجداً فقيل:
_________
(1) الفروع (1/366) ،
(2) كشاف القناع (1/160) .
(3) الفواكه الدواني (1/152) .
(4) اعتقاد أهل السنة (4/782) .
(5) الفتح، تحت حديث رقم (335) .(12/27)
إن من كان قبله من الأنبياء كانوا لا يصلون إلا فيما أيقنوا طهارته من الأرض، وخص نبينا وأمته بجواز الصلاة على الأرض إلا ما تيقنت نجاسته منها" (1) .
قال الحافظ: " والأظهر ما قاله الخطابي: وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: " وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم " (2) ،
وهذا
_________
(1) إكمال المعلم (2/437) .
(2) هذا الحديث رواه أحمد في مسنده (2/222) من طريق ابن الهاد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام غزوة تبوك، قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى وانصرف إليهم، فقال لهم: لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعباً، وأحلت لي الغنائم أكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم، والخامسة، هي ما هي؟ قيل لي: سل، فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم، ولمن شهد أن لا إله إلا الله.
وهذا الحديث إسناده حسن إن شاء الله تعالى، وله شواهد كثيرة في الصحيح وفي غيره، والله أعلم.
قال ابن كثير في تفسيره (2/256) : " إسناد جيد قوي، ولم يخرجوه ".
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (5498) : رواه أحمد بإسناد صحيح. اهـ
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/367) : رواه أحمد، ورجاله ثقات. اهـ(12/28)
نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية.
ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس (1) بنحو حديث الباب فيه: "ولم يكن من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه " (2) .
_________
(1) رواه البزار (2366) و (2441) والبخاري في التاريخ الكبير (4/114) والبيهقي في السنن (2/433) ، وفي دلائل النبوة (5/473) من طريق عبيد الله بن موسى، عن سالم أبي حماد، عن السدي،، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وفي إسناده سالم أبو حماد، قال أبو حاتم: شيخ مجهول، لا أعلم روى عنه غير عبيد الله ابن موسى. الجرح والتعديل (4/192) .
وذكره ابن حبان في الثقات (6/411) .
وقال الذهبي في المغني (1/365) : مجهول.
وقال في ميزان الاعتدال (2/111) : حديث منكر.
وسكت عليه الحافظ في الفتح، وقال الهيثمي في المجمع (8/258) : " رواه البزار، وفيه من لم أعرفهم ".
كما أن في إسناده السدي، صدوق يهم.
وقد جاء الحديث من مسند ابن عباس بإسناد أمثل من هذا، ولكن ليس فيه (لا يصلي حتى يبلغ محرابه) ، انظر مسند أحمد (1/301) ، ومصنف ابن أبي شيبة (6/303) ، وابن أبي عاصم في السنة (803) ، والبزار كما في كشف الأستار (3460) .
(2) الفتح، تحت حديث رقم (335) .(12/29)
[صفحة فارغة](12/30)
المبحث الخامس:
مشروعية التيمم على وفق القياس
اختلف العلماء في كون التيمم مطهراً، هل هذا على وفق القياس، أو مخالف للقياس، مع أني أتحفظ على هذا الطرح، لولا أن هذا موجود في كتب الفقه؛ لأننا نرى أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس، إن كان المقصود بالقياس: هو النظر والحكمة؛ لأن أحكام الشرع لا تخالف المعقول، وإن كان شيء متهماً فهو في عجز العقول عن إدراك أسرار الأحكام، فأحكام الله من لدن حكيم خبير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ والبحث في العلة إنما هو في حدود الحاجة إلى تعدية النص من أصل منصوص عليه إلى فرع لعلة جامعة، فيلحق النظير بنظيره؛ لأن النصوص محدودة، والوقائع غير متناهية، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها، ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، وكأن السائلة رأت أن هذا مخالف للقياس، فإما أن يسقط القضاء عنهما، أو تكلف بقضاء كليهما، فقالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة " (1) ، فأرجعت الشأن إلى النص.
فإذا علم هذا، فقد اختلف العلماء في التيمم،
فذهب بعض أهل العلم إلى أن رفع الحدث بالتيمم على خلاف القياس (2) .
_________
(1) صحيح مسلم (335) ، البخاري (321) .
(2) إعلام الموقعين (1/300) ، مجموع الفتاوى (20/504) ، المستصفى (ص: 325) ، البحر المحيط (7/119) ، التقرير والتحبير (3/126) ، شرح الكوكب المنير (ص: 483) .(12/31)
وذهب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى إلى أن التيمم على وفق القياس، وأنه لا يوجد شيء في الشرع يخالف القياس الصحيح (1) .
حجة من قال: إن التيمم ليس جارياً على وفق القياس.
استدلوا بدليلين:
أحدهما: أن التراب ملوث، لا يزيل درناً ولا وسخاً، ولا يطهر البدن، كما لا يطهر الثوب.
الثاني: أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها، وهذا خروج عن القياس الصحيح، ولذلك حين استعمل عمار القياس تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة؛ ليعم بدنه كله بالتراب، كما يعم بدنه كله بالماء في غسل الجنابة.
وأجاب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله على ذلك، وذكرا كلاماً طويلاً في رد هذا القول، أورد إن شاء الله تعالى ما أحتاج إليه مختصراً ومقتصراً.
لفظ القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح، والقياس الفاسد:
فالقياس الصحيح: هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين:
الأول: قياس الطرد.
والثاني: قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق الحكم بها في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس
_________
(1) إعلام الموقعين (1/300) ، مجموع الفتاوى (20/504) .(12/32)
لا تأتي الشريعة بخلافه قط، وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع، فمثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائره، فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لغيره، لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس، وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد، فمن رأى شيئاً من الشريعة مخالفاً للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفاً للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر (1) .
" فليس في الشريعة ما يخالف قياساً صحيحاً، لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده " (2) .
والحديث إذا خالف أصلاً عند المخالفين، فإن هذا الحديث هو أصل بنفسه، كما أن غيره أصل، فلا تضرب الأصول بعضها ببعض، بل يجب اتباعها كلها، فإنها كلها من عند الله (3) .
وقال ابن تيمية: " وبالجملة فما عرفت حديثاً صحيحاً إلا ويمكن تخرجه على الأصول الثابتة، وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع، فما رأيت قياساً صحيحاً يخالف حديثاً صحيحاً، كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياساً يخالف أثراً فلا بد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على أفاضل العلماء فضلاً
_________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/504) .
(2) المرجع السابق.
(3) انظر مجموع الفتاوى (20/557) .(12/33)
عمن هو دونهم؛ فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها، ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم، فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفاً للنصوص؛ لخفاء القياس الصحيح عليهم، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام" (1) .
وقال ابن القيم رحمه الله: التيمم على وفق القياس الصحيح؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل من الماء كل شيء حي، وخلقنا من التراب، فلنا مادتان: الماء والتراب، فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا، وبهما تطهرنا وتعبدنا، فالتراب أصل ما خلق منه الناس، والماء حياة كل شيء، وهما الأصل في الطبائع التي ركب الله عليهما هذا العالم، وجعل قوامه بهما، وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار: هو الماء في الأمر المعتاد، فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه، وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره، وإن لوث ظاهراً فإنه يطهر باطناً، ثم يُقَوِّى طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال، وارتباط الظاهر بالباطن، وتأثر كل منهما بالآخر، وانفعاله عنه ".
قلت: من يسلم أن التراب ملوث غير مطهر، فهذا الكلام يصادم النص المنقول، ويصادم الأمر المعقول.
أما النص، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن
_________
(1) المرجع السابق (20/567) .(12/34)
لم يجد الماء عشر سنين " (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " (2) .
والطهور: ما يطهر غيره.
وأما موافقته للمعقول، فإن طهارة الخبث إذا أمكن إزالتها بالتراب، وهي عين خبيثة، وطهارتها معقولة المعنى، كما في الاستجمار، وكما في طهارة النعل بدلكها بالتراب، وكما في تطهير الإناء من ولوغ الكلب ونحوها من النجاسات، فلأن يطهر التراب طهارة الحدث، والتي هي ليست عن نجاسة أصلاً من باب أولى، فما كان له قوة في إزالة النجاسة، كان له قوة في رفع الحدث بشرطه كالماء والتراب.
وأما كونه في عضوين، يقول ابن القيم: " فهذا في غاية الموافقة للقياس، فإن وضع التراب على الرؤوس مكروه في العادات، وإنما يفعل عند المصائب والنوائب، والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع، والتعظيم لله، والذل له، والإنكسار لله ما هو من أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد، ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد، وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال: " ترب وجهك " وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين.
وأيضاً فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر: وهو أن التيمم جعل في
_________
(1) سبق تخريجه في كتابي أحكام الطهارة، المياه والآنية، رقم (39) ، وهو جزء من هذه السلسلة.
(2) سبق تخريجه في المبحث السابق.(12/35)
العضوين المغسولين، وسقط عن العضوين الممسوحين، فإن الرجلين تمسحان في الخف، والرأس في العمامة، فلما خفف عن المغسولين بالمسح، خفف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت به الشرعية هو أعدل الأمور، وأكملها، وهو الميزان الصحيح " (1) .
وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
_________
(1) إعلام الموقعين (1/300) .(12/36)
الباب الأول:
في حكم التيمم
الفصل الأول:
في التيمم هل هو رخصة أو عزيمة؟
تعريف الرخصة:
الرخصة في اللغة تطلق على التيسير والتسهيل، يقال: رخص الشرع في كذا: إذا يسره وسهله.
والرخصة في الأمر: هو خلاف التشديد.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " (1) .
ويقال: رَخُص السعر: إذا تراجع وسهل الشراء.
ويقال: رخَّص له في الأمر: إذا أذن له فيه وسهله بعد أن كان ممنوعاً.
والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه.
وأما العزيمة: فالعزم عبارة عن القصد المؤكد، قال الله تعالى: {فنسي
_________
(1) رواه أحمد في المسند (2/108) من حديث ابن عمر، وهو حديث حسن، وسبق تخريجه بتمامه في كتاب أحكام المسح على الحائل، رقم (43) .(12/37)
ولم نجد له عزماً} (1) ، أي: قصداً بليغاً، وسمي بعض الرسل أولي العزم، لتأكيد قصدهم في طلب الحق (2) .
وفي اصطلاح الفقهاء:
الرخصة، قال الغزالي: عبارة عما وُسِّعَ للمكلف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السبب المحرم (3) .
وقال في شرح المجلة: هي الأحكام التي ثبتت مشروعيتها بناء على الأعذار مع قيام الدليل المحرم توسعاً في الضيق (4) .
وقيل: الرخصة ما شرع على وجه التسهيل والتخفيف (5) .
وقيل: حكم شرعي سهل، انتقل إليه من حكم شرعي صعب لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي (6) .
وأما العزيمة: فقيل: هو الحكم الأصلي السالم موجبه عن المعارض (7) .
وإذ عرفنا الرخصة والعزيمة، فقد اختلف العلماء في التيمم، هل هو رخصة أو عزيمة؟ .
_________
(1) طه: 115.
(2) لسان العرب (7/40) و (12/401) مختار الصحاح (ص: 101، 181) .
(3) المستصفى (ص:78) .
(4) درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/35) .
(5) الفواكه الدواني (1/161) .
(6) الخرشي (1/176) .
(7) البحر المحيط (2/29-30) ، وكذا قال في شرح الكوكب المنير (ص: 149) ، فقد عرف العزيمة بقوله: " حكم ثاب بدليل شرعي خال عن معارض راجح.(12/38)
فقيل: رخصة، وهو مذهب الجمهور (1) ،
وأومأ إليه ابن القيم رحمه الله (2) .
وقيل: عزيمة، وهو قول في مذهب الشافعية (3) ، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: عزيمة عند عدم الماء، رخصة في حق المريض إذا تيمم مع وجود الماء، أو مع بُعْدِه، أو بيعه بأكثر من ثمنه، وهو قول في مذهب المالكية (5) ،
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: تبيين الحقائق (1/37) ، شرح فتح القدير (1/123) ، البحر الرائق (1/146) .
وفي مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/325-326) ، الفواكه الدواني (1/152) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/179) .
وفي مذهب الشافعية، قال النووي في المجموع (2/238) : " وهو - يعني: التيمم - رخصة وفضيلة، اختصت بها هذه الأمة ". وانظر نهاية المحتاج (1/263) .
(2) قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/301) : " وأما كون تيمم الجنب كتيمم المحدث، فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث، سقط مسح البدن كله بالتراب بطريق الأولى؛ إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر ما يناقض رخصة التيمم ".
(3) قال في المنثور في القواعد (2/165) : " ومنه التيمم لفقد الماء أو للخوف من استعماله إذا جعلناه رخصة، وهو ما أورده الإمام والرافعي.
والثاني: أنه عزيمة، وهو ما أورده البندنيجي. والثالث: التفصيل بين التيمم لعدم الماء فعزيمة، أو للمريض أو بعد الماء عنه، أو بيعه بأكثر من الثمن فرخصة، وهو ما أورده الغزالي في المستصفى... ".
(4) المغني (1/52) ، شرح منتهى الإرادات (1/62) .
(5) مواهب الجليل (1/325-326) ، الفواكه الدواني (1/152) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/179) ..(12/39)
وقول في مذهب الشافعية (1) .
وسبب الخلاف في التيمم، هل هو عزيمة أو رخصة؟ أن بعض العلماء لا يرى أن الرخصة تكون في الواجبات، والتيمم واجب عند عدم الماء أو العجز عن استعماله، فلا يلحق بالرخص، وبعض العلماء لا يرى مانعاً من إلحاقه بالرخصة وإن كان واجباً، لأن الرخصة عنده تنقسم إلى واجب ومندوب ومباح (2) .
فإن قيل: كيف يكون الشيء واجباً ويكون رخصة؟
قيل: أكل الميتة للمضطر واجب لإنقاذ نفسه من الهلكة، فهو من حيث وجوب الأكل عزيمة، ومن حيث إسقاط العقاب والعفو عن الفعل هو رخصة (3) .
_________
(1) انظر المنثور في القواعد (2/165) .
(2) البحر المحيط (2/34) ، ومواهب الجليل (1/326) الأشباه والنظائر (ص: 82) .
(3) اختلف العلماء في أكل الميتة للمضطر:
فمنهم من يرى أن أكل الميتة عزيمة لا رخصة؛ لوجوب الأكل، وذلك لأنه سبب لإحياء النفس، وما كان كذلك فهو واجب، ولقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] اختاره من الشافعية إلكيا الهراسي.
ومنهم من يرى أن أكل الميتة من الرخص الواجبة، وهذا مذهب الشافعية، انظر المجموع (4/220) ، والبحر المحيط (2/34) ، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 82) ، شرح الكوكب المنير (ص: 150) .
ومنهم من يرى أن أكل الميتة للمضطر جائز، وليس بواجب، بناء على أن القول بالوجوب يتنافى مع الترخيص، فلا يأثم بالامتناع عن أكلها، مثله مثل لو أخذ بالعزيمة، وامتنع عن قول كلمة الكفر
وإذا أكل، فقيل: ترتفع الحرمة في هذه الحال، فيصير أكلها مباحاً.
وقيل: يبقى التحريم، ويرتفع الإثم فقط، لقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه " [البقرة: 173] فنفى الإثم فقط، وإلى هذا ذهب أبو يوسف من الحنفية، انظر التقرير والتحرير (2/151) ، والموسوعة الكويتية (22/155) .(12/40)
ومثله دفع الغصة بالخمر إذا خاف على نفسه، فهو واجب ورخصة أيضاً (1) .
وذكر بعضهم ثمرة الخلاف في هذه المسألة، في تيمم العاصي بسفره، فعلى أنه عزيمة، يتيمم ولو كان عاصياً، وعلى أنه رخصة لا يتيمم (2) .
والحق أنه يتيمم مطلقاً، سواء كان عاصياً في سفره أو لا، وقد بحثت هذه المسألة فيما سبق وذكرت أدلة الأقوال مع بيان الراجح، مع أن التيمم ليس من الرخص الخاصة بالسفر على القول بأنه رخصة؛ لأن القائلين بمنع العاصي من الرخص في السفر خصوا ذلك بالرخص الخاصة بالسفر، كالقصر والفطر في رمضان، فإنها من رخص السفر خاصة، والله أعلم (3) .
دليل من قال: التيمم رخصة.
الدليل الأول:
(1375-8) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة،
_________
(1) انظر المستصفى للغزالي (ص: 79) .
(2) مواهب الجليل (1/326) ، وانظر الفتاوى الفقهية الكبرى للرملي (1/230) .
(3) قال في الشرح الكبير (1/143) : " وضابط الراجح: أن كل رخصة جازت في الحضر كمسح خف، وتيمم، وأكل ميتة، فتفعل وإن من عاص بالسفر، وكل رخصة تختص بالسفر كقصر الصلاة وفطر رمضان فشرطه أن لا يكون عاصياً به ".(12/41)
عن عمار بن ياسر أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضاء الفجر، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليهم الرخصة في المسح بالصعدات، فدخل عليها أبو بكر، فقال: إنك لمباركة، لقد نزل علينا فيك رخصة، فضربنا بأيدينا لوجوهنا، وضربنا بأيدينا ضربة إلى المناكب والآباط
[الحديث مطضرب الإسناد منكر المتن] (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: " فنزلت عليهم الرخصة في المسح " وقول أبي بكر: " لقد نزل علينا فيك رخصة ".
ويجاب عن ذلك:
أولاً: الحديث إسناده منقطع على اختلاف فيه، كما أن متنه منكر، وقد اختلف فيه على الزهري (2) .
_________
(1) المسند (4/320) .
(2) الحديث اختلف فيه على الزهري، فروي عنه من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الزهري، عن عبيد الله، عن عمار بن ياسر.
رواه ابن أبي ذئب، واختلف عليه فيه:
فرواه الطيالسي في مسنده (637) ومن طريقه رواه البيهقي (1/208) ، وأبو يعلى في مسنده (1633) .
وحجاج بن محمد كما في مسند أحمد (4/320) .
كلاهما رواه عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله، عن عمار بذكر ضربتين للتيمم، والمسح إلى المناكب والآباط.
وخالفهما يزيد بن هارون، فأخرجه الطحاوي (1/111) ، والشاشي في مسنده
(1040) من طريقه، عن ابن أبي ذئب به، ولم يذكر ضربتين، وفيه: " فقام المسلمون فضربوا بأيديهم إلى الأرض، فمسحوا بها وجوههم، وظاهر أيديهم إلى المناكب، وباطنها إلى الآباط".
ورواه يونس بن يزيد كما في مسند أحمد (4/321) ، وأبو داود (318،319) ، وابن ماجه (571) ،
ومعمر كما في مصنف عبد الرزاق (827) ، وأحمد (4/320) ، وأبو يعلى (1632) ، وابن المنذر في الأوسط (535) ، عن الزهري به بذكر ضربتين للتيمم كما هي رواية ابن أبي ذئب، من طريق الطيالسي وحجاج بن محمد عنه.
ومعمر قد اختلف عليه في الحديث، فرواه من غير طريق الزهري، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ورواه الليث بن سعد، كما في سنن ابن ماجه (565) ، ومسند الشاشي (1041) ، وذكره البيهقي في السنن (1/208) عن الزهري به ولم يذكر الضربتين، ولعله اختصره.
كما رواه عقيل عن الزهري به ذكره ابن أبي حاتم في العلل (61) .
وعلى كل حال فهذا إسناد منقطع، عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يسمع من عمار، كما ذكره المزي في تحفة الأشراف (7/481) .
الوجه الثاني: الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار به، فزاد في الإسناد والد
عبيد الله، رواه عن الزهري ثلاثة:
الأول: مالك، كما في سنن النسائي الكبرى (301) ، وفي المجتبى (315) ، ومسند الشاشي (1042) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/110) ، وابن حبان (1310) ، والبيهقي في السنن (1/208) .
والثاني: عمرو بن دينار كما في شرح معاني الآثار (111) ،
والثالث: أبو أويس كما في مسند أبي يعلى الموصلي (1631) ، ثلاثتهم رووه عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار، فجعلوا بين عبيد الله وبين عمار أبا عبيد الله.
ولم يذكر الضربتين، وإنما فيه: " تيممنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتراب، فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب.
الوجه الثالث: الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار.
رواه محمد بن إسحاق، كما في مسند البرزا (1383، 1384) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/110) عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار بذكر الضربتين للتيمم.
وخالفه عبد الرحمن بن إسحاق كما في مسند أبي يعلى (1609، 1652) .
وصالح بن كيسان، كما في مسند أحمد (4/263-264) ، وأبو داود (320) ، والنسائي في المجتبى (314) ، وفي الكبرى (300) ، والمنتقى لابن الجارود (121) ، وأبو يعلى في مسنده (1629) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/110، 111) ، والشاشي في مسنده (1024) ، وابن عبد البر في التمهيد (19/270) كلاهما (عبد الرحمن بن إسحاق، وصالح ابن كيسان) روياه عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار، ولم يذكروا ضربتين للتيمم، وإنما ذكروا ضربة واحدة، قال في الحديث: " فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط ".وفي هذا الطريق أدخلوا ابن عباس واسطة بين عبيد الله وبين عمار.
ورواه ابن عيينة، واختلف عليه فيه:
فقيل: عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري أخرجه ابن ماجه (566) عن محمد بن أبي عمر العدني.
والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/111) من طريق إبراهيم بن بشار، كلاهما، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، بلفظ: تيممنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب.
وقد خالف ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ابن ماجه رحمه الله، فقد رواه (278) عن محمد بن أبي عمر العدني، عن سفيان، عن الزهري مباشرة بدون ذكر عمرو بن دينار.
ورواه الحميدي (143) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (536)
والبزار (1403) حدثنا محمد بن عمرو بن العباس الباهلي،
وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (278) من طريق أبي بكر بن خلاد وابن أبي عمر.
والبيهقي في المعرفة (1561) من طريق الشافعي، خمستهم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار.
وليس فيه عمرو بن دينار.
قال البيهقي: هذا حديث قد رواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، ثم سمعه من الزهري، فرواه عنه، وكان يقول أحياناً: عن عمار، وأحياناً يقول: عن أبيه. قال علي بن المديني: قلت لسفيان: عن أبيه، عن عمار؟ قال: أشك في أبيه. قال علي: كان إذا حدثنا لم يجعل عن أبيه.
وهذا خلاف آخر على سفيان.
ولذلك ذهب أبو داود إلى أن ابن عيينة يضطرب في الحديث.
قال أبو داود على إثر حديث (320) : " شك فيه ابن عيينة، قال مرة: عن عبيد الله، عن أبيه، أو عن عبيد الله عن ابن عباس. ومرة قال: عن أبيه، ومرة قال: عن ابن عباس، اضطرب فيه ابن عيينة، وفي سماعه من الزهري".
وقال ابن عبد البر في التمهيد (19/285) : " واضطرب ابن عيينة، عن الزهري في هذا الحديث في إسناده ومتنه ".
وروى الحديث معمر، واختلف عليه فيه:
فقيل: عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمار بن ياسر، وسبق تخريجه في الوجه الأول.
وأخرجه الشافعي في مسنده بترتيب السندي (128) ، ومن طريقه البيهقي في معرفة السنن (1566) ، والحازمي في الاعتبار (ص: 58) عن الثقة، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله عن أبيه، عن عمار.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (879) ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (23/49) رقم 130 عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه أو غيره، قال: سقط عقد لعائشة... فذكر نحوه، فأرسله. ومعمر متكلم في روايته عن هشام.
فهذه ثلاث اختلافات على معمر.
هذا ما وقفت عليه من طرق الحديث، وهذا الاختلاف على الزهري لم يكن من صغار أصحابه، بل وقع هذا بين الطبقة الأولى من أصحاب الزهري، ولم يكن هذا الاختلاف قد انفرد به واحد دونهم فيحمل على الوهم، فهذا مالك وابن عيينة ومعمر وابن أبي ذئب ويونس وعقيل والليث قد اختلفوا فيما بينهم على الزهري، وهم من أخص أصحابه، ولم يقتصر الاختلاف على إسناد الحديث، بل اختلفوا حتى في متنه، فبعضهم يذكر ضربتين للتيمم، وبعضهم يذكر ضربة واحدة، كما أن ذكر المسح إلى الآباط مخالف لرواية الصحيحين من حديث عمار رضي الله عنه، فصفة التيمم في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وفي غيرهما ليس فيها ذكر ضربتين للتيمم، وليس فيها المسح إلى الآباط والمناكب، مما يزيد الحديث ضعفاً فأميل إلى أن الحديث مضطرب الإسناد، منكر المتن، وقد نقل الحميدي أن هذا الحديث مما ينكره الناس على الزهري.
قال الحميدي في مسنده (143) : حضرت سفيان، وسأله عنه يحيى بن سعيد القطان، فحدثه، وقال فيه: حدثنا الزهري، ثم قال: حضرت إسماعيل بن أمية أتى الزهري، فقال: يا أبا بكر إن الناس ينكرون عليك حديثين تحدث بهما، فقال: ما هما؟ قال: تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب، فقال الزهري: أخبرنا عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار. وذكر بقية الكلام.
فقوله: إن الناس ينكرون عليك حديثين وذكر هذا من أحدهما دليل على أن غالب العلماء ممن أنكر هذا الحديث على الزهري رحمه الله تعالى.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (19/287) : " أكثر الآثار المرفوعة في هذا الحديث إنما فيها ضربة واحدة للوجه واليدين، وكل ما يروى في هذا الباب عن عمار فمضطرب مختلف فيه".
ومن الأئمة السابقين من سلك مسلك الترجيح، وقد اختلفوا في الترجيح:
فقيل: الراجح: الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار.
قال ابن أبي حاتم في العلل (61) : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه صالح بن كيسان وعبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم.
فقالا: هذا خطأ، رواه مالك وابن عيينة عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار، وهو الصحيح، وهما أحفظ.
قلت: قد رواه يونس وعقيل وابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم أصحاب الكتب.
فقالا: مالك صاحب كتاب، وصاحب حفظ. اهـ
وقيل: كلاهما محفوظ: يعني: رواية عبيد الله عن ابن عباس، عن عمار.
ورواية عبيد الله، عن أبيه، عن عمار، ذهب إلى هذا الإمام النسائي رحمه الله.
قال النسائي في السنن الكبرى (1/133) بعد أن ذكر الطريقين: قال: " كلاهما محفوظ". ولم يذكر الإمام النسائي رحمه الله الطريق المنقطع: أعني طريق عبيد الله، عن عمار مباشرة بلا واسطة، والله أعلم بالصواب.
انظر بعض طرق هذا الحديث في إتحاف المهرة (14938) ، أطراف المسند (5/10) ، تحفة الأشراف (10357) .(12/42)
ثانياً: قد يكون المقصود بالرخصة هنا المعنى اللغوي، وهو التسهيل والتيسير، وليس المقصود به المعنى الاصطلاحي، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1376-9) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء،
عن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل(12/47)
سائر جسده (1) .
[إسناده ضعيف، وزيادة ويعصر أو يعصب ثم يمسح عليها زيادة منكرة] (2) .
وجه الاستدلال:
أنه سألهم: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فاعتبر التيمم رخصة، وقد أنكر عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - صنيعهم مما يدل على أن التيمم رخصة.
وهذا الحديث لا حجة فيه كما قلت لضعفه، ولو صح فليس فيه دليل على كون التيمم رخصة بالمفهوم الاصطلاحي.
الدليل الثالث:
أن مسمى الرخصة الاصطلاحي ينطبق على التيمم، وذلك أن الحكم الأصلي، وهو وجوب الغسل، سقط هذا الحكم لحكم آخر أخف منه وذلك عند العجز عن الماء سواء كان العجز حسياً لفقد الماء، أو عجزاً شرعياً كما لو خاف على نفسه من الضرر من استعماله مع وجوده لمعارض راجح.
دليل من قال: التيمم عزيمة، وليس برخصة.
قالوا: التيمم عند فقد الماء لا يمكن تسميته رخصة، بخلاف المكره على الكفر، فإن للمكره أن يمتنع عن قول الكفر والأخذ بالعزيمة، وله الأخذ بالرخصة في إظهار الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، ومثله الفطر للمسافر في
_________
(1) سنن أبي داود (336) .
(2) سبق تخريجه في أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة، انظر رقم (171) .(12/48)
نهار رمضان، فإن له الأخذ بالعزيمة، وله الأخذ بالرخصة من الفطر، هذا هو حقيقة الرخصة، وأما التيمم فإنه لا يشرع مع القدرة على وجود الماء، ويجب عند فقد الماء، فهو بمنزلة الإطعام عند فقد الرقبة، وذلك ليس برخصة، بل وجبت الرقبة في حال، والإطعام في حال، فكذلك الوضوء وجب في حال، ووجب التيمم في حال أخرى، بخلاف المسح على الخفين، فله أن يمسح، وله أن يخلع الخف، ويغسل رجله، ولذلك قالوا في مسح الجبيرة عزيمة، وليس برخصة؛ لأنه لا مندوحة عنه، فيجب المسح عندهم عند العجز عن الغسل.
دليل من فرق بين التيمم لفقد الماء وبين التيمم لبيعه بأكثر من ثمنه.
قالوا: التيمم عند فقد الماء لا يمكن أن يقال له رخصة؛ لما سبق ذكره من أدلة القول السابق، ولكن التيمم عند بيع الماء بأكثر من ثمن المثل، فإنه يصح أن يقال له رخصة؛ لأن له شراء الماء والوضوء به (1) ، ويباح له التيمم في هذه الحالة عند بعض أهل العلم، وسوف يأتي ذكر خلاف أهل العلم في هذه المسألة (2) .
الراجح من الخلاف:
ما دمنا قد رجحنا أن العاصي بسفره وغيره سواء في الترخص لم يكن للخلاف في هذه المسألة ثمرة كبيرة، وإطلاق الرخصة على التيمم إن كان ذلك من قبيل الإطلاق اللغوي، وهو أن مشروعية التيمم من التيسير والتسهيل على المكلف فلا حرج، بل قد يطلق الترخيص على أمر لم يرد فيه منع، كما
_________
(1) المجموع (4/220) .
(2) انظر البحر المحيط (2/35) .(12/49)
أبيح لنا شحوم البقر والغنم، وكانت محرمة على غيرنا، فيجوز أن نقول: إن ذلك رخصة في حقنا، ومن رفع الحرج عن هذه الأمة، وإن لم يرد فيه منع أصلاً في شرعنا، وإن كان المقصود بالرخصة هو الاصطلاح الفقهي، فالذي أميل إليه أنه لا يسمى التيمم رخصة إلا في الحال الذي يكون التيمم مباحاً، وليس واجباً، كما لو كان الماء يبعد مسافة كبيرة، فله أن يتيمم، وله أن يؤخر الصلاة ويطلب الماء ما دام أنه يجده قبل خروج الوقت، وهذا المثال أفضل من مثال شراء الماء بأكثر من ثمن المثل، فإن في هذا خلافاً بين أهل العلم، هل يصح له التيمم، أو يجب عليه الشراء ما دام أن الثمن لا يضره، والله أعلم.(12/50)
الفصل الثاني:
هل التيمم يرفع الحدث أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث؟
اختلف العلماء في التيمم، هل يقوم مقام الماء في رفع الحدث، فيكون الإنسان متطهراً به، أو أنه يبيح له فعل الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة مع قيام الحدث.
فقيل: التيمم لا يرفع الحدث، وهو المشهور عن الإمام مالك رحمه الله (1) ، والقول الجديد للشافعي (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: بل يرفع الحدث إلى حين وجود الماء، وهو مذهب الحنفية (4) ، وأحد القولين في مذهب المالكية (5) ، ورجحه ابن تيمية (6) من الحنابلة.
_________
(1) المنتقى للباجي (1/109) ، أحكام القرآن لابن العربي (1/556) ، مواهب الجليل (1/343) ، الخرشي (1/191) ، الذخيرة (1/365) .
(2) طرح التثريب (2/109) ، والمهذب المطبوع مع المجموع (2/113) والمجموع (2/328) ، وإحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/66) ،
(3) المغني (1/78،158) ، كشاف القناع (1/175) .
(4) جاء في بدائع الصنائع (1/55) : " قال أصحابنا: إن التيمم بدل مطلق، وليس ببدل ضروري، وعنوا به: أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤادة، لا أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث، وقال الشافعي: التيمم بدل ضروري، وعنى به أن يباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة كطهارة المستحاضة ".
(5) اختاره من المالكية ابن العربي والمازري والقرافي والقرطبي، انظر في هذا الذخيرة للقرافي (1/365) ومواهب الجليل (1/348) ، الخرشي (1/191) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/155) ، أنواع البروق في أنواع الفروق (1/143) .
(6) مجموع الفتاوى (21/352) .(12/51)
ثمرة الخلاف بين القولين:
هناك خلاف بين القولين نظري، وعملي:
أما النظري فخلافهم هل التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً إلى حين القدرة على استعمال الماء، أو الحدث قائم، ولكن تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع؟ .
وأما الخلاف العملي، فقد اختلفوا بناء على اختلافهم في هذه المسألة في مسائل منها:
هل يقوم التيمم مقام الماء، فيتيمم قبل الوقت، كما يتوضأ قبل الوقت، ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلي بالماء؟ .
وهل خروج الوقت مبطل للتيمم، أو يكون بمنزلة الماء؟ .
وهل يصح وطء الحائض إذا طهرت من الحيض به؟ .
وهل يلبس الخفان بالتيمم؟ .
وهل تصح إمامة المتيمم بالمتوضئ؟ .
فهذه مسائل خمسة اختلف فيها الفقهاء بناء على اختلافهم في التيمم هل يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور والحدث قائم (1) .
وإن كانت المسألة الأخيرة: أعني إمامة المتيمم للمتوضئ قال بها بعض الأئمة الذين يرون أن التيمم لا يرفع الحدث، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة بخصوصها إن شاء الله تعالى.
_________
(1) الذخيرة للقرافي (1/367) ، حاشية الدسوقي (1/155) .(12/52)
دليل من قال: التيمم لا يرفع الحدث.
الدليل الأول:
قالوا: إذا كان التيمم لا يرفع الحدث مع وجود الماء، لم يرفعه مع عدمه كسائر المائعات (1) .
الدليل الثاني:
(1377-10) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (2) .
[حديث حسن] (3) .
الدليل الثالث:
(1378-11) ما رواه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه:
" فلما انفتل - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك.
_________
(1) المنتقى للباجي (1/109) .
(2) المصنف (913) .
(3) سبق تخريجه انظر حديث رقم (39) من أحكام الطهارة.(12/53)
وفي آخر الحديث حين وجد عليه الصلاة والسلام الماء أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، وقال: " اذهب فأفرغه عليك " (1) .
وجه الاستدلال من الحديثين السابقين:
لو كان الحدث يرتفع بالتيمم لما عاد إليه حدثه إذا وجد الماء، فلو كانت الجنابة قد ارتفعت بالتيمم كيف تعود الجنابة بوجود الماء، مع أنه لم يوجد ما يوجب تجدد الجنابة، ولذلك لما كان الماء رافعاً للحدث لم يرجع الحدث إلا بتجدد حدث آخر، وهذا دليل على أن الحدث أصلاً لم يرتفع، وإنما أبيح فعل المأمور مع بقاء الحدث.
ويجاب:
كون الحكم يكون ثابتاً إلى غاية أو غايات كثيرة غير ممنوع شرعاً، فالتيمم يرفع الحدث إلى غايات منها: طريان الحدث، ومنها وجود الماء، ألا ترى أن الأجنبية ممنوعة محرمة، والعقد عليها رافع لهذا المنع إلى غايات منها: الطلاق، وثانيها الحيض، وثالثها الصوم، ورابعها: الإحرام، وخامسها الظهار (2) ، فما المانع أن يكون الحدث مرتفعاً إلى حين وجود الماء، خاصة أن التيمم بدل عن الماء فهو مطهر ما دام الماء مفقوداً، كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها، وكان ملك الملتقط ملكاً مؤقتاً إلى ظهور المالك، فإنه كان بدلاً عن المالك، فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها (3) .
_________
(1) البخاري (344) .
(2) انظر أنواع البروق في أنواع الفروق (2/143) .
(3) مجموع الفتاوى (21/437)(12/54)
الدليل الرابع:
(1379-12) ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير،
عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (1) ، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً (2) .
[أعله أحمد بالانقطاع، وهذا الإسناد له علتان] (3) .
_________
(1) النساء: 29.
(2) المسند (4/203) .
(3) الأولى: ضعف ابن لهيعة، لكن تابعه على ذلك يحيى بن أيوب المصري، فقد أخرجه أبو داود (334) والدارقطني (1/178) والحاكم (1/177،178) من طريق يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب به.
العلة الثانية: الانقطاع. قال أحمد بن حنبل رحمه الله كما في شرح ابن رجب للبخاري (2/279) : " ليس إسناده بمتصل ".
فالانقطاع بين عبد الرحمن بن جبير وعمرو بن العاص، وقد قال ابن حاتم في الجرح والتعديل (5/221) أدرك عمرو بن العاص، وسمع من عبد الله بن عمرو. اهـ
فهنا ابن أبي حاتم نص على إدراكه لعمرو، وخص السماع بعبد الله بن عمرو، خاصة أن الحديث قد روي بذكر واسطة بين عبد الرحمن بن جبير المصري، وبين عمرو بن العاص تارة بزيادة أبي قيس مولى عمرو بن العاص، وتارة بزيادة أبي فراس يزيد بن رباح، وتارة بإسقاط الواسطة، وتارة بالوصل وتارة بالإرسال، فحديث هذا شأنه لا شك في ضعفه، وسيأتي بيان ذلك بالتخريج.
وذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض في باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم، قال البخاري: ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم، وتلا {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف.
قال الحافظ في الفتح (1/454) : " وإسناده قوي، لكن علقه بصيغة التمريض؛ لكونه اختصره. الخ كلامه.
واختلف على ابن لهيعة، فرواه حسن بن موسى عنه كما سبق.
ورواه زيد بن الحباب كما في فتوح مصر لابن عبد الحكم (ص: 249) عن ابن لهيعة، فزاد في إسناده بين عبد الرحمن بن جبير، وبين عمرو بن العاص أبا فراس يزيد بن رباح.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (878) عن ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي أمامة سهل بن حنيف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص أنه أصابته جنابة، وهو أمير الجيش، فترك الغسل من أجل آية، قال: إن اغتسلت مت، فصلى بمن معه جنباً، فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفه بما فعل، وأنبأه بعذره، فسكت.
وأورده الهيثمي في المجمع (1/263) ، وقال: رواه الطبراني في الكبير، وقال: وفيه
أبو بكر بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، ولم أجد من ذكره.
وقال ابن حجر تغليق التعليق (2/191) : هذا إسناد جيد، لكني لم أعرف حال إبراهيم هذا.
كما روي مرسلاً أيضاً وبزيادة أبي قيس في إسناده، فقد أخرجه أبو داود بإثر حديث رقم (335) وابن حبان (1315) من طريق عمرو بن الحارث، عن يزيد بن حبيب، عن عمران، عن عبد الرحمن ابن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص كان على سرية، فذكر الحديث، وذكر أنه غسل مغابنه، وتوضأ، وصلى، ولم يذكر أنه تيمم.
وفي هذه الرواية زيادة أبي قيس في إسناده، قال ابن رجب في شرح البخاري
(2/279) : وظاهرها الإرسال".
وقال ابن رجب في شرح البخاري (2/279) : " روى أبو إسحاق الفزاري في كتاب السير للأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثاً، وأمَّر عليهم عمرو بن العاص، فلما أقبلوا سألهم عنه، فأثنوا عليه خيراً إلا أنه صلى بنا جنباً.. وذكر نحو الحديث. قال ابن رجب: وهذا مرسل، وقد ذكره أبو داود في سننه تعليقاً مختصراً، وذكر فيه أنه تيمم ".
انظر لمراجعة طرق الحديث: إتحاف المهرة (15956) ، أطراف المسند (5/138) ، تحفة الأشراف (10750) .(12/55)
وجه الاستدلال:
قوله: " صليت بأصحابك وأنت جنب " فدل على أن التيمم لم يرفع الجنابة، ولو كان التيمم يرفع الجنابة لم يكن عمرو بن العاص رضي الله عنه صلى، وهو جنب، بل صلى وقد ارتفع حدثه.
ويجاب:
بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال له ذلك قاله مستفهماً؛ لأنه معلوم أن من تيمم مع وجود الماء، وبلا عذر، فإن حدثه لا يرتفع إجماعاً، وأن التيمم إنما يرفع الحدث بشرطه، وهو عدم الماء، أو الخوف من استعماله لمرض ونحوه، وحين أخبره عمرو بن العاص رضي الله عنه بعذره، أقره عليه، وعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصل، وهو جنب، فكيف لا يكون إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد اطلاعه على عذره دليلاً على أن حدثه قد ارتفع.
يقول ابن تيمية رحمه الله: " قوله: " أصليت بأصحابك وأنت جنب " استفهام، أي: هل فعلت ذلك؟ فأخبره عمرو رضي الله عنه أنه لم يفعله، بل تيمم لخوفه أن يقتله البرد، فسكت عنه، وضحك، ولم يقل شيئاً.(12/57)
فإن قيل: إن هذا إنكار عليه أنه صلى مع الجنابة، فإنه يدل على أن الصلاة مع الجنابة لا تجوز، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر ما هو منكر، فلما أخبره أنه صلى بالتيمم دل على أنه لم يصل وهو جنب.
فالحديث حجة على من احتج به، وجعل المتيمم جنباً ومحدثاً، والله يقول: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} فلم يجز الله له الصلاة حتى يتطهر، والمتيمم قد تطهر بنص الكتاب والسنة، فكيف يكون جنباً غير متطهر؟ لكنها طهارة بدل، فإذا قدر على الماء بطلت هذه الطهارة، وتطهر بالماء حينئذ؛ لأن البول المتقدم جعله محدثاً، والصعيد جعله مطهراً إلى أن يجد الماء، فإن وجد الماء فهو محدث بالسبب المتقدم، لا أن الحدث كان مستمراً " (1) .
دليل من قال: إن التيمم يرفع الحدث.
الدليل الأول:
من الكتاب قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (2) .
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى نص على أنه شرع لنا الوضوء والغسل والتيمم لغايتين:
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/404) .
(2) المائدة: 6.(12/58)
الأمر الأول: رفع الحرج عن هذه الأمة.
والأمر الثاني: إرادة التطهير، فدل على أن التيمم مطهر لنا بنص الكتاب.
الدليل الثاني:
من السنة،
(1380-13) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال:
أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل..."الحديث، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (1) .
وجه الاستدلال:
فإذا كان الماء طهوراً يرفع الحدث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الماء طهور لا ينجسه شيء "، فكذلك التيمم يرفع الحدث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " فالطهور: هو ما يتطهر به.
الدليل الثالث:
(1381-14) ما رواه الترمذي من طريق أبي أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان،
عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن
_________
(1) صحيح البخاري (335) .(12/59)
لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (1) .
[حديث حسن، وسبق تخريجه] (2) .
وجه الاستدلال:
وجه الاستدلال منه كالاستدلال من الحديث السابق، حيث حكم على الصعيد بأنه طهور المسلم، فكيف يكون الحدث قائماً، ولدى المسلم طهوره من الصعيد؟ .
الدليل الرابع:
(1382-15) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري- واللفظ لسعيد- قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب،
عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر. قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة (3) .
فالحديث نص على أن الصلاة لا تصح بدون طهور مطلقاً، لأن نفي القبول هنا نفي للصحة، وقد أطلق الطهور على الماء، كما أطلق على التيمم في حديث أبي ذر المتقدم، فإذا صحت الصلاة بالتيمم دل على أن التيمم طهور بشرطه.
_________
(1) سنن الترمذي (124) .
(2) انظر حديث رقم (39) من كتاب أحكام الطهارة.
(3) مسلم (224) .(12/60)
الدليل الخامس:
قولكم: إن التيمم لا يرفع الحدث، إن كان المراد لا يرفع الأسباب الموجبة له كالريح والوطء، فكذلك الوضوء؛ لأن رفع الأسباب محال وقد وقعت، وإن كان المقصود لا يرفع الحدث لا يرفع المنع الشرعي من الإقدام على العبادة، فإن المنع قد ارتفع بالضرورة، فإن الإباحة ثابتة بالإجماع، ومع الإباحة لا منع، فهذا بيان ضروري لا محيص عنه (1) ، ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله: " من قال: إن التيمم مبيح لا رافع فإن نزاعه لفظي، فإنه إن قال: إنه يبيح الصلاة مع الجنابة والحدث، وإنه ليس بطهور فهو يخالف النصوص والجنابة مُحَرِّمة للصلاة، فيمتنع أن يجتمع المبيح والمُحَرِّم على سبيل التمام؛ فإن ذلك يقتضي اجتماع الضدين، والمتيمم غير ممنوع من الصلاة، فالمنع ارتفع بالاتفاق، وحكم الجنابة المنع، فإذا قبل بوجوده (يعني الحدث) دون مقتضاها - وهو المنع- فهو نزاع لفظي " (2) .
الراجح:
بعد استعراض الأقوال نجد أن القول بأن التيمم يقوم مقام الماء في كل شيء عند فقده أقوى دليلاً، وذلك لأن البدل له حكم المبدل، إلا أن رفعه للحدث يكون إلى غاية وجود الأصل، وهو الماء، فإذا وجد الماء عاد إليه حدثه، ووجب عليه رفع الحدث بالماء، والله أعلم.
_________
(1) الذخيرة للقرافي (1/365) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/405) .(12/61)
[صفحة فارغة](12/62)
الفصل الثالث:
في حكم إمامة المتيمم للمتوضئ
اختلف أهل العلم في حكم إمامة المتيمم للمتوضئ:
فقيل: يجوز من غير كراهة، وهو مذهب الحنفية (1) ، ونص عليه الإمام أحمد وإسحاق (2) ، واختاره ابن حزم (3) ، وابن تيمية (4) .
وقيل: يكره إمامة المتيمم للمتوضئ، وهو المشهور من مذهب المالكية (5) ، وصرح متأخروا الحنابلة بأن إمامة المتوضئ أولى (6) .
_________
(1) العناية شرح الهداية (1/367) ، البحر الرائق (1/385) ، حاشية ابن عابدين
(1/242، 588) ، بدائع الصنائع (1/227) ، الفتاوى الهندية (1/84) .
(2) جاء في كتاب المسائل للكوسج (87) : " قلت: يؤم المتيمم المتوضئين؟ قال: نعم، أليس ابن عباس رضي الله عنهما أمهم؟
قال: إسحاق: كما قال: يعني: أحمد. اهـ
وفي مسائل أبي داود (124) : سمعت أحمد سئل عن المتيمم يؤم المتوضئين؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس، واحتج بفعل ابن عباس " وانظر: المحرر (1/105) ، الإنصاف (1/276) .
(3) المحلى (1/366) مسألة: 248.
(4) مجموع الفتاوى (21/360) .
(5) المدونة (1/48) ، مواهب الجليل (1/348) ، الخرشي (1/191) ، المعونة (1/151) ، وجاء في الموطأ (1/55) : " سئل مالك، عن رجل تيمم: أيؤم أصحابه وهم على وضوء؟ فقال: يؤمهم غيره أحب إلي، ولو أمهم هو لم أر بذلك بأساً ".
(6) الإنصاف (2/251) ، شرح منتهى الإرادات (1/272) ، كشاف القناع (1/474) ، مطالب أولي النهى (1/651) .(12/63)
وبالرغم من أن المالكية والحنابلة لا يرون التيمم رافعاً للحدث إلا أنهم صححوا إمامة المتيمم بالمتوضئ (1) .
وقيل: لا يجوز، وهو اختيار محمد بن الحسن من الحنفية (2) .
وقيل: إن كان المتيمم تلزمه إعادة الصلاة فلا يجوز الاقتداء به، كما لو تيمم في الحضر لعدم الماء، وإن كانت لا تلزمه الإعادة فيجوز الاقتداء به، وهو مذهب الشافعية (3) .
وقيل: لا يؤمهم إلا أن يكون الإمام أميراً، وهو قول الأوزاعي رحمه الله تعالى (4) .
_________
(1) قال ابن رجب في شرح البخاري (2/266) : " أكثر العلماء لم يبنوا جواز إمامته على رفع حدثه، ولهذا أجاز ذلك كثير ممن يقول: إن التيمم لا يرفع الحدث، كمالك والشافعي وأحمد، لكن الإمام أحمد ذكر أن ما فعله ابن عباس يستدل به على أن طهارة التيمم كطهارة الماء، يصلي بها ما لم يحدث، ولكن لا يختلف مذهبه في صحة ائتمام المتوضئ والمغتسل بالمتيمم، فإن المتيمم يصلي بطهارة شرعية، قائمة مقام الطهارة بالماء في الحكم، فهو كائتمام الغاسل لرجليه بالماسح لخفيه". اهـ
(2) اختار محمد بن الحسن صحة إمامة المتيمم بالمتوضئ في صلاة الجنازة، وفسادها في غيرها من الصلوات، انظر البحر الرائق (1/385) ، تبيين الحقائق (1/142) ..
(3) قال النووي في المجموع (4/160) : " قال أصحابنا: تجوز صلاة غاسل الرجل خلف ماسح الخف، وصلاة المتوضئ خلف متيمم لا يلزمه القضاء، بأن تيمم في السفر، أو في الحضر لمرض وجراحة ونحوها، وهذا بالاتفاق، فإن صلى خلف متيمم يلزمه القضاء كمتيمم في الحضر، ومن لم يجد ماء ولا تراباً..... وقلنا: تجب عليهم الإعادة، أثم، ولزمه الإعادة لأن صلاة إمامه غير مجزئة، فهو كالمحدث، ولو صلى من لم يجد ماء ولا تراباً خلف مثله لزمه الإعادة على الصحيح".
(4) الأوسط (2/69) ، شرح ابن رجب للبخاري (2/265) .(12/64)
دليل من قال: تصح إمامة المتيمم بالمتوضئ.
الدليل الأول:
من الكتاب قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فافسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (1) .
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى نص على أنه شرع لنا الوضوء والغسل والتيمم لغايتين:
الأمر الأول: رفع الحرج عن هذه الأمة.
والأمر الثاني: إرادة التطهير، فدل على أن التيمم مطهر لنا بنص الكتاب، وإذا كان مطهراً فلا فرق بين إمامة المتيمم وإمامة المتوضئ، فكل قد فعل ما أمر به شرعاً، وكل واحد منهما صلاته صحيحة، وإذا صحت صلاته صحت صلاة من خلفه.
ومثل الآية الكريمة الأحاديث الواردة بأن التيمم جعله الله مطهراً لنا، كحديث جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل..."الحديث، رواه مسلم، واللفظ للبخاري (2) .
وما رواه الترمذي من حديث أبي ذر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن
_________
(1) المائدة: 6.
(2) صحيح البخاري (335) .(12/65)
الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (1) .
[حديث حسن وسبق تخريجه] (2) .
الدليل الثاني:
(1383-16) ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير،
عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} (3) ، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً (4) .
[أعله الإمام أحمد بالانقطاع] (5) .
_________
(1) سنن الترمذي (124) .
(2) انظر حديث رقم (39) من كتاب أحكام الطهارة.
(3) النساء: 29.
(4) المسند (4/203) .
(5) سبق تخريجه في مسألة: هل اليتمم يرفع الحدث أم لا؟ انظر رقم (1379) .(12/66)
الدليل الثالث:
(1384-17) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر،
عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عباس في سفر مع أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيهم عمار بن ياسر، فكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بهم ذات يوم، ثم التفت إليهم فضحك، فأخبرهم أنه أصاب جارية له رومية، وصلى بهم، وهو جنب، فتيمم (1) .
[حسن، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى] (2) .
دليل من قال: لا تجوز إمامة المتيمم للمتوضئ.
الدليل الأول:
(1385-18) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن بيان، عن محمد ابن المنكدر،
عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يؤم المتيمم المتوضئين (3) .
[إسناده ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) المصنف (1/93) رقم: 1036.
(2) انظر تخريجه في مبحث: وطء الرجل زوجه، وهو عادم للماء.
وقد جاء في مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج (79) : " قلت الرجل يجامع أهله في السفر، وليس معه ماء؟ قال: لا أكره ذلك، قد فعل ذلك ابن عباس.
فهنا جزم الإمام أحمد رحمه الله تعالى بثبوت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الحافظ في الفتح: وصله ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما، وإسناده صحيح.
(3) الدارقطني (1/185) ، ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في السنن (1/234) ، وانظر إتحاف المهرة (3692) .
(4) في إسناده صالح بن بيان، قال الدارقطني: متروك. تاريخ بغداد (9/310) .
وقال الخطيب: كان ضعيفاً، يروي المناكير عن الشيوخ الثقات. المرجع السابق.
وقال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم، ويحدث بالمناكير عمن لم يحتمل. الضعفاء الكبير (2/200) .
وقال الذهبي: متروك. المهذب في اختصار السنن الكبير (1021) .(12/67)
الدليل الثاني:
(1386-19) ما رواه ابن المنذر من طريق زيد بن الحباب، أخبرني معاوية بن صالح، قاضي الأندلس، أخبرني العلاء بن الحارث الحضرمي،
حدثني نافع، قال: صحبت ابن عمر في سفر، فأصابت ابن عمر جنابة، ولم يقدر على ماء، فتيمم، وأمرني أن أصلي بهم، وكان ماء معنا (1) .
[إسناده ضعيف، ولو صح فهو موقوف، وقد خالفه ابن عباس] (2) .
الدليل الثالث:
(1387-20) ما رواه ابن المنذر من طريق مسدد، ثنا حفص، عن أبي إسحاق، عن الحارث،
عن علي أنه كره أن يصلي المتيمم بالمتوضئ (3) .
[ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) الأوسط (2/68) ورواه البيهقي (1/234) من طريق ابن وهب، ثنا معاوية بن صالح به.
(2) في إسناده العلاء بن الحارث، قد اختلط، ولم يتميز لي ما سمع منه قبل الاختلاط ممن سمع منه بعد، كما أن معاوية بن صالح صدوق له أوهام، وقد تفرد به عن العلاء، وقد ضعف الحافظ في التلخيص (1/117) حديثاً رواه أبو داود من طريق معاوية بن صالح، عن العلاء، عن حزام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري مرفوعاً في غسل الأنثيين من المذي، والله أعلم.
(3) الأوسط (2/68) .
(4) في إسناده الحارث الأعور، وقد رمي بالكذب.
وفيه أبو إسحاق السبيعي: لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث، وهو مدلس.
وقد اختلف فيه على مسدد،
فقيل: محمد بن يحيى، عن مسدد، عن حفص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي كما هو إسناد ابن المنذر المتقدم.
ورواه البيهقي (1/234) من طريق أبي المثنى، ثنا مسدد ثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن إبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.
فزاد في إسناده حجاج بن أرطأة بين حفص وبين أبي إسحاق.
ورواه الدارقطني (1/185) من طريق يعقوب وحفص، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.
وبهذه الطرق يتبين أن حفص لم يروه عن أبي إسحاق، وإنما بينهما الحجاج بن أرطأة، وهو مشهور بأنه ضعيف.
وقيل: مسدد، عن حفص، عن حجاج بن أرطأة قال: إن علياً رضي الله عنه كان يكره أن يؤم المتيمم المتوضئين.
رواه مسدد في مسنده كما في المطالب العالية (437) .
فهنا رواه حفص عن حجاج، ودلسه حجاج، فلم يذكر أبا إسحاق، وهو مشهور بالتدليس على ضعفه، كما أسقط من إسناده الحارث أيضاً.
ورواه الدارقطني (1/185) من طريق هشيم، نا حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي....
هذه بعض طرق الأثر التي وقفت عليها، وهي ضعيفة؛ لأن مدارها على الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، والحارث أشد منه ضعفاً، ولم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا نزراً يسيراً، والله أعلم. وانظر إتحاف المهرة (14093) .(12/68)
الدليل الرابع:
قالوا: إن المتيمم أقل من المتطهر بالماء، والإمام يجب أن يكون مساوياً للمأموم أو أعلى منه، ولا يصح أن يكون أقل منه، والتيمم نفسه لا يرفع الحدث، وطهارته طهارة ضرورة.(12/69)
ويجاب:
بأننا لا نسلم أن المتطهر بالتراب أقل من المتطهر بالماء، فكل قد قام بما هو مطهر له شرعاً، كما أن المكفر إذا لم يجد الرقبة، وكفر بالصيام لم تكن كفارته ناقصة، وقد قدمنا أن التيمم يرفع الحدث، وسقت الأدلة على ذلك، فأغنى عن إعادته هنا.
الدليل الخامس:
قالوا: القياس على ائتمام القارئ بالأمي الذي لا يقرأ الفاتحة إذا صلى بتسبيح وذكر، وبصلاة القائم خلف القاعد، فإن كلاً منهما أتى ببدل، لا يصح أن يأتم إلا من هو بمثله.
ويجاب عن ذلك:
بأن الأمي مخل بركن القيام الأعظم، وهو القراءة، والقرآن مقصود لذاته في الصلاة بخلاف الطهارة، فإنها لا تراد لذاتها بل لغيرها، وهو استباحة الصلاة بها، والتيمم يبيح الصلاة كطهارة الماء، وإما ائتمام القاعد بالقائم فقد أجازه جماعة من العلماء، وأجازه أحمد في صورة خاصة، فإن القاعد قد أتى ببدل القيام، وهو الجلوس، وأتى بركن القيام الأعظم، وهو القراءة (1) .
دليل من قال: يجوز إذا كان الإمام الأمير.
ربما يرى الأوزاعي أن الأصل منع المتيمم من أن يكون إماماً إلا لمثله، إلا أن إمامة عمرو بن العاص في أصحابه، وهو جنب استثني لكونه أميراً للجند، وسبق لنا أن الحديث قد أعله أحمد بالانقطاع، وعلى فرض صحته، فإن هذا
_________
(1) شرح ابن رجب للبخاري (2/267) .(12/70)
فرد من أفراد الحكم المطلق لا يقتضي اختصاص الحكم به، بل هو دليل على الجواز المطلق، ومن أين لنا القول بأن الأصل منع إمامة المتيمم إلا لمثله، فلم يأت نص من الشارع على المنع حتى يقال: إن إمامة عمرو بن العاص رضي الله عنه اغتفرت لكونه أميراً، والله أعلم.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بأن طهارة المتيمم وطهارة المتوضئ لا فرق بينهما؛ فلا مانع من أن يؤم المتيمم غيره من المتوضئين، وقد ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وأن التيمم يرفع الحدث كما أن الماء يرفعه، إلا أن التيمم يرفعه بشرطين: الأول: عدم الماء أو العجز عن استعماله، والثاني: استمرار فقد الماء أو العذر المبيح للتيمم، فإذا ارتفع الموجب للتيمم عاد إليه حدثه، ووجب عليه حينئذ أن يمس الماء، والله أعلم.(12/71)
[صفحة فارغة](12/72)
الفصل الرابع:
إذا عدم الماء والصعيد
اختلف أهل العلم في الرجل لا يجد صعيداً ولا ماء، كما لو كان محبوساً.
فقيل: لا يصلى، ويقضي صلاته إذا قدر على الطهارة، وهو قول أبي حنيفة (1) ، والثوري (2) ، وقول في مذهب مالك (3) ، وقول في مذهب الشافعية (4) .
وقيل: يصلي، ويعيد إذا قدر على الماء أو على الصعيد، وهو اختيار ابن القاسم (5) ، والمشهور في مذهب الشافعية (6) ،
وقول في مذهب الحنابلة (7) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/50) ، أحكام القرآن للجصاص (2/535) ،
(2) شرح ابن رجب للبخاري (2/222) .
(3) الاستذكار (1/305) ، الذخيرة (1/350) ، مواهب الجليل (1/360) .
(4) المجموع (2/321-322) .
(5) الاستذكار (1/304) ، الذخيرة (1/350) ، مواهب الجليل (1/360) .
(6) قال النووي في المجموع (2/321-322) : " إذا لم يجد المكلف ماء ولا تراباً، بأن حبس في موضع نجس، أو كان في أرض ذات وحل، ولم يجد ماء يجففه به، أو ما أشبه ذلك، ففيه أربعة أقوال، حكاها أصحابنا الخرسانيون:
أحدها: يجب عليه أن يصلي في الحال على حسب حاله، ويجب عليه الإعادة إذا وجد ماء أو تراباً في موضع يسقط الفرض فيه بالتيمم، وهذا القول هو الصحيح الذي قطع به كثيرون من الأصحاب أو أكثرهم، وصححه الباقون، وهو المنصوص في الكتب الجديدة... ".
وانظر المهذب (1/42) ، حلية العلماء (1/256) ، روضة الطالبين (1/121) ، مغني المحتاج (1/106) .
(7) قال ابن رجب في شرح البخاري في معرض سرده للأقوال فيمن لم يجد ماء، ولا تراباً (2/222) ، قال: " الثاني: يصلي، ويعيد، وهو قول مالك في رواية، والشافعي، وأحمد في رواية عنه، نقلها أكثر أصحابه ". وانظر الهداية لأبي الخطاب (1/21) ، المبدع (1/218) . الإنصاف (1/282) .(12/73)
وقيل: يصلي حسب حاله، ولا قضاء عليه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: لا يصلي، ولا يعيد، هو رواية عن مالك (2) ، وقول بعض الظاهرية (3) ، وحكاه بعضهم رواية عن أبي ثور (4) .
دليل من قال: لا يصلي:
الدليل الأول:
أن الله سبحانه وتعالى قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم..} وقال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (5) .
(1388-21) وروى مسلم في صحيحه من طريق سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن ابن عمر، وفيه:
_________
(1) المحرر (1/23) ، الفروع (1/221-222) ، الإنصاف (1/282-283) ، المبدع (1/218-219) ، الهداية لأبي الخطاب (1/21) ، الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/83) .
(2) انظر الذخيرة للقرافي (1/350) ، وقال خليل في مختصره (ص: 21) : " وتسقط صلاة وقضاؤها بعدم ماء وصعيد ". وانظر حاشية الدسوقي (1/156) ، الفواكه الدواني
(1/242) ، مواهب الجليل (1/360) .
(3) شرح ابن رجب للبخاري (2/223) .
(4) المرجع السابق.
(5) المائدة: 6.(12/74)
قال عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول (1) .
ومن صلى بغير وضوء ولا تيمم فقد صلى بغير طهور، فلا يكون ذلك صلاة، فالطهارة شرط أهلية أداء الصلاة، كالحائض لا تجب عليها الصلاة لفقد شرط الأهلية: وهي الطهارة، فلا تجب الصلاة إلا على الطاهر.
ويجاب عن هذا:
بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور" أي مع القدرة على الطهور، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " أي مع القدرة على الوضوء؛ لأنه لا خلاف أنه لو عدم الماء، وصلى بالتيمم صحت صلاته (2) .
ومثله حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " (3) ، ولو عجز عن الفاتحة لم تسقط عنه الصلاة مع قيام النفي بصحة الصلاة بدونها.
ولو قلنا: الطهارة شرط في وجوب الصلاة، لكان لكل مكلف أن يقول: أنا لا تجب علي الصلاة حتى أتطهر، وأنا لا أتطهر فلا يجب عليّ شيء، لأن القاعدة: أن كل ماهو شرط في الوجوب كالحول مع الزكاة، والإقامة مع الجمعة لا يتحقق الوجوب حالة عدمه، ولا يجب على المكلف تحصيله، فالصحيح أن وجوب الصلاة ليس مشروطاً بالطهارة (4) .
_________
(1) مسلم (224) .
(2) انظر شرح ابن رجب للبخاري (2/222-223) .
(3) البخاري (334) ، ومسلم (367) .
(4) انظر الذخيرة للقرافي (1/351) .(12/75)
الدليل الثاني:
(1389-22) استدلوا بما رواه البخاري من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه،
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء..... وفيه: فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا..... الحديث، والحديث رواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام حتى أصبح على غير ماء، وأنه لم يصل هو ولا من كان معه حتى أنزل الله آية التيمم، فإذا كان الطهور هو الماء وحده قبل نزول آية التيمم، وحين فقد الماء لم يصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من كان معه حتى أنزل الله آية التيمم، فكذلك يكون الحال فيمن فقد القدرة على التيمم لا يصلي حتى يتمكن من الفعل.
أجاب عن ذلك ابن رجب رحمه الله:
قال: " وأما توقفهم - يعني الصحابة - في التيمم حتى نزلت آية المائدة مع سبق نزول آية التيمم في سورة النساء، فالظاهر - والله أعلم - أنهم توقفوا في جواز التيمم في مثل هذه الواقعة؛ لأن فقدهم للماء إنما كان بسبب
_________
(1) المجموع (2/321-322) .(12/76)
إقامتهم لطلب عقد أو قلادة، وإرسالهم في طلبها من لا ماء معه، مع إمكان سيرهم جميعاً إلى مكان فيه ماء، فاعتقدوا أن في ذلك تقصيراً في طلب الماء، فلا يباح معه التيمم، فنزلت آية المائدة مبينة جواز التيمم في مثل هذه الحال، وأن هذه الصورة داخلة في عموم آية النساء، ولا يستبعد هذا، فقد كان طائفة من الصحابة يعتقدون أنه لا يجوز استباحة رخص السفر من الفطر والقصر إلا في سفر طاعة، دون الأسفار المباحة، ومنهم من خص ذلك بالسفر الواجب كالحج والجهاد، فلذلك توقفوا في جواز التيمم للاحتباس عن الماء لطلب شيء من الدنيا حتى بين لهم جوازه ودخوله في عموم قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) (2) .
وقال أيضاً: " وزعم بعضهم أن رواية القاسم، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام حتى أصبح على غير ماء يدل على أنه لم يصل هو لا من معه. وهذا في غاية الضعف، وقد قررنا فيما تقدم أن آية سورة النساء التي فيها ذكر آية التيمم كان نزولها سابقاً لهذه القصة، وأن توقفهم في التيمم إنما كان لظنهم أن من فوت الماء لطلب مال لا رخصة له في التيمم، فنزلت الآية التي في سورة المائدة مبينة لجواز التيمم في مثل ذلك، والظاهر أن الجميع صلوا بالتيمم، ولكن حصل لهم شك في ذلك، فزال ذلك عنهم بنزول أية المائدة، والله أعلم (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) شرح ابن رجب للبخاري (2/200) .
(3) المرجع السابق (2/221) .(12/77)
دليل من قال: يصلي ولا يعيد:
الدليل الأول:
(1390-23) استدلوا بما رواه البخاري من طريق أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم... الحديث، والحديث رواه مسلم (1) .
وقد استدل البخاري بهذا الحديث الذي رواه هشام عن أبيه، على أن من لم يجد ماء ولا تراباً أنه يصلي على حسب حاله، فإنهم صلوا بغير وضوء، ولم يكن شرع التيمم قبل ذلك، وشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمرهم بإعادة الصلاة، فإذا كان من فقد الماء قبل نزول التيمم صلى على حسب حاله، فكذلك من فقد الماء والصعيد صلى على حسب حاله، ولم يؤمر بالإعادة.
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (2) .
(1391-24) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
_________
(1) البخاري (3773) ، ومسلم (367)
(2) التغابن: 16.(12/78)
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم (1) .
الدليل الثالث:
أن الطهارة شرط، فإذا عجز عنها سقطت عنه كاستقبال القبلة وستر العورة ونحوهما، وكما لو عجز عن القيام بركن من أركان الصلاة كالقيام فإنه يصلي قاعداً، فإن لم يستطع فقاعداً، وهكذا.
دليل من قال: يصلي ويعيد:
هذان حكمان: الصلاة، ووجوب الإعادة، وكل واحد عليه دليل:
أما الدليل على وجوب الصلاة عليهم في الحال، فاستدلوا بما سبق من حديث عائشة، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فإن هؤلاء الصحابة صلوا على حسب حالهم حين عدموا المطهر معتقدين وجوب ذلك، وأخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر عليهم، ولا قال: ليست الصلاة واجبة في هذا الحال، ولو كانت غير واجبة لبين ذلك لهم، كما قال لعمار رضي الله عنه: " إنما كان يكفيك كذا وكذا "..
وأما الدليل على وجوب الإعادة فاحتجوا بما رواه مسلم من حديث ابن عمر المتقدم ذكره: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ".
ولأنه عذر نادر غير متصل، فلم تسقط الإعادة، كمن صلى محدثاً ناسياً أو جاهلاً حدثه (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (7288) ، ومسلم (1337) .
(2) انظر المجموع (2/326) .(12/79)
ويجاب عن هذا الدليل:
أما استدلالكم على وجوب الصلاة عليه في الحال، فهو دليل صحيح، غير مدفوع.
والاعتراض إنما هو على وجوب الإعادة، فإذا كانت هذه الصلاة لم تسقط عنه الصلاة، ولم تبرأ ذمته بهذا الفعل فما المصلحة من فعل صلاة لم يعتد بها، فأوجبتم عليه صلاة الظهر مرتين، وإنما أوجب الله عليه الظهر مرة واحدة.
وأما استدلالكم على وجوب الإعادة بحديث " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " فهل قلتم: إن الصلاة غير المقبولة لاغية، وليست صحيحة، ولا يطلب من المكلف فعل عبادة لا يقبلها الله، ولكن الجواب عن الحديث ما تقدم: لا يقبل الله صلاة بغير طهور: أي مع القدرة عليه، مثله مثل حديث: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " أي مع القدرة عليه، فإن عجز تيمم، فإن عجز صلى على حسب حاله. والله أعلم.
دليل من قال: لا يصلي ولا يعيد:
قالوا: إن من عجز عن الطهارة فقد سقطت عنه الصلاة كالحائض، فأهلية أداء الصلاة أن يكون متطهراً إما بالماء أو بالتيمم عند فقده، فإذا لم يمكنه ذلك سقطت عنه الصلاة، ولم يقض كالحائض ليست أهلاً لأداء الصلاة، ولا يجب عليها القضاء.
وأجيب:
بأن الحائض مكلفة بترك الصلاة، لا سبيل لها إلى فعلها، ولو وجدت الطهور، بخلاف الرجل، والله أعلم.
الراجح من الخلاف.
القول بأنه يصلي ولا يعيد هو أقوى الأدلة وأسلمها من المعارضة، والله أعلم.(12/80)
الفصل الخامس:
في تأخير الصلاة لمن يرجو وجود الماء في آخر الوقت
اختلف الفقهاء هل الأفضل أن يصلي في أول الوقت بالتيمم، أو يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت إذا كان يرجو وجود الماء فيه:
فقيل: تأخيرها إلى آخر الوقت أفضل، إن كان يغلب على ظنه وجود الماء، وهو مذهب الحنفية (1) والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يصلي في أول الوقت إلا إذا تيقن وجوده في آخر الوقت في منزله الذي هو فيه، فالتأخير أفضل، وهو مذهب الشافعية (3) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/54) ، البحر الرائق (1/163) ، الهداية شرح البداية (1/26) .
(2) رؤوس المسائل للعكبري (1/83) ، الهداية (1/20) ، المغني (1/153) ، الإنصاف (1/300) ، كشاف القناع (1/178) .
(3) الأم (1/46) ، ذكر النووي في المجموع (2/301-302) أن عادم الماء له ثلاث حالات: أحدها: أن يتيقن وجود الماء في آخر الوقت، بحيث يمكنه الطهارة والصلاة في الوقت، فالأفضل أن يؤخر الصلاة.
الحال الثاني: أن يكون على يأس من وجود الماء في آخر الوقت، فالأفضل تقديم التيمم والصلاة في أول الوقت بلا خلاف.
الحال الثالثة: أن لا يتيقن وجود الماء ولا عدمه، وله صورتان:
أحدهما: أن يكون راجياً ظاناً الوجود، ففيه قولان مشهوران في كتب الأصحاب، ونص عليهما مختصر المزني، أصحهما باتفاق الأصحاب أن تقديم الصلاة بالتيمم في أول الوقت أفضل، وهو نصه في الأم.
والثاني: التأخير أفضل، وهو نصه في الإملاء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وأكثر العلماء. اهـ وانظر: المهذب (1/34) .(12/81)
وقيل: إذا لم يغلب على ظن المسافر الرجاء للماء، ولا اليأس منه، فالمستحب له أن يتيمم وسط الوقت.
فإن غلب على ظنه إدراك الماء استحب له التأخير.
وإن غلب على ظنه عدم وجود الماء، استحب له الصلاة في أول الوقت وهذا مذهب المالكية (1) .
تعليل من قال: يؤخر إلى آخر الوقت:
في التأخير تحصيل شرط من شروط الصلاة، وهو الطهارة، بينما الصلاة في أول الوقت تحصيل فضيلة الوقت، وهو مستحب فقط، مراعاة الشرط أولى من مراعاة المستحب.
تعليل من قال: يصلي في أول الوقت.
الدليل الأول:
(1392-25) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن سنان القزاز، نا عمرو ابن محمد بن أبي رزين، حدثنا هشام بن حسان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتيمم بموضع يقال له مربد النعم، وهو يرى بيوت المدينة (2) .
[إسناده ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر] (3) .
_________
(1) الشرح الكبير (1/224) ، المقدمات الممهدات (1/121) ، الإشراف (1/172) ، المعونة (1/148) ، الكافي (ص: 28) .
(2) سنن الدارقطني (1/186) .
(3) انظر تخريجه في حديث رقم (1429)(12/82)
الدليل الثاني:
(1393-26) ما رواه الإمام أحمد، قال: ثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش،
عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج، فيهريق الماء، فيتمسح بالتراب، فأقول: يا رسول الله، إن الماء منك قريب، فيقول: وما يدريني، لعلي لا أبلغه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (1/288) .
(2) علته ابن لهيعة، وهو ضعيف مطلقاً على الصحيح قبل احتراق كتبه، وبعد احتراقها، وسواء روى عنه العبادلة أم غيرهم، ولكن رواية غير العبادلة أشد ضعفاً من غيرها
وقد رأى بعضهم تحسين حديثه إذا كان من طريق من روى عنه قبل أن تحترق كتبه. والراجح أنه ضعيف مطلقاً، لكن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها كما قال الحافظ، وهذه العبارة لا تقتضي تحسين حديثه.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره وأوله سواء، إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه. الجرح والتعديل (5/145) .
فهذا نص على أنه ضعيف مطلقاً، وإن كان قد يتفاوت الضعف فرواية ابن المبارك أخف ضعفاً.
وقال عمرو بن علي: عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرى أصح من الذين كتبوا بعد ما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وهذا النص ليس فيه أن ما يرويه العبادلة صحيح مطلقاً، إنما كلمة أصح لا تعني الصحة المطلقة كما هو معلوم، ولذلك قال: وهو ضعيف الحديث، هذا حاله قبل احتراق كتبه وبعدها.
قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي إذا كان من يروى عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك وابن وهب يحتج به؟ قال: لا. الجرح والتعديل (5/145) .
وقال ابن حبان: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجوداً، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيراً، فرجعت إلى الاعتبار، فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، وعن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فالتزقت تلك الموضوعات به. قال عبد الرحمن بن مهدي: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيراً كتب إلي ابن لهيعة كتاباً فيه: حدثنا عمرو بن شعيب، قال عبد الرحمن: فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه، عن ابن لهيعة قال حدثني: إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب.
ثم قال ابن حبان: وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة، وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة، سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه لما فيه مما ليس من حديثه. المجروحين (2/11) .
وهذا عين التحرير. أن رواية المتقدمين عنه فيها ما يدلسه عن الضعفاء، ورواية المتأخرين عنه فيها ما ليس من حديثه.
وجاء في ضعفاء العقيلي (2/294) : " حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن على، قال سمعت: أبا عبد الله، وذكر ابن لهيعة، وقال: كان كتب عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه.
وهذا صريح بأن ابن لهيعة يدلس عن الضعفاء.
وحديثنا هذا قد عنعنه ابن لهيعة وقد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الخامسة، والمرتبة الخامسة قال فيها الحافظ:
الخامسة: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس، فحديثهم مردود، إلا بما صرحوا فيه بالسماع إلا إن توبع من كان ضعفه منهم يسيراً كابن لهيعة.
قلت: هذا الطريق بهذا الإسناد لا أعلم أحداً تابع فيه ابن لهيعة، فهو ضعيف، والله أعلم.
وقد ضعفه بعض المشايخ من أهل عصرنا بحنش، معتقداً أن حنش هو: الحسين بن قيس الرحبي المتروك، وهذا لا يروي عن ابن عباس، كما لا يروي عنه عبد الله بن هبيرة، والصحيح أن حنش هذا هو ابن عبد الله السبائي، وهو ثقة، ومن رجال التهذيب، وثقة أبو زرعة ويعقوب بن سفيان وغيرهم.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه أحمد كما سبق في المتن، عن علي بن إسحاق، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس مرفوعاً.
وأخرجه ابن المبارك في الزهد (292) عن ابن لهيعة به، ومن طريق ابن المبارك أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/383) .
وأخرجه أحمد أيضاً (1/303) حدثنا يحيى بن إسحاق، وموسى بن داود، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة. قال: يحيى: عن الأعرج، ولم يقل موسى: عن الأعرج، عن حنش به.
فهنا زاد يحيى بن إسحاق في الإسناد: الأعرج بين عبد الله بن هبيرة، وبين حنش الصنعاني وقد تفرد بهذه الزيادة يحيى مخالفاً عبد الله بن المبارك وموسى بن داود، فإن لم يكن زيادة الأعرج خطأ في الإسناد فإن هذا قد يكون من تخليط ابن لهيعة.
وأخرجه الطبراني في الكبير (12/238) رقم: 12987، والبيهقي في الخلافيات
(861) من طريق يحيى بن إسحاق وحده به.
وأخرجه الحارث في مسنده كما في المطالب العالية (158) .
وانظر إتحاف المهرة (7314) .(12/83)
الدليل الثالث:
(1394-27) ما رواه الدارقطني من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث،(12/85)
عن علي، قال: إذا اجنب الرجل في السفر تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم، وصلى (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الرابع:
(1395-28) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن محمد ويحيى بن سعيد، عن نافع،
أن ابن عمر تيمم، وصلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان، ثم دخل المدينة، والشمس مرتفعة، فلم يعد (3) .
[إسناده صحيح، وسبق تخريجه] (4) .
وهذا أصح ما ورد في الباب، والله أعلم.
الدليل الخامس:
الصلاة أول الوقت من أفضل القربات، وفيه إبراء للذمة، ومسارعة لفعل الخيرات، قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} (5) ، وقال تعالى:
_________
(1) سنن الدارقطني (1/186) .
(2) ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في السنن (1/232) ، وفي الخلافيات (862)
كما أخرجه البيهقي في السنن أيضاً من غير طريق الدارقطني، فقد أخرجه (1/233) من طريق شريك وإبراهيم بن عمر، عن أبي إسحاق به.
وعلته الحارث الأعور، متفق على ضعفه، والله أعلم. وانظر إتحاف المهرة (14094) .
(3) المصنف (884) .
(4) انظر تخريجه وافياً: في رقم (1429، 1430، 1431) .
(5) آل عمران: 133.(12/86)
{فاستبقوا الخيرات} (1) ، وآخر الوقت غيب علمه عند الله، والإنسان إنما هو مكلف في ساعته القائمة، ولذا يباح للمسافر القصر والجمع وإن كان قد شارف الوصول إلى بلده، ويمكنه أن يدرك الوقت حال الإقامة ليصلي تماماً وبدون جمع، ومع ذلك إذا صلى فإنه يصلى بحسب حاله وقت الأداء، فكذلك المتيمم يستحب له أن يبرئ ذمته في أداء الصلاة أول الوقت، إلا ما استحب له التأخير فيه كالعشاء والإبراد بالظهر زمن الحر، والله أعلم.
تعليل المالكية على تقسيم عادم الماء إلى ثلاثة:
قال في المعونة: " العادمون ثلاثة: منهم من يدخل عليه الوقت، وهو راج له، يغلب على ظنه وصوله إليه في الوقت، فيستحب له تأخير التيمم؛ ليجمع بين الوقت والطهارة الكاملة؛ لأن مراعاة كمال الطهارة أولى من مراعاة فضيلة أول الوقت.
ومنهم من يغلب على ظنه أنه لا يجده حتى يخرج الوقت، فيستحب له أن يقدم التيمم؛ لأن في تأخيره فوات الأمرين - يعني: فضيلة الوقت، وفضيلة كمال الطهارة - ومنهم من هو بين الخوف والرجاء، لا يغلب على ظنه أحد الأمرين، فيتيمم وسط الوقت؛ لأنه لم تبلغ فيه قوة الرجاء أن يؤخره، ولا ضعفه أن يقدمه، فاستحب له الوسط " (2) .
الراجح:
بعد استعراض أدلة كل قول أجد أن القول بالصلاة في أول الوقت أقوى
_________
(1) البقرة: 148.
(2) المعونة (1/147) .(12/87)
من حيث التعليل، وذلك أن الإنسان إذا صلى بالتيمم فقد امتثل الأمر الشرعي، لا فرق بينه وبين المصلي بالماء؛ لأن كلاً من المتطهر بالماء والمتطهر بالتراب قد فعل ما أمر به شرعاً، والتيمم على ما ترجح مطهر، وليس مجرد رافع للمنع، فكيف يقال: إن مراعاة شرط الطهارة أولى من فضيلة الوقت، وكأن المتيمم لم يراع شرط الطهارة، فإذا كانت الطهارة في حق فاقد الماء، هو التيمم، فقد قام بحق الطهارة على أكمل وجه.
قال الإمام مالك رحمه الله: " من قام إلى الصلاة، فلم يجد ماء، فعمل بما أمره الله به من التيمم، فقد أطاع الله، وليس الذي وجد الماء بأطهر منه، ولا أتم صلاة؛ لأنهما أُمِرا جميعاً، فكل عمل بما أمره الله به، وإنما العمل بما أمر الله به من الوضوء لمن وجد الماء، والتيمم لمن لم يجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة" (1) .
وإذا كان التيمم هو طهارة فاقد الماء، فتكون المبادرة بفعل الصلوات في أول الوقت قد أدرك فضيلتين: فضيلة الطهارة، وهي في حقه التيمم، وفضيلة أول الوقت، بينما من أخر الصلاة إلى آخر الوقت قد أردك فضيلة واحدة، وهو فضيلة الطهارة بالماء، وإدراك فضيلتين أولى، ويكفي أنه فعل ابن عمر رضي الله عنه على ما عرف عنه من الحرص على السنة، والله أعلم.
_________
(1) الموطأ (1/55) .(12/88)
الفصل السادس:
في وطء عادم الماء
إذا كان الإنسان على طهارة مائية، فهل يباح له نقض طهارته بالجماع ليتيمم بعد ذلك، أو يحافظ على طهارته المائية؟ .
ويتصور وقوع ذلك في صور كثيرة، منها:
لو أن الإنسان خاف على نفسه الضرر من الاغتسال لوجود برد شديد ونحوه، ولا يخاف ذلك من الوضوء، فهل له أن يجامع زوجته، ويتيمم عن الغسل، أو ليس له ذلك ليحافظ على الطهارة المائية؟
ومثله: لو كان الإنسان معه ماء يكفي لوضوئه، وليس معه ما يكفي للغسل، فهل له أن يجامع ليتيمم بعد ذلك، أو يحافظ على الطهارة المائية؟
اختلف أهل العلم في ذلك،
فقيل: لا بأس أن يجامع أهله، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، واختيار ابن حزم رحمه الله (4) .
_________
(1) المبسوط (1/117) ، البحر الرائق (1/147) ، وقال في الفتاوى الهندية (1/31) : "وللمسافر أن يطأ زوجته، وإن علم أنه لا يجد الماء ".
(2) قال الشافعي في الأم (1/61) : " والرجل المسافر لا ماء معه، والمعزب في الإبل له أن يجامع أهله ويجزئه التيمم إذا غسل ما أصاب ذكره، وغسلت المرأة ما أصاب فرجها أبداً حتى يجد الماء، فإذا وجد الماء فعليهما أن يغتسلاً ". وانظر المجموع (2/241) .
(3) شرح العمدة (1/379) ، المغني (1/171) ، الإنصاف (1/263) ، كشاف القناع (1/161) .
(4) المحلى (1/365) مسألة: 247.(12/89)
وبه قال ابن عباس (1) وجابر بن زيد (2) ، والحسن البصري وسعيد بن المسيب (3) ، وقتادة وسفيان الثوري (4) ، ورجحه ابن تيمية (5) .
وقيل: يكره الجماع إلا أن يخاف الضرر، وهو مذهب المالكية (6) ،
_________
(1) سيأتي النص عنه مخرجاً ضمن أدلة الأقوال.
(2) المصنف لابن أبي شيبة، قال: (1/93) رقم 1037، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد سئل عن الرجل يعزب، ومعه أهله، قال: يأتي أهله ويتيمم. وسنده صحيح.
(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/93) رقم1040: حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن، أنهما كانا لا يريان بأساً إذا كان الرجل في سفر، وليس معه ماء أن يصيب أهله ويتيمم. ورجاله ثقات إلا أن أحمد بن حنبل رحمه الله، قال: عباد بن العوام مضطرب الحديث عن سعيد بن أبي عروبة، كما أن رواية قتادة عن سعيد ابن المسيب فيها تدليس كثير، لكن رواه ابن أبي شيبة (1/93) رقم 1041 عن عباد بن العوام عن هشام، عن الحسن، وسنده صحيح.
(4) المحلى (1/365) .
(5) تصحيح الفروع (1/209) .
(6) قال الباجي في المنتقى (1/109) : " الأحداث على ضربين: ضرب يكون معتاداً، ولا يمكن الامتناع منه كالنوم والبول والغائط، فهذا يجوز فعله للمتوضئ مع عدم الماء.
وضرب يمكن الاحتراز منه كالجماع والملامسة ومس الذكر، فلا يجوز فعله مع عدم الماء فيما يقرب ويطرأ من المشقة" اهـ
وجاء في المدونة (1/31) : " قال مالك: لا يطأ المسافر امرأته ولا جاريته إلا ومعه ماء".
وظاهر هذه النصوص المنع، إلا أن العدوي قال في حاشيته على الخرشي (1/199) : والمعتمد على أن المنع على الكراهة.
وعبارة مختصر خليل قال: " ومنع مع عدم ماء تقبيل متوضئ وجماع مغتسل".
قال في الشرح الكبير (1/161) : " ومنع: أي كره على المعتمد مع عدم ماء تقبيل متوضئ"
وقال في حاشية الدسوقي (1/161) : قوله: كره، على هذا حمل ابن رشد قول المدونة: يمنع وطء المسافر وتقبيله لعدم ماء يكفيهما ". انظر: الخرشي (1/198) ، الفواكه الدواني
(1/151) ، مواهب الجليل (1/359) .(12/90)
ورواية عن أحمد (1) .
