الدليل الثاني:
(846-75) ما رواه أحمد، قال: حدثنا علي بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله يعني ابن مبارك، قال: أخبرنا عمر بن أبي وهب الخزاعي، قال: حدثني موسى بن ثروان، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي
عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل لحيته بالماء.
[رجاله موثوقون] (1) .
_________
(1) مداره على عمر بن أبي وهب:
رواه عنه عبد الصمد بن عبد الوارث كما في مسند إسحاق بن راهوية (1371) .
وهلال بن فياض كما في مستدرك الحاكم (1/150) .
وشعبة، كما في الطهور لأبي عبيد (314) والخطيب في تاريخه (11/414) في ترجمة القاسم
كلهم رووه عن عمر بن أبي وهب، عن موسى بن ثروان، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي، عن عائشة.
ورواه زيد بن الحباب كما في مسند أحمد (6/233) عن عمرو بن أبي وهب، حدثني موسى بن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي، عن عائشة.
وقوله: (موسى بن طلحة) خطأ مطبعي، والصواب، موسى عن طلحة كما في أطراف مسند أحمد (9/58) وليتفق مع الروايات السابقة، والله أعلم.
ورواه أحمد (6/234) من طريق عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا عمر بن أبي وهب به.
قال ابن دقيق العيد في الإمام (1/485) : والذي أعتل به في هذا الحديث الاضطراب، قيل: موسى بن ثروان من رواية شعبة.
وقيل: ابن ثروان، من رواية وكيع وأبي عبيدة الحداد.
وقال: إن أباه قال: موسى النجدي: هو موسى بن سروان.
وقال يحيى بن معين: موسى بن سروان معلم بصري. واختلف في اسم الراوي عن موسى، فقيل: عمرو بن أبي وهب الخزاعي برواية.... وبقية الكلام ساقط من الأصل، واعتذر محقق الكتاب بأنه لم يتمكن من استداركه.
وفيه أمر آخر، وهو أن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي لم أقف على من نص على سماعه من عائشة.
كما أن الحديث قد تفرد به عمر بن أبي وهب، عن موسى، وتفرد به موسى عن طلحة، وتفرد به طلحة عن عائشة، والمتقدمون ربما أعلوا الحديث بالتفرد، خاصة إذا كان للرواي أصحاب يأخذون عنه الحديث ويهتمون بحديثه، فإذا تفرد راو مما لم يعرف أنه من أصحاب الشيخ لم يقبل ما تفرد به.
قال أبو داود كما في مسائل الإمام أحمد (40) : قلت لأحمد بن حنبل: تخليل اللحية؟ قال: يخللها، قد روي فيه أحاديث، ليس يثبت فيه حديث - يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي ليس يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخليل شيء. حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (1/170) .
وقال مثله ابن أبي حاتم، عن أبيه. المرجع السابق.
ولمراجعة طرق الحديث انظر أطراف المسند (9/58) ، إتحاف المهرة (21747) .(9/244)
الدليل الثالث:
(847-76) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم، عن حسان بن بلال، قال:(9/245)
رأيت عمار بن ياسر توضأ، فخلل لحيته، فقلت له، فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعله (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/19) رقم 98.
(2) فيه ثلاث علل:
الأولى: ضعف عبد الكريم بن أبي أمية.
الثانية: الاختلاف في إسناده، فقد رواه ابن عيينة، عن عبد الكريم، عن حسان بن بلال، عن عمار.
وقيل: عن ابن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار.
العلة الثالثة: قال البخاري: لم يسمع عبد الكريم من حسان. كما في التاريخ الكبير (3/31) .
وقال أحمد في رواية إسحاق بن منصور عنه: لم يسمع عبد الكريم من حسان بن بلال حديث التخليل. انظر سنن الترمذي (29) .
وقال الحافظ في النكت الظراف (7/473) : " رواه ابن المقرئ، عن سفيان، عن عبد الكريم، عمن يحدث عن حسان ". وهذا صريح بأنه لم يسمعه منه.
وقال الحافظ في التلخيص (1/155) : وهو معلول، أحسن طرقه ما رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عنه، وحسان ثقة، لكن لم يسمعه ابن عيينة من سعيد، ولا قتادة من حسان. اهـ
لكن يشكل عليه أن في رواية الحاكم تصريحاً من ابن عيينة بالسماع من سعيد، إلا أن يكون هذا خطأ في الإسناد.
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/32) : قال أبي: لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة، عن ابن عروبة. قلت: صحيح؟ قال: لو كان صحيحاً لكان في مصنفات سعيد بن أبي عروبة، ولم يذكر ابن عيينة في هذا الحديث، وهذا أيضاً مما يوهنه. اهـ
قال ابن دقيق العيد: ليس هذا بعلة قوية. إتحاف المهرة (11/720) ، فتعقبه الحافظ بقوله: قد بين ابن المديني علة هذا الحديث، فقال: لم يسمعه قتادة إلا من عبد الكريم. اهـ
[تخريج الحديث] :
الحديث أخرجه أبو داود الطيالسي (680) والحميدي (146) ، والترمذي (29) ، وابن ماجه (429) ، وأبو يعلى (1604) ، والحاكم (1/149) وصححه، كلهم رووه من طريق سفيان بن عيينة به.
وفي رواية أبي يعلى التصريح بالتحديث بين عبد الكريم وحسان، وهو مخالف لرواية الجماعة، ومخالف أيضاً لنص الأئمة.
ووقع عند الحاكم عبد الكريم الجزري، وهو ثقة، وإنما هو ابن أبي المخارق.
وأخرجه الحميدي (147) ، والترمذي (30) ، والحاكم (1/149) من طريق ابن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال به.
انظر في طرق الحديث: إتحاف المهرة (14930) ، تحفة الأشراف (10346) .(9/246)
الدليل الرابع:
(848-77) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن عمر بن سليم الباهلي، قال: حدثني أبو غالب، قال:
قلت لأبي إمامة: أخبرنا عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فتوضأ ثلاثاً، وخلل لحيته، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل (1) .
[اختلف في رفعه ووقفه، ووقفه أرجح] (2) .
_________
(1) المصنف (1/21) .
(2) في إسناده عمر بن سليم الباهلي، جاء في ترجمته:
قال أبو زرعة: صدوق. الجرح والتعديل (6/112) .
وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات (7/176) .
وقال العقيلي: غير مشهور بالنقل، ويحدث بمناكير. الضعفاء للعقيلي (3/168) .
وفي التقريب: صدوق له أوهام.
وفي إسناده أيضاً: أبو غالب.
قال يحيى بن معين: أبو غالب صالح الحديث. الجرح والتعديل (3/315) .
وقال أبو حاتم الرازي: أبو غالب الحزور ليس بالقوي. المرجع السابق.
وقال النسائي: ضعيف. المغني في الضعفاء (1366) ، تهذيب التهذيب (12/215) .
وقال ابن حبان: منكر الحديث على قلته، لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما يوافق الثقات، وهو صاحب حديث الخوارج. المجروحين (1/267) .
وقال ابن عدي: روى عنه جماعة من الأئمة وغير الأئمة، وهو حديث معروف به، ولأبي غالب غير ما ذكرت من الحديث، ولم أر في أحاديثه حديثا منكراً جداً وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (2/455)
واختلف قول الدراقطني فيه، فقال مرة: ثقة.
وقال أخرى: بصري يعتبر به. تهذيب التهذيب (12/215) .
وفي التقريب: صدوق يخطئ.
واختلف فيه على أبي غالب، فرواه عنه عمر بن سليم الباهلي مرفوعاً.
ورواه آدم أبو عباد كما في التاريخ الكبير (3/2/161) ، عن أبي غالب أنه رأى أبا أمامة يخلل لحيته، وكانت رقيقة. وهذا موقوف.
وآدم أبو عباد له ترجمة في الجرح والتعديل (2/367) : قال يحيى بن معين: صالح. وقال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأساً. والله أعلم.(9/247)
الدليل الخامس:
(849-78) رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن عبيد، ثنا واصل، عن أبي سورة،
عن أبي أيوب الأنصاري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ تمضمض، ومسح لحيته من تحتها بالماء (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (5/417) .
(2) في إسناده واصل بن السائب الرقاشي، جاء في ترجمته:
قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (8/173) .
قال ابن أبي حاتم: قال أبي: سألت أبا بكر بن أبى شيبة عن واصل بن السائب الرقاشي، فقال: ضعيف. الجرح والتعديل (9/30) .
وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث مثل أشعث بن سوار وليث بن أبي سليم وأشباههم. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (600) .
وقال ابن عدي بعد أن ساق جملة من الأحاديث المنكرة له: ولواصل غير ما ذكرت وأحاديثه لا تشبه أحاديث الثقات. الكامل (7/85) .
وفي التقري: ضعيف.
كما أن في إسناده أيضاً: أبو سورة، جاء في ترجمته:
قال البخاري: منكر الحديث.
وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه شيئاً. (9/388) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/570) .
وقال الدارقطني: مجهول. الضعفاء والمتروكين (612) .
وقال الترمذي: يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن معين جداً. تهذيب التهذيب (12/136) .
وقال الترمذي في العلل عن البخاري: لا يعرف لأبي سورة سماع من أبي أيوب. المرجع السابق.
وقال الحافظ: أغرب أبو محمد بن حزم فزعم أن بن معين قال: أبو أيوب الذي روى عنه أبو سورة ليس هو الأنصاري. المرجع السابق.
وقد ذكر أبو زرعة في الجرح والتعديل (9/388) والمزي في تهذيب الكمال: أن أبا أيوب الأنصاري عم صاحبنا هذا، والله أعلم.
[تخريج الحديث] :
الحديث أخرجه عبد بن حميد (218) ، والترمذي في العلل الكبير (1/115) ، والشاشي في مسنده (1137) من طريق محمد بن عبيد، عن واصل به.
وأخرجه ابن ماجه (433) وابن عدي في الكامل (7/85) والعقيلي في الضعفاء (4/323) من طريق محمد بن ربيعة، عن واصل بن السائب به.
وقال العقيلي: والرواية في التخليل فيها لين، وفيها ما هو أصلح من هذا الإسناد. اهـ
وأخرجه الطبراني في الكبير (4068) من طريق يحيى بن سعيد الأموي، عن واصل به.
وأخرجه أحمد (5/416) حدثنا وكيع، عن واصل الرقاشي به، بلفظ: حبذا المتخللون، قيل: وما المتخللون؟ قال: في الوضوء والطعام.
وذكر المزي في تحفة الأشراف في زيادته (3/106) : وقال عبد الرحيم بن سليمان، عن واصل بن السائب، عن أبي سورة، عن عمه أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حبذا المتخللون ". وتابعه رباح بن عمرو القيسي، ويحيى بن سعيد الأموي ويحيى بن العلاء الرازي، عن واصل بن السائب. اهـ
وانظر طرق الحديث في أطراف مسند أحمد (6/62) ، وتحفة الأشراف (3497) ، إتحاف المهرة (4424، 4426) .(9/248)
الدليل السادس:
(850-79) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الحميد بن حبيب، حدثنا الأوزاعي، حدثنا عبد الواحد بن قيس، حدثني نافع،
عن ابن عمر قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها (1) .
[إسناده ضعيف وصوب الدارقطني وقفه] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (432) .
(2) في إسناده عبد الواحد بن قيس، جاء في ترجمته:
قال على بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد وذكر عنده عبد الواحد بن قيس الذي روى عنه الأوزاعي فقال: كان شبه لا شيء. قلت ليحيى: كيف كان؟ قال: كان الحسن بن ذكوان يحدث عنه بعجائب. الجرح والتعديل (6/23) .
وقال أبو حاتم الرازي: لا يعجبني حديثه. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (372) .
وقال الحاكم أبو أحمد: منكر الحديث.
ووثقه يحيى بن معين.
وقال في موضع آخر: لم يكن بذاك، ولا قريب. تهذيب التهذيب (6/389) .
وذكره أبو زرعة في نفر ثقات. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: قد حدث الأوزاعي عن عبد الواحد هذا بغير حديث، وأرجو أنه لا بأس به؛ لأن في رواية الأزاعي عنه استقامة. الكامل (5/297) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي عن أبي هريرة، ولم يره، ولا يعتبر بمقاطيعه ولا بمراسيله، ولا برواية الضعفاء عنه. الثقات (7/123) .
وقال العجلي: عبد الواحد بن قيس شامي تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/107) رقم 1145.
وفي التقريب: صدوق له أوهام ومراسيل.
ومع أن إسناده ليس بالقائم، فقد اختلف على الأوزاعي، فرواه عبد الحميد بن حبيب كما سقته مرفوعاً.
وخالفه أبو المغيرة، فرواه عن الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس به موقوفاً.
أخرجه الدارقطني (1/107) حدثني إسماعيل بن محمد الصفار، نا إبراهيم بن هانئ، نا أبو المغيرة به. وصوب الدارقطني وقفه.
وأبو المغيرة أوثق من عبد الحميد بن حبيب، واسم أبي المغيرة: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني: وثقه الدارقطني ويعقوب بن سفيان والعجلي وأبو زرعة الدمشقي، وقال أبو حاتم: كان صدوقاً. الجرح والتعديل (6/56) ، معرفة الثقات (2/100) ، ثقات ابن حبان (8/419) ، تهذيب التهذيب (6/329) .
روواه الدراقطني (1/152) من طريق إسماعيل بن عبد الله بن سماعة، عن الأوزاعي، عن عبد الواحد، عن يزيد الرقاشي مرسلاً.
وهذا الأثر المرسل قد ساقه ابن جرير في تفسيره بسنده (6/121) .
روواه الدراقطني (1/152) من طريق عبد الله بن كثير بن ميمون، عن الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس، عن قتادة ويزيد الرقاشي، عن أنس، فجعله من مسند أنس.
وأخرجه البيهقي (1/55) من طريق الوليد بن مزيد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عبد الله ابن عامر، حدثني نافع، أن ابن عمر كان يعرك عارضيه، ويشبك لحيته بأصابعه أحياناً، ويترك أحياناً. وعبد الله بن عامر متفق على ضعفه.
وقد تابعه العمري عند الطبراني في الأوسط، كما في مجمع البحرين (423) حدثنا أحمد، ثنا أحمد بن محمد بن أبي بزة، ثنا مؤمل بن إسماعيل، ثنا عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا توضأ خلل لحيته، وأصابع رجليه.
وابن أبي بزة عن مؤمل، عن العمري ضعيف، عن ضعيف، عن ضعيف.
ورجح أبو حاتم كونه مرسلاً، ففي العلل لابن أبي حاتم (1/31) : سألت أبي عن حديث رواه ابن أبي العشرين، يعني: عبد الحميد بن حبيب، عن الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ عرك عارضيه، وشبك بين لحييه. قال أبي: روى هذا الحديث الوليد عن الأوزاعي، عن عبد الواحد بن يزيد الرقاشي وقتادة، قالا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -..... وهو أشبه. اهـ
وقال الحافظ في النكت الظراف (6/120) : " ظاهره الصحة، لكنه معلول، ثم نقل بعض كلام أبي حاتم في العلل المتقدم ".
وأخرج ابن جرير في جامع البيان من طرق كثيرة عن ابن عمر موقوفاً بعضها بسند صحيح، انظره (6/119،120) .
انظر لمراجعة طرق الحديث إتحاف المهرة (10775) ، وتحفة الأشراف (7789) ، وانظر من إتحاف المهرة كذلك (1622) .(9/250)
الدليل السابع:
(851-80) ما رواه أبو عبيد، في الطهور، ثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن أبي ورقاء العبدي،
عن عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، قال: قال له رجل: يا أبا معاوية كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ قال: فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، وخلل لحيته في غسل وجهه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) كتاب الطهور (82) .
(2) في إسناده أبو الورقاء: اسمه فائد بن عبد الرحمن.
قال أحمد بن حنبل: متروك الحديث. الجرح والتعديل (7/83) .
وقال يحيى بن معين: ضعيف، ليس بثقة، وليس بشيء. المرجع السابق.
وقال ابو رزعة وأبو حاتم: لا يشتغل به. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم أيضاً: فائد ذاهب الحديث، لا يكتب حديثه، وكان عند مسلم بن إبراهيم عنه، وكان لا يحدث عنه، وكنا لا نسأله عنه، وحديثه عن ابن أبي أوفى بواطيل لا تكاد ترى لها أصلاً كأنه لا يشبه حديث ابن أبي أوفى، ولو أن رجلاً حلف أن عامة حديثه كذب لم يحنث. المرجع السابق.
وقال البخاري: منكر الحديث. التأريخ الكبير (7/132) .
وقال أبو داود: ليس بشيء.
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين للنسائي (487) .
وفي التقريب: متروك، اتهموه. اهـ فالحديث ضعيف جداً.
والحديث أخرجه ابن ماجه (416) حدثنا سفيان بن وكيع، ثنا عيسى بن يونس، عن فائد أبي الورقاء به. بلفظ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه مرة. اهـ ولم يذكر التخليل.(9/252)
الدليل الثامن:
(852-81) ما رواه البزار كما في مختصر مسند البزار، قال: حدثنا محمد بن صالح ابن العوام، ثنا عبد الرحمن بن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، حدثني أبي بكار، قال: سمعت أبي عبد العزيز بن أبي بكرة يحدث عن أبيه، قال:
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فغسل يديه ثلاثاً، ومضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل ذراعيه إلى المرفقين، ومسح برأسه، يقبل بيديه من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه، ثم غسله رجليه ثلاثاً، وخلل أصابع رجليه، وخلل لحيته.(9/253)
قال البزار: لا نعلمه عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد، وبكار ليس به بأس، وعبد الرحمن بن بكار صالح الحديث (1) .
[ضعيف] (2) .
_________
(1) مختصر مسند البزار (164) .
(2) قال الهيثمي في مجع الزوائد (1/233) : شيخ البزار محمد بن صالح بن العوام لم أجد من ترجمه، إلا أن يكون المذكور في تأريخ بغداد (5/361) باسم محمد بن صالح بن أبي العوام أبو جعفر الصائغ، وسكت عليه الخطيب، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ
وعبد الرحمن بن بكار ذكره مسلم في الكنى والأسماء وكناه أبا بحر (425) لم أقف له على من بين لي حاله إلا ما قال فيه البزار ونقلناه عنه بعد ذكره للحديث.
وبكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة،
ذكره البخاري في التأريخ الكبير (2/122) وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً.
وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. الكامل لابن عدي (2/43) .
وقال يحيى في رواية إسحاق بن منصور عنه: صالح. تهذيب الكمال (4/202) .
وقال ابن عدي: ولبكار هذا غير ما ذكرت من الحديث، وقد حدث عنه من الثقات جماعة من البصريين كأبي عاصم وغيره، وأرجو أنه لا بأس به، وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم. الكامل لابن عدي (2/43) .
واستشهد به البخاري. تهذيب الكمال (4/202) .
وقال الذهبي: فيه لين. الكاشف (620) .
وذكره يعقوب بن سفيان في جملة من يرغب عن الرواية عنهم.
وفي التقريب: صدوق يهم.
وعبد العزيز بن أبي بكرة: روى عنه جماعة، ووثقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن القطان: حاله لا يعرف، واستشهد به البخاري في الصحيح.
وفي التقريب: صدوق، فالإسناد ضعيف. انظر معرفة الثقات (2/95) ، ثقات ابن حبان (5/122) ، تهذيب الكمال (18/166) .(9/254)
الدليل التاسع:
(853-82) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أحمد بن مصرف بن عمرو اليامي، حدثني أبي مصرف بن عمرو بن السرى بن مصرف بن كعب بن عمرو، عن أبيه، عن جده يبلغ به كعب بن عمرو قال:
رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح باطن لحيته وقفاه (1) .
[ضعيف] (2) .
الدليل العاشر:
(854-83) ما رواه ابن عدي، من طريق أصرم بن غياث الخرساني، حدثنا مقاتل بن حيان، عن الحسن،
عن جابر، قال: وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع، فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنه أنياب مشط (3) .
[ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) المعجم الكبير للطبراني (19/181) .
(2) في إسناده مصرف بن عمرو بن كعب، عن أبيه، عن جده.
قال عبد الحق في الأحكام الكبرى: لا أعرفه بهذا الإسناد، وكتبته حتى أسأل عنه إن شاء الله تعالى. بيان الوهم والإيهام (3/316) .
وقال ابن القطان: ومصرف بن عمرو بن السري، وأبوه وجده السري لا يعرفون. المرجع السابق (3/319) .
(3) الكامل (1/403) .
(4) قال البخاري: أصرم عن مقاتل بن حيان منكر الحديث. التاريخ الكبير (2/56) ، الكامل (1/403) .
وقال النسائي: متروك الحديث، يروي عن مقاتل بن حيان. الضعفاء للنسائي (67) .
وقال ابن عدي: له أحاديث عن مقاتل مناكير، كما قال البخاري والنسائي، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق، وليس له كبير حديث. الكامل (1/403) .
وقال الدارقطني: منكر الحديث. الضعفاء للدارقطني (117) .
وقال يحيى بن معين: ليس بثقة. سؤالات ابن الجنيد (129) ، وانظر اللسان (1/581) .
والحديث أخرجه أحمد بن حنبل في العلل ومعرفة الرجال (2/264) عن أصرم به. وقال: ما أرى هذا الشيخ - يعني: أصرم بن غياث - كان بشيء. ضعفه جداً.
وأخرجه الخطيب في تاريخه (7/33) من طريقين عن أصرم به.
وقال الحافظ في التلخيص بعد أن عزاه لابن عدي وحده، ونقل قول النسائي عن أصرم بأنه متروك، قال: وفي إسناده انقطاع.(9/255)
الدليل الحادي عشر:
(855-84) ما رواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين، من طريق نافع بن هرمز، عن عطاء،
عن ابن عباس، قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتطهر، وبين يديه قدر المد، وإن زاد فقلَّ أن يزيد، وإن نقص فقل ما ينقص، فغسل يديه، وتمضمض واستنشق ثلاثاً ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وخلل لحيته، وغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه مرتين مرتين، وغسل رجليه حتى أنقاهما، فقلت: يا رسول الله هكذا التطهر؟ قال: هكذا أمرني ربي عز وجل (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) مجمع البحرين (413) .
(2) في إسناده نافع بن هرمز:
ضعفه أحمد وجماعة، وكذبه ابن معين مرة. لسان الميزان (6/146) .
وقال أبو حاتم: متروك، ذاهب الحديث. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس بثقة. المغني في الضعفاء (2/693) ، لسان الميزان (6/146) .(9/256)
الدليل الثاني عشر:
(856-85) ما رواه الطبراني في الكبير (1) ، والعقيلي (2) ، في الضعفاء من طريق خالد ابن إلياس، عن عبد الله بن رافع،
عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ويخلل لحيته.
[ضعيف جداً] (3) .
الدليل الثالث عشر:
(857-86) ما رواه ابن عدي، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الغزي، ثنا محمد بن أبي السري، ثنا مبشر بن إسماعيل، عن تمام بن نجيح، عن الحسن،
عن أبي الدرداء قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فخلل لحيته مرتين وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل (4) .
_________
(1) المعجم الكبير (23/298) رقم 664.
(2) الضعفاء (2/3) ، وقال: لا يتابع عليه، وفي تخليل اللحية أحاديث لينة الأسانيد، وفيها ما هو أحسن مخرجاً من هذا. اهـ
(3) في إسناده خالد بن إلياس:
قال البخاري: ليس بشيء. التاريخ الكبير (3/140) .
وقال أحمد: متروك الحديث. الجرح والتعديل (3/321) .
وقال العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث. قيل: يكتب حديثه؟ قال: زحفاً. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فقال: ليس بقوي ضعيف، سمعت أبا نعيم يقول: لا يسوى حديثه وسكت وذكر بعدنا لا يسوى حديثه فلسين. المرجع السابق.
(4) الكامل (2/84) .(9/257)
قال ابن عدي: وهذا الحديث إنما يعرف بتمام عن الحسن، وعامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه (1) .
الدليل الرابع عشر:
(858-87) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن سعدان، ثنا زيد بن أخزم، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا حنظلة بن عبد الحميد، عن عبد الكريم، عن مجاهد،
_________
(1) في إسناده محمد بن أبي السري، وهو محمد بن المتوكل:
قال فيه أبو حاتم: لين الحديث. الجرح والتعديل (8/105) .
وقال يحيى بن معين: ثقة. تهذيب الكمال (26/355) .
وقال ابن عدي: كثير الغلط. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من الحفاظ. الثقات (9/88) .
وقال مسلمة بن قاسم: كان كثير الوهم، وكان لا بأس به. تهذيب التهذيب (9/376) .
وقال ابن وضاح: كان كثير الحفظ، كثير الغلط. المرجع السابق.
وفي التقريب: صدوق عارف، له أوهام كثيرة.
وقال عنه الحافظ في التقريب: صدوق عارف، له أوهام كثيرة.
وفي إسناده أيضاً تمام بن نجيح، جاء في ترجمته:
قال أبو حاتم: منكر الحديث، ذاهب. الجرح والتعديل (2/445) .
وقال البخاري: فيه نظر، حديثه في الشاميين. التاريخ الكبير (2/157) .
وقال أبو زرعة: ليس بقوي، ضعيف. الجرح والتعديل (2/445) .
وقال يحيى بن معين ثقة. الكامل (2/83) .
وفيه علة ثالثة، قال ابن أبي حاتم كما في المراسيل (ص: 44) : الحسن لم يسمع من أبي الدرداء.
وقد ضعف الحافظ إسناده كما في التلخيص (1/148) .(9/258)
عن عبد الله بن عكبرة قال: التخلل سنة (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
الدليل الخامس عشر:
(859-88) ما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، من طريق سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
[إسناده ضعيف جداً] (4) .
الدليل السادس عشر: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(860-89) أخرجه الحاكم، قال: حدثنا علي بن خمشاذ العدل، ثنا
_________
(1) الأوسط (7639) .
(2) في إسناده عبد الكريم بن أبي أمية، وهو متروك.
(3) (6/121) .
(4) في إسناده سعيد بن سنان،
قال البخاري: منكر الحديث. التأريخ الكبير (3/477) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الكامل (3/359) .
وقال يحيى بن معين: أحاديثه لا يعتبر بها، هي بواطيل. أحوال الرجال (301) .
وقال أيضاً: ليس بشيء. الجرح والتعديل (4/28) .
وقال أيضاً: ليس بثقة. الكامل (3/359) .
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث. الجرح والتعديل (4/28) .
وقال ابن أبي حاتم: سألت عنه أبا زرعة، فأومأ بيده أنه ضعيف. المرجع السابق.
وقال صدقة بن خالد: كان ثقة مرضياً. المرجع السابق.
قلت: قال دحيم، وهو من أعلم الناس بأهل الشام: ليس بشيء. المرجع السابق.
كما أن جبير ليست له صحبة، فيكون الحديث مرسلاً.
قال الحافظ في التلخيص (1/151) : وفي الباب حديث مرسل، أخرجه سعيد بن منصور، عن الوليد، عن سعيد بن سنان به.(9/259)
عبيد بن عبد الواحد، ثنا محمد بن وهب بن أبي كريمة، ثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري،
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله و - صلى الله عليه وسلم - توضأ وخلل لحيته بأصابعها من تحتها، وقال: بهذا أمرني ربي (1) .
[رجاله ثقات، إلا ابن أبي كريمة فإنه صدوق، إلا أن الحديث معلول] (2) .
_________
(1) مستدرك الحاكم (1/149) .
(2) دراسة الإسناد:
ـ علي بن حمشاذ ثقة إمام، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/398) ، وتذكرة الحفاظ (3/855) .
ـ عبيد الله بن عبد الواحد: ثقة صدوق. انظر السير (13/385) ، وتاريخ بغداد (11/99) .
محمد بن وهب بن عمر بن أبي كريمة.
ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه شيئاً. (8/114) .
وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب التهذيب (9/446) .
وقال أيضاً: صالح. المرجع السابق.
وقال مسلمة: صدوق. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات (9/105) .
وفي التقريب: صدوق.
محمد بن حرب: كاتب الزبيدي، وثقة النسائي ويحيى بن معين والعجلي وابن حبان. انظر الثقات (9/50) ، معرفة الثقات (2/234) ، تهذيب التهذيب (9/95) ..
وقال أبو حاتم: صالح الحديث. الجرح والتعديل (7/237) .
وقال أحمد: ليس به بأس، وقدمه على بقية. تهذيب التهذيب (9/95) .
وقد روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة.
الزبيدي: من كبار أصحاب الزهري، ثقة ثبت.
فهذا بيان رجال الإسناد، وقد تابع ابن أبي كريمة محمد بن خالد الصفار، قال الحافظ في التلخيص (1/149) : قال الذهلي في الزهريات: حدثنا محمد بن خالد الصفار من أصله، وكان صدوقاً، حدثنا محمد بن حرب، ثنا الزبيدي، عن الزهري، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأدخل إصبعه تحت لحيته، وخلل بأصابعه، وقال: هكذا أمرني ربي. اهـ
واختلف فيه على محمد بن حرب. فرواه ابن أبي كريمة ومحمد بن خالد الصفار، عن محمد بن حرب كما سبق بسند متصل.
وخالفهما يزيد بن عبد ربه، كما نقله الحافظ في التلخيص (1/150) قال الذهلي: حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، أنه بلغه عن أنس.
ويزيد بن عبد ربه أوثق من ابن أبي كريمة ومن محمد بن خالد الصفار، فقد ذكروا في ترجمته:
قال أحمد: لا إله إلا الله، ما كان أثبته، ما كان فيهم مثله - يعني: أهل حمص - تهذيب التهذيب (11/301) .
ووثقه يحيى بن معين، وزاد: صاحب حديث. الجرح والتعديل (9/279) .
وقال أبو حاتم: كان صدوقاً أيقظ من حيوة بن شريح الحمصي. المرجع السابق.
وقال أبو بكر بن أبي داود: حمصي ثقة، أوثق من روى عن بقية.
وذكره ابن حبان في الثقات (9/274) .
كما وثقه العجلي في معرفة الثقات (2/364) .
فهل الرواية المنقطعة تعل الرواية المتصلة، أو تكون الرواية المتصلة تبين الواسطة في الرواية المنقطعة؟
الظاهر أنها تعلها، وقد ذهب إلى هذا ابن حجر رحمه الله، فبعد أن ذكر الراوية المتصلة، قال: رجاله ثقات إلا أنه معلول، ثم ذكر رواية يزيد بن عبد ربه.
وذهب الحاكم إلى تصحيح الحديث، وحسنه ابن القيم في التهذيب (1/107) . وقال ابن القطان: هذا إسناد صحيح.
وحديث أنس له طرق كثيرة لا تخلو من مقال، منها:
الطريق الأول: عن يزيد الرقاشي، عن أنس.
رواه ابن أبي شيبة (1/20) حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا الحسن بن صالح، عن موسى بن أبي عائشة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ يخلل لحيته.
رجاله ثقات إلا يزيد الرقاشي فإنه رجل عابد ضعيف، جاء في ترجمته:
قال شعبة: لأن أزني أحب إلي من أن أروي عن يزيد الرقاشي، فذكر ذلك لأحمد بن حنبل، فقال: لقد بلغنا أنه قال هذا في أبان، فكان أبو داود حاضراً في المجلس، فقال: قاله فيهما جميعاً.
وقال ابن حبان: كان من خيار عباد الله، من البكائين في الخلوات، والقائمين بالحقائق بالسبرات، ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظها، واشتتغل بالعبادة وأسبابها، حتى كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن أنس وغيره من الثقات، بطل الاحتجاج به فلا تحل الرواية عنه إلا على سبيل التعجب. المجروحين (3/98) .
وفي التقريب: زاهد ضعيف.
وقد اختلف على موسى بن أبي عائشة:
فرواه ابن أبي شيبة، عن الحسن بن صالح كما سبق.
ورواه ابن عدي في الكامل (2/137) من طريق أبي الأشهب، عن موسى بن أبي عائشة، عن زيد الجزري (ابن أبي أنيسة) عن يزيد الرقاشي، عن أنس. فجعل بين موسى بن أبي عائشة وبين يزيد الرقاشي ابن أبي أنيسة.
وأبو الأشهب: اسمه جعفر بن أبي الحارث الواسطي، ذكره الحافظ في التقريب تمييزاً، وقال: صدوق كثير الخطأ، ولا شك أن الحسن بن صالح أوثق منه.
ورواه مروان بن محمد، حدثنا إبراهيم الفزاري، عن موسى بن أبي عائشة، عن أنس. رواه الحاكم في المستدرك (1/149، 150) إلا أن موسى بن أبي عائشة لم يسمع من أنس، قال ابن أبي حاتم في العلل (16، 84) سألت أبي عن حديث رواه مروان بن محمد الطاطري، عن أبي إسحاق الفزاري، عن موسى بن أبي عائشة، عن أنس. فقال أبي: هذا غير محفوظ، ثم رجح أبو حاتم طريق الحسن بن صالح، عن موسى بن أبي عائشة، عن رجل، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. وقال: هذا الصحيح، وكنا نظن أن ذلك غريب، ثم تبين لنا علته. اهـ
وفي ح (16) قال الخطأ من مروان بن محمد. اهـ
فتبين لنا أن الحديث من طريق موسى بن أبي عائشة فيه اختلاف كثير، فقيل:
1- عن موسى بن أبي عائشة، عن أنس. وهذا وهم.
2- وقيل: موسى، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، كما في رواية ابن أبي شيبة.
3- وقيل: موسى، عن رجل، عن يزيد الرقاشي، عن أنس.
4- وقيل: موسى بن أبي عائشة، عن زيد الجزري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس.
وكل هذه الطرق لا تخلو من ضعف، وقد رواه جماعة عن يزيد الرقاشي غير موسى بن أبي عائشة.
فقد رواه ابن ماجه (431) حدثنا محمد بن عبد الله بن حفص بن هشام بن زيد بن أنس بن مالك، حدثنا يحيى بن كثير أبو النظر صاحب البصري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل لحيته، وفرج أصابعه مرتين.
وهذا إسناد ضعيف، فيه يحيى بن كثير وشيخه ضعيفان، وضعفه البوصيري في الزوائد، فقال: هذا إسناد ضعيف لضعف يحيى بن كثير وشيخه.
ورواه ابن أبي شيبة (1/21) من طريق الهيثم بن جماز، عن يزيد بن أبان (الرقاشي) عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتاني جبريل فقال: إذا توضأت فخلل لحيتك.
وفي إسناده الهيثم بن جماز: قال أحمد: منكر الحديث، ترك حديثه. الجرح والتعديل (9/81) .
وقال يحيى بن معين: كان قاصاً بالبصرة ضعيفاً. المرجع السابق.
وقال النسائي: متروك. لسان الميزان (6/204) .
وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ضعيف، زاد أبو حاتم: منكر الحديث. المرجع السابق.
وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: حديثه غير محفوظ (4/355) .
ورواه الرحيل بن معاوية كما عند الطبراني في الأوسط (1/317) ح 524. والرحيل ثقة، لكن يزيد الرقاشي ضعيف، كما سبق بيانه.
وقال المزي في زياداته في تحفة الأشراف حين ذكر طريق الوليد بن زروان (1/424) : تابعه موسى بن سروان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، وسفيان الثوري، عن الفضل البصري، عن أنس.
الطريق الثاني: معاوية بن قرة، عن أنس.
رواه ابن عدي في الكامل (3/119) من طريق سلام الطويل، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن أنس، قال: وضأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخلل لحيته، وقال: بهذا أو هكذا أمرني ربي عز وجل.
قال ابن عدي: وهذا الحديث ليس البلاء فيه من زيد العمي، البلاء من الراوي عنه: سلام الطويل، ولعله أضعف منه.
وسلام الطويل قال عنه الحافظ في التقريب: روى له ابن ماجه، وهو متروك.
وزيد العمي متفق على ضعفه. فالحديث ضعيف جداً.
الطريق الثالث: الوليد بن زوران، عن أنس.
أخرجه أبو داود (145) ، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/54) ، والبغوي في شرح السنة (215) بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي عزو جل.
وفي إسناده الوليد بن زروان، وقيل: زوران، ترجمه البخاري في التاريخ الكبير (8/144) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/4) ولم يذكرا فيه شيئاً.
ووثقه الذهبي في الكاشف!! (6064) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/550) .
وقال الآجري عن أبي داود: لا أدري سمع من أنس أم لا؟ تهذيب التهذيب (11/117) .
وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث.
وقال في التلخيص: مجهول الحال. فالإسناد ضعيف، وسواء كان شك أبو داود ثابتاً أم لا فهو ضعيف.
الطريق الرابع: ثابت البناني عن أنس.
أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/157) من طريق عمر بن ذؤيب، عن ثابت، عن أنس، قال: وضأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من وضوئه أدخل يده فخلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي.
قال العقيلي: عمر بن ذؤيب مجهول بالنقل، وحديثه غير محفوظ، وقد روى التخليل من غير هذا الوجه بإسناد صالح.
وفي لسان الميزان (4/346) : عمر بن ذؤيب لا يعرف.
وتابعه حسان بن سياه، عن ثابت، عند أبي يعلى في مسنده (3487) ومن طريق أبي يعلى أخرجه ابن عدي في الكامل (2/370) حدثنا عمرو بن حصين، حدثنا حسان بن سياه به. وهذا الإسناد ضعيف جداً، عمرو بن الحصين تركه الدارقطني، وقال ابن عدي: مظلم الحديث. وكذبه الخطيب.
وحسان بن سياه: ضعفه ابن عدي والدارقطني. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد لما ظهر من خطأ في روايته على ظهور الصلاح منه. انظر لسان الميزان (2/187) .
قال ابن عدي: عامة أحاديثه لا يتابعه غيره عليه، والضعف يتبين على روايته وحديثه. الكامل (2/371) .
وأخرجه الطبراني كما في مجمع البحرين (421) حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الضبي البصري، ثنا سليمان بن إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، ثنا عمر أبو حفص العبدي، عن ثابت، عن أنس به بنحوه.
وشيخ الطبراني له ترجمة في الأنساب للسمعاني، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً (3/328) .
وسليمان بن إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس لم أقف عليه.
وعمر أبو حفص العبدي
قال البخاري: ليس بقوي. التأريخ الكبير (6/150) .
وقال يحيى بن معين: أبو حفص العبدي ليس حديثه بشيء. الجرح والتعديل (6/103) .
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، ليس بالقوي، هو على يدي عدل. المرجع السابق.
وقال أحمد: تركنا حديثه وحرقناه. لسان الميزان (4/298) .
وقال علي: ليس بثقة. المرجع السابق.
وقال النسائي: متروك. المرجع السابق.
وقال الدارقطني: ضعيف. المرجع السابق.
وقال الذهبي: أبو حفص العبدي، عن ثابت، هو عمر بن حفص واه. المغني في الضعفاء (2/780) ، وذكر مثل هذا الكلام في الميزان، وقال: واه بمرة.
وهذا الكلام في أبي حفص العبدي الذي يروي عن ثابت، وهناك رجل آخر يروي عن قتادة يقال له أبو حفص العبدي لا بأس به.
قال أحمد: ثقة لا أعلم إلا خيراً. الجرح والتعديل (6/98) .
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (6/98) .
وقال يحيى بن معين: صالح. المرجع السابق.
وقال عثمان بن سعيد ليحيى بن معين: فعمر بن إبراهيم في قتادة؟ قال: ثقة. المرجع السابق. فتفطن حتى لا يلتبس هذا بذاك.
فالإسناد ضعيف من أجل الضبي حيث لم يوثق، وسليمان بن إسحاق لم أقف عليه، وأبو حفص العبدي مجروح.
الطريق الخامس: الحسن البصري عن أنس.
أخرجه البزار (270) والدارقطني (1/106) واللفظ للأخير من طريق معلى بن أسد، نا أيوب بن عبد الله أبو خالد القرشي، قال:
رأيت الحسن بن أبي الحسن دعا بوضوء بكوز من ماء، فصب في تور فغسل يديه ثلاث مرات، ومضمض ثلاث مرات، واستنشق ثلاث مرات، وغسل وجهه ثلاث مرات، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ومسح رأسه، ومسح أذنيه، وخلل لحيته، وغسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: حدثني أنس بن مالك أن هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال صاحب التعليق المغني (1/106) ليس في إسناد هذا الحديث مجروح. اهـ
وفي إسناده أيوب بن عبد الله لم يرو عنه إلا معلى بن أسد، ولم يوثق، وقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وسكت عنه (2/251) .
الطريق السادس: محمد بن زياد، عن أنس.
رواه ابن عدي في الكامل (7/115) من طريق هاشم بن سعيد الكوفي، عن محمد بن زياد، عن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل لحيته بأصابع كفيه، ويقول: بهذا أمرني ربي عز وجل.
قال ابن عدي: وهاشم بن سعيد له من الحديث غير ما ذكرت، ومقدار ما يرويه لا يتابع عليه.
وقال ابن معين: ليس بشيء. المغني في الضعفاء (2/706) ، لسان الميزان (7/416) .
وقال حرب عن أحمد: ما أعرفه. الجرح والتعديل (9/104) ، وتهذيب التهذيب (11/17) .
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات (7/585) . وفي التقريب: ضعيف.
الطريق السابع: حميد الطويل، عن أنس.
أخرجه الطبراني في الأوسط (452) من طريق إسحاق بن عبد الله، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد الطويل عن انس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلل لحيته.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن حميد إلا إسماعيل بن جعفر، تفرد به إسحاق بن عبد الله.
وإسحاق بن عبد الله لم ينسب فلم يتبين لي من هو، وبقية رجال الإسناد ثقات.
الطريق الثامن: مطر الوراق عن أنس.
أخرجه الطبراني كما في مجمع البحرين (420) من طريق عتاب بن محمد بن شوذب، عن عيسى الأزرق، عن مطر الوراق، عن أنس بن مالك.
وعتاب بن محمد بن شوذب ترجمه البخاري في التاريخ الكبير (7/56) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/13) ، ولم يذكرا فيه شيئاً.
وذكره ابن حبان في الثقات (7/295) ، وقال: مستقيم الحديث.
وعيسى الأرزق، روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في الثقات (8/490) ، وفي التقريب: مقبول: يعني: حيث توبع.
ومطر الوراق، في التقريب: صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف.
فالإسناد ضعيف.
الطريق التاسع: عن رقبة بن مصقلة، عن أنس.
رواه الطبراني كما في مجمع البحرين (419) حدثنا أحمد، ثنا محمد بن عمار الموصلي، ثنا عفيف بن سالم، عن محمد بن أبي حفص الأنصاري، عن رقبة بن مصقلة، عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حبذا المتخللون من أمتي.
ورواه الشهاب في مسنده (1333) من طريق علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عمار به.
وأخرجه أبو يعلى في معجم شيوخه (59) حدثنا محمد بن عمار به.
وهذا إسناد منقطع، رقبة بن مصقلة لم يسمع من أنس، قال المزي والحافظ: روى عن أنس فيما قيل. فهما ساقا سماعه من أنس بصيغة التمريض.
وجعله الحافظ في المرتبة السادسة كأنه لم يثبت له سماعاً من أنس. فالإسناد ضعيف.
وفي إسناده محمد بن أبي حفص الأنصاري لم أقف عليه، وكذا لم يقف عليه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/235) .
الطريق العاشر: أبو خالد، عن أنس.
رواه البيهقي (1/55) من طريق أبي حمزة السكري، عن إبراهيم الصائغ، عن أبي خالد، عن أنس، قال: وضأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخلل لحيته وعنفقته بالأصابع.
وأبو خالد هذا لم ينسب حتى يتبين لي من هو، فإن كان الوالبي فقد قال فيه أبو حاتم: صالح الحديث. الجرح والتعديل (9/120) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/514) .
وفي التقريب مقبول، إلا أن المزي لم يذكر من شيوخه أنس بن مالك، ولا من الرواة عنه إبراهيم الصائغ، مع أنه روى عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وجابر بن سمرة وميمونة. والله أعلم.
هذا ما وقفت عليه من طرق حديث أنس، وانظر لمراجعة بعض هذه الطرق إتحاف المهرة (803) ، و (1752) ، تحفة الأشراف (1649) ، (1680) .(9/260)
دليل من قال: يكره تخليل اللحية.
قالوا: لم يثبت في تخليل اللحية حديث صحيح، والأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تذكر تخليل اللحية، كحديث عثمان في الصحيحين، وحديث عبد الله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري،(9/268)
وحديث علي رضي الله عنه وغيرها من الأحاديث الصحيحة، وكون التخليل لا يأتي إلا في حديث ضعيف دليل على عدم ثبوت الحكم إذ لو كان التخليل مشروعاً لجاءت الأحاديث الصحيحة به، كما جاءت في تخليل الأصابع.
قال مالك رحمه الله: ((تخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله)) (1) .
وقال أبو داود كما في مسائل الإمام أحمد: قلت لأحمد بن حنبل: تخليل اللحية؟ قال: يخللها، قد روي فيه أحاديث، ليس يثبت فيه حديث - يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي ليس يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخليل شيء (3) .
وقال مثله ابن أبي حاتم، عن أبيه (4) .
دليل من قال: يجب التخليل.
لعلهم قاسوا ذلك على غسل الجنابة، بجامع أن كلاً منهما طهارة من حدث.
والدليل على وجوب التخليل في غسل الجنابة
(861-90) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه،
_________
(1) التمهيد (20/121) .
(2) مسائل أبي داود (40) .
(3) حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (1/170) .
(4) المرجع السابق.(9/269)
عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده.
ولعلهم رأوا أن الواجب هو غسل البدن، وإذا طرأ على البدن شعر لم يمنع ذلك من وجوب غسل البدن، حتى يتعذر غسله، والشعر لا يمنع من وصول الماء إلى البدن.
ويجاب على ذلك:
بأن الطهارة الصغرى مبنية على التخفيف، ولذلك جاز فيها المسح على الرأس وعلى الخفين، وكانت على أعضاء مخصوصة بخلاف الطهارة الكبرى فإن طهارتها ليس فيها مسح، وتعم جميع البدن، والله أعلم.
والراجح والله أعلم أن من خلل لحيته لا يقال عنه مبتدع، وليس التخليل بمثابة الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، ولا بمثابة تخليل الأصابع الذي صح فيه سنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحب إلي أن يترك التخليل، فإن كان لا بد فاعلاً فليكن نادراً ولا يداوم عليه لعدم ثبوت ما يدل على سنيته، والله أعلم.(9/270)
المبحث الثاني:
في صفة تخليل اللحية
لم يرد في صفة تخليل اللحية حديث صحيح، والأحاديث الواردة في صفة التخليل ضعيفة، وقد تبين معنى التخليل لغة، وأن أصله: إدخال الشيء في خلال الشيء، وخلل لحيته: أدخل الماء بين شعرها، وأوصل الماء إلى بشرته بأصابعه (1) .
وأما الأحاديث التي جاء فيها صفة التخليل فقد سبق تخريجها وبيان ضعفها، منها:
حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فادخله تحت حنكه، فخلل بها لحيته.
وحديث ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ عرك بعض العراك، ثم شبك بأصابعه من تحتها.
وحديث جابر يخلل لحيته بأصابعه كأنها أنياب مشط، وهو ضعيف جداً.
وحديث أبي أيوب: مسح لحيته من تحتها بالماء. ومثله حديث كعب بن عمرو: مسح باطن لحيته. وكلها سبق تخريجها.
هذا في ما يتعلق بصفة التخليل من خلال الآثار.
وأما صفة التخليل عند الفقهاء فهي كالتالي:
فقيل: كيفية التخلل تفريق شعرها من أسفل إلى فوق (2) .
_________
(1) اللسان (1/213) .
(2) حاشية ابن عابدين (1/117) البحر الرائق (1/22) . وفي الفتاوى الهندية (1/7) : وكيفيته: أن يدخل أصابعه فيها، ويخلل من الجانب الأسفل إلى فوق، وهو المنقول عن شمس الأئمة الكردي رحمه الله تعالى. كذا في المضمرات. اهـ
وقال النووي في المجموع (1/410) : قد ذكرنا أن التخليل سنة، ولم يذكر الجمهور كيفيته، وقال السرخسي: يخللها بأصابعه من أسفلها، قال: ولو أخذ للتخليل ماء آخر كان أحسن، ويستدل لما ذكره من الكيفية بحديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل بها لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي.
قال النووي: رواه أبو داود، ولم يضعفه، وإسناده حسن أو صحيح. والله أعلم. اهـ
ويظهر أن النووي اعتمد على سكوت أبي داود، وقد تكلمت على إسناده، وقد يسكت أبو داود على حديث، ولا يكون صالحاً، إما لظهور ضعف الحديث عند أهله، وإما لاختلاف النسخ، وإما لأنه تكلم على الراوي في موضع آخر، ولا يحب أن يكرر الكلام أو لغيره من الاعتبارات، المهم أن هناك أحاديث قد سكت عليها أبو داود وهي ظاهرة الضعف، والله أعلم.(9/271)
وفي المنح: أن يدخل أصابع اليد في فروجها التي بين شعراتها من أسفل إلى فوق بحيث يكون كف اليد الخارج، وظهرها إلى المتوضئ (1) .
وقيل: صفة التخليل أن يأخذ كفا من ماء فيضعه من تحتها , أو من جانبيها بأصابعه مشبكة فيها، زاد بعضهم: ويعركها. وعليه أكثر الحنابلة (2) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/117) واستشكله ابن عابدين بما رواه أبو داود، عن أنس كان - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أخذ كفا من ماء تحت حنكه، فخلل به لحيته, وقال: بهذا أمرني ربي. ذكره في البحر وغيره, والمتبادر منه إدخال اليد من أسفل، بحيث يكون كف اليد لداخل من جهة العنق، وظهرها إلى الخارج, ليمكن إدخال الماء المأخوذ في خلال الشعر, ولا يمكن ذلك على الكيفية المارة، فلا يبقى لأخذه فائدة, فليتأمل. وما في المنح عزاه إلى الكفاية. والذي رأيته في الكفاية هكذا, وكيفيته: أن يخلل بعد التثليث من حيث الأسفل إلى فوق. اهـ
(2) الإنصاف (1/134) ، وذكر ابن قدامة في المغني (1/149) : سألت أحمد عن التخليل؟ فأراني من تحت لحيته، فخلل بالأصابع. وقال حنبل: من تحت ذقنه من أسفل الذقن يخلل جانبي لحيته جميعاً بالماء، ويمسح جانبيها وباطنها. وقال أبو الحارث: إن شاء خللها مع وجهه، وإن شاء إذا مسح رأسه. اهـ(9/272)
وقيل: يخللها من ماء الوجه , ولا يفرد لذلك ماء، ويكون ذلك عند غسلهما. وإن شاء إذا مسح رأسه، وهو قول في مذهب الحنابلة (1) .
وهل يخللها باليد اليمنى أو بكلا يديه؟ قولان للفقهاء (2) .
_________
(1) المرجعان السابقان.
(2) قال ابن عابدين في حاشيته (1/117) : ثم اعلم أن هذا التخليل باليد اليمنى كما صرح به في الحلية, وهو ظاهر. وقال في الدرر: إنه يدخل أصابع يديه من خلال لحيته, وهو خلاف ما مر فتدبر.(9/273)
[صفحة فارغة](9/274)
المبحث الثالث:
في تخليل الأصابع
سبق لنا معنى التخليل في الفصل الذي قبل هذا، ومحل استحباب تخليل الأصابع إذا وصل الماء إلى ما بين الأصابع بدون تخليل، وإلا فيجب إيصال الماء إلى ما بين الأصابع وإن لم يتعين التخليل.
قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: قال أصحابنا: من سنن الوضوء تخليل أصابع الرجلين في غسلهما. قال: وهذا إذا كان الماء يصل إليهما من غير تخليل، فلو كانت الأصابع ملتفة لا يصل إليها الماء إلا بتخليل فحينئذ يجب التخليل لا لذاته، لكن لأداء فرض الغسل (1) .
وقد اختلف العلماء في حكم تخليل الأصابع:
فقيل: إن تخليل الأصابع مشروع، وهو في الرجلين آكد من اليدين، وهذا مذهب الحنفية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، واختاره ابن رشد من المالكية (5) .
_________
(1) انظر الفتاوى الهندية (1/7) .
(2) تبيين الحقائق (1/5) ، مراقي الفلاح (ص: 29) ، شرح فتح القدير (1/30) ، الفتاوى الهندية (1/7) .
(3) المجموع (1/455) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/62) ، مغني المحتاج (1/60) ، تحفة المحتاج (1/235) ، نهاية المحتاج (1/192) .
(4) شرح منتهى الإرادات (1/48) ، كشاف القناع (1/102) .
(5) مقدمات ابن رشد (1/83) .(9/275)
وقيل: تخليل الأصابع واجب في اليدين، سنة في الرجلين، وهو مذهب المالكية (1) .
وقيل: التخليل واجب مطلقاً في اليدين والرجلين. وهو قول في مذهب المالكية (2) .
وقيل: التخليل سنة أحياناً، ولا يداوم عليه، وهو اختيار ابن القيم (3) .
دليل الجمهور.
(862-91) ما رواه أبو داود (4) ، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، قالوا: ثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط ابن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة قال:
قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً.
[والحديث صحيح] (5) .
_________
(1) المنتقى للباجي (1/37) ، وقال ابن العربي في أحكام القرآن (2/75) : قال ابن وهب: وهو واجب في اليدين مستحب في الرجلين, وبه قال أكثر العلماء. الخ كلامه رحمه الله. وانظر الخرشي (1/126) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي (2/75) ، الشرح الصغير (1/108) .
(3) قال ابن القيم في الزاد (1/189) : وكذلك تخليل الأصابع لم يكن يحافظ عليه، ثم ساق حديث المستورد بن شداد وسيأتي الكلام عليه، وقال: وهذا إن ثبت فإنما كان يفعله أحياناً، ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه كعثمان وعلي وعبد الله بن زيد، والربيع وغيرهما. اهـ
(4) سنن أبي داود (142) .
(5) سبق تخريجه انظر رقم (829) من الكتاب نفسه.(9/276)
فقوله: ((وخلل بين الأصابع)) الأمر مطلق، فيشمل أصابع اليدين والرجلين.
الدليل الثاني: حديث ابن عباس
(863-92) رواه أحمد، قال: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، قال:
سمعت ابن عباس يقول: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من أمر الصلاة؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلل أصابع يديك ورجليك يعني: إسباغ الوضوء (1) .
[أرجو أن يكون حسناً] (2) .
_________
(1) المسند (1/287) .
(2) عبد الرحمن بن أبي الزناد.
قال ابن المديني: ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون.
وقال عنه الحافظ: صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً، اهـ
والراوي عنه سليمان بن داود الهاشمي بغدادي، لكن قال علي ابن المديني: وقد نظرت فيما روى عنه سليمان بن داود الهاشمي فرأيتها مقاربة.
وقد سبق لي ترجمته ترجمة وافية في كتاب أحكام المسح على الحائل (ح: 73) فانظره غير مأمور.
وفي إسناده صالح مولى التوأمة،
قال يحيى بن سعيد: لم يكن بثقة. تهذيب الكمال (13/101) .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه: قال بشر بن عمر: سألت مالكاً عن صالح مولى التوأمة، فقال: ليس بثقة. فقال أحمد: كان مالك قد أدركه وقد اختلط، وهو كبير، من سمع منه قديماً فذاك، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة، وهو صالح الحديث ما أعلم به بأساً. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين: ثقة، خرف قبل أن يموت، فمن سمع منه قبل الاختلاط فهو ثبت. المرجع السابق.
وحين قيل ليحيى بن معين: إن مالكاً ترك السماع منه، فقال: إن مالكاً أدركه بعد أن كبر وخرف. المرجع السابق.
وقال الحافظ في التقريب: صدوق اختلظ بآخرة، لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج، وقد أخطأ من زعم أن البخاري أخرج له. اهـ
قلت: سماع موسى بن عقبة قبل تغيره، انظر الكواكب النيرات (33) ، فالإسناد يرجى أن يكون حسناً.
والحديث أخرجه الترمذي (39) وابن ماجه (447) والحاكم (1/382) من طريق سعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد به.
وفي علل الترمذي الكبير (ص: 24) : سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن، وموسى بن عقبة سمع من صالح مولى التوأمة قديماً، وكان أحمد يقول من سمع من صالح قديماً فسماعه حسن، ومن سمع منه أخيراً فكأنه يضعف سماعه. اهـ وانظر مصباح الزجاجة (1/65) .
ورواه ابن أبي شيبة (1/19) حدثنا هشيم، عن عمران بن أبي عطاء، قال: رأيت ابن عباس توضأ، فغسل قدميه حتى تتبع بين أصابعه فغسلهن.
وهذا موقوف على ابن عباس، وفي إسناده عمران بن أبي عطاء أبو حمزة القصاب، جاء في ترجمته:
قال أحمد: ليس به بأس صالح الحديث. الجرح والتعديل (6/302) .
وقال يحيى بن معين: يقول أبو حمزة: عمران بن أبى عطاء ثقة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: بصري لين. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/120) .
وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به. الضعفاء الكبير (3/299) .
وفي التقريب: صدوق له أوهام.(9/277)
الدليل الثالث: حديث المستورد بن شداد.
(864-93) رواه أحمد، قال: ثنا موسى بن داود قال: أنا بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو، عن أبي عبد الرحمن الحبلي،
عن المستورد بن شداد صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره (1) .
[إسناده ضعيف تفرد به ابن لهيعة] (2) .
_________
(1) المسند (4/229) .
(2) وابن لهيعة ضعيف مطلقاً، قبل احتراق كتبه وبعدها، قد رأى بعضهم تحسين حديثه إذا كان من طريق من روى عنه قبل أن تحترق كتبه. والراجح أنه ضعيف مطلقاً، لكن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها كما قال الحافظ، وهذه العبارة لا تقتضي تحسين حديثه،
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره وأوله سواء إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه. الجرح والتعديل (5/145) .
فهذا نص على أنه ضعيف مطلقاً، وإن كان قد يتفاوت الضعف فرواية ابن المبارك أخف ضعفاً.
وقال عمرو بن علي: عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرى أصح من الذين كتبوا بعد ما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وهذا النص ليس فيه أن ما يرويه العبادلة صحيح مطلقاً، إنما كلمة أصح لا تعني الصحة كما هو معلوم، ولذلك قال: وهو ضعيف الحديث، هذا حاله قبل احتراق كتبه وبعدها.
قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي إذا كان من يروى عن ابن لهيعة مثل بن المبارك وابن وهب يحتج به؟ قال: لا. الجرح والتعديل (5/145) .
وقال ابن حبان: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجوداً، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيراً، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فالتزقت تلك الموضوعات به. قال عبد الرحمن بن مهدي: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيراً كتب إلي ابن لهيعة كتاباً فيه: حدثنا عمرو بن شعيب، قال عبد الرحمن: فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه، عن ابن لهيعة قال حدثني: إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب.
ثم قال ابن حبان: وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة، وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة، سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه لما فيه مما ليس من حديثه. المجروحين (2/11) .
وهذا عين التحرير أن رواية المتقدمين عنه فيها ما يدلسه عن الضعفاء، ورواية المتأخرين عنه فيها ما ليس من حديثه.
وجاء في ضعفاء العقيلي (2/294) : " حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن علي، قال سمعت: أبا عبد الله، وذكر ابن لهيعة، وقال: كان كتب عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه.
وهذا صريح بأن ابن لهيعة يدلس عن الضعفاء.
والحديث أخرجه أحمد (4/229) عن حسن بن موسى وموسى بن داود ويحيى بن إسحاق.
وأخرجه أبو داود (148) ، والترمذي (40) والبغوي (214) من طريق قتيبة ابن سعيد.
وأخرجه ابن ماجه (446) من طريق محمد بن حمير.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/36) والبيهقي (1/76) من طريق عبد الله ابن وهب.
وابن قانع (3/109) ، والطبراني في الكبير (20/306) ح 728 من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ.
والطبراني في الكبير (20/728) من طريق أسد بن موسى،
والبزار في مسنده (3464) من طريق بشر بن عمر. كلهم عن عبد الله بن لهيعة به.
وقد تابع عبد الله بن لهيعة الليث بن سعد وعمرو بن الحارث أخرجه ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل (1 / 31) ومن طريقه أخرجه البيهقي (1/ 76، 77) نا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب قال: سمعت عمي يقول: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبى عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع. اهـ
تفرد بهذا الإسناد أحمد بن عبد الرحمن بن وهب،
قال فيه ابن عدي: رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه، ومن كتب عنه من الغرباء غير أهل بلده لا يمتنعون من الرواية عنه، وحدثوا عنه منهم أبو زرعة الرازي وأبو حاتم فمن دونهما، ثم قال: وكل ما أنكروه عليه فمحتمل وإن لم يكن يرويه عن عمه غيره ولعله خصه به. الكامل (1/184) .
وقول ابن عدي: إن أبا زرعة روى عنه لعله وهم، فإن أبا زرعة رحمه الله قال: أدركته ولم أكتب عنه كما في الجرح والتعديل (2/59) .
وقال الحافظ ابن حجر: صدوق تغير حفظه بآخرة.
وقد شكك الحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة بصحة رواية ابن وهب هذه، ولو صحت لثبت حديث المستورد بن شداد، قال الحافظ في الإتحاف (13/177) : أظنه غلطاً من أحمد بن عبد الرحمن، فقد حدث به عن محمد بن الربيع الجيزي في كتاب الصحابة الذين نزلوا مصر، فلم يذكر غير ابن لهيعة، وأخرجه من طرق عن ابن لهيعة، وعن يونس بن عبد الأعلى ومحمد ابن عبد الله بن عبد الحكم، كلاهما عن ابن وهب، عن ابن لهيعة وحده، نعم رواية ابن وهب له مما يقويه؛ لأنه سمع من ابن لهيعة قديماً. اهـ
وقد بينت لك أن ابن لهيعة ضعيف في كل أمره هذا من جهة، ومن جهة أخرى لو تقوى حال أحمد بن عبد الرحمن بن وهب لكان تفرده عن سائر من روى الحديث يعتبر شذوذاً، كيف وقد تكلم فيه في حفظه. والله أعلم.
انظر أطراف المسند (5/274) ، إتحاف المهرة (16550) ، تحفة الأشراف (11256) .(9/279)
الدليل الرابع:
(865-94) ما رواه الدارقطني من طريق مصعب بن المقدام وعبد الله ابن نمير، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال:
رأيت عثمان بن عفان يتوضأ فغسل يديه ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ومضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، ثم غسل قدميه ثلاثاً، ثم خلل أصابعه وخلل لحيته ثلاثاً حين غسل وجهه، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كالذي رأيتموني فعلت (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/86) .
(2) مداره على إسرئيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان مرفوعاً، وقد تكلمت على عامر، وذكرت طرق هذا الحديث في تخليل اللحية، وقد روي مطولاً ومختصراً، وممن رواه عن إسرائيل بذكر تخليل الأصابع جماعة منهم:
ـ عبد الرزاق في مصنفه (125) . إلا أنه قد اختلف عليه في ذكر الأصابع، فرواية الترمذي (31) ، وابن ماجه (430) ، والحاكم (1/148، 149) من طريق عبد الرزاق لم يذكر فيها تخليل الأصابع.
ـ وابن مهدي كما في المنتقى لابن الجارود (72) ، وابن خزيمة في صحيحه (152) .
ـ وخلف بن الوليد كما في صحيح ابن خزيمة (151) .
ـ وأبو عامر كما في صحيح ابن خزيمة أيضاً (167) .
ـ وعبد الله بن نمير ومصعب بن المقدام كما في سنن الدارقطني، وسقته في المتن. وقد اختلف على عبد الله بن نمير في ذكر تخليل الأصابع، فقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف وابن حبان (1078) من طريق عبد الله بن نمير ولم يذكر تخليل الأصابع.
ـ وأسد بن موسى كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/32) .
ورواه غيرهم بدون ذكر تخليل الأصابع، وقد سبق تخريج الحديث في مسألة تخليل اللحية، فانظره غير مأمور، والله أعلم.(9/282)
أدلة القائلين بوجوب التخليل:
الدليل الأول:
(866-95) قال الحافظ في التلخيص (1) : روى زيد بن أبي الزرقاء، عن الثوري، عن أبي مسكين، واسمه: حر بن مسكين، عن هزيل بن شرحبيل،
عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: لينهكن أحدكم أصابعه قبل أن تنهكه النار.
[المحفوظ وقفه] (2) .
ويجاب عنه:
بأن الأثر محمول على وجوب غسل ما بين الأصابع حتى لا يكون هناك موضع لم يصبه الماء جمعاً بين الأدلة، والله أعلم.
_________
(1) تلخيص الحبير (1/94) .
(2) اختلف على الثوري فيه:
فرواه زيد بن أبي الزرقاء، عن الثوري، عن أبي مسكين، عن هزيل بن شرحبيل، عن ابن مسعود مرفوعاً.
وخالفه عبد الرزاق كما في مصنفه (68) فرواه عن الثوري به موقوفاً، وهو الصواب؛ لأن الحديث في مصنف الثوري موقوف أيضاً كما ذكره الحافظ في التلخيص، ورواه أبو الأحوص أيضاً عن أبي مسكين به موقوفاً، أخرجه ابن أبي شيبة (1/19) .
ورواه ابن أبي شيبة (19) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن طلحة، عن عبد الله، قال: خللوا بين أصابعكم بالماء قبل أن تحشوها النار.
ورجاله ثقات.(9/283)
الدليل الثاني:
(867-96) ما رواه الدارقطني من طريق عمر بن قيس، عن ابن شهاب، عن عروة،
عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ويخلل بين أصابعه، ويدلك عقبيه، ويقول: خللوا بين أصابعكم لا يخلل الله تعالى بينها بالنار (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
الدليل الثالث:
(868-97) استدلوا بما تقدم من حديث لقيط بن صبرة قال:
قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً.
[والحديث صحيح] (3) .
فقوله: ((خلل)) أمر، والأصل في الأمر الوجوب.
قال الشوكاني في النيل: والأحاديث قد صرحت بوجوب التخليل، وثبتت من قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، ولا فرق بين إمكان وصول الماء بدون تخليل، وعدمه، ولا بين أصابع اليدين والرجلين، فالتقيد بأصابع الرجلين، أو بعدم إمكان وصول الماء لا دليل عليه. اهـ
والقول بالوجوب فيه نظر؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما ذكر في القرآن الغسل، وحقيقته: جريان الماء على العضو، والتخليل زيادة عليه، فهو داخل في
_________
(1) سنن الدارقطني (1/95) .
(2) فيه عمر بن قيس، قال الحافظ في التلخيص (1/94) : منكر الحديث. وفي التقريب: متروك. اهـ وانظر إتحاف المهرة (22079) .
(3) سبق تخريجه انظر رقم (829) من الكتاب نفسه.(9/284)
الكمال، والأحاديث التي وصفت وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما كما في حديث عثمان وعبد الله بن زيد وابن عباس وغيرها لم يرد فيها ذكر التخليل، مع أن الصحابة في مقام البيان والتعليم، فلو كان واجباً لما أهملوا ذكره، والله أعلم.
دليل التفريق بين أصابع اليدين والرجلين.
قال الخرشي: وإنما وجب تخليل أصابع اليدين دون أصابع الرجلين لعدم شدة اتصال ما بينهما، بخلاف أصابع الرجلين، فأشبه ما بينهما الباطن لشدة اتصال ما بينهما. اهـ
وذكر ابن العربي تعليلاً آخر، فقال: والحق أنه واجب في اليدين على القول بالدلك , غير واجب في الرجلين , لأن تخليلها بالماء يقرح باطنها , وقد شاهدنا ذلك , وما علينا في الدين من حرج في أقل من ذلك , فكيف في تخليل تتقرح به الأقدام؟ (1) .
قلت: لا فرق بينهما في وجوب جريان الماء بين الأصابع، فالتخليل زائد على الغسل، فيكون التخليل سنة فيهما، وأما كون بعض الأدلة قد تذكر أصابع الرجلين فقط كما في حديث المستورد بن شداد، فهو إن صح ذكر لفرد من أفراد العام أو المطلق، لا يقتضي تخصيص العام أو تقييد المطلق، وقد جاء في حديث ابن عباس النص على تخليل أصابع اليدين والرجلين، وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى، وحديث لقيط بن صبرة: خلل بين الأصابع، وهو مطلق يشمل أصابع اليدين والرجلين، والله أعلم.
_________
(1) أحكام القرآن لابن العربي (2/75) .(9/285)
[صفحة فارغة](9/286)
المبحث الرابع:
في صفة تخليل الأصابع
اختلفوا في صفة التخليل للأصابع،
فقيل: في اليدين بالتشبيك، وفي الرجلين يخلل بخنصر يده اليسرى بادئاً بخنصر رجله اليمنى من أسفل حتى يصل إلى إبهامها، ثم يبدأ بإبهام الرجل اليسرى خاتماً بخنصرها.
هذه صفة التخليل عند الجمهور (1) .
وقيل: بل يخلل بخنصر يده اليمنى، اختاره القاضي أبو الطيب من الشافعية (2) .
وقيل: يخلل بكل أصابعه إلا الإبهامين؛ لما فيهما من العسر (3) .
وقيل: لا دليل على تعيين اليد اليمنى أو اليسرى للتخليل، فلا حجر على المتوضئ في استعمال اليمنى أو اليسرى. وهو اختيار إمام الحرمين (4) .
وهذه الأقوال قد يوجد لبعضها أدلة من عمومات ونحوها، فالبداءة باليمنى قد يستدل له بحديث عائشة رضي الله عنها، قال:
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (1/30) ، البحر الرائق (1/22) ، الفتاوى الهندية (1/7) ، وفي مذهب المالكية انظر حاشية العدوي (1/197) ، وفي مذهب الحنابلة انظر: المغني (1/76) ، الإنصاف (1/134) ، شرح منتهى الإرادات (1/48) ، كشاف القناع (1/102) .
(2) المجموع (1/455) .
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.(9/287)
كان يعجبه التيامن ما استطاع في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله.
وكون التخليل بالخنصر قد يستدل له بحديث المستورد بن شداد: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره.
وهو حديث ضعيف، وسبق تخريجه (1) .
وأما كونه بخنصر اليد اليسرى فلم يثبت فيه عندي سنة، وكلام إمام الحرمين قوي، والله أعلم.
_________
(1) انظر تخريجه برقم (864) .(9/288)
الفصل السادس:
في استحباب تحريك الخاتم الواسع
إذا كان على المتوضئ خاتم، فهل يجب تحريكه أو يعفى عنه؟ .
فقيل: إن تحقق وصول الماء إلى ما تحته استحب تحريكه، وصار ذلك بمنزلة التخليل، وإن لم يصل الماء إلى ما تحته إلا بخلعه أو تحريكه وجب ذلك.
وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: لا يجب عليه تحريك خاتمه. وهو منسوب إلى مالك رحمه الله (4) .
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/22) : ولو كان في أصبعه خاتم فإن كان واسعاً فلا حاجة إلى التحريك , وإن كان ضيقاً فلا بد من التحريك ليصل الماء إلى ما تحته. اهـ
وانظر تبيين الحقائق (1/13) ، شرح فتح القدير (1/57) ، البحر الرائق (1/49) ، حاشية ابن عابدين (1/154) .
(2) قال النووي في المجموع (1/427) : قال أصحابنا: إذا كان في أصبعه خاتم، فلم يصل الماء إلى ما تحته وجب إيصال الماء إلى ما تحته بتحريكه أو خلعه، وإن تحقق وصوله استحب تحريكه. اهـ
(3) قال ابن قدامة في المغني (1/153) قيل لأحمد: من توضأ يحرك خاتمه؟ قال: إن كان ضيقاً لا بد أن يحركه, وإن كان واسعاً يدخل فيه الماء أجزأه. قال ابن قدامة: وإذا شك في وصول الماء إلى ما تحته وجب تحريكه; ليتيقن وصول الماء إليه; لأن الأصل عدم وصوله. اهـ
(4) انظر الفواكه الدواني (1/49) .
وقال الباجي في المنتقى (1/36) : فإن كان في يده خاتم فهل عليه تحريكه أم لا؟
قال مالك في العتبية: ليس عليه تحريك الخاتم في الوضوء.
وقال ابن المواز: ولا في الغسل.
وقال ابن حبيب: إن كان ضيقا فعليه تحريكه وليس عليه ذلك إن كان واسعاً.
وقال الشيخ أبو إسحاق: عليه تحريك الخاتم ضيقا كان أو غير ضيق.
ويحتمل ما قاله مالك تعليلاً من أحدهما: أن الخاتم لما كان ملبوسا معتاداً يستدام لبسه من غير نزع في الغالب، لم يجب إيصال الماء إلى ما تحته بالوضوء كالخفين.
والثاني: أن الماء برقته مع دقة الخاتم يصل إلى ما تحته من البشرة، فلا يحتاج إلى تحريكه، فعلى هذا لا يخالف ما قاله ابن حبيب.
وقد قال محمد بن دينار فيمن يلصق بذراعيه قدر الخيط من العجين أو غيره فلا يصل الماء إلى ما تحته، فيصلي بذلك: فلا شيء عليه. قال ابن القاسم: عليه الإعادة. اهـ نقلاً من المنتقى.(9/289)
وقيل: يجب عليه تحريك الخاتم مطلقاً، ضيقاً كان واسعاً، اختاره بعض المالكية (1) .
دليل الجمهور على وجوب نزع الخاتم الضيق.
الدليل الأول:
فرض اليد غسلها من رؤوس الأصابع حتى نهاية المرفقين، وإذا بقي جزء من الأصبع لم يغسل، لم يقم بفرض الوضوء في اليد، وإذا كان الشارع توعد على ترك شيء من العقب لم يمسه الماء، فقال في الحديث المتفق على صحته: ويل للأعقاب من النار، فهذا مثله.
الدليل الثاني:
(869-98) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، حدثني أبي، عن عبيد الله بن أبي رافع،
_________
(1) المنتقى للباجي (1/36)(9/290)
عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ حرك خاتمه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (449) ، ورواه الدارقطني (1/83، 94) من طريق أبي قلابة وعلي ابن سهل بن المغيرة فرقهما، عن معمر بن محمد به.
(2) في إسناده عبد الملك بن محمد الرقاشي، جاء في ترجمته:
قال أبو داود: صدوق أمين مأمون. طبقات الحفاظ (583) .
وقال الدارقطني: صدوق كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدث من حفظه فكثرت الأوهام منه. انظر تاريخ بغداد (10/425) .
وسكت عليه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/369) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يحفظ أكثر حديثه. الثقات (8/391) .
وقال الذهبي: صدوق يخطئ. الكاشف (3478) .
ولعل كلام الدارقطني بعد تغيره، قال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، تغير حفظه لما سكن بغداد.
قلت: رواية ابن ماجه عنه قبل تغيره، انظر الكواكب النيرات (ص:309) ، ثم إنه لم ينفرد به، وإنما علته: معمر بن محمد بن عبيد الله، جاء في ترجمته:
قال البخاري: منكر الحديث. الكامل (6/450) .
وقال ابن عدي: مقدار ما يرويه لا يتابع عليه. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين: ما كان ثقة، ولا مأمون. تهذيب التهذيب (10/224) .
وقال مرة: ليس هذا بشيء، ولا أبوه بشيء. الجرح والتعديل (8/373) .
وذكره العقيلي في الضعفاء (4/261) وقال: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به. وذكره ابن حبان في المجروحين. وفي التقريب: منكر الحديث.
وفي إسناده أيضاً: محمد بن عبيد الله بن أبي رافع.
قال البخاري: منكر الحديث. التأريخ الكبير (1/171) .
وقال ابن معين: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً، ذاهب. تهذيب التهذيب (9/286) .
وقال البرقاني عن الدارقطني: متروك، له معضلات. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: هو في عداد شيعة الكوفة، ويروي من الفضائل أشياء لا يتابع عليها. الكامل (6/113) .
وفي التقريب: ضعيف. فالحديث ضعيف.
انظر لمراجعة طرق الحديث: تحفة الأشراف (12023) ، إتحاف المهرة (17697) .(9/291)
الدليل الثالث:
قالوا: غسل الأصابع في الوضوء ثابت بالإجماع فلا يسقط غسلها إلا بمثله من نص أو إجماع، ولا يوجد نص ولا إجماع على سقوط غسل ما تحت الخاتم.
دليل من قال: لا يجب عليه تحريكه ضيقاً كان أو واسعاً:
قالوا: الخاتم يستدام لبسه، ويشق نزعه، ومقدر ما تحته يسير، فيعفى عنه كما عفي عن خلع العمامة، وشرع المسح عليها، وكما عفي عن نزع الخفين، وشرع المسح عليهما بشروطه، وكما عفي عن غسل ما تحت الشعر الكثيف.
وأجيب:
بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نزع يده من كمه حين ضاق كمه، فغسل يده ولم يمسح عليها، فلا يمسح إلا ما دل الدليل على مسحه، فهو غير مقيس، ثم إن القدم سقط غسله إلى بدل، وهو مسح الخف، والخاتم أسقطتم غسله إلى غير بدل، فأين الدليل على إسقاط غسله، ولم يقل أحد بمسح ظاهر الخاتم.(9/292)
الراجح من هذه الأقوال:
القول بسقوط غسل ما تحت الخاتم فيه قوة، إلا أن القول بوجوب غسل ما تحته أقوى وأظهر من حيث الأدلة، وإذا كان الخاتم ضيقاً فيمكن للإنسان أن يقوم بتوسيع الخاتم حتى يسري الماء من تحته بلا كلفة، ولا يخاطر الإنسان في شرط الصلاة التي هي من أعظم أركان الإسلام العملية على الإطلاق.(9/293)
[صفحة فارغة](9/294)
مبحث:
في ماء الأذنين
اختلف العلماء في ماء الأذنين،
فقيل: السنة أن تمسح الأذنان بماء الرأس.
وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: بل يستحب أخذ ماء جديد لهما، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
ولو مسحهما بماء الرأس أجزأ عندهم، لكن الخلاف في تحصيل السنة.
وقيل: الأذنان من الوجه، فيغسلان معه (5) .
وقيل: ما أقبل منهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس (6) .
دليل من قال: إن الأذنين من الرأس فيمسحان بماء الرأس.
الدليل الأول:
(870-99) ما رواه النسائي من طريق ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
_________
(1) بدائع الصنائع (1/5) ، المبسوط (1/10) ، حاشية ابن عابدين (1/21) ، البحر الرائق (1/9) ، اللباب شرح الكتاب (1/1) .
(2) المدونة (1/19) ، التمهيد (3/209) ، مواهب الجليل (1/112) ،
(3) روضة الطالبين (1/4) ،
(4) المغني (1/4) ، المبدع شرح المقنع (1/4) .
(5) هذا قول الزهري، انظر التمهيد لابن عبد البر (3/209) ، والمجموع (1/443) ، والبحر المحيط تفسير سورة المائدة (ص: 4) .
(6) انظر المراجع السابقة.(9/295)
عن ابن عباس قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغرف غرفة فمضمض واستنشق ثم غرف غرفة فغسل وجهه ثم غرف غرفة فغسل يده اليمنى ثم غرف غرفة فغسل يده اليسرى ثم مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه ثم غرف غرفة فغسل رجله اليمنى ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى (1) .
[رجاله ثقات إلا ابن عجلان فإنه صدوق، وأكثر الرواة على عدم ذكر مسح الأذنين] (2) .
_________
(1) سنن النسائي (102) .
(2) الحديث مداره على زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس.
ويرويه عن زيد بن أسلم عشرة من الرواة بل يزيدون، وبعضهم يرويه مختصراً، وبعضهم يرويه مطولاً، فقد وقفت على ثلاثة رواة يروون الحديث بذكر مسح الأذنين، ورواه جماعة مطولاً ومختصراً، ولم يذكروا مسح الأذنين، أشهرهم سفيان الثوري، وسليمان بن بلال، ومعمر بن راشد، وإليك بيان طرق كل رواية، ومن خرجها.
ذكر الرواة الذين ذكروا مسح الأذنين:
الأول: ابن عجلان كما في إسناد الباب:
عند ابن أبي شيبة (1/17) رقم 64، وأبي يعلى (2486) ، والنسائي (102) ، وابن ماجه (439) ، وابن خزيمة (148) ، وابن حبان (1078، 1086) ، والبيهقي (1/55، 73) وغيرهم.
الثاني: هشام بن سعد.
رواه أبو داود (137) والحاكم (1/147) ، والبيهقي في السنن (1/73) وفي المعرفة (1/222) .
الثالث: عبد العزيز بن محمد الدراوردي.
كما في سنن النسائي (101) ، وابن ماجه (403) ، والدارمي (697) ، ومسند أبي يعلى (2670، 2672) ، والطحاوي (1/32) والبيهقي (1/50) ، وابن حبان (1076) .
إلا أن ابن ماجه والدارمي وابن حبان والبيهقي اختصروا لفظه، ولم يذكروا مسح الأذنين.
وأما من رواه عن زيد بن أسلم ولم يذكر الأذنين، منهم:
الأول: سفيان الثوري، كما عند البخاري (157) وأبو عبيد في كتابه الطهور (103) ، وأبو داود (138) والنسائي (80) ، والترمذي (42) وابن ماجه (411) ، والطحاوي (1/29) ، وابن حبان (1195) والدارمي (696، 711) والبغوي في شرح السنة (226) .
الثاني: سليمان بن بلال.
كما في مسند أحمد (1/286) ، والبخاري (140) ، والبيهقي (1/72) .
الثالث: معمر كما في مصنف عبد الرزاق (126) ، وأحمد (1/336) ، والبيهقي (1/80) .
الرابع: داود بن قيس، كما عند عبد الرزاق (127) ، وأحمد (1/336) ، والبيهقي (1/80) .
الخامس: ورقاء بن عمر كما عند البيهقي (1/67،73) . بسند حسن، رجاله كلهم ثقات إلا ورقاء بن عمر، فإنه صدوق. وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح.
السادس: محمد بن جعفر بن أبي كثير كما عند البيهقي (1/73) .
السابع: أبو بكر بن محمد كما عند عبد الرزاق (129) .
فلا تطمئن النفس إلا أن ذكر مسح الأذنيين محفوظاً في الحديث، والله أعلم.
وحديثنا هذا فيه زيادات كثيرة لم أتعرض لها لأن الكلام على ذكر مسح الأذنين، وتعرضت لبعضها في كتابي أحكام المسح على الحائل، في معرض الكلام على المسح على النعل؛ لأن في بعض ألفاظها ذكر المسح على النعل، وفي بعضها الرش، فإن رأيت أنك بحاجة إلى الاطلاع على المزيد عن متن هذا الحديث فارجع إليه غير مأمور. والله الموفق.
وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطرف المسند (3/177، 178) ، إتحاف المهرة (8224، 8226، 8227) تحفة الأشراف (5976، 5978) .(9/296)
الدليل الثاني:
(871-100) ما رواه أحمد من طريق عباد بن منصور، عن عكرمة بن خالد المخزومي عن سعيد بن جبير،(9/297)
عن ابن عباس مرفوعاً في حديث طويل في مبيته عند خالته ميمونة وصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه:
((ومسح برأسه وأذنيه مرة واحدة)) (1) .
[إسناده ضعيف، والحديث في الصحيحين، وفيه ذكر الوضوء، إلا أنه لم يُفَصَّل وضوؤه] (2) .