وقيل: ليس له أن يجامع أهله، وبه قال الزهري رحمه الله (2) .
وقيل: إن كان بينه وبين أهله أربع ليال فليصب أهله، وإن كان ثلاث فما دونها فلا يصبها، وهو قول عطاء، والأوزاعي (3) .
دليل من قال: له أن يطأ زوجته.
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: {أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء
فتيمموا} (4) ، فأفادت الآية إباحة الجماع في حال عدم الماء، وقد قدمنا أن اللمس هنا المقصود به الجماع في خلاف أهل العلم في تيمم الجنب.
الدليل الثاني:
أباح الله سبحانه وتعالى للرجل أن يجامع زوجه وملك يمينه، فما أباح فهو على الإباحة، لا يجوز حظر ذلك، ولا المنع منه إلا بسنة أو إجماع، والممنوع منه: حال الحيض، والإحرام، والصيام، وحال المظاهر قبل أن يكفر،
_________
(1) المغني (1/171) ، شرح العمدة (1/379) .
(2) جاء في المدونة (1/31) : " قال ابن وهب: عن يونس، عن ابن شهاب أنه قال: لا يجامع الرجل امرأته بمفازة حتى يعلم أن معه ماء ".
(3) المغني (1/171) .
(4) المائدة: 6.(12/91)
وما عدا ذلك فهو على الإباحة، قال تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} (1) ، وما خص الله تعالى بذلك من حكمه الغسل أو الوضوء ممن حكمه التيمم، ولا فرق بين من صلى بوضوء عند وجود الماء، وبين من صلى بتيمم حيث لا يجد الماء، فكل واحد منهم قد أدى ما فرض عليه (2) .
الدليل الثاني:
(1396-29) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (3) .
[إسناده حسن، وسبق تخريجه] (4) .
وجه الاستدلال من وجهين:
الأول: الصعيد الطيب وضوء المسلم، وفي رواية طهور المسلم، وهذا عام لطهارته من الحدث ومن الجنابة، وإذا كان التيمم بهذه المثابة لم تكن طهارته ناقصة.
الوجه الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله هل كان جنباً من جماع أو من
_________
(1) البقرة: 222.
(2) انظر الأوسط لابن المنذر (2/17-18) .
(3) المصنف (913) .
(4) انظر أحكام الطهارة، رقم (39) .(12/92)
احتلام، فدل على أنه لا فرق في الحكم، ولو كان هناك فرق لسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل كانت جنابته من جماع، فينهاه عن ذلك، أو كانت من احتلام فيرشده إلى التيمم؟ فلما ترك الاستفصال في مقام الاحتمال، نزل ذلك منزلة العموم في المقال، مع أنه ورد في بعض طرق الحديث أن تيمم أبي ذر كان عن جماع، كما في مصنف عبد الرزاق (1) ، وسنن أبي داود (2) ، الله أعلم.
الدليل الثالث:
(1397-30) ما رواه أحمد، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، حدثنا الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، الرجل يغيب، لا يقدر على الماء، أيجامع أهله؟ قال: نعم (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المصنف (912) .
(2) برقم (333) .
(3) المسند (2/225) ، وفي إتحاف المهرة (11863) لفظه: الرجل يجنب، ولا يقدر على الماء، أيجامع أهله؟ قال: نعم.
(4) في إسناده حجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، ومدلس.
وقد أخرجه البيهقي في السنن (1/218) من طريق سعدان بن نصر.
وابن المنذر في الأوسط (2/218) من طريق محمد بن الصباح، كلاهما عن معتمر بن سليمان به.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/263) : " رواه أحمد، وفيه الحجاج بن أرطأة، وفيه ضعف، ولا يتعمد الكذب ".
وقال النووي في المجموع (2/242) : " ضعيف؛ لأنه من رواية حجاج بن أرطاة، وهو ضعيف". اهـ(12/93)
الدليل الخامس:
(1398-31) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن مجاهد، قال:
كنا مع ابن عباس في سفر، ومعه جارية له، فتخلف، فأصاب منها ثم أدركنا، فقال: معكم ماء؟ قلنا: لا؟ قال: أما إني قد علمت ذلك، فتيمم (1) .
[رواية الأعمش عن مجاهد فيها تدليس كثير، ومع ذلك فالأثر حسن لغيره إن شاء الله تعالى] (2) .
_________
(1) المصنف (1/94) رقم: 1046.
(2) جاء في تهذيب التهذيب (4/225) : " قال يعقوب بن شيبة في مسنده: ليس يصح للأعمش عن مجاهد إلا أحاديث يسيرة، قلت لعلي بن المديني: كم سمع الأعمش من مجاهد؟ قال: لا يثبت منها إلا ما قال: سمعت، وهي نحو من عشرة، وإنما أحاديث مجاهد عنده عن أبي يحيى القتات.... الخ كلامه رحمه الله تعالى.
ورواه ابن أبي شيبة (1/93) قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر،
عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عباس في سفر مع أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيهم عمار بن ياسر، فكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بهم ذات يوم، ثم التفت إليهم فضحك، فأخبرهم أنه أصاب جارية له رومية، وصلى بهم، وهو جنب، فتيمم.
ومن طريق جرير أخرجه البيهقي في السنن (1/218) .
وجرير هذا هو: جرير بن عبد الحميد، ثقة.
وأشعث هذا: هو أشعث بن إسحاق بن سعد بن مالك، قال فيه أحمد: صالح الحديث. وقال فيه يحيى بن معين كما في رواية ابن أبي خيثمة عنه: ثقة.
وقال فيه النسائي في التمييز: ثقة. تهذيب التهذيب (1/352) .
وجعفر: هو ابن أبي المغيرة.
ذكره ابن حبان في الثقات (6/134) .
وقال الحافظ ابن حجر: نقل ابن حبان في الثقات عن أحمد توثيقه. تهذيب التهذيب
(1/352) ، ولم أقف عليه في ثقات ابن حبان، فلعله ذكره في غير مظانه من الثقات، والله أعلم.
وقال ابن مندة: ليس بالقوي في سعيد بن جبير. تهذيب التهذيب (2/92) .
وفي التقريب: صدوق يهم.
وذكر البخاري الأثر معلقاً بصيغة الجزم، قال البخاري في كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء. قال البخاري: أم ابن عباس، وهو متيمم. وقال الحافظ ابن حجر: وصله ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما، وإسناده صحيح.
قلت: لعل ضعف رواية جعفر بن أبي المغيرة فيما يرويه عن سعيد بن جبير ينجبر في رواية مجاهد عن ابن عباس، وإن كان هذا الطريق الأخير لا يسلم من مقال أيضاً؛ لأنه من طريق الأعمش، عن مجاهد، وقد علمت ما فيها، والله أعلم.
وروى ابن المنذر في الأوسط (2/17) قال: حدثونا عن إسحاق بن راهوية، أنا المعتمر ابن سليمان، سمعت ليثاً يحدث عن عطاء، عن ابن عباس في الرجل يكون مع أهله في السفر، وليس معهم ماء، فلم ير بأساً أن يغشى أهله، ويتيمم.
وهذا إسناد ضعيف أيضاً، لأن الواسطة بين ابن المنذر وبين إسحاق مبهم، ولم يتبين لي من ليث هذا؛ وذلك لأن المعتمر يروي عن ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، ويروي عن ليث ابن سعد بن عبد الرحمن، وهو ثقة، وكل من الليثين يروي عن عطاء.
وقد جاء في مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج (79) : " قلت الرجل يجامع أهله في السفر، وليس معه ماء؟ قال: لا أكره ذلك، قد فعل ذلك ابن عباس.
قال إسحاق: هو سنة مسنونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي ذر. اهـ
فهذا يدل على أن فعل ابن عباس ثابت عنه عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى.(12/94)
دليل من قال بالمنع.
قالوا: كما أن الإنسان لو كان معه ماء لا يجوز له أن يريقه ويتيمم، ولو فعل ذلك لكان عاصياً، وكذلك لو كان على طهارة مائية لا يجوز له أن يتعمد نقض طهارته بريح أو بول أو غائط ما لم يكن مضطراً إلى ذلك حتى(12/95)
لا ينتقل إلى التيمم مع قدرته على الطهارة المائية، فكذلك الجماع يمنع منه ما لم يتضرر من ذلك.
دليل من قال بالكراهة:
قالوا: إذا لم يكن هناك حاجة شديدة فيكره الجماع؛ لأن فيه انتقال من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية من غير حاجة، فيفوت على نفسه طهارة مائية يمكنه بقاؤها.
الراجح:
بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بإباحة الجماع قول قوي جداً، ولم يقدم المانعون أو القائلون بالكراهة دليلاً شرعياً على كراهية ذلك، والأصل الإباحة حتى يقوم دليل صحيح صريح ينقلنا عن هذا الأصل، والله أعلم.(12/96)
الباب الثاني:
في الأسباب الموجبة للتيمم
الأسباب الموجبة للتيمم ترجع إلى ثلاثة أسباب في الجملة:
الأول: عدم الماء.
الثاني: تعذر استعمال الماء.
وتعذر الاستعمال تارة يكون لخوف المرض أو زيادته، أو لخوف عطش على نفسه أو على غيره من آدمي أو بهيمة، أو يخاف إن هو خرج إلى الماء لصوصاً أو سباعاً، أو يباع الماء بأكثر من ثمنه، أو يخشى فوات الوقت إن ذهب إلى الماء أو انتظره، وهل له أن يتيمم مع وجود شخص يتبرع له بالماء من غير مسألة، سوف نفصل الكلام إن شاء الله تعالى على جل هذه المسائل، وبعضها قد يؤجل بحثه ليبحث مع نظائره في فصول أخرى، والله وحده المستعان، والموفق إلى معرفة الصواب.
السبب الثالث: إذا خشي فوات العبادة بخروج وقتها.(12/97)
[صفحة فارغة](12/98)
الفصل الأول:
فقد الماء
إذا فقد المسلم وجود الماء فإن كان مسافراً فإنه يشرع له التيمم إجماعاً، نقل الإجماع على ذلك طائفة من أهل العلم.
قال ابن عبد البر: وأجمع علماء الأمصار، بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب - فيما علمت - أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مريض أو مسافر... " (1) .
ونقل الإجماع أيضاً العيني من الحنفية (2) ، وابن رشد في بداية المجتهد من المالكية (3) ، وابن تيمية (4) ، وابن عبد الهادي (5) من الحنابلة، وابن حزم من الظاهرية (6) .
وإن كان حاضراً داخل المصر، فقد اختلف العلماء:
فقيل: يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه، وهو أحد القولين في مذهب
_________
(1) التميهد (19/270) ، الاستذكار (2/3) .
(2) عمدة القاري (4/7) .
(3) بداية المجتهد (2/115) .
(4) مجموع الفتاوى (21/350، 441) .
(5) مغني ذوي الأفهام (ص: 46) .
(6) مراتب الإجماع (ص: 18، 22) ، وانظر للاستزادة إجماعات ابن عبد البر في العبادات (1/302) .(12/99)
الحنفية (1) ، والمشهور في مذهب المالكية (2) ، وقول في مذهب الشافعية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (4) ،
وقيل: يتيمم، ويصلي، ويعيد إذا وجد الماء، وبه قال الليث، وهو المشهور في مذهب الشافعية. (5) ، ووجه في مذهب الحنابلة (6) .
وقيل: لا يصلي حتى يجد الماء، أو يسافر، وهو قول في مذهب الحنفية (7) ، وأحد القولين عن الإمام مالك رحمه الله (8) ، واختاره بعض
_________
(1) البحر الرائق (1/147) ورجحه ابن نجيم فيه، وانظر تبيين الحقائق (1/37) ، وحاشية ابن عابدين (1/233) .
(2) قال في تنوير المقالة (1/557) : " والمشهور أنه يتيمم كالمسافر " يعني الحاضر العادم للمياه. وانظر الذخيرة للقرافي (1/335) ، التفريع لابن الجلاب (1/201) .
وقال في المعونة (1/143) : " وأما في الحضر، فيجوز عندنا إذا عدم الوصول إليه خلافاً لأبي حنيفة حين منعه لغير المجوس والمريض، ثم قال: ولا إعادة عليه خلافاً للشافعي ".
(3) المجموع (2/350) .
(4) المبدع (1/206) ، الإنصاف (1/279) ، الكافي (1/65) ، المحرر (1/21) .
(5) قال النووي في المجموع (2/350) : " قال: النووي: هذا هو الصحيح المشهور المقطوع به في أكثر كتب الشافعي وطرق الأصحاب ".
(6) شرح البخاري لابن رجب (2/225) .
(7) المبسوط (1/68) ، البحر الرائق (1/147) ، الفتاوى الهندية (1/27) ، وقال في الجوهرة النيرة (1/21) : "وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز التيمم لعدم الماء في المصر سوى المواضع المستثناة، وهي ثلاثة: خوف فوت صلاة الجنازة، أو صلاة العيد، أو خوف الجنب من البرد، وعن السلمي جواز ذلك، والصحيح عدم الجواز؛ لأن المصر لا يخلو عن الماء ".
قال ابن عبد البر في التمهيد (19/293) : " قال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض، ولا لخوف خروج الوقت ".
(8) قال في تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/557) : " وظاهر كلامه أن الحاضر العادم للماء لا يتيمم، وإن خرج الوقت، وهو أحد قولي مالك ".
وجاء في النوادر والزيادات (1/109) : " قال ابن حبيب، عن ابن عبد الحكم، في حاضر لم يجد الماء، فتيمم، وصلى، ثم وجد الماء بعد الوقت، فعليه أن يعيد؛ لأن الله تبارك وتعالى إنما ذكر التيمم في المريض والمسافر ".
وقال ابن رشد في المقدمات (1/113) : أمر الله سبحانه وتعالى المسافر والمريض بالتيمم للصلاة عند عدم الماء، وأجمع أهل العلم على وجوب التيمم عليهما؛ لأن الأمر لهما بالتيمم عند عدم الماء نص في الآية، لا يحتمل التأويل، واختلفوا في الصحيح الحاضر العادم للماء..اهـ(12/100)
الخرسانين من الشافعية (1) ، وهو رواية عن الإمام أحمد (2) .
دليل من قال: يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه.
الدليل الأول:
أن العلة في مشروعية التيمم هو فقد الماء نص عليه في آية التيمم، قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (3) .
الدليل الثاني:
إذا كان التيمم للمريض المقيم يجوز بالإجماع مع وجود الماء (4) ، فجوازه للمقيم عند فقد الماء جائز أيضاً، ولا فرق؛ لأن المرض هو عجز حكمي،
_________
(1) المجموع (2/350) .
(2) قال ابن رجب في شرح البخاري (2/202) : وعن أحمد رواية باشتراط السفر للتيمم ". وقال أيضاً (2/226) وذهبت طائفة إلى أنه لا يصلي حتى يجد الماء أو يسافر، وهو رواية عن أبي حنيفة، وراية عن أحمد اختارها الخلال والخرقي وحكي عن زفر وداود ".
(3) المائدة: 6.
(4) قال ابن عبد البر: التيمم للمريض، والمسافر إذا لم يجد الماء بالكتاب والسنة والإجماع. اهـ انظر التمهيد (19/293) ، الاستذكار (2/18) .(12/101)
وفقد الماء عجز حسي، والعجز الحسي أولى بالمراعاة؛ لأنه يستحيل معه الفعل بخلاف العجز الحكمي، فقد يستعمل الماء إلا أنه قد يلحقه ضرر بذلك.
الدليل الثالث:
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تيمم لرد السلام في الحضر، مع أن الطهارة لرد السلام ليست شرطاً بل ولا واجباً، فكونه يتيمم لفعل الصلاة المفروضة، والقيام بالطهارة التي هي شرط لصحة الصلاة أولى فأولى.
(1399-32) فقد روى البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري،
فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (1) .
وقد استدل البخاري بهذا الحديث على جواز التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة (2) .
دليل من قال: السفر شرط في جواز التيمم.
استدل بقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد
_________
(1) البخاري (337) ، ومسلم (369) .
(2) قال البخاري في ترجمة هذا الحديث، باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء، وخاف فوت الصلاة، وبه قال عطاء... الخ.(12/102)
منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً
طيباً} (1) .
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} فذكر شيئين مبيحين للتيمم: أحدهما: المرض، والثاني: السفر.
وأجيب:
بأن الله سبحانه وتعالى ذكر السفر لكونه مظنة عدم الماء، فإن فقد الماء في الحضر نادر وقليل، ومثله ذكر السفر في آية الرهن، قال تعالى: {وإن كنتم على سفر فلم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} (2) ، وليس السفر بشرط للرهن، فإذا جاز الرهن في الحضر، جاز التيمم في الحضر أيضاً.
دليل من قال: يتيمم ويعيد:
علل النووي وجوب الإعادة إذا تيمم في الحضر، بأن هذا العذر نادر غير متصل، وقال: احترزنا بالنادر عن المريض والمسافر، وبغير المتصل من المستحاضة.
ويجاب عنه بأمور:
الأول: هذا التعليل عليل، وإنما شرع التيمم لرفع الحرج عن هذه الأمة كما في قوله تعالى بعد أن ذكر طهارة الماء والتيمم {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (3) ، فأين التخفيف، وقد كلف
_________
(1) المائدة: 6.
(2) البقرة: 283.
(3) المائدة: 6.(12/103)
في فعل الصلوات مرتين، مرة في التيمم، ومرة إذا وجد الماء، وقد يطول ذلك فيجتمع عليه صلوات كثيرة، فأين التخفيف في ذلك، وهل ذلك إلا موجب للعنت والمشقة على الناس.
ثانياً: إذا كان لا يعيد الصلاة إذا تيمم في السفر، فلا يعيد الصلاة إذا تيمم في الحضر، ولا فرق.
ثالثاً: التكليف بالإعادة لا بد له من دليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقم دليل في تكليف المسلم بالإعادة، ولم يوجب الله فرض الظهر مرتين، فمن أوجب عليه الإعادة فقد أوجب عليه الفرض الواحد مرتين، وهذا خلاف المشروع.
رابعاً: أن الذي أميل إليه أن الإنسان إذا اجتهد وأخطأ، وامتثل الأمر معتقداً أن هذا هو الواجب عليه، ثم تبين له أنه أخطأ لم يكلف الإعادة، فما بالك بمن نأمره أن يتيمم، ثم نطلب منه أن يعيد، فإن كان التيمم لا يسقط عنه الواجب فلماذا نأمره به، وإذا كان التيمم يقوم مقام الماء عند فقده فلماذا نأمره بالإعادة.
فهذه المرأة التي كانت تستحاض، وكانت تعتقد أن ذلك حيض، وكانت تمتنع عن الصلاة والصيام قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " (1) ، ولم يأمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلوات التي تركت ظناً منها أنه دم حيض.
وهذا الرجل المسيء في صلاته مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له: " ارجع
_________
(1) البخاري (228) ، ومسلم (333) .(12/104)
فصل فإنك لم تصل " (1) ، لم يطلب منه إعادة الصلوات السابقة، مع أنه نفى عنه فعل الصلاة، وكلفه بإعادة الصلاة القائمة فقط، إما لأن الوقت ما زال قائماً، أو لأجل أن تشتد حاجته لمعرفة الصواب، ولذلك اغتفر تكراره مع الإساءة للصلاة لمصلحة التعليم، وإلا فالإنسان الذي لا يعلم أن يصلي قد لا يجوز أن نجعله يعبث في الصلاة على غير هدى، ونطلب منه أكثر من مرة أن يعيد الصلاة، وهو لا يحسن.
وهذا عمار تمرغ كما تتمرغ الدابة، وصلى، ظنا منه رضي الله عنه أن هذه هي الصفة المطلوبة في تيمم الجنب، ولم يفعل الصفة المشروعة، ولم يكلفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، وإنما اكتفى بإخباره بالصفة المشروعة (2) ، هذا عدي رضي الله عنه جعل تحت وساده عقالين: أبيض وأسود، وأخذ يأكل حتى تبين له العقال الأبيض من العقال الأسود، فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فضحك منه، وأخبره بالصواب، ولم يأمره بالإعادة (3) ، وهكذا فالنصوص متظافرة على أن من اجتهد، ففعل ما يعتقد أنه يلزمه شرعاً، ثم تبين له خطأ فعله، لم يكلف بالإعادة، فما بال المتيمم الذي كلفناه بالتيمم، وأنه يجب عليه فعل الصلاة على هذه الصفة، فما بالنا نأمره بالإعادة، فهذا القول بعيد جداً عن الصواب، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (757) ، ومسلم (397) .
(2) البخاري (338) ، ومسلم (368) .
(3) البخاري (4509) ، ومسلم (1090) .(12/105)
[صفحة فارغة](12/106)
المبحث الأول:
إذا وجد ماء لا يكفي للطهارة
ناقشنا في الفصل السابق، أن التيمم مشروع بشرط عدم الماء، فهل يختلف الحكم إذا وجد ماء لا يكفي لطهارته؟ ، وهل يستعمل الماء بدون تيمم؟ ، أو يتيمم ويدع الماء ما دام أنه لا يكفي لفعل الطهارة كاملة؟ أو يستعمل الماء، ويتيمم عن الباقي؟ . في هذه المسألة اختلف أهل العلم:
فقيل: يتيمم، ويدع الماء، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والقول القديم للشافعي (3) ، واختاره المزني (4) .
وقيل: يستحب له استعمال الماء، ويتيمم عن الباقي، وبه قال جماعة من أهل العلم (5) .
وقيل: يجب عليه استعمال الماء، ثم يتيمم عن الباقي، وهذا هو القول
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/526) ، المبسوط (1/113) ، بدائع الصنائع (1/50) ، البحر الرائق (1/146) .
(2) مختصر خليل (ص: 19) ، التاج والإكليل (1/331) ، الفواكه الدواني (1/153) ، مواهب الجليل (1/331-332) ، الذخيرة (1/339) ، حاشية الدسوقي (1/149) .
(3) المهذب (1/34) ، طرح التثريب (2/118) .
(4) طرح التثريب (2/118) .
(5) البيان في مذهب الشافعي (1/297) .(12/107)
الجديد للشافعي (1) ، ومذهب الحنابلة (2) ، واختيار ابن حزم رحمه الله (3) .
وقيل: بالتفريق بين طهارة الوضوء وطهارة الغسل، فإذا وجد ماء يكفي بعض الغسل تيمم بعد استعماله، ولا يتوضأ بماء يكفي بعض الوضوء (4) .
وقيل: يتوضأ بذلك الماء ويصلي، فإن لم يكن معه من الماء إلا قدر ما يغسل به وجهه ويديه، فهو أولى من التيمم، وإن لم يجد إلا ما يغسل به وجهه غسله، ومسح كفيه بالتراب، وهو قول الحسن وعطاء (5) .
دليل من قال: يتيمم، ويدع الماء.
الدليل الأول:
من الكتاب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (6) .
فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين: إما الماء عند وجوده، أو التراب عند عدمه، فكوننا نوجب الماء والتراب معاً هذا خلاف نص الآية، فلما لم يكن هذا الماء كافياً في طهارته علمنا أن فرضه هو التيمم، ولو كان هذا الماء هو
_________
(1) المهذب (1/34) ، البيان في مذهب الشافعي (1/297) ، الوسيط (1/361) ، حاشية البجيرمي (1/96) ، الروضة (1/96-97) شرح زبد ابن رسلان (ص: 62) منهاج الطالبين (1/6) ، وقال النووي في المجموع (2/309) : "واتفق الأصحاب على أن الأصح وجوب استعماله".
(2) المغني (1/150) ، وقال في الإنصاف (1/273) : " وهو المذهب، وعليه الأصحاب".
(3) الإنصاف (1/273) ، المغني (1/150) .
(4) المسائل الفقهية من كتاب الروايتن والوجهين (1/93) .
(5) المنتقى للباجي (1/115) .
(6) المائدة: 6.(12/108)
الماء الذي تقوم به طهارته لم تكن صلاته موقوفة على التيمم، فلما لم يرفع هذا الماء حدثه كان وجوده كعدمه كالماء النجس.
الدليل الثاني:
أن التيمم بدل عن الماء، فلا يجمع بين الأصل والبدل، فإما أن يستعمل الماء، أو يتيمم، وما دام أن الماء لا يرفع حدثه ينتقل إلى بدله، وهو التيمم ويكون وجوده كعدمه، وهذا له أمثلة في الشريعة، فلو وجبت عليه كفارة يمين، ولم يجد الكسوة والرقبة، ووجد ما يطعم به تسعة مساكين انتقل إلى الصيام، ولم يؤمر بإطعام التسعة، وهكذا.
وكذلك من وجبت عليه رقبة، وكان عنده ثمن بعض الرقبة، انتقل إلى الإطعام كما لو عدم الرقبة أصلاً.
واعترض على هذا الدليل:
أما قولكم: إنه لا يجمع بين البدل والأصل، فغير مسلم، فقد جمع بين الأصل والبدل في الوضوء، فهذا مسح الخفين بدل عن طهارة الماء، وقد جمع بينهما في الوضوء، فإنه يغسل أعضاء الوضوء، ويمسح قدميه.
كما أنه جمع بين الأصل والبدل في المسح على الجبيرة، فإن المسح بدل من الغسل، فلو كان في العضو جبيرة، فإنه يمسح عليها، ويغسل الباقي، وهو جمع بين الأصل والبدل.
وأما قولكم بأنه لا عبرة بالقدرة على البعض إذا لم يقدر على الكل قياساً على القدرة على بعض الكفارة، فيقال: " ضابط الباب: أن ما لم يكن جزؤه عبادة مشروعة لا يلزمه الإتيان به، كإمساك بعض اليوم، وما كان جزؤه عبادة مشروعة لزمه الإتيان به، كتطهير الجنب بعض أعضائه، فإنه(12/109)
يشرع عند النوم والأكل والمعاودة... تخفيفاً للجنابة.... وإذا ثبت تخفيف الحدث الأكبر في بعض البدن، فكذلك الحدث الأصغر " (1) .
ويجاب:
أما قولكم في المسح على الخفين بأنه جمع بين الأصل والبدل، فيقال: إن المسح على الخفين بدل عن غسل الرجل، وليس بدلاً عن الوضوء، حتى يقال: جمع بين البدل والمبدل منه، فقد سقط غسل القدم إلى بدله، وهو المسح، ولم يجمع بين الغسل والمسح، وكذلك يقال في الجبيرة، فمسح الجبيرة بدل عن غسل الجرح، ولم يجمع بين مسح الجرح وغسله، فتأمل.
وأما قياسكم على تخفيف الحدث، في مشروعية غسل بعض الأعضاء، دون بعض، فكذلك غسلها في مسألتنا، فهذا الكلام ظاهره القوة، ولكن يعكر عليه ما يلي:
أولاً: نحن نوجب أمراً قياساً على أمر مستحب، فإن كان الفرع له حكم الأصل، فالأصل غير واجب، فكيف يكون الفرع واجباً، فتخفيف الحدث في غسل الجنابة للأكل والوطء مستحب، وليس بواجب، فكذلك ما قيس عليه ينبغي أن يكون كذلك.
ثانياً: لو سلم هذا الفعل في الحدث الأكبر، وأن الجنب إذا قدر على الوضوء، وعجز عن الغسل فله أن يتوضأ بالماء، ويتيمم عن الجنابة، وهي مسألة سوف نتعرض لها إن شاء الله تعالى، فأين الدليل من الشرع على جريانه بالحدث الأصغر، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عمد إلى تخفيف الحدث الأصغر بغسل بعض أعضائه، فلم يقع هذا منه - صلى الله عليه وسلم - لا في حديث صحيح، ولا في حديث ضعيف أنه خفف الحدث الأصغر، فكيف نوجب على الإنسان أن يستعمل الماء في الحدث الأصغر على بعض أعضائه، وأن ذلك من باب تخفيف الحدث، قياساً على تخفيف الحدث الأكبر، وهو أمر لم يحدث منه - صلى الله عليه وسلم - قط، فلو تعبد أحد بتخفيف الحدث الأصغر بغسل
_________
(1) بدائع الفوائد (4/30) .(12/110)
بعض أعضاء الوضوء مع وجود الماء لقيل: إنه مبتدع (1) .
دليل من قال: يستعمل الماء، ثم يتيمم.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} (2) .
فاشترط للتيمم عدم الماء، وهذا واجد للماء، ومن جهة أخرى، فإن كلمة (ماء) نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فلا يتيمم حتى يفرغ من استعمال الماء، فيكون تيممه عن الباقي من أعضائه مما لم يمسها الماء، لتحقق فقد الماء.
وأجيب:
بأن المقصود بكلمة " فلم تجدوا ماء " أي ماء يطهره، ألا ترى أن وجود الماء النجس لا يمنعه من التيمم؛ ولأنه معطوف على ما سبق، وقد سبق بيان
_________
(1) نعم ورد في حديث علي تخفيف الوضوء في تجديد الوضوء، وليس في تخفيف الحدث الأكبر، حيث مسح أعضاء الوضوء بالماء، وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وقد تكلمنا على الحديث في باب الوضوء، فارجع إليه مشكوراً.
(2) المائدة: 6.(12/111)
حكم الوضوء والاغتسال بالماء في أول الآية بقوله {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} إلى قوله: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) ، فأراد به جميع البدن، ثم قال: {فلم تجدوا ماء} أي يقوم بجميع ما ذكر، فإن آخر الكلام مرتبط بأوله، فإذا لم يوجد هذا الماء الذي يقوم بجميع ما ذكر فإنه غير واجد لذلك الماء (2) .
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (3) .
(1400-33) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، ورواه مسلم (4) .
فهذا مكلف قد أمر بالطهارة، واستطاع أن يأتي ببعضها، فهو مكلف بأن يأتي بما يستطيع، ويتيمم عن الباقي.
ويجاب:
بأن الحديث لم يسق في المسألة بخصوصها، ولو قيل: العبرة بعموم اللفظ
_________
(1) المائدة: 6.
(2) بدائع الصنائع (1/113) .
(3) التغابن: 16.
(4) صحيح البخاري (6744) ، ومسلم (2380) .(12/112)
فنقول إن هذا العموم غير مراد هنا، بدليل أن هناك أموراً يكلف فيها الإنسان، ويكون المشروع إما أن يأتي بها كلها، أو يتركها كلها، فمن طلب منه صيام يوم، فلو استطاع أن يصوم بعضه لم يكلف به، لأن المطلوب هو صيام يوم كامل، وكذلك ما تقدم من الإطعام في الكفارة، فمن استطاع أن يطعم خمسة مساكين، والمطلوب إطعام العشرة لم يكلف بالإطعام، بل ينتقل إلى بدله، فكذلك في الطهارة، فالمطلوب أن يرتفع حدثه إما بالماء أو بالتيمم، وبعض الماء لا يرفع الحدث، فوجوده كعدمه، والتيمم كاف في رفع الحدث، فينتقل إليه.
دليل من فرق بين الوضوء والغسل.
قالوا: إذا وجد ماء يكفي بعض الوضوء فلا فائدة من استعماله، لأن الحدث لا يرتفع لعدم الموالاة، ويفارق هذا الغسل من الجنابة؛ لأن الحدث يرتفع عن قدر ما غسل؛ لأنه ليس من شرطها الموالاة (1) .
هذا ما وقفت عليه من أدلة القوم: سواء من قال: يتيمم، ومن قال: يستعمل الماء، ثم يتيمم، وأما قول عطاء، بأنه لو وجد من الماء ما يغسل به وجهه، غسل وجهه، ومسح كفيه بالتراب، فلا هو فعل صفة التيمم المطلوبة، فيرتفع حدثه بالتيمم، ولا هو قام برفع حدثه بالماء، فجاء بطهارة جديدة ملفقة من طهارتين مختلفتين، فهذا قول لا أعرف له وجهاً من الشرع، ولا وجهاً من اللغة، والله أعلم.
الراجح من الخلاف:
كنت فيما سبق أميل إلى القول بوجوب استعمال الماء، ثم التيمم
_________
(1) المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/93) .(12/113)
بعد استعماله، وكنت قد ذكرت ذلك في كتاب المسح على الحائل، عند الكلام على المسح على الجبيرة، ثم بعد كتابة هذا البحث، وبعد مزيد من التأمل وجدت أن مذهب الحنفية والمالكية القائلين بأن الواجب هو التيمم أقوى من مذهب الشافعية والحنابلة، وإن كان في كل من القولين قوة، والله أعلم.(12/114)
المبحث الثاني:
لو كان مع الجنب ماء يكفي للوضوء
هذه المسألة سوف نبحثها وفقاً لمذهب الحنفية والمالكية، لأن مذهب الشافعية والحنابلة كما مر معنا في المسألة المتقدمة يوجبون استعمال الماء، مهما قَلَّ، فالمسألة مفروضة على مذهب من يشترط أن يكون الماء كافياً للطهارة، وإلا انتقل إلى التيمم، فهل يقولون يتيمم عن الجنابة، ويتوضأ عن الحدث الأصغر باعتباره مقدوراً عليه؟ أو يقولون: يتيمم، ويدع الوضوء؛ لأن التيمم قد رفع الحدث، فلا حاجة إلى استعمال الوضوء؟.
فقيل: يتيمم، ولا يستعمل هذا الماء في الحدث الأكبر، فإن أحدث بعد تيممه حدثاً أصغر توضأ، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يتيمم، وإذا أحدث حدثاً أصغر تيمم أيضاً، ولا يستعمل الماء، وهذا مذهب المالكية (2) .
دليل الحنفية:
بأن هذا الرجل قد ارتفع حدثه الأكبر بالتيمم، فلا يرجع إليه إلا بقدرته على الاغتسال، وقد قام به حدث أصغر، وهو قادر على الوضوء، فلا يرتفع هذا الحدث الأصغر إلا بالوضوء، فلزمه.
ودليل المالكية:
قالوا: الفرق بين الغسل للجنابة والتيمم للجنابة، في كون الوضوء شرع مع الغسل دون التيمم أمران:
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/526) .
(2) مواهب الجليل (1/332) .(12/115)
أحدهما: أن الوضوء من جنس الغسل، شرع بين يديه أهبة له، كالمضمضة والاستنشاق قبل الوضوء، والإقامة بين يدي الصلاة، والصدقة بين يدي النجوى، والوضوء ليس من جنس التيمم، فلا يشرع تهيؤ له.
وثانيهما: أن أعضاء الوضوء أشرف الجسد لكونها موضع التقرب إلى الله، فكانت البداءة به أولى، والتيمم شرع في عضوين منها، فالوضوء يأتي عليهما وعلى غيرهما، فلا معنى للبداية بالوضوء" (1) .
قلت: هذا الكلام وجيه في عدم استحباب الوضوء في تيمم الجنب، لكن لو أحدث حدثاً أصغر، فما الدليل على أنه لا يشرع له الوضوء بالماء مع القدرة عليه؟
أجاب الحطاب في مواهب الجليل بقوله: " وإن تيمم الجنب، ثم أحدث، أو نام ثم وجد من الماء قدر الوضوء، لم يجزه الوضوء به؛ لأنه عاد جنباً، وكذلك يعود بدخول وقت صلاة ثانية " (2) .
قلت: يعود جنباً بوجود الماء الذي يكفي لرفع حدثه الأكبر، ولو قلنا: إنه يعود جنباً بوجود هذا الماء القليل لما صح تيممه الأول عن الجنابة مع وجود الماء القليل، فلما ألغينا اعتبار وجود الماء في التيمم الأول عن الجنابة، يجب أن نلغي عود الجنابة ببقاء هذا الماء إلا أن يجنب، فإذا أحدث حدثاً أصغر توضأ عنه لقدرته على الوضوء، والله أعلم.
_________
(1) الذخيرة (1/339) .
(2) مواهب الجليل (1/332) .(12/116)
المبحث الثالث:
لو كان المحدث على بدنه نجاسة، ووجد ماء يكفي أحدهما
إذا كان المحدث على بدنه نجاسة، ووجد ماء يكفي إحدى الطهارتين، إما النجاسة أو رفع الحدث، فماذا يقدم؟
قيل: يقدم إزالة النجاسة؛ لأنه لا بدل له، بخلاف رفع الحدث، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: يتوضأ به، ويصلي بالنجاسة، وهو قول أبي يوسف وحماد (4) ، واختاره بعض المالكية.
قال في مواهب الجليل: " قال ابن عبد السلام: وأظن أني وقفت لأبي عمران على أنه يتوضأ، ويصلي بالنجاسة، وكان بعض أشياخي ينقله عنه، ويحتج بأن طهارة الخبث مختلف في وجوبها، وذكر ابن هارون أنه اختلف في ذلك، فقيل: يصلي بالنجاسة، ويتوضأ، وقيل: يزيل به النجاسة، ويتيمم، وجزم ابن رشد في رسم سلف من سماع عيسى من ابن القاسم من كتاب الطهارة، بأنه يزيل النجاسة، ويتيمم، وكذلك ابن العربي وصاحب الطراز، ذكره في الكلام على سؤر ما لا يتوقى النجاسة.
قال الحطاب: وهذا إذا لم يمكنه جمع الماء من أعضائه طهوراً، وأما إن
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/57) : " غسل به الثوب، وتيمم للحدث عند عامة العلماء ".
(2) قواعد، قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/94) ..
(3) كتاب المسائل (1/191) .
(4) بدائع الصنائع (1/57) .(12/117)
أمكنه جمعه طهوراً من غير تغير فإنه يتوضأ به، ويجمعه، ويغسل به النجاسة؛ لأنه طهور على المشهور " (1) .
قلت: جمع الماء المتساقط ليس معروفاً عن السلف.
وقال العز أيضاً: " إذا وجد المحرم ما يكفيه لطهارة الحدث، أو لغسل الطيب العالق به، فإن يغسل به الطيب تحصيلاً لمصلحة التنزه منه في حال الإحرام، ويتيمم عن الحدث تحصيلاً لمصلحة بدل طهارة الحدث، ولو عكس ذلك لفاتت إحدى المصلحتين " (2) .
وهذه أخف من السابقة، لأن الطيب لا يعتبر نجاسة، وإن كان من المحظورات.
وعندي أن القيام بالوضوء أهم من القيام بغسل النجاسة
أولاً: أن الوضوء فعل مأمور، وغسل النجاسة ترك محظور، وفعل المأمور لا يسقط بالنسيان، بخلاف المحظور، فلو صلى بدون طهارة لم تصح صلاته، وطلب منه إعادة الفعل بخلاف ما لو صلى ناسياً وجود النجاسة على بدنه، فإن صلاته صحيحة.
ثانياً: أن طهارة الحدث شرط لصحة الصلاة بلا خلاف، بخلاف إزالة النجاسة فإنه مختلف فيها، هل التخلي عنها شرط أو واجب أو مستحب، وما اتفق على اعتباره أولى بالتقديم، والله أعلم.
ثالثاً: من اهتمام الشارع بطهارة الحدث أنه جعل لها بديلاً عند عدم الماء، وهذا لأهميتها، بينما طهارة الخبث لم يجعل لها بدلاً.
_________
(1) مواهب الجليل (1/154) .
(2) المرجع السابق.(12/118)
الفصل الثاني:
في تعذر استعمال الماء
المبحث الأول:
في تيمم المريض
اختلف أهل العلم في تيمم المريض:
فقيل: المريض لا يتيمم أصلاً مع وجود الماء، حتى ولو خشي التلف، وهذا القول منسوب إلى الحسن وعطاء (1) .
واستدلا بأن الله أباح التيمم للمريض والمسافر بشرط عدم الماء، فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (2) .
قال ابن عبد البر: " ولولا قول الجمهور، وما روي من الأثر (3) ، كان قول عطاء صحيحاً، والله أعلم " (4) .
_________
(1) الأوسط لابن المنذر (2/20-21) ، التمهيد لابن عبد البر (19/294) ، شرح البخاري لابن رجب (2/204) ، المحلى لابن حزم (1/346) مسألة: 224، المجموع (2/321) ، المغني (1/161) .
(2) المائدة: 6.
(3) يقصد ابن عبد البر رحمه الله ما جاء في تيمم عمرو بن العاص عن الجنابة حين خشي التلف.
(4) التمهيد (19/294) .(12/119)
وهذا القول ضعيف جداً؛ لأنه لو لم يجز التيمم إلا لفقد الماء لكان ذكر المرض لا فائدة له.
ومن حيث المعنى، فإن فائدة وجود الماء: هو الاستعمال والانتفاع، وذلك بالقدرة على ذلك، فمعنى قوله: {فلم تجدوا ماء} أي: فلم تقدروا؛ ليتضمن ذلك الوجوه المتقدمة المذكورة: وهي المرض والسفر، فإن المريض واجد للماء صورة، ولكنه لما لم يتمكن من استعماله لضرر، صار معدماً حكماً؛ فالمعنى الذي يجمع نشر الكلام (فلم تقدروا على استعمال الماء) وهذا يعم المرض والصحة إذا خاف من أخذ الماء لصاً أو سبعاً، ويجمع الحضر والسفر، وهذا هو العلم الصريح، والفقه الصحيح، والأصوب بالتصحيح، ألا ترى أنه لو وجده زائداً عن قيمته جعله معدماً حكماً، وقيل له: تيمم، فتبين أن المراد: هو الوجود الحكمي، وليس الوجود الحسي (1) .
وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن المريض يباح له التيمم،
قال السرخسي: " وأما إذا كان يخاف الهلاك باستعمال الماء، فالتيمم جائز له بالاتفاق " (2) .
وقال ابن عبد البر: أجمع علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب فيما علمت أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مريض أو مسافر... " (3) .
وقال القاضي ابن رشد: " أمر الله سبحانه وتعالى المسافر والمريض
_________
(1) أحكام القرآن لابن العربي (1/555) .
(2) المبسوط (1/112) .
(3) الاستذكار (2/3) ، التمهيد (19/270) .(12/120)
بالتيمم للصلاة عند عدم الماء، وأجمع أهل العلم على وجوب التيمم عليهما" (1) .
وحكاية الإجماع مع خلاف الحسن وعطاء فيه نظر إلا أن ذلك مشروط بصحة نسبة هذا القول عنهما، إلا أن يقال: قد انعقد الإجماع بعدهما، والله أعلم، وقد شكك في صحة هذا القول عنهما ابن رجب في شرحه للبخاري، فقال: " وهذا بعيد الصحة عنهما " (2) .
ولم أقف على إسناد عنهما لأنظر في صحته، وإنما حكاه عنهم جماعة من أهل العلم منهم ابن المنذر والنووي وابن عبد البر وابن قدامة وابن حزم وغيرهم، وسبق العزو إليهم (3) .
_________
(1) مقدمات ابن رشد (1/111) .
(2) شرح ابن رجب للبخاري (2/204) .
(3) فإن كان أخذ هذا القول عن الحسن لما رواه ابن أبي شيبة (1/161) حدثنا حفص، عن أشعث بن عبد الملك، عن الحسن، سئل عن الرجل اغتسل بالثلج، فأصابه البرد، فمات، فقال: يا لها من شهادة. إسناده صحيح.
فالظاهر أنهم أخذوا مذهب الحسن من هذا النص، لأن ابن قدامة قال في المغني (1/161) : ونحوه أي: نحو قول عطاء، عن الحسن في المجدور الجنب قال: لا بد من الغسل.
وهذا الأثر عن الحسن إنما هو في اغتسال الصحيح، وليس في اغتسال المريض، وقد يغتسل الصحيح بالماء البارد فيمرض، وقد يغتسل ولا يحصل له شيء، فمن أين لنا أن هذا الرجل كان مريضاً، أو كان صحيحاً قد غلب على ظنه أنه لو استعمل الماء لخاف زيادة المرض، وأما ثناء الحسن على فعله، فكل ما يصيب الإنسان من نصب من جراء قيامه بالطاعات فهو له فيها أجر، على أن لا يتقصد العمل الشاق، إذا كان يمكنه أن يقوم بالعمل دون كلفة أو مشقة، لأن مقصود الشارع هو القيام بالعمل، وليس المقصود طلب المشقة، والله أعلم.(12/121)
وقد ثبت عن الحسن مسنداً خلاف هذا القول (1) .
وقيل: يباح التيمم للمريض بالجملة، واختلفوا في المريض الذي يباح له التيمم:
فقيل: يباح لكل مريض يجد أن في استعمال الماء حرجاً ومشقة، حتى ولو كان استعمال الماء لا يزيد في علته، ولا يؤخر البرء. وهذا منسوب إلى أهل الظاهر (2) .
وقيل: يباح التيمم إذا كان استعمال الماء يزيد في المرض أو يتسبب في تأخير البرء، وهو مذهب الجمهور (3) ، وأحد القولين في مذهب الشافعي (4) .
وقيل: لا يباح التيمم إلا إذا كان يخشى التلف لنفسه أو عضوه من استعمال الماء، أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس، أو العضو، أو فوات منفعة العضو، حكي هذا القول عن مالك (5) ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعية (6) ، ورواية عن أحمد (7) .
_________
(1) فقد روى ابن أبي شيبة (1/96) حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن والشعبي، أنهم قالوا: في الذي به الجرح والمحصوب والمجدور يتيمم. وإسناده صحيح.
(2) المحلى (1/346) مسألة: 224، المجموع (2/329) .
(3) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/147) ، المبسوط (1/112) .
وانظر في مذهب المالكية: الذخيرة للقرافي (1/339) ، مواهب الجليل (1/153) ، الفواكه الدواني (1/153) ، المنتقى للباجي (1/110) .
وانظر في مذهب الحنابلة: المبدع (1/208) ، الإنصاف (1/265) ، الكافي (1/65) .
(4) المجموع (2/320) .
(5) المنتقى للباجي (1/110) .
(6) المجموع (2/320) .
(7) الإنصاف (1/265) ،(12/122)
وألحق المالكية والحنابلة بالمريض الصحيح إذا خشي نزلة أو حمى (1) .
هذا ملخص الأقوال في المريض، رجعت إلى أربعة أقوال:
الأول: لا يتيمم المريض مع وجود الماء، ولا يصح التيمم إلا مع فقد الماء، وهذا سبق ذكر دليله والرد عليه.
الثاني: يتيمم المريض إذا كان في استعمال الماء حرج ومشقة، ولو لم يكن في استعمال الماء زيادة في المرض، أو تأخير للبرء.
الثالث: يتيمم إذا خاف زيادة المرض، أو تأخير البرء.
الرابع: لا يتيمم إلا أن يخاف التلف لنفسه، أو عضوه، أو فوات منفعة عضو من أعضائه.
دليل من قال: يكفي للتيمم وجود الحرج والمشقة، ولا يشترط الضرر.
استدل بقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} (2) ، فذكر الأعذار المبيحة للتيمم، ثم قال: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد
ليطهركم} (3) .
فوجود الحرج والمشقة زائداً عن المشقة المعتادة التي لا تنفك عن العبادة مع قيام المرض يبح له التيمم بنص الآية، لأن المقصد الشرعي من مشروعية
_________
(1) انظر في مذهب المالكية: الفواكه الدواني (1/153) ، المنتقى للباجي (1/110) ، مواهب الجليل (1/153) .
وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/265) .
(2) المائدة: 6.
(3) المائدة: 6.(12/123)
التيمم للمريض ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} فحرج: نكرة، في سياق النفي، فتعم نفي أي حرج ومشقة، ولم يوجد في الآية نص على اشتراط زيادة المرض باستعمال الماء، أو تأخير البرء، فهذان الشرطان زيادة على ما في الآية الكريمة، وإذا كنتم تشترطون الضرر باستعمال الماء، فإن وجود الحرج والمشقة نوع من الضرر المعتبر شرعاً، وإذا كنا نبيح للمريض الفطر إذا شق عليه الصيام بسبب المرض، ولا نشترط أن يكون الصيام سبباً في زيادة المرض أو تأخير العافية، فكذلك في التيمم.
وقد يجاب عن ذلك:
بأن الحرج والمشقة لا ضابط لهما، وأن الناس يتفاوتون في هذا، فمنهم من يرى أن مس الماء البارد في ليالي الشتاء الباردة فيه حرج ومشقة حتى ولو لم يكن مريضاً، ومنهم من لا يشعر بالمشقة الكبيرة خاصة إذا كان ذلك على سبيل القربة، فلا بد من ضابط يمكن طرده لجميع الناس، فلا يصح التيمم إلا مع خوف الضرر من استعمال الماء، أو زيادة المرض.
ويرد على ذلك:
بأن الناس كما هم متفاوتون في اعتبار الحرج والمشقة متفاوتون أيضاً في تقدير الضرر، والناس مؤتمنون على مثل ذلك، والخطأ في ذلك مغفور إذا عمل الإنسان بغلبة ظنه.
دليل من قال: يتيمم المريض إذا خاف زيادة المرض أو تأخر البرء.
يجب على الإنسان أن يحفظ بدنه من كل شيء يضره، وإذا أخبر طبيب حاذق بأن أكل المباح يلحق به ضرر في بدنه حرم عليه أكله، فكذلك الواجبات تسقط عن الإنسان إذا كان يترتب على القيام بها ضرر في بدنه أو(12/124)
في ماله، وزيادة المرض أو تأخير البرء لا شك أنه ضرر يلحق بالإنسان، فيجب عليه دفعه، وقد قال سبحانه وتعالى: {وإن كنتم مرضى} فأباح التيمم للمريض، ومعلوم أن المرض الذي لا يتأثر من استعمال الماء كالصداع ووجع الضرس هو والصحيح سواء في استعمال الماء، وبالتالي لا يباح له التيمم، كما أن اشتراط خوف التلف لم يذكر في الآية.
وإذا كان خوف التلف يبيح التيمم فكذلك خوف المرض؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور
وإذا كان كثير من الفقهاء يقولون: إذا زاد الماء على قدر قيمته لم يلزمه شراؤه صيانة للمال، في الوقت الذي يلزمونه بالتيمم ولو كان ذلك سبباً في زيادة المرض وتأخير البرء، أليس حفظ البدن أولى من حفظ المال؟ (1) .
دليل من قال: يشترط خوف التلف:
الدليل الأول:
من الكتاب قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة} (2) .
وقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (3) .
الدليل الثاني:
(1401-34) من السنة ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن ابن جبير،
_________
(1) انظر تفسير القرطبي (5/217) .
(2) البقرة: 195.
(3) النساء: 29.(12/125)
عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (1) ، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً.
[هذا الإسناد له علتان وسبق تخريجه] (2) .
الدليل الثاني:
(1402-35) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء،
عن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر
_________
(1) النساء: 29.
(2) انظر حديث رقم: 1379 من هذا الكتاب.(12/126)
أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده (1) .
[إسناده ضعيف، وزيادة ويعصر أو يعصب ثم يمسح عليها زيادة منكرة] (2) .
وجه الاستدلال من الحديثين:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أنكر على عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يصلي بأصحابه، وهو جنب، وحين ذكر له أنه خشي على نفسه الهلكة أقره عليه الصلاة والسلام، ومثله إنكاره ترك التيمم في الحال الذي يخشى على نفسه من الهلكة، فلا يتيمم الإنسان إلا في مثل هذه الحالة.
ويجاب:
نحن لا ننكر أنه إذا خاف على نفسه الهلكة أنه يشرع له التيمم، ولكن أين الدليل على أنه لا يشرع التيمم إلا في مثل هذه الحالة، وكما سبق وذكرنا إذا كان خوف التلف محذوراً، فكذلك خوف المرض وطول مدته محذور أيضاً، وليس في كتاب الله إلا اشتراط المرض.
الدليل الثاني:
إن فرض الوضوء متيقن، وزيادة المرض أو تأخير البرء غير متحققة، فلا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك فيه.
_________
(1) سنن أبي داود (336) .
(2) سبق تخريجه انظر رقم (171) من كتابي أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.(12/127)
ويجاب عن ذلك:
بأن مثل هذا القول قد يقال حتى في حال خوف التلف، فيقال: فرض الوضوء متيقن، وخوف التلف مشكوك فيه، ولا يترك اليقين للشك.
الراجح من الخلاف.
الذي أميل إليه هو ما اختاره ابن حزم، وأن المريض إذا كان يلحقه مشقة وحرج باستعمال الماء فإنه يشرع له التيمم ولو لم يترتب على استعمال الماء زيادة في مرضه أو في طول مدته، كما يقال للمريض الصائم إذا كان يشق عليه الصيام فله الفطر، ولا فرق، وهذا هو ما يحقق المقصود الشرعي من مشروعية التيمم، وهو نفي الحرج {ما يريد الله ليجعل عليكم من
حرج} (1) .
والمشاق في العبادة على قسمين:
الأول: مشقة لا تنفك عن العبادة، كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في نهار الصيف، والمخاطرة بالنفس بالجهاد، فمثل هذا لا يوجب تخفيفاً في العبادة؛ لأنها قررت معه.
الثاني: تنفك عن العبادة، وهي ثلاثة أنواع:
الأول: نوع في المرتبة العليا، كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع، فهذا يوجب التخفيف؛ لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة، فلو حصلنا هذه العبادة طلباً لثوابها لذهب أمثالها.
ونوع في المرتبة الدنيا: كأذى وجع في أصبع، فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة، لشرف العبادة وخسة هذه المشقة.
_________
(1) المائدة: 6.(12/128)
النوع الثالث: مشقة بين هذين النوعين، فما قرب من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجب، وما توسط يختلف فيه لتجاذب الطرفين له (1) ، فإذا وجدت مشقة في تحصيل القيام في الصلاة، وكان إدراك القيام سبباً في التأثير على الخشوع سقط القيام، وإن كان يمكنه أن يفعل، ولكن مع المشقة العظيمة، وإذا كان يشق على المريض الصيام بسبب المرض، ويجد من ذلك حرجاً ومشقة أبيح له الفطر، ولو كان يمكنه أن يقوم بالصيام ولكن مع المشقة الكبيرة، وهكذا نقول في التيمم، إذا كان يلحقه باستعمال الماء مشقة كبيرة، أبيح له التيمم بصرف النظر هل التيمم يزيد في مرضه أو يؤخر في برئه، والله أعلم.
فإن قيل: ما ضابط المشقة المؤثرة في التخفيف من غيرها؟
ذكر القرافي في الذخيرة ما معناه: إذا سألنا الفقهاء عن ذلك، قالوا: يرجع إلى العرف، فيحيلون على غيرهم، ويقولون: لا نحد ذلك، فلم يبق بعد الفقهاء إلا العوام، والعوام لا يصح تقليدهم في الدين.
جوابه: هذا السؤال له وقع عند المحققين، وإن كان سهلاً في بادي الرأي، ونحن نقول: ما لم يرد الشرع بتحديده يتعين تقريبه بقواعد الشرع؛ لأن التقريب خير من التعطيل لما اعتبره الشرع، فنقول: على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال، ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة أو أعلى، جعله مسقطاً، وإن كان أدنى لم يجعله، مثاله: التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بحديث كعب
_________
(1) الذخيرة للقرافي (1/340) .(12/129)
ابن عجرة، فأي مرض آذى مثله أو أعلى منه أباح، وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص، فيعتبر به غيره من المشاق، والعبادات مشتملة على مصالح المعاد، فلا يليق تفويتها بمسمى المشقة، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجرك على قدر نصبك، فيحرص العبد على العبادة مع المشقة المحتملة، وإذا كانت المشقة كبيرة غير محتملة إلا بجهد ونصب؛ فإنه حينئذ له أن يترخص برخص الله سبحانه وتعالى، وإذا ترك العمل لعذر كتب له ما كان يعمل صحيحاً كما جاء في الحديث الصحيح، والله أعلم.(12/130)
المبحث الثاني:
في تيمم الصحيح إذا كان يحتاج الماء لشرب ونحوه
الرجل إذا كان معه ماء، ويحتاج إليه لشرب ونحوه، كأن يخاف على نفسه العطش، أو يخاف على رفيقه، أو على ذي حياة محترم من ذمي، أو مستأمن، أو دابة، فإنه يجب عليه التيمم، ويحرم عليه الوضوء.
وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة (1) ،
والثوري (2) ، وإسحاق (3) ، وحكى ابن المنذر الإجماع على هذا.
قال ابن المنذر: " أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا خشي على نفسه العطش، ومعه مقدار ما يتطهر به من الماء، أنه يبقي ماءه للشرب، ويتيمم " (4) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/114) ، أحكام القرآن للجصاص (2/554) ، شرح فتح القدير (1/134) ، الجوهرة النيرة (1/21) .
وفي مذهب المالكية، جاء في المدونة (1/46) : " قال مالك: من كان معه ماء، وهو يخاف العطش إن توضأ به، قال: يتيمم، ويبقي ماؤه ". وانظر القوانين الفقهية (ص: 29) .
وقال الشافعي في الأم (1/44) : " إذا وجد الجنب ماء يغسله، وهو يخاف العطش، فهو كمن لم يجد ماء". وانظر المجموع (2/281) .
وفي مذهب الحنابلة: انظر مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/128) ، ومسائل أحمد رواية ابن هانئ (67) ، المغني (1/165) ، كشاف القناع (1/163) ، شرح منتهى الإرادات (1/91) .
(2) الأوسط لابن المنذر (2/29) .
(3) المرجع السابق.
(4) الأوسط (2/28)(12/131)
ومستند هذا الإجماع قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (1) .
وقياساً على المريض، بجامع أن كلاً منهما خائف على نفسه.
وقال النووي: وأما إذا كان الحيوان غير محترم، كالحربي، والمرتد، والخنزير، والكلب، وسائر الفواسق الخمس المذكورة في الحديث، وما في معناها فلا يجوز صرف الماء إلى سقيها بالاتفاق، بل يجب الوضوء به، فإن سقاها وتيمم أثم" (2) .
فإن كانت المسألة بالاتفاق كما قال النووي فالحجة ما حكاه من قيام الاتفاق، وإن لم يكن هناك اتفاق ففي كلام النووي نظر،
(1403-36) فقد روى البخاري من طريق أبي صالح،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً، فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً. قال: في كل كبد رطبة أجر. ورواه مسلم أيضاً (3) .
فعموم: " في كل كبد رطبة أجر " يشمل كل ما استثناه النووي رحمه الله تعالى.
(1404-37) وروى البخاري من طريق عوف، عن الحسن وابن سيرين،
_________
(1) النساء: 29.
(2) المجموع (2/282) .
(3) البخاري (2363) ، ومسلم (2244) .(12/132)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنَزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك. ورواه مسلم بنحوه (1) .
وكون المرتد يجب قتله من قبل الحاكم هذا لا يوجب أبداً تركه يتعذب ويموت عطشاً، وربما رجع عن ردته قبل قتله، نعم في الحربي إذا خاف منه على نفسه أو على المسلمين إذا سقاه أن يتقوى على ذلك لا يجوز سقيه، دفعاً لضرره، وليس عقوبة له، وإن تمكن من قتله فهو أولى من تركه يموت عطشاً، وإن لم يخش على نفسه، ولا على المسلمين منه، وكان من بلد يتولى القتال فيها الجند، ولم يكن منهم لم يتركه يموت عطشاً، والله أعلم.
وذهب بعض المالكية بأن الكلب غير المأذون فيه والخنزير إن قدر على قتلهما وإلا ترك الماء لهما، ولا يعذبان بالعطش (2) . وهذا أقوى من كلام النووي رحمة الله عليهما جميعاً.
والمالكية يقسمون الخوف من العطش تقسيماً جيداً، فيذكرون أن خوف العطش: تارة يخاف منه، ولم يتلبس به، وتارة يكون متلبساً به،
فإن خاف العطش سواء كان الخوف متيقناً أو غلب على ظنه العطش، وخاف هلاكاً، أو أذى شديداً، فإنه يجب عليه التيمم، ويحبس الماء لدفع العطش.
_________
(1) البخاري (3331) ، ومسلم (2245) .
(2) انظر حاشية العدوي على شرح الكفاية (1/223) ، وقال الدسوقي في حاشيته (1/149) : " ومثلهما - يعني مثل الكلب غير المأذون فيه والخنزير - الجاني إذا ثبت عند الحاكم جنايته، وحكم بقتله قصاصاً فلا يدفع إليه الماء، ويتيمم صاحبه، بل يعجل بقتله، فإن عجز عنه دفع الماء له ".(12/133)
وإن غلب على ظنه أنه يلحقه أذى، وإن لم يكن شديداً، فإنه يجوز له التيمم، ولا يجب عليه.
وإن شك في ذلك فلا يتيمم، ومن باب أولى إن توهم ذلك.
وإن كان متلبساً بالعطش بالفعل، وخاف الضرر عليه فإنه يتيمم مطلقاً، تحقق الضرر أو ظنه أو شك فيه أو توهمه؛ لأن التلبس بالعطش مظنة الضرر (1) .
ويلحق بالخوف على نفسه من العطش، الخوف على نفسه من اللصوص، أو السباع إذا خرج إلى الماء، كما أنه لا فرق بين الخوف على نفسه، أو الخوف على غيره من رفيق ودابة ونحوهما.
قيل للإمام أحمد كما في مسائل ابن هانئ: " الرجل معه إداوة من ماء لوضوئه، فيرى قوماً عطاشاً، أحب إليك أن يسقيهم، ويتيمم، أو يتوضأ؟
قال: يسقيهم، ثم ذكر عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم تيمموا، وحبسوا الماء لسقياهم " (2) .
ونقل هذا ابن قدامة في المغني، وعارضه بقول أبي بكر والقاضي حيث قالا: لا يلزمه بذله؛ لأنه محتاج إليه.
فتعقبه ابن قدامة بقوله: " إن حرمة الآدمي تقدم على الصلاة، بدليل ما لو رأى حريقاً أو غريقاً في الصلاة عند ضيق وقتها لزمه ترك الصلاة، والخروج لإنقاذه، فلأن يقدمها على الطهارة بالماء أولى " (3) .
_________
(1) انظر حاشية العدوي على شرح الكافية (1/223) .
(2) مسائل ابن هانئ (67) .
(3) المغني (1/165) .(12/134)
وجاء في مسائل أبي داود: " قلت لأحمد: المرأة تكون في القرية، والماء عنده مجتمع الفساق، فتخاف أن تخرج، أتتيمم؟ قال: لا أدري " (1) .
ولعل الإمام أحمد رأى أن هذا الأمر قد يكون من المرأة من قبيل توهم الخوف الذي لا حقيقة له، وإلا فإن المرأة إذا خافت على عرضها حرم عليها الخروج؛ لأن المحافظة على العرض أولى من تحصيل الطهارة بالماء، وإذا كان يشرع له التيمم إذا خاف على ماله من اللصوص، فلأن يشرع له التيمم إذا خاف على عرضه من باب أولى فأولى.
كما جاء في مسائل أحمد رحمه الله: " قلت لأحمد: الذي يخاف أن يأتي الماء أيتيمم؟ قال: مم يخاف؟ قلت: من لا شيء، خاف هو بالليل. قال: رجل يخاف السبع؟ قلت: ليس سبع. فقال أحمد: لا بد من أن يتوضأ " (2) .
قلت: الخوف من الليل هو نوع من المرض، والمرض يبيح التيمم، ومقصود الشرع من مشروعية التيمم رفع الحرج، وتكليف هذا الرجل بالوضوء مع مرضه هذا يلحقه أذى نفسي شديد، فلا أرى حرجاً من تيمم هذا الرجل، وأكثر من يخاف من الليل أصحاب الأمراض النفسية المسمى في عصرنا بالاكتئاب، ويصيب كبار السن أكثر من غيرهم، فتجدهم يخافون من الظلمة، وإذا سألتهم مم يخافون؟ قالوا: لا ندري، نسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية.
_________
(1) مسائل أبي داود (121) .
(2) مسائل أحمد برواية أبي داود (122) .(12/135)
[صفحة فارغة](12/136)
المبحث الثالث:
في الماء يباع بأكثر من ثمنه هل يجب شراؤه أو يتيمم؟
إذا وجد الرجل الماء يباع، فإما أن يباع بأكثر من ثمنه، أو يباع بثمنه بدون زيادة،
فإن بيع بثمنه، وهو واجد للثمن، غير محتاج إليه لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (1) .
وقال النووي: يلزمه شراؤه بلا خلاف (2) .
وقيل: ليس عليه شراؤه لا بما قل ولا بما كثر، فإن اشتراه لم يجز الوضوء به، ولا الغسل، وفرضه التيمم، وله أن يشتريه للشرب إن لم يعطه بلا ثمن. وهو اختيار ابن حزم رحمه الله (3) .
(1405-38) واستدل ابن حزم رحمه الله بما رواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير،
عن جابر رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء (4) .
_________
(1) انظر: شرح العناية على الهداية (1/142) ، بدائع الصنائع (1/48-49) ، شرح فتح القدير لابن الهمام (1/142) ، المدونة (1/46) ، حاشية الدسوقي (1/53) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/188) ، منح الجليل (1/148) ، الخرشي (1/189) ، المجموع (2/293) ، الإنصاف (1/269) ، الكافي (1/66) ، كشاف القناع (1/165) .
(2) المجموع (2/292) .
(3) المحلى (1/360) مسألة: 241.
(4) صحيح مسلم (1565) .(12/137)
(1406-39) وبما رواه ابن ماجه من طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
وإنما جعل الشرع الناس شركاء في الماء، والكلأ والنار؛ لأنها أسباب الحياة: حياة الإنسان، وحياة الحيوان، وما كان سبباً في حياة الناس فلا يجوز احتكاره كالهواء.
وهذه المسألة: أعني بيع فضل الماء فيه خلاف بين الفقهاء، ومحل تحرير هذه المسألة في كتاب البيع، ويكفي الإشارة في ذلك إلى الأقوال الفقهية، وسوف تحرر هذه المسألة بإذن الله تعالى في مظانها من كتاب البيوع، بلغنا الله ذلك سريعاً بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، فأقول:
قال القرطبي في المفهم: " المسلمون مجمعون على أن الإنسان إذا أخذ الماء من النيل مثلاً فقد ملكه، وأن له بيعه، وأما ماء الأنهار والعيون وآبار الفيافي التي ليست بمملوكة فالاتفاق حاصل على أن ذلك لا يجوز منعه، ولا
_________
(1) سنن ابن ماجه (2473) .
(2) قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/81) : " هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، محمد بن عبد الله بن يزيد المقري أبو يحيى، وثقه النسائي، وابن أبي حاتم، ومسلمة الأندلسي، والخليلي، وغيرهم، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين ".
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1304) .
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/298) : رواه ابن ماجه بإسناد جيد.(12/138)
بيعه، ولا يشك في تناول أحاديث النهي لذلك، وأما فضل ماء في ملك فهذا هو محل الخلاف، فهل يجبر على بذل فضله، أو لا يجبر، وإذا أجبر فهل هو بالقيمة أم لا؟ وسبب الخلاف معارضة النهي عن بيع فضل الماء لأصل الملكية، وقياس الماء على الطعام إذا احتيج إليه ".
فالماء إذا كان نابعاً في أرض مباحة فهو مشترك بين الناس، وإن كان نابعاً في ملك رجل، فهل يجوز بيعه، أو لايجوز، فيه خلاف، والخلاف مبني على مسألة أخرى: هل يملك أو لا يملك؟
ومذهب الجمهور على أن الإنسان إذا حاز الماء من البئر واستخرجه منه فقد ملكه، وجاز له بيعه،
(1407-40) واستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه،
من حديث الزبير ابن العوام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن يأخذ أحدكم أحبلاً، فيأخذ حزمة من حطب، فيبيع، فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطي أم منع (1) .
فإذا أذن الشرع في بيع الحطب، مع أن الشرع جعل الناس شركاء في الكلأ، فيحمل ذلك على أن الأمر قبل احتطابه، فكذلك الماء، إذا استخرجه من البئر في الأرض المباحة جاز له بيعه، وإن كانت البئر في أرضه فهو أحق بالماء إذا كان محتاجاً إليه، وإن كان غير محتاج إليه وجب بذله، ولا يجوز بيعه، ما دام الماء نقعاً في البئر، والله أعلم (2) .
_________
(1) البخاري (2373) .
(2) القول الذي ذكرناه هو قول الجمهور، وأنه لا يجوز بيع الماء ما دام في البئر، مستدلين بعموم الأحاديث السابقة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الماء.
ولأن مياه الآبار في الأعم الأغلب متصلة بالمجرى العام للمياه، فهي تأتي إليه من غير أرضه إلى ملكه، فأشبه الماء الجاري في النهر يأتي إلى ملكه، فله حاجته منه، وما فضل يجب بذله، وهذا القول هو قول في مذهب الحنفية، ومذهب المالكية والحنابلة.
انظر بدائع الصنائع (6/188) ، الذخيرة (6/166) ، التمهيد (13/128) ، المغني لابن قدامة (4/71) ، الكافي في فقه أحمد (2/445) ، المبدع (5/253) ، المحرر (1/368) .
وذهب الشافعية إلى أنه يجوز له أن يمنع الناس منه ما دام أن الماء قد نبع في ملكه، انظر روضة الطالبين (5/310) ، المهذب (1/428) .
وقال النووي في شرح مسلم (1565) : واعلم أن المذهب الصحيح أن من نبع في ملكه صار مملوكاً له، وحملوا حديث جابر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء، إما على أن النهي للتنزيه، أو يحمل حديث جابر على حديث أبي هريرة في مسلم (1566) : " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ " فيكون معنى الحديث أن تكون لإنسان بئر مملوكة في أرض موات، لا مالك لها، وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه، فلا يمكن لأصحاب المواشي رعيه إلا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله لها بلا عوض؛ لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعي ذلك الكلأ خوفاً على مواشيهم من العطش، ويكون بمنعه الماء مانعاً من رعي الكلأ، وعليه قال الشافعي: يجب بذل الماء بالفلاة بشروط: الأول: أن لا يكون هناك ماء آخر يستغنى به. الثاني: أن يكون بذل الماء لحاجة الماشية، لا لسقي الزرع. الثالث: أن لا يكون مالكه محتاجاً إليه.
ومذهب الجمهور أصح، والله أعلم.(12/139)
هذا فيما يتعلق بالخلاف في جواز شراء الماء للوضوء، وأن الراجح مذهب الجمهور، وهو جواز شراء الماء للوضوء، وصحة بيع الماء إذا حازه الإنسان من الآبار ونحوها. وحتى لو صححنا مذهب ابن حزم رحمه الله في عدم جواز بيع الماء للتيمم، فإن الإنسان إذا منع حقه، فاشتراه فإن له أن يتوضأ به، والإثم على من منع بذله إلا بالمال، مثله مثل ما إذا احتاج إلى كلب صيد، ولم يبذل له إلا بالمال فإن له أن يشتريه، والإثم على من منعه بذل هذا الكلب إلا بالبيع.(12/140)
هذا فيما يتعلق بالخلاف فيما إذا وجد الماء يباع من غير زيادة في ثمنه.
وإن وجد الرجل الماء يباع بأكثر من ثمنه، فهل يجب عليه شراؤه، أو يتيمم؟
اختلف أهل العلم في هذا.
فقيل: يلزمه الشراء، ولو كان بجميع ماله، ذهب إلى هذا الحسن البصري رحمه الله تعالى (1) .
وقيل: إذا زاد ثمن الماء عن قيمته، فإن كان الغبن يسيراً، وجب عليه شراؤه، وإن كان فاحشاً فله أن يتيمم، وهذا هو مذهب الحنفية (2) ، والحنابلة (3) .
ونظر المالكية إلى اعتبار المشتري، فقالوا: إن كان قليل الدراهم تيمم، أي حتى ولو عرض الماء بثمن المثل، وإن كان يقدر على الشراء فليشتره ما لم يرفعوا عليه في الثمن (4) .
_________
(1) ذكر هذا مذهباً للحسن البصري رحمه الله كل من صاحب المجموع (2/293) ، وبدائع الصنائع (1/48) ،.
(2) واختلف الحنفية في تفسير الفاحش، ففي النوادر: جعله في تضعيف الثمن، وقال بعضهم: هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين. انظر شرح العناية على الهداية (1/142) ، بدائع الصنائع (1/48-49) ، شرح فتح القدير لابن الهمام (1/142) .
(3) قال في الإنصاف (1/269) : " يباح له التيمم إذا وجد الماء يباع بزيادة كثيرة على ثمن مثله، هذا المذهب. ثم قال: ومفهو قوله: " إلا بزيادة كثيرة، أن الزيادة لو كانت يسيرة يلزمه شراؤه، وهو الصحيح، وهذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب".اهـ وانظر شرح منتهى الإرادات (1/92) .
(4) جاء في المدونة (1/46) : " وسألت مالكاً عن الجنب لا يجد الماء إلا بثمن؟ قال: إن كان قليل الدراهم، رأيت أن يتيمم، وإن كان موسعاً عليه يقدر، رأيت أن يشتري ما لم يكثر عليه في الثمن، فإن رفعوا في الثمن يتيمم ويصلي ". اهـ
واختلف المالكية في المقدار الذي إذا رفع امتنع من الشراء، فقيل: إذا زيد عليه أكثر من الثلث، لم يلزمه، وإن كانت الزيادة من الثلث فأقل لزمه شراؤه، اختاره عبد الحق من المالكية.
وقال اللخمي: محل الخلاف إذا كان الثمن له بال، أما لو كان بمحل لا بال لثمن ما يتوضأ به فيه، كما لو كان ثمنه فلساً فإنه يلزمه شراؤه، ولو زيد عليه في الثمن مثل ثلثيه اتفاقاً. انظر حاشية الدسوقي (1/53) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/188) ، منح الجليل (1/148) ، الخرشي (1/189) . كما نص المالكية بأنه إذا كان الرجل ملياً في بلده، فعليه أن يشتري المال ولو بذمته، إن وجد من يقرضه.(12/141)
وقيل: لا يلزمه الشراء إذا زاد عن ثمن المثل، ولو كان يسيراً، وهذا مذهب الشافعية (1) ، وهو وجه في مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: إن كان ذا مال كثير، ولا تجحف به الزيادة لزمه الشراء، ولو كانت الزيادة كثيرة، وهو قول في مذهب الحنابلة (3) .
دليل الحسن على وجوب شراء الماء ولو بماله كله.
هذا القول انفرد به الحسن عن بقية العلماء، ولعل دليله، أن الله سبحانه وتعالى شرط للتيمم عدم وجود الماء بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء
_________
(1) قال النووي في المجموع (2/293) : قال أصحابنا: " سواء كثرت الزيادة عن ثمن المثل أو قلت، لا يلزمه الشراء، هذا هو الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور في كل الطرق، ونص عليه الشافعي رحمه الله في الأم. وفيه وجه آخر أنه يجب شراؤه بزيادة يتغابن الناس بها، وبه قطع البغوي، وحكاه المتولي عن القاضي حسين بعد حكايته عن الأصحاب أنه لا فرق، وانظر: المنثور في القواعد (2/183) ، البحر المحيط (2/35) .
(2) الإنصاف (1/269)
(3) قال في الإنصاف (1/269) : " وعنه إن كان ذا مال كثير لا تجحف به زيادة لزمه الشراء ". الخ كلامه رحمه الله.(12/142)
فتيمموا} (1) ، وهذا واجد للماء، ثم إن المال إذا ذهب لتحصيل شرط الصلاة لم يكن مبذراً ولا مسرفاً؛ وذلك لأنه صرفه في أعظم الأعمال بعد الشهادتين، وهو الصلاة.
دليل الجمهور على أن الزيادة إذا كانت فاحشة تيمم:
الدليل الأول:
دلت النصوص القطعية على حرمة مال المسلم، وأن حرمة ماله كحرمة نفسه، والضرر في النفس مسقط، فكذلك الضرر في المال (2) .
الدليل الثاني:
أن التفريق بين الغبن اليسير والغبن الفاحش مقرر في الشرع، وأن الناس قد يقع بينهم مثل ذلك في معاملاتهم، ولا يعدون ذلك موجباً لفسخ البيع، فالمصير إليه متعين في وجوب شراء الماء.
والعجب أن الشافعية يوجبون التيمم، ولو كان ذلك يلحق بالبدن ضرراً كبيراً من زيادة في المرض أو تأخير في البرء، ولا يجيزون التيمم إلا مع خوف تلف النفس أو العضو، مع أن زيادة المرض نوع من الضرر يلحق بالبدن، ويجيزون التيمم إذا لحق المال ضرر يسير، مع أن الأولى مراعاة البدن على مراعاة المال.
دليل المالكية على اعتبار الثلث.
المالكية يجعلون الزيادة على الثلث في كثير من الأمور فرقاً بين القليل
_________
(1) المائدة: 6.
(2) انظر العناية شرح الهداية (1/142) .(12/143)
والكثير، ويستدلون بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه،
(1408-41) فقد روى البخاري من طريق عامر بن سعد،
عن سعد، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني، وأنا مريض بمكة، فقلت: لي مال، أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس... الحديث، والحديث رواه مسلم (1) .
ومع أن هناك فرقاً كبيراً بين أن يستثني الإنسان من ماله مقدار الثلث، وبين أن يأخذ الأجنبي من ماله الثلث فأكثر، كما أن هذا قيل في باب الوصية، فسحب هذا الحكم على كل شيء في أبواب الفقه، في العبادات والمعاوضات، فيجعل ما زاد على الثلث كثير في كل شيء فيه تكلف، وفيه قياس أمور على أخرى دون أن يكون هناك علة جامعة.
دليل من قال: يلزمه الشراء إذا كان ذا مال ولا تجحف به الزيادة:
أن الله سبحانه وتعالى شرع التيمم بشرط المرض، أو عدم الماء، فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} إلى قوله سبحانه: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (2) ، فكان المعتبر إما عدم الماء، أو دفع الضرر كما لو كان مريضاً، وإذا كان المعتبر مع وجود الماء هو دفع الضرر، فإن صاحب المال الكثير لن يضره بذل الماء، ولو زاد على ثمنه كثيراً، وبالتالي لا يشرع له التيمم، ما دام أن الضرر أو عدم الماء غير موجود، والله أعلم.
_________
(1) البخاري (5354) ، ومسلم (1628) .
(2) المائدة: 6.(12/144)
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض الأقوال، وحجة كل قول نجد أن أضعف الأقوال هو قول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى، وهو وجوب بذل المال كله في شراء الماء، حتى ولو كان ذلك يلحق الضرر به.
كما أن مذهب الشافعية الذي يعتبرون أدنى زيادة في قيمة الماء تجيز للإنسان أن يتيمم، ولو كان ذا مال كثير، هو قول ضعيف أيضاً.
بقي قول الجمهور بأن الغبن إذا كان فاحشاً فإن له أن يتيمم، وقول من قال: يشتريه ولو كان الغبن فاحشاً إذا كان ذا مال، وكانت الزيادة لا تضره، فهذا القولان لهما حظ من النظر، وأجد نفسي تميل إلى اعتبار الضرر بقيمة الماء، فإن كانت قيمة المال تضره لم يجب عليه الشراء، ولو كان الماء بثمن المثل، وإن كانت لا تضره فإنه يجب عليه الشراء، والله أعلم.(12/145)
[صفحة فارغة](12/146)
المبحث الرابع:
إذا وهب للرجل الماء فهل يجب قبوله؟
إذا وهب للرجل ماء ليتوضأ به، فهل يلزمه قبوله؟ .
قيل: يلزمه، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والصحيح المنصوص في مذهب الشافعية (3) ، وأصح الوجهين في مذهب الحنابلة (4) ، وهو اختيار ابن حزم (5) .
وقيل: لا يلزمه، اختاره بعض المالكية (6) ، حكاه بعضهم وجهاً في مذهب الشافعية (7) .
ومن أجاز رأى أن بذل الماء بين الناس ليس فيه منة، فأوجب قبول الهبة.
_________
(1) شرح فتح القدير (1/135) ، الجوهرة النيرة (1/26) .
(2) التاج والإكليل (1/343) ، الذخيرة للقرافي (1/344) أنواع البروق في أنواع الفروق (3/21-22) .
(3) قال النووي في المجموع (2/291) : " إذا وهب له الماء لزمه قبوله، هذا هو الصحيح المنصوص، وبه قطع الأصحاب في الطرق". وانظر منهاج الطالبين (ص: 6) ، الإقناع للشربيني (1/79) ، قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/15) ، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/93) .
(4) المبدع (1/212) ،
(5) المحلى (1/360)
(6) الذخيرة للقرافي (1/344) .
(7) قال النووي في المجموع (2/291) : " حكى صاحب التتمة والبيان وجهاً أنه
لا يلزمه قبوله، كما لا يلزمه قبول الرقبة للكفارة، وهذا ليس بشيء ". اهـ(12/147)
ومن منع رأى أن ذلك لا يسلم من منة، والمنة نوع من الحرج والأذى، وقد قال سبحانه وتعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (1) .
والحقيقة أن المنة لها تعلق بالآخذ وبالدافع، فإن كان يعرف من حال الدافع أنه يتبع هبته المن والأذى، لم يلزمه قبوله، فإن بعض الناس قد يمن بالشيء الحقير، وبعض الناس قد يرى أن أخذك لهديته نوع من الإحسان عليه، كما قال الشاعر:
يا ذا الذي يعطي الكثير وعنده... أني عليه بأخذه أتصدق
كما أن بعض الناس لم يتعود أن يسأل الناس شيئاً، حتى ولو لم يكن في ذلك منة من الدافع، فقد تعود أن تكون يده دائماً عليا، واليد العليا خير من اليد السفلى.
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس على ألا يسألوا الناس شيئاً، كما في صحيح مسلم، قال الراوي: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه (2) .
ثم هناك فرق بين أن يعطى الماء دون مسألة، وبين أن يسأل الناس الماء، ففي الأول أقل مِنَّة من الثاني.
وإذا غلب على ظنه أن يمنعه، أو يمن عليه ينبغي أن يقال: لا يجب عليه السؤال حتى على مذهب الجمهور القائلين بأنه إذا وهب له وجب عليه قبوله.
جاء في النوادر والزيادات: " وإنما على المسافر أن يطلب الماء ممن يليه، أو ممن يرجو أن يعطيه، وليس عليه أن يطلب أربعين رجلاً " (3) .
_________
(1) الحج: 78.
(2) صحيح مسلم (1043) .
(3) النوادر (1/112) .(12/148)
فقوله: " ممن يرجو أن يعطيه " دليل على أنه إذا غلب على ظنه أن لا يبذل له الماء لم يجب عليه السؤال.
وقال الغزالي في الوسيط: " وهل يجب عليه الابتداء بسؤال هذه الأمور؟ فيه وجهان: لأن السؤال أصعب على ذوي المرواءت، وإن هان قدر المسؤول" (1) .
وأما إذا وهب له ثمنه، فقد قال النووي: لم يلزمه قبوله بالاتفاق، ونقل إمام الحرمين الإجماع فيه (2) .
وينبغي أن يقيد ذلك بأن لا يكون الواهب ابناً أو أباً؛ وذلك لأنه لا منة من الأب على ابنه، فإن الأب هو سبب وجود الابن، فالمنة له قائمة على ولده، أخذ منه ثمن الماء أو لم يأخذ، كما أن الولد لا يمن على أبيه إذا أعطاه ثمن الماء، وذلك لأن الأب إذا احتاج إلى مال ولده فله أن يأخذ قدر كفايته منه، والله أعلم.
_________
(1) الوسيط (1/364) .
(2) المجموع (2/291) .(12/149)
[صفحة فارغة](12/150)
الفصل الثالث:
في التيمم خوفاً من فوات العبادة
ذكرنا فيما سبق سببين من أسباب التيمم، وهو فقد الماء، والثاني: التعذر عن استعماله، وسوف نتناول في هذا الفصل بحثاً آخر، وهو في الرجل بين يديه الماء، إن توضأ به فاتته العبادة، أو فاته وقت أدائها، فهل يتيمم ليدرك العبادة، أو يتوضأ، والمسائل التي يتكلم عليها الفقهاء في مثل هذه المسألة ثلاث:
الأولى: إذا خشي خروج وقت الفريضة.
الثانية: إذا خاف فوت صلاة العيد أو صلاة الجنازة.
الثالثة: إذا خاف فوت الجمعة.(12/151)
[صفحة فارغة](12/152)
المبحث الأول:
إذ خاف خروج وقت الفريضة
إذا خشي خروج الوقت لو توضأ، فهل يتيمم ليدرك الوقت، أو يتوضأ ولو صلى خارج الوقت، في هذه المسألة وقع نزاع بين أهل العلم،
فقيل: يتيمم، ويصلي بالوقت، وهو المشهور من مذهب مالك (1) .
_________
(1) قال في مواهب الجليل (1/329) : " الحاضر الصحيح إنما يتيمم للجنازة المتعينة كما تقدم، وللفرائض الخمس غير الجمعة كما نبه على ذلك على المشهور ". وانظر الخرشي (1/185) ، وذكر الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/1/183) قولين:
الأول: أنه يتيمم، قال: وهو القول الذي رواه الأبهري، واختاره التونسي، وصوبه ابن يونس، وشهره ابن الحاجب، وأقامه اللخمي وعياض من المدونة.
الثاني: يستعمل الماء، ولو خرج الوقت، وهو الذي حكى عبد الحق عن بعض الشيوخ الاتفاق عليه، ولكن المعول عليه الأول؛ فلذا اقتصر عليه المصنف.
والذي تجمع لي أن في مذهب المالكية أقوالاً كثيرة لكن القولان السابقان هما أشهر الأقوال وهما الذي سوف نقتصر عليهما في المتن:
الأول: أنه يتيمم، ولا يعيد كما سبق أن نقلته عن الشرح الصغير وعن مواهب الجليل.
الثاني: أنه يتيمم، ويعيد.
الثالث: أنه يتيمم، ويعيد إن كان في الحضر، ولا يعيد إن كان مسافراً.
الرابع: أنه يتوضأ، ولو خرج الوقت، وسبقت الإشارة إليه من كلام الصاوي على الشرح الصغير.
الخامس: التفريق بين أن يكون الماء في البئر يحتاج إلى نزح، فيتيمم، وبين أن يكون الماء بين يديه، لكن يخشى إن استعمله أن يخرج الوقت، فإنه يتوضأ، ولو خرج الوقت.
جاء في النوادر والزيادات (1/110) : " ومن العتبية روى عيسى، عن ابن القاسم، في الحضري يخاف طلوع الشمس إن استقى الماء، فليتيمم. وقال: لا يتيمم. وقال في موضع آخر: قال مالك: يتيمم ويعيد الوضوء ".اهـ فهذه ثلاثة أقوال.
ويراجع هذا الكتاب لزاماً فقد ذكر نصوصاً كثيرة في مذهب المالكية، يضيق شرط الكتاب عن تتبعها ونقلها.
وجاء في المدونة (1/44) : " سألنا مالكاً عن المسافر يأتي البئر في آخر الوقت، فهو يخاف إن نزل ينزع بالرشا، ويتوضأ، يذهب وقت تلك الصلاة؟ قال: فليتيمم، وليصل. فقلت لابن القاسم: أفيعيد الصلاة بعد ذلك إذا توضأ في قول مالك؟ قال: لا. قلت: فإن كان هذا الرجل في حضر، أتراه في قول مالك بهذه المنزلة في التيمم؟ قال: نعم. قال ابن القاسم: وقد كان مرة من قوله في الحضري أنه يعيد إذا توضأ ". اهـ فهنا حسب نص المدونة أنه يتيمم، وفي الإعادة قولان: أنه لا يعيد مطلقاً، وقول آخر: بأن الحضري يعيد دون المسافر.
وهناك من المالكية من يفرق بين أن يكون الماء بالبئر يحتاج إلى نزع بالرشا، وبين أن يكون الماء بين يديه، لكن إن استعمله خرج الوقت،
فقال ابن شاس: يستعمله عند المغاربة؛ لأنه واجد.
وقال أبو محمد القاضي: أنه يتيمم، وحكاه الأبهري رواية.
قال عبد الحق في النكت: والفرق بين النزع من البئر والاستعمال، أن المستعمل واجد، والنازح فاقد، وإنما هو يتسبب ليجد.
قال ابن يونس: ولا فرق عندي بين تشاغله باستعماله أو باستخراجه من البئر، فإن المقصود الصلاة في الوقت، وكذلك قال ابن القصار والقاضي عبد الوهاب. انظر الذخيرة للقرافي (1/337) ، ومواهب الجليل (1/329) ،(12/153)
وقيل: بالتفريق بين النائم والناسي وبين غيرهما، فإن كان نائماً، فاستيقظ من نومه، أو ناسياً فتذكر في آخر الوقت، فرأى إن اشتغل بتحصيل الطهارة بالماء خرج الوقت، وإن تيمم أدرك الوقت، أنه يتوضأ، وإن خرج الوقت، وإن لم يكن نائماً ولا ناسياً، فإنه يتيمم لإدراك الوقت، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله تعالى (1) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/469) ، الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/178) .(12/154)
وقيل: يتوضأ، ولو صلى خارج الوقت، اختاره المغاربة من المالكية (1) ، وهذا مذهب الحنفية (2) ، والحنابلة (3) .
دليل من قال: يتيمم ويصلي.
الدليل الأول:
قالوا: إن التيمم إنما شرع للحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت، ولولا مراعاة الشارع لهذه المصلحة لقيل: ينتظر إلى حين وجود الماء، فيصليها بالماء، فمشروعية التيمم دليل على اهتمام الشارع بالوقت، وأن المحافظة على الوقت بالتيمم، أولى من المحافظة على الطهارة المائية خارج الوقت.
والدليل على عناية الشارع بالوقت أنه لم يجعل قتال العدو مبيحاً لتأخير
_________
(1) الذخيرة للقرافي (1/337) ، الشرح الصغير (1/183) .
(2) بدائع الصنائع (1/51) ، البحر الرائق (1/167) ، الدر المختار (1/246) ، فالحنفية يقسمون العبادات إلى ثلاثة أقسام:
الأول: نوع لا يخشى فواتها أصلاً لعدم توقيتها، كالنفل المطلق فهذا لا يصليها إلا مع وجود الماء.
الثاني: نوع يخشى فواتها، وليس لها بدل عندهم، كصلاة الجنازة وصلاة العيد، فهذه يتيمم لها إذا خشي فواتها.
الثالث: نوع يخشى فواتها، وتقضى بعد وقتها كالفرائض، أو يصلى بدلها كالجمعة إذا فاتت صلاها ظهراً، فهذه لا يتيمم لها، وإن خرج الوقت، بل ينتقل إلى بدلها، أو يقضيها.
(3) قال عبد الله بن أحمد في مسائله (1/135) : " سألت أبي عن رجل في مصر من الأمصار، فخاف إن هو ذهب يجئ بالماء ليتوضأ، أن تطلع عليه الشمس، يتيمم؟ قال:
لا يكون هذا في مصر من الأمصار، إنما يتيمم في السفر، أو غير واجد للماء ". اهـ وانظر الإنصاف (1/303) ، المستوعب (1/281-882) ، المحرر (1/23) ،(12/155)
الصلاة عن وقتها، قال تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} (1) .
فرخص الله لعبيده في الصلاة حال الخوف رجالاً على الأقدام، أو ركباناً على الخيل والإبل ونحوهما، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه، وجوز ترك بعض الشروط كاستقبال القبلة، بل ومن الاكتفاء بالإيماء عن الركوع والسجود كل ذلك من أجل المحافظة على الوقت، مع أنه يمكنه أن يصلي خارج الوقت مع قيامه بشروط العبادة وأركانها، فالوقت أولى بالمراعاة من الطهارة المائية، والله أعلم.
الدليل الثاني:
القياس على المسافر، وذلك أن المسافر إذا علم أنه لا يجد الماء إلا بعد خروج الوقت كان فرضاً عليه أن يصلي بالتيمم باتفاق الأئمة، وليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها حتى يصل إلى الماء، بل إذا فعل ذلك كان عاصياً بالاتفاق (2) ، فكذلك الحال هنا، يجب عليه أن يؤدي الصلاة بالتيمم، ولا يخرج العبادة عن وقتها طلباً للطهارة المائية.
الدليل الثالث:
(1409-42) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري،
_________
(1) البقرة: 239.
(2) مجموع الفتاوى (21/472) .(12/156)
فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما خشي فوات الرد على الرجل إن هو توضأ لرد السلام، تيمم في الحضر مع وجود الماء من أجل إدراك الرد على الرجل على طهارة، فكذلك إذا خشي فوات وقت الفريضة تيمم لإدراك الوقت، وإن كان الماء موجوداً.
دليل من قال: يتوضأ، ولا يتيمم.
(1410-42) ما رواه أبو ذر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك لهو خير (2) .
[حديث حسن] (3) .
فقوله: " فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " مطلق، سواء خاف خروج الوقت أو لا، فالله سبحانه وتعالى إنما أجاز التيمم بشرطين: فقد الماء، أو العجز عن استعماله لمرض ونحوه، أما مع وجود الماء، والقدرة على استعماله فإنه يجب عليه استعماله، ولو خرج الوقت؛ وخروج الوقت معذور فيه؛ لأنه مشتغل بتحصيل شرط العبادة.
_________
(1) البخاري (337) ، ومسلم (369) .
(2) مصنف عبد الرزاق (913) .
(3) سبق تخريجه، انظر رقم (39) من كتاب أحكام المياه.(12/157)
ويجاب:
بأن من المسافر إذا علم أنه يدرك الماء بعد خروج الوقت لم يجز له تأخير الصلاة، ووجب عليه التيمم، ولم يكن اشتغاله بتحصيل شرط العبادة عذراً له في ترك التيمم، بل وجب عليه التيمم، فتبين أن هذا التعليل ليس بجيد.
دليل ابن تيمية على التفريق بين النائم والناسي وبين غيرهما:
قال: إن الوقت في حق النائم من حين الاستيقاظ، فلا تفوته الصلاة،
(1411-43) وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى.
الحديث قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة (1) .
فإذا كان النوم ليس فيه تفريط، وقد أمر النائم بإيقاع الصلاة إذا قام من النوم، فهذا هو وقتها بالنسبة إليه، لا فرق بين كون الصلاة في الوقت أو خارج الوقت.
الراجح:
بعد استعراض الأقوال، نجد أن مذهب الحنابلة والشافعية أضعف الأقوال القائلين بتقديم الطهارة على تحصيل الوقت، ويبقى الترجيح بين قول المالكية وبين اختيار ابن تيمية، وذلك في التفريق بين النائم وغيره، وهو محل اجتهاد لم يتبين لي الراجح فيه، وإن كنت أميل ميلاً طفيفاً إلى رأي المالكية، والله أعلم.
_________
(1) مسلم (681) .(12/158)
المبحث الثاني:
إذا خاف فوت صلاة الجنازة والعيد، فهل يتيمم؟
اختلف أهل العلم في الرجل يخشى فوات صلاة الجنازة وصلاة العيد، هل يتيمم؟.
فقيل: يتيمم ويصلي، وهذا مذهب الحنفية (1) ، ورواية عن أحمد (2) ، اختارها ابن تيمية (3) .
وقيل: لا يتيمم في الحضر لصلاة جنازة إلا إن تعينت عليه، ويتيمم لها المسافر والمريض مطلقاً تعينت عليه أم لا، وهذا مذهب المالكية (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/51) ، شرح فتح القدير (1/138) ، البحر الرائق (1/165) .
والعجب أن الحنفية رحمهم الله يجيزون التيمم لخوف فوت الجنازة مع أن الصلاة على الجنازة ليست واجبة، ومع أنه يمكن له أن يصلي على القبر، ولا يجيزون التيمم لخروج وقت الصلاة، مع أن إدراكه واجب، بل هو آكد شروط الصلاة على الإطلاق.
(2) الروايتين والوجهين (1/94) المستوعب (1/282) .
(3) الاختيارات (ص: 20) ، الفتاوى الكبرى (5/309) .
(4) المدونة (1/47) ، الإشراف (1/171) ، قال في مواهب الجليل (1/328) : " يعني: أن الحاضر الذي ليس بمسافر، وهو صحيح إنما يتيمم للجنازة إذا تعينت: بأن لا يوجد متوضئ يصلي عليها، ولا يمكن تأخيرها حتى يحصل الماء، أو يصل إليه..... ثم ذكر وإن لم تتعين: فيتيمم لها المسافر كما تقدم عن المدونة وكذا المريض، قال في التوضيح؛ لأن المريض يتيمم لما هو أدون منها.. ". وانظر الفواكه الدواني (1/153) ، حاشية الدسوقي (1/149) ، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/184) .
وهذا الكلام مشى عليه المتأخرون من فقهاء المالكية، ويذهبون إلى أن الحاضر الصحيح لا يتيمم للصلوات التالية:
1- صلاة الجمعة.
2 - صلاة الجنازة إذا لم تتعين بأن وجد من يصلي عليها من المتوضئين.
3- السنن والنوافل، فلا يتيمم لها استقلالاً، ويجوز أن يصليها متصلة بالفريضة.
4- دخول المسجد، فلا يتيمم الحاضر الصحيح لدخول المسجد للصلاة أو للجلوس إلا أن يضطر إلى المبيت فيه، أو كان الماء بداخل المسجد، ولم يجد من يناوله إياه. انظر ما تقدم من المراجع، وهذا كله مخالف لظاهر الموطأ (1/55) فقد ذكر مالك جملة من الأحكام تدل على أنه لا فرق بين الوضوء والتيمم، ومن ذلك قول مالك: " من قام إلى الصلاة، فلم يجد ماء، فعمل بما أمره الله به من التيمم، فقد أطاع الله، وليس الذي وجد ماء بأطهر منه، ولا أتم صلاة... وقال أيضاً في الرجل الجنب: إنه يتيمم ويقرأ حزبه من القرآن، ويتنفل، ما لم يجد ماء ".(12/159)
وقيل: لا يتيمم مطلقاً للجنازة والعيد، وهذا مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
_________
(1) قال الشافعي كما في مختصر المزني (ص: 100) : " ولا يتيمم صحيح في مصر لمكتوبة ولا لجنازة، ولو جاز ما قال غيري: يتيمم للجنازة لخوف الفوت لزمه ذلك لفوت الجمعة والمكتوبة، فإذا لم يجز عنده لفوت الأوكد كان من يجوز فيما دونه أبعد، وروي عن ابن عمر أنه كان لا يصلي على جنازة إلا متوضئاً ". اهـ وانظر كتاب الأم أيضاً (1/52، 232) ، والمجموع (2/280) ، نهاية المحتاج (1/309) .
(2) قال القاضي أبو يعلى في كتاب المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/94) : " واختلفت في الجنازة إذا حضرت، وخاف إن توضأ فاتته الصلاة عليها، هل يجوز له التيمم؟ على روايتين، نقلهما المروذي: إحداهما: لا يجوز، وهو أصح؛ لأن كل صلاة لم يجز التيمم لها إذا لم يخف فوتها لا يجوز وإن خاف فوتها، دليله صلاة الجمعة، وعكسه إذا عدم الماء.
والثانية: يجوز؛ لأنه لما لم يصل إلى أداء فرضه باستعمال الماء جاز له أن يتيمم، دليله العادم للماء، وهذا التعليل لا يخرج على المذهب؛ لأن صلاة الجنازة لا تفوت عندنا".اهـ وانظر: المستوعب (1/282) ، والمغني (1/166) ، رؤوس المسائل الخلافية لأبي المواهب العكبري (1/82) .
وقال في الإنصاف (1/304) : " ظاهر كلام المصنف أن صلاة العيد لا تصلى بالتيمم مع وجود الماء خوفاً من فواتها قولاً واحداً، وهو الصحيح عند أكثر الأصحاب، قال ابن تميم: وألحق عبد العزيز صلاة العيد بصلاة الجنازة، وقطع غيره بعدم التيمم فيها، وقال في الرعايتين: وفي صلاة الجنازة، وقيل: والعيد إذا خاف الفوت: روايتان... ".(12/160)
وقيل: يصلي عليها من غير وضوء ولا تيمم، وهو قول الشعبي (1) ، ومحمد بن جرير الطبري (2) .
دليل من قال: يتيمم لفوت الجنازة.
الدليل الأول:
(1412-44) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عمر بن أيوب الموصلي، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء،
عن ابن عباس، قال: إذا خفت أن تفوتك الجنازة، وأنت على غير وضوء، فتيمم، وصل (3) .
[المحفوظ وقفه على عطاء، وأنكر أحمد وابن معين والبيهقي إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنه] (4) .
_________
(1) الاستذكار (3/42) ، المغني (1/166) ، المجموع (5/181) .
(2) المجموع (5/181) ، فتح الباري (3/192) ، عمدة القارئ (2/245) .
(3) المصنف (2/497) رقم 11467.
(4) والأثر رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/86) من طريق يحيى بن حسان، ثنا عمر بن أيوب به.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/70) ، والبيهقي في الخلافيات (855) من طريق المعافى ابن عمران، عن مغيرة بن زياد به.
واختلف على عطاء:
فرواه مغيرة بن زياد، وهو صدوق له أوهام، عن عطاء، عن ابن عباس موقوفاً عليه، وضعفه الحافظ في الفتح (3/191) .
وخالفه من هو أوثق منه، خالفه ابن جريج، وهو من أصحاب عطاء الملازمين له، فأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/498) رقم 11471، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/86) من طريق ابن جريج، عن عطاء من قوله. وإسناده صحيح، وصححه الحافظ في الفتح.
وقد روى ابن أبي شيبة (2/498) 11477 حدثنا يزيد بن هارون، عن عبد الملك، عن عطاء في الرجل يخاف يحضر الجنازة، فيخاف أن تفوته الصلاة عليها، قال: لا يتيمم.
وإسناده صحيح، فصار لعطاء قولان في المسألة، أحدهما يتيمم، والأخر لا يتيمم.
وقال عبد الله بن أحمد كما في العلل (3/35) سمعت أبي يقول: مغيرة بن زياد أحاديثه مناكير، روى عن عطاء، عن عائشة... وذكر حديثاً منكراً، ثم قال: وحديث عطاء، عن ابن عباس، في الجنازة تمر، وهو غير متوضئ، قال: يتيمم. قال أبي: رواه عبد الملك وابن جريج، عن عطاء موقوفاً، لم يقولا: عن ابن عباس، خالفا مغيرة بن زياد. وانظر نحو هذا الكلام في الكتاب نفسه أيضاً (3/163) رقم 4729.
قلت: (قوله: عبد الملك وابن جريج) لعل الصواب (عبد الملك بن جريج) فتأمل.
ونقل البيهقي بسنده كلام الإمام أحمد في الخلافيات (2/515) .
كما أعله يحيى بن معين أيضاً، فساق البيهقي في المعرفة (2/45) وفي الخلافيات (857) بسنده عن يحيى بن معين، أنه أنكر على المغيرة بن زياد حديث التيمم على الجنازة، إنما هو عن عطاء، فبلغ به ابن عباس. اهـ
وانظر إتحاف المهرة (8072) .(12/161)
الدليل الثاني:
(1413-45) ما رواه ابن عدي من طريق يمان بن سعيد، حدثنا وكيع ابن الجراح، ثنا معافي بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء،(12/162)
عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا فاجأتك جنازة، وأنت على غير وضوء، فتيمم (1) .
[وهذا أشد نكارة من الذي قبله] (2) .
الدليل الثالث:
(1414-46) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن
_________
(1) الكامل (7/182) ، ومن طريق البيهقي في الخلافيات (858) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (635) .
(2) وقد اختلف على المعافى بن عمران، فرواه يمان بن سعيد، عن وكيع بن الجراح، عن المعافى به مرفوعاً.
وخالفه غيره فرواه ابن المنذر في الأوسط (2/70) من طريق النصر بن تمار،
والبيهقي في الخلافيات (855) من طريق هشام بن براهم، كلاهما عن المعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس من قوله.
وقد بينت في الأثر السابق بأن هذا الاختلاف من قبل المغيرة بن زياد، فإنه لم يضبطه، فتارة يوقفه على ابن عباس، وتارة يرفعه، وقد رواه الثقات عن عطاء من قوله، وهو الصواب.
قال الإمام أحمد كما في الخلافيات للبيهقي (2/516) : قال الإمام أحمد: وقد روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس بشيء. اهـ
وقال أحمد أيضاً في كتاب المعرفة للبيهقي (2/45) : وقد رواه يمان بن سعيد، عن وكيع، عن معافى بن عمران، عن مغيرة فارتقى به درجة أخرى، فبلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واليمان بن سعيد ضعيف، ورفعه خطأ فاحش ". اهـ
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/379) : قال أحمد: مغيرة بن زياد ضعيف الحديث، حدث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه فهو منكر ". اهـ
وقال ابن عدي في الكامل عقب روايته له: وهذا مرفوع غير محفوظ، والحديث موقوف على ابن عباس. اهـ
قلت: بل موقوف على عطاء، كما بينت في الأثر السابق.(12/163)
عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري،
فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
أنه لما تيمم بالمدينة مع جود الماء خوفاً من فوت السلام، كان تيممه خوفاً من فوات الجنازة وصلاة العيد من باب أولى، فكل ما يفوت لا إلى بدل يجوز أداؤه بالتيمم، بخلاف الجمعة فإنها تفوت إلى بدل، وهو الظهر، وبخلاف الصلوات الخمس، فإنها تفوت إلى بدل، وهو القضاء.
ولأنه جعل التيمم في تلك الحالة طهوراً، لأنه حين تيمم تحقق له أنه ذكر الله على طهارة، فاقتضى أن يكون فعل الصلاة به جائزاً، ولأنها صلاة لا يقدر على فلعها إلا بالتيمم، فاقتضى أن يجزئه كالمريض والمسافر.
ويجاب:
قالوا: إن الطهارة ليست بشرط في رد السلام، فالتيمم لذلك أهون مما هو شرط فيها كالصلاة على الجنازة والعيد.
وأما الصلاة على الجنازة فإنها لا تفوت، لأنه يمكنه الصلاة على القبر، قال النووي: " الجنازة لا تفوت، بل يصليها على القبر إلى ثلاثة أيام بالإجماع، ويجوز بعدها عندنا" (2) .
_________
(1) البخاري (337) ، ومسلم (369) .
(2) المجموع (2/281) .(12/164)
ويرد على الجواب:
بأن رد السلام ليس من شرطه الطهارة، هذا لا خلاف فيه، وإذا تحقق أن المتيمم لرد السلام قد ارتفع حدثه وأصبح طاهراً، فقد أذن لمن تطهر أن يصلي على الجنازة وأن يصلي صلاة العيد، لأن الحدث قد ارتفع.
وأما قولهم بأن الجنازة لا تفوت بإمكان الصلاة على القبر، قلنا: المقصود بقولنا تفوت ما قاله المرداوي، في كتابه الإنصاف، قال: " مراد المصنف (ابن قدامة) وغيره بفوات الجنازة: فواتها مع الإمام، قاله القاضي وغيره. قال جماعة: ولو أمكنه أن يصلي على قبره لكثرة وقوعه، وعظم المشقة فيه ".
قلت: والذي أذن بأن تقضى السنة الراتبة للفجر بعد الصلاة إذا فاتته مع أنه وقت نهي، مع إمكان أن يصليها ضحى في غير وقت النهي، لكن باعتبار أن ذلك قد يشق عليه، أذن له أن ينتهك وقت النهي، فهذا مثله، وقد يشق عليه اتباع الجنازة للمقبرة والصلاة على القبر، وإذا فرغ الإمام من الصلاة رفعت الجنازة.
الدليل الرابع:
(1415-47) ما رواه ابن المنذر من طريق محمد بن عمرو، ثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن مسلم، عن عبيد الله، عن نافع،
عن ابن عمر، أنه أتي بجنازة، وهو على غير وضوء، فتيمم وصلى عليها (1) .
[وقفه على ابن عمر وهم، والصواب كون الأثر موقوفاً على عامر الشعبي] (2) .
_________
(1) الأوسط (2/70) .
(2) ورواه البيهقي في المعرفة (2/44) من طريق محمد بن عمرو بن أبي مذعور، قال: حدثنا عبد الله بن نمير به.
قال البيهقي: وهذا لا أعلمه إلا من هذا الوجه، فإن كان محفوظاً فإنه يحتمل أن يكون ورد في سفر، وإن كان الظاهر بخلافه، فالكتاب، ثم السنة، ثم القياس يدل على وجوب الوضوء عند وجود الماء، وعدم المرض فيما لا يجوز للمحدث فعله، وقد رواه أحمد بن حنبل في التأريخ، عن عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا إسماعيل، عن رجل، عن عامر، قال: إذا فجأتك الجنازة وأنت على غير وضوء، فصل عليها ".
قال البيهقي: هذا هو الحديث عن إسماعيل، أظنه ابن أبي خالد، عن رجل يقال: هو مطيع الغزال، عن عامر الشعبي، وحديث أبي مذعور يشبه أن يكون خطأ، والله أعلم. اهـ
وقال البيهقي في الخلافيات (2/512) : " قال الإمام أحمد: وقد وجدت لحديث ابن أبي مذعور عن عبد الله بن نمير علة واستدللت بها على خطأ روايته، ثم ساق البيهقي بإسناده إلى أحمد بن حنبل، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن رجل، عن عامر... وذكر الأثر السابق. قال أحمد: فعاد الحديث إلى قول عامر الشعبي، وليس له أصل من حديث عبد الله بن عمر، والله أعلم.(12/165)
دليل من قال: لا يتيمم.
الدليل الأول:
قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) ، وهذا واجد للماء مع القدرة على استعماله من غير خوف، ولا ضرر، فلا يعذر بالتيمم.
الدليل الثاني:
(1416-48) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر
_________
(1) المائدة: 6.(12/166)
سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: " فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته " فأوجب مس الماء للبشرة إذا وجد الماء، وهذا واجد للماء، فكيف يتيمم مع وجوده.
والجواب عن هذا الدليل والذي قبله:
ما ذكرنا من مشروعية التيمم إذا خاف خروج الوقت مع وجود الماء، فالتيمم إنما شرع من أجل المحافظة على الوقت، فإنه يمكن لمن عدم الماء في السفر أن يؤخر الصلاة عن وقتها، ويصليها إذا وجد الماء، فإذا كان لا يجوز له ذلك، وإن كان يعلم أنه يجد الماء بعد خروج الوقت، فكذلك يشرع له التيمم إذا خاف فوت العبادة، لأن فوت العبادة أبلغ من فوت وقتها، والله أعلم.
الدليل الثالث:
(1417-49) ما رواه مالك، عن نافع،
عن ابن عمر أنه قال: لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر (2) .
إسناده صحيح.
ويجاب عن هذا:
بأن هذا الأثر رد على الشعبي والطبري ممن يجيز الصلاة على الجنازة بغير طهارة، وأما من اشترط لها التيمم، فقد صلاها بطهارة، لأن التيمم على
_________
(1) المصنف (913) ، وسبق تخريجه، انظر حديث رقم (39) من كتاب المياه.
(2) الموطأ (1/230) .(12/167)
الصحيح مطهر، كما مر معنا في الأحاديث الصحيحة: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " وحديث " الصعيد الطيب طهور المسلم ".
دليل من قال: يصلى على الجنازة بالتيمم بشرط إن تعينت عليه:
تعليلهم في ذلك، بأن صلاة الجنازة إذا تعينت أصبحت فرض عين عليه، فصار معذوراً في التيمم لها، وأما إذا لم تتعين، بأن وجد من يصلي عليها من المتوضئين فإنها لا تجب عليه، لأنها لما كانت على الكفاية جرت مجرى السنن في حقه.
وهذا التعليل عليل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - تيمم لرد السلام، والطهارة ليست شرطاً، بل ولا واجباً في رد السلام، وإنما رد السلام من ذكر الله، والطهارة للذكر سنة بالاتفاق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الخطاب في فرض الكفاية موجه إلى جميع الناس إلى أن تفعله طائفة منهم، وأن فعل الجميع يقع فرضاً، وليس من قبيل السنن.
دليل الشعبي والطبري على جواز صلاة الجنازة بدون طهارة:
حجتهم في ذلك بأن الصلاة على الميت دعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا الفعل لا تشترط له الطهارة.
والصحيح أن الدعاء للميت صلاة، وليست مجرد دعاء له.
قال ابن عبد البر: " وقد أجمعوا أنه لا يصلى عليها إلا إلى القبلة، ولو كانت دعاء كما زعم الشعبي لجازت إلى غير القبلة، ولما أجمعوا على التكبير فيها، واستقبال القبلة علم أنها صلاة، ولا صلاة إلا بوضوء" (1) .
_________
(1) الاستذكار (3/52) .(12/168)
قلت: ولو قال: ولا صلاة إلا بطهور لكان أعم، لأن الصلاة بالتيمم تجوز، وهي بلا وضوء.
الراجح من أقوال أهل العلم.
بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بجواز التيمم لمن خاف فوات الصلاة على الجنازة أو العيد، ويشق عليه أن يصلى على الجنازة بالمقبرة أو على القبر فإن ذلك سائغ إن شاء الله تعالى، والأصل في مشروعيته تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام، والله أعلم.(12/169)
[صفحة فارغة](12/170)
المبحث الثالث:
التيمم لخوف فوات الجمعة
اختلف العلماء فيما إذا خاف الرجل أن تفوته صلاة الجمعة، فهل يتيمم لها، أو يتوضأ ولو فاتته، بناء على أن الجمعة لها بدل، وهو صلاة الظهر، وصلاة الظهر يمكنه أن يصليها في وقتها؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم،
فقيل: لا يتيمم لها، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمشهور من مذهب المالكية (2) ، ومذهب الشافعية (3) ، ومذهب الحنابلة (4) .
وقيل: بل يتيمم لها، وهو قول في مذهب المالكية خلاف المشهور عند المتأخرين (5) ، واختاره ابن تيمية (6) .
وقيل: يتيمم، ويصلي الجمعة، ثم يتوضأ، ويعيدها ظهراً، وهو قول في مذهب المالكية (7) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/43) ، تحفة الفقهاء (1/39) ، البحر الرائق (1/167) ، الدر المختار (1/246) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 77) .
(2) التاج والإكليل (1/329) ، مواهب الجليل (1/329) ، الشرح الكبير مطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/148) ، الفواكه الدواني (1/153) .
(3) مختصر المزني (1/100) ، الأم (1/52،232) ، والمجموع (2/280) ، نهاية المحتاج (1/309) .
(4) الإنصاف (1/303) ، المبدع (1/232) ..
(5) حاشية الدسوقي (1/148) ، مواهب الجليل (1/329) .
(6) المبدع (1/323) ، الاختيارات (ص: 20) .
(7) التاج والإكليل (1/329) ، مواهب الجليل (1/329) .(12/171)
والأدلة في هذه المسألة هي الأدلة في المسألة السابقة، وهي إذا خشي فوات العيد، هل يتيمم، حتى يدرك الصلاة أو لا يتيمم في الحضر مع وجود الماء، إلا أن صلاة الجمعة قد رأى بعضهم إن هناك إجماعاً على عدم صلاتها بالتيمم؛ والإجماع لعله غير محفوظ.
قال ابن المنذر: "قال أبو ثور: لا أعلم خلافاً أن رجلاً لو أحدث يوم الجمعة، وخاف فواتها أن ليس له أن يتيمم، ويصلي، فإذا كان هذا من القوم إجماعاً لوجود الماء، كان كل محدث في موضع يجد فيه الماء مثله " (1) .
والخلاف محفوظ عند المالكية كما تبين لك من خلال عرض الأقوال في المسألة، كما أنه رأي ابن تيمية.
_________
(1) الأوسط (2/71) .(12/172)
الباب الثالث:
في شروط التيمم
الشرط الأول:
النية
الكلام في النية طويل ومتشعب، وكنت قد تطرقت إلى كثير من أحكامها في كتاب الوضوء، عند الكلام على شروط الوضوء، وسوف أتطرق إلى مباحث النية الخاصة بالتيمم، والتي لم نتطرق لها في أحكام الوضوء، وسوف أقسم الكلام على أحكام النية إلى ثلاثة فصول إن شاء الله تعالى، وأقسم هذه الفصول إلى مباحث، والمباحث إلى فروع، والفروع إلى مسائل، حتى آتي إن شاء الله تعالى على أكثر أحكامها، يسر الله ذلك بمنه وكرمه.(12/173)
[صفحة فارغة](12/174)
الفصل الأول:
في اشتراط النية لطهارة التيمم
اختلف العلماء في اشتراط النية في الطهارة عموماً،
وقد سبق لنا أن ذكرنا خلاف العلماء في كتاب الوضوء،
فقيل: النية شرط في طهارة الأحداث كلها، الأصغر والأكبر، لا فرق بين طهارة الماء، وبين طهارة التيمم، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: عكسه، أن النية ليست بشرط مطلقاً، وهذا القول منسوب لزفر من الحنفية (2) ، وللأوزاعي رحمه الله تعالى (3) ، وللحسن بن صالح (4) .
وقيل: كل طهارة بالماء تجوز بغير نية، ولا يجزئ التيمم إلا بنية، وهو
_________
(1) انظر في مذهب المالكية: أحكام القرآن لابن العربي (1/568) ، مواهب الجليل (1/234) ، الخرشي (1/190) .
وفي مذهب الشافعية انظر: المجموع (1/355) ، الروضة (1/47) ، مغني المحتاج (1/47) ، نهاية المحتاج (1/156) ، الحاوي الكبير (187)
وفي مذهب الحنابلة: انظر المغني (1/158) ، الإنصاف (1/281) ، إعلام الموقعين (1/219) ، الفروع (1/224) ، معونة أولي النهى شرح المنتهى (1277) ، الممتع شرح المقنع (1/176) ، المحرر (1/11) ، كشاف القناع (1/85) ، الكافي (1/23) ، المبدع (1/116) .
(2) بدائع الصنائع (1/52) .
(3) الأوسط لابن المنذر (1/370) .
(4) أحكام القرآن للجصاص (2/472) .(12/175)
مذهب الحنفية (1) ، وبه قال سفيان الثوري (2) .
دليل الجمهور على اشتراط النية في الطهارتين الماء والتيمم:
سبق لنا أن ذكرنا أدلتهم في كتاب الحيض والنفاس، فأغنى عن إعادته هنا.
دليل الحنفية على التفريق بين طهارة الماء وطهارة التراب.
أما دليل الحنفية على عدم اشتراط النية في طهارة الماء، فقد ذكرته، وأجبت عنه، في كتابي أحكام المسح على الحائل (3) .
وأما وجه التفريق بين طهارة الماء وطهارة التراب:
ذكروا وجوهاً منها:
الأول: أن التيمم في اللغة: القصد، وذلك يدل على اشتراط النية فيه، بخلاف الوضوء والغسل، فإن النية قدر زائد على مرور الماء على الأعضاء المغسولة، فإذا جرى الماء على أعضاء الوضوء، أو عم الماء جميع البدن فيصدق عليه أنه امتثل الأمر الشرعي بقوله: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (4) .
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/472) ، بدائع الصنائع (1/52) ، المبسوط (1/116) ، شرح فتح القدير (1/32) ، البناية في شرح الهداية (1/173) ، تبيين الحقائق (1/5) ، البحر الرائق (1/24) ، مراقي الفلاح (ص:29) .
(2) الأوسط لابن المنذر (1/370) .
(3) انظر شروط المسح على الخفين: الشرط الرابع عشر (ص: 267) .
(4) المائدة: 6.(12/176)
وقوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (1) .
فهذا الأمر تحصيله لا يتوقف على النية.
الثاني: الماء مطهر بنفسه، فلم يفتقر إلى قصد فإذا وجدت النظافة به على أي وجه كان فقد حصل المقصود، بخلاف التراب فإنه ملوث، وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية.
ويجاب عن هذا بجوابين:
الأول: أن يقال: وكذلك التراب ملوث بنفسه، فلم يفتقر إلى قصد فإذا وجد التلوث به على أي وجه كان فقد حصل المقصود.
الوجه الثاني: لا نسلم أن التراب غير مطهر، فإنه قد ثبت أنه مطهر للحدث والخبث معاً،
فالدليل على أنه مطهر من الأحداث قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (2) .
فنص على أن الغاية من مشروعية التيمم إرادة التطهير مع نفي الحرج عن هذه الأمة.
ومن السنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل..."الحديثَ، والحديث رواه مسلم، واللفظ للبخاري (3) .
_________
(1) النساء: 43.
(2) المائدة: 6.
(3) صحيح البخاري (335) .(12/177)
وفي حديث أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (1) .
[حديث حسن وسبق تخريجه] (2) .
فحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن الصعيد طهور المسلم.
فهذا دليل على أن التراب مطهر للحدث، وأما طهارة الخبث بالتراب فذلك مثل الاستجمار، ومثل طهارة النعل بالتراب، وطهارة ذيل المرأة بمروره على تراب طاهر، فالقول بأن التراب غير مطهر مخالف لنصوص الكتاب والسنة، والتفريق بين الوضوء والتيمم، فلا تجب النية في طهارة الوضوء، وتجب النية في طهارة التيمم تفريق بين ما جمع الله سبحانه وتعالى، فقد جمع بينهما في آية المائدة، ذاكراً سبحانه وتعالى الوضوء بقوله {إذا قمتم إلى الصلاة} إشارة إلى النية، وقال في التيمم {فتيمموا} إشارة إلى قصد الصعيد، فمن فرق بينهما فقد فرق بين ما جمع الله، وقوله في غاية الضعف.
دليل من قال: التيمم يصح بدون نية:
قالوا: إن التيمم بدل عن طهارة الماء، وإذا كانت طهارة الماء وهي الأصل تصح بلا نية، فكذلك طهارة البدل؛ لأن البدل يأخذ حكم المبدل.
_________
(1) سنن الترمذي (124) .
(2) انظر حديث رقم (39) من كتاب أحكام الطهارة.(12/178)
ويجاب:
لا نسلم أن طهارة الماء تصح بلا نية، وما بني على قول ضعيف كان ضعيفاً، فالصحيح من أقوال أهل العلم أن الطهارة من الأحداث كلها تفتقر إلى نية، وقد قدمنا مجموعة من الأدلة على اشتراط النية في بحث سابق، فأغنى عن إعادته هنا (1) ، والله أعلم.
الراجح من الخلاف.
بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القول بأن النية شرط في طهارة الحدث مطلقاً، سواء كانت الطهارة بالماء، أو بالتراب هو القول الراجح، لقوة أدلته، وضعف أدلة الأقوال الأخرى، والله أعلم.
_________
(1) انظر شروط المسح على الخفين: الشرط الرابع عشر في كتابي أحكام المسح على الحائل.(12/179)
[صفحة فارغة](12/180)
الفصل الثاني:
لو سفت الريح التراب على وجهه ونوى به التيمم.
اختلف أهل العلم فيما لو ألقت عليه الريح تراباً عمَّ وجهه ويديه، هل يصح تيممه؟ .
قال النووي: فإن لم يقصدها لم يجزه بلا خلاف (1) .
قلت: ينبغي أن يكون فيه خلاف، فإن من لم يشترط النية ربما صحح تيممه، كما أن من لم يشترط النية في غسل الجنابة، لو انغمس في نهر ارتفع حدثه، إلا أنني لم أقف على من صرح بصحة تيممه في مسألتنا هذه، فليتأمل.
وأما إذا نوى به التيمم وصمد للريح،
فقيل: لا يصح تيممه، وهو مذهب المالكية (2) ، والمنصوص في مذهب الشافعية، وعليه أكثرهم (3) ،
ورجحه كثير من الحنابلة (4) .
_________
(1) المجموع (2/271) .
(2) الذخيرة (1/356) .
(3) قال الشافعي في الأم (1/49) : " وإن سفت عليه الريح تراباً عمه، فأمر ما على وجهه منه على وجهه لم يجزه؛ لأنه لم يأخذه لوجهه، ولو أخذ ما على رأسه لوجهه، فأمره عليه أجزأه، وكذلك لو أخذ ما على بعض بدنه غير وجهه وكفيه ".
وقال النووي في المجموع (2/271) : " وإن قصدها وصمد لها - يعني الريح - ففيه خلاف مشهور، حكاه الأصحاب وجهين، وحقيقته قولان:
أحدهما: لا يصح، وهو الصحيح، نص عليه في الأم، وهو قول أكثر الأصحاب المتقدمين، وقطع به جماعات من المتأخرين، وصححه جمهور الباقين، ونقله إمام الحرمين عن الأئمة مطلقاً، قال: والوجه الآخر ليس معدوداً في المذهب.
والثاني: يصح، وهو قول القاضي أبي حامد، واختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني..". وانظر حاشية الجمل (1/216) .تحفة الحبيب على شرح الخطيب (1/285) .
(4) قال صاحب الإنصاف (1/288) : " ولو نوى وصمد وجهه للريح، فعم التراب جميع وجهه، لم يصح على الصحيح من المذهب، اختاره المصنف (ابن قدامة) وابن عقيل، وقدمه في الكافي، وهو ظاهر كلام الخرقي". واختاره ابن مفلح في الفروع (1/225-226) .(12/181)
وقيل: يصح تيممه، اختاره بعض الشافعية (1) ، وبعض الحنابلة (2) .
وقيل: إن مسح أجزأ، وإلا فلا، اختاره ابن الصباغ من الشافعية (3) ، والمتأخرون من الحنابلة، قال صاحب الإنصاف: وهذا الصحيح قياساً على مسح الرأس (4) .
تعليل من قال: لا يصح تيممه:
قالوا: إن النقل شرط، ولم يوجد.
ويجاب: أين الدليل على أن النقل شرط، فالقصد للشي: وهو النية كافية في المطلوب، وقصده لا يستلزم قصد النقل، وكما أن النقل ليس شرطاً في طهارة الماء، وهي أصل، كذلك لا تكون شرطاً في طهارة البدل، فلو نزل المطر على بدن الجنب ونوى به الغسل، حتى عمم به جميع بدنه ارتفع حدثه، فكذلك هنا.
_________
(1) المجموع (2/271) .
(2) قال صاحب الإنصاف (2/288) : " وقيل: يصح، اختاره القاضي، والشريف أبو جعفر، وصاحب المستوعب، والتلخيص والمجد والحاوي الكبير ومجمع البحرين، وقدمه في الرعاية الكبرى... ".
(3) البيان في مذهب الشافعي (1/283) .
(4) الإنصاف (1/288-289) ، وعليه مشى صاحب كشاف القناع (1/174) ، وصاحب مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/211) .(12/182)
دليل من قال: يصح تيممه:
قاله قياساً على ما ذكرنا من صحة الغسل لو جلس تحت المطر أو الميزاب، ونزل عليه الماء، فعمم جميع بدنه أن حدثه يرتفع، فكذلك هنا.
دليل من قال: إن مسح أجزأ، وإلا فلا:
الدليل الأول:
استدل بقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} فطلب الشرع المسح، فإذا لم يمسح لم يمتثل للأمر.
الدليل الثاني:
ولأنه يتعذر وصول التراب إلى جميع وجهه من غير مسح.
ويجاب عن هذين الدليلين:
بأن المسح ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو آلة لتحقيق المطلوب، ولذلك لو يممه غيره مع قدرته صح تيممه، مع أنه لم يمسح هو، وإنما مسح غيره، فلا فرق بين أن يكون مرور التراب عن طريق يد غيره، وبين أن يكون مروره عن طريق الريح إذا قصد التيمم، فالغاية أن يمس التراب وجهه ويديه، وأما كون التعميم متعذراً، فالتعميم حتى باليد متعذر، فالمسح الأصل فيه التخفيف بخلاف الغسل، كالمسح على الخفين ومسح الرأس وغيرهما، فإذا أصاب أكثر التراب غالب وجهه أجزأه، والله أعلم.
الدليل الثاني:
قالوا اشترطنا المسح قياساً على ما ذكرناه في كتاب الوضوء فيما لو غسل رأسه بدلاً من مسحه، فمنهم من قال: لا يجزئ مطلقاً، ومنهم من قال:(12/183)
يجزئ مطلقاً، ومنهم من قال: إن مسح أجزأ، ليتحقق امتثال الأمر، والكلام في تلك المسألة كالكلام في هذه، ولا فرق، وقد سبق تحريرها.
وأجاب المانعون عن هذا الدليل:
قالوا: هناك فرق بين ما لو غسل رأسه أجزأ عن مسحه، وبين هذه المسألة، فإن من غسل رأسه قد قام الدليل على صحته، لأنه إذا أجزأ غسل الرأس عن الجنابة، فلأن يجزئ ذلك عن الوضوء أولى بخلاف التيمم.
والراجح أنه لا فرق.
تنبيه:
قال المسعودي: " وإن أدنى وجهه من الأرض أو تمعك في التراب، فحصل الغبار على أعضاء التيمم، فإن كان لعجز صح، وإن كان لا لعجز، فهل يصح؟ فيه وجهان " (1) .
قلت: ينبغي أن يصح مطلقاً، وبدون شرط الغبار.
_________
(1) البيان في مذهب الشافعي (1/284) .(12/184)
الفصل الثالث:
في صفة النية
سوف نخصص هذا الفصل في الكلام عن كيفية النية في التيمم، فلو نوى المتيمم نية التيمم فقط فهل يجزئ؟ أو لا بد من نية ما يتيمم له، وما يتيمم عنه، فأنوي مثلاً التيمم، للصلاة أو للطواف أو نحوهما، عن الحدث الأصغر، أو عن الحدث الأكبر، أو عن النجاسة على البدن كما في مذهب الحنابلة، فعندنا ثلاثة أشياء،
الأولى: نية التيمم.
الثانية: نية ما يتيمم له من الطاعات كالصلاة والطواف وقراءة القرآن، وهل إذا نوى الفرض منها يكفي عن نية النفل؟
الثالثة: نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، وسوف نتناول هذه المسائل واحدة واحدة، وما يتفرع منها.(12/185)
[صفحة فارغة](12/186)
المبحث الأول:
لو نوى بفعله مطلق التيمم
اختلف الفقهاء فيما لو نوى بتيممه فرض التيمم هل يصح تيممه؟
فقيل: يصح تيممه، وهو اختيار أبي بكر بن سعيد البلخي من الحنفية، ونسب إلى أبي حنيفة (1) ، وهو مذهب المالكية (2) ، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: لا يصح، وهو مذهب الحنفية (5) ،
وأصح الوجهين في مذهب
_________
(1) نسب هذا مذهباً للبلخي ابن الهمام في شرح فتح القدير (1/130) كما ذكر أيضاً قوله: " روى في النوادر: لو مسح وجهه وذراعيه ينوي التيمم جاز به الصلاة، وعن أبي حنيفة فيمن تيمم لرد السلام يجوز، فعلى هاتين الروايتين تعتبر مجرد نية التيمم، لكنه غير الظاهر من المذهب ". اهـ وذكر نحو هذا الكلام الزيلعي في تبيين الحقائق (1/40) .
(2) حاشية الدسوقي (1/154) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/193) ، الفواكه الدواني (1/157) ، الخلاصة الفقهية (ص: 42) .
(3) المجموع (2/260) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/101-102) ، تحفة المحتاج (1/359) .
(4) الإنصاف (1/291) ، الفروع (1/225) .
(5) قال ابن عابدين في حاشيته (1/247) : وشرطها: أن ينوي عبادة مقصودة الخ أو الطهارة، أو استباحة الصلاة، أو رفع الحدث أو الجنابة، فلا تكفي نية التيمم على المذهب، ولا تشترط نية التمييز بين الحدث والجنابة خلافاً للجصاص. اهـ
قال ابن عابدين (1/247) : " وتقدم في الوضوء أنه تكفي نية الوضوء، فما الفرق بينه وبين نية التيمم تأمل، ولعل وجه الفرق أنه لما كان بدلاً عن الوضوء أو عن آلته على ما مر من الخلاف، ولم يكن مطهراً في نفسه إلا بطريق البدلية، لم يصح أن يجعل مقصوداً بخلاف الوضوء فإنه طهارة أصلية، والأقرب أن يقال: إن كل وضوء تستباح به الصلاة، بخلاف التيمم فإن منه ما لا يستباح به، فلا يكفي للصلاة التيمم المطلق، ويكفي الوضوء المطلق، هذا ما ظهر لي والله أعلم ". اهـ
ومع أن الحنفية يرون أن التيمم يرفع الحدث إلا أنهم في النية لم يجعلوا حكم التيمم حكم الماء من كل وجه، فلا يشترط عندهم نية التيمم للحدث أو للجنابة، بل يشترط لصحة نية التيمم الذي تصح به الصلاة أن ينوي أحد أمور ثلاثة:
1- نية الطهارة من الحدث. 2- أو استباحة الصلاة 3- أو نية عبادة مقصودة لا تصح بدون طهارة، ومعنى كونها عبادة مقصودة أي لا تجب في ضمن شيء آخر بطريق التبعية. فلو تيمم لدخول المسجد لم يصح أن يصلي به؛ سواء كان محدثاً حدثاً أكبر أو حدثاً أصغر؛ لأنه إن كان محدثاً حدثاً أصغر فلفوات الشرطين: فدخول المسجد ليس عبادة مقصودة لذاتها، ويصح بدون الطهارة من الحدث الأصغر، وإن كان محدثاً حدثاً أكبر، فهو وإن كان لا يحل بدون طهارة، فلفوات الشرط الثاني: وهو كونه عبادة مقصودة لذاتها.
ولو تيمم لقراءة القرآن، فإن كان جنباً جاز له أن يصلي به الصلوات، لأن القراءة عبادة مقصودة، وهو لا يحل من الجنب بدون طهارة، فصحت صلاته، وإن كان محدثاً حدثاً أصغر لم يصل به؛ لأن الطهارة من الحدث الأصغر للقراءة يصح بدون طهارة. هذا ملخص مذهب الحنفية في التيمم الذي تصح به الصلاة، أما التيمم الذي يصح، ولا يصلي به فلا يشترط فيه هذه الشروط، فلو تيمم لدخول المسجد، أو تيمم لرد السلام أو تيمم للأذان ولذكر الله صح تيممه لهذا، ولكن لا يصلي به، هذا هو الفرق بين من تيمم للجنازة، فيصلي به سائر الصلوات، وبين من تيمم للذكر، فيصح لما تيمم له، ولكن لا يصلي به، والله أعلم. انظر مذهبهم في الكتب التالية: البحر الرائق (1/157-158) ، شرح فتح القدير (1/131) ، حاشية ابن عابدين (1/245) .
ويتضح ضعف مذهب الحنفية رحمهم الله تعالى أنه إن تيمم عنده لقراءة القرآن، فإن كان جنباً فله أن يصلي بهذا التيمم، وإن كان محدثاً حدثاً أصغر فليس له أن يصلي به، مع أن الحدث الأصغر أخف من الحدث الأكبر، والفعل واحد، فهذا مما يدل على ضعف القول.(12/187)
الشافعية (1) ، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (2) .
وجه من قال بالصحة:
القياس على الوضوء، فكما أنه لو نوى فرض الوضوء صح الوضوء، فكذلك التيمم.
وجه من قال: لا يصح:
وأما دليل الحنفية فاستدلوا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} ثم قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (3) ، فتضمنت الآية نية التيمم للصلاة، وليس مطلق النية (4) .
وأما تعليل إمام الحرمين من الشافعية: قال: لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح فعل الصلاة، فلا بد من تعيين ما يتيمم له كالصلاة والطواف، وما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، قالوا: ويفارق الوضوء، أن الوضوء مقصود لنفسه، ولهذا استحب تجديده بخلاف التيمم،
وعلل السيوطي التفريق بين التيمم والوضوء بقوله: " إن التمييز لا يحصل بذلك - أي بنية الفرض - لأن التيمم عن الحدث والجنابة فرض، وصورته
_________
(1) المجموع (2/260) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/101-102) ، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 19) ، تحفة المحتاج (1/359) .
(2) الإنصاف (1/291) ، الفروع (1/225) .
(3) المائدة: 6.
(4) انظر بتصرف البحر الرائق (1/159) .(12/189)
واحدة بخلاف الوضوء والغسل فإنما يتميزان بالصورة " (1) .
والراجح أنه لو تيمم بنية الفرض أو بنية رفع الحدث فإن حدثه يرتفع، ولا إشكال كما نبهت على أن هذه المسألة إنما بنيت على أصل ضعيف، وهو أن التيمم لا يرفع الحدث، وهو خلاف الكتاب والسنة كما بينت في مبحث مستقل.
_________
(1) الأشباه والنظائر (ص: 19) .(12/190)
المبحث الثاني:
إذا نوى المتيمم بتيممه رفع الحدث
اختلف أهل العلم فيما إذا نوى المتيمم رفع الحدث،
فقيل: يرتفع حدثه، وهو مذهب الحنفية (1) ، ووجه في مذهب الشافعية (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: لا يرتفع حدثه، وهو مذهب المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) .
والقول في أدلة هذه المسألة راجع إلى مسألة سبق بحثها، وهي هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل الصلاة فقط؟ فمن رأى أن التيمم يرفع الحدث كالحنفية لم يمنع التيمم بهذه النية، ومن رأى أن التيمم لا يرفع الحدث منع المتيمم أن يتيمم بهذه النية، وقد رجحت فيما سبق أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً إلى حين وجود الماء، وقد ذكرنا أدلتهم فيما سبق، فأغنى عن إعادته هنا، ولا يختلف القول لو نوى الطهارة، فإن نية الطهارة راجع إلى مسألتنا، هل التيمم مطهر، أو مبيح فقط، والله أعلم.
_________
(1) شرح فتح القدير (1/130) ،
(2) البيان في مذهب الشافعي (1/277) ، المجموع (2/254) ،
(3) الفروع (1/225) .
(4) المعونة (1/146) ، الخرشي (1/190) ، الفواكه الدواني (1/157) ، حاشية الدسوقي (1/154) الإشراف (1/167) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/192) .
(5) المجموع (2/254) ، مغني المحتاج () ، البيان في مذهب الشافعي (1/276) .
(6) قال في المغني (1/158) : " وينوي إستباحة الصلاة، فإن نوى رفع الحدث لم يصح؛ لأنه لا يرفع الحدث ". وانظر الإنصاف (1/290) ، شرح منتهى الإرادات (1/98) ، كشاف القناع (1/174) .(12/191)
[صفحة فارغة](12/192)
المبحث الثالث:
في اشتراط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر
الفرع الأول:
لو تيمم ولم ينو ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر
عرفنا فيما سبق الخلاف فيما لو نوى التيمم فقط، وسوف نناقش في هذا المبحث حكم نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر،
فقيل: لا يشترط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، بل يكفي أن ينوي التيمم للصلاة مثلاً، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، وقول في مذهب المالكية (3) .
وقيل: إن كان التيمم من الحدث الأصغر لم يلزمه استحضاره حال
_________
(1) البحر الرائق (1/157-158) ، شرح فتح القدير (1/131) ، حاشية ابن عابدين (1/245) ، وقد بينت مذهب الحنفية بأوضح من هذا في فصل: إذا نوى التيمم، وأطلق، فانظره مشكوراً إن كان هناك حاجة لبيان مزيد.
(2) قال النووي في المجموع (2/254) : " وأما صفة النية في التيمم فإن نوى استباحة الصلاة أو استباحة ما لا يباح إلا بالطهارة صح تيممه بلا خلاف؛ لأنه نوى مقتضاه". اهـ
فلم يتعرض النووي إلى نية ما يتيمم عنه من حدث أو جنابة، فالشافعية عندهم يجب تعيين ما يتمم له من صلاة ونحوها، لا نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، ولذلك ذكر النووي بأنه لو تيمم عن الحدث الأصغر، ناسياً حدثه الأكبر ارتفع حدثه الأكبر، ودلل على ذلك بقوله في المجموع (2/260) : إن الجنب ينوي بتيممه ما ينويه المحدث، وهو استباحة الصلاة، فلا فرق. اهـ فهذا صريح بأنه لا يشترط أن ينوي الجنابة بالتيمم.
(3) مواهب الجليل (1/346) .(12/193)
التيمم، بل يكفي فيه استباحة الصلاة من غير ذكر المتعلق، وفي الأكبر لابد من استحضار المتعلق، فإن ترك ذلك أعاد أبداً. هذا هو المشهور من مذهب المالكية (1) .
وقيل: يستحب له استحضار نية الحدث الأكبر، فإن ترك هذا مطلقاً عامداً أو ناسياً أعاد في الوقت، وهو قول في مذهب المالكية (2) .
_________
(1) انظر التاج والإكليل (1/345) ، والثمر الداني شرح رسالة القيرواني (ص:76) ، الخلاصة الفقهية (ص: 38) ، الشرح الكبير (1/154) ، الفواكه الدواني (1/157) .
وقال في مواهب الجليل (1/345-346) : قال ابن عبد السلام: فإذا نوى استباحة الصلاة، فلا بد أن يتعرض مع ذلك إلى الحدث الأصغر أو الأكبر، فإن نسي، وهو جنب أن يتعرض لذلك لم يجزه خلافاً لابن وهب. انتهى.
قال الحطاب: ويفهم منه أنه إذا نسي أن يتعرض لذلك، وهو غير جنب أجزأه تيممه، وصرح بذلك البساطي، قال: وحاصل كلامه: أن الحدث الأصغر لا يلزمه استحضاره حال التيمم، بل يكفي فيه استباحة الصلاة من غير ذكر المتعلق، وفي الأكبر لا بد من استحضار المتعلق، فإن ترك عامداً أعاد أبداً، أو ناسياً أعاد في الوقت، هذا هو المشهور، وقيل: يعيد في الوقت، وقيل: لا إعادة. انتهى.
قال الحطاب: وما ذكره في نية الحدث الأصغر هو ظاهر كلامهم، وأما ما ذكره أنه هو المشهور في الإعادة خلاف المشهور، قال ابن الحاجب: فإن نسي الجنابة لم يجزه على المشهور، ويعيد أبداً. انتهى.
قال ابن ناجي في شرح المدونة: وتعليله فيها بأن التيمم إنما كان للوضوء، لا للغسل يدل على أن الإعادة أبداً، وهو قول مالك في الواضحة. انتهى.
وعزاه ابن عرفة للمدونة، واستظهره ابن رشد في سماع أبي زيد، والله أعلم. انتهى نقلاً من مواهب الجليل.
(2) مواهب الجليل (1/346) وذكر فيه ثلاثة أقوال، منها أنه يعيد ما دام في الوقت، وما دام عُلِّقَت الإعادة في الوقت، فإنه على الاستحباب؛ لأن الواجب يعاد أبداً في الوقت وغيره.(12/194)
وقيل: يشترط أن ينوي نية ما يتيمم له، وما يتيمم عنه، وهذا مذهب الحنابلة (1) .
والراجح أن التيمم يقوم مقام الماء، فإذا نوى فرض التيمم، فقد قام بما هو واجب عليه، وإذا نوى الصلاة بتيممه، ارتفع حدثه الأصغر والأكبر؛ لأنه يلزم من نية الصلاة ارتفاع الحدث، وإذا نوى ارتفاع الحدث الأصغر ارتفع الأصغر فقط، أو نوى ارتفاع الحدث الأكبر دخل فيه الحدث الأصغر تماماً كما هو في طهارة الماء، ولا فرق؛ لأن التيمم بدل عن طهارة الماء، والبدل يأخذ حكم المبدل، والله أعلم.
_________
(1) قال في الإنصاف (1/289) : " ويجب تعيين النية لما يتمم له من حدث أو غيره". وقال في كشاف القناع (1/173) : ويشترط النية لما يتيمم له من حدث أو خبث..". اهـ وانظر المبدع (1/222) ، دليل الطالب (ص: 19) .(12/195)
[صفحة فارغة](12/196)
الفرع الثاني:
لو تيمم للحدث الأصغر فهل يرتفع حدثه الأكبر
لو أن رجلاً تيمم للحدث الأصغر ناسياً حدثه الأكبر، فهل يصح تيممه عن الحدث الأكبر؟ في هذا خلاف بين أهل العلم،
فقيل: يصح، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ،
وأحد القولين في مذهب المالكية (3) .
وقيل: لا يصح، اختاره الجصاص وأبو بكر الرازي من الحنفية (4) ، وهو مذهب المالكية (5) ، والحنابلة (6) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/52) تبيين الحقائق (1/40) ، حاشية ابن عابدين (1/247، 248) ، بل صرح الحنفية بأن الواجب نية التطهير، انظر شرح فتح القدير (1/130) .
(2) جاء في مختصر المزني (ص: 98) : " ولو نسي الجنابة فتيمم للحدث أجزأه؛ لأنه لو ذكر الجنابة لم يكن عليه أكثر من التيمم ".
وقال النووي في المجموع (2/260) : " لو تيمم عن الحدث الأصغر، غالطاً ظاناً أن حدثه الأصغر، فكان جنباً أو عكسه صح تيممه بلا خلاف عندنا "
(3) الذخيرة (1/367) ، حاشية الدسوقي (1/154) ، حاشية العدوي على شرح الخرشي (1/189) .
(4) بدائع الصنائع (1/52) ، المبسوط (1/117) ، حاشية ابن عابدين (1/247) ، تبيين الحقائق (1/40) .
(5) جاء في المدونة (1/48) : " سألت مالكاً عن الرجل يكون في السفر، فتصيبه الجنابة، ولا يعلم بجنابته، وليس معه ماء، فتيمم يريد بتيممه الوضوء، ويصلي الصبح، ثم يعلم أنه كان جبناً قبل صلاة الصبح، أتجزئه صلاته بذلك التيمم؟
قال: لا، وعليه أن يتيمم، ويعيد الصبح؛ لأن تيممه ذلك كان للوضوء لا للغسل". وانظر المسائل الفقهية لابن قداح (ص: 119) ، مواهب الجليل (1/346) ، الفواكه الدواني (1/157) .
(6) قال في المغني (1/166) : وإذا نسي الجنابة، وتيمم للحدث لم يجزه.. ". وانظر الفروع (1/227) ، كشاف القناع (1/175) ، شرح العمدة (1/378) ، رؤوس المسائل لأبي المواهب الحنبلي (1/67) .(12/197)
دليل من قال: يصح تيممه عن الحدث الأكبر:
التعليل الأول:
قالوا: لأنه لو كان ذاكراً للجنابة لم يكن عليه أكثر من التيمم، وقد فعل.
التعليل الثاني:
قالوا: إن التيمم طهارة، فلا يلزم نية أسبابها كما في الوضوء.
وهذا التعليل جيد، لكنهم لا يقبلونه فيما لو نوى التيمم وأطلق، فلا بد عندهم من نية الطهارة، أو نية استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة بذاتها لا تصح بدون طهارة، وهذا سبق بيانه.
التعليل الثالث:
أن الجنب والمحدث نيتهما واحدة، فلم يشترط نية الحدث الأكبر، قال النووي: إن الجنب ينوي بتيممه ما ينويه المحدث، وهو استباحة الصلاة، فلا فرق (1) .اهـ
قلت: نية الصلاة تستلزم نية الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، فكذلك لو كان جنباً ونوى بغسله الصلاة ارتفع حدثه الأكبر، ولكن لو أن هذا الجنب انغمس في ماء، وخرج مرتباً على القول بوجوب الترتيب، ولم ينو إلا الحدث الأصغر لم يرتفع حدثه الأكبر، فلماذا في التيمم قلنا: إذا نوى حدثه الأصغر ارتفع حدثه الأكبر، فالواجب أن يكون التيمم حكمه حكم الماء.
_________
(1) المجموع (2/260) .(12/198)
التعليل الرابع:
قالوا: التيمم عن الحدث الأصغر يجزئ عن الحدث الأكبر، لأن صفة التيمم فيهما واحدة.
وقد جعل بعض أهل العلم هذا التعليل سبباً في وجوب تعيين النية كما سيأتي في أدلة القول الثاني.
دليل من قال: لا يصح تيممه عن الحدث الأكبر:
الدليل الأول:
(1418-50) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1) .
وجه الاستدلال:
أن هذا لم ينو إلا الحدث الأصغر، فكيف يرتفع الحدث الأكبر، وإذا كان هذا ممنوعاً في طهارة الماء، وهي الأصل، فكيف يكون مسموحاً به في طهارة التيمم، وهي الفرع، أي البدل.
_________
(1) صحيح البخاري (6689) ومسلم (1907) .(12/199)
الدليل الثاني:
ذكر الرازي من الحنفية أنه لا بد من نية التمييز، وهو أن ينوي الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما يقع على صفة واحدة، فلا بد من التمييز بالنية (1) .
وهذا القول هو الراجح، نظراً لقوة أدلته، والله أعلم.
_________
(1) بدائع الصنائع (1/52) .(12/200)
الفرع الثالث:
في نية ما يتيمم له من صلاة ونحوها
المسألة الأولى: لو نوى بالتيمم الصلاة وأطلق
فقيل: يصلي به النافلة والفريضة، وهذا مذهب الحنفية (1) ، واختيار إمام الحرمين والغزالي من الشافعية (2) ، ووجه في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: لا يصلي به إلا النافلة، وهو الصحيح من مذهب الشافعية (4) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (5) .
_________
(1) قال في الهداية على البداية المطبوع مع شرح فتح القدير (1/131) : ثم إذا نوى الطهارة أو استباحة الصلاة أجزأه، ولا يشترط نية التيمم للحدث أو الجنابة ". وانظر البحر الرائق (1/157) .
(2) قال النووي في المجموع (2/256) : " أما إذا لم ينو الفريضة بل نوى استباحة النافلة، أو نوى استباحة الصلاة، ولم يقصد فرضاً ولا نفلاً، ففيه ثلاثة طرق...فذكرها، وقال: الثالث: إن نوى الصلاة فقط، استباح الفرض قولاً واحداً، وهذا الطريق اختيار إمام الحرمين والغزالي، قال الإمام: لأن الصلاة اسم جنس، تتناول الفرض والنفل، ويخالف ما لو نوى المصلي الصلاة، فإنها لا تنعقد إلا نفلاً؛ لأن الصلاة لا يمكن أن يجمع فيها بين فرض ونفل بنية واحدة، فحمل على الأقل، وهو النفل. وأما التيمم فيمكن الجمع في نيته بين فرض ونفل، فحملت الصلاة في نيته على الجنس.
(3) المبدع (1/224) ، واختاره ابن حامد انظر الإنصاف (1/291) .
(4) قال النووي في المجموع (2/256) : " أما إذا لم ينو الفريضة بل نوى استباحة النافلة، أو نوى استباحة الصلاة، ولم يقصد فرضاً ولا نفلاً، ففيه ثلاثة طرق، الصحيح منها عند جمهور الأصحاب أنه لا يستبيح الفرض في الصورتين... ".
(5) المبدع (1/224) ، الروض المربع (1/378) .(12/201)
تعليل الحنفية الشافعية:
تعليل الحنفية يختلف عن تعليل الشافعية، أما الحنفية فيرون أن التيمم يرفع الحدث، فإذا ارتفع الحدث كان له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وهذا هو التعليل الصحيح لفروع هذه المسائل.
وأما تعليل إمام الحرمين والغزالي من الشافعية، فقالوا: إن الصلاة اسم جنس، فيشمل الفرض والنفل، فيكون حكمه حكم ما لو نوى بتيممه الفريضة والنافلة معاً.
تعليل الحنابلة:
لما كان التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يستباح به الصلاة، فلا يستباح به الفرض حتى ينويه؛ ولهذا كان التعيين شرطاً في الفرض، ولما لم يوجد أبيح له التنفل؛ لأنه أقل ما يحمل عليه الإطلاق بخلاف الوضوء فإنه يرفع الحدث فاستباح به الجميع.
والجواب عن هذا قد ذكرته في المسألة المتقدمة، وأن القول بأن التيمم لا يرفع الحدث قول ضعيف، وما بني على الضعيف فهو ضعيف.(12/202)
المسألة الثانية: لو نوى أن يصلي نفلاً فهل يصلي به فريضة
إذا نوى بتيممه نافلة، فهل له أن يصلي بهذا التيمم فريضة،
اختلف أهل العلم في هذا،
فقيل: يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يجد الماء أو يحدث، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: لا يجوز أن تصلى الفريضة بتيمم النافلة، وهو المشهور من مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: لا تصلى النافلة بالتيمم أصلاً، وإنما يتيمم للمكتوبة (5) .
دليل من قال: يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل:
الدليل الأول:
(1419-51) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال:
أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً
_________
(1) بدائع الصنائع (1/55) , المبسوط (1/113) ، فتح القدير (1/138) .
(2) قال ابن الجلاب في التفريع (1/203) : " ولا يجوز أن تصلى الفريضة بتيمم النافلة، وصلها بها، أو قطعها عنها ". وانظر المنتقى للباجي (1/111) ، التاج والإكليل (1/495-496) ، مواهب الجليل (1/340) .
(3) المجموع (2/256) ، المهذب (1/36) ، الإقناع للماوردي (ص: 32) ،
(4) المغني (1/158-159) ، شرح العمدة (1/445) ،
(5) المغني (1/169) ، الذخيرة (1/357-358) .(12/203)
وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل..." الحديث، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (1) .
فإذا تيمم الرجل فهو على طهارته ما لم يجد الماء أو يحدث، ومن طلب منه إعادة التيمم فعليه الدليل من كتاب الله أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوجد دليل يطلب لمن كان متطهراً إعادة الطهور.
الدليل الثاني:
(1420-52) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (2) .
[حديث حسن] (3) .
فإذا كان التيمم يقوم مقام الوضوء، فإنه يأخذ حكمه، فإذا كان للمتوضئ أن يصلي بوضوئه ما شاء من الفرائض والنوافل، فكذلك الحكم في التيمم، له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل.
دليل من قال: إذا تيمم للنافلة لا يصلي بها الفريضة:
هذه المسألة وأمثالها بنوها على مسألة سابقة، وهي هل التيمم يرفع
_________
(1) صحيح البخاري (335) .
(2) المصنف (913) .
(3) سبق تخريجه انظر حديث رقم (39) من أحكام الطهارة.(12/204)
الحدث، أو يعتبر يبيح للمتيمم فعل المأمور؟ فحين ذهبوا إلى الاعتقاد بأن التيمم لا يرفع الحدث، لم يجعلوا حكمه حكم الوضوء، وبنوا على هذه المسألة من الشروط والأحكام ما كنا في غنية عنه لو تبنوا القول الراجح، وهو أن التيمم يرفع الحدث إلى وجود الماء، فمن ذلك اشترطوا في التيمم نية ما يتيمم له من صلاة أو طواف، ونية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، فلو تيمم، ونوى نفلاً لم يدخل الفرض؛ لأن الفرض أعلى من النفل، ولو نوى استباحة الصلاة وأطلق، فلم يعين فرضاً ولا نفلاً لم يصل به فرضاً (1) ، وبعضهم ذهب إلى أنه لا يصلي فرضين بتيمم واحد كما سيأتي بيانه، وهكذا كل هذه الفروع بنيت على أصل ضعيف، وهو أن التيمم لا يرفع الحدث، وقد بينت فيما سبق من السنة أن التيمم يرفع الحدث إلى حين وجود الماء، وهو يقوم مقام الماء في كل شيء، فأغنى عن إعادته هنا.
دليل من قال: لا يتيمم لنافلة.
قال: إن التيمم لا يرفع الحدث، فلا يتيمم إلا للمكتوبة؛ لأنه محدث أجيزت له الفريضة للضرورة، فلا نتعداها.
وهذا يعكر عليه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تيمم لرد السلام، والطهارة لرد السلام مستحب، وليس بواجب.
(1421-53) فقد روى البخاري من طريق الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري،
_________
(1) الروض المربع بتحقيق الدكتور خالد المشيقح وجماعة من طلبة العلم (1/377-378) .(12/205)
فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (1) .
فالقول الراجح: هو مذهب الحنفية، وأن التيمم يقوم مقام الماء فيرفع الحدث بشرطه، وهو عدم الماء، أو العجز عن استعماله، والله أعلم.
_________
(1) البخاري (337) ، ومسلم (369) .(12/206)
المسألة الثالثة: لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة
اختلف أهل العلم فيما لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة،
فقيل: له أن يصلي به نافلة مطلقاً، سواء تقدمت النافلة على الفريضة، أو العكس، وهذا مذهب الحنفية (1) ، ومذهب الشافعية (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: له أن يصلي به نافلة بشرط ألا تتقدم النافلة على الفريضة، وأن تكون النافلة موصولة بالفريضة، وهذا مذهب المالكية (4) ، وقول في مذهب الشافعية (5) .
وجه قول الجمهور:
أما الحنفية فتعليلهم هو ما سبق أن التيمم يرفع الحدث، فإذا ارتفع الحدث فله أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وهذا هو التعليل الصحيح لهذه المسألة.
وأما تعليل الشافعية، فقالوا: إن كل طهارة جاز له أن يتنفل بها بعد الفريضة، جاز له قبلها كالوضوء " (6) .
_________
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/29) ، بدائع الصنائع (1/55) ، تبيين الحقائق (1/40) .
(2) المجموع (2/346) ، التنبيه (ص: 21) ، البيان في مذهب الشافعي (1/278) .
(3) الكافي في فقه أحمد (1/67) ، دليل الطالب (ص: 20) ، منار السبيل (1/56) .
(4) مواهب الجليل (1/339) .
(5) البيان في مذهب الشافعي (1/278) المهذب (1/36) إلا أن الشافعية لم يشترطوا كالمالكية أن تكون موصولة بالفريضة.
(6) المهذب (1/36) .(12/207)
وهذا التعليل جيد، لكن لا يطردونه، فلا يجيزون له فعل الفريضة لو تيمم بنية النافلة، فيقال لهم: لما لا تقولون: كل طهارة جاز أن يصلي بها نافلة، فيجوز أن يصلي بها فريضة كالوضوء، ولا فرق.
وأما تعليل الحنابلة، قالوا: إذا نوى استباحة الأعلى الذي هو الفرض جاز له استباحة الأدنى: الذي هو النفل، فنية الفريضة أعلى من نية النافلة، دون العكس.
فيقال لهم القاعدة المشهورة: الصلاة جنس واحد، ما صح في النفل صح في الفرض، وكذلك العكس، فكل ما يبطل النافلة يبطل الفريضة، وكل شيء يبطل الفريضة يبطل النافلة إلا بدليل صحيح من السنة كاستقبال القبلة ونحوها، فما لم يأت دليل على أن هذا خاص بالنفل دون الفرض فالأصل فيه استواء الحكم، ولذلك لما ذكر الصحابي رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها، قال: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة (1) ، فلولا هذا الاستثناء لانسحب الحكم حتى على الفريضة، فنحتاج إلى دليل من السنة على أن من تيمم للنفل لا يصلي به الفرض، ولا يوجد دليل، فلذلك فالقول الراجح أن الحدث إذا ارتفع يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل، سواء نوى ارتفاع الحدث، أو نوى صلاة مطلقة أو نوى نفلاً أو فرضاً.
تعليل المالكية:
التعليل الأول:
قال في مواهب الجليل: " الأصل أن لا يصلي صلاتين بتيمم واحد نافلة ولا فريضة، وأن لا يجوز التيمم للصلاة عند عدم الماء إلا عند القيام إليها،
_________
(1) الحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر، وهذا لفظ مسلم (700) ، وانظر البخاري (999) .(12/208)
فأجيز أن يصلي بتيمم واحد ما اتصل من النوافل، والنافلة إذا اتصلت بالفريضة استحساناً ومراعاة للخلاف لكونها لاتصالها بها كالصلاة الواحدة، فإذا طال ما بينهما سقطت مراعاة للخلاف، ورجعت المسألة إلى حكم الأصل في وجوب إعادة التيمم" (1) . اهـ
ويجاب:
الظاهر من هذا التعليل أنهم بنوه على أصل ضعيف، وهو أنه لا يصلي صلاتين بتيمم واحد، وهذا لا دليل عليه، وأنه اغتفر ذلك في النافلة بشرط أن تكون بعد الفريضة، وبشرط أن تكون متصلة بها بدون فاصل، وحملهم على ذلك أن النافلة يتسامح فيها ما لا يتسامح في الفرض، ومراعاة للخلاف، وأنها إذا اتصلت كان حكمها حكم الصلاة الواحدة، وكل ذلك لا دليل عليه من السنة، وإنما هو قائم على نظر غير صحيح، وأن التيمم لا يرفع الحدث، ولو كانت النافلة إذا اتصلت بالفريضة كان حكمهما حكم الصلاة الواحدة، فلماذا لا تقولون هذا في الفريضة، وأنه يجوز أن يصلي فرضين بتيمم واحد بشرط اتصالها حتى يكونا كالصلاة الواحدة، ولو كان الحامل على ذلك مراعاة الخلاف، فإن الخلاف قائم حتى في صلاة فريضتين بتيمم واحد، فلماذا لم تقولوا بجواز ذلك مراعاة للخلاف، مع أن مراعاة الخلاف ليس من أدلة الشرع مطلقاً، لا المتفق عليها، ولا المختلف فيها، ولكن دائماً تجد القول الضعيف لا يَطَّرد، ويحمل تناقضه معه، بخلاف القول الصحيح، والله أعلم.
_________
(1) مواهب الجليل (1/339) .(12/209)
التعليل الثاني للمالكية:
ذكر بعضهم تعليلاً آخر، وهو أن مالكاً إنما قال: تصلى النافلة بتيمم الفريضة، ولا تصلى الفريضة بتيمم النافلة، مع أن الكل صلاة؛ لأن الأصول مبنية على أن النوافل تبع للفرائض؛ لأن الفرائض أصول، فلما كان الأصل كذلك جاز أن تصلى النافلة بتيمم الفريضة؛ لأنها تبع لها، ولم يجز أن تصلى الفريضة بتيمم النافلة؛ لأن ذلك خلاف الأصول؛ إذ تصير الفريضة حينئذ تبعاً للنافلة.
ويجاب:
لو كان هذا الأصل صحيحاً لاطرد هذا الأصل في طهارة الماء، وكنا نمنع من صلاة الفريضة بعد النافلة حتى في الوضوء من أجل أن لا تكون الفريضة تبعاً للنافلة، فلما لم يراع مثل هذا في طهارة الماء لم يراع مثل ذلك في طهارة التيمم، والتيمم إنما هو بدل عن الوضوء، والبدل له حكم المبدل.(12/210)
المسألة الرابعة: إذا تيمم للفريضة، فهل يصلي به أكثر من فريضة؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة،
فقيل: إذا تيمم للفريضة فله أن يصلي به ما شاء من الفروض والنوافل، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: لا يصلي به إلا فريضة واحدة، وهذا مذهب المالكية (3) ، والشافعية (4) ، إلا أن المالكية في أحدى القولين عنهم استثنوا الصلوات الفائتة إذا صلاها متصلة بعضها ببعض (5) .
_________
(1) الهداية شرح البداية (1/27) ، بدائع الصنائع (1/55) ، تحفة الفقهاء (1/46) ، نور الإيضاح (ص: 27) ، تبيين الحقائق (1/40) ، المبسوط (1/113) .
(2) شرح العمدة (1/445) ، عمدة الفقه (ص: 11) ، مطالب أولي النهى (1/191) ، الإنصاف (1/292) .
(3) انظر التمهيد (19/294-295) ، المقدمات (1/117) ، التهذيب في مختصر المدونة (1/214) ، المعونة (1/149) .
(4) جاء في الأم (1/47) : " وإن كان قد فاتته صلوات استأنف التيمم لكل صلاة منهما، كما وصفت، لا يجزيه غير ذلك، فإن صلى صلاتين بتيمم واحد، أعاد الآخرة منهما؛ لأن التيمم يجزيه للأولى، ولا يجزيه للآخرة ".
وقال في كتاب البيان في مذهب الشافعي (1/316) : " وإن كان عليه صلوات فوائت، وأراد أن يقضيها في وقت واحد، وهو عادم للماء، قال الشيخ أبو حامد: فإنه يطلب الماء للأولى، ويتمم، ويصليها، فإذا أراد أن يصلي الثانية أعاد الطلب لها، ثم يتيمم، وكذلك الثالثة والرابعة وإن كان في موضع واحد؛ لأن ذلك شرط في التيمم ".
(5) المعونة (1/150) ، الكافي في فق أهل المدينة (ص: 30) ، ونص المدونة على أنه لا يصلي إلا صلاة واحدة، حتى في الفائتة، انظر المدونة (1/48) .(12/211)
دليل من قال: يصلي بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل:
الدليل الأول:
(1422-54) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (1) .
فقوله: " الصعيد وضوء المسلم " أي يقوم مقام الوضوء، فإذا كان من توضأ له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، فكذلك التيمم، فمن تيمم فقد ارتفع حدثه بالتيمم، فجاز له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يحدث أو يجد الماء، فما دام أنه لم يأت ما يبطل تيممه، ولم يشرع له تجديد التيمم، فيبقى على طهارته، هذا وجه استدلال الحنفية من الحديث القائلين بأن التيمم يرفع الحدث.
وأما وجه استدلال الحنابلة القائلين بأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما هو مبيح، يرون أن التيمم إذا استباح به فعل الفريضة استباح به ما كان من جنسها، ولا فرق بين فريضة وأخرى، وأما إذا استباح به نافلة، فلا يستبيح به ما هو أعلى منها كالفريضة، فإذا تيمم للفريضة صلى به ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقت الصلاة، أو يجد الماء، أو يحدث، فليس الفراغ من الفريضة حدثاً يبطل التيمم حتى نوجب للفريضة الأخرى تيمماً آخر، والله أعلم.
_________
(1) المصنف (913) .(12/212)
دليل من قال: لا يصلي به أكثر من فريضة واحدة:
الدليل الأول:
(1423-55) ما رواه ابن المنذر من طريق الأزهر بن مروان، ثنا عبد الوارث، عن عامر الأحول، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: يتيمم لكل صلاة (1) .
[إسناده حسن إن سلم من خطأ عامر الأحول] (2) .
_________
(1) الأوسط (2/57) .
(2) الأثر رواه الداقطني (1/184) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (809) من طريق إبراهيم بن الحجاج، ثنا عبد الوارث به،
ورواه ابن المبارك، واختلف عليه فيه:
فرواه الطبري في تفسيره (5/114) من طريق عبدان المروزي،
والبيهقي في السنن الكبرى (1/221) من طريق الحسن بن عيسى، كلاهما عن ابن المبارك عن عبد الوراث به.
ورواه البيهقي في الخلافيات (808) من طريق حبان، عن ابن المبارك، عن عامر الأحول. فأسقط حبان من إسناده عبد الوارث، والحديث إنما هو حديث عبد الوارث، عن عامر.
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.
قلت: عامر الأحول، قال فيه أحمد بن حنبل: ليس حديثه بشيء، كما في رواية عبد الله عنه، وقال في رواية أبي طالب: ليس بقوي. وقال أبو داود: سمعت أحمد يضعفه. تهذيب الكمال (14/66) .
وذكره العقيلي في الضعفاء (3/310) .
وقال يحيى بن معين: ليس به بأس. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ثقة، لا بأس به، كما في الجرح والتعديل (6/ 326) .
وقال ابن حبان: من ثقات أهل البصرة ومتقنيهم. مشاهير علماء الأمصار (1224) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: شيخ. (5/193) .
وفي التقريب: صدوق يخطئ، فإن سلم هذا الأثر من خطئه، فأرجو أن يكون حسناً، وذلك أن ابن أبي شيبة (1/147) قد رواه من طريق همام، عن عامر الأحول، عن عمرو بن العاص به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الدارقطني في السنن (1/184) ، والبيهقي في الخلافيات (805) ، وهذا إسناد منقطع، عامر لم يسمع من عمرو بن العاص، فأخشى أن يكون وهم فيه عامر الأحول، فجعل ما يرويه عن عمرو بن العاص، جعله من طريق نافع، عن ابن عمر، فوصل إسناده، خاصة أن الإمام أحمد قد قال فيه ما علمت، وهو من أهل الجرح المعتدلين، والأئمة المعتبرين، فلا يكون كلامه في عامر إلا وقد رأى في روايته ما يحمله على هذا القول فيه، ولم يرو في الباب أثر أقوى منه مع غرابته، فأين أصحاب نافع المشهورين في أخذ الرواية عنه، مثل عبيد الله بن عمر، ونافع، أين هما عن مثل هذا الأثر لو كان صحيحاً؟ وليس لعامر في الكتب التسعة رواية عن نافع، مما يدل هذا على قلة روايته عنه، فإذا كان من نافع بهذه المنزلة، ثم تفرد بحديث أو أثر لم يتابعه عليه إلا متروك أو ضعيف، فكيف تطمئن النفس إلى صحة مثل هذا؟
وانظر إتحاف المهرة (10602) .(12/213)
وعلى فرض صحته، فإنه مخالف لما ثبت عن ابن عباس، فإذا اختلف الصحابة كان الاتباع لأقرب القولين إلى الشرع، وقول ابن عباس موافق للقياس الصحيح.
(1424-56) فقد روى ابن المنذر من طريق إسرائيل، عن أبي عمر، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: يجزئ المتيمم أن يصلي الصلوات بتيمم واحد (1) .
_________
(1) الأوسط (2/58) ، وإسرائيل يروي عن شيخين كل واحد منهما يقال له أبو عمر، الأول: عبد الملك بن عمير، والثاني: هلال بن أبي حميد، وقد ترجم لهما المزي، ولم أجد من شيوخهما عكرمة حتى أجزم بأحدهما، فقد يكون فات المزي ذكر ذلك، فإن كان عبد الملك فإنه ثقة، تغير حفظة بآخرة، وربما دلس، وإن يكن هلال بن أبي حميد فهو ثقة إن شاء الله تعالى، فأرجو أن يكون إسناده صحيحاً.(12/214)
الدليل الثاني:
(1425-57) ما رواه عبد الرزاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد،
عن ابن عباس، قال: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
الدليل الثالث:
(1426-58) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة أن عمرو بن العاص قال: نحدث لكل صلاة تيمماً (3) .
[ضعيف] (4) .
_________
(1) المصنف (830) .
(2) الأثر رواه عبد الرزاق كما في إسناد الباب، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/57) ، والدارقطني في السنن (1/185) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/221) .
وفي إسناده الحسن بن عمارة، قال أحمد في رواية أبي طالب: الحسن بن عمارة متروك الحديث، أحاديثه موضوعة، لا يكتب حديثه. الجرح والتعديل (3/27) .
وفي التقريب: متروك. قال الدارقطني عقب روايته له: الحسن بن عمارة ضعيف.
وقال الحافظ ابن حجر كما في الدراية (1/69) وعن ابن عباس: من السنة أن لا يصلي بالتيمم أكثر من صلاة واحدة، أخرجه الدارقطني بإسناد واهٍ.
وقد رواه عبد الرزاق أيضاً (831) عن الثوري، عن رجل، عن ابن عباس بنحوه، وإسناده ضعيف؛ لأن فيه مبهماً. وانظر إتحاف المهرة (8786) .
(3) المصنف (833)
(4) فيه علتان، الأولى: رواية معمر عن قتادة فيها ضعف، لأن سماعه منه كان وهو صغير. العلة الثانية: قتادة لم يسمع من عمرو بن العاص، ولم يسمع من صحابي غير أنس.
قال الحافظ في تلخيص الحبير (1/155) : فيه إرسال شديد بين قتادة وعمرو. اهـ
وقد رواه ابن أبي شيبة (1/147) حدثنا ابن مهدي، عن همام، عن عامر الأحول، عن عمرو بن العاص به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الدارقطني في السنن (1/184) ، والبيهقي في الخلافيات (805) ، وعامر الأحول لم يدرك صحابياً واحداً.
والصحيح عن قتادة من قوله، فقد رواه ابن أبي شيبة (1/147) حدثنا أبو أسامة، عن سعيد، عن قتادة، قال: كان يعجبه أن يتيمم لكل صلاة. وإسناده صحيح. والعبارة لا تدل على الوجوب.
وانظر إتحاف المهرة (15959) فقد حكم ابن حجر على طرقه بالانقطاع.(12/215)
الدليل الرابع:
(1427-59) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث،
عن علي، قال: يتيمم لكل صلاة (1) .
[إسناده ضعيف، وفيه أكثر من علة] (2) .
_________
(1) المصنف (1/147) .
(2) الحارث الأعور ضعيف، وحجاج بن أرطأة ضعيف ومدلس.
والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف كما في إسناد الباب، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/221) .
وأخرجه الطبري في تفسيره (5/114) من طريق يعقوب ومن طريق ابن المبارك فرقهما.
وأخرجه مسدد كما في المطالب العالية (159) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/57) والبيهقي في الخلافيات (804) .
وأخرجه الدارقطني (1/184) من طريق سعيد بن سليمان، أربعتهم عن هشيم به.
وقد ضعفه جماعة من أهل العلم، منهم ابن المنذر في الأوسط وابن الجوزي في التحقيق (1/ 240) ، وابن التركماني في الجوهر النقي (1/221) .(12/216)
الدليل الخامس:
الأصل أن الطهارة تجب لكل صلاة، بظاهر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق..} (1) ، ولكن السنة خصت من ذلك الطهارة بالماء، حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة صلوات بوضوء واحد، فبقي التيمم على أصله، إذ لم يرد فيه من التخصيص ما ورد في الوضوء.
وأجيب:
بأن قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (2) .
إن كان يدل على استحباب الوضوء لكل صلاة لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يدل على استحباب التيمم لكل صلاة، فضلاً أن يجب التيمم لكل صلاة، وذلك أن تجديد الوضوء قد وردت به السنة، ولم يرد في التيمم استحباب تجديده لكل صلاة، فكان الأولى أن يقال: إن السنة خصت التيمم، فلا يشرع التيمم لكل صلاة، والقول بأنه لولا ما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح لكان الوضوء واجباً لكل صلاة ليس بصواب، لما روى البخاري من حديث أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث (3) .
فهذا الحديث ظاهره أن الوضوء لكل صلاة من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة،
_________
(1) المائدة: 6.
(2) المائدة: 6.
(3) البخاري (214) .(12/217)
وأن الصحابة لم يكن يصنعون ما يصنع عليه الصلاة والسلام، وأن هذا لم يتلق بعد فتح مكة، وإنما كان هذا شأن الصحابة رضي الله عنهم.