_________
(1) المسند (1/369، 370) .
(2) في إسناده عباد بن منصور، جاء في ترجمته:
جاء في الجرح والتعديل: روى عن القاسم بن محمد وعطاء بن أبى رباح والحسن وعكرمة وأيوب السختياني وفى روايته عن عكرمة وأيوب ضعف. (6/86) .
وقال الدوري وأبو بكر بن أبي خيثمة: عن يحيى بن معين: عباد بن منصور ليس بشيء ضعيف. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: كان ضعيف الحديث يكتب حديثه ونرى أنه أخذ هذه الأحاديث عن ابن أبى يحيى عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس. المرجع السابق.
وسئل أبو زرعة عن عباد بن منصور فقال: بصرى لين. المرجع السابق.
[تخريج الحديث] .
والحديث أخرجه أبو داود (133) من طريق يزيد بن هارون.
وأخرجه ابن خزيمة (1094) من طريق النضر بن شميل.
ورواه الطبراني (12504) من طريق أبي بكر الحنفي، ثلاثتهم عن عباد به.
وقد رواه عبد الرزاق (3868) ، ومن طريقه أحمد (1/366) ، وعبد بن حميد (692) ، وأبو داود (1365) ، والنسائي في الكبرى (1425) ، والطبراني (11272) ، والبيهقي (3/8) من طريق ابن طاووس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس، ولم يذكر ما ذكره عباد. كما أنه لم يذكر سعيد بن جبير بين عكرمة وابن عباس.
كما أن الحديث من طريق سعيد جبير في البخاري، (117، 697، 699) وليس فيه ما ذكره عباد بن منصور.
ورواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة عن ابن عباس، ولم يذكروا مسح الأذنين، والله أعلم.
انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (3/94) ، تحفة الأشراف (5579) ، إتحاف المهرة (7440) .(9/298)
الدليل الثالث:
(872-101) ما رواه عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق،
عن شقيق بن سلمة، قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، ومضمض واستنشق واستنثر، وغسل وجهه ثلاثاً، قال: وحسبته قال: وذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً، وخلل أصابعه، وخلل لحيته حين غسل وجهه قبل أن يغسل قدميه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (125) .
(2) سبق تخريجه، انظر حديث (845) وفي إسناده عامر بن شقيق فيه مقال وسبق بيانه في مسألة تخليل اللحية، ومدار الحديث على إسرائيل، عن عامر، عن شقيق بن سلمة، عن عثمان.
وممن رواه عن إسرائيل بذكر مسح الرأس والأذنين عبد الرازاق كما سقته.
وابن مهدي كما في رواية ابن الجارود في المنتقى (72) ، وابن خزيمة.
وخلف بن الوليد كما في رواية ابن خزيمة (151) .
وعبد الله بن نمير ومصعب بن المقدام كما في سنن الدارقطني (1/86) .
وأبو عامر كما في صحيح ابن خزيمة (167) .
وأسد بن موسى كما عند الطحاوي (1/32) . ورواه جماعة بذكر تخليل اللحية فقط انظر تخريج الحديث في مسألتي تخليل اللحية وتخليل الأصابع، والله أعلم.(9/299)
الدليل الرابع:
(873-102) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل،
عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له الميضأة، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره وأدخل أصبعيه في أذنيه (1) .
[انفرد ابن عقيل بهذا الحديث عن الربيع، وعبد الله بن عقيل مختلف فيه، والأكثر على ضعفه، وأميل إلى تحسين حديثه بثلاثة شروط: ألا يخالف أو يأتي بما ينكر عليه، أو يكون حديثه أصلاً في الباب ولم يتابع] (2) .
_________
(1) المسند (6/359) .
(2) جاء في ترجمة عبد الله بن محمد بن عقيل:
قال ابن حبان: كان عبد الله من سادات المسلمين من فقهاء أهل البيت وقرائهم إلا أنه كان رديء الحفظ، كان يحدث على التوهم فيجيء بالخبر على غير سننه فلما كثر ذلك في أخباره وجب مجانبتها والاحتجاج بضدها. المجروحين (2/3) .
قال أبو معمر القطيعي: كان ابن عيينة لا يحمد حفظ ابن عقيل.
قال سفيان: كان ابن عقيل في حفظه شيء فكرهت أن ألقيه. كما في رواية الحميدي عنه الجرح والتعديل (5/154)
وقال يعقوب: ابن عقيل صدوق، وفي حديثه ضعف شديد جداً وكان ابن عيينة يقول: أربعة من قريش يترك حديثهم، فذكره فيهم.
وقال ابن المديني عن ابن عيينة: رأيته يحدث نفسه، فحملته على أنه قد تغير. تهذيب التهذيب (6/13) . تهذيب الكمال (16/78) .
سئل يحيى بن معين عن عبد الله بن محمد بن عقيل، فقال: ليس بذاك. كما في رواية أبي بكر ابن أبى خيثمة.
قال مسلم بن الحجاج: قلت ليحيى بن معين: عبد الله بن محمد بن عقيل أحب إليك أو عاصم ابن عبيد الله؟ فقال: ما أحب واحداً منهما في الحديث.
وقال أيضاً: عبدالله بن محمد بن عقيل ضعيف في كل أمره، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (5/153) . تهذيب التهذيب (6/13) .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن عبد الله بن محمد بن عقيل؟ فقال: لين الحديث ليس بالقوي، ولا ممن يحتج بحديثه يكتب حديثه وهو أحب الى من تمام بن نجيح. الجرح والتعديل (5/153) .
وقال ابن المديني: كان ضعيفاً. كما في رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة. تهذيب الكمال (16/78) ، تهذيب التهذيب (6/13) .
وقال: أحمد منكر الحديث. كما في رواية حنبل عنه. المرجع السابق.
وقال النسائي: ضعيف. المرجع السابق.
وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. المرجع السابق.
وقال الخطيب: كان سيء الحفظ. المرجع السابق
وقال عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سليمان: خير فاضل، ووصفه بالعبادة، وقال: إن كانوا يقولون فيه شيء ففي حفظه. الضعفاء الكبير ـ العقيلي (2/298) .
وقال أبو أحمد الحاكم: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يحتجان بحديثه، وليس بذاك المتين المعتمد. تهذيب الكمال (16/78) ، تهذيب التهذيب (6/13) .
وقال الترمذي: صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد ابن إسماعيل يقول: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل، قال: محمد ابن إسماعيل: وهو مقارب الحديث. سنن الترمذي (1/9) .
وقال ابن عدي: روى عنه جماعة من المعروفين الثقات، وهو خير من ابن سمعان ويكتب حديثه. الكامل (4/127) ، تهذيب التهذيب (6/13) .
وقال ابن عبد البر: هو أوثق من كل من تكلم فيه. قال الحافظ: وهذا إفراط. تهذيب التهذيب (6/13) .
ولا أعلم أين ذكر ذلك ابن عبد البر، والموجود في التمهيد (20/125) : " ليس بالحافظ". فعلى هذا الأكثر على تضعيفه، فابن عيينة، ويحيى بن معين، وابن خزيمة، وابن حبان، ويعقوب بن شيبة، وأبو حاتم الرازي، وابن المديني، والنسائي، والخطيب، كل هؤلاء تكلموا في حفظ ابن عقيل، ومن رفعه لم يرفعه إلى درجة الضبط، بل قال: مقارب الحديث، والله أعلم.
قلت: ومن أخطائه ما رواه الإمام أحمد (1/ 102) من طريق حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية،
عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في سبعة أثواب. فإن هذا مخالف لما في الصحيحين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب.
[تخريج الحديث]
الحديث مداره على محمد بن عقيل، عن الربيع، رواه جماعة عن ابن عقيل وهم كما يلي:
الأول: ابن عجلان، عن محمد بن عقيل.
أخرجه أحمد (6/359) والطحاوي (1/33) من طريق ابن لهيعة.
وأبو داود (129) والترمذي (34) والطحاوي (1/33) من طريق بكر بن مضر
وأخرجه الطحاوي أيضاً (1/33) من طريق همام،
وأخرجه الطحاوي (1/33) من طريق سعيد بن أبي أيوب، أربعتهم عن ابن عجلان به.
الثاني: شريك عن ابن عقيل به.
أخرجه ابن ماجه (440) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شريك به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح ظاهر أذنيه وباطنهما. ولم يذكر مسح الرأس.
ورواه ابن ماجه أيضاً (390) من طريق الهيثم بن جميل، عن شريك به، وفيه: " فمسح به رأسه مقدمه ومؤخره " الحديث، ولم يذكر مسح الأذنين.
ورواه الطحاوي (1/33) من طريق محمد بن سعيد، أنا شريك به، بلفظ: أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ، فمسح ظاهر أذنيه وباطنهما ".
وشريك سيء الحفظ، ولكنه صالح في المتابعات إن شاء الله تعالى.
الطريق الثالث. سفيان بن عيينة، عن ابن عقيل به.
أخرجه أحمد (6/358) عنه، وبه ذكر صفة الوضوء، وفيه: " ويمسح برأسه، قال: مرة أو مرتين مقبلاً ومدبراً ". وليس فيه مسح الأذنين.
وأخرجه أبو داود (127) من طريق سفيان به.
الطريق الرابع: بشر بن المفضل، كما في سنن أبي داود (126) ومستدرك الحاكم (1/253) ، والبيهقي (1/64) .
الطريق الخامس: الحسن بن صالح، عن ابن عقيل به. كما في مسند أحمد (6/359) وسنن أبي داود (131) وابن ماجه (441) .
الطريق السادس: سفيان الثوري، عن ابن عقيل. كما في مسند أحمد (6/358) ، وابن ماجه (418) .
الطريق السابع: أخرجه الطحاوي (1/36) من طريق عبيد الله بن عمرو، عن ابن عقيل به.
الطريق الثامن: أخرجه الدارقطني (1/106) من طريق مسلم بن خالد، عن ابن عقيل به.
الطريق التاسع: أخرجه الطحاوي (1/33) من طريق روح بن القاسم، عن ابن عقيل به.
وانظر لمراجعة بعض طرق هذا الحديث: أطراف المسند (8/417) ، تحفة الأشراف (15837 إلى (15843) ، وإتحاف المهرة (21425، 21426) .(9/300)
الدليل الخامس: حديث عبد الله بن زيد.
(874-103) رواه أحمد، قال: قال حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا عبد العزيز يعني ابن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه،
عن عبد الله بن زيد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجت إليه ماء فتوضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين مرتين ومسح(9/303)
برأسه أقبل به وأدبر ومسح بأذنيه وغسل قدميه (1) .
[رجاله ثقات، إلا أن ذكر مسح الأذنين في حديث عبد الله بن زيد شاذ] (2) .
_________
(1) المسند (4/40) .
(2) الحديث مداره على عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد.
رواه عن عمرو جماعة:
منهم عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، واختلف عليه فيه.
فرواه هاشم بن القاسم، عن عبد العزيز بن أبي سلمة به. بذكر مسح الأذنين.
وخالفه جماعة، فرووه عن عبد العزيز بن أبي سلمة، ولم يذكروا مسح الأذنين، منهم:
ـ أحمد بن يونس، كما في رواية البخاري (197) .
ـ وأبو الوليد وسهل بن حماد كما في رواية أبي داود (100) .
ـ وأحمد بن عبد الله كما في رواية ابن ماجه (1093) .
ـ وصالح بن مالك الخوارزمي كما عند ابن حبان (1093) .
كما رواه جماعة عن عمرو بن يحيى، ولم يذكروا مسح الأذنين، منهم:
ـ مالك كما في الموطأ (1/18) ، ومن طريقه أخرجه عبد الرزاق (5) ، وأحمد (4/38، 39) ، والبخاري (185) ، ومسلم (235) ، والترمذي (32) ، والنسائي (98، 97) ، وابن ماجه (434) ، وابن حبان (1084) ، والبيهقي (1/59) .
ـ ووهيب بن خالد، كما في صحيح البخاري (186) ، ومسلم (235) ، وابن حبان (1077) ، والبيهقي (1/80) .
ـ وابن عيينة، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/16) ، وأحمد (4/40) ، والترمذي (47) ، والنسائي (99) ، والدارقطني (1/81) ، والبيهقي (1/63) .
ـ وخالد بن عبد الله الطحان، كما في صحيح البخاري (191) ، وسنن أبي داود (119) ، ومسلم (235) ، والترمذي (28) ، وابن ماجه (405) .
ـ وسليمان بن بلال كما في صحيح البخاري (199) ، ومسلم (235) .
ـ محمد بن فليح بن سليمان، كما في سنن الدارقطني (1/82) .
كلهم رووه عن عمرو بن يحيى، فلم يذكروا مسح الأذنين.
فهؤلاء جمع كثير من الرواة رووه بدون ذكر مسح الأذنين، أكثرهم في الصحيحين، وانفرد عنهم هاشم بن القاسم بذكر مسح الأذنين، فلا أشك بوهمه بهذه الزيادة، خاصة أنه قد روي الحديث أيضاً من طريق آخر إلى عبد الله بن زيد غير طريق عمرو بن يحيى، رواه حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد. كما في مسند أحمد (4/41) ، وصحيح مسلم (236) ، وأبو داود (120) ، والترمذي (35) ، وسنن الدارمي (709) ،
كما رواه عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد الأنصاري، كما في مسند أحمد، ولم يذكروا فيه مسح الأذنين، والله أعلم.
انظر أطراف المسند (3/21) تحفة الأشراف (5308) ، إتحاف المهرة (7135، 7141، 7143)(9/304)
الدليل السادس: حديث عبد الله بن عمرو.
(875-104) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء (1) .
] إسناده حسن، وزيادة (أو نقص) وهم من الراوي [ (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (135) .
(2) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.(9/305)
الدليل السابع:
ما جاء صريحاً في أن الأذنين من الرأس، وهي أحاديث كثيرة:
ولا يخلو كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون المراد به تعريفنا بمواضع الأذنين، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلمنا المشاهدات، وإنما يعلمنا الأحكام.
أو يريد: أنهما يمسحان كالمسح بالرأس، وهذا أيضاً لا يجوز كما لا يجوز أن يقال: الخفان من الرأس على معنى أنهما يمسحان كما يمسح الرأس، والرجلان من الوجه على معنى يغسلان كالوجه.
فثبت أن المراد من الأحاديث أنهما تابعان للرأس في باب المسح، وأنهما يمسحان بالماء الذي يمسح به الرأس (1) ، ومن هذه الأحاديث:
(876-105) ما رواه البزار في مسنده، قال: ثنا أبو كامل الجحدري، ثنا غندر، عن ابن جريج، عن عطاء،
عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأذنان من الرأس (2) .
[الحديث معلول، ولا يصح حديث مرفوع في الباب، وإنما هو موقوف على بعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (3) .
_________
(1) رؤوس المسائل الخلافية (1/31) .
(2) ومن طريق البزار أخرجه الدارقطني (1/98، 99) .
(3) الإسناد رجاله كلهم ثقات، لكن الحديث معلول:
الأول: قد اختلف فيه على ابن جريج:
فرواه أبو كامل عن غندر، عن ابن جريج، عن موسى موصولاً. وتابعه الربيع بن بدر كما في سنن الدارقطني (1/99) إلا أن الربيع متروك.
ورواه جماعة عن ابن جريج مرسلاً، فقد رواه الدارقطني (1/99) من طريق وكيع وعبد الرزاق وسفيان وصلة بن سليمان وعبد الوهاب، كلهم عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الأذنان من الرأس.
كما تابعهم حجاج عند أبي عبيد في كتاب الطهور (360) .
وقد صرح ابن جريج بالتحديث في الرواية المرسلة. وقد صوب الدارقطني إرساله.
وكذلك رجح الحافظ إرساله، فقال في النكت (1/412) : " ومن هذا الوجه رواه الدارقطني، وهذا رجاله رجاله مسلم، إلا أن له علة؛ فإن أبا كامل الجحدري تفرد به عن غندر، وتفرد به غندر عن ابن جريج، وخالفه من هو أحفظ منه وأكثر عدداً، فرواه عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معضلاً.
ثانياً: ما ذكره الحافظ في النكت (1/413) : أن سماع غندر عن ابن جرير كان بالبصرة، وابن جريج لما حدث بالبصرة حدث بأحاديث وهم فيها، وسماع من سمع منه بمكة أصح.
ثالثاً: ما قاله ابن عدي في الكامل (4/196) ، ونقله الحافظ عنه في النكت معتداً به، عن أبي كامل، قال: لم أكتب عن غندر إلا هذا الحديث، أفادنيه عنه عبد الله بن سليمان الأفطس. اهـ والأفطس قد قال فيه يحيى بن سعيد القطان: ليس بثقة. وقال النسائي وغيره: متروك. انظر الميزان (2/431) .
رابعاً: أن الرواية الموصولة فيها عنعنة ابن جريج، وهو مدلس، بخلاف الرواية المرسلة، والله أعلم.
وقد قبل ابن الجوزي في التحقيق (1/385) الرواية الموصولة، فقال: أبو كامل لا نعلم أحداً طعن فيه، والرفع زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، كيف وقد وافقه غيره، فإن لم يعتد برواية الموافق اعتبر بها، ومن عادة المحدثين أنهم إذا رأوا من وقف الحديث ومن رفعه وقفوا مع الواقف احتياطاً، وليس هذا مذهب الفقهاء، ومن الممكن أن يكون ابن جريج سمعه من عطاء مرفوعاً، ورواه له سليمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مسند". اهـ
ونقل ابن عبد الهادي في التنقيح (1/385) عن ابن القطان فقال: وقد زعم ابن القطان أن إسناد هذا الحديث صحيح، لثقة رواته وإيصاله، وإنما أعله الدارقطني بالاضطراب في إسناده، فتبعه عبد الحق على ذلك، وهو ليس بعيب فيه، والذي قال فيه الدارقطني هو أن أبا كامل تفرد به عن غندر، ووهم فيه عليه، هذا ما قال، ولم يؤيده بشيء، ولا عضده بحجة غير أنه ذكر أن ابن جريج الذي دار الحديث عليه يروى عنه، عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، قال: وما أدري ما الذي يمنع أن يكون عنده في ذلك حديثان: مسند ومرسل. اهـ
فتعقبه ابن عبد الهادي، وقال: فيه نظر كثير، ثم ساق كلام ابن عدي، وأن أبا كامل سمعه من الأفطس، ثم تعقب ابن الجوزي قائلاً: وهذه الطريقة التي سلكها المؤلف ومن تابعه - يعني: ابن الجوزي وابن القطان الفاسي وغيرهما - في أن الأخذ بالمرفوع والمتصل في كل موضع طريقة ضعيفة، لم يسلكها أحد من المحققين وأئمة العلل في الحديث". اهـ فالراجح من حديث ابن عباس كونه مرسلاً، والله أعلم. (1/385) .
كما تعقب ابن حجر ابن القطان في إتحاف المهرة (7/403) فقال: " صحح ابن القطان حديث غندر، عن ابن جريج، فقال: هذا الإسناد صحيح بثقة رواته واتصاله، وإنما أعله الدارقطني بالاضطراب، وما أدري ما المانع أن يكون عند ابن جريج في ذلك حديثان: مسند ومرسل. قال الحافظ: لكن في سماع أهل البصرة من ابن جريج نظر، ومنهم غندر، فرواية من رواه عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى سالمة من هذه العلة، فلهذا رجحها الدارقطني، والله أعلم ".
وقد جاء عن ابن عباس مرفوعاً من غير هذا الطريق، فقد رواه الطبراني في الكبير (10/391) ح 1084 ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن قارض بن شيبة، عن أبي غطفان، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: استنشقوا مرتين والأذنان من الرأس.
زيادة والأذنان من الرأس وهم في الحديث، ولست أدري من أين الوهم، فقد اختلف على وكيع في ذكرها.
فانفرد الطبراني بهذه الزيادة، وأخشى أن يكون الوهم منه، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن وكيع.
ورواه ابن أبي شيبة (1/33) .
وأبو داود (141) عن إبراهيم بن موسى.
وابن ماجه (408) عن علي بن محمد ثلاثتهم عن وكيع، بلفظ: " استنثروا اثنتين بالغتين أو ثلاثاً ". وليس فيه ذكر والأذنان من الرأس.
كما رواه جماعة عن ابن أبي ذئب، ولم يذكروا الأذنين، منهم أبو داود الطيالسي (2725) ومن طريقه البيهقي (1/49) .
وإسحاق الرازي كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/33) .
وخالد بن مخلد كما في مستدرك الحاكم (1/148) .
وعبد الله بن المبارك كما في سنن النسائي نقلاً من تحفة الأشراف (5/278) .
وأسد بن موسى كما في رواية ابن الجارود في المنتقى (77) .
وهاشم بن القاسم كما في مسند أحمد (1/352) ، فاتفاقهم على عدم ذكر زيادة والأذنان من الرأس وانفراد الطبراني بذكرها دليل على وهم الطبراني وحفظهم، والله أعلم.
فتبين من هذا شذوذ طريق الطبراني، والذي يظهر لي والله أعلم أن الحمل عليه، وما ينفرد به الطبراني دون غيره يحتاج إلى تمحيص من الباحث، والله أعلم.
ورواه الدارقطني (1/101) ، والخطيب في تاريخه (3/234) من طريق سويد بن سعيد، نا القاسم بن غصن، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المضمضة والاسنتشاق سنة، والأذنان من الرأس.
وفي إسناده القاسم بن غصن.
وقال أحمد: يحدث بأحاديث منكرة. الجرح والتعديل (7/116)
وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
قال الدارقطني: ضعيف.
وذكره ابن حبان في الثقات (7/339) .
وفي إسناده أيضاً: إسماعيل بن مسلم.
قال ابن معين: ليس بشيء. الكامل (1/283) .
وقال النسائي: متروك الحديث، وقال مرة: ليس بثقة. تهذيب التذهيب (1/289) .
وقال يحيى القطان: لم يزل مختلطاً، كان يحدث بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب. الكامل (1/283) .
وقال أحمد: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (1/289) .
وقال ابن المديني: لا أكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة عن أهل الحجاز والبصرة والكوفة إلا أنه ممن يكتب حديثه. الكامل (1/284) .
وعلى ضعفه، فقد اختلف فيه على إسماعيل بن مسلم:
فرواه القاسم بن غصن، عن إسماعيل، عن عطاء، عن ابن عباس.
ورواه علي بن هاشم، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة.
رواه الدارقطني (1/101) ، وقال: ولا يصح أيضاً.
ورواه الداقطني (1/100) عن جابر الجعفي، عن عطاء، واختلف على جابر الجعفي:
فروي عنه، عن عطاء، عن ابن عباس.
وأرسله الحكم بن عبد الله أبو مطيع، عن إبراهيم بن طهمان، عن جابر، عن عطاء، وهذا أشبه بالصواب.
وجابر الجعفي ضعيف.
وروي عن ابن عباس موقوفاً عليه، رواه ابن أبي شيبة (1/24) حدثنا وكيع، عن حماد ابن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: الأذنان من الرأس.
ووراه الدارقطني (1/102) من طريق حماد بن سلمة به.
وهذا السند ضعيف، فيه رجلان:
الأول: علي بن زيد، وهو مشهور الضعف.
الثاني: يوسف بن مهران، جاء في التهذيب: لم يرو عنه إلا ابن جدعان.
وقال أحمد: لا يعرف، ولا أعرف أحداً روى عنه إلا علي بن زيد.
وفي التقريب: لين، ليس هو يوسف بن ماهك.
انظر في طرق الحديث: إتحاف المهرة (8067، 8066) .
وللحديث شواهد، أذكر ما تيسر منها:
الأول: حديث عبد الله بن زيد.
رواه ابن ماجه (443) : حدثنا سويد بن سعيد، ثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، عن شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأذنان من الرأس.
وفي إسناده سويد بن سعيد.
جاء في التهذيب (4/241) قال إبراهيم بن أبي طالب: قلت لمسلم: كيف استجزت الرواية عن سويد بن سعيد؟ قال: ومن أين كنت أتي بنسخة حفص بن ميسرة؟ فدل على أن مسلماً روى عنه في كتابه. وقد قال أبو زرعة: أما كتبه فصحاح كما في الميزان (2/248) .
وقال الذهبي: صحيح الكتاب. المرجع السابق.
وقال الحافظ في النكت (1/411) : وهو وإن أخرج له مسلم في صحيحه، فقد ضعفه الأئمة، واعتذر مسلم عن تخريج حديثه بأنه ما أخرج له إلا ما لا أصل له من رواية غيره، وقد كان مسلم لقيه، وسمع منه قبل أن يعمى ويتلقن ما ليس من حديثه، وإنما كثرت المناكير في روايته بعد عماه. اهـ
قلت: ورواية عبد الله بن أحمد بن حنبل عنه حسنة أيضاً، فقد جاء في التهذيب (4/240) : قال البغوي: كان من الحفاظ، وكان أحمد ينتقي لولديه، فيسمعان منه. اهـ
فتبين من هذا أن سويد بن سعيد قد تغير، ولم يتميز، عليه فيكون حديثه ضعيفاً، ولا ينبغي أن يحتج أحد برواية مسلم عنه لما قدمنا.
فالإسناد ضعيف، قد صححه بعضهم اغترراً برواية مسلم عن سويد، وليس بصواب.
فقد قال الزيلعي في نصب الراية (1/19) : وهذا أمثل إسناد في الباب لاتصاله وثقة رجاله، فابن أبي زائدة وشعبة وعباد احتج بهم الشيخان، وحبيب ذكره ابن حبان في الثقات في أتباع التابعين، وسويد بن سعيد احتج به مسلم.
وقال المنذري نقلاً من النكت (1/411) : هذا الإسناد متصل، ورواته محتج بهم، وهو أمثل إسناد في هذا الباب. فتعقبه الحافظ ابن حجر: رجاله رجال مسلم، إلا أن له علة، فإنه من رواية سويد بن سعيد كما ترى، وقد وهم فيه، وذكر الترمذي في العلل الكبير أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فضعف سويداً. قال الحافظ: وهو وإن أخرج له مسلم في صحيحه فقد ضعفه الأئمة، واعتذر مسلم عن تخريج حديثه بأنه ما أخرج له إلا ما له أصل من رواية غيره، وقد كان مسلم لقيه وسمع منه قبل أن يعمى ويتلقن ما ليس من حديثه، وإنما كثرت المناكير في روايته بعد عماه، وحدث بهذا الحديث حال الصحة فأتى به على الصواب، فرواه البيهقي من رواية عمران بن موسى، عن سويد بن سعيد بسنده إلى عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ بثلثي مد، وجعل يدلك. قال: والأذنان من الرأس. فقوله: قال: والأذنان من الرأس هو من قول عبد الله بن زيد رضي الله عنه، والمرفوع منه ذكر الوضوء بثلثي مد والدلك. وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم من حديث أبي كريب، عن ابن أبي زائدة، دون الموقوف. اهـ كلام الحافظ.
قلت: لم أقف في سنن البيهقي ولا في كتابه المعرفة إلى الطريق التي أشار إليها الحافظ، فلعلها في كتاب آخر، والحديث في سنن البيهقي (1/196) من طريق إبراهيم بن موسى الرازي، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة به. ومن طريق أبي خالد الأحمر، عن شعبة به. ولم يذكر فيه الأذنان من الرأس. فأخشى أن تكون تصحفت إبراهيم بن موسى إلى عمران بن موسى، والله أعلم. انظر تحفة الأشراف (4/340) .
الشاهد الثاني: حديث أبي أمامة.
وهو ما رواه أحمد (5/258) ، قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا سنان أبو ربيعة صاحب السابري، عن شهر بن حوشب،
عن أبي أمامة قال وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ثلاثاً ثلاثاً، ولا أدري كيف ذكر المضمضة والاستنشاق، وقال: والأذنان من الرأس، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح المآقين وقال بأصبعيه وأرانا حماد، ومسح مآقيه.
إسناده ضعيف.
في إسناده: سنان بن ربيعة، جاء في ترجمته:
قال أبو حاتم: شيخ مضطرب الحديث. الجرح والتعديل (4/251) .
وقال يحيى بن معين: ليس بالقوي. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (263) .
وذكره العقيلي في الضعفاء (2/170) .
وقال ابن عدي: ولسنان أحاديث قليلة، أرجو أنه لا بأس به. الكامل (3/440) .
وقال الذهبي: صويلح. الميزان (2/235) .
وقال أيضاً: صدوق. المغني في الضعفاء (2656) .
وذكره ابن حبان في الثقات (4/337) .
وفي التقريب: صدوق فيه لين، أخرج له البخاري مقروناً.
كما أن في إسناده شهر بن حوشب، مختلف فيه، وثقه قوم، وحسنه آخرون، وضعفهم جماعة:
قال فيه يحيى بن معين: شهر ثبت.
وقال أبو زرعة: لا بأس به.
وقال أحمد: ليس به بأس.
وقال يعقوب بن شيبة: شهر ثقة على أن بضعهم قد طعن فيه.
وقال يعقوب بن سفيان: شهر. وإن تكلم فيه ابن عون فهو ثقة.
وقال الترمذي: (5/56) : وقال محمد بن إسماعيل: شهر حسن الحديث، وقوَّى أمره، وقال: إنما تكلم فيه ابن عون.
وقال يعقوب بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني، وقيل له: ترضى حديث شهر بن حوشب، فقال: أنا أحدث عنه. قال: وكان عبدالرحمن بن مهدي يحدث عنه. قال: وأنا لا أدع حديث الرجل إلا أن يجتمعا عليه يحيى، وعبدالرحمن - يعني: على تركه- قال: وسمعت علي بن المديني يقول: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن شهر.
وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: شهر بن حوشب أحب إلي من أبي هارون العبدي، ومن بشر بن حرب، وليس بدون أبي. لا يحتج بحديثه ".
وذكره الذهبي في كتابه: من تكلم فيه وهو موثق.
وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال موسى بن هارون: ضعيف.
وقال ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني: أحاديثه لا تشبه حديث الناس: عمرو بن خارجة كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسماء بنت يزيد: كنت آخذة بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كأنه مولع بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحديثه دال عليه، فلا ينبغي أن يغتر به وبروايته.
وقال ابن عون: إن شهراً تركوه، وكان يحيى بن سعيد لا يحدث عن شهر، وساق ابن عدي أحاديث مستنكرة عنه ثم قال: " وعامة ما يرويه هو وغيره من الحديث فيه من الإنكار ما فيه، وشهر هذا ليس بالقوي في الحديث، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولا يتدين به"اهـ.
وقال الذهبي في السير بعد أن ذكر الأحاديث المستنكرة عليه: " هذا ما استنكر من حديث شهر في سعة روايته، وما ذاك بالمنكر جداً ". ثم قال: الرجل غير مدفوع عن صدق وعلم، والاحتجاج به مترجح.
وقال الحافظ في التقريب (2830) : صدوق كثير الإرسال والأوهام - (انظر ترجمته في الكامل لابن عدي (4/36-40) ، وتهذيب الكمال (12/578) ، والجرح والتعديل (4/382) ، وذكر من تكلم فيه، وهو موثوق للذهبي [ت: 161] وأحوال الرجال لإبراهيم الجوزجاني [ت: 141] ) -.
فالحديث إسناده ضعيف.
وقد اختلف فيه على حماد بن زيد:
فرواه جماعة عن حماد جازمين برفعه، منهم:
الأول: عفان كما في مسند أحمد (5/258) وأبو عبيد في كتاب الطهور (88) .
الثاني: مسدد كما في سنن أبي داود (134) ، والبيهقي (1/66) .
الثالث: محمد بن زياد كما في سنن ابن ماجه (444) ، وسنن الدارقطني (1/103) .
الرابع: الهيثم بن جميل، كما في سنن الدارقطني (1/103) .
الخامس والسادس: أبو عمر الحوضي ومحمد بن أبي بكر كما في سنن الدارقطني (1/103) .
السابع: أبو الربيع، واسمه سليمان بن داود الزهراني، كما في سنن البيهقي (1/66) .
الثامن: يحيى بن إسحاق، كما في مسند أحمد (5/268) .
التاسع: يحيى بن حسان، كما في شرح معاني الآثار (1/33) كلهم رووه، عن حماد بن زيد، عن ثنا سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة مرفوعاً بلا شك.
وخالفهم قتيبة بن سعيد، ويونس بن محمد ومعلى بن منصور، فرووه عن حماد على الشك في رفعه.
فقد رواه أبو داود (134) ، والترمذي (37) عن قتيبة، عن حماد به. قال حماد: لا أدري هو من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي أمامة.
وأما رواية معلى بن منصور فرواها الدارقطني (1/103) من طريق محمد بن شاذان، ثنا معلى بن منصور، عن حماد به بالشك. ومحمد بن شاذان الواسطي في التقريب: مقبول. أي إن توبع وإلا فلين الحديث.
وأما رواية يونس بن محمد، فرواها أحمد (5/264) عنه، عن حماد به.
ولا شك أن من رواه بالجزم بالرفع بدون شك أكثر عدداً، ولعل الشك طرأ على حماد فيما بعد.
وأما رواية من رواه جازماً بوقفه، فهو سليمان بن حرب، أخرجها أبو داود (134) ، والبيهقي (1/66) :
قال سليمان بن حرب: الأذنان من الرأس إنما هو من قول أبي أمامة، فمن قال غير هذا فقد بدل، أو كلمة قالها سليمان: أي أخطأ. اهـ
فلا شك أن من يجزم برفعه أكثر عدداً ممن جزم بوقفه ولا مقارنة، فالجازم بوقفه هو سليمان بن حرب وحده، بينما تسعة رواة يجزمون برفعه، فالحكم لهم؛ لأنهم أكثر عدداً. وأما من رواه بالشك فهم ثلاثة فقط، والشاك لا يقدح برواية الجازم، فالجزم مقدم على الشك، وإذا رجحنا كونه مرفوعاً، فإن الإسناد يبقى ضعيفاً، والله أعلم.
وقد ساق الدارقطني في سننه (1/104) قال: حدثنا دعلج بن أحمد، قال: سألت موسى ابن هارون عن هذا الحديث؟ قال: ليس بشيء، فيه شهر بن حوشب، وشهر ضعيف، والحديث في رفعه شك، وقال ابن أبي حاتم: قال أبي: سنان بن ربيعة مضطرب الحديث. اهـ
هذا فيما يتعلق بطريق شهر بن حوشب رحمه الله، وقد جاء الحديث من غير طريقه عن أبي أمامة، فقد أخرج الحديث الدارقطني (1/104) من طريق جعفر ابن الزبير، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة.
قال الدارقطني: جعفر بن الزبير متروك.
وقد تابعه عثمان بن فائد القرشي كما في فوائد تمام (179) فرواه عن أبي معاذ الألهاني، عن القاسم بن عبد الرحمن به.
وعثمان بن فائد ضعيف، وأبو معاذ الألهاني لم أقف عليه.
وأخرجه الدارقطني (1/104) من طريق أبي بكر ابن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة.
قال الدارقطني: أبو بكر ابن أبي مريم ضعيف.
انظر أطراف المسند (6/21) ، تحفة الأشراف (4887) إتحاف المهرة (6403، 6404، 6424، 6362) .
الشاهد الثالث: حديث ابن عمر.
أخرجه الدارقطني (1/102) من طريق يحيى بن العريان الهروي، نا حاتم بن إ سماعيل، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الأذنان من الرأس.
وفي إسناده: يحيى بن العريان، ذكره الخطيب في تاريخه (14/161) ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وفيه أسامة بن زيد الليثي، جاء في ترجمته:
قال أحمد بن حنبل: ترك يحيى بن سعيد حديث أسامة بن زيد بأخرة. الجرح والتعديل (2/284) .
وقال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: قال أبي: روى أسامة بن زيد، عن نافع أحاديث مناكير. قلت له: إن أسامة حسن الحديث، فقال: إن تدبرت حديثه، فستعرف النكرة فيها. المرجع السابق.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد - يسأل عن أسامة بن زيد، فقال: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين كما في رواية الدوري عنه: أسامة بن زيد الليثي، هو الذي روى عنه جعفر بن عون، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، ومعن بن عيسى، وهو ثقة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: أسامة بن زيد الليثي يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق.
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/17) .
وقال ابن عدي: أسامة بن زيد كما قال يحيى بن معين، ليس بحديثه ولا برواياته بأس، وهو خير من أسامة بن زيد بن أسلم بكثير. الكامل (1/394) .
وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/217) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (1/183) .
وقال الآجري، عن أبي داود: صالح إلا أن يحيى يعني ابن سعيد أمسك عنه بآخرة. المرجع السابق.
وقال الدارقطني: لما سمع يحيى القطان أنه حدث عن عطاء، عن جابر رفعه " أيام منى كلها منحر"، قال: إشهدوا أني قد تركت حديثه. قال الدارقطني: فمن أجل هذا تركه البخاري. المرجع السابق.
وقال الحاكم في المدخل: روى له مسلم واستدللت بكثرة روايته له على أنه عنده صحيح الكتاب، على أن أكثر تلك الأحاديث مستشهد بها، أو هو مقرون في الإسناد. المرجع السابق.
وقال ابن القطان الفاسي: لم يحتج به مسلم، إنما أخرج له استشهاداً. المرجع السابق.
وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ، كان يحيى القطان يسكت عنه. الثقات (6/74) .
وفي التقريب: صدوق يهم.
[تخريج الحديث] :
الحديث رواه أيضاً مع الدارقطني الخطيب في تاريخه وجادة (14/161) ، وفي موضح أوهام الجمع والتفريق (1/196) : وقد اختلف فيه على أسامة بن زيد:
فرواه حاتم بن إسماعيل، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً.
وخالف حاتم من هو أرجح منه، فقد رواه ابن أبي شيبة (1/24) ومن طريقه الدارقطني (1/98) حدثنا أبو أسامة، عن أسامة بن زيد، عن هلال بن أسامة، عن ابن عمر موقوفاً.
ورواه الدارقطني (1/98) من طريق وكيع، عن أسامة بن زيد به.
وصوب الدارقطني وقفه، فقال عن رواية أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: هذا وهم، والصواب: عن أسامة بن زيد، عن هلال بن أسامة الفهري، عن ابن عمر موقوفاً.
وعلق الخطيب على راواية الرفع، فقال: والخطأ فيه من وجهين:
أحدهما: عن نافع.
والثاني: روايته مرفوعاً. انظر موضح أوهام الجمع والتفريق (1/196) .
وقد جاء من طرق عن ابن عمر مرفوعاً، وكلها معلولة:
الأول: عن القاسم بن يحيى البزاز، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً.
قال الدارقطني: رفعه وهم، والصواب عن ابن عمر من قوله، والقاسم بن يحيى ضعيف.
وقال الحافظ في النكت (1/413) : ورجاله ثقات إلا أن رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين فيها مقال، وهذا منها، والمحفوظ من حديث نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله.
الطريق الثاني: عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً روه الدارقطني (1/97) من طريق عبد الرزاق، عن عبيد الله به. وهذا وهم من وجهين:
أحدهما: قوله: " عبيد الله " بالتصغير. والثاني: رفعه. وإنما رواه عبد الرزاق (24) ، ومن طريقه الدارقطني (1/98) عن عبد الله المكبر، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً. وعبد الله فيه ضعف.
وتابعه عبد الله بن نافع عند الدارقطني (1/98) عن أبيه نافع به بالوقف.
كما تابعهما محمد بن إسحاق كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/24) ، والدارقطني (1/98) .
كما أخرجه عبد الرزاق (25) :
والدارقطني (1/98) من طريق وكيع، كلاهما عن الثوري، عن سالم أبي النضر، عن سعيد بن مرجانة، عن ابن عمر موقوفاً.
قال الدارقطني: رواه إسحاق بن إبراهيم قاضي غزة، عن ابن أبي السري، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن عبيد الله، ورفعه وهم، ووهم هذا في ذكر الثوري، وإنما رواه عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر: أخي عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً. اهـ
الطريق الثالث: محمد بن الفضل، عن زيد العمي، واختلف على محمد بن الفضل:
فرواه الدارقطني (1/98) من طريق محمد بن الفضل، عن زيد، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً.
ورواه ابن عدي في الكامل (3/200) من طريق عيسى الغنجار، عن محمد بن الفضل، عن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: والأذنان من الرأس.
ومحمد بن الفضل: متروك الحديث. وزيد العمي ضعيف.
انظر إتحاف المهرة (10261، 11454، 10891، 11252) .
الشاهد الرابع: حديث عائشة.
أخرجه الدارقطني (1/100) من طريق محمد بن الأزهر الجوزجاني، نا الفضل بن موسى السيناني، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ فليتمضمض وليستنشق والأذنان من الرأس.
قال الدارقطني: كذا قال: والمرسل أصح. اهـ
وقد تفرد بهذا الإسناد محمد بن الأزهر، وقد كذبه أحمد كما قال الحافظ في التلخيص) .
وقد أخرجه الدراقطني (1/99) من طريق وكيع وعبد الرزاق وسفيان وصلة بن سليمان وعبد الوهاب وغيرهم عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وقد تكلمت على هذا الطريق في الكلام على حديث ابن عباس، والله أعلم.
الشاهد الخامس: حديث أبي هريرة. وله أربعة طرق.
الطريق الأول: رواه الدارقطني (1/100) من طريق علي بن عاصم، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الأذنان من الرأس.
وقد اختلف فيه على ابن جريج:
فرواه علي بن عاصم كما في هذا الإسناد عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن أبي هريرة.
ورواه الدارقطني (1/99) من طريق محمد بن جعفر، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وقد تكلمت على هذا الطريق.
ورواه وكيع وعبد الرزاق وسفيان وصلة وعبد الوهاب وغيرهم عن ابن جريج، عن سليمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وهو الصواب. وسبق الكلام على هذا الطرق بشيء من التفصيل.
الطريق الثاني: رواه الدارقطني (1/101) من طريق محمد بن غالب بن حرب، نا إسحاق بن كعب، نا علي بن هاشم، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا توضأ أحدكم فليتمضمض وليستنشق، والأذنان من الرأس.
وقد سبق أن بينت الاختلاف فيه على إسماعيل بن مسلم في حديث ابن عباس فارجع إليه غير مأمور.
الطريق الثالث: أخرجه ابن ماجه (445) ، والدارقطني (1/102) من طريق عمرو بن الحصين، حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تمضمضوا واستنشقوا، والأذنان من الرأس. واقتصر ابن ماجه على قوله: والأذنان من الرأس.
وعمرو بن الحصين متروك، وابن علاثة ضعيف.
وقد ضعفه البوصيري في الزوائد.
وانظر إتحاف المهرة (18610) ، تحفة الأشراف (13095)
الطريق الرابع: عن البختري بن عبيد، عن أبيه، عن أبي هريرة.
رواه الدارقطني (1/102) من طريق سليمان بن عبد الرحمن وسعيد بن شرحبيل، كلاهما عن البختري بن عبيد به. مرفوعاً.
قال الدارقطني: البختري بن عبيد ضعيف، وأبوه مجهول.
الشاهد السادس: حديث أبي موسى.
رواه الدارقطني (1/102) ، والطبراني كما في مجمع البحرين (417) ، وابن عدي في الكامل (1/372، 373) والعقيلي في الضعفاء (1/21) من طريق علي بن جعفر بن زياد الأحمر، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث بن سوار النجار، عن الحسن،
عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والأذنان من الرأس.
وقد تفرد برفعه علي جعفر بن زياد، وخالفه ابن أبي شيبة، فرواه في المصنف (1/24) ، ومن طريقه الدارقطني (1/103) حدثنا عبد الرحيم بن سليمان به موقوفاً.
قال الدارقطني: تابعه إبراهيم بن موسى الفراء وغيره، عن عبد الرحيم.
قال الدارقطني: والصواب موقوف، والحسن لم يسمع من أبي موسى.
وقال ابن عدي في الكامل (1/373) : لا أعلم رفع هذا الحديث عن عبد الرحيم غير جعفر بن زياد، ورواه غيره موقوفاً عن عبد الرحيم.
وانظر إتحاف المهرة (12190) .
الشاهد السابع: حديث أنس رضي الله عنه.
رواه الدارقطني (1/104) وابن عدي في الكامل (2/18) من طريق عبد الحكم،
عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الأذنان من الرأس.
قال الدارقطني: عبد الحكم لا يحتج به. وانظر إتحاف المهرة (1301) .
ورواه الطبراني كما في مجمع البحرين (416) من طريق عمر بن أبان بن مفضل المدني، قال: أراني أنس بن مالك الوضوء، أخذ ركوة فوضعها عن يساره، وصب الماء على يده اليمنى، فغسلها ثلاثاً، ثم أدار الركوة على يده اليمنى، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وأخذ ماء جديداً لسماخه، فمسح سماخه، فقلت: قد مسحت أذنيك؟ فقال: يا غلام إنهما من الرأس، ليس هما من الوجه، ثم قال: يا غلام هل رأيت؟ وهل فهمت أو أعيد عليك؟ فقلت: قد كفاني، وقد فهمت. قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ.
وعمر بن أبان، قال فيه الذهبي في الميزان (3/181) : عن أنس في الوضوء، لا يعرف.
ورواه ابن عدي في الكامل (2/55) من طريق خارجه بن مصعب، عن الهيثم بن جماز، عن يزيد الرقاشي، عن أنس به.
وخارجه متروك، والرقاشي ضعيف.
فتبين لي من هذا البحث أن الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو موقوف على بعض الصحابة رضي الله عنهم.(9/306)
الدليل الثامن على أن الأذنين يمسحان مع الرأس:
(877-106) ما رواه مالك في الموطأ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار،
عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، قال: ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة (1) .
[رجاله ثقات إلا أنه مرسل، الصنابحي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -] (2) .
_________
(1) الموطأ (1/31) .
(2) هكذا قال الإمام مالك: عبد الله الصنابحي، وقد خطأه الأئمة، فقالوا: إنما هو أبو عبد الله الصنابحي. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن الصنابحي، فقال: وهم فيه مالك: وهو أبو عبد الله الصنابحي، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال علي بن المديني وغيره: عبد الرحمن بن عسيلة كنيته: أبو عبد الله لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل أرسل عنه، فمن قال: عبد الرحمن فقد أصاب اسمه، ومن قال: عن أبي عبد الله، فقد أصاب كنيته، وهو رجل واحد، ومن قال: عن أبي عبد الرحمن: فقد أخطأ، قلب اسمه فجعله كنيته. ومن قال: عن عبد الله الصنابحي فقد أخطأ، قلب كنيته فجعلها اسمه. قال الحافظ ابن حجر: وهو الصواب عندي.
وإذا كان الصنابحي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو منقطع، والمنقطع من أنواع الحديث الضعيف.
[تخريج الحديث] :
الحديث رواه مالك كما في إسناد الباب، ومن طريق مالك أخرجه أحمد (4/349) ، والبخاري في التأريخ الكبير (5/322) ، والنسائي (103) ، وفي الكبرى (106) ، والحاكم
(1/129-130) ، واليهقي في السنن (1/81) .
وأخرجه أحمد (3/348-349) من طريق محمد بن مطرف (أبي غسان)
وأخرجه ابن ماجه (282) من طريق حفص بن ميسرة كلاهما عن زيد بن أسلم به.
وقد استدل النسائي بهذا الحديث على أن الأذنين من الرأس، ولم يرو حديث (الأذنان من الرأس) لضعفه عنده.
قال السندي: " والمصنف - يعني النسائي - استدل بقوله: (حتى تخرج من أذنيه) على أن الأذنين من الرأس؛ لأن خروج الخطايا منهما بمسح الرأس إنما يحسن إذا كانا منه، وعدل عن الحديث المشهور في هذه المسألة، وهو حديث " الأذنان من الرأس " لما قيل: إن حماداً تردد فيه: أهو مرفوع أم موقوف؟ وإسناده ليس بالقائم، نعم قد جاء بطرق عديدة مرفوعاً، فتقوى رفعه، وخرج من الضعف، لكن الاستدلال بما استدل به المصنف أجود وأولى، وهذا من تدقيق نظره رحمه الله ". اهـ كلام السندي.
انظر إتحاف المهرة (13455) ، أطراف المسند (4/250) ، تحفة الأشراف (9677) .
والحديث له شاهدان:
الأول: حديث أبي هريرة
رواه مالك في الموطأ (1/32) عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب.
ولم يذكر مسح الرأس ولا الأذنين.
ومن طريق مالك أخرجه أحمد (2/303) ، ومسلم (244) ، والترمذي (2) ، والدارمي (718) ، وابن خزيمة (4) ، وابن حبان (1040) وغيرهم.
الشاهد الثاني: حديث عمرو بن عبسة إلا أنه جعل خروج الخطايا من الرأس مع أطراف الشعر، ولم يذكر الأذنين. وقد أخرجه مسلم من حديث طويل (832) وفيه: " ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ". الحديث.(9/321)
وجه الاستدلال:
أن خروج الخطايا من الأذنين إنما كان ذلك بمسح الرأس، وهذا دليل على أنهما يمسحان معه بمائه، ولو كانا عضوين مستقلين يمسحان بماء جديد لما رتب على مسح الرأس خروج خطايا الأذنين.
دليل من قال: يسن أخذ ماء جديد للأذنين.
الدليل الأول:
(878-107) ما رواه الحاكم من طريق الحسن بن سفيان، حدثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن حبان بن واسع،
أن أباه حدثه أنه سمع عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أذنيه بغير الماء(9/323)
الذي مسح به رأسه (1) .
[المحفوظ في لفظ هذا الحديث: أنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه] (2) .
_________
(1) المستدرك (1/151، 152) .
(2) الحديث أخرجه الحاكم (1/151) من طريق محمد بن أحمد بن أبي عبيد الله بمصر، ثنا عبد العزيز بن عمران بن مقلاص وحرملة بن يحيى قالا: أنبا ابن وهب به. بلفظ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فأخذ لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إذا سلم من ابن أبي عبيد الله هذا، فقد احتجا جميعاً بجميع رواته. اهـ
وابن أبي عبيد الله قال ابن عدي في الكامل (6/300) : ولابن عثمان هذا غير حديث منكر مما لم أكتبه إلا عنه، وكنا نتهمه فيها. اهـ
وذكره ابن يونس في الغرباء، وقال: كان يحفظ ويفهم روى مناكير، أراه كان اختلط، لا يجوز الرواية عنه. اللسان (5/36) .
وقال الدارقطني: لم يكن بالقوي. المرجع السابق.
واختلف فيه على حرملة بن يحيى:
فرواه عنه الحسن بن سفيان ومحمد بن أحمد بن أبي عبيد الله كما تقدم.
ورواه ابن قتيبة وابن أسلم كما في تلخيص الحبير (1/158) عن حرملة بن يحيى به، بلفظ: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه. ولم يذكر الأذنين.
وكما اختلف فيه على حرملة بن يحيى، اختلف فيه على شيخه ابن وهب:
فرواه البيهقي (1/65) من طريق الهيثم بن خارجة، ثنا عبد الله بن وهب به. بلفظ: فأخذ لأذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذه لرأسه. قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح.
ووراه جماعة عن ابن وهب، ولم يذكروا الأذنين منهم:
سريج بن النعمان كما في مسند أحمد (4/41) .
ومنهم هارون بن معروف وهاورن بن سعيد الأيلي، كما في صحيح مسلم (236) .
وأبو الطاهر كما في صحيح مسلم (236) وأبي داود (120) ، وسنن البيهقي (1/65) : قال: وهذا أصح من الذي قبله: يعني بالذي قبله: حديث أخذ ماء جديد للأذنين.
وعلي بن خشرم كما في سنن الترمذي (35) .
فهولاء خمسة رواة رووه عن ابن وهب بأنه أخذ لرأسه ماء جديداً، فانقلب على بعض رواته، فجعلوه بأنه أخذ لأذنيه ماء جديداً، ولا شك أن الحديث واحد، ومخرجه واحد، ولا يحتمل أن يكونا حديثين مستقلين، وطريق حرملة بن يحيى قد اختلف عليه فيه.
فتبين أن الأكثر على عدم ذكر الأذنين، وأن ذكرهما في الحديث شاذ، وقد حكم بشذوذ رواية الحاكم والبيهقي الحافظ ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام.
وتابع ابن لهيعة ابن وهب، فرواه عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد إلا أنه اختلف فيه على ابن لهيعة:
فرواه أحمد (4/39) حدثنا موسى بن داود،
ورواه أيضاً (4/41) حدثنا الحسن بن موسى، كلاهما عن ابن لهيعة به، بلفظ: فمسح رأسه بماء غير فضل يديه كرواية عمرو بن الحارث.
ورواه أحمد (4/42) من طريق ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة به: بلفظ: ومسح رأسه بماء غبر فضل يديه.
فبدل الياء باء، وصارت الكلمة فعلاً وليست اسماً. وهذا ليس خطأً من الرواة؛ لأن الإمام أحمد أشار في الحديث إلى الاختلاف في لفظه فإنه عندما ذكر رواية ابن المبارك، قال: فذكر معنى حديث حسن إلا أنه قال: ومسح رأسه بماء غبر من فضل يديه، ولو كانت اللفظة " غير " لم يكن هناك فرق بين لفظ ابن المبارك ولفظ حسن، ولما كان استثناء هذا اللفظ من الإمام أحمد له معنى لاتفاقهم على هذه اللفظة، والله أعلم.
ورواه الدارمي (1/180) عن يحيى بن حسان، عن ابن لهيعة، عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، عن عمه عاصم المازني، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث. فزاد في إسناده: عاصم المازني. وهي زيادة منكرة جاءت من قبل حفظ ابن لهيعة يرحمه الله.
قال الحافظ في إتحاف المهرة (6/387) : كذا رأيت في نسختين من مسند الدارمي، وقوله: " عن عمه " زيادة لا حاجة إليها؛ فقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن موسى بن داود الضبي وغيره، عن ابن لهيعة، فلم يذكرها، ورواه مسلم وغيره من رواية عمرو بن الحارث، عن حبان بن واسع ولم يذكرها، والحديث مشهور من رواية عبد الله بن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرف في الصحابة أحد يسمى عاصماً المازني، وعبد الله بن زيد: هو عبد الله ابن زيد بن عاصم.، فعاصم جده، لا عمه، وليست له صحبة. والله أعلم.
فنخلص من هذا البحث: أن رواية ابن لهيعة فيها اختلاف، أرجحها رواية الحسن بن موسى وموسى بن داود عن ابن لهيعة لموافقتها رواية عمرو بن الحارث.
وأما رواية ابن المبارك ويحيى بن حسان فهي مخالفة لرواية الجماعة.
وأن المحفوظ من الحديث أنه أخذ ماء جديداً لرأسه، وليس لأذنيه، والله أعلم.
انظر أطراف المسند (3/20) ، تحفة الأشراف (5307) ، إتحاف المهرة (7138، 6682) .(9/324)
الدليل الثاني:
(879-108) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع،
أن ابن عمر كان يغسل ظهور أذنيه وبطونهما إلا الصماخ مع الوجه مرة أو مرتين، ويدخل أصبعيه بعد ما يمسح برأسه في الماء، ثم يدخلهما في الصماخ مرة، وقال: فرأيته وهو يموت توضأ، ثم أدخل إصبعيه في الماء، فجعل يريد أن يدخلهما في صماخه فلا يهتديان ولا ينتهي حتى أدخلت أنا أصبعي في الماء، فأدخلتهما في صماخه (1) .
[وسنده صحيح]
ويجاب عنه:
بما قاله ابن المنذر: وقد كان ابن عمر يشدد على نفسه في أشياء من أمر وضوئه، من ذلك أخذه لأذنيه ماء جديداً، ونضحه الماء في عينيه، وغسل قدميه سبعاً سبعاً، وليس على الناس ذلك. ثم قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عمر بن محمد، عن نافع، قال: كان ابن عمر
_________
(1) المصنف (26) .(9/326)
يغسل قدميه سبعاً سبعاً (1) .
قال الحافظ: رواه ابن المنذر بإسناد صحيح (2) .
الدليل الثالث:
قال الأصمعي والمفضل بن سلمة: الأذنان ليستا من الرأس، وهما إمامان من أئمة اللغة، والمرجع في اللغة إلى نقل أهلها (3) .
الدليل الرابع:
قال النووي: الإجماع منعقد على أنه لا يجزئ مسحهما عن الرأس، يعني: فهذا دليل على أنهما ليسا من الرأس (4) .
الدليل الخامس:
قال النووي: لو قصر المحرم من شعرهما لم يجزئه عن تقصير الرأس بالإجماع، يعني: ولو كانا من الرأس لأجزأ (5) .
الدليل السادس:
قال النووي: ولأن الإجماع منعقد على أن البياض الدائر حول الأذن ليس من الرأس مع قربه فالأذن أولى , ولأنه لا يتعلق بالأذن شيء من أحكام الرأس سوى المسح , فمن ادعى أن حكمها في المسح حكم الرأس فعليه البيان (6) .
_________
(1) الأوسط (1/405) .
(2) الفتح (1/240) .
(3) المجموع (1/445) .
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق.(9/327)
ويجاب عن ذلك كله:
القول بأنهما عضوان مستقلان نظر عقلي في مقابل النص، فيكون نظراً فاسداً، وكون الأذنين لا يوخذ لهما ماء جديد، هذا حكم تلقيناه من الشارع في الوضوء، ولا يطرد هذا الحكم في كل العبادات كالإحرام وغيره إلا بنص، وكونهما عضوان مستقلان لا يمنع هذا من مسحهما من ماء واحد، يقابل ذلك أن الأنف والفم عضوان مستقلان ومع ذلك يتمضمض ويستنشق من كف واحدة، والله أعلم.
دليل من قال: الأذنان من الوجه.
لعله نظر إلى أن الأذنين تحصل بهما المواجهة، فأدخلهما في مسمى الوجه، وفي هذا نظر كبير. وكذلك من قال: إن باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس أيضاً ليس له دليل أعلمه، والله أعلم.(9/328)
الفصل السابع:
من سنن الوضوء التيامن
ذهب الفقهاء إلى أن التيامن في الوضوء سنة من سننه.
وقيل: يكره البداءة باليسار، وهو مذهب الشافعي (1) .
وقيل: إن الترتيب بين اليمنى واليسرى واجب، نُسِب هذا القول للإمام الشافعي وأحمد، ولا يثبت عنهما (2) .
أدلة الاستحباب:
الدليل الأول: الإجماع.
قال ابن المنذر: ((أجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه)) (3) .
وقال ابن قدامة مثله (4) .
وقال النووي: ((وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفهما فاته الفضل، وصح وضوؤه)) (5) .اهـ
_________
(1) شرح مسلم للنووي (1/160) .
(2) فتح الباري (1/270) ، المبدع (1/110) ، شرح الزركشي (1/178) ، نيل الأوطار (1/201) ، فتح الباري (1/270) ، عمدة القارئ (3/32) .
(3) الأوسط (1/387) .
(4) المغني (1/153) .
(5) شرح مسلم (3/160) .(9/329)
الدليل الثاني:
(880-109) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق،
عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. ورواه مسلم بنحوه (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (168) ، ومسلم (268) .
والحديث مداره على الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق، عن عائشة مرفوعاً.
وقد رواه جماعة عن الأشعث بن سليم على اختلاف في ألفاظهم، من تقديم وتأخير، وزيادة ونقص.
فأحدها لفظ البخاري الذي قدمناه في الباب: " كان النبي يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله ".
اللفظ الثاني:
ما رواه أحمد (6/94) من طريق بهز.
والبخاري (426) من طريق سليمان بن حرب، كلاهما عن شعبة به، بلفظ:
" كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره، وترجله، وتنعله ".
وهو عند مسلم (67-268) دون قوله: " ما استطاع " مع تقديم وتأخير.
اللفظ الثالث:
بزيادة: الواو في قوله: " وفي شأنه كله " بلفظ: " كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ".
قال الحافظ في الفتح (168) : " للأثر من الرواة بغير واو، وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو، وهي التي اعتمدها صاحب العمدة " اهـ.
وهل بين هذه الألفاظ من اختلاف؟
فالجواب: أما على إثبات الواو، فإن الحديث ظاهره، أن التيامن سنة في جميع الأشياء، لا يختص بشيء دون شيء، ولفظ: " كل " صريح في العموم، خاصة وأنه جاء توكيداً بكلمة: " شأنه " المفردة المضافة الدالة على العموم بذاته، فكيف بعد توكيده بكلمة: "كل " إلا أن هذا العموم قد خص منه ما جاء في حديث عائشة أيضاً: " كان يد رسول - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولحاجته، وكانت اليسرى لخلائه، وما كان من أذى " ـ قلت: سنده صحيح ـ فهذا نص أن الأذى والخلاء له اليسرى.
وأما على الرواية بدون واو فليس فيها هذا العموم، قال صاحب الفتح (168) : وأما على إسقاطها فقوله: " في شأنه كله " متعلق بـ يعجبه، لا بالتيمن. أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله.. الخ أي لا يترك ذلك سفراً ولا حضراً ولا في فراغه، ولا شغله، ونحو ذلك".
وجاء في بعض ألفاظ الحديث من دون قوله: " في شأنه كله " فقد رواه أحمد (6/147) عن محمد بن جعفر، ورواه أيضاً (6/202) عن يحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه البخاري (5926) عن أبي الوليد، ومن طريق عبدالله بن المبارك (5380) كلهم عن شعبة به بدون قوله " في شأنه كله ".
ورواه مسلم (268) والترمذي (608) من طريق أبي الأحوص عن أشعث به. بدون ذكرها، والراجح والله أعلم أنها محفوظة، لأن محمد بن جعفر، وعبدان قد صرحا في آخر الحديث عن شعبة بأن أشعث كان قد قال بواسط: " في شأنه كله " فبين شعبة أن كلمة " في شأنه كله " ثبتت في السماع القديم، والسماع القديم مقدم على غيره.(9/330)
فقولها: ((يعجبه)) ظاهر في الاستحباب في ما ذكر من التنعل والترجل والطهور.
الدليل الثالث:
(881-110) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن وأحمد بن عبد الملك، قالا: حدثنا زهير، عن الأعمش، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا(9/331)
بأيامنكم. وقال: أحمد بميامنكم (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل الرابع:
أحاديث الصحابة رضي الله عنهم التي وصفت وضوءه في الصحيحين وفي غيرهما كلها اتفقت على تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى، والرجل
_________
(1) المسند (2/354) .
(2) الحديث أخرجه أبو داود (4141) ، وابن ماجه (412) من طريق أبي جعفر النفيلي.
وأخرجه ابن خزيمة (178) ، والبيهقي (1/86) من طريق عمرو بن خالد.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (1090) من طريق عبد الرحمن بن عمرو البجلي.
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6281) من طريق عبد الغفار بن داود.
كلهم رووه عن زهير بن معاوية به.
وأخرجه الترمذي (1766) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا شعبة، عن الأعمش به، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه.
وهذه متابعة من شعبة لزهير بن معاوية، إلا أن شعبة قد اختلف عليه في رفعه ووقفه، ولذلك قال الترمذي عقب رواية الحديث من طريق عبد الصمد، قال: وروى غير واحد هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد عن أبي هريرة موقوفاً، ولا نعلم أحداً رفعه غير عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة. اهـ
قلت: قد رواه البغوي في شرح السنة (3156) من طريق يحيى بن حماد، عن شعبه به مرفوعاً. وهذه متابعة لعبد الصمد في رفعه عن شعبة، كما أن زهيراً رواه عن الأعمش مرفوعاً كما سبق.
انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (7/223) ، تحفة الأشراف (12380) ، إتحاف المهرة (18055) .(9/332)
اليمنى على الرجل اليسرى كحديث عثمان وعبد الله بن زيد، رضي الله عنهما، وهما في الصحيحين، وحديث ابن عباس وهو في البخاري وحديث علي رضي الله عنه وسبق تخريجه.
الدليل الخامس:
(882-111) من الآثار: ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن عوف، عن عبد الله بن عمرو بن هند، قال: قال علي: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت (1) .
[إسناده منقطع] (2) .
_________
(1) المصنف (1/43) .
(2) في إسناده عبد الله بن عمرو بن هند،
ذكره البخاري في التأريخ الكبير، ولم يذكر فيه شيئاً (5/154) .
وكذا فعل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/118) .
قال الدارقطني: ليس بقوي. المغني في الضعفاء (1/349) .
وذكره ابن حبان في الثقات. (5/21) .
وفي التقريب: صدوق لم يثبت سماعه من علي. وانظر جامع التحصيل (387) .
ورواه ابن أبي شيبة (1/44) وذكره البيهقي (1/150) من طريق حفص،
ورواه أبو عبيد في كتاب الطهور (ص: 352) ثنا هشيم.
وأخرجه الدارقطني (1/87) من طريق علي بن مسهر، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زياد، قال: قال علي:.... فذكر نحوه.
وزياد: هو مولى بني مخزوم، جاء في الجرح والتعديل (3/549) روى عن عثمان وأبي هريرة، وذكر عن ابن معين أنه قال: لا شيء.
وظنه الحافظ في التعجيل (345) زياد بن أبي زياد: واسم أبيه ميسرة. اهـ وهذا ثقة، ومتأخر عن الأول؛ لأن الأول يروي عن عثمان والثاني يروي عن أنس، وكلاهما يروي عنه إسماعيل بن أبي خالد. قال في التعجيل: وسلف الحسيني في إفراده صاحب الميزان، فإنه أفرده بترجمة. يعني: فرقاً بينه وبين زياد مولى بني مخزوم زياد بن أبي زياد، والله أعلم، فإن كان زياد هذا هو ابن ميسرة كما ظنه الحافظ فالإسناد صحيح، وإلا كان ضعيفاً وهو صالح في المتابعات.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/388) من طريق الحارث عن علي، قال: لا يضرك بأي يديك بدأت، ولا بأي رجليك بدأت، ولا على أي جنبيك انصرفت.
والحارث: هو الأعور ضعيف.(9/333)
(883-112) ومنها ما رواه أبو عبيد، ثنا هشيم: قال: أخبرنا المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين،
أن ناساً سألوا ابن مسعود عن الرجل يبدأ بمياسره قبل ميامنه في الوضوء، فقال: لا بأس به (1) .
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (2) .
الدليل السادس:
قال تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} وقال: {وأرجلكم إلى الكعبين} فجمع هذه الأعضاء، فتقديم الأيسر على الأيمن أو العكس لا يؤثر.
قال أبو عبيد: حديث علي وعبد الله إنما هو في الأعضاء خاصة، وهذا جائز حسن؛ لأن التنزيل لم يأمر بيمين قبل يسار، ونما نزل بالجملة في ذكر الأيدي وذكر الأرجل، فهذا الذي أباح العلماء تقديم المياسر على الميامن (3) .
_________
(1) الطهور (ص: 354) ، وقد أخرجه الدارقطني (1/89) من طريق الحسن بن عرفة، حدثنا هشيم به. وصحح إسناده.
(2) رجاله ثقات إلا المسعودي فإنه صدوق اختلط قبل موته، وضابطه أن من سمع منه ببغداد فسماعه بعد الاختلاط، وقد ذكر العلماء الرواة الذين سمعوا منه بعد وقبل تغيره، ولم يذكروا هشيماً، وقد ذكر الحافظ أن هشيماً من الطبقة السابعة والمسعودي من السابعة فعلى هذا يكون هشيم من كبار تلاميذه وممن كان سماعه منه قبل تغيره خاصة وأن الدارقطني صحيح إسناده.
(3) الطهور (ص:) .(9/334)
دليل من قال: بالوجوب.
(884-113) استدل بما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن وأحمد بن عبد الملك، قالا: حدثنا زهير، عن الأعمش، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم. وقال أحمد: بميامنكم (1) .
[إسناده صحيح وسبق تخريجه] (2) .
وجه الاستدلال:
إن الرسول أمر بالبداءة باليمين، والأصل في الأمر الوجوب حتى يأتي صارف يصرفه عن أصله، ولا صارف هنا.
وسبق لنا أن القول بالوجوب لم يثبت عن أحمد والشافعي، وأن الصارف ما نقل من الإجماع على استحباب تقديم اليمين على اليسار، وأن من قدم يساره على يمينه في الوضوء فليس عليه إعادة.
دليل من قال: بالكراهة.
لم أعرف وجه الكراهة، ولا يلزم من ترك السنة الوقوع بالمكروه، ولعل وجه الكراهة عند الشافعي أنه خلاف الصفة التي داوم عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه، والله أعلم.
_________
(1) المسند (2/354) .
(2) انظر حديث (881) .(9/335)
[صفحة فارغة](9/336)
الفصل الثامن:
من سنن الوضوء الغسلة الثانية والثالثة
استحب الجمهور الغسلة الثانية والثالثة لجميع أعضاء الوضوء ما عدا الرأس والأذنين فلا يكرر مسحهما، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والحنابلة (3) .
واستحب الشافعية الثلاث حتى في الرأس (4) .
وقيل: الوضوء ما أسبغ، وليس فيه توقيت مرة أو ثلاث، وهو نص المدونة عن مالك (5) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/29) ، بدائع الصنائع (1/22) ، العناية شرح الهداية (1/31) ،
(2) حكم الغسلة الثانية والثالثة في مذهب المالكية أقوال، منها:
أن الغسلة الثانية والثالثة فضيلتان، قال الحطاب في مواهب الجليل (1/59) : وهذا هو المشهور.
وقيل: إنهما سنتان.
وقيل: الثانية سنة، والثالثة فضيلة. وهناك قول رابع سوف يأتي أنه لا توقيت في الوضوء، انظر مواهب الجليل (1/259، 260) ، المنتقى للباجي (1/35) ، الفواكه الدواني (1/145) ، حاشية الدسوقي (1/101) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/122) .
(3) المغني (1/94) ، الإنصاف (1/137) .
(4) المجموع (1/461) البيان في مذهب الشافعي (1/142) ، روضة الطالبين (1/59) ، واعتبر الماوردي في الحاوي الكبير (1/133) أن التكرار ثلاثاً من فضائل الوضوء، ولم يعده من سنن الوضوء.
(5) جاء في المدونة (1/113) : قال سحنون: قلت لعبد الرحمن بن القاسم: أرأيت الوضوء أكان مالك يوقت فيه واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً؟ قال: لا إلا ما أسبغ, ولم يكن مالك يوقت, وقد اختلفت الآثار في التوقيت. قال ابن القاسم: لم يكن مالك يوقت في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً. وقال: إنما قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فلم يوقت تبارك وتعالى واحدة من ثلاث. قال ابن القاسم: ما رأيت عند مالك في الغسل والوضوء توقيتاً لا واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثاً, ولكنه كان يقول: يتوضأ أو يغتسل ويسبغهما جميعا. اهـ
واختلف المالكية في تفسير هذا الكلام من الإمام مالك،
فقال الباجي في المنتقى (1/35) ما حكاه ابن القاسم عن مالك أنه لم يحد في الوضوء شيئاً، معنى ذلك أنه لم يحد فيه حداً لا يجوز التقصير عنه، ولا تجوز الزيادة عليه، وأما تحديد فرضه ونفله فمعلوم من قول مالك وغيره ولا خلاف فيه نعلمه، وذلك أن الفرض في الوضوء مرة والأصل في ذلك آية المائدة قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} المائد: 6. والأمر بالغسل أقل ما يقتضي فعله مرة واحدة؛ لأنه أقل ما يسمى به غاسلا لأعضاء الوضوء. وقد روي عن ابن عباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة " وأما النفل فمرتين وثلاثاً. وقد روى عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " توضأ مرتين مرتين " وروي عن عثمان أنه أراهم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً " وهو أكمل الوضوء وأتمه وهو حد للفضيلة.
وأخذ ابن العربي كلام مالك على ظاهره، ولم يؤوله كما فعل الباجي، فقال في أحكام القرآن (2/77) : المسألة الثامنة والأربعون: في تحقيق معنى لم يتفطن له أحد حاشا مالك بن أنس, لعظيم إمامته, وسعة درايته, وثاقب فطنته; وذلك أن الله تعالى قال: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} الآية، المائد: 6. وتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً, ومرتين في بعض أعضائه وثلاثاً في بعضها في وضوء واحد, فظن بعض الناس بل كلهم أن الواحدة فرض, والثانية فضل, والثالثة مثلها, والرابعة تعد, وأعلنوا بذلك في المجالس, ودونوه في القراطيس; وليس كما زعموا وإن كثروا, فالحق لا يكال بالقفزان, وليس سواء في دركه الرجال والولدان. اعلموا وفقكم الله أن قول الراوي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين وثلاثاً أنه أوعب بواحدة, وجاء بالثانية والثالثة زائدة، فإن هذا غيب لا يدركه بشر; وإنما رأى الراوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غرف لكل عضو مرة, فقال: توضأ مرة, وهذا صحيح صورة ومعنى ; ضرورة أنا نعلم قطعا أنه لو لم يوعب العضو بمرة لأعاد; وأما إذا زاد على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين فإننا لا نتحقق أنه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلاً, أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنتين حتى زاد عليها بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة وتأتي حصول التلطف في إدارة الماء القليل والكثير عليها, فيشبه, والله أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يوسع على أمته بأن يكرر لهم الفعل, فإن أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة, فجرى مع اللطف بهم والأخذ لهم بأدنى أحوالهم إلى التخلص; ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثا إلا ما أسبغ. قال: وقد اختلفت الآثار في التوقيت, يريد اختلافا يبين أن المراد معنى الإسباغ لا صورة الأعداد, وقد توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم, فغسل وجهه بثلاث غرفات, ويده بغرفتين؛ لأن الوجه ذو غضون ودحرجة واحديداب, فلا يسترسل الماء عليه في الأغلب من مرة بخلاف الذراع فإنه مسطح فيسهل تعميمه بالماء وإسالته عليها أكثر مما يكون ذلك في الوجه. فإن قيل: فقد " توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة " وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. وتوضأ مرتين مرتين, وقال: من توضأ مرتين مرتين آتاه الله أجره مرتين. ثم توضأ ثلاثا ثلاثاً, وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي , ووضوء أبي إبراهيم. وهذا يدل على أنها أعداد متفاوتة زائدة على الإسباغ, يتعلق الأجر بها مضاعفاً على حسب مراتبها. قلنا: هذه الأحاديث لم تصح, وقد ألقيت إليكم وصيتي في كل وقت ومجلس ألا تشتغلوا من الأحاديث بما لا يصح سنده, فكيف ينبني مثل هذا الأصل على أخبار ليس لها أصل; على أن له تأويلاً صحيحاً, وهو أنه توضأ مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، فإنه أقل ما يلزم, وهو الإيعاب على ظاهر هذه الأحاديث بحالها. ثم توضأ بغرفتين وقال: له أجره مرتين في كل تكلف غرفة ثواب. وتوضأ ثلاثاً وقال: هذا وضوئي ; معناه الذي فعلته رفقا بأمتي وسنة لهم ; ولذلك يكره أن يزاد على ثلاث; لأن الغرفة الأولى تسن العضو للماء وتذهب عنه شعث التصرف. والثانية ترحض وضر العضو، وتدحض وهجه. والثالثة تنظفه, فإن قصرت دربة أحد عن هذا كان بدويا جافيا فيعلم الرفق حتى يتعلم, ويشرع له سبيل الطهارة حتى ينهض إليها, ويتقدم; ولهذا قال من قال: " فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم". اهـ(9/337)
وهل الغسلة الثالثة أفضل من الثانية، والثانية أفضل من الواحدة مطلقاً؟
قيل: نعم (1) .
وقيل: من اعتاد الاقتصار على غسلة واحدة فإنه يأثم بذلك، اختاره بعض الحنفية (2) .
والصحيح أن الاقتصار على غسلة واحدة لا يكره، فضلاً عن كونه يأثم. والأفضل أن يتوضأ أحياناً مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين وأحيانا ً ثلاثاً ثلاثاً، وأحياناً يخالف بين الأعضاء فيغسل بعضها ثلاثاً وبعضها مرتين وبعضها مرة ليفعل السنة على جميع وجوهها (3) .
دليل من استحب الغسلة الثانية والثالثة فيما عدا الرأس.
الدليل الأول:
(885-114) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره،
أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. ورواه مسلم (4) .
_________
(1) انظر المراجع السابقة في أقوال المذاهب.
(2) البناية في شرح الهداية (1/124، 125) .
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/337، 67) .
(4) صحيح البخاري (159) ، ومسلم (236) .(9/340)
وجه الاستدلال:
الحديث دليل على استحباب الثلاث غسلات، وأن السنة في الرأس مسحة مرة واحدة.
الدليل الثاني:
(886-115) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زائدة ابن قدامة، عن خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال:
جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه فعله ثلاث مرار قال عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات. الحديث وفي آخره قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحب أن ينظر إلى طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا طهوره (1) .
[رجاله ثقات وسبق تخريجه والكلام على متنه] (2) .
وجه الدلالة من هذا الحديث كالحديث السابق على استحباب الثلاث فيما عدا الرأس.
_________
(1) المسند (1/135) .
(2) في فصل كون المضمضة باليمين والاستنثار بالشمال.(9/341)
الدليل الثالث:
(887-116) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل،
عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قالت أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له الميضأة فتوضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره وأدخل أصبعيه في أذنيه (1) .
[سبق تخريجه] (2) .
الدليل الرابع:
(888-117) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء.
[إسناده حسن، وسبق الكلام عليه، والإشارة إلى أن لفظ: (أو نقص) وهم من الراوي] (3) .
_________
(1) المسند (6/359) .
(2) انظر حديث (874) .
(3) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.(9/342)
الدليل الخامس:
من النظر قالوا: الدليل على أن الرأس لا يشرع له التثليث أن الأصل في المسح التخفيف، ولذلك لا يمسح الوجه في التيمم ولا يمسح الخف في الوضوء، ولأن تكراره يؤدي إلى أن يصير المسح غسلاً فينافي مقصود الشارع من التخفيف في طهارته.
دليل من قال: يستحب التثليث في الرأس.
(889-118) ما رواه مسلم، من طريق أبي أنس (مالك بن عامر الأصبحي)
أن عثمان توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً....
فقوله: ((توضأ ثلاثاً ثلاثاً)) يشمل ما يغسل وما يمسح.
وأجيب:
بأن الأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً أرادوا فيها ما سوى المسح، فإن رواتها حين فصلوا قالو: ومسح برأسه مرة واحدة، والتفصيل يحكم به على الإجمال، ويكون تفسيراً له، ولا يعارض به، كالخاص مع العام (1) .
وقال البيهقي تعليقاً على رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، قال: وعلى هذا اعتمد الشافعي في تكرار المسح، وهذه روايات مطلقة، والروايات الثابتة المفسرة تدل على أن التكرار وقع فيما عدا الرأس من الأعضاء، وأنه مسح برأسه مرة واحدة (2) .
_________
(1) المغني (1/180) .
(2) سنن البيهقي (1/62) .(9/343)
الدليل الثاني:
(890-119) ما رواه أبو داود، من طريق يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل، عن عامر بن شقيق بن حمزة،
عن شقيق بن سلمة، قال: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا.
[إسناد ضعيف وذكر التثليث في مسح الرأس منكر] (1) .
_________
(1) هذا الحديث سبق الكلام عليه في أكثر من موضع، وانظر الكلام عليه وافياً في حديث رقم (845) وفيه عامر بن شقيق، قال في التقريب لين الحديث، ومداره على إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة، عن عثمان.
واختلف على إسرائيل في ذكر مسح الرأس ثلاثاً، فقد تفرد يحيى بن آدم عن إسرائيل بذكر التثليث في مسح الرأس.
ورواه وكيع كما في مسند أحمد (1/57) بذكر توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ولم يذكر مسح الرأس.
ورواه عبد الرزاق كما في المصنف (125) .
وابن مهدي كما في رواية ابن الجارود (72) ، وابن خزيمة (125) .
وأبو عامر العقدي كما في رواية ابن خزيمة (167) .
وعبيد الله بن موسى مقروناً برواية عبد الرزاق كما في مستدراك الحاكم (1/148، 149) .
وخلف بن الوليد كما في رواية ابن خزيمة (151) .
كلهم رووه عن إسرائيل، وذكروا مسح الرأس إلا أنهم لم يقولوا: ثلاثاً.
وهذا دليل على ضعف عامر كما أسلفت، وليس البلاء من يحيى بن آدم، ولا من إسرائيل، وإنما علته عامر بن شقيق، فأحيانا ً يذكر فيه تخليل اللحية، وأحياناً يزيد فيه تخليل الأصابع، وأحياناً يذكر أن مسح الرأس ثلاثاً، وأحياناً يذكر بدون تثليث، وهذا دليل قوي لمن ضعف أمره بأنه غير حافظ، والله أعلم.(9/344)
الدليل الثالث:
(891-120) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن عبد الجبار، ثنا البيلماني، عن أبيه،
عن عثمان بن عفان أنه توضأ بالمقاعد، والمقاعد بالمدينة حيث يصلى على الجنائز عند المسجد، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه ثلاثاً، وسلم عليه رجل، وهو يتوضأ، فلم يرد عليه حتى فرغ، فلما فرغ كلمه معتذراً إليه، وقال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من توضأ هكذا، ولم يتكلم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله غفر له ما بين الوضوئين (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/92) .
(2) في إسناده صالح بن عبد الجبار.
قال ابن القطان: لا أعرفه إلا في هذا الحديث، وهو مجهول الحال. كما في نصب الراية (1/32) .
وفي إسناده ابن البيلماني محمد بن عبد الرحمن.
قال فيه أبو حاتم الرازي: منكر الحديث، ضعيف الحديث، مضطرب الحديث. الجرح والتعديل (7/311) .
وقال البخاري: منكر الحديث، كان الحميدي يتكلم فيه. التأريخ الكبير (1/163) .
وقال النسائي: منكر الحديث. الكامل (6/178) .
وقال ابن عدي: وكل ما روي عن ابن البيلماني فالبلاء فيه من ابن البيلماني، وإذا روى عنه محمد بن الحارث فجميعاً ضعفاء، والضعف على حديثهما بين. تلخيص الكامل لابن الملقن (1661) .
وقال الحافظ ابن حجر: ضعيف جداً. تلخيص الحبير (1/84) . وفي التقريب: قال: ضعيف فقط.
وأما أبوه فضعفه الحافظ في التقريب والتلخيص (1/84) .
فالإسناد مظلم، يرويه ضعيف عن مثله، عن مثله. انظر إتحاف المهرة (13696) .
ومع ضعف إسناده فقد اختلف في إسناده، فرواه الدارقطني (1/92، 93) بالإسناد نفسه إلا أنه جعله من مسند ابن عمر، وهذا من تخليط ابن البيلماني، ودليل على ضعفه. وانظر إتحاف المهرة (9954) .
وأخرجه أحمد (1/61) حدثنا صفوان بن عيسى، عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم، قال: دخلت على ابن داره مولى عثمان، قال: فسمعني أمضمض، قال: فقال يا محمد. قال: قلت: لبيك. قال: ألا أخبرك بوضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: رأيت عثمان، وهو بالمقاعد دعاء بوضوء، فمضمض واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه، ثم قال: من أحب أن ينظر إلى وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن طريق صفوان بن عيسى أخرجه البيهقي في السنن (1/62، 63) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/36) .
وفي إسناده: زيد بن دارة، قال عنه الحافظ: مجهول الحال. تلخيص الحبير (1/84) .