وإن كان في الآية تقدير كما ذكر بعض أهل العلم، وأن معنى الآية، كما قال زيد بن أسلم رحمه الله: إذا قمتم إلى الصلاة: أي: من النوم.. فعلى هذا التقدير لا يكون فيه مستمسك لمن أوجب التيمم لكل صلاة، والله أعلم.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض الأدلة نجد أن القول بأن المتيمم له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل أقوى من حيث الاستدلال، وذلك لأن القول بأنه ليس له أن يصلي إلا فريضة واحدة، وله أن يصلي ما شاء من النوافل خلاف القياس، فإن كان له أن يجمع من النوافل ما شاء، فله أن يصلي من الفرائض ما شاء، إذ ليس بين طهارته للمكتوبة وطهارته للنافلة فرق في شيء من الأحكام، وغير جائز أن نقول: إذا صليت النافلة فأنت متطهر، وإذا صليت المكتوبة فأنت غير متطهر، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن من تطهر بموجب الكتاب والسنة فهو على طهارته، ولا ينقضها إلا كتاب أو سنة أو إجماع، أو قول صاحب لا مخالف له، ولا يوجد في هذه المسألة شيء من هذه الأمور، والعجب في مذهب المالكية رحمهم الله تعالى كيف يصلي الرجل مجموعة من الفرائض بتيمم واحد إذا كانت مقضية، ولا يصليها إذا كانت أداء، فهل هذا إلا دليل على أن هذا القول بني على الرأي المحض، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، والله أعلم.(12/218)
المسألة الخامسة: لو تيمم للنافلة فهل له أن يصلي به نوافل أخرى
لو تيمم الرجل ينوي بتيممه فعل نافلة من النوافل، فهل له أن يصلي بهذا التيمم نوافل أخرى، اختلف الفقهاء في ذلك،
فقيل: له أن يصلي ما شاء من النوافل، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: له أن يصلي نوافل أخرى بشرط أن تكون متصلة، فإن كان بينها فاصل طويل عرفاً أعاد تيممه، وهذا مذهب المالكية (4) .
وهذه المسألة وإن كانت متفرعة عن المسائل السابقة، من كون التيمم يرفع الحدث، أو لا يرفعه، وإنما يبيح فعل الصلاة، ومع ذلك فقد خفف الجمهور في مسألة النوافل، فأجازوا فيها صلاة أكثر من نافلة بتيمم واحد، ولم يجيزوا ذلك في الفرض، وهذا راجع إلى أن النوافل مبنية على التيسير، فهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي حيث توجهت به راحلته.
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/538) ، المبسوط (1/113) ،
(2) قال النووي في المجموع (2/257) : " فإذا نوى استباحة نافلة جاز أن يصلي من جنس النوافل ما شاء إلى أن يحدث... ".
(3) المغني (1/158) ، الفروع (1/227) .
(4) التاج والإكليل (1/496) ، مواهب الجليل (1/339) ، الشرح الكبير (1/152) .(12/219)
[صفحة فارغة](12/220)
المبحث الرابع:
لو تيمم يريد به تعليم الغير
لو تيمم الرجل يريد تعليم الغير، فهل له أن يصلي بهذا التيمم؟ اختلف في ذلك.
فقيل: يصلي به، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (1) .
وقيل: لا يصلي به، وهو مذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة (5) .
_________
(1) ذكر ذلك صاحب درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/30) ، والزيلعي في تبيين الحقائق (1/40) ، وهو مخالف لما ذكره ابن الهمام في شرح فتح القدير، فإنه قال (1/130) : "ولو تيمم يريد به تعليم الغير دون الصلاة لا يجوز عند الثلاثة ". يقصد بالثلاثة: أبا حنيفة وصاحبيه. كما أنه مخالف لما ذكره السعدي في النتف في الفتاوى (1/38) ، وهو أيضاً مخالف لقواعد المذهب، فإن التيمم الذي تصح الصلاة يشترط له شرطان: الأول: كون المنوي عبادة مقصودة. والثاني: كونه لا يحل فعله إلا بطهارة، والتعليم يصح بدون طهارة، انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 73) ، حاشية ابن عابدين (1/245) .
(2) المبسوط (1/117) ، شرح فتح القدير (1/130) ، البحر الرائق (1/157) .
(3) المنتقى للباجي (1/34) ، مواهب الجليل (1/237) .
(4) الأشباه والنظائر للسوطي (ص: 22) .
(5) قال في الإنصاف (1/147) : " لو نوى رفع الحدث وإزالة النجاسة أو التبرد أو تعليم غيره: ارتفع حدثه على الصحيح من الذهب ".
هذا الكلام في الوضوء، ولا يختلف الحكم عنه في التيمم، فلو نوى التيمم للصلاة من الحدث الأصغر، ونوى به تعليم غيره ارتفع حدثه، ولو نوى التعليم فقط لم يرتفع الحدث، لأن نية استباحة الصلاة من الحدث لم تنو، والمذهب يشترطون كما سبق لنا في التيمم نية التيمم للصلاة ونحوها من الحدث الأصغر أو الأكبر.(12/221)
قال سفيان: من علم غيره الوضوء أجزأه، ومن علمه التيمم لم يجزه (1) .
والخلاف في هذا قائم على حكم النية في التيمم، فمن يرى أن النية ليست شرطاً في صحة التيمم رأى أن تيممه لتعليم الغير يمكن له أن يصلي به، ومن رأى أن النية شرط في صحة التيمم، اشترط أن يكون مع نية التعليم نية التيمم للصلاة، ونحوها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القاعدة: أن من نوى ما لا يصح إلا بطهارة كالصلاة صح تيممه، ومن نوى شيئاً لا يشترط فيه الطهارة كالتعليم لم يصح تيممه؛ لأن نية التعليم لا تتضمن نية الطهارة؛ لأنها ليست شرطاً فيها، والله أعلم، ومن نوى التعليم والصلاة صح تيممه، لأن التعليم عبادة مقصودة، وكذا الصلاة، وقد صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وقال: إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي. متفق عليه (2) .
فإذا كانت نية التعليم لم تقدح في صحة الصلاة، فكذلك إذا نوى التيمم للصلاة، ونوى التعليم لم يقدح في صحة التيمم، والله أعلم.
_________
(1) جاء في المنتقى للباجي (1/34) : " وروي عن سفيان الثوري أنه قال: من علم غيره الوضوء أجزأه، ومن علمه التيمم لم يجزه حتى ينويه لنفسه. قال الباجي: وهذا مبني على أن التيمم يفتقر إلى نية دون الوضوء ".
(2) البخاري (917) ، ومسلم (554) .(12/222)
الشرط الثاني:
من شروط التيمم الإسلام
سبق لنا في الكلام على شروط الوضوء أن قدمنا خلاف العلماء في وضوء الكافر، وهل يصح وضوؤه أو لا يصح، وأن مذهب الجمهور على أن الإسلام شرط في صحة الوضوء، وخالف في ذلك الحنفية رحمه الله، فقالوا بصحة وضوء الكافر، وقد تم مناقشة الأدلة هناك، فأغنى عن إعادته هنا، وفي هذا البحث نتناول الخلاف في التيمم، وهل يصح التيمم من الكافر، أو يشترط أن يكون المتيمم مسلماً، في ذلك خلاف بين أهل العلم،
فقيل: الطهارة كلها من وضوء أو تيمم، بل وكل العبادات لا يصح فعلها من الكافر، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: يصح الوضوء من الكافر ولا يصح منه التيمم، وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن (2) .
وقال أبو يوسف: إذا تيمم بنية الإسلام أو الطهر فهو صحيح، وإذا أسلم فله أن يصلي به، وإن تيمم بنية الصلاة لم يصح (3) .
أما الخلاف في صحة الوضوء فقد سبق تحريره في كتاب الوضوء، وأما
_________
(1) انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/132) ، الفواكه الدواني (1/135) ، نهاية المحتاج (1/154) ، المجموع (2/372) ، الأشباه والنظائر (1/429) ، المقدمة الحضرمية (ص: 33) ، المنهج القويم (ص: 51) ، كشاف القناع (1/85) .
(2) المبسوط (1/116) ، البحر الرائق (1/159) ،
(3) المبسوط (1/116) ، البحر الرائق (1/159) ، بدائع الصنائع (1/52) .(12/223)
سبب الخلاف في التيمم فيرجع إلى الكلام على اشتراط النية فيه، فمن ذهب إلى وجوب النية في التيمم اشترط أن يكون المتيمم مسلماً؛ لأن الكافر ليس من أهل النية، فكل عمل يفتقر إلى نية لا يصح فعله من الكافر؛ لأن النية تصير الفعل منتهضاً مسبباً للثواب، ولذلك لما كان أبو حنيفة رحمه الله يرى صحة الوضوء بلا نية صحح الوضوء من الكافر، ولم يصحح تيممه لاشتراطه النية عنده في التيمم، وأما الجمهور الذين يذهبون إلى أن النية شرط في الوضوء والتيمم والغسل يذهبون إلى أن الإسلام شرط في صحة هذه الأفعال، فلا يصح فعلها من الكافر، وهو الصحيح.
وسبب تفريق أبي يوسف بأنه إن نوى الكافر بتيممه الإسلام صح، فإذا أسلم بعد صلى بتيممه، وإن نوى به الصلاة لم يصح؛ لأن الكافر من أهل نية الإسلام، والإسلام رأس العبادة، فيصح تيممه بخلاف ما إذا تيمم للصلاة، فإنه ليس من أهل الصلاة، فلا يصح تيممه بهذه النية.
والراجح قول الجمهور، وهل تجب على الكافر الطهارة من وضوء وتيمم وغسل، فيه خلاف، وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية، وهي هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
وقد حررت فيها الخلاف في كتاب الوضوء، في الكلام على شروط الوضوء، فارجع إليها غير مأمور.(12/224)
الشرط الثالث:
التكليف
والمكلف: هو البالغ العاقل، فلا يجب ولا يصح تيمم المجنون،
وأما المميز: فيصح منه التيمم، ولا يجب عليه (1) .
وتعريف التمييز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الناس (2) .
وقيل: هو من يصل إلى حالة بحيث يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده، ولا يتقيد بسبع سنين (3) .
وهذا التعريف هو ما يدل عليه اشتقاق كلمة مميز.
وقيل: هو من استكمل سبع سنين (4) .
وأما كون التيمم لا يصح من مجنون، وغير مميز؛ فلأن من شرط الوضوء النية على الصحيح، وهما ليس لهما نية صحيحة.
_________
(1) البحر الرائق (1/10) ، حاشية ابن عابدين (1/86) ، حاشية الدسوقي (1/84) ، الفواكه الدواني (1/135) ، المجموع (1/372) ، شرح البهجة (1/77) ، مغني المحتاج (1/47) ، نهاية المحتاج (1/154) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/51) ، حاشية البجيرمي على المنهج (1/64) ، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/129) ، المقدمة الحضرمية (ص:33) كشاف القناع (1/85) ، شرح منتهى الإرادات (1/52) .
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/725) ، وانظر مطالب أولي النهى (1/77) .
(3) شرح البهجة للأنصاري (4/406) .
(4) مطالب أولي النهى (1/77) .(12/225)
وأما كونه لا يجب عليهما؛ فلأن من شرط الوجوب التكليف، وهما غير مكلفين.
وقد أجمع أهل العلم على أن الطفل غير المميز لا يصح منه التيمم، قال ابن تيمية: الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول، ويقصده، فأما المجنون والطفل الذي لا يميز فأقواله كلها لغو في الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود، ولا شيء من الأقوال باتفاق المسلمين (1) .
والكلام في هذا الشرط كالكلام فيه في باب الوضوء، فقد سبق لي أن ذكرت الأدلة على أن الوضوء لا يصح من غير المميز والمجنون، وأن البلوغ شرط لوجوب الوضوء، والتمييز شرط لصحته، والكلام في الباب هنا كالكلام في الباب هناك فارجع إليه غير مأمور إن أردت الوقوف على مزيد أدلة هذا الشرط، والله الموفق.
_________
(1) التفسير الكبير (3/80) .(12/226)
الشرط الرابع:
انقطاع ما يوجب الحدث إلا في المعذور
إذا أراد التيمم لا بد أن ينقطع ما يوجب الحدث، وذلك كالحيض والنفاس، والبول والغائط، لأن خروج مثل هذه ينقض الطهارة، ويوجب الحدث، إلا في المعذور كالمستحاضة ومن به سلس بول ونحوهما فإنه يجوز له أن يتيمم، ولو لم ينقطع حدثه، بل إن خروج دم الاستحاضة، ومن به سلس بول، لا يعتبر حدثاً ناقضاً للوضوء أصلاً، وإنما يستحب منه الوضوء ومثله التيمم، ولا يجب، وهذا مذهب المالكية (1) .
وقد بحثت هذه المسألة بشيء من الاستفاضة في كتابي الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا (2) .
_________
(1) مواهب الجليل (1/291) ، حاشية الدسوقي (1/116) ، الخرشي (1/152) ، القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 29) ، فتح البر بترتيب التمهيد (3/508) ، الاستذكار (3/225-226) .
(2) انظر (3/1109) في خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة.(12/227)
[صفحة فارغة](12/228)
الشرط الخامس:
طلب الماء قبل التيمم
سبق لنا أنه لا يصح التيمم إلا مع قيام العذر: وهو عدم الماء، أو العجز عن استعماله.
وهل يجب عليه قبل التيمم طلب الماء، حتى يتحقق أن الماء معدوم، أو لا يجب عليه الطلب؟ اختلف في ذلك أهل العلم،
فقيل: إذا لم يرجُ وجود الماء، ولم يخبره مخبر، فليس عليه الطلب، ويجزيه التيمم، وهو مذهب الحنفية (1) ، وراوية عن أحمد (2) .
وقيل: يجب عليه الطلب، فإن تيمم قبل الطلب لم يجزه، وهو مذهب الجمهور (3) .
دليل الجمهور على وجوب طلب الماء:
الدليل الأول:
استدلوا بقوله تعالى {فلم تجدوا ماء} فهذا دليل على وجوب طلب الماء؛ لأنه لا يصدق عليه أنه لم يجد الماء إلا بعد الطلب.
_________
(1) المبسوط (1/108) ، أحكام القرآن للجصاص (2/530) .
(2) المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/91) وذكر قولين:
الأول: أنه شرط،. وهذا نقل صالح وابن منصور، واختيار الخرقي.
والثاني: أنه مستحب، وهذا نقل الميموني. ورجح القاضي الأول.
(3) انظر في مذهب المالكية: المقدمات (1/120) ، الذخيرة للقرافي (1/335) ، المعونة (1/149) ،.(12/229)
الدليل الثاني:
من جهة القياس، فإن التيمم بدل عن طهارة الماء، ولا يصح فعل البدل إلا بالعجز عن المبدل، ولا يتحقق العجز إلا بعد البحث والطلب.
دليل الحنفية على أن طلب الماء إذا لم يكن معه ماء غير واجب:
استدلوا بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} ، فمن لم يكن معه ماء فهو غير واجد للماء، فإن قيل: لا يكون غير واجد إلا بعد الطلب، قيل: هذا خطأ؛ لأن الوجود لا يقتضي طلباً، قال تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} (1) ، ومعناه: ليس في ملكه، ولا له قيمتها، لا أنه أوجب عليه أن يطلبها.
وقال تعالى: {فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا قالوا نعم} (2) ، فأطلق اسم الوجود على ما لم يطلبوه.
وقال تعالى: {ووجدك عائلاً فأغنى} (3) .
ويقال: وجد فلان لقطة، وإن لم يطلب وجودها.
فإذا كان الوجود قد يكون من غير طلب، فمن ليس بحضرته ماء، ولا هو عالم به، فهو غير واجد، وإذا تناوله إطلاق اللفظ لم يجزئنا أن نزيد عليه فيه فرض الطلب؛ لأن فيه إلحاق الزيادة بحكم الآية، وذلك غير جائز (4) .
_________
(1) النساء: 92.
(2) الأعراف: 44.
(3) الضحى: 8.
(4) أحكام القرآن للجصاص (2/530) .(12/230)
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض القولين وأدلتهما، يمكننا القول بأن من تحقق عدم الماء فإنه يتيمم من غير طلب؛ لأن طلب الماء حينئذ سيكون نوعاً من العبث، وأما من كان لا يتحقق عدم الماء، فإنه يلزمه طلب الماء؛ لأن الوضوء واجب إجماعاً، فيجب طلب الماء للقيام به؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن شرط صحة التيمم عدم وجود الماء، ويبطل إذا وجد الماء، فكيف يصح تيممه، والاحتمال قائم بأن الماء قد يكون موجوداً حوله.
ويمكن لنا أن نقسم حال الإنسان إلى أقسام:
الأول: أن يعلم أن الماء غير موجود، كما لو كان في مفازة من الرمال، ولا يوجد بها أثر من حياة، فهذا يتيمم، وليس عليه الطلب. والله أعلم.
الثاني: أن يغلب على ظنه بناء على أمارات معينة، فيعمل بغلبة الظن، سواء غلب على ظنه عدم الماء، فلا يلزمه الطلب، أو غلب على ظنه وجود الماء، فيجب عليه الطلب حينئذ.
الثالث: أن يشك في وجود الماء، فيجب عليه الطلب حتى يصل إلى اليقين أو إلى غلبة الظن، فيعمل بموجبها.
الرابع: أن يتوهم الأمر، فيجب عليه الطلب، سواء كان الوهم في وجود الماء أو عدمه.(12/231)
[صفحة فارغة](12/232)
الفرع الأول:
في تقدير المسافة التي تبيح التيمم ويسقط فيها طلب الماء
من خلال الفصل السابق تم مناقشة، هل يجب عليه طلب الماء قبل التيمم، وفي هذا الفصل سوف نناقش الحدود التي إذا بعد الماء فيها عن صاحبه، شرع له التيمم.
اختلف في ذلك أهل العلم،
فقيل: يتيمم إذا كان الماء يبعد ميلاً فأكثر، فإن كان أقل من ميل لم يجز التيمم، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية، ورجحه الكاساني في بدائع الصنائع (1) .
وقيل: إن كان الماء أمامه يعتبر ميلين، وإن كان يمنة أو يسرة يعتبر ميلاً واحداً، وهو اختيار الحسن بن زياد من الحنفية (2) .
وقيل: إن كان الماء بحيث لو ذهب إليه لا تنقطع عنه جلبة العير، ويحس أصواتهم وأصوات الدواب، فهو قريب، وإن كان يغيب عنه ذلك فهو بعيد، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (3) .
_________
(1) قال في مراقي الفلاح (ص: 48) : " العذر المبيح للتيمم كبعده ميلاً، ولو في المصر".
وقال الكاساني في بدائع الصنائع (1/46) : " أن يكون الماء بعيداً عنه، ولم يذكر حد البعد في ظاهر الرواية، وروى محمد أنه قدره بالميل، وهو أن يكون ميلاً فصاعداً، فإن كان أقل من ميل لم يجز التيمم " ثم قال: " وأقرب الأقاويل اعتبار الميل؛ لأن الجواز لدفع الحرج، وإليه وقعت الإشارة في أية التيمم، وهو قوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم} المائدة: 6.
(2) بدائع الصنائع (1/46) ،
(3) بدائع الصنائع (1/47) ، وهناك أقوال أخرى في مذهب الحنفية تركتها اقتصاراً.(12/233)
وقيل: لا يحد فيه حداً، وإنما إذا شق عليه أو على أصحابه إن انتظروه، أو خاف فوات الرفقة تيمم.
وهذا القول رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة (1) ، والمشهور في مذهب المالكية (2) .
وقيل يطلب الماء في رحله، وما قرب منه عرفاً، بحيث ينظر أمامه، وخلفه، ويمينه، وشماله إن كان الذي حواليه لا يستتر عنه، وهذا مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
ولم يرد دليل في الشرع على تقدير مسافة معينة، وكل ما لم يحد شرعاً فإن مرجعه إلى العرف، والحكمة من مشروعية التيمم هو رفع الحرج كما نصت عليه آية التيمم، فالطلب الذي يلحق صاحبه مشقة وعنت فهو مرفوع،
_________
(1) جاء في المبسوط (1/108) : " قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: سألت أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عن المسافر لا يجد الماء، أيطلبه عن يمين الطريق وعن يساره؟ قال: إن طمع في ذلك فليفعل، ولا يُبْعِد، فيضر بأصحابه إن انتظروه، أو بنفسه إن انقطع عنهم ".اهـ
(2) جاء في المنتقى للباجي (1/102) : " روى ابن القاسم عن مالك في المسافر يكون الماء حائداً عن طريقه أن ذلك على قدر قوة الرجل وضعفه، وبُعْد الموضع وقربه، فإن كان فيه مشقة أجزأه التيمم". اهـ وقال الباجي أيضاً (1/110) : " وفي المبسوط من رواية ابن وهب عن مالك: أن كل ما يشق على المسافر طلبه والخروج إليه، وإن خرج إليه فاته أصحابه فإنه يتيمم، ولم يحد فيه حداً ".
وعبارة خليل في متنه: " طلباً لا يشق به ". قال الخرشي في شرحه (1/189) : " أي طلبه طلباً لا يشق به، فليس الرجل والضعيف كالمرأة والقوي ".
(3) المجموع (2/288) .
(4) الإنصاف (1/274) ، شرح منتهى الإرادت (1/94) ، كشاف القناع (1/167-168) .(12/234)
وإذا خاف فوت الرفقة لم يجب عليه طلب الماء، حتى ولو لم يكن يتضرر بفوتهم، فيكفي أن يفقد الإنس والألفة معهم، ومن قدره بالميل كالحنفية فتقديره لم يكن عن توقيف من الشارع، وإنما نظروا إلى المشقة التي تلحق الرجل في عصرهم، وأما في عصرنا فقد يكون الحال مختلفاً، فالسيارة ليست كالراحلة، والراكب ليس كالماشي، ومذهب الشافعية والحنابلة أرى أنه أيسر على المكلف ما دام أن الأمر ليس فيه توقيف، فينظر في مكانه، وما قرب منه، ولا يلزمه أن يشد رحله في طلب الماء، ويكفي أن يسأل أهل الخبرة بالمكان الذي هو فيه إن أمكن، فإذا لم يقف على الماء تيمم، ولا حرج،
(1428-60) فقد روى ابن المنذر من طريق صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت الأوزاعي، قلت: حضرت الصلاة، والماء حائز على الطريق، أيجب أن أعدل إليه؟ قال: حدثني موسى بن يسار، عن نافع،
عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر، والماء على غلوتين ونحو ذلك، فلا يعدل إليه (1) .
[إسناده حسن] (2) .
_________
(1) الأوسط (2/35) .
(2) في إسناده موسى بن يسار، قال عنه أبو حاتم الرازي: شيخ مستقيم الحديث. الجرح والتعديل (8/167) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/457) .
وقال الذهبي: لا بأس به. ميزان الاعتدال (4/226) .
وقال في المغني: صدوق. المغني في الضعفاء (2/689) .
واحتج به إسحاق، ففي كتاب المسائل (80) : قال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يعدل إلى الماء، وهو منه على غلوة أو غلوتين.
والأثر رواه البيهقي (1/233) من طريق أبي عامر، ثنا الوليد بن مسلم به.(12/235)
(1429-61) وأما ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن سنان القزاز، نا عمرو بن محمد بن أبي رزين، حدثنا هشام بن حسان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتيمم بموضع يقال له مربد النعم، وهو يرى بيوت المدينة (1) .
[إسناده ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/186) .
(2) في إسناده محمد بن سنان القزاز، جاء في ترجمته:
قال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي بالبصرة، وكان متسوراً في ذلك الوقت. الجرح والتعديل (7/279) .
وقال أيضاً: سألت عنه عبد الرحمن بن خراش، فقال: هو كذاب، روى حديث (والان) عن روح بن عبادة، فذهب حديثه. المرجع السابق.
وقال عبد الرحمن بن خراش: ليس عندي بثقة. تاريخ بغداد (5/345) .
وقال الآجري: سمعته - يعني: أبا دواد السجستاني - يتكلم في محمد بن سنان، يطلق فيه الكذب ". المرجع السابق.
وقال الدارقطني: لا بأس به. سؤالات الحاكم (163) .
وذكره ابن حبان في الثقات (9/133) .
وقال الحافظ في التهذيب: إن كان عمدة من كذبه كونه ادعى سماع هذا الحديث - يعني: حديث والان العدوي - من ابن عبادة، فهو جرح لين، لعله استجاز روايته عنه بالوجادة ". تهذيب التهذيب (9/183) .
وقال مسلمة في الصلة: ثقة. المرجع السابق.
وفي التقريب: ضعيف.
فالحديث ضعيف على كل حال، سواء كان القزاز ضعيفاً أو ثقة، وذلك لأنه تفرد بروايته مرفوعاً، وخالف غيره من الثقات ممن رووه موقوفاً على ابن عمر.
قال الدارقطني: " يرويه عبيد الله بن عمر، واختلف عنه، فرواه محمد بن سنان بن يزيد القزاز، عن عمرو بن محمد بن أبي رزين، عن هشام بن حسان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وغيره يرويه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً، وكذلك رواه أيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي، عن نافع، عن ابن عمر، من فعله موقوفاً. تاريخ بغداد (5/344) .
وقال الخطيب: تفرد بروايته مرفوعاً محمد بن سنان بهذا الإسناد، وتابعه محمد بن يونس الكديمي، فرواه عن عمرو بن محمد بن أبي رزين كذلك ".
قلت: لا يفرح بهذه المتابعة، وذلك لأن الكديمي رجل متروك.
تخريج الحديث:
الحديث رواه الحاكم في المستدرك (1/180) ، والدارقطني في سننه (1/186) ، والبيهقي في السنن (1/234) من طريق محمد بن سنان، عن عمرو بن محمد به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح تفرد به عمرو بن محمد بن أبي رزين، وهو صدوق، ولم يخرجاه، وقد أوقفه يحيى بن سعيد الأنصاري وغيره عن نافع، عن ابن عمر ".
ولم يتعقبه الذهبي بشيء.
وضعف إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وانظر تخريج ما بقي من طرق حديث ابن عمر في حديث رقم (1430، 1431، 1444) من هذا الكتاب. وانظر إتحاف المهرة (11130، 10902، 11322، 11461) .(12/236)
والموقوف كاف في الاحتجاج، لأن الصحابي أعلم من غيره متى يشرع له التيمم، ومتى لا يشرع.
(1430-62) فقد روى مالك، عن نافع،
أنه أقبل هو وعبد الله بن عمر من الجرف حتى إذا كانا بالمربد نزل(12/237)
عبد الله، فتيمم صعيداً طيباً، فمسح وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم صلى (1) .
وإسناده في غاية الصحة.
(1431-63) ورواه ابن المنذر من طريق أيوب، عن نافع به، بلفظ:
عن ابن عمر أنه أقبل من أرضه بالجرف، حتى إذا كان مربد النعم، حضرت صلاة العصر، فتيمم، وإنه لينظر إلى بيوت المدينة (2) .
وهو أصح شيء ورد في الباب حسب علمي، والله أعلم.
وقول محمد بن مسلمة من المالكية: " إنما تيمم عبد الله بالمربد، وهو بطرف المدينة؛ ولم ينتظر الماء؛ لأنه خاف فوات الوقت " (3) ، فيشكل عليه
_________
(1) الموطأ (1/58) ، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق (883) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/114) ، والدارقطني (1/181) ، والبيهقي (1/207) .
وانظر إتحاف المهرة (11130) . وانظر لاستكمال تخريج طرق الحديث رقم (1329، 1444)
(2) الأوسط (2/34) ، وهو في مصنف ابن أبي شيبة (1/146) رقم 1673 عن ابن علية، عن أيوب به بنحوه. وإسناده صحيح.
ورواه الشافعي في الأم (1/45) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/61) والبيهقي في الكبرى (1/224) عن ابن عيينة.
ورواه الدارقطني (1/186) من طريق فضيل بن عياض،
ورواه عبد الرزاق (884) عن الثوري، ثلاثتهم: (ابن عيينة وفضيل والثوري) عن ابن عجلان، عن نافع به، بنحوه. وإسناده حسن.
ورواه عبد الرزاق (884) عن الثوري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع به. وسنده صحيح.
وانظر مزيد بحث لهذا الأثر في حديث رقم (1429، 1444) .
(3) المنتقى للباجي (1/113) .(12/238)
أن نافعاً قال: دخل المدينة، والشمس مرتفعة.
وأجاب الباجي في المنتقى على هذا الإشكال، فقال: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يريد بقوله: والشمس مرتفعة: أي أنها مرتفعة عن الأفق، لم تغب بعد، إلا أن الصفرة قد دخلتها، فخاف فوات وقت الصلاة المختار.
الوجه الثاني: أن يكون عبد الله قد رأى أنه لا يدخل المدينة حتى يخرج الوقت، فتيمم على هذا الاجتهاد، وصلى، ثم تبين له أنه كان في فسحة من الوقت، فلم يعد " (1) .
قلت: هذا كله تأويل للأثر، ومن قبيل الحدس، ولا أظن أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه لا يدري أنه يدخل المدينة قبل خروج الوقت، خاصة وأنه ينظر إلى بيوت المدينة حين تيمم.
(1432-64) أما ما رواه الطبراني من طريق المهيمن بن عباس، عن أبيه،
عن جده، أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يأتون العالية، فيدركون المغرب عند مربد النعم، فيتيممون (2) .
[فإسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) انظر المرجع السابق.
(2) المعجم الكبير (6/124) رقم: 5715.
(3) في إسناده عبد المهيمن بن عباس بن سهل، جاء في ترجمته:
قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/137) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (386) .
وقال أيضاً: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (6/383) .
وقال ابن حبان: ينفرد عن أبيه بأشياء مناكير، لا يتابع عليها من كثرة وهمه، فلما فحش ذلك في روايته بطل الاحتجاج به. المجروحين (2/149) .
وفي التقريب: ضعيف.(12/239)
[صفحة فارغة](12/240)
الفرع الثاني:
لو تيمم ناسياً وجود الماء
إذا تيمم ناسياً وجود الماء، وبعد الصلاة تبين له أن الماء كان معه، فهل يلزمه إعادة الصلاة، أو يصح تيممه؟
فقيل: لا تلزمه الإعادة، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن (1) ، ومالك في إحدى الروايتين عنه (2) ، ورواه أبو ثور عن الإمام الشافعي (3) ، واختاره ابن حزم رحمه الله (4) ، وابن العربي من المالكية (5) .
وقيل: لا يصح تيممه، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (6) ، وإحدى الروايتين عن مالك (7) ، والصحيح من مذهب الشافعية (8) ، والمنصوص عن
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (1/529) ، المبسوط (1/121) ، بدائع الصنائع (1/49) ، تبيين الحقائق (1/233) .
(2) المدونة (1/43) ، أسهل المدارك (1/134) ، أحكام القرآن لابن العربي (1/566)
(3) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/295) ، وقال النووي في المجموع (2/306) : لو كان في رحله ماء، فطلب الماء في رحله، فلم يجده، فتيمم وصلى، ثم وجده، فإن لم يمعن في الطلب، وجبت الإعادة، وإن أمعن حتى ظن العدم فوجهان، وقيل: قولان، وهما مخرجان من القولين في الخطأ في القِبْلَة، أصحهما: وجوب الإعادة ".
(4) المحلى (1/350) مسألة: 232.
(5) أحكام القرآن لابن العربي (1/566) .
(6) المبسوط (1/121) .
(7) الذخيرة للقرافي (1/361) ، حاشية الدسوقي (1/159) .
(8) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/295) ،(12/241)
الإمام أحمد رحمه الله (1) .
دليل من قال: لا تلزمه الإعادة، وتيممه صحيح:
النسيان: عذر شرعي يلحق الإنسان، ومعه يكون عاجزاً عن استعمال الماء، والشرع اعتبر العذر مبيحاً للتيمم، ولو كان الماء موجوداً، كما لو جاء الإنسان إلى بئر، ولم يكن معه دلو يستقي به، فإن هذا عذر له يبيح التيمم، وإن كان الماء موجوداً، فالنسيان عجز شرعي لا يمكن معه استعمال الماء، فصح تيممه كالعجز الحسي.
الدليل الثاني:
إذا جهل وجود الماء، وخشي خروج الوقت صار مطالباً شرعاً بالتيمم، وأن يؤدي الصلاة في وقتها، فلو ترك التيمم حتى خرج الوقت صار آثماً لتفريطه، وإذا كان التكليف في حقه أن يتيمم ويصلي، كان فعله التيمم بمقتضى الشرع، فكيف نطالبه بالإعادة، وقد امتثل الأمر.
دليل من قال: تلزمه الإعادة.
الدليل الأول:
أن القواعد الشرعية تدل على أن النسيان والجهل يعذر بهما المرء في حق الله تعالى في باب المنهيات، دون المأمورات، والأصل فيه حديث معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة ولم يؤمر بالإعادة لجهله (2) ، وصلاته - صلى الله عليه وسلم - في نعليه،
_________
(1) المستوعب (1/278) ، الإنصاف (1/278) ، الفروع (1/216) ، وقال في المغني (1/153) : " توقف أحمد رحمه الله في هذه المسألة، وقطع في موضع أنه لا يجزئه ".
(2) حديث يعلى روه مسلم (537) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار،
عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. الحديث. وجه الاستدلال: أنه لم يأمره بالإعادة مع ارتكابه المنهي عنه، وهو الكلام لجهله بالحكم.(12/242)
وبهما آذى حتى أخبره جبريل بذلك، وهو في الصلاة، فنزعهما، وبنى على صلاته (1) ،
بخلاف فعل المأمور فإنه حين رأى رجلاً في قدمه لمعة لم يصبها الماء، قال: ارجع فأحسن وضوءك (2) .
والفرق بين المأمورات والمنهيات من حيث المعنى: أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصل إلا بفعلها، والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها، امتحاناً للمكلف بالانكفاف عنها، وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها، ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي، فعذر
_________
(1) الحديث رواه أحمد (3/20) من طريق حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري،
أن رسول الله ? صَلَّى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما. والحديث إسناده صحيح، وسبق تخريجه انظر (397) من كتابي أحكام الطهارة.
(2) مسلم (243) .(12/243)
بالجهل فيه، وهذا ينطبق على من نسي الماء، وهو في رحله، وصلى بالتيمم، فإنه يطالب بفعله؛ لأنه من باب المأمورات، أرأيت لو أن الرجل نسي الطهارة، وصلى بدونها، لزمته إعادة الصلاة، فكذلك نسيان الماء، فإنه بمنزلة نسيان الطهارة الواجبة عليه. وهذا من أقوى أدلتهم (1) .
ويجاب:
النزاع: هل يعتبر من نسي الماء، عاجزاً شرعاً عن استعماله، أو ليس بعاجز؟ فإن اعتبرناه عاجزاً عن استعمال الماء لم يكن تاركاً للمأمور، لأنه حينئذ لم يكن مأموراً بما عجز عنه شرعاً، وكان المأمور به في هذه الحال هو التيمم، وإن اعتبرناه في حالة النسيان ليس بعاجز شرعاً، صدق عليه أنه ترك ما هو مأمور فيه، فلا يعذر بالجهل والنسيان، ونحن نذهب إلى أن من نسي وجود الماء، وطلب الماء، وأمعن في طلبه، فلم يجده، أنه عاجز عن استعماله حالة نسيانه، وتيممه وصلاته إنما وقع في هذه الحالة، أعني حالة العجز، فلا يكون قد ترك المأمور، وفرق بين ترك الوضوء إلى غير بدل، وبين ترك الوضوء إلى بدل آخر، والله أعلم.
الدليل الثاني:
أن التيمم إنما يصح بشرطين: عدم الماء، أو عدم القدرة على استعماله، وهذا واجد للماء، وقادر على استعماله، إلا أنه جاهل بالوجود والقدرة، والجهل عذر في رفع الإثم، لا في إسقاط الواجب المأمور به، كما قلنا: في صلاته، ناسياً الحدث، فإنه يجب عليه أن يتطهر ويصلي، فكذلك هنا.
_________
(1) انظر المنثور في القواعد (2/19) .(12/244)
ويجاب عن هذا.
إذا عجز الإنسان عن استعمال الماء صح تيممه كالمريض، وهذا الناسي غير قادر على استعمال الماء، فإمكان وقوع التيمم يقف على القدرة، والقدرة إنما تتصور مع العلم بمكان المقدور عليه، فإذا لم يعلم اختل شرط القدرة، وإذا لم يقدر صار عاجزاً، وإذا عجز أبيح له التيمم، وإذا أبيح له ذلك لم يلزم بالإعادة، ويفارق من حاله هذا حال من صلى بدون طهارة؛ لأن من صلى بدون طهارة لم يأت بالمأمور أصلاً، بينما هذا كان المأمور في حقه التيمم بدليل أنه لو ترك التيمم حتى خرج وقت الصلاة أثم لتفريطه، فإذا كان التيمم هو الطهارة في حقه، فكيف يقاس من نسي الطهارة بالكلية على من قام بها.
الدليل الثالث:
أن الله سبحانه وتعالى قال: {فلم تجدوا ماء} فاشترط عدم وجود الماء، ولم يشترط عدم العلم بوجود الماء، وبينهما فرق.
الراجح:
القولان فيهما قوة، وكل قول له وجه، والنفس تميل إلى القول بصحة تيممه، إلا أن ذلك ينبغي أن يكون مشروطاً بأن يكون الرجل قد قام بما يعتقد أنه يلزمه من البحث عن الماء حوله حتى غلب على ظنه عدم وجود الماء، فإن لم يقم بطلب الماء حوله، فإنه يكون بذلك قد قصر في القيام بما يجب عليه، ويكون القول بالإعادة في هذه الحالة فيه قوة واحتياط، والله أعلم.(12/245)
[صفحة فارغة](12/246)
الشرط السادس:
في اشتراط دخول الوقت
العبادات نوعان: عبادة مؤقتة بوقت، وذلك مثل الفرائض الخمس، والسنن الرواتب، والوتر ونحوها، وعبادة غير مؤقتة بوقت كالنفل المطلق.
وقد اختلف العلماء هل يتشرط لصحة التيمم دخول وقت العبادة المؤقتة، أو يصح تيممه ولو تيمم قبل دخول وقتها،
فقيل: لا يشترط، وهو مذهب أبي حنيفة (1) ، واختاره ابن شعبان من المالكية (2) ، وابن حزم (3) ، ورجحه ابن تيمية (4) .
وقيل: يشترط دخول وقتها، وهو مذهب المالكية (5) ، والشافعية (6) ، والحنابلة (7) .
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/536) ، بدائع الصنائع (1/54) ، المبسوط (1/109) ، تبيين الحقائق (1/42) .
(2) المنتقى للباجي (1/111) .
(3) المحلى (1/92) مسألة: 112.
(4) الفتاوى الكبرى (2/14) ، مجموع الفتاوى (21/352) .
(5) المنتقى للباجي (1/109) ، التاج والإكليل (1/520) ، الخرشي (1/193) ، المقدمات (1/118) .
(6) انظر الأم (1/46) ، المهذب (1/34) ، وقال النووي في المجموع (2/275) : " اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن التيمم للمكتوبة لا يصح إلا بعد دخول وقتها ".
(7) المغني (1/149) ، المستوعب (1/296) ، المبدع (1/206) ، الفروع (1/231) ، الإنصاف (1/263) .(12/247)
وسبب الخلاف اختلافهم في طهارة التيمم، هل هي طهارة ضرورة، والحدث فيها لا يرتفع، وإنما يستباح بها فعل المأمور، أو أنها طهارة بدل، تأخذ حكم المبدل من كل وجه إلى حين وجود الماء، فمن رأى أنه طهارة ضرورة، قال: لا يجوز التيمم إلا بعد دخول وقت الصلاة، ومن رأى أنها تقوم مقام الماء عند عدمه أو عند العجز عن استعماله، قال: بجواز أن يتيمم قبل الوقت، وأن يصلي بتيممه هذا فروضاً ونوافل إلى حين وجود الماء أو قيام حدث ناقض لهذه الطهارة.
دليل من قال: لا يتيمم قبل دخول وقت العبادة:
الدليل الأول:
قالوا: من القرآن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} إلى قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) .
وجه الاستدلال:
أن القائم إلى الصلاة أمر بالوضوء، فإن لم يجده تيمم، وهذا يقتضي أن لا يفعله إلا بعد قيامه إليها، وعدم الماء، والوضوء إنما جاز قبل الوقت؛ لوجود دليل خاص على جواز وقوعه قبل الوقت، فبقي التيمم على المنع، ولكون الوضوء رافعاً للحدث، بخلاف التيمم، فإنه طهارة ضرورة كطهارة المستحاضة (2) .
ويجاب عن هذا:
إذا كنا أمرنا بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولم يمنع ذلك من جواز تقدم الوضوء على الوقت، لم يمنع هذا أيضاً من صحة التيمم قبل الوقت،
_________
(1) المائدة: 6.
(2) انظر المبدع (1/206) .(12/248)
وهذا مقتضى القياس الصحيح.
ولا يمكن لكم أن تخرجوا من هذا القياس الصحيح بقولكم إن الوضوء يرفع الحدث بخلاف التيمم؛ لأننا لا نسلم أن التيمم ليس رافعاً للحدث، وقد تم مناقشة هذه المسألة في مسألة مستقلة، وتبين لنا بدليل الكتاب والسنة أن التيمم جعله الله مطهراً لهذه الأمة كما في قوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم}
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" (1) .
وقوله أيضاً: الصعيد الطيب طهور المسلم (2) ، وهذه الأحاديث صحيحة، سبق تخريجها في أول البحث، وكلها نص في موضع النزاع، وأن التيمم طهور المسلم، والطهور: هو ما يطهر غيره، ولو كان المراد طاهراً لم يكن فيه خصوصية، فإن التراب طاهر لنا ولغيرنا من الأمم، وإنما اختصت هذه الأمة بكون التيمم مطهر.
كما أن القياس على طهارة المستحاضة، وأن طهارتها يشترط لها دخول الوقت، فهذه مسألة فيها نزاع أيضاً، ولا يوجد حديث صحيح يأمر المستحاضة بأنها لا تتوضأ إلا بعد دخول الوقت، ولا بأمرها بالوضوء لكل صلاة، وإنما صح هذا من قول عروة رضي الله عنه موقوفاً عليه، فالمستحاضة ومن به سلس بول إذا توضأ فهو على طهارته، يصلي به ما شاء من الفروض والنوافل، خرج الوقت أو لم يخرج، والحدث الدائم لا يؤثر في طهارته شيئاً؛ لأنه مغلوب عليه، فوجوده كعدمه، وهذا مذهب المالكية، وسبق بحث هذه المسألة في باب نواقض الوضوء، وإذا بطل المقيس عليه بطل المقيس.
_________
(1) صحيح البخاري (335) ، ومسلم (521) .
(2) سبق تخريجه في كتابي أحكام الطهارة: كتاب المياه، رقم: (39) .(12/249)
الدليل الثاني:
(1433-65) روى البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال:
أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل..."الحديث (1) .
وجه الاستدلال:
قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " أدركته الصلاة " أي أدركه وقت الصلاة، فهذا دليل على أن التيمم لا يكون إلا بعد دخول وقت الصلاة.
ويجاب:
أن الحديث إنما هو عن وجوب التيمم على العبد لوجوب الصلاة، فلا يجب التيمم على العبد إلا إذا أدركته الصلاة: أي وجب عليه فعلها، فالحديث في معنى الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} (2) ، فإذا كانت هذه الآية لا تمنع من الوضوء قبل دخول وقت الصلاة، لم يمنع الحديث من التيمم قبل دخول الوقت.
دليل من قال: يجوز التيمم قبل دخول الوقت.
الدليل الأول:
لا يوجد نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنع من التيمم قبل الوقت، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل الصحيح الخالي من النزاع.
_________
(1) صحيح البخاري (335) .
(2) المائدة: 6.(12/250)
الدليل الثاني:
القياس الصحيح: أن التيمم بمنزلة الطهارة حتى يجد الماء، وإذا كان التيمم بدل عن الوضوء، فالبدل له حكم المبدل، فكما أن الوضوء يجوز قبل دخول الوقت فكذلك بدله الذي هو التيمم.
الدليل الثالث:
الصلاة في أول الوقت فضيلة في الجملة، قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الأعمال الصلاة على وقتها " متفق عليه أي على أول وقتها.
ولا يمكن أن تقع الصلاة في أول الوقت إلا بتقديم الطهارة على دخول الوقت، والطهارة شيئان: الماء عند وجوده، والتراب عند عدم الماء، فاقتضى ذلك جواز تقديم التيمم على الوقت (2) .
الدليل الرابع:
حديث أبي ذر، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (3) .
[حديث حسن]
_________
(1) الإسراء: 78.
(2) أحكام القرآن للجصاص (2/537) .
(3) المصنف (913) .(12/251)
ولم يفرق بين كونه قبل الوقت أو بعده، وإنما علق جوازه بعدم الماء، لا بالوقت، وهذا معنى قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) ، فأمر بالتيمم بعد الحدث إذا عدم الماء، ولم يفرق بين حاله قبل الوقت أو بعده.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بجواز التيمم قبل الوقت هو القول الصحيح لقوة أدلته، وضعف أدلة الجمهور، والله أعلم.
_________
(1) المائدة: 6.(12/252)
الشرط السابع:
في ذكر الشروط التي تتعلق بالأرض المتيمم عليها
الفرع الأول:
في التيمم بغير التراب.
قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز إلا من شذ منهم " (1) .
وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب جائز، واختلفوا فيما عداه من الأرض (2) .
وقال ابن رشد: " حصل الإجماع على إجازة التيمم على التراب، والاختلاف فيما سواه مما هو مشاكل للأرض " (3) .
واختلفوا بالتيمم بغير تراب مما هو من جنس الأرض،
فقيل: التيمم جائز بكل ما صعد على الأرض من جنسها، من تراب، أوجص، أو نورة، أو رمل، أو غير ذلك، وهذا مذهب الحنفية (4) ، والمالكية (5) .
_________
(1) الأوسط (2/37) .
(2) الاستذكار (1/309) .
(3) مقدمات ابن رشد (1/113) .
(4) أحكام القرآن للجصاص (2/554) ، المبسوط (1/108) ، شرح فتح القدير (1/112-113) ، تبيين الحقائق (1/38-39) ، البحر الرائق (1/) ، بدائع الصنائع (1/53) ، حاشية ابن عابدين (1/230) .
(5) مواهب الجليل (1/350) ، التمهيد (19/281) ، الاستذكار (3/157) ، الشرح الصغير (1/195) ، حاشية الدسوقي (1/155) .(12/253)
وقيل: لا يجوز التيمم إلا بتراب طهور له غبار، وهذا مذهب الشافعية (1) والحنابلة (2) ، واختيار أبي يوسف من الحنفية (3) .
وقيل: يجوز التيمم بكل ما هو على وجه الأرض حتى الحشيش النابت على وجه الأرض والثلج إذا عم الأرض وحالا بينك وبينها، وهو قول في مذهب مالك (4) .
وقيل: لا يجوز التيمم إلا بالتراب أو بالرمل دون الحجارة ونحوها، وهو قول لأبي يوسف من الحنفية (5) .
وسبب الخلاف اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (6) ، ما هو الصعيد، وفي تفسيرها قولان:
أحدهما: أن الصعيد يطلق على التراب الخالص.
(1434-66) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه،
_________
(1) قال النووي في المجموع (2/246) : " مذهبنا أنه لا يصح التيمم إلا بتراب، هذا هو المعروف في المذهب، وبه قطع الأصحاب، وتظاهرت عليه نصوص الشافعي ".
وانظر المهذب (1/32-33) ، روضة الطالبين (1/108-109) ، مغني المحتاج (1/96) ، نهاية المحتاج (1/272) ، الخلافيات للبيهقي (2/467) .
(2) المغني (1/155) ، المحرر (1/22) ، الإنصاف (1/284) .
(3) المبسوط (1/108) .
(4) المقدمات (1/112-113) .
(5) المبسوط (1/108) .
(6) المائدة: 6.(12/254)
عن ابن عباس، قال: أطيب الصعيد الحرث، وأرض الحرث (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
وليس فيه دليل على أن الصعيد يطلق على التراب، لأن قوله " أطيب الصعيد " اسم تفضيل، فهو يدل على أن غير أرض الحرث يسمى صعيداً، لكن أرض الحرث أطيب الصعيد.
وقال الشافعي: لا يقع اسم صعيد إلا على تراب ذي غبار (3) .
وقال الأزهري: " مذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله سبحانه وتعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (4) ، أنه التراب الطاهر الذي على وجه الأرض، أو خرج من باطنها" (5) .
واستدل بعضهم بقوله " طيباً " فالأرض الطيبة: هي القابلة للإنبات، ففيها إشارة إلى اعتبار التراب، بدليل قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً} (6) .
ولا يتعين الطيب بوصف الإنبات فقط، وليس لاعتبار الإنبات معنى يعود إلى التيمم، وإنما المقصود بالطيب هنا الطاهر الذي هو ضد النجس، قال
_________
(1) المصنف (1/148) رقم 1702.
(2) في إسناده قابوس بن ظبيان، ضعيف، قال جرير بن عبد الحميد: أتينا قابوس بعد فساده. والأثر رواه البيهقي في سننه (1/214) من طريق جرير به.
(3) الأم (1/50) .
(4) المائدة: 6.
(5) المصباح المنير (ص: 340) .
(6) الأعراف: 58. انظر شرح ابن رجب للبخاري (2/210) .(12/255)
محمد بن مسلمة: يريد أن يكون طاهراً، ولم يرد كرم الأرض ولا لؤمها (1) .
فالطيب: ضده الخبيث، ولا نعرف خبيثاً يمكن أن يوصف به الصعيد إلا أن يكون نجساً.
والقول الثاني: الصعيد هو وجه الأرض.
قال في المصباح المنير: الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره، قال الزجاج: ولا أعلم اختلافاً بين أهل اللغة في ذلك (2) .
وقال الباجي: " الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو رملاً أو حجراً، قاله ابن الأعرابي وأبو إسحاق، والزجاج، قال أبو إسحاق: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة " (3) .
فهذان إمامان من أهل اللغة يحكيان الإجماع على أن الصعيد هو وجه الأرض، وينفيان وقوع اختلاف بين أهل اللغة في ذلك.
قلت: ويدل عليه قوله تعالى: {فتصبح صعيداً زلقاً} (4) .
وقال سبحانه وتعالى: {صعيداً جرزاً} (5) . والجرز: هي الأرض التي لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس (6) .
_________
(1) المنتقى للباجي (1/ 114)
(2) المصباح المنير (ص: 340) .
(3) تفسير الطبري (15/196) .
(4) الكهف: 40.
(5) الكهف: 8.
(6) تفسير ابن كثير (3/73) .(12/256)
وقال ابن كثير: صعيداً جرزاً: أي لا ينبت ولا ينتفع به (1) .
وقال في المصباح المنير أيضاً: الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه:
على التراب الذي على وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق، وتجمع هذه على صعد بضمتين وصعدات، مثل طريق وطرق وطرقات.
فالخلاصة: أن الصعيد على هذا التفسير الأخير اسم مشترك يطلق على التراب، وعلى وجه الأرض، فمن استدل بالآية على أنها دليل على أنه لا يجوز التيمم إلا على التراب فقط فقد أخطأ؛ والذين يجوزون التيمم بكل ما هو على وجه الأرض لا يمنعون من التيمم بالتراب، وإنما ينكرون أن في الآية دليلاً على اختصاص التيمم بالتراب فقط.
فإذا عرفنا منشأ الخلاف فهذا أوان ذكر أدلة كل قول.
دليل من قال: يتيمم بكل ما هو من جنس الأرض:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (2) .
وجه الاستدلال:
قد قدمنا كلام أهل اللغة في معنى الصعيد، وأنه لفظ مشترك يطلق على التراب، وعلى وجه الأرض، ويجب استعمال المشترك في معنييه إلا أن يمنع من ذلك مانع، ولا مانع هنا.
_________
(1) انظر المرجع السابق.
(2) المائدة: 6.(12/257)
الدليل الثاني:
(1435-67) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال:
أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل..."الحديث، والحديث رواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
فكل موضع جازت الصلاة فيه من الأرض جاز التيمم به.
الدليل الثالث:
أنه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك مر برمال كثيرة، ولم يكن يحمل معه التراب، ولم ينقل أنه كان يصلي بدون تيمم.
الدليل الرابع:
لو كان التيمم يختص بالتراب لجاءت النصوص صريحة واضحة بالنهي عن التيمم بالرمال والحجارة ونحوها؛ لأن الأمر يتعلق بالطهارة، والطهارة تتعلق بالركن الثاني للإسلام وهو الصلاة، فلما لم يأت نصوص تنهى عن التيمم بغير التراب، علم أن الأرض كلها يجوز التيمم عليها، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (335) ، مسلم (521) .(12/258)
دليل من قال: التيمم خاص بالتراب ذي الغبار:
أما الدليل على اشتراط التراب، فاستدلوا بما يلي.
الدليل الأول:
استدلوا بقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (1) ، قالوا: الصعيد: هو التراب.
وسبق الجواب عن ذلك، بأن الصعيد كما يطلق على التراب يطلق على وجه الأرض، فهو لفظ مشترك، فمن قصر الصعيد على التراب فقد قصر اللفظ المشترك على أحد معنييه بدون قرينة تقضي تخصيص إحدى المعنيين.
الدليل الثاني:
(1436-68) استدلوا بما رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش،
عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى.
وجه الاستدلال:
أن الحديث جعل الأرض كلها مسجداً، وخص الطهورية بالتربة، وأخرج ذلك في مقام الامتنان وبيان الاختصاص فلولا أن الطهورية لا تعم جميع أجزاء الأرض لكان ذكر التربة لا معنى له، بل كان زيادة في اللفظ، ونقصاً في المعنى، وهذا لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم (2) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) شرح ابن رجب للبخاري (2/211) .(12/259)
وهذا أقوى دليل لمن اشترط التراب، وأجيب عنه بأجوبة منها:
الأول: أن حديث جابر: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " منطوقه يدل على أن جميع الأرض طهور.
وحديث حذيفة منطوقه يدل على أن التراب طهور، فمنطوقه موافق لمنطوق حديث جابر.
ومفهوم حديث حذيفة: أن غير التراب ليس مطهراً، وإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته، ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته، فالمنطوق مقدم على المفهوم، لأن دلالة المفهوم دلالة ضعيفة، بخلاف المنطوق، ولا يمكن أن نخصص أو نقيد بالمفهوم (1) .
الجواب الثاني:
إذا ذكر عموم أو مطلق بحكم، ثم ذكر فرد من أفراده بحكم يوافق حكم العام أو المطلق، فإن هذا الفرد لا يعتبر مخصصاً ولا مقيداً للعموم.
مثال ذلك: إذا قلنا: أكرم طلبة العلم، فهذا لفظ يفيد عموم الطلبة، ثم قلنا: أكرم زيداً، وكان زيد من طلبة العلم، فإنه لا يفهم منه تخصيص الإكرام لزيد وحده.
فحديث جابر: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " مطلق يشمل جميع الأرض.
وحديث " وجعلت تربتها لنا طهوراً " التراب فرد من أفراد الأرض، ذكر بحكم يوافق حكم الأرض بكونها طهوراً، فلم يقتض ذلك تقييداً ولا تخصيصاً.
_________
(1) التخصيص بالمفهوم محل خلاف بين الأصوليين، وتحريرها في كتب الأصول.(12/260)
قال ابن المنذر في الأوسط للتدليل على هذه القاعدة: ونظير ذلك قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} الآية (1) ، فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: {حافظوا على الصلوات} (2) ، ثم خص الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: {والصلاة الوسطى} (3) ، فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مخرجاً سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر بالمحافظة على الصلوات " اهـ (4) .
فكأن ابن المنذر يقول مفهوم {والصلاة الوسطى} (5) الآية، لم يؤخذ ويعارض به منطوق حافظوا على الصلوات.
الدليل الثالث:
(1437-69) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا المثنى بن الصباح، أخبرني عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب،
عن أبي هريرة، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إني أكون في الرمل أربعة أشهر، أو خمسة أشهر، فيكون فينا النفساء والحائض والجنب، فما ترى؟ قال: عليك بالتراب (6) .
[إسناده ضعيف] (7) .
_________
(1) البقرة: 238.
(2) البقرة: 238.
(3) نفس السورة، ونفس الآية.
(4) الأوسط (1/270) .
(5) البقرة: 238.
(6) المسند (2/278) .
(7) الحديث أخرجه عبد الرزاق في المصنف (911) ، ومن طريقه أحمد كما في إسناد الباب.
وأخرجه أحمد (2/352) والبيهقي (1/216) من طريق الثوري، كلاهما (عبد الرزاق، والثوري) عن المثنى بن الصباح به. والمثنى ضعيف.
وأخرجه أبو يعلى كما في مسنده (5870) وفي المطالب العالية (156) حدثنا كامل ابن طلحة، ثنا ابن لهيعة، ثنا عمرو بن شعيب به. وقال: عليكم بالأرض بدلاً من قوله: " عليكم بالتراب " وبينهما فرق. وهذا الإسناد ضعيف أيضاً؛ لأن فيه ابن لهيعة.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (2032) من طريق وكيع بن الجراح، عن إبراهيم بن يزيد، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن المسيب به، بلفظ: " أن أقواماً سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: إنا نغرب عن الماء الثلاثة أشهر، والخمسة، فلا نجد الماء، وفينا الحائض والجنب والنفساء، قال: عليكم بالأرض.
قال الطبراني: لا نعلم لسليمان الأحول، عن سعيد بن المسيب غير هذا، ولم يروه إلا وكيع، عن إبراهيم بن يزيد، وقد روي عن سعيد بن المسيب من وجه آخر، ورواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب، عن سعيد. أهـ
وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه إبراهيم بن يزيد، وهو متروك.
وأخرجه البيهقي (1/217) من طريق أبي الربيع السمان: أشعث بن سعيد، عن عمرو ابن دينار، عن سعيد بن المسيب به.
وهذا إسناد ضعيف جداً أيضاً؛ لأن أبا الربيع متروك، وقد جعل بدلاً من عمرو بن شعيب عمرو بن دينار.
قال البيهقي: أبو الربيع السمان ضعيف، ثم ساق بإسناده إلى ابن المديني أنه قال: قلت لسفيان: إن أبا الربيع روى عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة في الرجل يعزب عن إبله، فقال: سفيان: إنما جاء بهذا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وإنما قال: عمرو بن دينار: سمعت جابراً بن زيد يقوله. قال علي: قلت لسفيان: إن شعبة رواه هكذا عن جابر، فقال: إن شعبة كان من أهل الحفظ والصدق، ولم يكن ممن يريد الباطل. قال البيهقي: وقد روي عن ابن أبي عروبة، عن عمرو بن دينار، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وابن أبي عروبة إنما سمعه من أبي الربيع، عن عمرو، كذلك رواه سعيد بن الصلت، عن ابن أبي عروبة. اهـ
وأخرجه البيهقي (1/217) من طريق عبد الله بن سليمان الأفطس، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب.
قال البيهقي: عبد الله بن سلمة الأفطس ضعيف. وانظر أطراف المسند (7/266) ، إتحاف المهرة (18744) .(12/261)
وأما الدليل على اشتراط الغبار:
فلقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيدكم منه} (1) .
وجه الاستدلال:
أن لفظة " منه " دالة على التبعيض، ولا يتحقق ذلك إلا بغبار يعلق باليد، ويمسح به الوجه واليدان.
وأجيب:
أولاً: أن كلمة " منه " في الآية ليست دالة على التبعيض، وإنما هي لابتداء الغاية، كما في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام} (2) .
ثانياً: أن آية التيمم في سورة النساء ليس فيها كلمة (منه) قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (3) .
ثالثاً: في حديث عمار رضي الله عنه الذي رواه البخاري وفيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح وجهه وكفيه " (4) .
والنفخ قد يزيل أثر التراب والغبار.
_________
(1) المائدة: 6.
(2) الإسراء: 1.
(3) المائدة: 6.
(4) صحيح البخاري (338) ، ورواه مسلم (312) .(12/263)
رابعاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر في الأرض الرملية، ولم ينقل عنه ترك التيمم لعدم وجود الغبار، كل ذلك دليل على أن اشتراط الغبار قول ضعيف، والله أعلم.
دليل من خص التيمم بالتراب والرمل:
لعل صاحب هذا القول حمله على إدخال الرمل خاصة مع التراب، كونه رأى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك، قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وكان ماؤهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل التراب معه، ولا أمر بحمله، ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، فجعل الرمل ملحقاً بالتراب، والله أعلم.(12/264)
الفرع الثاني:
في طهارة ما يتيمم به
ذهب أكثر أهل العلم إلى اشتراط طهارة ما يتيمم به، فلا يصح التيمم على الأرض النجسة (1) .
وفي مذهب المالكية قولان فيمن تيمم على أرض نجسة:
أحدهما: يعيد ما دام في الوقت.
والثاني: يعيد أبداً (2) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/154) ، مجمع الأنهر (1/39) ، بدائع الصنائع (1/53) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 79) .
وانظر في مذهب الشافعية الإقناع للماوردي (ص: 31) ، المهذب (1/33) ، غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 62) .
وانظر في مذهب الحنابلة: الفروع (1/223) ، مطالب أولي النهى (1/209) ،.
(2) انظر المدونة (1/39) ، الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/161) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 29) ، الذخيرة (1/349) .
قال ابن عبد البر في التمهيد (13/109) : " اختلف قولهم فيمن تيمم على موضع نجس، فقال أكثرهم: يعيد في الوقت وبعده، لقول الله عز وجل {فتيمموا صعيداً طيباً} يعني: طاهراً، وقال بعضهم: لا يعيد إلا في الوقت، وهو قول أشهب قياساً على من صلى بثوب نجس ليستدرك فضل السنة في الوقت، فإذا خرج الوقت لم يستدرك بذلك ".
وكان قد قال قبل (13/108) : قال مالك: من تيمم عليها أو صلى (أي على الأرض النجسة) أعاد في الوقت، وقد قال: يعيد أبداً، وكذلك اختلف أصحابه، فمنهم من قال: يعيد أبداً من تيمم على موضع نجس، ومنهم من قال: يعيد في الوقت لا غير، هذا إنما هو في نجاسة لم تظهر في التراب، وفيما لم تغيره النجاسة، وأما من تيمم على نجاسة يراها أو توضأ بماء تغير أوصافه أو بعضها بنجاسة فإنه يعيد أبدا... ". اهـ(12/265)
وعلى القول بأنه يعيد ما دام في الوقت فإن الإعادة ليست واجبة؛ لأن الذمة لو كانت مشغولة في وجوب الإعادة لم يكن هناك فرق بين الوقت وبين خارج الوقت، وقد قال بعضهم عن أصحاب مالك: إن كل موضع يقول فيه مالك: إنه يعيد في الوقت هو استحباب ليس بإيجاب (1) .
وقد أثبت جماعة من أهل العلم الخلاف في التيمم بالتراب النجس، وأنه ليس من مسائل الإجماع، منهم ابن حزم (2) ، وابن المنذر (3) ، وسائر من نقلنا عنه من كتب المالكية ممن حرر الخلاف.
دليل من اشترط الطهارة:
قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (4) ، والطيب ضد النجس (5) .
قال ابن قدامة: الطيب: الطاهر (6) .
(1438-70) ولما رواه ابن الجارود في المنتقى من طريق حماد، عن ثابت وحميد،
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (5/205) .
(2) قال ابن حزم في مراتب الإجماع (ص: 27) " واختلفوا أيمس المتيمم المصحف ويؤم المتوضئ أم لا؟ وهل يتيمم بتراب نجس أم لا؟
(3) قال ابن المنذر في الأوسط (2/40) : " اختلف أهل العلم في التيمم بالتراب النجس، فقال كثير منهم: لا يجوز التيمم به... ".
(4) المائدة: 6.
(5) وقيل: الطيب: هي الأرض القابلة للإنبات، كما في قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} الأعراف: 58. انظر شرح ابن رجب للبخاري (2/210) .
(6) المغني (1/155) .(12/266)
عن أنس رضي الله عنه، قال: جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً " (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
دليل من قال: يعيد ما دام في الوقت:
لقد ذكر ابن عبد البر: أن هذا الحكم إنما هو في أرض أصابتها نجاسة، ولم يظهر لها أثر في الأرض، وأما الأرض التي تُرَى فيها النجاسة، فإنه يعيد أبداً (3) ، فإذا كان ذلك كذلك، فهل الأرض بذلك تكون نجسة، ولا بد من غسلها بالماء، أو يحكم بطهارتها ما دامت لم تظهر فيها النجاسة، الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في الماء القليل الذي وقعت فيه نجاسة فلم يظهر لها لون أو طعم أو رائحة، وفيه قولان لأهل العلم، فمنهم من يرى نجاسته، ومنهم من يرى أنه طاهر حتى يتأثر بالنجاسة، وقد حررت ذلك في كتاب المياه، وذكرت أدلة كل قول، ورجحت أن الماء لا يحكم له بالنجاسة حتى تكون
_________
(1) المنتقى لابن الجارود (124) .
(2) الحديث رواه ابن المنذر في الأوسط (2/12) والمقدسي في الأحاديث المختارة (1653) من طريق حجاج بن منهال، قال: ثنا حماد بن سلمة به.
واستدل به ابن المنذر في الأوسط (2/12) على اشتراط طهارة الأرض، فقال في ترجمته لهذا الحديث: الدليل على أن الأرض الذي جعل من الأرض طهوراً الطاهر منها دون النجس.
وقال الحافظ في الفتح تحت حديث رقم (335) : روى ابن المنذر وابن الجارود بإسناد صحيح عن أنس مرفوعاً.
وقد نسبه الحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة (482) إلى مسند أحمد، ولم أقف عليه في المسند، ولا في أطراف المسند، وقد صرح محقق الإتحاف أيضاً بأنه لم يقف عليه في المسند.
(3) التمهيد (13/108) و (22/244) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 29) .(12/267)
النجاسة غالبة على الماء، وذلك بأن يظهر لها أثر في الماء من طعم أو لون أو رائحة، فإذا لم يظهر لها شيء من ذلك، واستهلكت في الماء، فإن الماء طهور، والحكم لا يختلف عنه في الأرض، فإن لم يكن للنجاسة وجود محسوس لم تكن الأرض نجسة، ولكن ما هو الدليل على استحباب الإعادة بالوقت، ذكروا وجوهاً للاستحباب منها:
أن التيمم لا يجب فيه إيصال التراب إلى البشرة، إذ لو تيمم على الحجر الصلد أجزأه، وإنما الواجب قصد الأرض وضربها باليد، والمرتفع من التراب النجس إلى الأعضاء لم يحصل به خلل في طهارة الحدث، وإنما هو حامل لنجاسة لم يتعمدها، فيعيد في الوقت على قاعدة إزالة النجاسة.
أو لأن الغبار ينتقل مع الريح الجارية على هذا المكان، والتيمم إنما يقع على أعلى المنتقل الطاهر (1) .
أو لأن الأمام طلب الإعادة بالوقت مراعاة للقائل من الأئمة بطهارة الأرض بالجفاف كمحمد بن الحنفية والحسن البصري (2) .
قلت: هذه مسألة أخرى سوف أتعرض لها في المسألة التالية لهذه.
أو لأن الحكم عائد إلى حكم الصلاة بالثوب النجس، فإن في مذهب المالكية قولاً باستحباب التخلي عن النجاسة في الصلاة، وأن الطهارة من الخبث ليس شرطاً ولا واجباً من واجبات الصلاة، وأن من صلى في الثوب النجس يعيد ما دام في الوقت، ولا يعيد إذا خرج الوقت، فهذا مثله. وقد ناقشت أدلة هذه المسألة ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسات، فانظرها مشكوراً.
_________
(1) الذخيرة (1/349) .
(2) الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/161) .(12/268)
الراجح من الخلاف:
التيمم على النجاسة يختلف عن التيمم على التراب النجس، فالتميم على النجاسة لا يجوز، وأما على التراب المتنجس، فإن كانت الأرض لم تظهر عليها النجاسة، فإن الأرض طيبة، يجوز التيمم والصلاة عليها، وإن كانت النجاسة ترى على الأرض فإنه لا يتيمم عليها، ولكن أن يجعل ذلك شرطاً في صحة التيمم نحتاج إلى نص شرعي ينفي صحة التيمم، ولا يكفي كون الشيء واجباً أن يكون شرطاً، فإن الشرطية أخص من الوجوب، ولا بد في إثبات الشرطية أن نستند إلى نص ينفي صحة التيمم على الأرض النجسة، كما عبر عن الشرطية في الطهارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (1) .
_________
(1) البخاري (6954) ، مسلم (225) .(12/269)
[صفحة فارغة](12/270)
الفرع الثالث:
في التيمم على الأرض التي أصابتها نجاسة ثم جفت
إذا أصابت الأرض نجاسة، ثم جفت، وذهب أثرها، فهل يتيمم بها؟
اختلف العلماء في هذا بناء على اختلافهم في طهارة الأرض المتنجسة بالجفاف، وهل يتعين الماء لإزالة النجاسة، أو تزال بأي مزيل، ومنه الجفاف؟
فقيل: يتيمم بها، وهو قول في مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يصلي عليها، ولا يتيمم بها، وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (2) .
وقيل: لا يتيمم بها، وهو مذهب الجمهور. (3) .
دليل الحنفية في التفريق بين الصلاة والتيمم:
قالوا: لا يصح التيمم بها، وإن صحت الصلاة عليها؛ لأن الأرض التي
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/53) : " ولو تيمم بأرض قد أصابتها نجاسة، فجفت، وذهب أثرها لم يجز في ظاهر الرواية. وروى ابن الكاسر النخعي عن أصحابنا أنه يجوز". وانظر المبسوط (1/191) .
(2) انظر المرجعين السابقين.
(3) سبق لنا أن الأرض المتنجسة لا يجوز التيمم بها اتفاقاً في المسألة التي قبل هذه، كما أن الجمهور لا يرون الطهارة بالجفاف أو بالشمس، ويرون أن الأرض لا زالت نجسة، وإن ذهبت عين النجاسة حتى تغسل بالماء. وقد فصلت القول ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسة وذكرت خلاف العلماء في الطهارة بالجفاف، ورجحت بالدليل أن الأرض إذا ذهبت عين النجاسة، فلم يبق لها أثر من لون أو رائحة، فإن حكم الأرض يعود كما كان قبل إصابتها بالنجاسة، فتصبح طاهرة مطهرة، والله أعلم.(12/271)
أصابتها نجاسة ثم جفت أصبحت طاهرة، غير مطهرة، وطهارتها كافية في الصلاة عليها، وأما التيمم فلا بد من طهورية الأرض، وبناء على هذا القول فهم يقسمون التراب إلى طهور وطاهر ونجس.
وقد أجبنا على ضعف قول من ذهب إلى هذا التقسيم في المسألة السابقة.
دليل من قال: يتيمم بها:
ذهب إلى أن الطهارة تزال بأي مزيل، ولا يتعين ذهابها بالماء، فإذا ذهبت عين النجاسة فقد ذهب حكمها.
دليل من قال: لا يتيمم بها:
ذكرنا أدلتهم في مسألة سابقة، وسنذكرها في مسألة لاحقة، أما المسألة السابقة فقد ذكرنا أدلتهم في مسألة خلاف العلماء في وجوب تعيين الماء لإزالة النجاسة، فالجمهور يذهبون إلى أن النجاسة لا تذهب حتى تزال بالماء فإذا لم تغسل بالماء فما زال حكم النجاسة باقياً، ولو ذهبت عين النجاسة.
وسنكمل أدلتهم في مسألة لاحقة ولله الحمد، وهي مسألة: هل الطهارة بالجفاف مطهر للنجاسات، أو لا؟ في كتاب أحكام النجاسات من هذه السلسلة، فانظره في الموضعين غير مأمور.(12/272)
الفرع الرابع:
في التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة
واختلفوا في التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة.
فقيل: يجوز التيمم به، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، وأحد القولين في مذهب الشافعية (3) ، ووجه في مذهب الحنابلة (4) ، واختيار ابن حزم (5) .
وقيل: لا يجوز التيمم به، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (6) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (7) .
دليل من قال: يجوز التيمم بالتراب المستعمل:
الدليل الأول:
لا يوجد دليل على تقسيم التراب إلى طهور وطاهر ونجس، بل التراب كالماء قسمان: إما طهور، وإما نجس.
_________
(1) جاء في تبيين الحقائق (1/38) : " قال في الدراية: ويجوز التيمم بالتراب المستعمل عندنا ".وانظر شرح فتح القدير (1/136) .
(2) التاج والإكليل (1/518-519) ، الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/42) .
(3) المجموع (2/251) ، طرح التثريب (2/109) .
(4) المغني (1/160-161) ، الإنصاف (1/286) .
(5) المحلى (1/186) .
(6) المجموع (2/251) ، طرح التثريب (2/109) .
(7) المغني (1/160-161) ، الإنصاف (1/286) ، الفروع (1/223) .(12/273)
الدليل الثاني:
كل الأدلة التي سيقت في الاستدلال على جواز الوضوء بالماء المستعمل في طهارة واجبة تصح دليلاً على صحة التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة، وقد سبق ذكرها في كتاب المياه.
الدليل الثالث:
قال - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " (1) ، والاستدلال في الحديث من وجهين:
الأول: أن الحديث قد نص على أن الأرض قد جعلها الله طهوراً، خرج من ذلك الأرض النجسة بالدليل الشرعي، بقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (2) ، وبقي ما عداه على الطهورية.
الوجه الثاني: أن كلمة " طهور " على وزن فعول، وهذا الصيغة تدل على التكرار، فدلت بالإشارة إلى جواز التيمم بالتراب المستعمل (3) .
الدليل الرابع:
أن التيمم لا يمكن أن ينفك عن استعمال التراب المستعمل، خاصة إذا قلنا: إن التيمم ضربة واحدة كما هو الصحيح من أقوال أهل العلم، وسوف نعرض لها إن شاء لله تعالى في مبحث مستقل، فإذا مسح المتيمم وجهه، ثم عاد ومسح يديه بنفس الضربة، فقد مسحهما بالتراب المستعمل في مسح
_________
(1) صحيح البخاري (335) ، ومسلم (521) .
(2) المائدة: 6.
(3) طرح التثريب (2/109) .(12/274)
الوجه، وهذا دليل على جواز استعمال التراب المستعمل في طهارة واجبة.
الدليل الخامس:
ذكر بعضهم: أن التيمم لا يرفع الحدث، فلا يصير التراب مستعملاً بخلاف الماء.
والصحيح أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً، ولا نحتاج إلى هذا الدليل في التفريق بين الماء المستعمل في طهارة واجبة، وبين التراب المستعمل في طهارة واجبة، بل الكل طهور.
دليل من قال: لا يجوز التيمم بالتراب المستعمل:
إذا كان الماء المستعمل في طهارة واجبة لا يرفع الحدث، فكذلك التراب المستعمل في طهارة واجبة.
وقد بينا ضعف هذا القياس، وأن الصحيح أن الماء المستعمل في طهارة واجبة ماء طهور، وإذا كان الأصل ضعيفاً، فما بني على القول الضعيف فهو ضعيف.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض الأدلة نجد أن القول الذي يقسم التراب أو الماء إلى طهور وطاهر قول ضعيف، وأن الصحيح أن التراب إما طهور، وإما نجس، ولا فرق بين الماء والتراب، وعلى التنزل بأن الماء المستعمل في طهارة واجبة ليس ماء مطلقاً، فهل التراب المستعمل أيضاً لا يقال له تراب مطلق، فالتيمم بالتراب لا يخرجه عن كونه تراباً، وهو باق على صفته التي خلقه الله عليها، فكيف يمنع من التيمم به، ونقول له: إذا لم يجد غيره صل بدون تيمم.(12/275)
[صفحة فارغة](12/276)
الفرع الخامس:
في التيمم بالتراب المغصوب
اختلف العلماء في التيمم بالتراب المغصوب،
فقيل: يصح التيمم به، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: لا يصح، وهو مذهب الحنابلة (2) .
والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في الوضوء بالماء المغصوب، قال ابن مفلح: " وتراب مغصوب كالماء " (3) .فالأدلة في المسألتين واحدة، وقد سبق بحث خلاف العلماء في الوضوء بالماء المغصوب، مع ذكر أدلة كل قول، وبينت أن الراجح صحة الوضوء، وأن التحريم والصحة منفكان، غير متلازمين، فقد يكون الشيء حراماً صحيحاً، وقد يكون الشيء حراماً فاسداً، باعتبارات تعود إلى المنهي عنه، فتارة يكون النهي عائداً إلى ذات الشيء المنهي عنه، وتارة يكون النهي لا يعود إليه، وإنما يعود لأمر خارج، فانظر أدلة كل فريق في كتاب أحكام الطهارة: (المياه والآنية) .
_________
(1) المجموع (1/538) ، نهاية المحتاج (1/263) ، الموسوعة الفقهية الكويتية (14/262) .
(2) الفروع (1/223) ، شرح منتهى الإرادات (1/97) ، كشاف القناع (1/172) ، الإنصاف (1/286) .
(3) الفروع (1/223) .(12/277)
[صفحة فارغة](12/278)
الباب الرابع:
فيما يتيمم عنه
الفصل الأول:
في التيمم عن الحدث
أما التيمم عن الحدث الأصغر فإنه إجماع بين أهل العلم،
قال النووي: " يجوز التيمم عن الحدث الأصغر بالكتاب والسنة والإجماع" (1) .
واختلفوا في التيمم عن الحدث الأكبر،
فقيل: يتيمم عنه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (2) .
_________
(1) المجموع (2/239) .
(2) انظر في مذهب الحنفية: أحكام القرآن للجصاص (4/11) ، الفتاوى الهندية (1/31) ، حاشية ابن عابدين (1/91) ، البحر الرائق (1/147) .
وفي مذهب المالكية: انظر الذخيرة (1/344) ، الاستذكار (1/303) ، مواهب الجليل (1/330) ، المنتقى للباجي (1/112) ، التمهيد (19/271) .
وفي مذهب الشافعية: المهذب (1/32) ، المجموع (2/239) ، غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 61) ، مغني المحتاج (1/87) .
وفي مذهب الحنابلة: المبدع (1/217) ، المحرر (1/22) ، شرح العمدة (1/379) ، شرح منتهى الإراد1ت (1/96) ، مجموع الفتاوى (21/382) ، كشاف القناع (1/161) .(12/279)
وقيل: لا يتيمم، وهو مذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما (1) .
دليل من قال بمشروعية التيمم عن الجنابة:
استدلوا من كتاب الله بآية المائدة، سواء من قال: إن قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} (2) ، المقصود به الجماع، أو من قال إن المقصود به الحدث الأصغر وهو مس بدن المرأة.
لكن من قال: إن المقصود بقوله تعالى {أو لامستم النساء} الحدث الأصغر كان توجيه للاستدلال بالآية على النحو التالي، قال: إن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم.. إلى قوله سبحانه: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} ثم قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (3) ، وهو عائد إلى المحدث والجنب جميعاً.
وأما من قال: إن المراد بقوله تعالى {أو لا مستم النساء} هو الجماع، وهو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الموافق لبلاغة القرآن، فالآية نص في تيمم الجنب، وتوجيه الآية: أن الله سبحانه وتعالى ذكر طهارتين: الماء والتيمم، وذكر في وجوب طهارة الماء سببين: الحدث الأصغر والأكبر، فالأصغر في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيدكم إلى المرافق..} والحدث الأكبر بقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} .
وفي طهارة التيمم كذلك: ذكر حدثين: الأصغر والأكبر، فالأصغر بقوله
_________
(1) ستأتي الآثار عنهما مخرجة ضمن سياق أدلة القوم إن شاء الله تعالى.
(2) صحيح البخاري (335) .
(3) صحيح البخاري (335) .(12/280)
تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} والأكبر بقوله تعالى: {أو لامستم النساء} أي جامعتم النساء، ولو حمل على اللمس باليد لكان معنى الآية هذا أن الآية كررت ذكر حدثين أصغرين، وأهملت الحدث الأكبر في طهارة التيمم، وهذا مناف للبلاغة المعهودة من كتاب الله سبحانه وتعالى، فكان مقتضى التقسيم في طهارة الماء من ذكر الحدث الأصغر والأكبر، أن يعاد التقسيم نفسه في طهارة التيمم، لا أن يكرر الحدث الأصغر، ويهمل الحدث الأكبر، وهذه القرينة كافية في حمل اللمس على الجماع في الآية الكريمة، وقد فسرها ابن عباس بالجماع، وهو ترجمان القرآن،
(1439-71) فقد روى ابن أبي شيبة، من طريق عبد الملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبير، قال:
اختلفت أنا وأناس من العرب في اللمس، فقلت: أنا وأناس من الموالي: اللمس ما دون الجماع، وقالت العرب: هو الجماع، فأتينا ابن عباس، فقال: غلبت العرب، هو الجماع.
[وإسناده صحيح] (1) .
وقد احتج أبو موسى رضي الله عنه بآية المائدة على مشروعية التيمم عن الجنابة، وذلك حين ناظر ابن مسعود، وانقطع ابن مسعود عن الجواب عن الآية، واعتذر بذلك بأنه قال بالمنع سداً للذريعة:
(1440-72) فقد روى البخاري من طريق أبي معاوية، عن الأعمش،
عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهراً أما كان يتيمم
_________
(1) المصنف (1/153) .(12/281)
ويصلي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} ؟ فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد، قلت: وإنما كرهتم هذا لذا، قال: نعم... الحديث (1) .
وفي رواية للبخاري: " فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار، فكيف تصنع بهذه الآية، فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنا لو رخصنا لهم.... وذكر الكلام السابق (2) .
وجواب ابن مسعود لم يكن مطابقاً للسؤال؛ لأن السؤال عن رجل أجنب فلم يجد الماء شهراً، فهو عادم للماء، فقال: لا يصلي، واعتذر ابن مسعود بأنه لو رخص في هذا لتيمم الرجل الذي يجد الماء إذا برد عليه، وجواب ابن مسعود مشكل من الناحية الشرعية؛ لأن سد الذرائع يجب ألا يؤدي القول بها إلى إسقاط واجب أو ارتكاب محرم، وسوف أعلق عليه عند الكلام على مذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما.
الدليل الثاني:
(1441-73) ما رواه البخاري من طريق الحكم، عن ذر، عن سعيد ابن عبد الرحمن ابن أبزى،
عن أبيه قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر
_________
(1) صحيح البخاري (347) .
(2) البخاري (346) .(12/282)
أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت، فصليت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه، ورواه مسلم بنحوه (1) .
الدليل الثالث:
(1442-74) ما رواه البخاري، قال: أخبرنا عبد الله، قال أخبرنا عوف، عن أبي رجاء، قال:
حدثنا عمران بن حصين الخزاعي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا معتزلاً لم يصل في القوم، فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك (2) .
الدليل الرابع:
(1443-75) ما رواه أبو داود من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان،
عن أبي ذر، قال: اجتمعت غنيمة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا أبا ذر ابد فيها، فبدوت إلى الربذة، فكانت تصيبني الجنابة، فأمكث الخمس والست، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو ذر: فسكت، فقال: ثكلتك أمك أبا ذر، لأمك الويل، فدعا لي بجارية سوداء، فجاءت بعس فيه ماء، فسترتني بثوب، واستترت بالراحلة، واغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلاً، فقال:
_________
(1) البخاري (338) ، ومسلم (368) .
(2) البخاري (348) .(12/283)
الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك؛ فإن ذلك خير (1) .
[حديث حسن وسبق تخريجه] (2) .
الدليل الخامس:
من النظر، فإن التيمم إنما شرع من أجل استدارك مصلحة الوقت، لأن عادم الماء قد يستطيع أن يصلي خارج الوقت بالماء، فشرع لإدراك فضيلة الوقت، وهذا قدر مشترك بين الحدثين الأصغر والأكبر.
دليل عمر وابن مسعود على أن الجنب لا يتيمم:
الدليل الأول:
عدم العلم بالدليل، وهو في حقهما كاف في الاستدلال؛ لأن الأصل في العبادات الحضر حتى يقوم دليل على المشروعية، إلا أن من لم يعلم بالدليل لا يكون قوله حجة على من علم، وقد حفظ غيرهما التيمم عن الجنابة من حديث عمران بن الحصين ومن حديث أبي ذر رضي الله عنه فضلاً عن حديث عمار المتفق على صحته.
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (3) .
وجه الاستدلال:
_________
(1) سنن أبي داود (332)
(2) انظر حديث رقم (39) من كتاب أحكام الطهارة.
(3) النساء: 43.(12/284)
أن الله سبحانه وتعالى نهى الجنب أن يقرب مصلى المسلمين إلا مجتازاً فيه حتى يغتسل، ولم يرخص له بالتيمم.
قالوا: وتأويل قوله تعالى: {أولا مستم النساء} قالوا: اللمس قالوا: المقصود به: اللمس باليد دون الفرج ودون الجماع (1) .
وقد تكلمت في أدلة الجمهور على أن الراجح في معنى اللمس: هو الجماع خاصة، ولكن الله يكني بذكره كما قال تعالى: {فالآن باشروهن} (2) ، وقال: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (3) ، وهذا يراد به الجماع.
وقد قال ابن عبد البر: " لم يتعلق بقول عمر وعبد الله أحد من فقهاء الأمصار من أهل الراي وحملة الآثار " (4) .
قلت: قد تبعهما على ذلك إبراهيم النخعي من فقهاء التابعين، فيما حكاه ابن المنذر (5) .
وقد حاول بعض أهل العلم أن ينسب إليهما الرجوع عن هذا القول، وعندي أن دعوى الرجوع تحتاج إلى إثباته عنهما بسند صحيح صريح، وكثير من الأقوال الضعيفة التي قال بها بعض الصحابة، كالقول بجواز المتعة، أو القول بجواز مسح القدم بلا خف، أو نفي القول بمشروعية المسح على الخفين
_________
(1) تفسير الطبري (5/113) .
(2) البقرة: 187.
(3) البقرة: 237.
(4) التمهيد (19/271) .
(5) الأوسط (2/15) .(12/285)
أو القول بجواز ربا الفضل ونحوها تجد من أهل العلم من يحاول أن يثبت أن الصحابي الذي قال بهذا القول بأنه قد رجع، ولا يكون له دليل على هذه الدعوى إلا أنه قد ينبل بالصحابي أن يقول بهذا القول الضعيف فيحمله هذا على دعوى الرجوع، وقد يكون له دليل غير صحيح، أو صحيح ولكنه غير صريح، فمن ذلك مسألتنا هذه، فقد رأى بعض أهل العلم أن عمر وابن مسعود قد رجعا عن قولهما. قال النووي: " التيمم عن الحدث الأكبر جائز، هذا مذهبنا، وبه قال العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلا عمر بن الخطاب وعبد الله ابن مسعود وإبراهيم النخعي التابعي، فإنهم منعوه، قال ابن الصباغ وغيره: قيل إن عمر وعبد الله رجعا " (1) .