وذكره في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولم يذكر راوياً عنه إلا محمد بن أبي عبيد الله بن أبي مريم.
كما أن في إسناده محمد بن عبيد الله بن أبي مريم.
ذكره الحافظ في التقريب، وعلم له علامة أبي داود، وإنما روى له أبو داود تعليقاً عقب حديث (54) ، وقال عنه الحافظ في التقريب: مقبول، أي: إن توبع، وإلا فلين.
والحق أنه أعلى درجة من تقدير الحافظ، فقد قال عنه يحيى القطان: لم يكن به بأس. الجرح والتعديل (7/306) .
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: شيخ مدني صالح الحديث. المرجع السابق.
ومع ضعف إسناده فإنه منكر مخالف لرواية الصحيحين، فقد رواه الشيخان من طريق حمران، عن عثمان، ولم يذكر عن مسح الرأس إلا مرة واحدة.
وأخرج أبو داود (107) من طريق الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن وردان، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني حمران، قال:
رأيت عثمان بن عفان توضأ، فذكر نحوه - يعني: نحو حديث عطاء بن يزيد، عن حمران- ولم يذكر المضمضة والاستنشاق، وقال فيه: ومسح رأسه ثلاثاً، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ هكذا، وقال: من توضأ دون هذا كفاه.
وأخرجه البيهقي (1/62) من طريق أبي داود به. وأخرجه أيضاً (1/62) من طريق أبي بكر ابن أبي داود، عن إسحاق بن منصور، عن الضحاك بن مخلد به.
وأخرجه الدارقطني (1/91) من طريق يوسف بن موسى، أنا أبو عاصم (الضحاك بن مخالد) به.
وهذا الحديث في إسناده عبد الرحمن بن ورادن، قال فيه أبو حاتم: ما بحديثه بأس. الجرح والتعديل (5/295) .
وقال ابن معين: صالح. المرجع السابق.
ولم يقيد ابن معين الصلاح بحديثه، فيعني أنه صالح في دينه إذ لو كان يعني: الحديث، لقال: صالح الحديث، أو حديثه صالح أو نحوهما.
وقال الدارقطني: ليس بالقوي. المغني في الضعفاء (3650) .
وفي التقريب: مقبول. أي حيث يتابع وإلا فلين.
فالإسناد فيه لين.
وقال الحافظ في تلخيص الحبير (1/45) تابعه عند البزار هشام بن عروة، عن أبيه، عن حمران. اهـ
ولم أطلع على إسناده لأرى من رواه عن هشام.
وقد رواه الزهري، كما في البخاري (160) ، ومسلم (227) .
ومالك، كما في الموطأ (1/30) وابن حبان (1041) .
وسفيان بن عيينة، كما في سنن البيهقي (1/62) وصحيح ابن خزيمة (2) .
ويحيى بن سعيد القطان، كما في مسند أحمد (1/57) ، وصحيح ابن خزيمة (2) .
وجرير عند مسلم (227) .
وابن جريج عند عبد الرزاق (141) .
وحماد بن سلمة كما في مسند الطيالسي (76) .
ووكيع كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/161) .
وأبو أسامة كما عند مسلم (227) ، وابن خزيمة (2) تسعتهم رووه عن هشام، عن عروة، عن حمران، ولم يذكروا أن مسح الرأس ثلاث، كما في رواية البزار التي أشار إليها الحافظ، فإن كان الراوي ثقة فهي رواية شاذة لمخالفته الأئمة، وإن كان ضعيفاً فهي زيادة منكرة، والله أعلم.
وذكر الحافظ متابعاً آخر عند البزار أيضاً من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق، عن حمران، وعبد الكريم قال النسائي: متروك. وقال أيوب: ليس بثقة. وانظر أطراف مسند أحمد (4/304) ، تحفة (9796) إتحاف المهرة (13645) و (13647) .(9/345)
الدليل الرابع:
(892-121) ما رواه الدارقطني من طريق أبي كريب، نا مسهر بن عبد الملك بن سلع، عن أبيه، عن عبد خير،
عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ثلاثاً، وقال: هكذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببت أن أريكموه (1) .
[إسناده ضعيف، والمعروف من هذا الحديث أن المسح مرة] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/92) . وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/123) حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا مسهر بن عبد الملك به. وذكر من صفة الوضوء إلى قوله: وغسل ذراعه الأيسر ثلاثاً، فقال: هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرجه النسائي في الكبرى (161) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبا مسهر بن عبد الملك به. وذكر مسح الرأس ولم يقل: ثلاثاً.
(2) وفي إسناده مسهر بن عبد الملك بن سلع.
ذكره ابن أبي حاتم، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجرح والتعديل (8/401) .
وقال البخاري: فيه بعض النظر. التأريخ الأوسط (2/274) ، الكامل (6/457) .
قال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (10/135) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويهم (9/197) .
وسئل عنه أبو داود، فقال: أما الحسن بن علي الخلال فرأيته يحسن الثناء عليه، وأما أصحابنا فرأيتهم لا يحمدونه. تهذيب التهذيب (10/135) .
وقال الحسن بن حماد الوراق: مسهر ثقة. مختصر كامل ابن عدي (1937) .
وعبد الملك بن سلع، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عليه. الجرح والتعديل (5/353) .
وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وقال: كان ممن يخطئ. الثقات (7/104) .
وفي التقريب: صدوق.
فالإسناد ضعيف من أجل مسهر بن عبد الملك بن سلع، وقد خالفه من هو أقوى منه، فرواه أحمد (1/110) حدثنا مروان، حدثنا عبد الملك بن سلع به. في صفة الوضوء، وفيه: ثم مسح بكفيه رأسه مرة.
ومروان: هو ابن معاوية الفزاري، وثقه أحمد، وقال: كان من الحفاظ.
ووثقه ابن معين والنسائي ويعقوب بن شيبة، وفي التقريب: ثقة حافظ، وكان يدلس أسماء الشيوخ. فهذا هو المعروف من حديث عبد الملك بن سلع، وقد رواه خالد بن علقمة، عن عبد خير به، واختلف على خالد:
فرواه الدارقطني (1/89) من طريق أبي يحيى الحماني، ومن طريق أبي يوسف القاضي، كلاهما عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير به. وفيه: ومسح برأسه ثلاثاً.
وخالف أبا حنيفة جماعة من الحفاظ الثقات منهم زائدة بن قدامة وسفيان الثوري وشعبة، وأبو عوانة وشريك وأبو الأِشهب جعفر بن الحارث وحازم بن إبراهيم وحسن بن صالح وجعفر الأحمر فرووه كلهم عن خالد بن علقمة به، وقالوا: ومسح برأسه مرة.
وسبق الكلام على طرق الحديث وتخريجها فارجع إليه إن شئت.(9/348)
الدليل الخامس:
(893-122) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عباس بن الفضل، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا ابن وهب، عن ابن جريج، عن محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده،(9/349)
عن علي أنه توضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل رجليه ثلاثاً، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (1) .
[رجاله ثقات إلا أن رواية ابن وهب عن ابن جريج متكلم فيها وقد خولف ابن وهب في هذا الحديث] (2) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/63) .
(2) قال أحمد بن حنبل: في حديث ابن وهب عن ابن جريج شيء. قال أبو عوانة: صدق؛ لأنه يأتي عنه بأشياء لا يأتي بها غيره.
وقد قال البيهقي (1/63) : وقال فيه حجاج، عن ابن جريج: ومسح برأسه مرة.
وحجاج هو ابن محمد المصيصي من رجال الجماعة وهي أرجح من رواية ابن وهب؛ لسببين: الأول: التكلم في رواية ابن جريج عن ابن وهب.
السبب الثاني: أن هذه الرواية موافقة للأحاديث الصحيحة عن علي وغيره في كون المسح مرة واحدة.
وروى الطبراني في مسند الشاميين (1336) من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبيد الله، عن عمير بن سعيد النخعي، عن علي أنه قال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: بلى. فأتي بطست من ماء فغسل كفيه، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً بماء واحد، ومضمض واستنشق ثلاثاً بماء واحد، وغسل رجليه ثلاثاً.
وفي إسناده عبد العزيز بن عبيد الله.
قال يحيى بن معين: ضعيف، لم يحدث عنه إلا إسماعيل بن عياش. الكامل (5/284) ، الضعفاء للعقيلي (3/21) .
وقال أبو زرعة: مضطرب الحديث، واهي الحديث. تهذيب الكمال (18/171) .
وقال أبو حاتم: يروي عن أهل الكوفة وأهل المدينة، لم يرو عنه أحد غير إسماعيل بن عياش، وهو عندي عجيب ضعيف منكر الحديث، يكتب حديثه، يروي أحاديث مناكير ويروي أحاديث حساناً. تهذيب التهذيب (6/311) .
وقال أبو داود: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وضعف إسناده الحافظ بالتلخيص بعبد العزيز بن عبيد الله هذا.(9/350)
الدليل السادس:
(894-123) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمود بن علي، ثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي، ثنا إسحاق بن محمد الفروي، عن يزيد بن عبد الملك، عن أبي موسى الحناط، عن محمد بن المنكدر،
عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليمضمض ثلاثاً، فإن الخطايا تخرج من وجهه، ويغسل وجهه ويديه ثلاثاً، ويمسح برأسه ثلاثاً، ثم يدخل يديه في أذنيه، ثم يفرغ على رجليه ثلاثاً.
قال الطبراني: لم يروه عن ابن المنكدر إلا أبو موسى، واسمه عيسى بن أبي عيسى، تفرد به يزيد (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) مجمع البحرين (407) .
(2) في إسناده يزيد بن عبد الملك.
قال أحمد: عند يزيد بن عبد الملك مناكير. الجرح والتعديل (9/278) .
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً. المرجع السابق.
وسئل عنه أبو زرعة، فقال: منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين في رواية ابن أبي خيثمة عنه: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال عثمان الدارمي عن يحيى بن معين: ما كان به بأس. الكامل (7/260) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (645) ، والكامل (7/260) .
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. المرجع السابق.
وقال أحمد بن صالح المصري: ليس حديثه بشيء. تهذيب التهذيب (11/304) .
وقال البخاري: أحاديثه شبه لا شيء، وضعفه جداً. المرجع السابق.
وفي إسناده أبو موسى: عيسى بن أبي عيسى الحناط، ويقال: الخياط:
قال عمرو بن علي وأبو داود والنسائي والدارقطني: متروك الحديث.
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، مضطرب الحديث. وفي التقريب: متروك. انظر التأريخ الكبير (6/405) ، معرفة الثقات (2/199) ، الكامل (5/245) ، الضعفاء الكبير (3/392) ، تهذيب التهذيب (8/201) ، تهذيب الكمال (23/15) ، بحر الدم (806) .
فالحديث ضعيف جداً.
والمعروف من حديث أنس رضي الله عنه ذكر المسح مرة واحدة.
فقد أخرج الطبراني كما في مجمع البحرين (409) حدثنا إبراهيم، ثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، ثنا بكار بن سقير، حدثني راشد أبو محمد الحماني، قال:
رأيت أنس بن مالك بالزاوية، فقلت له: أخبرني عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف كان؟ فإنه بلغني أنك كنت توضئه. قال: نعم، فدعاء بوضوء، فأتي بطست وبقدح نحت كما نحت في أرضه، فوضع بين يديه فأكفأ على يديه من الماء، فأنعم غسل كفيه، ثم تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ثم أخرج يده اليمنى، فغسلها ثلاثاً، ثم غسل اليسرى ثلاثاً، ثم مسح برأسه مرة واحدة غير أنه أمرها على أذنيه، فمسح عليهما، ثم أدخل كفيه جميعاً في الماء، فذكر الحديث.
وهذا إسناد أرجو أن يكون حسناً، فشيخ الطبراني: إبراهيم بن هاشم البغوي وثقه الدارقطني كما في تاريخ بغداد (6/203) .
وإبراهيم بن الحجاج ذكره ابن أبي حاتم وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/93) .
وذكره ابن حبان في الثقات (8/78) ، وأخرج له في صحيحه، والحاكم في المستدرك، ووثقه الدارقطني كما في تهذيب التهذيب (1/98) .
وفي التقريب: ثقة يهم قليلاً.
وبكار بن سقير البصري المازني، قال البخاري: أثنى عليه عبد الرحمن بن المباك خيراً، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من العباد. التاريخ الكبير (2/122) ، الثقات (6/107) .
وراشد الحماني. قال أبو حاتم: صالح الحديث. الجرح والتعديل (3/484) .
وذكره ابن حبان في الثقات (4/234) ، وقال: ربما أخطأ.
وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ.
فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى، وهو صحيح لغيره لكثرة شواهده التي ذكرناها في أدلة القول الأول، والله أعلم.(9/351)
قال الشوكاني رحمه الله: والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله بن زيد وغيرهما هو المتعين لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقةبالمرة الواحدة (1) . اهـ
دليل من قال: يمسح رأسه مرتين.
(895-124) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل،
عن الربيع بنت معوذ، قال: قالت: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضعنا له الميضأة، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخره، وأدخل أصبعيه في أذنيه.
[سبق تخريجه في أدلة القول الأول] (2) .
الدليل الثاني:
(896-125) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو ابن يحيى، عن أبيه،
_________
(1) نيل الأوطار (1/340) .
(2) سبق تخريجه، انظر حديث (873) .(9/353)
عن عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين، ومسح برأسه ورجليه مرتين (1) .
[الحديث رجاله ثقات إلا أن ابن عيينة أخطأ في هذا الحديث من وجهين] (2) .
_________
(1) المصنف (1/16) .
(2) الوجه الأول: قول سفيان كما في رواية النسائي (99) عن عبد الله بن زيد: وهو الذي أري النداء.
والذي أري النداء هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهذا عبد الله بن زيد بن عاصم.
وقد خطَّأ جماعةٌ ابن عيينة منهم البخاري في صحيحه كما في باب تحويل الرداء في الاستسقاء، والنسائي في السنن (3/155) ، والدارقطني في السنن (1/81) .
قال الحافظ: وقد اتفقا في الاسم واسم الأب والنسبة إلى الأنصار ثم الخزرج والصحبة والرواية، وافترقا في الجد والبطن الذي من الخزرج، لأن حفيد عاصم من مازن، وحفيد عبد ربه من بلحارث من الخزرج (2/581) .
الخطأ الثاني: قوله: إنه مسح برأسه مرتين، وقد رواه جماعة من عمرو بن يحيى ولم يقولوا ما قاله سفيان، منهم:
الأول: مالك، كما في رواية البخاري (185) ، ومسلم (235) ، والموطأ (1/18) ، ومصنف عبد الرزاق (5) ، وأحمد (4/38) ، والترمذي (32) ، والنسائي (98) ، وابن ماجه (434) ، وابن حبان (1084) .
الثاني: وهيب بن خالد، كما في صحيح البخاري (186) ، ومسلم (235) ، والبيهقي (1/150) ، وابن حبان (1077) .
الثالث: خالد بن عبد الله الطحان، كما في رواية البخاري (191) ، ومسلم (235) ، وأبو داود (119) ، والترمذي (28) .
الرابع: عبد العزيز بن أبي سلمة بن أبي الماجشون، كما في صحيح البخاري (197) ، وأبو داود (100) ، وابن ماجه (471) ، وابن حبان (1093) .
الخامس: سليمان بن بلال كما في صحيح البخاري (199) ، ومسلم (235) .
السادس: محمد بن فليح كما في سنن الدارقطني (1/82) ، فهؤلاء ستة رواة جلهم في الصحيحين خالفوا سفيان في قوله: ومسح برأسه مرتين، ولم استقص البحث ولعلهم أكثر من ذلك بكثير، وكلهم اتفقوا على لفظ: ثم مسح برأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
قال ابن عبد البر في التمهيد (3/216) : أما الموضع الثاني الذي وهم فيه ابن عيينة فإنه ذكر فيه مسح الرأس مرتين، ولم يذكر فيه أحد مرتين غير ابن عيينة، وأظنه والله أعلم تأول الحديث قوله: " فمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر " وما ذكرنا عن ابن عيينة من رواية مسدد ومحمد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة كلهم ذكروا عن ابن عيينة ما حكينا عنه، وأما الحميدي فإنه ميز ذلك فلم يذكره، أو حفظ عن ابن عيينة أنه رجع عنه، فذكر فيه عن ابن عيينة ومسح رأسه، وغسل رجليه، فلم يصف المسح، ولا قال: مرتين، وقال في الإسناد: عن عبد الله بن زيد لم يزد، ولم يقل: ابن عاصم ولا ابن عبد ربه، فتخلص. اهـ
وقد أشار أحمد في مسنده أنه سمع الحديث من ابن عيينة ثلاث مرات، قال مرة: ومسح برأسه مرة. وقال مرتين: ومسح برأسه مرتين، وهذا الاختلاف من سفيان يدل إما على رجوعه أو على عدم ظبطه لهذا الحديث، أو على روايته للحديث بالمعنى ولم يوفق، والله أعلم.
كما رواه ابن خزيمة في صحيحه (156) من طريق سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عيينة به، بلفظ " ثم مسح برأسه، بدأ بالمقدم، ثم غسل رجليه" ولم يقل: مرتين.
كما رواه الدارقطني (1/82) من طريق سعيد بن منصور، عن سفيان به، ولم يذكر مسح الرأس.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة كما نقلته عنه في المتن، وأخرجه أحمد (4/40) .
وأخرجه النسائي (99) والدارقطني (1/852) عن محمد بن منصور.
وأخرجه الترمذي 47) حدثنا ابن أبي عمر.
وأخرجه الدارقطني (1/82) من طريق العباس بن يزيد وسعيد بن منصور.
وأخرجه البيهقي (1/63) من طريق محمد بن حماد. كلهم رووه عن سفيان بن عيينة به. وانظر إتحاف المهرة (7135) ، أطراف المسند (3/21) ، تحفة الأشراف (5308) .(9/354)
الراجح: أن الرأس لا يمسح إلا مرة واحدة، وأما ما يتعلق بسائر الأعضاء فالراجح فيه أنه يتوضأ أحياناً مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين، وأحياناً ثلاثاً ثلاثاً، وأحياناً يخالف بين أعضائه، فيغسل بعضها مرتين وبعضها مرة في فعل واحد، هكذا جاءت السنة:
أما الوضوء ثلاثاً ثلاثاً فقد ذكرنا أدلته من حديث عثمان في الصحيحين وغيرهما.
(897-126) وأما الوضوء مرة مرة، فقد أخرجه البخاري وغيره من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة (1) .
_________
(1) البخاري (157) .
وأما ما رواه ابن ماجه (419) من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن معاوية بن قرة،
عن ابن عمر قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله منه صلاة إلا به، ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال: هذا وضوء القدر من الوضوء، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا أسبغ الوضوء، وهو وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم، ومن توضأ هكذا ثم قال عند فراغه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فتح له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
فالحديث ضعيف جداً، فيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وأبو زيد العمي ضعيفان، وسبق أن تكلمت على هذا الحديث وبينت الاختلاف في إسناده، وتكلمت على رجاله في حديث رقم (790) فأغنى عن إعادته هنا، فلله الحمد.
وأما ما رواه الترمذي (46) من طريق وكيع، عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي جعفر: حدثك جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة؟ قال: نعم.
ورواه الترمذي (45) ، وابن ماجه (410) والدارقطني (1/81) من طريق شريك عن ثابت به، وزاد: ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً، قال: نعم.
قال أبو عيسى: وهذا أصح من حديث شريك (يعني: لفظ وكيع) قال: لأنه قد روي من غير وجه هذا عن ثابت نحو رواية وكيع وشريك كثير الغلط. اهـ
وكلمة أصح لا تعني الصحة المطلقة، وإنما مقارنة بلفظ شريك، والحديث بطريقيه ضعيف؛ لأن مدار الإسنادين على ثابت بن أبي صفية، وهو رافضي ضعيف على أن ابن أبي شيبة رواه عن شريك في المصنف بلفظ وكيع (66) .
وروى أبو نعيم في الحلية (7/232) من طريق مسعر، عن أبي حمزة (ثابت بن أبي
صفية) به بلفظ وكيع.
وروى الطبراني في الأوسط (6542) من طريق الحارث بن عمران الجعفري، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه،
عن جابر قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة.
قال الطبراني لم يرو هذا عن جعفر إلا الحارث بن عمران. اهـ والحارث ضعيف، ورماه ابن حبان بالوضع.
ورى الطبراني في الأوسط (911) والدارقطني (1/81) من طريق الدراوردي، حدثنا عمر بن أبي عمر، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع،
عن أبي رافع، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه، وغسل رجليه ثلاثاً، ورأيته مرة أخرى توضأ مرة مرة.
قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي رافع إلا بهذا الإسناد، تفرد به الداروردي. اهـ
وعلته عمر بن أبي عمر الكلاعي، وهو ضعيف.
وروى النسائي في سننه (113) من طريق أبي جعفر المدني قال: سمعت ابن عثمان بن حنيف يعني عمارة قال:
حدثني القيسي أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأتي بماء فقال على يديه من الإناء فغسلهما مرة وغسل وجهه وذراعيه مرة مرة وغسل رجليه بيمينه كلتاهما.
وسنده ضعيف، فيه عمارة بن عثمان بن حنيف، قال الذهبي: لا يعرف.
وفي التقريب: مقبول.
وروى أحمد (2/28) ، وأبو يعلى الموصلي (5777) من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب،
كان ابن عمر يتوضأ ثلاثاً يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عباس يتوضأ مرة مرة يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والمطلب بن عبد الله بن حنطب لم يثبت سماعه من ابن عمر ولا من ابن عباس، قال البخاري فيما نقله العلائي في جامع التحصيل (774) : لا أعرف للمطلب بن حنطب عن أحد من الصحابة سماعاً، وقال أبو حاتم: عامة أحاديثه مراسيل، لم يدرك أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا سهل بن سعد وأنساً وسلمة بن الأكوع أو من كان قريباً منهم".
وقال في المراسيل (ص: 164) : لا ندري أنه سمع منهما أم لا (يعني: ابن عمر وابن عباس) .
وأخرجه الإمام أحمد (2/8) وابن ماجه (414) عن الوليد بن مسلم،
وأخرجه النسائي (81) وفي الكبرى (88) ، وابن حبان (1092) من طريق عبد الله بن المبارك، كلاهما عن الأوزاعي به، من مسند ابن عمر وحده.
وأخرجه الطيالسي في مسنده (2760) عن عبد الله بن المبارك.
وأخرجه أحمد (1/219) حدثنا الوليد بن مسلم، كلاهما عن الأوزاعي به، مسند ابن عباس وحده.
وقد ثبت الحديث من مسند ابن عباس عند البخاري (17) وسبق ذكره، انظر حديث (898) .(9/356)
وهو ظاهر القرآن فإن آية المائدة أمرت بغسل الأعضاء الأربعة، ولم تذكر عدداً، فمن غسل أعضاء الوضوء مرة واحدة فقد أدى ما افترض الله عليه، قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة(9/358)
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (1) .
وأما الدليل على استحباب مرتين مرتين.
(898-127) ما رواه البخاري، من طريق فليح بن سليمان، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عباد بن تميم،
عن عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين (2) .
وهذا الحديث غير حديث عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد فإن مخرج الحديث مختلف.
وله شاهد من حديث أبي هريرة،
(899-128) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن بن هرمز،
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) البخاري (158) .
(3) المصنف (1/18) .
(4) ومن طريق زيد بن الحباب أخرجه أحمد (2/288) أبو داود (136) ، والترمذي (43) ، وابن حبان (1049) ، والحاكم (1/150) والبيهقي (1/79)
ورواه ابن الجاورد في المنتقى (71) حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح ابن مسلم العجلي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به، بلفظ: ربما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ مثنى مثنى.
وعبد الرحمن بن ثوبان فيه ضعف من قبل حفظه، جاء في ترجمته:
عن أحمد أحاديثه مناكير. الجرح والتعديل (5/219) .
وقال مرة: لم يكن بالقوي في الحديث. تهذيب التهذيب (6/152) ضعفاء العقيلي (2/326) ، المغني في الضعفاء (2/377)
وقال ابن معين: صالح الحديث. الجرح والتعديل (5/219) .
وقال مرة: ضعيف وأبوه ثقة. الكامل (4/281) .
وقال أيضاً: ضعيف يكتب حديثه على ضعفه، وكان رجلاً صالحاً. المرجع السابق.
وقال ابن معين في رواية عباس: ليس به بأس. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق.
وقال العجلي: شامي لا بأس به. معرفة الثقات (2/73) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/92) .
وقال يعقوب بن شيبة: اختلف أصحابنا فيه، فأما يحيى بن معين فكان يضعفه، وأما علي ابن المديني فكان حسن الرأي فيه. تهذيب الكمال (17/15) .
وفي التقريب: صدوق يخطئ ورمي بالقدر، وتغير بآخره. اهـ
ولم أقف على من ميز حديثه قبل وبعد تغيره.
انظر طرق الحديث: إتحاف المهرة (19103) ، أطراف المسند (7/367) ، تحفة الأشراف (13940) .(9/359)
وأما الدليل على استحباب غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثاً،
(900-129) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى المازني،
عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثاً ثم(9/360)
غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه. ورواه مسلم (1) .
فهل كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً هل يفهم من ذلك أنه فعله لبيان الجواز، وأن الثلاث أفضل مطلقاً لكونها أكثر من غيرها؟ أو يكون ذلك من باب تنوع العبادة، ويكون الاستحباب أن يفعل هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة؟ قولان لأهل العلم.
فقيل: إن الثلاث أكمل من الثنتين، والثنتان أكمل من الواحدة والاقتصار على الواحدة دليل على الإجزاء.
قال النووي: قد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة، وأن الثلاث سنة، وقد جاءت الأحاديث بالغسل مرة مرة، ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً، وبعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين والاختلاف دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ.
والصحيح: أن ذلك من باب تنوع العبادة، وأن السنة أن يفعل كل هذه الأفعال؛ لإصابة السنة من جميع وجوهها الواردة، فإن الكمال أن يفعل المسلم ما يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (2) ، وتمام المتابعة أن يفعل هذا مرة، وهذا مرة، وهذا مرة كما فعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحتى لا تكون العبادة من قبيل العادة، شأنها شأن العبادات التي وردت من وجوه مختلفة كدعاء الاستفتاح وأنواع التشهد ونحوهما.
_________
(1) البخاري (185) ، ومسلم (235) .
(2) الأحزاب: 21.(9/361)
وهل تكرار هذه الأعضاء في بعضها مرة، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها ثلاث، هل هو على سبيل التشهي؟ أو السنة أن يكون التكرار موافقاً للتكرار الوارد في السنة؟ فما ورد أنه غسل مرة يغسل مرة، وما ورد أنه غسل مرتين يغسله مرتين وهكذا، لا شك أن الأولى الثاني، وإن فعل الأول فلا بأس حيث قد ورد غسل هذه الأعضاء من حيث الجملة مرة ومرتين وثلاثاً، والله أعلم.(9/362)
الفصل التاسع:
استحباب الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه
اعتبر الحنفية الاقتصاد في ماء الوضوء من آداب الوضوء (1) .
وقيل: إن كان الماء موقوفاً على من يتطهر أو يتوضأ فإن الإسرف حرام، وكذلك الزيادة على الثلاث، قال ابن نجيم من الحنفية: بلا خلاف (2) .
وقيل: الاسراف في ماء الوضوء مكروه، وعليه أكثر أهل العلم (3) .
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/23) : أن لا يسرف في الوضوء ولا يقتر , والأدب فيما بين الإسراف , والتقتير , إذ الحق بين الغلو والتقصير, قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خير الأمور أوسطها ". وانظر البحر الرائق (1/29) .
(2) انظر تحفة المحتاج (1/231) ، الفتاوى الهندية (1/8) وقال في البحر الرائق (1/30) : الإسراف: هو الاستعمال فوق الحاجة الشرعية, وإن كان على شط نهر، وقد ذكر قاضي خان تركه من السنن، ولعله الأوجه، فعلى كونه مندوباً لا يكون الإسراف مكروهاً، وعلى كونه سنة يكون مكروهاً تنزيها، وصرح الزيلعي بكراهته، وفي المبتغى أنه من المنهيات فتكون تحريمية وقد ذكر المحقق آخراً: أن الزيادة على ثلاث مكروهة, وهي من الإسراف , وهذا إذا كان ماء نهر أو مملوكاً له, فإن كان ماء موقوفاً على من يتطهر أو يتوضأ حرمت الزيادة والسرف بلا خلاف وماء المدارس من هذا القبيل; لأنه إنما يوقف ويساق لمن يتوضأ الوضوء الشرعي.
(3) وقال في مواهب الجليل (1/256) : من فضائل الوضوء أي مستحباته تقليل الماء من غير تحديد في ذلك , وكذلك الغسل يستحب فيه تقليل الماء من غير تحديد، قال في شرحه: (تنبيهات الأول) ما ذكره المصنف من أن تقليل الماء في الوضوء والغسل مستحب صرح به القاضي عياض في قواعده، والقرافي في الذخيرة، والشبيبي وغيرهم، وقاله في النوادر، وسيأتي لفظها، وأصل المسألة في المدونة، وفي رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الطهارة، قال في المدونة: وأنكر مالك قول من قال في الوضوء حتى يقطر الماء أو يسيل , وقد كان بعض من مضى يتوضأ بثلث المد. ولفظ الأم وسمعت مالكا يذكر قول الناس في الوضوء حتى يقطر أو يسيل , قال: فسمعته يقول: قطر قطر إنكاراً لذلك. الخ كلامه رحمه الله.
وقال النووي في المجموع (1/220) : والمشهور أنه مكروه كراهة تنزيه. يعني: الإسراف في الوضوء.
وانظر شرح منتهى الإرادت (1/87) ، كشاف القناع (1/103) .
قال ابن حزم في المحلى (مسألة: 208) : ويكره الإكثار من الماء في الغسل والوضوء , والزيادة على الثلاث في غسل أعضاء الوضوء ومسح الرأس ; لأنه لم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك.(9/363)
وقيل: يحرم، اختاره البغوي والمتولي من الشافعية (1) وأومأ إليه ابن تيمية (2) .
دليل من قال بالتحريم:
الدليل الأول:
(901-130) ما أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا
_________
(1) المجموع (1/220) .
(2) قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/224) : الذي يكثر صب الماء حتى يغتسل بقنطار ماء , أو أقل , أو أكثر: مبتدع مخالف للسنة , ومن تدين عوقب عقوبة تزجره وأمثاله عن ذلك , كسائر المتدينين بالبدع المخالفة للسنة.(9/364)
الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء.
] إسناده حسن، وزيادة (أو نقص) وهم من الراوي، وسبق
تخريجه [ (1) .
الدليل الثاني:
(902-131) ما رواه أحمد، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة،
أن عبد الله بن مغفل سمع ابناً له يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض من الجنة إذا دخلتها عن يميني، قال فقال له: يا بني سل الله الجنة، وتعوذه من النار؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سيكون من بعدي قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور (2) .
[رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعاً] (3) .
_________
(1) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.
(2) مسند أحمد (4/87) .
(3) حماد بن سلمة سمع من الجريري قبل الاختلاط، انظر الكواكب النيرات (ص:183) وتدريب الراوي (2/373) . إلا أن أبا نعامة لم يسمع من عبد الله بن مغفل، وإنما يروي عن ابن عبد الله بن مغفل، عن عبد الله بن مغفل، قال الذهبي في تلخيص المستدرك (1/162) :"فيه إرسال ".
واختلف على حماد بن سلمة،
فرواه عفان، وسليمان بن حرب، وعبد الصمد، وموسى بن إسماعيل، وكامل بن طلحة، كلهم رووه عن حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة، عن عبد الله بن مغفل، منقطع بين أبي نعامة، وبين عبد الله بن مغفل.
ورواه أحمد (4/86) عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أبي نعامة به. ورواية الجماعة أولى بالصواب.
ورواه ابن حبان (6763) أخبرنا الفضل بن حباب، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن عبد الله بن المغفل، فجعل بدلاً من أبي نعامة أبا العلاء، ورواية الجماعة أولى بالصواب، خاصة أن فيهم عفان، وقد قال يحيى بن معين: من أراد أن يكتب حديث حماد بن سلمة فعليه بعفان بن مسلم، ولم يتابع أبو الوليد الطيالسي في روايته عن حماد، وقد قال أبو حاتم في تهذيب الكمال في ترجمة أبي الوليد الطيالسي، بأن سماعه من حماد فيه شيء، وكأنه سمع منه بآخرة، وكان حماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/53) ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (3864) عن عفان.
وأخرجه أحمد (5/55) حدثنا عبد الصمد وعفان.
وأخرجه أبو داود (96) وابن ماجه (3864) والحاكم (1/162) عن موسى بن إسماعيل.
وأخرجه ابن حبان (6763) ، والحاكم (1/540) من طريق أبي الوليد الطيالسي.
وأخرجه البيهقي (1/196، 197) نا محمد بن أيوب، ثنا محمد بن إسماعيل به.
ورواه ابن حبان (6764) من طريق كامل بن طلحة كلهم عن حماد بن سلمة به.
كما أن له شاهداً من حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه أحمد (1/172) قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن زياد بن مخراق، قال سمعت أبا عباية،
عن مولى لسعد أن سعداً رضي الله تعالى عنه سمع ابناً له يدعو، وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، ونحو من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} الأعراف: 55. وإن حسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة، وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وأبو عباية: هو قيس بن عباية، وهو أبو نعامة، فحديث عبد الله بن مغفل، وحديث سعد مخرجه قيس بن عباية، وقد صرح الحسيني في الإكمال أن أبا عباية، هو قيس بن عباية، انظر الإكمال (732) ، وفي إسناد أبي يعلى، قال: " ابن عباية " بدلاً من أبي عباية.
وقال الحافظ في تعجيل المنفعة (1319) : " أبو عباية، عن مولى لسعد بن أبي وقاص، هو قيس بن عباية، وهو من رجال التهذيب ".
وقال الأثرم: سألت أحمد عنه - يعني زياد بن مخراق - فقال: ما أدري. قال: وقلت له روى حديث سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يكون بعدي قوم يعتدون في الدعاء، فقال: نعم، لم يقم إسناده اهـ.
والحديث ضعيف، له أكثر من علة.
العلة الأولى: الاختلاف في إسناده، فتارة يحدث به ابن عباية، من مسند عبد الله بن المغفل، وتارة يحدث به من مسند سعد.
العلة الثانية: جهالة مولى سعد بن أبي وقاص.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه أبو داود الطيالسي (200) قال: حدثنا شعبة، قال أخبرني زياد بن مخراق، قال: سمعت أبا عباية، شك أبو داود أن سعداً سمع ابنا له يقول: اللهم إني أسألك الجنة، وذكر الحديث. وسقط من إسناده مولى سعد. ومن طريق أبي داود أخرجه الدورقي (91) . وأخرجه ابن أبي شيبة (6/53) حدثنا عبيد بن سعد، عن شعبة به. وتصحفت عباية إلى صبابة.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (715) من طريق شبابة بن سوار، حدثنا شعبة به. وأخرجه الطبراني في الدعاء (55) من طريق عاصم، عن شعبه به.
وأخرجه أبو داود (1480) والطبراني في الدعاء (56) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة به غير أنه لم يذكر فيه مولى سعد بن أبي وقاص.
انظر طرق الحديث في أطراف المسند (4/242) ، تحفة الأشراف (9664) ، إتحاف المهرة (13432) .(9/365)
ولذلك قال ابن المبارك: لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم.(9/367)
وقال أحمد وإسحاق: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى. اهـ
يعني: مبتلى بمرض الوسوسة، أعاذنا الله وإياكم منها.
دليل من قال: بالكراهة.
قال الشوكاني: لا خلاف في كراهة الزيادة على الثلاث.
والحق أن في ذلك خلافاً على ما تبين، فمنهم من اعتبر الاقتصاد من الآداب التي يؤجر على فعلها، ولا يلزم من الإخلال بها الوقوع في المكروه كما يراه بعض الحنفية.
ولقد قال الشافعي في الأم: لا أحب للمتوضئ أن يزيد على الثلاث، وإن زاد لم أكرهه إن شاء الله تعالى.
ومنهم من رأى تحريم الزيادة كما حررت ذلك عند ذكر الأقوال.
دليل من اعتبر الاقتصاد من الآداب.
لعله رأى أن ترك السنة لا يلزم منه الوقوع في المكروه، وهذا حق لولا أنه جاء من الأحاديث ما يدل على ذم الزيادة على الثلاث، والله أعلم.
الراجح:
أما بالنسبة للعدد، فالزيادة على الثلاث إن لم تكن محرمة فهي مكروهة كراهة شديدة؛ لأنه قد ورد النهي عن الزيادة على الثلاث، وهو أكثر ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما بالنسبة لمقدار الماء المستعمل في الوضوء فلم يأت له حد من الشرع، بحيث لا يتجاوزه الإنسان، والناس يختلفون في هذا بدانة ونحافة، والمياه في عصرنا تأتي عن طريق الصنابير التي تدفع الماء دفعاً، لا يمكن معه(9/368)
التقيد بالمقدار الوارد إلا أن يأخذ الإنسان الماء في إناء، ويغلق الصنبور، وقد لا يتوفر الإناء في كل مكان، والأحاديث الواردة في مقدار وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها تدل على أن كمية الماء ليس فيها حد بمقدار معين، وإنما الأمر تقريبي.
أما قول الشيخ عز الدين بن عبد السلام: للمتوضئ والمغتسل ثلاث أحوال:
الأول: أن يكون معتدل الخلق كاعتدال خلقه - صلى الله عليه وسلم -، فيقتدي به في اجتناب النقص عن المد والصاع.
الثاني: أن يكون ضئيلاً نحيف الخلق، بحيث لا يعادل جسده جسد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيستحب له أن يستعمل ما تكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسده - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث: أن يكون متفاحش الخلق طولاً وعرضاً، وعظم البطن وثخانة الأعضاء، فيستحب أن لا ينقص عن مقدار تكون النسبة إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فاحتساب هذه النسبة التي ذكرها عز الدين بن عبد السلام من المشقة التي لم نؤمر بها، ومن يعرف دقة هذه النسبة، بل إن الآثار تدل على أن لا تقدير في الباب.
(903-132) فمنها حديث أنس رضي الله عنه، عند البخاري (1) ، ومسلم (2) ، ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد)) .
(904-133) ومنها حديث عائشة في مسلم، عن حفصة بنت عبد
_________
(1) رقم الحديث (201) .
(2) رقم الحديث (326) .(9/369)
الرحمن بن أبي بكر ((أن عائشة أخبرتها أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد، أو قريباً من ذلك)) (1) .
(905-134) ومنها حديث عبد الله بن زيد: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بثلثي مد، فتوضأ، فجعل يدلك ذراعيه (2) .
_________
(1) رقم الحديث (321) .
(2) أخرجه ابن حبان كما في الموارد (155) من طريق ابن أبي زائدة، عن شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد. ورجاله ثقات.
ورواه البيهقي (1/196) من طريق أبي زائدة به.
وأخرجه البيهقي أيضاً (1/196) من طريق سليمان بن داود، ثنا أبو خالد الأحمر، ثنا شعبة به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بنحو من ثلثي المد.
وأخرجه أبو داود الطيالسي (1099) ومن طريقه أحمد (4/39) حدثنا شعبة به، بلفظ: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فدلك ذراعيه..
ورواه ابن حبان كما في الموارد (156) من طريق يحيى بن سعيد، عن شعبة به، فذكر نحوه.
واختلف على شعبة فيه:
فرواه ابن أبي زائدة وأبو داود الطيالسي ويحيى بن سعيد وأبو خالد الأحمر عن شعبة كما سبق.
وخالفهم غندر (محمد بن جعفر) فرواه أبو داود (94) والنسائي (74) ، والبيهقي (1/196) أخبرنا محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن حبيب، قال: سمعت عباد بن تميم يحدث جدته، وهي أم عمارة بنت كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأتي بماء في إناء قدر ثلثي المد.
زاد النسائي: قال شعبة: فأحفظ أنه غسل ذراعيه، وجعل يدلكهما، ويمسح أذنيه باطنهما، ولا أحفظ أنه مسح ظاهرهما.
فجعل محمد بن جعفر الحديث من مسند أم عمارة.
قال ابن أبي حاتم في العلل (1/25) سألت أبا زرعة عن حديث رواه يحيى بن أبي زائدة وأبو داود عن شعبة، فذكر الحديث، ثم قال: ورواه غندر، عن شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن جدته أم عمارة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو زرعة: الصحيح عندي حديث غندر. اهـ
قلت: لعله رجح حديث غندر؛ لأنه من أثبت الناس عن شعبة.
ولأن حديث عبد الله بن زيد المشهور في الصحيحين وفي غيرهما لم يذكروا فيه الدلك ولا مقدار الماء، لكن هذا الاحتمال يبعد مع رواية يحيى بن سعيد، وهو من هو، وأيضاً ابن أبي زائدة والطيالسي وأبو خالد الأحمر، فلعل الحديث ثابت من الطريقين، ولعل عباداً سمعه من عمه، ومن جدته، والله أعلم.(9/370)
فتبين من هذه الأحاديث أن لا تقدير للوضوء بحد لا يجوز النقص عنه أو الزيادة عليه.
قال الحافظ في شرحه لحديث أنس المتقدم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، قال: فيه رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب - يعني الصاع والمد - كابن شعبان من المالكية وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم لهم في مقدار المد والصاع، وحمله الجمهور على الاستحباب؛ لأن أكثر من قدر وضوءه وغسله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة قدرهما بذلك، الخ كلامه رحمه الله (1) .
_________
(1) فتح الباري (201) .(9/371)
[صفحة فارغة](9/372)
الفصل العاشر:
في مسح العنق
قيل: يستحب في الوضوء مسح العنق، وهو مذهب الحنفية (1) ، وقول في مذهب الشافعية (2) ، ورواية عن أحمد (3) .
وقيل: لا يستحب، وهذا مذهب الجمهور، وهو الصحيح (4) .
دليل الحنفية على استحباب مسح العنق:
(906-135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال حدثني أبي قال: حدثنا ليث، عن طلحة، عن أبيه،
عن جده، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق بمرة (5) .
_________
(1) البحر الرائق (1/29) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 49) ، المبسوط (1/10) ، شرح فتح القدير (1/36) ، بدائع الصنائع (1/23) ، وهناك قول في مذهب الحنفية، أن مسح الرقبة بدعة، انظر شرح فتح القدير (1/36) .
(2) الوسيط للغزالي (1/288) ، روضة الطالبين (1/61) .
(3) شرح العمدة (1/193) .
(4) يرى المالكية كراهية مسح الرقبة، انظر حاشية الدسوقي (1/103) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/128) ، المنهج القويم (ص: 47) ، إعانة الطالبين (1/49) ، روضة الطالبين (1/61) ، مغني المحتاج (1/60) ، المبدع (1/112) ، الإنصاف (1/137) ، الروض المربع (1/48) .
(5) المسند (3/418) .(9/373)
قال: القذال السالفة العنق.
[إسناده ضعيف] (1) .
_________
(1) في إسناده ليث بن أبي سليم، قال فيه الحافظ: صدوق، اختلط جداً فلم يتميز، فترك.
وفي إسناده أيضاً والد طلحة، مصرف بن كعب، وقيل: ابن عمرو بن كعب، لم يرو عنه إلا ولده طلحة، ولم يوثقه أحد، ولذلك قال بن حجر في التقريب: مجهول.
وذكر أبو داود عن أحمد قوله: كان ابن عيينة ينكره، ويقول: إيش هذا طلحة عن أبيه عن جده، وكذلك حكى عثمان الدارمي عن علي بن المديني".اهـ انظر سنن البيهقي (1/51) ، وتلخيص الحبير (1/78) .
وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام كما في البدر المنير (3/284) : وعلة الخبر عندي الجهل بحال مصرف بن عمرو، والد طلحة بن مصرف ". اهـ
وفي إسناده جد طلحة، وقد اختلف هل له صحبة أم لا على قولين، سبق أن ذكرتهما في الكلام على حديث الفصل بين المضمضة والاستنشاق.
والحديث أخرجه أبو داود (132) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/30) ، والطبراني في الكبير (19/رقم 407، 408) من طريق عبد الوارث به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/27) عن حفص بن غياث، عن ليث به، بلفظ: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح رأسه هكذا، وأمر حفص بيديه على رأسه حتى مسح قفاه.
وهذا اللفظ لا اعتراض عليه موافق لحديث عبد لله بن زيد في الصحيح: " بدأ بمقدم رأسه حتى ذهبا بهما إلى قفاه.
وأخرجه البيهقي (1/60) من طريق طلق بن غنام وعمر بن حفص بن غياث، كلاهما عن حفص بن غياث بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مسح رأسه استقبل رأسه بيديه حتى يأتي على أذنيه وسالفته.
وأخرجه البيهقي (1/60) من طريق يحيى الحماني، ثنا حفص بن غياث، عن ليث به، بلفظ: ولفظه: أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث توضأ مسح رأسه وأذنيه، وأمر يديه على قفاه.
وقد ضعف إسناده كل من البيهقي والنووي والحافظ ابن حجر.
قال النووي في المجموع (1/488) ضعيف بالاتفاق، وانظر تلخيص الحبير (1/92) .(9/374)
الدليل الثاني:
(907-136) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى، أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ .
فقال عبد الله بن زيد: نعم، وفيه: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
قد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح قفاه عند مسح رأسه، والعنق يدخل في القفا.
ولا يصح هذا الاستدلال:
لأن قوله: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، فالضمير في قفاه يعود إلى أقرب مذكور، وهو الرأس، والعنق ليس من الرأس.
الدليل الثالث:
(908-137) قال أبو نعيم في تاريخ أصبهان: ثنا محمد بن أحمد، ثنا عبد الرحمن بن داود، ثنا عثمان بن خرزاد، ثنا عمر بن محمد بن الحسن، ثنا محمد بن عمرو الأنصاري، عن أنس بن سيرين،
عن ابن عمر أنه كان إذا توضأ مسح عنقه، ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:من توضأ، ومسح عنقه لم يغل بالأغلال يوم القيامة (2) .
[لا يثبت في مسح العنق حديث مرفوع] (3) .
_________
(1) البخاري (185) ، ومسلم (235) .
(2) تلخيص الحبير (1/93) .
(3) وقال ابن الملقن في البدر المنير (1/38) : غريب لا أعرفه إلا من كلام موسى بن طلحة، كذلك رواه أبو عبيد في غريبه. اهـ
وقد نقل إسناده الحافظ في تلخيص الحبير (1/92) ، فقال: ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور عن عبد الرحمن بن مهدي، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن موسى بن طلحة قال: من مسح قفاه مع رأسه وقي الغل يوم القيامة.
قال الحافظ: فيحتمل أن يقال: هذا وإن كان موقوفاً فله حكم الرفع؛ لأن هذا لا يقال من قبل الرأي، فهو على هذا مرسل. اهـ
قلت: والمرسل من قبيل الضعيف.
وروي بلفظ: مسح العنق أمان من الغل.
قال ابن الملقن في البدر المنير (1/38) : لا يعرف مرفوعاً وإنما هو قول بعض السلف، وقال النووي في شرح أعطى وغيره موضوع. اهـ
وقال النووي في كلامه على الوسيط نقلاً من البدر المنير (1/38) : لا يصح في مسح الرقبة شيء.
وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/195) ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة. اهـ(9/375)
دليل الجمهور على عدم استحباب مسح العنق.
قالوا: لم يثبت في مسح العنق شيء، والأصل عدم المشروعية، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد فيه مسح العنق، وإذا لم يثبت فيه شيء كان التقرب به بدعة للحديث من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، وهذا القول هو الصحيح.(9/376)
مبحث:
في كيفية مسح العنق عند القائلين به
اختلف القائلون باستحباب مسح الرقبة، هل تمسح ببقية ماء الرأس أو بماء جديد؟ على قولين.
فمنهم من رأى أنها تمسح بماء الرأس، باعتبار أن الرقبة تابعة للرأس حكماً فهي عضو طهارته مسحه، ومتصلة بالرأس كاتصال الأذنين به.
ومنهم من رأى أنها تمسح بماء جديد، فالخلاف فيها كالخلاف في الأذنين (1) .
وقد ترجح أن الرقبة لا يشرع في حقها المسح، ولو كان مشروعاً لمسحت بماء الرأس كما هو الراجح في الأذنين والله أعلم.
_________
(1) انظر نيل الأوطار (1/204) ، وقال ابن الهمام (1/36) ومسح الرقبة مستحب بظهر اليدين لعدم استعمال بلتهما.(9/377)
[صفحة فارغة](9/378)
الفصل الحادي عشر:
من سنن الوضوء دلك أعضاء الوضوء
اختلف العلماء في حكم دلك أعضاء الوضوء:
فذهب الجمهور إلى أن الدلك مستحب في طهارة الحدث، وليس بواجب (1) .
وقيل: الدلك شرط، وإلى هذا ذهب مالك (2) ، والمزني (3) ،
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/552) ، وفي الفتاوى الهندية (1/9) اعتبروا الدلك من آداب الوضوء. وفي حاشية ابن عابدين (1/123) من السنن.
وقال النووي في المجموع (1/417) : لا يجب إمرار اليد على الوجه ولا غيره من الأعضاء لا في الوضوء ولا في الغسل لكن يستحب , هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. اهـ وانظر المغني (1/290) ، والإنصاف (1/135) ، المحلى (مسألة: 115) .
(2) المدونة (1/132، 133) ، وقال في مواهب الجليل (1/218) : وقد اختلف في الدلك هل هو واجب أو لا على ثلاثة أقوال؟ المشهور الوجوب وهو قول مالك في المدونة بناء على أنه شرط في حصول مسمى الغسل، قال ابن يونس: لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها " وادلكي جسدك بيدك " والأمر على الوجوب, ولأن علته إيصال الماء إلى جسده على وجه يسمى غسلا , وقد فرق أهل اللغة بين الغسل والانغماس.
والثاني: نفي وجوبه لابن عبد الحكم، بناء على صدق اسم الغسل بدونه.
والثالث: أنه واجب لا لنفسه، بل لتحقق إيصال الماء، فمن تحقق إيصال الماء لطول مكث أجزأه، وعزاه اللخمي لأبي الفرج، وذكر ابن ناجي أن ابن رشد عزاه له، وعزا ابن عرفة القول الثاني لأبي الفرج وابن عبد الحكم، قال في التوضيح: ورأى بعضهم أن هذا راجع إلى القول بسقوط الدلك, والخلاف في الغسل كالخلاف في الوضوء، قال ابن عرفة: وظاهر كلام أبي عمر بن عبد البر أن الخلاف في الغسل فقط دون الوضوء أي: فيجب فيه بلا خلاف.
قال ابن ناجي: وحكى المسناوي قولا بأنه سنة، ولا أعرفه، فيتحصل في ذلك أربعة أقوال. (قلت) : بل خمسة والخامس: التفرقة بين الوضوء والغسل. وانظر الخرشي (1/126) ، حاشية العدوي (1/186) ، حاشية الدسوقي (1/90) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/110، 111) .
(3) المجموع (1/214) .(9/379)
وهو مذهب عطاء رحمه الله (1) .
دليل الجمهور:
الدليل الأول:
(909-138) ما رواه البخاري بإسناده عن عمران بن حصين من حديث طويل، وفيه:
صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك، ثم قال له بعد أن حضر الماء: اذهب فأفرغه عليك. الحديث (2) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب منه إلا إفراغ الماء على جسده، ولو كان الدلك شرطاً في الطهارة لأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم -، خاصة أنه كان يجهل أن التيمم رافع للحدث، وتأخير البيان عن وقته لا يجوز.
الدليل الثاني:
(910-139) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة،
_________
(1) المغني (1/290) .
(2) صحيح البخاري (344) .(9/380)
عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (1) .
فقوله: ((إنما كان يكفيك)) ساقه مساق الحصر، وقوله: ((ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين)) دليل أن الدلك ليس شرطاً في الطهارة وإلا لما طهرت بمجرد إفاضة الماء، وإذا لم يكن الدلك شرطاً في الطهارة الكبرى لم يكن شرطاً في الطهارة الصغرى من باب أولى.
الدليل الثالث:
من النظر، قال ابن قدامة: ((ولأنه غسل واجب، فلم يجب فيه إمرار اليد كغسل النجاسة)) اهـ.
ولأنه لا يقصد من غسل الجنابة النظافة، بدليل أنه لو اغتسل وتنظف بالمنظفات، ثم جامع وجب عليه الغسل، فالمراد به التعبد، فلا يكون الدلك شرطاً فيه.
دليل المالكية على وجوب الدلك.
قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء، والدلك شرط في حصول مسمى الغسل، فلا يكون هناك غسل إلا إذا كان معه دلك، فليس المطلوب هو وصول الماء إلى هذه الأعضاء، بل المطلوب إيصال الماء إلى الجسد على وجه يسمى غسلاً، ولا يتحقق هذا إلا بالدلك (2) .
_________
(1) مسلم (330) .
(2) مواهب الجليل بتصرف يسير (1/218) .(9/381)
قال عطاء في الجنب يفيض عليه الماء؟ قال: لا، بل يغتسل غسلاً؛ لأن الله تعالى قال: {حتى تغتسلوا} ولا يقال: اغتسل إلا لمن دلك نفسه (1) .
وهذا القول ليس عليه دليل، والصحيح أن الغسل هو جريان الماء على العضو وقد شهد لذلك حديث عمران بن الحصين وحديث أم سلمة المتقدمان.
قال ابن حزم: من غمس أعضاء الوضوء في الماء ونوى به الوضوء للصلاة , أو وقف تحت ميزاب حتى عمها الماء ونوى بذلك الوضوء للصلاة, أو صب الماء على أعضاء الوضوء للصلاة, أو صب الماء على أعضاء الوضوء غيره ونوى هو بذلك الوضوء للصلاة أجزأه. برهان ذلك أن اسم ((غسل)) يقع على ذلك كله في اللغة التي بها نزل القرآن, ومن ادعى أن اسم الغسل لا يقع إلا على التدلك باليد فقد ادعى ما لا برهان له به (2) .
الدليل الثاني:
القياس على طهارة التيمم، قال المزني: ولأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذلك هنا.
وأجيب:
قال ابن قدامة: وأما قياسه على التيمم فبعيد؛ لأن التيمم أمرنا فيه بالمسح، والمسح لا يكون إلا باليد، ويتعذر في الغالب إمرار التراب إلا باليد.
_________
(1) المغني (1/290) .
(2) المحلى (مسألة: 115) .(9/382)
الفصل الثاني عشر:
في إطالة الغرة والتحجيل
المبحث الأول:
في تعريف الغرة والتحجيل
الغُرة: بالضم بياض في الجبهة. وفي الصحاح في جبهة الفرس. وقال ابن سيده: وعندي: أن الغرة نفس القدر الذي يشغله البياض من الوجه، لا أنه البياض.
وقيل: الأغر: الأبيض من كل شيء. ثم استعيرت , فقيل في أكْرَم كلّ شيء: غُرّته وفلان غرة قومه: أي سيدهم. ورجل أغر: أي شريف. وغُرَّةُ كل شيء أوله وأكرمه.
والغُرَّةُ: العبد والأمة وفي الحديث قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغُرّة. وكأنه عبَّر عن الجسم كله بالغُرَّة.
ورجل غِرٌّ بالكسر وغَرِيرٌ أي غير مُجرب وجارية غِرَّةٌ وغَرِيرَةٌ وغِرٌّ أيضا بيِّنة الغَرَارَةُ بالفتح وقد غَرَّ يغِر بالكسر غَرَارَةً بالفتح.
والاسم: الغِرَّةُ بالكسر والغِرّة أيضا الغفلة (1) .
والتحجيل: المحجل: هو: هو الذي يَرْتَفع البياض في قَوائمه إلى مَوْضِع القَيْد, ويُجَاوِز الأرْسَاغ ولا يُجِاوِز الركْبَتَيْن , لأنَّهُما مواضِع الأحْجَال وهي الخَلاخِيل والقُيُود, ولا يكون التَّحْجيل باليد واليدين ما لم يكُنْ معَها رِجْل أو رِجْلاَن.
_________
(1) لسان العرب (5/14) ، مختار الصحاح (ص: 197) ، الفائق (3/62) .(9/383)
ومنه الحديث أمَّتي الغُرُّ المُحَجَّلُون أي بيضُ مَواضع الوُضوء من الأيْدي والوجْه والأقْدام, اسْتَعار أثرَ الوضوء في الوجْه واليَدَين والرّجْلين للإنسان من البَياضِ الذي يكون في وجْه الفَرس ويَدَيْه ورجْلَيْه.
وفي حديث علي رضي الله عنه أنه قال له رجُل: إنّ اللُّصُوص أخَذُوا حِجْلَي امْرَأتي أي خَلْخَالَيه (1) .
قال العلماء: سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلاً تشبيهاً بغرة الفرس.
وتطويل الغرة: قيل: هو غسل شيء من مقدم الرأس وما يجاوز الوجه زائد على الجزء الذي يجب غسله؛ لاستيقان كمال الوجه، وأما تطويل التحجيل: فهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين.
_________
(1) النهاية في غريب الحديث (1/346) ، لسان العرب (11/144) .(9/384)
المبحث الثاني:
خلاف العلماء في استحباب إطالة الغرة والتحجيل.
اختلف أهل العلم في إطالة الغرة والتحجيل،
فقيل: تشرع إطالة الغرة والتحجيل، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: لا يشرع إطالتهما، وهو مذهب المالكية (4) ، واختاره ابن القيم (5) .
وقيل: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة (6) .
دليل من قال: تشرع إطالة الغرة والتحجيل.
(911-140) ما رواه مسلم من طريق نعيم بن عبد الله المجمر، قال:
رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم
_________
(1) اعتبر الحنفية إطالة الغرة والتحجيل من آداب الوضوء، انظر شرح فتح القدير (1/36) ، حاشية ابن عابدين (1/130) ،
(2) المجموع (1/458، 460) ، أسنى المطالب (1/40) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/63) .
(3) كشاف القناع (1/101) ، الإنصاف (1/168) ، المغني (1/74) .
(4) كره المالكية الزيادة على المحل المفروض، واعتبروه من الغلو ومجاوزة الحد، وفسروا إطالة الغرة: أي بمداومة الوضوء. انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/128) ، التاج والإكليل (1/384) ، حاشية الدسوقي (1/103) ، منح الجليل (1/95، 96) .
(5) زاد المعاد (1/196) .
(6) المجموع (1/459) .(9/385)
مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله (1) .
دليل من قال: لا تشرع إطالتهما.
من ذهب إلى أن الغرة والتحجيل لا يشرعان في الوضوء رأى أن لفظ: فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله مدرجة في الحديث، وأن هذا اللفظ من قول أبي هريرة.
قال الحافظ رحمه الله: ((لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه - يعني: نعيم بن عبد الله المجمر، عن أبي هريرة)) (2) . اهـ
وقال ابن القيم: ((لم يثبت عنه - أي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - أنه تجاوز المرفقين والكعبين، ولكن أبو هريرة كان يفعل ذلك، ويتأول حديث إطالة الغرة، وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين، ورجليه حتى أشرع في الساقين فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة)) اهـ (3) .
_________
(1) مسلم (246) ، ورواه البخاري (136) ومسلم (246) من طريق نعيم به، بلفظ: إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل.
(2) فتح الباري (1/236) .
(3) زاد المعاد (1/196) .(9/386)
والذي يدل على أنه فهمٌ من أبي هريرة،
(912-141) ما رواه مسلم، من طريق أبي حازم، قال:
كنت خلف أبي هريرة، وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ!! أنتم ها هنا؟ لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (1) .
وفي البخاري عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، ((ثم دعا بتور من ماء، فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: أشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: منتهى الحلية)) (2) .
ففهم أبو هريرة أن الحلية ممكن زيادتها إذا زيد في غسل اليدين والرجلين، مع أن لفظ الحديث تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء: المقصود به الوضوء الشرعي المحدود في كتاب الله سبحانه، بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجاوز الحد الذي حده الله له في قوله: {وأيديكم إلى المرافق} {وأرجلكم إلى الكعبين} ، والله أعلم.
دليل من قال: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة.
قالوا: أولاً: أن إطالة الغرة جاء بلفظ قال فيه المحققون: بأنه مدرج من كلام أبي هريرة، لكن إطالة التحجيل جاء بلفظ مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -،
(913-142) ففي مسلم من طريق نعيم بن عبد الله المجمر، قال:
_________
(1) مسلم (250) .
(2) البخاري (5953) .(9/387)
رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ.....الحديث (1) .
فقوله: ((هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ)) دليل على أن هذا الوضوء بهذه الصفة مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس مدرجاً من كلام أبي هريرة.
ولكن سبق جواب ابن القيم عليه، فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة، والله أعلم.
ثانياً: لا يمكن الإطالة إلا في اليد والساق، بخلاف الوجه؛ فإن الوجه يجب استيعابه (2) .
الراجح:
بعد استعراض الأقوال نجد أن القول بعدم المشروعية أقوى وأرجح من حيث الدليل، والله أعلم.
_________
(1) مسلم (246) .
(2) وتعقبه الرافعي كما في المجموع (1/459) : بأن الإطالة في الوجه أن يغسل إلى اللبة وصفحة العنق. اهـ وهذه الزيادة بهذا المقدار تحتاج إلى توقيف، ولا دليل عليه، والله أعلم.(9/388)
الفصل الثالث عشر:
في تنشيف أعضاء الوضوء بمنديل ونحوه
ذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والحنابلة (3) ، إلى أنه لا بأس بالتمسح بالمنديل بعد الوضوء والغسل، وهو قول في مذهب الشافعية (4) .
وقيل: يكره في الوضوء والغسل، وهو رواية في مذهب الحنابلة (5) .
وقيل: يكره في الوضوء دون الغسل، وهو قول ابن عباس (6) .
وفي مذهب الشافعية خمسة أوجه، ذكرها النووي، وهي:
أشهرها: أن المستحب تركه، ولا يقال فعله مكروه.
والثاني: أنه مكروه.
والثالث: أنه مباح يستوي فعله وتركه.
والرابع: أنه مستحب لما فيه من الاحتراز من الأوساخ.
والخامس: يكره في الصيف دون الشتاء (7) .
_________
(1) المبسوط (1/73) ، تبيين الحقائق (1/7) ، حاشية ابن عابدين (1/363) .
(2) المدونة (1/125) ، الخرشي (1/140) ، حاشية الدسوقي (1/104) ، منح الجليل (1/97) .
(3) المغني (1/95) الفروع (1/156) ، الإنصاف (1/166) ، كشاف القناع (1/106) .
(4) المجموع (1/486) .
(5) الإنصاف (1/166) .
(6) رواه ابن أبي شيبة (1/138) رقم 1594، قال: حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: يتمسح من طهور الجنابة، ولا يتمسح من طهور الصلاة. اهـ
(7) المجموع (1/486) ، أسنى المطالب (1/42) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/63) ، نهاية المحتاج (1/195) .(9/389)
وقبل ذكر الآثار في المسألة ينبغي أن يعلم ما يأتي:
أولاً: أن الإجماع منقول على أن التنشيف لا يحرم، نقل الإجماع المحاملي.
ثانياً: إذا كان هناك حاجة إلى التنشيف فلا كراهة قطعاً، كما لو كان هناك برد شديد.
دليل من قال: بكراهة التنشيف.
(914-143) ما رواه البخاري، حدثنا يوسف بن عيسى، قال: أخبرنا الفضل بن موسى، قال: أخبرنا الأعمش، عن سالم، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس،
عن ميمونة قالت: وَضَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءاً لجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء، ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض بيده (1) .
وفي رواية ثم أتي بمنديل فلم ينفض بها (2) .
ولفظ مسلم: ثم أتيته بالمنديل فرده (3) .
_________
(1) البخاري (274) .
(2) البخاري (259) .
(3) مسلم (317) .(9/390)
وأجيب بما يلي:
قال ابن رجب: استدل بعضهم برد النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوب على كراهة التنشيف، ولا دلالة فيه على الكراهة، بل على أن التنشيف ليس مستحباً، ولا أن فعله هو أولى، ولا دلالة للحديث على أكثر من ذلك، كذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء. اهـ
وقال ابن حجر: استدل بعضهم بقوله: ((فناولته ثوباً فلم يأخذه)) على كراهة التنشيف بعد الغسل، ولا حجة فيه؛ لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عد الأخذ لأمر أخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلاً، أو غير ذلك. قال المهلب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ، وقال أيضاً عن ابن دقيق العيد بأن نفضه الماء بيديه يدل على أن لا كراهة للتنشيف؛ لأن كلاً منهما إزالة. وقال إبراهيم النخعي: إنما رده لئلا تصير عادة)) . اهـ
قلت: كل هذه الاحتمالات واردة وإن كان الأصل عدمها، وأجود ما يقال: بأن رده للتنشيف يدل على عدم استحبابه، لكن لا يصيره مكروهاً، فلو تنشف الإنسان لم نجزم بالكراهة، ولم نقف على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تركه تعبداً، والله أعلم.
وقد ذكر لي بعض الإخوة أنه وقف على كلام لبعض الأطباء بأن خلايا الجلد تنتفع ببقاء الماء عليها بعد الوضوء والغسل، وأن إزالة الماء بخرقة ونحوها يفقد خلايا الجلد انتفاعه بالماء، فإن صح هذا الكلام فلا يبعد أن يستحب بقاء الماء بعد الوضوء، وإذا رغب الإنسان بإزالته ألا يزيله بخرقة وإنما يسلته سلتاً وهذا لا يفقد الجلد انتفاعه بالرطوبة الحاصلة بالماء، والله أعلم.(9/391)
دليل من قال: يشرع التنشيف.
(915-144) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا رشدين بن سعد، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عتبة بن حميد، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم،
عن معاذ بن جبل قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وإسناده ضعيف، ورشدين بن سعد وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي يضعفان في الحديث (1) .
_________
(1) سنن الترمذي (54) .
والحديث رواه البزار (2652) والطبراني في المعجم الأوسط (4182) البيهقي (1/236) من طريق رشدين بن سعد به.
ورشدين بن سعد جاء في ترجمته:
ضعفه أحمد بن حنبل، وقدم ابن لهيعة عليه. الجرح والتعديل (3/513) .
وقال يحيى بن معين، كما في رواية ابن أبي خيثمة عنه: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال على بن الحسين بن الجنيد: سمعت ابن نمير يقول: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: رشدين بن سعد منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث، ما أقربه من داود بن المحبر، وابن لهيعة أستر، ورشدين أضعف. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال قتيبة: كان لا يبالي ما دفع إليه فيقرأ هـ. التاريخ الكبير (3/337) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (203) .
وقال ابن رشدين: كان ضعيفاً. الطبقات الكبرى (7/517) .
وقال ابن عدي: ورشدين بن سعد له أحاديث كثيرة غير ما ذكرت، وعامة أحاديثه عن من يرويه عنه ما أقل فيها ممن يتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (3/149) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. (2/66) .
وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، جاء في ترجمته:
قال أحمد بن حنبل: ليس بشيء. الجرح والتعديل (5/234) .
وقال أبو زرعة: ليس بقوي. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق.
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (361) .
وقال يحيى بن معين: ضعيف يكتب حديثه، وإنما أنكر عليه الأحاديث الغرائب التي يحدثها، وقال مرة: ليس به بأس، وهو ضعيف.
وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وفي حديثه ضعف.
وقال ابن عدي: عامة حديثه لا يتابع عليه. الكامل (4/280) .
وقال الحربي: غيره أوثق منه. تهذيب التهذيب (6/159) .
ومن العلماء من حاول تقويته. قال الترمذي: ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن معين وغيره، ورأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث. تهذيب الكمال (17/108) .
وقال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: يحتج بحديث الإفريقي؟ قال: نعم. قلت: صحيح الكتاب؟ قال: نعم. تهذيب الكمال (17/107) .
وقال أبو الحسن القطان: كان من أهل العلم والزهد، بلا خلاف بين الناس، ومن الناس من يوثقه، ويربأ به عن حضيض رد الرواية، والحق فيه أنه ضعيف، لكثرة رواية المنكرات، وهو أمر يعتري الصالحين. اهـ تهذيب التهذيب (6/159) .
وكلام ابن القطان قد لخص ما قيل فيه. ونحوه قول ابن حجر في التقريب: ضعيف في حفظه، وكان رجلاً صالحاً.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (20/68) قال: حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني الأحوص بن حكيم، عن محمد بن سعيد، عن عبادة ابن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم،
عن معاذ بن جبل، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على وجهه بطرف ثوبه في الوضوء.
وهذا إسناد موضوع، فيه محمد بن سعيد المصلوب، وقد اتهم بالوضع.
انظر تحفة الأشراف (11335) .(9/392)
الدليل الثاني:
(916-145) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا سفيان بن وكيع بن الجراح حدثنا عبد الله بن وهب عن زيد بن حباب عن أبي معاذ عن الزهري عن عروة
عن عائشة قالت: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقة ينشف بها بعد الوضوء.
قال أبو عيسى: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء، وأبو معاذ يقولون: هو سليمان بن أرقم، وهو ضعيف عند أهل الحديث (1) .
_________
(1) سنن الترمذي (53) .
ورواه الدارقطني (1/110) من طريق يونس بن عبد الأعلى.
وابن عدي في الكامل (3/251) من طريق أبي الطاهر.
والحاكم (1/154) ومن طريقه البيهقي (1/185) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب به.
وقد جزم الدارقطني بأن أبا معاذ: هو سليمان بن أرقم، قال: وهو متروك، وقال مثله البيهقي. وقال ابن عدي أيضاً: أبو معاذ: هو سليمان بن أرقم.
وخالفهم الحاكم، فقال: أبو معاذ: هو الفضل بن ميسرة بصري روى عنه يحيى بن سعيد، وأثنى عليه. اهـ
والصواب أنه سليمان بن أرقم.
أولاً: لأن الدارقطني - وحسبك به - وابن عدي والبيهقي ومال الترمذي إلى ذلك، كلهم يرى أنه سليمان بن أرقم.
ثانياً: لو كان الزهري من شيوخ الفضل بن ميسرة لذكر مع شيوخه، فلا يهمل شيخ مثل الزهري، كما لم يذكر أن زيد بن الحباب من تلاميذه، وقد ذكروا في ترجمة سليمان بن أرقم أنه روى عن الزهري، وعنه زيد بن الحباب، فهذه قرينة ترجح أن أبا معاذ: هو سليمان ابن أرقم.
فالإسناد ضعيف جداً، والله أعلم.
انظر إتحاف المهرة (22080) ، تحفة الأشراف (16457) .(9/394)
الدليل الثالث:
(917-146) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا العباس بن الوليد وأحمد بن الأزهر قالا: حدثنا مروان بن محمد، حدثنا يزيد بن السمط، حدثنا الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة،
عن سلمان الفارسي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فقلب جبة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (468) .
(2) وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (657) وفي الصغير (1/12) من طريق محمد ابن مروان به.
والحديث له علتان:
الأولى: الانقطاع، فإن محفوظ بن علقمة لم يُثْبِت أحد سماعه من سلمان رضي الله عنه، وقال المزي وابن حجر في ترجمة محفوظ: روى عن سلمان، ويقال: مرسل.
قال البوصيري: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وفي سماع محفوظ عن سلمان نظر.
العلة الثانية: سوء حفظ الوضين بن عطاء، فقد جاء في ترجمته:
وقال الوليد بن مسلم: كان صاحب خطب، ولم يكن في الحديث بذاك. ضعفاء العقيلي (4/329) .
وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. تهذيب الكمال (30/451) .
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: واهي الحديث. أحوال الرجال (299) .
وقال أبو حاتم: تعرف وتنكر. الجرح والتعديل (9/50) .
وقال إبراهيم الحربي: غيره أوثق منه. تاريخ بغداد (13/512) .
وقال أحمد: ثقة، ليس به بأس. الجرح والتعديل (9/50) .
وقال يحيى بن معين: لا بأس به. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأساً. الكامل (7/88) .
وقال عبد الرحمن بن إبراهيم: ثقة. المرجع السابق.
وقال أبو داود: صالح الحديث. تاريخ بغداد (13/512) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/564) .
وفي التقريب: صدوق سيء الحفظ، ورمي بالقدر.(9/395)
الدليل الرابع:
(918-147) ما رواه البيهقي من طريق أبي زيد النحوي، ثنا أبو عمرو بن العلاء، عن أنس بن مالك،
عن أبي بكر الصديق، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له خرقة يتنشف بها بعد الوضوء.
[إسناده شاذ] (1) .
وكل هذه الأحاديث لا يثبت منها شيء، والحال كما قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء (2) .
_________
(1) قال البيهقي: وإنما رواه أبو عمرو بن العلاء، عن إياس بن جعفر، أن رجلا حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له خرقة أو منديل فكان إذا توضأ مسح بها وجهه ويديه.
أخبرنا أبو الحسن بن أبي المعروف الفقيه، أنا أبو سهل بشر بن أحمد الإسفرائيني، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، ثنا القواريري، ثنا عبد الوارث، عن أبي عمرو بن العلاء، عن إياس بن جعفر فذكره، وهذا هو المحفوظ من حديث عبد الوارث.
(2) سنن الترمذي (53) .(9/396)
الفصل الرابع عشر:
يستحب تجديد الوضوء
يستحب تجديد الوضوء، وهو أن يكون على وضوء ثم يتوضأ من غير أن يحدث ومتى يستحب؟ .
فيه أقوال:
الأول: يستحب له التجديد مطلقاً، حتى ولو لم يمضي زمن يحصل به التفريق بين الوضوء الأول والوضوء الثاني، وهو قول في مذهب الحنفية (1) .
_________
(1) قال ابن عابدين في حاشيته (1/119) : مطلب في الوضوء على الوضوء (قوله: أو لقصد الوضوء على الوضوء) أي بعد الفراغ من الأول بحر.
وفي التتارخانية عن الناطفي: لو زاد على الثلاث فهو بدعة, وهذا إذا لم يفرغ من الوضوء ; أما إذا فرغ ثم استأنف الوضوء فلا يكره بالاتفاق اهـ ومثله في الخلاصة.
وعارض في البحر دعوى الاتفاق بما في السراج من أنه مكروه في مجلس واحد، وأجاب في النهر بأن ما مر فيما إذا أعاده مرة واحدة , وما في السراج فيما إذا كرره مرارا , ولفظه في السراج: لو تكرر الوضوء في مجلس واحد مرارا لم يستحب , بل يكره لما فيه من الإسراف فتدبر اهـ.
قلت، والقائل ابن عابدين: لكن يرد ما في شرح المنية الكبير حيث قال: وفيه إشكال لإطباقهم على أن الوضوء عبادة غير مقصودة لذاتها فإذا لم يؤد به عمل مما هو المقصود من شرعيته كالصلاة وسجدة التلاوة ومس المصحف ينبغي أن لا يشرع تكراره قربة; لكونه غير مقصود لذاته فيكون إسرافا محضاً , وقد قالوا في السجدة لما لم تكن مقصودة: لم يشرع التقرب بها مستقلة وكانت مكروهة, وهذا أولى. اهـ. أقول (القائل ابن عابدين) : ويؤيده ما قاله ابن العماد في هديته، قال في شرح المصابيح: وإنما يستحب الوضوء إذا صلى بالوضوء الأول صلاة , كذا في الشرعة والقنية. اهـ. وكذا ما قاله المناوي في شرح الجامع الصغير للسيوطي عند حديث " من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " من أن المراد بالطهر الوضوء الذي صلى به فرضا أو نفلا كما بينه فعل راوي الخبر وهو ابن عمر , فمن لم يصل به شيئا لا يسن له تجديده. اهـ. ومقتضى هذا كراهته , وإن تبدل المجلس ما لم يؤد به صلاة أو نحوها لكن ذكر سيدي عبد الغني النابلسي أن المفهوم من إطلاق الحديث مشروعيته ولو بلا فصل بصلاة أو مجلس آخر , ولا إسراف فيما هو مشروع, أما لو كرره ثالثاً أو رابعاً فيشترط لمشروعيته الفصل بما ذكر , وإلا كان إسرافا محضا اهـ فتأمل.
قلت: قوله إن الوضوء ليس مقصوداً لذاته غير صحيح، بل الصحيح أن الوضوء عبادة مقصودة لذاته، وقد يكون شرطاً لغيره. وهي مسألة مستقلة لعلي أتطرق إليها في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى.(9/397)
وقال النووي: فيه خمسة أوجه: أصحها إن صلى بالوضوء الأول فرضا أو نفلا وبه قطع البغوي.
والثاني: إن صلى فرضاً استحب وإلا فلا، وبه قطع الفوراني.
- قلت: وهذان القولان قولان أيضاً في مذهب المالكية - (1) .
_________
(1) في مذهب المالكية قولان: أحدهما: إن صلى به فرضاً، وهو اختيار القاضي عياض.
والثاني: إن صلى به صلاة فرضاً كانت أو نافلة. انظر التاج والإكليل (1/440) ، الخرشي (1/138) .
وقال في مواهب الجليل (1/303) : " وتجديد وضوء إن صلى به ": ظاهره صلى به فريضة أو نافلة ولو ركعتين فقط، أو طاف به سبعاً، وهو كذلك قال في الطراز في باب أحكام النية: (فرع) روى معن عن مالك فيمن توضأ لنافلة. قال: أحب إلي أن يتوضأ لكل صلاة، وهذا يوهم بظاهره أن الوضوء للنافلة لا يستباح به غيرها وليس كذلك، وقد فسره سحنون في كتاب ابنه فقال: معناه أنه يستحب له طهر على طهر لا على الإيجاب، يريد كما يستحب أن يجدد للفرض طهراً استحب أيضا في النافلة مثله, انتهى.
وقال اللخمي في أوائل تبصرته: ولا فضيلة في تكرار الغسل عقيب الغسل، ولا عند كل صلاة، فهو في ذلك بخلاف الوضوء، إلا ما وردت فيه السنة من الاغتسال للجمعة والعيدين والإحرام ودخول مكة ووقوف عرفة, انتهى.
وقال القاضي عياض: الوضوء الممنوع تجديده قبل أداء فريضة به وفي شرح الرسالة للشبيبي في الوضوء المستحب وتجديده لكل صلاة بعد صلاة فرض ثم قال: الممنوع لثلاثة أشياء تجديده قبل صلاة فرض به والزيادة على الثلاثة وفعله لغير ما شرع له أو أبيح , انتهى. قال ابن العربي في العارضة: اختلف العلماء في تجديد الوضوء لكل صلاة فمنهم من قال: يجدد إذا صلى وفعل فعلا يفتقر إلى الطهارة وهم الأكثرون , ومنهم من قال: يجدد وإن لم يفعل فعلا يفتقر إلى الطهارة, انتهى.
وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة في قوله: فعليه أن يتأهب لذلك بالوضوء وبالطهر إن وجب عليه الطهر، وإنما شرط في الاستعداد بالغسل وجوبه دون الوضوء ; لأن الاستعداد به يكون دون وجوب إذ يستحب تجديده لكل صلاة فرض بعد صلاته به، وقيل: يشترط كونها فرضا بخلاف الغسل فإنه لا يستحب لكل صلاة بل ربما كان بدعة وإن قال به بعض العباد , والله أعلم انتهى. (تنبيه) إن لم يصل بالوضوء فلا يعيده إلا أن يكون توضأ أولا واحدة واحدة أو اثنتين اثنتين قاله الجزولي في قول الرسالة، ولكنه أكثر ما يفعل, والله تعالى أعلم. اهـ نقلته بطوله من كتاب مواهب الجليل.(9/398)
والثالث: يستحب إن كان فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلا فلا , ذكره الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري في باب الماء المستعمل واختاره.
والرابع: إن صلى بالأول أو سجد لتلاوة أو شكر أو قرأ القرآن في المصحف استحب وإلا فلا , وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه الفروق.
والخامس: يستحب التجديد ولو لم يفعل بالوضوء الأول شيئاً أصلاً حكاه إمام الحرمين، قال: وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع بمثله تفريق , فأما إذا وصله بالوضوء فهو في حكم غسلة رابعة, وهذا الوجه غريب جداً , وقد قطع القاضي أبو الطيب في كتابه شرح الفروع(9/399)
والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد إذا لم يؤد بالأول شيئاً قال المتولي والروياني: وكذا لو توضأ وقرأ القرآن في المصحف يكره التجديد. قالا: ولو سجد لتلاوة أو شكر لم يستحب التجديد ولا يكره والله أعلم.
وأما الغسل فلا يستحب تجديده على المذهب الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور, وفيه وجه أنه يستحب حكاه إمام الحرمين وغيره. وأما التيمم فالمشهور أنه لا يستحب تجديده وفي وجه ضعيف يستحب (1) . اهـ
الدليل على استحباب تجديد الوضوء
الدليل الأول:
(919-148) ما رواه البخاري من طريق سفيان، قال: حدثني عمرو ابن عامر،
عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث (2) .
الدليل الثاني:
(920-149) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد ح
وحدثني محمد بن حاتم واللفظ له حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان قال حدثني علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة،
_________
(1) المجموع (1/494) .
(2) صحيح البخاري (214) .(9/400)
عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه؟ قال: عمداً صنعته يا عمر (1) .
فكان الغالب على فعله - صلى الله عليه وسلم - الوضوء لكل صلاة، سواء كان طاهراً أو غير طاهر، ولذلك استغرب عمر صنيعه - صلى الله عليه وسلم - حين صلى الصلوات بوضوء واحد.
الدليل الثالث:
(921-150) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن الإفريقي، عن أبي غطيف،
عن ابن عمر يقول: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات (2) .
[إسناده ضعيف، وإن كان من حيث المعنى صحيحاً؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها] (3) .
_________
(1) مسلم (217) .
(2) المصنف (1/16) رقم 53. ومن طريق ابن أبي شيبة رواه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (859) .
(3) في إسناده أبو غطيف، قال الذهبي: روى عنه الإفريقي فقط، قال البخاري: لم يتابع عليه. قال الذهبي: والإفريقي عبد الرحمن ضعيف. اهـ ميزان الاعتدال (4/561) .
وقال أبو زرعة: لا أعرف اسمه. الجرح والتعديل (9/422) .
وضعف حديثه الترمذي كما سيأتي.
والحديث رواه الترمذي (59) من طريق محمد بن يزيد الواسطي.
ورواه أبو داود (62) ومن طريقه البيهقي (1/162) من طريق عيسى بن يونس.
ورواه أبو داود أيضاً (62) وابن ماجه (512) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، كلهم عن الإفريقي به.
قال الترمذي: وهو إسناد ضعيف.
وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/74) : هذا إسناد فيه عبد الرحمن بن زياد، وهو ضعيف.(9/401)
وهذه الأحاديث تدل على استحباب الوضوء على الوضوء، وقد علمت الأقوال في وقت استحبابه، ولو قيل: إن الوضوء يستحب كلما تجددت أسبابه المختلفة لكان له وجه، فإذا توضأ للصلاة، ثم أراد أن يقرأ القرآن استحب له التجديد، لتجدد سبب آخر يقتضي الطهارة، ومثله لو توضأ للصلاة، ثم أرد أن يطوف بالكعبة استحب له التجديد، إلا الصلاتين المجموعتين فلا يستحب تجديده لهما، وكذلك إذا كانت الصلاة صلاة تراويح أو وتر، فلا يستحب أن يتخللها تجديد؛ لعدم النقل.