فقد ساق الرجوع بصيغة التمريض، وحكاية قيل ليست جزماً برجوعهما.
قال ابن عبد البر: " قال قائل: إن في بعض الأحاديث عن عمار، أن عمر لم يقنع بقول عمار، فالجواب: أن عمر كان يذهب إلى أن الجنب لا يجزيه إلا الغسل بالماء، فلما أخبره عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن التيمم يكفيه سكت عنه، ولم ينهه، فلما لم ينهه علمنا أنه قد وقع في قلبه تصديق عمار؛ لأن عماراً قال له: إن شئت لم أذكره، ولو وقع في قلبه تكذيب عمار لنهاه؛ لما كان الله قد جعل في قلبه تعظيم حرمات الله، ولا شيء أعظم من الصلاة، وغير متوهم على عمر أن يسكت على صلاة تصلى عنده بغير طهارة، وهو الخليفة المسؤول عن العامة، وكان أتقى الناس لربه، وأنصحهم لهم في دينهم في ذلك
_________
(1) المجموع (2/240) .(12/286)
الوقت رحمة الله عليه " (1) .
قلت: ليست القسمة أن يقع في قلب عمر تصديق عمار أو تكذيبه، بل هناك قسم ثالث، وهو أن يقع في قلبه خطأ عمار، وقد قال لعمار: نوليك ما توليت (2) ، يعني: أنت تتحمل مسؤولية هذا البلاغ، وأنا برئ من هذا، فهو في أحسن أحواله لا يذكر شيئاً، ولذلك قال عمر لعمار: اتق الله يا عمار (3) ، فهذا دليل على أنه لم يقنع بكلام عمار.
وقال الباجي: " والذي يظهر لي من قولهما أنهما إنما منعا ذلك للذريعة، وذلك أن أبا وائل روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لو رخصنا لهم فيها لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتمم " (4) .
وهذا الكلام يمكن أن يصدق على ابن مسعود وحده، ولا يصدق هذا الكلام على عمر، وذلك لأن عمر قد وعظ عماراً حين ذكر له قصة التيمم، وقال له: اتق الله يا عمار، وأخبره بأنه لا يذكر شيئاً، وأما عن ابن مسعود فهو ثابت عنه، وفيه إشكال كبير، ولا بد من توجيهه، فالعمل في سد الذرائع سائغ بشرط ألا يؤدي ذلك إلى إسقاط واجب، أو ارتكاب محرم، فالجنب إذا منعناه من التيمم كان معنى ذلك إما أن يدع الصلاة إلى أن يجد الماء، أو يصلي بدون طهارة، وكلا الأمرين حرام، ثم لو صح كلام ابن مسعود في الجنب إذا تيمم مع وجود الماء
_________
(1) التمهيد (19/273) .
(2) مسلم (368) .
(3) مسلم (368) .
(4) المنتقى (1/112) .(12/287)
خوفاً من البرد، لم يصح كلامه في الجنب إذا تيمم لفقد الماء، وعمر وابن مسعود يمنعان الجنب من التيمم مطلقاً مع عدم الماء، ومع وجوده والخوف من استعماله، فلا بد من توجيه كلام ابن مسعود رضي الله عنه، خاصة أنه من كبار فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، فيقال: إن ابن مسعود ذكر سبباً واحداً من الأسباب التي حملته على القول بعدم تيمم الجنب، ولم يذكر كل الأسباب التي حملته على القول بالمنع، ولقد كان ابن مسعود رضي الله عنه شديد المتابعة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فحين رأى أن عمر لم يقنع بكلام عمار كما ذكر ابن مسعود ذلك في مناظرته لأبي موسى، ورأى أنه تعارض عنده كلام عمر وكلام عمار، وعمر أفقه من عمار رضي الله عنه، فاتبع ابن مسعود أفقه الرجلين، ولا بد من القول بذلك؛ لأن الاعتذار الذي ذكره ابن مسعود رضي الله عنه من كونه منع ذلك من باب سد الذرائع لا يجوز القول به، وهو يؤدي إلى ترك الواجبات، والوقوع في المحرمات، وإنما كان ذلك من جملة المرجحات، وليس المرجح الوحيد، والله أعلم.
وأعتقد أن مذهب عمر وابن مسعود أصبح مهجوراً في هذا العصر، فليس له أتباع فيما أعلم، والعجب ليس من نسيان عمر رضي الله عنه ما حدث له مع عمار، فإن الإنسان مهما أوتي من حفظ فإنه معرض للنسيان، ولكن العجب كيف خفي على عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنه الأحاديث الأخرى في تيمم الجنب، كحديث عمران بن الحصين، وقد كان وقع ذلك في الغزو بشهود عدد كثير من الصحابة، وكيف خفي عليهم حديث أبي ذر رضي الله عنه، فأبو موسى لم يحتج على ابن(12/288)
مسعود إلا في حديث عمار، وآية المائدة مما يدل على أنه لا يعلم الأحاديث الأخرى، وفي ذلك تسلية لطالب علم الحديث، فإنه قد يحكم لإسناد ما بأنه ضعيف، وهناك طريق أخرى صحيحة لم يقف عليها، وهذا أمر لا يسلم منه أحد، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(12/289)
[صفحة فارغة](12/290)
الفصل الثاني:
في التيمم عن النجاسة
تبين لنا فيما سبق أن التيمم عن الحدث الأصغر محل اتفاق بين العلماء، وأن التيمم عن الجنابة أيضاً هو مذهب الأئمة الأربعة، ولم يخالف في ذلك إلا عمر بن الخطاب وابن مسعود وإبراهيم النخعي، وسوف نبحث في هذه المسألة التيمم عن طهارة الخبث،
فإن كانت النجاسة على ثيابه لم يتيمم لها قولاً واحداً (1) ، وإن كانت النجاسة على بدنه، وليس عنده ما يزيلها، أو تضره إزالتها، فهل يتيمم لها؟ في هذا خلاف بين أهل العلم،
فقيل: لا يتيمم عن طهارة الخبث، وهو مذهب الجمهور (2) ،
ورواية عن أحمد (3) .
_________
(1) الكافي في فقه الإمام أحمد (1/64) .
(2) بدائع الصنائع (1/54) ، الأم (1/42-43) ، حلية العلماء (1/181) ، حواشي الشرواني (1/325) ، مغني المحتاج (1/87) ، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/79) .
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (4/57) : " وأما إذا كان على بعض أعضاء المحدث نجاسة، فأراد التيمم بدلاً عنها، فمذهبنا، ومذهب جمهور العلماء أنه لا يجوز. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: يجوز أن يتيمم إذا كانت النجاسة على بدنه، ولم يجز إذا كانت على ثوبه".
وقال ابن تيمية في الاختيارات (ص: 20) : " ولا يتيمم للنجاسة على بدنه، وهو قول الثلاثة خلافاً لأشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله ".
(3) الإنصاف (1/279) ، كشاف القناع (1/170) ، الكافي (1/64) .(12/291)
وقيل: بل يتيمم عنها، وبه قال الحسن البصري (1) ، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى (2) .
وقيل: يمسح موضع النجاسة بالتراب، ويصلي، وبه قال الثوري والأوزاعي، وحكاه أبو ثور عن الشافعي (3) .
دليل من قال: لا يتيمم عن النجاسة:
الدليل الأول:
النص الشرعي ورد في التيمم عن الحدث، ولم يوجد دليل من الكتاب ولا من السنة على صحة التيمم عن النجاسة، والأصل في العبادات الحضر
_________
(1) المغني (1/169) .
(2) قال عبد الله بن أحمد في مسائله لأبيه (1/143) : " قرأت على أبي، قلت:: رجل كان في سفر، أصاب جسده بول، وليس معه ماء، قال: هذا بمنزلة الجنب، يتيمم ".
وقال ابن قدامة في المغني (1/169-170) : " قال القاضي: يحتمل أن يكون معنى قول أحمد: إنه بمنزلة الجنب الذي يتيمم: أي أنه يصلي على حسب حاله كما يصلي الجنب الذي يتيمم، وهذا قول الأكثرين من الفقهاء؛ لأن الشرع إنما ورد بالتيمم للحدث، وغسل النجاسة ليس في معناه؛ لأنه إنما يؤتى به في محل النجاسة، فلا في غيره، ولأن مقصود الغسل: إزالة النجاسة، ولا يحصل ذلك بالتيمم ". اهـ
وانظر: الإنصاف (1/279) ، وقال: وهو من المفردات. المستوعب (1/289) ، كشاف القناع (1/170) ، شرح العمدة (1/379) ، المغني (1/169) ، شرح منتهى الإرادات (1/96) الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/84) .
(3) المجموع (2/242) ، شرح النووي لصحيح مسلم (4/57) ، قال ابن المنذر في الأوسط (2/75) : " وحكى أبو ثور ذلك عن الشافعي - يعني: التيمم عن النجاسة - قال ابن المنذر: وقول الشافعي المعروف من قوله بمصر: أن التيمم لا يجزئ من نجاسة تكون على البدن، وعليه أن يعيد كل صلاة صلاها وعلى بدنه نجاسة. اهـ(12/292)
حتى يقوم دليل على المشروعية.
الدليل الثاني:
أن طهارة الحدث عبادة تعبدية، فإذا تعذر الماء تعفر بالتراب، وأما الطهارة من النجاسة فهي عبادة معقولة المعنى، وكان المطلوب من استعمال الماء في غسل النجاسة هو إزالتها فمتى زالت النجاسة عن البدن ولو بلا نية طهر المحل، وهذا لا يحصل بالتيمم، فالتيمم لا يزيل النجاسة ولا يخففها، فلهذا لم يشرع.
الدليل الثالث:
الطهارة من النجاسة إنما تكون في محل النجاسة حيث كانت دون غيره، فلو كان هناك مطهر من ماء ونحوه لم يغسل من البدن إلا ما أصابته النجاسة، وأما التيمم فمحل التطهير في الوجه والكفين، فكيف يكون التراب مطهراً للنجاسة في غير محل التطهير؟.
دليل من قال: يصح التيمم عن النجاسة إذا كانت على البدن:
أما اشتراط كون النجاسة على البدن، فلحديث أبي ذر:
الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " سبق تخريجه (1) .
فقوله: " فليمسه بشرته " دليل على تعلق التيمم بطهارة بالبدن دون طهارة الثوب والبقعة.
_________
(1) انظر كتاب أحكام الطهارة: المياه، رقم (39) .(12/293)
وقوله " طهور المسلم " مطلق، يشمل طهارته عن الحدث، وعن الخبث.
ويجاب:
بأن الحديث ورد جواباً على سؤال وقع من أبي ذر، وهو أنه تصيبه الجنابة الليالي لا يقدر علىالماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب طهور المسلم " أي طهوره من الجنابة، وليس من الخبث.
الدليل الثاني:
أن المكان النجس هو موضع من البدن يجب تطهيره بالماء مع القدرة عليه، فإذا عجز عن الماء وجب له التيمم بالتراب قياساً على طهارة الحدث.
ويجاب:
بأن قياس طهارة الخبث على طهارة الحدث قياس مع الفارق، وذلك أن طهارة الحدث تجب لها النية، وطهارة الخبث تصح بدون نية، فلو نزل المطر على ثوب نجس حتى ذهب بعين النجاسة طهر الثوب، ولو لم ينو صاحبه إزالة النجاسة.
ومنها أن طهارة الحدث من قبيل فعل المأمور، وأما طهارة الخبث فهي من قبيل ترك المحضور، ولذلك لو صلى بدون طهارة الحدث وجب عليه إعادة الصلاة، بخلاف ما لو صلى ناسياً أن عليه نجاسة، فإن صلاته صحيحة، ولا تجب عليه الإعادة.
ومنها أن طهارة الحدث تكون في أعضاء مخصوصة، بينما طهارة الخبث تتبع موضع النجاسة حيث كانت.(12/294)
ومنها أن طهارة الحدث تعبدية، فليست ناشئة عن نجاسة، ولا ينجس المؤمن بالحدث، بخلاف الخبث، فإنه عين مستقذرة شرعاً.
فهذه بعض الفروق بين الطهارتين مما يجعل قياس طهارة الحدث على طهارة الخبث قياس مع الفارق، والله أعلم.
الراجح: مذهب جماهير أهل العلم، وأن التيمم عن النجاسة غير مشروع، والله أعلم.(12/295)
[صفحة فارغة](12/296)
الباب الخامس:
في فروض التيمم
الفرض الأول:
مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب.
المبحث الأول:
في ضرب اليدين في الأرض ليمسح بهما وجهه ويديه
اختلف الفقهاء في كيفية الضرب والمسح،
فقيل: يجب للتيمم ضربتان في الأرض، ضربة يمسح بهما وجهه، وضربة يمسح بهما يديه إلى المرفقين، هذا مذهب الحنفية (1) ، وقول في مذهب المالكية (2) ،
_________
(1) بدائع الصنائع (1/45) ، أحكام القرآن للجصاص (4/27) ، البحر الرائق (1/145) ، المبسوط (1/107) ، حاشية ابن عابدين (1/230) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 78) .
(2) قال مالك في المدونة (1/42) : "التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين يضرب الأرض بيديه جميعاً ضربة واحدة، فإن تعلق بهما شيء نفضهما نفضاَ خفيفاً، ثم مسح بهما وجهه، ثم يضرب ضربة أخرى بيديه، فيبدأ باليسرى على اليمنى، فيمرها من فوق الكف إلى المرفق....". اهـ
وفي الموطأ (1/56) : " وسئل مالك، كيف التيمم؟ فقال: يضرب ضربة للوجه، وضربة لليدين، ويمسحهما إلى المرفقين ". وقال في الإشراف (1/158) : " اختلف أصحابنا في حد فرض اليدين في التيمم عند مالك، فمنهم من قال: إلى المرفقين، وهو قول ابن نافع... ومنهم من قال: إلى الكوعين، وهو قول ابن حبيب ". اهـ وانظر المعونة (1/145) .(12/297)
والشافعية (1) .
وقيل: التيمم ضربة واحدة، للوجه والكفين،
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (2) ، وأشهر القولين عن الأوزاعي رحمه لله (3) .
وقيل: الضربة الأولى ومسح اليدين إلى الكوعين فرض، والضربة الثانية ومسح اليدين إلى المرفقين سنة، وهو المشهور عند المالكية (4) ،
_________
(1) الأم (1/49) ، المجموع (2/243) ، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/82) ، المهذب (1/33) ، حلية العلماء (1/181) ، مغني المحتاج (1/60) .
(2) مسائل أحمد رواية ابنه عبد الله (1/127) ، ومسائل أحمد رواية ابن هانئ (1/11) ، ومسائل أحمد رواية أبي الفضل (2/121) و (3/24) ، المغني (1/154) ، الإنصاف (1/301) الكافي في فقه الإمام أحمد (1/62) ، المبدع (1/229) ، المحرر (1/21) ، شرح العمدة (1/411) ، شرح منتهى الإرادات (1/98) ، تنقيح التحقيق (1/563) ، مجموع الفتاوى (21/22) وقد نص بعض الحنابلة بأن التيمم يجزئ بضربة واحدة، وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جاز.
(3) الاستذكار (3/163) .
(4) التمهيد (19/282) ، التاج والإكليل (1/356) ، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (1/76-77) ، الشرح الكبير (1/158) ، الفواكه الدواني (1/157) ، القوانين الفقهية (ص: 30) ، حاشية الدسوقي (1/158) ، الخرشي (1/194) ، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/165-166) ، مواهب الجليل (1/356) .
وذكر صاحب الذخيرة (1/352) بأنه إذا اقتصر على ضربة واحدة، ففيها ثلاثة أقوال:
الأول: قال مالك في العتبية: يجزيه ضربة واحدة إذا اقتصر عليها، قال ابن القاسم: لا يعيد لا في وقت، ولا غيره.
والثاني: يعيد في الوقت، ولا يعيد في غيره، وهو قول ابن حبيب.
والثالث: يعيد مطلقاً، في الوقت وغيره، وهو قول ابن نافع.(12/298)
واختاره القاضي من الحنابلة (1) .
وقيل: مسح اليدين إلى الآباط، وهو مذهب الزهري رحمه الله تعالى (2) .
وقيل: اليتمم ضربتان، يمسح بكل ضربة وجهه وذراعيه ومرفقيه، وهذا قول ابن أبي ليلى، والحسن بن حي. قال ابن عبد البر: وما أعلم قال ذلك غيرهما (3) .
وقيل: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى الكوعين، وهذا أحد القولين عن الأوزاعي (4) ، وهو قول في مذهب الحنابلة (5) .
وتقدم القول الأول عنه، أنه ضربة واحدة، للوجه واليدين إلى الكوعين.
هذا تقريباً كل ما قيل من أقوال في المسألة (6) ، والأقوال الشاذة لن نعنى بها، وبذكر أدلتها، وإنما الذي يهمنا في هذا الباب ذكر أدلة أشهر الأقوال، والله أعلم.
_________
(1) شرح منتهى الإرادات (1/101) .
(2) الذخيرة (1/354) ، الاستذكار (3/165) ، أحكام القرآن للجصاص (4/27) .
(3) الاستذكار (3/165) .
(4) الاستذكار (3/165) .
(5) الإنصاف (1/301) ،
(6) ثم وقفت على قول لابن سيرين أيضاً يرى أن التيمم ثلاث ضربات، ذكره السرخسي عنه في المبسوط (1/107) .(12/299)
دليل من قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين:
الدليل الأول:
(1444-76) ما رواه أبو داود من طريق محمد بن ثابت العبدي، أخبرنا نافع، قال:
انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر (1) .
[المعروف أنه موقوف على ابن عمر، وقد أنكر رفعه أحمد بن حنبل والبخاري وأبو داود وأبو زرعة والبيهقي وغيرهم] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (330) .
(2) انفرد برفعه محمد بن ثابت العبدي، وقد جاء في ترجمته:
قال يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال مرة: ضعيف. قال الدوري: قلت ليحيى بن معين: أليس قلت مرة: ليس به بأس؟ قال: ما قلت هذا قط. تاريخ ابن معين (2/507) .
قلت: قد نقل الدارمي عنه: ليس به بأس (809) .
قال البخاري: يخالف في بعض حديثه. التأريخ الكبير (1/50-51) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (544) .
وقال أيضاً: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (9/85) .
وقال أبو حاتم الرازي: ليس هو بالمتين، يكتب حديثه. الجرح والتعديل (7/216) .
وقال ابن عدي: عامة أحاديثه لا يتابع عليه. مختصر الكامل لابن الملقن (1637) .
وقال أبو داود: ليس بشيء. تهذيب التهذيب (9/85) .
وفي التقريب: صدوق، لين الحديث.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/85) ، وابن المنذر في الأوسط (2/49) ، والطبراني في المعجم الأوسط (7784) والدارقطني (1/177) والبيهقي (1/215) ، والعقيلي في الضعفاء (4/38) ، والخطيب في تاريخ بغداد (13/135) من طريق محمد بن ثابت العبدي به.
ورواه عبيد الله بن عمر، عن نافع، واختلف على عبيد الله:
فرواه الطبراني في المعجم الكبير (12/367) رقم 13366، وابن عدي في الكامل (5/188) ، والدارقطني في سننه (1/180) والحاكم (1/1/179) من طريق علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر،
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.
قال الحاكم: ولا أعلم أحداً أسنده عن عبيد الله غير علي بن ظبيان، وهو صدوق، فتعقبه الذهبي في التلخيص، فقال: بل واه. قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة. اهـ
وقال البخاري: علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر منكر الحديث. الضعفاء للعقيلي (3/234) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (433) ، والكامل (5/187) .
وقال أبو زرعة: واهي الحديث جداً. الضعفاء لأبي زرعة (2/429) ، تنقيح التحقيق (1/568) .
وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث الجرح والتعديل (6/191) .
وقال يعقوب بن سفيان: لا يكتب حديثه. تهذيب الكمال (20/499) .
وتابع محمد بن سنان القزاز، علي بن ظبيان في رفعه، فرواه القزاز، عن عمرو بن محمد ابن أبي رزين، عن هشام بن حسان، عن عبيد الله بن عمر به، إلا أنه لم يذكر إلا مطلق التيمم، ولم يذكر الضربتين، ولا إلى المرفقين.
أخرجه الدارقطني في سننه (1/186) ، والحاكم في المستدرك (1/180) ، والبيهقي في السنن (1/224) . ومحمد بن سنان القزاز ضعيف،
قال الدارقطني: " يرويه عبيد الله بن عمر، واختلف عنه، فرواه محمد بن سنان بن يزيد القزاز، عن عمرو بن محمد بن أبي رزين، عن هشام بن حسان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وغيره يرويه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً، وكذلك رواه أيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي، عن نافع، عن ابن عمر، من فعله موقوفاً. تاريخ بغداد (5/344) .
وسبق الكلام على هذا الطريق منفرداً في مبحث: تقدير المسافة التي تبيح التيمم، ويسقط فيها طلب الماء، فانظره مشكوراً.
وقد خالف عليَّ بن ظبيان ومحمدَ بن سنان القزاز كلٌ من:
1- سفيان الثوري كما في الأوسط لابن المنذر (2/48) .
2- وعلي بن معبد كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/114) .
3- يحيى بن سعيد القطان،
4- وهشيم بن بشير كما في سنن الدارقطني (1/180) ، وسنن البيهقي (1/207) :
أربعتهم (سفيان وعلي بن معبد ويحيى بن سعيد القطان وهشيم) رووه عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه، مخالفين في ذلك علي بن ظبيان ومحمد بن سنان.
ورواه عن نافع مرفوعاً أيضاً سليمان بن أبي داود الحراني،
أخرجه الدارقطني (1/181) ، والحاكم (1/180) من طريقه، عن سالم ونافع،
عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين".
كما أخرجه الدارقطني (1/181) وعلقه البيهقي في السنن (1/207) من طريق سليمان ابن أرقم، عن الزهري، عن سالم،
عن أبيه، قال: تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربنا أيدينا على الصعيد، ثم نفضنا أيدينا، فمسحنا بها وجوهنا، ثم ضربنا ضربة أخرى الصعيد الطيب، ثم نفضنا أيدينا، فمسحنا بأيدينا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن.
وسليمان بن أبي داود الحراني ضعيف، وسليمان بن أرقم متروك.
هؤلاء من رووا الحديث عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً، (محمد بن ثابت العبدي، وسليمان بن أبي داود الحراني، وعبيد الله بن عمر في رواية علي بن ظبيان عنه) ، وثلاثتهم متكلم فيه: أعني العبدي والحراني وعلي بن ظبيان.
وخالفهم الثقات من أصحاب نافع، فرووه عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه،
الأول: أيوب كما في مصنف عبد الرزاق (818) وابن أبي شيبة في المصنف (1/146) رقم 1673، والطبري في تفسيره (5/111) وابن المنذر في الأوسط (2/34) إلا أن ابن المنذر ذكر مطلق التيمم، ولم يذكر صفته.
الثاني: إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه كما في الموطأ (1/58) ومن طريقه عبد الرزاق (883) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/114) ، والدارقطني في سننه (1/181) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/207) . ولم يذكر مالك الضربتين، وذكر المسح إلى المرفقين.
الثالث: يونس بن عبيد، كما في سنن الدارقطني (1/180) ، والبيهقي (1/207) .
الرابع: عبد الله بن عمر كما في مصنف عبد الرزاق (819) .
الخامس: عبد الكربم الجزري كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/114) .
السادس: محمد بن عجلان، كما في مصنف عبد الرزاق (884) ، والأوسط لابن المنذر (2/61) ، والدارقطني (1/186) ، وذكر مطلق التيمم، ولم يذكر صفته.
السابع: يحيى بن سعيد الأنصاري، كما في مصنف عبد الرزاق (884) ، والأوسط لابن المنذر (2/64) ، والحاكم (1/181) .
كلهم رووه عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه، فتبين بهذا أن حديث ابن عمر رفعه منكر، وأن المعروف أنه موقوف عليه، وأنه لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا رجل ضعيف، ولو رفعه ثقة مع هذه المخالفة من أصحاب نافع لكان رفعه شاذاً، فكيف وقد انفرد برفعه رجال مجروحون، وأخفهم جرجاً من يقال في حقه ضعيف، ومنهم المتروك.
وتابع سالم نافعاً في روايته عن ابن عمر موقوفاً، فأخرجه عبد الرزاق (817) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/48) من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه بنحوه.
قال أبو زرعة: سألت أبا زرعة عن حديث رواه محمد بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم ضربتين، قال: خطأ، إنما هو موقوف.
وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/50) روى محمد عن نافع، عن ابن عمر مرفوع في التيمم، وخالفه أيوب وعبيد الله والناس، فقالوا: عن نافع، عن ابن عمر فعله.
وقال أبو داود في سننه بعد روايته أن ساق الحديث (330) : سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمد بن ثابت حديثاً منكراً في التيمم.
وقال ابن داسه: قال أبو داود: لم يتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورووه فعل ابن عمر. اهـ
قال ابن عبد البر في التمهيد (19/287) : " وهذا لم يروه عن نافع أحد غير محمد بن ثابت هذا، به يعرف، ومن أجله يضعف، وهو عندهم حديث منكر، لا يعرفه أصحاب نافع".
وقال ابن كثير في تفسيره (1/506) : " في إسناده محمد بن ثابت العبدي، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات، فوقفوه على ابن عمر ". وارجع إن شئت لمراجعة بعض طرق الحديث إتحاف المهرة بالأرقام التالية (11130، 11291، 10900، 11322، 11461)(12/300)
الدليل الثاني:
(1445-77) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد وإسماعيل ابن علي وعبد الباقي بن قانع، نا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا عثمان بن محمد الأنماطي، ثنا حرمي بن عمارة، عن عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير،
عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين (1) .
[صوب الدارقطني وقفه] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/181) .
(2) ورواه الحاكم (1/ 180) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/207) حدثنا علي بن حمشاذ العدل وأبو بكر بن بالويه، قالا: ثنا إبراهيم بن إسحاق به.
قال الدارقطني بعد أن ساق الحديث المتقدم: رجاله كلهم ثقات، والصواب موقوف، ثم ساق الموقوف مسنداً، قال: حدثنا محمد بن مخلد، وإسماعيل بن علي، وعبد الباقي بن قانع، قالوا: إنا إبراهيم الحربي، نا أبو نعيم، نا عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: جاء رجل، فقال: أصابتني جنابة، وإني تمعكت في التراب، قال: اضرب، فضرب بيده، فمسح وجهه، ثم ضرب بيده الأخرى، فمسح بهما يديه إلى المرفقين.
وأخرجه الحاكم (1/180) ومن طريقه البيهقي (1/207) ثنا علي بن حمشاذ العدل، وأبو بكر بن بالويه، قالا: أنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا أبو نعيم، ثنا عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر به، بلفظ الدارقطني. قال البيهقي: وإسناده صحيح إلا أنه لم يبين الآمر له بذلك.
قلت: وبين الطريقين اختلاف في الإسناد، واختلاف في المتن،
أما الإسناد: فالأول: يرويه إبراهيم الحربي عن عثمان بن محمد الأنماطي، عن حرمي بن عمارة، عن عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر.
وأما الإسناد الثاني: فيرويه إبراهيم الحربي عن أبي نعيم، عن عزرة، عن أبي الزبير، عن جابر.
وأما المتن فالطريق الأول صريح بأنه مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما المتن في الطريق الثاني فإنه لم يذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل كان الآمر هو النبي أو جابر، لا يمكن القطع، ولذلك قال الدارقطني: والصواب موقوف، ثم ساق الطريق الثاني، فهذا يفهم منه أن الدارقطني قد جزم بأن المتن الثاني موقوف، وليس مرفوعاً.
وشيوخ الداقطني في كلا الطريقين محمد بن مخالد وإسماعيل بن علي وعبد الباقي بن قانع.
وشيوخ الحاكم في كلا الطريقين هما علي بن حمشاذ العدل وأبو بكر بن بالويه، فهل هذا الاختلاف جاء من إبراهيم الحربي، لكونه تارة يحدث به عن أبي نعيم، عن عزرة، عن أبي الزبير، عن جابر.
وتارة يحدث به عن عثمان بن محمد، عن حرمي بن عمارة، عن عزرة به. هذا محتمل، والله أعلم، إلا أن هذا الاختلاف يؤثر في صحة الأثر، فإذا احتجنا إلى الترجيح بينهما لا بد من طريق آخر غير هذين الطريقين؛ لأن هذين الإسنادين المرفوع منهما والموقوف طريقهما واحد من ابتداء الإسناد إلى منتهاه، فترجيح أحدهما على الآخر بدون قرينة تحكم، لذلك طلبنا مرجحاً آخر، فوجدنا الطحاوي قد روى هذا الأثر في شرح معاني الآثار (1/114) عن فهد، ثنا أبو نعيم، ثنا عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، صريحاً بالوقف.
وذكره الحافظ في إتحاف المهرة (3535) وصرح الحافظ بأن طريق الطحاوي موقوف.
كما رواه ابن أبي شيبة روى في مصنفه (1/147) رقم 1688، عن وكيع، عن ابن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر أنه ضرب بيديه الأرض ضربة، فمسح بها وجهه، ثم ضرب بهما الأرض ضربة أخرى، فمسح بهما ذراعيه إلى المرفقين.
فهذا طريق آخر غير الطريقين الأولين يروي الحديث من طريق أبي الزبير عن جابر موقوفاً.
كما رواه ابن المنذر في الأوسط (2/49) قال: حدثونا عن الحسن بن عيسى، عن ابن المبارك، عن عزرة بن ثابت... وذكره بنحوه موقوفاً.
فترجحت رواية الوقف على الرفع.
وحاول ابن الجوزي أن يعل الطريق المرفوع بسبب آخر غير الوقف، فقال في التحقيق: (1/567) " وأما حديث جابر فقد تُكِّلم في عثمان بن محمد ".
فتعقبه ابن عبد الهادي، في التنقيح، فقال (1/571) : " لم يذكر المؤلف من تكلم في عثمان بن محمد، وقد روى عنه أبو داود وأبو بكر بن أبي عاصم وغيرهما، وذكره ابن أبي حاتم في كتابه، ولم يذكر جرحاً، وقد روى الحديث البيهقي والدارقطني وقال: رواته كلهم ثقات، والصواب موقوف. ورواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح ".
كما انتقد ابن دقيق العيد ابن الجوزي في تضعيفه بعثمان بن محمد، فقال كما في تلخيص الحبير (1/152) : " لم يتكلم فيه أحد، نعم روايته شاذة؛ لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوف ". وهذه موافقة من ابن دقيق العيد للدارقطني بأن الطريق الثاني موقوف، وليس مرفوعاً، كما أن فيه موافقة أخرى، وهي إعلال المرفوع بالموقوف.
وقد بحثت عن كلام ابن دقيق العيد في كتابه الإمام، وقد ذكر هذا الحديث، ونقل كلام ابن الجوزي (1/153) إلا أنه لم يتعقبه بشيء، فلعل الحافظ نقله عن ابن دقيق العيد من كتاب آخر له، والله أعلم.(12/304)
الدليل الثالث:
(1446-78) ما رواه الطحاوي من طريق أبي يوسف، عن الربيع بن بدر، حدثنا أبي، عن جدي،
عن أسلع التميمي، قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال لي: يا أسلع قم، فارجل لنا. قلت: يا رسول الله أصابتني بعدك جنابة، فسكت حتى أتاه جبريل بآية التيمم، فقال لي: يا أسلع، قم فتيمم صعيداً طيباً: ضربتين، ضربة لوجهك، وضربة لذراعيك، ظاهرهما وباطنهما، فلما انتهينا إلى الماء، قال: يا أسلع قم، فاغتسل (1) .
[حديث منكر، وقصة نزول آية التيمم مشهورة في الصحيحين، حين كان الصحابة في سفر، وقد ضاع عقد لعائشة، فقاموا، وليس معهم ماء، وليسوا على ماء، فنزلت آية التيمم، ولم تنزل الآية لهذه الحادثة] (2) .
_________
(1) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/113) .
وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (1/298) رقم 875 من طريق روح بن الفرج المصري وعمرو بن خالد الحراني، قالا: ثنا الربيع بن بدر به.
كما رواه أيضاً (876) من طريق يحيى الحماني، ثنا الربيع بن بدر به.
ورواه الدارقطني (1/179) من طريق سعيد بن سليمان ويحيى بن إسحاق، قالا: نا الربيع بن بدر به.
ومن طريق الدارقطني أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/181) .
وأخرجه البيهقي في السنن (1/208) من طريق آدم بن إياس، ثنا الربيع به.
(2) في إسناده الربيع بن بدر،
قال فيه أحمد بن حنبل: لا يساوي حديثه شيئاً. بحر الدم (289) .
وقال أبو حاتم الرازي: لا يشتغل به. الجرح والتعديل (3/455) .
وقال فيه النسائي: متروك الحديث، الضعفاء والمتروكين (200) .
وكذا قال الدارقطني في السنن (1/99) .
كما أن جده عمرو بن جراد، قال عنه الحافظ في التقريب مجهول، وقد ذكرنا في بدء مشروعية التيمم، قصة نزول آية التيمم في الصحيحين، وهي مخالفة لما تفرد به الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن أسلع.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/262) : " رواه الطبراني في الكبير، وفيه الربيع بن بدر مجمع على ضعفه ".
وقال الحافظ في التلخيص (1/153) : " رواه الدارقطني والطبراني وفيه الربيع بن بدر، وهو ضعيف ".(12/307)
الدليل الرابع:
(1447-79) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن إسحاق، عن أبي صالح، حدثني الليث، حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عمير مولى بن عباس، أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري،
فقال أبو الجهم: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه وذراعيه، ثم رد عليه السلام " (1) .
[ذكر الذراعين في الحديث ليس بمحفوظ، وقد اختلف على أبي صالح في ذكر هذه الزيادة، والحديث في صحيح البخاري، وليس فيه مسح الذراعين] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/177) ، ومن طريقه البيهقي في السنن (1/205) .
(2) اختلف فيه على أبي صالح، فرواه محمد بن إسحاق الصغاني، وهو ثقة ثبت، عن أبي صالح به بذكر الذراعين.
ورواه ابن الجارود في المنتقى (127) حدثنا محمد بن يحيى، ثنا أبو صالح به، وليس فيه مسح الذراعين، وهو المحفوظ؛ لأنه موافق للفظ البخاري ومسلم.
فقد رواه البخاري من طريق يحيى بن بكير، ثنا الليث به، وفيه: " فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه " ولم يقل: ذراعيه.
وذكره مسلماً تعليقاً في صحيحه (369) قال مسلم: وروى الليث بن سعد، عن جعفر ابن ربيعة، فذكر إسناد البخاري ولفظه.
ورواه أبو داود (329) وابن خزيمة (274) من طريق شعيب بن الليث، عن أبيه به، بلفظ البخاري.
قال ابن الجوزي في التحقيق مع التنقيح (1/567) : " وقد روي من حديث كاتب الليث، وهو مطعون فيه ".
قلت: والذي يجعلنا نجعل الوهم من أبي صالح؛ لأن من روى عنه محمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن إسحاق كلاهما أوثق من أبي صالح، فكان الحمل عليه.
ورواه الدارقطني (1/177) من طريق أبي معاذ، نا أبو عصمة، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج،
عن أبي جهيم، قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بئر جمل، إما من غائط أو من بول، فسلمت عليه، فلم يرد علي السلام، فضرب الحائط بيده ضربة، فمسح بها وجهه، ثم ضرب أخرى، فمسح بها ذراعيه إلى المرفقين، ثم رد السلام.
قال الدارقطني: قال أبو معاذ: وحدثني خارجة، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله.
قال ابن الجوزي في التحقيق (1/567) وأما حديث أبي جهم فإن أبا عصمة وخارجه متكلم فيهما.
قال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/569) : أبو عصمة في حديث أبي جهيم: هو نوح ابن أبي مريم متروك، وخارجه هو ابن مصعب، وقد ضعفوه، وقال محمد بن سعد: تركوه، والأعرج لم يسمع الحديث من أبي جهيم، بل بينهم عمير مولى ابن عباس كما تقدم "
ورواه الشافعي في الأم (1/51) إبراهيم بن محمد، عن أبي الحويرث، عن الأعرج، عن ابن الصمة، قال: مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى قام إلى جدار، فحته بعصا كانت معه، ثم مسح يديه على الجدار، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد علي.
ورواه البيهقي (1/205) من طريق الشافعي به. قال البيهقي: هذا منقطع: عبد الرحمن الأعرج لم يسمعه من ابن الصمة، إنما سمعه من عمير مولى ابن عباس، عن ابن الصمة، وإبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وأبو الحويرث: عبد الرحمن بن معاوية... الخ كلامه
ونقل ابن دقيق العيد في كتاب الإمام (2/155) كلام البيهقي، وقال: " قال الأثرم: وأما حديث أبي جهم، فإنما هو حديث إيراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك ".
فالمحفوظ من حديث أبي جهم أنه ليس فيه ذكر للذراعين، وإنما المعروف من حديثه أنه مسح وجهه ويديه، والله أعلم.(12/308)
الدليل الخامس:
(1448-80) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسمعيل، حدثنا أبان، قال: سئل قتادة عن التيمم في السفر؟ فقال: حدثني محدث عن الشعبي، عن عبد الرحمن ابن أبزى،
عن عمار بن ياسر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إلى المرفقين (1) .
[إسناده ضعيف، وهو مخالف لما رواه أبان عن قتادة، ومخالف لما كان يفتي به قتادة، ومخالف لما رواه الناس عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمار] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (328) ، وأخرجه الداقطني (1/182) من طريق إبراهيم بن هانئ، ثنا موسى ابن إسماعيل به، وزاد: قال أبو إسحاق يعني: ابن هانئ: فذكرته لأحمد بن حنبل، فعجب منه، وقال: ما أحسنه. وانظر إتحاف المهرة (11/725-726) .
(2) وهذا ضعيف؛ لأن الرواي عن الشعبي مبهم، قال ابن دقيق العيد في الإمام (3/142) : " وهذا كالمنقطع لجهالة المحدث عن الشعبي، وقد تقدم في الصحيح رواية عبد الرحمن ابن أبزى، عن عمار إلى الكفين ".
قلت: وفيه ثلاث مخالفات ذكرتها في حكمي المختصر على الحديث في المتن،
الأولى: أن هذا الحديث مخالف لما رواه أبان وغيره عن قتادة مسنداً.
فقد روى أحمد في المسند (4/263) حدثنا عفان ويونس، قالا: حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه،
عن عمار بن ياسر، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. قال يونس: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التيمم؟ فقال: ضربة للكفين والوجه. وقال عفان: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في التيمم: ضربة للوجه والكفين.
وإسناده صحيح، وقد أخرجه الدارمي (745) ، والبزار في مسنده (1389) ، وابن الجارود في المنتقى (126) ، والطبراني في الأوسط (542) وابن المنذر في الأوسط (545) ، والدارقطني في سننه (1/182-183) من طريق عفان به.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبان إلا عفان. قلت: قد رواه أحمد كما تقدم، عن يونس، عن أبان.
كما رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بالاقتصار على الوجه والكفين، رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/147) رقم 1686، وابن خزيمة في صحيحه (267) من طريق ابن علية.
ورواه وأبو داود في السنن (327) ، والترمذي (144) ، والبزار في مسنده (1387) ، والنسائي في الكبرى (306) ، وأبو يعلى في المسند (1608، 1638) ، وابن حبان في صحيحه (1303،1308) ، والدارقطني (1/182) من طريق يزيد بن زريع.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/112) ، والبيهقي في السنن (1/210) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، ثلاثتهم (ابن علية ويزيد بن زريع وعبد الوهاب بن عطاء) عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار به بالاقتصار على الوجه والكفين. وإسناده صحيح، وابن زريع سمع من سعيد قبل تغيره.
المخالفة الثانية: أن طريق أبي داود هذا مخالف لما ثبت عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمار.
فقد روى البخاري (338) و (339) ومسلم (368) من طريق سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه، عن عمار، فذكر التيمم للوجه والكفين، ولم يذكر الذراعين.
المخالفة الثالثة: أنه مخالف لما كان يفتي به قتادة، فقد ثبت عنه بسند صحيح أنه كان يفتي بأن التيمم ضربة للوجه والكفين، انظر صحيح ابن حبان (1303، 1308) ، سنن البيهقي (1/210) .(12/310)
الدليل السادس:
القياس على الوضوء، وذلك أن الفرض في الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين، فكذلك التيمم يجب أن يكون المسح فيه إلى المرفقين، ولما كان غسل الوجه بالماء غير غسل اليدين، فكذلك يجب أن تكون الضربة في التيمم للوجه غير الضربة لليدين (1) .
ويجاب:
بأن هذا نظر في مقابل النص، فيكون فاسداً، وهل هذا النظر إلا مثل نظر عمار بن ياسر رضي الله عنه حين تمرغ في التراب قياساً على طهارة الماء، فطهارة المسح لا ينبغي أن تقاس على طهارة الغسل، فطهارة المسح المشروع فيها التخفيف.
دليل من قال: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (2) .
فذكر " اليد " وأطلق فلم يقيدها بشيء كما فعل في الوضوء، في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} (3) ، واليد عند الإطلاق إنما يراد بها الكف، بدليل قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (4) ، وقد أجمعوا
_________
(1) الاستذكار (3/165) .
(2) المائدة: 6.
(3) المائدة: 6.
(4) المائدة: 38.(12/312)
على أن القطع إلى الكوعين، نقل الإجماع ابن عبد البر (1) ، فالمسح ينبغي أن يكون إلى الكوعين.
قال ابن عبد البر: وحجة من رأى التيمم إلى الكوعين جائز، ولم ير بلوغ المرفقين واجباً: ظاهر قوله عز وجل: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (2) ، ولم يقل: إلى المرفقين {وما كان ربك نسياً} (3) ، فلم يجب بهذا الخطاب إلا أقل ما يقع عليه اسم يد؛ لأنه اليقين، وما عدا ذلك شك، والفرائض لا تجب إلا بيقين، وقد قال الله عز وجل: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (4) ، وثبتت السنة المجتمع عليها أن الأيدي في ذلك أريد بها من الكوع، فكذلك التيمم، إذ لم يذكر فيه المرفقين، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر الآثار في التيمم أنه مسح وجهه وكفيه، وكفى بهذا حجة؛ لأنه لو كان ما زاد على ذلك واجباً لم يدعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5) .
الدليل الثاني:
(1449-81) ما رواه البخاري من طريق الحكم، عن ذر، عن سعيد ابن عبد الرحمن ابن أبزى،
_________
(1) الاستذكار (3/164) .
(2) المائدة: 6.
(3) مريم: 64.
(4) المائدة: 38.
(5) التمهيد (19/282-283) .(12/313)
عن أبيه قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت، فصليت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه، ورواه مسلم معلقاً بنحوه (1) .
وهذا صريح أن المسح ضربة واحدة، وأنه في اليدين إلى الكفين، وقد أخرجه البخاري في صحيحه، فيجب المصير إليه، وظاهر آية المائدة تؤيده كما سقت ذلك في الدليل الأول.
قال الحافظ ابن حجر: الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، وما عداهما فضعيف، أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه، فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملاً (2) ، وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين، وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط، فأما رواية المرفقين وكذا نصف الذراع ففيها مقال... " (3) .
قلت: وكذلك رواية الآباط لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، وقد سبق
_________
(1) البخاري (338) ، ومسلم (368) .
(2) حديث أبي جهم في البخاري (337) ، هذا لفظه: " أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (369) .
(3) فتح الباري تحت حديث (339) .(12/314)
تخريجها والتيمم إلى الآباط، قول لا يعرف إلا لابن شهاب رحمه الله تعالى (1) .
فلم يبق من روايات حديث عمار إلا ما ورد في الصحيحين، وأن التيمم للكفين فقط، والله أعلم.
دليل من قال: التيمم إلى الآباط:
(1450-82) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة،
عن عمار بن ياسر أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضاء الفجر، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليهم الرخصة في المسح بالصعدات، فدخل عليها أبو بكر، فقال: إنك لمباركة، لقد نزل علينا فيك رخصة، فضربنا بأيدينا لوجوهنا، وضربنا بأيدينا ضربة إلى المناكب والآباط (2) .
[الحديث فيه اضطراب كثير، وسبق تخريجه] (3) .
وقد حاول بعض العلماء الإجابة عنه، على احتمال ثبوته بأجوبة منها:
الأول: أن يكون ذلك في أول الأمر، ثم نسخ.
ذكر الشافعي رحمه الله تعالى وأبو بكر الأثرم وغيرهما من العلماء: أن التيمم إلى الآباط إن كان وقع ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكل تيمم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده، فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به. اهـ
_________
(1) قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/165) : " وقال ابن شهاب: يبلغ بالتيمم الآباط، ولم يقل ذلك غيره فيما علمت". اهـ
(2) المسند (4/320) .
(3) في فصل: هل التيمم رخصة أو عزيمة، فانظره هناك مشكوراً.(12/315)
ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار كان يفتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد " (1) .
الثاني: أن يكون ذلك وقع من الصحابة على وجه الاجتهاد قبل معرفتهم للصفة المشروعة من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن عبد البر: " يحتمل أن يكون من تيمم عند نزول الآية إلى المناكب أخذ بظاهر الكلام، وما تقتضيه اللغة من عموم لفظ الأيدي، ثم أحكمت الأمور بعدُ بفعل النبي عليه السلام، وأمره بالتيمم إلى المرفقين" (2) .
وقال ابن الجوزي: وحديث عمار: " تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب والآباط " ليس هو بمخالف لحديث الوجه والكفين؛ لأن عماراً لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالوجه والكفين، والدليل على ذلك ما أفتى به عمار بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم، أنه قال: الوجه والكفين. ففي هذا دلالة أنه انتهى إلى ما عَلَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - " (3) .
وقال ابن رجب: " وعلى تقدير صحته، ففي الجواب عنه وجهان:
أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم أصحابه التيمم على هذه الصفة، وإنما فعلوه عند نزول الآية لظنهم أن اليد عند الإطلاق تشمل الكفين والذارعين والمنكبين والعضدين، ففعلوا ذلك احتياطاً كما تمعك عمار بالأرض للجنابة، وظن أن تيمم الجنب يعم البدن كله كالغسل، ثم بين
_________
(1) الفتح تحت حديث رقم (339) ، شرح ابن رجب للبخاري (2/253) .
(2) الاستذكار (3/166) .
(3) تنقيح التحقيق (1/565) .(12/316)
النبي - صلى الله عليه وسلم - التيمم بفعله وقوله " التيمم للوجه والكفين " فرجع الصحابة كلهم إلى بيانه - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم عمار راوي الحديث، فإنه أفتى أن التيمم ضربة للوجه والكفين " (1) .
وهذا الجواب لا حاجة إليه مع تضعيف حديث عمار من طريق الزهري، لأنه يبعد كل البعد أن يكون التيمم نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم في السفر، ثم يتيمم أصحابه رضي الله عنهم دون أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفة التيمم، مع حرصهم على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدقيق والجليل، وإمكان الرجوع إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في معرفة تلك الصفة، وعلى فرض أن يكون بعضهم فعل ذلك اجتهاداً مع وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان سيعلم ذلك إما من الوحي لمخالفته الصفة المشروعة، وإما من الناس خاصة إذا شاهدوا تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخالفاً لما فعلوه، وهذا إنما نقوله في المناظرة، وإلا فهو بعيد جداً، ولم يكن الصحابة يجتهدون إلا حيث لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم، وأما إذا كان معهم فإنه يرجعون إليه، ويصدرون عنه، فالصواب أن حديث عمار من طريق الزهري حديث مضطرب، وقد بينت اختلاف أصحاب الزهري عليه في إسناده في أول كتاب التيمم، وهذا الذي دفع ابن عبد البر أن يقول: " أحاديث عمار في التيمم كثيرة الاضطراب، وإن كان رواتها ثقات " (2) .
_________
(1) شرح ابن رجب للبخاري (2/252) .
(2) الاستذكار (3/165) . قلت: ينبغي أن يستثني من حديث عمار ما كان منه في الصحيحين، وقد نص على أن التيمم في الوجه والكفين، وما خالف ذلك فإنه حديث ضعيف أو موقوف.(12/317)
قال ابن رجب: " هذا حديث منكرجداً، لم يزل العلماء ينكرونه، وقد أنكره الزهري راويه، وقال: هو لا يعتبر به الناس، ذكره الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، وروي عن الزهري أنه امتنع أن يحدث به، وقال: لم أسمعه إلا من عبيد الله، وروي عنه أنه قال: لا أدري ما هو؟ وروي عن مكحول أنه كان يغضب إذا حدث الزهري بهذا الحديث، وعن ابن عيينة أنه امتنع أن يحدث به، وقال: ليس العمل عليه، وسئل الإمام أحمد عنه، فقال: ليس بشيء، وقال: أيضاً: اختلفوا في إسناده، وكان الزهري يهابه، وقال: ما أرى العمل عليه " (1) .
الدليل الثاني لمن قال: يمسح إلى الآباط:
قالوا: إن اليد إذا أطلقت يتناول جميع اليد، من رؤوس الأصابع إلى الآباط.
ويجاب.
هذا يحتاج إلى دليل على أن اليد تطلق على جميع الجارحة، بل الدليل قام من القرآن على خلاف هذا، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو بلسان عربي مبين، قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (2) ، فأطلق اليد، ولم يفهم منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا صحابته الكرام أن القطع يشمل جميع الجارحة من رؤوس الأصابع إلى الآباط، بل قام الإجماع على أن القطع للكف فقط، وقد نقلته عن ابن عبد البر في أدلة القول السابق.
_________
(1) شرح ابن رجب للبخاري (2/252) .
(2) المائدة: 38.(12/318)
الراجح:
بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بأن التيمم يقتصر على الوجه والكفين بضربة واحدة هو أقوى الأقوال دليلاً، وأسلمها من الاعتراض، فلم يثبت حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتيمم إلى المرفقين، وإنما صح ذلك موقوفاً على بعض الصحابة، وليس في قولهم حجة مع مخالفتهم لحديث عمار المرفوع في الصحيحين، كما لم يثبت حديث مرفوع في أن التيمم ضربتان، والمصير في صفة التيمم إلى آية المائدة، مع حديث عمار بن ياسر، وما خالفهما فهو إما موقوف أو ضعيف، والله أعلم.(12/319)
[صفحة فارغة](12/320)
المبحث الثاني:
في استيعاب المسح للوجه واليدين
اختلف العلماء في حكم استيعاب المسح للوجه واليدين، فلو أن المتيمم ترك شيئاً يسيراً من مسح وجهه أو يديه، فهل يصح تيممه؟
فقيل: الاستيعاب فرض،
وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: الاستيعاب ليس بفرض، فمسح الأكثر يقوم مقام الكل، وهو
_________
(1) المبسوط (1/107) ، وقال الجصاص في أحكام القرآن (2/550) : ذكر أبو الحسن الكرخي عن أصحابنا أنه إن ترك المتيمم من مواضع التيمم شيئاً قليلاً أو كثيراً لم يجزه " وانظر بدائع الصنائع (1/46) ، تبيين الحقائق (1/38) ، البحر الرائق (1/145) ، حاشية ابن عابدين (1/230) .
(2) الثمر الداني (1/76) ، وقال في مواهب الجليل (1/349) : " لزم المتيمم تعميم وجهه بالمسح، وتعميم كفيه إلى كوعيه.. " اهـ
وقد نص خليل في متنه على نزع خاتمه، قال في مواهب الجليل (1/349) : " قال في التوضيح: لا خلاف أنه مطلوب بنزع خاتمه ابتداء؛ لأن التراب لا يدخل تحته، فإن لم ينزعه فالمذهب أنه لا يجزئه... ". وانظر شرح الخرشي (1/191) ، حاشية الدسوقي (1/155) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/195) .
(3) قال النووي في المجموع (2/243) : " فمذهبنا المشهور، أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين مع المرفقين، فإن حصل استيعاب الوجه واليدين بالضربتين، وإلا وجبت الزيادة حتى يحصل الاستيعاب..". وانظر إعانة الطالبين (1/56) .
(4) المغني (1/159) ، كشاف القناع (1/174) ، شرح العمدة (1/420) ، المبدع (1/222) .(12/321)
رواية الحسن عن أبي حنيفة (1) ، واختيار ابن مسلمة من المالكية (2) ، ورجحه ابن حزم رحمه الله (3) .
ولذلك أوجب الأئمة الأربعة نزع الخاتم من أجل القيام بفرض الاستيعاب (4) .
وأما تخليل الأصابع في التيمم: فمن ذهب منهم إلى جواز التيمم على الحجر ونحوه أوجب تخليل الأصابع، لكي يقوم بواجب الاستيعاب كالحنفية (5) ، والمالكية على المشهور (6) .
ومن اشترط الغبار اشترط تفريج أصابعه إذا ضرب الأرض، حتى
_________
(1) المبسوط (1/107) أحكام القرآن للجصاص (2/550) بدائع الصنائع (1/46) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 78) .
(2) مواهب الجليل (1/349) .
(3) المحلى (1/376) .
(4) المبسوط (1/107) ، حاشية ابن عابدين (1/232) ، مواهب الجيل (1/349) ، الفواكه الدواني (1/157) ، مطالب أولي النهى (1/220) ، كشاف القناع (1/178) ، منار السبيل (1/56) .
(5) المبسوط (1/107) ، بدائع الصنائع (1/46) ، أحكام القرآن للجصاص (2/550) ، الفتاوى الهندية (1/26) : وفي تبيين الحقائق (1/38) : " ويجب تخليل الأصابع إن لم يدخل بينها غبار".
(6) مواهب الجليل (1/349) ، الفواكه الدواني (1/157) ، الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/155) ، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (1/77) .
وقال في حاشية الدسوقي (1/155) : " قال أبو محمد: لم أر القول بلزوم تخليل الأصابع في التيمم لغير ابن شعبان، وذلك لأن التخليل لا يناسب المسح المبني على التخفيف ".(12/322)
يتخللها الغبار كالشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
_________
(1) قال النووي في المجموع (2/267) : " ويخلل بين أصابعهما، فاتفق جمهور العراقيين على أنه سنة، ليس بواجب، ونقله ابن الصباغ عن الأصحاب مطلقاً، هذا إذا كان فرق أصابعه في الضربتين، أو في الثانية، أما إذا فرق في الأولى فقط، وقلنا: يجزيه، فيجب التخليل، وقال الخرسانيون والماوردي: في وجوب التخليل ومسح إحدى الراحتين بالأخرى وجهان".
(2) نصت كتب الحنابلة في صفة التيمم على الضرب بيديه مفرجتي الأصابع، بعد نزع الخاتم، وعللوا ذلك لأجل دخول التراب بين أصابعه، ومقتضى التعليل أن التفريج واجب؛ لأن الاستيعاب واجب عندهم، وكذا نزع الخاتم، والعلة واحدة، في تفريج الأصابع وفي نزع الخاتم، وهي وجوب الاستيعاب، فكان مقتضى التعليل أن التفريج واجب، وقد حاولت أن أجد من صرح بأن تفريج الأصابع واجب، ولم أقف عليه فيما قرأت من المراجع، إلا أن شيخنا محمد ابن عثيمين رحمه الله رحمة واسعة في درسه لزاد المستقنع ذكر أن هذا واجب عند الحنابلة،
قال شيخنا في الشرح الممتع (1/485) : " قوله: " مفرجتي الأصابع " أي متباعدة؛ لأجل أن يدخل التراب بينها؛ ولأن الفقهاء يرون وجوب استيعاب الوجه والكفين هنا، ولذلك قالوا: مفرجتي الأصابع ".
قال في الفروع (1/225) : " ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع ".
وقال في الإنصاف (1/301) : " والسنة في التيمم أن ينوي، ويسمي، ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع على التراب ضربة واحدة ".
وقال في شرح منتهى الإرادات (1/101) : ويضرب التراب بيديه مفرجتي الأصابع؛ ليصل التراب إلى ما بينهما، وينزع نحو خاتم ".
وقال في كشاف القناع (1/178) : " ويضرب يديه مفرجتي الأصابع ليصل التراب إلى ما بينها..... بعد نزع خاتم ونحوه ليصل التراب إلى ما تحته ". وقال مثله في مطالب أولى النهى (1/219-220) .
وقال في المبدع (1/229) : " ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع ليدخل الغبار بينهما، وينزع خاتمه ". وانظر المحرر (1/21) ، والمستوعب (1/298) .
وذكر العنقري في حاشيته على الروض وجوب نزع الخاتم، ولا يكفي تحريكه (1/95)
وابن تيمية اعتبر تفريج الأصابع عند الأصحاب تحصيل فضيلة، ويفهم منه أنه ليس بواجب، قال في شرح العمدة (1/414) : " قال أصحابنا: والأفضل أن يضرب بيديه الصعيد مفرجتي الأصابع... ". فتأمل.(12/323)
وقيل: ليس عليه تخليل أصابعه ولا نزع خاتمه،
وهو رواية الكرخي عن أبي حنيفة (1) ، وأحد القولين في مذهب المالكية (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/46) ، أحكام القرآن للجصاص (2/550) ، مراقي الفلاح (ص:49) ، والذي وقفت عليه في مذهب الحنفية قولين: الأول: وجوب استيعاب الوجه واليدين بالمسح، والثاني: يكفي مسح أكثر الوجه واليدين.
وقد ساق ابن رجب الحنبلي في شرحه للبخاري (2/245) روايات أخرى، فأذكرها، وليبحث عنها في كتب الحنفية، فإني لم أقف عليها:
قال ابن رجب: " وعن أبي حنيفة روايات، إحداها: كقول الشافعي وأحمد - يعني: وجوب الاستيعاب - والثانية: إن ترك قدر الدرهم لم يجزئه، وإن ترك دونه أجزأه، والثالثة: إن ترك دون ربع الوجه أجزأه، وإلا فلا. والرابعة: إن مسح أكثره، وترك الأقل منه أو من الذارع أجزأه، وإلا فلا، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ".
والذي أخشاه أن يكون الحافظ ابن رجب نقل ذلك عن النووي رحمه الله، ولم يحرره من كتب الحنفية، فقد قال العيني في البناية (1/500-501) : " قال النووي: مذهب الشافعي رحمه الله أنه يجب إيصال التراب إلى جميع البشرة.... قال: وعن أبي حنيفة روايات، أحدها كمذهبنا... والثانية: إن ترك قدر درهم لم يجزئه.. قال العيني متعقباً كلام النووي: هذه ليس لها أصل في الكتب الأمهات لأصحابنا مثل المبسوط والمحيط والذخيرة وشرخ مختصر الكرخي والبدائع والفوائد ونحوها ". والله أعلم.
(2) قال ابن عطية في تفسيره (ص: 442) " واختلف المذهب في تحريك الخاتم، وتخليل الأصابع على قولين: يجب، ولا يجب ". اهـ ونسختي من تفسير ابن عطية طبع في مجلد واحد كبير، طبعة دار ابن حزم. وانظر مواهب الجليل (1/349) .(12/324)
دليل من قال: يجب الاستيعاب:
قال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (1) .
(1451-83) وفي البخاري من حديث عمار بن ياسر:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (2) .
فقوله: " ثم مسح بهما وجهه وكفيه " يقتضي أن يكون المسح لجميع الوجه واليدين، والحديث امتثال وبيان للآية الكريمة {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (3) ، وهو يرفع ما قد يتوهم في الباء من تبعيض، وقد بينا في فرائض الوضوء من قوله تعالى {فامسحوا برؤوسكم} أن الباء لا تأتي للتبعيض، فهي كالباء في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (4) ، ولا يجوز بالإجماع الطواف ببعض البيت، والذين ذهبوا إلى جواز مسح بعض الرأس، مستدلين بأن الباء للتبعيض في قوله تعالى: {فامسحوا برؤوسكم} لم يقولوا هذا في آية التيمم {فامسحوا بوجوهكم} وهي واحدة في الآيتين، ومتعلقها واحد، وهو فعل الأمر (امسحوا) وهذا نوع من التناقض.
الدليل الثاني:
القياس على طهارة الماء، فكما أن غسل الوجه واليدين يجب أن يشمل جميع الوجه واليدين، فكذلك في طهارة التيمم يجب أن يشمل جميع الوجه واليدين، لأن البدل له حكم المبدل.
_________
(1) المائدة: 6.
(2) البخاري (338) ، ومسلم (368) .
(3) المائدة: 6.
(4) الحج: 29.(12/325)
ويجاب:
بأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه، ولهذا المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين (1) .
ثم إن هذا الدليل أنتم لا تأخذون به من كل وجه، فهل ترون أنه يجب أن يصل الماء إلى باطن الفم والأنف ليقوم مقام المضمضة والاستنشاق، أو إلى باطن الشعر الخفيف كشعر الحاجبين واللحية الخفيفة (2) ، فإذا استثنيتم ذلك، بطل القياس على طهارة الماء.
الدليل الثالث:
حكى الإمام أحمد أن التعميم في مسح الوجه إجماع.
قال ابن رجب: " قال الجوزجاني: ثنا إسماعيل بن سعيد الشالنجي، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن ترك مسح بعض وجهه في التيمم، قال: يعيد الصلاة. فقلت له: فما بال الرأس يجزئ في المسح، ولم يجز أن يترك ذلك من الوجه في التيمم؟ فقال: لم يبلغنا أن أحداً ترك ذلك من تيممه " (3) .
فإن كان فُهِم من كلام الإمام أحمد أنه إجماع كما فهمه ابن رجب رحمه الله، فهو إجماع على حكاية فعل، وليس إجماعاً قولياً على وجوب التعميم، فهناك فرق بين النقل بأن أحداً لم يترك كذا، وبين القول بوجوب
_________
(1) الفتاوى الكبرى (1/278) .
(2) اختلف الفقهاء في وجوب إيصال التراب إلى باطن الشعر الخفيف، كشعر الحاجبين والعنفقة وشعر اللحية الخفيف إلى قولين سوف نتعرض لذكرهما إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة.
(3) شرح ابن رجب للبخاري (2/246) .(12/326)
التعميم؛ لأن الإجماع هنا قد يؤخذ منه على القول بثبوته على مشروعية التعميم، وليس على وجوبه؛ وذلك لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه أخل بالترتيب في الوضوء، ومع ذلك فالخلاف في وجوبه محفوظ، فما بالك بالنقل عن فعل السلف، وقد أثبتنا أن هناك قولاً في مذهب الحنفية أنه يجزئ مسح أكثر الوجه واليدين، وهذا اختيار ابن حزم، فهذا كاف في خرق الإجماع، والله أعلم.
دليل من قال: مسح الأكثر يقوم مقام الكل:
ذكر ابن حزم: أن الله سبحانه وتعالى قال: {بلسان عربي مبين} (1) ، وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (2) ، والمسح في اللغة لا يقتضي الاستيعاب، فوجب الوقوف عند ذلك، ولم يأت بالاستيعاب في التيمم قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب، نعم ولا قياس، فبطل القول به... والعجب أن لفظة المسح لم تأت في الشريعة إلا في أربعة مواضع، ولا مزيد: مسح الرأس، ومسح الوجه واليدين في التيمم، ومسح على الخفين، والعمامة والخمار، ومسح الحجر الأسود في الطواف، ولم يختلف أحد من خصومنا المخالفين لنا في أن مسح الخفين ومسح الحجر الأسود لا يقتضي الاستيعاب، وكذلك من قال منهم بالمسح على العمامة والخمار، ثم نقضوا ذلك في التيمم، فأوجبوا فيه الاستيعاب تحكماً بلا برهان.. واضطربوا في الرأس.. ثم ذكر اختلافهم (3) .
_________
(1) الشعراء: 195.
(2) إبراهيم: 4.
(3) المحلى (1/376) .(12/327)
الدليل الثاني:
أن طهارة المسح مبنية على التخفيف، بخلاف طهارة الغسل، فإيجاب الاستيعاب في طهارة المسح فيه عسر ومشقة.
الدليل الثالث:
إذا كان المتيمم يمسح وجهه مرة واحدة بكلتا يديه، فلا تكفي يداه لاستيعاب كل جزء في وجهه مهما قل، فلو كان الاستيعاب فرضاً لكان شرع تكرار المسح للوجه؛ ليحصل الاستيعاب، فلما لم يشرع تكرار المسح للوجه علم أن الاستيعاب ليس فرضاً.
الراجح من الخلاف:
المطلوب أن يمسح وجهه بكلتا يديه، ولا يكرر المسح، فما أتت يداه على وجهه بالمسح كاف في حصول المقصود، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح وجهه مرة واحدة بكلتا يديه، ويعلم أن مسح الوجه باليدين لا يمكن أن يمسح كل جزء من وجهه، فإنه إن جمع أصابعه ليعمم بالمسح كل جزء من وجهه بقي طرفا الوجه بدون مسح، وإن فرج أصابعه ليمسح أكبر قدر ممكن من وجهه فإن ما بين أصابعه لم يصبه المسح، فيكون بذلك قد فوت جزءاً، ولو يسيراً، وهذا دليل على أن مسح الغالب يقوم مقام الكل، وأما تخليل الأصابع فلم يقم دليل صحيح بل ولا ضعيف فيما أعلم على مشروعية تخليل الأصابع في التيمم، فضلاً أن يكون التخليل واجباً، والتعليل في أن التراب ليس له نفوذ الماء وسريانه، فيعتبر التخليل آكد منه في التيمم منه في الوضوء، فهذا القول ممكن أن يعكس، فيقال: طهارة المسح مبنية على التخفيف، بخلاف طهارة الماء، فيستحب التخليل في الوضوء، ولا يشرع التخليل في التيمم، ثم إننا(12/328)
نقول: لسنا بحاجة إلى القياس بالعبادات، وخاصة إن التخليل إما أن يكون مشروعاً أو لا؟ .
فإن لم يكن مشروعاً فظاهر،
وإن كان مشروعاً فلا بد أن يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو يرشد إليه، خاصة أنه تيمم عليه الصلاة والسلام، وفعله الصحابة في عهده، وبعد وفاته، فهل قدمتم دليلاً على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك، فإذا لم يوجد دليل كان هذا دليلاً على أن السنة تركه، فما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالسنة تركه، والله أعلم.
قال سليمان بن داود الهاشمي: "يجزئه في التيمم إن لم يصب بعض وجهه، أو بعض كفيه؛ لأنه بمنزلة المسح على الرأس إذا ترك منه بعضاً أجزأه" (1) .
وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: المسح في التيمم كما يمسح الرأس، لا يتعمد لترك شيء من ذلك، فإن بقي شيء منه لم يعد، وليس هو عندي بمنزلة الوضوء (2) .
وقال الجوزجاني: لم نسمع أحداً يتبع ذلك من رأسه في المسح ولا بين أصابعه في التيمم، كما يتبعون في الوضوء بالتخليل (3) .
ونقل حرب، عن إسحاق أنه قال: تضرب بكفيك على الأرض، ثم تمسح بهما وجهك، وتمر بيديك على جميع الوجه واللحية، أصاب ما أصاب، وأخطأ ما أخطأ، ثم تضرب مرة أخرى بكفيك (4) .
_________
(1) شرح ابن رجب للبخاري (2/246) .
(2) انظر المرجع السابق
(3) انظر المرجع السابق.
(4) انظر المرجع السابق.(12/329)
[صفحة فارغة](12/330)
المبحث الثالث:
في مسح ما تحت الشعر الخفيف في التيمم
سبق لنا في طهارة الماء وجوب غسل ما تحت الشعر الخفيف، واختلف العلماء في طهارة التيمم، هل يجب مسح ما تحت الشعر الخفيف كالعنفقة وشعر الحاجبين، وشعر اللحية الخفيف، أو لا يجب؟ .
فقيل: يجب مسح ما تحت الشعر الخفيف، وهو مذهب الحنفية (1) ،
وأحد الوجهين في مذهبي الشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
_________
(1) جاء في درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/31) : " ويمسح تحت الحاجبين، وموق العينين، ومن وجهه ظاهر البشرة، والشعر على الصحيح، وفي السراج: لا يجب مسح اللحية ولا الجبيرة ".
وجاء في الفتاوى الهندية (1/26) : " استيعاب العضوين في التيمم واجب في ظاهر الرواية، كذا في محيط السرخسي، وهو المختار، كذا في المضمرات حتى لو لم يمسح تحت الحاجبين، وفوق العينين لا يجزيه، كذا في محيط السرخسي ".
وقال في مجمع الأنهر (1/39) : " والاستيعاب في الأصح، وهو ظاهر الرواية، وعليه الفتوى؛ لقيامه مقام الوضوء في العضوين المخصوصين حتى قالوا: لو لم يخلل الأصابع، أو لم ينزع الخاتم، أو لم يمسح تحت الحاجبين لم يجز تيممه، وبهذا تبين ضعف ما روي عنه أن مسح أكثر الوجه واليدين كاف ". وانظر شرح فتح القدير (1/126-127) .
(2) المهذب (1/33) .
(3) قال ابن رجب في شرح البخاري (2/245) : " فأما الوجه، فمذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء أنه يجب عليه استيعاب بشرته بالمسح بالتراب، ومسح ظاهر الشعر الذي عليه، وسواء كان ذلك الشعر يجب إيصال الماء إلى ما تحته كالشعر الخفيف الذي يصف البشرة، أم لا، هذا هو الصحيح.
وفي مذهبنا وفي مذهب الشافعي وجه آخر: أنه يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور التي يجب إيصال الماء إلى ما تحتها، ولا يجب عند أصحابنا إيصال الماء إلى باطن الفم والأنف، وإن وجب عندهم المضمضمة والاستنشاق في الوضوء ". اهـ(12/331)
وقيل: لا يجب مسح ما تحت الشعر،
اختاره أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (1) ، وهو مذهب المالكية (2) ، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (3) ،
والحنابلة (4) ،
وقيل: لا يجب عليه مسح اللحية في التيمم، وهو قول في مذهب الحنفية (5) .
_________
(1) جاء في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 78) : " وعن أبي يوسف: يمسح وجهه من غير تخليل اللحية... ".
وقال الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء (1/135) : " التيمم واجب فيه مسح البشرة، ثم يسقط بعدها ".
فهل قوله " ثم يسقط بعدها" هل يريد أنه يسقط إلى بدل، وهو مسح اللحية، أو يسقط إلى غير بدل، لم يصرح بشيء.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/195) ، الخرشي (1/191) ، مواهب الجليل (1/350) .
(3) قال في المهذب (1/33) : ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الحاجبين والعذارين والعنفقة. ومن أصحابنا من قال: يجب ذلك كما يجب إيصال الماء إليه في الوضوء، والمذهب الأول".
وقال في تحفة المحتاج (1/362) : " (ولا يجب) بل يسن (إيصاله) أي التراب (منبت الشعر الخفيف) وفي وجه: أو يد ".
واختار القاضي حسين بأنه لا يسن إيصال التراب إلى ما تحت الشعر، انظر كفاية الأخيار (1/60) . وانظر نهاية الزين (ص: 37) ، وفتح الوهاب بشرح منهج الطلاب (1/45) ،
(4) شرح منتهى الإرادات (1/98) ، مطالب أولي النهى (1/211) ، شرح البخاري لابن رجب (2/245) .
(5) جاء في السراج الوهاج كما نقله ابن نجيم في البحر الرائق (1/152) : " ولا يجب عليه مسح اللحية في التيمم ".
وقال في الجوهرة النيرة (1/22) : " ولا يجب عليه مسح اللحية..". وهذا نص في نفي مسح اللحية وليس مجرد مسح ما تحت اللحية، ولكن قال الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 78) : " الشعر الذي يجب غسله في الوضوء، هو المحاذي للبشرة لا المسترسل، وعليه يحمل قول صاحب السراج: لا يجب عليه مسح اللحية في التيمم. كذا في البحر. بقي الكلام في اللحية الخفيفة: هل يبالغ في المسح فيها حتى يصل إلى البشرة كأصله، أو يكفي مسح ظاهر الملاقي كالكثة؟ يراجع ".اهـ فتأمل تفسير الطحطاوي، فإن صح، فإن المسألة فيها قولان فقط، وإن لم يصح كانت المسألة فيها ثلاثة أقوال، والله أعلم.(12/332)
وسبب الخلاف اختلافهم في مسألتين:
الأولى: وسبق بحثها، هل يجب استيعاب الوجه واليدين بالمسح في التيمم، وقد ترجح بأن الاستيعاب ليس بواجب، وأن عليه أن يمسح وجهه بكلتا يديه، ولا يتعمد ترك شيء منه، فإن بقي منه شيء لا يرجع إليه بالمسح.
والثانية: قياس التيمم على الوضوء، فلما كان الوضوء يجب غسل ما تحت الشعر الخفيف، فهل يقاس عليه التيمم، فيقال بوجوب مسح ما تحت الشعر الخفيف؟ الصحيح أن قياس التيمم على الوضوء قياس مع الفارق؛ لأن المسح مبني على التخفيف، بخلاف طهارة الغسل، والله أعلم.(12/333)
[صفحة فارغة](12/334)
المبحث الرابع:
في صفة مسح الوجه واليدين عند الفقهاء (1)
اختلف العلماء في صفة المسح بالتيمم:
فقيل: يضرب بيديه الصعيد، فيقبل بهما ويدبر (2) ، ثم ينفضهما، ثم يمسح بهما وجهه، ثم يعود بكفيه على الصعيد مرة ثانية، فيقبل بهما ويدبر، ثم ينفضهما، ثم يمسح بذلك ظاهر الذراعين وباطنهما إلى المرفقين، وهذه الصفة رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة (3) .
وقيل: يمسح بباطن أربع أصابع يده اليسرى، ظاهر يده اليمنى، من رؤوس الأصابع إلى المرفق، ثم يمسح بكفه اليسرى دون الأصابع باطن يده
_________
(1) لقد أغرب كثير من الفقهاء في ذكر صفة مسح الوجه واليدين، وتكلفوا في ذكر صفات لا يدل عليها كتاب، ولا سنة، ولولا أن يؤخذ على الكتاب عدم ذكر هذا البحث لأعرضت عن ذكرها، مكتفياً بالقول الراجح؛ لأني يهمني - وأنا أحرر أي فصل من فصول هذا الكتاب - كيف يفهم القارئ وطالب العلم ما يدون هنا بيسر وسهولة؟ وسوف أحاول قدر الإمكان في تذليل هذا الفصل ما أمكن، فإن وفقت فمن الله سبحانه وتعالى، وإن لم أوفق فليلتمس لي طالب العلم العذر؛ فإن السبب هو ما تبناه الفقهاء من تفريعات ضعيفة، والله المستعان،
(2) الإقبال والإدبار من سنن التيمم عند الحنفية، ومعنى ذلك: أي يحركهما بعد الضرب أماماً وخلفاً مبالغة في إيصال التراب إلى أثناء الأصابع، وإن كان الضرب أولى من الوضع.. انظر حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (1/38) ، وحاشية ابن عابدين (1/231) ، البحر الرائق (1/153) .
(3) أحكام القرآن- للجصاص (4/27) ، بدائع الصنائع (1/46) ، حاشية ابن عابدين (1/230) ، تبيين الحقائق (1/38) .(12/335)
اليمنى من المرفق إلى الرسغ، ثم يمر بباطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى، ثم يفعل باليد اليسرى كذلك. وهذه هي الصفة المختارة عند الحنفية (1) .
وذلك لأن مسح ظاهر اليد اليمنى بباطن الأصابع، ثم مسح باطن اليد اليمنى بباطن الكف دون الأصابع فيه احتراز من استعمال التراب المستعمل (2) .
ونحوها عند المالكية، إلا أنهم لم يجعلوا الأصابع تمسح ظاهر اليد، والكف يمسح باطن اليد، بل الكف بأصابعها تمسح ظاهر اليد وباطنها، فقالوا في صفة التيمم المستحبة ما يلي:
" أن يضرب الأرض بيديه جميعاً ضربة واحدة، فإن تعلق بها شيء نفضه نفضاً خفيفاً، ومسح بهما وجهه، ثم يضرب أخرى لليدين ويضع اليسرى على اليمنى فيمرها من فوق الكف إلى المرفق، ومن باطن المرفق إلى الكوع، ويفعل باليسرى كذلك.
وأجاز الشيخ أبو الحسن وعبد الحق مسح كف اليمنى قبل الشروع في اليسرى؛ لأن الأصل أن لا يشرع في عضو إلا بعد كمال ما قبله.
وروى ابن حبيب تركها حتى يصل إلى كوع الأخرى، ويمسح الكوعين.
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/230) ، بدائع الصنائع (1/46) البحر الرائق (1/153) .
(2) حاشية ابن عابدين (1/230) ، قال في بدائع الصنائع (1/46) عن هذه الصفة: وهذه أقرب إلى الاحتياط؛ لما فيه من الاحتِراز عن استعمال التراب المستعمل بالقدر الممكن
وكذا ذكر في البحر الرائق (1/153) .
لكن ذكر في البناية وفي حاشية الطحطاوي بأن هذه الصفة لم ترد في شيء من الأحاديث، وإذا كانت كذلك كيف تكون الصفة المختارة، انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 79) ، والبناية على الهداية (1/498) .(12/336)
وجهه: أن كفه اليمنى كما تمسح ذراعه فكذلك ذراعه يمسح كفه، والتكرار في التيمم غير مطلوب، فلا يؤمر بمسح كفه بكفه، ولأنه يذهب بما في كفه اليمين من التراب (1) .
وذكر صاحب الرسالة أنه إذا وصل إلى الكوع مسح بباطن إبهام اليسرى ظاهر إبهامه اليمنى، وكذلك في اليسرى (2) .
وذكر الشافعية صفة التيمم المستحبة نحواً من ذلك، حيث قالوا:
أن يضع بطون أصابع اليسرى سوى الإبهام على ظهور أصابع اليمنى سوى الإبهام، بحيث لا تخرج أنامل اليمنى عن مسبحة اليسرى، ولا مسبحة اليمنى عن أنامل اليسرى، ويمرها على ظهر كفه اليمنى، فإذا بلغ الكوع ضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع، ويمرها إلى المرفق، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، فيمرها عليه رافعاً إبهامه فإذا بلغ الكوع أمر إبهام اليسرى على إبهام اليمنى، ثم يفعل باليسرى كذلك، ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى (3) .
وذكر النووي بأن مسح إحدى الراحتين، سنة على قول جمهور العراقيين، ونقله ابن الصباغ عن الأصحاب مطلقاً إذا كان قد فرق بين أصابعه في الضربة الثانية.
_________
(1) الذخيرة للقرافي (1/352) ، الفواكه الدواني (1/157-158) ، المنتقى شرح الموطأ - للباجي (1/114) .
(2) تنوير المقالة بشرح ألفاظ الرسالة (1/577) ، الذخيرة للقرافي (1/352) .
(3) نهاية المحتاج (1/303) ، تحفة المحتاج (1/364) ، المجموع (2/266) ، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/105) ،(12/337)
وقال البغوي: إن قصد بإمرار الراحتين على الذراعين مسحهما حصل، وإلا فلا.
قلت: كلام البغوي فيه نظر؛ لأن نية التيمم كافية، ولا تشترط نية عند كل فعل من أفعال التيمم، ومثله سائر العبادات، فالصلاة نية واحدة، والوضوء نية واحدة، والله أعلم.
وصوب النووي طريقة العراقيين، قال: فإن قيل: إذا سقط فرض الراحتين صار التراب الذي عليهما مستعملاً، فكيف يجوز مسح الذراعين به؟ ولا يجوز نقل الماء الذي غسلت به إحدى اليدين إلى الأخرى؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن اليدين كعضو واحد، ولهذا جاز تقديم اليسار على اليمين، ولا يصير التراب مستعملاً إلا بانفصاله، والماء ينفصل عن اليد المغسولة، فيصير مستعملاً.
الثاني: أنه يحتاج إلى هذا هاهنا، فإنه لا يمكنه أن يتم الذارع بكفها، بل يفتقر إلى الكف الأخرى، فصار كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه.
ونقل صاحب البيان وجهاً أنه يجوز نقل الماء من يد إلى يد أخرى؛ لأنهما كيد، فعلى هذا يسقط السؤال (1) .
وأما صفة التيمم عند الحنابلة:
فقالوا: يضرب بيديه مفرجتي الأصابع ضربة واحدة، يمسح وجهه بباطن أصابعه، وكفيه براحتيه (2) .
_________
(1) المجموع (2/267) ، وانظر البيان (1/281) .
(2) الفروع (1/225) ، الإنصاف (1/301-302) ، شرح منتهى الإرادات (1/101) ، كشاف القناع (1/179) .(12/338)
وقال ابن قدامة: "ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، وليس بفرض؛ لأن فرض الراحتين قد سقط بإمرار كل واحدة على ظهر الكف" (1) .
ومع اعتراف بعض الفقهاء من كل مذهب بأن هذه الصفة التي استحبوها لم يأت عليها دليل من الشرع
فقد ذكر العيني في البناية والطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح، وهما من الحنفية بأن هذه الصفة - أعني المسح بالأصابع ظاهر اليد اليمنى، والمسح بباطن الكف باطن اليد اليمنى، ثم اليسرى مثل ذلك - لم ترد في شيء من الأحاديث (2) .
وقال القرافي من المالكية: " وهذه الصفة وإن لم ترد - يعني في السنة- فليست تحكماً، بل لما علم الفقهاء أن الايعاب مطلوب، والصعيد ليس يعم بسيلانه كالماء اختاروا هذه الصفة؛ لإفضائها لمقصود الشارع، وفعل الوسائل لتحصيل المقاصد من قواعد الشرع وعادته " (3) .
فيقال: إذا اعترفتم بأن هذه الصفة لم ترد، فهل غاب إدراك هذه المصلحة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن صحابته الكرام، أو لا؟ فإن قلتم: هي معلومة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: فلماذا علمها ومع ذلك تركها، ألا يكون لكم في رسول الله أسوة حسنة. ألا يكون فعلكم نوعاً من الاستدراك على الشرع، وإحداث صفة لم تكن مشروعة، أليست صفة العبادة توقيفية،
_________
(1) المغني (1/159) .
(2) انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 79) ، والبناية على الهداية (1/498) .
(3) الذخيرة (1/352) .(12/339)
فكيف نستحسن شيئاً لم يرد في أحاديث التيمم، نعم القول بأن التيمم ضربتان ورد في بعض الأحاديث المرفوعة الضعيفة، وفي بعض الآثار الصحيحة الموقوفة، وقد ناقشت ذلك في فصل مستقل، كما ناقشت في فصل مستقل القول بأن التراب فيه ما هو مستعمل، فلا يتيمم به، ومنه ما هو غير مستعمل، فيختص التيمم به، قياساً على الماء، وبينت أن القول بأنه يوجد ماء أو تراب مستعمل لا يتطهر به، قول ضعيف، فأغنى الكلام هناك عن إعادته هنا، والله الموفق.
قال النووي من الشافعية: " قال الرافعي: وزعم بعضهم أن هذه الكيفية منقولة عن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا بشيء، قال أصحابنا: كيف أوصل التراب إلى وجهه واليدين بضربتين فأكثر بيده أو خرقة أو خشبة جاز، ونص عليه في الأم" (1) .
وقال ابن رجب الحنبلي: " وهذا الذي قالوه في صفة التيمم لم ينقل عن الإمام أحمد، ولا قاله أحد من متقدمي أصحابه كالخرقي وأبي بكر وغيرهما" (2) .
فهذا كلام جملة من أصحاب المذاهب قد صرحوا بأن هذه الصفة لم يثبت فيها حديث، فإذا عرفنا هذا فيقال في صفة المسح ما دل عليه حديث عمار في الصحيحين:
_________
(1) المجموع (2/267) .
(2) شرح ابن رجب للبخاري (2/297) .(12/340)
ضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيه، وكيف مسح فقد حصل المقصود.
قال في تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة: " ولو مسح اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى كيف شاء وتيسر عليه، وأوعب المسح أجزأه؛ لأن الواجب التعميم على أي وجه وجد " (1) .
قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: أرني كيف التيمم؟ فضرب بيده باطن كفيه، ثم مسح وجهه وكفيه بعضهما على بعض ضربة واحدة، وقال: هكذا.
قال ابن رجب تعليقاً: وهذا يدل على أنه مسح وجهه بيديه، ثم مسح يديه إحداهما بالأخرى من غير تخصيص للوجه بمسح باطن الأصابع، وهذا هو المتبادر إلى الفهم من الحديث المرفوع، ومن كلام من قال من السلف: إن التيمم ضربة للوجه والكفين.
وما قاله المتأخرون من الأصحاب فإنما بنوه على أن التراب المستعمل لا يصح التيمم به كالماء المستعمل، وهذا ضعيف؛ لأن التراب المستعمل فيه لأصحابنا وجهان:
أحدهما: أنه يجوز التيمم به بخلاف الماء؛ لأن الماء المستعمل قد رفع حدثاً، وهذا لم يرفع حدثاً على ظاهر المذهب.
وعلى الوجه الثاني: أنه لا يتيمم بالتراب المستعمل، فالمستعمل هو ما علق بالوجه، أو تناثر منه، فأما ما بقي على اليد الممسوح بها فهو
_________
(1) تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/580) .(12/341)
بمنزلة ما بقي في الإناء بعد الاستعمال منه، وليس هو بمستعمل، ويجوز التيمم به " (1) .
وقال ابن تيمية: " وصفة التيمم أن يضرب بيديه الأرض، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه لحديث عمار بن ياسر الذي في الصحيح " (2) .
وليس فيه دليل على استحباب - فضلاً عن وجوب - تفريج الأصابع، ولم يدل عليها سنة مرفوعة، ولا أعلم بها أثراً صحيحاً، والسنة لزوم ما ورد في السنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يستحسن شيء من الصفات إلا بتوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أحد من صحابته رضوان الله عليهم.
_________
(1) شرح ابن رجب للبخاري (2/297) .
(2) الاختيارات (ص: 20) .(12/342)
المبحث الخامس:
لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب
هل يشترط في التيمم ضرب الأرض بيديه؟ أو يصح التيمم حتى لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب، اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: لا يشترط ضرب الأرض بيديه، فلو وضع كفيه على التراب أجزأه، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
ودليلهم: أن الكتاب لم يعتبر ضرب الأرض من مسمى التيمم، فإن المأمور به في القرآن هو المسح فقط، قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (5) .
_________
(1) قال في المبسوط (1/106) : " ثم بين صفة التيمم، فقال: يضع يديه على الأرض... ثم قال: فقد ذكر الوضع، والآثار جاءت بلفظ الضرب.... والوضع جائز، والضرب أبلغ ليتخلل التراب بين أصابعه "، وانظر درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/30) ، شرح فتح القدير (1/126) .
(2) قال في الشرح الصغير (1/194) : " قوله" وضع الكفين على الصعيد " إنما قال ذلك دفعاً لما يتوهم من لفظ الضرب أنه يكون بشدة، فأفاد أنه وضع الكفين على الصعيد، ومثل الكفين: أحدهما أو بعضهما، ولو بباطن إصبع واحد، وأما لو تيمم بظاهر كفه فلا يجزئ ".
(3) الشافعية يشترطون أن يعلق بيده غبار كما سبق أن هذا عندهم من شروط التيمم، انظر: الأم (1/50) ، وقال في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (ص: 82) : " ولا يتعين الضرب، فلو وضع يديه على تراب ناعم، وعلق بهما غبار كفى". وانظر: السراج الوهاج (ص:28) ، حلية العلماء (1/186) ، مغني المحتاج (1/100) ، المجموع (2/263) ، كفاية الأخيار (1/60) .
(4) قال ابن تيمية في شرح العمدة (1/421) : " ولو وضع يده على التراب، فعلق من غير ضرب جاز ".وانظر المبدع (1/229) ، كشاف القناع (1/179) .
(5) المائدة: 6.(12/343)
فالعبرة بمسح الوجه واليدين بالتراب بنية التيمم.
وأما حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه:
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (1) .
فهو لا يدل على وجوب كل ما ذكر في الحديث، ومنه الضرب، بدليل أن النفخ ليس بواجب، وهو مذكور فيه، وبدليل أن آية التيمم ليس فيها ذكر الضرب، فقد يكون الحديث خرج مخرج الغالب، أو أنه أراد من الضرب: إرادة المسح بالأرض، والضرب أبلغ من وضع اليد بالأرض، والله أعلم.
ويتفرع على هذه المسألة سؤال آخر:
هل ضرب اليد بالأرض ركن بالتيمم، أو وسيلة يتوصل بها لمسح الوجه واليدين بالأرض، وينبني على الخلاف في هذه المسألة ما لو ضرب الأرض بيديه، ثم أحدث قبل مسح وجهه ويديه.
فقال أبو شجاع من الحنفية: يعيد ضرب الأرض، كبطلان بعض الوضوء بالحدث.
وفي الخلاصة: الأصح أنه لا يستعمل ذلك التراب، كذا اختاره شمس الأئمة السرخسي (2) .
قلت: وهذا هو مذهب الشافعية:
" قال القاضي حسين البغوي: إذا أحدث المتيمم بعد أخذه التراب، وقبل المسح بطل ذلك الأخذ، وعليه الأخذ ثانياً، بخلاف ما لو أحدث بعد
_________
(1) البخاري (338) ، ومسلم (368) .
(2) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/30) ، شرح فتح القدير (1/126) .(12/344)
أخذ الماء وقبل غسل الوجه، فإنه لا يضره؛ لأن المطلوب في الوضوء الغسل لا نقل الماء، وهنا المطلوب نقل التراب" (1) .
والصحيح أن نقل التراب ليس هو العبادة في التيمم، وإنما العبادة هو مسح الوجه واليدين بعد ضرب الصعيد الطيب.
" قال القاضي الإسبيجابي من الحنفية: " يجوز - يعني: إذا أحدث بعد ضرب الأرض - كمن ملأ كفيه ماء، فأحدث، ثم استعمله، والذي يقتضيه النظر عدم اعتبار ضربة الأرض من مسمى التيمم شرعاً؛ فإن المأمور به المسح ليس غير في الكتاب، قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (2) (3) .
هذا وقد عقدت فصلاً مستقلاً فيما لو ألقت الرياح التراب على وجه المتيمم وكفيه، فهل يجزئ ذلك عن ضرب الأرض، أو لا بد من ضرب الأرض بالتيمم، فتلك المسألة لها متعلق بهذه، وقد حكيت فيها ثلاثة أقوال:
الإجزاء مطلقاً، والمنع مطلقاً، والإجزاء إن مسح بيديه على وجه وكفيه، فارجع إليها لزيادة البحث في هذه المسألة، والله أعلم.
_________
(1) المجموع (2/272) ، بل اشترط الشافعية أن يكون أخذ التراب بعد دخول الوقت، فلو أخذ التراب على يديه قبل الوقت، ومسح بهما وجهه في الوقت لم يصح. انظر المجموع (2/275) وقد بينت فيما سبق أن اشتراط دخول الوقت في التيمم لا دليل عليه.
(2) المائدة: 6.
(3) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/30) ، شرح فتح القدير (1/126) .(12/345)
[صفحة فارغة](12/346)
المبحث السادس:
في مسح الوجه بيد واحدة أو أصبع واحد
اختلف العلماء،
فقيل: لا يجوز المسح بأقل من ثلاثة أصابع، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يجوز ولو بباطن إصبع واحد، وهذا مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: لا يجزئه، وهو قول في مذهب الحنابلة (5) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/38) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/30) .
(2) قال في مواهب الجليل (1/349) : " لم يقيد المصنف تعميم وجهه بمسحه بيديه جميعاً، فلو مسحه بيد واحدة أجزأه، بل قال سند: لو مسح وجهه بأصبع واحدة أجزأه، كقول ابن القاسم في مسح الرأس. قال ابن ناجي في شرح المدونة: قال ابن عطية: هذا هو المشهور".اهـ شرح مختصر خليل للخرشي (1/191) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/194) .
(3) قال في المجموع (2/263) : " ولا يشترط اليد، بل المطلوب نقل التراب، سواء حصل، بيد، أو خرقة، أو خشبة أو نحوها، ونص عليه الشافعي في الأم، قال في الأم: واستحب أن يضرب بيديه جميعاً ". وانظر كفاية الأخيار (1/60) ، مغني المحتاج (1/99) ، السراج الوهاج (ص: 28) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/104) ، المنهج القويم شرح المقدمة الحضرمية (ص: 116) .
(4) قال في المغني (1/160) : " وإن مسح محل الفرض بيد واحدة أو ببعض يده أجزأه". وانظر كشاف القناع (1/179) .
وقال في الإنصاف (1/302) : " لو تيمم بيد واحدة، أو بعض يده أجزأه على الصحيح من المذهب. وانظر مطالب أولي النهى (1/221) .
(5) الإنصاف (1/302) ، الفروع (1/226) .(12/347)
دليل من قال: يجزئ يد واحدة:
قالوا: إن الغرض إيصال التراب إلى محل الفرض، وقد حصل (1) .
ولأن المسح في الآية مطلق، فيتناول اليد وغيرها كما يتناول يد الغير (2) .
فآية التيمم ذكرت الممسوح، ولم تذكر آلة المسح، فكيف حصل المسح أجزأ.
دليل من قال: لا يجزئه:
الدليل الأول:
(1452-84) استدلوا بما رواه البخاري من حديث عمار بن ياسر، وفيه:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه. ورواه مسلم (3) .
وهذا مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، نعم يدل على استحباب ضرب جميع الكفين بالأرض، والله أعلم.
الراجح:
جواز مسح الوجه واليدين بيد واحدة أو بعض يده، أو بخرقة ونحوها بعد ضربها بالتراب؛ كما لو يممه غيره بإذنه.
_________
(1) كشاف القناع (1/179) .
(2) شرح العمدة (1/203) .
(3) البخاري (338) ، ومسلم (368) .(12/348)
الفرض الثاني:
في حكم الترتيب
اختلف العلماء في حكم الترتيب في التيمم، بأن يمسح وجهه أولاً، ثم يديه،
فقيل: الترتيب مسنون، وليس بواجب، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: الترتيب فرض، بأن يقدم وجهه، ثم يديه وهو مذهب الشافعية (4) ، والحنابلة (5) .
_________
(1) قال في المبسوط (1/121) : " وإن بدأ بذارعيه في التيمم، أو مكث بعد تيمم وجهه ساعة، ثم تيمم على ذارعيه أجزأه، لأنه بدل عن الوضوء، وقد بينا أن الترتيب والموالاة في الوضوء مسنون، لا يمنع تركه الجواز، فكذلك في التيمم ". وانظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 48) ، البحر الرائق (1/152) .
(2) مواهب الجليل (1/356) ، الخرشي (1/194) ، الخلاصة الفقهية (ص: 42) ، التاج والإكليل (1/356) .
(3) قال في الإنصاف (1/287) : " قال المجد في شرحه: قياس المذهب عندي أن الترتيب لا يجب في التيمم، وإن وجب في الوضوء؛ لأن بطون الأصابع لا يجب مسحها بعد الوجه في التيمم بالضربة الواحدة، بل يعتد بمسحها معه، واختاره في الفائق، قال ابن تميم: وهو أولى ". وانظر المبدع (1/222) .
(4) قال النووي في المجموع (2/268) : " قال أصحابنا: أركان التيمم ستة متفق عليها، وهي النية، ومسح الوجه واليدين، وتقديم الوجه على اليدين، والقصد إلى الصعيد ونقله..". وانظر: مغني المحتاج (1/99) ، كفاية الأخيار (1/60) .
(5) الإنصاف (1/287) ، المبدع (1/222) ،(12/349)
وقيل: إن تيمم بضربتين: وجب الترتيب، وإن تيمم بضربة واحدة لم يجب، وهو قول في مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: يقدم في التيمم اليدان قبل الوجه، وهو قول الأعمش (2) .
دليل من قال: إن الترتيب مسنون:
الدليل الأول:
لا يوجد دليل على أن الترتيب واجب، والأصل عدم التكليف حتى يقوم دليل على الوجوب.
الدليل الثاني:
لو كان الترتيب واجباً لعبر الله عنه بـ (ثم) المفيدة للترتيب، ولقال سبحانه وتعالى: فامسحوا بوجوهكم ثم أيديكم، فلما قال سبحانه وتعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (3) ، وطلب مسح الوجه والأيدي بالواو، والواو في اللغة لا تقتضي ترتيباً، وإنما تقتضي مطلق التشريك، مثله لو قلت لك: اشتر لي خبزاً ولحماً. فإذا اشتريت اللحم قبل الخبز فقد امتثلت الأمر.
الدليل الثالث:
(1453-85) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن سلام، قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال:
_________
(1) جاء في الإنصاف (1/287) : " قال في الحاوي الكبير: إن تيمم بضربتين وجب الترتيب، وإن تيمم بضربة واحدة لم يجب، قال ابن عقيل: رأيت التيمم بضربة واحدة قد أسقط ترتيباً مستحقاً في الوضوء، وهو أنه يعتد بمسح باطن يديه قبل مسح وجهه".
(2) المحلى (1/379) مسألة: 253.
(3) المائدة: 6.(12/350)
كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه... الحديث وفيه مناظرة بين عبد الله ابن مسعود وبين أبي موسى (1) .
[قال أحمد: رواية أبي معاوية عن الأعمش في تقديم مسح الكفين على الوجه غلط] (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (347) ، والحديث في مسلم بغير هذا اللفظ.
(2) شرح ابن رجب للبخاري (2/292) ، رواه أبو معاوية، عن الأعمش، واختلف فيه على أبي معاوية.
فرواه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كما في المسند (4/264) .
ومحمد بن سلام كما في صحيح البخاري (347) ،
ومحمد بن سليمان الأنباري كما في سنن أبي داود (321) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش به. بذكر تقديم مسح اليدين على الوجه.
ورواه ابن أبي شيبة كما في المصنف (1/146) ومن طريقه مسلم (368) .
ويحيى بن يحيى وابن نمير كما في صحيح مسلم (368) .
وإسحاق بن راهوية كما في صحيح ابن حبان (1304) ، وتغليق التعليق (2/192) .
ويوسف بن موسى كما في صحيح ابن خزيمة (270)
ومحمد بن العلاء كما في سنن النسائي (320) ستتهم رووه عن أبي معاوية به، ولم يذكروا تقديم اليدين على الوجه.
هذا بيان الاختلاف على أبي معاوية، وقد رواه غير أبي معاوية عن الأعمش، ولم يذكروا ما ذكره أبو معاوية، منهم:
الأول: شعبة بن الحجاج، كما في مسند أحمد (4/265) صحيح البخاري (345) ، والبيهقي (1/215) من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة. إلا أنه لم يذكر صفة التيمم.
الثاني: يعلى بن عبيد، كما في مسند أحمد (4/265) ، وأبي عوانة (1/304-305) ، ومسند الشاشي (1025) ، وصحيح ابن حبان (1304، 1307) ، وسنن البيهقي (1/211) .
الثالث: عبد الواحد بن زياد، كما في مسند أحمد (4/265) ، وصحيح مسلم (368) ، وأبي عوانة (1/304) ، ومسند الشاشي (1026) ، وابن حبان (1305) .
الرابع: حفص بن غياث، كما في صحيح البخاري (346) .
الخامس: الوليد بن قاسم الهمداني، كما في مسند أبي عوانة (1/303-304) ، خمستهم رووه عن الأعمش به، ولم يذكروا تقديم اليدين على الوجه بلفظ (ثم) .
وأبو معاوية، وإن كان من أثبت أصحاب الأعمش، إلا أن الثقة قد يخطئ، خاصة أن أبا معاوية نفسه قد اختلف عليه، فتارة يرويه بلفظ (ثم) وتارة يرويه بالواو، ولهذا خطأ الإمام أحمد أبا معاوية في التعبير بثم، كما نقله ابن رجب، ونقلته عنه، والله أعلم.
قال ابن رجب في شرحه للبخاري (2/291) : " وفي حديث أبي معاوية الذي خرجه البخاري ها هنا شيئان أنكرا على أبي معاوية:
أحدهما: ذكره مسح وجهه بعد مسح الكفين، فإنه قال: " ثم مسح وجهه ".
وقد اختلف في هذه اللفظة على أبي معاوية، وليست هي في رواية مسلم، كما ذكرنا.
وكذلك خرجه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية، ولفظ حديثه: " إنما كان يكفيك أن تقول: هكذا" وضرب بيده على الأرض ضربة، فمسح كفيه، ثم نفضهما، ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله، على كفيه ووجهه ".
وخرجه أبو داود، عن محمد بن سليمان الأنباري، عن أبي معاوية، ولفظه: " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بيده على الأرض، فنفضها، ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه ".
واختلف على أبي معاوية في ذكر مسح الوجه، وعطفه هل هو بالواو، أو بلفظة (ثم) ؟
وقد قال الإمام أحمد في رواية أحمد بن عبدة: رواية أبي معاوية، عن الأعمش في تقديم مسح الكفين على الوجه غلط.
الثاني: أنه ذكر أن أبا موسى هو القائل لابن مسعود: إنما كرهتم هذا لهذا؟ فقال ابن مسعود: نعم. وقد صرح بهذا في رواية أبي داود، عن الأنباري المشار إليها.
وإنما روى أصحاب الأعمش منهم حفص بن غياث، ويعلى بن عبيد، وعبد الواحد بن زياد أن السائل هو الأعمش، والمسئول هو شقيق أبو وائل ". اهـ(12/351)
وإذا كان في هذا الدليل اعتراض، فإن الأدلة السابقة كافية في الاستدلال بعدم وجوب الترتيب، والله أعلم.
دليل من قال: يجب الترتيب:
استدلوا بقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (1) ، فبدأ بالوجه.
(1454-86) وقد روى النسائي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا علي بن حجر، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه،
عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف سبعاً، ورمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم قرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فصلى سجدتين، وجعل المقام بينه وبين الكعبة، ثم استلم الركن، ثم خرج، فقال: إن الصفا والمروة من شعائر الله، فابدأوا بما بدأ الله به (2) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نبدأ بما بدأ الله به، والأصل في الأمر الوجوب، وقد بدأ الله بذكر الوجه قبل اليدين، فيكون الترتيب امتثالاً للأمر النبوي بتقديم ما قدمه الله، وتأخير ما أخره الله.
_________
(1) المائدة: 6.
(2) سنن النسائي (2962) .(12/353)
وأجيب:
[بأن المحفوظ من لفظ الحديث أنه بلفظ الخبر: نبدأ بما بدأ الله به، فلا حجة فيه] (1) .
دليل الأعمش على وجوب تقديم اليدين على الوجه:
إن ثبت هذا القول عن الأعمش، فربما أخذه مما رواه الأعمش عن أبي وائل.
(1455-87) فقد روى البخاري من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال:
كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه... الحديث وفيه مناظرة بين عبد الله ابن مسعود وأبي موسى (2) .
_________
(1) الحديث مداره على جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. فرواه إسماعيل بن جعفر ابن أبي كثير، عن جعفر بن محمد بلفظ الأمر،
وخالفه يحيى بن سعيد القطان ومالك بن أنس، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ووهيب بن خالد، وابن أبي حازم، وابن عيينة، والقاسم بن معن، كل هؤلاء رووه بلفظ الخبر: نبدأ بما بدأ الله به، والواقعة واحدة حيث لم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حجة الوداع، وقد سبق تخريج كل هذه الطرق في كتاب الوضوء، في حكم الترتيب بين أعضاء الوضوء، فانظره هناك مشكوراً.
(2) صحيح البخاري (347) ، والحديث في مسلم بغير هذا اللفظ.(12/354)
وقد بينا أن هذه اللفظة قد بين الإمام أحمد أنها غلط، وإن كان أبومعاوية من أثبت أصحاب الأعمش، وهو مقدم على غيره في حديث الأعمش يرجع إليه فيه عند اختلاف أصحابه، ولكن هذا مسلم لو أن أبا معاوية نفسه لم يختلف عليه في لفظه، فلما اختلف على أبي معاوية نفسه دل على أنه لم يضبط، والثقة قد يخطئ، ولو سلمت صحة رواية أبي معاوية على الأعمش، فإن الترتيب هذا في تقديم اليدين على الوجه مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب، وظاهر القرآن تقديم الوجه، وهو يدل على أنه إن قدم الوجه على اليدين عملاً بكتاب الله تعالى فحسن، وإن قدم اليدين على الوجه عمل بلفظ أبي معاوية عن الأعمش فحسن أيضاً، ولا يدل على وجوب تقديم اليدين على الوجه، وهو ظاهر، والله أعلم.
دليل من قال: إن تيمم بضربتين كان الترتيب واجباً، وإلا فلا:
استدل لقوله بأن بطون الأصابع لا يجب مسحها بعد مسح الوجه، فإذا وقع مسح باطن الأصابع مع مسح وجهه أخل بالترتيب.
قال ابن عقيل: رأيت التيمم بضربة واحدة قد أسقط ترتيباً مستحقاً في الوضوء، وهو أنه يعتد بمسح باطن يديه قبل مسح وجهه (1) .
قلت: في هذا دليل على أن الترتيب ليس واجباً، وليس معناه أن نقول بوجوب الترتيب إن كان التيمم بضربتين، والله أعلم.
_________
(1) الإنصاف (1/287)(12/355)
الراجح من الخلاف.
القول بعدم وجوب الترتيب أقوى من حيث النظر، كما أن الأثر لا يدل على وجوب الترتيب، والأصل عدم الوجوب، والله أعلم.(12/356)
الفرض الثالث:
في حكم الموالاة
اختلف العلماء في حكم الموالاة بين الوجه واليدين في طهارة التيمم،
فقيل: سنة مطلقاً في التيمم من الحدث الأصغر والأكبر، وهو مذهب الحنفية (1) ، وأصح الأقوال في مذهب الشافعية (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: فرض مطلقاً في الحدث الأصغر والأكبر، وهو مذهب المالكية (4) .
_________
(1) البحر الرائق (1/153) ، حاشية ابن عابدين (1/231) ، واعتبر الحنفية أن تفريق التيمم أو الوضوء أو الغسل مكروه بدون عذر، وأما إذا كان التفريق بعذر فلا بأس، انظر الفتاوى الهندية (1/8،30)
(2) قال النووي في المجموع (2/269) : وأما السنن كثيرة، إحداها: التسمية.
الثانية: تقديم اليد اليمنى على اليسرى.
الثالثة: الموالاة على المذهب. ... ". وانظر حاشيتا قليوبي وعميرة (1/105) ،
(3) الإنصاف (1/287) .
(4) وكما ذهب المالكية إلى وجوب الموالاة بين أجزاء التيمم، ذهبوا إلى أبعد من هذا، فأوجبوا الموالاة بين التيمم، وبين ما فعل له من صلاة ونحوها، فإن طال الفصل أعاد التيمم.
انظر الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/198) ، منح الجليل (1/147) ، الفواكه الدواني (1/152) ، حاشية الدسوقي (1/157) .
وجاء في المدونة (1/44) : " قلت: أرأيت إن تيمم رجل، فيمم وجهه في موضع، ويمم يديه في موضع آخر؟
قال: إن تباعد ذلك فليبتدئ التيمم، وإن لم يتطاول ذلك، وإنما ضرب لوجهه في موضع، ثم قام إلى موضع آخر قريب من ذلك، فضرب ليديه أيضاً، وأتم تيممه، فإنه يجزئه".(12/357)
وقيل: فرض في الحدث الأصغر دون الأكبر، وهو مذهب الحنابلة (1) .
والكلام في أدلة هذه المسألة مقيسة على مسألة حكم الموالاة في الوضوء والغسل، فما ذكرته من أدلة هناك، هي أدلة القائلين به في هذه المسألة، فذكره هناك أغنى عن إعادته هنا، ولله الحمد.
وقد رجحت هناك أن الموالاة واجبة، وتسقط بالعذر كغيرها من الواجبات، لأن التيمم عبادة واحدة، فلا يفرق بين أفعالها، والله أعلم.
_________
(1) الإنصاف (1/287) ، الفروع (1/225) ، كشاف القناع (1/175) .(12/358)
الباب السادس:
في سنن التيمم
الفصل الأول:
في التسمية
سبق لنا خلاف أهل العلم في حكم التسمية في الوضوء وفي الغسل، وسوف نعرض في هذا الفصل حكم التسمية في بدلهما: وهو التيمم،
فقد اختلف العلماء فيها إلى أقوال.
فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، ورواية عن أحمد (3) ، اختارها ابن قدامة (4) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/36) ، الجوهرة النيرة (1/22) ، البحر الرائق (1/153) ، الفتاوى الهندية (1/30) .
(2) المجموع (1/261) ، نهاية المحتاج (1/301) ، المقدمة الحضرمية (ص: 50) .
(3) قال ابن قدامة في المغني (1/73) : " ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه أن التسمية مسنونة في طهارة الأحداث كلها، رواه عنه جماعة من أصحابه، وقال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به، يعني: إذا ترك التسمية " اهـ فقوله: في طهارة الأحداث كلها، يدخل فيه الوضوء والغسل والتيمم.
(4) قال ابن قدامة في المغني (1/72) : " التسمية في الوضوء غير واجبة في الصحيح " ثم قال أيضاً (1/160) : " والحكم في التسمية - يعني في التيمم - كالحكم في الوضوء ".(12/359)
وقيل: التسمية من فضائل الوضوء، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (1) .
وقيل: لا تشرع التسمية في الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (2) ،
_________
(1) المدخل لابن الحاج (1/177) ،
(2) يقول البقوري في كتابه ترتيب الفروق واختصارها (1/368) : " أفعال العباد إما قربات، وإما محرمات، وإما مكروهات، وإما مباحات:
فالمباحات: جاءت البسملة في بعضها، كالأكل والشرب والجماع، والحث على ذلك في بعضها آكد من بعض، ولم يأت (أي الحث) في كل شيء من المباح، وأما لم يأت فيه فحسن للإنسان أن يستعمله ليجد بركة ذلك.
وأما المحرمات والمكروهات فيكره له التسمية عند الشروع فيها، من حيث قصد البركة بها، وذلك لا يراد في الحرام والمكروه، بل المراد من الشرع عدمه وتركه.
وأما القربات فقد جاء في بعضها وأكد فيه كالذبح، وجاء عند قراءة القرآن، واختلف فيه في بعضها، كالغسل والوضوء والتيمم.... الخ كلامه رحمه الله تعالى.
فعلم من كلامه هذا أن التسمية مختلف في مشروعيتها في الغسل والوضوء والتيمم، وهو ما أريد أن يطلع عليه القارئ ليعلم أن إنكار التسمية في الوضوء والغسل والتيمم كان ثابتاً من لدن السلف.
وجاء في حاشية العدوي (1/182) : ولم ير بعض العلماء القول بالبداءة بالتسمية من الأمر المعروف عند السلف، بل رآه من الأمر المنكر.
وقد نقل عن مالك ثلاث روايات: إحداها، وبها قال ابن حبيب: الاستحباب.
الثانية: الإنكار، وقال: أهو يذبح؟
الثالثة: التخيير. اهـ بتصرف يسير.
وفي الذخيرة (1/284) : " قال صاحب الطراز: استحسنها مالك رحمه الله، وأنكرها مرة، وقال: أهو يذبح؟ ما علمت أحداً يفعل ذلك، ونقل ابن شاس عنه التخيير، وعن ابن زياد الكراهة... ".
وفي النوادر والزيادات (1/20) : قال علي: قال مالك: ما أعرف التسمية في الوضوء، وأنكرها، واستحب ذلك علي بن زياد... ". وإذا أنكرت التسمية في الوضوء كان إنكاره لسائر الأحداث من باب أولى؛ لأن الآثار الضعيفة في استحبابها إنما وردت في الوضوء، ولم ترد التسمية في الغسل أو في التيمم لا في حديث صحيح ولا في حديث ضعيف، وإنما من استحبها أو أوجبها في سائر الأحداث إنما كان ذلك قياساً على الوضوء، فإذا سقطت في الوضوء، سقطت مشروعيتها في سائر الطهارة، وانظر التاج والإكليل (1/266) ، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (ص:45) . واعتبر ابن ناجي التسمية في الطهارة من الأمر المنكر، انظر تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/478) .(12/360)
وهو الراجح.
وقيل: تجب التسمية مع الذكر، وتسقط بالنسيان، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: تباح التسمية في الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (2) .
دليل من قال: التسمية سنة:
الدليل الأول:
(1456-88) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع (3) .
[إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب] (4) .
وقد قال القرافي في كتابه الفروق: " فأما ضابط ما تشرع فيه التسمية
_________
(1) الإنصاف (1/288) ، المحرر (1/22) ،
(2) تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/478) .
(3) المسند (2/359) .
(4) سبق تخريجه، انظر كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم: 105.(12/361)
من القربات، وما لم تشرع فيه فقد وقع بحث مع جماعة من الفضلاء، وعسر تحرير ذلك وضبطه، ثم قال: والقصد من هذا الفرق بيان عسره والتنبيه على طلب البحث عن ذلك، فإن الإنسان قد يعتقد أن هذا لا إشكال فيه، فإذا نبه على الإشكال استفاده، وحثه ذلك على طلب جوابه " (1) .
الدليل الثاني:
استحسان التسمية على كل شيء، قال في النوادر: " لا يأتي - يعني: ذكر التسمية - من طريق صحيح، والتسمية في كل شيء حسنة ".
قلت: استحسان التسمية في كل شيء قول ليس بالصواب، بل المطلوب اتباع الشرع، فما تركت فيه التسمية كانت السنة تركه، وما فعلت فيه التسمية كانت السنة فعله، ثم ما ثبت فيه فعل التسمية ننظر فيه، فإن ورد فيه ما يدل على الشرطية كقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} (2) ، اعتبرنا التسمية شرطاً في حلها، وما لم يرد ما يدل على الشرطية، فإن كان فيه ما يدل على الوجوب، اعتبرنا التسمية واجبة، وإلا بقيت على الاستحباب، وليس كل عبادة مشروعة تكون التسمية فيها مشروعة، فالتسمية في العبادات منها ما هو شرط كالذبح، ومنها ما هو مستحب كما في قراءة القرآن إذا افتتحت القراءة بأول السورة، بل قد تستحب في بعض المباحات كالأكل والشرب، ومنها ما هو بدعة، كالتسمية في الأذان وفي الإقامة وفي الصلاة وفي الحج والعمرة ونحوها، فليس كل فعل تشرع فيه التسمية.
_________
(1) أنواع البروق في أنواع الفروق (1/132) .
(2) الأنعام: 121.(12/362)
الدليل الثالث:
وردت أحاديث كثيرة في مشروعية التسمية في الوضوء، بلفظ: (لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)
ورد ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن زيد، وأنس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وإن كان في أسانيدها مقال، فإنها صالحة للحجة بالمجموع (1) .
فإذا ثبتت التسمية في طهارة الماء، كانت التسمية مشروعة في التيمم، لأنه بدل عن طهارة الماء (2) .
وأجيب:
لا نسلم أن التسمية مشروعة في الطهارة المائية، وقد تقدم بحث التسمية في الطهارة المائية من وضوء وغسل، وتبين أن التسمية فيهما غير مشروعة، وإذا بطل الأصل بطل الفرع، ولو أخذنا بظاهر أحاديث " لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " لقلنا: إن التسمية شرط في صحة الوضوء، من تركها ولو سهواً لم يصح وضوؤه، وكان لزاماً عليهم القول بأن منزلة التسمية في الوضوء، كمنزلة الوضوء للصلاة، ولما لم تكن هذه الأحاديث بتلك الصحة لم يذهب الجمهور إلى أن التسمية شرط، بل لم يذهبوا إلى القول بالوجوب إلا رواية عن الإمام أحمد، وعليه فنقول لهم: لا تحتجوا علينا بأحاديث أنتم أنفسكم لا تقولون بمقتضاها، والله المستعان.
_________
(1) وقد تم تخريجها والكلام على أسانيدها في كتاب الوضوء، فأغنى عن إعادته هنا.
(2) انظر بتصرف: المبدع (1/194) .(12/363)
دليل الحنابلة على وجوب التسمية مع الذكر:
لما كان الحنابلة يوجبون التسمية في الطهارة الصغرى، أوجبوها في بدلها، وهو التيمم، فإذا ثبتت التسمية في طهارة الأصل ثبتت في طهارة البدل؛ لأن البدل له حكم المبدل.
ويجاب عن ذلك:
أولاً: لم تثبت مشروعية التسمية في الوضوء حتى يثبت حكمها في التيمم هذا من جهة.
ومن جهة أخرى على القول بثبوت التسمية في الوضوء، وهو قول ضعيف، فلا يلزم منه ثبوت التسمية في التيمم، قال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى: " قد يعارض في هذا، فيقال: إن التيمم ليس له حكم المبدل في وجوب تطهير الأعضاء؛ لأن التيمم إنما يطهر فيه عضوان فقط: الوجه والكفان في الحدث الأصغر والأكبر، فلا يقال: ما وجب في طهارة الماء وجب في طهارة التيمم، لكن الاحتياط أولى، فيسمي عند التيمم أيضاً، والمتأمل لحديث عمار بن ياسر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا " يستفيد منه أن التسمية ليست واجبة " (1) .
قلت: ليس الاحتياط في قول التسمية في التيمم؛ لأن الاحتياط في العبادات عدم الفعل حتى تثبت المشروعية، وذلك لأن الأصل في العبادات الحضر حتى يقوم دليل على المشروعية، وإذا استفيد من حديث عمار عدم الوجوب، كان تارك التسمية لا يلام، بينما فاعل التسمية قد يقال عنه: إنه
_________
(1) الشرح الممتع (1/184) .(12/364)
مبتدع، لأنه لا يوجد في التيمم حديث صحيح ولا ضعيف يذكر التسمية، وإذا اختلف في عبادة، هل هي مستحبة أو غير مشروعة كان الاحتياط تركها حتى نتيقن مشروعيتها، ويكفي أن الإمام مالكاً يقول في التسمية في الوضوء: لم أسمع بها في شيء، أهو يريد أن يذبح؟ ونقلنا كلامه أثناء تحرير الأقوال.
دليل من قال: التسمية غير مشروعة في التيمم:
الدليل الأول:
الأصل في العبادت الحضر، حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث التيمم ليس فيها ذكر التسمية، {وما كان ربك نسياً} (1) .
الدليل الثاني:
أن آية التيمم في كتاب الله سبحانه وتعالى وأحاديث التيمم التي نقلت لنا في سنة المصطفى خلو من التسمية، فلو كانت مشروعة لذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، ولما أغفل الصحابة رضي الله عنهم عن ذكرها، ولو كانت التسمية مشروعة لحفظها الله لنا، قال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (2) ، ولم يذكر التسمية.
(1457-89) ومنها ما رواه البخاري من طريق سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه، قال:
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت،
_________
(1) مريم: 64.
(2) المائدة: 6.(12/365)
فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (1) .
فقوله: " إنما كان يكفيك هكذا " ولم يذكر التسمية، فلو كانت التسمية واجبة لما كفاه هذا الفعل.
القول الراجح:
القول بعدم مشروعية التسمية هو القول الذي يتمشى مع الأدلة، والأصل عدم المشروعية حتى تثبت التسمية في حديث صحيح خال من النزاع، والله أعلم.
_________
(1) البخاري (338) ، ومسلم (368) .(12/366)
الفصل الثاني:
في تكرار المسح في التيمم
سبق لنا في الوضوء خلاف العلماء في استحباب الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، فهل يشرع تكرار المسح في التيمم مرتين وثلاثاً قياساً على الوضوء؟.
فقيل: لا يشرع تكرار المسح للمتيمم، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
_________
(1) قال في أحكام القرآن للجصاص (1/546) : " التيمم مسح، فليس تكراره بمسنون، كالمسح على الخفين ومسح الرأس.. ".
وقال في الجوهرة النيرة (1/22) : " ولا يشترط تكراره - يعني التيمم - إلى الثلاث كما في الوضوء؛ لأن التراب ملوث، وليس بطهارة في الحقيقة، وإنما عرف مطهراً شرعاً، فلا حاجة إلى كثرة التلويث إذا كان المراد قد حصل بمرة " وانظر بدائع الصنائع (1/45) .
(2) قال الباجي في المنتقى (1/39) للاستدلال على أن الرأس في الوضوء لا يشرع تكراره، قال: " ودليلنا من جهة القياس: أنه ممسوح في الطهارة، فلم يسن تكراره كالتيمم والمسح على الخفين ".
(3) قال في المجموع (2/269) : " الزيادة على مسحة للوجه ومسحة لليدين مكروهة، وحكى الرافعي وجهاً أنه يستحب تكرار المسح كالوضوء، وليس بشيء؛ لأن السنة فرقت بينهما... ".
وقال في الحاوي (1/249) : " فأما تكرار المسح فلا يسن في التيمم؛ لما فيه من تقبيح الوجه بالغبار. وانظر مغني المحتاج (1/101) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/105) .
(4) المغني (1/88) ، الكافي في فقه أحمد (1/30) ، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/277) .(12/367)
وقيل: يستحب تكرار المسح، حكاه الرافعي وجهاً في مذهب الشافعية، وضعفه النووي (1) .
دليل من قال: لا يشرع التكرار:
الدليل الأول:
الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل على الاستحباب، ولا يوجد دليل على استحباب تكرار التيمم، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بمسح الوجه واليدين، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار.
الدليل الثاني:
أن طهارة التيمم طهارة تقوم على المسح، فهي مبنية على التخفيف، بخلاف الطهارة المائية، ولذلك لم يشرع التكرار لما هو ممسوح بالماء، كمسح الرأس ومسح الخفين ومسح الجبيرة، فكيف لما هو ممسوح بالتراب.
الدليل الثالث:
(1458-90) ما رواه البخاري من حديث عمار، وفيه:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (2) .
وجه الاستدلال:
فكونه ينفخ في يديه دليل على سقوط استحباب التكرار؛ لأن تكرار المسح يستلزم تخفيف التراب على يديه، فلا يحوجه إلى نفخ يديه، فلما نفخ
_________
(1) المجموع (2/269) .
(2) البخاري (338) ، ومسلم (368) .(12/368)
كان ذلك دليلاً على سقوط استحباب التكرار، والله أعلم.
دليل من قال: يشرع التكرار:
لما كان الوضوء يشرع فيه التكرار، فثبت الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، والتيمم بدل عن الماء، فيأخذ حكمه؛ لأن البدل له حكم المبدل.
وقد أجبنا على هذا التعليل فيما سبق، وقلنا: إن البدل له حكم المبدل، وليس له صفة المبدل، فالمسح على الخفين بدل عن غسل الرجل، ولا يأخذ صفته، والله أعلم.
الراجح: أنه لا يشرع تكرار المسح لعدم الدليل.(12/369)
[صفحة فارغة](12/370)
الفصل الثالث:
في نفخ الأيدي بعد ضربهما في الأرض
اختلف أهل العلم في حكم نفخ الأيدي بعد ضربهما في الأرض،
فقيل: يستحب النفخ، والغرض منه إزالة ما علق في اليدين من التراب؛ لأنه لا يجب عليه تلطيخ التراب على عضو التيمم، وهو دليل على أنه لا يشترط في التيمم التراب، وإنما يشترط الضرب من غير زيادة، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) .
_________
(1) يستبدل الحنفية نفخ الأيدي بنفضهما، وهو لإزالة التراب العالق باليد، انظر عمدة القارئ (4/16-17) ، البحر الرائق (1/153) ، أحكام القرآن للجصاص (4/27) ، المبسوط (1/106-107) .
قال في الهداية (1/125) : " وينفض يديه بقدر ما يتناثر التراب كي لا يصير مثلة ".
قال في العناية شرح الهداية (1/125) : " والمثلة: ما يمثل به من تبديل خلقته، وتغيير هيئته، سواء كان بقطع عضو أو تسويد وجه، أو تغييره ".
قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/46) : " ذكر في ظاهر الرواية أنه ينفضهما نفضة، وروي عن أبي يوسف أنه ينفضهما نفضتين.
وقيل: إن هذا لا يوجب اختلافاً؛ لأن المقصود من النفض تناثر التراب صيانة عن التلوث الذي يشبه المثلة، إذ التعبد ورد بمسح كفٍ مسه التراب على العضوين، لا تلويثهما به، فلذلك ينفضهما، وهذا الغرض قد يحصل بالنفض مرة، وقد لا يحصل إلا بالنفض مرتين على قدر ما يلتصق باليدين من التراب، فإن حصل المقصود بنفضة واحدة اكتفى بها، وإن لم يحصل نفض نفضتين ".
وذكره مثله في تبيين الحقائق (1/38) ، وزاد عليه: " ولا يجب عليه تلطيخ التراب على عضو التيمم؛ لأن المقصود من النفض: تناثر التراب صيانة عن التلويث الذي يشبه المثلة ".
(2) مواهب الجليل (1/356) ، الفواكه الدواني (1/157) ،(12/371)
وقيل: يسن النفخ من أجل تخفيف التراب إن كان كثيراً بحيث يبقى بعد النفخ من التراب قدر الحاجة، وهذا لمن يشترط التراب في التيمم، وهو مذهب الشافعية، وبعضهم اعتبره قولاً قديماً للشافعي (1) ، وبه قال إسحاق (2) .
ويفهم من القولين أنه إذا لم يكن تراب، فلا يسن النفض (3) .
وقال أحمد: لا يضره إن فعل أو لم يفعل (4) .
وقيل: يكره نفخ التراب، وهو رواية عن أحمد (5) .
_________
(1) قال النووي في المجموع وهو يذكر سنن التيمم (2/269) : " السابعة: أن يخفف التراب المأخوذ وينفخه إذا كان كثيراً، بحيث يبقى قدر الحاجة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفخ في يديه بعد أخذ التراب، ونص عليه الشافعي والأصحاب، وقال صاحب الحاوي: نص في القديم أنه يستحب، ولم يستحبه في الجديد، فقال أصحابنا: فيه قولان: القديم يستحب، والجديد لا يستحب. وقال آخرون: على حالين: إن كان كثيراً نفخ، وإلا فلا ". اهـ
وقال في مغني المحتاج (1/100) : " ويخفف الغبار من كفيه أو ما يقوم مقامهما إن كان كثيراً بالنفض أو النفخ بحيث يبقى قدر الحاجة لخبر عمار وغيره، ولئلا تتشوه به خلقته، وأما مسح التراب من أعضاء التيمم فالأحب أن لا يفعله حتى يفرغ من الصلاة، كما نص عليه في الأم ".
(2) الأوسط (2/55) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/231) .
(4) جاء في مسائل أبي داود لأحمد (111) : " قلت لأحمد: ينفض يديه إذا ضرب بهما الأرض في التيمم؟ قال: لا يضره إن فعل، أو لم يفعل ". اهـ وانظر الأوسط لابن المنذر (2/55) .
(5) جاء في كتاب المسائل الفقهية من كتاب (1/89) : " واختلفت في التيمم إذا علق على يديه تراب كثير، هل يكره له نفخ التراب ليخف ما عليها؟
فنقل الميموني كراهية ذلك. ونقل جعفر بن محمد نفي الكراهية، وهو أصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفخ عن يديه التراب، ويمكن أن تحمل كراهيته لذلك إذا كان النفخ يذهب بجميع التراب، ولا يبقى له غبار يمسح به وجهه، فإنه لا يجوز ذلك ".
وجاء في مطالب أولي النهى (1/220) : فإن علق بيديه غبار كثير نفخه إن شاء، وإلا بأن كان خفيفاً كره نفخه؛ لئلا يذهب فيحتاج إلى إعادة الضرب، فإن ذهب ما على اليدين بنفخ، أعاد الضرب ".(12/372)
الدليل على استحباب النفخ:
(1459-91) ما رواه البخاري من حديث عمار بن ياسر، وفيه:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (1) .
فثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه نفخ يديه بعد أن ضربهما الأرض، واختلف العلماء، هل هذا النفخ لكونه علق بيديه شيء، فخشي عليه الصلاة والسلام أن يصيب وجهه الكريم.
أو علق بيده من التراب شيء له كثرة، فأراد تخفيفه لئلا يبقى له أثر في وجهه.
ويحتمل أن يكون لبيان التشريع، فهذه ثلاثة أقوال لثلاثة احتمالات (2) .
وقد سقنا لك كل مذهب ومن قاله، والذي يظهر لي أن مذهب الحنفية هو أقوى المذاهب، وقد دللنا فيما سبق أن التراب ليس شرطاً في صحة التيمم، وأن المتيمم يصح تيممه إذا ضرب جنس الأرض، سواء كان تراباً أو غيره، فإذا ضرب الأرض وكان في يديه غبار يتقيه، فلينفخه، ولا حرج؛ لأن
_________
(1) البخاري (338) ، ومسلم (368) .
(2) فتح الباري (1/44) ، عمدة القارئ (1/16) .(12/373)
المطلوب هو ضرب الأرض باليدين ومسح الوجه واليدين بهما، وليس نقل التراب من الأرض.
ونفخ اليدين ليس واجباً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكره في آية التيمم، قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (1) ، وكان ابن عمر لا ينفخ يديه،
(1460-92) فقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم،
عن ابن عمر أنه كان إذا تيمم ضرب بيديه ضربة على التراب، ثم مسح وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، ثم مسح بهما يديه إلى المرفقين، ولا ينفض يديه من التراب. قال عبد الرزاق: وبه نأخذ (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) المصنف (817) .
(3) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/48) ، والدارقطني في سننه (1/182) .
وروي مرفوعاً، وهو ضعيف جداً، انظر الدراقطني (1/181، 182) ، والحاكم (1/179-180) . وانظر إتحاف المهرة (9567) .(12/374)
الفصل الرابع:
في استحباب تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى
ذهب الفقهاء إلى استحباب التيامن في التيمم، وهو تقديم مسح اليد اليمنى على اليد اليسرى (1) .
واعتبر المالكية ذلك من فضائل التيمم (2) .
ومستند هذا الاستحباب:
(1461-93) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق،
عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. ورواه مسلم بنحوه (3) .
_________
(1) قال ابن نجيم من الحنفية في البحر الرائق (1/153-154) : " وسنن التيمم سبعة.. وهي التيامن كما في جامع الفتاوى والمجتبى ".
وانظر في مذهب الشافعية: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (ص: 82) ، غاية البيان في شرح ألفاظ ابن رسلان (ص: 64) ، مغني المحتاج (1/100) .
قال في كفاية الأخيار (1/61) : وسننه: ثلاثة أشياء: التسمية، وتقديم اليمنى على اليسرى، والموالاة..".
وفي مذهب الحنابلة: قال في مطالب أولى النهى (1/220) : وسنن تيمم: ترتيب... وتقديم يد يمنى على يد يسرى في مسح، لا في ضرب ".
وتقدم لنا الصفة المستحبة عند الحنابلة في مسح الكف، بأن يضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهر كفه الأيمن.. انظر المبدع (1/231) .
(2) الشرح الكبير (1/158) ، الفواكه الدواني (1/152) ، منح الجليل (1/155) .
(3) صحيح البخاري (168) ، ومسلم (268) .(12/375)
فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستحب التيمن في الطهور، فقد جاء عن المصطفى أن التيمم طهور المسلم ما لم يجد الماء، فثبت استحباب تقديم اليمين فيه، والله أعلم.
(1462-94) ومنه ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن شقيق، وفيه ذكر مناظرة بين أبي موسى وعبد الله بن مسعود، فكان منه أن قال أبو موسى:
ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بيده على الأرض، فنفضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه؟ فقال له عبد الله: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار (1) .
[حديث عمار صحيح بالجملة، وتقديم مسح اليدين على الوجه انفرد به أبو معاوية عن الأعمش، وليس بمحفوظ] (2) .
وقال النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب تقديم اليمنى في كل ما هو من باب التكريم كالوضوء، والغسل ولبس الثوب، والنعل والخف، والسراويل، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس والسلام من الصلاة، والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والأخذ والعطاء، وغير ذلك مما هو في معناه.
_________
(1) سنن أبي داود (321) .
(2) سبق تخريجه في حكم الترتيب بين أعضاء التيمم.(12/376)
ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كالامتخاط والاستنجاء، ودخول الخلاء، والخروج من المسجد، وخلع الخف والسراويل والثوب والنعل، وفعل المستقذرات، وأشباه ذلك.
وقال ابن تيمية: قد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة كالوضوء والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك، ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال والترجل، ودخول المسجد والمنزل، والخروج من الخلاء، ونحو ذلك.
وتقدم اليسرى في ضد ذلك، كدخول الخلاء، وخلع النعل، والخروج من المسجد، والذي يختص بإحداهما إن كان بالكرامة كان باليمين، كالأكل والشرب والمصافحة، ومناولة الكتب، وتناولها، ونحو ذلك (1) .
وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر، والاستنثار، والامتخاط، ونحو ذلك. اهـ
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/108) .(12/377)
[صفحة فارغة](12/378)
الفصل الخامس:
في تجديد التيمم
ذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا يستحب تجديد التيمم (1) ،
وقيل: يستحب التجديد، وهو أضعف الوجهين في مذهب الشافعية (2) .
دليل من قال: لا يستحب:
استدلوا: بعدم الدليل على المشروعية، والأصل في العبادات المنع.
واستدلوا أيضاً: بأن المقصود من تجديد الوضوء النظافة ورفع الحدث، والتيمم طهارة ضرورة، وهو ملوث. والتعليل الأول أصح.
واستدل من استحب التجديد:
بالقياس على الوضوء، ولأنه بدل عنه، والبدل له حكم المبدل.
والصحيح الأول، ولم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فعله، ولا من قوله أن طلب تجديد التيمم، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للعبادة سنة كفعله لها.
وهذه المسألة مما يخالف فيه التيمم الوضوء؛ مع أنه بدل عنه، وهذا يدلك على أن القاعدة التي تقول: البدل له حكم المبدل، ليست على إطلاقها.
_________
(1) تبيين الحقائق (1/8) ، المغني (3/120) ، المجموع (1/487) ، وقال في كشاف القناع (1/89) : " ولا يسن تجديد تيمم وغسل لعدم وروده ".
(2) حلية العلماء (1/188-189) ، روضة الطالبين (1/123) ،
قال النووي في شرح صحيح مسلم (3/178) : " وفي استحباب تجديد التيمم وجهان، أشهرهما: لا يستحب، وصورته في الجريح والمريض ونحوهما ممن يتيمم مع وجود الماء، ويتصور في غيره، إذا قلنا: لا يجب الطلب لمن تيمم ثانياً في موضعه، والله أعلم ".(12/379)
[صفحة فارغة](12/380)
الفصل السادس:
في استقبال القبلة حال التيمم
اعتبر المالكية استقبال القبلة حال التيمم من الفضائل (1) .
واعتبره الشافعية من الآداب (2) ، ولا فرق بين الفضائل والآداب.
وقد سبق أن الأئمة الأربعة على استحباب استقبال القبلة حال الوضوء، ولم أجد أحداً حكى الإجماع على استحباب استقبال القبلة إلا أن ابن مفلح قال: ولا تصريح بخلافه، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل. اهـ
وهذه العبارة ليست حكاية للإجماع والله أعلم، خاصة إذا علمنا أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتحرى القبلة عند فعل الوضوء، ولا أمر به من قوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستحباب لا يثبت إلا بدليل من فعله أو قوله عليه الصلاة والسلام.
والقياس في العبادات من أضعف القياسات، وإذا لم يثبت استحباب استقبال القبلة في الوضوء، فكذلك الشأن في التيمم، ولا أعلم لهم دليلاً من كتاب أو سنة على هذا الاستحباب، والاستحباب حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، فإذا لم يوجد لم يكن استحبابه جيداً، ولا أعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بقوله، أو كان من فعله أنه إذا أراد أن يتيمم استقبل القبلة.
_________
(1) قال في الشرح الكبير (1/158) " ثم شرع في فضائله بقوله: " وندب تسمية... واستقبال قبلة..". وانظر الشرح الصغير (1/189) .
(2) قال النووي في المجموع (2/375) : " والآداب ثلاثة: استقبال القبلة...، والابتداء بأعلى الوجه وبالكفين في اليدين..".(12/381)
ولو كان هذا في الدعاء لقيل له دليل إيجابي على ذلك، فقد استقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكعبة حين دعا على الصفا وكذا حين دعا على المروة، كما استقبل القبلة بعد رميه الجمرة الأولى والوسطى من اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وأما استقبال القبلة حين الوضوء أو التميم فلا أعلم له أصلاً من الشرع، والله أعلم.(12/382)
الفصل السابع:
في إقبال اليدين وإدبارهما في التراب حال الضرب
ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى استحباب إقبال اليدين وإدبارهما حال الضرب، مبالغة في الاستيعاب، ومعنى ذلك: أن يحركهما بعد الضرب أماماً وخلفاً مبالغة في إيصال التراب إلى أثناء الأصابع (1) .
ولا أعلم دليلاً من الكتاب ولا من السنة على إستحباب هذه الصفة، وهذا التعليل غير كاف في استحباب صفة لم ينقل فعلها من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا من صحابته الكرام، ولو كانت هذه الصفة مشروعة لفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو فعلها لحفظت، ونقلت لنا.
_________
(1) تبيين الحقائق (1/36) ، وحاشية ابن عابدين (1/231) ، البحر الرائق (1/153) .(12/383)
[صفحة فارغة](12/384)
الفصل الثامن:
في البداءة بأعلى الوجه حين المسح
ظاهر الأحاديث في صفة التيمم أنه لا استحباب في البداءة بشيء من الوجه، فكيف مسح وجهه فقد امتثل الأمر، سواء بدأ بأعلى الوجه أو بأسفله أو بغير ذلك، وهذا هو الصحيح؛ لأن الاستحباب حكم شرعي، يقوم على دليل شرعي، ولم يوجد.
وقد صرح جماعة من أصحاب الشافعية باستحباب البداءة بأعلى الوجه، منهم المحاملي في اللباب، والرافعي.
وقال صاحب الحاوي: مذهب الشافعي أنه يبتدئ بأعلى الوجه كالوضوء.
قال: ومن أصحابنا من قال: يبدأ بأسفل الوجه، ثم يستعلي؛ لأن الماء في الوضوء إذا استعلى به انحدر بطبعه، فعم جميع الوجه، والتراب لا يجري إلا بإمرار اليد، فيبدأ بأسفله ليقل ما يصير على أعلاه من الغبار؛ ليكون أجمل لوجهه، وأسلم لعينيه (1) .
_________
(1) المجموع (2/265) ، أسنى المطالب (1/87) .(12/385)
[صفحة فارغة](12/386)
الفصل التاسع:
في استحباب الصمت أثناء التيمم
سبق لنا أن الصمت عن كلام الناس من آداب الوضوء، وهو مذهب الحنفية (1) ، المالكية (2) .
وقيل: يكره الكلام أثناء الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (3) ، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وعد النووي من سنن الوضوء ترك الكلام من غير حاجة (5) .
وأما التيمم فلم أقف على استحباب الصمت فيه عند الحنفية والشافعية والحنابلة، ولم يذكروه من سنن التيمم أو من فضائله وآدابه.
وذهب المالكية إلى اعتبار الصمت أثناء التيمم من فضائل التيمم (6) ، ولا
_________
(1) قال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/6، 7) : ومن آداب الوضوء استقبال القبلة وذكر أشياء، ثم قال: وأن لا يتكلم فيه بكلام الناس. الخ وانظر حاشية ابن عابدين (1/126) .
(2) انظر التاج والإكليل (1/369، 370) ، والخرشي (1/137) حيث اعتبروا ترك الكلام من فضائل الوضوء.
(3) قال القاضي عياض في شرح صحيح مسلم أن العلماء كرهوا الكلام في الوضوء والغسل.
(4) الآداب الشرعية (1/335) ، الإنصاف (1/137) ، وفسر ابن مفلح في الفروع (1/152) الكراهة بترك الأولى.
(5) قال النووي في المجموع (1/489) : سنن الوضوء ومستحباته منها، ثم ذكر: وأن لا يتكلم فيه لغير حاجة. اهـ وانظر حاشية الجمل (1/133) .
(6) الخرشي (1/195) ، الفواكه الدواني (1/152) ،(12/387)
أعلم له دليلاً من الكتاب أو السنة على هذا الاستحباب، ولا أعرف أحداً غير المالكية اعتبروا الصمت من فضائل التيمم، فإن كانوا قاسوه على الوضوء، فلم يثبت النهي عن الكلام في الوضوء حتى يثبت في التيمم،
(1463-95) وقد روى البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك بن أنس، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره،
أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره قالت: فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد. الحديث. ورواه مسلم (1) .
فهذا في الكلام أثناء الغسل، والوضوء والتيمم مثله.
_________
(1) البخاري (357) ، مسلم (336) .(12/388)
الباب السادس:
في مبطلات التيمم
الفصل الأول:
يبطل التيمم ما يبطل الوضوء
سبق لنا نواقض الوضوء المتفق عليها والمختلف فيها، فما أجمع عليه العلماء على أنه يبطل الوضوء فإنه يبطل التيمم بالإجماع، كالبول والغائط والريح.
وما اختلف في نقضه للوضوء اختلف في نقضه للتيمم، والترجيح هناك لا يختلف عن الترجيح هنا، فما رجحنا أنه مبطل للوضوء فإنه مبطل للتيمم، وما ترجح لنا أنه لا يبطل الوضوء فلا يبطل التيمم.
ويبطل التيمم عن الحدث الأكبر بما يوجب الغسل، وقد قدمنا في كتاب الغسل موجباته المتفق عليها والمختلف فيها.
قال ابن حزم:» وكل حدث ينقض الوضوء فإنه ينقض التيمم، هذا مما لا خلاف فيه من أحد من أهل الإسلام « (1) .
وقال في بدائع الصنائع:» وأما بيان ما ينقض التيمم، فالذي ينقض
_________
(1) المحلى: مسألة: 233.(12/389)
التيمم نوعان: عام، وخاص، أما العام: فكل ما ينقض الوضوء من الحدث الحقيقي والحكمي ينقض التيمم « (1) .
وقال المرداوي الحنبلي:» وأما مبطلات التيمم، فيبطل التيمم عن الحدث الأصغر بما يبطل الوضوء بلا نزاع، ويبطل التيمم عن الحدث الأكبر بما يوجب الغسل، وعن الحيض والنفاس بحدوثهما، فلو تيممت بعد طهرها من الحيض له، ثم أجنبت: جاز وطؤها لبقاء حكم تيمم الحيض، والوطء إنما يوجب حدث الجنابة على ما تقدم « (2) .
ولو تيمم للحدث الأصغر والأكبر معاً، ثم أحدث،
فقيل: يبطل تيممه عن الحدث الأصغر، ويبقى تيممه عن الحدث الأكبر، وهو مذهب الحنفية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة (5) .
وقيل: يبطل تيممه كله، ويعود جنباً، وهو المشهور من مذهب المالكية (6) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/56) .
(2) الإنصاف (1/297) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/255) ، المبسوط (1/114) ، وقال في الدر المختار
(1/255) : " فلو تيمم للجنابة، ثم أحدث صار محدثاً، لا جنباً... ".
(4) حواشي الشرواني (1/371) ،
(5) قال في كشاف القناع (1/176) » وإن تيمم للجنابة والحدث، ثم أحدث بطل تيممه للحدث، وبقي تيمم الجنابة «، وانظر الإنصاف (1/290) ، ومطالب أولي النهى
(1/213) ، المغني (1/167) .
(6) الخرشي (1/195) ، مواهب الجليل (1/357) ، وقال في حاشية الدسوقي
(1/158) : "واعلم أن التيمم يبطل بكل ما أبطل الوضوء، ولو كان ذلك التيمم لحدث أكبر، فنواقض الوضوء وإن كانت لا تبطل الغسل، لكنها تبطل التيمم الواقع بدلاً عنه، ويعود جنباً على المشهور من أنه لا يرفع الحدث، وثمرته أنه ينوي التيمم بعد بذلك من الحدث الأكبر، ولو قلنا: إنه لا يعود جنباً ينوي التيمم من الحدث الأصغر، وثمرته أيضاً: أنه إن عاد جنباً لا يقرأ القرآن ظاهراً، وإن قلنا: لا يعود جنباً يقرؤه ظاهراً ".(12/390)
تعليل الجمهور:
أنه لو اغتسل من الجنابة بنية رفع الحدثين، ارتفعا، فإذا أحدث لم يعد إليه الحدث الأكبر، فكذلك التيمم.
وتعليل المالكية:
بأن التيمم مبيح لا رافع، فإذا تيمم للحدثين، ثم أحدث بطل تيممه، فإذا بطل تيممه رجع إلى حالته قبل التيمم، وهو كونه جنباً.
والتعليل الأول أرجح، خاصة أننا رجحنا أن التيمم مطهر، وأنه بدل عن طهارة الماء، فيقوم البدل مقام المبدل إلا ما نص عليه الدليل.(12/391)
[صفحة فارغة](12/392)
الفصل الثاني:
يبطل التيمم وجود الماء
المبحث الأول:
وجود الماء قبل الصلاة
إذا تيمم الرجل، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة، فهل وجود الماء يبطل تيممه؟ .
قيل: إذا وجد الماء بطل تيممه، وهو قول عامة أهل العلم (1) .
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن والشعبي: إذا فرغ من التيمم لا يبطل بوجود الماء (2) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: أحكام القرآن للجصاص (2/540) ، المبسوط (1/111) ، بدائع الصنائع (1/57) .
وانظر في مذهب المالكية: تفسير القرطبي (5/234) ، التاج والإكليل (1/522) ، الفواكه الدواني (1/159) ، الخرشي (1/195) ، مواهب الجليل (1/356-357) .
وفي مذهب الشافعية: الأم (1/48) ، المجموع (2/349) ، أسنى المطالب (1/88) ، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/105) .
وفي مذهب الحنابلة: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/68، 69) ، المبدع (1/227) ، شرح العمدة (1/450) .
(2) بدائع الصنائع (1/57) ، المجموع (2/349) ، الاستذكار (3/167) ، مقدمات ابن رشد (1/116) .
قال ابن رجب في شرحه للبخاري (2/262) : " وقد طرد أبو سلمة بن عبد الرحمن قوله في أنه يرفع الحدث، فقال: يصلي به، وإن وجد الماء قبل الصلاة، ولا ينتقض تيممه إلا بحدث جديد، وكذا قال في الجنب إذا تيمم، ثم وجد الماء: لا غسل عليه.
قال ابن رجب: وهذا شذوذ عن العلماء، ويرده قوله: فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، ومن العجب أن أبا سلمة ممن يقول: إن من صلى بالتيمم، ثم وجد الماء في الوقت أنه يعيد الصلاة، وهذا تناقض فاحش ".
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (3/168) بعد أن ذكر قولي أبي سلمة: " وهذا تناقض وقلة روية، ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة ". ثم ساق ابن عبد البر بإسناده إلى الزهري، قال: " كان أبو سلمة يماري ابن عباس، فحرم بذلك علماً كثيراً ". اهـ(12/393)
دليل الجمهور:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) ، فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء، ثم نقله إلى التراب عند عدمه، فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية (2) .
الدليل الثاني:
الإجماع، قال ابن عبد البر:» أجمع العلماء أن من تيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن تيممه باطل، لا يجزيه أن يصلي، وأنه قد عاد بحاله قبل التيمم « (3) .
وقال القرطبي:» أجمعوا على أن من تيمم، ثم وجد الماء قبل الدخول
_________
(1) المائدة: 6.
(2) أحكام القرآن للجصاص (2/540) .
(3) الاستذكار (3/168) .(12/394)
في الصلاة، بطل تيممه، عليه استعمال الماء « (1) .
وقال ابن المنذر: " أجمع عوام أهل العلم على أن من تيمم، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن طهارته تنقض، وعليه أن يتطهر، ويصلي، إلا حرف روي عن أبي سلمة فإنه فيما بلغني عنه أنه قال في الجنب، يتيمم، ثم يجد الماء، قال: لا يغتسل" (2) .
وجاء في حاشية قليبوبي وعميرة:» ومن تيمم لفقد ماء، فوجده، إن لم يكن في صلاة بطل تيممه بالإجماع « (3) .
الدليل الثالث:
(1464-96) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (4) .
[إسناده حسن، وسبق تخريجه] (5) .
فقوله: " فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " أمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوجوب مس الماء حين وجوده، وقد وجده قبل التلبس بالصلاة فوجب عليه مسه.
_________
(1) تفسير القرطبي (5/234) .
(2) الأوسط (2/65) .
(3) حاشيتا قليوبي وعميرة (1/105) .
(4) المصنف (913) .
(5) انظر حديث رقم (39) من كتابي أحكام الطهارة: المياه والآنية.(12/395)
الدليل الرابع:
أن التيمم بدل عن الماء، يراد لغيره، فإذا وجد المبدل قبل التلبس بالمقصود وجب الرجوع إليه.
الدليل الخامس:
سبق لنا في مبحث خاص أن التيمم مطهر إلى غاية وهو وجود الماء، ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها خلاف ما قبلها، فعند وجود الماء يصير محدثاً بالحدث السابق.
دليل أبي سلمة على أنه لا يلزمه استعمال الماء.
قال: إن التيمم طهارة صحيحة، ومتى صحت الطهارة فلا ينقضها إلا الحدث، وليس وجود الماء حدثاً حتى نقول ببطلان الطهارة.
وأجيب بأمور منها:
أولاً: القول بأن وجود الماء ليس بحدث مُسَلَّم به، ولا يصير المتيمم محدثاً بوجود الماء، وإنما الحدث السابق يظهر حكمه عند وجود الماء، وفرق بين أن يكون وجود الماء حدثاً، وبين قولنا: إنه عاد إليه حدثه السابق؛ لأن التيمم طهارة إلى حين وجود الماء، فإذا وجد الماء وجب عليه استعماله.
ثانياً: أن هذا نظر في مقابل النص، فيعتبر نظراً فاسداً، لأن الدليل إذا قام على بطلان العبادة لم يعارض بالدليل النظري،
(1465-97) فقد روى البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه:
" فلما انفتل - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم،(12/396)
قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم، قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك.
ثم ذكر في الحديث قصة الماء الذي أحدثه الله تعالى آية لنبيه عليه السلام، قال: " وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، وقال: اذهب فأفرغه عليك " (1) .
وكذلك يشهد لذلك ما رواه عبد الرزاق من حديث أبي ذر، وقد سقنا لفظه في أدلة القول الأول، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (2) .
[حديث حسن] (3) .
فهذه الأحاديث تشهد على أن الطهور بالتراب إنما يصح مع عدم الماء، فإذا وجد الماء فلا يصح التطهر بالتراب، وأن الحدث السابق قبل التيمم يعود إلى العبد، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر.
الراجح:
القول الراجح الذي لا شك فيه أن المتيمم إذا وجد الماء قبل التلبس بالعبادة وجب عليه استعمال الماء لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا...} (4) ، الآية فأمرت بالطهارة بالماء حين القيام إلى
_________
(1) البخاري (344) .
(2) المصنف (913) .
(3) سبق تخريجه انظر حديث رقم (39) من أحكام الطهارة.
(4) المائدة: 6.(12/397)
الصلاة، فإذا كان الماء موجوداً حال القيام إلى الصلاة، كان الفرض على العبد هو غسل أعضاء الوضوء في ذلك الماء، إلا أن ذلك مشروط بأن يدرك من الوقت ما يتسع لأن يتطهر بالماء، ويصلي قبل خروج الوقت، وأما إذا ضاق الوقت فإنه يصلي بالتيمم حتى ولو وجد الماء قبل الدخول في الصلاة، وقد بحثت في فصل مستقل فيما إذا خاف إن استعمل الماء أن يخرج الوقت، فهل يتيمم لإدراك فضيلة الوقت، أو يصلي الصلاة خارج الوقت لإدراك شرط الطهارة بالماء، وذكرنا أدلة كل فريق هناك، فأغنى بحثه السابق عن ذكر أدلته في هذا الفصل، والله أعلم.(12/398)
المبحث الثاني:
إذا وجد الماء أثناء الصلاة
إذا قدر المتيمم على استعمال الماء، وهو في الصلاة، فهل يلزمه الخروج، أو يتم صلاته؟
في هذه المسألة اختلف أهل العلم،
فقيل: تبطل صلاته، ويجب أن يتوضأ ويستأنف الصلاة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (2) ، واختيار ابن حزم (3) .
وقيل: يتم صلاته، وهو المشهور من مذهب المالكية (4) ،
ورواية عن
_________
(1) جاء في أحكام القرآن للجصاص (2/539) : واختلف في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: إذا وجد الماء في الصلاة بطلت صلاته، وتوضأ، واستقبل، وقال مالك والشافعي: يمضي فيها، وتجزئه... ". وانظر: المبسوط
(1/110) ، الفروق للكرابيسي (1/38) ، بدائع الصنائع (1/57) ، شرح فتح القدير
(1/385) .
(2) المستوعب (1/308) ، الإنصاف (1/298) ، كشاف القناع (1/177) .
(3) المحلى مسألة (234) .
(4) جاء في الموطأ (1/55) : " قال مالك في رجل تيمم حين لم يجد ماء، فقام وكبر، ودخل في الصلاة، فطلع عليه إنسان معه ماء، قال: لا يقطع صلاته، بل يتمها بالتيمم، وليتوضأ لما يستقبل من الصلوات " وانظر: الإشراف (1/164) ، أحكام القرآن لابن العربي
(1/566) ، وجاء في مواهب الجليل (1/357) : " قال التلمساني: إذا قلنا: لا يجب عليه أن يقطع، فهل المذهب أنه لا يستحب له القطع، أو يستحب له القطع؟ قال ابن العربي: بل يحرم عليه ذلك، ويكون عاصياً إن فعل، وحكمه كحكمه إذا وجده بعد الصلاة، لا يستحب له أن يعيد. قال في الطراز: وهذا فيمن تيمم، وهو على إياس من الماء، وأما من تيمم، وهو يرتجي الماء، فهذا لا يبعد أن يقال فيه يقطع؛ لأن الصلاة إنما أسندت إلى تخمين، وقد تبين فساده. اهـ(12/399)
أحمد (1) ،وقيل: إن أحمد رجع عن هذا القول فتكون المسألة عند الحنابلة رواية واحدة كقول الجمهور (2) .
وقيل: يتم صلاته إن كان تيممه يغنيه عن إعادة الصلاة، كما لو كان تيممه في السفر الطويل، وتبطل صلاته إن كان يجب عليه إعادة الصلاة، كما لو تيمم في الحضر، وهذا مذهب الشافعية (3) .
_________
(1) المستوعب (1/308) ، الفورع (1/233) .
(2) جاء في المستوعب (1/309) : " وقد نقل عنه المروذي أنه قال: كنت أقول يمضي في صلاته، ثم تدبرت الأحاديث، فإذا أكثرها أنه يخرج. قال صاحب المستوعب: وظاهر هذا أنه رجع عن قوله بالمضي، فتكون المسألة رواية واحدة في وجوب الخروج ".
(3) قال صاحب البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/325) : " وإن تيمم لعدم الماء، ودخل في الصلاة، ثم وجد الماء، فإن كان ذلك في الحضر، أو في سفر قصير، وقلنا: يلزمه الإعادة، بطلت صلاته؛ لأنه تلزمه الإعادة، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة، وإن كان في سفر طويل، أو في سفر قصير، وقلنا: لا تلزمه الإعادة، لم تبطل صلاته ".
وقد ذكر صاحب البيان (1/322) قولين في مذهب الشافعي في وجوب الإعادة في السفر القصير، وهو السفر الذي لا يجوز فيه القصر والفطر.
وقال النووي في الروضة (1/115) : " إذا رأى الماء في الصلاة، فإن لم تكن مغنية له عن القضاء، كصلاة الحاضر بالتيمم، بطلت على الصحيح، وعلى الثاني: يتمها، ويعيد. وإن كانت مغنية كصلاة المسافر، فالمذهب المنصوص: أنه لا تبطل صلاته، ولا تيممه". وهذا التفصيل عائد إلى مذهب الشافعية في تيمم الرجل في الحضر إذا عدم الماء، وقد ذكر النووي في المجموع (2/352-353) : أن مذهب الشافعية فيمن عدم الماء في الحضر أنه يصلي بالتيمم، وعليه الإعادة، وقد سبق لنا أن القول بالإعادة قول ضعيف.
وقال الشافعي في الأم (1/48) : " وإذا تيمم، فدخل في المكتوبة، ثم رأى الماء، لم يكن عليه أن يقطع الصلاة، وكان له أن يتمها، فإذا أتمها توضأ لصلاة غيرها، ولم يكن له أن يتنقل بتيمم للمكتوبة إذا كان واجداً للماء بعد خروجه منها ".(12/400)
وقيل: يتطهر، ويبني على صلاته، وهو قول في مذهب الحنابلة (1) .
دليل من قال ببطلان الصلاة:
الدليل الأول:
(1466-98) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان،
عن أبي ذر، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (2) .
[إسناده حسن، وسبق تخريجه] (3) .
فأوجب استعمال الماء إذا وجده، وهو يشمل ما إذا كان قبل الصلاة، أو في أثناء الصلاة، أو بعد الصلاة، فإذا عاد إليه حدثه السابق أثناء الصلاة بطلت صلاته.
الدليل الثاني:
(1467-99) ما رواه البخاري من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب ح وعن عباد ابن تميم،
_________
(1) الفروع (1/233) .
(2) المصنف (913) .
(3) انظر حديث رقم (39) من كتابي أحكام الطهارة، المياه والآنية، وهو جزء من هذه السلسلة.(12/401)
عن عمه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. وأخرجه مسلم (1) .
احتج به البيهقي في الخلافيات، ولولا أنه ذكره لم أذكره، لأن الحديث ليس في مسألتنا.
وجه الاستدلال:
أن الاستثناء معيار العموم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينصرف " نهي عن الإنصراف عن الصلاة. وقوله: "إلا أن يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " اسثناء من النهي، ولو كان له أن ينصرف لوجود الماء لذكره الحديث.
والحديث إنما سيق في معرض طرح الشك، والأخذ باليقين، ونحن نقول بذلك: فلا ينصرف إذا شك في وجود الماء، أما إذا تيقن وجود الماء، فإن عليه الانصراف كما لو تيقن الحدث، ثم إن الحديث سيق جواباً على سؤال عن الشك في الحدث أثناء الصلاة، وليس في موضوع البحث.
الدليل الثالث:
إذا كان وجود الماء قبل الصلاة يبطل التيمم بالإجماع إلا ما روي عن أبي سلمة، فكذلك وجود الماء أثناء الصلاة يبطلها.
دليل من قال: يتم صلاته.
قالوا: جعل الله للطهارة وقتاً، وجعل للصلاة وقتاً غيره، فوقت الطهارة: هو وقت القيام إلى الصلاة قبل الدخول فيها، ووقت الصلاة: هو وقت
_________
(1) صحيح البخاري (177) ، ومسلم (361) .(12/402)
الدخول في أدائها، وهو حينئذ غير متعبد بفرض الطهارة، إذ لا يجوز له أن يدخل في الصلاة إلا بعد فراغه من طهارتها، فإذا تيمم كما أمر، فقد خرج عن فرض الطهارة، وإذا كبر فقد دخل في فرض الصلاة، ولا يجوز نقض طهارة قد مضى وقتها، وإبطال ما صلى من الصلاة، كما فرض عليه وأمر به إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع.
ويجاب:
بأن فرض الطهارة لا شك أنه قبل الدخول في الصلاة، ويلزمه استصحاب حكم الطهارة، فلو ورد ما ينقض طهارته أثناء الصلاة بطلت، كما لو خرج منه ريح، ووجود الماء في حق المتيمم سبب في رجوع حدثه السابق، وإذا رجع حدثه السابق إلى بدنه بطلت صلاته كما لو أحدث فيها.
الدليل الثاني:
إذا تلبس بمقصود البدل: وهو الصلاة لم يلزمه الخروج، كما لو أنه شرع في الصيام، ثم قدر على العتق لم يجب عليه الانتقال على الصحيح.
ويجاب عن هذا بجوابين:
الأول: هناك فرق بين المسألتين، فوجود الماء سبب في رجوع الحدث السابق، وهذا مبطل بحد ذاته للصلاة، فإن من شروط صحة الصلاة مطلقاً أن يكون متطهراً من الحدث، فإذا رجع إليه حدثه لوجود الماء بطلت صلاته، بخلاف وجود الرقبة فليس مبطلاً للصيام، فمفسدات الصيام: هي الأكل والشرب والجماع، وليس وجود الرقبة يخل بعبادة الصوم لا من قريب ولا من بعيد، فاعتبر تلبسه بالصيام قبل قدرته على العتق كاف في براءة ذمته.
الجواب الثاني: ما ذكره ابن رجب في قواعده:(12/403)
قال: من تلبس بعبادة، ثم وجد قبل فراغها ما لو كان واجداً له قبل الشروع لكان هو الواجب، دون ما تلبس به، هل يلزمه الانتقال إليه، أم يمضي ويجزيه؟ .
هذا على ضربين: أحدهما: أن يكون المتلبس به رخصة عامة، شرعت تيسيراً على المكلف، وتسهيلاً عليه، مع إمكان إتيانه بالأصل على ضرب من المشقة والتكلف، فهذا لا يجب عليه الانتقال منه بوجود الأصل كالمتمتع إذا عدم الهدي، فإنه رخص له في الصيام رخصة عامة، حتى لو قدر على الشراء بثمن في ذمته، وهو ميسور في بلده لم يلزمه.
الضرب الثاني: أن يكون المتلبس به إنما شرع ضرورة للعجز عن الأصل وتعذره بالكلية، فهذا يلزمه الانتقال إلى الأصل عند القدرة عليه، ولو في أثناء التلبس كالعدة بالأشهر، فإنها لا تعتبر بحال مع القدرة على الاعتداد بالحيض، ولهذا تؤمر من ارتفع حيضها لعارض معلوم، أن تنتظر زواله، ولو طالت المدة، وإنما جوز لمن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه أن تعتد بالأشهر؛ لأن حيضها غير معلوم، ولا مظنون عوده، وسواء كانت هذه المعتدة مكلفة قبل هذا بالاعتداد بالحيض كمن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه أن تعتد بالأشهر، ثم حاضت في أثنائها أو لم تكن مكلفة به كالصغيرة إذا حاضت في أثناء العدة بالأشهر".
قال ابن رجب: وهاهنا مسائل كثيرة مترددة بين الضربين، منها: المتيمم إذا شرع في الصلاة، ثم وجد الماء، ففي بطلانها روايتان؛ لأن التيمم من حيث كونه رخصة عامة، فهو كصيام المتمتع، ومن حيث كونه ضرورة يشبه العدة بالأشهر، وبيان الضرورة أنه تستباح معه الصلاة بالحدث فإنه غير رافع له على المذهب، فلا يجوز إتمام الصلاة محدثاً مع وجود الماء الرافع له" (1) .
_________
(1) قواعد ابن رجب: القاعدة السابعة (ص: 9) .(12/404)
الدليل الثالث:
أن هذا المتيمم قد دخل في الصلاة بإذن من الشارع، ولم تثبت سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - توجب قطع الصلاة بعد الدخول فيها بوجه مشروع.
ويجاب:
بأن قولكم قد دخل في الصلاة بوجه جائز مسلم، وأما قولكم بأنه لا توجد سنة توجب قطع الصلاة فإن هذا هو محل النزاع، وقد اتفقنا معكم أن الصعيد طهور المسلم بشرط عدم وجود الماء، وأن وجود الماء يوجب على المتيمم أن يمسه بشرته، فالنتيجة: أن المصلي بالتيمم قد صلى بالتيمم مع وجود الماء، ولم يمسه بشرته في عبادة من شرطها الطهارة بالماء مع وجوده، فكيف نصحح طهارة المتيمم مع وجود الماء والقدرة على استعماله، ولو سلمنا صحة بعض الصلاة قبل وجود الماء، فإننا لا يمكن أن نصحح القدر الباقي من الصلاة مع وجود الماء، وإذا تطرق الفساد إلى جزء من الصلاة فسدت كلها؛ لأن الصلاة يبنى آخرها على أولها.
دليل الشافعية على التفريق بين الصلاة التي يلزمه إعادتها وبين غيرها.
الشافعية بنوا تعليلهم على قول ضعيف، وهو أن الرجل إذا عدم الماء في الحضر تيمم وصلى، فإذا قدر على الماء وجب عليه إعادة الصلاة التي صلاها؛ لأن فقد الماء في الحضر عذر نادر، فألزموه أن يصلي الظهر مرتين: مرة بالتيمم، ومرة حين وجود الماء، فإذا كانت صلاته بالتيمم ليست مغنية له عن إعادة الصلاة، ولم تبرأ ذمته بذلك فلماذا الصلاة بالتيمم، وإن كان قد فعل ما أمر به، فقد برئت ذمته، فلماذا الإعادة، وسبق مناقشة هذا القول وبيان ضعفه، فإذا وجد الماء أثناء الصلاة، فإن كانت تلزمه إعادة الصلاة حسب(12/405)
مذهبهم، بطلت صلاته؛ لأنه لما كانت الإعادة واجبة عليه، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة، وإن كانت لا تلزمه الإعادة، لم تبطل صلاته، ويمضي فيها ولو وجد الماء في أثنائها. وهذا التفصيل ضعيف؛ لأنه بني على قول ضعيف من وجوب الإعادة على المتيمم في الحضر، والله أعلم.
دليل من قال: يتطهر ويبني على صلاته:
لم أقف لهم على دليل من الكتاب أو السنة في هذه المسألة، ولم تذكر الكتب التي رجعت إليها في ذكر هذا القول دليلاً لهم، ولعلهم قاسوا ذلك على من خرج منه رعاف، وهو في الصلاة،، فقد ثبت عن بعض الصحابة القول بالخروج من الصلاة، والوضوء، ثم البناء على ما مضى، من ذلك، وقد روي مرفوعاً، ولا يصح، وأما الموقوف فمنه:
(1468-100) ما رواه مالك، عن نافع،
عن ابن عمر رضي الله عنهما، كان إذا رعف انصرف، فتوضأ، ثم رجع، فبنى، ولم يتكلم (1) .
[وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر] (2) .
(1469-101) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن صالح وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة،
عن علي، قال: إذا وجد أحدكم في بطنه رزأً أو قيئاً أو رعافاً
_________
(1) الموطأ (1/38) .
(2) سبق تخريجه في كتاب نواقض الوضوء: في الكلام على خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين.(12/406)
فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم (1) .
[إسناده حسن] (2) .
(1470-102) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد أبي يحيى،
عن سلمان، قال: إذا أحدث أحدكم في صلاته، فلينصرف غير راع لصنعه، فليتوضأ، ثم ليعد في آيته التي كان يقرأ (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
فهذه الآثار تبين أن الإنسان ممكن أن يبني على صلاته إذا وجد في أثنائها ما يقتضي الطهارة، وهو جار على خلاف القياس؛ لأن إيجاب الوضوء من الرعاف يعني: بطلان الطهارة، وبطلان الطهارة يلزم منه بطلان الصلاة كخروج البول والريح إذا خرجا من المصلي أثناء الصلاة، فإنه يجب استئناف الصلاة بعد إعادة الطهارة، فصحة الآثار عن الصحابة لا نقاش فيها، فإن ثبت الخلاف عن الصحابة كان الأمر واسعاً، وتقديم قول الصحابي الذي يوافق القياس أولى من غيره، وإن لم يثبت الخلاف بينهم، بحيث لا يعلم مخالف لقول من قال بالبناء، فإنا نقول به، ولو خالف القياس، لكن لا نتعداه إلى غيره، ولا
_________
(1) المصنف (1/13) .
(2) سبق تخريجه والكلام على طرقه في كتاب نواقض الوضوء: في الكلام على خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين.
(3) المصنف (2/13)
(4) سبق تخريجه والكلام عليه في كتاب نواقض الوضوء في الكلام على خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين.(12/407)
نقول به في وجود الماء أثناء الصلاة، وإنما يقتصر فقط على ما ورد عن الصحابة، والله أعلم.
الراجح من القولين:
بعد استعراض الأدلة نجد أن أقرب القولين إلى الصواب هو القول القائل بأنه يلزمه الخروج من الصلاة فإنه يعضده بعض النصوص المرفوعة كحديث أبي ذر رضي الله عنه، والله أعلم.(12/408)
المبحث الثالث:
إذا وجد المتيمم الماء بعد الفراغ من الصلاة
إذا تيمم، ثم صلى، وبعد فراغه من الصلاة وجد الماء، فإن كان وجود الماء بعد خروج وقت الصلاة فلا إعادة عليه إجماعاً.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تيمم صعيداً طيباً كما أمر الله، وصلى، ثم وجد الماء بعد خروج وقت الصلاة، لا إعادة عليه" (1) .
وإن وجد الماء قبل خروج وقت الصلاة، فهل تجب عليه إعادة الصلاة، أو تجزئه صلاته؟.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة،
فقيل: لا يجب عليه أن يعيد صلاته، وهو مذهب الجمهور (2) ، إلا أن المالكية استحبوا له الإعادة ما دام في الوقت، وحصل تقصير في طلب الماء (3) .
وقيل: يستحب له الإعادة مطلقاً، وهو قول في مذهب الحنابلة (4) ، وقول الأوزاعي رحمه الله تعالى (5) .
_________
(1) الأوسط (2/63) .
(2) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/110) ، بدائع الصنائع (1/58) .
وفي مذهب المالكية جاء في المدونة (1/45) : " قال مالك في الجنب، لا يجد الماء، فيتيمم، ويصلي، ثم يجد الماء بعد ذلك، قال: يغتسل لما يستقبل، وصلاته الأولى تامة ".
وانظر في مذهب الحنابلة: الفروع (1/232) ، كشاف القناع (1/177) .
(3) مواهب الجليل (1/357) ، الخرشي (1/196) ، مدونة الفقه المالكي وأدلته
(1/220) .
(4) الفروع (1/232) .
(5) الأوسط (2/63) ، تفسير القرطبي (5/234) .(12/409)
وقيل: إن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة نُظِر: فإن كان في الحضر أعاد الصلاة، وإن كان في السفر نظر: فإن كان في سفر طويل لم يلزمه الإعادة، وإن كان في سفر قصير، ففيه قولان: أشهرهما أنه لا يلزمه الإعادة، وهذا مذهب الشافعية (1) .
وقيل: تجب عليه الإعادة، وبه قال عطاء وطاووس والقاسم بن محمد، ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة (2) .
دليل من قال: لا يعيد صلاته:
الدليل الأول:
(1471-103) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن محمد ويحيى بن سعيد، عن نافع،
أن ابن عمر تيمم، وصلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان، ثم دخل المدينة، والشمس مرتفعة، فلم يعد (3) .
[إسناده صحيح، وسبق تخريجه] (4) .
الدليل الثاني:
أن من تيمم، وصلى، وفرغ من صلاته قبل وجود الماء فقد فعل ما أمر به شرعاً، ومن أوجب عليه الإعادة فإنه يطالب بحجة من كتاب الله، أو من
_________
(1) المهذب (1/36) ، المجموع (2/350) ، حلية العلماء (1/208) ، مغني المحتاج (1/101) ، منهاج الطالبين (ص:7) ، السراج الوهاج (ص: 644) .
(2) انظر المجموع (2/354) ، المغني (1/153) ، الأوسط لابن المنذر (2/63) .
(3) المصنف (884) .
(4) سبق تخريجه وافياً، انظر رقم (1429، 1430، 1444) .(12/410)
سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من إجماع الصحابة، ولا يوجد حجة على بطلان عبادة كان صاحبها ممتثلاً الأمر الشرعي فيما فعل.
الدليل الثالث:
(1472-104) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن إسحق المسيبي، أخبرنا عبد الله ابن نافع، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء ابن يسار،
عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين (1) .
[رجح أبو داود أن الحديث مرسل، وأن ذكر أبي سعيد ليس بمحفوظ] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (338) .
(2) ومن طريق محمد بن إسحاق أخرجه الدارمي (744) ، والطبراني في الأوسط
(1842) .
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الليث متصل الإسناد إلا عبد الله، تفرد به المسيبي.
قلت لم يتفرد به المسيبي، فقد أخرجه النسائي في السنن (433) أخبرنا مسلم بن عمرو ابن مسلم.
وأخرجه الطبراني نفسه في الأوسط (7922) من طريق يحيى بن المغيرة.
وأخرجه الحاكم (632) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/231) من طريق عمير بن مرداس، ثلاثتهم عن عبد الله بن نافع به.
وقد اختلف في إسناده على ثلاثة طرق:
الطريق الأولى: قيل: عبد الله بن نافع، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، وسبق تخريج هذا الطريق.
الطريق الثانية: قيل: الليث بن سعد، عن عميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
رواه النسائي في السنن (433) والدارقطني في سننه (1/189) من طريق عبد الله بن المبارك.
والبيهقي في السنن (1/231) من طريق يحيى بن بكير، عن الليث به.
فأدخلا بين الليث بن سعد وبكر بن سوادة عميرة بن أبي ناجية، وجعلاه مرسلاً.
لكن رواه أبو علي بن السكن كما في كتاب الوهم والإيهام (2/434) ، قال: حدثنا أبو بكر بن أحمد الواسطي، قال: حدثنا عباس بن محمد، قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: نبأني الليث بن سعد، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد. اهـ
قلت: هذه الرواية شاذة، والوهم قد يكون من أبي الوليد أو ممن دونه، وهي مخالفة لرواية الثقات عن الليث، كرواية يحيى بن بكير، وعبد الله بن المبارك.
الطريق الثالثة: قيل: عن عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد، عن عطاء بن يسار مرسلاً أيضاً.
وهذا الطريق تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد أدخل بين بكر بن سوادة وبين عطاء ابن يسار مولى إسماعيل بن عبيد.
فهذه ثلاثة اختلافات في إسناده، وقد رجح أبو داود والدارقطني الرواية المرسلة على غيرها.