(922-151) وقد روى البخاري ومسلم من حديث إسامة بن زيد أنه قال:
دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل، فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة يا رسول الله. فقال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت لصلاة، فصلى المغرب. الحديث.
فظاهر فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يتخلل الوضوءين حدث أو صلاة، أما الحدث فيبعد وقوعه بعد ما قضى حاجته في الشعب، فكان الوضوء الأول بعد قضاء الحاجة، والوضوء الثاني لم يبعد وقوعه، فالظاهر أن الوضوء الثاني كان بمثابة التجديد، والله أعلم.(9/402)
الفصل الخامس عشر:
في استقبال القبلة حال الوضوء
استحب الجمهور استقبال القبلة حال الوضوء (1) .
والصحيح عدم الاستحباب إلا أن تكون المسألة إجماعاً، ولم أجد أحداً حكى الإجماع على استحباب استقبال القبلة إلا أن ابن مفلح قال: ولا
_________
(1) تبيين الحقائق (1/6) ، حاشية ابن عابدين (1/125) . وقال في مراقي الفلاح (ص: 31) : " ومن آداب الوضوء أربعة عشر شيئاً، وذكر منها استقبال القبلة.
وفرق الحنفية بين الآداب والسنن بأن آداب الشيء: ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة أو مرتين، ولم يواظب عليه، وحكمه الثواب للفاعل، وعدم اللوم على الترك.
وأما السنة فهي التي واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعلها مع الترك بلا عذر مرة أو مرتين، وحكمها الثواب، وفي تركها العتاب لا العقاب، انظر مراقي الفلاح (ص: 31) ، بدائع الصنائع (1/24) .
والراجح أن ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وجه التعبد فهو سنة ما لم يكن بياناً لمجمل فله حكم ذلك المجمل، سواء واظب على فعله أو فعله أحياناً. وإن كان هذا التفصيل من الحنفية مجرد اصطلاح فلا مشاحاة في الاصطلاح، وإن كان هذا التفصيل ينسب للشرع فلا دليل عليه، نعم ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنن أوكد من السنن التي فعلها أحياناً، والله أعلم.
وانظر في مذهب المالكية الخرشي (1/137) ، الفواكه الدواني (1/145) ، حاشية الدسوقي (1/103) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/122) .
وقال النووي الشافعي في المجموع (1/489) : سنن الوضوء ومستحباته، منها استقبال القبلة.
وقال ابن مفلح الحنبلي في الفروع (1/152) : وظاهر ما ذكر بعضهم: يستقبل القبلة، ولا تصريح بخلافه، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل". اهـ
ونقله في شرح منتهى الإرادات (1/46) .(9/403)
تصريح بخلافه، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل. اهـ
وهذه العبارة ليست حكاية للإجماع والله أعلم، خاصة إذا علمنا أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتحرى القبلة عند فعل الوضوء، ولا أمر به من قوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستحباب لا يثبت إلا بدليل فعلي أو قولي، ولا دليل.
والقياس في العبادات من أضعف القياسات.(9/404)
الفصل السادس عشر:
من سنن الوضوء أن يقول الذكر الوارد بعده
يستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (1) .
(923-152) لما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة، - قال: يعني ابن يزيد - عن أبي إدريس الخولاني عن عقبة بن عامر ح
وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير،
عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة. قال: فقلت ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر قال: إني قد رأيتك جئت آنفاً قال: ما منكم من أحد يتوضأ، فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/24) ، الفتاوى الهندية (1/8) ،حاشية ابن عابدين (1/127) .
وفي مذهب المالكية: الخرشي (1/139) ، الفواكه الدواني (1/144) .
وفي مذهب الشافعية: المجموع (1/481) ، تحفة المحتاج (1/238) .
وفي مذهب الحنابلة: المغني (1/94) ، الإنصاف (1/165) ، مطالب أولي النهى (1/120) .(9/405)
الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء (1) .
ولا أعلم أحداً خالف في استحباب هذا الذكر بعد الوضوء، لهذه السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وما يفعله العامة عندنا من رفع السبابة حال الذكر لا أعلم له أصلاً في الشرع، والأصل عدم المشروعية.
كما أن استقبال القبلة حال الذكر لم يقم عليه دليل، وما قيل في استقبال القبلة حال الوضوء يقال هنا، من أن الاستقبال لو كان مشروعا ً لأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفعله عليه الصلاة والسلام، فلما لم ينقل أمره ولا فعله كان الأصل عدم التقرب إلى الله به.
_________
(1) مسلم (234) .(9/406)
المبحث الأول:
استحب بعض الفقهاء أن يقول بعد الوضوء: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين (1) .
(924-153) لما رواه الترمذي رحمه الله، قال: حدثنا جعفر بن محمد ابن عمران الثعلبي الكوفي، حدثنا زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان،
عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء (2) .
[زيادة اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين زيادة شاذة في هذا الحديث] (3) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/7) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/12) ، الفتاوى الهندية (1/8) ، المجموع (1/482) ، والمغني (1/95) ، أعلام الموقعين (1/267) ،
(2) سنن الترمذي (55) .
(3) انفرد زيد بن الحباب بهذه الزيادة، عن معاوية بن صالح، وقد خالف زيد بن الحباب من هو أوثق منه في هذا الحديث سنداً ومتناً، وإليك تخريج الحديث ليتبين لك وجه المخالفة في السند والمتن.
هذا الحديث مدراه على معاوية بن صالح، ويرويه معاوية عن ثلاثة شيوخ له:
أبي عثمان، وربيعة بن يزيد، وعبد الوهاب بن بخت.
أما رواية معاوية بن صالح، عن أبي عثمان فلم يختلف عليه فيه، فقد رواه معاوية، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر به.
رواها أحمد (4/153) ، ومسلم (67- 234) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير به.
وأخرجه أبو داود (169) من طريق ابن وهب، قال: سمعت معاوية بن صالح يحدث عن أبي عثمان به. ومن طريق ابن وهب أخرجه ابن حبان (1050) .
وأخرجه أحمد (4/145، 164) ومن طريقه البيهقي (1/78) من طريق ليث، عن معاوية، عن أبي عثمان به.
وأبو عثمان هذا اختلف في اسمه، فجاء في الميزان (4/250) أبو عثمان، عن جبير بن نفير، لا يدرى من هو؟
وفي العلل للدارقطني (2/114) هو الأصبحي.
وفي التقريب: شيخ لربيعة بن يزيد الدمشقي، قيل: هو سعيد بن هانئ الخولاني (وهو ثقة) .
وقيل: حرز بن عثمان (وهو ثقة ثبت) وإلا فمقبول. اهـ
وقد أخرج له مسلم متابعة.
وأما رواية معاوية بن صالح، عن عبد الوهاب بن بخت فكذلك لم يختلف عليه فيه،
رواه أحمد (4/145، 146) من طريق ليث، عن معاوية بن صالح، عن عبد الوهاب بن بخت، عن الليث بن سليم الجهني، عن عقبة بن عامر.
وأخرجه البيهقي (1/78) من طريق أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن عبد الوهاب بن بخت به.
وعبد الوهاب بن بخت ثقة، لكن الليث بن سليم الجهني جاء في تعجيل المنفعة (ص: 234) الليث بن سليم الجهني عن عقبة بن عامر، وعنه عبد الوهاب بن بخت مجهول. اهـ
وأما رواية معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد ففيها اختلاف:
فرواه ابن وهب، كما في رواية أبي داود (169) وابن حبان (1050) .
وعبد الرحمن بن مهدي، كما في رواية أحمد (4/153) ، ومسلم (234) .
والليث بن سعد، كما في مسند أحمد (4/145، 146) .
وعبد الله بن صالح الجهني، كما في رواية البيهقي (1/78) أربعتهم رووه عن معاوية ابن صالح، عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر به.
ورواه زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، واختلف عليه في إسناده ومتنه:
أما المخالفة في الإسناد، فقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة، كما في المصنف (1/3) ، ومن طريقه مسلم (234) ، والبيهقي (1/78) .
ومحمد بن علي بن حرب المروزي وموسى بن عبد الرحمن المسروقي، كما في رواية النسائي (147، 151) .ثلاثتهم عن زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة، عن أبي إدريس الخولاني، عن جبير بن نفير، عن عقبة به، فجعل بين أبي إدريس وبين عقبة بن عامر جعل جبير بن نفير.
فخالف زيد بن الحباب ثلاثة أئمة كل واحد منهم لا يوزن به، ولا يقاربه: منهم الإمام عبد الرحمن بن مهدي، الذي قال فيه الحافظ في التقريب: ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه.
ومنهم الليث بن سعد، قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة ثبت فقيه إمام مشهور.
ومنهم عبد الله بن وهب، قال فيه الحافظ: ثقة حافظ عابد.
بينما الذي خالفهم زيد بن الحباب، قال فيه في التقريب: صدوق يخطئ في حديث الثوري.
كما أن في رواية زيد بن الحباب اختلافاً آخر، فقد رواه جعفر بن محمد بن عمران الثعلبي، حدثنا زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان عن عمر، وهذا قد خالف في إسناده ومتنه، أما إسناده فجعل الحديث يرويه أبو إدريس وأبو عثمان عن عمر، والمحفوظ أنه من رواية أبي إدريس عن عقبة، ومن رواية أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة.
وأما المخالفة في المتن فزاد فيه: " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " تفرد بها عن زيد بن الحباب جعفر بن محمد بن عمران الثعلبي، وهو صدوق وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة، كما في المصنف وصحيح مسلم.
ومحمد بن علي بن حرب المروزي وموسى بن عبد الرحمن المسروقي، كما في سنن النسائي وهؤلاء ثقات، رووه عن زيد بن الحباب دون هذه الزيادة.
كما أن جعفر بن محمد خالف جميع من رواه عن معاوية بن صالح كالليث بن سعد وابن مهدي وابن وهب، مما يجعل الباحث يجزم بشذوذ هذه اللفظة في هذا الحديث والله أعلم.
قال أبو عيسى الترمذي: حديث عمر قد خولف زيد بن حباب في هذا الحديث قال وروى عبد الله بن صالح وغيره، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عمر. وعن ربيعة، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عمر وهذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء قال محمد: وأبو إدريس لم يسمع من عمر شيئاً. اهـ
ولحديث عمر طرق أخرى غير طريق معاوية بن صالح، فقد أخرجه عبد الرزاق (142) عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني به، إلا أنه قال: من توضأ، فأسبغ الوضوء، ثم قام فصلى صلاة يعلم ما يقول فيها حتى فرغ من صلاته، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء.
فجعل الذكر يقال بعد فراغه من الصلاة، والمعروف أنه يقال بعد فراغه من الوضوء.
كما أن عبد الله بن عطاء لم ير عقبة بن عامر، انظر الثقات (5/33) .
ورواه ابن ماجه (470) من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق به. بلفظ: ما من مسلم يتوضأ، فيحسن الوضوء ثم يقول:.. وذكر الحديث.
والحديث له علة ذكرها أهل الجرح والتعديل، وقد ساقها الإمام البخاري في كتابه التاريخ الصغير (ص: 162) ، ونصه: حدثني أحمد بن سليمان، قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، قال: سألت أبا إسحاق عن عبد الله بن عطاء الذي روى عن عقبة: كنا نتناوب رعية الإبل، قال: شيخ من أهل الطائف حدثنيه. قال شعبة: فلقيت عبد الله، فقلت: سمعته من عقبة؟ فقال: لا، حدثنيه سعد بن إبراهيم، فسألته - يعني سعد بن إبراهيم - فقال: حدثني زياد بن مخراق، فلقيت زياداً فقال: حدثني رجل عن شهر بن حوشب. اهـ فرجع الحديث إلى شهر ابن حوشب، وشهر فيه مقال مشهور، كما أن بين شهر وزياد رجلاً مبهماً. وانظرالكامل لابن عدي (4/168) .
وأخرجه أبو داود الطيالسي (1008) واقتصر منه على ما سمع عقبة دون ما سمع عمر، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن زياد بن مخراق، عن شهر بن حوشب، عن عقبة بن عامر به.
وله شاهد من حديث ثوبان عند الطبراني في الأوسط (4895) ، قال: حدثنا عيسى بن محمد السمسار قال: حدثنا أحمد بن سهل الوراق قال: حدثنا مسور بن مورع العنبري قال: حدثنا الاعمش، عن سالم بن أبي الجعد،
عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دعا بوضوئه، فساعة يخلو من وضوئه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. الحديث.
وهذا الإسناد ضعيف، فيه عيسى بن محمد السمسار ومسور بن مورع العنبري لم أجد لهما ترجمة، وفيه أحمد بن سهيل الوراق له ترجمة في اللسان (1/291) ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال فيه أبو أحمد الحاكم: في حديثه بعض المناكير. فالسند ضعيف.
وله متابع عند الطبراني في الكبير (1441) وتاريخ بغداد (5/269) من طريق أبي سعد البقال عن أبي سلمة، عن ثوبان. وفيه أبو سعد البقال، وهو ضعيف.
انظر لمراجعة طرقه: أطراف المسند (4/350) ، تحفة الأشراف (9914) ، إتحاف المهرة (13862، 15705) ..(9/407)
وقد استحب بعض الحنابلة رفع البصر إلى السماء عند ذكر هذا الدعاء (1) .
(925-154) لما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، أخبرنا أبو عقيل، عن ابن عم له،
عن عقبة بن عامر، وفيه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع نظره إلى السماء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء (2) .
[زيادة رفع البصر إلى السماء زيادة منكرة] (3) .
_________
(1) المغني (1/94) ، الإنصاف (1/165) .
(2) المسند (1/19) .
(3) تفرد بها ابن عم أبي عقيل، عن عقبة، وهو مجهول.
والحديث أخرجه أبو داود (170) ، والدارمي (716) ، وأبو يعلى (180) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة (84) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (31) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ به.
انظر أطراف المسند (4/378) ، تحفة الأشراف (9974) ، إتحاف المهرة (13968) .(9/411)
الدليل الثاني:
قالوا: إن رفع الطرف إلى السماء من آداب الدعاء، والذكر مشتمل على الدعاء السابق: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)) .
والدليل على أن رفع البصر إلى السماء من آداب الدعاء أدلة منها:
(926-155) ما رواه مسلم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد من حديث طويل، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني.
(927-156) ومنها ما رواه البخاري من طريق كريب،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت في بيت ميمونة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه، قعد فنظر إلى السماء، فقرأ {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} (1)
(928-157) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي المديني وغير واحد قالوا: حدثنا ابن أبي فديك، عن إبراهيم بن الفضل، عن المقبري،
عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال سبحان الله العظيم وإذا اجتهد في الدعاء قال يا حي يا قيوم. قال أبو عيسى هذا حديث غريب (2) .
[إسناده ضعيف، وليس صريحاً في الباب] (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (6215) .
(2) سنن الترمذي (3436) .
(3) في إسناده إبراهيم بن الفضل، وهو ضعيف، جاء في ترجمته:
قال أحمد بن حنبل: ليس بقوي في الحديث، ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (2/122) .
وقال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: مدينى ضعيف. المرجع السابق.(9/412)
(929-158) ومن الأذكار التي تقال بعد الوضوء ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك كتب في رق، ثم طبع في طابع فلم يكسر إلى يوم القيامة.
[الصحيح أنه موقوف ولم يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -] (1) .
_________
(1) هذا الحديث أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9909) والحاكم في المستدرك (1/564) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة كما في التحفة (3/447) ، والطبراني في الأوسط (1478) وفي مجمع البحرين (428) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2754) من طريق يحبى بن كثير، عن شعبة، عن أبي هاشم الرماني، عن أي مجلز، عن قيس بن عباد، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
وتابع عبد الصمد يحيى في رفعه، فقد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2754) من طريق عبد الصمد، ثنا شعبة به مرفوعاً.
قال النسائي: هذا خطأ، والصواب موقوف، خالفه محمد بن جعفر فوقفه.
قلت: محمد بن جعفر (غندر) من أثبت أصحاب شعبة.
فقد أخرجه النسائي في السنن الكبرى (10789) من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة به موقوفاً.
وقال الطبراني: لم يروه عن شعبة، إلا يحيى. يقصد مرفوعاً.
وتابع معاذ بن معاذ محمد بن جعفر في وقفه، فقد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2754) من طريق معاذ بن معاذ، عن شعبة به موقوفاً.
ورواه الثوري، عن أبي هاشم، واختلف على الثوري،
فرواه ابن مهدي، كما في سنن النسائي الكبرى (10790) ، ومستدرك الحاكم (1/565) .
وعبد الرزاق، كما في المصنف (730) .
وابن المبارك، كما في رواية النسائي في اليوم والليلة، انظر تحفة الأشراف (3/447) .
وقبيصة بن عقبة، كما في شعب الإيمان (3038) كلهم رووه عن سفيان، عن أبي هاشم به موقوفاً.
وخالفهم يوسف بن أسباط، فرواه عن سفيان به مرفوعاً كما في رواية ابن السني في عمل اليوم والليلة (28) ، وكما في النكت الظراف (3/447) ، ويوسف بن أسباط له ترجمة في الجرح والتعديل (9/218) قال أبو حاتم: كان رجلاً عابداً دفن كتبه، وهو يغلط كثيراً، وهو رجل صالح لا يحتج بحديثه.
ورواه هشيم، واختلف عليه فيه:
فرواه نعيم بن حماد، عن هشيم، عن أبي هاشم به مرفوعاً أخرجه الحاكم (2/399) والبيهقي (4/530) .
وتابعه مخالد بن يزيد عند البيهقي في شعب الإيمان (3039) ، فرواه عن هشيم مرفوعاً.
ورواه البيهقي في شعب الإيمان (2444) من طريق سعيد بن منصور، عن هشيم به مرفوعاً. قال البيهقي: هذا هو المحفوظ موقوف، ووراه نعيم بن حماد عن هشيم فرفعه. اهـ
وكذلك رواه الدارمي (3407) عن أبي النعمان (عارم) عن هشيم به، فوقفه.
وذكر الحافظ في النكت الظراف (3/447) : بأن قيس بن الربيع رواه عن أبي هاشم به مرفوعاً. وقيس بن الربيع صدوق تغير حفظه لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به. قاله الحافظ في التقريب.
فالموقوف أرجح من المرفوع كما قال النسائي عليه رحمة الله، ولكن هذا الموقوف له حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي. قال الحافظ في النكت: ومثله لا يقال بالرأي فله حكم الرفع. اهـ(9/413)
المبحث الثاني:
في الأذكار التي تقال عند غسل الأعضاء
استحب الحنفية أن يدعو بالدعوات المأثورة عند كل فعل من أفعال الوضوء (1) .
ومن هذه الأدعية ما ذكره الرافعي نقلاً من تلخيص الحبير (2) ، قال: ((ومن السنن المحافظة على الدعوات الواردة في الوضوء، فيقول في غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً، وعند غسل اليد اليسرى اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من رواء ظهري، وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار، وروي: اللهم احفظ رأسي وما حوى، وبطني وما وعى ((وروي ((اللهم أغنني برحمتك، وأنزل علي من بركتك، وأظلني تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وعند مسح الأذنين: اللهم اجعلني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام))
[هذا الدعاء لا أصل له] (3) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/7) ، وبدائع الصنائع (1/23) ،
(2) (1/137) .
(3) قال الحافظ في التلخيص (1/137) : قال الرافعي: ورد بها الأثر عن الصالحين. قال النووي في الروضة: هذا الدعاء لا أصل له, ولم يذكره الشافعي والجمهور. وقال في شرح المهذب: لم يذكره المتقدمون. وقال ابن الصلاح: لم يصح فيه حديث. قلت يعني الحافظ: روي فيه عن علي, من طرق ضعيفة جداً , أوردها المستغفري في الدعوات, وابن عساكر في أماليه وهو من رواية أحمد بن مصعب المروزي, عن حبيب بن أبي حبيب الشيباني, عن أبي إسحاق السبيعي, عن علي, وفي إسناده من لا يعرف, ورواه صاحب مسند الفردوس من طريق أبي زرعة الرازي, عن أحمد بن عبد الله بن داود, حدثنا محمود بن العباس, حدثنا المغيث بن بديل, عن خارجة بن مصعب, عن يونس بن عبيد, عن الحسن, عن علي نحوه.
ورواه ابن حبان في الضعفاء, من حديث أنس نحو هذا , وفيه (عباد) بن صهيب , وهو متروك, وروى المستغفري من حديث البراء بن عازب, وليس بطوله, وإسناده واه.(9/415)
قال ابن القيم: كل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق، لم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً منه، ولا علمه لأمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله، وقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين في آخره.
وفي سنن النسائي مما يقال بعد الوضوء أيضاً: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. اهـ
وكل هذه الأذكار سبق الكلام عليها وتخريجها.
وقال الخرشي المالكي: وما يقال عند فعل كل عضو فحديث ضعيف جداً، ولا يعمل به، وقول الأقفهسي: إنه يستحب فيه نظر (1) .
_________
(1) الخرشي (1/139) .(9/416)
المبحث الثالث:
في حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند غسل الأعضاء
استحب بعض الحنفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل عضو من أعضاء الوضوء (1) .
واستحبه بعضهم وبعض الشافعية بعد الفراغ من الوضوء (2) .
ولا أعلم لهم سنة صحيحة في هذا.
كما استحب بعض الحنفية التسمية على كل عضو (3) .
وهذا لا أعلم له أصلاً من أثر أو نظر، وقد علمت الخلاف في التسمية في أول الوضوء، ولو قيل بمشروعيتها لكانت التسمية في أوله كافية، لأنه فعل واحد كما يسمي الإنسان حين يأكل في أول الأكل، ولا يشرع له أن يسمي على كل لقمة يرفعها إلى فيه.
_________
(1) البحر الرائق (1/31) ، تبيين الحقائق (1/7) ، حاشية ابن عابدين (1/127) .
(2) انظر حاشية ابن عابدين (1/128) ، والمجموع (1/483) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/127) .(9/417)
[صفحة فارغة](9/418)
المبحث الرابع:
في حكم قراءة سورة القدر بعد الوضوء
سئل ابن حجر الهيتمي عن حديث ((من قرأ في أثر وضوئه إنا أنزلناه في ليلة القدر مرة واحدة كان من الصديقين ومن قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء ومن قرأها ثلاثا حشره الله محشر الأنبياء)) من رواه؟
(فأجاب) بقوله: رواه الديلمي , وفي سنده مجهول والله أعلم (1) .
_________
(1) الفتاوى الفقهية الكبرى (1/59، 60) .(9/419)
[صفحة فارغة](9/420)
الفصل السابع عشر:
في الاستعانة في الوضوء
الاستعانة على الوضوء لها حالات عدة:
الحالة الأولى: إذا لم يمكنه التطهر إلا بالاستعانة، فإنه يجب عليه قبولها إذا لم يكن في ذلك منة وإذلال له، حتى لو اقتضى الأمر ببذل أجرة لمن يعينه وجب عليه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فواجب (1) .
وقال ابن عقيل الحنبلي: يحتمل أن لا يلزمه , كما لو عجز عن القيام في الصلاة لم يلزمه استئجار من يقيمه ويعتمد عليه (2) .
الحالة الثانية: أن تكون الاستعانة بتقريب الماء، وهذا لا بأس به.
قال النووي: ولا يقال خلاف الأولى؛ لأنه ثبت ذلك في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الحالة الثالثة: أن تكون الاستعانة بمن يصب عليه الماء، فالمشهور من مذهب الحنفية أن ذلك مكروه (3) ، وهو وجه في مذهب الشافعية (4) .
واعتبر بعض الحنفية أن من آداب الوضوء ألا يستعين المتوضئ على وضوئه بأحد (5) .
_________
(1) قال النووي في المجموع (1/425) : إذا لم يقدر على الوضوء لزمه تحصيل من يوضئه إما متبرعاً وإما بأجرة المثل إذا وجدها , وهذا لا خلاف فيه. اهـ وانظر المغني (1/85) .
(2) المغني (1/85) .
(3) مراقي الفلاح (ص: 33) .
(4) المجموع (1/383) .
(5) بدائع الصنائع (1/23) ، تبيين الحقائق (1/6، 7) ، فتح القدير (1/36) ، الفتاوى الهندية (1/8) .(9/421)
وقيل: تباح معونته بصب الماء عليه، وهو مذهب المالكية (1) والحنابلة (2) .
وقيل: لا يكره لكنه خلاف الأولى وهذا أصح الوجهين عند الشافعية, وبه قطع البغوي وغيره، قال النووي في المجموع: وهو مقتضى كلام المصنف والأكثرين (3)
الحالة الرابعة: أن تكون الاستعانة بمن يغسل له أعضاءه من غير حاجة.
فهذا مكروه في مذهب الحنفية من باب أولى، وهو مكروه في مذهب الشافعية قولاً واحداً.
وقيل: لا يجوز، وهو مذهب المالكية (4) .
وقيل: يجوز من غير كراهة، اختاره ابن بطال.
الأحاديث الواردة في المنع من الاستعانة.
أما الأحاديث الصريحة في الباب فليس فيها شيء يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،
_________
(1) مواهب الجليل (1/219) .
(2) المغني (1/95) ، كشاف القناع (1/106) ، مطالب أولي النهى (1/122) .
(3) المجموع (1/383) ، روضة الطالبين (1/62) ، مغني المحتاج (1/61) .
(4) قال في مواهب الجليل (1/219) : أما الاستنابة في الدلك فإن كانت من ضرورة جازت من غير خلاف وينوي المغسول لا الغاسل, وإن كانت لغير ضرورة فلا يجوز من غير خلاف, واختلف إذا وقع ونزل هل يجزيه أو لا؟ قولان قال الجزولي في شرح الرسالة عند قوله غاسلا له: لا خلاف في النيابة على صب الماء أنها جائزة ويؤخذ جوازها من حديث المغيرة إذ كان يصب الماء على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما على الفعل فإن كان لضرورة فيجوز من غير خلاف وينوي المفعول لا الفاعل , وإن كان لغير ضرورة فلا يجوز من غير خلاف واختلف إذا وقع ونزل هل يجزيه أم لا؟ قولان. اهـ وانظر الفواكه الدواني (1/137) ، حاشية العدوي (1/186) .(9/422)
ومن ذلك:
(930-159) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو بدر عباد بن الوليد، حدثنا مطهر بن الهيثم، حدثنا علقمة بن أبي جمرة الضبعي، عن أبيه أبي جمرة الضبعي،
عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكل طهوره إلى أحد، ولا صدقته التي يتصدق بها يكون هو الذي يتولاها بنفسه (1) .
[حديث ضعيف] (2) .
(931-160) ومنها ما رواه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثنا أبو هشام، حدثنا النظر -يعني: ابن منصور- حدثنا أبو الجنوب، قال:
رأيت علياً يستقي ماء لوضوئه، فبادرته استقي له، فقال: مه يا أبا الجنوب، فإني رأيت عمراً يستقي لوضوئه، فبادرته استقي له، فقال: مه يا أبا الحسن، فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقي ماء لوضوئه، فبادرته استقي له، فقال: مه يا عمر، فإني أكره أن يشركني في طهوري أحد.
[حديث ضعيف] (3) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (362) .
(2) قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف، علقمة بن أبي جمرة مجهول، ومطهر بن الهيثم ضعيف. اهـ
وقال الحافظ في التلخيص (1/168) : فيه مطهر بن الهيثم، وهو ضعيف. اهـ
(3) الحديث ضعيف، لضعف النظر بن منصور، وأبي الجنوب، وقد ضعفهما الحافظ في التقريب، وقال في التلخيص (1/168) : قال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: النظر بن منصور، عن أبي الجنوب، وعنه ابن أبي معشر تعرفه؟
قال: هؤلاء حمالة الحطب.
وأخرجه البزار كما في مختصر زوائد البزار (162) من طريق النظر بن منصور به.
وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/227) .(9/423)
(932-161) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن العباس بن عبد الرحمن المدني قال:
خصلتان لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلهما إلى أحد من أهله كان يناول المسكين بيده ويضع الطهور من الليل ويخمره (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/178) رقم: 2045.
(2) العباس بن عبد الرحمن المدني لم أجد من ترجم له إلا أن الحسيني في الإكمال ذكر العباس بن عبد الرحمن المدني، وقال: مجهول. وخطأه الحافظ في تعجيل المنفعة بأنه وهم في اسمه، وإليك نص كلام الحافظ في التعجيل (1516) قال: العباس بن عبد الرحمن المدني عن حكيم بن حزام وعنه محمد بن عبد الله الشعيثي مجهول. قلت (أي الحافظ) كذا قرأت بخط الحسيني وهو غلط قبيح، والذي في مسند حكيم بن حزام من مسند أحمد، رواه أحمد عن وكيع، عن محمد بن عبد الله الشعيثي، عن القاسم بن عبد الرحمن المزني، عن حكيم في خلوق المساجد مرفوعاً.
وعن حجاج عن الشعيثي عن زفر بن وثيمة، عن حكيم. وهكذا هو في ترجمة زفر بن وثيمة عن حكيم من الأطراف للمزي وذكر رواية أبي داود وقال: رواه وكيع عن الشعيثي فلم يرفعه. قلت (والكلام للحافظ) وفي الجملة فليس للعباس بن عبد الرحمن في حديث حكيم مدخل في مسند أحمد، والله أعلم، وأما قوله: المدني فهو تحريف، وإنما هو المزني بضم الميم بعدها زاي منقوطة، وترجم المزي للعباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، عن العباس بن عبدالمطلب. اهـ كلام الحافظ.
وفي إسناده موسى بن عبيدة، جاء في ترجمته:
قال البخاري: منكر الحديث، قاله أحمد بن حنبل، وقال علي بن المديني عن القطان قال: كنا نتقيه تلك الأيام. التاريخ الكبير (7/291) .
وقال أحمد بن حنبل: لا يشتغل به، وذلك أنه يروى عن عبد الله بن دينار شيئاً لا يرويه الناس. الجرح والتعديل (8/151) .
وقال أحمد بن حنبل أيضاً: لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة. قلنا يا أبا عبدالله: لا يحل؟ قال: عندي. قلت: فإن سفيان وشعبة قد رويا عنه، قال: لوبان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: ليس بقوي الحديث. المرجع السابق.(9/424)
(933-162) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا أبو أسامة عن علي بن مسعدة قال أنا عبد الله الرومي، قال:
كان عثمان يقوم من الليل فيلي طهوره بنفسه فيقال له: لو أمرت بعض الخدم فقال: إني أحب أن أليه بنفسي.
[إسناده ضعيف] (1) .
وقد ورد أحاديث ليست صريحة في الباب تدل على أن الكمال ترك سؤال الناس شيئاً.
(934-163) منها ما رواه مسلم، من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي مسلم الخولاني: قال حدثني الحبيب الأمين، أما هو فحبيب إلي، وأما هو عندي فأمين عوف بن مالك الأشجعي قال:
كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ألا
_________
(1) عبد الله الرومي، ذكره الحافظان المزي وابن حجر في تهذيب الكمال وتهذيبه، ولم يذكرا راوياً عنه إلا علي بن مسعدة، ولم يوثقه أحد، فهو مجهول.
وفي التقريب: مقبول. يعني حيث يتابع وإلا ففيه لين.(9/425)
تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا - وأسر كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه.
وجه الاستدلال:
قوله: ((لا تسألوا الناس شيئاً)) نكرة في سياق النفي، فيشمل كل شيء، وهذا هو الذي فهمه الصحابة، حتى كان لا يسأل أن يناول سوطه الذي سقط.
وهذا الحديث دليل على النهي عن سؤال الناس، ومنه الاستعانة، ولا يدل على كراهة الاستعانة بدون طلب من الشخص، فهناك فرق أن تأتي الإعانة على الوضوء بالتبرع المحض، أو تأتي عن مسألة، مع أنه قد يقال أيضاً: إذا كان يعلم الإنسان أن المطلوب منه ذلك يفرح به ويتشوف إليه ويعتز به، كما لو كان هذا طالباً مع معلمه، وبين غيره، ولذلك فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستنكف أن يطلب بعض الأمور من بعض أصحابه، لمعرفته أن ذلك محبوب لهم، ليس فيه إذلال للسائل ولا إحراج للمسؤل، والله أعلم.
الأحاديث الواردة في الاستعانة.
الحديث الأول:
(935-164) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق،
عن مغيرة بن شعبة قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال: يا مغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني فقضى حاجته،(9/426)
وعليه جبة شأمية، فذهب ليخرج يده من كمها فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه ثم صلى. ورواه مسلم (1) .
الحديث الثاني:
(936-165) ما رواه البخاري، قال: حدثني محمد بن سلام، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، عن يحيى، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس،
عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب فقضى حاجته قال أسامة بن زيد فجعلت أصب عليه ويتوضأ، فقلت: يا رسول الله أتصلي؟ فقال: المصلى أمامك. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (2) .
الحديث الثالث:
قال الحافظ في الفتح: روى الحاكم في المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضوء فقال: اسكبي، فسكبت عليه.
قال الحافظ: وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب.
قلت: وقفت عليه في مستدرك الحاكم بغير هذا اللفظ الذي أشار إليه الحافظ (3) ، فلعل نسخة الحافظ تختلف عن المطبوع، وهو في سنن أبي داود
_________
(1) البخاري (182) ، ومسلم (274) .
(2) البخاري (181) ، ومسلم (1280) .
(3) ولفظه عند الحاكم (1/152) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أذنيه، باطنهما وظاهرهما.(9/427)
بلفظ: اسكبي لي وضوءاً، فذكرت وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت فيه: فغسل كفيه ثلاثاً وذكر الحديث، وسبق لي تخريج الحديث، والكلام عن طرقه.
وهذه الأحاديث تدل على إباحة الاستعانة بصب الماء على المتوضئ، وكذا إحضار الماء من باب أولى.
وأما المباشرة بغسل أعضاء الغير فلا دلالة فيهما عليها، وحجة من استدل بإباحة غسل أعضاء الغير ما ذكره الحافظ في الفتح، قال:
((لما لزم المتوضئ الاغتراف من الماء لأعضائه، وجاز له أن يكفيه ذلك غيره بالصب، والاغتراف بعض عمل الوضوء، كذلك يجوز في بقية أعماله.
وتعقبه ابن المنير بأن الاغتراف من الوسائل لا من المقاصد؛ لأنه لو اغترف ثم نوى أن يتوضأ جاز، ولو كان الاغتراف عملاً مستقلاً لكان قدمه على النية)) . (1) اهـ
_________
(1) فتح الباري (182) .(9/428)
(فرع)
قد ذكرنا أنه إذا وضأه غيره صح , وسواء كان الموضئ ممن يصح وضوءه أم لا , كمجنون وحائض وكافر وغيرهم؛ لأن الاعتماد على نية المتوضئ لا على فعل الموضئ، كمسألة الميزاب , ولا نعلم في هذه المسألة خلافا لأحد من العلماء إلا ما حكاه صاحب الشامل عن داود الظاهري أنه قال: لا يصح وضوءه إذا وضأه غيره, ورد عليه بأن الإجماع منعقد على أن من وقع في ماء أو وقف تحت ميزاب، ونوى، صح وضوءه وغسله.(9/429)
[صفحة فارغة](9/430)
الفصل السابع عشر:
في الكلام أثناء الوضوء
قيل: ترك التكلم بكلام الناس أثناء الوضوء من آداب الوضوء، وهو مذهب الحنفية (1) ، المالكية (2) .
وقيل: يكره الكلام أثناء الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وعد النووي من سنن الوضوء ترك الكلام من غير حاجة (5) .
دليل من كره الكلام أثناء الوضوء.
الدليل الأول:
(937-166) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن عبد الجبار، ثنا البيلماني، عن أبيه،
_________
(1) قال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/6، 7) : ومن آداب الوضوء استقبال القبلة وذكر أشياء، ثم قال: وأن لا يتكلم فيه بكلام الناس. الخ وانظر حاشية ابن عابدين (1/126) .
(2) انظر التاج والإكليل (1/369، 370) ، والخرشي (1/137) حيث اعتبروا ترك الكلام من فضائل الوضوء.
(3) قال القاضي عياض في شرح صحيح مسلم: إن العلماء كرهوا الكلام في الوضوء والغسل.
(4) الآداب الشرعية (1/335) ، الإنصاف (1/137) ، وفسر ابن مفلح في الفروع (1/152) الكراهة بترك الأولى.
(5) قال النووي في المجموع (1/489) : سنن الوضوء ومستحباته، منها، ثم ذكر: وأن لا يتكلم فيه لغير حاجة. اهـ وانظر حاشية الجمل (1/133) .(9/431)
عن عثمان بن عفان أنه توضأ بالمقاعد، والمقاعد بالمدينة حيث يصلى على الجنائز عند المسجد، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه ثلاثاً، وسلم عليه رجل، وهو يتوضأ، فلم يرد عليه حتى فرغ، فلما فرغ كلمه معتذراً إليه، وقال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من توضأ هكذا، ولم يتكلم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله غفر له ما بين الوضوئين (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
الدليل الثاني:
(938-167) ما رواه أحمد، قال: حدثنا روح حدثنا سعيد عن قتادة، عن الحسن عن حضين أبي ساسان الرقاشي،
عن المهاجر بن قنفذ بن عمير بن جدعان، قال: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ، فلم يرد علي، فلما فرغ من وضوئه قال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء.
[إسناده صحيح إلا أن المحفوظ من الحديث أن المهاجر سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، كما أن التعليل في الحديث يؤكد أن المانع من رد السلام ليس كراهة الرد أثناء الوضوء، وإنما كونه على غير طهارة، فلا يكون فيه دليل على مسألتنا والله أعلم] (3) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/92) .
(2) سبق تخريجه انظر حديث رقم (845) .
(3) اختلف في لفظه: هل قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، أو قال: وهو يتوضأ، وعلى اللفظ الأول ليس فيه موضع شاهد لمسألتنا.
والحديث رواه شعبة، كما عند الحاكم (592) .
وهشام الدستوائي كما في سنن الدارمي (2641) ، والأوسط لابن المنذر (1/133) ، والطبراني في الكبير (20/329) رقم 780.
ومعاذ بن معاذ، كما في سنن النسائي الكبرى (37) ، والصغرى (38) . ثلاثتهم عن قتادة به، بلفظ: أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، وأنه تيمم لرد السلام.
ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، واختلف على سعيد:
فرواه روح بن عبادة كما في مسند أحمد (5/80) ، وسنن ابن ماجه (350) .
وعبد الوهاب بن عطاء، كما في مسند أحمد (5/80) ، وشرح معاني الآثار (1/85) .
ويزيد بن زريع، كما في معجم الطبراني في الكبير (20/329) رقم 781،
ومحمد بن جعفر كما في مسند أحمد (5/80) أربعتهم رووه عن سعيد، بلفظ: أنه سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ.
ورواه محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، واختلف على محمد بن المثنى فيه:
فرواه أبو داود (17) ، وابن خزيمة كما في صحيح ابن حبان (806) عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، عن سعيد به بلفظ: " وهو يبول " كما هو رواية شعبة وهشام الدستوائي ومعاذ بن معاذ.
ووراه ابن خزيمة كما في صحيحه (206) وصحيح ابن حبان (803) .
وخالد بن عمرو بن النضر كما في صحيح ابن حبان (803) كلاهما عن محمد بن المثنى به، بلفظ: " وهو يتوضأ ".
وأرى أن لفظ شعبة ومن معه أولى بالحفظ من لفظ سعيد؛ لأن سعيداً واحد، وقد اختلف عليه، وهؤلاء جماعة، وقد جاء الحديث من غير طريق قتادة، وفيه ذكر البول، فقد رواه ابن أبي شيبة (5/247) رقم 25735 حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا الحسن، عن المهاجر، أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فلم يرد عليه حتى فرغ.
وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات، إلا زيد بن الحباب فإنه صدوق، إلا أن الحسن قد دلسه عن المهاجر، ولم يسمعه منه، إنما سمعه من حضين كما في طريق قتادة.
ورواه أحمد (5/81) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/85) من طريق حميد بن أبي حميد الطويل، عن الحسن، عن المهاجر، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول، أو قد بال، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى توضأ، ثم رد علي. اهـ
والشك هنا لا يقضي على يقين طريق قتادة، فالذي يظهر لي: أن الراجح في لفظ الحديث: ذكر السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ييول، وقد ذكره ثلاثة حفاظ من أصحاب قتادة: هم شعبة وهشام، ومعاذ بن معاذ، والله أعلم.
وقد يمكن الجمع بأن يقال: بال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم توضأ عقب بوله، فكان تارة يذكر الراوي البول، وتارة يذكر الوضوء، وكلاهما قد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.
انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (5/393) ، تحفة الأشراف (11580) ، إتحاف المهرة (17035) .(9/432)
الدليل الثالث:
قال في مراقي الفلاح: ولا يتكلم بكلام الناس؛ لأنه يشغله عن الدعاء المأثور.
قلت: الدعاء المأثور في أثناء الوضوء لا أصل له، وقد بينت ذلك في مسألة مستقلة.
الدليل الرابع:
حكاية الإجماع على كراهة الكلام أثناء الوضوء.
قال النووي: قد نقل القاضي عياض في شرح صحيح مسلم أن العلماء كرهوا الكلام في الوضوء والغسل.
وهذا المنقول يجاب عنه بما عقب عليه النووي، فقال: وهذا الذي نقله من الكراهة محمول على ترك الأولى , وإلا فلم يثبت فيه نهي فلا يسمى مكروها إلا بمعنى ترك الأولى (1) .
_________
(1) المجموع (1/489) .(9/434)
وقال ابن مفلح: قال جماعة: يكره الكلام أثناء الوضوء، والمراد بغير ذكر الله تعالى، كما صرح به جماعة، والمراد بالكراهة ترك الأولى وفاقاً للحنفية والشافعية.
وقال أيضاً: وظاهر الأكثر لا يكره السلام ولا الرد، وإن كان الرد على طهر أكمل لفعله عليه السلام (1) .
دليل من قال: لا يكره الكلام أثناء الوضوء.
الدليل الأول:
لا يوجد نهي من الشارع عن الكلام أثناء الوضوء، والأصل في الأفعال الإباحة، فمن ادعى النقل عن الإباحة بحكم آخر سواء الكراهة أو الحكم بأن ذلك من آداب الوضوء وسننه فعليه الدليل من كتاب الله ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل الثاني:
(939-168) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك بن أنس، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره،
أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره قالت: فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد. الحديث. ورواه مسلم (2) .
فهذا في الكلام أثناء الغسل، والوضوء مثله.
_________
(1) الفروع (1/152) .
(2) البخاري (357) ، مسلم (336) .(9/435)
الراجح من الخلاف.
إن صح نقل الإجماع على كراهة الكلام أثناء الوضوء فالدليل الإجماع، وإلا فالأصل الإباحة وقد يقال: إن كان سكوت الإنسان أثناء الوضوء من أجل تصور أمتثال أوامر الشرع، فإذا غسل وجهه تذكر أنه عبد لله يمتثل أمر الله سبحانه وتعالى بقوله {فاغسلوا وجوهكم} كما يحاول أن يكون هذا الفعل مطابقاً لما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يفعل ما فعله، وفي غسل اليدين يتصور امتثاله لأمر الله سبحانه وتعالى بقوله: {وأيديكم إلى المرافق} وهكذا في كل أفعال الوضوء، إذا كان هذا لذلك فقد يكون السكوت مطلوباً، وإن كان السكوت من أجل استصحاب النية في الوضوء فهذا له بحث آخر سوف يذكر إن شاء الله تعالى في فروض الوضوء، وما عداه فيكون الكلام وعدمه على الإباحة، والاستحباب والكراهة لا بد فيهما من دليل شرعي، وقد سبق كلام النووي بأنه لم يرد نهي من الشارع عن الكلام، والله أعلم.(9/436)
المبحث الأول:
في الوضوء قبل الوقت
قال النووي: أجمع العلماء على جواز الوضوء قبل دخول وقت الصلاة، نقل فيه الإجماع ابن المنذر في كتابه الإجماع وآخرون، هذا في غير المستحاضة ومن في معناها فإنه لا يصح وضوءها إلا بعد دخول الوقت (1) .
قلت: أما المستحاضة فقد اختلف العلماء في وضوءها هل يصح منها الوضوء قبل دخول الوقت أم لا وذلك نظراً إلى أن بعضهم يرى طهارتها طهارة ضرورة.
فقيل: لا تتوضأ قبل دخول الوقت، كما أن خروج الوقت مبطل لطهارتها السابقة، وهذا مذهب الحنفية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) إلا أن الشافعية يرون الوضوء يجب عليها لكل فريضة مؤداة أو مقضية بخلاف النافلة، ومذهب الحنفية والحنابلة يجب عليها الوضوء لوقت كل صلاة، فتصلي بطهارتها الفرائض والنوافل ما دام الوقت، فإذا خرج بطلت طهارتها.
_________
(1) المجموع (1/491) .
(2) الاختيار لتعليل المختار (3/508) حاشية ابن عابدين (1/504) البحر الرائق (1/226) مراقي الفلاح (ص60) شرح فتح القدير (1/181) تبيين الحقائق (1/64) بدائع الصنائع (1/28) .
(3) المجموع (1/ 543، 363) ، مغني المحتاج (1/111) ، روضة الطالبين (1/147، 125) .
(4) المغني (1/421) شرح منتهى الإرادات (1/120) كشاف القناع (1/215) الإنصاف (1/377) الفروع (1/279) شرح الزركشي (1/437) .(9/437)
وقيل: يجب عليها الوضوء لكل صلاة مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج، وهو اختيار ابن حزم (1) .
وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب، وبالتالي هي كغيرها تتوضأ متى شاءت. وهو مذهب المالكية، وهو الراجح (2) .
وقد ذكرت أدلة كل فريق، وبيان الراجح منه في كتابي الحيض والنفاس، وكتاب الاستنجاء، باب الاستنجاء من الحدث الدائم، فارجع إليه غير مأمور.
_________
(1) المحلى (مسألة: 168) .
(2) قال صاحب مواهب الجليل (1/291) : " طريقة العراقيين من أصحابنا، أن ما خرج على وجه السلس لا ينقض الوضوء مطلقاً، وإنما يستحب منه الوضوء ". ثم قال:
" والمشهور من المذهب طريقة المغاربة أن السلس على أربعة أقسام:
الأول: أن يلازم، ولا يفارق، فلايجب الوضوء، ولا يستحب؛ إذ لا فائدة فيه، فلا ينتقض وضوء صاحبه بالبول المعتاد.
الثاني: أن تكون ملازمته أكثر من مفارقته، فيستحب الوضوء، إلا أن يشق ذلك عليه لبرد أو ضرورة فلا يستحب.
الثالث: أن يتساوى إتيانه ومفارقته، ففي وجوب الوضوء واستحبابه قولان "
ثم قال:
والرابع: أن تكون مفارقته أكثر، فالمشهور وجوب الوضوء، خلافاً للعراقيين فإنه عندهم مستحب. اهـ
وانظر حاشية الدسوقي (1/116) وانظر بهامش الصفحة التاج والإكليل.
وانظر الخرشي (1/152) ، فتح البر في ترتيب التمهيد (3/508) ، الاستذكار (3/225 - 226) القوانين الفقهية لابن جزي (ص29) .(9/438)
واستحباب الوضوء قبل دخول وقت الصلاة يرجع إلى أن الوضوء على الصحيح عبادة مستقلة مطلوبة بذاتها، وإن كان شرطاً في صحة الصلاة فلا يمنع ذلك أن يكون عبادة مستقلة رتب الله على فعلها أجراً عظيماً من كفارة الذنوب،
(940-169) لما روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه،
عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها (1) .
الحديث الثاني:
(941-170) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا -
قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا
_________
(1) صحيح مسلم (223) .(9/439)
غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول، في مقام واحد يعطي هذا الرجل، فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك (1) .
الحديث الثالث:
(942-171) ما رواه أحمد، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية، أن أبا كبشة السلولي حدثه،
أنه سمع ثوبان يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سددوا وقاربوا واعملوا وخيروا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (2) .
[إسناد حسن إن شاء الله، والحديث صحيح] (3) .
_________
(1) صحيح مسلم (832) .
(2) المسند (5/282) .
(3) وقد سبق تخريجه في فضل الوضوء، انظر حديث (477) .(9/440)
الحديث الرابع:
(943-172) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خلف -يعني ابن خليفة- عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم قال:
كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ أنتم هاهنا لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (1) .
الحديث الخامس:
(944-173) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال،
عن نعيم المجمر، قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (2) .
الحديث السادس:
(945-174) ما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة يعني ابن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر ح
وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر عن عمر،
_________
(1) مسلم (250) .
(2) صحيح البخاري (136) ، مسلم (246) .(9/441)
مرفوعاً، وفيه: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء (1) .
(946-175) ومنها ما رواه أحمد، قال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، أخبرني عبد الله بن بريدة، قال:
سمعت أبي بريدة يقول: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بلالاً، فقال: يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، إني دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك، فأتيت على قصر من ذهب مرتفع مشرف، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من العرب؟ قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من المسلمين من أمة محمد، قلت: فأنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا غيرتك يا عمر لدخلت القصر، فقال: يا رسول الله ما كنت لأغار عليك، قال: وقال لبلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ قال: ما أحدثت إلا توضأت، وصليت ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بهذا.
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تدل على فضل الوضوء، ومع كون الوضوء عبادة مطلوبة لذاتها وأن يكون الإنسان دائماً على طهارة شرع الوضوء أيضاً لأسباب مختلفة، منها ذكر الله تعالى، وأشرفه قراءة القرآن، ومنها المبيت على طهارة، ومنها الوضوء للجنب عند النوم والأكل والشرب، وغيرها من الأسباب المتفق عليها أو المختلف فيها بين الفقهاء، والله أعلم.
_________
(1) مسلم (234) .(9/442)
فرع:
في تساوي الذكر والأنثى في أحكام الوضوء
المرأة كالرجل في الوضوء بل في كل العبادات إلا ما دل الدليل على التفريق بينهما.
قال النووي: والمرأة كالرجل في الوضوء إلا في اللحية الكثة (1) .
قلت: حتى في اللحية، فلو نبتت للمرأة لحية كان حكمها في الوضوء حكم لحية الرجل من التفصيل بين اللحية الكثيفة والخفيفة.
قال الصاوي: والحاصل أن اللحية حيث كانت خفيفة وكل شعر في الوجه خفيف يجب إيصال الماء للبشرة، لا فرق بين ذكر وأنثى، وإن كان الشعر كثيفاً يكره تخليله في الوضوء، سواء كان لحية أو غيرها، لذكر أو أنثى، ولا يطالب بكل حال بغسل أسفل اللحية الذي يلي العنق، كانت كثيفة أو خفيفة (2) . اهـ
وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: شعر غير اللحية كالحاجبين والشارب والعنفقة ولحية المرأة وغير ذلك مثل اللحية في الحكم على الصحيح من المذهب، وعليه الجمهور. وجزم به في الرعاية في لحية المرأة (3) .
_________
(1) المجموع (1/491) .
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/106) .
(3) الإنصاف (1/134) .(9/443)
[صفحة فارغة](9/444)
فرع:
في تخفيف الوضوء المستحب
الوضوء إذا كان مستحباً له أن يمسح ما يجب غسله، وله أن يقتصر على بعض أعضاء الوضوء.
قال ابن مفلح: توضأ عليه فمسح وجهه ويديه ورأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع مثله.
قال شيخنا -يعني ابن تيمية- إذا كان مستحباً له أن يقتصر على بعض الأعضاء كوضوء ابن عمر لنومه جنباً إلا رجليه، وفي الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الليل فأتى حاجته - يعني الحدث - ثم غسل وجهه ويديه ثم نام. وذكر بعض العلماء أن هذا الغسل للتنظيف والتنشيط للذكر وغيره. اهـ (1) .
(947-176) وحديث علي الذي أشار إليه ابن مفلح فقد أخرجه، أحمد، قال: ثنا بهز، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال ابن سبرة، قال:
رأيت علياً رضي الله تعالى عنه صلى الظهر، ثم قعد لحوائج الناس، فلما حضرت العصر أتى بتور من ماء، فأخذ منه كفا، فمسح وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه، ثم أخذ فضله، فشرب قائماً، وقال: إن ناساً يكرهون هذا، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وهذا وضوء من لم يحدث (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) الفروع (1/151) .
(2) أحمد (1/153) .
(3) رجاله ثقات.
والحديث أخرجه النسائي في الكبرى (133) ، وفي الصغرى (130) قال: أخبرنا عمرو بن يزيد، قال: حدثنا بهز بن أسد به.
وأخرجه ابن الجعد في مسنده (459) وأبو داود الطيالسي في المسند (148) عن شعبة به. ومن طريق الطيالسي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5982) .
وأخرجه أحمد (1/123) عن وكيع.
وابن جرير الطبري في تفسيره (6/113) ، والبزار في مسنده (782) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/34) من طريق وهب بن جرير.
وأخرجه أحمد (1/139) وابن خزيمة (16) من طريق محمد بن جعفر.
وأخرجه أحمد (1/139) حدثنا عفان.
وأخرجه الطحاوي (4/273) من طريق بشر بن عمر.
وأخرجه البخاري (5616) البيهقي في السنن (1/75) من طريق آدم، كلهم عن شعبة، عن عبد الملك به.
واختلف على شعبة فيه:
فرواه البخاري (5616) حدثنا آدم، عن شعبة بلفظ: عن علي رضي الله عنه، أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت الصلاة، ثم أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه وذكر رأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلة، وهو قائم، ثم قال: إن ناساً يكرهون الشرب قائماً، وإن النبي صنع مثل ما صنعت.
ورواه الطيالسي (148) عن شعبة به، وفيه: فغسل وجهه ويديه، ولم يذكر المسح.
ورواه جعفر بن محمد القلانسي عن آدم، وخالف البخاري في لفظه، أخرجه البيهقي (1/75) من طريق أبي بكر محمد بن محمويه العسكري، أنا جعفر بن محمد القلانسي، نا آدم، نا شعبة به، وذكر الوضوء بالمسح.
وابن محمويه ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وجعفر بن محمد القلانسي، ذكره ابن حبان في الثقات (8/163) .
وقال الحافظ في اللسان: ذكره أبو جعفر بن بابويه في رجال الشيعة، فالصحيح عن آدم ما ذكره البخاري عنه من ذكر الغسل وليس المسح.
وخالف آدم والطيالسي جماعة رووه عن شعبة، فذكروا أن علياً مسح وجهه ويديه ورأسه ورجليه، منهم محمد بن جعفر وهو من أثبت أصحاب شعبة، ومنهم عفان ووكيع وبهز ابن أسد، ووهب بن جرير، ولم ينفرد شعبة بذكر المسح، بل تابعه غيره، فقد تابعه الأعمش ومسعر ومنصور، وإليك تخريج رواياتهم:
فقد أخرجه أحمد (1/78) ، والترمذي في الشمائل (210) ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/159) إلا أن الأخير اقتصر على ذكر الشرب فقط، أخرجوه عن محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الملك به.
وأخرجه أحمد (1/144) وأبو يعلى في مسنده (309) ، والبيهقي في السنن (7/282) من طريق مسعر، عن عبد الملك به.
وأخرجه البخاري (5615) ، قال: حدثنا أبو نعيم،
وأخرجه أبو داود (3718) من طريق يحيى،
وأخرجه البزار (780) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/273) من طريق أبي أحمد، ثلاثتهم عن مسعر به، بقصة الشرب قائماً فقط.
وأخرجه ابن خزيمة (1/12) من طريقين عن مسعر به إلا أنه لم يذكر لفظه.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/159) وأبو يعلى (368) وابن خزيمة (1/11، 101) وابن حبان (1057،1340) من طريق منصور، عن عبد الملك به.
انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (4/479) ، تحفة الأشراف (10293) ، إتحاف المهرة (14782) .(9/445)
(948-177) وأما فعل ابن عمر، فأخرجه مالك في الموطأ، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان إذا أراد أن ينام أو يطعم وهو جنب، غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح برأسه، ثم طعم أو نام (1) .
[إسناده في غاية الصحة] (2) .
_________
(1) الموطأ (1/48) .
(2) ومن طريق مالك أخرجه البيهقي (1/201) .
وأخرجه عبد الرزاق (1077) عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن عمر استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال: نعم ليتوضأ ثم لينم، حتى يغتسل إذا شاء، قال: وكان عبد الله بن عمر إذا أراد أن ينام وهو جنب صب على يده، ثم مضمض واستنثر، ونضح في عينيه، وغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح برأسه، ثم نام، وإذا أراد أن يطعم، وهو جنب فعل مثل ذلك.
وأخرجه البيهقي (1/201) من طريق عبد الرزاق به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/60) والطحاوي (1/128) من طريق أيوب، عن نافع به.
وأخرجه عبد الرزاق (1074) ومن طريقه أحمد (2/36) عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به.
وأخرجه عبد الرزاق (1088) عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، وجعل القصة لابن عمر، وليست لعمر، وهذا خلاف المحفوظ.(9/447)
واختلف العلماء في تفسير فعل ابن عمر، وكونه توضأ إلا رجليه،
فقال ابن تيمية كما سبق: إن الوضوء إذا كان مستحباً وليس بواجب فله أن يقتصر على بعض أعضائه، وهذا قد يصح إذا سلم بأن الوضوء للجنب عند إرادة النوم مستحب، وليس بواجب، وفيه خلاف قوي جداً سوف أتعرض له في حينه إن شاء الله تعالى.
وقال ابن حجر: يحمل ترك ابن عمر لغسل رجليه، على أن ذلك كان لعذر.
قلت: الأصل عدم العذر، ثم قوله: ((وكان ابن عمر إذا أراد أن ينام، وهو جنب)) ثم ذكر فعله، يدل على أن ذلك كان منه على الاستمرار، وليس لعارض أو عذر.
وقال ابن عبد البر في الاستذكار: لم يعجب مالكاً فعل ابن عمر، وأظنه أدخله - يعني في الموطأ - إعلاماً أن ذلك الوضوء ليس بلازم.
قلت: إذا كان ليس بلازم فلماذا يغسل معظم أعضاء الوضوء، ولو كان ابن عمر تركه بالكلية لكان ذلك مشعراً بذلك، على أنه لا يتعدى أن يكون(9/448)
رأياً لابن عمر، وفعل الصحابي ليس بحجة إلا إذا لم يخالف، والحجة فيما روى لا فيما رأى.
وقال الطحاوي: هذا وضوء غير تام، وقد علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضوء تام، فلا يفعل هذا إلا وقد ثبت النسخ لذلك عنه. اهـ
والطحاوي رحمه الله يتساهل في دعوى النسخ، حتى يرى فهم الصحابي للحديث نسخاً، والنسخ لا ينبغي أن يصار إليه إلا عند التعارض التام لدليلين شرعيين لم يمكن الجمع بينهما، وعلم المتأخر، وأما فهم الصحابي ورأيه لا ينسخ ما ثبت شرعاً.
والراجح والله أعلم فيما ظهر لي أن ابن عمر فهم أن هذا الوضوء هو الذي يتقدم غسل الجنابة، وقد ورد في صفة الوضوء عند الغسل للجنابة صفتان:
الأولى: أن يتوضأ وضوءاً كاملاً، ثم يغتسل.
الصفة الثانية: أن يتوضأ إلا موضع قدميه، ثم يغتسل، وكلا الصفتين ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسله للجنابة: فأخذ ابن عمر بإحدى الصفتين، وهذا فيه مجال للاجتهاد، وهل إذا توضأ للنوم، وأراد الاغتسال للجنابة يعيد الوضوء أم لا؟ هذه مسألة تحتاج إلى تأمل، والله أعلم.(9/449)
[صفحة فارغة](9/450)
الباب الثالث:
في فروض الوضوء
توطئة:
تعريف الفرض لغة واصطلاحاً.
الفَرْضُ الحز والقطع، ومنه أخذ فرض النفقات: وهو بيان مقدارها، وكذلك فرض المهر قال الله تعالى: {أو تفرضوا لهن فريضة} (1) ، ومثله فرض الجند: فهو ما يقطع لهم من العطاء.
وقوله تعالى: {لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضاً} (2) ، أي: مقتطعا محدوداً.
والفرض أيضاً: ما أوجبه الله تعالى، سمي بذلك؛ لأن له معالم وحدوداً.
وفَرَض الله علينا كذا وافْتَرَضَ، أي: أوجب. والاسم الفَريضةُ.
(949-178) وقد روى البخاري في صحيحه،
عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله. الحديث (3) .
_________
(1) البقرة: 236.
(2) النساء: 118.
(3) صحيح البخاري (1454) .(9/451)
فرائض الوضوء اصطلاحاً:
هناك علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي.
فإذا كان الفرض يأتي بمعنى الواجب، فمعنى فروض الوضوء: أي واجباته وأركانه.
قال في حاشية الصاوي: المراد بالفرض هنا: ما تتوقف صحة العبادة عليه.(9/452)
الفصل الأول:
من فروض الوضوء غسل الوجه
من فروض الوضوء غسل الوجه، وهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (1) .
ومن السنة أحاديث كثيرة، منها: حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، في الصحيحين، ومنها: حديث عبد الله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب وغيرها من الأحاديث الصحيحة والحسنة.
وأما الإجماع: فقد نقل الإجماع جماعة من أهل العلم.
قال الطحاوي الحنفي:: نظرنا في ذلك فرأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه واليدان والرجلان والرأس (2) .
ومراده بالاتفاق هنا: الإجماع.
وقال العيني: الوجه الثالث في غسل الوجه، وهو فرض بالنص بلا خلاف (3) .
وقال ابن عبد البر: ((العلماء أجمعوا على أن غسل الوجه واليدين إلى
_________
(1) المائدة: 6.
(2) شرح معاني الآثار (1/33) .
(3) عمدة القارئ (3/9) .(9/453)
المرفقين والرجلين إلى الكعبين ومسح الرأس فرضٌ ذلك كله، لأمر الله في كتابه المسلم عند قيامه إلى الصلاة إذا لم يكن متوضئاً، لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين وغسلهما على ما نبينه في بلاغات مالك إن شاء الله)) (1) .
وقال ابن رشد المالكي: اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء (2) .
وقال الخرشي المالكي: ومحصل ذلك، أن منها فرضاً بإجماع، وهي الأعضاء الأربعة (3) .
وقال الماوردي الشافعي: أجمع المسلمون على وجوب غسله- يقصد الوجه (4) .
وقال النووي: وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه (5) .
ونقله في كتابه المجموع (6) .
ونقله من الحنابلة ابن قدامة في المغني (7) ، والكافي (8) ، وعبد الرحمن بن
_________
(1) التمهيد (4/31) .
(2) بداية المجتهد (1/119) .
(3) حاشية الخرشي (1/120) .
(4) الحاوي (1/107) .
(5) شرح مسلم (3/107)
(6) المجموع (1/405) .
(7) المغني 0 (1/161) .
(8) الكافي (1/27، 34) .(9/454)
قدامة (1) ، والزركشي (2) ، وابن عبد الهادي (3) ، وغيرهم.
وانظر كتاب إجماعات ابن عبد البر في العبادات فقد نقل الإجماع عن خلق كثير، وقد استفدت منه في نقل ما سبق (4) .
فإذا ثبت عندنا غسل الوجه، من كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ومن إجماع الأمة، فإن حقيقة الغسل: هو مرور الماء على العضو.
قال ابن عابدين: غسل الوجه: هو إسالة الماء مع التقاطر ولو قطرة.
وقال أبو يوسف: هو مجرد بل المحل بالماء، سال أو لم يسل (5) .
قلت: يلزم من كلام أبي يوسف ألا يكون هناك فرق بين الغسل والمسح، ولكن عبارة صاحب فتح القدير أدق من هذا، فقد قال: يجزئ إذا سال بعض الماء على العضو وإن لم يتقاطر (6) .
فخرج عن صورة المسح، فتقاطر الماء ليس شرطاً، وسيلانه على العضو شرط، وإلا كان مسحاً.
هل يجب عليه إمرار اليد على الوجه؟ .
_________
(1) الشرح الكبير (49، 56، 67) .
(2) شرح الزركشي (1/182) .
(3) مغني ذوي الأفهام (44) .
(4) (1/206) .
(5) حاشية ابن عابدين (1/208) .
(6) فتح القدير (1/11) .(9/455)
قال في فتح القدير: والغسل: الإسالة، يفيد أن الدلك ليس من صفته (1) . اهـ.
قلت: إمرار اليد على الوجه غاية ما فيها أنها مستحبة عند الجمهور، وعند المالكية لا يسمى غاسلاً إلا بإمرار اليد على الوجه مع الماء، وسبق أدلة القوم في مناقشة استحباب الدلك، في باب سنن الوضوء، والله أعلم.
_________
(1) شرح فتح القدير (1/11) .(9/456)
المبحث الأول:
حد الوجه
الفرع الأول:
حد الوجه طولاً وعرضاً
اتفق الفقهاء بأن غسل الوجه من فروض الوضوء، ولكن ما حد هذا الوجه الواجب غسله طولاً وعرضاً؟
أما حد الوجه طولاً فإن الفقهاء متفقون بأن حده من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن طولاً في الأمرد، وسيأتي الكلام على حده في الملتحي (1) .
وأما حد الوجه عرضاً: فقال الجمهور: عرضه من الأذن إلى الأذن مطلقاً (2) ، واختارها متأخروا المالكية (3) .
وقيل: حد الوجه في الملتحي: من الصدغ إلى الصدغ، وهي رواية عن مالك.
وسوف يأتي الكلام في الصدغ في مسألة مستقلة.
وقولنا: منابت الشعر المعتاد: خرج به غير المعتاد، وهو أقسام:
_________
(1) المبسوط (1/6) ، وانظر البحر الرائق (1/12) ، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه (1/105) ، المجموع شرح المهذب (1/405، 406) .
(2) انظر المراجع السابقة.
(3) المنتقى شرح الموطأ (1/36) .(9/457)
الأول: الأجلح: وهو من كان ينحسر شعره عن مقدم رأسه (1) , فإذا تصلع الشعر عن ناصيته لا يجب عليه غسل ذلك الموضع. قال النووي: بلا خلاف؛ لأنه من الرأس (2) .
الثاني: الأفرع: هو الذي ينزل شعره إلى الوجه,
ويقال له الأغم (3) .
فقيل: يجب عليه غسله، ولو كان عليه شعر؛ لأنه من الوجه حقيقة، وعليه الجمهور (4) .
وقيل: لا يجب غسله إلا أن يعم الجبهة كلها، وهو وجه ضعيف عند الشافعية؛ ووجهه: قالوا: لأنه في صورة الرأس.
ولا تغني الصورة عن الحقيقة شيئاً.
قال النووي: ولو نزل الشعر عن المنابت المعتادة إلى الجبهة نظر إن عمها وجب غسلها كلها بلا خلاف , وإن ستر بعضها فطريقان الصحيح منهما
_________
(1) ومنه حديث أبي هريرة في مسلم (2582) " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ".
(2) المجموع (1/406) ، وانظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/105) ،:
(3) قال في مواهب الجليل (1/184، 185) : قوله: " منابت شعر الرأس المعتاد يعني التي من شأنها في العادة أن ينبت فيها شعر الرأس، واحترز بذلك من الغمم: بفتح الغين المعجمة وميمين: وهو نبات الشعر على الجبهة، فإنه يجب غسل موضع ذلك, يقال: رجل غم وامرأة غماء والعرب تذم به وتمدح بالنزع; لأن الغمم يدل على البلادة والجبن والبخل، والنزع بضد ذلك قال:
فلا تنكحي إن فرق الله بيننا... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا.
(4) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/105) ، مواهب الجليل (1/185) ، المجموع (1/) ، الإنصاف (1/156) ،(9/458)
وبه قطع العراقيون وجوب غسل ذلك المستور , ونقل القاضي حسين أن الشافعي نص عليه في الجامع الكبير.
(والثاني) وبه قال الخراسانيون: فيه وجهان أصحهما هذا, والثاني: لا يجب لأنه في صورة الرأس.
الثالث: الأنزع.
النزعتان: هما البياض الذي انحسر عنه شعر الرأس من جانبي مقدم الرأس، يقال نزع الرجل فهو أنزع (1) .
فلا يجب غسلهما؛ لأنهما من الرأس، وهو قول الجمهور (2) .
وقيل: النزعتان من الوجه، وهو وجه في مذهب الحنابلة:
قال المرداوي: اختاره القاضي , وابن عقيل , والشيرازي, وقطع به القاضي في الجامع (3) .
والأول أصح؛ فكما أن ناصية الأصلع لا تدخل في الوجه، قال النووي بلا خلاف، فكذلك لا يدخل البياضان للأنزع. والله أعلم.
_________
(1) انظر البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/115) ، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير المطبوع في مجلد واحد (ص: 910) .
(2) قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق (1/12) : وفي المجتبى ولا يدخل في حد الوجه النزعتان , وهو ما انحسر من الشعر من جانبي الجبهة إلى الرأس ; لأنه من الرأس. اهـ وانظر حاشية ابن عابدين (1/97) .
وقال الصاوي المالكي في حاشيته على الشرح الصغير (1/105) : كما لا تدخل ناصية الأصلع في الوجه، لا يدخل البياضان للأنزع. اهـ وانظر البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/115) ، وانظر البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/115) ، والإنصاف (1/154) .
(3) الإنصاف (1/154) .(9/459)
[صفحة فارغة](9/460)
الفرع الثاني:
حكم البياض الواقع بين العذار وبين الأذن
تعريف العذار:
قال في المغرب: عذارا اللحية: جانباها، استعير من عذاري الدابة، وهما ما على خديه من اللجام، وعلى ذلك قولهم: أما البياض الذي بين العذار وشحمة الأذن صحيح. وأما من فسره بالبياض نفسه فقد أخطأ (1) .
وقال ابن الأثير في غريب الحديث: العِذَاران من الفرس كالعارضين من وجه الإنسان (2) .
وجاء في المصباح المنير: عذار اللحية: الشعر النازل على اللحيين (3) .
وقال ابن قدامة: العذار: هو الشعر الذي على العظم الناتئ، الذي هو سمت صماخ الأذن , وما انحط عنه إلى وتد الأذن (4) .
فتبين من هذا أن العذار عند أهل اللغة والفقه: هو الشعر النابت المحاذي للأذنين بين الصدغ والعارض وهو أول ما ينبت للأمرد غالباً.
فإذا عرفنا العذار فما حكم البياض الواقع بين العذار والأذن، هل هو من الوجه فيجب غسله أم لا؟.
اختلف الفقهاء في ذلك:
_________
(1) المغرب (ص: 308) .
(2) غريب الحديث والأثر (ص: 600) .
(3) المصباح المنير (ص: 207) .
(4) المغني (1/81) .(9/461)
فقيل: البياض من الوجه، وهو مذهب الجمهور، وعليه يجب غسله (1) .
وقيل: الوجه من العذار إلى العذار، وبناء عليه لا يجب غسل البياض الذي بين الأذن والعذار، وهذا القول رواه ابن وهب عن مالك (2) .
قال ابن رشد: وهو المشهور من مذهب مالك (3) .
وقيل: الفرق بين الأمرد والملتحي، فيجب غسلهما من الأمرد دون الملتحي، روي هذا القول عن أبي يوسف من الحنفية (4) ، وحكاه بعضهم قولاً في مذهب مالك (5) .
وقيل: يسن غسله، وهو قول في مذهب المالكية (6) .
وقيل: الأذنان من الوجه، وهو قول الزهري، وسبق ذكره ودليله والجواب عليه (7) .
_________
(1) المبسوط (1/6) ، فتح القدير (1/12) ، تبيين الحقائق (1/3) ، المفهم في شرح مسلم (1/486) ، بداية المجتهد (1/119) ، الخرشي (1/121) ، مواهب الجليل (1/184) ، فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/218) ، مقدمات ابن رشد (1/76) ، القوانين الفقهية (ص: 26) ، المجموع (1/407) ، مغني المحتاج (1/51) ، حاشية الروض (1/201) ، المغني (1/81) .
(2) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/218) ، بداية المجتهد (1/119) .
(3) بداية المجتهد (1/119) .
(4) المبسوط (1/6) ، فتح القدير (1/12) ، تبيين الحقائق (1/3) .
(5) انظر ما سبق من العزو إلى كتب المالكية، وانظر الفواكه الدواني (1/138) .
(6) قال في الفواكه الدواني عن غسل البياض الذي بين العذار وبين الأذن (1/138) : وفيه أربعة أقوال: وجوب غسله مطلقاً, عدم وجوبه مطلقاً, الوجوب على الأمرد وعدمه لصاحب اللحية, والرابع سنية غسله, والمشهور الأول وهو وجوب غسله مطلقاً.
وانظر مواهب الجليل (1/184) .
(7) انظر الكلام عليه في فصل: هل الأذنان من الرأس(9/462)
وقيل: ما أقبل من الأذنين من الوجه، وظاهرهما من الرأس، وهو قول الشعبي، وسبق ذكر دليله والجواب عليه (1) .
دليل الجمهور:
أن هذا البياض من الوجه؛ لأنه تحصل به المواجهة كالخد.
ولأنه من الوجه في حق المرأة وفي حق الرجل الأمرد، فكذلك من له لحية.
دليل من قال: ليس من الوجه.
لا أعلم له دليلاً حتى قال ابن عبد البر في التمهيد: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك (2) .
دليل من قال: سنة.
ذكر هذا القول جماعة من المالكية كما سبق عزوه عند ذكر الأقوال، ولم يذكروا دليل السنية، ولعل من قال به نظر إلى ختلاف أصحاب مالك في وجوب غسله، فتوسط بين قولين: بين القول بوجوب غسله، وبين القول القائل: لا يغسل. والله أعلم.
_________
(1) انظر الكلام عليه في فصل: هل الأذنان من الرأس.
(2) فتح البر بترتيب التمهيد (3/218) .(9/463)
[صفحة فارغة](9/464)
الفرع الثالث:
في غسل شعر الوجه وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في شعر اللحية
اتفق الجمهور على تقسيم شعر اللحية إلى قسمين:
خفيف، وكثيف:
فالكثيف: لا يجب إيصال الماء إلى البشرة.
والشعر الخفيف: يجب إيصال الماء إلى ما تحته من البشرة (1) ، واختلف في حد الشعر الكثيف،
فقيل: ما ستر البشرة عن الناظر في مجلس التخاطب، وعليه الأكثر.
وقيل: ما عده الناس خفيفاً فهو خفيف، وما عدوه كثيفاً فهو كثيف.
وقيل: ما وصل الماء إلى تحته بلا مشقة فهو خفيف، وإلا فهو كثيف.
والثاني والثالث غير منضبط، والأول حد فاصل فهو معتبر (2) .
وقيل: يسقط غسل البشرة مطلقاً إذا نبت عليه شعر، سواء كان الشعر خفيفاً أو كثيفاً، وهو ظاهر كلام الكاساني في بدائع الصنائع، ولم يرتضيه ابن نجيم وابن عابدين (3) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/12) ، البحر الرائق (1/16) ، الخرشي (1/122) ، حاشية الدسوقي (1/86) ، مواهب الجليل (1/185) ، المجموع (1/409) ، الإنصاف (1/157) .
(2) المجموع (1/409، 410) .
(3) وهو ظاهر عبارة الكاساني في بدائع الصنائع (1/3) حيث يقول: الوجه يجب غسله قبل نبات الشعر , فإذا نبت الشعر سقط غسل ما تحته عند عامة العلماء, وقال أبو عبد الله البلخي: إنه لا يسقط غسله، وقال الشافعي: إن كان الشعر كثيفا يسقط , وإن كان خفيفاً لا يسقط. اهـ
فهو جعل الأقوال ثلاثة: الأول: يسقط غسل الوجه مطلقاً عند عامة العلماء إذا نبت الشعر، والقول الثاني: لا يسقط مطلقاً عند أبي عبد الله البلخي، كثيفاً كان الشعر أو خفيفاً، والثالث: مذهب الشافعي: وهو التفصيل بين الشعر الكثيف والخفيف، فيسقط غسل البشرة في الكثيف، ولا يسقط غسله في الخفيف.
وقال ابن عابدين في حاشيته (1/101) : أما ما في البدائع من أنه إذا نبت الشعر يسقط غسل ما تحته عند عامة العلماء كثيفاً كان أو خفيفاً ; لأن ما تحته خرج من أن يكون وجها ; لأنه لا يواجه به اهـ فمحمول على ما إذا لم تر بشرتها، كما يشير إليه التعليل. اهـ
وحمل ابن نجيم كلام الكاساني بمثل ما حمله ابن عابدين، انظر البحر الرائق (1/16) .
وهذا الحمل غير ظاهر، لأنه لو حمل على ذلك لم يكن بينه وبين مذهب الشافعي فرق، والله أعلم.(9/465)
وقيل: يجب غسل البشرة مطلقاً حتى في اللحية الكثيفة، حكي عن بعض المالكية (1) ، واختاره المزني وأبو ثور (2) ، وهو قول في مذهب الحنابلة (3) .
دليل من فرق بين الشعر الخفيف والكثيف.
الأصل: وجوب غسل البشرة لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى؛ إذا كان كثيفاً؛ لأنها طهارة مبنية على التخفيف، ولأن إيصال الماء إلى الحوائل في الوضوء كاف وإن لم تكن متصلة بالبدن اتصال خلقة كالخف والعمامة والجبيرة فالمتصل خلقة أولى.
_________
(1) مواهب الجليل (1/185) .
(2) المجموع (1/409) .
(3) الإنصاف (1/157) .(9/466)
والدليل على أن ما تحت الشعر الكثيف لا يجب غسله.
(950-179) حديث ابن عباس في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فغرف غرفة فغسل بها وجهه. الحديث.
وبغرفة واحدة لا يصل الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف مع كثافة اللحية، خاصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثير شعر اللحية كما في مسلم، وفي رواية: كان كث اللحية: أي الشعر الكثير ليس بالطويل ولا بالقصير.
ولو كان غسل ما تحت الشعر واجباً لنقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته، ولم يذكر التخليل في أحاديث الصحيحين كحديث عبد الله ابن زيد، وعثمان بن عفان، وغيرهما، والله أعلم.
دليل من أوجب غسل البشرة مطلقاً
لعلهم قاسوا ذلك على غسل الجنابة، بجامع أن كلاً منهما طهارة من حدث.
والدليل على وجوب إيصال الماء إلى البشرة في غسل الجنابة.
(951-180) ما رواه البخاري في صحيحه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده.
ولعلهم رأوا أن الواجب هو غسل البدن، وإذا طرأ على البدن شعر لم يمنع ذلك من وجوب غسل البدن، حتى يتعذر غسله، والشعر لا(9/467)
يمنع من وصول الماء إلى البدن.
ويجاب على ذلك:
بأن الطهارة الصغرى مبنية على التخفيف، ولذلك جاز فيها المسح على الرأس وعلى الخفين، وكانت على أعضاء مخصوصة، بخلاف الطهارة الكبرى فإن طهارتها ليس فيها مسح، وتعم جميع البدن، والله أعلم.
كما يمكن أن يستدل ببعض الأدلة التي سقناها في تخليل اللحية، وفيها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي.
ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي.
والأصل في الأمر الوجوب. انظر هذه الأدلة في مسألة تخليل اللحية.
وهي أحاديث كلها ضعيفة، لا تقوم بها حجة.
وقالوا: إن ما تحت الشعر الكثيف بقي داخلاً في حد الوجه بعد نبات الشعر، فيجب غسله.
وجاء عن سعيد بن جبير: ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها، وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية.
ولعل كلام سعيد بن جبير يكون متوجهاً لمن قال: يسقط الغسل إلى غير بدل، أما من غسل لحيته فلا يقال له: فإذا أنبت لما لم يغسلها، والله أعلم.
والراجح من خلاف أهل العلم التفريق بين الشعر الخفيف والشعر الكثيف، فيجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الخفيف، نظراً لأن البشرة ما زالت ظاهرة غير مستترة، والأصل وجوب غسل البشرة، فإن حجبت بالشعر كان الغسل للشعر فقط، وناب مناب البشرة.(9/468)
المسألة الثانية: شعر اللحية هل يغسل أم يمسح
اختلف العلماء في شعر اللحية هل يغسل أم يمسح كما في شعر الرأس ونحوه، فقيل: يمسح منها مقدار الربع، وهو قول أبي حنفية (1) ،
واختار أبو يوسف صحة الوضوء ولو لم يمس لحيته بالماء (2) .
قال الكاساني: وهذه الرويات - يعني رواية أبي حنيفة وأبي يوسف مرجوع عنها (3) .
وقيل: ليس غسل اللحية من السنة، وهو رواية عن الإمام أحمد (4) .
وقيل: يجب غسله، وهو المشهور من مذهب الحنفية (5) ، والشافعية (6) ، والحنابلة (7) .
دليل من قال: يمسح اللحية بدون غسل.
رأى أن الشعر على الوجه حكمه حكم الحائل من خف ونحوه، فينتقل الفرض من الغسل إلى المسح، ولذلك قالوا: لا يشرع أن يأخذ للحية ماء
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/480) تبيين الحقائق (1/3) ، الفتاوى الهندية (1/4) .
(2) أحكام القرآن للجصاص (2/480) ، تبيين الحقائق (1/3) .
(3) بدائع الصنائع (1/4) ، ورجح الزيلعي في نصب الراية وجوب غسل ظاهر اللحية، ولم يقل: إن القول بالمسح قد رجع عنه أبو حنيفة وأبو يوسف، انظر تبيين الحقائق (1/3) .
(4) قال في الإنصاف (1/156) : نقل بكر عن أبيه أنه سأل أحمد: أيما أعجب إليك، غسل اللحية أو التخليل؟ فقال: غسلها ليس من السنة , وإن لم يخلل أجزأه. فأخذ من ذلك الخلال: أنها لا تغسل مطلقاً، فقال: الذي ثبت عن أبي عبد الله: أنه لا يغسلها، وليست من الوجه، ورد ذلك القاضي وغيره من الأصحاب، وقالوا: معنى قوله " ليس من السنة " أي غسل باطنها.
(5) بدائع الصنائع (1/4) ، تبيين الحقائق (1/3) .
(6) المجموع (1/414) ، البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/116) .
(7) الفروع (1/146) ، الإنصاف (1/156) ، المغني (1/81) .(9/469)
جديداً، بل بفضل ماء الوجه.
ومن قال: يمسح مقدار الربع من اللحية، رأى أن كل ممسوح طهارته مبنية على التخفيف، فالخف لا يجب استيعابه، وكذلك مسح الرأس عنده، فإذا مسح من اللحية ومن الرأس مقدار الربع فقد قام بما هو واجب عليه.
دليل من قال: يجب غسل اللحية.
قال: إن الواجب غسل البشرة، وحين استترت بالشعر انتقل الواجب إلى الشعر حيث كان كثيفاً، أما لو كان خفيفاً لوجب غسل البشرة، فالغسل لا يسقط.
وقد جاء في حديث ظاهره غسل اللحية
(952-181) فقد روى مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا -
عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. الحديث.