قال الدارقطني في سننه (1/188) : تفرد به عبد الله بن نافع، عن الليث بهذا الإسناد متصلاً، وخالفه ابن المبارك وغيره.
قال أبو داود: وغير ابن نافع يرويه عن الليث، عن عميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو داود: وذكر أبى سعيد الخدري في هذا الحديث ليس بمحفوظ وهو مرسل، حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة، عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد، عن عطاء بن يسار، أن رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعناه. اهـ
قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/433) : " ففي هذا من كلام أبي داود بيان أمرين:
الأول: أن ذكر أبي سعيد وهم، فهو إذن مرسل من مراسيل عطاء.
والآخر: أن بين الليث وبين بكر بن سوادة عميرة بن أبي ناجية، فلم يذكر أبو محمد هذا الانقطاع الذي بين الليث وبين بكر.
فإن قلت: هو قد قنع به مرسلاً، والمرسل متصل إلى عطاء بن يسار، بزيادة عميرة بن أبي ناجية، فلعله الذي أورد، وإياه قصد.
فالجواب أن نقول: هو إذن قد ترك أن يبين أنه مرسل، في إسناده رجل مجهول، وذلك أن عميرة بن أبي ناجية مجهول الحال، فإذا لم يبين ذلك فقد أوهم أنه لا عيب له إلا الإرسال".
والأظهر أنه لم يرد شيئاً من ذلك، ولا أعتقد فيه إلا أنه إذا سقط منه ذكر أبي سعيد، بقي من رواية الليث، عن بكر، عن عطاء مرسلاً على نحو ما رواه ابن المبارك، ذَكَرَ روايته الدارقطني " ثم ساق إسناد الدارقطني، ولم يتفطن إلا أن النسائي قد ذكر رواية ابن المبارك أيضاً في سننه كما سبق ذكره.
ثم قال: " وإذا كان هذا هو الذي اعتقد، فلم يعتمد إلا منقطعاً فيما بين الليث وبكر، ولكنه لم يبينه، ولا أيضاً تبين له على نحو ينفعه، فإن المنقطع الذي اعتمد إنما وصله أبو داود عن رجل مجهول، وهو عميرة بن أبي ناجية، وأقول بعد هذا: إنه قد جاء من رواية أبي الوليد الطيالسي، قال: نبأني الليث بن سعد، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية، عن بكر ابن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... فذكر الحديث، ذكره أبو علي بن السكن... " وذكر ما نقلنا إسناده عنه قبل قليل.
ثم قال: " فهذا اتصال ما بين الليث وبكر بعمرو بن الحارث، وهو ثقة، قرنه بعميرة، ووصله بذكر أبي سعيد.
فإن قيل: فكيف بما روى ابن لهيعة في هذا، عن بكر بن سوادة، عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد، عن عطاء بن يسار، أن رجلين، هكذا مرسلاً، أليس هذا يعطي انقطاعاً آخر فيما بين بكر وعطاء برجل مجهول، وهو أبو عبد الله مولى إسماعيل.
قلنا: هذا لا يلتفت إليه؛ لضعف رواية ابن لهيعة. وقد تبين المقصود أن أبا محمد ذكر الإرسال، ولم يذكر الانقطاع فاعلمه ". اهـ
وقال الحافظ في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (1/70) : " أخرجه أبو داود والحاكم، وأعل بالإرسال ".(12/411)
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بأن ترك الإعادة من إصابة السنة، فمن علم السنة لزمه الأخذ بها، وعدم مخالفتها، وأما من صلى مجتهداً لا يعلم السنة في هذا، فله أجران بمجوع الاجتهادين: أجر على صلاته بالتيمم، وأجر على إعادة صلاته بالماء.
الدليل الرابع:
القياس، فكما أن من صلى جالساً لعلة، ثم فرغ من صلاته، ثم قدر على القيام في الوقت لا يعيد صلاته، فكذلك من صلى بالتيمم في وقت لم يوجد فيه الماء، ولم يكن قادراً على استعماله فإنه لا يعيد، ولو قدر على ذلك بعد فراغه من الصلاة، وفي الوقت.
دليل من فرق بين الحضر والسفر:
الشافعية بنوا تعليلهم على قول ضعيف، وهو أن الرجل إذا عدم الماء في الحضر تيمم وصلى، فإذا قدر على الماء وجب عليه إعادة الصلاة التي صلاها؛(12/414)
لأن فقد الماء في الحضر عذر نادر، فألزموه أن يصلي الظهر مرتين: مرة بالتيمم، ومرة حين وجود الماء، فإذا كانت صلاته بالتيمم ليست مغنية له عن إعادة الصلاة، ولم تبرأ ذمته بذلك فلماذا الصلاة بالتيمم، وإن كان قد فعل ما أمر به، فقد برئت ذمته، فلماذا الإعادة، وسبق مناقشة هذا القول وبيان ضعفه، فإذا وجد الماء بعد الصلاة، فإن كانت تلزمه إعادة الصلاة حسب مذهبهم، بطلت صلاته؛ لأنه لما كانت الإعادة واجبة عليه، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة، وإن كانت لا تلزمه الإعادة، لم تبطل صلاته، ولم يجب عليه إعادتها. وهذا التفصيل ضعيف؛ لأنه بني على قول ضعيف من وجوب الإعادة على المتيمم في الحضر، والله أعلم.
دليل من قال: يستحب له الإعادة:
لعلهم استحبوا له الإعادة خروجاً من خلاف من أوجب عليه الإعادة، والحقيقة أن الخروج من الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها، والاستحباب حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي من كتاب الله، أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
دليل من قال: يجب عليه الإعادة:
لم أقف على دليل لهذا القول في الكتب التي رجعت إليها، وكتب الخلاف التي وقفت عليها تذكر قولهم، ولا تسوق دليلهم، وهل يمكن أن يستدل له بحديث المسيء في صلاته، بقوله: " ارجع فصل فإنك لم تصل" (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري (757) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة.(12/415)
وجه الاستدلال:
أن المسيء في صلاته لم يكلفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إعادة تلك الصلوات التي لم يحسن صلاتها، وقد خرج وقتها، وخاطبه بإعادة الصلاة الحالية التي لم يزل وقتها قائماً، فهل يمكن أن يقال: يؤخذ من الحديث وجوب الإعادة ما دام الوقت قائماً.
والحديث ليس فيه دليل؛ وذلك لأن المسيء في صلاته لم يمتثل الأمر الشرعي، بخلاف المتيمم الذي صلى بتيممه فقد كان ممتثلاً أمر ربه، بقوله
{فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) ، فيكف يطالب بالإعادة، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين ردده ليعيد الصلاة ربما لم يكن لأجل الإعادة، فقد تكون الصلاة من قبيل النافلة، وكان بإمكانه تعليمه من أول مرة، وإنما ردده ليستشعر قدر حاجته إلى معرفة الصواب، وهذا الذي دفعه لأن يقول: "والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني " (2) ، ولم ينقل أنه حين علمه الصواب رجع فصلى.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض الأقوال والأدلة نجد أن القول بعدم إعادة الصلاة هو أقوى الأقوال، لقوة دليله وضعف أدلة المخالفين، والله أعلم.
_________
(1) المائدة: 6,
(2) سبق تخريجه، انظر العزو السابق.(12/416)
الفصل الثالث:
خروج الوقت
تكلمنا في شروط التيمم للصلاة اشتراط دخول وقت الصلاة عند الجمهور، وأنه لا يصح التيمم قبل دخول الوقت، والآن نتناول تأثير خروج وقت الصلاة على صحة التيمم، فإذا تيمم للصلاة، فهل يبطل التيمم بخروج الوقت، في هذا خلاف بين أهل العلم،
فقيل: لا يبطل التيمم خروج الوقت، فإذا تيمم له أن يصلي ما لم يحدث أو يجد الماء، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يبطل التيمم بخروج الوقت، وهو المشهور مذهب الحنابلة (2) .
وأما مذهب المالكية والشافعية وإن لم ينصوا على أن خروج الوقت مبطل للتيمم إلا أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث منعوا صلاة فريضتين بتيمم واحد (3) ، واشترط المالكية الموالاة بين التيمم والصلاة، فإن وجد فاصل
_________
(1) المبسوط (1/113) ، الهداية (1/27) ، بدائع الصنائع (1/55) ، تحفة الفقهاء (1/46) ، نور الإيضاح (ص: 27) ، تبيين الحقائق (1/40) .
(2) قال ابن قدامة في عمدة الفقه (ص: 11) : " وإن تيمم لفريضة، فله فعلها، وفعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها ".
(3) انظر في مذهب المالكية: انظر التمهيد (19/294-295) ، المقدمات (1/117) ، التهذيب في مختصر المدونة (1/214) ، المعونة (1/149) .
وفي مذهب الشافعية: جاء في الأم (1/47) : " وإن كان قد فاتته صلوات استأنف التيمم لكل صلاة منهما، كما وصفت، لا يجزيه غير ذلك، فإن صلى صلاتين بتيمم واحد، أعاد الآخرة منهما؛ لأن التيمم يجزيه للأولى، ولا يجزيه للآخرة ".
وقال في كتاب البيان في مذهب الشافعي (1/316) : " وإن كان عليه صلوات فوائت، وأراد أن يقضيها في وقت واحد، وهو عادم للماء، قال الشيخ أبو حامد: فإنه يطلب الماء للأولى، ويتمم، ويصليها، فإذا أراد أن يصلي الثانية أعاد الطلب لها، ثم يتيمم، وكذلك الثالثة والرابعة وإن كان في موضع واحد؛ لأن ذلك شرط في التيمم ".(12/417)
طويل بين التيمم والصلاة بطل تيممه، وهذا القول أبلغ من اعتبار خروج الوقت مبطلاً للتيمم (1) .
وسبب الخلاف بين الجمهور وبين الحنفية في المسألة اختلافهم في التيمم، هل هو رافع للحدث، أو مبيح لفعل المأمور مع قيام الحدث؟ .
يقول الكاساني الحنفي رحمه الله تعالى:» قال أصحابنا: إن التيمم بدل مطلق، وليس ببدل ضروري، وعنوا به أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤادة، لا أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث، وقال الشافعي: التيمم بدل ضروري، وعنى به أن يباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة كطهارة المستحاضة «ثم قال:» وعلى هذا الأصل يبنى التيمم قبل دخول الوقت، أنه جائز عندنا، وعند الشافعي لا يجوز؛ لأنه بدل مطلق عند عدم الماء، فيجوز قبل دخول الوقت وبعده، وعنده بدل ضروري، فتتقدر بدليته بقدر الضرورة، ولا ضرورة قبل دخول الوقت، وعلى هذا يبنى أنه إذا تيمم في الوقت يجوز له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث عندنا، وعنده لا يجوز له أن يؤدي به فرضاً آخر غير ما تيمم لأجله « (2) .
_________
(1) قال في الشرح الصغير (1/199-200) : " ومما يبطله - يعني التيمم - طول الفصل بينه وبين الصلاة، كما علم من الموالاة ". وانظر الخلاصة الفقهية (ص: 40) .
(2) بدائع الصنائع (1/55) .(12/418)
وقد بنى الحنابلة دليلهم على أمرين:
الأول: أن التيمم طهارته طهارة ضرورة، فتقدر بقدرها. وأنه يبيح فعل الصلاة، ولا يرفع الحدث.
وقد ناقشت في مسألة مستقلة: هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث في مسألة مستقلة، وذكرنا أدلة الخلاف، والراجح فيها، فأغنى عن إعادته هنا، كما ناقشت في مسألة مستقلة: فيما إذا تيمم للصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، هل له أن يصلي به فريضة أو نافلة أخرى، أو يجب أن يتيمم لكل صلاة؟ وذكرت أدلة الأقوال مع مناقشتها وبيان الراجح فأغنى عن إعادته هنا أيضاً.
وقد تبين لنا من كل هذه المسائل أن التيمم بدل عن طهارة الماء، وأنه يرفع الحدث، وأن له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل، سواء تيمم قبل الوقت، أو تيمم في الوقت وخرج عليه الوقت، وأن خروج الوقت ليس بناقض له.
الأمر الثاني:
القياس على طهارة المستحاضة، فكما أن المستحاضة طهارتها طهارة ضرورة، وقد أمرت أن تتوضأ لكل صلاة، فكذلك المتيمم يجب عليه أن يتطهر لوقت كل صلاة عند الحنابلة، أو لكل صلاة كما عند الشافعية والمالكية.
ودليل المستحاضة عندهم:
(1473-105) ما رواه البخاري من طريق أبي معاوية، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:(12/419)
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي.
قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (1) .
[زيادة قال هشام: قال أبي، الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (2) .
ويجاب بأمور:
الأول: أن أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة موقوف على عروة.
ثانياً: أن المرفوع من الأحاديث بأمر المستحاضة لكل صلاة، لا يثبت منها شيء.
_________
(1) صحيح البخاري (228) .
(2) وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/72) : والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة " اهـ كلام ابن رجب.
وقال ابن رجب أيضاً (2/73) : " أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة، وهي مضطربة ومعلله ".
وقد خرجت طرق هذا الحديث، وبينت أن قول عروة: " توضئي لكل صلاة " من كلام عروة، وليس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل من كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم 473، وكتابي آداب الخلاء، في الاستنجاء من الحدث الدائم، رقم: 414، وكتاب الوضوء: فرائض وسننه ونواقضه: في فصل: مسببات الحدث، المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة، فأغنى عن إعادته هنا.(12/420)
قال ابن رجب: " أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة، وهي مضطربة ومعللة " (1) .
ولهذا لم يذهب مالك بوجوب الوضوء على المستحاضة،
قال ابن عبد البر: " والوضوء عليها - أي على المستحاضة - عند مالك على الاستحباب دون الوجوب، وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي " ولم يذكر وضوءاً، قال: " وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة ومالك وأيوب وطائفة " (2) .
ثالثاً: لو أخذتم بالقياس على وجوب الوضوء على المستحاضة، للزم الحنابلة القول بوجوب الوضوء لكل صلاة، كما هو مذهب الشافعية والمالكية، وذلك لأن الآثار الواردة في ذلك توجب على المستحاضة الوضوء لكل صلاة، وليس الوضوء لوقت كل صلاة، وبينهما فرق (3) .
_________
(1) شرح ابن رجب للبخاري (2/73) .
(2) المرجع السابق، والصفحة نفسها.
(3) حمل الحنابلة على أن قوله: " توضئي لكل صلاة " بأن المراد بكل صلاة بوقت كل صلاة، قالوا: وإطلاق الصلاة على الوقت جاء الدليل على صحته من القرآن والسنة:
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} الإسراء:78.
فقوله: {لدلوك الشمس} أي: لوقت دلوكها.
الدليل الثاني:
ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن سنان ـ هو العوقي ـ قال: حدثنا: هشيم (ح)
قال: وحدثني سعيد بن النضر، قال: أخبرنا هشيم، قال أخبرنا سيار، قال حدثنا يزيد ـ هو ابن صهيب الفقير ـ قال: أخبرنا جابر بن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ". ورواه مسلم (521) ، واللفظ للبخاري (335) .
وجه الاستدلال:
قوله: " أدركته الصلاة " أي أدركه وقت الصلاة.
الدليل الثالث:
ما رواه أحمد (6/332) ، قال: ثنا محمد بن فضيل، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس ".
وجه الاستدلال:
قوله: " إن للصلاة أولاً وآخراً ". أي إن لوقت الصلاة، فأطلقت الصلاة وأريد بها الوقت.
والحديث ضعيف والمحفوظ أنه مرسل ووصله شاذ، وسبق بحثه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، انظر رقم: 479.
وأما حمل الأمر بالوضوء لكل صلاة: أي لوقت كل صلاة، فيحتاج الأمر إلى دليل على أن المراد الوقت، وليس خروج الوقت حدثاً، ويكفي أن حملهم خلاف ظاهر اللفظ بلا مسوغ.
والجواب عما قالوه رحمهم الله: إن إطلاق الصلاة قد يطلق ويراد بذلك الوقت إذا صح إنما يصح لقرينة تمنع من إرادة الصلاة نفسها، وإلا فالأصل في الكلام عدم الحذف وعدم التقدير، ولا قرينة هنا تمنع من إرادة الصلاة، أي فعلها، فوجب حمل اللفظ على ظاهره وهذا لو قلنا بصحة أحاديث وضوء المستحاضة لكل صلاة، ولكنها لم تصح كما قدمنا.(12/421)
وإذا لم يجب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة، كان القول ببطلان التيمم بخروج الوقت قياساً على المستحاضة قياس غير صحيح، وبهذا يتبين أن القول ببطلان التيمم بخروج الوقت قول ضعيف، والله أعلم.
وبهذه المسألة نكون قد أنيهنا مبطلات التيمم، وبه نكون قد أنهينا الكلام على التيمم، بل وعلى طهارة الحدث من وضوء وغسل وبدلهما، وهو التيمم، فلله الحمد أولاً وآخراً، اللهم كما يسرت هذا البحث بفضلك ومَنِّك وكرمك، من غير حول مني ولا قوة إلا بك سبحانك، فتقبله مني، واجعله خالصاً لوجهك، لا أبتغي به إلا رضاك، ودفع سخطك، اللهم كفر به زلاتي، وارفع به درجاتي، وصحح به نياتي، واستر به عيوبي، اللهم إني أعوذ بك أن أقصد به أو بغيره من أعمال الآخرة شيئاً من حظ الدنيا مما يحبط به عملي، ويوجب غضبك عليَّ، اللهم ارزقني شكر نعمتك التي أنعمت علي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، اللهم علمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني، واجعله حجة لي، ولا تجعله حجة علي، آمين آمين، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وسلم.(12/423)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،
لما وفق الله سبحانه وتعالى من إتمام البحث في طهارة الحدث، الأصغر والأكبر - فانتهيت من كتاب الوضوء: فرائضه وسننه ونواقضه والمسح على الحائل في ثلاثة مجلدات، وانتهيت من كتاب الغسل في مجلد كبير، ومن كتاب التيمم في مجلد مستقل، وكل هذه المباحث تعنى في طهارة الحدث، سواء بالماء، أو ببدله: التراب - ناسب أن أنتقل بحول الله وقوته إلى طهارة أخرى، وهي الطهارة من الخبث، (النجاسة) وهذا يستلزم أن نتعرف على الأعيان النجسة ونحرر خلاف العلماء فيها، ثم نتطرق إلى كيفية الطهارة الشرعية منها، ولا حاجة إلى ذكر منهج البحث، لأن هذا قد تم التنبيه عليه في الكتب السابقة، وستكون خطة البحث على النحو التالي إن شاء الله تعالى.
خطة البحث:
مقدمة الكتاب: وتشتمل على ثلاثة مباحث.
المبحث الأول: في تعريف النجاسة.
المبحث الثاني: الأصل في الأشياء الطهارة.
المبحث الثالث: في أقسام النجاسات.
في الأعيان النجسة: ويشتمل على أربعة أبواب.
الباب الأول: فيما فيه حياة حيوانية
الفصل الأول: في طهارة بني آدم.(13/3)
المبحث الأول: في طهارة المسلم.
المبحث الثاني: في طهارة المشرك.
المبحث الثالث: في طهارة الميت من بني آدم.
الفصل الثاني: في الحيوان حال الحياة.
المبحث الأول: في حيوان مأكول اللحم.
المبحث الثاني: في الجلالة.
المبحث الثالث: في الحيوان محرم الأكل.
الفرع الأول: فيما ليس له نفس سائلة.
الفرع الثاني: في الحيوان الذي له نفس سائلة.
المسألة الأولى: في الهر وما دونه في الخلقة.
المسألة الثانية: في الحيوان المركوب كالحمار والبغل.
المسألة الثالثة: في نجاسة الكلب.
المسألة الرابعة: في نجاسة الخنزير.
المسألة الخامسة: في نجاسة سباع البهائم والطير.
الباب الثاني: في فضلات الحيوان
الفصل الأول: في البول والغائط والروث
المبحث الأول: في بول الآدمي وعذرته
الفرع الأول: في بول الصبي.
الفرع الثاني: ذكر العلة التي أوجبت التفريق بين بول الغلام والجارية.(13/4)
الفرع الثالث: في البول والغائط من الآدمي الكبير.
المبحث الثاني: في بول وروث الحيوان.
الفرع الأول: في بول ورث الحيوان المأكول.
الفرع الثاني: في بول وروث الحيوان غير المأكول.
الفصل الثاني: من المني والمذي والودي من الحيوان.
المبحث الأول: في مني الإنسان.
الفرع الأول: في المني الخارج بعد الاستجمار.
الفرع الثاني: في طهارة ماء المرأة.
المبحث الثاني: في مني الحيوان.
المبحث الثالث: في المذي.
الفرع الأول: في مذي الإنسان.
الفرع الثاني: في مذي الحيوان غير الآدمي.
المبحث الرابع: في نجاسة الودي.
الفصل الثالث: في حكم الدم.
المبحث الأول: في نجاسة دم الحيض.
المبحث الثاني: في نجاسة دم الإنسان من عرق ونحوه.
المبحث الثالث: في دم الشهيد.
المبحث الرابع: علقة الحيوان الطاهر.
المبحث الخامس: في دم القلب واللحم والباقي في العروق بعد الذبح من الحيوان المأكول.
المبحث السادس: في دم الكبد والطحال.(13/5)
المبحث السابع: في دم السمك.
الفصل الرابع: في القيء.
الفصل الخامس: في حكم القلس.
الفصل السادس: في رطوبة فرج المرأة.
الفصل السابع: في اللبن.
المبحث الأول: في طهارة لبن الآدمي الحي.
المبحث الثاني: في طهارة لبن الآدمي الميت.
المبحث الثالث: في لبن البهيمة المأكولة حال الحياة أو بعد التذكية الشرعية.
المبحث الرابع: في لبن البهيمة المأكولة الميتة.
الفصل الثامن: في القيح والصديد.
الفصل التاسع: في بيض الحيوان.
المبحث الأول: في بيض مأكول اللحم.
المبحث الثاني: في بيض غير مأكول اللحم.
المبحث الثالث: في البيض الفاسد.
المبحث الرابع: سلق البيض بماء نجس.
الباب الثالث: في الآسار.
الفصل الأول: في سؤر الآدمي.
الفصل الثاني: في طهارة سؤر الحيوان مأكول اللحم.(13/6)
الفصل الثالث: في طهارة سؤر الحيوان غير مأكول اللحم.
المبحث الأول: في سؤر الهرة وما دونها في الخلقة.
المبحث الثاني: في طهارة سؤر البغل والحمار.
المبحث الثالث: في سؤر سباع البهائم والطير.
المبحث الرابع: في سؤر الخنزير.
المبحث الخامس: في سؤر الكلب.
الباب الرابع: في أحكام الميتة.
الفصل الأول: في الميتة الطاهرة.
المبحث الأول: في ميتة الآدمي.
المبحث الثاني: في ميتة ما لا نفس له سائلة.
المبحث الثالث: في ميتة البحر.
الفصل الثاني: في الميتة النجسة.
الفصل الثالث: في أجزاء الميتة.
المبحث الأول: في عظم الميتة وقرنها وحافرها.
المبحث الثاني: في شعر الميتة وريشها ووبرها.
المبحث الثالث: في جلد الميتة.
المبحث الرابع: في عصب الحيوان.
المبحث الخامس: في لبن الميتة.
الفرع الأول: في لبن الآدمي الميت.
الفرع الثاني: في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم.
المبحث السادس: في بيض الحيوان الميت.
المبحث السابع: في أنفحة الميتة.(13/7)
الباب الخامس: في الجمادات.
الفصل الأول: في طهارة الخمر.
الفصل الثاني: في حكم الطيب الموجود فيه كحول.
الفصل الثالث: في الحشيشة المسكرة.
الباب السادس: في حكم الطهارة من النجاسة.
الفصل الأول: في حكم إزالة النجاسة.
الفصل الثاني: في الصلاة مع التلبس بالنجاسة.
الفصل الثالث: هل التطهر من النجاسة على الفور أم على التراخي.
الفصل الرابع: في اشتراط النية في إزالة النجاسة.
الفصل الخامس: فيما يعفى عنه من النجاسات.
مبحث: المعفو عنه هل هو طاهر حقيقة أم حكماً.
الفصل السادس: في مذاهب العلماء في العفو عن النجاسات.
الفصل السابع: فيما يحرم استعماله في إزالة النجاسة.
المبحث الأول: إزالة النجاسة بالكتب الشرعية.
المبحث الثاني: في إزالة النجاسة بالأطعمة.
المبحث الثالث: إزالة النجاسة بالعظام والروث.
الباب السابع: في كيفية إزالة النجاسة.
الفصل الأول: في إزالة النجاسة بالماء.(13/8)
المبحث الأول: في مشروعية إزالة النجاسة بالماء.
المبحث الثاني: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة.
المبحث الثالث: هل يجب تكرار الغسل في إزالة النجاسة.
المبحث الرابع: في بقاء لون أو رائحة النجاسة بعد التطهير.
المبحث الخامس: إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء.
المبحث السادس: في اشتراط عصر الثياب النجسة عند غسل النجاسة.
المبحث السابع: في حكم الحت والقرص.
المبحث الثامن: في كيفية تطهير نجاسة المذي.
المبحث التاسع: في الكلام على غسالة النجاسة.
الفصل الثاني: في كيفية التطهير بالنضح.
المبحث الأول: في تطهير بول الذكر بالنضح.
المبحث الثاني: في تطهير المذي يصيب الثوب.
الفصل الثالث: في كيفية تطهير النجاسة بغير الماء.
المبحث الأول: في كيفية التطهير بالمسح.
الفرع الأول: تطهير الأشياء الصقيلة كالسيف والمرآة والسكين بالمسح.
الفرع الثاني: في مسح البول والغائط بالحجارة.
الفرع الثالث: في إزالة النجاسة بالمسح، هل هو مطهر حقيقة أو حكماً.
الفرع الرابع: في وجوب تكرار المسح في إزالة النجاسة.
المبحث الثاني: في التطهير بالدلك.(13/9)
المبحث الثالث: في التطهير بالجفاف.
المبحث الرابع: في التطهير بالاستحالة.
الفصل الرابع: في كيفية تطهير المائع المتنجس.
المبحث الأول: في كيفية تطهير الماء المتنجس.
الفرع الأول: أن يزول تغير الماء الكثير بنفسه.
الفرع الثاني: أن يزول تغير الماء بإضافة ماء آخر عليه.
الفرع الثالث: أن يزول تغير الماء النجس بإضافة تراب أو طين.
الفرع الرابع: أن يزول تغير الماء النجس عن طريق النزح.
المبحث الثاني: في تطهير المائعات سوى الماء.
الفصل الخامس: في كيفية تطهير الأرض المتنجسة.
الفصل السادس: في كيفية تطهير بعض النجاسات المخصوصة.
المبحث الأول: في كيفية التطهير من ولوغ الكلب.
الفرع الأول: في عدد الغسلات من نجاسة الكلب
الفرع الثاني: في وضع الصابون والأشنان بدلاً من التراب.
الفرع الثالث: في تعفير الإناء بتراب نجس.
الفرع الرابع: في كيفية الطهارة من بول الكلب ورجيعه.
الفرع الخامس: هل تقوم الغسلة الثامنة مقام التراب.
الفرع السادس: في صفة التطهير بالتراب.
المبحث الثاني: في كيفية التطهير من نجاسة الخنزير.(13/10)
هذا ما يسر الله سبحانه وتعالى دراسته من أحكام النجاسات، سائلاً المولى عز وجل بأسمائه وصفاته الحسنى كما تفضل علي بإنجازه، أن يمن علي بقبوله، وأن يجعله من عملي الصالح في حياتي وبعد موتي، وأن يرزق القبول من لدن طلبة العلم لينتفعوا به، وأن يجعل نيتي فيه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وحده، وخدمة ديني، وأن يرفع به الجهل عني، وعن إخواني من طلبة العلم، وأن يكون سبباً في التجاوز عن ذنوبي يوم العرض على الله سبحانه وتعالى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وكتبه أبو عمر دبيان بن محمد الدبيان
السعودية - القصيم - بريدة.(13/11)
[صفحة فارغة](13/12)
مقدمة الكتاب
المبحث الأول
تعريف النجاسة
قدم الفقهاء عدة تعريفات للنجاسة، وهم في ذلك يعرفون النجاسة تارة، ويعرفون حكم النجاسة تارة أخرى بقولهم: النجاسة وصف يمنع من كذا وكذا، وهناك فرق بين تعريف عينها، وبين تعريف حكمها، وقد اخترت من كل مذهب تعريفاً وقمت بشرحه وبيان محترزاته، والله الموفق.
تعريف الحنفية للنجاسة:
قالوا: النجاسة: عين مستقذرة شرعاً (1) .
فقولهم: " عين " خرج به الوصف، فإنه معنى من المعاني.
وقولهم: " مُستقذرة شرعاً " خرج به ما استقذر طبعاً، كالمخاط والبصاق، فإنهما مستقذران في عرف الناس وطبيعتهم، وإن كانا طاهرين شرعاً؛ وذلك لأن استقذارهم بالطبع والعرف، وليس بالشرع.
تعريف المالكية للنجاسة:
قالوا: صفة حكمية توجب لموصوفها منع جواز استباحة الصلاة به أو فيه (2) .
_________
(1) البحر الرائق (1/8) ، حاشية ابن عابدين (1/58) .
(2) حدود ابن عرفة (ص: 27) ، مواهب الجليل (1/43) ، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/32) .
وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/24) : تعريف النجاسة: صفة حكمية يمتنع بها ما استبيح بطهارة الخبث. والطاهر: الموصوف بصفة حكمية يستباح بها ما منعه الحدث أو حكم الخبث. اهـ
والتعريف قريب مما قدمناه في صلب الكتاب.(13/13)
وهذا تعريف النجاسة بحكمها، وما سبق تعريف للنجس، وبعض الأصوليين يمنعون تعريف الشيء بحكمه، فكونها تمنع استباحة الصلاة به، إن كانت محمولة أو فيه إن كانت في المكان، هذا حكم النجاسة، وليس تعريفاً لماهية النجاسة. وقد قال بعضهم:
وعندهم من جملة المردودِ... أن تدخل الأحكام في الحدودِ
ثم قد يعترض عليه باعتراض آخر: وهو الصلاة في الدار المغصوبة وكذلك الثوب المغصوب، فإنه قد قام به وصف يمنع من استباحة الصلاة فيه إن كان بالمكان، أو به، إن كان بالثوب، ولا يقال بنجاستهما، والله أعلم.
تعريف الشافعية:
قال المتولي: " حدها: كل عين حرم تناولها على الإطلاق مع إمكان التناول لا لحرمتها، زاد النووي: أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل، والله أعلم " (1) .
قال: وقولنا: (على الإطلاق) احتراز من السموم التي هي نبات, فإنها لا يحرم تناولها على الإطلاق, بل يباح القليل منها، وإنما يحرم الكثير الذي فيه ضرر. قال: وقولنا: (مع إمكان التناول) احتراز من الأشياء الصلبة; لأنه لا يمكن تناولها, وقولنا: (لا لحرمتها) احتراز من الآدمي.
_________
(1) المجموع (2/565) ، وانظر أسنى المطالب (1/9) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/78) ، تحفة المحتاج (1/287) .(13/14)
وما دفع النووي إلى هذه الزيادة قوله: وهذا الذي حدد به المتولي ليس محققاً فإنه يدخل فيه التراب والحشيش المسكر والمخاط والمني وكلها طاهرة مع أنها محرمة. وفي المني وجه أنه يحل أكله, فينبغي أن يضم إليها " لا لحرمتها أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل والله أعلم ".
وقال الزركشي في المنثور: واعلم أن ذا حد للنجس لا للنجاسة؛ فإن النجاسة حكم شرعي فكيف تفسر بالأعيان, وقال صاحب الإقليد: رسموها بحكمها الذي لا يعرف إلا بعد معرفتها لكل عين حرمت لا لمضرتها ولا تعلق حق الغير بها أو كل ما يبطل بملاقاته الصلاة (1) .
وعرف النجاسة بعض الشافعية بأنها: مستقذر يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص (2) .
تعريف الحنابلة:
قال المرداوي: " حد النجاسة كل عين حرم تناولها مع إمكانه , لا لحرمتها, ولا لاستقذارها , ولا لضرر بها في بدن أو عقل ". قاله في المطلع (3) .
قلت: هذا التعريف متفق مع التعريف الذي ارتضاه النووي من الشافعية.
هذه تقريباً أفضل التعريفات التي قدمها الفقهاء، والمتأمل لها يجد أن الفقهاء جعلوا علة النجاسة:
_________
(1) المنثور في القواعد الفقهية (3/248) .
(2) مغني المحتاج (1/77) .
(3) الإنصاف (1/25) .(13/15)
إما راجعاً إلى الاستقذار شرعاً، كالتعريف المختار عند الحنفية.
أو راجعاً إلى تحريم التناول، كالتعريف المختار عند الشافعية والحنابلة.
والحق أن الحكم للشيء بأنه نجس هو حكم متلقى من الشارع، لا مكان للاجتهاد في عين هل هي نجسة أو طاهرة، وذلك أن النجاسة على الصحيح معدودة لا محدودة.
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:
هناك وجه شبه بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للنجس.
فالنجس في لغة العرب: ضد النظافة والطهارة، فكل شيء يستقذر فهو نجس، وفي الشرع النجاسة: مستقذر مخصوص كالبول ونحوه.
فالمخاط والبصاق مثلاً قذر لغة، وليس قذراً شرعاً، والبول قذر لغة وشرعاً.
قال في المصباح المنير: نَجِسَ الشَّيْءُ نَجَسًا فَهُوَ نَجِسٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ إذَا كَانَ قَذِرًا غَيْرَ نَظِيفٍ.
وَنَجَسَ يَنْجُسُ مِنْ بَابِ قَتَلَ لُغَةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنَجُسَ خِلاَفُ طَهُرَ، وَمَشَاهِيرُ الْكُتُبِ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقَذَرَ قَدْ يَكُونُ نَجَاسَةً فَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا وَالاسْمُ النَّجَاسَةُ وَثَوْبٌ نَجِسٌ بِالْكَسْرِ اسْمُ فَاعِلٍ وَبِالْفَتْحِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ، وَقَوْمٌ أَنْجَاسٌ، وَتَنَجَّسَ الشَّيْءُ، وَنَجَّسْتُهُ. وَالنَّجَاسَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: قَذَرٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ مَا يَمْنَعُ جِنْسُهُ الصَّلاةَ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ (1) .
_________
(1) المصباح المنير (ص: 594) .(13/16)
المبحث الثاني
الأصل في الأشياء الطهارة
هذا أصل عظيم من أصول الشريعة، يحتاج إليه الفقيه في كثير من الأعيان المختلف في طهارتها.
قال ابن حزم: " من ادعى نجاسة أو تحريماً لم يصدق إلا بدليل من نص قرآن أو سنة صحيحة" (1) .
وقد دل على هذا أدلة كثيرة منها:
من الكتاب قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض
جميعاً} (2) .
قال الكاساني: أباح الانتفاع بالأشياء كلها, ولا يباح الانتفاع إلا بالطاهر (3) .
وقال في مغني المحتاج: " اعلم أن الأعيان جماد وحيوان, فالجماد كله طاهر; لأنه خلق لمنافع العباد, ولو من بعض الوجوه. قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} وإنما يحصل الانتفاع أو يكمل بالطهارة إلا ما نص الشارع على نجاسته " (4) .
وقال تعالى: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (5) .
_________
(1) المحلى (مسألة: 394) .
(2) البقرة: 29.
(3) بدائع الصنائع (1/65) .
(4) مغني المحتاج (1/77) ، وانظر أسنى المطالب (1/9) ، حاشية البجيرمي (1/103) .
(5) الأنعام: 119.(13/17)
وجه الدلالة من الآية:
أن الله سبحانه وتعالى بين لنا أنه قد فصل لنا ما حرم علينا: والتفصيل: هو التبيين، ومعنى هذا أنه بيَّن المحرمات، فما لم يبيِّن تحريمه فليس بمحرم، وما ليس بمحرم فهو حلال، وكل حلال لنا فهو طاهر.
وقد ذكر ابن تيمية: أن الطاهر ما حل ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة، والنجس بخلافه (1) .
وقال القرافي: والطهارة ترجع للإباحة (2) .
(1473-1) وأما الآثار، فمنها ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن داود بن صبيح، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا محمد يعني ابن شريك المكي، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء،
عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو وتلا {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} (3) ، إلى آخر الآية (4) .
[إسناده صحيح] (5) .
_________
(1) بتصرف مجموع فتاوى ابن تيمية (21/536، 541) .
(2) الفروق (2/35) .
(3) الأنعام: 145.
(4) سنن أبي داود (3800) .
(5) وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1404) رقم: 8000، والطحاوي في شرح مشكل الآثار على إثر حديث (754) ، والحاكم (4/115) والمقدسي في الأحاديث المختارة (504) من طريق الفضل بن دكين به.
وأخرجه ابن حزم في المحلى (7/436) من طريق أحمد بن الهيثم، نا محمد بن شريك به.
وأخرجه البيهقي (9/330) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار به. وفيه قصة.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/259) عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن ابن عباس.
وانظر إتحاف المهرة (7252) ، وتحفة الأشراف (5368) .
وله شاهد من حديث أبي الدرداء، ومن حديث سلمان رضي الله عنهما،
أما حديث أبي الدرداء فقد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2102) ، قال: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة، ثنا أبي، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته {وما كان ربك نسياً} .
وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (123) من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا إسماعيل بن عياش به.
قال البزار: إسناده صالح.
وأخرجه الدارقطني في السنن (2/137) ، والبيهقي في السنن (10/12) من طريق أبي نعيم، ثنا عاصم بن رجاء به. وهذه متابعة لإسماعيل بن عياش.
وعلة هذا الحديث الانقطاع؛ فإن رجاء بن حيوة لم يسمع من أبي الدرداء.
انظر تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل (259) ، وجامع التحصيل (ص: 175) .
وله شاهد من حديث سلمان رضي الله عنه، أخرجته في الكلام على إنفحة الميتة، حديث رقم (1629) .(13/18)
وأما الإجماع، فقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: " الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولون فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل، وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك " (1) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/542، 591) .(13/19)
وقال أيضاً: " الأصل الجامع: طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر " (1) .
وأما البراءة الأصلية: قال الشوكاني: حق استصحاب البراءة الأصلية، وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل، فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك، وإن عجز عنه، أو جاء بما لا تقوم به الحجة، فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة" (2) .
وقال الشوكاني: " الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم، والأصل البراءة من ذلك، ولا سيما في الأمور التي تعم بها البلوى" (3) .
وبناء على هذه القاعدة الجليلة المهمة التي سنحتاج إليها كثيراً في بحثنا هذا، وذلك أنه إذا وقع نزاع في شيء، هل هو طاهر أو نجس؟ نطالب من قال بالنجاسة بالدليل من الكتاب، أو من السنة، أو من الإجماع، أو من القياس الصحيح، أو من قول صحابي لم يخالف، فإن أثبت لنا حجته، وإلا حكم للشيء بالطهارة، ولا نحتاج إلى دليل على طهارة هذه العين، والله أعلم.
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/536) .
(2) السيل الجرار (1/31) .
(3) الدراري المضية (1/27) .(13/20)
المبحث الثالث
أقسام النجاسات
لما كان الكلام على تقسيم النجاسة إنما هو اصطلاح فقهي، فقد اختلفت المذاهب في تقسيم النجاسات،
فالحنفية: يقسمون النجاسة: إلى حقيقية وحكمية.
فالحقيقية: هي نجاسة الخبث، ويقسمونها إلى مرئية كالدم، وغير مرئية كالبول إذا جف مثلاً.
والحكمية: هي نجاسة الحدث.
وهذا بناء على مذهبهم في الحدث وأنه نوع من النجاسة، ولذلك فالماء المستعمل في رفع الحدث نجس عندهم على قول في مذهبهم كما بيناه سابقاً (1) .
كما يقسم الحنفية النجاسة إلى مغلظة ومخففة:
فالمغلظة عند أبي حنيفة: ما ورد فيها نص لم يعارض بنص آخر، فإن عورض بنص آخر فمخففة.
مثاله: دم الحيض نجس مغلظ لورود النص على نجاسته، ولم يعارض بنص آخر.
بينما بول ما يؤكل لحمه نجس مخفف؛ لأن حديث " استنزهوا من البول" (2) ، يدل على نجاسته، وحديث العرنيين، حيث أذن لهم بشرب أبوال
_________
(1) ذكرنا أدلتهم والجواب عليها في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية) في بحث الماء المستعمل في رفع الحدث.
(2) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى في ذكر خلاف أهل العلم في نجاسة أبوال ما يؤكل لحمها.(13/21)
الإبل يدل على طهارته، فلما عورض بنص آخر دل على أن نجاسته مخففة.
وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن النجاسة المغلظة ما أجمع على نجاسته، والمخففة ما اختلف الأئمة في نجاسته.
فروث ما يؤكل لحمه مغلظة عند أبي حنيفة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إنها ركس" (1) ، ولم يعارض بنص آخر.
والروث عند صاحبيه مخفف لقول مالك وأحمد بطهارته (2) .
وذهب الشافعية والحنابلة إلى تقسيم النجاسة باعتبار كيفية تطهيرها إلى ثلاثة أقسام:
أ - مغلظة: وهي نجاسة الكلب والخنزير وما تولد منهما، فتحتاج إلى التسبيع والتتريب، بخلاف غيرها من النجاسات.
ب ـ مخففة: وهي طهارة بول الرضيع الذكر، ويكفي في طهارتها النضح.
جـ - متوسطة: وهي سائر النجاسات.
كما قسم الشافعية والحنابلة النجاسة إلى قسمين:
نجس العين: وهي النجاسة التي لا تطهر بحال إلا الخمر، فتطهر بالتخلل.
ونجاسة حكمية: وهي النجاسة الطارئة على محل نجس (وهو ما يسمى بالمتنجس) .
وعلى هذا فتكون النجاسة إما نجساً أو متنجساً، فالنجس لا يطهر بحال، والمتنجس ما يمكن تطهيره (3) .
_________
(1) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى، انظر خلاف أهل العلم في نجاسة بول ما يؤكل لحمه.
(2) انظر حاشية ابن عابدين (1/318) ، البحر الرائق (1/240) .
(3) مغني المحتاج (1/83) ، روضة الطالبين (1/27) ، كشاف القناع (1/58) .(13/22)
وقال النووي: الحكمية: هي التي تيقن وجودها ولا تحس كالبول إذا جف على المحل، ولم يوجد له رائحة ولا أثر، فيكفي إجراء الماء على المحل مرة.
وأما العينية: فلا بد من محاولة إزالة ما وجد منها من طعم ولون وريح (1) .
وهذه التقاسم هي تقاسيم اصطلاحية كما سبق، تارة ترجع إلى ذات النجاسة، وتارة ترجع إلى كيفية تطهيرها، ولا مشاحة في الاصطلاح، والله أعلم.
_________
(1) روضة الطالبين (1/28) .(13/23)
[صفحة فارغة](13/24)
في الأعيان وحكمها من حيث الطهارة والنجاسة
وينقسم إلى أربعة أبواب:
الباب الأول
فيما فيه حياة حيوانية
الباب الثاني
في فضلات الحيوان
الباب الثالث
في الميتة
الباب الرابع
في الجماد(13/25)
[صفحة فارغة](13/26)
الباب الأول
فيما فيه حياة حيوانية
الفصل الأول
في طهارة بني آدم
المبحث الأول
في طهارة المسلم المحدث
المسلم إذا كان متطهراً من الحدث الأصغر والأكبر فهو طاهر بلا خلاف بين أهل العلم (1) .
وإن كان محدثاً، سواء كان محدثاً حدثاً أكبر: كالجنب والحائض، أو حدثاً أصغر كما لو نام أو بال أو تغوط ونحوها، فقد اختلف فيه أهل العلم:
فقيل: هو طاهر، وهو مذهب الجمهور (2) ، وقول في مذهب الحنفية (3) .
_________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم (3/267) ، وسيأتي نقل كلامه بتمامه في أثناء ذكر الأدلة، وانظر الفتاوى الكبرى (1/226) .
(2) المفهم (1/559) ، شرح النووي لصحيح مسلم (3/267) ، فتح الباري تحت حديث رقم (299) ، الإجماع لابن المنذر (ص: 36) .
(3) تبيين الحقائق (1/88) .(13/27)
وقيل: إنه نجس نجاسة حكمية، وهو قول في مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يجب اعتزال الحائض، روي هذا عن ابن عباس (2) ، ولا يثبت عنه، وروي عن عبيدة السلماني (3) ، وهو قول شاذ.
دليل الجمهور:
الدليل الأول:
لو كان المحدث نجساً لما صح حمله في الصلاة، وقد جاء في حديث أبي قتادة في الصحيحين: " أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب " (4) .
الدليل الثاني:
(1474-2) ما رواه البخاري من طريق حميد، عن بكر، عن أبي رافع،
عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له: فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس (5) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/70) ، تبيين الحقائق (1/88) .
(2) انظر المصنف لعبد الرزاق (1234) ، ومسند أحمد (6/332) وسيأتي تخريجه قريباً إن شاء الله تعالى.
(3) سيأتي قوله منسوباً ومخرجاً إن شاء الله تعالى.
(4) البخاري (516) ، ومسلم (41-543) .
(5) البخاري (285) ، ومسلم (371) .(13/28)
وقوله: إن المؤمن لا ينجس: يحتمل معنيين:
الأول: إن المؤمن لا ينجس بهذا - أي بالحدث - وذلك أن أبا هريرة إنما كره جلوسه مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكونه جنباً، فقال له: إن المؤمن لا ينجس أي بهذا، وإن كان المؤمن قد تلحقه النجاسة الطارئة كغيره، فإذا أصاب بدنه نجاسة تنجس.
فيكون الحديث دليلاً على طهارة بدن الجنب.
المعنى الثاني: إن المؤمن لا ينجس أي طاهر بإيمانه، وهي طهارة معنوية، خاصة أن الحكم كان على وصف الإيمان، فيكون الإيمان مؤثراً في الحكم، فيكون المعنى: المؤمن طاهر بإيمانه.
كقوله - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف (1) .
أي المؤمن القوي في إيمانه خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف في إيمانه، وليس المراد ما يستدل به أهل الرياضة على قوة الأبدان، فإن قوة البدن لا يتعلق بها مدح ولا ذم إلا حيث استعملت في طاعة الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان ابن مسعود دقيق الساق، وهو من أفضل الصحابة.
وحديث أبي هريرة في طهارة الجنب، وهو حدث أكبر، وأما طهارة الحائض فنذكره في الأدلة التالية.
الدليل الثالث:
(1475-3) ما رواه مسلم، من طريق ثابت بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) صحيح مسلم (2664) .(13/29)
ناوليني الخمرة من المسجد. قالت: فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك (1) .
ففي هذا الحديث دلالة على أنه لا ينجس من الحائض إلا موضع الأذى، فكما أن حيضتها ليست في يدها، فهي ليست في شيء من جسمها إلا موضع خروج الأذى، وهكذا سائر الأحداث. والله أعلم
الدليل الرابع:
(1476-4) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عمرة،
عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلي رأسه من المسجد، وهو مجاور، فأغسله وأنا حائض. ورواه البخاري أيضاً (2) .
قال الحافظ: وهو دال على أن ذات الحائض طاهرة، وعلى أن حيضها لا يمنع ملامستها (3) .
والحيض حدث، فدل على أن المسلم المحدث طاهر.
الدليل الخامس:
(1477-5) ما رواه مسلم، من طريق المقدام بن شريح عن أبيه،
عن عائشة، قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيِّ فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي
_________
(1) صحيح مسلم (298) .
(2) البخاري (299) ، ومسلم (297) .
(3) الفتح في شرحه لحديث (299)(13/30)
- صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيّ. ولم يذكر زهير فيشرب (1) .
قال القرطبي: قولها: " أتعرق العرْق ": أي العظم الذي عليه اللحم، وجمعه عراق، وأتعرقه: آكل ما عليه من اللحم، وهذه الأحاديث متفقة الدلالة على أن الحائض لا ينجس منها شيء، ولا يجتنب إلا موضع الأذى فحسب" (2) .
الدليل السادس:
(1478-6) ما رواه مسلم، قال حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت،
عن أنس رضي الله عنه قال: إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} (3) ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما (4) .
_________
(1) صحيح مسلم (300) .
(2) المفهم (1/559) .
(3) البقرة، آية: 222.
(4) صحيح مسلم (302)(13/31)
الدليل السابع:
الإجماع: قال ابن المنذر رحمه الله: "وأجمعوا على أن عرق الجنب طاهر وكذلك الحائض " (1) .
وإذا كان عرقهما طاهرين، وهو خارج من جسدهما، كان جسدهما طاهراً.
وقال النووي: قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا قبلتها، ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها، أو غيره من محارمها، وترجيله، ولا يكره طبخها وعجنها، وغير ذلك من الصنائع، وسؤرها وعرقها طاهران. وكل هذا متفق عليه، وقد نقل الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري في كتابه في مذاهب العلماء إجماع المسلمين على هذا كله ودلائله من السنة ظاهرة مشهورة (2) .
وقال ابن تيمية: " وأبدان الجنب من الرجال والنساء طاهرة"، ثم قال: وهذا متفق عليه بين الأئمة أن بدن الجنب طاهر, وعرقه طاهر, والثوب الذي يكون فيه عرقه طاهر, ولو سقط الجنب في دهن أو مائع لم ينجسه, بلا نزاع بين الأئمة (3) .
وإذا ثبتت طهارة المحدث حدثاً أكبر، كان المحدث حدثاً أصغر طاهراً من باب أولى.
_________
(1) الإجماع لابن المنذر (ص: 36) .
(2) شرح النووي لصيحيح مسلم (3/267) .
(3) الفتاوى الكبرى (1/226) .(13/32)
دليل من قال: المحدث نجس نجاسة حكمية:
الدليل الأول:
قالوا: إن استعمال الماء لرفع الحدث يسمى طهارة، قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) .
والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة؛ إذ تطهير الطاهر لا يعقل (2) .
ويجاب عنه:
أولاً: سمي طهارة؛ لأنه يطهر العبد من الذنوب، لا أنه طهره من نجاسة حلت فيه، ولذلك لما اعتبر أبو هريرة حدثه نجاسة بين له - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " إن المؤمن لا ينجس ". متفق عليه، وقد يقال: سمي طهارة باعتبار اللغة، فإن الطهارة في اللغة النظافة وإزالة ما يستقذر وهذا الفعل متضمن لذلك.
ثانياً: تجديد الوضوء يسمى طهارة شرعية مع أنه متطهر.
الدليل الثاني:
(1479-7) ما رواه مسلم، من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه،
أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) البناية بتصرف (1/350،351) .
(3) مسلم (283) .(13/33)
فلولا أن الجنب يؤثر في طهورية الماء لما نهى عنه، فهذا دليل على أن بدنه نجس.
وأجيب:
بأنه لم يتعرض رسول - صلى الله عليه وسلم - لحكم الماء، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: إنه أصبح نجساً بمجرد الاغتسال فيه، فالحديث ليس فيه إلا النهي عن الاغتسال في الماء الدائم، حالة كون المغتسل جنباً، فإن قيل: ما الحكمة من النهي عن الاغتسال في الماء الدائم؟
يقال: إن الطباع مجبولة على كراهة استعمال الماء الدائم الذي يغتسل فيه من الجنابة، وقد يكون في بدنه شيء من المذي فيستقذر.
دليل من قال: يجب اعتزال الحائض حال الحيض:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (1) .
واعتزال النساء: اعتزال لجميع بدنها. ومن باشرها لا يصدق عليه أنه اعتزلها.
وأجيب:
بأن الذي يوضح القرآن هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد بعثه الله سبحانه وتعالى ليبين للناس ما نزل إليهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس عند مسلم (2) ، وقد ذكرته بطوله: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ".
_________
(1) البقرة، آية: 222.
(2) صحيح مسلم (302) .(13/34)
الدليل الثاني:
(1480-8) أخرج عبد الرزاق (1) ، وأحمد (2) ، وأبو داود (3) ، والنسائي (4) ، وابن جرير الطبري (5) ، والبيهقي (6) ، واللفظ للبيهقي، رووه كلهم من طريق الزهري، عن حبيب مولى عروة بن الزبير،
أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته، أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس في رسالة، فدخلت عليه فإذا فراشه معزول عن فراش امرأته، فرجعت إلى ميمونة فبلغتها رسالتها، ثم ذكرت ذلك. فقالت لها ميمونة: ارجعي إلى امرأته فسليها عن ذلك، فرجعت إليها، فسألتها عن ذلك، فأخبرتها أنها إذا طمثت عزل فراشه عبد الله عنها، فأرسلت ميمونة إلى عبد الله بن عباس، فتغيظت عليه، وقالت: أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله إن كانت المرأة من أزواجه لتأتزر بالثوب ما يبلغ أنصاف فخذيها، ثم يباشرها بسائر جسده.
] إسناده ضعيف [ (7) .
وعلى فرض صحته فإنه لا يتوقع من ابن عباس رضي الله عنهما أن تبلغه
_________
(1) المصنف (1234) .
(2) المسند (6/332، 336) .
(3) السنن (267) .
(4) سنن النسائي (1/189) .
(5) في التفسير (4243) .
(6) السنن الكبرى (1/313)
(7) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (93) .(13/35)
سنة المصطفى ثم يبقى على رأيه المخالف لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل والمخالف لقوله. فكونه لم يعترض على ميمونة دليل منه على التسليم والقبول لما أخبرته، وإذا رجحنا رجوعه عنه لم يبق قولاً له. والله أعلم.
وممن رأى هذا الرأي عبيدة السلماني:
(1481-9) فقد أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريقين، عن محمد ابن سيرين، قال: قلت لعبيدة السلماني:
ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضاً، قال: الفراش واحد، واللحاف شتى (1) .
] إسناده صحيح] .
وهذا موقوف عليه، ولا حجة في قول أحد مع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وقول عبيدة لا يخرق الإجماع المؤيد بالسنة الصحيحة الصريحة ما دام أن الأمر لم يثبت عن ابن عباس.
بل الثابت عن ابن عباس خلافه.
(1482-10) فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريق محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال:
قال ابن عباس: إذا جعلت الحائضُ ثوباً أو ما يكف الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدها زوجها (2) .
]
إسناده حسن لغيره [ (3) .
_________
(1) تفسير الطبري (4242، 4244) .
(2) تفسير الطبري (4252) .
(3) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (94) .(13/36)
قال النووي: " وأما ما حكي عن عبيدة السلماني وغيره، من أنه لا يباشر شيئاً منها بشيء منه فشاذ منكر غير معروف، ولا مقبول، ولو صح عنه لكان مردوداً بالأحاديث الصحيحة المشهورة، المذكورة في الصحيحين وغيرها من مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق الإزار، وإذنه في ذلك بإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده " اهـ (1) .
وقال الشوكاني: " وأما ما يروى عن ابن عباس، وعبيدة السلماني، أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش امرأته إذا حاضت فليس بشيء " (2) .
فالراجح: طهارة المسلم سواء كان محدثاً أو غير محدث، وسواء كان حدثه أكبر أم أصغر، وأما طهارته حال الممات فإننا سوف نتعرض له في باب مستقل عند الكلام على الميتة.
_________
(1) شرح مسلم (3/204)
(2) تفسير فتح القدير (1/226) .(13/37)
[صفحة فارغة](13/38)
المبحث الثاني
في طهارة المشرك
اختلف الفقهاء في بدن المشرك، هل هو طاهر أو نجس؟
فقيل: بدنه طاهر، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: بدنه نجس مطلقاً، وهو قول في مذهب المالكية (5) ، وإليه ذهب ابن حزم رحمه الله تعالى (6) .
وقيل: المشرك طاهر حياً، ونجس ميتاً، وهو قول في مذهب المالكية (7) .
_________
(1) قال السرخسي في المبسوط (1/47) : أنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد ثقيف في المسجد، وكانوا مشركين، ولو كان عين المشرك نجساً لما أنزلهم في المسجد. اهـ وانظر بدائع الصنائع (1/64) .
وهذا القول ينبغي أن ينزل على الرواية الثانية في مذهب الحنفية، والتي تقول بطهارة بدن المحدث، وأما على القول بنجاسة بدن المحدث، فإنه ينبغي أن يكون المشرك نجساً إلا أن يكون متطهراً، وهم يصححون الوضوء من المشرك؛ لأن النية ليست شرطاً عندهم.
(2) ذهب المالكية في الراجح عندهم إلى طهارة كل حي مطلقاً حتى الكلب، انظر منح الجليل (1/47) ، التاج والإكليل (1/227) ، مواهب الجليل (1/99) ، حاشية الدسوقي (1/50) .
(3) المجموع (1/320) ،
(4) كشاف القناع (1/93) ، مطالب أولي النهى (1/233) .
(5) القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 47) .
(6) المحلى مسألة: 134 (1/137) .
(7) حاشية الدسوقي (1/53) .(13/39)
دليل من قال: إن بدن المشرك طاهر:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} (1) .
وجه الاستدلال:
يلزم من حل طعامهم لنا مع مباشرتهم لها طهارة أبدانهم، كما أباح لنا نكاح نسائهم، ويلزم من المعاشرة الزوجية مباشرة كل واحد من الزوجين للآخر، وفي هذا لا يسلم من إصابة عرقهن وريقهن، فدل على طهارة أجسادهن.
اعتراض على الاستدلال:
اعترض ابن حزم على هذا الاستدلال بقوله: فإن قيل: قد أبيح لنا نكاح الكتابيات ووطؤهن, قلنا نعم, فأي دليل في هذا على أن لعابها وعرقها ودمعها طاهر؟ فإن قيل: إنه لا يقدر على التحفظ من ذلك. قلنا: هذا خطأ, بل يفعل فيما مسه من لعابها وعرقها مثل الذي يفعل إذا مسه بولها أو دمها أو مائية فرجها ولا فرق, ولا حرج في ذلك, ثم هب أنه لو صح لهم ذلك في نساء أهل الكتاب, من أين لهم طهارة رجالهم أو طهارة النساء والرجال من غير أهل الكتاب؟ فإن قالوا: قلنا ذلك قياسا على أهل الكتاب. قلنا: القياس كله باطل, ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل, لأن أول بطلانه أن علتهم في طهارة الكتابيات جواز نكاحهن, وهذه العلة معدومة بإقرارهم في غير الكتابيات. والقياس عندهم لا يجوز إلا بعلة جامعة بين الحكمين, وهذه
_________
(1) المائدة: 5.(13/40)
علة مفرقة لا جامعة وبالله تعالى التوفيق.
جواب على الاعتراض:
يمكن الرد على ابن حزم رحمه الله بأنه إذا كانت المرأة من أهل الكتاب طاهرة، كان الرجل طاهراً ولا فرق، ولو سلم اعتراض ابن حزم على هذا الدليل فما جوابه عن أكل طعام أهل الكتاب، فإنهم يباشرونه بأيديهم، ويطبخونه بمياههم، وفي آنيتهم، ومن غير فرق بين طعام الرجل وطعام المرأة.
(1483-11) فقد أخرج البخاري بسنده من حديث أبي هريرة في قصة وضع السم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم؟ قالوا: نعم. قال: هل وضعتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك (1) .
(1484-12) وروى مسلم بإسناده من طريق عبد الله بن مغفل، قال:
أصبت جراباً من شحم يوم خيبر قال: فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسماً، ورواه البخاري واللفظ لمسلم (2) .
الدليل الثاني:
(1485-13) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد،
أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد
_________
(1) البخاري (3169) .
(2) مسلم (1772) ، البخاري (5508) .(13/41)
فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد. الحديث قطعة من حديث طويل. ورواه مسلم أيضاً (1) .
وجه الاستدلال:
لو كان الكافر نجس العين لما ربط ثمامة في المسجد وهو مشرك، فدل على طهارة بدن المشرك.
اعتراض وجواب:
اعترض على هذا الحديث بأنه كان قبل النهي عن دخول المشركين المسجد في قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (2) ، فتكون الآية ناسخة للحكم الوارد في الحديث.
ويجاب:
بأن النهي عن دخول المسجد الحرام لا يشمل النهي عن دخول غيره من المساجد، وهذا النهي ليس خاصاً في مسجد الكعبة، بل ينهى عن دخول الحرم كله، وإن كان باقي الحرم قد يتبول فيه الإنسان ويتغوط، فهذا نهي خاص عن الحرم كله لا عن المسجد، فلا يقاس عليه غيره من البقاع إلا ما ورد الدليل بذلك.
الدليل الثالث:
(2486-14) ما أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وقد جاء فيه:
_________
(1) صحيحي البخاري (4372) ، ومسلم (1764) .
(2) التوبة: 28.(13/42)
أن النبي وأصحابه شربوا من مزادة امرأة مشركة، وأن أحد الصحابة كان مجنباً فاغتسل من ذلك الماء. والحديث في صحيح مسلم دون قصة اغتسال الجنب (1) .
الدليل الرابع:
(1487-15) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن،
عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم. الحديث (2) .
[اختلف في سماع الحسن من عثمان، كما اختلف في وصله وإرساله، والراجح إرساله] (3) .
_________
(1) البخاري (3571) ، صحيح مسلم (682) .
(2) المسند (4/218) .
(3) رجاله ثقات، واختلف في سماع الحسن من عثمان بن أبي العاص.
فقال علي بن المديني: سمع الحسن من عثمان بن أبي العاص. انظر علل ابن المديني (4) .
وذكر البخاري في التأريخ الكبير (6/212) عن الحسن قوله: كنا ندخل على عثمان ابن أبي العاص.
وكذلك أثبت البزار سماع الحسن من عثمان بن أبي العاص، انظر نصب الراية (1/9) .
وقال المزي: قيل: لم يسمع منه. وهذه الصيغة على سبيل التمريض، فلم يجزم المزي بعدم السماع.
وجزم الحافظ في التهذيب بعدم السماع منه.
[تخريج الحديث]
وأخرجه ابن خزيمة (1328) من طريق عفان به.
أخرجه الطيالسي (939) ، وأبو داود (3026) ، وابن الجاورد (373) وابن خزيمة (1328) ، والطبراني (9/54) رقم 8372 والبيهقي (2/444) ، من طريق أبي الوليد.
وأخرجه في الآحاد والمثاني (1520) والطبراني (9/54) رقم 8372 عن هدبة بن خالد، كلهم عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص مرفوعاً.
واختلف على الحسن:
فرواه حميد موصولاً كما سبق.
وأخرجه أبو داود في المراسيل (17) ، وفي الآحاد والمثاني (1521) من طريق أشعث، عن الحسن مرسلاً.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1620) وابن أبي شيبة (2/260) من طريق سفيان،
وأخرجه ابن أبي شيبة (2/260) عن ابن علية، كلاهما عن يونس، عن الحسن مرسلاً.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/13) من طريق أبي عقيل الدورقي، عن الحسن مرسلاً.
فهؤلاء ثلاثة يروونه عن الحسن مرسلاً، ويونس من أصحاب الحسن، مقدم على غيره، والله أعلم.(13/43)
وجه الاستدلال به، كالاستدلال بحديث ثمامة.
الدليل الخامس:
لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه توقي الكفار، وقد كانوا معهم في مكة قبل الهجرة، كما لم ينقل توقيهم لأهل الكتاب في المدينة، ولو كانوا أنجاساً لنقل توقيهم لهم، وغسل ما أصابهم منهم.
دليل من قال بنجاسة المشرك.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (1) .
_________
(1) التوبة: 28.(13/44)
وجه الاستدلال:
نهى الله سبحانه وتعالى عن دخول المشركين المسجد الحرام، وذكر العلة في ذلك، وهو أنهم نجس، فدل على نجاستهم نجاسة عينية، وإذا ورد لفظ نجس في الشرع حمل ذلك على الحقيقة الشرعية.
وأجيب:
بأن الحكم معلق على وصف، وهو الشرك، والشرك نجاسة معنوية، كما أن الإيمان طهارة معنوية في قوله: " إن المؤمن لا ينجس " (1) ، وحمل المعنى على الحقيقة الشرعية هو الأصل، لكن إذا وردت قرينة تمنع من إرادة الحقيقة الشرعية لم يحمل عليها، فلما أذن في نكاح نساء أهل الكتاب، وأباح لنا طعامهم، علم أن الحقيقة الشرعية غير مرداة، فحملنا الآية على النجاسة المعنوية، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1488-16) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، قال: أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس،
عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت
_________
(1) سبق تخريجه.(13/45)
اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن باستعمالها إلا بعد غسلها، فدل ذلك على نجاستها، وإذا كانت آنيتهم نجسة فمن باب أولى أن تكون أبدانهم نجسة كذلك.
وأجيب بجوابين:
الأول: لو كانت العلة النجاسة لأمر بغسلها مباشرة، فالنهي عن استعمالها مع وجود غيرها مطلق، سواء تيقنا طهارتها أم لا، والأصل في النهي المنع، لكن لما قال سبحانه وتعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (2) ، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم وأوانيهم، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - طعام أهل الكتاب في أحاديث صحيحة، فدل على أن الغسل من باب الاحتياط والاستحباب.
الجواب الثاني:
أن حديث أبي ثعلبة الخشني في قوم كانوا يأكلون في آنيتهم الميتة والخنزير، ويشربون فيها الخمر، ولذا أمر بغسلها إن لم يوجد غيرها، أما من يعلم أنهم لا يأكلون فيها الميتة ولا يشربون فيها الخمر فآنيتهم كآنية المسلمين.
(1489-17) ويدل على هذا ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة،
_________
(1) صحيح البخاري (5478) ، ومسلم (1930) .
(2) المائدة: 5.(13/46)
أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إنى بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبنه قال: واشربوا (1) .
[أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، واختلف في ذكر زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (2) .
الدليل الثالث:
(1490-18) ما رواه البخاري من طريق حميد، عن بكر، عن أبي رافع،
عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هر؟ فقلت له، فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس (3) .
مفهومه: إن المشرك نجس.
قلت: لا حاجة إلى الاستدلال بمفهوم الحديث، وعندنا منطوق الآية الكريمة: " إنما المشركون نجس " وقد أجبت عن الآية، وما كان جواباً عن الآية كان جواباً عن مفهوم حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
(1) سنن أبي داود الطيالسي (1014) .
(2) سبق تخريجه في كتابي (أحكام الطهارة) كتاب المياه والآنية برقم: 129.
(3) البخاري (285) مسلم (371) .(13/47)
دليل من قال: إن المشرك ينجس بالموت:
لقد عقد فصل مستقل في حكم ميتة الآدمي، وذكر فيه أدلة كل قول، كما سيأتي في الباب الثالث إن شاء الله تعالى.
والراجح أن بدن المشرك طاهر، وأن نجاسته نجاسة معنوية، وذلك لما يلي:
أ - قوة أدلة هذا القول في مقابل ضعف أدلة القولين الآخرين.
ب - سلامة أدلة هذا القول من المناقشة، وما نوقش منها فقد أمكن الجواب عنه، بينما نوقشت أدلة القولين الآخرين مناقشات مؤثرة دون إمكان الجواب المقنع عن ذلك، والله أعلم.(13/48)
المبحث الثالث
في الميت من بني آدم
اختلف العلماء في ميتة الآدمي،
فقيل: نجس مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) ، وقول عند الشافعية (2) ، وقول عند المالكية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: طاهر مطلقاً، وهو الراجح في مذهب الشافعية (5) ، والمالكية (6) ، والمشهور عند الحنابلة (7) .
_________
(1) البحر الرائق (1/243) ، وقد حكم الحنفية بنجاسة البئر إذا مات فيه آدمي انظر الاختيار لتعليل المختار (1/17) المبسوط (1/58) ، بدائع الصنائع (1/75) ، الهداية شرح البداية، مطبوع مع شرح فتح القدير (1/104) ، ومذهبهم هذا متسق مع مذهبهم القائل بنجاسة المحدث، وذلك لأن الميت يجب غسله، لأن فيه معنى الحدث. والصحيح أن الحدث لا يعتبر نجاسة، وكونه سمي رفع الحدث الأصغر أو الأكبر طهارة لا يعتبر ذلك من النجاسة، وقد بحثنا هذه المسألة بحثاً مستقلاً، وأجبنا عن أدلة الحنفية رحمهم الله تعالى.
(2) المجموع (2/579، 580) .
(3) مواهب الجليل (1/99) .
(4) المغني (1/42) ، الإنصاف (1/337) .
(5) قال النووي في المجموع (2/579، 580) : "وأما الآدمي هل ينجس بالموت أم لا؟ فيه هذان القولان، الصحيح منهما: أنه لا ينجس، اتفق الأصحاب على تصحيحه، ودليله الأحاديث السابقة والمعنى الذي ذكره. اهـ وانظر أسنى المطالب (1/10) ، نهاية المحتاج (1/238، 239) .
(6) مواهب الجليل (1/99) الخرشي (1/88، 89) .
(7) المغني (1/42) ، كشاف القناع (1/193) ، مطالب أولي النهى (1/233) .(13/49)
وقيل: المسلم الميت طاهر، والكافر الميت نجس، وهو قول في مذهب المالكية (1) ، وقول عند الحنابلة (2) ، واختيار ابن حزم (3) .
وقد ذكر أدلة كل قول في باب مستقل في حكم الميتة، فانظر الباب الرابع من هذا الكتاب، ورجحنا طهارة الميت مطلقاً، سواء كان مسلماً أم كافراً، والله أعلم.
_________
(1) قال في مواهب الجليل (1/99) : وذهب بعض أشياخنا إلى التفرقة بين المسلم والكافر، ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين فرق بينهما. اهـ
(2) ساقه ابن قدامة احتمالاً، قال في المغني (1/42) : لم يفرق أصحابنا بين المسلم والكافر; لاستوائهما في الآدمية, وفي حال الحياة, ويحتمل أن ينجس الكافر بموته; لأن الخبر إنما ورد في المسلم, ولا يصح قياس الكافر عليه; لأنه لا يصلى عليه, وليس له حرمة كحرمة المسلم. اهـ
وقال في الإنصاف (1/337) : وقيل: ينجس الكافر, دون المسلم, وهو احتمال في المغني. قال المجد في شرحه, وتابعه في مجمع البحرين: ينجس الكافر بموته على كلا المذهبين في المسلم ولا يطهر بالغسل أبداً كالشاة. وخص الشيخ تقي الدين في شرح العمدة الخلاف بالمسلم. وأطلقهما ابن تميم في الكافر. اهـ
(3) يأخذ ابن حزم رحمه الله بظاهر حديث " إن المؤمن لا ينجس " فمنطوقه: أن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً، ومفهومه: أن الكافر نجس، حياً وميتاً، ويؤيد هذا المفهوم منطوق الآية عنده: " إنما المشركون نجس " وبالتالي يحكم على نجاسة لعاب الكافر وعرقه ولبنه وسائر أجزائه في الحياة والموت، انظر المحلى (مسألة: 134، 139، 603، 2018) .(13/50)
الفصل الثاني
في الحيوان حال الحياة
المبحث الأول
في حيوان مأكول اللحم.
الحيوان مأكول اللحم، إما أن يكون حياًّ، أو فارقته الحياة عن طريق التذكية الشرعية، وإما أن يكون ميتة، فإن كان حياً فهو طاهر بالإجماع.
قال ابن حزم: وكل ما يؤكل لحمه فلا خلاف فيه أنه طاهر، قال تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} (1) ، فكل حلال طيب، والطيب لا يكون نجساً بل هو طاهر (2) .
وإن كان الحيوان ميتة، وكان من حيوان البر، وكان له نفس سائلة، فإنه نجس بالإجماع أيضاً. وسيأتي تفصيل ذلك في باب مستقل عن الميتة وأنواعها إن شاء الله تعالى.
_________
(1) الأعراف: 157.
(2) المحلى: مسألة: 133 (1/137) .(13/51)
[صفحة فارغة](13/52)
المبحث الثاني
في الجلالة
الفرع الأول:
في تعريف الجلالة
اختلف أهل العلم في تعريف الجلالة على أقوال:
فقيل: ما كان علفها النجاسة، ولم يخلط بغيره، وأنتن لحمها من ذلك.
قال السرخسي: تفسير الجلالة التي تعتاد أكل الجيف ولا تخلط، فيتغير لحمها, ويكون لحمها منتناً، فحرم الأكل; لأنه من الخبائث, والعمل عليها لتأذي الناس بنتنها, وأما ما يخلط فيتناول الجيف وغير الجيف على وجه لا يظهر أثر ذلك من لحمه, فلا بأس بأكله, والعمل عليه، حتى ذكر في النوادر: لو أن جدياً غذي بلبن خنزير فلا بأس بأكله; لأنه لم يتغير لحمه، وما غذي به صار مستهلكاً، ولم يبق له أثر, وعلى هذا نقول: لا بأس بأكل الدجاجة، وإن كانت تقع على الجيف; لأنها تخلط, ولا يتغير لحمها ولا ينتن (1) .
وقيل: الجلالة ما كان أغلب علفها النجاسة، وهو قول في مذهب الحنفية (2) ، وقول في مذهب الشافعية (3) ، وهو مذهب الحنابلة (4) .
_________
(1) المبسوط (11/255) .
(2) بدائع الصنائع (5/39) .
(3) المجموع (9/30) .
(4) قال ابن قدامة في المغني (9/329) : قال أحمد: أكره لحوم الجلالة وألبانها. قال القاضي في " المجرد ": هي التي تأكل القذر, فإذا كان أكثر علفها النجاسة, حرم لحمها ولبنها. وفي بيضها روايتان. وإن كان أكثر علفها الطاهر, لم يحرم أكلها ولا لبنها. وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة, لم نسمعه عن أحمد, ولا هو ظاهر كلامه, لكن يمكن تحديده بما يكون كثيراً في مأكولها, ويعفى عن اليسير. اهـ(13/53)
وقال الكاساني من الحنفية: يكره أكل لحوم الإبل الجلالة، وهي التي الأغلب من أكلها النجاسة (1) .
وقيل: الجلالة: ما ظهر فيها أثر النجاسة من ريح ونتن، وهو قول في مذهب الحنفية (2) ، ومذهب الشافعية (3) .
وهذا القول هو أقرب الأقوال؛ لأن النجاسة إذا لم يظهر لها أثر، وقد استحالت إلى مادة أخرى، فإن الاستحالة مؤثرة، فتعطى حكم ما استحالت إليه، إلا أنه في الحالة التي يظهر فيها أثر للنجاسة فإن هذا دليل على التغير بالنجاسة، فإذا كان الماء الذي خلق طهوراً، ويدفع النجاسة عن غيره فإذا تغير بالنجاسة حكمنا له بالنجاسة، فما بالك بغير الماء، والله أعلم.
_________
(1) بدائع الصنائع (5/39) .
(2) قال في بدائع الصنائع (5/40) : ولا يكره أكل الدجاج المخلى، وإن كان يتناول النجاسة; لأنه لا يغلب عليه أكل النجاسة، بل يخلطها بغيرها وهو الحب فيأكل ذا وذا.
وقيل: إنما لا يكره; لأنه لا ينتن كما ينتن الإبل، والحكم متعلق بالنتن; ولهذا قال أصحابنا: في جدي ارتضع بلبن خنزير حتى كبر: إنه لا يكره أكله; لأن لحمه لا يتغير ولا ينتن فهذا يدل على أن الكراهة في الجلالة لمكان التغير والنتن، لا لتناول النجاسة، ولهذا إذا خلطت لا يكره وإن وجد تناول النجاسة; لأنها لا تنتن فدل أن العبرة للنتن، لا لتناول النجاسة.
(3) قال النووي في المجموع (9/30) : الصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا اعتبار بالكثرة, وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن، فإن وجد في عرفها وغيره ريح النجاسة فجلالة, وإلا فلا. اهـ
وقال البيهقي في الشعب (5/19) : وما روي عنه من النهي عن الجلالة وما قال فيها أهل العلم من أن المراد بها إذا ظهر ريح القذر في لحمها. اهـ(13/54)
الفرع الثاني:
في حكم لحم الجلالة وركوبها وشرب لبنها
اختلف أهل العلم على أقوال،
فقيل: يكره كراهة تنزيه، وهو مذهب الحنفية (1) ، والصحيح من قولي الشافعية (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: لا بأس بذلك، وهو مذهب المالكية (4) ، وإليه ذهب الحسن البصري (5) .
وقيل: يحرم، وهو قول في مذهب الشافعي (6) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (7) ، واختاره ابن حزم (8) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/223) ، الفتاوى الهندية (5/289) ، بدائع الصنائع (5/40) ، الجوهرة النيرة (2/185) ، المبسوط (11/255) .
(2) مغني المحتاج (4/304) ، أسنى المطالب (1/568) ، تحفة المحتاج (9/386) ، نهاية المحتاج (8/156) .
(3) الإنصاف (10/356) .
(4) المدونة (1/542) ، والتاج والإكليل (4/346) ، مواهب الجليل (3/230) .
(5) انظر المغني (9/329) .
(6) المجموع (9/30) .
(7) المغني (9/329) ، الإنصاف (10/356) ، شرح منتهى الإرادات (3/411) ، كشاف القناع (6/193، 194) .
(8) المحلى (7/410) .(13/55)
دليل من قال بالكراهة أو التحريم:
الدليل الأول:
(1491-19) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا قتادة، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبن شاة الجلالة، وعن المجثمة، وعن الشرب من في السقاء (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المسند (1/226) .
(2) أخرجه أحمد كما في إسناد الباب (1/226، 293، 321) ، وأبو داود (3786) ، والترمذي (1825) ، والنسائي في المجتبى (448) وفي الكبرى (4537) ، وابن الجارود في المنتقى (887) ، والدارمي (2001) ، والطبراني (11/307) ، والبيهقي (9/333) من طريق هشام الدستوائي.
وأخرجه أحمد (1/339) من طريق شعبة، عن قتادة به. وقد ذكر الأستاذ الفاضل شعيب الأرنؤوط في تخريجه للمسند أن ذكر شعبة خطأ، وأن الصواب سعيد عن قتادة، وذكر أنها تحرفت في أكثر الأصول. وهذا ربما يكون بعيداً: وهو أن تكون أكثر الأصول على الخطأ، وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد (15/183) أن شعبة قد رواه عن قتادة، مما يدل على أن ذكر شعبة على الصواب، كما ذكر الحافظ في إتحاف المهرة (7/615) أن أحمد أخرجه عن محمد بن جعفر وعن عبد الصمد، وعن أبي عبد الصمد ثلاثتهم عن شعبة به.
وأخرجه أحمد (1/339) والترمذي (1825) والحاكم (2247) ، وابن حبان (539) ، والبيهقي (9/334) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
وأخرجه أبو داود (3719) وابن خزيمة (2552) ، والحاكم (1628) ، والطبراني (11819) ، والبيهقي (5/254) من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة به.
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/349) من طريق خالد الحذاء، عن عكرمة به.
وأخرجه الطبراني (11/267) من طريق بسام الصيرفي، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشاة الجلالة، وعن ثمن الكلب وعسب الفحل وكسب الحجام.
وأخرجه البيهقي (9/333) من طريق ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن طاووس، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الجلالة وألبانها. وانفرد ابن لهيعة بهذا الإسناد، وهو ضعيف.
وأخرجه الدارمي (1975،) والطحاوي (4/276) ببعضه، ولم يذكر فيه الجلالة.
انظر أطراف المسند (3/222) ، إتحاف المهرة (8597) ، تحفة الأشراف (6190، 6191) .(13/56)
الدليل الثاني:
(1492-20) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا سهل بن بكار حدثنا وهيب عن ابن طاوس
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحمها (1) .
[رواه وهيب عن ابن طاووس، فوصله، ورواه معمر عن ابن طاووس معضلاً، وهو المحفوظ] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (3811) .
(2) وأخرجه النسائي في المجتبى (4447) من طريق سهل بن بكار به، وفيه: عن محمد ابن عبد الله بن عمرو، قال مرة: عن أبيه، وقال مرة: عن جده.
ولا أظن أن مثل هذا يضر وذلك لأن الجد أب، ثم لو ثبت فلا فرق أيضاً بين أن يكون الحديث من مسند عبد الله بن عمرو، أو مسند عمرو بن العاص، فكلاهما صحابيان، فعلى أيهما دار الحديث فقد دار على من تقبل روايته، وثبتت عدالته بتعديل الشارع لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجرح أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا مجروح في بدعة، ومن جرحهم فقد أبطل الشرع؛ فإن الشرع لم يصل لنا إلا من طريقهم، جمعنا الله بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأماتنا على محبتهم، واقتفاء أثرهم.
وقد رواه أحمد، وهو أعلى من سنن أبي داود إلا أن في إسناد أحمد مؤمل بن إسماعيل، وهو سيء الحفظ، فنزلت إلى أبي داود لقوة إسناده.
فقد رواه أحمد (2/219) حدثنا مؤمل، ورواه الحاكم (2498) ، والبيهقي (9/33) من طريق أحمد بن إسحاق الحضرمي.
ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (2809) من طريق إبراهيم بن الحجاج السامي، ثلاثتهم عن وهيب به.
وقال الحافظ في الفتح (9/648) ولأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص،... وذكر الحديث، فقال: وسنده حسن ". اهـ
وقد اختلف فيه على ابن طاووس.
فرواه وهيب بن خالد، عن ابن طاووس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وخالفه معمر بن راشد، فرواه عبد الرزاق (8712) عن معمر، عن ابن طاووس، قال: أخبرني عمرو بن شعيب، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الإبل الجلالة وألبانها، وكان يكره أن يحج عليها. وهذا معضل.
ومعمر مقدم على وهيب، خاصة في أهل اليمن، فمعمر وشيخه ابن طاووس يمنيان.
وأخرجه الدارقطني (4/283) ، والحاكم (2269) ، وعنه البيهقي (9/333) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو بنحوه.
وصحح إسناده الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: إسماعيل وأبوه ضعيفان. اهـ
انظر إتحاف المهرة (11799) ، تحفة الأشراف (8726) ، أطراف المسند (4/53) ألحقه المحقق وفقه الله مستدركاً على ابن حجر عدم ذكره.(13/57)
الدليل الثالث:
(1493-21) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن أبي سريج، أخبرني عبد الله بن جهم، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن أيوب السختياني، عن نافع،(13/58)
عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها (1) .
[إسناده حسن وعمرو بن أبي قيس قد توبع في أيوب] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (3787) .
(2) وأخرجه الحاكم في المستدرك (2249) من طريق أحمد بن أبي سريج به.
وأخرجه البيهقي (5/254) من طريق عبد الوارث، عن أيوب به، بلفظ: نهى عن ركوب الجلالة.
وأخرجه الترمذي (1824) ، والحاكم في المستدرك (2248) والبيهقي (9/332) من طريق محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عمر به.
واختلف فيه على ابن أبي نجيح، فرواه محمد بن إسحاق، عنه، عن مجاهد، عن ابن عمر.
وخالفه الثوري، قال الترمذي: روى الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
قلت رواية الثوري رواها عبد الرزاق في المصنف (8718) .
وابن أبي شيبة (5/148) رقم 24610، حدثنا وكيع، كلاهما (عبد الرزاق ووكيع) عن سفيان به، فالراجح من رواية مجاهد أنها مرسلة.
قال الترمذي في علله (ص: 304) بعد أن ذكر رواية محمد بن إسحاق لابن أبي نجيح موصولة، قال: سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: روى سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الجلالة مرسل. اهـ
كما رواه عبد الرزاق في المصنف (8713) ، وابن أبي شيبة أيضاً (5/148) من طريق الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد مرسلاً أيضاً.
كما خالفهم شريك، عن ليث بن أبي سليم، فرواه البيهقي (9/332) عن شريك، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس. وهذا الإسناد منكر، تفرد به شريك، وهو سيء الحفظ، عن ليث وهو ضعيف.
انظر إتحاف المهرة (10130) ، تحفة (7589) .(13/59)
الدليل الرابع:
(1494-22) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا شبابة، حدثنا مغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير،
عن جابر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة أن يؤكل لحمها، أو يشرب لبنها (1) .
[إسناده حسن إن شاء الله] (2) .
دليل من قال: لا بأس بالجلالة ركوباً وحلباً ولحماً.
الدليل الأول:
إذا اعتبرنا أن الاستحالة مؤثرة في تحول العين النجسة إلى طاهر، كالخمرة تتحول إلى خل ونحوها، فكذلك هذه النجاسة التي أكلتها الدابة قد تحولت إلى عين طاهرة، فلا يبقى لها حكم، والله أعلم.
الدليل الثاني:
أن النجاسة في مقرها لا حكم لها، فهذا البول والغائط من الإنسان ما دام في جوفه لا يحكم لمن يحمله بالنجاسة، فكذلك النجاسة التي أكلتها هذه الدابة لا يحكم لها بالنجاسة ما دامت في معدنها، وبالتالي لا يمكن أن تتنجس الدابة الطاهرة بعذرة في جوفها.
_________
(1) المصنف (5/147) رقم 24604.
(2) مغيرة بن مسلم هو السراج، صدوق الحديث، وكذا أبو الزبير وباقي رجاله ثقات، وقد حسن إسناده الحافظ في الفتح (9/648) .(13/60)
الدليل الثالث:
تنجس الدابة لما تحمل في معدتها من نجاسة إنما هو تنجس بالمجاورة، والماء إذا تروح بريح نجسة حكمنا له بالطهارة كما حكي ذلك إجماعاً (1) ، فكذلك تنجس الدابة إنما هو عن مجاورة النجاسة، فلا يحكم لها بالنجاسة.
الدليل الرابع:
قالوا: إن المسلم قد يبتلى بشرب الخمر، والكافر يشربه ويأكل الخنزير، ولا يكون ظاهرهما نجساً؛ إذ لو تنجسا ما طهرهما الاغتسال، ويلزم من قولهم: إن الجلالة نجسة أن تكون نجسة قبل أكل النجاسة؛ لأنها متولدة من المني، والمني من الدم، والدم عندهم نجس.
الدليل الخامس:
استدل بعضهم بقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} (2) .
ولم تذكر الجلالة، وهذا الاستدلال فيه نظر؛ لأن ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكمه حكم ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى، وقد تكون الآية خرجت على سبب فيما كان يحرمه أهل الجاهلية مما حكاه الله عنهم، وقد حرم الله أيضاً المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وحرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وهو زيادة على آية {قل لا أجد فيما
_________
(1) قدمت بحثاً في الماء المتغير بالمجاورة في كتاب المياه في مسألة مستقلة.
(2) الأنعام: 145.(13/61)
أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه} (1) .
الراجح من الخلاف.
بعض أدلة المالكية فيه قوة، ولكن لا مجال للنظر وفي المسألة أثر صحيح، خاصة حديث ابن عباس فإن رجاله رجال الصحيح، لكن يقال: قوة أدلة المالكية تجعل الباحث يحمل الأحاديث على الكراهة بدلا من حملها على التحريم، فنقول: يكره أكل لحوم الجلالة ما دامت النجاسة لها أثر في لحمها ونتنها؛ لأن النهي من الشارع مشترك بين التحريم والكراهة، والأصل فيه التحريم إلا لقرينة، ومن القرائن أن يكون النهي من أجل الآداب لا من أجل العبادة، والطعام له أثر على الإنسان والحيوان، فإن الإنسان إذا أكل بعض الأكل وجد ريحه في عرقه كالحلبة والثوم، فما بالك إذا أنتن من أكل النجاسة، وكذلك الدابة تأكل الطعام الطيب فيظهر في لبنها، ويخلط لها الأكل الرديء فيظهر أيضاً في جودة لبنها، ومع ذلك لا يمكن أن يقال: إن لبن الحيوان نجس إذا ظهر فيه ريح النجاسة، لكن الكراهة لها وجه قوي جداً.
ومتى يحل أكل الجلالة؟
يحل أكلها إذا ذهب عنها ريح النجاسة، وبعضهم لم يقيده بمدة معينة، وإنما علقه على ذهاب النتن والقذر.
وبعضهم قدره بثلاثة أيام، وقد روي في ذلك أثر صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه.
(1495-23) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن
_________
(1) انظر الحاشية السابقة.(13/62)
عمرو بن ميمون، عن نافع،
عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المصنف (5/148) رقم 24608.
(2) ورواه عبد الرزاق في المصنف (8717) عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة ثلاثاً إذا أراد أن يأكل بيضها.
وهذا إسناد صالح في المتابعات، وعبد الله العمري في حفظه شيء، لكنه قد توبع من عمرو بن ميمون، كما روى ابن أبي شيبة أيضاً (5/148) من طريق ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان عنده إبل جلالة، فأصدرها إلى الحمى، ثم ردها، فحمل عليها الرواحل إلى مكة.
وهو في مصنف عبد الرزاق (8710) .
وفي إسناده عبد العزيز بن أبي رواد، جاء في ترجمته:
قال ابن عدي: في بعض رواياته ما لا يتابع عليه. الكامل (5/290) .
وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب الكمال (18/136) .
وقال أحمد بن حنبل: رجل صالح الحديث، وكان مرجئا وليس هو في التثبت مثل غيره. المرجع السابق.
وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. المرجع السابق.
وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (2/96) .
وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه التقشف حتى كان لا يدري ما يحدث به، فروى عن نافع أشياء لا يشك من الحديث صناعته إذا سمعها أنها موضوعة، كان يحدث بها توهماً لا تعمداً، ومن حدث على الحسبان وروى على التوهم حتى كثر ذلك منه سقط الاحتجاج به وإن كان فاضلا في نفسه، وكيف يكون التقي في نفسه من كان شديد الصلابة في الإرجاء، كثير البغض لمن انتحل السنن، ثم قال ابن حبان: روى عبد العزيز، عن نافع، عن ابن عمر نسخة موضوعة، لا يحل ذكرها إلا على سبيل الاعتبار منها. المجروحين (2/136) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/6) .
وقال الحافظ في التقريب: صدوق عابد ربما وهم، ورمي بالإرجاء.
ومع متابعة عمرو بن ميمون عن نافع في حبس الجلالة يتقوى ما روى عبد العزيز بن أبي رواد، والله أعلم.
وروى عبد الرزاق أيضاً (8711) عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كره أن تركب الجلالة، أو أن يحج عليها.(13/63)
وهذا أحسن ما ورد في حبس الجلالة.
وقال في بدائع الصنائع: والأفضل أن تحبس الدجاج حتى يذهب ما في بطنها من النجاسة لما روي " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحبس الدجاج ثلاثة أيام ثم يأكله " وذلك على طريق التنزه وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة عليهما الرحمة أنها تحبس ثلاثة أيام كأنه ذهب إلى ذلك للخبر ولما ذكرنا أن ما في جوفها من النجاسة يزول في هذه المدة ظاهرا أوغالباً (1) .
وقال الحافظ: وأخرج البيهقي بسند فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا أنها لا تؤكل حتى تعلف أربعين يوماً.
وبعضهم حرمها مطلقاً إذا تغذت على النجاسة، ولو علفت بعد ذلك بالحلال، كابن حزم رحمه الله، قال: ولا يحل أكل لحوم الجلالة , ولا شرب ألبانها , ولا ما تصرف منها; لأنه منها وبعضها, ولا يحل ركوبها (2) .
ثم قال: روينا عن ابن عمر أنه كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا حتى يطيب بطنها. قال أبو محمد: هذا لا يلزم لأنه إن كان حبسها من أجل ما في قانصتها مما أكلت فالذي في القانصة لا يحل أكله جملة؛ لأنه رجيع , وإن كان
_________
(1) بدائع الصنائع (5/40) .
(2) المحلى (6/85) .(13/64)
من أجل استحالة المحرمات التي أكلت فلا يستحيل لحمها في ثلاثة أيام, ولا في ثلاثة أشهر بل قد صار ما تغذت به من ذلك لحما من لحمها, ولو حرم من ذلك لحرم من الثمار والزرع ما ينبت على الزبل - وهذا خطأ. وقد قدمنا أن الحرام إذا استحالت صفاته واسمه بطل حكمه الذي علق على ذلك الاسم وبالله تعالى التوفيق (1) .
فكأن ابن حزم لا يرى علة في تحريم الجلالة إلا الاتباع فقط، وهو لا يرى الاستدلال بقول الصحابي رضي الله عنه، وهي مسألة خلافية، والجمهور على الاستدلال به، وهو الحق.
فعلى هذا يكون القول الراجح أن الجلالة يكره أكل لحمها ما دام النتن قد ظهر في لحمها، فإذا ذهب النتن جاز أكلها، والثلاثة أيام غالباً ما يكون كافياً في إزالة النتن منها إذا حبست وعلفت طعاماً طيباً، والله أعلم.
_________
(1) المحلى (6/110) .(13/65)
[صفحة فارغة](13/66)
المبحث الثالث
في الحيوان محرم الأكل
الفرع الأول:
فيما ليس له نفس سائلة
تعريف الحيوان الذي لا نفس له سائلة
(النفس) : هو الدم، فما لا نفس له: أي لا دم له.
جاء في المصباح المنير: " النفس: وهو الدم، ومنه قولهم: " لا نفس له سائلة: أي: لادم له يجري، وسمي الدم نفساً؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان، قوامها بالدم. والنفساء من هذا " اهـ (1) .
(1496-24) روى البخاري، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن زينب بنت أم سلمة حدثته، أن أم سلمة حدثتها، قالت:
بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حِضْتُ، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، قال: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. ورواه مسلم (2) .
قال في الفتح: قال الخطابي: أصل هذه الكلمة من النفس وهو الدم (3) .
قال ابن عبد البر: قوله: " نفست " لعلك أصبت بالدم، يعني الحيضة،
_________
(1) المصباح المنير (ص: 317) .
(2) صحيح البخاري (298) ومسلم (296) .
(3) فتح الباري (1/536) .(13/67)
والنفس: الدم. ألا ترى إلى قول إبراهيم النخعي، وهو عربي فصيح، كل ما لا نفس له سائلة يموت في الماء لا يفسده. يعني: دماً سائلاً (1) .
وقيل: ما ليس فيه عظم.
(1497-25) روى عبد الرزاق، عن معمر،
عن يحيى بن أبي كثير، في الجعل والزنبور وأشباهه إذا سقط في الماء أو وقع في الطعام والشراب: قال يؤكل ويشرب ويتوضأ منه وما يكون في الماء مما ليس فيه عظم فلا بأس به (2) .
والأول أصح من حيث اللغة والشرع.
_________
(1) انظر: التمهيد كما في فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/456) وانظر في أسماء الحيض اللسان (4/142) (5/126) ، وتاج العروس (10/44) ، والحاوي الكبير (1/378) والمجموع (2/378) ، وعارضة الأحوذي لابن العربي (1/203، 204) .
(2) المصنف (296)(13/68)
خلاف العلماء في الحيوان الذي لا دم له يجري
قيل: هو طاهر مطلقاً، سواء تولد من شيء طاهر أو من شيء نجس، وسواء مات فيما تولد منه، أو مات في غيره، وسواء كان الميت مأكولاً أو غير مأكول.
وهذا هو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، وقول في مذهب الشافعية (3) ، وقول في مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: هو نجس، لكن إن تولد من شيء طاهر، ومات فيما تولد منه، لم ينجسه، كدود التمر والتين والجبن يموت فيها، وإن أخرج ومات في غيره، نجسه، وهو قول في مذهب الشافعية (5) .
وقيل: إن تولد من شيء طاهر، فهو طاهر مطلقاً، سواء مات فيما تولد منه أم لا، وإن تولد من شيء نجس، كصراصير الكنف، فهو نجس، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (6) .
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (3/34) ، المبسوط (1/51) ، بدائع الصنائع (1/62) .
(2) المدونة (1/115) .
(3) الأم (1/5) .
(4) المغني (1/41) .
(5) قال الشافعي في الأم (1/5) : " أحب إلي أن كل ما كان حراماً أن يؤكل، فوقع في ماء، فلم يمت حتى أخرج منه لم ينجسه، وإن مات فيه نجسه, وذلك مثل الخنفساء والجعل والذباب والبرغوث, والقملة وما كان في هذا المعنى".
(6) الإنصاف (1/338) ، الكافي لابن قدامة (1/16) ، الهداية (1/22) ، بلغة الساغب (ص: 37) ، غاية المطلب في معرفة المذهب (ص: 35) .(13/69)
دليل من قال بطهارة ما لا نفس له سائلة مطلقاً.
الدليل الأول:
أن الله سبحانه وتعالى إنما حرم الدم المسفوح في قوله تعالى {أو دماً مسفوحاً} (1) ، وما لا نفس له سائلة ليس له دم مسفوح، فيكون طاهر الدم، فلا ينجس بالموت.
الدليل الثاني:
قوله تعالى عن النحل {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} (2) .
قال الجصاص: فيه بيان طهارة العسل ومعلوم أنه لا يخلو من النحل الميت وفراخه فيه, وحكم الله تعالى مع ذلك بطهارته فأخبر عما فيه من الشفاء للناس, فدل ذلك على أن ما لا دم له لا يفسد ما يموت فيه (3) .
الدليل الثالث:
(1498-26) ما رواه البخاري، من طريق عتبة بن مسلم مولى بني تيم، عن عبيد بن حنين مولى بني زريق،
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء (4) .
_________
(1) الأنعام: 145.
(2) النحل: 69.
(3) أحكام القرآن للجصاص (3/273) .
(4) صحيح البخاري (5782) .(13/70)
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري،
(1499-27) رواه أحمد رحمه الله من طريق ابن أبي ذئب، قال: حدثني سعيد بن خالد، عن أبي سلمة،
عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه (1) .
[إسناده حسن] (2) .
وجه الاستدلال:
قال ابن القيم: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقله: وهو غمسه في الطعام، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولاسيما إذا كان الطعام حاراً، فلو كان ينجسه لكان أمراً
_________
(1) المسند (3/24) .
(2) في إسناده سعيد بن خالد،
ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/16) ولم يذكر فيه شيئاً.
وذكره ابن حبان في الثقات (6/357) .
وقال الدارقطني: مدني يحتج به. تهذيب التهذيب (4/18) .
وقال الذهبي: صدوق، ضعفه النسائي المغني في الضعفاء (2371) .
وفي التهذيب: ضعفه النسائي، لكن قال الحافظ: وقال النسائي في الجرح والتعديل: ثقة، فينظر أين قال: إنه ضعيف. اهـ
وفي التقريب: صدوق.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه أبو داود الطيالسي (2188) ، وعبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (884) ، والنسائي في المجتبى (4262) ، وأبو يعلى (986) ، وابن حبان في الصحيح (1247) ، وفي الثقات (6/358) والبيهقي (1/253) من طريق ابن أبي ذئب به.
انظر إتحاف المهرة (5823) ، أطراف المسند (6/333) ، تحفة الأشراف (4426) .(13/71)
بإفساد الطعام، وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بإصلاحه، ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنملة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي بانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً في ما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجس لانتفاء علته (1) .
الدليل الرابع:
لو حكمنا بنجاسة الماء الذي يقع فيه الذباب أو نحوه من الحشرات التي لا نفس لها سائلة لوقع الناس في الحرج؛ لأنه يتعذر صون الأواني عنها، والحرج مرفوع عن هذه الأمة، {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (2) .
الدليل الخامس:
(1500-28) ما رواه الدارقطني، من طريق بقية، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن بشر ابن منصور، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب،
عن سلمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله وشربه ووضوءه.
قال الدارقطني: لم يروه غير بقية، عن سعيد الزبيدي، وهو ضعيف (3) .
_________
(1) زاد المعاد (3/210) .
(2) الحج: 78.
(3) سنن الدراقطني (1/37) ، ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/65) رقم 45.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/405) ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/253) ، من طريق بقية به.
قال الحافظ في التلخيص (1/28) : وفيه بقية بن الوليد، وقد تفرد به، وحاله معروف، وشيخه سعيد بن أبي سعيد الزبيدي مجهول. وقد اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين واهية، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف أيضاً. وقال الحاكم أبو أحمد: هذا محفوظ.
وساقه ابن عدي من منكرات سعيد بن أبي سعيد، وقال: وهذه الأحاديث يرويها سعيد الزبيدي، عمن يرويه عنهم، وليس هو بكثير الحديث، وعامتها ليست بمحفوظة. الكامل (2/405) .
وأورده الذهبي في الميزان (3/140) ، وقال: أحاديثه ساقطة.
انظر إتحاف المهرة (5912) .(13/72)
الدليل السادس:
(1501-29) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن منبوذ،
عن أمه، أنها كانت تسافر مع ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فكنا نأتي الغدير فيه الجعلان أمواتاً، فنأخذ منه الماء. يعني: فيشربونه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (297) .
(2) في الإسناد: منبوذ، قال عنه الحافظ في التقريب: مقبول. فلم يصب.
قال ابن معين: ثقة. الجرح والتعديل (8/418) ، وتهذيب التهذيب (10/213) .
وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (7/524) .
وقال الذهبي: ثقة. الكاشف (5624) .
ومثل هذا لايقال له مقبول: أي لين الحديث إذا انفرد، لكن علة الإسناد أم منبوذ، حيث لم يرو عنها إلا ابنها منبوذ، ولم يوثقها أحد فهي مجهولة.
والأثر رواه ابن أبي شيبة (1510) حدثنا ابن عيينة به، بلفظ: فتمر بالغدير فيه الجعلان والبعر، فيستقى لها منه، فتتوضأ وتشرب.
ورواه إسحاق بن راهوية في مسنده (4/221) رقم 21.
ورواه البيهقي في السنن (1/259) من طريق الحميدي، ثنا سفيان به.
وذكر الحافظ في التلخيص (1/28) أنه رواه أبو عبيد في كتابه الطهور من طريق سفيان به. والله أعلم.(13/73)
دليل من قال: بنجاسة ما لا نفس له سائلة.
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (1) ، وهذا ميتة.
وقال تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} (2) .
وهذا عام يشمل كل ميتة، سواء كان له نفس سائلة أم لا.
وأجيب:
أنتم لا تأخذون بعموم هذا اللفظ، فهذا شعر الميتة إذا جز حال الحياة لا تقولون بنجاسته، وهو جزء من الميتة، وهذا جلد الميتة يطهره الدباغ، وهو جزء من الميتة، فكونه يخرج من هذا العموم الذباب ونحوه مما لا دم له ليس بمستنكر، فيكون قد خص من هذا العموم ما لا دم له، كما خص غيره من الجلود إذا دبغت ونحوها.
الدليل الثاني:
(1502-30) من السنة، ما رواه البخاري من طريق الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة،
أنه سمع ابن عباس يحدثه عن ميمونة، أن فأرة وقعت في سمن فماتت فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال: ألقوها وما حولها وكلوه (3) .
_________
(1) المائدة: 3.
(2) الأنعام: 145.
(3) صحيح البخاري (5538) .(13/74)
وجه الاستدلال:
أنه تنجس ما حول الفأرة حين ماتت، وهذا دليل على نجاسة الميتة، وهو عام في كل ميتة، ولا يخرج منه شيء إلا بدليل.
قال ابن حزم: العجب من تفريق أبي حنيفة ومالك بين ما لا دم له يموت في الماء وفي المائعات، وبين ما له دم يموت فيها، وهذا فرق لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة, ولا قول صاحب، ولا قياس ولا معقول, والعجب من تحديدهم ذلك بما له دم، وبالعيان ندري أن البرغوث له دم والذباب له دم.
فإن قالوا: أردنا ما له دم سائل, قيل: وهذا زائد في العجب ومن أين لكم هذا التقسيم بين الدماء في الميتات؟ وأنتم مجمعون معنا ومع جميع أهل الإسلام على أن كل ميتة فهي حرام, وبذلك جاء القرآن, والبرغوث الميت والذباب الميت والعقرب الميت والخنفساء الميت حرام بلا خلاف من أحد, فمن أين وقع لكم هذا التفريق بين أصناف الميتات المحرمات؟ فقال بعضهم: قد أجمع المسلمون على أكل الباقلاء المطبوخ وفيه الدقش الميت, وعلى أكل العسل وفيه النحل الميت وعلى أكل الخل وفيه الدود الميت, وعلى أكل الجبن والتين كذلك, وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقل الذباب في الطعام. قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إن كان الإجماع صح بذلك كما ادعيتم, وكان في الحديث المذكور دليل على جواز أكل الطعام يموت فيه الذباب كما زعمتم, فإن وجه العمل في ذلك أحد وجهين: إما أن تقتصروا على ما صح به الإجماع من ذلك وجاء به الخبر خاصة. ويكون ما عدا ذلك بخلافه, إذ أصلكم أن ما لاقى الطاهرات من الأنجاس فإنه ينجسها, وما خرج عن أصله عندكم فإنكم لا(13/75)
ترون القياس عليه سائغا أو تقيسوا على الذباب كل طائر, وعلى الدقش كل حيوان ذي أرجل, وعلى الدود كل منساب. ومن أين وقع لكم أن تقيسوا على ذلك ما لا دم له؟ فأخطأتم مرتين:
إحداهما أن الذباب له دم, والثانية اقتصاركم بالقياس على ما لا دم له, دون أن تقيسوا على الذباب كل ذي جناحين أو كل ذي روح. فإن قالوا: قسنا ما عدا ذلك على حديث الفأر في السمن. قيل لهم: ومن أين لكم عموم القياس على ذلك الخبر؟ فهلا قستم على الفأر كل ذي ذنب طويل, أو كل حشرة من غير السباع وهذا ما لا انفصال لهم منه أصلاً، والعجب كله من حكمهم: أن ما كان له دم سائل فهو النجس, فيقال لهم: فأي فرق بين تحريم الله تعالى الميتة وبين تحريم الله تعالى الدم؟ فمن أين جعلتم النجاسة للدم دون الميتة؟ وأغرب ذلك أن الميتة لا دم لها بعد الموت فظهر فساد قولهم بكل وجه (1) .
والجواب على ما أثاره ابن حزم، أن يقال:
أولاً: ليس كل دم حرام، وإنما النص جاء في الدم المسفوح، فقال تعالى: {أو دماً مسفوحاً} .
(1503-31) ثانياً: لا شك أن تحريم الميتة كان من أسبابها انحباس الدم، ولذلك روى البخاري في صحيحه من طريق سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة،
عن جده أنه قال: يا رسول الله ليس لنا مدى فقال ما أنهر الدم وذكر
_________
(1) المحلى (1/152) وما بعدها.(13/76)
اسم الله فكل ليس الظفر والسن أما الظفر فمدى الحبشة وأما السن فعظم.
فقوله: ما أنهر الدم، دليل على أن انحباس الدم وعدم إنهاره مؤثر في حل الذبيحة.
ثالثاً: جاء في حديث ابن عباس في مسلم: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (1) .
فالإهاب لما كان متصلاً برطوبة النجاسة ودمها كان نجساً، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً، فما بالك بالحيوان الذي ليس فيه دم أصلاً.
وقد ذكر ابن تيمية أن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة، ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فلا ينجس، فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجس من هذا، فإن العظم ليس فيه دم سائل، ولا كان متحركاً بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الإحساس، المتحرك بالإرادة، لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل.
والذي يوضح هذا أكثر أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الدم المسفوح، قال سبحانه وتعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} الآية (2) .
وعفا عن غير الدم المسفوح، مع أنه من جنس الدم، والله سبحانه وتعالى حرم ما مات حتف أنفه، أو بسبب غير جارح محدد، فحرم المنخنقة والموقوذة
_________
(1) مسلم (366) .
(2) الأنعام: 145.(13/77)
والمتردية والنطيحة، والفرق بينهما إنما هو في سفح الدم، فدل على أن سبب التنجس هو احتقان الدم واحتباسه، ثم قال: ولا يعارض هذا بتحريم تذكية المرتد والمجوسي، ولو سفح الدم؛ لأن التحريم تارة يكون لاحتقان الدم، كما هو الحال في المتردية والنطيحة، وما صيد بعرض المعراض، وتارة تكون لفساد التذكية، كذكاة المجوسي والمشرك (1) .
دليل من قال: يشترط أن يكون متولداً من طاهر.
هذا المذهب يرى أن الاستحالة لا تطهر إلا ما ورد فيه النص، كالخمر تنقلب خلاً، فإذا تولد من نجس، كان أصله نجساً، وما كان أصله نجساً فهو نجس، فيعطى المستحيل حكم ما استحال منه.
فإذا احترقت النجاسة وصارت رماداً، أو وقع الخنزير في الملاحة، وصار ملحاً، أو تكثف البخار المتصاعد من ماء نجس، فتحول إلى رطوبة، فإن كل هذا لا يحول الأعيان النجسة إلى طاهرة، فكذلك إذا تولد ما لا نفس له سائلة من النجاسات صارت عينه نجسة.
والصحيح أن الاستحالة مؤثرة، فالاستحالة تقلب الطيب إلى خبيث، كالغذاء ينقلب إلى عذرة، وتقلب الخبيث إلى طيب، كاللبن من دم الحيض، وعلى القول بنجاسة الخمر فإنها إذا انقلبت خلاً بنفسها حكمتم بطهارتها وهكذا.
قال ابن حزم: وإذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رماداً أو تراباً, فكل ذلك طاهر, ويتيمم بذلك التراب, برهان ذلك أن الأحكام إنما
_________
(1) انظر مجموع الفتاوى (21/99-100) بتصرف يسير.(13/78)
هي على ما حكم الله تعالى بها فيه مما يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطبنا الله عز وجل, فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط ذلك الحكم, وأنه غير الذي حكم الله تعالى فيه. والعذرة غير التراب وغير الرماد, وكذلك الخمر غير الخل, والإنسان غير الدم الذي منه خلق, والميتة غير التراب (1) .
الراجح:
الراجح قول من قال بطهارة ما لا دم له سائل، لأن الاستدلال بنجاسته بناء على أنه ميتة غير مستقيم، لأن هناك من أجزاء الميتة ما هو طاهر مطلقاً كالشعر، وهناك ما هو طاهر بالدباغ كالجلد، وحديث غمس الذباب ظاهر في الطهارة، وما كان مثل الذباب كان في حكمه، لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين، وأثر الدم في نجاسة الميتة وطهارتها ظاهر، حيث اشترط في حل الذبيحة أن تكون الآلة مما تنهر الدم، وحرمت الموقوذة والمتردية لانحباس الدم فيها، والله أعلم.
_________
(1) المحلى (مسألة: 132) .(13/79)
[صفحة فارغة](13/80)
الفرع الثاني
في لحيوان الذي له نفس سائلة
المسألة الأول: في الهرة
اختلف العلماء في حكم الهرة من حيث الطهارة والنجاسة،.
فقيل: إن الهرة عينها نجسة، ولكن سقطت نجاسة سؤرها لعلة التطواف علينا، وبقيت الكراهة لإمكان التحرز منه، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: هي طاهرة، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/65) ، المبسوط (1/51) ، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (1/58) .
(2) بل ذهب المالكية إلى جواز أكل لحم الهر مع الكراهة، انظر حاشية الدسوقي (1/49) ، الخرشي (5/16) ، وقال في المدونة (4/104) : قلت: ما قول مالك في اللحم بالهر والثعلب والضبع وما أشبه هذه الأشياء؟ قال: سمعت مالكاً يكره أكل الهر والثعلب والضبع ويقول: إن قتلها مُحْرِمٌ وداها, وإنما كرهها على وجه الكراهية من غير تحريم قال: ولم أره جعل هذه الأشياء في الكراهية بمنزلة البغل والحمار والبرذون لأنه قال: تودى إذا قتلها المحرم. قال ابن القاسم: وأكره اللحم بالضبع والهر والثعلب لما رأيت من قول مالك في كراهية هذه الأشياء لأنها ليست عنده كالحرام البين، ولما أجازه بعض أهل العلم من أكلها من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا أكرهه ولا يعجبني. اهـ
وقال الباجي في المنتقى (1/62) : الهرة عند مالك طاهرة العين.
(3) قال الشافعي في الأم (1/6) : ولا نجاسة في شيء من الأحياء ماسَّت ماء قليلاً، بأن شربت منه، أو أدخلت فيه شيئاً من أعضائها إلا الكلب والخنزير, وإنما النجاسة في الموتى. اهـ وانظر المهذب مع المجموع (2/585) .
(4) اعتبر الحنابلة أن الهرة وما دونها في الخلقة طاهر، انظر الفروع (1/246) ، الإنصاف (1/343) ، كشاف القناع (1/57) .(13/81)
دليل الحنفية:
الدليل الأول:
(1504-32) ما رواه الترمذي في سننه، قال: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب يحدث، عن محمد بن سيرين،
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولم يذكر فيه إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة (1) .
[المحفوظ أن غسل الإناء من ولوغ الهر موقوف على أبي هريرة، فلا حجة فيه فيما عارض المرفوع من حديث أبي قتادة] (2) .
_________
(1) سنن الترمذي (91) .
(2) هذا الحديث رجاله ثقات إلا أنه معلول، فقد اختلف فيه على معتمر بن سليمان، فرواه سوار بن عبد الله العنبري كما في سنن الترمذي، وفي شرح مشكل الآثار للطحاوي (2650) ، عن المعتمر بن سليمان به مرفوعاً.
وخالفه مسدد، وهو أوثق منه، فقد أخرجه أبو داود (72) حدثنا مسدد، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان به موقوفاً.
قال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/60) : علة الحديث أن مسدداً رواه عن معتمر فوقفه، رواه عنه أبو داود. اهـ
وقد رواه غير المعتمر بن سليمان، عن أيوب، فوقفه أيضاً:
فرواه ابن أبي شيبة (1/37) حدثنا عبد الوهاب الثقفي.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (217) ، والدراقطني (1/67) من طريق عبد الرزاق، نا معمر، كلاهما (معمر والثقفي) عن أيوب، عن ابن سيرين به موقوفاً.
وهذه تؤيد صحة رواية مسدد الموقوفة، وخطأ سوار بن عبد الله العنبري في رفعه عليهم رحمة الله جميعاً. انظر موضع الحديث من الأطراف في تحفة الأشراف (14451) .(13/82)
الحديث الثاني:
(1505-33) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، قال: ثنا محمد بن سيرين،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين. قرة شك (1) .
[أخطأ فيه أبو عاصم في رفعه، والمحفوظ في رواية قرة كونه موقوفاً على أبي هريرة] (2) .
_________
(1) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/19) .
(2) الحديث اختلف فيه على قرة بن خالد:
فرواه أبو عاصم (الضحاك بن مخلد) وهو ثقة، عن قرة به مرفوعاً.
ورواه غيره عن قرة به موقوفاً على أبي هريرة، وهو المحفوظ:
فقد رواه مسلم بن إبراهيم كما في الأوسط لابن المنذر (216) ، وسنن الدارقطني (1/98) ، والحاكم (1/161) ، والبيهقي (1/247، 248) عن قرة به موقوفاً على أبي هريرة.
ورواه نصر الجهضمي، عن قرة موقوفاً كذلك.
قال الحاكم: وقد شفى علي بن نصر الجهضمي، عن قرة في بيان هذه اللفظة، فأخرجه الحاكم (1/161) ، والبيهقي (1/247) الحديث من طريق نصر بن علي الجهضمي، ثنا أبي، ثنا قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات، أولاهن بالتراب، ثم ذكر أبو هريرة الهر، لا أدري قال: مرة أو مرتين. قال نصر بن علي: وجدته في كتاب أبي في موضع آخر، عن قرة، عن ابن سيرين عن أبي هريرة في الكلب مسنداً، وفي الهر موقوفاً. اهـ
ورواه أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/20) عن أبي نعيم، عن قرة موقوفاً كذلك، فهؤلاء ثلاثة يروونه عن قرة، موقوفاً مخالفين في ذلك رواية أبي عاصم عن قرة.
فتبين من هذا أن أبا عاصم أدرج الموقوف من كلام أبي هريرة بالمرفوع،
قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/20) : كذا رواه أبو عاصم، وأخطأ فيه، ثم روى عن أبي نعيم، عن قرة، عن محمد موقوفاً عليه.
وروى الدارقطني (1/67) عن شيخه الحافظ أبي بكر النيسابوري قوله: كذا رواه أبو عاصم مرفوعاً، ورواه غيره عن قرة ولوغ الكلب مرفوعاً، وولوغ الهر موقوفاً.
وقال البيهقي (1/247) : وأبو عاصم الضحاك بن مخلد ثقة إلا أنه أخطأ في إدراج قول أبي هريرة في الهرة في الحديث المرفوع في الكلب.
ومما يرجح رواية من رواه عن قرة، عن ابن سيرين موقوفاً، أنه قد رواه غير قرة موقوفاً، فقد رواه أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة موقوفاً، وخرجناها في الحديث الذي قبل هذا.
كما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/20) ، والدارقطني (67) من طريق وهب ابن جرير، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين به موقوفاً كذلك، وهشام بن حسان من أثبت أصحاب ابن سيرين، وهو مقدم على غيره في ابن سيرين، والله أعلم.
انظر إتحاف المهرة (19808) .(13/83)
الدليل الثالث:
(1506-34) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عيسى بن المسيب، عن أبي زرعة،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الهر سبع (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (2/442) .
(2) ومن طريق وكيع أخرجه ابن أبي شيبة (1 / 37) رقم 343، وإسحاق بن راهوية (178) ، وأبو يعلى في مسنده (6090) والدارقطني (1/63) ، والحاكم (650) .
ورواه أحمد (2/327) ، والدارقطني (1/63) والحاكم (649) ، والبيهقي (1/249، 251) من طريق أبي النظر هاشم بن القاسم، نا عيسى بن المسيب به، وفيه قصة، وقال: السنور سبع بدلاً من قوله: الهر.
وأخرجه ابن عدي (5/252) من طريق مسكين الحذاء، عن عيسى به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، وعيسى بن المسيب تفرد به عن أبي زرعة، إلا أنه صدوق، ولم يجرح قط. اهـ
قلت: روى الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: عيسى بن المسيب ضعيف الحديث، ليس بشيء. الجرح والتعديل (6/288) .
وقال أبو حاتم الرازي: محله الصدق ليس بالقوي، قيل: هو أحب إليك أم بكير بن عامر؟ قال: بكير أثبت عندي. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: شيخ ليس بالقوي. المرجع السابق.
قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين للنسائي (424) .
وقال الدارقطني: ضعيف. لسان الميزان (4/405) ، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/242) .
وقال أبو داود: هو قاضي الكوفة ضعيف. لسان الميزان (4/405) .
وذكره العقيلي في الضعفاء (3/386) ، وقال: لا يتابعه إلا من هو مثله أو دونه.
وفي العلل لابن أبي حاتم (1/44) : قال أبو زرعة: لم يرفعه أبو نعيم، وهو أصح، وعيسى ليس بالقوي. اهـ
أطراف المسند (8/127) ، إتحاف المهرة (20337، 20338) .(13/84)
دليل الجمهور:
(1507-35) ما رواه مالك، عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها:
أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب(13/85)
منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) الموطأ (1/44) .
(2) في إسناده حميدة بنت عبيد بن رفاعة، روى عنها زوجها إسحاق بن عبد الله وابنها يحيى بن إسحاق، وذكرها ابن حبان في الثقات (6/250) .
وفي التقريب: مقبولة أي إن توبعت وإلا فلينة الحديث.
وكبشة بنت كعب بن مالك، لم يرو عنها إلا حميدة، وذكرها ابن حبان في الثقات (5/344) .
على أن كبشة قد ذكر ابن حبان في ثقاته ونقله أبو موسى المديني عن جعفر أنها صحابية، انظر الثقات (3/357) ، و (5/344) ، كما ذكر ذلك ابن سعد أيضاً في طبقاته (8/351) .
وقد صحح الحديث جمع من أئمة هذا الفن منهم: البخاري، فقد جاء في سنن البيهقي (1/245) : قال أبو عيسى سألت محمداً يعني: ابن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: جود مالك بن أنس هذا الحديث، وروايته أصح من رواية غيره.
وصححه أيضاً الترمذي، قال في السنن (1/153) : هذا حديث حسن صحيح، وهذا أحسن شيء روي في هذا الباب، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ولم يأت أحد أتم من مالك. اهـ
وقال العقيلي في الضعفاء (2/142) : إسناده ثابت صحيح.
وقال الدارقطني في العلل (6/163) بعد أن ساق الاختلاف في إسناده: " ورفعه صحيح، ثم قال: وأحسنها إسناداً ما رواه مالك عن إسحاق، عن امرأته، عن أمها، عن أبي قتادة، وحفظ أسماء النسوة وأنسابهن، وجود ذلك ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ
وصححه ابن خزيمة وابن حبان حيث ذكراه في صحيحيهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
كما صححه ابن عبد البر في التمهيد (1/324) .
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه على ما أصلاه في تركه، غير أنهما قد شهدا جميعاً لمالك بن أنس أنه الحكم في حديث المدنيين، وهذا الحديث مما صححه مالك، واحتج به في الموطأ، وأقره الذهبي.
وقال البيهقي: إسناده صحيح كما في تلخيص الحبير (1/54) ، وصححه النووي في المجموع (1/168،225) ، وابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (21/42) .
وأعله ابن منده، قال ابن دقيق العيد في الإمام (1/234) : " وأما أبو عبد الله بن منده فإنه أخرج هذا الحديث من رواية مالك في الموطأ، ثم ذكر اختلاف رواياته، وقال: أم يحيى اسمها حميدة، وخالتها كبشة، ولا يعرف لهما رواية إلا في هذا الحديث، ومحلها محل الجهالة، ولا يثبت هذا الخبر من وجه من الوجوه، وسبيله سبيل المعلول". ا. هـ
فتعقبه ابن دقيق العيد بقوله: " إذا لم تعرف لهما رواية إلا في هذا الحديث، فلعل طريق من صححه أن يكون اعتمد على إخراج مالك لروايتهما مع شهرته بالتشدد، نقلت من خط الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي وروايته من سؤالات أبي زرعة، قال: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: إذا روى مالك عن رجل لا يعرف، فهو حجة". ا. هـ
قال ابن دقيق العيد: فإن سلكت هذا الطريق في تصحيح هذا الحديث (أعني: الاعتماد على تخريج مالك له) وإلا فالقول ما قال ابن منده، وقد ترك الشيخان إخراجه في صحيحيهما" انظر البدر المنير (2/342-343) .
ورد ابن الملقن كلام ابن منده، قال في خلاصة البدر المنير (1/20) : " والعجب من الشيخ تقي الدين كيف تابعه في الإمام - يعني: تابع ابن مندة- على هذه المقولة؟ " ا. هـ
وقال ابن الملقن في البدر المنير: " قال شيخنا الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري: بقي على ابن مندة أن يقول: ولم يعرف حالهما من جارح، فكثير من رواة الأحاديث مقبولون"
قال ابن الملقن في البدر المنير (2/342-346) : هذا لا بد منه، وأنا استبعد كل البعد توارد الأئمة المتقدمين على تصحيح هذا الحديث مع جهالتهم بحال حميدة وكبشة، فإن الإقدام على التصحيح - والحالة هذه - لا يحل بإجماع المسلمين، فلعهم اطلعوا على حالهما، وخفي علينا"اهـ.
قلت: بل هذا يفصح عن منهج الأئمة، وأن مجهول الحال ليس مردوداً مطلقاً.
قال الذهبي في ميزان الاعتدال (ترجمة: 2112) في ترجمة حفص بن بغيل: قال ابن القطان: لا يعرف له حال، ولا يعرف. فتعقبه الذهبي بقوله: لم أذكر هذا النوع في كتابي هذا؛ فإن ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته، وهذا شيء كثير ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون، ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل".اهـ
وقال في ترجمة مالك بن الخير: قال ابن القطان: هو ممن لم تثبت عدالته، فتعقبه الذهبي بقوله: يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة، وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشايخ، قد روى عنه جماعة، ولم يأت بما ينكر عليه، أن حديثه صحيح. اهـ
قلت: فإذا أضيف إلى ذلك تصحيح هؤلاء الأئمة لحديث حميدة وكبشة، فكيف يضعف الحديث بهما.
وقال ابن سعد كما في الطبقات (8/351) : أسلمت كبشة، وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه مالك في الموطأ كما علمت من إسناد الباب، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق في المصنف (353) ، والشافعي في المسند (ص: 9) ، وفي الأم (1/6) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/36) رقم 325، و (7/308) رقم 36348، وأحمد في مسنده (5/303) ، وأبو داود (75) ، والترمذي (92) ، والنسائي (68، 340) ، وابن ماجه (367) ، والدارمي (736) ، وابن الجارود (60) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/18-19) ، وفي شرح مشكل الآثار (3/370) ، وابن خزيمة (104) ، وابن حبان (1299) ، والدارقطني (1/70) ، والحاكم (567) ، والبيهقي (1/245) .
وقد توبع فيه مالك، تابعه حسين المعلم وهمام بن يحيى، فقد أخرجه البيهقي (1/245) من طريق حسين المعلم، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أم يحيى، عن خالتها بنت كعب، قالت: دخل علينا أبو قتادة.. فذكرت الحديث.
قال البيهقي: أم يحيى هي حميدة، وابنة كعب: هي كبشة بنت كعب.
وقال مثله أبو زرعة وأبو حاتم، انظر علل ابن أبي حاتم (1/52) .
وأخرجه البيهقي أيضاً (1/245) من طريقين عن همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال: حدثتني أم يحيى به.
وأخرجه عبد الرزاق (351) عن ابن عيينة، عن إسحاق بن عبد الله، عن امرأة، عن أمها، وكانت..... يكمل من المصنف.
وأخرجه الحميدي (430) ثنا سفيان قال حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: سمعت امرأة أظنها امرأة عبد الله بن أبي قتادة - يشك سفيان - أن أبا قتادة كان يأتيهم فيتوضأ عندهم فيصغي الإناء للهر، فيشرب، فسألناه عن سؤرها فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أنها ليست بنجس، فقال: إنها من الطوافين والطوافات عليكم.
وأخرجه عبد الرزاق (352) من طريق هشام بن عروة، عن إسحاق، عن امرأة، عن أمها، وكانت تحت أبي قتادة أن أمها أخبرتها أن أبا قتادة زارهم، وذكر نحو حديث مالك.
وقوله: عن أمها: تطلق الأم أحياناً على الخالة.
وقال الدارقطني في العلل (6/160) : يرويه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة واختلف عنه:
فرواه مالك بن أنس، عن إسحاق، فحفظ إسناده فقال: عن حميد بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت ابن أبي قتادة، عن أبي قتادة.
ورواه يونس بن عبيد وحسين المعلم، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أم يحيى، وهي حميدة بنت عبيد، وهي امرأة إسحاق بن عبد الله، عن خالتها ابنة كعب، عن أبي قتادة. وكذلك رواه همام بن يحيى وإبراهيم بن أبي يحيى.
ورواه هشام بن عروة عن إسحاق واختلف عنه:
فرواه ابن جريح، عن هشام، عن إسحاق، عن امرأته، عن أمها، عن أبي قتادة وهذه الرواية موافقة لرواية مالك ومن تابعه.
ورواه ابن نمير، عن هشام نحو هذا، وقال أبو معاوية: عن هشام، عن إسحاق من بني زريق، عن أبي قتادة، فنقص من الإسناد حميدة امرأة إسحاق.
ورواه عبد الله بن إدريس وعبد الله بن داود الخريبي، عن هشام، عن إسحاق، عن أبي قتادة، لم يذكر بينهما أحداً.
ورواه وكيع، عن هشام. وعلي بن المبارك، عن إسحاق، عن امرأة عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة، وافق أبا معاوية في روايته عن هشام، ونقص من الإسناد امرأة إسحاق.
ورواه ابن عيينة، عن إسحاق، عن امرأة أبي قتادة، نقص من الإسناد امرأة.
وقال نصر بن علي: عن ابن عيينة، عن إسحاق، عن امرأة أبي قتادة، أو عن امرأة عن امرأة أبي قتادة عن أبي قتادة فإن كان ضبط هذا عن ابن عيينة فقد أتى الصواب.
وروى عبد الله بن عمر العمري، عن إسحاق، عن أنس، عن أبي قتادة ووهم في ذكر أنس.
ورواه حماد بن سلمة، عن إسحاق، عن أبي قتادة مرسلاً.
وروه عبد الله بن عمر، عن إسحاق، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قاله إسماعيل بن عياش عنه ووهم في ذكر أبي سعيد.
وكل هؤلاء رفعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه عكرمة وعبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة موقوفاً، ورفعه صحيح، ولعل من وقفه لم يسأل أبا قتادة هل عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أثر أم لا؟ لأنهم حكوا فعل أبي قتادة فحسب، وأحسنها إسناداً ما رواه مالك، عن، إسحاق، عن امرأته، عن أمها، عن أبي قتادة، وحفظ أسماء النسوة وأنسابهن وجود ذلك ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ من الدارقطني نقلته بطوله.
انظر إتحاف المهرة (4098) و (4066) ، تحفة الأشراف (12141) ، أطراف المسند (7/49-50) .
وللحديث شواهد كثيرة:
الأول: حديث عائشة.
أخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده (2/436،458) ح460، قال: أخبرنا عبد العزيز ابن محمد، نا داود بن صالح التمار، عن أمه،
عن عائشة أنها قالت في الهرة: إنما هي من الطوافين عليكم، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها.
وفي إسناده أم داود بن صالح، لم يرو عنها إلا ابنها، ولم يوثقها أحد، فهي مجهولة العين.
ومع ذلك فقد اختلف في وقفه ورفعه:
قال الدارقطني في السنن (1/70) : رفعه الدراوردي، عن داود بن صالح، ورواه عنه هشام بن عروة، ووقفه على عائشة. اهـ
قال ابن الملقن في البدر المنير (2/360) بعد أن نقل كلام الدارقطني: " قلت: قال أحمد في داود بن صالح: لا أعلم به بأساً، فإذا لا يضر تفرده، لكن أمه مجهولة لا يعلم لها حال، ولهذا قال البزار: لا يثبت من جهة النقل، وقال الدارقطني في علله: اختلف في هذا الحديث فرفعه قوم، ووقفه آخرون، واقتضى كلامه أن وقفه هو الصحيح" انتهى
وقال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (7/74) : " تأملنا هذا الحديث فوجدناه يرجع إلى أم داود بن صالح، وليست من أهل الرواية التي يؤخذ مثل هذا عنها، ولا هي معروفة عند أهل العلم. اهـ
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أبو داود (76) ، وأبو عبيد في كتاب الطهور (207) ، والطحاوي في مشكل الآثار (2654، 2653) ، والطبراني في الأوسط (364) ، والدارقطني (1/70) ، والبيهقي في السنن (1/246) ، وفي الخلافيات (3/99) ، من طرق كثيرة عن عبد العزيز بن محمد به.
ورواه الدارقطني من طريق عبد ربه بن سعيد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة، أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر به الهر، فيصغي لها الإناء، فتشرب، ثم يتوضأ بفضلها.
قال الدارقطني: عبد ربه: هو عبد الله بن سعيد المقبري، وهو ضعيف. ا. هـ
وأخرجه البزار في المسند كما في كشف الأستار (275) ،، وابن شاهين في الناسخ والمنسوخ (141) ، وابن عدي في الكامل (7/) ، والخطيب في الموضح (2/192) من طريق عبد الله بن سعيد المقبري به.
وعبد الله بن سعيد المقبري ضعيف جداً، قال أحمد: منكر الحديث متروك. وقال البخاري: تركوه.
وقال يحيى بن سعيد: جلست إليه مجلساً فعرفت فيه، يعني الكذب.
وقال النسائي: ليس بثقة. وانظر تنقيح التحقيق (1/271) .
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/19) من طريق صالح بن حسان، ثنا عروة، به مرفوعاً.
وهذا ضعيف جداً، فيه صالح بن حسان، قال أحمد وابن معين: ليس بشيء.
وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال النسائي: متروك الحديث.
وأخرجه ابن خزيمة (102) ، والحاكم (1/160) ، والدارقطني (1/69) ، والبيهقي (1/246) من طريق سليمان بن مسافع، عن منصور بن صفية، عن أمه،
عن عائشة مرفوعاً: إنها ليست بنجس، هي كبعض أهل البيت.
وصححه الحاكم، وأقره الذهبي في التلخيص، وقد ضعفه الذهبي في الميزان في ترجمة سليمان بن مسافع، وقال: لا يعرف، أتى بخبر منكر.
وتعقبه الحافظ في اللسان، فقال: وليس فيه نكارة كما زعم المصنف. اهـ
والحق مع الذهبي والنكارة ليست في متنه، وإنما في رفعه، فقد أورده العقيلي في الضعفاء الكبير من طريق عبد الملك بن مسافع، عن منصور، عن أمه، عن عائشة موقوفاً عليها، ورجح العقيلي وقفه.
وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (1/269) : سليمان بن مسافع لا يعرف، ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتابه، وقد ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء، ورواه في ترجمته، وقال: لا يتابع عليه. اهـ
ورواه إسحاق بن راهوية في المسند (459) ، وابن ماجه (368) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/19) ، والدارقطني في السنن (1/52، 69) ، من طرق عن حارثة، عن عمرة، عن عائشة مرفوعاً.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/55) : هذا إسناد ضعيف، لضعف حارثة بن أبي الرجال.
وبه أعله ابن دقيق العيد في الإمام (1/236) ، والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1/55) . فالخلاصة حديث عائشة رضي الله عنها لا يصح مرفوعاً، وإنما هو موقوف عليها.
الشاهد الثاني: حديث أنس.
رواه الطبراني في المعجم الصغير (1/227) ، وأبو نعيم كما في أخبار أصبهان (2/71) من طريق عمر بن حفص المكي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين،
عن أنس بن مالك، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض بالمدينة يقال لها: بطحان، فقال: يا أنس اسكب لي وضوءاً، فسكبت له، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجته، أقبل إلى الإناء، وقد أتى هر، فولغ في الإناء، فوقف له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقفة حتى شرب، ثم توضأ، فذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الهر، فقال: يا أنس إن الهر من متاع البيت، لن يقذر شيئاً، ولن ينجسه.
قال الطبراني عقبه: لم يروه عن جعفر إلا عمر بن حفص، ولا روى علي بن الحسين عن أنس حديثاً غيره. اهـ
وفيه عمر بن حفص، قال الذهبي في الميزان: لا يدرى من ذا (3/190) .
وضعفه الحافظ ابن حجر في الدراية (1/62) .(13/86)
فاشتمل الحديث على حكمين:
الأول: طهارة عينها، بقوله: إنها ليست بنجس.
الثاني: طهارة سؤرها. ولا يلزم من طهارة الثاني طهارة الأول، لأنه قد يقال: إنه عفي عن السؤر لعلة التطواف، لكن لما قال: إنها ليست بنجس علمنا طهارة عينها، والله أعلم.
إلا أن الحنابلة أخذوا من طهارة الهرة أن ما كان مثلها فما دون في الخلقة فهو طاهر، وكأن الحكم علق في حجم الحيوان، وليس لعلة التطواف، والحديث صريح بأنها أعطيت الهرة حكم الطهارة لمشقة التطواف لا غير، ولم ينظر إلى حجم الهرة، فقد يقاس على الهرة كل حيوان محرم الأكل يشق التحرز منه، سواء كان في حجم الهرة أو أكبر أو أصغر، لأن الحجم لا يؤثر(13/93)
في الطهارة والنجاسة، وقد يحكم على حيوان أصغر حجماً من الهرة بأنه نجس، إذا كان محرم الأكل، ولم يشق التحرز منه.
فتعليق الحكم بحجم الحيوان فيه محذوران:
الأول: إهمال العلة التي نص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهي علة التطواف.
الثاني: إعمال علة لم ينص عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو حجم الهرة. وعليه فالمشقة هي علة الحكم لا غير، والله أعلم.(13/94)
المسألة الثانية: في الحيوان المركوب كالحمار والبغل
اختلف العلماء في الحمار والبغل:
فتوقف الحنفية فيهما (1) .
وقيل: إنهما طاهران، وإليه ذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، ورواية عن أحمد (4) ، اختارها ابن قدامة رحمه الله (5) .
وقيل: الحمار والبغل نجسان، وهو المشهور في مذهب الحنابلة (6) .
دليل الجمهور:
الدليل الأول:
الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يحكم بنجاسة شيء إلا بدليل صحيح صريح، ولا دليل هنا.
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (7) .
_________
(1) البحر الرائق (1/140) ، البناية (1/454) ، المبسوط (1/50) ، مرقاة المفاتيح (2/62) .
(2) التاج والإكليل (1/91) ، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/50) .
(3) قال النووي في المجموع (2/590) : وأما الحيوان فكله طاهر إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما. اهـ وانظر الأوسط (1/308) .
(4) المستوعب (1/321) ، الإنصاف (1/342) .
(5) قال ابن قدامة في المغني (1/44) : والصحيح عندي طهارة البغل والحمار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يركبها في زمنه، وفي عصر الصحابة، فلو كان نجساً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأنهما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما، فأشبه السنور، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها رجس، أراد أنها محرمة. اهـ
(6) شرح الزركشي (1/142) ، الدرر السنية (4/188) .
(7) النحل: 8.(13/95)
فذكر الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات في مقام الامتنان على عباده، في حل ركوبها واتخاذها زينة، ولو كانت نجسة لما أباحها لهم.
الدليل الثالث:
أن الحمار والبغل كانت تركب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بد أن يصيب الراكبَ شيء من عرقها ولعابها، ولو كانت نجسة لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولنقل توقي الصحابة لذلك.
الدليل الرابع:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم بطهارة الهرة لكونها من الطوافين علينا كما تقدم ذكر الدليل وتخريجه، والحمار والبغل يشتركان في هذه العلة، خاصة قبل ظهور السيارات وانتشارها، فقد كانت مركوب عامة الناس، ولا زالت مركوب كثير من الناس في المجتمعات الإسلامية الفقيرة، ويستعملها الرعاة في بواديهم، وإذا وجدت العلة وجد الحكم.
دليل من قال بنجاسة الحمار والبغل:
الدليل الأول:
(1508-36) ما رواه البخاري من طريق محمد بن سيرين،
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال صبحنا خيبر بكرة، وفيه: فأصبنا من لحوم الحمر فنادى منادي النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (4198) ، ورواه مسلم (1940) .(13/96)
وأجيب:
بأن الخلاف ليس في لحوم الحمر الأهلية وإنما في أبدانها حال الحياة، الضمير في قوله: " فإنها رجس " عائد إلى اللحوم، وليس إلى الحمر، ونجاسة اللحوم لا يستلزم نجاسة الحيوان حال الحياة، لأن الحمار لا تحله التذكية، فإذا ذبح كان ميتة، ونجاسة الميتة معلوم من الشرع بالضرروة. ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قال لما قيل له: يا رسول الله أكلت الحمر، ولذلك أكفئت القدور بعد أن طبخت.
ويحتمل أن قوله: إنها رجس: أي حرام، فلم يتعرض الحديث للنجاسة، كما في قوله تعالى في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إنها رجس، أي حرام، وإلا فالميسر لا يقال: إنه نجس، وكذلك الأنصاب والأزلام، والجواب الأول أقوى؛ لأن الغالب في إطلاق لفظة " ركس " على الحيوان إنما يراد بها أنه نجس، وإن كانت تطلق على غير المأكول والمشروب ويراد بها الحرام أحياناً، والله أعلم.
الدليل الثاني:
قالوا: إنه حيوان حرم أكله لا لحرمته، مع إمكان التحرز منه غالباً أشبه الكلب في النجاسة.
وأجيب:
بأن الكلب ورد فيه نص على نجاسة سؤره، ووجوب غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وحرم اقتناؤه إلا لحاجة، بخلاف الحمار فإنه يجوز اقتناؤه للزينة، ولم يرد نص في غسل الإناء من ولوغه، ولم نؤمر بغسل ما أصاب ثيابنا من عرقه ولعابه، فأين وجه الشبه بين المقيس والمقيس عليه.(13/97)
وأما القول بأنه يمكن التحرز منه في الغالب ففيه نظر، إذ لا يمكن لراكبه التحرز من عرقه فبدنه يلامس بدن الراكب، فيعرق بدن الحمار خاصة في البلاد الحارة، فيصيب ثياب الراكب وبدنه ولا بد.
ذكر ما أوجب للحنفية التوقف في البغل والحمار:
حيث كان التوقف في المسألة لا يعتبر دليلاً، لم أقدم ذكر أدلة الحنفية كالعادة حين ذكر الأدلة؛ لأن التوقف ليس من أدلة الشرع، والمتوقف هو ملتبس عليه الأمر، فلم يحرر في المسألة قولاً فضلاً أن يحرر دليلاً، وما أوجب لهم التوقف هو تعارض الأدلة عندهم في طهارة سؤره، وفي حكم لحمه، فجاء عندهم ما يقتضي نجاسة سؤره، وما يقتضي طهارته، وجاء عندهم ما يقتضي تحريم لحمه، وما يقتضي إباحة أكلها، فلما تعارضت الأدلة توقفوا، وجعلوا سؤرهما مشكوكاً فيه:
يقول السرخسي: " أما سؤر الحمار فطاهر عند الشافعي رحمه الله تعالى, وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه كان يقول الحمار يعلف القت والتبن، فسؤره طاهر.
وعندنا مشكوك فيه غير متيقن بطهارته, ولا بنجاسته؛ فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: إنه رجس، فيتعارض قوله وقول ابن عباس رضي الله عنهما, وكذلك الأخبار تعارضت في أكل لحمه فروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر "
وروي أن أبجر بن غالب رضي الله عنه قال: لم يبق لي من مالي إلا حميرات فقال عليه الصلاة والسلام " كل من سمين مالك " (1) ، وكذلك اعتبار سؤره بعرقه يدل على طهارته, واعتباره بلبنه يدل على نجاسته, ولأن الأصل
_________
(1) سيأتي تخريجه قريباً إن شاء الله تعالى.(13/98)
الذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهرة موجود في الحمار; لأنه يخالط الناس لكنه دون ما في الهرة فإنه لا يدخل المضايق فلوجود أصل البلوى لا نقول بنجاسته, ولكون البلوى فيه متقاعداً لا نقول بطهارته فيبقى مشكوكاً فيه, وأدلة الشرع أمارات لا يجوز أن تتعارض, والحكم فيها الوقف (1) .
وهذه الأدلة التي ساقها السرخسي ليست متكافئة، حتى يقال: بالتعارض، فأثر ابن عباس لم يعارض الحديث المرفوع في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، فإننا نقول بطهارة سؤرها، وتحريم لحمها، ولا تعارض.
وأما الأحاديث التي ساقها، فيقال: الحديث الضعيف لا يعارض به الحديث المتفق على صحته، فالنهي عن لحوم الحمر الأهلية ثابت في حديث متفق على صحته، كما خرجته في أدلة القول الأول.
وحديث " كل من سمين مالك " حديث مضطرب، لا يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(1509-37) فقد رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن عبيد بن الحسن، قال: سمعت عبد الله بن معقل يحدث عن عبد الله بن بسر،
عن ناس من مزينة الظاهرة، أن أبجر - أو ابن أبجر - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله لم يبق لي مال إلا حمري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أطعم أهلك من سمين مالك، فإنما كرهت لهم جوال (2) القرية (3) .
[الحديث فيه اضطراب كثير] (4) .
_________
(1) المبسوط (1/49) .
(2) الجوال: جمع جالة، والجلالة من الحيوان هي التي تأكل العذرة.
(3) مسند أبي داود الطيالسي (1305) .
(4) في إسناده اختلاف كثير، فمن ذلك إسناد أبي داود الطيالسي، اختلف فيه على شعبة:
فرواه أبو داود الطيالسي كما في إسناد الباب، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/203) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1134) عن شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن عبد الله بن بسر، عن ناس من مزينة أن أبجر أو ابن أبجر.
وقوله (ناس من مزينة) مبهمون لا يعرف من هم.
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/203) من طريق روح بن عبادة، ثنا شعبة به، وفيه: أن ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مزينة حدثوا، عن سيد مزينة الأبجر أو ابن الأبجر، فإن كان محفوظاً فإبهامهم لا يضر إذا ثبتت صحبتهم.
ورواه ابن أبي شيبة (5/123) رقم: 24340، وعنه ابن أبي عاصم (1131) عن وكيع، عن شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن ابن معقل، عن أناس من مزينة، عن غالب بن أبجر. ولم يذكر عبد الله بن بسر.
ورواه مسعر بن كدام، واختلف عليه فيه أيضاً:
فرواه أبو داود (3810) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/203) ، والطبراني (18/266) رقم 666 من طريق أبي نعيم، عن مسعر، عن عبيد، عن ابن معقل، عن رجلين من مزينة، أحدهما عن الآخر: أحدهما عبد الله بن عمرو بن عويم، والآخر غالب بن الأبجر. قال مسعر: أرى غالباً الذي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (8728) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1133) عن سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، أن رجلين من مزينة أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -... وذكر الحديث.
وأخرجه الطبراني في الكبير (18/267) من طريق سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن رجل، عن رجلين من مزينة أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرجه الطبراني (18/266) رقم 665 من طريق وكيع، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن ابن معقل، عن أناس من مزينة الظاهرة، عن غالب بن الأبجر.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/123) رقم 24338، وابن أبي عاصم (1132) ، والطبراني في الكبير (18/267) رقم 670، من طريق شريك، عن منصور، عن عبيد بن الحسن، عن غالب.
وهذا الإسناد يرويه عبيد بن الحسن عن غالب دون واسطة.
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (18/265) من طريق حفص بن غياث، عن أبي عميس، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن غالب بن أبجر.
قال أبو زرعة: الصحيح حديث شعبة، انظر العلل (2/7) .
قال الزيلعي في نصب الراية (4/197) : وفي إسناده اختلاف كثير: فمنهم من يقول: عن عبيد أبي الحسن. ومنهم من يقول: عبيد بن الحسن. ومنهم من يقول: عن عبد الله بن معقل. ومنهم من يقول: عبد الرحمن بن معقل. ومنهم من يقول: عن ابن معقل وغالب بن أبجر ويقال أبجر بن غالب. ومنهم من يقول: غالب بن ذريح. ومنهم من يقول: غالب بن ذيخ ومنهم من يقول: عن أناس من مزينة عن غالب بن أبجر. ومنهم من يقول: عن أناس من مزينة أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومنهم من يقول: إن رجلين سألا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الاختلافات بعضها في معجم الطبراني، وبعضها في مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وبعضها في مسند البزار وقال البزار: ولا يعلم لغالب بن أبجر إلا هذا الحديث وقد اختلف فيه، ثم ذكر الاختلاف على ما تقدم. ثم قال: قال البيهقي في المعرفة: حديث غالب بن أبجر إسناده مضطرب وإن صح فإنما رخص له ثم الضرورة حيث تباح الميتة كما في لفظه انتهى.
وذكر ابن حزم هذا الحديث وقال: هذا كله باطل؛ لأنها من طريق عبد الرحمن بن بشر وهو مجهول، والآخر من طريق عبد الرحمن بن عمرو بن لويم، وهو مجهول، أو من طريق شريك وهو ضعيف، عن أبي الحسن ولا يدرى من هو، عن غالب بن ديج ولا يدرى من هو، ومن طريق سلمى بنت النضر الخضرية ولا يدرى من هي. اهـ
انظر تحفة الأشراف (11018) ، إتحاف المهرة (4، 16241) ، وقد نسبه الحافظ فيه إلى المسند، وقد قال محققه: ولم أجده في مسند أحمد مع شدة تتبعي له، وفحصي فيه خاصة، ولا في ترتيبه (الفتح الرباني) ولم يذكره المصنف في أطراف المسند، لا في أبجر بن غالب، ولا غالب بن أبجر، ولا ابن أبجر، ولا عزاه إلى المسند في ترجمته لأبجر في الإصابة أو التهذيب... وعزاه ابن كثير في جامع السنن والمسانيد إلى المسند، فالله أعلم.(13/99)
وذكر الطحاوي عن بعضهم جواباً عن هذا الحديث، فقال:(13/101)
قد يجوز أن يكون الحمر التي أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - أكلها في هذا الحديث كانت وحشية، ويكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإنما كرهت لكم جوال القرية على الأهلية (1) .
وجواباً آخر: أنه جاء في الحديث قيل للنبي: - صلى الله عليه وسلم -: إنه قد أصابتنا سنة، وإن سمين مالنا في الحمير، فقال: كلوا من سمين مالكم، فأخبر أن ما كان أباح لهم من ذلك كان في عام سنة فيكون إنما أباحه لهم في حال الضرورة وقد تحل في حال الضرورة الميتة، فليس في هذا الحديث دليل على حكم لحوم الحمر الأهلية في غير حال الضرورة، وقد جاءت الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجيئا متواترا في نهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية (2) .
وهذا جواب قوي لو كان حديث ابن الأبجر صحيحاً، أما إذا كان ضعفه بيناً فلا حاجة لتلمس الجواب عن دليل لا يقوم بنفسه لضعفه، والله أعلم.
_________
(1) وهذا جواب ضعيف، حيث إن ذكر الحمر جاء في الحديث المذكور مطلقاً، فينصرف غالباً إلى الحمر الأهلية المعتادة، ولو أراد الوحشية لقيده، كما هو المعروف عن الشارع أنه متى أراد غير المعهود قيده بوصفه، والله أعلم.
(2) شرح معاني الآثار (4/203) بتصرف يسير جداً.(13/102)
المسألة الثالثة: في نجاسة الكلب
اختلف الفقهاء في نجاسة عين الكلب، وسيأتي الكلام على سؤره في باب مستقل إن شاء الله تعالى.
فقيل: إن الكلب طاهر العين، وهو قول أبي حنيفة (1) ،
ومذهب المالكية (2) ، وقول الزهري (3) ، واختاره داود الظاهري (4) .
وقيل: إن الكلب نجس العين، معلمه وغير معلمه، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (5) ، والمعتمد في مذهب الشافعية (6) ، والحنابلة (7) .
_________
(1) لا خلاف عند الحنفية في نجاسة لحم الكلب، ولا في نجاسة سؤره، وإنما الخلاف عندهم في نجاسة عينه، فالقول بطهارة عينه هو قول أبي حنيفة، والقول بنجاستها هو قول أبي يوسف ومحمد، وتظهر ثمرة الخلاف فيما لو وقع الكلب في بئر وأخرج حياً، فعند أبي حنيفة الماء طاهر، وعند صاحبيه الماء نجس.
وكذلك فيما لو انتفض الكلب المبتل بالماء، فأصاب رشاشه ثوب أحد أو بدنه فعلى رواية أبي حنيفة الثوب والبدن طاهران، وعلى رواية صاحبيه أنهما نجسان، وهكذا، انظر البناية (1/367، 435) ، فتح القدير (1/93- 102) ، البحر الرائق (1/106- 108) ، حاشية ابن عابدين (1/208) ، بدائع الصنائع (1/63) .
(2) المدونة (1/5، 6) ، الاستذكار (1/208، 211) ، والتمهيد (18/271، 272) ، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/50) ، الجامع لأحكام القرآن (13/45) .
(3) المجموع (2/585) .
(4) المجموع (2/585) ، الاستذكار (1/211) ، حلية العلماء (1/313) .
(5) انظر الإحالة على مذهب الحنفية في القول الأول.
(6) الأم (1/5، 6) ، الوسيط (1/309، 338) ، المجموع (2/585) ، روضة الطالبين (1/31) ، مغني المحتاج (1/78) .
(7) الفروع (1/235) ، الكافي لابن قدامة (1/89) ، المحرر (1/87) ، الإنصاف (1/310) ، رؤوس المسائل (1/89) .(13/103)
دليل من قال بطهارة عين الكلب.
الدليل الأول:
من الكتاب قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (1) .
وجه الاستدلال:
أباح الله سبحانه وتعالى الأكل مما أمسكت الكلاب، ولم يأمرنا بغسل المكان الذي أمسكته معه، مع أنه لا يخلو من التلوث بريق الكلب، ولو كان نجساً لأمرنا بغسله، ولنقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم غسله.
وأجيب:
بأن الحنابلة يوجبون غسل ما أصاب فم الكلب من الصيد، قال البهوتي: ويجب غسل ما أصاب فم الكلب؛ لأنه موضع أصابته نجاسة، فوجب غسله كغيره من الثياب والأواني " (2) .
وقال النووي في المجموع: لنا خلاف معروف في وجوب غسل ما أصاب الكلب، فإن لم نوجبه فهو معفو عنه للحاجة والمشقة في غسله بخلاف الإناء (3) .
وبناء عليه فهناك قول في مذهب الشافعية وهو المشهور من مذهب الحنابلة بوجوب غسل ما أصابه فم الكلب، وإذا قلنا بالوجوب فلا طريق إلى إلزامنا بعدم الغسل.
_________
(1) المائدة: 4.
(2) كشاف القناع (6/224) .
(3) المجموع (2/585) .(13/104)
ورد عليهم:
بأن اعتراض المالكية والحنفية بعدم وجود أمر من الشارع بغسل ما أصاب فم الكلب، وهذا حق، فليس هناك أمر، أما كونه يوجد قول بوجوب الغسل فهذا لم نتعرض له، ولم ندع أن المسألة إجماع، إلا أن يقال: عدم الأمر اكتفاء بعموم أدلة تطهير المتنجس.
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الآية دليل عام على جواز أكل صيد الكلب المعلم للحاجة إلى ذلك، وليس في الآية ما يدل على طهارة الكلب، بل قد وردت أدلة أخرى بينت نجاسة الكلب، كحديث: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم... " وغيره من الأحاديث، فهذا دليل خاص تحمل عليه الأدلة العامة، كالآية ونحوها، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1510-38) ما رواه البخاري في صحيحه: قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن
عبد الله،
عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (1) .
وأجيب بعدة أجوبة:
الأول: أن هذا كان في بداية الإسلام، وقبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب.
_________
(1) صحيح البخاري (174) ، قال الحافظ في الفتح: زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب المذكور موصولاً بصريح التحديث.(13/105)
وهذا الجواب قائم على الظن، ولا يعلم التاريخ حقيقة، بل إن الأمر بقتل الكلاب كان متقدماً ثم نسخ، فلو عكس قائل المسألة وقال: إن التغليظ في نجاسة الكلب كان ذلك حين كان المسلم مأموراً بقتلها، فلما نسخ القتل خفف الأمر، لو قيل به كان أوجه من هذه الدعوى.
الثاني: أن بول الكلاب لا خلاف في نجاسته، فكيف تستدلون على طهارتها بما قام الإجماع على نجاسته.
وأجيب:
بأن حكاية الإجماع فيه نظر، فقد ذكر الحافظ في الفتح أن ابن وهب يرى أن جميع الأبوال طاهرة عدا بول الآدمي، كما أن هناك قولاً بجواز أكل لحم الكلاب، ويرى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر، وهذا القول يخرق دعوى الإجماع (1) .
جواب ثالث:
أن النجاسة كونها لم تغسل؛ لأن النجاسة قد تطهرها الشمس، وهو ما يسمى عند بعض الفقهاء التطهير بالاستحالة، خاصة أن بلاد الحجاز بلاد حارة، فإذا أذهبت الحرارة لون النجاسة وريحها وطعمها طهر المحل.
وهذا الجواب أقواها في نظري، والله أعلم.
وهناك أدلة أخرى استدلوا بها على طهارة الكلاب، منها أدلتهم في طهارة سؤر السباع، وسوف نذكرها في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى، فانظرها غير مأمور.
_________
(1) فتح الباري (1/278) .(13/106)
دليل من قال بنجاسة الكلاب.
الدليل الأول:
(1511-39) قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (1) .
فقوله: " طهور إناء أحدكم " والطهور لا يكون إلا من حدث أو نجاسة، ولا يتصور وجود الحدث على الإناء، فدل على نجاسته.
(1512-40) وروى مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار (2) .
وأجيب:
بأن الأمر بغسكمل الإناء من ولوغ الكلب إنما هو للتعبد، وليس للنجاسة، يؤيد ذلك أمور:
الأول: أمر بغسل الإناء مع أن الماء لم يتغير، وإنما ينجس الماء بالتغير بالنجاسة، فإذا وقعت نجاسة في الماء ولم تغيره لم ينجس على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهذا دليل على أن الأمر بغسلها إنما هو للتعبد.
_________
(1) صحيح مسلم (279) .
(2) صحيح مسلم (279) .(13/107)
ثانياً: اعتبار العدد في غسل نجاسة الكلب، مع أن دم الحيض أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله بدون عدد كما في حديث أسماء المتفق عليه، فالأصل في النجاسة أن تغسل حتى تذهب عين النجاسة، فإذا ذهبت ذهب حكمها، فلما اعتبر العدد في غسل نجاسة الكلب، دل على أن الغسل للتعبد.
ثالثاً: استعمال التراب مع الماء على خلاف القياس في سائر النجاسات، كل هذا يدل على أن الأمر بغسلها إنما هو تعبدي.
رابعاً: أن قوله: " طهور إناء أحدكم " لا يدل على أن الإناء تنجس، قال ابن العربي:
فإن قيل: " روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعاً، والطهارة تقابل النجاسة، قلنا: لا يصح ما ذكرتم، بل يرد على المحل النجس وعلى الطاهر، قال الله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور" (2) .
وليس هناك نجاسة، وقال في السواك في الفم: " السواك مطهرة للفم " وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (3) ، وحقيقة المسألة أن لفظ النجاسة يقتضي الطهارة، وأما لفظ الطهارة فلا يقتضي النجاسة (4) .
وأجيب:
أولاً: أن قوله "طهور إناء أحدكم " دليل على ثبوت النجاسة؛ إذ الطاهر ليس بحاجة إلى تطهير.
_________
(1) النساء: 43.
(2) مسلم (224) .
(3) التوبة: 103.
(4) عارضة الأحوذي (1/134-135) .(13/108)
ثانياً: أن قوله: " فليرقه " دليل على أن الماء تنجس، وإلا لما أمر بإفساد الماء وإراقته، وإذا ثبتت نجاسة لعابه، فعرقه وبوله ومنيه وسائر بدنه نجس من باب أولى؛ لأن فم الكلب أطهر ما فيه.،
والحق أن زيادة فليرقه في الحديث لا يثبتها أهل الحديث، ويرونها لفظة شاذة (1) ،
ولكن يكفي قوله: " طهور إناء أحدكم " لإثبات نجاسة لعابه، فكذلك عرقه وبوله ومنيه وسائر بدنه.
_________
(1) قال النسائي في السنن (1/53) : لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: فليرقه.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/273) : وأما هذا اللفظ من حديث الأعمش "فليهرقه " فلم يذكره أصحاب الأعمش الثقات الحفاظ مثل شعبة وغيره
وقال ابن مندة كما في فتح الباري (1/331) ، وتلخيص الحبير (1/23) : لا تعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه إلا من روايته.
وقال حمزة الكناني كما في فتح الباري (1/330) : إنها غير محفوظة.
وعليه فقد تفرد علي بن مسهر بهذه اللفظة عن الأعمش، وقد رواه تسعة رواة عن الأعمش، ولم يذكروا ما ذكره علي بن مسهر، على رأسهم شعبة، وأبو معاوية وهو من أخص أصحاب الأعمش.
وقد قال أبو معاوية عن نفسه: البصراء كانوا عليَّ عيالاً عند الأعمش، قال هذا لأنه ضرير.
كما رواه عشرة رواة عن أبي هريرة، من غير طريق الأعمش، وليس فيه ذكر هذه الزيادة، على رأسهم الأعرج ومحمد بن سيرين، وهم من أخص أصحاب أبي هريرة.
فلا شك أن تفرد علي بن مسهر دون هؤلاء يوجب شذوذ هذه اللفظة؛ لأن علي بن مسهر قال فيه الحافظ في التقريب (4800) ثقة له غرائب بعد أن أضر " اهـ.
وقد خرجت الطرق التسعة عشر هذه في بحث سابق فأغناني عن إعادته هنا، انظر كتابي أحكام الطهارة (المياه والآنية) ص: 363.(13/109)
ثالثاً: أما الجواب عن القول بأن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فنقول: هذه مسألة خلافية، وإن كنا نعتقد أن الصحيح أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإذا حكمنا بنجاسة الماء في ولوغ الكلب لم يلزم منه أن نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها التسبيع، ومنها التتريب، فلا يقاس الأخف على الأغلظ.
على أنه قد يقال: لا نسلم عدم التغير؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء فتظهر على شيء منه، فيكون هذا نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة، فينجس والله أعلم.
وأما قول ابن العربي رحمه الله تعالى: إن لفظ الطهارة لا يقتضي النجاسة فليس بصواب، لأننا نقول: الطهارة إما أن تكون عن حدث وإما أن تكون عن نجاسة، والأمر بتطهير الجنب إنما هو عن حدث، وأما غسل الإناء فلا يمكن أن يحمل على طهارة الحدث، فيكون المقصود به طهارة الخبث، وأما حديث " السواك مطهرة " فالمقصود به الطهارة اللغوية: وهي النظافة، وآية الصدقة المقصود بها الطهارة من الذنوب، فهي طهارة معنوية.
الدليل الثاني:
(1513-41) ما رواه أحمد، من طريق عيسى يعني: ابن المسيب، حدثني أبو زرعة
عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي دار قوم من الأنصار، ودونهم دار قال: فشق ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله سبحان الله تأتي دار فلان،(13/110)
ولا تأتي دارنا قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأن في داركم كلباً، قالوا: فإن في دارهم سنوراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن السنور سبع (1) .
[إسناده ضعيف وسبق تخريجه في طهارة الهر] (2) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الهر والكلب، فدل على نجاسة الكلب كما دل على طهارة الهر.
وأجيب بأن الحديث ضعيف، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أن الهر طاهر حتى يقال بالمفهوم، فيقال: " مفهومه أن الكلب نجس) وإنما قال: الهر سبع، والسبع قد يكون طاهراً وقد يكون نجساً، وهذه مسألة سوف أبحثها في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى.
الدليل الثالث:
(1514-42) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن شهاب، عن ابن السباق، أن عبد الله بن عباس، قال:
أخبرتني ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبح يوما واجماً، فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أما والله ما أخلفني قال: فظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومه ذلك على ذلك ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة، قال: أجل، ولكنا
_________
(1) المسند (2/327) .
(2) انظر حديث رقم (1506) من هذا الكتاب.(13/111)
لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، فأمر بقتل الكلاب حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير.
وجه الاستدلال:
بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نضح مكان الكلب، ولو كان محله طاهراً لما نضحه؛ لأن فيه إضاعة للمال.
والنضح هنا المقصود به الغسل.
قال ابن الأثير: قد يرد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (1) .
قال السيوطي في شرحه للحديث: ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (2) .
وقال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون أراد بالنضح الغسل؛ لأن النضح قد يسمى غسلاً. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبها يعني يضرب البحر بجانبها. (3) اهـ.
_________
(1) النهاية في غريب الحديث (5/70) . قلت: الحديث قد رواه مسلم (1972) ، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع ومحمد بن بشر، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:
كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه. وهو في الصحيحين إلا أنه بلفظ: وهو يمسح الدم عن وجهه.
(2) الديباج (4/402) .
(3) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/53) . وهذا الحديث الذي ذكره الطحاوي.
قد رواه أحمد (1/44) ، قال: ثنا يزيد، أخبرنا جرير، أنبأنا الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد قال:
خرج رجل من طاحية مهاجراً يقال له بيرح بن أسد، فقدم المدينة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأيام فرآه عمر رضي الله تعالى عنه فعلم أنه غريب، فقال له: من أنت؟ قال من أهل عمان. قال: نعم قال: فأخذ بيده، فأدخله على أبي بكر رضي الله تعالى عنه. فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنى لأعلم أرضاً يقال لها عمان، ينضح بناحيتها البحر، بها حي من العرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر () .
وإسناده ضعيف، أبو لبيد لم يدرك عمر فضلاً عن أبي بكر.
وهذا الحديث سبق لي تخريجه في كتابي من هذه السلسلة (الحيض والنفاس رواية ودراية) رقم: 202، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم.(13/112)
وأجيب:
لو سلم أن النضح مكان الكلب المقصود به الغسل، لكان ذلك مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
ويرد عليه:
بأن جبريل لا يخلف وعده وهو واجب عليه من أجل أمر مستحب، بل لأجل أمر واجب.
وقد يقال: سلمنا أن خروج الكلب من البيت كان واجباً لدخول الملائكة، ولذلك من اقتنى كلباً من غير حاجة نقص من أجره كل يوم قيراط، لكن النضح لم يدل الحديث على وجوبه، فربما كان خروج الكلب كافياً، ولكن الرسول إنما نضحه طلباً للكمال، وطلب الكمال ليس فيه إضاعة للمال، فتأمل.
الراجح:
بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بنجاسة الكلب قول قوي(13/113)
جداً، ونجاسة لسان الكلب ظاهرة في السنة الصحيحة، ولا يوجد فرق بين لسان الكلب وبين سائر أعضائه، بل إن لسان الكلب قد يكون أطهر من سائر أعضائه، فإذا حكمنا بنجاسة فم الكلب حكمنا بنجاسة سائر الأعضاء ولا بد، والله أعلم.(13/114)
المسألة الرابعة: في نجاسة الخنزير
اختلف العلماء في نجاسة الخنزير،
فقيل: الخنزير نجس نجاسة عينية، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (1) ، وقول في مذهب المالكية (2) ، ومذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: إن عينه طاهر، بناء على أن كل حيوان حي، فهو طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (5) ، ورجحه الشوكاني (6) .
دليل من قال بنجاسة الخنزير.
الدليل الأول:
قال تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (7) .
والرجس: يأتي بمعنى النجس.
_________
(1) البناية على الهداية (1/360) ، بدائع الصنائع (1/63) ، شرح فتح القدير (1/94-110) ، حاشية ابن عابدين (1/206) .
(2) التمهيد (1/320) .
(3) مغني المحتاج (1/78) ، الأم (1/5، 6) ، الوسيط (1/309) ، 338، 339) ، المجموع (2/585) ، روضة الطالبين (1/31) .
(4) الفروع (1/235) ، الكافي لابن قدامة (1/89) ، المحرر (1/87) ، الإنصاف (1/310) ، رؤوس المسائل (1/89) .
(5) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/50) ، المدونة (1/5، 6) ، أحكام القرآن لابن العربي (1/80) ، الخرشي (1/85) .
(6) السيل الجرار (1/38) .
(7) الأنعام: 145.(13/115)
قال الجصاص: واللحم وإن كان مخصوصاً بالذكر فإن المراد جميع أجزائه, وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه أعظم منفعته وما يبتغى منه, كما نص على تحريم قتل الصيد على المحرم والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد, وخص القتل بالذكر؛ لأنه أعظم ما يقصد به الصيد. وكقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (1) فخص البيع بالنهي; لأنه كان أعظم ما يبتغون من منافعهم، والمعني جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة. وإنما نص على البيع تأكيدا للنهي عن الاشتغال عن الصلاة, كذلك خص لحم الخنزير بالنهي تأكيداً لحكم تحريمه وحظراً لسائر أجزائه , فدل على أن المراد بذلك جميع أجزائه وإن كان النص خاصا في لحمه (2) .
اعتراض وجواب:
حمل الشوكاني رحمه الله تعالى قوله " فإنه رجس " على الحرام، وتحريم أكل لحم الخنزير إجماع لا خلاف فيه.
وأجيب:
بأن حمله على الحرام فيه بعدٌ؛ لأنه يؤدي إلى التكرار وينافي البلاغة القرآنية، فيكون تقدير الآية: قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه حرام " فيبعد أن يكون صدر الآية وآخرها على تكرار التحريم، بل قوله تعالى: " فإنه رجس" تعليل للتحريم، وليس تكراراً له.
_________
(1) الجمعة: 9.
(2) أحكام القرآن للجصاص (1/174) .(13/116)
والصحيح أن قوله " رجس " دليل على النجاسة، لكن هل هو دليل على نجاسة الخنزير أو على نجاسة لحمه عند إرادة أكله، فالهر لحمه رجس، وكذا الحمار لحمه رجس كما جاء في الحديث (1) ، وذلك لا يتضمن حال الحياة، لأن الخنزير إذا فارقته الحياة فهو ميتة، سواء مات حتف أنفه، أو مات عن طريق التذكية؛ لأن التذكية لا تعمل فيه الحل، وهو محرم الأكل، ولو قال: " أو خنزير فإنه رجس " لكان في الآية دليل على نجاسة عين الخنزير، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1515-43) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة،
أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إني بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبه قال: واشربوا (2) .
[أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، واختلف في ذكر زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (3) .
وجه الاستدلال:
أنه أمر بغسلها في الماء حين كان أهلها يطبخون في آنيتهم الخنزير، وهذا شأن النجاسات.
_________
(1) سبق ذكر الأدلة على تحريم الحمر الأهلية في مسألة مستقلة.
(2) سنن أبي داود الطيالسي (1014) .
(3) سبق تخريجه.(13/117)
اعتراض:
قال الشوكاني: إن غسل الآنية المراد منه إزالة أثر الحرام لا أثر النجاسة. ولا أرى حاجة إلى تأويل الشوكاني، ولو ذهب إلى طهارة عين الخنزير، لأن نجاسة لحم الخنزير لا تعني نجاسة الخنزير حال الحياة، وبينهما فرق.
الدليل الثالث:
قال النووي: نقل ابن المنذر في كتاب الإجماع إجماع العلماء على نجاسة الخنزير، وهو أولى ما يحتج به لو ثبت الإجماع, ولكن مذهب مالك طهارة الخنزير ما دام حياً (1) .
الدليل الرابع:
الخنزير أولى بالنجاسة من الكلب؛ لأنه يحرم اقتناؤه بخلاف الكلاب فإنه مباح للحاجة، ويجب قتله من غير ضرر، ومنصوص على تحريمه.
وقولنا: من غير ضرر: احتراز من العقرب، فإنه يباح قتلها، وهي طاهرة، ولكن من أجل دفع ضررها (2) .
وأجيب:
بأنه لا يلزم من تحريم الأكل والاقتناء لزوم النجاسة، فالتحريم أعم من النجاسة، فقد يكون الشيء محرم الأكل وهو طاهر، كالسم ونحوه، كما أنه قد يحرم الاقتناء مع الطهارة كالتماثيل والأزلام ونحوها.
_________
(1) المجموع (2/586) ، ولم أقف عليه في كتاب الإجماع لابن المنذر، فليتأمل.
(2) المهذب مع المجموع (2/586) .(13/118)
الدليل الخامس:
(1516-44) ما رواه مسلم، من طريق سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة،
عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه (1) .
فشبه اللعب بها بغمس اليد في هذه النجاسات.
لكن قد يجاب عنه بما قاله النووي في شرحه لصحيح مسلم، قال: ومعنى "صبغ يده في لحم الخنزير ودمه في حال أكله منهما" وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما. والله أعلم.
يعني: وليس لمجرد تلوث اليد بهذه القاذروات، وتحريم الأكل مجمع عليه، والنزاع في طهارة عينه حال الحياة، والله أعلم.
الدليل الثالث:
كل حيوان محرم الأكل الأصل فيه النجاسة مطلقاً حال الحياة وحال الممات، ولكن استثني ما يشق التحرز منه لعلة التطواف، وبقي ما عداه على النجاسة، أرأيت إلى الهر، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين حكم بطهارتها، لم يقل: إنه لا يوجد دليل يقتضي النجاسة، ولم ير كونها حية كافياً في كونها طاهرة، بل إن التعليل يفهم منه الحكم بالنجاسة لولا وجود هذه العلة، فإنه قال: إنها من الطوافين عليكم، يعني: رفع الحكم بنجاسته دفعاً للحرج والمشقة علينا، لوجود علة التطواف، ومشقة التحرز منها، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلو
_________
(1) صحيح مسلم (2260) .(13/119)
كان جنس الهر لا يطوف علينا، وتوحش لكان مقتضى التعليل أن يعود الحكم عليها بالنجاسة، والله أعلم.
وهذا أقوى دليل في نظري على الحكم بنجاسة كل حيوان محرم الأكل.
وقد يجاب عنه:
بأن يقال: إن قوله: " إنها من الطوافين عليكم " تعليل لكون الله سبحانه وتعالى خلقها طاهرة، أي كيف تكون نجسة، وهي من الطوافين عليكم؟ فلأجل ذلك لم يخلقها الله تعالى نجسة، ولا يستفاد من ذلك العكس، أن ما لم يكن طوافاً كان نجساً؛ لأن هذا يقتضي أن الأصل هو النجاسة، ومعلوم أن النجاسة حكم شرعي ناقل عن الأصل: الذي هو الطهارة.
دليل من قال بالطهارة.
الدليل الأول:
قالوا: الأصل في الأشياء الطهارة، ولا نحكم بنجاسة عين إلا لدليل صحيح صريح يقتضي النجاسة، ولا دليل هنا.
قال النووي رحمه الله مع أنه يتبنى مذهب الشافعية، قال: ليس لنا دليل واضح على نجاسة الخنزير في حياته (1) . وهذا من تمام عدله وإنصافه.
الدليل الثاني:
إن تحريم أكل لحم الخنزير لا يقتضي نجاسته حال الحياة، فالحمار والبغل والهر محرمة الأكل، ومع ذلك هي طاهرة على الصحيح.
_________
(1) المجموع (2/586) .(13/120)
الراجح بين القولين:
أرى أن القول بالنجاسة أقوى من حيث الدليل والتعليل، وتوجيه طهارة الهر واضح في أن كل حيوان محرم الأكل فهو نجس إلا ما يشق التحرز منه فإنه طاهر حال الحياة، والله أعلم.(13/121)
[صفحة فارغة](13/122)