فإذا كان الماء يقطر من أطراف اللحية كان هذا دليلاً على غسلها، وليس على مسحها فقط، والله أعلم.(9/470)
المسألة الثالثة: شعر الوجه فيما عدا اللحية
شعر الوجه سوى اللحية كالعذار وشعر الحاجبين والشارب وأهداب العينين والعنفقة ونحوها.
فالجمهور لا يفرقون بين شعر اللحية وبين غيرها مما ينبت في الوجه كالشارب والعنفقة وشعر الحاجبين، فما كان كثيفاً غسل ظاهره، وما كان خفيفاً وجب غسل البشرة تحته (1) .
وذهب الشافعية إلى التفريق بين شعر اللحية وبين غيرها، فقالوا في اللحية كقول الجمهور، فرقاً بين الكثيفة والخفيفة، وأما شعر غير اللحية فأوجبوا وصول الماء إلى تحت البشرة مطلقاً، كثيفاً كان أو خفيفاً.
قال النووي: ((قال أصحابنا ثمانية من شعر الوجه يجب غسلها وغسل البشرة تحتها، سواء خفت أو كثفت، وهي: الحاجبان، والشارب، والعنفقة، والعذار، واللحية من المرأة والخنثى، وأهداب العينين، وشعر الخد)) (2) .
وعللوا ذلك: بأن الشعر كونه كثيفاً في هذه المواضع نادر، والنادر لا حكم له.
وقول الجمهور أرجح؛ لأن شعر اللحية كغيره، فالأصل غسل البشرة، فلما حجبها الشعر انتقل الحكم إلى الشعر، لأن الحكم في اللحية إن كان
_________
(1) انظر بدائع الصنائع (1/3) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/106) ، وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف (1/134) : شعر غير اللحية كالحاجبين والشارب والعنفقة ولحية المرأة وغير ذلك مثل اللحية في الحكم على الصحيح من المذهب، وعليه الجمهور. وجزم به في الرعاية في لحية المرأة.
وقيل: يجب غسل باطن ذلك كله مطلقاً.
(2) المجموع (1/411) .(9/471)
معللاً بكونه تحصل به المواجهة، فقد انتقلت هذه العلة إلى الشعر، ولم تبق البشرة تحصل بها المواجهة بعد سترها، وإن كان الحكم في اللحية معللاً بالمشقة في إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف، فالمشقة موجودة في شعر الشارب الكثيف والحاجب الكثيف ونحوهما، والله أعلم.(9/472)
المسألة الرابعة: في غسل المسترسل من اللحية
اختلف العلماء في حكم ما استرسل من اللحية،
فقيل: يجب غسل ظاهره، وهو المشهور من مذهب المالكية (1) ، والحنابلة (2) ، وعليه أكثر الشافعية (3) .
وقيل: لا يجب بل يسن، وهو مذهب الحنفية (4) وأحد قولي الشافعية (5) .
_________
(1) الخرشي (1/121) ، الشرح الصغير (1/105) ، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب (1/190) ، حاشية الدسوقي (1/85) ، أحكام القرآن لابن العربي (2/53) .
(2) الفروع (1/146) ، الإنصاف (1/156) ، المغني (1/81) .
(3) قال الشافعي في الأم (1/25) : وأحب أن يمر الماء على جميع ما سقط من اللحية عن الوجه وإن لم يفعل فأمرَّه على ما على الوجه ففيها قولان:
أحدهما لا يجزيه; لأن اللحية تنزل وجهاً.
والآخر يجزيه إذا أمره على ما على الوجه منه. اهـ نقلاً من الأم.
وقال النووي في المجموع (1/414) : قال أصحابنا: إذا خرجت اللحية عن حد الوجه طولا أو عرضا أو خرج شعر العذار أو العارض أو السبال فهل يجب إفاضة الماء على الخارج؟ فيه قولان مشهوران, وهذه المسألة أول مسألة نقل المزني في المختصر فيها قولين: الصحيح منهما عند الأصحاب الوجوب, وقطع به جماعات من أصحاب المختصرات.
والثاني: لا يجب لكن يستحب. الخ كلامه رحمه الله.
(4) قال في بدائع الصنائع (1/4) : ولا يجب غسل ما استرسل من اللحية عندنا , وعند الشافعي يجب ". اهـ وانظر الفتاوى الهندية (1/4) ، تبيين الحقائق (1/3) ، وكتب الحنفية تعبر بقولها: " ولا يجب غسل المسترسل من اللحية " والتعبير بنفي الوجوب لا يستلزم نفي الاستحباب، إلا أن ابن عابدين في حاشيته (1/97) قال: " لا يجب غسل المسترسل ولا مسحه بل يسن ".
(5) انظر ما نقلته قبل قليل من كلام النووي في المجموع.(9/473)
وقيل: لا يشرع غسله، وهو اختيار ابن حزم رحمه الله (1) .
دليل من قال: يجب غسل المسترسل من اللحية.
استدل بقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} (2) ، فالله أمر بغسل الوجه أمراً مطلقاً، ولم يخص صاحب لحية من أمرد، فكل ما أطلق عليه اسم وجه فواجب غسله؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، فوجب غسلها بدلاً من البشرة.
ولأن اللحية النازلة من الذقن تشبه اللحية النابتة على الخد، فإذا وجب غسل النابت على الخد وجب غسل النابت على الذقن مطلقاً سواء نزل على الصدر أم لم ينزل.
دليل من قال: لا يشرع غسل المسترسل.
أولاً: الأصل المأمور بغسله: هو بشرة الوجه، وإنما وجب غسل اللحية بدلاً من البشرة حين نبتت فوق الوجه، وما انسدل من اللحية على الصدر ليس تحته ما يلزم غسله فيكون غسل اللحية بدلاً منه.
ثانياً: القياس على الرأس، فكما أن جلد الرأس مأمور بمسحه، فلما نبت عليه الشعر ناب مسح الشعر عن مسح الرأس، وما انسدل من الرأس سقط، فليس تحته بشرة يلزم مسحها، ومعلوم أن الرأس سمي رأساً لعلوه ونبات الشعر فيه، وما سقط من الشعر وانسدل فليس برأس، فكذلك ما انسدل من اللحية فليس بوجه (3) .
_________
(1) المحلى (مسألة 198) .
(2) المائدة: 6.
(3) انظر فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/224) ، والمحلى (مسألة 198) .(9/474)
دليل من قال: يسن ولا يجب.
لعله قال ذلك احتياطاً، وخروجاً من الخلاف، فلم يبلغ الدليل عنده من القوة ما يجعله يجزم بالوجوب، ورأى أن الاحتياط في الترغيب في مسحه فاستحبه، خاصة أن فيه من الأدلة ما يدل على غسل ظاهر اللحية،
(953-182) كما في الحديث الذي رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا -
عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. الحديث.
فقوله: من أطراف لحيته مطلق، يشمل اللحية المسترسلة وغيرها. والله أعلم.
الراجح:
أن اللحية المسترسلة لا يجب غسلها، لقوة أدلة القائلين بعدم الوجوب، وأما قولهم: إنها تحصل بها المواجهة لا يكفي في الوجوب، فالرقبة متصلة بالوجه، وتحصل بها المواجهة ولا يجب غسلها، فكيف بالشعر النازل عن حد الرقبة، وأما حديث ((مع أطراف لحيته)) فلا يشعر بالوجوب، قد يشعر بالاستحباب، مع أن الحديث ليس نصاً في اللحية المسترسلة، والله أعلم.(9/475)
[صفحة فارغة](9/476)
الفرع الرابع:
إذا غسل وجهه غسل جزء من الجوانب المحيطة به
ذكر كثير من الفقهاء أن على المتوضئ إذا غسل وجهه أن يغسل جزءاً من رأسه، وسائر الجوانب المجاورة للوجه، احتياطاً، وليس هذا الغسل وجباً لنفسه وجوب المقاصد، وإنما وجب لغيره من باب الوسائل، لأن استيعاب الوجه واجب، ولا يمكنه الاستيعاب إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما يجب إمساك جزء من الليل في الصيام ليستوعب النهار (1) .
_________
(1) أحكام القرآن لابن العربي (2/54) ، مواهب الجليل (1/187) ، والمستصفى (ص: 66) ، المغني (1/33) ، المجموع (1/416) ، المنثور في القواعد (1/230) ،(9/477)
[صفحة فارغة](9/478)
الفرع الخامس:
في الكلام على الأنف والفم
أما ظاهر الأنف وحمرة الشفتين الظاهرة فهما من الوجه، فيجب غسلهما لدخولهما في حد الوجه طولاً وعرضاً، وأما باطن الأنف وداخل الفم فهل يدخلان في الوجه، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبين في الوضوء؟ أو لا يدخلان في حد الوجه، كما لا يدخل باطن العينين فيه؟ فتكون المضمضة والاستنشاق سنة، وقبل نقل خلاف العلماء في المضمضة والاستنشاق يبنغي أن أبين أن المضمضة والاستنشاق مجمع على مشروعيتهما في الوضوء، وإنما الخلاف في وجوبهما.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: والذي عليه المسلمون أن الاستنشاق والمضمضة من سنة الوضوء التي لا يجوز تركها (1) .
وقال ابن عبد البر: أجمع المسلمون طراً: أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء، وكذلك المضمضة ومسح الأذنين (2) .
وقال ابن حزم: واتفقوا على أن من غسل يديه ثلاثاً ثم مضمض ثلاثاً ثم استنشق ثلاثاً.... أنه قد أدى ما عليه في الأعضاء المذكورة (3) .
وأما الخلاف في وجوبهما فقد اختلف أهل العلم فيهما على أقوال:
فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء وفي الغسل، وهو مذهب المالكية والشافعية.
_________
(1) الطهور (ص: 213) .
(2) التمهيد (18/225) .
(3) مراتب الإجماع (ص: 18) .(9/479)
وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
هذان قولان متقابلان.
وفيه قولان آخران متقابلان أيضاً:
فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية.
وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل.
وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما.
والراجح: أن المضمضة سنة في الوضوء وفي الغسل، وأما الاستنشاق فواجب في الوضوء سنة في الغسل، والله أعلم.
وانظر أدلة الأقوال في سنن الوضوء، فقد ذكرتها هناك.(9/480)
الفرع السادس:
في غسل ما تحت الذقن
قال في مواهب الجليل: وليس عليه أن يغسل ما تحت الذقن، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً (1) .
قلت: يقصد والله أعلم استيعاب ما تحت الذقن بالغسل، وإلا فقد تقدم أنه يجب عليه إذا غسل رأسه أن يغسل ما يجاوره من جوانب الوجه، فلا بد أن يغسل جزءاً ولو يسيراً من تحت ذقنه، ليمكنه استيعاب وجهه.
ولذلك قال النووي: يجب على المتوضئ غسل جزء من رأسه ورقبته وما تحت ذقنه مع الوجه؛ لأنه لا يمكنه استيعاب الوجه إلا بذلك، كما يجب إمساك جزء من الليل من الصيام ليستوعب النهار (2) . اهـ
_________
(1) مواهب الجليل (1/185) .
(2) المجموع (1/416) .(9/481)
أحكام الطهارة
الوضوء
شروطه - سننه - فرائضه - نواقضه
تأليف
أبي عمر دبيان بن محمد الدبيان
المجلد العاشر
مكتبة الرشد
ناشرون(9/482)
الفصل الثاني:
من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين
من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين، وهو فرض بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعال: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (1) .
وأما السنة فالأحاديث الكثيرة الواردة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد وغيرهما وسبق تخريجهما.
وأما الإجماع فقد نقله جماعة كثيرة من أهل العلم، أقتصر على بعضهم:
قال الطحاوي الحنفي: نظرنا في ذلك، فرأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه، واليدان، والرجلان، والرأس (2) .
وقال ابن عبد البر: ((العلماء أجمعوا على أن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين ومسح الرأس فرضٌ ذلك كله، لأمر الله في كتابه المسلم عند قيامه إلى الصلاة إذا لم يكن متوضئاً، لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين وغسلهما على ما نبينه في بلاغات مالك إن شاء الله)) (3) .
وقال الخرشي المالكي: ((ومحصل ذلك، أن منها فرضاً بإجماع، وهي الأعضاء الأربعة)) (4) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) شرح معاني الآثار (1/33) .
(3) التمهيد (4/31) .
(4) حاشية الخرشي (1/120) .(9/483)
وقال القاضي أبو الوليد بن رشد: ((فرائض الوضوء ثمانية: منها أربعة متفق عليها عند أهل العلم، وهي التي نص الله تبارك وتعالى عليها، غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين)) (1) .
وقال الماوردي الشافعي: ((غسل الذراعين واجب بالكتاب والسنة والإجماع)) (2) .
وقد نقل الإجماع من الشافعية الخطيب الشربيني (3) ، والبجيرمي (4) ، والنووي (5) ، وغيرهم.
كما نقله من الحنابلة: ابن مفلح (6) ، والزركشي (7) ،وغيرهم.
_________
(1) مقدمات ابن رشد (1/53) .
(2) الحاوي الكبير (1/112) .
(3) مغني المحتاج (1/52) .
(4) حاشية البجيرمي (1/71) .
(5) الفروع (1/147) .
(6) شرح الزركشي (1/188) .
(7) مغني ذوي الأفهام (44) .(9/484)
المبحث الأول:
في غسل المرفقين مع اليدين
ذهب الجمهور إلى وجوب إدخال المرفقين في غسل اليدين (1) .
وقال زفر وأبو بكر بن داود: لا يجب إدخال المرفقين (2) ، وهو رواية عن مالك (3) ، وأحمد (4) ، وهو رأي ابن حزم (5) .
دليل الجمهور:
الدليل الأول:
(954-883) حديث أبي هريرة في مسلم، من طريق نعيم بن عبد الله المجمر قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع
_________
(1) بدائع الصنائع (1/4) ، البناية (1/106) ، شرح فتح القدير (1/15) ، المبسوط (1/6) ، الشرح الصغير (1/107) ، الشرح الكبير المطبوع مع حاشية الدسوقي (1/87) ، المنتقى للباجي (1/36) ، الحاوي الكبير (1/112) ، البيان في مذهب الشافعي (1/120) ، المجموع (1/419) ، الإنصاف (1/157) ، الكافي (1/28) ، المحرر (1/11) ، المقنع في شرح مختصر الخرقي (1/201) ، المغني (1/84، 85) .
(2) المبسوط (1/6) ، بدائع الصنائع (1/4) ، البناية (1/106) ، البيان في مذهب الشافعي (1/120) ، الحاوي الكبير (1/112) ، المجموع (1/419) .
(3) المنتقى للباجي (1/36) .
(4) الإنصاف (1/157) .
(5) المحلى (1/294) مسألة: 198.(9/485)
في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله (1) .
وجه الاستدلال:
كون أبي هريرة غسل يده حتى أشرع في العضد، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ صريحاً في الرفع.
قال القرطبي في المفهم: (أشرع) رباعي أي: مد يده بالغسل إلى العضد، من قولهم: أشرعت الرمح قبله: أي مددته إليه، وسددته نحوه، وأشرع باباً إلى الطريق، أي: فتحه مسدداً إليه، وليس هذا من شرعت في هذا الأمر، ولا من شرعت الدواب في الماء بشيء؛ لأن هذا ثلاثي، وذاك رباعي، ثم قال: والإشراع المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة محمول على استيعاب المرفقين والكعبين بالغسل، وعبر عن ذلك بالإشراع في العضد والساق؛ لأنهما مباديهما (2) .
الدليل الثاني:
(955-184) ما رواه الدارقطني من طريق عباد بن يعقوب، حدثنا القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل،
عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء
_________
(1) صحيح مسلم (246) .
(2) المفهم (1/498) .(9/486)
على مرفقيه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الثالث:
(956-185) ما رواه الدارقطني من طريق عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، نا عمي (يعقوب بن إبراهيم بن سعد) أخبرنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن معمر التيمي، عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه حدثه،
أنه سمع عثمان بن عفان، قال: هلموا أتوضأ لكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين (3) .
[قوله: ((حتى مس أطراف العضدين)) زيادة شاذة في الحديث] (4) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/56) .
(2) قال الدارقطني عقب الحديث: ابن عقيل ليس بالقوي.
ورواه البيهقي (1/56) من طريق سويد بن سعيد، حدثنا القاسم بن محمد به بنحوه.
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (1/57) : القاسم متروك عند أبي حاتم، وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وكذا ضعفه أحمد وابن معين، وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات، ولم يلتفت إليه في ذلك، وقد صرح بضعف هذا الحديث ابن الجوزي، والمنذري، وابن الصلاح، والنووي، وغيرهم، ويغني عنه ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ حتى أشرع في العضد. اهـ وانظر إتحاف المهرة (2854) .
(3) سنن الدارقطني (1/83) ، وانظر إتحاف المهرة (13645) .
(4) وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، كما عند أحمد، لكن اختلف على يعقوب بن إبراهيم:
فرواه عبيد الله بن سعد، عن عمه يعقوب بن إبراهيم، وزاد: حتى مس أطراف العضدين".
ورواه أحمد (1/68) حدثنا يعقوب به، ولم يزد على قوله: " ثم غسل يديه إلى المرفقين".
كما رواه يحيى بن كثير، عن محمد بن إبراهيم به، ولم يذكر هذه اللفظة، فقد أخرجه البخاري (6433) ، والنسائي في السنن الكبرى (175) من طريق شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، واختصره.
كما رواه البخاري (159) ومسلم (226) من طريق عطاء بن يزيد، عن حمران به، ولم يذكر هذه الزيادة، فانفراد ابن إسحاق فيها، مع أنه مختلف عليه في ذكرها مما يجعل في النفس شيئاً في ثبوتها من طريق حمران، وقد قال الذهبي عن ابن إسحاق: إن ما تفرد به ففيه نكارة. اهـ
وقد لا يكون الحمل على ابن إسحاق في هذه الزيادة، لأن الحديث قد خرجه أحمد من طريق ابن إسحاق، وليس فيه هذه الزيادة، فقد يكون الحمل على عبيد الله بن سعد لانفراده عن عمه يعقوب بن إبراهيم بن سعد بهذه اللفظة، والله أعلم.(9/487)
الدليل الرابع:
(957-186) ما رواه البزار، كما في مختصر زوائد البزار (1) ، والطبراني في الكبير (2) ، من طريق محمد بن حجر، ثنا سعيد بن عبد الجبار بن وائل بن حجر، عن أبيه، عن أمه،
عن وائل بن حجر، قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتي بإناء فيه ماء، فذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ، وفيه: ثم أدخل يمينه في الإناء، فغسل بها ذراعه اليمنى، حتى جاوز المرافق ثلاثاً، ثم غسل يساره بيمينه حتى جاوز المرفق، ثم مسح رأسه ثلاثاً، وظاهر أذنيه ثلاثاً، وظاهر رقبته، وأظنه قال: وظاهر لحيته ثلاثاً، ثم غسل بيمينه قدميه ثلاثاً، وفصل بين أصابعه، أو قال:
_________
(1) زوائد البزار (165) .
(2) الطبراني في الكبير (12/118) .(9/488)
وخلل بين أصابعه، ورفع الماء حتى جاوز الكعب، ثم رفعه في الساق، ثم فعل باليسرى مثل ذلك. وهذا لفظ البزار.
[إسناده ضعيف] (1) .
الدليل الخامس:
(958-187) ما رواه الطحاوي من طريق الحماني وأبي الوليد الطيالسي، كلاهما عن قيس بن الربيع، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد العبدي،
عن أبيه: قال: ما أدراكم حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزواجاً أو أفراداً: ما من عبد يتوضأ، فيحسن الوضوء، فيغسل وجهه حتى يسيل الماء على ذقنه، ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه، ثم يغسل رجليه
_________
(1) في إسناده: محمد بن حجر.
قال أبو حاتم: كوفي شيخ. الجرح والتعديل (7/239) .
وقال البخاري: فيه نظر. الكامل (6/156) ، وعبارة البخاري في الضعفاء للعقيلي (4/59) ، وفي لسان الميزان (5/119) : فيه بعض النظر.
وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي. لسان الميزان (5/119) ..
وفي إسناده أيضاً: سعيد بن عبد الجبار،
قال البخاري: فيه نظر. التأريخ الكبير (3/495) .
قال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين للنسائي (265) ، الكامل (3/387) .
وقال ابن عدي: ليس له كثير حديث، إنما له عن أبيه، عن جده أحايث يسيرة نحو الخمسة أو الستة. الكامل (3/387) .
وذكره ابن حبان في الثقات (6/350) . وفي التقريب: ضعيف.
وعبد الجبار بن وائل وإن كان ثقة إلا أنه قيل: إنه لم يسمع من أمه، فالإسناد ضعيف.(9/489)
حتى يسيل الماء من قبل كعبيه، ثم يقوم فيصلي ركعتين إلا غفر له ما سلف من ذنبه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
فاعتبر الحافظ هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً.
قال في الفتح: ((ويمكن أن يستدل لدخولهما يعني - المرفقين - بفعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين.
وفيه عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه.
وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء (فغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق) .
وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد، عن أبيه مرفوعاً " ثم
_________
(1) الطحاوي (1/37) .
(2) في إسناده الحماني حافظ مجروح، متهم بسرقة الحديث إلا أنه قد توبع، وفي إسناده قيس بن الربيع قال الحافظ في التقريب: صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه.
وفي إسناده ثعلبة بن عباد العبدي، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحاً. الجرح والتعديل (2/436) .
وقال العجلي: مجهول. معرفة الثقات (195) .
وذكره ابن حبان في الثقات (4/98) .
قال ابن المديني وابن حزم وابن القطان الفاسي: مجهول، وصحح حديثه الترمذي. تهذيب التهذيب (2/22) . وفي التقريب: مقبول.
انظر إتحاف المهرة (6753) .(9/490)
غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه " فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً)) (1) . اهـ
قلت: إن كان الاستدلال بالفعل المجرد على وجوب إدخال المرفقين فالاستدلال بحديث أبي هريرة في مسلم أولى، وقد تقدم ذكره في أدلتهم.
الدليل السادس:
لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أخل ولو مرة واحدة، فترك غسل المرفقين، فكل من نقل لنا صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - نقل لنا أنه كان يغسل مرفقيه، فهذا بيان للمجمل في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (2) .
وإنما تلقينا صفة الوضوء من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المبين لما أنزل عليه.
الدليل السابع:
قال الماوردي: لا يعرف فيه خلاف - يعني: وجوب غسل المرفقين - قبل زفر، فكان زفر محجوجاً بإجماع من تقدمه. اهـ
وقال الحافظ: ((قال الشافعي في الأم: لا أعلم مخالفاً في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فعلى هذا يكون زفر محجوجاً بالإجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحاً، وإنما حكى عن أشهب كلاماً محتملاً)) (3) . اهـ كلام الحافظ.
ولا أدري هل يستقيم القول: بأنه محجوج بالإجماع قبله، مع مخالفة زفر
_________
(1) فتح الباري (ح 185) .
(2) المائدة: 6.
(3) فتح الباري (185) .(9/491)
والطبري وبعض أصحاب داود، ومالك وأحمد في رواية عنهما، وهل ثبت الإجماع فعلا ً؟ أو تكون عبارة: لا أعلم مخالفاً ليست نقلاً للإجماع، بقدر ما هي نقل لعدم العلم بالخلاف، وبينهما فرق.
دليل من قال: لا يجب غسل المرفقين.
استدلوا بقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} فكلمة (إلى) لانتهاء الغاية فما بعدها غير داخل فيما قبلها، كما لا يجب دخول الليل في الصيام لقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} (1) .
وأجيب عن الآية بجوابين:
الأول: أن ((إلى)) في هذا الموضع بمعنى (مع) وليست غاية للمحدود، فيكون معنى الآية {وأيديكم إلى المرافق} أي مع المرافق، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، كما في قوله تعالى:
{وإذا خلوا إلى شياطينهم} (2) ، أي مع شياطينهم.
وكما في قوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} (3) ، أي: مع الله.
وكما في قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (4) ، أي: مع أموالكم.
وقال ابن عبد البر: وقد تكون إلى بمعنى الواو، فيكون المعنى: وأيديكم والمرافق)) .
_________
(1) البقرة: 187.
(2) البقرة: 14.
(3) آل عمران: 52.
(4) النساء: 2.(9/492)
الجواب الثاني:
أن إلى وإن كانت حداً وغاية فقد قال المبرد: إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل في جملته، وإن كان من غير جنسه لم يدخل، ألا تراهم يقولون: بعتك الثوب من الطرف إلى الطرف، فيدخل الطرفان في البيع؛ لأنهما من جنسه، وكذلك لم يدخل إمساك الليل في جملة الصيام؛ لأنه ليس من جنس النهار (1) .
وقال ابن عبد البر في التمهيد: وأنكر بعض أهل العلم أن تكون (إلى) بمعنى (مع) أو تكون بمعنى (الواو) قال: ولو كان كذلك لوجب غسل اليد كلها، واليد عند العرب: من أطراف الأصابع إلى الكتف، وقال: لا يجوز أن نخرج (إلى) عن بابها، ويذكر أنها بمعنى الغاية أبداً، وقال: وجائز أن تكون (إلى) بمعنى الغاية، وتدخل المرافق مع ذلك في الغسل؛ لأن الثاني إذا كان من الأول كان ما بعد (إلى) داخلاً فيما قبله، نحو قول الله عز وجل: {إلى المرافق} ثم ذكر نحو الكلام السابق المنقول عن المبرد.
وقولهم: إن اليد عند الإطلاق من أطراف الأصابع إلى الكتف غير مسلم، وإن قال به أحد أئمة اللغة، فاليد عند الإطلاق لا تشمل إلا الكف، كما قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (2) ، والقطع إنما هو للكف، وقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (3) ، والتيمم إنما يمسح الكفان فقط على الصحيح.
_________
(1) الحاوي الكبير (1/112) .
(2) المائدة: 38.
(3) المائدة: 6.(9/493)
وقال الزمخشري نقلاً من فتح الباري: ولفظ (إلى) يفيد معنى الغاية مطلقاً، فأما دخلوها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} دليل عدم الدخول: النهي عن الوصال، وقول القائل: حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل الدخول كون الكلام مسوقاً لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى: {إلى المرافق} لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن (1) .
الراجح: دخول المرفقين في الغسل، نظراً لقوة أدلتهم، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه أخل ولو مرة واحدة في ترك غسل المرفق في الوضوء، ولم يأت من يقول: لا يدخل المرفقان في غسل اليد إلا من حيث الاستدلال بـ (إلى) وهي محتملة، وطريقة الراسخين حمل المحتمل على الواضح، والمجمل على المبين، والله أعلم.
_________
(1) فتح الباري (185) .(9/494)
تنبيه:
إذا غسل يديه بعد غسل وجهه، كان عليه أن يغسلها من أطراف أصابعه إلى المرفقين، فيغسل الكفين مرة ثانية في غسل اليدين، ولا يكتفي في غسلهما في بداية الوضوء.
وقيل: إن غسل كفيه في بداية الوضوء اكتفى بغسل الذراعين، وهذا قول في مذهب الحنفية، وقد ذكرناه في مباحث غسل الكفين، والأول أرجح وأحوط، أما كونه أرجح: فإن غسل الكفين في أول الوضوء سنة، ومحلهما قبل غسل الوجه، فإذا كان غسل الكفين اختلف حكم غسلهما واختلف محله كذلك فكيف يتداخلان؟ فلو كان الحكم والمحل واحداً لكان القول بالتداخل له وجه. وأما كونه أحوط فظاهر؛ لأن من ترك غسلهما فقد اختلف العلماء في صحة وضوئه، وأما من غسلهما فقد خرج من العهدة بيقين، والله أعلم.(9/495)
[صفحة فارغة](9/496)
المبحث الثاني:
في غسل اليد الزائدة ونحوها من أعضاء الوضوء
الأعضاء الزائدة يجب غسلها في طهارة الحدث الأكبر وكذا في الغسل المسنون, وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.
وأما في طهارة الحدث الأصغر: فقد ذهب الفقهاء إلى أن من خلق له عضوان متماثلان كاليدين على منكب واحد ولم يمكن تمييز الزائدة من الأصلية , وجب غسلهما جميعا للأمر به في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} (1) .
فإن أمكن تمييز الزائدة من الأصلية , وجب غسل الأصلية باتفاق، وكذا الزائدة إذا نبتت على محل الفرض (2) .
أما إذا نبتت في غير محل الفرض ولم تحاذ محل الفرض فالاتفاق واقع على عدم وجوب غسلها في الوضوء ولا مسحها في التيمم (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) انظر البحر الرائق (1/14) ، الفتاوى الهندية (1/4) ، ومواهب الجليل (1/193) .
(3) ساق الاتفاق النووي في المجموع، قال (1/421) : إن كان له يدان متساويتان في البطش والخلقة وجب غسلهما أيضا بلا خلاف، لوقوع اسم اليد, وإن كانت إحداهما تامة والأخرى ناقصة، فالتامة هي الأصلية، فيجب غسلها, وأما الناقصة فإن خلقت في محل الفرض وجب غسلها أيضا بلا خلاف، كالأصبع الزائدة. قال الرافعي وغيره: وسواء جاوز طولها الأصلية أم لا. قال: ومن الأمارات المميزة للزائدة أن تكون فاحشة القصر, والأخرى معتدلة, ومنها فقد البطش وضعفه، ونقص الأصابع. وإن خلقت الناقصة على العضد ولم يحاذ شيء منها محل الفرض لم يجب غسلها بلا خلاف, وإن حاذته وجب غسل المحاذي على المذهب الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به الأكثرون, منهم الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وإمام الحرمين، والغزالي، والبغوي، وصاحب العدة، وآخرون. ونقل إمام الحرمين عن العراقيين وغيرهم: أنهم نقلوا ذلك عن نص الشافعي، ثم قال: المسألة محتملة جداً، ولكني لم أر فيها إلا نقلهم النص, هذا كلام الإمام. ونقل جماعات في وجوب غسل المحاذي وجهين، منهم الماوردي، وابن الصباغ، والمتولي، والشاشي، والروياني، وصاحب البيان، وغيرهم, قال الرافعي: قال كثيرون من المعتبرين: لا يجب; لأنها ليست أصلاً ولا نابتة في محل الفرض فتجعل تبعاً, وحملوا النص على ما إذا لصق شيء منها بمحل الفرض. قال إمام الحرمين: ولو نبتت سلعة في العضد وتدلت إلى الساعد لم يجب غسل شيء منها بلا خلاف إذا تدلت ولم تلتصق والله أعلم.(9/497)
أما إذا كانت الزائدة نابتة في غير محل الفرض وحاذت كلها أو بعضها محل الفرض فجمهور الفقهاء من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (4) ، يوجبون غسل ما حاذى محل الفرض منها , أو كلها عند المالكية إذا كان لها مرفق (5) .
أما الحنابلة فلهم فيها قولان: أحدهما، مع الجمهور، وهو قول أبي يعلى, والثاني: قول ابن حامد وابن عقيل: أن النابتة في غير محل الفرض لا يجب غسلها, قصيرة أو طويلة, لأنها أشبهت شعر الرأس إذا نزل عن حد الوجه, وهذا القول: هو الصحيح من مذهب الحنابلة (6) ، ورجحه ابن قدامة (7) .
_________
(1) انظر البحر الرائق (1/14) ، الفتاوى الهندية (1/4) .
(2) ومواهب الجليل (1/193) ، الفواكه الدواني (1/140) حاشية الدسوقي (1/87) ، الخرشي (1/123) .
(3) المجموع (1/421) ، أسنى المطالب (1/33) ، حاشية البجيرمي (1/149) ،
(4) المغني (1/85) ، مطالب أولي النهى (1/116) .
(5) الفواكه الدواني (1/140) ، حاشية الدسوقي (1/87) ، الخرشي (1/123) .
(6) قال في الإنصاف (1/157) : وإن كانت نابتة في غير محل الفرض, كالعضد والمنكب, وتميزت: لم يجب غسلها, سواء كانت قصيرة أو طويلة , على الصحيح من المذهب, اختاره ابن حامد, وابن عقيل، قال المصنف والشارح, وصاحب مجمع البحرين, وابن عبيدان وغيرهم: هذا أصح, وقدمه ابن رزين في شرحه, واختاره المجد في شرحه. الخ كلامه رحمه الله.
(7) المغني (1/85) .(9/498)
المبحث الثالث:
في الجلد المنكشط
اختار بعض الفقهاء: أن الاعتبار في الجلد المتقلع بالمحل الذي انتهى التقلع إليه وتدلى منه، فيعتبر المنتهى، ولا ينظر إلى الموضع الذي تقلع منه ,
فإذا تدلى الجلد المتقلع من محل الفرض في اليد وجب غسله مع اليد، سواء انكشط من محل الفرض وتدلى منه، أو انكشط من العضد وبلغت إلى المرفق أو الساعد فتدلى منه؛ لأنها صارت تابعة لما نزلت منه.
وإن تدلى من العضد لم يجب غسله سواء انكشط من العضد وتدلى منه، أو انكشط من محل الفرض وبلغ إلى العضد؛ لأنه صار تابعاً للعضد.
هذا ما اختاره العراقيون والبغوي من الشافعية، ورجحه النووي.
واختار إمام الحرمين من الشافعية: أن الصواب أن يعتبر بأصله فيجب غسل جلدة الساعد المتدلية من العضد ولا يجب غسل جلدة العضد المتدلية من الساعد إذا لم تلتصق به , وبهذا قطع الماوردي، وصححه المتولي (1) .
والأول أقوى، والله أعلم.
_________
(1) الخرشي (1/123) ، الفواكه الدواني (1/139) ، المجموع (1/423) ، البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/122) ، المغني (1/85) ، الإنصاف (1/158) ، كشاف القناع (1/98) .(9/499)
[صفحة فارغة](9/500)
المبحث الرابع:
في أقطع اليد أو بعضها
إذا كان الرجل أقطع اليد، فإن كان مقطوعاً من دون المرفق وجب عليه غسل ما بقي من الساعد مع المرفق (1) .
لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (2) .
(959-188) ولما رواه البخاري، من طريق أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (3) .
فقوله: ((وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) فإذا استطاع أن يغسل بعض محل الفرض وجب عليه؛ لدخوله تحت قدرته، وسقط عنه ما عجز عنه.
وحكي إجماعاً وجوب غسل ما بقي من محل الفرض، نقل الإجماع فيه النووي في المجموع (4) ، والحطاب في مواهب الجليل (5) .
وإن كان مقطوعاً من المفصل ففيه قولان:
_________
(1) انظر المدونة (1/130) ، الخرشي (1/123) ، مواهب الجليل (1/189، 190) ، المجموع (1/424) .
(2) التغابن: 16.
(3) صحيح البخاري (7388) ، ورواه مسلم (1337) .
(4) المجموع (1/424) .
(5) مواهب الجليل (1/191) .(9/501)
فقيل: يجب عليه غسل رأس العضد، وهو قول في مذهب الشافعية (1) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: لا يجب عليه غسل رأس العضد. وهو قول في مذهب الشافعية.
وأصل القولين اختلافهما في المرفق ما هو؟
فقيل: إن المرفق عظم الساعد، فعلى هذا لا يجب غسل عظم العضد.
وقيل: المرفق: هو مجتمع العظمين، عظم الساعد وعظم العضد، فعلى هذا يجب عليه غسل رأس العضد.
ومنهم من قال: هو مجتمع العظمين، وإنما هل يغسل عظم العضد تبعاً، أو قصداً، فإن قلنا: يجب غسله قصداً وجب غسله هاهنا، وإن قلنا: يجب غسله تبعاً لم يجب غسله هاهنا.
وإن قطع من فوق المرفق فلا فرض عليه، لفوات المحل.
واستحب له الشافعية (3) ، والحنابلة (4) أن يمس ما بقي من العضد بالماء، واختلفوا في علة الاستحباب:
فقيل: حتى لا يخلو العضو من طهارة.
وقيل: يستحب ذلك إطالة للتحجيل.
والراجح أنه لا يشرع له أن يمسه بماء؛ لأن محل الفرض سقط بزوال العضو الواجب غسله، ولم يشرع بدل عنه، فالعضد ليس محلاً للفرض حتى يستحب له أن يمسه بماء، والله أعلم.
_________
(1) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/122، 123) .
(2) كشاف القناع (1/101) .
(3) المجموع (1/424) ، البيان في مذهب الشافعي (1/122) .
(4) كشاف القناع (1/101) .(9/502)
المبحث الخامس:
في الوسخ يكون تحت الظفر
إذا كان تحت الظفر وسخ يمنع وصول الماء، فهل يصح وضوءه؟ .
فقيل: تجب إزلته مطلقاً، ولا يصح الوضوء مع وجوده، اختاره المتولي من الشافعية (1) ، وابن عقيل من الحنابلة (2) .
وقيل: لا تجب إزلته مطلقاً، ويعفى عنه، اختاره الغزالي من الشافعية (3) ، ومال إليه ابن قدامة من الحنابلة (4) .
وقيل: إن كان يسيراً عفي عنه، وإن فحش وجبت إزالته، وهو مذهب المالكية (5) ، وأومأ إليه ابن دقيق العيد (6) ، ورجحه
_________
(1) المجموع (1/340) .
(2) قال ابن قدامة في المغني (1/86) : " وإذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته، فقال ابن عقيل: لا تصح طهارته حتى يزيله " اهـ.
(3) تحفة المحتاج (1/187) ، وقال النووي في المجموع (1/340) : " ولو كان تحت الأظفار وسخ، فإن لم يمنع وصول الماء إلى ما تحته لقلته صح الوضوء.
وإن منع، فقطع المتولي بأنه لا يجزيه، ولا يرتفع حدثه، كما لو كان الوسخ في موضع آخر من البدن.
وقطع الغزالي في الإحياء بالإجزاء وصحة الوضوء والغسل، وأنه يعفى عنه للحاجة. اهـ
(4) المغني (1/86) .
(5) قال في الفواكه الدواني (1/140) : " ولا يلزمه إزالة ما تحت أظافره من الأوساخ إلا أن يخرج عن المعتاد، فيجب عليه إزالته، كما يجب عليه قلم ظفره الساتر لمحل الفرض. وانظر حاشية الدسوقي (1/88) .
(6) قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (1/125) : " إذا لم يخرج طول الأظفار عن العادة يعفى عن يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد، فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة، وقد ورد في بعض الأحاديث الإشارة إلى هذا المعنى. اهـ. وقد يعتبر هذا من ابن دقيق العيد قولاً رابعاً، وهو أن الأظفار إذا خرج طولها عن المعتاد أصبح ما يتعلق بها من الوسخ ما نعاً من حصول الطهارة، وإذا كان طولها معتاداً لم يمنع الوسخ. والله أعلم.(9/503)
ابن تيمية (1) .
وسبب الخلاف في هذه المسألة اختلافهم في العفو عن يسير ما يجب غسله من أعضاء الوضوء، فمن رأى أنه يجب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء، ولا يعفى عن شيء منها أوجب إزالة ما تحت الأظفار، ومن رأى أن هذا الشيء اليسير يعفى عنه كما يعفى عن يسير النجاسة ونحوها عفى عنه، ومن رأى أن الأعراب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يتعاهدون نظافة مثل ذلك، ولم يأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، رأى العفو عنه مطلقاً، ولم يقيده باليسير، وقد عرضنا أدلة الأقوال في كتابي سنن الفطرة من هذه السلسلة فارجع إليه غير مأمور.
_________
(1) يرى ابن تيمية العفو عن كل يسير يمنع وصول الماء، ولم يخصصه في الأظفار، قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/303) : " وإن منع يسير وسخ ظفر ونحوه وصول الماء صحت الطهارة، وهو وجه لأصحابنا، ومثله كل يسير منع وصول الماء حيث كان كدم وعجين الخ كلامه. اهـ(9/504)
الفصل الثالث:
من فروض الوضوء مسح الرأس
الفرض الثالث من فروض الوضوء مسح الرأس.
وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (1) .
وأما السنة فالأحاديث الكثيرة المستفيضة والتي سقناها فيما سبق من فروض الوضوء.
وأما الإجماع فنقله خلق كثير، نقله من الحنفية: الطحاوي (2) .
ومن المالكية: ابن عبد البر (3) ، والحطاب (4) ، وابن رشد (5) ، والقرطبي (6) ، والخرشي (7) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) شرح معاني الآثار (1/33) .
(3) التمهيد (4/31) .
(4) مواهب الجليل (1/202) .
(5) بداية المجتهد (1/129) .
(6) الجامع لأحكام القرآن (6/83) .
(7) الخرشي على مختصر خليل (1/120، 121) .(9/505)
ومن الشافعية: النووي (1) ، والماوردي (2) .
ومن الحنابلة: ابن قدامة (3) ، وابن مفلح (4) ، والزركشي (5) وغيرهم.
_________
(1) المجموع (1/428) .
(2) الحاوي (1/114) .
(3) الكافي (1/29) ، المغني (1/175) .
(4) الفروع (1/148) .
(5) شرح الزركشي (1/190) .(9/506)
المبحث الأول:
خلاف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس
اختلف العلماء في المقدار الواجب مسحه من الرأس،
فقيل: يكفي في مسح الرأس مقدار الناصية، وهو ربع الرأس، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يجب مسح جميع الرأس، وهو مذهب المالكية (2) ، والمشهور من
_________
(1) المبسوط (1/63) ، بدائع الصنائع (1/4) ، حاشية ابن عابدين (1/99) ، شرح فتح القدير (1/17) ، شرح معاني الآثار (1/31) .
(2) الاستذكار (2/30) ، المنتقى للباجي (1/38) ، مواهب الجليل (1/202) .
وقد أورد ابن العربي في أحكام القرآن مذاهب أهل العلم في مسح الرأس، وتكلم عليه في فوائد يحسن بي أن أنقله بتمامه وإن كان طويلاً نظراً لفائدته، يقول ابن العربي (2/64) : قوله تعالى: {برءوسكم} : الرأس عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة, ومنها الوجه, فلما ذكره الله سبحانه في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح. ولو لم يذكر الغسل أولاً فيه للزم مسح جميعه: ما عليه شعر من الرأس, وما فيه العينان والأنف والفم; وهذا انتزاع بديع من الآية، وقد أشار مالك إلى نحوه, فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء؟ فقال: أرأيت لو ترك بعض وجهه أكان يجزئه؟ ومسألة مسح الرأس في الوضوء معضلة , ويا طالما تتبعتها لأحيط بها حتى علمني الله تعالى بفضله إياها; فخذوها مجملة في علمها, مسجلة بالصواب في حكمها، واستيفاؤها في كتب المسائل:
اختلف العلماء في مسح الرأس على أحد عشر قولاً:
الأول: أنه إن مسح منه شعرة واحدة أجزأه.
الثاني: ثلاث شعرات.
الثالث: ما يقع عليه الاسم، ذكر لنا هذه الأقوال الثلاثة فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس عن الشافعي.
الرابع: قال أبو حنيفة: يمسح الناصية.
الخامس: قال أبو حنيفة: إن الفرض أن يمسح الربع.
السادس: قال أيضا في روايته الثالثة: لا يجزيه إلا أن يمسح الناصية بثلاث أصابع أو أربع.
السابع: يمسح الجميع ; قاله مالك.
الثامن: إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه; أملاه علي الفهري.
التاسع: قال محمد بن مسلمة: إن ترك الثلث أجزأه.
العاشر: قال أبو الفرج: إن مسح ثلثه أجزأه.
الحادي عشر: قال أشهب: إن مسح مقدمه أجزأه، فهذه أحد عشر قولاً.
ومنزلة الرأس في الأحكام منزلته في الأبدان, وهو عظيم الخطر فيهما جميعاً; ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسنة:
فمطلع الأول: أن الرأس وإن كان عبارة عن العضو فإنه ينطلق على الشعر بلفظه , قال الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} البقرة: 196. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "احلق رأسك" , والحلق إنما هو في الشعر, إذا ثبت هذا تركب عليه: المطلع الثاني:
المطلع الثاني: وهو أن إضافة الفعل إلى الرأس ينقسم في العرف والإطلاق إلى قسمين: أحدهما: أنه يقتضي استيفاء الاسم.
والثاني: يقتضي بعضه; فإذا قلت: " حلقت رأسي " اقتضى في الإطلاق العرفي الجميع. وإذا قلت: مسحت الجدار أو رأس اليتيم أو رأسي اقتضى البعض, فيتركب عليه: المطلع الثالث: وهو أن البعض لا حد له مجزئ منه ما كان، قال لنا الشاشي: لما قال الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم} وكان معناه شعر رءوسكم, وكان أقل الجمع ثلاثاً قلنا: إن حلق ثلاث شعرات أجزأه, وإن مسحها أجزأه, والمسح أظهر, وما يقع عليه الاسم أقله شعرة واحدة.
المطلع الرابع: نظر أبو حنيفة إلى أن الوضوء إنما شرعه الله سبحانه فيما يبدو من الأعضاء في الغالب, والذي يبدو من الرأس تحت العمامة الناصية, ولا سيما وهذا يعتضد بالحديث الصحيح " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح ناصيته وعمامته ".
المطلع الخامس: أنه إذا ثبت مسح الناصية فلا يتيقن موضعها; وإنما المقصود تعلق العبادة بالرأس; فقد ثبت مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - الناصية, وهي نحو الربع، فيتقدر الربع منه أين كان, ومطلع الربع بتقدير الأصابع يأتي إن شاء الله ,
ومطلع الجميع - يعني مسح جميع الرأس - أن الله سبحانه وتعالى علق عبادة المسح بالرأس, كما علق عبادة الغسل بالوجه; فوجب الإيعاب فيهما بمطلق اللفظ. وقول الشافعي: إن مطلق القول في المسح لا يقتضي الإيعاب عرفاً , فما علق به ليس بصحيح ; إنما هو مبني على الأغراض، وبحسب الأحوال, تقول: مسحت الجدار, فيقتضي بعضه من أجل أن الجدار لا يمكن تعميمه بالمسح حساً, ولا غرض في استيعابه قصداً, وتقول: مسحت رأس اليتيم لأجل الرأفة, فيجزئ منه أقله بحصول الغرض به، وتقول: مسحت الدابة فلا يجزئ إلا جميعها; لأجل مقصد النظافة فيها, فتعلق الوظيفة بالرأس يقتضي عمومه بقصد التطهير فيه; ولأن مطلق اللفظ يقتضيه; ألا ترى أنك تقول: مسحت رأسي كله فتؤكده, ولو كان يقتضي البعض لما تأكد بالكل ; فإن التأكيد لرفع الاحتمال المتطرق إلى الظاهر في إطلاق اللفظ.
ومطلع من قال: إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه: أن تحقق عموم الوجه بالغسل ممكن بالحس , وتحقق عموم المسح غير ممكن; فسومح بترك اليسير منه دفعاً للحرج، وهذا لا يصح ; فإن مرور اليد على الجميع ممكن تحصيله حسا وعادة.
ومطلع من قال: إن ترك الثلث من غير قصد أجزأه: قريب مما قبله , إلا أنه رأى الثلث يسيراً , فجعله في حد المتروك، لما رأى الشريعة سامحت به في الثلث وغيره.
ومطلع من قال: إن مسح ثلثه أجزأه: إلى أن الشرع قد أطلق اسم الكثير على الثلث في قوله من حديث سعد: " الثلث والثلث كثير ".
ولحظ مطلع أبي حنيفة في الناصية حسبما جاء في الحديث, ودل عليه ظاهر القرآن في تعلق العبادات بالظاهر، ومطلع قول أشهب في أن من مسح مقدمه أجزأه إلى نحو من ذلك تناصف ليس يخفى على اللبيب عند اطلاعه على هذه الأقوال، والأنحاء المطلعات أن القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات في مقصود الشريعة, ولا جاوزوا طرفيها إلى الإفراط ; فإن للشريعة طرفين: أحدهما: طرف التخفيف في التكليف. والآخر: طرف الاحتياط في العبادات. فمن احتاط استوفى الكل, ومن خفف أخذ بالبعض، قلنا: في إيجاب الكل ترجيح من ثلاثة أوجه: أحدهما: الاحتياط. الثاني: التنظير بالوجه, لا من طريق القياس; بل من مطلق اللفظ في ذكر الفعل وهو الغسل أو المسح, وذكر المحل; وهو الوجه أو الرأس. الثالث: أن كل من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه مسح رأسه كله. فإن قيل: فقد ثبت أنه مسح ناصيته وعمامته , وهذا نص على البعض؟ قلنا: بل هو نص على الجميع ; لأنه لو لم يلزم الجميع لم يجمع بين العمامة والرأس، فلما مسح بيده على ما أدرك من رأسه وأمر يده على الحائل بينه وبين باقيه أجراه مجرى الحائل من جبيرة أو خف , ونقل الفرض إليه كما نقله في هذين. جواب آخر: وهو أن هذا الخبر حكاية حال وقضية في عين ; فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - مزكوماً، فلم يمكنه كشف رأسه ; فمسح البعض ومر بيده على جميع البعض, فانتهى آخر الكف إلى آخر الناصية , فأمر اليد على العمامة , فظن الراوي أنه قصد مسح العمامة , وإنما قصد مسح الناصية بإمرار اليد; وهذا مما يعرف مشاهدة , ولهذا لم يرو عنه قط شيء من ذلك في أطواره بأسفاره على كثرتها. اهـ(9/507)
مذهب الحنابلة (1) ، واختاره المزني من الشافعية (2) .
وقيل: المفروض أقل ما يتناوله اسم المسح، ولو شعرة، وهو مذهب الشافعية (3) .
دليل الحنفية على جواز الاقتصار على الناصية في المسح.
الدليل الأول:
(960-189) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا التيمي، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة،
_________
(1) الروايتين والوجهين (1/72) ، الإنصاف (1/161) ، المغني (1/86) ، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/276) ، الفروع (1/147) .
وهناك رواية عن أحمد أنه يجزئ مسح بعضه، أنظر ما سبق من المراجع.
(2) مختصر المزني (ص: 2) ، المجموع (1/431) ، الحاوي الكبير (1/114) .
(3) المجموع (1/430) ، الحاوي الكبير (1/114) ، أسنى المطالب (1/33) ، تحفة المحتاج (1/209) .(9/510)
عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح بناصيته ومسح على الخفين والعمامة. قال بكر: وقد سمعته من ابن المغيرة (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المسند (4/255) .
(2) الحديث يرويه عن المغيرة: حمزة، وعمرو بن وهب، وعروة بن المغيرة، ومسروق، وخلق كثير بلغ مبلغ التواتر، ونكتفي من هذه الطرق بأشهرها، وما يهمنا في بحثنا هذا من ذكر الناصية.
الأول: طريق حمزة بن المغيرة عن المغيرة.
أخرجه أحمد كما في حديث الباب، ومسلم (274) ، وأبو داود (150) ، والترمذي (100) ، والنسائي (107) ، وأبو عوانة (1/259) ، وأخرجه أيضاً (1/260) وابن الجارود (83) ، وابن حبان (1346) من طريق يحيى بن سعيد القطان، ثنا التيمي، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة، عن أبيه.
وأخرجه مسلم (274) ، وأبو داود (150) من طريق المعتمر، عن أبيه (التيمي) به. وهذا متابعة من المعتمر ليحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه أحمد (4/248) من طريق حميد، عن بكر، عن حمزة بن المغيرة، عن أبيه، وذكر حديثاً طويلاً، وفيه: ثم مسح على عمامته وخفيه. الحديث، ولم يذكر الناصية.
وهذه متابعة تامة من حميد بن أبي حميد للتيمي في شيخه بكر بن عبد الله.
ورواه يزيد بن زريع، عن حميد، واختلف على يزيد:
فأخرجه النسائي (108) أخبرنا عمرو بن علي وحميد بن مسعدة.
وأخرجه البيهقي (1/60) من طريق حميد بن مسعدة.
وأخرجه أبو عوانة (1/259) ، والبيهقي في السنن (1/58) من طريق مسدد.
كلهم (مسدد وحميد بن مسعدة وعمرو بن علي) رووه عن يزيد بن زريع، عن حميد، عن بكر بن عبد الله، عن حمزة بن المغيرة، عن المغيرة بن شعبة.
وخالفهم محمد بن عبد الله بن بزيع، فرواه مسلم (274) عنه، عن يزيد بن زريع به إلا أنه جعل بدلاً من حمزة بن المغيرة جعل بدله عروة بن المغيرة.
قال النووي في شرح مسلم (3/170) : قال الحافظ أبو علي الغساني: قال أبو مسعود الدمشقي: هكذا يقول مسلم في حديث ابن بزيع، عن يزيد بن زريع، عن حميد، عن بكر، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة، وخالفه الناس، فقالوا فيه: حمزة بن المغيرة بدل عروة، وأما أبو الحسن الدارقطني فنسب الوهم فيه إلى محمد بن عبد الله بن بزيع لا إلى مسلم. هذا آخر كلام الغساني.
قلت: كلام الداقطني هو الذي تقتضيه قواعد علم الحديث؛ لأن الاختلاف فيه على يزيد بن زريع، رواه عنه جماعة بإسناد، وخالفهم محمد بن عبد الله بن بزيع، فالإمام مسلم برئ من عهدته.
قال النووي: قال القاضي عياض: حمزة بن المغيرة هو الصحيح عندهم في هذا الحديث، وإنما عروة بن المغيرة في الأحاديث الأخرى، وحمزة وعروة ابنان للمغيرة، والحديث مروي عنهما جميعاً، لكن رواية بكر بن عبد الله إنما هي عن حمزة بن المغيرة، وعن ابن المغيرة، ولا يقول بكر: عروة، ومن يقول عنه عروة فقد وهم، وكذلك اختلف على بكر، فرواه معتمر في أحد الوجهين عنه، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة، وكذا رواه يحيى بن سعيد عن التيمي، وقد ذكر هذا مسلم، وقال غيرهم: عن بكر عن ابن المغيرة. قال الدارقطني: وهو وهم. هذا آخر كلام القاضي عياض.
قلت: الوهم بعيد وقد رواه يحيى بن سعيد عن التيمي، عن بكر عن الحسن، عن ابن المغيرة، وفيه قال بكر: وقد سمعته من ابن المغيرة، فهذا بكر يصرح أنه سمعه من الحسن عن ابن المغيرة، وسمعه من ابن المغيرة نفسه بإسناد واحد مما يجعل الطريقين محفوظين، والله أعلم.
ورواية بكر عن ابن المغيرة أخرجها مسلم (274) ، من طريق المعتمر.
وأخرجه أبو عوانة (1/259) والبيهقي (1/58) من طريق يزيد بن هارون، كلاهما عن سليمان التيمي، عن بكر بن عبد الله، عن ابن المغيرة به.
ولفظ مسلم قال بدلاً من ناصيته (مقدم رأسه) .
ولفظ أبي عوانة: ومسح مقدم رأسه، ووضع يده على العمامة، أو مسح على العمامة. أهـ
وأخرجه عبد الرزق (749) ، والحميدي (757) ، وابن أبي شيبة (1/178) والنسائي في السنن الكبرى (110) عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن حمزة بن المغيرة به، إلا أن إسماعيل بن محمد لم يذكر إلا المسح على على الخفين، ولم يذكر المسح على العمامة ولا على الناصية.
الطريق الثاني: عمرو بن وهب، عن المغيرة بن شعبة.
رواه ابن سيرين، عن عمرو، وله طرق إلى ابن سيرين.
فرواه أحمد (4/247) من طريق هشام بن حسان، عن محمد (ابن سيرين) قال: دخلت مسجد الجامع فإذا عمرو بن وهب الثقفي قد دخل من الناحية الأخرى، فالتقينا قريباً من وسط المسجد، فابتدأني بالحديث، وكان يحب ما ساق إلي من خير، فابتدأني بالحديث، فقال: كنا عند المغيرة بن شعبة، وذكر حديثاً طويلاً وفيه: ومسح بناصيته وعلى العمامة والخفين. الحديث.
وأخرجه ابن حبان (1342) من طريق عوف وهشام عن محمد بن سيرين به.
وأخرجه النسائي (109) من طريق يونس بن عبيد، عن ابن سيرين به.
وأخرجه الطيالسي (699) عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين به، بلفظ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على العمامة والخفين.
فأخرجه أحمد (4/244) ، وابن أبي شيبة (1/163) والنسائي في السنن الكبرى، كما في تحفة الأشراف، ولم أقف عليه في المطبوع في مظانه، والدارقطني (1/192) ، والبغوي في شرح السنة (1/192) من طريق إسماعيل بن علية، أخبرنا أيوب، عن ابن سيرين به.
ورواه حماد بن زيد، عن أيوب، واختلف على حماد فيه:
فرواه الدراقطني (1/192) والبغوي في شرح السنة (232) من طريق يحيى بن حسان، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين به، كما هي رواية ابن علية، بل كما هي رواية هشام بن حسان، وسعيد بن عبد الرحمن.
ورواه البيهقي (1/58) من طريق أبي الربيع، ثنا حماد بن زيد، ثنا أيوب، عن محمد، عن رجل، عن عمرو بن وهب، عن المغيرة.
وتابعه جرير بن حازم عند أحمد (4/248) حدثنا أسود بن عامر، ثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، قال: حدثني رجل عن عمرو بن وهب به.
والراجح أن ابن سيرين قد سمع الحديث من عمرو بن وهب دون واسطة، للأسباب التالية:
أولاً: أن رواية هشام بن حسان ويونس بن عبيد، صرح كل منهما بأن محمد بن سيرين قد سمعه من عمرو بن وهب، وهما من أثبت أصحاب ابن سيرين على الإطلاق، بل إن في رواية هشام بن حسان قصة تؤكد أن ابن سيرين سمعه من عمرو بن وهب، قال محمد بن سيرين: دخلت المسجد، فإذا عمرو بن وهب الثقفي قد دخل من الناحية الأخرى، فالتقينا قريباً من وسط المسجد، ثم ذكر الحديث.
ثانياً: قد تابع هشام بن حسان ويونس بن عبيد كل من عوف وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وهؤلاء الأربعة لم يختلف عليهم في الحديث من كون ابن سيرين يرويه عن عمرو بن وهب.
ثالثاً: أن ابن علية قد رواه عن أيوب، كما هي رواية الجماعة.
رابعاً: أن الاختلاف على حماد بن زيد، فتارة يرويه كما هي رواية الجماعة، وتارة يجعل واسطة بين محمد بن سيرين وعمرو بن وهب رجلاً مبهماً، مما يدل على أنه لم يحفظ الحديث، إلا أن يكون الخطأ من تلميذ حماد، والله أعلم.
الطريق الثالث: عروة بن المغيرة، عن المغيرة.
وحديثه في الصحيحين وليس فيهما المسح على الناصية، وإنما ذكر الوضوء والمسح على الخفين. انظر البخاري (182) ومسلم (274) .
الطريق الرابع: مسروق، عن المغيرة.
حديثه في صحيح البخاري (363) ومسلم (274-78) وليس فيها المسح على الناصية.
وقد رواه غير هؤلاء عن المغيرة بن شعبة حتى قال ابن عبد البر في التمهيد (11/127) : روي هذا الحديث عن المغيرة من نحو ستين طريقاً. اهـ وتتبع ذلك يطول، وإنما فصلنا الطريق الذي ورد فيه ذكر المسح على الناصية، والله أعلم.(9/511)
وجه الاستدلال:
لما مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناصية، كان مسحه عليه الصلاة والسلام على العمامة من باب الفضل، لا من باب الوجوب؛ إذ لا يمكن أن يجب مسح البدل ومسح الأصل في وقت واحد.
قال الطحاوي: في هذا الأثر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على بعض الرأس، وهو الناصية، وظهور الناصية دليل أن بقية الرأس حكمه حكم ما ظهر منه؛ لأنه لو كان الحكم قد ثبت بالمسح على العمامة، لكان كالمسح على الخفين، فلم يكن إلا وقد غيبت الرجلان فيهما، ولو كان بعض الرجلين بادياً، لما أجزأه أن يغسل ما ظهر منهما، ويمسح على ما غاب منهما، فجعل حكم ما غاب منهما، مضمناً بحكم ما بدا منهما، فلما وجب غسل الظاهر وجب غسل الباطن، فكذلك الرأس لما وجب مسح ما ظهر منه ثبت أنه لا يجوز مسح ما بطن منه ليكون حكم كله حكماً واحداً، كما كان حكم الرجلين إذا غيبت بعضها في الخفين حكماً واحداً، فلما اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأثر بمسح الناصية على مسح ما بقي من الرأس دل ذلك أن الفرض في مسح الرأس هو مقدار الناصية، وأن ما فعله فيما جاوز به الناصية فيما سوى ذلك من الآثار كان دليلاً على الفضل لا على الوجوب حتى تستوي هذه الآثار ولا تتضاد، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار.
وأجيب:
بأنه لو جاز الاقتصار على مسح الناصية لما مسح على العمامة، وإذا مسح على ناصيته وكمل الباقي بعمامته أجزأه بلا ريب.
قلت: وهناك تأمل آخر في الحديث، وهو: هل قوله: توضأ فمسح على(9/515)
ناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين نقل لفعل واحد، أو أنه نقل لأفعال مختلفة رصدها المغيرة، ونقلها مجتمعة في نص واحد؟ فإن كان الفعل واحداً فظاهر أن المسح لم يقتصر على الناصية، فلا يكون فيه دليل على جواز الاقتصار على الناصية، وإن كان النقل لأفعال مختلفة، وأن هذه مجموعة أحاديث، وليست حديثاً واحداً للمغيرة، جمعها في حديث واحد، فهو دليل قوي على جواز الاقتصار على المسح على الناصية، وهذا الاحتمال غير بعيد، فإن هناك أحاديث للمغيرة ينقل لنا فيها المسح على الخفين فقط، وهناك حديث ينقل لنا المسح على الجوربين والنعلين، وقد تُكِلم فيه، وخرجته في المسح على الحائل، فيحتاج الباحث إلى تأمل، هل هذه الأفعال كانت متفرقة جمعها المغيرة في حديث واحد، أو كانت فعلاً واحداً في وضوء واحد، نقله لنا المغيرة بن شعبة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحنفية والشافعية لا يمكن أن يقولوا لنا: إنها أفعال مختلفة؛ لأنه يلزمهم على هذا أن يقولوا بجواز المسح على العمامة، وهم لا يقولون به، ومحال أن يحتجوا علينا ببعض الحديث، ويتركوا بعضه، والله أعلم.
قال ابن القيم في الزاد: ولم يصح عنه في حديث واحد، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة، ثم قال: وأما اقتصاره على الناصية مجردة لم يحفظ عنه (1) . اهـ
وأما الجواب على ما ذكره الطحاوي، فيقال: لا نسلم أن ما ظهر من القدم فرضه الغسل، وأنه يجب أن يغيب القدم في الخف، فالمسح على الخف ورد مطلقاً، واشتراط كون الخف ساتراً للمفروض لم يأت في كتاب ولا سنة،
_________
(1) زاد المعاد (1/193) .(9/516)
وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، والحنفية لا يمنعون المسح على الخف ولو ظهر أصبع أو أصبعين من القدم، ويجمعون في هذه الحالة بين المسح والغسل، مع أن نسبة الأصبعين إلى خمسة الأصابع كنسبة الناصية إلى العمامة، فانتقض كلام الطحاوي رحمه الله في عدم الجمع بين المسح والغسل، والله أعلم.
الدليل الثاني على جواز الاقتصار على الناصية:
(961-190) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد العزيز بن مسلم، عن أبي معقل،
عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (147) .
(2) في إسناده أبو معقل، لم يرو عنه إلا عبد العزيز بن مسلم، ولم يوثقه أحد، فهو مجهول العين.
وقال ابن القطان: مجهول. وكذا نقل ابن بطال عن غيره. تهذيب التهذيب (12/264) .
وقال الذهبي: لا يعرف. ميزان الاعتدال (4/576) . وفي التقريب: مجهول.
وقد ذكره ابن أبي حاتم، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/448) .
كما أن في إسناده عبد العزيز بن مسلم الأنصاري، وليس القسملي، فيه لين إذا تفرد بالحديث، روى عنه اثنان، وذكره ابن حبان في الثقات (5/123) ، ولم يوثقه غيره، وفي التقريب: مقبول، أي: حيث يتابع، وإلا فلين الحديث، ولم يتابع.
ومعاوية بن صالح صدوق له أوهام. فالإسناد ضعيف.
قال ابن السكن، كما في التنقيح لابن عبد الهادي (1/374) : لا يثبت إسناده.
وقال ابن القطان: لا يصح. وضعفه ابن عبد الهادي. وقال ابن حجر في التلخيص (1/95) : وفي إسناده نظر.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه أبو داود كما في إسناد الباب.
والحاكم في المستدرك (1/169) من طريق عثمان بن سعيد الدارمي كلاهما، عن أحمد ابن صالح.
ورواه ابن ماجه (564) عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، كلاهما، (أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح) عن ابن وهب به.
قال الحاكم: هذا الحديث وإن لم يكن إسناده من شرط الكتاب، فإن فيه لفظة غريبة: وهي أنه مسح على بعض الرأس، ولم يمسح على عمامته.
وأخرجه البيهقي (1/60- 61) من طريقين عن ابن وهب به.
انظر إتحاف المهرة (1996) ، تحفة الأشراف (1725) .(9/517)
قال ابن القيم: مقصود أنس به: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه (1) . اهـ
ولا نحتاج إلى هذا الجواب، والحديث ضعيف، ولو قبلوا منا هذا لقبلنا منهم دعوى أن الأحاديث الورادة في المسح على العمامة دون ذكر الناصية أن المقصود مع مسح الناصية، لأن هذه الأحاديث لم تنفيها، وقد أثبتها حديث المغيرة في المسح على العمامة والناصية، بل نقول: الحديث لا يثبت، ولا يستدل على دعوى الاقتصار على مقدم الرأس إلا بحديث صحيح، ولا يوجد.
_________
(1) زاد المعاد (1/194) .(9/518)
الدليل الثالث:
(962-191) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، قال:
بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ، وعليه العمامة يؤخرها عن رأسه، ولا يحلها، ثم مسح برأسه، فأشار الماء بكف واحد على اليافوخ قط، ثم يعيد العمامة (1) .
[هذا الأثر من عطاء مرسل، ومرسل عطاء من أضعف المراسيل] (2) .
الدليل الرابع:
فعل ابن عمر مع ما عرف عنه من حرصه على متابعة السنة.
(963-192) فقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن نافع،
أن ابن عمر كان يدخل يديه في الوضوء، فيمسح بها مسحة واحدة
_________
(1) المصنف (739) .
(2) رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، والمرسل لا حجة فيه، خاصة إذا كان المرسل من مثل عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه، قال يحيى بن سعيد القطان: مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب. تهذيب التهذيب (7/182) في ترجمة عطاء بن أبي رباح.
وقال أحمد: ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. المرجع السابق.
والأثر رواه ابن أبي شيبة (1/30) حدثنا عبد الله بن إدريس عن ابن جريج، عن عطاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فرفع العمامة، فمسح مقدم رأسه.
ورواه البيهقي (1/61) من طريق مسلم - يعني ابن خالد - عن ابن جريج به. ومسلم وإن كان متكلماً فيه فقد توبع.(9/519)
اليافوخ قط (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
فاجتمع لنا أثر صحيح موقوف، ومرسل عطاء، وحديث أنس الضعيف فهل يحصل بمجموعها ما يثبت به الاحتجاج، أو لا تقوى على معارضة الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا محل تأمل عندي.
قال ابن حجر عن مرسل عطاء: وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجئيه من وجه آخر موصولاً، أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة، وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر، أو مسند، ثم قال: وفي الباب أيضاً عن عثمان في صفة الوضوء، قال: ومسح مقدم رأسه، أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك، مختلف فيه، وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قال ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم، وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره، والله أعلم (3) .
_________
(1) المصنف (7) .
(2) ورواه ابن أبي شيبة (1/22) حدثنا عبد الله بن نمير، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يمسح مقدم رأسه مرة واحدة، وهذا أيضاً إسناد صحيح عن ابن عمر.
ورواه ابن أبي شيبة (1/23) حدثنا وكيع، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يمسح مقدم رأسه مرة واحدة.
(3) فتح الباري (185) .(9/520)
دليل من قال يجزئ أقل ما يتناوله المسح.
الدليل الأول:
قال تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (1) ، فيتحقق مسح الرأس بمسح جزء من أجزائه، كما تقول: ضربت رأسه، وضربت برأسه، فمن قال: إنه لا يكون ضارباً لرأسه حقيقة إلا إذا وقع الضرب على جميع رأسه على جزء من أجزائه فقد جاء بما لا يفهمه أهل اللغة ولا يعرفونه، ومثل هذا إذا قال القائل: مسحت الحائط ومسحت بالحائط، فإن المعنى للمسح يوجد بمسح جزء من أجزاء الحائط، ولا ينكر هذا إلا مكابر (2) .
الدليل الثاني:
ثبت في الدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح بناصيته، فهذا يمنع وجوب الاسيتعاب، ويمنع التقدير بالثلث أو الربع أو النصف فإن الناصية دون الربع، فيتعين أن الواجب ما يقع عليه اسم مسح.
الدليل الثالث:
الباء في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (3) ، دالة على التبعيض، وجهه: إذا دخلت الباء على فعل يتعدى بنفسه كانت للتبعيض، كقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وإن لم يتعد فاللإصاق كقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (4) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) انتهى بتصرف يسير من السيل الجرار (1/84) .
(3) المائدة: 6.
(4) الحج: 29.(9/521)
ورد عليهم:
بأنه لم يثبت كونها للتبعيض، وقد رده سيبويه في خمسة عشر موضعاً في كتابه.
فإن قيل: فما فائدة دخول الباء مع أن الفعل يتعدى بنفسه.
قال ابن تيمية: إذا دخلت الباء على فعل يتعدى بنفسه أفادت قدراً زائداً، فلو قال: {وامسحوا رؤوسكم} أو وجوهكم لم تدل على ما يلتصق بالمسح، فإنك تقول: مسحت رأس فلان وإن لم يكن بيدك بلل، فإذا قيل: وامسحوا برؤوسكم وبوجوهكم ضمن المسح معنى الإلصاق، فأفاد أنكم تلصقون برؤوسكم وبوجوهكم شيئاً بهذا.
دليل من قال: يجب استيعاب الرأس بالمسح.
الدليل الأول:
(964-193) ما رواه البخاري من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه،
أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم بنحوه (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (185) ، ورواه مسلم (235) .(9/522)
وجه الاستدلال:
هذا بيان لما أجمل في آية المائدة من قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وإذا كان فعله - صلى الله عليه وسلم - بياناً لمجمل واجب، كان مسحه كله واجباً، فالله سبحانه وتعالى أمر بمسح الرأس، وفعله - صلى الله عليه وسلم - خرج امتثالاً للأمر، وتفسيراً للمجمل.
الدليل الثاني:
احتج بعضهم لوجوب العموم في مسح الرأس بقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (1) ، وقد أجمعوا أنه لا يجوز الطواف ببعضه، فكذلك مسح الرأس لقوله تعالى: {امسحوا برؤوسكم} لا يجوز مسح بعضه (2) .
الدليل الثالث:
الباء في قوله سبحانه وتعالى: {فامسحوا برؤوسكم} كالباء في قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم} في التيمم، فكما أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز مسح بعض الوجه في التيمم، فكذلك لا يجوز مسح بعض الرأس في الوضوء، فالعامل واحد في الموضعين، وهو قوله تعالى: {وامسحوا} (3) .
الدليل الرابع:
قال ابن عبد البر: الفرائض لا تؤدى إلا بيقين، واليقين ما أجمعوا عليه من مسح جميع الرأس، فقد أجمعوا أن من مسح برأسه كله فقد أحسن، وفعل أكمل ما يلزمه (4) .
_________
(1) الحج: 29.
(2) فتح البر بترتيب التمهيد (3/228) .
(3) بتصرف يسير انظر المرجع السابق (3/227) .
(4) المرجع السابق (3/228) .(9/523)
الدليل الخامس:
أن الله سبحانه وتعالى ذكر مسح الرأس، ومسمى الرأس حقيقة هو جميع الرأس، فيقتضي وجوب مسح جميع الرأس، وحرف الباء لا يقتضي التبعيض لغة، بل هو حرف
إلصاق، فيقتضي إلصاق الفعل بالمفعول، وهو المسح بالرأس، والرأس اسم لكله، فيجب مسح كله.
الراجح من هذه الأقوال:
لا شك أن القول بوجوب مسح جميع الرأس له أدلة قوية من حيث الأثر ومن حيث النظر، وهو أحوط بكل حال، وقول من قال بجواز الاقتصار على الناصية له قوة أيضاً، خاصة أنه صح فعله عن ابن عمر، وقد عرف ابن عمر في حرصه على متابعة السنة، والله أعلم.(9/524)
المبحث الثاني:
تكرار مسح الرأس
ذهب الجمهور إلى أن الرأس والأذنين لا يشرع تكرار مسحهما، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والحنابلة (3) .
واستحب الشافعية تكرار المسح للرأس ثلاثاً (4) .
والراجح قول الجمهور، وقد استعرضنا أدلة الفريقين والجواب عن أدلة الشافعية في سنن الوضوء.
_________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (1/120، 121) ، البحر الرائق (1/26) ، فتح القدير (1/33) .
(2) الإشراف (1/8) ، حاشية الدسوقي (1/98) ، الذخيرة (1/262) .
(3) الروايتين والوجهين (1/73) ، الإنصاف (1/163) ، رؤوس المسائل الخلافية (1/29) .
(4) عده ابن كثير من مفردات الشافعي انظر المسائل الفقهية التي انفرد بها الشافعي (ص: 68) ، المجموع (1/432) ، مختصر المزني (ص: 2) .(9/525)
[صفحة فارغة](9/526)
المبحث الثالث:
حكم مسح الأذنين
تكلمنا في سنن الوضوء في حكم أخذ ماء جديد للأذنين، ونتكلم في هذا الفصل في حكم مسحهما في الوضوء، هل هو واجب أم سنة، وقد اختلف العلماء في حكم مسح الأذنين:
فقيل: مسح الأذنين سنة، فمن تركه فلا إعادة عليه، وهو مذهب الجمهور (1) ، وراية عن أحمد (2) ، واختيار ابن حزم (3) .
وقيل: يجب مسح الأذنين، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (4) ، وقول إسحاق (5) ، واختاره بعض المالكية (6) .
دليل الجمهور على أن مسحهما سنة:
الدليل الأول:
الإجماع، قال النووي: قال ابن جرير الطبري في كتاب اختلاف الفقهاء:
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/553) ، بدائع الصنائع (1/23) ، فتح القدير (1/27) ، المدونة (1/123) ، المنتقى شرح الموطأ للباجي (1/75) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/118) ، حاشية الدسوقي (1/98) ، وقال الشافعي في الأم (1/42) : ولو ترك مسح الأذنين لم يعد. اهـ المجموع (1/443) ،
(2) الفروع (1/149، 150) .
(3) المحلى (مسألة: 199) .
(4) الإنصاف (1/162، 163) ، كشاف القناع (1/100) ،
(5) الأوسط (1/405) .
(6) المنتقى شرح الموطأ (1/75) .(9/527)
أجمعوا أن من ترك مسحهما فطهارته صحيحة، وكذا نقل الإجماع غيره (1) .
وقال ابن عبد البر: ((وحجة الشافعي في قوله: إن مسح الأذنين سنة على حيالهما، وليستا من الوجه، ولا من الرأس: إجماع القائلين بإيجاب الاستيعاب في مسح الرأس أنه من ترك مسح أذنيه وصلى لم يعد)) (2) .
والحق أن الخلاف محفوظ، ولذلك قال ابن هبيرة: ((وأجمعوا على أن مسح باطن الأذنين وظاهرهما سنة من سنن الوضوء، إلا أحمد فإنه رأى مسحهما واجبا، ً وعنه أنه سنة)) (3) .
وقال القرطبي: وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه، ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق (4) .
وقال ابن بشير: وأما داخل الأذنين فلا خلاف أنهما سنة، فمن ترك مسحهما لم تبطل صلاته، وأما خارج الأذنين ففيه قولان، أحدهما: أنه فرض. والثاني: أنه سنة (5) .
فكل هذه النقول تثبت أن هناك قولاً في وجوب مسح الأذنين.
الدليل الثاني:
(965-194) ما رواه البخاري من طريق عمرو بن يحيى المازني،
عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى:
_________
(1) المجموع (1/446) .
(2) التمهيد (4/41) .
(3) الإفصاح (1/74) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (6/90) .
(5) مواهب الجليل (1/254) .(9/528)
أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر بدأ، بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم بنحوه (1) .
وجه الاستدلال:
أن هذا الوضوء وقع جواباً كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فذكر صفة الوضوء من المضمضة والاستنشاق والتثليث فيهما، وذكر مسح الرأس مبيناً من أين يبدأ، وأنه من مقدم الرأس، وذكر إقبال اليدين وإدبارهما، ثم انتقل إلى غسل الرجلين، ولم يذكر الأذنين، ولو أن الراوي قال: ومسح برأسه لقيل: ربما أنه أجمل، فلما ذكر صفة مسح الرأس بداية ونهاية، ولم يتعرض للأذنين علم أنه لم يمسحهما، وتركه لهما وهو في معرض بيانه لصفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أن مسحهما ليس بواجب.
الدليل الثالث:
(966-195) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره،
أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث
_________
(1) صحيح البخاري (185) ، ورواه مسلم (235) .(9/529)
مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالحديث السابق، ذكر مسح الرأس، ولم يذكر مسح الأذنين، والسياق في بيان صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين حصل له من الأجر كذا وكذا، وهذا الوضوء ليس فيه مسح الأذنين، فمن امتثل الحديث فقد صح وضوءه، وفعل ما أمر به.
الدليل الرابع:
لم يرد في السنة أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمسح الأذنين، وما نقل عنه أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يمسح أذنيه هي مجرد أفعال، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
دليل الحنابلة على وجوب مسح الأذنين.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وجاء في الأحاديث أن الأذنين من الرأس، وسبق تخريجها في سنن الوضوء، وإذا كانت الأذنان من الرأس فيكون الأمر بمسح الرأس أمراً بمسحهما، فيثبت وجوبه بالنص القرآني، وحديث الأذنان إما أن نقول: إنها حجة بمجموعها، أو نقول: إنها موقوفة، فإن رجحنا كونها مرفوعة فلا إشكال، وإن رجحنا كونها موقوفة على
_________
(1) صحيح البخاري (159) ، ومسلم (236) .(9/530)
الصحابة، فإن قول الصحابي حجة إذا لم نعلم له مخالفاً، وقد حكى النووي الإجماع على أن الأذنين تطهران، كما في المجموع وحكاه غيره.
ويمكن أن يجاب عنه:
لا إشكال في استحباب مسح الأذنين، وإنما الخلاف في وجوب مسحهما، وكون الأذنين من الرأس: أي يمسحان بماء الرأس، وليس فيه دليل على وجوب المسح من هذا الحديث على أن الحديث لا يثبت مرفوعاً.
الدليل الثاني:
(967-196) ما رواه مالك في الموطأ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار،
عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، قال: ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة (1) .
وجه الاستدلال:
قوله ((فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه)) ، دليل على أن الأذنين من الرأس، فيكون حكم مسحهما حكم مسح الرأس، فإذا كان مسح الرأس فرضاً كان مسحهما فرضاً.
_________
(1) الموطأ (1/31) وسبق تخريجه انظر حديث رقم (877) .(9/531)
وأجيب:
أولاً: أن الحديث وإن كان رجاله ثقات إلا أنه مرسل، الصنابحي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرسل من قسم الضعيف (1) .
ثانياً: قد روى مسلم نحو هذا الحديث من مسند عمرو بن عبسة، إلا أنه جعل خروج الخطايا من الرأس مع أطراف الشعر، ولم يذكر الأذنين. فقد أخرجه مسلم من حديث طويل وفيه: ((ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء)) (2) . الحديث.
ثالثاً: هذا الحديث مجرد فعل، ونحن لا ننازع بمشروعية مسح الأذنين، ولكن النزاع في وجوب مسحهما، والله أعلم.
الدليل الثالث:
(968-197) ما رواه النسائي من طريق ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن ابن عباس قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغرف غرفة فمضمض واستنشق، ثم غرف غرفة فغسل وجهه، ثم غرف غرفة فغسل يده اليمنى، ثم غرف غرفة فغسل يده اليسرى، ثم مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه، ثم غرف غرفة فغسل رجله اليمنى، ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى.
[رجاله ثقات إلا ابن عجلان فإنه صدوق، وأكثر الرواة على عدم ذكر مسح الأذنين في الحديث] (3) .
_________
(1) انظر حديث (878) من هذا الكتاب.
(2) صحيح مسلم (832) .
(3) سبق تخريجه في مسألة (ماء الأذنين) انظر حديث رقم (870)(9/532)
وفي الباب حديث عثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو، والربيع بنت معوذ وقد سبق تخريجها.
وجه الاستدلال:
هذه الأحاديث وإن كانت أفعالاً إلا أنها بيان لما أجمل في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} .
وأجيب:
بأننا لا نسلم بأنها بيان للمجمل، وغاية ما فيها أنها تدل على استحباب مسح الأذنين، وهذا لا نزاع فيها بيننا، وإنما الخلاف هل مسحهما فرض أم لا؟ .(9/533)
[صفحة فارغة](9/534)
الفرع الأول:
في صفة مسح الأذنين
صفة المسح من الآثار:
أما صفة المسح من الآثار، ففي الباب أحاديث كثيرة، منها:
الحديث الأول:
حديث ابن عباس المتقدم في المسألة السابقة: وفيه: ((ثم مسح برأسه وأذنيه، باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه)) . الحديث.
الحديث الثاني:
(969-198) حديث عثمان رضي الله عنه، وسبق تخريجه من طريق إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان، وفيه:
((أنه توضأ، فمسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ)) . وهو حديث ضعيف (1) .
الحديث الثالث:
(970-199) حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه:
ثم مسح برأسه، وأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، بالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء. وسبق تخريجه (2) .
_________
(1) انظر حديث (872) .
(2) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.(9/535)
الحديث الرابع:
حديث الربيع بنت معوذ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأدخل إصبعيه في حجري أذنيه. وسبق تخريجه (1) .
الحديث الخامس:
(971-200) ما رواه أحمد، حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا حريز قال: حدثنا عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي قال:
سمعت المقدام بن معدي كرب الكندي قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء، فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) انظر حديث (873) .
(2) المسند (4/132) .
(3) الحديث في إسناده: عبد الرحمن بن ميسرة.
ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (5/285) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/109) ، ونسي الحافظ في الفتح التنبيه أن ابن حبان ذكره في ثقاته، فيستدرك عليه.
قال عنه ابن المديني: مجهول، لم يرو عنه غير حريز. تهذيب التهذيب (6/254) .
وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/88) .
قلت: ذكر الحافظ في التهذيب بأنه روى عنه صفوان بن عمرو، وثور بن يزيد، وطريق صفوان بن رستم في سنن الدارمي (251) من طريق بقية، حدثني صفوان بن رستم، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن تميم الدارمي، عن عمر من قوله.
كما روى الطبراني في مسند الشاميين (960) حديثاً مرفوعاً من طريق بقية، عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن عمرو بن عبسة، عن رسول الله، قال: ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله. الحديث.
وفي كلا الإسنادين بقية، كما روى الطبراني في مسند الشاميين (959) حديثاً مرفوعاً من طريق بقية وإسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن العرباض بن سارية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المتحابون بجلالي. الحديث.
ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان (ص: 39) من طريق إسماعيل بن عياش وحده دون طريق بقية.
وأما رواية ثور بن يزيد، فجاءت عند الطبراني أيضاً في مسند الشاميين (469) بهذا الإسناد: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ثور بن يزيد، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن بسر بن جحاش عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي المعجم الكبير (2/32) الحديث نفسه بالإسناد نفسه، إلا أنه زاد بين عبد الرحمن ابن ميسرة وبين بسر بن حجاش زاد: جبير بن نفير.
وهذا إسناد ضعيف:
فيه أحمد بن محمد شيخ الطبراني، قال أبو أحمد الحاكم: فيه نظر، وحدث عنه أبو الجهم الشعراني ببوطيل. لسان الميزان (1/295) .
وقال الذهبي: عن أبيه له مناكير. ميزان الاعتدال (1/151) .
وقال أبو عوانة الإسفرائيني في صحيحه بعد أن روى عنه: سألني أبو حاتم ما كتبت بالشام؟ قدمتي الثالثة، فأخبرته بكتبي مائة حديث لأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، كلها عن أبيه، فساءه ذلك، وقال: سمعت أن أحمد يقول: لم أسمع من أبي شيئاً. فقلت: لا يقول: حدثني أبي، إنما يقول عن أبيه إجازة. وقال الحاكم أبو أحمد: الغالب علي أنني سمعت أبا الجهم، وسألته عن حال أحمد بن محمد، فقال: قد كان كبر فكان يلقن ما ليس من حديثه فيتلقن. لسان الميزان (1/295) .
وقال ابن حبان في ترجمة والده: ثقة في نفسه، يتقى من حديثه ما روى عنه أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة وأخوه عبيد؛ فإنهما كانا يدخلان عليه كل شيء. الثقات (9/74) .
وعبد الرحمن بن ميسرة من شيوخ حريز، وقد قال أبو داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. وذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي، وفي التقريب: مقبول.
كما أن في متنه نكارة: وهو ذكر المضمضة والاستنشاق بعد غسل الذراعين، والمعروف أن المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه وبعد غسل الكفين، كما صح ذلك من حديث عبد الله بن زيد، وعثمان بن عفان، وغيرهما.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه أبو داود (121) من طريق الإمام أحمد بهذا الإسناد.
وأخرجه ابن الجاورد (74) والطبراني في الكبير (20/276) 654، وفي مسند الشاميين (1076) من طريق أبي المغيرة به.
ورواه أبو داود (122، 123) والطحاوي (1/32) وابن ماجه (442) من طريق الوليد بن مسلم، عن حريز به.
انظر أطراف المسند (5/392) ، تحفة الأشراف (11573، 11574) ، إتحاف المهرة
(17016) .(9/536)
فدلت هذه الأحاديث على أن صفة مسح الأذنين: مسح الباطنين بالسبابتين، وظاهر الأذنين بالإبهامين، وإدخال الأصبعين في صماخ الأذنين. هذا ما تدل عليه مجموع الأحاديث السابقة.
وأما كلام الفقهاء في صفة مسح الأذنين كالتالي:
قال البهوتي: وكيف مسح الأذنين أجزأ.
قال ابن عابدين الحنفي: يمسح باطنهما بباطن السبابتين، وظاهرهما بباطن الإبهامين (1) .
وفي حاشية العدوي على الخرشي: ((وصفة مسح الأذنين، أن يجعل باطن الإبهامين على ظاهر الشحمتين، وآخر السبابتين في الصماخين، وهما ثقبا
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/243) .(9/538)
الأذن، ووسطهما ملاقياً للباطن، دائرين مع الإبهامين للآخر، وكره تتبع غضونهما)) (1) .
وفي الكافي لابن عبد البر: يأخذ المتوضئ ماءً جديداً، فيمسح باطنهما وظاهرهما، وإن ترك مسح داخل أذنيه فلا شيء عليه (2) .
وفي مذهب الشافعية استحبوا أن يأخذ لصماخيه ماءً غير الماء الذي مسح به أذنيه.
قال في المهذب: ويأخذ لصماخيه ماء جديداً غير الماء الذي مسح به ظاهر الأذن وباطنه؛ لأن الصماخ من الأذن كالفم والأنف من الوجه، فكما أفرد الفم والأنف عن الوجه بالماء، فكذلك الصماخ في الأذن (3) .
وهذا القياس بعيد، فإذا كنا لا نستحب أن نأخذ ماء جديداً للأذن، فما بالكم لجزء منها.
وفي كشاف القناع قال: أن يدخل سبابتيه في صماخيهما - يعني الأذنين - ويمسح بإبهاميه ظاهرهما (4) .
وهل يتتبع غضاريف الأذنين؟
قال العدوي في حاشيته على الخرشي: وكره تتبع غضونهما.
وقال في كشاف القناع: ولا يجب مسح ما استتر من الأذنين بالغضاريف؛ لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر، فالأذن أولى، فالغضروف داخل فوق الأذن: أي أعلاها ومستدار سمعها.
_________
(1) الخرشي (1/134) .
(2) الكافي لابن عبد البر (ص: 23) .
(3) المهذب مطبوع مع المجموع (1/441) .
(4) كشاف القناع (1/100) .(9/539)
وأما الشافعية فرأوا أن يمر برأس الأصبع على معاطف الأذن، والأمر عندي ليس بلازم، لأن باب المسح أخف من باب الغسل، واستيعاب الممسوح أمر شاق حتى من يقول: بمسح الرأس كله، لا يمسح كل شعرة فيه، فإذا مسح أكثره أجزأ، والأذن أخف من الرأس، لكون مسح الرأس فرضاً، ومسح الأذن سنة على الصحيح، ولأن الأذنين تبعاً للرأس، لا يجزئ مسحهما عن الرأس، ويجزئ مسح الرأس عنهما، فإذا مسح باطن الأذنين بالسبابة أجزأه ذلك إذا مر بإبهاميه على ظاهرهما، والله أعلم.(9/540)
الفرع الثاني:
تمسح الأذنان معاً
يمسح الأذنين معاً، ولا يقدم اليمنى على اليسرى، قاله النووي (1) .
وقال أيضاً: مسح الأذنين بعد مسح الرأس، فلو قدمه عليه فظاهر كلام الأصحاب لا يحصل له مسح الأذنين؛ لأنه فعله قبل وقته، وذكر الروياني في حصوله وجهين، والصحيح المنع (2) . أهـ
والصحيح جوازه لكنه خلاف السنة، فكما لو قدم اليد اليسرى على اليمنى أو الرجل اليسرى على اليمنى صح، وكان خلاف السنة، لأن الرأس والأذنين في حكم العضو الواحد، وماؤهما واحد، وطهارتهما المسح.
_________
(1) المجموع (1/443) .
(2) انظر المرجع السابق والصفحة نفسها.(9/541)
[صفحة فارغة](9/542)
المبحث الرابع:
خلاف العلماء في المسح على العمامة
اختلف العلماء في المسح على العمامة،
فقيل: لا يجوز، هو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ،
والشافعية (3) .
وقيل: يجوز، اختاره الثوري (4) ، والأوزاعي (5) ، وهو المشهور من
_________
(1) المبسوط (1/101) ، تبيين الحقائق (1/52) ، شرح فتح القدير (1/157) ، البحر الرائق (1/193) ، الفتاوى الهندية (1/6) ، حاشية ابن عابدين (1/272) .
(2) جاء في المدونة (1/124) : " وقال مالك في المرأة تمسح على خمارها أنها تعيد الصلاة والوضوء " اهـ. وفي المنتقى للباجي (1/75) " سئل مالك عن المسح على العمامة والخمار، فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة على عمامة ولا خمار، وليمسحا على رؤسهما ".
وجوز المالكية المسح على العمامة إذا كان يتضرر بنزعها، والحقيقة أن هذا لا يعتبر قولاً في المسح على العمامة، لأنه إذا كان يتضرر بنزعها أصبحت في حكم الجبيرة، ولذلك لم أعتبره قولاً؛ لأننا نقصد بالمسح على العمامة المسح عليها إذا لبسها مختاراً من غير ضرورة كالمسح على الخف. انظر: مختصر خليل (ص: 19) ، والتاج والإكليل (1/532) ، مواهب الجليل (1/207) ، حاشية الدسوقي (1/163،164) .
(3) الأم (7/29) ، ويرى النووي أنه لا يجوز المسح على العمامة وحدها، وإذا كان على رأسه عمامة، ولم يرد نزعها، مسح بناصيته، والمستحب أن يتمم المسح على العمامة، انظر حاشية الجمل (1/128) ، أسنى المطالب (1/41) ، المجموع (1/439) . والحقيقة ليس في هذا قول بالمسح على العمامة؛ لأن الفرض عندهم المسح على الناصية، وهو وحده كاف في إسقاط الفرض، ولو اقتصر على العمامة لم يصح وضوؤه. فمحصلة هذا القول أنه لا يجوز المسح على العمامة وحدها، ولذلك لم أجعل هذا قولاً برأسه، لأن النتيجة أنهم لا يرون المسح على العمامة، ولو كانوا يرون المسح على العمامة لجاز الاقتصار عليها وحدها، ولم يشترطوا في الجواز مسح الناصية معها. والله أعلم.
(4) أحكام القرآن ـ الجصاص (2/495) .
(5) المرجع السابق.(9/543)
مذهب الحنابلة (1) ، ومذهب الظاهرية (2) ، وهو الصحيح.
وقد تكلمت على أدلة الأقوال وتتبعت الآثار الموقوفة والمرفوعة في بحث مطول في كتابي أحكام المسح على الحائل، فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق.
_________
(1) قال عبد الله في مسائل الإمام أحمد (1/124) : " سألت أبي عن الرجل يمسح على العمامة؟ قال: لا بأس به. اهـ وانظر مسائل أحمد رواية ابن هاني (1/18) ، ورواية صالح (579،1051) ، ورواية أبي داود (49،50) والفروع (1/162) ، الإنصاف (1/185) ، المغني (184) ، كشاف القناع (1/112) .
(2) نسبه لدواد الظاهري الحطاب في مواهب الجليل (1/207) .
وقال ابن حزم في المحلى (1/303) : " وكل ما لبس على الرأس من عمامة، أو خمار، أو قلنسوة، أو بيضة، أو مغفر، أو غير ذلك: أجزأ المسح عليه، المرأة والرجل سواء في ذلك، لعلة أو غير علة " اهـ.(9/544)
المبحث الخامس:
خلاف العلماء في المسح على الخمار
اختلف العلماء في مسح المرأة على الخمار،
فقيل: تمسح كما يمسح الرجل على العمامة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) ، ورجحه ابن حزم (2) .
وقيل: لا تمسح، وهو مذهب الجمهور (3) ، ورواية عن أحمد (4) .
وقيل: إن خافت من البرد ونحوه مسحت، مال إليه ابن تيمية (5) .
_________
(1) انظر مسائل ابن هانئ (1/19) ، ورجح أصحاب أحمد أن تكون خمر النساء مدارة تحت حلوقهن، انظر الفروع (1/164) ، كشاف القناع (1/112، 113) ، شرح غاية المنتهى (1/124) ، الروض المربع (1/283) .
(2) المحلى (1/303) .
(3) في مذهب الحنفية انظر أحكام القرآن- الجصاص (1/495) ، المبسوط (1/101) ، بدائع الصنائع (1/5) .
وفي مذهب المالكية، قال في المدونة (1/124) : " قال مالك في المرأة تمسح على خمارها: إنها تعيد الصلاة والوضوء "، وفي المنتقى للباجي (1/75) : " وسئل مالك عن المسح على العمامة والخمار، فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة عمامة ولا خماراً، وليمسحا على رؤسهما " اهـ. وانظر مواهب الجليل (1/207) .
وفي مذهب الشافعية انظر حاشية الجمل (1/128) ، أسنى المطالب (1/41) ، المجموع (1/439) .
(4) الفروع (1/164) .
(5) قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (21/218) : " وإن خافت المرأة من البرد ونحوه مسحت على خمارها، فإن أم سلمة كانت تمسح على خمارها، وينبغي أن تمسح معه بعض شعرها، وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك ففيه نزاع بين أهل العلم ".
ولا أدري لماذا رأى ابن تيمية رحمه الله أن تمسح مع الخمار بعض شعرها، مع العلم أنه يرى وجوب استيعاب الرأس بالمسح إذا لم يكن هناك خمار، فإن كان مسح الخمار كافياً لم يكن ثمة حاجة إلى مسح بعض الشعر، وإن لم يكن كافياً كمذهب الشافعية، يستحبون مسح الناصية مع العمامة فينبغي أن يرى أن مسح بعض الرأس كافياً إذا لم يكن هناك عمامة، ثم تقييد ذلك بالبرد ليس بصواب، لأن أثر أم سلمة مطلق، وليس مقيداً، كما أن المسح على العمامة مطلق، وليس مقيداً بالبرد، وإن كان هذا دفعاً للخلاف فإن المسح على العمامة أيضاً مختلف فيه، فالجمهور لا يرون المسح على العمامة، ولم يحمل هذا ابن تيمية أن يقيد مسح الرجل على عمامته في حالة البرد، فتأمل.(9/545)
وقد ذكرنا أدلة الأقوال، ورجحنا جواز المسح على خمار المرأة في بحث موسع في كتابي المسح على الحائل، فأغنى عن إعادته هنا.(9/546)
المبحث السادس:
خلاف العلماء في المسح على القلانس (1) .
اختلف العلماء في المسح على القلانس،
فقيل: لا يمسح عليها، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (2) ، والمالكية (3) والشافعية (4) ،والحنابلة (5) .
وقيل: يمسح عليها، وهو رواية عن أحمد (6) ، ومذهب ابن حزم (7) .
_________
(1) قال في الجوهرة النيرة (1/28) : القلنسوة شيء تجعله الأعاجم على رؤوسهم أكبر من الكوفيه.
وقال الحافظ ابن حجر: القلنسوة غشاء مبطن، تستر به الرأس، قاله القزاز في شرح المفصل.
وقال أبو هلال العسكري: هي التي تغطى بها العمائم، وتستر من الشمس والمطر، كأنها عنده رأس البرنس. اهـ نقلاً من الإنصاف (1/171) .
وقال ابن عابدين في حاشيته (1/272) : ما يلبس على الرأس، ويتعمم فوقه.
(2) المبسوط (1/101) ، تبيين الحقائق (1/52) ، شرح فتح القدير (1/157) ، البحر الرائق (1/193) ، الفتاوى الهندية (1/6) ، حاشية ابن عابدين (1/272) .
(3) قال الباجي في المنتقى (1/76) : " ولا يجزئ المسح على حائل دون الرأس ".
(4) إذا كانوا يمنعون المسح على العمامة، فمنع المسح على القلانس من باب أولى، انظر العزو في منعهم من المسح على العمامة في الفصل الأول من هذا الباب.
(5) الإنصاف (1/170) ، شرح منتهى الإرادات (1/62) ، مطالب أولي النهى (1/128) ، الفروع (1/163) .
(6) الإنصاف (1/170) ، الفتاوى الكبرى (1/320) ، الفروع (1/163) .
(7) المحلى (1/303) .(9/547)
وقيل: يمسح إن كانت مشدودة تحت حلقه، وهو رواية عن أحمد (1) .
وقد سبق الكلام عن هذه المسألة في كتابي المسح على الحائل، وذكرت أدلة الأقوال، فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق.
_________
(1) الإنصاف (1/170) ، الفتاوى الكبرى (1/320) ، الفروع (1/163) .(9/548)
الفصل الرابع:
من فروض الوضوء: غسل الرجلين
اختلف العلماء في فرض القدمين:
فقيل: فرضهما الغسل، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: فرضهما المسح، حكاه بعض أهل العلم مذهباً لعلي بن أبي طالب وابن عباس وأنس (2) ، وهو مذهب الحسن البصري وعكرمة والشعبي (3) .
وقيل: طهارتهما على التخيير بالغسل أو بالمسح (4) .
أدلة الجمهور:
الدليل الأول:
قراءة نصب أرجلكم في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين} (5) .
_________
(1) انظر أحكام القرآن للجصاص (2/487) ، المبسوط (1/8) ، البناية (1/102) ، حاشية ابن عابدين (1/98) ، بدائع الصنائع (1/5) ، مواهب الجليل (1/211) ، المنتقى للباجي (1/39) ، أحكام القرآن لابن العربي (2/71، 72) ، الأم (1/27) ، الوسيط (1/373) ، المجموع (1/447) ، تحفة المحتاج (1/210) ، المغني (1/90) ، المبدع (1/129) ، شرح منتهى الإرادات (1/50) ، الهداية (1/14) .
(2) المحلى (1/301) .
(3) سيأتي تخريج أقوالهم من مصنف ابن أبي شيبة في معرض ذكر الأدلة.
(4) نسبه أبو المواهب العكبري في رؤوس المسائل الخلافية لابن جرير (1/34) .
(5) المائدة: 6.(9/549)
فـ (أرجلكم) معطفوفة على (وجوهكم) والعامل فيها الفعل في قوله تعالى: {فاغسلوا} ، والعطف على نية تكرار العامل، فكأنه قال: واغسلوا أرجلكم.
الدليل الثاني:
الأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه غسل رجليه، منها: حديث عثمان بن عفان، وعبد الله بن زيد في الصحيحين، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب، والربيع بنت معوذ، وغيرها مما سبق تخريجه.
الدليل الثالث:
(972-201) ما رواه البخاري، حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك،
عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر سافرناه، فأدركنا وقد أرهقنا الصلاة، صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً (1) .
وجه الاستدلال:
قال ابن العربي تعليقاً على قوله: (ونمسح على أرجلنا) ((قد يتمسك به من قال بجواز المسح على الرجلين، ولاحجة فيه لأربعة أوجه:
الأول: أن المسح هنا يراد به الغسل، فمن الفاشي المستعمل في أرض الحجاز أن يقولوا: تمسحنا للصلاة: أي توضأنا.
_________
(1) صحيح البخاري (96) ، ومسلم (241) .(9/550)
والثاني: أن قوله: (وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء) يدل على أنهم كانوا يغسلون أرجلهم، إذ لو كانوا يمسحونها لكانت القدم كلها لا ئحة، فإن المسح لا يحصل منه بلل الممسوح.
والثالث: أن هذا الحديث قد رواه أبو هريرة، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسل عقبه، فقال: ويل للأعقاب من النار.
والرابع: أننا لو سلمنا أنهم مسحوا لم يضرنا ذلك، ولم تكن فيه حجة لهم؛ لأن ذلك المسح هو الذي توعد عليه بالعقاب، فلا يكون مشروعاً، والله أعلم (1) .
الدليل الرابع:
(973-202) ما رواه البخاري، من طريق شعبة قال: حدثنا محمد بن زياد قال:
سمعت أبا هريرة وكان يمر بنا والناس يتوضئون من المطهرة قال: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: ويل للأعقاب من النار (2) .
وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال بالحديث الذي قبله.
الدليل الخامس:
(974-203) ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر،
أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلاً توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى (3) .
_________
(1) المفهم (1/497) .
(2) البخاري (165) ، ومسلم (242) .
(3) صحيح مسلم (243) .(9/551)
قال القرطبي: ((قوله: (فأحسن وضوءك) دليل على استيعاب الأعضاء، ووجوب غسل الرجلين)) .
الدليل السادس:
حديث عمرو بن عبسة، رواه مسلم، وسبق ذكر إسناده من قبل، وهو حديث طويل: وفيه: (ثم يغسل قدميه إلى الكعبين) إلا خرت خطايا رجليه من أنامله: مع الماء. الحديث
وله شاهد من حديث أبي هريرة في مسلم.
الدليل السابع:
(975-204) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء (1) .
] إسناده حسن، وسبق التنبيه على أن زيادة (أو نقص) وهم من الراوي [ (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (135) .
(2) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.(9/552)
وجه الاستدلال:
أنه غسل رجليه، ثم اعتبر النقص من هذا ظلماً وإساءة.
الدليل الثامن:
ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بتخليل الأصابع، ولو كان فرض الرجلين المسح لم يأمر به، فقد سبق أن ذكرت حديث لقيط بن صبرة، وهو حديث صحيح، قال - صلى الله عليه وسلم -: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً.
الدليل التاسع:
حكى بعض أهل العلم الإجماع على وجوب غسل القدمين، من ذلك:
نقل ابن حجر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله قوله: ((أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين)) (1) .
وقال الطحاوي الحنفي: ((رأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه واليدان والرجلان والرأس، فكان الوجه يغسل كله، وكذلك اليدان، وكذلك الرجلان)) (2) .
وقال في مواهب الجليل: ((قال ابن رشد: إن فرائض الوضوء على ثلاثة أقسام: قسم مجمع عليه: وهي الأعضاء الأربعة)) (3) .
وقال ابن قدامة: ((والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل
_________
(1) فتح الباري (1/266) ، وانظر المبدع (1/144) ، شرح العمدة (1/196) .
(2) شرح معاني الآثار (1/33) .
(3) مواهب الجليل (1/183) .(9/553)
الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين)) (1) .
قلت: النية ليست محل اتفاق، فالحنفية لا يرونها واجبة، والخلاف محفوظ أيضاً في غسل الرجلين، ولعل ابن قدامة يقصد في المذهب، ولم يقصد في المذاهب.
وقال ابن عبد الهادي: ومفروض إجماعاً غسل رجليه إلى الكعبين (2) .
وأجيب:
مناقشة دعوى الإجماع، عندنا الإجماع المحكي عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع المحكي عن غيرهم.
أما الإجماع المحكي عن الصحابة، فقد ذكر ابن حزم رحمه الله تعالى أن المسح مذهب لعلي وابن عباس وأنس (3) .
وقد ذكر ابن حجر في الفتح: أنهم رجعوا عن ذلك، قال: ((ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين)) (4) . اهـ
فحكاية رجوع الصحابة علي وابن عباس وأنس أخذه ابن حجر من حكاية ابن أبي ليلى: أن الصحابة مجمعون على غسل القدمين، وليست صريحة إذ يحتمل أنه إجماع على مشروعية الغسل، وهذا لا نزاع فيه، ولا يوجد إجماع على أنه لا يجزئ إلا هو، وبينهما فرق.
_________
(1) مغني ذوي الأفهام (44) .
(2) المحلى (1/301) .
(3) فتح الباري في شرحه لحديث (163) .
(4)(9/554)
ولو نقل ابن حجر عن علي وأنس وابن عباس القول بعدم جواز المسح لصح مأخذه.
وأما الإجماع المنقول من غير الصحابة فأعتقد أنه غير دقيق، فقد نقل استثناء القدمين جماعة ممن رووا الإجماع، منهم:
السمرقندي الحنفي قال: ((والرابع: غسل الرجلين مرة واحدة..... ثم قال: وهذا فرض عند عامة العلماء، وقال بعض الناس: الفرض هو المسح لا غير، وعن الحسن البصري أنه قال: يخير بين الغسل والمسح، وقال بعضهم: إنه يجمع بينهما)) (1) . الخ كلامه رحمه الله.
قال ابن عبد البر: ((وذلك أنهم أجمعوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب الذي عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وإذا جاز عند من قال بالمسح على القدمين أن يكون من غسل قدميه قد أدى الفرض عنده، فالقول في هذه الحال بالاتفاق هو اليقين)) (2) .
وقال أبو بكر بن العربي: ((قال أبو عيسى: لا يجوز المسح على الأقدام المجردة، خلافاً لمحمد بن جرير الطبري، حيث قال: هو مخير بين المسح والغسل، ثم قال: وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه يجب الجمع بينهما)) (3) .
وقال القرطبي: ((اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه، دون ما اختلفوا فيه)) (4) .
_________
(1) تحفة الفقهاء (1/10) .
(2) التمهيد (24/256) .
(3) عارضة الأحوذي (1/58) .
(4) الجمع لأحكام القرآن (6/95) .(9/555)
وقد ثبت القول بالمسح عن جماعة من التابعين ممن يعتد بقولهم، ويعتبر خلافهم بالإجماع، كالحسن البصري، وعكرمة، والشعبي، وغيرهم.
فقد روى ابن أبي شيبة، حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه، وكان يقول به.
وهذا إسناد صحيح إلى عكرمة، وعكرمة من تلاميذ ابن عباس، وربما أخذ عنه فقه هذه المسألة، وابن عباس قد جاء عنه القول بالمسح، وهذا يدل على أن القول بأن ابن عباس قد رجع عنه يحتاج إلى تأمل.
(976-205) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن يونس،
عن الحسن، أنه كان يقول: إنما هو المسح على القدمين، وكان يقول: يمسح ظاهرهما وباطنهما.
[وهذا إسناد صحيح عن الحسن]
(977-206) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن داود،
عن الشعبي، قال: إنما هو المسح على القدمين، ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم، وما كان عليه المسح أهمل، فلم يجعل عليه التيمم.
[وهذا إسناد صحيح إلى الشعبي] .
(978-207) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن حميد،
قال: كان أنس إذا مسح على قدميه بلهما.
وسنده صحيح.
وقد سبق أن هذا القول قاله ابن جرير الطبري، وبعض أهل الظاهر.
فالقول بالمسح ثابت عن بعض السلف، لا إشكال في ثبوته من لدن(9/556)
الصحابة فمن بعدهم، وثبوت القول شيء والراجح شيء آخر، فلا يلزم من ثبوت القول ثبوت الصحة، فقد يكون القول ثابتاً، وهو قول ضعيف من حيث الدلالة. والله أعلم.
وقد ذهب بعض أهل العلم أن القول بالمسح كان في أول الأمر ثم نسخ، وقد ذهب إلى هذا ابن حزم والطحاوي رحمهما الله تعالى، وهذا أيضاً ليس بصواب.
قال ابن حزم: ((القرآن نزل بالمسح... ثم قال: وإنما قلنا بالغسل فيهما لما حدثناه، ثم ساق بإسناده حديث (ويل للأعقاب من النار) فكان هذا الخبر زائداً على ما في الآية، أو على الأخبار التي ذكرنا، وناسخاً لما فيها ولما في الآية، والأخذ بالزائد واجب..)) الخ كلامه رحمه الله تعالى (1) .
وقال الطحاوي بعد أن ساق حديث عبد الله بن عمر (تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا صلاة العصر، ونحن نتوضأ، ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار) قال الطحاوي رحمه الله: ((فدل على أن حكم المسح الذي كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرناه)) (2) .
دليل من قال: إن فرض الرجلين المسح.
الدليل الأول:
الاستدلال بقراءة جر (وأرجلكم) من قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم} .
_________
(1) المحلى (1/301) .
(2) الطحاوي (1/39) .(9/557)
قال ابن حزم: ((القرآن نزل بالمسح، وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها، هي على كل حال عطف على الرؤوس، إما على اللفظ، أو على الموضع، لا يجوز غير ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة)) (1) .
وأجيب عنه:
فقيل: ((إن الجر على المجاورة، وهذا معروف في لغة العرب من ذلك كقوله: هذا جحر ضبٍ خربٍ، بجر (خرب) على جوار (ضب) وهو مرفوع صفة لجحر، ومنه في القرآن الكريم: {إني إخاف عليكم عذاب يوم أليم} (2) ، فجر (الميم) على جواز كلمة (يوم) وهو منصوب صفة لعذاب، فإن قيل: إنما يصح الإتباع إذا لم يكن هناك واو، فإن كانت لم يصح، والآية فيها (واو) . قلنا: هذا غلط، فإن الإتباع مع الواو مشهور، في أشعارهم، من ذلك ما أنشدوه:
لم يبق إلا أسير غير منفلت... وموثق في عقال الأسر مكبول)) اهـ كلام النووي (3) .
الوجه الثاني في الجواب عن قراءة الجر.
ما قال ابن العربي: ((والذي ينبغي أن يقال: إن قراءة الخفض عطف على الرأس، فهما يمسحان بكف إذا كان عليهما خفاف، وتلقينا هذا القيد
_________
(1) المحلى (1/301) .
(2) هود: 26.
(3) المجموع (1/449) .(9/558)
من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليه خفاف، والمتواتر عنه غسلهما، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله الحال الذي تغسل فيه الرجل، والحال الذي تمسح فيه)) (1) .
الجواب الثالث:
قال النووي: إن قراءتي الجر والنصب يتعادلان، والسنة بينت ورجحت الغسل، فتعين (2) .
الوجه الرابع:
قال النووي: ((لو ثبت أن المراد بالآية المسح لحمل المسح على الغسل، جمعاً بين الأدلة والقراءتين؛ لأن المسح يطلق على الغسل، كذا نقله جماعة من أئمة اللغة، منهم أبو زيد الأنصاري وابن قتيبة وآخرون، وروى البيهقي بإسناده عن الأعمش، قال: كانوا يقرؤنها، وكانوا يغسلون)) . اهـ كلام النووي (3) .
وقد سبق لنا قول ابن العربي: من المستعمل في أرض الحجاز: تمسحنا للصلاة: أي توضأنا. اهـ
الدليل الثاني على جواز مسح القدمين.
(979-208) ما رواه أبو داود من طريق همام، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع، وفيه:
_________
(1) المفهم (1/496) .
(2) المجموع (1/450) .
(3) المجموع (1/450) .(9/559)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين. الحديث، والحديث قطعة من حديث طويل (1) .
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى، إلا أن ذكر الوضوء على وجه التفصيل انفرد به همام عن إسحاق فيما وقفت عليه، وحديث المسيء في صلاته في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وفيه ذكر الوضوء بلفظ: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ولم يفصل تفصيل همام، والله أعلم] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (858) .
(2) هذا الحديث مداره على عليِّ بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن رفاعة. واختلف على عليِّ هذا في إسناده وإليك بيانه.
الأول: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع.
أخرجه أبو داود (858) كما في إسناد الباب، والنسائي في المجتبى (1136) ، وفي الكبرى (722) ، وابن ماجه (460) ، والدارمي (1329) ، والبزار في مسنده كما في البحر الزخار (3727) ، وابن الجارود في المنتقى (194) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/35) والطبراني في الكبير (5/37) رقم: 4525 والدارقطني في سننه (1/95) ، والحاكم (1/241) والبيهقي في السنن (1/44) و (2/345) كلهم أخرجوه من طريق همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة به، بذكر الوضوء، كما في لفظ إسناد الباب، وفي النص على أن رواية علي ابن يحيى بن خلاد إنما هي عن أبيه، عن رافع.
ورواه حماد بن سلمة عن إسحاق واضطرب فيه،
فقال مرة: عن علي بن يحيى بن خلاد، عن عمه، ولم يقل فيه: عن أبيه.
أخرجه أبو داود (857) عن موسى بن إسماعيل.
والطبراني في الكبير (4526) من طريق حجاج بن منهال، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن عمه أن رجلاً دخل المسجد.
وقال مرة أخرى: عن علي بن يحيى بن خلاد، أراه عن أبيه، عن عمه أن رجلاً.
أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1977) عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به.
وقال مرة ثالثة: عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه أن رجلاً...
فجعله من مسند يحيى بن خلاد. أخرجه الحاكم (1/242) من طريق عفان، عن حماد ابن سلمة به.
فدل على أن حماد بن سلمة لم يضبطه، وقد حفظه همام بن يحيى، عن إسحاق بما يوافق الروايات الأخرى كما سيأتي.
قال البخاري في التاريخ الكبير (3/320) : لم يقمه. يعني: إسناد حماد.
وقال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين بعد أن أقام همام ابن يحيى إسناده، فإنه حافظ ثقة، وكل من أفسد قوله فالقول قول همام، ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما اتفقا فيه على عبيد الله بن عمر بن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وقد روى محمد بن إسماعيل هذا الحديث في التأريخ الكبير، عن حجاج بن منهال، وحكم له بحفظه، ثم قال: لم يقمه حماد بن سلمة. اهـ
وقال أبو رزعة كما في العلل لابن أبي حاتم (1/82) : وهم حماد. أهـ
الطريق الثاني: محمد بن إسحاق، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه به.
أخرجه أبو داود (860) ، وابن خزيمة (597، 638) ، والطبراني في الكبير (5/39) رقم: 4528، والبيهقي في السنن (1/133، 134) إلا أن لفظ محمد بن إسحاق لم يذكر الوضوء، وقد اختصره أبو داود وابن خزيمة، وأما الطبراني فقد ذكره بتمامه.
كما أخرجه الحاكم في المستدرك (1/243) من طريق محمد بن إسحاق، إلا أنه قال: عن علي بن يحيى بن خلاد، حدثني زريق، عن أبيه، عن عمه رفاعة، واختصر الحديث.
الطريق الثالث: داود بن قيس الفراء، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه به.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3739) ، والنسائي في المجتبى (1314) ، وفي الكبرى (1237) ، والطبراني في الكبير (4520) والحاكم في المستدرك (1/242، 243) ولم يختلف على داود في ذكر والد علي بن يحيى بن خلاد في إسناده، وذكر الوضوء بلفظ: " إذا أردت أن تصلي فتوضأ، فأحسن وضوءك ".
الطريق الرابع: محمد بن عجلان، عن علي بن يحيى بن خلاد.
واختلف على محمد بن عجلان،
فأخرجه أحمد في المسند (4/340) والطبراني في الكبير (4523) ، وابن حبان (1787) عن يحيى بن سعيد.
وأخرجه النسائي في المجتبى (1313) والطبراني في الكبير (4522) من طريق الليث بن سعد.
وأخرجه الطبراني في الكبير (4521) من طريق سليمان بن بلال.
وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1976) والطبراني في الكبير (4524) من طريق أبي خالد الأحمر.
وأخرجه النسائي (1053) والبيهقي في السنن الكبرى (2/372) من طريق بكر بن مضر. كلهم رووه عن ابن عجلان، عن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن رافع.
وذكروا الوضوء بلفظ داود بن قيس " فأحسن وضوءك " ولم يفصل الوضوء إلا ابن أبي عاصم فلم يذكر الوضوء.
وخالفهم النضر بن عبد الجبار، فرواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (1594) من طريقه، قال: أخبرنا ابن لهيعة والليث، عن محمد بن عجلان، عن من أخبره عن علي بن يحيى ابن خلاد، عن أبيه، عن عمه، وساقه مختصراً.
فزاد في الإسناد رجلاً مبهماً بين ابن عجلان وبين علي بن يحيى بن خلاد.
وأخرجه البخاري في القراءة خلف الإمام (112) من طريق بكير بن الأشج، عن ابن عجلان، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة، ولم يقل: عن أبيه.
والمحفوظ أن علي بن يحيى بن خلاد يرويه عن أبيه، عن رفاعة.
الطريق الخامس: عن محمد بن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلاد.
رواه أحمد في مسنده (4/340) عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة. ولم يقل: عن أبيه.
ورواه ابن حبان (1787) من طريق يزيد بن هارون به إلا أنه قال: عن علي بن يحيى ابن خلاد أحسبه عن أبيه. فشك في زيادة أبيه.
الطريق السادس: شريك بن أبي نمر، عن علي بن يحيى بن خلاد.
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (2243) وفي شرح معاني الآثار (1/232) عنه، عن علي بن يحيى به، بإسقاط كلمة (أبيه) ، واختصر الحديث فلم يذكر فيه الوضوء.
الطريق السابع: عن عبد الله بن عون، عن علي بن يحيى بن خلاد.
أخرجه الطبراني في الكبير (4530) من طريق شريك، عن عبد الله بن عون به، بإسقاط كلمة عن أبيه، ولم يذكر الوضوء.
الطريق الثامن: يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن جده، عن رفاعة.
أخرجه الطيالسي (1382) ، وأبو داود (861) ، والنسائي في المجتبى (667) ، وفي الكبرى (1631) ، وابن خزيمة (545) ، والطحاوي في مشكل الآثار (2244) ، والبيهقي (2/380) من طريق إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد به.
ورواه الترمذي (302) من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد، عن جده رفاعة، ولم يذكر عن أبيه، وهو وهم.
ويحيى بن علي بن يحيى بن خلاد مجهول، لم يرو عنه إلا إسماعيل بن جعفر، ولم يوثقه إلا ابن حبان. والله أعلم.
فتبين لنا في خلاصة هذا البحث، أن الإسناد المحفوظ في هذا الحديث هو بذكر يحيى بن خلاد، والد عليَّ، ومن أسقطه من الإسناد فقد غلط، وقد انفرد همام بن يحيى عن إسحاق بذكر الوضوء على وجه التفصيل، بذكر غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين، وقد ذكر ابن عجلان الوضوء بلفظ " فأحسن وضوءك " ولم يذكر الوضوء مفصلاً، وهذا يوافق رواية أبي هريرة في الصحيحين لقصة المسيء في صلاته، فقد أخرجه البخاري (6251) ومسلم (397) بلفظ: " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ". ولم يفصله، فإن كانت القصة واحدة وهو الظاهر فإن رواية ابن عجلان موافقة في المعنى لما في الصحيحين فهي أولى أن تكون محفوظة، والله أعلم.
انظر لمراجعة بعض طرق هذا الحديث: أطراف المسند (2/344) ، تحفة الأشراف (3604) ، إتحاف المهرة (4582) .(9/560)
الدليل الثالث:
(980-209) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير،(9/563)
عن علي رضي الله عنه، قال: كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرهما (1) .
[رجاله ثقات] (2) .
_________
(1) المسند (1/95) .
(2) مدار هذا الحديث على عبد خير، عن علي مرفوعاً، ورواه عن عبد خير ثلاثة: أبو إسحاق السبيعي، وأبو السوداء عمرو بن عمران النهدي، والسدي.
أما رواية أبي إسحاق السبيعي، فرواه عنه الأعمش، واختلف عليه:
فرواه وكيع، وعيسى بن يونس، عن الأعمش به، لا يختلفون في لفظه، ولا يذكرون المسح على الخفين، ولفظه: " كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهرهما ".
ورواه حفص بن غياث، عن الأعمش به، تارة بالمسح على القدمين، وتارة بالمسح على الخفين.
ورواه يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، بذكر المسح على الخفين، ولم يختلف عليه فيه، ولذا اخترتها أن تكون في المتن.
وكان من الممكن أن يكون هذا الاختلاف من قبل الأعمش؛ فإن روايته عن أبي إسحاق فيها كلام، لكن جاء المسح على القدمين من غير طريق الأعمش، فرواه الثوري، عن أبي إسحاق به بلفظ: " لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر القدمين لرأيت أن أسفلهما أو باطنهما أحق ".
كما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق بذكر المسح على القدمين، لا على الخفين.
فالثوري وإبراهيم بن طهمان، يرويانه عن أبي إسحاق بذكر المسح على ظاهر القدمين، لا يختلف عليهما فيه، ولم يتعرضا لذكر الخفين.
ورواه أبو نعيم عن يونس، عن أبي إسحاق، واختلف على أبي نعيم فيه:
فرواه شعيب بن أيوب، عن أبي نعيم، به بذكر المسح على القدمين، لا على الخفين.
ورواه أحمد، عن أبي نعيم به، فخالف من سبق، وانفرد عنهم بذكر النعلين، ولفظه: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على النعلين، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت، لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما ".
هذا فيما يتعلق برواية أبي إسحاق، ولا يمكن أن يقال: إن هذا جاء من تغير أبي إسحاق، لأن من الرواة عنه سفيان الثوري، وهو من أصحابه القدماء.
أما رواية أبي السوادء، عن عبد خير، عن علي، فذكرت مسح القدم، لا مسح الخف، فخرج أبو إسحاق من عهدته بهذه المتابعة، إلا أنه ذكر غسل الظاهر، ولم يذكر مسح الظاهر، ومعلوم أنه لوكان الأمر يتعلق بالخف لذكر المسح؛ لأنه لم يقل أحد: إنه يغسل ظاهر الخف، إلا أن يحكم بشذوذ هذه اللفظة، وهو أقرب، قال: توضأ علي، فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل ظهور قدميه، لظننت أن بطونهما أحق. وسنده صحيح.
وإذا أردت أن تطلع على مصادر تخريج هذا الحديث فانظره في كتابي أحكام المسح على الحائل (ح 72) ، وقد طبع ولله الحمد، وهو جزء من هذه السلسلة.(9/564)
وجه الاستدلال:
قوله في الحديث (يمسح على ظاهرهما) ظاهره أن يمسح على رجليه بدون خفين، وهذا دليل على أن فرض الرجل المسح.
ويجاب عن هذا الدليل بما يلي:
لقد تبين لك الاختلاف في متن هذا الحديث من خلال الكلام على تخريج الحديث، فإما أن يقال: إنه هذا الاختلاف يوجب الاضطراب في الحديث، والمضطرب ضعيف.
أو يحمل قول من قال بالمسح على ظاهر القدمين بالمسح عليه، وفيه الخف، وهذا أرجح، ولذلك جاء في بعضها الجمع بين المسح على ظاهر القدم، مع ذكر الخف مما يوحي بأن المراد بظاهر القدم هو ظاهر الخف،(9/565)
(981-210) فقد جاء في رواية إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق: ((كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على ظهر قدميه على خفيه)) (1) .
فتبين أن مراده من قوله: (ظاهر القدمين) أنه يريد ظاهر الخفين كما صرح به في آخر الحديث.
قال الدارقطني في العلل: ((والصحيح في ذلك قول من قال: كنت أرى باطن الخفين أحق بالمسح من أعلاهما)) (2) ، وكذا رجح البيهقي في السنن (3) .
الدليل الرابع: من الآثار.
(982-211) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن حميد، قال:
كان أنس إذا مسح على قدميه بلهما.
[وسنده صحيح] .
وقد خرجت ذلك عن بعض التابعين فيما سبق من قول عكرمة والشعبي والحسن وغيرهم.
دليل من قال: يجوز الغسل والمسح.
لعل هذا القول أخذ من أدلة القولين بجواز الغسل والمسح أن الأمر على التخيير.
_________
(1) سنن البيهقي (1/292) .
(2) العلل (4/46) .
(3) السنن (1/292) .(9/566)
وقد يكون هذا القول يرجع إلى القول الثاني، وذلك لأن من قال: إن الفرض المسح لا يمنع من غسل القدم، ولكنه لا يوجبه، وإنما يرى أن المسح كاف في الواجب، فإن غسل قدمه فلا بأس، ولذلك قال ابن عبد البر في التمهيد: ((وإذا جاز عند من قال بالمسح على القدمين أن يكون من غسل قدميه قد أدى الفرض عنده، فالقول في هذه الحال بالاتفاق هو اليقين)) (1) .
فهذا نص من ابن عبد البر أن من قال بالمسح لا يمنع من غسل القدم، والله أعلم.
الراجح:
بعد ذكر الأقوال والأدلة فإن الراجح والله أعلم وجوب غسل القدمين، ولا يكفي في ذلك مسحهما، وحديث ويل للأعقاب من النار نص في محل النزاع، والله أعلم.
_________
(1) التمهيد (24/256) .(9/567)
[صفحة فارغة](9/568)
الفصل الخامس:
من فروض الوضوء الترتيب
اختلف العلماء في حكم الترتيب بين أعضاء الوضوء،
فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، وقول داود (3) .
وقيل: الترتيب فرض، وهو مذهب الشافعية (4) ، والحنابلة (5) ، وهو قول إسحاق (6) ، واختيار ابن حزم (7) .
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/507) ، تبيين الحقائق (1/6) ، المبسوط (1/55) ، حاشية ابن عابدين (1/122) ، بدائع الصنائع (1/18) ، شرح فتح القدير (1/34، 35) .
(2) جاء في المدونة (1/14) ، سألت مالكاً عمن نكس وضوءه فغسل رجليه قبل يديه، ثم وجهه، ثم صلى؟ قال: صلاته مجزئة عنه.
قال: قلت له: أترى أن يعيد الوضوء؟ قال: ذلك أحب إلي. قال: ولا ندري ما وجوبه. اهـ وانظر شرح الخرشي (1/135) ، الإشراف (1/11) ، المنتقى (1/47) ، مواهب الجليل (1/249،250) .
(3) المجموع (1/472) .
(4) الوسيط (1/375) ، مغني المحتاج (1/54) ، المجموع (1/470-472) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/57) .
(5) الإنصاف (1/138) ، كشاف القناع (1/104) ، المغني (1/92) ، الفروع (1/154) .
(6) المحلى (1/310) .
(7) قال في المحلى (1/310) مسألة: 206 "من نكس وضوءه، أو قدم عضواً على المذكور قبله في القرآن عمداً أو نسيانا لم تجزه الصلاة أصلاً, وفرض عليه أن يبدأ بوجهه ثم ذراعيه ثم رأسه ثم رجليه. الخ كلامه رحمه الله.(9/569)
دليل من قال: الترتيب سنة.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين} (1) .
قال ابن عبد البر: والحجة لمالك ومن ذكرنا من العلماء من العلماء، أن سيبويه وسائر البصريين من النحويين، قالوا في قول الرجل: أعط زيداً وعمراً ديناراً، أن ذلك يوجب الجمع بينهما في العطاء، ولا يوجب تقدمة زيد على عمرو، فكذلك قول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (2) إنما يوجب ذلك الجمع بين الأعضاء المذكورة، ولا يوجب النسق، وقد قال الله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} (3) ، فبدأ بالحج، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل أن يحج.
وكذلك قوله {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (4) ، جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة ماله في حين وقت الصلاة أن يبدأ بإخراج الزكاة، ثم يصلي الصلاة في وقتها عند الجميع، وكذلك قوله تعالى {فتحرير رقبة مؤمنة ودية
_________
(1) المائدة: 6.
(2) المائدة: 6.
(3) البقرة: 196.
(4) النور: 56.(9/570)
مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} (1) ، لا يختلف العلماء أنه جائز لمن وجب عليه في قتل الخطأ إخراج الدية وتحرير الرقبة أن يسلم الدية قبل أن يحرر الرقبة، وهذا كله منسوق بالواو، ومثله كثير في القرآن، فدل على أن الواو لا توجب رتبة... ثم قال: وقد قال الله تعالى {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} (2) ، ومعلوم أن السجود بعد الركوع (3) .
الدليل الثاني:
(983-212) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن عوف، عن عبد الله بن عمر بن هند، قال:
قال علي: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت (4) .
[إسناده ضعيف] (5) .
ولو صح فهو محمول على تقديم الشمال على اليمين في اليدين والرجلين كما جاء ذلك عنه من طريق الحارث عن علي رضي الله عنه (6) .
وقد جاء في مسائل عبد الله بن أحمد لأبيه: قال أحمد: والذي روي عن علي وابن مسعود ما أبالي بأي أعضائي بدأت، قال: إنما يعني اليسرى قبل
_________
(1) النساء: 92.
(2) آل عمران: 43.
(3) التمهيد (2/81) .
(4) المصنف (1/43) .
(5) إسناده منقطع، وسبق تخريجه في سنن الوضوء في مشروعية التيامن.
(6) والحارث ضعيف.(9/571)
اليمنى، ولا بأس أن يبدأ بيسار قبل يمين؛ لأن مخرجها من الكتاب واحد، قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (1) ، فلا بأس أن يبدأ باليسار قبل اليمين (2) . اهـ
وذكر ابن عبد الهادي في التنقيح قوله:
(984-213) روى الإمام أحمد، عن جرير، عن قابوس، عن أبيه،
أن علياً سئل فقيل له: أحدنا يستعجل فيغسل شيئاً قبل شيء؟ قال: لا، حتى يكون كما أمره الله تعالى (3) .
[لم أقف عليه في كتب الحديث، والإسناد المذكور ضعيف] (4) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) مسائل عبد الله بن أحمد (1/99،100) .
(3) التنقيح (1/404) ، ونقلها ابن قدامة في المغني بالإسناد نفسه (1/93) ، كما نقل ذلك ابن تيمية في شرح العمدة (1/212) ، وفي مجموع الفتاوى (21/412) .
(4) في إسناده قابوس بن ظبيان، جاء في ترجمته:
قال جرير: أتينا قابوس بعد فساده. التاريخ الكبير (7/193) وهذا الأثر من رواية جرير عن قابوس.
وقال أحمد: سئل جرير عن شيء من حديث قابوس، فقال: نفق قابوس، نفق قابوس. الكامل (6/48) .
وقال العجلي: قابوس بن أبي ظبيان كوفي لا بأس به. معرفة الثقات (2/209) .
وقال ابن عدي: أحاديثه مقاربة، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (6/49) .
وقال ابن معين: ثقة جائز الحديث إلا أن ابن أبي ليلى جلده الحد. المرجع السابق.
وقال مرة أخرى: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
ووثقه يعقوب بن سفيان كما في المعرفة والتاريخ
وقال فيه أحمد: لم يكن من النقد الجيد. تهذيب الكمال (23/328) .
وقال أحمد: لم يكن بذاك. بحر الدم (830) .
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، لين، يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (7/145) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (497) .
قال الدارقطني: ضعيف، لكن لا يترك. تهذيب التذهيب (8/274) .
وقال ابن سعد: فيه ضعيف، ولا يحتج به. المرجع السابق.(9/572)
الدليل الثالث:
(985-214) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن ابن جريج، عن سليمان ابن موسى، عن مجاهد، قال:
قال عبد الله - يعني: ابن مسعود - لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء.
[إسناده منقطع والمحفوظ عن ابن مسعود أن ذلك في تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى] (1) .
_________
(1) قال الدارقطني في السنن (1/89) بعد أن رواه من طريق حفص به، وهذا مرسل، ولا يثبت.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (2/83) : حديث عبد الله بن مسعود أشد انقطاعا؛ لأنه لا يوجد إلا من رواية مجاهد، عن ابن مسعود، ومجاهد لم يسمع من ابن مسعود، ولا رآه، ولا أدركه، وهو أيضاً حديث مختلف فيه؛ لأن عبد الرزاق ومحمد بن بكر البرساني روياه عن ابن جريج، عن سليمان الأحول، عن مجاهد، عن ابن مسعود، قال: ما أبالي بأيهما بدأت باليمنى أو باليسرى.
ورواه حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن مجاهد، قال: قال عبد الله بن مسعود: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك.
وعبد الرزاق أثبت في ابن جريج من حفص بن غياث، وقد تابعه البرساني، وليس في روايتهما ما يوجب تقديماً ولا تأخيراً؛ لأن اليمنى واليسرى لا تنازع بين المسلمين في تقديم أحدهما على الأخرى؛ لأنه ليس فيها نسق بواو، وقد جمعهما الله بقوله تعالى: وأيديكم، وهذا لم يختلف فيه فيحتاج إليه. اهـ(9/573)
قلت: الصحيح عن ابن مسعود أن ذلك في تقديم اليسرى على اليمنى،
(986-215) فقد رواه الدارقطني من طريق هشيم، عن عبد الرحمن المسعودي، حدثني سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين،
عن عبد الله بن مسعود، عن رجل توضأ فبدأ بمياسره، فقال: لا بأس (1) .
[وصحح الدارقطني إسناده] (2) .
الدليل الرابع:
احتجوا بما رووا عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل وجهه، ثم يديه، ثم رجليه، ثم مسح رأسه (3) .
[لم أقف على إسناده] (4) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/89) .
(2) إن سلم من عنعنة هشيم بن بشير، وسلم من اختلاط المسعودي، وقد ذكر ابن الكيال في الكواكب النيرات (ص: 282) جملة من الرواة ممن سمع منه قبل اختلاطه، وجملة من الرواة سمعوا منه بعده، ولم يذكر هشيم في أحدهما، إلا أنه نص على أن اختلاطه كان ببغداد، فمن سمع من بالبصرة أو بالكوفة فسماعه صحيح، والله أعلم.
(3) تنقيح التحقيق (1/403) .
(4) قال ابن عبد الهادي: وهذا لا يصح، ومن الجائز أن يكون شك هل مسح رأسه أم لا؟ فمسح احتياطاً. اهـ
قلت: قول ابن عبد الهادي من الجائز أن يكون شاكاً.. الخ هذا لا يعبأ به لو ثبت الحديث، لأن الأصل عدم الشك، ولكن لم يذكر ابن عبد الهادي إسناده لينظر في ثبوته، ولم ينسبه إلى مصنف من المصنفات حتى يرجع إليه، ولم أقف على من ذكره مسنداً، وقد ذكره النووي في المجموع (1/471) بدون إسناد، وقال في (1/473) من الكتاب نفسه عن هذا الحديث: إنه ضعيف لا يعرف. والله أعلم.(9/574)
الدليل الخامس:
القياس على الطهارة الكبرى، فقد أجمعوا على أنه على أنه لا ترتيب في طهارة الجنابة، وهي طهارة من الحدث الأكبر، فكذلك الطهارة من الحدث الأصغر بج امع أن كلاً منهما طهارة من حدث (1) .
ورده النووي، فقال: وعن قياسهم على غسل الجنابة: أن جميع بدن الجنب شيء واحد، فلم يجب ترتيبه كالوجه، بخلاف أعضاء الوضوء فإنها متغايرة متفاصلة (2) . أي فيجب الترتيب بينها.
الدليل السادس:
قالوا: المحدث لو انغمس في الماء ارتفع حدثه، وإذا كان الأمر كذلك فهذا دليل على أن الترتيب لا يجب؛ لأن طهارته كانت دفعة واحدة بلا ترتيب.
وأجيب:
بأنه لو انغمس دفعة واحدة لم يتفقوا على أنه يرتفع حدثه حتى يعارض به القول بوجوب الترتيب.
قال في المغني: ولو غسل أعضاءه دفعة واحدة لم يصح له إلا غسل وجهه؛ لأنه لم يرتب، وإن انغمس في ماء جارٍ فلم يمر على أعضائه إلا جرية
_________
(1) نقل الإجماع ابن عبد البر والنووي انظر فتح البر في ترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/251) ، والمجموع (1/471) .
(2) المجموع (1/471) .(9/575)
واحدة فكذلك، وإن مر عليه أربع جريات، وقلنا الغسل يجزئ عن المسح أجزأه، كما لو توضأ أربع مرات، وإن كان الماء راكداً، فقال بعض أصحابنا: إذا أخرج وجهه، ثم يديه، ثم مسح برأسه، ثم خرج من الماء أجزأه؛ لأن الحدث إنما يرتفع بانفصال الماء عن العضو (1) .
دليل من قال بوجوب الترتيب.
الدليل الأول:
(987-216) ما رواه مسلم من حديث عمرو بن عبسة السلمي الطويل، وفيه مرفوعاً: ((ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض ويستنشق، فيستنثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء....)) الحديث (2) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبر في الانتقال من غسل عضو إلى عضو آخر بكلمة (ثم) وهي نص في الترتيب.
_________
(1) المغني (1/93) .
(2) رواه مسلم (832) .(9/576)
الدليل الثاني:
قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (1) .
قال في المهذب: فأدخل المسح بين الغسلين، وقطع حكم النظير عن النظير، فدل على أنه قصد إيجاب الترتيب (2) .
وقال النووي: ((ذكر الله تعالى ممسوحاً بين مغسولات، وعادة العرب إذا ذكرت أشياء متجانسة وغير متجانسة جمعت المتجانس على نسق، ثم عطفت غيرها، لا يخالفون ذلك إلا لفائدة، فلو لم يكن الترتيب واجباً لما قطع النظير عن نظيره.
فإن قيل: فائدته استحباب الترتيب. فالجواب من ثلاثة وجوه:
أحدهما: أن الأمر للوجوب، وهو المختار، وهو مذهب جمهور الفقهاء. يعني: الأمر في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (3) .
الوجه الثاني: أن الآية ما سيقت إلا لبيان الواجب، ولهذا لم يذكر فيها شيء من السنن.
الدلالة الثالثة:
أن مذهب العرب إذا ذكرت أشياء وعطفت بعضها على بعض، تبتدئ الأقرب فالأقرب لا يخالف ذلك إلا لمقصود، فلما بدأ سبحانه وتعالى بالوجه،
_________
(1) المائدة: 6.
(2) المهذب مطبوع مع المجموع (1/469) .
(3) المائدة: 6.(9/577)
ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرجلين دل على أن الأمر بالترتيب وإلا لقال: فاغسلوا وجوهكم وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أيديكم وأرجلكم)) (1) .
الدليل الثالث:
الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم وصفوه مرتباً مع كثرتهم، وكثرة المواطن التي رأوه فيها، وكثرة اختلافهم في صفاته في مرة ومرتين وثلاثاً وغير ذلك، ولم يثبت فيه مع اختلاف أنواعه صفة غير مرتبة، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بيان للوضوء المأمور به، ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز كما ترك التكرار في أوقات (2) . اهـ
وقال ابن القيم: وكذلك كان وضوءه مرتباً متوالياً، لم يخل به مرة واحدة (3) .
الدليل الرابع:
ما ذكره ابن قدامة، قال: توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتباً، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (4) .
وقول ابن قدامة: توضأ مرتباً ليست من نص الحديث، وإنما وصْفٌ من ابن قدامة لما وقع منه - صلى الله عليه وسلم -، ولفظ الحديث:
_________
(1) المجموع (1/417) .
(2) المرجع السابق (1/473) .
(3) زاد المعاد (1/194) .
(4) المغني (1/93) .(9/578)
توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله منه الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: وهذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي.
وقد تفرد به المسيب بن واضح، وهو ضعيف (1) .
فأراد ابن قدامة رحمه الله أن يستنبط من قوله: ((لا يقبل الله الصلاة إلا به)) أي بهذا الوضوء على هذه الصفة، ولم يصح الحديث حتى يمكن أن يكون حجة، ولم يذكر لنا في هذا الحديث صفة الوضوء من كونه غسل وجهه، ثم يديه، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ولو صح لكان هناك جواب، وهو أن يقال: إن المراد به قوله: لا يقبل الله الصلاة إلا به أي في عدد الغسلات، فمن نقص عن الغسلة الواحدة فقد نقص عن المقدار الواجب، فالحكم إنما هو موجه إلى العدد، لأنه قال: وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، فلم يقصد من النفي نفي صحة الوضوء مع فقد الترتيب، والله أعلم.
الدليل الخامس:
(988-217) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا علي بن حجر، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه،
عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف سبعاً، ورمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم قرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فصلى سجدتين، وجعل المقام
_________
(1) سبق تخريجه في سنن الوضوء: في ذكر الغسلة الثانية والثالثة ذكرناه في حاشية هذه المسألة، والله أعلم.(9/579)
بينه وبين الكعبة، ثم استلم الركن، ثم خرج، فقال: إن المروة من شعائر الله، فابدأوا بما بدأ الله به (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نبدأ بما بدأ الله به، والأصل في الأمر الوجوب، وقد بدأ الله بذكر الوجه فاليدين فالرأس، فالرجلين، فيكون الترتيب امتثالاً للأمر النبوي بتقديم ما قدمه الله، وتأخير ما أخره الله.
وأجيب:
[بأن المحفوظ من لفظ الحديث أنه بلفظ الخبر: نبدأ بما بدأ الله به، فلا حجة فيه] (2) .
_________
(1) سنن النسائي (2962) .
(2) الحديث مداره على جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، واختلف على جعفر بن محمد.
فرواه جماعة عن جعفر بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به " وبعضهم يأتي به بصيغة المفرد " أبدأ بما بدأ الله به " ورواه بعضهم بصورة الأمر " ابدأ " وبعضهم يقول " ابدأوا " وإليك تحرير هذا الاختلاف، والله أعلم.
فنبدأ برواية الباب، فقد رواه النسائي عن علي بن حجر، عن إسماعيل، وهو في الصغرى بلفظ الأمر " فابدأوا بما بدأ الله به " وفي الكبرى بالإسناد نفسه (3955) بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به"
ورواه جماعة من الأئمة بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به، منهم:
الأول: يحيى بن سعيد القطان، كما في مسند أحمد (3/320) ، وابن الجارود (465) ، ومسند أبي يعلى (2126) ، وسنن النسائي الكبرى (3962) ، وصحيح ابن خزيمة (2757) .
الثاني: مالك كما في الموطأ (1/372) ، ومسند أحمد (3/388) ، وسنن النسائي المجتبى (2969) ، وفي الكبرى له (3963) ، وسنن البيهقي (1/85) .
الثالث: ابن الهادي، كما في سنن النسائي المجتبى (2961،2974) ، وفي الكبرى (3967) ،
الرابع: وهيب بن خالد، كما عند في مسند الطيالسي (1668) ، وأبي يعلى (2027) ، وابن حبان (3943،3947) ، وسنن البيهقي (3/315) و (5/93) .
الخامس: ابن أبي حازم، كما في صحيح ابن خزيمة (2620) .
السادس: سفيان بن عيينة، كما في مسند الحميدي (1266) ، وسنن الترمذي (862) ،
السابع: القاسم بن معن، كما في معجم الصغير للطبراني (187) ،
كل هؤلاء رووه بلفظ: " نبدأ بما بدأ الله به " بلفظ الخبر، ولم يختلف عليه في لفظه، والواقعة واحدة حيث لم يحج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام إلا حجة الوداع.
ورواه أحمد (3/394) من طريق سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد به، بلفظ الخبر "أبدأ بما بدأ الله به "، لكن بلفظ المفرد.
ورواه حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد به، واختلف عليه فيه:
فرواه تارة بلفظ الخبر بصورة الجمع كما هي رواية الجماعة، ورواه تارة بلفظ الخبر لكن بصورة المفرد " أبدأ بما بد الله به " ورواه ثالثة بلفظ الأمر " ابدأ بما بدأ الله به، وقال أخرى " ابدأوا بما بدأ الله به ".
ولا شك أن الرواية بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به " أرجح لموافقتها الجمع الكثير ممن روى الحديث، وعلى رأسهم أئمة في الحفظ كالإمام مالك ويحيى بن سعيد القطان وسفيان بن عيينة وغيرهم، خاصة أن هؤلاء لم يختلف عليهم في لفظه بخلاف رواية حاتم بن إسماعيل، وهاك تخريج ألفاظ رواية حاتم بن إسماعيل رحمه الله.
فرواه ابن أبي شيبة كما في المصنف (3/334) رقم 14705. ومن طريقه مسلم في صحيحه (1218) ، وعبد بن حميد كما في المنتخب (1135) ، وابن حبان في صحيحه (3944) .
وهشام بن عمار كما في صحيح ابن حبان (3944) .
وإسحاق بن إبراهيم كما في صحيح مسلم (1218) كلهم رووه عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر مرفوعاً: بلفظ الخبر لكن الفاعل مفرداً " أبدأ بما بدأ الله به ".
ورواه البيهقي في السنن (5/6،7) من طريق إسحاق بن إبراهيم به بلفظ: نبدأ، لكنه مقروناً بغيره.
ورواه إسماعيل بن أبان كما في سنن الدارمي (1850) عن حاتم بن إسماعيل به، بلفظ: ابدأ بما بدأ الله به. بلفظ " الأمر "
ورواه البيهقي (5/93) من طريق هشام بن عمار وأبي بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل به، بلفظ الأمر، (ابدأ) وأخشى أن يكون خطأ لأن رواية ابن أبي شيبة في المصنف وفي صحيح ابن حبان بلفظ الخبر " أبدأ بما بدأ الله به " وكذلك رواية هاشم بن عمار في صحيح ابن حبان، وقد تقدم ذكرها، فلا يبعد أن تكون الكلمة " أبدأ " ثم سقطت الهمزة من الألف فانقلب الخبر إنشاءً، وصار اللفظ بصورة الأمر.
ورواه أبو داود (1905) عن هشام بن عمار مقروناً بغيره، ومن طريقه البيهقي (5/6) بلفظ الخبر أيضاً لكن بصورة الجمع: " نبدأ بما بدأ الله به ".
كما رواه ابن ماجه أيضاً (3074) عن هاشم بن عمار به وحده، وبلفظ الخبر (نبدأ بما بدأ الله به) .
ورواه عبد الله بن محمد النفيلي، عن حاتم بن إسماعيل، واختلف عليه فيه:
فرواه ابن الجاورد في المنتقى (469) من طريقه بلفظ " ابدأوا بما بدأ الله به ".
ورواه أبو داود (1905) عنه مقروناً بغيره بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به " ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (5/6) .
هذا فيما يتعلق برواية حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد.
وقد أخرج الحديث جماعة كثيرون عن جعفر بن محمد ولم أخرجها لأنهم اختصروا الحديث، ولم يذكروا ما نحن بصدد تحريره، والله أعلم.
فتبين لي من خلال هذا البحث أن أكثر الأئمة على أن اللفظ بصورة الخبر، " نبدأ " ومن رواه بصورة الأمر مع أنهم أقل عدداً وحفظاً ممن رواه بلفظ الخبر، ومع ذلك فقد اختلف عليهم فتارة يروونه بلفظ الخبر بما يوافق رواية الأكثر، وتارة يروونه بلفظ الأمر، والواقعة واحدة، ولا تحتمل فرض التعدد، فيكون الراجح أن الحديث النبوي بلفظ الخبر، والله أعلم.
انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (2/86) ، تحفة الأشراف (2621) ، إتحاف المهرة (3138) .(9/580)
الدليل السادس:
قال في الحاوي الكبير: قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (1) ، فأمر بغسل الوجه بحرف الفاء الموجبة للتعقيب والترتيب إجماعاً، فإذا ثبت تقديم الوجه ثبت استحقاق الترتيب... الخ (2) .
ورده النووي، فقال: وهذا استدلال باطل، وكأن قائله حصل له ذهول واشتباه فاخترعه، وتوبع عليه تقليداً، ووجه بطلانه أن الفاء وإن اقتضت الترتيب لكن المعطوف على ما دخلت عليه بالواو مع ما دخلت عليه كشيء واحد كما هو مقتضى الواو, فمعنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا الأعضاء، فأفادت الفاء ترتيب غسل الأعضاء على القيام إلى الصلاة، لا ترتيب بعضها على بعض، وهذا مما يعلم بالبديهة، ولا شك أن السيد لو قال لعبده: إذا دخلت السوق، فاشتر خبزاً وتمراً لم يلزمه تقديم الخبز، بل كيف اشتراهما كان ممتثلاً بشرط كون الشراء بعد دخول السوق كما أنه هنا يغسل الأعضاء بعد القيام إلى الصلاة (3) .
الراجح بين القولين:
بعد استعراض أدلة كل قول نجد أن كل قول من القولين فيه قوة، وله حظ من النظر، فالقول بعدم وجوب الترتيب يسنده أنه هو الأصل؛ لأن الأصل عدم الوجوب إلا بدليل صحيح صريح خال من النزاع، كما تسنده اللغة حيث إن آية المائدة عبرت بالواو، والواو لمطلق الجمع، ولا تقتضي ترتيباً.
_________
(1) المائدة: 6.
(2) الحاوي الكبير (1/139) .
(3) المجموع (1/472) .(9/583)
وأما حديث عمرو بن عبسة السلمي، فإنه وإن عبر بثم الدالة على الترتيب إلا أن الحديث لم يعلق صحة الوضوء على كلمة (ثم) ولم يُسَق الحديث أصلاً لبيان صفة الوضوء، وإنما سيق الحديث في بيان فضل الوضوء.
وأما إدخال الممسوح بين مغسولات، وأنه لا فائدة منه إلا ذكر الترتيب، فلا يستطيع الباحث أن يجزم بوجوب الترتيب بناء على هذه النكتة، وقد يقال: ذكر الممسوح بين المغسولات لبيان أن الترتيب مشروع.
وأقوى دليل للقائلين بوجوب الترتيب أن الترتيب هذا هو الوضوء المتلقى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخل به مرة واحدة، فمن توضأ وضوءاً منكساً فقد أتى بوضوء لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو على خلاف سنته، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو رد على صاحبة، وإن كان هذا الدليل قد يحاولون الخروج منه بأن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تدل على الوجوب، وإنما تدل على الاستحباب.
وعلى كل فالأخذ بالترتيب فيه احتياط للدين وخروج من الخلاف، خاصة أن الأمر يتعلق بأعظم العبادات بعد الشهادتين: وهي الصلاة.
ولو أن الإنسان ترك موضعاً يسيراً في ذراعه، ثم رآه بعد أن فرغ من وضوئه فلا بأس أن يغسل ذلك الموضع اليسير، ولا يعيد مسح رأسه وغسل رجليه؛ لأن المقدار يسير جداً، فهذا الإمام أحمد رحمه الله مع أنه يرى وجوب الترتيب ووجوب المضمضة والاستنشاق يسهل في ترك الترتبيب بين أعضاء الوضوء وبين المضمضة والاستنشاق، فقد جاء في مسائل عبد الله بن أحمد لأبيه، قال: سمعت أبي سئل عن رجل نسي المضمضة والاستنشاق، وصلى؟
قال: يعيد الصلاة.(9/584)
قيل: ويعيد الوضوء؟
قال: لا، ولكنه يتمضمض ويستنشق، والله أعلم (1) .
بينما قال في الكتاب نفسه فيمن توضأ ونسي مسح رأسه، قال أحمد: إن كان جف وضوءه يعيد الوضوء كله، وإن كان لم يجف، فيمسح على رأسه، ويغسل رجليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (2) (3) .
_________
(1) مسائل عبد الله بن أحمد لأبيه (1/88) .
(2) المائدة: 6.
(3) مسائل عبد الله بن أحمد (1/94) .(9/585)
[صفحة فارغة](9/586)
الفصل السادس:
من فروض الوضوء المولاة
اختلف العلماء في حكم الموالاة بين أفعال الوضوء بعد اتفاقهم على أن التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر (1) .
فقيل: الموالاة سنة، وهو مذهب الحنفية (2) ، والجديد من قولي الشافعي (3) ، والظاهرية (4) .
وقيل: تجب الموالاة مع الذكر، وتسقط مع النسيان والعذر، وهو مذهب المالكية (5) .
_________
(1) نقل الإجماع النووي في المجموع (1/478) .
(2) أحكام القرآن للجصاص (2/501) البحر الرائق (1/27) ، بدائع الصنائع (1/22) حاشية ابن عابدين (1/122) ، الوسيط (1/385) .
(3) قال في المهذب المطبوع مع المجموع (1/478) ويوالي بين أعضائه، فإن فرق تفريقاً يسيراً لم يضر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه, وإن كان تفريقاً كثيراً: وهو بقدر ما يجف الماء على العضو في زمان معتدل ففيه قولان, قال في القديم: لا يجزيه؛ لأنها عبادة يبطلها الحدث فأبطلها التفريق كالصلاة. وقال في الجديد: يجزيه؛ لأنها عبادة لا يبطلها التفريق القليل فلا يبطلها التفريق الكثير كتفرقة الزكاة. اهـ وانظر
وقال النووي شارحاً هذه العبارة في المجموع (1/478) : التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع المسلمين, نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما. وأما التفريق الكثير ففيه قولان مشهوران: الصحيح منهما باتفاق الأصحاب أنه لا يضر وهو نصه في الجديد. اهـ
(4) المحلى (1/312) مسألة: 207.
(5) جاء في المدونة (1/15) : قال مالك فيمن توضأ، فغسل وجهه ويديه، ثم ترك أن يمسح برأسه، وترك غسل رجليه حتى جف وضوءه وطال ذلك، قال: إن كان ترك ذلك ناسياً بنى على وضوئه، وإن تطاول ذلك, قال: وإن كان ترك ذلك عامدا استأنف الوضوء. اهـ(9/587)
وقيل: تجب الموالاة مطلقاً، وهو مذهب الحنابلة (1) .
دليل الحنفية على استحباب الموالاة:
أما دليلهم على استحباب الموالاة فظاهر من مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الموالاة حيث لم يخل بذلك.
وأما دليلهم على كونه ليس واجباً، فاستدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
أن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل هذه الأعضاء في الوضوء، ولم يوجب الموالاة، فيكف غسل هذه الأعضاء فقد امتثل الأمر.
الدليل الثاني:
القياس على غسل الجنابة، وذلك لأن الوضوء إحدى الطهارتين، فإذا كانت الموالاة لا تجب في غسل الجنابة لم تجب في الوضوء.
الدليل الثالث:
(989-218) ما رواه مالك، عن نافع،
أن عبد الله بن عمر بال في السوق، ثم توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح رأسه، ثم دعي لجنازة ليصلي عليها حين دخل المسجد، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها.
[إسناده في غاية الصحة] (2) .
_________
(1) المغني (1/93) ، المبدع (1/115) ، شرح العمدة (1/207) ، الفروع (1/154) ، الإنصاف (1/139) .
(2) الموطأ (1/36) ، ورواه الشافعي في الأم (1/31) ، وفي مسنده (1/16) ، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/421) عن مالك به.(9/588)
وقد فعله ابن عمر في حضور من حضر من الصحابة للصلاة على الجنازة، ولم ينكروا عليه.
دليل من قال بوجوب الموالاة مطلقاً.
الدليل الأول:
(990-219) ما رواه مسلم، قال: حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن محمد بن أعين، حدثنا معقل، عن أبي الزبير، عن جابر،
أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى (1) .
وجه الاستدلال:
قال القاضي عياض: في هذا الحديث دليل على وجوب الموالاة في الوضوء، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحسن وضوءك)) ولم يقل: اغسل ذلك الموضع الذي تركته (2) .
وقال نحوه القرطبي في المفهم (3) .
ورده النووي، فقال: وهذا الاستدلال ضعيف أو باطل؛ فإن قوله: ((أحسن وضوءك)) محتمل للتيمم أو للاستئناف، وليس حمله على أحدهما أولى من الآخر (4) .
_________
(1) مسلم (243) .
(2) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/40) ، شرح النووي لصحيح مسلم (3/131) .
(3) المفهم (1/498) .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي (3/131) .(9/589)
الدليل الثاني:
(991-220) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثنا بحير بن سعد، عن خالد بن معدان،
عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (3/424) .
(2) في إسناده بقية، وهو وإن صرح بالتحديث من شيخه، فقد عنعن في شيخ شيخه، وهو متهم بتدليس التسوية، فلا يقبل منه ذلك.
وأخرجه أبو داود (175) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/83) حدثنا حيوة بن شريح، قالك: حدثنا بقية به.
وقال البيهقي: إنه مرسل.
وقال ابن حزم في المحلى (2/98) : هذا خبر لا يصح؛ لأن راويه بقية، وليس بالقوي، وفي السند من لا يدري من هو. اهـ
وضعفه المنذري ببقية كما في تهذيب السنن (1/128) .
وقال في التنقيح لابن عبد الهادي: قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا إسناد جيد؟ قال: نعم.
وحاول ابن القيم الدفاع عن الحديث في تهذيب السنن (1/128) : فقال: والجواب عن هاتين العلتين: أما الأولى فإن بقية ثقة في نفسه، صدوق حافظ، وإنما نقم عليه التدليس مع كثرة روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صرح بالسماع فهو حجة، وقد صرح في هذا الحديث بسماعه، ثم ساق سند أحمد.
قلت: غفل رحمه الله تعالى أن بقية متهم بتدليس التسوية، ولا بد من التصريح بالسماع من شيخه وشيخ شيخه، وهو ما لم يتوفر هنا.
ثم قال ابن القيم: وأما العلة الثانية فباطلة على أصل ابن حزم، وأصل سائر أهل الحديث، فإن عندهم جهالة الصحابي لا تقدح في الحديث لثبوت عدالتهم جميعهم. اهـ
وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (1/83) متعقباً كلام البيهقي بقوله: إنه مرسل: تسميته هذا مرسل ليس بجيد؛ لأن خالداً هذا أدرك جماعة من الصحابة، وهم عدول، فلا يضرهم الجهالة. قال الأثرم: قلت: يعني لأحمد بن حنبل: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمه فالحديث صحيح؟ قال: نعم. اهـ
قلت: العلة الثانية ليست علة، لكن العلة الأولى، وهي تدليس بقية باقية.
وقد روى الحديث الدارقطني (1/109) ، والطبراني في المعجم الأوسط (2219) وفي الصغير (27) وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (128) من طريق الوازع بن نافع العقيلي، عن سالم، عن ابن عمر، عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه، وفيه: اذهب فأتم وضوءك " وفيه الوازع بن نافع.
قال أحمد ويحيى: ليس بثقة. لسان الميزان (6/213) .
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث. وقال مرة أخرى: ذاهب الحديث. الجرح والتعديل (9/39) .
وقال ابن أبي حاتم في الكتاب نفسه (2/492) لا يعتمد على روايته؛ لأنه متروك الحديث.
وقال النسائي: متروك. لسان الميزان (6/213) .
وقال البخاري: منكر الحديث. المرجع السابق.
انظر أطراف المسند (8/266) ، تحفة الأشراف (15559) ، إتحاف المهرة (20931) .(9/590)
الدليل الثالث:
(992-221) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب ح
وحدثنا ابن حميد، حدثنا زيد بن الحباب، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر،(9/591)
عن عمر بن الخطاب قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً توضأ، فترك موضع الظفر على قدمه، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة قال: فرجع (1) .
[إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة، وقد اختلف عليه في لفظه، والمحفوظ لفظ: أرجع فأحسن وضوءك] (2) .
الدليل الرابع:
استدل ابن مفلح في المبدع بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية.
قال: لأن الأول شرط، والثاني جواب، وإذا وجد الشرط: وهو القيام إلى الصلاة وجب ألا يتأخر عن جوابه: وهو غسل الأعضاء. اهـ
_________
(1) سنن ابن ماجه (666) .
(2) اختلف على أبي الزبير،
فرواه مسلم (243) والبزار (231،232) من طريق معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير به، بلفظ: " ارجع فأحسن وضوءك" وقد ذكرنا هذه الرواية في الدليل الأول من هذا القول.
ورواه ابن لهيعة، عن أبي الزبير، واختلف عليه:
فرواه موسى بن داود كما في المسند (1/21) .
الحسن بن موسى عنده أيضاً (1/22) كلاهما عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير به، بلفظ: "أرجع فأحسن وضوءك " كما هي رواية معقل، عن أبي الزبير عند مسلم.
ورواه ابن وهب وزيد بن الحباب عن ابن لهيعة قرنهما ابن ماجه، بلفظ: فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. ورواية ابن لهيعة الموافقة لما في صحيح مسلم أولى من غيرها، لأن ابن لهيعة ليس بالحافظ حتى ولو كان الراوي عنه ابن وهب كما سبق وحررت أقوال أئمة الجرح فيه، وأنه ضعيف مطلقاً قبل احتراق كتبه وبعدها، والله أعلم.
انظر أطراف المسند (5/21) ، تحفة الأشراف (10421) ، إتحاف المهرة (15228) .(9/592)
الدليل الخامس:
أن صفة الوضوء تلقيناها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يفصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أعضاء وضوئه، ولو كان جائزاً لفعله ولو مرة واحدة لبيان الجواز، فمن فرق وضوءه فقد عمل عملاً مخالفاً لصفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
الدليل السادس:
أن الوضوء عبادة واحدة، فإذا فرق بين أجزائها لم تكن عبادة واحدة.
الدليل السابع:
قالوا: إن الوضوء عبادة يفسدها الحدث، فاشترط لها الموالاة كالصلاة.
وهذا الدليل والذي قبله فيه ما فيه.
دليل المالكية على أن الموالاة واجبة وتسقط مع العذر.
أما أدلتهم على وجوب الموالاة فهي أدلة الحنابلة المتقدمة فإنها تدل على وجوب الموالاة.
وأما دليلهم على سقوط الموالاة للعذر ومنه النسيان، فأدلة كثيرة منها:
الدليل الأول:
أن أصول الشريعة في جميع مواردها تفرق بين القادر والعاجز، والمفرط والمعتدي ومن ليس كذلك، فمن ترك الموالاة لعذر كما لو كان المكان الذي يأخذ منه الماء لا يحصل له إلا متفرقاً، أو انقطع الماء فطلب ماء آخر أو لغير ذلك من الأعذار فإن هذا لم يمكنه أن يفعل ما أمر به إلا هكذا، فإذا حصل له ماء آخر فأكمل وضوءه فقد اتقى الله ما استطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(9/593)
الدليل الثاني:
القياس على قراءة الفاتحة، فكما أنها تجب الموالاة في قراءة الفاتحة، ولو سكت في أثناء الفاتحة سكوتاً طويلاً لغير عذر وجب عليه إعادة قراءتها، ولو كان السكوت من أجل قراءة الإمام أو فَصَلَ بذكر مشروع كالتأمين ونحوه لم تبطل الموالاة، فإذا كان ذلك كذلك مع أن الموالاة في الكلام أوكد من الموالاة في الأفعال، فإذا فرق بين أفعال الوضوء لعذر لم يكن ذلك قاطعاً للموالاة.
الدليل الثالث:
القياس على الطواف والسعي، ومعلوم أن الموالاة في الطواف والسعي أوكد منه في الوضوء، ومع هذا فتفريق الطواف لمكتوبة تقام، أو صلاة جنازة تحضر ثم يبني الطواف ولا يستأنف، فإذا كان مثل هذا التفريق جائزاً فالوضوء أولى بذلك.
الدليل الرابع:
(993-222) ما رواه البخاري، من طريق ابن سيرين،
عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي - قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا - قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين قال: يا رسول الله أنسيت أم(9/594)
قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم فتقدم فصلى ما ترك. الحديث ورواه مسلم بنحوه (1) .
فإذا كانت الصلاة يجب فيها الترتيب والموالاة فلا يجوز تقديم السجود على الركوع، ولا يجوز أن يفرق بين أفعالهها بما ينافيها، ثم مع ذلك إذا فرق بينها لعذر، كما في هذا الحديث، فقد سلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ساهياً، وفصل بين أبعاض الصلاة بالقيام إلى الخشبة والاتكاء عليها، وتشبيك أصابعه، ووضع خده عليها، والكلام منه، ومن ذي اليدين، ومع ذلك أتم الصلاة، ولم يكن هذا التفريق والفصل مانعاً من الإتمام، ومعلوم أنه لو فعل ذلك عمداً لأبطل الصلاة بلا نزاع، فإذا كانت الصلاة التي لم تشرع إلا متصلة لا يستوي تفريقها في حال العذر وعدمه، فكيف يستوي تفريق الوضوء في حال العذر وعدمه؟ مع أن الوضوء أفعال منفصلة لا يجب اتصالها بالاتفاق (2) .
وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وعدم المعارض لها، والله أعلم.
_________
(1) البخاري (482) ومسلم (573) .
(2) نقلت جل أدلة المالكية بشيء من التصرف من مجموع الفتاوى (21/135) .(9/595)
[صفحة فارغة](9/596)
مبحث:
في حد الموالاة
تعريف الموالاة لغة واصطلاحاً.
الموالاة لغة:
وأما الموالاة اصطلاحاً فقيل في تعريفها: هي ألا يشتغل المتوضئ بين أفعال الوضوء بعمل ليس منه (1) .
وقيل: أن يفعل الوضوء كله في فور واحد من غير تفريق (2) .
فالموالاة في اللغة هي التتابع، والمقصود هنا تتابع أفعال الوضوء من غير تفريق، إلا أن التفريق تارة يكون يسيراً، وتارة يكون كثيراً، وكل واحد له حكم.
فالتفريق اليسير لا يضر على الصحيح، وحكي فيه الإجماع.
قال النووي: في المجموع: التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع الأمة، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما (3) .
وقال الحطاب من المالكية: التفريق اليسير لا يضر، ولو كان عمداً. قال القاضي عبد الوهاب: لا يختلف المذهب فيه، وحكى الاتفاق في ذلك ابن الفاكهاني عن عبد الحق.
واختار بعض المالكية ومنهم ابن الجلاب المنع حتى في التفريق اليسير إذا لم يكن هناك عذر.
_________
(1) بدائع الصنائع (1/22) .
(2) التاج والإكليل (1/322) .
(3) المجموع (1/478) .(9/597)
وقال ابن ناجي في شرح المدونة: ولا خلاف في أن التفريق اليسير مكروه - يعني: من غير عذر -.
قال الحطاب: وجه الكراهة ظاهر إذا كان التفريق لغير عذر وبذلك صرح الشبيبي في شرح الرسالة فقال: وأما التفرقة اليسيرة فغير مفسدة بغير خلاف إلا أنها تكره من غير ضرورة (1) .
والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وإذا ضبطنا الحد الذي تفوت فيه الموالاة لم يدخل في ذلك التفريق اليسير، وبالتالي لم تفقد الموالاة أصلاً حتى يكون هناك منع أو حتى كراهة.
وأما كلام أهل العلم في ضابط التفريق الكثير فهناك أقوال:
فقيل: الموالاة: هي التتابع في الأفعال من غير أن يتخللها جفاف عضو مع اعتدال الهواء, قال ابن عابدين: وظاهره أنه لو جف العضو الأول بعد غسل الثاني لم يكن ولاء. وهذا قول في مذهب الحنفية (2) .
وهو يشترط أن يفرغ من وضوئه قبل أن يجف أي عضو من أعضائه، فإن جف عضو منها فهو تفريق كثير، وهذا أشد ما قيل في الولاء.
وقيل: إذا مضى بين العضوين زمن يجف فيه العضو المغسول مع اعتدال الزمن وحال الشخص، فهو تفريق كثير، وإلا فقليل، ولا اعتبار بتأخر الجفاف بسبب شدة البرد، ولا بتسارعه بشدة الحر، ولا بحال المبرود والمحموم، ويعتبر بالعضو الذي قبله، فلو أنه مسح رأسه قبل أن تنشف يداه، وبعد أن نشف الوجه فلا يضر.
_________
(1) انظر مواهب الجليل (1/224) .
(2) حاشية ابن عابدين (1/122) .(9/598)
وهذا قول في مذهب الحنفية (1) ، وهو المشهور من مذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
قال النووي: هذا القول هو الصحيح الذي قطع به الجمهور (4) .
وقيل: هو الطويل المتفاحش. وهو مذهب المالكية (5) ،وقول في مذهب الشافعية (6) ، واختاره ابن عقيل من الحنابلة.
قال في مواهب الجليل: الموالاة: هي الإتيان بجميع الطهارة في زمن متصل من غير تفريق فاحش (7) .
وقال في المغني عن ابن عقيل الحنبلي: حد التفريق المبطل: ما يفحش في العادة؛ لأنه لم يحد في الشرع، فيرجع فيه إلى العادة كالإحراز والتفرق في البيع (8) .
_________
(1) قال في الفتاوى الهندية (1/8) : الموالاة: وهي التتابع، وَحَدُّهُ: أن لا يجف الماء على العضو قبل أن يغسل ما بعده في زمان معتدل ولا اعتبار بشدة الحر والرياح ولا شدة البرد ويعتبر أيضا استواء حالة المتوضئ كذا في الجوهرة النيرة. اهـ وانظر أيضاً حاشية ابن عابدين (1/122) .
(2) المجموع (1/478) ،
(3) الفروع (1/154) ، الإنصاف (1/140) ، المغني (1/94) .
(4) المجموع (1/478) .
(5) حاشية الدسوقي (1/90،91) ، الخرشي (1/127) مواهب الجليل (1/224) .
(6) المجموع (1/478) .
(7) مواهب الجليل (1/224) .
(8) المغني (1/94) .(9/599)
وقيل: الكثير قدر يمكن فيه إتمام الطهارة، ذكره النووي في المجموع (1) .
وأجد أقوى الأقوال هو قول ابن عقيل الحنبلي، وذلك لأن كل شيء ليس له حد في الشرع ولا في اللغة مرده إلى العرف والعادة، فما عده الناس كثيراً فهو كثير، وما عدوه قليلاً فهو قليل، ولا عبرة بتقدير المصاب بالوساوس، لأن زمن الطهارة يأخذ منه وقتاً كثيراً، والله أعلم.
وبهذا البحث نكون قد فرغنا من الكلام على شروط الوضوء وسننه وآدابه وفرائضه، وسوف نتكلم إن شاء الله تعالى بحوله وقوته على نواقض الوضوء لنكون بهذا قد أتممنا الكلام على مباحث الوضوء، والله الموفق.
_________
(1) المجموع (1/478) .(9/600)
نواقض الوضوء
الباب الأول:
في مسببات الحدث
الفصل الأول:
في الخارج من السبيلين
المبحث الأول:
في البول والغائط
تعريف الغائط:
قال أبو عبيد: أصل الغائط المكان المطمئن من الأرض إلا أن العرب إذا طالت صحبة الشيء للشيء سمته باسمه، من ذلك تسميتهم مسح الوجه واليدين تيمماً، وإنما التيمم في لغة العرب التعمد للشيء.
قال الله جل ذكره: {فتيمموا صعيداً طيباً} (1) ، يعني: تعمدوا الصعيد، ألا تراه قال بعد ذلك: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} فكثر هذا الكلام حتى صار عند الناس التيمم هو التمسح نفسه. وكذلك الغائط لما
_________
(1) المائدة: 6.(9/601)
كثر قولهم: ذهبت إلى الغائط، وجاء من الغائط، سموا رجيع الإنسان الغائط (1) .اهـ
والغائط غير البول، وإن كان ذهاب الناس إلى تلك المذاهب كان واحداً، لكن اشتهر الغائط فيما يخرج من الدبر، والبول فيما يخرج من الذكر أو القبل، كما جاءت السنة في التفريق بينهما في حديث صفوان بن عسال: ((ولكن من غائط وبول ونوم)) والعطف يقتضي المغايرة (2) .
الدليل على أن خروج البول والغائط حدث ينقض الوضوء.
الدليل الأول:
من الكتاب، قال تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (3) .
الدليل الثاني:
(994-223) من السنة، فقد روى أحمد من طريق سفيان، عن عاصم،
عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عسال، فسألته عن المسح على الخفين؟ فقال: كنا نكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم)) (4) .
[إسناده حسن، وسبق تخريجه] (5) .
_________
(1) الأوسط لابن المنذر (1/113) .
(2) سبق تخريجه في أحكام المسح على الحائل رقم (62)
(3) المائدة: 6.
(4) المسند (4/239) .
(5) انظر كتابي أحكام المسح على الحائل (62) ، وهو جزء من هذه السلسلة.(9/602)
(995-224) ومن السنة أيضاً ما رواه أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان،
عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر أو قال: على طهارة (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل الثالث
من الإجماع، فقد نقل الإجماع طائفة من أهل العلم.
قال أبو بكر العبادي الحنفي: الخارج من السبيلين متفق فيه على أنه ينقض الوضوء (3) .
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن خروج الخارج حدث ينقض الوضوء (4) .
وقال النووي: وأما البول فبالسنة المستفيضة والإجماع والقياس على الغائط (5) .
_________
(1) سنن أبي داود (17) .
(2) سبق تخريجه في كتاب أحكام الطهارة: آداب الخلاء رقم: 183.
(3) الجوهرة النيرة (1/7) .
(4) الأوسط (1/113) .
(5) المجموع (2/5) .(9/603)
وقال ابن قدامة في معرض ذكره لنواقض الوضوء: الخارج من السبيلين، وهو نوعان: معتاد، فينقض بلا خلاف، لقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (1) .
وقال ابن حزم: وأما البول والغائط فإجماع ميتقن (2) . أي أنه موجب للوضوء.
وقال الشوكاني تعليقاً على حديث صفوان بن عسال ((ولكن من غائط وبول ونوم)) فذكر الأحداث التي ينزع منها الخف, والأحداث التي لا ينزع منها, وعد من جملتها النوم, فأشعر ذلك بأنه من نواقض الوضوء لا سيما بعد جعله مقترنا بالبول والغائط اللذين هما ناقضان بالإجماع (3) . اهـ
_________
(1) الكافي (1/41) .
(2) المحلى (1/218) مسألة: 159.
(3) نيل الأوطار (1/240) .(9/604)
المبحث الثاني:
خروج الريح
خروج الريح من الدبر حدث ناقض للوضوء.
والدليل على ذلك، من السنة والإجماع.
(996-225) أما السنة فقد روى البخاري، من طريق معمر، عن همام ابن منبه،
أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ. قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط. ورواه مسلم دون زيادة: قال رجل من حضرموت..... الخ (1) .
الدليل الثاني من السنة:
(997-226) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سعيد وعباد ابن تميم،
عن عبد الله بن زيد، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. ورواه مسلم (2) .
الدليل الثالث من السنة:
(998-227) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه،
_________
(1) صحيح البخاري (135) ، ومسلم (225) .
(2) صحيح البخاري (137) ، ومسلم (361) .(9/605)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (1) .
[المحفوظ في لفظ الحديث فلا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً] (2) .
_________
(1) المسند (2/471) .
(2) الحديث مداره على سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة،
وقد رواه عن سهيل جماعة، منهم
شعبة كما في رواية أبي داود الطيالسي (2422) وابن الجعد في مسنده (1583) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7997) ، وأحمد (2/410، 471، 435) ، والترمذي (74) ، وابن ماجه (515) ، وأبو عبيد في كتاب الطهور (405) ، وابن الجارود في المنتقى (2) ، وابن خزيمة (27) ، والبيهقي (1/117،220) .
وروي عن شعبة، عن إدريس الكوفي، عن سهيل به، أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/283) ، والطبراني في الأوسط (6929) ، انفرد به يحيى بن السكن، عن شعبة، ويحيى ضعيف.
وتابع شعبة على روايته بهذا الحصر سعيد بن أبي عروبة كما في رواية أبي عبيد (404) في كتاب الطهور عن يزيد بن هارون عن سعيد، عن سهيل به، فخرج شعبة من عهدته.
واختلف على سيهل بن أبي صالح:
فرواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة بلفظ الحصر: لا وضوء إلا من صوت أو ريح.
ورواه جرير بن عبد الحميد كما في صحيح مسلم (362) .
وخالد بن عبد الله الواسطي، كما في صحيح ابن خزيمة (28) .
وحماد بن سلمة كما في مسند الإمام أحمد (2/414، 534) ، والدارمي (721) ، وأبي داود (177) .
وعبد العزيز الدراوردي كما في سنن الترمذي (75) وصحيح ابن خزيمة (24) أربعتهم عن سهيل به، بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً.
وقد رأى أبو حاتم في العلل (1/47) أن الخطأ من شعبة، وقد تابع شعبة سعيد بن أبي عروبة كما في كتاب الطهور لأبي عبيد (404) فأرى والله أعلم أن الخطأ من سهيل، وقد ذكرت وجه ذلك في المتن.
وقد روى أحمد في المسند الحديث من غير طريق سهيل (2/330) من طريق الضحاك ابن عثمان، عن سعيد المقبري، قال: قال أبو هريرة قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أحدكم إذا كان في الصلاة جاء الشيطان فأبس به كما يبس الرجل بدابته، فإذا سكن له أضرط بين أليتيه، ليفتنه عن صلاته، فإذا وجد أحدكم شيئاً من ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً لا يشك فيه. اهـ
رجاله ثقات إلا الضحاك بن عثمان، وهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى.
انظر أطراف المسند (7/199، 200) ، تحفة الأشراف (12683، 12603، 12629، 12718) ، إتحاف المهرة (18054) .(9/606)
قلت: مفهوم الحديث أن لا وضوء إلا من الصوت (الضرطة) والريح؛ لأن الحديث فيه سياق الحصر المعتمد على النفي والإثبات، لأن ظاهر الحديث لا وضوء من البول والمذي والنوم واختلف العلماء في الجواب عن ذلك:
فقال أبو حاتم في العلل: هذا وهم، اختصر شعبة متن هذا الحديث، فقال: لا وضوء إلا من صوت أو ريح، ورواه أصحاب سهيل، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا كان أحدكم في صلاة، فوجد ريحاً من نفسه، فلا يخرجن حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. (1) اهـ
وكذا قال ابن خزيمة في صحيحه (2) .
_________
(1) العلل لابن أبي حاتم (1/47) .
(2) (1/18، 19) .(9/607)
وقال البيهقي نحوه في السنن (1) .
وقال الشوكاني: شعبة إمام حافظ واسع الرواية، وقد روى هذا اللفظ بهذه الصيغة المشتملة على الحصر، ودينه وإمامته ومعرفته باللسان يرد ما ذكره أبو حاتم (2) . اهـ
قلت: الحديث بالحصر لا بد أن يقال: إنه غلط؛ لأن الحصر ينفي أن يكون هناك ناقض غيرهما، مع أن البول فيه الوضوء بالإجماع، وليس داخلا في الحديث، لكن لا يتعين أن يكون الخطأ من شعبة، فالراجح عندي أن الخطأ من سهيل بن أبي صالح، فتارة يرويه مستقيماً كما في رواية خالد بن عبد الله الواسطي وجرير، وحماد بن سلمة، والدراوردي.
وتارة يرويه بالحصر كما في رواية شعبة، والذي يجعلني أبرئ شعبة من الخطأ،
أولاً: أن شعبة قد توبع فيه بلغة الحصر، فقد رواه أبو عبيد في كتاب الطهور، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سعيد، عن سهيل به بلفظ شعبة.
ورواية يزيد بن هارون عن سعيد قبل اختلاطه، فخرج شعبة من عهدته.
ثانياً: أن سهيل بن أبي صالح قد تكلم فيه بعضهم، وقد وثقه بعضهم، وبعضهم جعل حديثه من قبيل الحسن، وقد قال الذهبي: صدوق مشهور ساء حفظه.
فالصحيح من حديث سهيل ما يوافق حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين، وإذا كنا قد ضعفنا هذا الحصر مرفوعاً فهناك قول - وإن كان
_________
(1) سنن البيهقي (1/117) .
(2) النيل (1/224) .(9/608)
قد يختلف قليلاً عنه - يرى أن الحدث ما يخرج من القبل والدبر خاصة، وترجم له البخاري: باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، وقول الله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (1) .
وتقدم لنا قول أبي هريرة في البخاري: قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط.
قال الحافظ: والمراد به الخارج من السبيلين، وإنما فسره أبو هريرة بالأخف على الأغلظ؛ ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، أما باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء، كمس الذكر، ولمس المرأة، والقيء ملء الفم، والحجامة، فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بشيء منها، وعليه مشى البخاري كما في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين.
وقيل: إن أبا هريرة اقتصر في الجواب على ما ذكر لعلمه أن السائل كان يعلم ذلك، وفيه بعد. اهـ كلام الحافظ (2) .
قلت: أبو هريرة يرى الوضوء مما مست النار، وقد صح ذلك عنه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة، فلعله فسر الحدث بالمثال، ولم يقصد الحصر، والله أعلم.
وقال العراقي: لما ذكر الحدث في المسجد ترك أبو هريرة منه ما لا يشكل أمره من البول والغائط في المسجد، فإنه لا يتعاطاه في المسجد ذو عقل ونبه أبو هريرة بالأدنى على الأعلى (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) فتح الباري تحت ح (135) .
(3) طرح التثريب (2/369) .(9/609)
الدليل الرابع من السنة:
(999-228) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا الدستوائي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثنا عياض، قال:
قلت لأبي سعيد الخدري: أحدنا يصلي، فلا يدري كم صلى؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلى أحدكم، فلم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين، وهو جالس، وإذا جاء أحدكم الشيطان، فقال: إنك قد أحدثت، فليقل: كذبت إلا ما وجد ريحه بأنفه أو سمع صوته بأذنه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (3/12) .
(2) انفرد بذكر الشك في الحدث في هذا الحديث عياض بن هلال، عن أبي سعيد، وهو مجهول، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (6/408) .
وكذلك البخاري في التاريخ الكبير (7/21) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/265) .
وقال الذهبي: لا يعرف، ما علمت روى عنه سوى يحيى بن أبي كثير. ميزان الاعتدال
(3/307) .
وقد اختلف في اسمه على أكثر من وجه، انظر سنن أبي داود (1029) ، وتهذيب التهذيب (8/181) .
وقد رواه عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، كما في صحيح مسلم وغيره، وأبو نضرة عن أبي سعيد كما في المسند، كلاهما رواه بالاقتصار على الشك في عدد ركعات الصلاة، ولم يذكرا الشك في الحدث، وسنذكر نصهما إن شاء الله تعالى حين التخريج.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه أبو داود (1029) ، وأبو يعلى (1241) من طريق إسماعيل بن علية.
وأخرجه ابن حبان (2665) ، والحاكم (1/134) من طريق يزيد بن زريع،
ورواه ابن خزيمة (29) من طريق معاذ بن هشام،
وأخرجه أحمد (3/53) حدثنا يحيى - يعني القطان -
وأخرجه أحمد (3/51) حدثنا يزيد بن هارون، كلهم عن هشام الدستوائي به.
وتابع هشاماً غيره،
فقد أخرجه أحمد (3/50) والنسائي في الكبرى (587) من طريق شيبان.
وأخرجه عبد الرزاق (533) ، ومن طريقه أخرجه أحمد (3/37) ، والحاكم (1/135) ، وابن حبان مختصراً (2666) عن معمر.
وأخرجه ابن خزيمة (29) من طريق علي بن المبارك،
وأخرجه أحمد (3/53) وأبو داود (1029) عن أبان، كلهم عن يحيى بن أبي كثير به.
وأخرجه الحاكم (1/134) من طريق حرب بن شداد، عن يحيى به، إلا أنه قال: عياض ابن عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وقد صححه الحاكم.
وقد أخرجه بعض الأئمة بالاقتصار على الشك في الصلاة، ولم يذكروا الشك في الحدث، فقد رواه الترمذي (396) ، وابن ماجه (1204) ، والنسائي في الكبرى (586) من طريق هشام.
وأخرجه النسائي في الكبرى (589) من طريق الأوزاعي.
والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/432) من طريق عكرمة بن عمار، كلهم عن يحيى به.
وكما أشرت سابقاً بأن حديث أبي سعيد قد جاء بسند صحيح بالاقتصار على الشك في الصلاة دون ذكر الشك في الحدث،
فقد رواه ابن أبي شيبة (1/383) رقم: 4403، ومسلم (571) ، وأبو داود (1024) ، والنسائي في المجتبى (1238، 1239) ، وفي الكبرى (584،585) وابن ماجه (1210) ، وابن خزيمة (1023،1024) وأبو عوانة (2/193) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/433) ، وابن حبان (2664) ، والبيهقي في السنن (2/331) من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً، ولفظ مسلم: " إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان. اهـ
كما أخرجه أحمد (3/42) ، وعبد بن حميد كما في المنتخب (872) ، والطبراني في الكبير (6/36) رقم 5440 من طريق سعيد بن زيد، عن علي بن الحكم، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، بلفظ: " إذا وهم أحدكم في صلاته، فلم يدر أزاد أم نقص فليسجد سجدتين، وهو جالس. اهـ ولم يذكر الشك في الحدث.
وفي إسناده سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد، مختلف فيه، وباقي رجاله ثقات إن شاء الله تعالى.
انظر أطراف المسند (6/307) ، تحفة الأشراف (4396) ، إتحاف المهرة (5634) .(9/610)
الدليل الخامس:
من الإجماع، قال ابن المنذر في الأوسط: أجمع أهل العلم على أن خروج الريح من الدبر حدث ينقض الوضوء (1) .
وقال ابن حزم: والريح الخارجة من الدبر - خاصة لا من غيره - بصوت خرجت أم بغير صوت. وهذا أيضا إجماع متيقن , ولا خلاف في أن الوضوء من الفسو والضراط (2) .
وقال ابن قدامة: الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح , فهذا ينقض الوضوء إجماعاً (3) .
_________
(1) الأوسط (1/137) .
(2) المحلى (1/218) مسألة: 160
(3) المغني (1/111) .(9/612)
المبحث الثالث:
خروج المذي
لقد وقع خلاف بين أهل العلم في طهارة المذي، وسيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى في أحكام النجاسات، والكلام في هذا الباب يتناول اعتبار خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء، وهي مسألة أخرى.
وقد دل على اعتباره حدثاً ناقضاً للوضوء السنة والإجماع،
(1000-229) أما السنة، ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى -ويكنى أبا يعلى- عن ابن الحنفية،
عن علي قال كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: يغسل ذكره ويتوضأ، ورواه البخاري بنحوه (1) .
الدليل الثاني:
(1001-230) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبيه،
عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الاغتسال منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: إنما يجزئك منه الوضوء. فقلت: كيف بما يصيب ثوبي؟ فقال يكفيك أن تأخذ كفاً من
_________
(1) صحيح مسلم (303) ، وصحيح البخاري (269) .(9/613)
ماء، فتمسح بها من ثوبك حيث ترى أنه أصاب (1) .
[إسناده حسن] (2) .
الدليل الثالث:
(1002-231) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حزام بن حكيم،
عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
الدليل الرابع:
(1003-232) ما رواه ابن ماجه، من طريق مصعب بن شيبة، عن أبي حبيب بن يعلى ابن منية،
عن ابن عباس أنه أتى أبي بن كعب ومعه عمر، فخرج عليهما، فقال: إني وجدت مذياً، فغسلت ذكري، وتوضأت، فقال عمر: أو يجزئ ذلك؟
_________
(1) المسند (3/485) .
(2) انظر تخريجه في أحكام النجاسات، الباب الثاني: الفصل الثاني، المبحث الثالث في المذي.
(3) سنن أبي داود (211) .
(4) انظر تخريجه في أحكام النجاسات، الباب الثاني: الفصل الثاني، المبحث الثالث في المذي.(9/614)
قال: نعم قال: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الخامس:
(1004-233) روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس، قال في المذي والودي والمني: من المني الغسل، ومن المذي والودي الوضوء، يغسل حشفته ويتوضأ (3) .
[إسناده صحيح] (4) .
الدليل السادس:
حكى الإجماع على نجاسته، وعلى وجوب الوضوء.
قال ابن عبد البر: وأما المذي المعهود المتعارف عليه، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة، أو لطول عزبة، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا، وعليه وقع الجواب، وهو موضع إجماع لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، وإيجاب غسله لنجاسته (5) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (507) .
(2) انظر تخريجه في أحكام النجاسات، الباب الثاني: الفصل الثاني، المبحث الثالث في المذي.
(3) المصنف (608) .
(4) ورواه ابن أبي شيبة (1/89) رقم 984، حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان به. وانظر زيادة تخريج لهذا الأثر في رقم (392) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء) .
(5) الاستذكار (1/199) .(9/615)
وقال ابن المنذر: لست أعلم في وجوب الوضوء منه اختلافاً بين أهل العلم (1) .
ونقل النووي الإجماع عن ابن المنذر في المجموع (2) .
وقال ابن قدامة: الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح , فهذا ينقض الوضوء إجماعاً (3) .
_________
(1) الأوسط (1/1346) .
(2) المجموع (2/6) .
(3) المغني (1/111) .(9/616)
المبحث الرابع:
خروج الودي
لقد وقع خلاف بين أهل العلم في طهارة الودي، وسيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى في أحكام النجاسات، والكلام في هذا الباب يتناول اعتبار خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء، وهي مسألة أخرى.
فذهب الأئمة الأربعة إلى أن خروج الودي حدث ناقض للوضوء (1) ،
وقال ابن المنذر: الودي شيء يخرج من الذكر على إثر البول، والوضوء يجب بخروج البول، وليس يوجب بخروجه شيء إلا الوضوء الذي وجب بخروج البول (2) .
دليل من قال: إن الودي ينقض الوضوء.
الدليل الأول:
(1005-234) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن حصين بن قبيصة الفزاري،
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/24) ، العناية بشرح الهداية (1/68) ، شرح فتح القدير (1/68) ، الفتاوى الهندية (1/9) ، البحر الرائق (1/65) ، المبسوط (1/67) .
وانظر في مذهب المالكية: التاج والإكليل (1/421،422) ، الخرشي (1/152) ، الفواكه الدواني (1/113) ، حاشية الدسوقي (1/115) .
وجاء في مختصر المزني (ص: 96) :وكل ما خرج من دبر، أو قبل، من دود، أو دم، أو مذي، أو ودي، أو بلل أو غيره فذلك كله يوجب الوضوء كما وصفت. اهـ
وانظر المجموع (2/5) ، روضة الطالبين (1/72) .
وفي مذهب الحنابلة: انظر الكافي في فقه الإمام أحمد (1/56) ، المغني (1/413) .
(2) الأوسط (1/135) .(9/617)
عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكانت تحتي بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أستحي أن أسأله، فأمرت رجلاً فسأله، فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل (1) .
[رجاله ثقات إلا أن ذكر الودي فيه غير محفوظ] (2) .
الدليل الثاني:
(1006-235) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (3) .
[إسناده صحيح] (4) .
الدليل الثالث:
القياس على البول والمذي بجامع أن كلاً منهم خارج نجس من سبيل واحد.
وقد حكي الإجماع على نجاسة الودي،
قال النووي: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي (5) . اهـ
_________
(1) المصنف (1/89) .
(2) سبق تخريجه في آداب الخلاء، رقم (399) .
(3) مصنف ابن أبي شيبة (1/89) رقم 984.
(4) سبق تخريجه في آداب الخلاء، رقم (400) .
(5) المجموع (2/571) .(9/618)
وحكى الحطاب من المالكية في مواهب الجليل (1) أن شاس نقل الإجماع على نجاسة الودي.
وأما قول من قال: إن الوضوء وجب بخروج البول لا بخروج الودي، فإنه يقال له: ما المانع أن يكون هناك أكثر من موجب، على أن بعضهم ذكر أن خروج الودي على إثر البول في الغالب، وليس دائماً، فقد يخرج بعد حمل شيء ثقيل، وقد يخرج وحده بلا سبب (2) .
وقال في البحر الرائق: إن قيل: ما فائدة إيجاب الوضوء بالودي، وقد وجب بالبول السابق عليه؟ .
قلنا: عن ذلك أجوبة،
أحدها: فائدته فيمن به سلس البول, فإن الودي ينقض وضوءه دون البول.
ثانيها: فيمن توضأ عقب البول، قبل خروج الودي، ثم خرج الودي، فيجب به الوضوء. .
_________
(1) مواهب الجليل (1/104) .
(2) قال في حاشية ابن عابدين (1/165) : الودي ماء ثخين أبيض كدر، يخرج عقب البول.
وقال في الفتاوى الهندية (1/10) : الودي بول غليظ. وقيل: ماء يخرج بعد الاغتسال من الجماع وبعد البول. كذا في التبيين. اهـ
وقال في شرح خليل (1/152) : واعلم أن ودي المرأة يخرج أيضا بأثر البول إلا أنه حينئذ لا حكم له نعم يكون ناقضا فيما إذا خرج بأثر سلس بول، أو خرج عند حمل شيء ثقيل. اهـ
وقال في المهذب (1/29) : الودي يخرج مع البول، فتعقبه النووي في المجموع (2/571) ، وقال: الأجود أن يقال: عقبه. أي عقب البول.
وقال نحوه في مطالب أولي النهى (1/234) .(9/619)
ثالثها: الودي ماء يخرج بعد الاغتسال من الجماع وبعد البول, وهو شيء لزج كذا فسره في الخزانة والتبيين، فالإشكال إنما يرد على من اقتصر في تفسيره على ما يخرج بعد البول.
رابعها: أن وجوب الوضوء بالبول لا ينافي الوجوب بالودي بعده، ويقع الوضوء عنهما، حتى لو حلف لا يتوضأ من رعاف، فرعف، ثم بال أو عكسه، فتوضأ؛ فالوضوء منهما؛ فيحنث، وكذا لو حلفت لا تغتسل من جنابة أو حيض فجامعها زوجها، وحاضت فاغتسلت فهو منهما وتحنث (1) .
_________
(1) البحر الرائق (1/65) .(9/620)
المبحث الخامس:
في خروج دم الاستحاضة
يدخل دم الاستحاضة، ومن به حدث دائم في عموم الخارج من أحد السبيلين، فهل يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء؟
اختلف أهل العلم في ذلك:
فقيل: يجب أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: يجب أن تتوضأ لكل فريضة، مؤداة أو مقضية، وأما النوافل فتصلي بطهارتها ما شاءت. وهو مذهب الشافعية (3) .
وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب. وهو مذهب المالكية (4) .
_________
(1) الاختيار لتعليل المختار (3/508) حاشية ابن عابدين (1/504) البحر الرائق (1/226) مراقي الفلاح (ص60) شرح فتح القدير (1/181) تبيين الحقائق (1/64) بدائع الصنائع (1/28) .
(2) المغني (1/421) شرح منتهى الإرادات (1/120) كشاف القناع (1/215) الإنصاف (1/377) الفروع (1/279) شرح الزركشي (1/437) .
(3) المجموع (1/543، 363) ، مغني المحتاج (1/111) ، روضة الطالبين (1/147، 125) .
(4) قال صاحب مواهب الجليل (1/291) : " طريقة العراقيين من أصحابنا، أن ما خرج على وجه السلس لا ينقض الوضوء مطلقاً، وإنما يستحب منه الوضوء ". ثم قال:
" والمشهور من المذهب طريقة المغاربة أن السلس على أربعة أقسام:
الأول: أن يلازم، ولا يفارق، فلا يجب الوضوء، ولا يستحب؛ إذ لا فائدة فيه فلا ينتقض وضوء صاحبه بالبول المعتاد.
الثاني: أن تكون ملازمته أكثر من مفارقته، فيستحب الوضوء إلا أن يشق ذلك عليه لبرد أو ضرورة فلا يستحب.
الثالث: أن يتساوى إتيانه ومفارقته، ففي وجوب الوضوء واستحبابه قولان"، ثم قال:
والرابع: " أن تكون مفارقته أكثر، فالمشهور وجوب الوضوء خلافاً للعراقيين فإنه عندهم مستحب " اهـ.
وانظر حاشية الدسوقي (1/116) وانظر بهامش الصفحة التاج والإكليل.
وانظر الخرشي (1/152) ، فتح البر في ترتيب التمهيد (3/508) ، الاستذكار (3/225 - 226) القوانين الفقهية لابن جزي (ص29) .(9/621)
وقيل: الوضوء واجب لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج. وهذا اختيار ابن حزم (1) .
وقد رويت أحاديث في وضوء المستحاضة لكل صلاة، منها:
(1007-236) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي.
قال هشام: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (2) .
_________
(1) المحلى (مسألة: 168) .
(2) صحيح البخاري (228) .(9/622)
[زيادة قال هشام: قال أبي: الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (1) .
_________
(1) سبب اختلاف العلماء في دم الاستحاضة، هل هو حدث أم لا؟ اختلافهم في قول هشام: " وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " هل هذه الزيادة موقوفة أو مرفوعة؟ وهل هي متصلة أو معلقة؟ وعلى تقدير كونها مرفوعة، هل هي محفوظة أو شاذة؟
فالحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
ورواه عن هشام جمع كثير على اختلاف يسير في متنه، وبعضهم يذكر هذه الزيادة وبعضهم لا يذكرها.
وقد جاءت الزيادة بالوضوء من طريق أبي معاوية عن هشام به.
واختلف على أبي معاوية فيه، فروى بعضهم الحديث عن أبي معاوية دون ذكر الزيادة، وبعضم رواه عن أبي معاوية مصرحاً برفعها، وبعضهم روى الزيادة عن أبي معاوية موقوفة على عروة.
وممن روى الزيادة أبو حمزة السكري، واختلف عليه أيضاً:
فروي عنه مرفوعاً، وروى عنه مرسلاً.
وروى الزيادة أيضاً حماد بن زيد، وحماد بن سلمة عن هشام، إلا أنهما ذكرا الوضوء ولم ينصا على التكرار لكل صلاة بل قال: " فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي " فكما أن الاغتسال يكفي فيه الامتثال مرة واحدة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ الحمادين، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه الوضوء.
وممن روى الزيادة أيضاً أبو عوانة (الوضاح بن عبد الله اليشكري) وأبو حنيفة واختلف عليهما فيه كما سيأتي.
هؤلاء هم الذين انفردوا بذكر الزيادة على الخلاف السابق، وخالفهم جمع كثير، وفيهم من هو أحفظ منهم، فقد روى الحديث عن هشام ستة عشر حافظاً ولم يذكروها، منهم مالك، ووكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وزهير، وسفيان بن عيينة، وأبو أسامة، والليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، وعبدة، ومحمد بن كناسة، ومعمر، وجعفر بن عون، والدراوردي، وعبد الله بن نمير، وسعيد بن عبد الرحمن. هذا بعض من وقفت عليه ممن رواه عن هشام ولم يذكر الزيادة، فلو كان من ذكر هذه الزيادة لم يضطرب فيها لكانت شاذة؛ لأن الحكم عند أهل الحديث للأحفظ، وللأكثر عدداً على من دونهم، كما فصلت ذلك في بحث زيادة الثقة، في مقدمة كتاب المياه والآنية.
وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/72) : والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة " اهـ كلام ابن رجب.
فهنا فصل مالك الحديث المرفوع من الموقوف في روايته عن هشام، فحين روى المرفوع لم يورد قال هشام: قال أبي ثم توضئي لكل صلاة، وحين روى الموقوف لم يذكر المرفوع، والله أعلم.
وقال الزيلعي في نصب الراية (1/201) : " وهذه اللفظة - أعني: توضئي لكل صلاة- هي معلقة عند البخاري، عن عروة في صحيحه "، ثم قال: " وقد جعل ابن القطان في كتابه مثل هذا تعليقاً ". اهـ
هذا الكلام المجمل حول الحديث، وأما تفصيله فانظره في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية فقد بسطت الكلام على هذا الحديث فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق.(9/623)
(1008-237) ومنها: ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة،
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير)) (1) .
[الحديث ضعيف، وفيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وعروة مختلف فيه، قيل: عروة المزني، وهو مجهول، وقيل: عروة بن الزبير] (2) .
_________
(1) المسند (6/204) .
(2) سبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية (474) .(9/624)
(1009-238) ومنها: ما رواه الدرامي، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها في كل شهر، فإذا كان عند انقضائها اغتسلت وصلت، وصامت، وتوضأت عند كل صلاة (1) .
[ضعيف جداً] .
(1010-239) ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن القاسم الطائي، ثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا أبو يوسف القاضي، عن عبد الله بن علي، عن عبدالله بن محمد بن عقيل،
عن جابر: ((عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة)) .
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي أيوب الأفريقي، وهو عبدالله ابن علي، إلا أبو يوسف (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
(1011-240) ومنها: ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبدالله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة عن جعفر، عن سودة بنت زمعة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) سنن الدارمي (793) ، وقد سبق تخريجه. انظر: حديث رقم (60) من كتاب الحيض والنفاس
(2) المعجم الأوسط (1620) .
(3) سبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (476) .(9/625)
المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ لكل صلاة)) (1) .
[إسناده ضعيف] .
وقد اختلف العلماء في حكمهم على هذه الآثار الواردة في وضوء المستحاضة لكل صلاة، فمنهم من ضعف الأحاديث الواردة في الباب.
قال ابن رجب: أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة وهي مضطربة ومعللة (2) .
ولهذا ذهب المالكية إلى عدم وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة.
قال ابن عبد البر: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دون الوجوب، قال: وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي)) ولم يذكر وضوءاً، قال: وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة ومالك وأيوب وطائفة (3) .
وإذا لم تصح الآثار عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وضوء المستحاضة، فإن النظر أيضاً يؤيد القول بعدم اعتبار خروج دم الاستحاضة وسلس البول ونحوهما حدثاً يوجب الوضوء، وذلك من وجوه:
_________
(1) الأوسط (1984) سبق تخريجه انظر رقم (463) من كتاب الحيض والنفاس.
(2) شرح البخاري لابن رجب (2/73) .
(3) المرجع السابق، نفس الصفحة.(9/626)
الوجه الأول:
أن من كان به حدث دائم لو تطهر فلن يرتفع حدثه، وإذا كان كذلك، كانت طهارته استحباباً لا وجوباً.
الوجه الثاني:
إذا كان دم الاستحاضة لايبطل الطهارة بعد الوضوء، وقبل الصلاة، لم يكن حدثاً يوجب الوضوء عند تجدد الصلاة أو خروج الوقت، ولذا حملنا الأمر على الاستحباب.
الوجه الثالث:
إذا كان دم العرق لاينقض الوضوء، فلو خرج دم من عرق اليد أو الرجل لم ينتقض وضوءه على الصحيح، فكذلك دم الاستحاضة، فإنه دم عرق كما في أحاديث الصحيحين، ولا يقال: إن خروجه من الفرج جعل حكمه مختلفاً؛ لأن المني يخرج من الفرج، ومع ذلك هو طاهر.
الوجه الرابع:
الشارع حكيم، فلا يؤاخذ الإنسان إلا بما فعل، فإذا كان خروج الدم ليس من فعل الإنسان ولا من قصده، لم تفسد عبادته، ولهذا لايؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين لعدم توفر القصد.
قال ابن المنذر في الأوسط: ((والنظر دال على ما قال ربيعة - يعني: في عدم وجوب الوضوء - إلا أنه قول لا أعلم أحداً سبقه إليه. وإنما قلت: النظر يدل عليه؛ لأنه لافرق بين الدم الذي يخرج من المستحاضة قبل الوضوء، والذي يخرج في أضعاف الوضوء، والدم الخارج بعد الوضوء؛ لأن دم(9/627)
الاستحاضة إن كان يوجب الوضوء فقليل ذلك وكثيره في أي وقت كان يوجب الوضوء، فإذا كان هكذا، وابتدأت المستحاضة في الوضوء، فخرج منها دم بعد غسلها بعض أعضاء الوضوء، وجب أن ينتقض ما غسلت من أعضاء الوضوء، لأن الدم الذي يوجب الطهارة في قول من أوجب على المستحاضة الطهارة قائم.
وإن كان ما يخرج منها بين أضعاف الوضوء، وما خرج منها قبل أن تدخل الصلاة، وما حدث في الصلاة منه لا ينقض طهارة، وجب كذلك أن ما خرج منها بعد فراغها من الصلاة لا تنقض طهارة إلا بحدث غير دم الاستحاضة هذا الذي يدل عليه النظر)) . اهـ (1)
هذه أدلة المالكية على عدم اعتبار خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، وهذا القول هو الراجح عندي، لأن الآثار في الباب لم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة، ولأن هذا القول موافق لقواعد الشريعة من جهة أخرى كما سبق بيانه، وفيه تيسير على المبتلى من النساء ومن به سلس بول، وقد أفتى به جماعة من أهل العلم على رأسهم الإمام مالك وربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة، كما سبق ذكره عنهم، وذكر ابن المنذر أن القياس يقتضيه، وهل الشرع كله إلا على وفق القياس، وصرح الحافظ ابن رجب بأنه لم يصح في أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة حديث، وقد بسطت الخلاف في هذه المسألة بأكثر من هذا الكلام في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فارجع إليه إن أردت الاستزادة من هذه المسألة المهمة (2) .
_________
(1) الأوسط (1/164) .
(2) في مبحث خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة.(9/628)
المبحث السادس:
في الخارج النادر من السبيلين
سبق لنا أن تكلمنا على الخارج من السبيلين إذا كان معتاداً، كالبول والغائط، والمذي، والودي ونحوها، وسوف نتكلم في هذا المبحث إذا كان الخارج غير معتاد، كالحصى، والدود، والريح من القبل، ونحوها، فهل يعتبر خروجها حدثاً ناقضاً للوضوء، أو لا يعتبر؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم،
فقيل: خروج الشيء النادر من السبيلين يعتبر ناقضاً للوضوء، وهو المشهور من مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، إلا ريح القبل فلا تنقض الوضوء عند الحنفية؛ لأنها اختلاج لا ريح عندهم.
وقيل: لا ينقض إذا لم يكن معتاداً، وهو مذهب المالكية (4) .
وسبب اختلافهم ما ذكره ابن رشد، وأسوقه مع تصرف يسير، حيث يقول: من الفقهاء من اعتبر في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج، وعلي أي جهة خرج، فقالوا: كل نجاسة تسيل من الجسد وتخرج منه يجب منها الوضوء كالدم والرعاف والقيء.
_________
(1) بدائع الصنائع (1/24) ، البحر الرائق (1/31) ، مراقي الفلاح (ص:36) ، فتح القدير (1/38) ، الاختيار لتعليل المختار (1/9) .
(2) مغني المحتاج (1/32) ، المجموع (2/4) ، روضة الطالبين (1/72) .
(3) شرح منتهى الإرادات (1/69) ، كشاف القناع (1/122) ، الفروع (1/174) ، الإنصاف (1/195) ، المبدع (1/155) .
(4) الشرح الصغير (1/137) ، الخرشي (1/152) ، مواهب الجليل (1/291) ، حاشية الدسوقي (1/115) ، أسهل المدارك (1/59) ، التلقين (ص: 14) .(9/629)
واعتبر قوم المخرجين: الذكر والدبر، فقالوا: كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء، من أي شيء خرج من دم، أو حصى أو بلغم، وعلي أي وجه خرج، سواء كان خروجه على وجه الصحة أو المرض.
واعتبر آخرون الخارج والمخرج وصفة الخروج، فقالوا: كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه، وهو البول والغائط والمذي والودي والريح إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء، فلم يروا في الدم والحصاة والدود وضوء، ولا في السلس كذلك، والسبب في اختلافهم أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط وبول وريح ومذي، لظاهر الكتاب ولتظاهر الآثار بذلك، تطرق إلى ذلك ثلاث احتمالات:
أحدها:
أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط المتفق عليها على ما رآه مالك رحمه الله.
الاحتمال الثاني:
أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن، فيكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس.
الاحتمال الثالث:
أن يكون الحكم أيضاً إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين السبيلين.(9/630)
قلت: الذي يظهر أن الاعتبار بالمخرج لا بالنجاسة؛ لأن الريح طاهرة، وإذا خرجت من الدبر كانت حدثاً، وإذا خرجت من الفم لم تكن ناقضة، وليس الاعتبار بكونه معتاداً، فهذا الودي نادر غير معتاد، وقد يكون دالاً على اعتلال، ومع ذلك ينقض الوضوء حتى على مذهب مالك رحمه الله، والله أعلم.(9/631)
[صفحة فارغة](9/632)
الفصل الثاني:
خروج النجس من البدن من غير السبيلين
المبحث الأول:
خروج البول والغائط من غير السبيلين
اختلف العلماء في خروج البول والغائط من غير السبيلين، هل يعتبر حدثاً ناقضاً للوضوء؟
فقيل: يعتبر خروجهما حدثاً مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل بالتفصيل: وهو إما أن ينسد المخرج المعتاد أو لا ينسد،
فإن كان المخرج المعتاد لم ينسد، فلا ينقض الخارج مطلقاً.
وإن كان المخرج المعتاد قد انسد، نظر:
فإن كان مخرج البول والغائط فوق المعدة، لم ينقض، وإن كان المخرج تحت المعدة نقض.
وهذا التفصيل إذا كان انسداد المخرج عارضاً، أما لو كان أصلياً من أصل الخلقة فإن الخارج منه ناقض للوضوء مطلقاً، سواء كان خروجه فوق أو
_________
(1) بدائع الصنائع (1/24) ، تبيين الحقائق (1/8) ، البحر الرائق (1/31) ، فتح القدير (1/38) ، مراقي الفلاح (ص: 36) ، الاختيار لتعليل المختار (1/9) .
(2) كشاف القناع (1/124) ، الفروع (1/176) ، الإنصاف (1/197) ، شرح منتهى الإرادات (1/70) .(9/633)
تحت المعدة، وهذا مذهب المالكية (1) ، والصحيح من قولي الشافعية (2) .
دليل الحنفية والحنابلة على النقض مطلقاً.
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (3) .
فجعل الاعتبار بالغائط: أي بالخارج لا بالمخرج، والبول مقيس عليه.
الدليل الثاني:
(1012-241) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال:
أتيت صفوان، فقلت له: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم.... الحديث (4) .
[وإسناده حسن وسبق تخريجه] (5) .
_________
(1) تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة (1/385) ، حاشية الدسوقي (1/118) ، مواهب الجليل (1/293) ، الخرشي (1/154) .
(2) المجموع (2/8) ، مغني المحتاج (1/33) ، نهاية المحتاج (1/112) .
(3) المائدة: 6.
(4) المصنف (795) .
(5) انظر كتابي أحكام المسح على الحائل رقم (62) وهو جزء من هذه السلسلة.(9/634)
وجه الاستدلال:
قوله: ((ولكن من غائط وبول ونوم)) فاعتبر الخارج دون المخرج.
الدليل الثالث:
من النظر، قال: ابن تيمية رحمه الله: والسبيل إنما يغلظ حكمه؛ لكونه مخرجاً معتاداً للبول والغائط، فإذا تغلظ حكمه بسببهما فلأن يتغلظ حكم أنفسهما أولى وأحرى (1) .
الدليل الرابع:
قال الزيلعي: خروج النجس مؤثر في زوال الطهارة: أما موضع الخروج فظاهر، وأما غيره فلأن بدن الإنسان باعتبار ما يخرج منه لا يتجزأ في الوصف، فإذا وصف موضع منه بالنجاسة وجب وصف كله بذلك، كالإيمان والكفر والكذب والصدق ونحو ذلك، فإنه يوصف به كله، وإن كان كل واحد من هذه الأشياء في محل مخصوص، فإذا صار كله نجساً وجب تطهيره كله، لكن ورد الشرع بالاقتصار على الأعضاء الأربعة في السبيلين، للحرج لتكرار ما يخرج منهما، فألحقنا به ما هو في معناه من كل وجه (2) .
وهذا الكلام فيه نظر كبير؛ لأن نجاسة عضو من الأعضاء لا يعني نجاسة كل الأعضاء، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة: إن حيضتك ليست في يدك. وبدن الحائض طاهر، وإن كان موضع الأذى قد تنجس بخروج دم الحيض، ولو تنجس عضو من الأعضاء لم يجب غسل باقي الأعضاء بل يغسل ما تنجس منه
_________
(1) شرح العمدة (1/295) .
(2) تبيين الحقائق (1/8) .(9/635)
فقط، والطهارة من الحدث ليس موجبها خروج النجاسة فقط، فهذا مس الذكر يوجب الوضوء على الصحيح، وكذلك أكل لحم الإبل كذلك، وليس ذلك عن نجاسة، والله أعلم.
دليل من اشترط انسداد المخرج وكونه تحت المعدة.
قالوا: إذا انسد المخرج، وكانت الفتحة تحت المعدة، فإن الطعام لما انحدر إلى الأمعاء أصبح فضلة قطعاً، وصارت الفتحة التي تحت المعدة قائمة مقام السبيلين عند انسدادهما.
ولأن الإنسان لا بد له من مخرج، فأقيم هذا مقامه.
ولأن المخرج إذا كان فوق المعدة أشبه القيء وأشبه التجشي: وهو خروج الريح من الفم فلم ينقض الخارج.
والقول الأول أحوط، والثاني أقيس.
واستثنى الحنابلة في أحد القولين خروج الريح فلا تعتبر حدثاً إذا خرجت من غير السبيل.
ولا أعلم وجهاً في التفريق بين البول والريح في النقض إلا أن تكون الريح طاهرة، والبول نجس، لكن ينبغي إذا انسد المخرج المعتاد وكانت من تحت المعدة أن يكون خروجها ناقضاً؛ لأن مخرجها حينئذ قائم مقام المخرج الأصلي، والله أعلم.(9/636)
فرع:
إذا انسد المخرج المعتاد، وخرج البول والغائط من مخرج غير معتاد، فهل له حكم القبل والدبر في كل شيء، من جواز الاكتفاء بالاستجمار بالحجارة، ووجوب الوضوء بمسه، ووجوب الحد بالإيلاج فيه، ومن تحريم النظر إليه؟ في ذلك خلاف.
والراجح أنه ليس له حكم الذكر من كل وجه (1) .
وإن كان لا مانع من إزالة النجاسة بالحجارة، وليس ذلك من باب القياس على المخرج المعتاد، وإنما لأن النجاسة تزال بأي مزيل، ولا يتعين الماء، فإذا زالت زال حكمها، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه المسألة في كتاب أحكام النجاسة.
_________
(1) المجموع (2/10) ، كشاف القناع (1/124) .(9/637)
[صفحة فارغة](9/638)
المبحث الثاني:
في خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين
إذا خرج من البدن شيء نجس، ولم يكن بولاً ولا غائطاً، وكان خروجه من غير السبيلين، كما لو رعف، أو تقيأ، أو جرح بدنه، فهل يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء؟
اختلف العلماء في هذا،
فقيل: يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء بشرطه، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/24) ، البحر الرائق (1/33) ، تبيين الحقائق (1/8) ، مراقي الفلاح (ص: 36) ، الاختيار لتعليل المختار (1/9) ، شرح فتح القدير (1/39) .
ويشترط الحنفية أن يكون الدم والقيح سائلاً، وفي القيء ونحوه أن يملأ الفم، وفي الدم إذا كان من الفم إذا غلب على البزاق أو ساواه.
(2) كشاف القناع (1/124) ، الفروع (1/176) ، شرح العمدة (1/295) ، الإنصاف (1/179) ، التحقيق في أحاديث الخلاف (1/185) ، تنقيح التحقيق (1/469) ، شرح الزركشي (1/256) .
واشترط الحنابلة حتى يكون الخارج ناقضاً للوضوء بأن يكون الخارج فاحشاً، واختلفوا في تفسير الفاحش:
فقيل: كل أحد بحسبه، وهو المشهور من المذهب. قال الخلال في الإنصاف (1/198) : الذي استقرت عليه الرويات عن أحمد: أن الفاحش ما استفحشه كل إنسان في نفسه، وقال جماعة منهم ابن تيمية: هي ظاهر المذهب.
ويشكل عليه أن الناس متفاوتون، منهم الموسوس الذي يستكثر القليل، والمتهاون الذي يعد الكثير يسيراً، فلا ينضبط.
وقيل: ما فحش في نفس أوساط الناس: أي المرجع العرف في ذلك. ورجحه جماعة من الحنابلة. قال صاحب الإنصاف (1/198) : والنفس تميل إلى ذلك.
وعن الإمام أحمد رواية أن الكثير قدر عشر أصابع.
وقيل: ما لو انبسط جامده أو انضم متفرقه كان أكثر من شبر في شبر.
وقيل: ما لا يعفى عنه في الصلاة. القولان الأولان هما أرجح من غيرهما.(9/639)
وقيل: لا يعتبر خروجه حدثاً، وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) .
دليل من قال: خروج النجس ينقض الوضوء.
الدليل الأول:
(1013-242) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي.
قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه مسلم دون زيادة الوضوء لكل صلاة (3) .
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/117،118) ، الخرشي (1/153،154) ، القوانين الفقهية (ص: 29) ، بداية المجتهد (1/319) ، مواهب الجليل (1/291) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:131) ، تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة (1/385) .
(2) الأم (1/18) ، الحاوي (1/199) ، المجموع (2/8) ، مغني المحتاج (1/33) ، روضة الطالبين (1/72) ، نهاية المحتاج (1/113) .
(3) البخاري (228) ، ومسلم (234) .(9/640)
وجه الاستدلال:
أمرها بالوضوء من دم الاستحاضة، وعلل ذلك بأنه دم عرق، فيؤخذ منه أن دماء العروق الخارجة من البدن توجب الوضوء من أي موضع خرجت؛ لأنه لم يعلل الوضوء بأنه دم خارج من سبيل، بل قال: إنما ذلك عرق.
ويجاب عن ذلك:
أولاً: أن الدم ليس بنجس على الصحيح، وأنتم تخصون النقض بما كان نجساً، وسيأتي تحرير ذلك بحول الله وقوته في كتاب أحكام النجاسة، وإذا كان الدم طاهراً لم يكن ناقضاً كالعَرَق والبصاق واللبن والدمع ونحوها.
ثانياً: أن قوله: ((إنما ذلك عرق)) ليس تعليلاً لإيجاب الوضوء، وإنما هو تعليل لوجوب الصلاة؛ لأن السؤال كان عن الصلاة، حيث قالت: أفادع الصلاة؟ قال: لا؛ إنما ذلك عرق، ولذلك لما خالف دم الاستحاضة دم الحيض لم يمنع من الصلاة وإن كان دماً وخارجاً من سبيل.
ثالثاً: قد بينا أن قوله: ((توضئي لكل صلاة)) إنما هو من كلام عروة، وليس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما سبق أن نقلنا كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله بأن أحاديث الوضوء لكل صلاة في حق المستحاضة مضطربة ومعللة.
الدليل الثاني:
(1014-243) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر وهو أحمد بن عبد الله الهمداني الكوفي وإسحاق بن منصور، عن عبد الصمد ابن عبد الوارث، حدثني أبي، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد المخزومي، عن أبيه، عن معدان بن أبي طلحة،(9/641)
عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء، فأفطر، فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق أنا صببت له وضوءه (1) .
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (2) .
_________
(1) سنن الترمذي (87) .
(2) الحديث ورد فيه اختلاف في سنده ومتنه،
أما المتن: فقد رواه الترمذي كما في إسناد الباب عن شيخه: إسحاق بن منصور وأبي عبيدة كلاهما: عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، بذكر قاء، فأفطر، فتوضأ.
ورواه جماعة منهم: محمد بن المثنى، ومحمد بن يحيى القطيعي، والحسين بن عيسى البسطامي، والحسين بن محمد بن زياد، وأبو قلابة الرقاشي، وإبراهيم بن مرزوق، وأحمد والدارمي، والعباس بن يزيد البحراني، ومحمد بن عبد الملك الواسطي، كلهم رووه بلفظ:
" قاء فأفطر" ولم يذكروا الوضوء من مسند أبي الدرداء، واتفقوا على ذكر الوضوء من مسند ثوبان، بقوله: " أنا صببت له وضوءه ".
فقول ثوبان: صدق: أنا صببت له وضوءه " قد يشهد أن الوضوء له أصل من حديث أبي الدرداء، فيكون عدم ذكر الوضوء في حديث أبي الدرداء من بعض الرواة اختصاراً، والله أعلم.
وأما الاختلاف في الإسناد:
فرواه جماعة عن عبد الصمد بزيادة الوليد بن هشام، والد يعيش، ورواه جماعة عنه بدون ذكر الوليد بن هشام، وإليك من وقفت عليهم منهم:
فقد رواه محمد بن المثنى (أبو موسى) كما في سنن النسائي الكبرى (3122) ، وصحيح ابن خزيمة (1956) ، وابن حبان، كما في الموارد (908) ، والحاكم (1/426) .
وأبو قلابة الرقاشي، كما في مستدرك الحاكم (1/426) ، والبغوي في شرح السنة
(160) .
ومحمد بن يحيى القطيعي والحسين بن عيسى البسطامي، كما في صحيح ابن خزيمة
(1956) ، كلهم رووه عن عبد الصمد، عن أبيه، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء.
فهنا روى يعيش بن الوليد الحديث مباشرة عن معدان دون واسطة: أي بدون ذكر والد يعيش (الوليد بن هشام) .
وروى الحديث أحمد كما في المسند (6/443) ،
والدارمي في سننه (1728) .
ومحمد بن يحيى كما في المنتقى لابن الجارود (8) .
والعباس بن يزيد البحراني كما في سنن الدارقطني (1/158) .
ومحمد بن عبد الملك الواسطي كما في سنن الدارقطني أيضاً (1/158) ، والبيهقي (1/144) .
وإبراهيم بن مرزوق، كما في الأوسط لابن المنذر (1/189) ، وشرح معاني الآثار (2/96) .
كلهم رووه عن عبد الصمد، فقالوا: عن يعيش، عن أبيه (الوليد بن هشام) ، عن معدان ابن طلحة به.
وأظن أن زيادة وأبيه محفوظة، وهي من قبيل المزيد في متصل الأسانيد، لأمرين:
الأول: أن عبد الصمد قد توبع في زيادة (وأبيه) تابعه في ذلك أبو معمر عبد الله بن عمرو، عن عبد الوارث، ثنا الحسين، عن الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن أبيه به.
كما في سنن أبي داود (2381) ، وسنن النسائي الكبرى (3120) وسنن الدارقطني (1/181) ، وسنن البيهقي (4/220) .
ثانياً: كما توبع عبد الصمد بزيادة (والد يعيش) توبع أيضاً أبوه عبد الوارث، فقد تابعه حرب بن شداد، فرواه بالإسنادين: تارة يذكر والد يعيش، وتارة يسقطه كما صنع
عبد الصمد.
فقد رواه الدارقطني (1/159) من طريق أحمد بن منصور، نا عبد الله بن رجاء، نا حرب، عن يحيى بن أبي كثير، نا عبد الرحمن بن عمرو، أن ابن الوليد بن هشام حدثه، أن أباه حدثه، نا معدان بن طلحة، أن أبا الدرداء أخبره به.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/426) من طريق هشام بن علي السدوسي، ثنا
عبد الله بن رجاء، به بدون ذكر الوليد بن هشام.
فهذا حرب بن شداد تارة يرويه بذكر والد يعيش وتارة يسقطه كما صنع عبد الصمد ابن عبد الوارث.
ثالثاً: أن جرير رواه عن يحيى بذكر والد يعيش مرة، ومرة بإسقاطه.
قال البيهقي في الخلافيات (2/349) : وقال جرير: عن يحيى، عن الأوزاعي، عن يعيش، عن معدان.
وقال مرة: عن يعيش، عن أبيه، عن معدان. اهـ
فخرج بذلك عبد الوارث من عهدته، وصارت الزيادة من قبل يحيى بن أبي كثير.
واختلف علماء الحديث هل ذكر والد يعيش محفوظ في الإسناد أو يكون ذكره خطأ في الإسناد على قولين،
فذهب ابن خزيمة رحمه الله تعالى إلى أن الصواب ليس بينهما عن أبيه.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لخلاف بين أصحاب عبد الصمد فيه، قال بعضهم: يعيش بن الوليد، عن أبيه، عن معدان، وهذا وهم من قائله، فقد وراه حرب بن شداد وهشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير على الاستقامة.
قلت: هذا وهم من الحاكم، فإن يعيش بن الوليد ليس من رجال الشيخين، ولا من رجال أحدهما، بل روى له أصحاب السنن إلا ابن ماجه، هذا من جهة،
ومن جهة أخرى فإن رواية حرب جاءت بالوجهين كما تقدم، أعني بذكر والد يعيش وبإسقاطه، وأما رواية هشام ففيها اضطراب سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ورجح البغوي في شرح السنة (1/334) زيادة (أبيه) في الإسناد، فقال: هذا حديث حسن، والصحيح عن يعيش بن الوليد، عن أبيه، عن معدان. اهـ
كما قال الترمذي بعد أن روى الحديث بزيادة (أبيه) قال: وقد جود حسين المعلم هذا الحديث، وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب.
وقال البخاري فيما نقله عنه الترمذي في العلل الكبير (1/168) : جود حسين المعلم هذا الحديث.
فالنفس تميل إلى أن ذكر والد يعيش في الإسناد محفوظ، كما قدمت في أول تخريج الكتاب، والله أعلم.
وقال البيهقي (1/144) : وإسناد هذا الحديث مضطرب، واختلفوا فيه اختلافاً شديداً.
فتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي (1/143) : فقال: أخرجه الترمذي، ثم قال: جوده حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب، وقال ابن مندة: هذا إسناد متصل صحيح. قال ابن التركماني: وإذا أقام ثقة إسناداً اعتمد، ولم يبال بالاختلاف، وكثير من أحاديث الصحيحين لم تسلم من مثل هذا الاختلاف، وقد فعل البيهقي مثل هذا في أول الكتاب في حديث " هو الطهور ماؤه " حيث بين الاختلاف الواقع فيه، ثم قال: إلا أن الذي أقام إسناده ثقة، أودعه مالك في الموطأ، وأخرجه أبو داود في السنن. اهـ
وقال الزيلعي في نصب الراية (1/41) وأعله الخصم باضطراب وقع فيه، فإن معمراً رواه عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش، عن خالد بن معدان، عن أبي الدرداء، ولم يذكر فيه الأوزاعي، فإن اضطراب بعض الرواة لا يؤثر في ضبط غيره.، قال ابن الجوزي: قال الأثرم: قلت لأحمد: قد اضطربوا في هذا الحديث؟ فقال: قد جوده حسين المعلم.
وأخرجه هشام الدستوائي، واختلف عليه فيه:
فقال مرة: عن يحيى عن يعيش بن الوليد بإسقاط الأوزاعي.
وقال أخرى: عن يحيى، عن رجل من إخواننا عن يعيش.
وقال أيضاً: عن يحيى عن الأوزاعي، عن يعيش كما هي رواية عبد الصمد.
وقال أيضاً: عن يحيى، عن يعيش، أن خالد بن معدان أخبره، عن أبي الدرداء. فأسقط الأوزاعي، وغير اسم معدان إلى خالد بن معدان. وإليك تفصيلها:
فرواه أحمد (5/195) حدثنا إسماعيل، أخبرنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش ابن الوليد بن هشام، عن ابن معدان أو معدان، عن أبي الدرداء به.
ورواه أحمد بالإسناد نفسه في كتاب العلل ومعرفة الرجال رواية عبد الله (3/348) بدون شك. ثم قال أحمد: إنما رواه يحيى، عن الأوزاعي، عن يعيش، عن معدان، عن أبي الدرداء. اهـ
وأخرجه ابن أبي شيبة (2/298) رقم 9201 والنسائي في الكبرى بإثر حديث
(3124) عن يزيد بن هارون، عن هشام به، وقال: عن معدان بدون شك.
فأسقط هشام هنا ذكر الأوزاعي في الإسناد، وجعل الحديث يرويه يحيى بن أبي كثير، عن يعيش مباشرة، فإن كان الأمر من هشام فقد قصر في إسناده، وحفظ غيره ذكر الأوزاعي في الإسناد، وإن كان من يحيى فلعل هذا من تدليسه، فقد ذكر الحافظ في التقريب أنه يدلس ويرسل.
وأخرجه النسائي في الكبرى (3124) من طريق أبي النضر.
وأيضاً (3127) من طريق معاذ بن هشام.
وأخرجه أيضاً (3128) من طريق ابن أبي عدي.
وابن خزيمة (1959) والحاكم (1/426) من طريق أبي بحر عبد الرحمن بن عثمان البكراوي.
والطحاوي في شرح مشكل الأثار (1674) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، خمستهم عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من إخواننا، عن يعيش بن الوليد، عن معدان، عن أبي الدرداء.
وهذا الرجل المبهم قال ابن خزيمة: يريد الأوزاعي.
وأخرجه النسائي في الكبرى (3123) من طريق ابن سهيل، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن معدان، عن أبي الدرداء به.
وهذه أمثل رواية رواها هشام للحديث موافقاً فيها رواية عبد الصمد وحرب بن شداد وغيرهما حيث أثبت في الإسناد ذكر الأوزاعي.
وأخرجه النسائي في الكبرى (3126) من طريق يزيد - يعني: ابن زريع- قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، أن خالد بن معدان أخبره عن أبي الدرداء.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (525) ومن طريقه أحمد في المسند (6/449) ، والنسائي في الكبرى (3129) عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، عن خالد بن معدان به كرواية يزيد عن هشام، بلفظ: استقاء فأفطر.
وهذا الطريق فيه ثلاث علل:
الأولى: إسقاط شيخ يحيى بن أبي كثير أعني الأوزاعي.
الثانية: قال: خالد بن معدان، وإنما المحفوظ أن اسمه معدان.
الثالثة: أنه قال في متنه: استقاء، ولفظ الجماعة " قاء " وبينهما فرق، فإن الأول يشعر أنه تعمد القيء، بخلاف لفظ " قاء " والله أعلم.
قال الترمذي في جامعه (1/146) : روى معمر هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير فأخطأ فيه. اهـ
قلت: قد تابعه كما تقدم يزيد بن زريع، فلم ينفرد معمر بذكر خالد بن معدان، فلا أدري من أين الخطأ.
فالمحفوظ من رواية هشام، ما رواه عنه ابن سهيل بالتصريح في ذكر الأوزاعي.
وكذلك ما قال فيه: عن يحيى عن رجل من إخواننا عن يعيش، إذا حملنا أن الرجل المبهم كما قال ابن خزيمة: يريد به الأوزاعي، وما عداه فهو ضعيف للمخالفة.
وقد أعله ابن حزم في المحلى (1/258) فقال: يعيش بن الوليد، عن أبيه، وليسا بمشهورين، والثاني مدلس، لم يسمعه يحيى من يعيش". اهـ
قلت: يعيش بن الوليد وأبوه ثقتان، وإليك ترجمة كل واحد منهما:
أما يعيش، فقال فيه العجلي: ثقة. معرفة الثقات (2/374) .
وذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/309) .
وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (32/404) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/654) .
وقال الذهبي في الكاشف (6422) ثقة.
وفي التقريب: ثقة.
وأما أبوه الوليد بن هشام بن معاوية، فجاء في ترجمته:
قال فيه يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (9/20) .
وقال فيه ابن حبان: من المتقنين. مشاهير علماء الأمصار (1461) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/555) .
وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس بحديثه. تهذيب الكمال (31/103) .
وقال الأوزاعي: حدثني الوليد بن هشام، وهو ثقة. المرجع السابق.
وقال الذهبي في الكاشف (6096) ثقة.
وفي التقريب: ثقة. وبهذا يتبين أن كلام ابن حزم لم يكن دقيقاً، والله أعلم.(9/642)
وجه الاستدلال:
قوله في الحديث: ((قاء فتوضأ)) يدل على أن الوضوء كان مرتباً على القيء وبسببه، وهو المطلوب، فتكون للسببية (1) .
_________
(1) انظر حاشية أحمد شاكر على سنن الترمذي (1/146) نقله عن أبي الطيب السندي.(9/647)
وأجيب:
أولاً: أن الوضوء مجرد فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، أقصى ما يدل عليه الفعل إذا كان على وجه التعبد، ولم يكن بياناً لمجمل أن يدل على الاستحباب، ولذلك لما تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام، لم يقل أحد بوجوب التيمم لرد السلام.
وقال ابن المنذر: ((وليس يخلو هذا الحديث من أمرين: إما أن يكون ثابتاً، أو غير ثابت. فإن كان ثابتاً فليس فيه دليل على وجوب الوضوء منه؛ لأن في الحديث أنه توضأ، ولم يذكر أنه أمر بالوضوء منه، كما أمر بالوضوء من سائر الأحداث.
وإن كان غير ثابت، فهو أبعد من أن يجب فيه فرض)) . (1) اهـ كلام ابن المنذر.
ثانياً: أن الاستدلال بهذا الحديث مبني على أن القيء نجس، والقيء ليس بنجس على الصحيح، بل هو طاهر، وقد بينت طهارته ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسات.
الثالث: أن القيء لا يفطر إلا ما كان منه على وجه التعمد، والحديث المحفوظ فيه أنه قاء، وليس استقاء.
الرابع: أن الوضوء قد يكون بعد القيء من أجل النظافة وإزالة القذر الذي يبقى في الفم، وربما في الأنف، وما يصيب البدن منه، لا من أجل كون القيء حدثاً ناقضاً للوضوء، فلا نستطيع أن نحكم على من تطهر بموجب الكتاب والسنة، أن نحكم عليه بفساد عبادته إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، والله أعلم.
_________
(1) الأوسط (1/189) .(9/648)
الدليل الثالث:
(1015-244) ما رواه ابن ماجه، من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة،
عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (1221) .
(2) الحديث اختلف فيه على إسماعيل بن عياش،
فقيل: عنه، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة.
وقيل: عنه، عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة.
وقيل: عنه، عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وهو المعروف.
وإليك تخريج كل طريق،
فالحديث أخرجه ابن أبي عدي في الكامل (1/296،297) ، ومن طريقه البيهقي (1/142) من طريق هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة.
وأخرجه البيهقي في الخلافيات (619) وفي المعرفة (215) من طريق أبي الربيع، عن إسماعيل بن عياش به.
وأخرجه البيهقي (1/142) من طريق الوليد بن مسلم، أخبرني إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة.
فهنا جعل إسماعيل الحديث يرويه ابن جريج، عن أبيه، وقد قال قبل: عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة.
وأخرجه الدارقطني (1/153،154) ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/188) من طريق داود بن رشيد، عن إسماعيل بن عياش، حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن أبيه وعن عبد الله بن أبي مليكة به. وهنا داود بن رشيد جمع عبد العزيز بن جريج وابن أبي مليكة في إسناد.
ورواه الدارقطني (1/154) من طريق الربيع بن نافع، عن إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره مرسلاً.
وهذه الطرق كلها ضعيفة، لأمور:
أولاً: لأنها من رواية إسماعيل بن عياش، عن أهل الحجاز، وقد ضعفه أهل الحديث إذا روى عن غير أهل الشام انظر تهذيب التهذيب (1/282) .
ثانياً: أنه على ضعف إسماعيل فقد اختلف عليه فيه، وهذا مما يزيده ضعفاً، فروي عنه كما تقدم موصولاً.
ورواه محمد بن المبارك ومحمد بن الصباح، عن إسماعيل مرسلاً.
ورواه الدارقطني (1/154) من طريق إسماعيل بن عياش، عن عباد بن كثير وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به.
ومع كون عباد بن كثير وعطاء بن عجلان ضعيفين فإن هذا الاختلاف ناتج عن تخليط إسماعيل بن عياش رحمه الله تعالى.
ثالثاً: قد خالف إسماعيل بن عياش أصحاب ابن جريج، فقد رووه عن ابن جريج مرسلاً، منهم:
عبد الرزاق كما في المصنف (3618) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الدارقطني (1/155) ، والبيهقي (1/142) عن ابن جريج، عن أبيه، يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
وأبو عاصم النبيل، كما في سنن الدارقطني (1/155) ، والبيهقي (1/142) .
ومحمد بن عبد الله الأنصاري كما في سنن الدارقطني (1/155) ، والبيهقي (1/142) .
وعبد الوهاب بن عطاء، كما في سنن الدارقطني (1/155) .
وسليمان بن أرقم كما في سنن الدراقطني (1/155) كلهم رووه عن ابن جريج، عن أبيه، مرسلاً. وكل هؤلاء ثقات إلا سليمان بن أرقم فإنه متروك، وعبد الوهاب فإنه صدوق.
وقد رجح إرساله أبو حاتم الرازي في العلل لابنه (1/31) .
وجاء في سنن البيهقي (1/142) : قال أبو طالب أحمد بن حميد: سألت أحمد بن حنبل عن حديث ابن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من قاء أو رعف. الحديث، فقال: هكذا رواه ابن عياش، وإنما رواه ابن جريج عن أبيه، ولم يسنده عن أبيه، ليس فيه ذكر عائشة. اهـ والنص نفسه نقله ابن عدي في الكامل (1/292) .
وقال الدارقطني في سننه (1/154) : أصحاب ابن جريج الحفاظ عنه يروونه عن ابن جريج، عن أبيه مرسلاً.
وقال البيهقي (2/255) : وهذا الحديث أحد ما أنكر على إسماعيل بن عياش، والمحفوظ ما رواه الجماعة عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، كذلك رواه محمد ابن عبد الله الأنصاري وأبو عاصم النبيل، وعبد الرزاق، وعبد الوهاب بن عطاء وغيرهم، عن ابن جريج. وأما حديث ابن أبي مليكة عن عائشة، فإنما يرويه إسماعيل بن عياش، وسليمان ابن أرقم عن ابن جريج، وسليمان بن أرقم متروك، وما يرويه إسماعيل بن عياش عن غير أهل الشام ضعيف لا يوثق به وروي عن إسماعيل، عن عباد بن كثير وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، وعباد وعطاء هذان ضعيفان والله تعالى أعلم.
انظر إتحاف المهرة (21834) ، تحفة الأشراف (16252) .(9/649)
ومع ضعف إسناده فإن في متنه نكارة؛ لأن القئ والقلس إن كانا حدثين فإن الحدث مبطل للطهارة، وإذا بطلت الطهارة أثناء الصلاة بطلت الصلاة، كما لو خرجت منه ريح أو بول أو غائط أثناء الصلاة فإن الصلاة كلها تبطل، وإذا تطهر وجب عليه استئناف الصلاة، فما بال الرعاف والقيء يخرج منه، ثم يذهب وينصرف عن القبلة، ويشتغل بالطهارة: وهي حركة كثيرة أجنبية عن الصلاة، وهو في ذلك كله لم يخرج من الصلاة؛ لأنه يحرم عليه الكلام حينئذ، ثم يرجع ويبني على صلاته، فإن كان الرعاف والقيء حدثاً فقد خرج من الصلاة، وإن لم يكن ذلك حدثاً فلماذا يشتغل بالطهارة.(9/651)
الدليل الرابع:
(1016-245) ما رواه الدارقطني من طريق أبي بكر الداهري، عن حجاج، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد،
عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رعف في صلاته فليرجع فليتوضأ وليبن على صلاته (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/157) .
(2) قال الدارقطني على: أبو بكر الداهري عبد الله بن حكيم متروك الحديث. سنن الدارقطني (1/157) .
وقال يحيى بن معين والنسائي ليس بثقة. الكامل (4/138) ، الضعفاء والمتروكين للنسائي (667) .
وقال السعدي: كذاب مصرح. المرجع السابق.
وقال أحمد: يروي أحاديث مناكير، ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال علي بن المديني: ليس بشيء لا يكتب حديثه. تاريخ بغداد (9/446) .
وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات. المجروحين (2/21) .
وقال العقيلي: وأبو بكر هذا حدث بأحاديث لا أصل لها ويحيل على الثقات من ذلك. الضعفاء الكبير (2/241) .
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، وقال مرة: ذاهب الحديث. الجرح والتعديل (5/41) .
والحديث أخرجه البيهقي في الخلافيات (643) من طريق الدارقطني به.
وأخرجه ابن حبان في المجروحين (2/22) ومن طريقه ابن الجوزي في الواهيات (607) ، من طريق عمرو بن عون به.
وفي الحديث علة أخرى، فإن في إسناده الحجاج بن أرطأة لم يسمع من الزهري.
انظر إتحاف المهرة (5454) .(9/652)
الدليل الخامس:
(1017-246) ما ورواه الطبراني، قال: حدثنا يحيى بن محمد الحيالي (1) ، ثنا أحمد بن عبدة، ثنا الحسين بن الحسن، ثنا جعفر بن زياد الأحمر، عن يزيد ابن أبي خالد (2) ، عن أبي هاشم، عن زاذان،
عن سلمان رضي الله عنه قال: رعفت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرني أن أحدث وضوءاً (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) الصواب الحنائي نسبة إلى بيع الحناء انظر الأنساب (4/275) ، وابن حبان في المجروحين (3/105-106) .
(2) هكذا قال الطبراني في المعجم الأوسط والكبير عن يزيد بن أبي خالد، والصواب: عن يزيد أبي خالد، كما في كتاب المجروحين لابن حبان (1/105) ، وسنن الدارقطني (1/156) ، والخلافيات للبيهقي (2/336) ، وهو يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني.
(3) المعجم الكبير (6/239) رقم: 6098.
(4) ومن طريق أحمد بن عبدة أخرجه ابن حبان في المجروحين (3/105،106) والطبراني في الأوسط (2883) ، قال: حدثنا إبراهيم، حدثنا أحمد به.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (2/142) ، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (640) ثنا القاسم بن أحمد بن عباد، ثنا أحمد بن عبدة، ثنا حسين بن حسن، عن جعفر بن زياد الأحمر، عن أبي هاشم الرماني به. فأسقط من إسناده أبا خالد.
وأخرجه الدارقطني (1/156) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (639) من طريق إسماعيل بن أبان، نا جعفر الأحمر، عن أبي خالد به.
وضعفه البيهقي في الخلافيات (2/337) بجعفر الأحمر، قال البيهقي: وجعفر وأبو خالد كلاهما ضعيف، ثم نقل عن الجوزجاني قوله: جعفر الأحمر مائل عن الطريق، كما نقل عن الدارمي قوله: سئل يحيى بن معين عن جعفر الأحمر، فقال بيده: لم يلينه ولم يضعفه. اهـ
قلت: قد وثقه يحيى بن معين في رواية. الجرح والتعديل (2/480) ، ضعفاء العقيلي (1/186) .
وقال أحمد: صالح الحديث. الجرح والتعديل (2/480) .
ووثقه يعقوب بن سفيان. تهذيب التهذيب (2/79) .
وقال النسائي: لا بأس به. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: صدوق. الجرح والتعديل (2/480) .
وقال أبو داود: صدوق شيعي، حدث عنه عبد الرحمن بن مهدي. تهذيب التهذيب (2/79) .
ولكنه علته أبو خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالاني، قال ابن حبان في المجروحين (1/105) : كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، يخالف الثقات في الروايات، إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة علم أنها معلولة مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات.
وقال يعقوب بن سفيان: منكر الحديث.
وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة وفي حديثه لين، إلا أنه مع لينه يكتب حديثه. الكامل (7/277) .
وقال البخاري: صدوق، وإنما يهم في الشيء.
وقال يحيى بن معين: ليس به بأس. الكامل (7/277) .
وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. الجرح والتعديل (9/277) .
وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيراً. وكان يدلس. اهـ وقد جعله الحافظ في المرتبة الثالثة من المدلسين، كما في مراتب المدلسين (113) ، وقد عنعن هذا الحديث.
وأخرجه الطبراني في الكبير (6099) والدارقطني (1/156) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/189) من طريق عمرو القرشي، عن أبي هاشم به.
قال الدراقطني: وعمرو القرشي هو أبو خالد الواسطي متروك الحديث. سنن الدارقطني (1/156) .
وقال أحمد ويحيى بن معين: أبو خالد الواسطي كذاب. المجروحين (2/76) ، الضعفاء الكبير (3/268) ، الجرح والتعديل (6/230) .
وقال البخاري: منكر الحديث. الضعفاء الكبير (3/268) .
وقال وكيع: كان في جوارنا يضع الحديث، فلما فطن له تحول إلى واسط. الكامل (5/123) .
وقال أبو زرعة وابن راهوية: كان يضع الحديث. الجرح والتعديل (6/230) .
إتحاف المهرة (5920) .(9/653)
الدليل السادس:
(1018-247) ما رواه الدارقطني من طريق عمران بن موسى، نا عمر ابن رياح، نا عبد الله بن طاوس، عن أبيه،
عن ابن عباس، قال: كان رسول الله إذا رعف في صلاته توضأ، ثم بنى على ما بقي من صلاته (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/156) .
(2) ورواه ابن الجوزي في التحقيق (1/190) والبيهقي في الخلافيات (652) من طريق الدارقطني به.
ورواه ابن عدي في الكامل (5/51) من طريق عمران بن موسى الليثي البصري به.
ورواه البيهقي في الخلافيات (653) من طريق سليمان بن أبي داود، ثنا عمر بن رياح به.
وفي إسناده عمر بن رياح، قال الدارقطني: متروك.
وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه إلا على وجه التعجب. المجروحين (2/86) .
وقال الفلاس: دجال. التاريخ الكبير للبخاري (6/156) ، الكامل (5/51) .
وقال ابن عدي: ولعمر بن رياح غير ما ذكرت من الحديث، وهو مولى ابن طاوس ويروي عن ابن طاوس بالبواطيل ما لا يتابعه أحد عليه. المرجع السابق.
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/108) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (468) .
وفي التقريب: متروك، وكذبه بعضهم. إتحاف المهرة (7765) .(9/655)
(1019-248) وروي عن ابن عباس من وجه آخر، أخرجه الدارقطني من طريق محمد بن سلمة عن ابن أرقم، عن عطاء،
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رعف أحدكم في صلاته، فلينصرف، فليغسل عنه الدم، ثم ليعد وضوءه، ويستقبل صلاته (1) .
قال الدراقطني: سليمان بن أرقم متروك (2) .
الدليل السابع:
(1020-249) ما رواه الدارقطني من طريق عيسى بن المنذر،، نا بقية، عن يزيد بن خالد، عن يزيد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، قال:
قال تميم الداري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوضوء من كل دم سائل (3) .
[ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/152،153) .
(2) ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في الخلافيات (651) .
وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/254) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (649) من طريق محمد بن سلمة به.
وقال البيهقي في الخلافيات: وسليمان بن أرقم لا تقوم به حجة.
(3) الدارقطني (1/157) .
(4) وأخرجه البيهقي في الخلافيات (647) من طريق أبي عتبة، ثنا بقية، ثنا يزيد بن خالد به.
قال الدارقطني: عمر بن عبد العزيز لم يسمع من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد ويزيد بن محمد مجهولان. اهـ ونقل البيهقي هذا الكلام عن الدارقطني وأقره كما في الخلافيات (2/340) .(9/656)
الدليل الثامن:
(1021-250) ما رواه الدارقطني، من طريق حفص الفراء، ثنا سوار ابن مصعب، عن زيد بن علي، عن أبيه،
عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القلس حدث (1) .
قال الدارقطني: سوار متروك، ولم يروه عن زيد غيره (2) .
الدليل التاسع:
(1022-251) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن علي البزاز، نا محمد بن الفضل، عن أبيه، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن المسيب،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس في القطرة والقطرتين وضوء إلا أن يكون دماً سائلاً (3) .
[ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/155) .
(2) ومن طريق حفص بن عمرو الفراء أخرجه البيهقي في الخلافيات (663) .
وسوار متفق على ضعفه،
قال فيه ابن معين: لم يكن بثقة، ولا يكتب حديثه.
وقال مرة: ليس بشيء. الكامل (3/454) .
وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (4/169) .
وقال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (258) .
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه ليس محفوظا، ً وهو ضعيف. الكامل (3/455) .
(3) سنن الدارقطني (1/157) .
(4) ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في الخلافيات (655) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/189) .
وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية، جاء في ترجمته:
قال يحيى بن معين: كان كذاباً. الضعفاء الكبير (4/120) .
وقال أحمد حين سئل عنه: ذاك عجب، يجيئك بالطامات، ولم يرضه. المرجع السابق.
وقال عمرو بن علي: متروك الحديث كذاب. الجرح والتعديل (8/56) .
وقال أبو حاتم الرازي: ذاهب الحديث ترك حديثه. المرجع السابق.
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (542) .
وفي التقريب: كذبوه.
قلت: وقد اختلف على محمد بن الفضل في إسناده، فروي عنه كما سبق.
ورواه الدارقطني (1/157) والبيهقي في الخلافيات (657) من طريق سفيان بن زياد، عن حجاج بن نصير، عن محمد بن الفضل، عن أبيه، عن ميمون، عن أبي هريرة، ذكره الدارقطني مرفوعاً، ونص البيهقي على أنه موقوف، ولم يذكر سعيداً في إسناده.
وسفيان بن زياد وحجاج بن نصير ضعيفان، قاله الدارقطني ونقله عنه البيهقي في الخلافيات، والله أعلم.(9/657)
الدليل العاشر:
(1023-252) ما رواه البيهقي في الخلافيات من طريق سهل بن عفان السجزي، ثنا الجارود بن يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعاد الوضوء من سبع: من إقطار البول والدم السائل، والقيء، ومن دسعة يملأ بها الفم، والنوم المضطجع، وقهقهة الرجل في الصلاة، ومن خروج الدم (1) .
قال البيهقي: سهل بن عفان مجهول، والجارود بن يزيد ضعيف في الحديث (2) .
_________
(1) الخلافيات للبيهقي (658) .
(2) المرجع السابق. وضعفه الزيعلي في نصب الراية (1/44) وعزاه للبيهقي في الخلافيات.(9/658)
الدليل الحادي عشر:
من الآثار عن مجموعة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنها:
(1024-253) ما رواه مالك، عن نافع،
عن ابن عمر رضي الله عنهما، كان إذا رعف انصرف، فتوضأ، ثم رجع، فبنى، ولم يتكلم (1) .
[وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر] (2) .
(1025-254) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن صالح وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة،
عن علي، قال: إذا وجد أحدكم في بطنه رزأً أو قيئاً أو رعافاً فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم (3) .
[إسناده حسن] (4) .
_________
(1) الموطأ (1/38) .
(2) ورواه الشافعي عن مالك كما في الخلافيات للبيهقي (664) .
كما رواه مالك في الموطأ (1/42) رواية محمد بن الحسن.
كما رواه مالك في المدونة (1/38) .
ورواه عبد الرزاق في المصنف (3609) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/184) ، عن معمر، عن الزهري، عن سالم،
عن ابن عمر، قال: إذا رعف الرجل أو ذرعه القيء أو وجد مذياً فإنه ينصرف، فيتوضأ، ثم يرجع فيبني ما بقي على ما مضى إن لم يتكلم.
وهذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات، وهو حديث قولي، وحديث مالك حديث فعلي.
وأخرجه الشافعي في مسنده (1114) من طريق ابن جريج، عن الزهري به.
(3) المصنف (1/13) .
(4) وقد رواه الدارقطني (1/156) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (665) من طريق وكيع به.
وأخرجه البيهقي (2/256) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق به، فزال ما يخشى من عنعنة أبي إسحاق، فالإسناد حسن، وهو صحيح عن علي رضي الله عنه، وقول البيهقي: عاصم غير قوي ليس بدقيق، فقد وثقه علي بن المديني، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الترمذي في السنن (2/495) : ثقة عند أهل الحديث. وفي التقريب: صدوق.
والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف (3607) عن معمر، عن أبي إسحاق به.
وأخرجه الدارقطني (1/156) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، والحارث، عن علي، قال: إذا أم الرجل القوم، فوجد في بطنه رزءاً أو رعافاً أو قيئاً، فليضع ثوبه على أنفه، وليأخذ بيد رجل من القوم فليقدمه.
ولم يذكر البناء على الصلاة، والحارث ضعيف.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه (3606) عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي بنحو لفظ يونس عن أبي إسحاق، إلا أنه زاد: فإن تكلم استقبل، وإلا اعتد بما مضى.
ورواه البيهقي في السنن (1/256) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث به. قال البيهقي: والحارث الأعور ضعيف.
ورواه البيهقي (2/256) من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن علي، ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا إسرائيل، ثنا يزيد بن سعيد، عن أبيه، عن علي به.
ورواه ابن أبي شيبة (2/13) حدثنا علي بن مسهر، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس، عن رجل، قال: إذا رعف الرجل في صلاته، أو قاء فليتوضأ، ولا يتكلم، وليبن على صلاته.
قلت: ذكره ابن التركماني في الجوهر النقي نقلاً من ابن أبي شيبة إلا أنه قال: عن خلاس، عن علي. فتراجع نسخة أخرى للمصنف خشية من الغلط، قال ابن التركماني: هذا السند على شرط الصحيح، وخلاس أخرج له الشيخان.
انظر إتحاف المهرة (14355) .(9/659)
(1026-255) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد أبي يحيى،
عن سلمان، قال: إذا أحدث أحدكم في صلاته، فلينصرف غير راع(9/660)
لصنعه، فليتوضأ، ثم ليعد في آيته التي كان يقرأ (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الثاني عشر:
من القياس، حيث وجدنا خروج النجس من السبيلين حدثاً ناقضاً للوضوء، فكذلك خروج النجس من سائر البدن؛ لأن المعتبر هو الخارج وليس المخرج، فإذا خرج النجس من سائر البدن أوجب الطهارة؛ إذ الطهارة والنجاسة لا يجتمعان.
_________
(1) المصنف (2/13)
(2) ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/170) من طريق وكيع به.
ورواه عبد الرزاق (3608) والبيهقي في الخلافيات (668) ، محمد بن الحسن الشيباني في الحجة على أهل المدينة (1/71) ، عن الثوري به.
قال البيهقي: وروى عمران بن ظبيان عن أبي يحيى حكيم بن سعد وليسا بالقويين، عن سلمان. اهـ
وهذا سند ضعيف، فيه عمران بن ظبيان، جاء في ترجمته:
قال البخاري: فيه نظر. التاريخ الكبير (6/424) .
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. الجرح والتعديل (6/300) .
ووثقه يعقوب بن سفيان. تهذيب التهذيب (8/118) .
وذكره العقيلي (3/298) في الضعفاء وكذلك ذكره ابن عدي، الكامل (5/94) .
وفي التقريب: ضعيف، ورمي بالتشيع، تناقض فيه ابن حبان. أهـ
قلت: يعني: من كونه ذكره في الثقات (7/239) ، وذكره في المجروحين (2/124) وقال: كان ممن يخطئ، ولم يفحش خطؤه حتى يبطل الاحتجاج به، ولكن لا يحتج بما انفرد به من الأخبار.(9/661)
وأجيب عنه بما قاله ابن المنذر:
لا يجوز أن يشبه سائر ما يخرج من سائر الجسد بما يخرج من القبل أو الدبر؛ لأنهم قد أجمعوا على الفرق بين ريح تخرج من الدبر وبين الجشاء المتغير يخرج من الفم، فأجمعوا على وجوب الطهارة في أحدهما: وهو الريح الخارج من الدبر، وأجمعوا على أن الجشاء لا وضوء فيه، ففي إجماعهم على الفرق بين ما يخرج من مخرج الحدث، وبين ما يخرج من غير مخرج الحدث أبين البيان على أن ما خرج من سائر الجسد غير جائز أن يقاس على ما خرج من مخرج الحدث.
وقال أيضاً: ليس وجوب الطهارات من أبواب النجاسات بسبيل، ولكنها عبادات، وقد يجب على المرء الوضوء بخروج الريح من دبره، وقد يجب بخروج المني، وهو طاهر غسل جميع البدن، ويجب بخروج البول غسل أعضاء الوضوء، والبول نجس، ويجب بالتقاء الختانين الاغتسال، ولو لم يحصل إنزال. (1) اهـ
قلت: ويجب الوضوء أيضاً بأكل الشيء الطاهر كلحم الإبل على الصحيح، ولو غمس يده في نجاسة لم يجب عليه إلا غسل يده، ولو مس ذكره بيده وجب عليه الوضوء على الصحيح مع أنه عضو طاهر كسائر أعضائه، فهذه عبادات لا يجري في مثلها القياس، ثم إن كان الخارج النجس من غير السبلين حدثاً فلا فرق بين قليله وكثيره كسائر الأحداث من البول والغائط والريح، وإن كان ليس حدثاً فلا معنى للتفريق بين القليل والكثير.
_________
(1) الأوسط (1/175) .(9/662)
دليل من قال: لا يعتبر خروج النجس حدثاً.
الدليل الأول:
(1027-256) ما رواه أحمد، من طريق شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (1) .
[المحفوظ من الحديث أن هذا فيمن شك في الحدث، وهو في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً] (2) .
الدليل الثاني:
(1028-257) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا سهل بن زياد، نا صالح ابن مقاتل بن صالح، نا أبي، نا سليمان بن داود أبو أيوب القرشي بالرقة، نا حميد الطويل،
عن أنس بن مالك، قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المسند (2/471) .
(2) سبق تخريجه، انظر حديث رقم (998) .
(3) سنن الدارقطني (1/157) .
(4) ورواه البيهقي في السنن (1/141) وفي الخلافيات من طريق الدارقطني به.
قال الزيلعي في نصب الراية (1/43) : قال الدارقطني: صالح بن مقاتل ليس بالقوي، وأبوه غير معروف، وسليمان بن داود مجهول " اهـ
وفي تلخيص الحبير (1/113) : في إسناده صالح بن مقاتل، وادعى ابن العربي أن الدارقطني صححه، وليس كذلك، بل قال عقبه في السنن: صالح بن مقاتل ليس بالقوي. اهـ
ولم أقف على كلام الدارقطني في السنن المطبوعة.
انظر إتحاف المهرة (877) .(9/663)
الدليل الثالث:
(1029-258) ما رواه أحمد، من طريق محمد بن إسحاق، حدثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر،
عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع، فأصيبت امرأة من المشركين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً، وجاء زوجها وكان غائبا، فحلف أن لا ينتهي حتى يهريق دماً في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: فكونوا بفم الشعب، قال: وكانوا نزلوا إلى شعب من الوادي، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل أحب إليك أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال: اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم رماه بسهم آخر، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم عاد له بثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أوتيت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذروا به، فهرب فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله ألا أهببتني؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها(9/664)
حتى أنفذها، فلما تابع الرمي ركعت، فأريتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها (1) .
وجه الاستدلال:
أن خروج الدم لو كان حدثاً لخرج من صلاته بمجرد خروجه، ولما أتم صلاته، وهو ينزف دماً.
وأجيب: بأن الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن (2) .
الدليل الرابع:
(1030-259) ما رواه الدارقطني من طريق القاسم بن هاشم السمسان، نا عتبة بن السكن الحمصي، نا الأوزاعي، نا عبادة بن نسي وهبيرة ابن عبد الرحمن قالا: نا أبو أسماء الرحبي،
أخبرنا ثوبان، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائماً في غير رمضان، فأصابه غم آذاه، فتقيأ، فقاء، فدعاني بوضوء، فتوضأ، ثم أفطر، فقلت: يا رسول الله أفريضة الوضوء من القيء؟ قال: لو كان فريضة لوجدته في القرآن. قال: ثم صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد، فسمعته يقول: هذا مكان إفطاري أمس (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المسند (3/343) .
(2) تم تخريجه ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسات، في الكلام على نجاسة الدم.
(3) سنن الدارقطني (1/159) .
(4) قال الدارقطني عقب روايته للحديث: لم يروه عن الأوزاعي غير عتبة بن السكن، وهو منكر الحديث.
ورواه الدارقطني في باب القبلة للصائم (2/184) ، وقال: عتبة بن السكن متروك الحديث.
ومن طريق الدارقطني رواه البيهقي في الخلافيات (661) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/191) .
قال البيهقي: هذا حديث منكر، ولا ينبغي لأحد من أصحابنا أن يعارضهم بذلك؛ لكيلا نكون وهو في الاحتجاج بالمناكير سواء، أعاذنا الله من ذلك بمنه. اهـ
قلت: عتبة بن السكن، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/371) .
وذكره ابن حبان في الثقات (8/508) ، وقال: يخطئ ويخالف. اهـ
وقال البيهقي: عتبة بن السكن واهٍ منسوب إلى الوضع. لسان الميزان (4/128) .
وقال البزار: روى عن الأوزاعي أحاديث لم يتابع عليها. المرجع السابق.
انظر إتحاف المهرة (2484) .(9/665)
بله ومتنه منكر؛ لأن الفرائض ليست كلها في القرآن، فإن ما في السنة من الفرائض أكثر مما في القرآن.
الدليل الخامس:
قالوا: إن الفرائض إنما تجب بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من أوجب الوضوء حجة، وقد أجمع العلماء على أن من توضأ فهو طاهر، واختلفوا في نقض طهارته بعد حدوث الرعاف أو القيء أو الحجامة أو غيرها من سائر النجاسات من البدن، وغير جائز أن تنقض طهارة مجمع عليها إلا بإجماع مثله، أو خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا معارض له (1) .
الدليل السادس:
قال الشافعي: لم يختلف الناس في البصاق يخرج من الفم، والمخاط والنَّفس يأتي من الأنف، والجشاء المتغير وغير المتغير يأتي من الفم أن ذلك لا
_________
(1) انظر الأوسط لابن المنذر (1/174) .(9/666)
يوجب الوضوء، فدل ذلك على أن لا وضوء من قيء ولا رعاف ولا حجامة ولا شيء خرج من الجسد، ولا أخرج منه غير الفروج الثلاثة: القبل والدبر والذكر؛ لأن الوضوء ليس على نجاسة ما يخرج، ألا ترى أن الريح تخرج من الدبر ولا تنجس شيئاً، فيجب بها الوضوء، كما يجب بالغائط، وأن المني غير نجس والغسل يجب به، وإنما الوضوء والغسل تعبد (1) .
وقد نقلنا نحو هذا الكلام فيما تقدم عن ابن المنذر، والله أعلم.
الدليل السابع: من الآثار.
(1031-260) منها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن التيمي، عن بكر - يعني: ابن عبد الله المزني - قال:
رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه، فخرج شيء من دم، فحكه بين إصبعيه، ثم صلى ولم يتوضأ (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) الأم (1/18) .
(2) المصنف (1/128) رقم: 1469.
(3) والتيمي: هو سليمان بن طرخان، ومن طريق ابن أبي شبية أخرجه البيهقي في السنن (1/141) .
ورواه عبد الرزاق في المصنف (553) عن بن التيمي - يعني: معتمر بن سليمان- عن أبيه وحميد الطويل، قالا: حدثنا بكر بن عبد الله المزني به.
وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/172) من طريق حماد، عن حميد به. وزاد: ورأى رجلاً قد احتجم بين يديه، وقد خرج من محاجمها شيء من دم، وهو يصلي، فأخذ ابن عمر، فسلت الدم، ثم وقتها في المسجد. اهـ
وذكره البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: القبل والدبر، قال البخاري: وعصر ابن عمر بثرة، فخرج منها الدم، ولم يتوضأ.
قال الحافظ: وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.(9/667)
(1032-261) ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري وابن عيينة، عن عطاء بن السائب، قال:
رأيت عبد الله بن أبي أوفى بصق دماً، ثم صلى، ولم يتوضأ (1) .
[إسناده حسن] (2) .
(1033-262) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عبيد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الزبير،
عن جابر أنه أدخل أصبعه في أنفه، فخرج عليها دم، فمسحه بالأرض أو التراب، ثم صلى (3) .
[إسناده حسن] (4) .
_________
(1) المصنف (571) .
(2) الثوري قد روى عن عطاء بن السائب قبل تغيره.
وقد رواه ابن المنذر في الأوسط (1/172) من طريق سفيان به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/117) من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن عطاء بن السائب به. ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، في كتاب الوضوء، باب (34) قال: بزق ابن أبي أوفى دماً، فمضى في صلاته.
قال الحافظ: وصله سفيان الثوري في جامعه عن عطاء بن السائب، وسفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه، فالإسناد صحيح. اهـ
قلت: عطاء صدوق، فالإسناد حسن، لكن يصح الأثر بشواهده.
(3) المصنف (1/128) .
(4) وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/173) من طريق أبي نعيم، حدثنا عبيد الله بن حبيب به، وعبيد الله بن حبيب أخو عبد الله قد وثقه ابن معين كما في الجرح والتعديل (5/311) ، وباقي رجاله ثقات إلا أبا الزبير فإنه صدوق، وأبو الزبير قد اتهم بالتدليس وقد أثبت أنه بريء من هذه التهمة في رسالتي (نقد مظاهر الإنصاف) جواب الدبيان على رد الجفن، وهي منشورة في الانترنت في موقع الوسطية والذي يشرف عليه الدكتور الداعية: محسن العواجي، ولعل الرسالة تطبع في المستقبل إن شاء الله تعالى ليستفاد منها، مع رسالة أخرى لها علاقة في نفس الموضوع سميتها تعزيز الإنصاف في بيان أن الأخذ من اللحية ليس فيه خلاف.(9/668)
(1034-263) ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير، قال: أخبرنا عبيدالله، عن نافع،
عن ابن عمر أنه كان إذا احتجم غسل أثر محاجمه (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
(1035-264) ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن جعفر بن برقان، قال: أخبرني ميمون بن مهران، قال:
_________
(1) المصنف (1/47) .
(2) رجاله كلهم ثقات، ورواه البخاري تعليقاً في كتاب الوضوء، باب (34) قال البخاري: قال ابن عمر والحسن فيمن احتجم: ليس عليه إلا غسل محاجمه.
ولفظ البخاري أوضح دلالة من لفظ ابن أبي شيبة، وذلك لأن لفظ الأثر عند ابن أبي شيبة لا يمنع أن ابن عمر كان يرى الوضوء منه، بخلاف لفظ البخاري فإنه ساقه مساق النفي والإثبات.
ورواه البيهقي (1/140) من طريق الحسن بن علي بن عفان، نا عبد الله بن نمير به.
قال ابن التركماني في الجوهر النقي: لا يدل ذلك على ترك الوضوء إلا من باب مفهوم اللقب، وتقدم أنه ليس بحجة، وأن أكثر العلماء لا يقولون به. اهـ
وقد روى ابن المنذر في الأوسط (1/179) من طريق هشيم، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا احتجم يغسل أثر محاجمه، ويتوضأ، ولا يغتسل.
إلا أن هذا الإسناد ضعيف، فيه عنعنة هشيم، وهو مدلس، وفيه حجاج بن أرطأة، وهو ضعيف أيضاً على تدليس فيه، وقد عنعن.(9/669)
رأيت أبا هريرة أدخل أصبعه في أنفه، فخرجت مخضبة دماً، ففته، ثم صلى، فلم يتوضأ (1) .
[المحفوظ عن ميمون بن مهران عن من رأى أبا هريرة] (2) .
وأجاب أصحاب القول الأول عن هذه الآثار.
أجاب الحنابلة بأن النقض مقيد بشرطين:
الأول: أن يكون الخارج نجساً.
_________
(1) المصنف (556) .
(2) الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا جعفر بن برقان فإنه صدوق، وإنما ضعف في الزهري خاصة.
قال أحمد: إذا حدث عن غير الزهري فلا بأس به وفي حديث الزهري يخطئ. الجرح والتعديل (2/474) .
وقال النسائي ويحيى بن معين: نحو كلام أحمد. انظر المرجع السابق، وتهذيب الكمال (5/15) .
وقال ابن نمير: ثقة، أحاديثه عن الزهري مضطربة.
وفي التقريب: صدوق يهم في حديث الزهري خاصة.
وقد اختلف فيه على ميمون بن مهران:
فرواه جعفر بن برقان كما في مصنف عبد الزراق والأوسط لابن المنذر (1/173) عن ميمون بن مهران، رأيت أبا هريرة....
ورواه غيلان بن جامع، عن ميمون بن مهران، قال: أنبأنا من رأى أبا هريرة يدخل أصابعه في أنفه، فيخرج عليها الدم، فيحته، ثم يقوم يصلي.
وهذا السند فيه رجل مبهم، فيكون ضعيفاً، وهو المحفوظ من فعل أبي هريرة؛ لأن غيلان ابن جامع أوثق من جعفر بن برقان، فغيلان قد وثقه ابن معين وابن المديني ويعقوب بن شيبة، وأبو داود، وفي التقريب: ثقة.(9/670)
الثاني: أن يكون فاحشاً.
وهذه الآثار دليل على أن الخارج النجس إذا كان يسيراً لا ينقض الوضوء، أرأيت ابن عمر، فإنه كما ثبت عنه أنه عصر بثرة، فصلى ولم يتوضأ، صح عنه أيضاً أنه كان إذا رعف انصرف فتوضأ، ثم رجع فبنى، ولم يتكلم. رواه مالك، عن نافع، عنه وسبق تخريجه.
ورد عليهم:
بأنه لو كان خروج النجس حدثاً لما كان هناك فرق بين القليل والكثير، قياساً على سائر الأحداث من البول والغائط والريح ونحوها.
وأجاب العلماء القائلون بعدم النقض عن الآثار الواردة في الرعاف، بما قاله ابن عبد البر: قال: حمله أصحابنا على أنه غسل ولم يتكلم، وبنى على ما صلى، قالوا: وغسل الدم يسمى وضوءاً؛ لأنه مشتق من الوضاءة، وهي النظافة، قالوا: فإذا احتمل ذلك لم يكن لمن ادعى على ابن عمر أنه توضأ للصلاة في دعواه ذلك حجة لاحتماله الوجهين: قالوا: وكذلك تأولوا حديث سعيد بن المسيب؛ لأنه قد ذكر الشافعي وغيره عنه أنه رعف فمسحه بصوفة، ثم صلى ولم يتوضأ، قالوا: ويوضح ذلك فعل ابن عباس أنه غسل الدم عنه وصلى، وحمل أفعالهم على الاتفاق منهم أولى.
وخالف في ذلك أهل العراق في هذا التأويل، فقالوا: إن الوضوء إذا أطلق ولم يقيد بغسل دم وغيره فهو الوضوء المعلوم للصلاة، وهو الظاهر من إطلاق اللفظ.... الخ كلامه رحمه الله (1) .
_________
(1) الاستذكار (2/266) .(9/671)
قلت: الأصل حمل الكلام على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر أو ليس له حقيقة شرعية قدمت الحقيقة اللغوية، فإن تعذر حمل على الحقيقة العرفية، والله أعلم.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض أدلة الفريقين الذي يظهر والله أعلم أن القول بأن خروج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء إلا أن يكون بولاً أو غائطاً أو ريحاً وقد انسد المخرج المعتاد هو القول الراجح، وأما الآثار التي وردت عن ابن عمر وعن غيره بسند صحيح عن الوضوء من الرعاف، والبناء على الصلاة بعده، فمع أن الدم من الإنسان ليس نجساً - كما حررت ذلك والحمد لله في قسم النجاسات من هذه السلسلة- فهو على خلاف القياس؛ لأن إيجاب الوضوء من الرعاف يعني: بطلان الطهارة، وبطلان الطهارة يلزم منه بطلان الصلاة كخروج البول والريح إذا خرجا من المصلي أثناء الصلاة، فإنه يجب استئناف الصلاة بعد إعادة الطهارة، فصحة الآثار من الصحابة لا نقاش فيه عند اجتماعهم، فإن ثبت الخلاف عن الصحابة كان الأمر واسعاً، وتقديم قول الصحابي الذي يوافق القياس أولى من غيره، وإن لم يثبت الخلاف بينهم، بحيث لا يعلم مخالف لقول من قال بالبناء، فإنا نقول به، ولو خالف القياس، لكن لا نتعداه إلى غيره، ولا نقول بوجوبه من كل خارج نجس، وإنما يقتصر على ما ورد عن الصحابة، والله أعلم.
قال ابن عبد البر: وأما بناء الراعف على ما قد صلى، ما لم يتكلم، فقد ثبت في ذلك عن عمر، وعلي وابن عمر، وروي عن أبي بكر أيضاً، ولا مخالف لهم في ذلك من الصحابة إلا المسور بن مخرمة وحده، وروي أيضاً البناء(9/672)
للراعف على ما صلى ما لم يتكلم عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام، ولا أعلم بينهم في ذلك اختلافاً إلا الحسن البصري فإنه ذهب في ذلك مذهب المسور بن مخرمة، إلى أنه لا يبني من استدبر القبلة في الرعاف... الخ كلامه رحمه الله تعالى.
ولم ير ابن عبد البر من الآثار السابقة من خروج الدم من أنف أبي هريرة، وابن عمر وجابر وعدم الوضوء من ذلك أن ذلك مخالف للآثار الواردة عن الصحابة في الانصراف من الصلاة للرعاف، وذلك ربما لأنه يرى أن خروج الدم من الأنف يسير لا ينقض الوضوء، والله أعلم.
وقال ابن التركماني: ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء البناء عن عليِّ وابن عمر وعلقمة، ثم قال: ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة إلا شيئاً يروى عن المسور بن مخرمة، فإنه قال: يبتدئ صلاته، ثم ذكر كلام ابن عبد البر المتقدم قريباً (1) . اهـ
والعجب كيف يعتبر الكلام مبطلاً للصلاة، ولا يرون إبطال الطهارة بالرعاف مبطلاً للصلاة، مع العلم أن الطهارة شرط من شروط الصلاة، يلزم من عدمها عدم الصلاة، والكلام من محظورات الصلاة، ولكن ليس بمثابة الطهارة من الصلاة، وفعل المأمورات أشد من ترك المحظورات، فإن الإنسان لو تكلم ناسياً في صلاته أو جاهلاً صحت صلاته، ولو صلى بدون طهارة ناسياً أو جاهلاً لم تصح منه الصلاة، ولكن لا بد من التسليم للصحابة إن كان لم يحفظ خلاف في المسألة بينهم، فإن قول الصحابي حجة إذا لم يعلم له مخالف، وما ينسب للمسور بن مخرمة لم أقف على إسناده.
_________
(1) الجوهر النقي (2/256-257) .(9/673)
وهذا مالك رحمه الله تعالى، وهو لا يرى خروج النجس من غير السبيلين ناقض للوضوء يقول بالرعاف خاصة.
قال ابن رشد: واختار مالك رحمه الله تعالى بالبناء على الاتباع للسلف وإن خالف ذلك القياس والنظر، وهذا على أصله أن العمل أقوى من القياس؛ لأن العمل المتصل لا يكون أصله إلا عن توقيف، وقال أيضاً: ليس البناء في الرعاف بواجب، وإنما هو من قبيل إما الجائز أو المستحب (1) .
_________
(1) المقدمات (1/107) .(9/674)
الفصل الثالث:
من نواقض الوضوء زوال العقل
المبحث الأول:
انتقاض الوضوء بزوال العقل بالجنون والإغماء ونحوهما
إذا زال العقل بجنون أو إغماء أو سكر فإن الوضوء ينتقض إجماعاً، إلا وجهاً مرجوحاً لبعض الشافعية في السكران (1) .
قال النووي: ولا خلاف في شيء من هذا إلا وجهاً للخرسانيين أنه لا ينتقض وضوء السكران إذا قلنا له حكم الصاحي في أقواله وأفعاله. قال النووي: وهذا غلط صريح، فإن انتقاض الوضوء منوط بزوال العقل، فلا فرق بين العاصي والمطيع (2) . اهـ
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: البدائع (1/30) ، تبيين الحقائق (1/10) ، البحر الرائق (1/41) ، شرح فتح القدير (1/51) ، مراقي الفلاح (ص: 37) .
وانظر في مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/294) ، حاشية الدسوقي (1/118) ، أسهل المدارك (1/61) ، القوانين الفقهية (ص: 29) ، تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة (1/398) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 10) ، حاشية الخرشي (1/154) ، المقدمات الممهدات (1/141) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/24) ، الحاوي (1/182) ، روضة الطالبين (1/74) ، نهاية المحتاج (1/113) ،
وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/325) ، شرح منتهى الإردات (1/70) ، الفروع (1/178) ، الإنصاف (1/199) ، شرح الزركشي (1/236) .
(2) المجموع (2/25) .(9/675)
وزوال العقل ليس حدثاً في نفسه، وإنما هو مظنة الحدث كالنوم.
والجنون والإغماء قليله وكثيره ناقض للوضوء، وسواء كان قاعداً أو مضطجعاً أو قائماً، وأما الجنون فالذي ينقض الوضوء هو الذي لا يبقى معه شعور.
قال ابن المنذر: ((وأجمعوا على إيجاب الطهارة على من زال عقله بجنون أو إغماء)) (1) .
وقال النووي: أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون والإغماء (2) .
وفي المجنون خلاف هل يجب عليه الوضوء أو يجب عليه الاغتسال؟
فالمشهور أن الجنون لا يوجب إلا الوضوء.
وقيل: يجب عليه الغسل (3) .
وليس مع من أوجب الغسل على المجنون دليل إلا قولهم: إن الجنون غالباً لا ينفك عن الإنزال، وما كان مظنة للحدث نزل منزلة الحدث كالنوم.
_________
(1) الأوسط (1/155) .
(2) المجموع (2/5) .
(3) قال الشافعي في الأم (1/38) : " وقد قيل: قلما جن إنسان إلا أنزل، فإن كان هكذا اغتسل المجنون للإنزال، وإن شك فيه أحببت له الاغتسال احتياطاً، ولم أوجب عليه ذلك حتى يستيقن الإنزال. اهـ
وقال النووي بعد أن نقل كلام الشافعي في الأم، قال: اختلف الأصحاب في هذه المسألة، فجزم المصنف - يعني صاحب المهذب - وجماعات من المحققين بأن غسل المجنون إذا أفاق سنة، ولا يجب إلا أن يتيقن خروج المني.
وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجماعات من الأصحاب: إن كان الغالب من حال الذين يجنون الإنزال، وجب الغسل إذا أفاق وإن لم يتحقق الإنزال، كما نوجب الوضوء بالنوم مضطجعاً للظن الغالب، فإن لم يكن الإنزال غالباً لم يجب الغسل بالشك. اهـ(9/676)
وقد رد ذلك النووي، فقال: الصحيح أنه يستحب الغسل لا يجب حتى يتيقن خروج المني، فإن القواعد تقتضي أن لا تنتقض الطهارة إلا بيقين الحدث، خالفنا ذلك في النوم بالنصوص التي جاءت، وبقي ما عداه على مقتضاه. اهـ
قلت: حتى استحباب الغسل يحتاج إلى بحث، وذلك أنه ثبت الغسل في حق المغمى عليه، كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته (1) ، فهل كان غسله بسبب الإغماء، أو كان غسله بسبب حاجته إلى الخروج إلى الصلاة، فكان بحاجة إلى القوة والنشاط، ثم هل يقاس عليه الجنون بجامع أن كلاً منهما قد زال عقله، أو يقال: إن الغسل قد يحدث قوة ونشاطاً في حق المغمى عليه، ولا يوجد هذا المعنى في حق المجنون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المجنون لو تحققنا من نزول المني منه فهل يكفي مثل هذا في إيجاب الغسل عليه، أو لا بد من خروج المني دفقاً بلذة، فالشافعية يوجبون الغسل بمجرد خروج المني بأي صورة خرج.
وقيل: لا يجب الغسل إلا إذا خرج المني دفقاً بلذة إلا أن يكون خروج المني من النائم فإن خروجه مطلقاً يوجب الغسل، وسيأتي تحرير هذه المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الغسل، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه، والله أعلم.
_________
(1) انظر الحديث في صحيح البخاري (687) ، ومسلم (418) .(9/677)
[صفحة فارغة](9/678)
المبحث الثاني:
انتقاض الوضوء بزوال العقل بالنوم
اختلف العلماء في نقض الوضوء بالنوم،
فقيل: لا ينقض الوضوء بالنوم مطلقاً، وهو مذهب أبي موسى رضي الله عنه، وسعيد بن المسيب وأبي مجلز وحميد الأعرج (1) .
وقيل: النوم حدث ناقض للوضوء مطلقاً، وهو مذهب إسحاق، وأبي عبيد القاسم بن سلام والمزني (2) .
وقيل: إن نام مستلقياً أو مضطجعاً انتقض، وإلا فلا، وهذا مذهب أبي حنيفة (3) .
وقيل: النوم الثقيل ناقض مطلقاً، قصر أم طال، والنوم الخفيف لا ينقض مطلقاً قصر أم طال، لكن إن طال استحب منه الوضوء.
وضابط الثقيل: ما لا يشعر صاحبه بالأصوات، أو بسقوط شيء من يده، أو سيلان ريقه ونحو ذلك، فإن شعر بذلك فهو نوم خفيف، وهذا مذهب المالكية (4) .
_________
(1) حلية العلماء (1/145) ، المجموع (2/20) .
(2) المجموع (2/20) .
(3) شرح فتح القدير (1/48، 49) ، الهداية شرح البداية (1/15) ، البحر الرائق (1/29) ، حاشية ابن عابدين (1/142) .
(4) التمهيد (18/241) ، حاشية الدسوقي (1/119) ، مواهب الجليل (1/294-295) ، القوانين الفقهية (ص: 21-22) .(9/679)
وقيل: إن نام ممكناً مقعده من الأرض أو نحوها لم ينتقض على أي هيئة كان في الصلاة أو في غيرها، وهو المشهور من مذهب الشافعية (1) .
وقيل: لا ينقض النوم اليسير من قاعد أو قائم، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: لا ينقض النوم في الصلاة على أي هيئة كان، وهو قول للشافعي في القديم (3) .
وسبب اختلاف العلماء في النوم اختلافهم فيه هل هو حدث في نفسه فيجب الوضوء في قليله وكثيره، أو ليس بحدث فلا ينتقض منه الوضوء، أو أنه سبب في حصول الحدث ومظنة لحصوله، ففرقوا بين النوم الثقيل والخفيف، وبين هيئة القاعد والمضطجع.
دليل من قال: النوم لا ينقض مطلقاً.
الدليل الأول:
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم
_________
(1) المهذب (1/23) ، حلية العلماء (1/145) ، الوسيط (1/315) ، روضة الطالبين (1/74) ، مغني المحتاج (1/34) .
(2) المبدع (1/159) ، شرح العمدة (1/299) ، الإنصاف (1/199) ، الكافي (1/43) ، كشاف القناع (1/125) .
(3) الوسيط (1/316) .(9/680)
من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} الآية (1) .
فذكر سبحانه نواقض الوضوء ولم يذكر النوم.
ويجاب بما يلي:
أولاً: أن الآية ما سيقت مساق الحصر للنواقض، بل ذكرت بعض النواقض، والسنة بينت الباقي، ولهذا لم تذكر الآية زوال العقل، وهو حدث بالإجماع.
ثانياً: أن قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (2) ، ظاهر الآية أن من قام إلى الصلاة فعليه أن يتوضأ، لكن قال الشافعي: سمعت من أرضى علمه بالقرآن يزعم أنها نزلت في القائمين من النوم، قال الشافعي: وما قال كما قال؛ لأن في السنة دليلاً على أن يتوضأ من قام من نومه (3) ، ثم ذكر بعض الأحاديث التي سوف يأتي ذكرها عند من يرى النوم حدثاً ناقضاً للوضوء، والله أعلم.
وقال ابن عبد البر: قال زيد بن أسلم وغيره في تأويل قول الله عز وجل {إذا قمتم إلى الصلاة} قال: إذا قمتم من المضاجع، يعني: النوم، وكذلك قال السدي (4) .
قلت: وتحتمل الآية معنيين آخرين ذكرهما العلماء:
_________
(1) المائدة: 6.
(2) المائدة: 6.
(3) الأم (1/12) .
(4) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/302) .(9/681)
الأول: أن تكون الآية عني بها تجديد الوضوء في وقت كل صلاة إذا قام المرء إليها.
المعنى الثاني: أن تكون الآية عني بها حال القيام إلى الصلاة من غير طهر.
الدليل الثاني:
(1036-265) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه،
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (1) .
وجه الاستدلال:
أن الحديث نفى أن يكون هناك ناقض إلا من المخرجين القبل والدبر، فدل على ن النوم ليس ناقضاً.
وأجيب:
بأن الحديث وإن كان رجاله كلهم ثقات إلا سهيل بن أبي صالح فإنه حسن الحديث إلا أن الحديث وقع فيه اختصار أفسد معناه، وقد بينت ذلك في الاستدلال على أن الريح من نواقض الوضوء، فانظره مشكوراً (2) .
_________
(1) المسند (2/471) .
(2) انظر رقم الحديث (1001) من هذا الكتاب.(9/682)
الدليل الثالث:
إذا كان النوم ليس حدثاً في نفسه، وإنما أوجب الوضوء من أوجبه لاحتمال خروج الريح، فالأصل عدم الخروج، فلا يجب الوضوء بالشك ما دامت الطهارة متيقنة، فالشك لا يقضي على اليقين.
فقد روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن زيد شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً.
وأجيب:
بأن الشارع الذي قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً هو الذي أوجب الوضوء من النوم، ثم إن الشك قد يقوى حتى يصل إلى درجة الظن، والظن قد تعبدنا به بالجملة عند تعذر اليقين، ولذلك إذا شك المصلي في صلاته تحرى، والتحري ظن، قد يطابق الواقع وقد يخالفه، وإذا أمكن التحري عمل به، ولو لم يرد في النوم دليل خاص لكان مقيساً على من زال عقله بإغماء أو جنون، فكيف وقد وردت أحاديث صحيحة في النوم بكونه ناقضاً للوضوء، والله أعلم.
الدليل الرابع:
(1037-266) حديث أنس، رواه مسلم، من طريق خالد هو ابن الحارث، حدثنا شعبة، عن قتادة، قال:
سمعت أنساً يقول: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون، قال: قلت: سمعته من أنس؟ قال: إي والله (1) .
_________
(1) مسلم (376) .(9/683)
[هذا اللفظ هو المحفوظ من حديث أنس وزاد بعضهم: ((على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) كما زاد بعضهم: ((حتى تخفق رؤوسهم)) وزاد آخرون: ((فيضعون جنوبهم)) وكل ذلك ليس بمحفوظ، والله أعلم] (1) .
_________
(1) هذا الإسناد يرويه عن قتادة جماعة من أصحابه، منهم شعبة، وهشام وسعيد بن أبي عروبة ومعمر وأبو هلال وبعضهم يزيد فيه ما ليس في حديث الآخر، وإليك بيان هذا الاختلاف.
الأول: شعبة، عن قتادة.
رواه خالد بن الحارث كما عند مسلم (376) ، وأبو عامر العقدي كما عند أبي عوانة (1/266) ، وشبابة كما في مسند أبي يعلى (3240) وهاشم بن القاسم كما في شرح مشكل الآثار (3448) أربعتهم عن شعبة، عن قتادة، ولم يختلف عليهم في لفظه: " كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يصلون لا يتوضؤون ".
ورواه يحيى بن سعيد، عن شعبة، واختلف على يحيى فيه:
فرواه أحمد (3/277) عن يحيى به بلفظ خالد بن الحارث وأبي عامر العقدي وشبابة وهاشم بن القاسم.
ورواه محمد بن بشار، عن يحيى واختلف على ابن بشار فيه:
فرواه البيهقي (1/120) من طريق تمتام، نا محمد بن بشار، نا يحيى بن سعيد به، بلفظ: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يقومون، فيصلون ولا يتوضؤون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزاد فيه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وتمتام، قال فيه الدارقطني كما في تذكرة الحفاظ (2/615) ، وتاريخ بغداد (3/143، 146) : ثقة محمود مأمون إلا أنه يخطئ.
وهذه الزيادة لم أقف عليها إلا من طريق تمتام، فلا أظنها محفوظة.
ورواه الترمذي (78) حدثنا محمد بن بشار به بلفظ الجماعة، ولم يقل فيه: على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ورواه محمد بن عبد السلام الخشني، عن محمد بن بشار كما في المحلى (1/213) من طريق قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار به، بلفظ: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون، فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة "
ومحمد بن عبد السلام الخشني ثقة، له ترجمة في تذكرة الحفاظ (2/649) إلا أن رواية أحمد عن يحيى بن سعيد القطان مقدمة على رواية ابن بشار عنه،
أولاً: لإمامة أحمد رضي الله عنه.
وثانياً: أن ابن بشار قد اختلف عليه في لفظ الحديث، فرواية من لم يختلف عليه مقدمة على رواية من لم يضبط الحديث، فرواية الترمذي عن ابن بشار، عن يحيى موافقة لرواية أحمد عن يحيى، كما أن رواية تمتام، عن محمد بن بشار ليس فيها " يضعون جنوبهم " فلفظه موافق للفظ الجماعة إلا أنه زاد عليهم قوله: " على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
ثالثاً: أن ابن بشار قد تكلم فيه بعضهم، فكان ابن معين لا يعبأ به، ويستضعفه، وكان القواريري لا يرضاه، والحق أنه ثقة لكنه قد يسهو ويغلط من غير عمد، ولذلك قال أبو داود: لولا سلامة في بندار لترك حديثه، وقد يقال: إن الخطأ من الراوي عن محمد بن بشار؛ لأن الترمذي قد رواه عنه كرواية الجماعة.
ورواه البزار في مسنده كما في نصب الراية (1/47) وتلخيص الحبير (1/21) من طريق عبد الأعلى، عن شعبة به، بلفظ: " كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقوم إلى الصلاة " فخالف عبد الأعلى خالد بن الحارث عند مسلم وأبا عامر العقدي عن أبي عوانة، وشبابة عند أبي يعلى وهاشم بن القاسم عند الطحاوي في المشكل، ويحيى بن سعيد من رواية أحمد عنه، فكل هؤلاء لم يذكروا لفظ " يضعون جنوبهم " إلا ما كان من طريق محمد بن عبد السلام الخشني، عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد به، وتكلمت عليها.
جاء في تلخيص الحبير (1/210) : قال الخلال: قلت لأحمد: حديث شعبة كانوا يضعون جنوبهم؟ فتبسم، وقال: هذا بمرة يضعون جنوبهم. اهـ
فتبين من هذا أن لفظ شعبة تضمن زيادتين:
الأولى: قوله: " على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " انفرد بها تمتام، وهو وإن كان ثقة إلا أنه يخطئ.
الثانية: زيادة " يضعون جنوبهم " جاءت من طريق محمد بن بشار، انفرد عنه بذكرها محمد بن عبد السلام الخشني، وقد روى الحديث الترمذي وتمتام عن محمد بن بشار بدون ذكر هذه الزيادة.
كما جاءت من طريق عبد الأعلى، عن شعبة، وأما باقي الرواة عن شعبة فلم يذكروها، هذا وإن كنت ضعفت هذه الزيادة من طريق شعبة إلا أنها جاءت من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بسند رجاله ثقات كما سيأتي.
هذا ما يمكنني أن أقوله عن رواية شعبة، عن قتادة، والله أعلم.
الطريق الثاني: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
ررواه أبو يعلى الموصلي في مسنده (3199) حدثنا عبيد الله - يعني القواريري - حدثنا خالد - يعني: ابن الحارث - حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس أو عن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يضعون جنوبهم، فينامون، منهم من يتوضأ، ومنهم من لا يتوضأ.
وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، وسعيد بن أبي عروبة روى عنه خالد بن الحارث قبل اختلاطه، وأخرج الشيخان البخاري ومسلم حديث ابن أبي عروبة من طريق خالد بن الحارث، عنه، وقد زاد فيه سعيد قوله: " كانوا يضعون جنوبهم "
قال أبو حاتم عن سعيد: هو قبل أن يختلط ثقة، وكان أعلم الناس بحديث قتادة.
وقال أبو داود الطيالسي: كان أحفظ أصحاب قتادة.
وقال يحيى بن معين كما في تهذيب الكمال (11/9) : أثبت الناس في قتادة سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي، وشعبة، فمن حدثك من هؤلاء الثلاثة بحديث - يعني: عن قتادة- فلا تبالي أن لا تسمعه من غيره. اهـ
وإذا كان سعيد بن أبي عروبة من أثبت أصحاب قتادة، فإن خالد بن الحارث من أثبت أصحاب سعيد بن أبي عروبة، قال ابن عدي: وأثبت الناس عنه - يعني: عن ابن عروبة - يزيد بن زريع وخالد بن الحارث. اهـ
وقد روى أبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم (829) من طريق بندار، ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة به، بلفظ: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يقومون، فيصلون، ولا يتوضؤون، قال: سمعته من أنس؟ قال: إي والله.
وهذا اللفظ أرجح من رواية خالد بن الحارث عن سعيد، لأنه موافق لرواية شعبة وغيره عن قتادة، والله أعلم.
وأخرجه البزار (282) حدثنا ابن المثني، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد به، بلفظ خالد ابن الحارث، عن سعيد. وهذا سند صالح في المتابعات؛ لأن ابن أبي عدي وإن كان ثقة إلا أنه سمع من سعيد بعد اختلاطه، لكن متابعة خالد بن الحارث تقويه، وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/248) عن رواية أبي يعلى والبزار: ورجاله رجال الصحيح. اهـ
الطريق الثالث: هشام الدستوائي، عن قتادة.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/123) حدثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن أنس، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفقون برؤوسهم، ينتظرون صلاة العشاء، ثم يقومون، فيصلون، ولا يتوضؤون ".
وهذا سند رجاله كلهم ثقات، وزاد فيه هشام قوله: " يخفقون برؤوسهم " فإنها لم ترد من حديث قتادة إلا من طريق هشام.
وأخرجه الداقطني (1/131) من طريق وكيع به.
وأخرجه أبو داود (200) ومن طريقه أخرجه أخرجه البيقهي في السنن (1/119) ، وابن عبد البر كما في فتح البر (3/310) ، قال أبو داود: حدثنا شاذ بن فياض، قال: حدثنا هشام الدستوائي به. وصححه أبو داود.
وقد جاء لفظ: " حتى تخفق رؤوسهم " من غير طريق قتادة، لكن في سندها مبهم، فقد أخرج الشافعي في الأم (1/12) ومن طريقه أخرجه البغوي في شرح السنة (163) قال الشافعي: أخبرنا الثقة، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء، فينامون. أحسبه قال: قعوداً حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون".
الطريق الرابع: عن معمر، عن قتادة به،
أخرجه عبد الرزاق (483) عن معمر، عن قتادة، عن أنس، قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقظون للصلاة، وإني لأسمع لبعضهم غطيطاً - يعني: وهو جالس - فما يتوضؤون. قال معمر: فحدثت به الزهري، فقال رجل عنده: أو خطيطاً. قال الزهري: لا، قد أصاب غطيطاً.
وأخرجه الداقطني (1/130) والبيقهي (1/120) من طريق ابن المبارك، أنا معمر، عن قتادة، عن أنس، قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً. قال ابن المبارك: هذا عندنا، وهم جلوس. قال الدراقطني: صحيح.
وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا أن معمراً انفرد عن قتادة بقوله: " وإني لأسمع لبعضهم غطيطاً " ولم يذكر هذه الزيادة أصحاب قتادة المقدمين فيه، من أمثال شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة، ورواية معمر عن قتادة فيها كلام، قال ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري (1/299) : قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: قال معمر: جلست إلى قتادة، وأنا صغير، لم أحفظ عنه الأسانيد. قال الدارقطني في العلل: معمر سيء الحفظ لحديث قتادة. اهـ
وبالتالي تكون رواية سماع الغطيط زيادة شاذة.
وأما تصحيح الدارقطني مع كون هذا التصحيح في السنن، وليس في العلل، وبينهما فرق كبير فلعله يقصد تصحيح الحديث في الجملة باعتبار أن مسلماً قد أخرج هذا الحديث، وقد رواه الطبقة الأولى من أصحاب قتادة مثل شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة، ولم يقصد تصحيح ما خالف فيه معمر أصحاب قتادة، لأني سبق أن نقلت عن الدارقطني قوله: معمر سيء الحفظ لحديث قتادة.
الطريق الخامس: أبو هلال الراسبي، عن قتادة.
أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3444) والدارقطني في السنن (1/130) من طريقين عن أبي هلال به، بلفظ: " كنا نأتي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ننتظر الصلاة، فمنا من ينعس وينام، أو ينعس، ثم يصلي ولا يتوضأ.
وهذا إسناد فيه لين، أبو هلال الراسبي قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق فيه لين، وقد تفرد بقوله: " فمنا من ينعس وينام، أو ينعس " والله أعلم.
هذا ما وقفت عليه من طرق الحديث، وإذا تبين أن لفظة " على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ليست محفوظة في الحديث لم يكن حجة إلا دلالته على إجماع الصحابة، لقوله: " كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون... الحديث. فإنه ظاهر في حكاية الاتفاق عنهم، وإن كان هذا الاطلاق ليس صريحاً في الإجماع؛ لأن لفظ " كان " قد تدل على فعل الأغلب لا على فعل الكل، والله أعلم، خاصة أنه ثبت عن بعض الصحابة كما سيأتي من يرى مطلق النوم حدثاً ناقضاً للوضوء، لكن جاءت أحاديث صريحة في الرفع بمعنى حديث أنس كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
انظر أطراف المسند (1/490) ، تحفة الأشراف (1271) ، إتحاف المهرة (1500، 1619) .(9/684)
وأجيب عن هذا الحديث:
بأن المراد منه نوم الجالس الممكن مقعدته، حمله على هذا ابن المبارك كما تقدم بيانه في الحاشية، وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي كما في تلخيص الحبير (1) .
لكن يمنع منه زيادة ((فيضعون جنوبهم)) على القول بصحة هذه الزيادة.
وحمله بعضهم على النوم الخفيف قال القرطبي في المفهم: ((وهذا النوم في هذه الأحاديث هو الخفيف المعبر عنه بالسنة التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} )) ثم قال: ((قال المفضل: السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب)) . اهـ
ولا بد من الجمع بين هذه الحديث وبين الأحاديث الموجبة للوضوء أو إثبات التعارض.
فإن قلنا بالجمع بينهما ففيها ما تقدم ذكره من الجمع.
وإن قلنا بالتعارض فإن الأحاديث الموجبة للوضوء ناقلة عن البراءة الأصلية فتكون مقدمة على غيرها، والأولى القول بالجمع؛ لأنه لا يصار إلى التعارض والجمع ممكن.
_________
(1) تلخيص الحبير (1/210) .(9/689)
قال ابن حبان في صحيحه: الرقاد له بداية ونهاية، فبدايته النعاس الذي هو أوائل النوم، وصفته أن المرء إذا كلم فيه سمع، وإن أحدث علم، إلا أنه يتمايل تمايلاً، ونهايته زوال العقل، وصفته أن المرء إذا أحدث في تلك الحالة لم يعلم، وإن كلم لم يفهم، فالنعاس لا يوجب الوضوء على أحد قليله وكثيره على أي حالة كان الناعس، والنوم يوجب الوضوء على من وجد على أي حالة كان النائم على أن اسم النوم قد يقع على النعاس، والنعاس على النوم، ومعناهما مختلفان، والله عز وجل فرق بينهما بقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} الخ كلامه رحمه الله تعالى (1) .
الدليل الخامس:
(1038-267) ما رواه الشيخان من طريق عبد الوارث، عن عبد العزيز بن صهيب،
عن أنس، قال: أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلاً في جانب المسجد فما قال إلى الصلاة حتى نام القوم (2) .
زاد البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن عبد العزيز به، ثم قام فصلى (3) .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4) : ((وقع عند إسحاق بن راهوية في مسنده، عن ابن علية، عن عبد العزيز في هذا الحديث: (حتى نعس بعض
_________
(1) صحيح ابن حبان (3/383) .
(2) البخاري (642) ، ومسلم (123-376) .
(3) البخاري (692) ، ومسلم (124-376) .
(4) فتح الباري في شرحه لحديث (642) .(9/690)
القوم) وكذا هو عند ابن حبان من وجه آخر، عن أنس، وهو يدل على أن النوم لم يكن مستغرقاً)) (1) .
_________
(1) الحديث يرويه عبد العزيز بن صهيب وثابت وحميد عن أنس،
فأما طريق عبد العزيز بن صهيب، فإنه يرويه عنه شعبة وعبد الوارث عنه، عن أنس بلفظ النوم.
وطريق شعبة في الصحيحين (خ 6292) ومسلم (376) .
وطريق عبد الوارث في الصحيحين أيضاً انظر البخاري (642) ومسلم (376) .
ورواه ابن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، واختلف على ابن علية فيه:
فرواه زهير بن حرب كما في صحيح مسلم (376) .
ويعقوب بن إبراهيم الدرقي كما في صحيح ابن خزيمة (1527) عن ابن علية بلفظ النوم.
ورواه إسحاق بن راهوية عن ابن علية بلفظ النعاس.
الطريق الثاني: ثابت البناني عن أنس.
واختلف على ثابت فيه، فرواه أصحاب ثابت بلفظ النعاس،
فقد رواه أحمد (3/160) عن أبي كامل وعفان،
وأخرجه أيضاً (3/239) من طريق عمارة - يعني: ابن زاذان.
ورواه عبد الرزاق (2046) ومن طريقه أخرجه الترمذي (518) وعبد بن حميد كما في المنتخب (1249) .
ورواه عبد بن حميد أيضاً (1324) ثنا محمد بن الفضل.
وأبو داود (201) حدثنا موسى بن إسماعيل وداود بن شبيب.
وأبو عوانة (1/266) من طريق عبيد الله بن عمر.
وأبو يعلى في مسنده (3309) من طريق إبراهيم بن الحجاج.
وابن حبان (4544) من طريق هدبة بن خالد.
تسعتهم رووه عن حماد، عن ثابت البناني به، بلفظ: النعاس.
وخالفهم حبان بن هلال عند مسلم (376) فرواه عن حماد به بلفظ النوم.
الطريق الثالث: طريق حميد عن أنس،
وهو الطريق الذي عناه الحافظ بقوله: بأنه موجود من وجه آخر عند ابن حبان
(2035)
والحق أنه موجود في مسند أحمد (3/114) عن يحيى بن سعيد القطان.
وابن حبان (2035) من طريق هشيم.
والبغوي في شرح السنة (443) من طريق يزيد بن هارون، ثلاثتهم عن حميد، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - نجي لرجل حتى نعس أو كاد ينعس بعض القوم. اهـ فلم يجزم حتى بحصول النعاس من القوم.
ولفظ ابن حبان: أقيمت الصلاة ذات يوم فعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فكلمه في حاجة له هوياً من الليل حتى نعس بعض القوم ".
ورواه أحمد (3/205) حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد به.
وهذا الحديث قد دلسه حميد عن أنس، وقد رواه حميد، عن ثابت عن أنس كما في البخاري (643) لكن اختصره البخاري على مقدار الشاهد منه، قال البخاري: باب الكلام إذا أقيمت الصلاة، ثم ساق الحديث من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن حميد، قال: سألت ثابتاً البناني عن الرجل يتكلم بعد ما تقام الصلاة فحدثني عن أنس بن مالك، قال: أقيمت الصلاة فعرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فحبسه بعد ما أقيمت الصلاة "
ورواه أبو داود (542) من طريق عبد الأعلى به. اهـ
فرجعت رواية حميد عن أنس إلى رواية ثابت عن أنس، وقد خرجنا طريق ثابت عن أنس.
ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (1188) من طريق الأعمش، عن أنس به، بلفظ النعاس، والأعمش لم يسمع من أنس.(9/691)
الدليل السادس:
(1039-268) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن عروة،
أن عائشة قالت أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج، فقال: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض(9/692)
غيركم، قال: ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول. ورواه مسلم (1) .
ورواه الشيخان من حديث ابن عمر (2) ، ومن حديث ابن عباس (3) .
الجواب عن هذه الأحاديث:
هذه الأحاديث تحتمل عدة احتمالات، منها:
الاحتمال الأول:
أن يكونوا قد توضؤوا؛ لأن الأحاديث لم تنص على أنهم صلوا بلا وضوء.
الاحتمال الثاني:
أن يكون النوم منهم بصورة النعاس، وهو مقدمة النوم، وليس نوماً مستغرقاً.
الاحتمال الثالث:
أن يكون النوم حصل منهم حال الجلوس، وقد كان من قاعد ممكن مقعدته.
الاحتمال الرابع:
أن يكون الأمر قبل إيجاب الوضوء من النوم، فإن الأحاديث الموجبة
_________
(1) البخاري (569) ومسلم (638) .
(2) البخاري (570) ، ومسلم (639) .
(3) البخاري (571) ، ومسلم (642) .(9/693)
للوضوء شاغلة للذمة، وهذه الأحاديث على البراءة، وإذا ورد كل هذه الاحتمالات على الحديث بطل منه الاستدلال.
الدليل السابع:
(1040-269) ما رواه مسلم من طريق كريب مولى ابن عباس،
عن ابن عباس قال: بت ليلة عند خالتي ميمونة بنت الحارث فقلت لها: إذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأيقظيني، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، قال: فصلى إحدى عشرة ركعة ثم احتبى حتى إني لأسمع نفسه راقداً، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: ((فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني)) .
وأجيب عن هذا:
بأن الحديث يصلح ردّاً لمن يرى النوم ناقضاً للوضوء مطلقاً على تقدير بأن قوله: إذا أغفيت: أي نمت، وليس معناه نعست، وأما من يرى أن النوم مظنة الحدث، وأنه لا ينقض الوضوء إذا أمن خروج الحدث سواء كان ذلك بقيام، أو بقعود على هيئة معينة، أو لكون النوم خفيفاً غير مستغرق فلا يعترض عليهم بهذا الحديث، والله أعلم.
_________
(1) صحيح مسلم (763) ، والحديث في البخاري لكن انفرد مسلم بموضع الشاهد منه، وهو قوله: " فجعلت إذا غفيت أخذ بشحمة أذني... ألخ.(9/694)
دليل من قال: إن النوم ناقض للوضوء مطلقاً.
الدليل الأول:
(1041-270) ما رواه أحمد من طريق عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فسألته عن المسح على الخفين؟ فقال:
كنا نكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم (1) .
[الحديث حسن وسبق تخريجه في كتاب المسح على الحائل] (2) .
وجه الاستدلال:
قرن الحديث النوم بالبول والغائط في إيجاب الوضوء منه، ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولا بين القاعد والمضطجع فدل على أن النوم حدث مطلقاً.
الدليل الثاني:
من القياس أن العلماء مجمعون على إيجاب الوضوء على من زال عقله بجنون أو إغماء إذا أفاق على أي حال كان ذلك منه، فكذلك النائم عليه ما على المغمى عليه على أي حال كان ذلك منه؛ لأنه زائل العقل.
الدليل الثالث:
(1042-271) ما رواه أحمد، قال: حدثنا علي بن بحر، حدثنا بقية بن الوليد الحمصي، حدثني الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي،
_________
(1) أحمد (4/239) .
(2) انظر حديث رقم (62) ، وقد طبع قبل هذه المجموعة، وهو جزء من هذه السلسلة.(9/695)
عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن السه وكاء العين فمن نام فليتوضأ (1) .
[ضعيف الإسناد] (2) .
_________
(1) المسند (1/111) وانقلب متنه على الراوي، والصحيح أن لفظه: " وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ، وهذا لفظ أبي داود (203) .
(2) الحديث له ثلاث علل:
الأولى: عنعنة بقية، ولا يشفع له كونه صرح بالتحديث من شيخه حتى يصرح بالتحديث من شيخ شيخه كذلك؛ لأنه متهم بتدليس التسوية.
الثانية: الانقطاع حيث لم يسمع عبد الرحمن بن عائذ من علي. قال ابن أبي حاتم في العلل (1/47) سألت أبي عن حديث رواه بقية عن الوضين بن عطاء، عن ابن عائذ، عن علي.
وعن حديث أبي بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس، عن معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: العين وكاء السه؟ فقال: ليسا بقويين، وسئل أبو زرعة عن حديث ابن عائذ، عن علي بهذا الحديث، فقال: ابن عائذ عن علي مرسل. اهـ
العلة الثالثة: الوضين بن عطاء سيء الحفظ.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب والطبراني في مسند الشاميين (656) عن علي بن بحر.
وأخرجه أبو داود (203) والطبراني في مسند الشاميين (656) وابن عبد البر في التمهيد (18/247) عن حيوة بن شريح الحمصي.
وأخرجه ابن ماجه (477) حدثنا محمد بن المصفى الحمصي.
وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3432) من طريق حكيم بن سيف ويزيد بن عبد ربه.
وأخرجه الدارقطني (1/161) من طريق سليمان بن عمر الأقطع.
وأخرجه البيهقي (1/118) من طريق أبي عتبة.
وأخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير (4/329) من طريق نعيم بن حماد.
وابن عدي في الكامل (7/88) سليمان بن عمر بن خالد.
وأخرجه المزي في تهذيب الكمال (27/289) من طريق علي بن الحسين الخواص، كلهم رووه عن بقية بن الوليد به.
وله شاهد من حديث معاوية، ومدار إسناده على أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس، عن معاوية بن سفيان مرفوعاً.
ويرويه عن أبي بكر بن أبي مريم ثلاثة، بكر بن يزيد وبقية والوليد بن مسلم، وهاك تخريج ذلك من كتب الحديث.
فقد أخرجه عبد الله بن أحمد عن أبيه وجادة من طريق بكر بن يزيد، قال: أخبرنا أبو بكر يعني: ابن أبي مريم، عن عطية بن قيس الكلاعي،
أن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العينين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء.
وأخرجه الدارمي (722) والطبراني في المعجم الكبير (19/372) رقم 875 عن محمد ابن المبارك.
وأبو يعلى (7372) حدثنا إبراهيم بن حسين الأنطاكي.
والطبراني في المعجم الكبير (19/372) من طريق حيوة بن شريح الحمصي
والدارقطني (1/160) من طريق سليمان بن عمر،
والطحاوي في مشكل الآثار (3434) من طريق سليمان بن عبد الله الرقي.
والبيهقي في السنن الكبرى (1/118) من طريق يزيد بن عبد ربه، خمستهم عن بقية بن الوليد، عن أبي بكر به.
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1494) وفي المعجم الكبير (875) ، والدارقطني (1/160) من طريق الوليد بن مسلم، عن أبي بكر به.
وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم، جاء في ترجمته:
قال عباس ومعاوية، عن يحيى يعني ابن معين: قال: أبو بكر بن أبي مريم الغساني شامي، ضعيف الحديث، ليس بشيء، وهذا مثل الأحوص بن حكيم ليس بشيء. الكامل (2/36) رقم 277.
وقال حرب بن إسماعيل، عن أحمد: ضعيف، كان عيسى لا يرضاه.
وقال الآجري، عن أبي داود: قال أحمد ليس بشيء. قال أبو داود: سرق له حلى فأنكر عقله. تهذيب التهذيب (12/33)
وقال إسحاق بن راهويه: يذكر عن عيسى بن يونس، قال: لو أردت أبا بكر بن أبي مريم على أن يجمع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً لفعل، يعني: راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وحبيب بن عبيد. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: الغالب على حديثه الغرائب، وقل ما يوافقه عليه الثقات، وأحاديثه صالحة، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولكن يكتب حديثه. المرجع السابق.
قال الجوزجاني: ليس بالقوي في الحديث، وهو متماسك. أحوال الرجال (ص:172)
وقال الذهبي: ضعفوه، له علم وديانة. الكاشف (2/411)
وفي التقريب: ضعيف، وكان قد سرق بيته، فاختلط من السابعة.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/247) رواه أحمد والطبراني في المعجم الكبير، وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف لاختلاطه.
وقد سبق لنا أن ضعفه أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/47) .
إنظر أطراف المسند (4/445) و (7291) ، تحفة الأشراف (10208) ، إتحاف المهرة (14573، 16809) .(9/696)
دليل من قال: لا ينقض إلا نوم المضطجع.
الدليل الأول:
(1043-272) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن محمد - وقال عبد الله بن أحمد: وسمعته أنا من عبد الله بن محمد - حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن قتادة، عن أبي العالية،
عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليس على من نام ساجدا وضوء حتى(9/698)
يضطجع فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (1/256) .
(2) والحديث رواه ابن أبي شيبة (1/122) رقم 1397 وعبد بن حميد كما في المنتخب (659) ، وأبو داود (202) ، والترمذي (77) ، وأبو يعلى في مسنده (2487) ، والطبراني (12/157) ح 12748، والدارقطني (1/159-160) ، والبيهقي (1/121) من طريق عبد السلام بن حرب به.
والحديث قد ضعفه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود، والدارقطني والبيهقي وغيرهم كما سيأني النقل عنهم - إن شاء الله - في الكلام على علل الحديث، وله علل كثيره، منها:
العلة الأول: سوء حفظ يزيد بن عبد الرحمن الدالاني.
قال أبو أحمد الحاكم: لا يتابع في بعض حديثه. تهذيب الكمال (33/273) .
وقال ابن سعد: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (12/82) .
وقال ابن عبد البر: ليس بحجة. المرجع السابق.
وقال ابن حبان: كان كثير الخطأ، فاحش الوهم يخالف الثقات في الروايات، حتى إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة علم أنه معلولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. المجروحين (3/105) .
وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه عبد السلام بن حرب، وفي حديثه لين، إلا أنه مع لينه يكتب حديثه. مختصر الكامل (2169) .
وقال ابن معين والنسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (33/273) .
وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. الجرح والتعديل (9/277) .
وقال أحمد: لا بأس به. تهذيب التهذيب (12/83) .
وتوسط الحافظ في التقريب، فقال: صدوق يخطئ كثيراً. قلت: وهذا الحديث يعد من أخطائه كما سيأتي بيانه في العلة الثانية.
العلة الثانية: المخالفة، فقد خالف يزيد الدالاني من هو أوثق منه، وذلك أن الحديث عند أبي داود والترمذي وغيرهما بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسجد وينام وينفخ ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ قال فقلت له صليت ولم تتوضأ، وقد نمت فقال: إنما الوضوء على من نام مضطجعاً، قال أبو داود: قوله: " الوضوء على من نام مضطجعاً " هو حديث منكر، لم يروه إلا يزيد أبو خالد الدالاني عن قتادة، وروى أوله جماعة عن ابن عباس، ولم يذكروا شيئاً من هذا.
قلت: الحديث في البخاري (138) وفي مسلم (763) عن ابن عباس في كون النبي نام حتى نفخ، وصلى ولم يتوضأ، وليس فيه زيادة " إنما النوم على من نام مضطجعاً " بل إنه في البخاري " اضطجع حتى نفخ ".
وفيه مخالفة إسنادية أخرى، أشار إليها البخاري رحمه الله، فيما نقله عنه الترمذي في العلل الكبير (1/148) قال: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا لا شيء، رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عباس قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية، ولا أعرف لأبي خالد سماعاً من قتادة، وأبو خالد صدوق، وإنما يهم في الشيء.
وقال أبو داود: ذكرت لأحمد بن حنبل حديث يزيد الدالاني فانتهرني استعظاماً له، وقال: ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة، ولم يعبأ بالحديث. اهـ
العلة الثالثة: لم يسمع قتادة هذا الحديث من أبي العالية.
قال أبو داود: قال شعبة: إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث: حديث يونس بن متى، وحديث ابن عمر في الصلاة، وحديث القضاة ثلاثة، وحديث ابن عباس: حدثني رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر.
إتحاف المهرة (7336) ، أطراف المسند (3/59) ، تحفة الأشراف (5425) .(9/699)
الدليل الثاني:
(1044-273) ما رواه البيهقي من طريق بحر بن كنيز السقاء، عن ميمون الخياط، عن أبي عياض،
عن حذيفة بن اليمان، قال: كنت في مسجد المدينة جالساً أخفق حتى احتضنني رجل من خلفي، فالتفت فإذا أنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله(9/700)
هل وجب علي وضوء؟ قال: لا حتى تضع جنبك (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
الدليل الثالث:
(1045-274) ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق عبد القاهر بن شعيب، قال: ثنا الحسن بن أبي جعفر، عن ليث بن أبي سليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من نام وهو جالس فلا وضوء عليه، فإذا وضع جنبه فعليه الوضوء.
_________
(1) سنن البيهقي (1/120) .
(2) قال البيهقي: تفرد به بحر بن كنيز السقاء، عن ميمون الخياط، وهو ضعيف لا يحتج بروايته. اهـ
وبحر بن كنيز متروك، جاء في ترجمته:
قال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (82) .
وقال يزيد بن زريع: بحر السقاء كان لا شيء. الجرح والتعديل (2/418) رقم 1655.
وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: بحر السقاء لا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف. المرجع السابق.
وقد ضعفه العقيلي أيضاً بأبي عياض: زيد بن عياض، انظر الضعفاء الكبير (2/75) .
والحديث قد أخرجه ابن عدي في الكامل (2/54) ، والعقيلي في الضعفاء (2/75) من طريق بحر السقاء به.
وأخرجه العقيلي أيضاً (2/75) من طريق بحر السقاء، عن ميمون الخياط، عن ضبة بن جوين، عن أبي عياض، عن حذيفة، فزاد في إسناده ضبة بن جوين.(9/701)
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ليث إلا الحسن بن أبي جعفر، تفرد به عبد القاهر بن شعيب (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) الأوسط (6060) .
(2) في إسناده: الحسن بن أبي جعفر، قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (2/288) .
وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: متروك. الكامل (2/304) ، وتهذيب التهذيب (2/227) .
وقال العجلي: ضعيف الحديث. معرفة الثقات (288) .
وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة، وهو يروي الغرائب خاصة عن محمد بن جحادة، وله عن غير ابن جحادة أحاديث مستقيمة صالحة، وهو عندي ممن لا يتعمد الكذب، وهو صدوق كما قاله عمرو بن علي، ولعل هذه الأحاديث التي أنكرت عليه توهمها توهماً، أو شبه عليه فغلط. الكامل (2/308) .
وقال ابن حبان: كان من المتعبدين المجابين الدعوة في الأوقات، ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظه، واشتغل بالعبادة عنها، فإذا حدث وهم فيما يروي، ويقلب الأسانيد، وهو لا يعلم حتى صار ممن لا يحتج به، وإن كان فاضلاً. المجروحين (1/237) .
وفي التقريب: ضعيف الحديث مع عبادته وفضله.
وفي الإسناد أيضاً ليث بن أبي سليم، مشهور الضعف.
والحديث رواه ابن عدي في الكامل (6/468) من طريق مهدي يعني ابن هلال، ثنا يعقوب: يعني ابن عطاء بن أبي رباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به، بلفظ: ليس على من نام قائماً أو قاعداً وضوء حتى يضع جنبه إلى الأرض.
وابن هلال قد كذبه جماعة منهم يحيى بن سعيد وابن معين وأحمد وابن المديني وتركه الدارقطني.
ويعقوب بن عطاء، قال في التقريب: ضعيف.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/247) وفيه الحسن بن أبي جعفر الجفري، ضعفه البخاري وغيره، وقال ابن عدي: له أحايث صاحلة، ولا يتعمد الكذب. اهـ(9/702)
الدليل الرابع:
(1046-275) ما رواه الطبراني، من طريق جعفر بن الزبير، عن القاسم،
عن أبي أمامة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام حتى نفخ، ثم قال: الوضوء على من اضطجع (1) .
[ضعيف جداً أو موضوع] (2) .
الدليل الخامس من الآثار:
(1047-276) ما وراه عبد الرزاق في المصنف عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان ينام، وهو جالس، فلا يتوضأ، وإذا نام مضطجعاً أعاد الوضوء (3) .
[إسناده صحيح، وهو موقوف] (4) .
_________
(1) المعجم الكبير (7948) .
(2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/248) : وفيه جعفر بن الزبير، وهو كذاب. اهـ
(3) المصنف (485) .
(4) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار (9/68) تابع ح 3448 من طريق حماد، عن أيوب به. وإسناده صحيح.
ورواه ابن أبي شيبة (1/132) والطحاوي في مشكل الآثار (9/68) من طريق يحيى بن سعيد، عن نافع به.
ورواه عبد الرزاق (484) عن عبد الله بن عمر، عن نافع، وعبد الله بن عمر في حفظه شيء، لكنه قد زال بالمتابعة.(9/703)
الدليل السادس من الآثار:
(1048-277) ما رواه البيهقي من طريق أبي صخر، أنه سمع يزيد بن قسيط يقول:
إنه سمع أبا هريرة يقول: ليس على المحتبي النائم، ولا على القائم النائم، ولا على الساجد النائم وضوء حتى يضطجع، فإذا اضطجع توضأ (1) .
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (2) .
الدليل السابع من الآثار:
(1049-278) ما رواه مالك، عن زيد بن أسلم،
_________
(1) سنن البيهقي (1/122) .
(2) في إسناده أبو صخر: حميد بن زياد الخراط.
قال أحمد: ليس به بأس. الجرح والتعديل (3/222) .
واختلف قول يحيى بن معين، فقال ثقة ليس به بأس كما في رواية الدارمي عنه. المرجع السابق.
وفي رواية إسحاق بن منصور قال يحيى: ضعيف. تهذيب التهذيب (3/36) .
وقال النسائي: ضعيف. تهذيب الكمال (7/368) .
وقال ابن عدي: هو عندي صالح الحديث، وإنما أنكرت عليه هذين الحديثين: " المؤمن مؤالف " وفي القدرية، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً. الكامل (2/269) .
وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/323) .
وقال الدارقطني: ثقة. تهذيب التهذيب (3/36) .
وفي التقريب: صدوق يهم.
وباقي الإسناد رجاله ثقات.(9/704)
أن عمر بن الخطاب قال: إذا نام أحدكم مضطجعاً فليتوضأ (1) .
[وهذا إسناد منقطع، زيد لم يسمع من عمر] (2) .
الدليل الثامن من الآثار:
(1050-279) ما رواه الطحاوي من طريق خالد بن إلياس، عن محمد وأبي بكر ابني المنكدر،
عن جابر بن عبد الله قال: من نام وهو قاعد فلا وضوء عليه، ومن نام مضطجعاً فعليه الوضوء (3) .
[إسناده ضعيف جداً] (4) .
دليل المالكية بأن النوم الثقيل ناقض للوضوء بخلاف الخفيف.
الدليل الأول:
(1051-280) ما رواه عبد الرزاق عن الثوري، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم،
_________
(1) الموطأ (1/21) .
(2) إسناده منقطع، زيد بن أسلم لم يسمع من عمر بن الخطاب.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (482) عن مالك به.
(3) مشكل الآثار (9/68) .
(4) في إسناده خالد بن إلياس العدوي، جاء في ترجمته:
قال أحمد: متروك الحديث. الكامل (3/5) .
قال فيه البخاري: ليس بشيء، منكر الحديث. الضعفاء الكبير (2/3) .
وقال فيه النسائي: مدني متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (172) .
وقال ابن معين: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (3/70) .
وفي التقريب: متروك الحديث.(9/705)
عن ابن عباس قال: وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة برأسه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الثاني:
(1052-281) ما رواه أبو يعلى من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة،
عن أنس أو عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يضعون جنوبهم، فينامون، فمنهم من يتوضأ، ومنهم من لا يتوضأ (3) .
[سبق تخريجه فيما سبق] (4) .
_________
(1) المصنف (479) .
(2) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/124) رقم 1412 من طريق ابن إدريس،
والبيهقي في السنن (1/119) من طريق سفيان، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد به، قال البيهقي: هكذا رواه جماعة عن يزيد بن أبي زياد موقوفاً. وروي ذلك مرفوعاً، ولا يثبت رفعه. اهـ
وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، جاء في ترجمته:
قال أحمد: لم يكن يزيد بن أبي زياد بالحافظ، ليس بذاك. الجرح والتعديل (9/265) .
قال أبو زرعة: لين يكتب حديثه، ولا يحتج به. الجرح والتعديل (9/265) .
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. المرجع السابق.
وقال ابن معين مرة: لا يحتج بحديثه. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (651) .
وقال العجلي: كوفي ثقة جائز الحديث. معرفة الثقات (2/364) .
وفي التقريب: ضعيف، كبر فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً.
(3) مسند أبي يعلى (3199) .
(4) انظر تخريجه في حديث رقم (1037) .(9/706)
وجه الاستدلال:
دل الحديث على أن النوم منه ما يوجب الوضوء ومنه ما لا يوجب الوضوء، فما كان ثقيلاً فإنه يوجب الوضوء، وما كان غير ذلك فإنه لا يوجب الوضوء ولو كان النائم مضطجعاً.
قال ابن عبد البر: وروينا عن أبي عبيد أنه قال: كنت أفتي أن من نام جالساً لا وضوء عليه، حتى خرج إلى جنبي يوم الجمعة رجل، فنام، فخرجت منه ريح، فقلت له: قم فتوضأ، فقال: لم أنم. فقلت: بلى، وقد خرجت منك ريح تنقض الوضوء، فجعل يحلف أنه ما كان ذلك منه، وقال لي: بل منك خرجت، فتركت ما كنت أعتقد في نوم الجالس، وراعيت غلبة النوم (1) .
الدليل الثالث:
(1053-282) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم وابن علية، عن الجريري، عن خالد بن علاق العبسي،
عن أبي هريرة قال: من استحق نوماً، فقد وجب عليه الوضوء. زاد ابن علية: قال الجريري: فسألنا عن استحقاق النوم فقال: إذا وضع جنبه (2) .
[إسناده صالح إن شاء الله تعالى] (3) .
_________
(1) الاستذكار (2/73) .
(2) المصنف (1/124) رقم 1416.
(3) ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/145) من طريق حماد، عن سعيد الجريري به.
ورواه البيهقي (1/119) من طريق شعبة وابن علية، كلاهما عن سعيد الجريري به. قال البيهقي: وقد روي ذلك مرفوعاً، ولا يصح رفعه. اهـ
وسعيد الجريري روى عنه شعبة وابن علية قبل الاختلاط، وخالد بن علاق روى له مسلم، ولم يوثقه إلا ابن حبان.(9/707)
وجه الاستدلال:
قوله: (من استحق نوماً) : أي من غلبه النوم، فخالطه حتى كان مستحقاً له، ومنه: إذا وضع جنبه، فيكون تفسير الوارد في الأثر وإن لم يكن منسوباً إلى أبي هريرة يكون تفسيراً له بالمثال، ولذلك أوردت الأثر في أدلة المالكية.
وبناء على هذا القول حمل المالكية الأحاديث التي أوردناها في القول الأول على النوم الخفيف: كحديث عائشة (أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد) ومثله حديث ابن عمر وابن عباس، وكذلك حديث أنس: (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يصلون ولا يتوضؤون) حملوا هذه الأحاديث على النوم الخفيف.
دليل الشافعية على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء.
الدليل الأول:
(1054-283) ما رواه أبو داود من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة،
عن أنس، كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون (1) .
[سبق تخريجه] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (200) .
(2) انظر أدلة القول الأول.(9/708)
وجه الاستدلال:
أن خفقان الرأس لا يكون إلا من القاعد، وأما المضطجع فلا يحصل ذلك منه، وعليه حملوا أحاديث القول الأول كحديث ابن عمر وابن عباس وعائشة في نوم الصحابة وهم ينتظرون صلاة العشاء بكونهم جلوساً، وإنما كان النوم من الجالس لا ينقض الوضوء؛ لأن النوم ليس حدثاً، وإنما هو مظنة الحدث، فإذا وجد النوم على صفة لا يكون سبيلاً إليه انتفى الحكم عنه.
الدليل الثاني:
(1055-284) حديث علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما، قالا:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء.
[سبق تخريجه والكلام عليه] (1) .
وجه الاستدلال:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العينين وكاء في حفظ السبيل، فكذلك الأرض تخلف العينين في حفظ السبيل.
الدليل الثالث والرابع:
حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وحديث حذيفة، وسبق الكلام عليهما.
_________
(1) انظر حديث رقم (1042) .(9/709)
دليل الحنابلة على أن النوم ناقض للوضوء إلا يسيره من قاعد أو قائم.
أما الدليل على أن يسير النوم لا ينقض من القاعد فلحديث أنس المتقدم: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يقومون، فيصلون، ولا يتوضؤون.
وفي رواية: (حتى تخفق رؤوسهم) فالنائم يخفق رأسه من يسير النوم، فهو في اليسير متيقن، وفي الكثير محتمل، فلا نترك عموم الأحاديث الدالة على النقض مطلقاً إلا فيما كان متيقناً؛ ولأن نقض الوضوء بالنوم معلل بإفضائه إلى الحدث، ومع الكثير والغلبة يفضي إليه، ولا يحس بخروجه بخلاف اليسير، ولا يصح قياس الكثير على القليل لاختلافهما في الإفضاء إلى الحدث، والقائم كالقاعد في انضمام محل الحدث، فلا ينقض اليسير منه، وعليه حملوا جميع الأحاديث التي تدل على أن النوم ليس ناقضاً بأنه كان يسيراً من قاعد، والله أعلم.
دليل من قال: لا ينقض النوم في الصلاة على أي هيئة كان.
(1056-285) استدلوا بما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا نام العبد في صلاته باهى الله به ملائكته، يقول: انظروا لعبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي) (1) .
[لا يثبت من وجه صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (2) .
_________
(1) التلخيص لابن حجر (1/212) .
(2) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/212) أنكره جماعة منهم القاضي ابن العربي وجوده، وقد رواه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس، وفيه داود بن الزبرقان، وهو ضعيف، وروي من وجه آخر، عن أبان، عن أنس، وهو متروك، ورواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ (199) من حديث المبارك بن فضالة، وذكره الدارقطني في العلل من حديث عباد بن راشد، كلاهما عن الحسن عن أبي هريرة، بلفظ: إذا نام العبد، وهو ساجد يقول الله: انظروا إلى عبدي " قال: وقيل: عن الحسن بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: والحسن لم يسمع من أبي هريرة. قال ابن حجر: وعلى هذه الرواية اقتصر ابن حزم وأعلها بالانقطاع، ومرسل الحسن أخرجه أحمد في الزهد، ولفظه: إذا نام العبد، وهو ساجد، يباهي الله به الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي، وهو ساجد لي، وروى ابن شاهين عن أبي سعيد معناه، وإسناده ضعيف. اهـ من تلخيص الحبير.
قلت: رواية الحسن المرسلة أخرجها محمد بن نصر في كتابه تعظيم قدر الصلاة (298) من طريق المبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: أنبئت أن ربنا تبارك وتعالى يقول: إذا نام العبد، وهو ساجد... الخ.
وأخرجها ابن أبي عاصم في كتاب الزهد (280) من طريق أحمد، حدثنا عبد الصمد، حدثنا سلام، قال: سمعت الحسن يقول: إذا نام العبد وهو ساجد.... وذكره.
وانظر علل الدارقطني (8/248) .(9/710)
ومع كون الحديث ضعيفاً فهو مخالف لحديث النهي عن الصلاة، وهو يغالبه النعاس،
(1057-286) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه. ورواه مسلم أيضاً (1) .
هذه أهم الأقوال في المسألة، وهناك أقوال أخرى لم أتعرض لها لضعفها، والراجح في مسألة النوم أن مداره على الإحساس، فإن فقد الإحساس بحيث
_________
(1) صحيح البخاري (212) ، ومسلم (78) .(9/711)
لو أحدث لم يشعر انتقض وضوءه، وإن كان إحساسه معه لكن معه مقدمات النوم، ويشعر بالأصوات من حوله، ولا يميزها من النعاس فإن طهارته باقية بذلك؛ لأن النوم ليس حدثاً في نفسه،
قال ابن تيمية: ويدل على هذا ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام حتى ينفخ، ثم يقوم، فيصلي، ولا يتوضأ (1) ؛ لأنه كانت تنام عيناه، ولا ينام قلبه، فكان يقظان، فلو خرج منه شيء لشعر به، وهذا يبين أن النوم ليس حدثاً في نفسه؛ إذ لو كان حدثاً لم يكن فيه فرق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره كما في البول والغائط وغيرهما من الأحداث (2) .
وبهذا تجتمع الأدلة، فحديث صفوان بن عسال دل على أن النوم ناقض للوضوء، وحديث أنس دل على أن النوم ليس بناقض، فيحمل حديث أنس على أن الإحساس ليس مفقوداً، فلو أحدث الواحد منهم لأحس بنفسه، والله أعلم.
_________
(1) انظر البخاري (138) ، ومسلم (763) .
(2) مجموع الفتاوى (21/229) .(9/712)
الفصل الرابع:
في نقض الوضوء بمس الفرج
المبحث الأول:
الخلاف في نقض الوضوء من مس الذكر
اختلف العلماء في مس الذكر،
فقيل: لا ينقض الوضوء مس الذكر مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) ، واختيار سحنون من المالكية (2) .
وقيل: ينقض الوضوء من مسه مطلقاً، وهو اختيار أصبغ بن الفرج من المالكية (3) ، ومذهب الشافعية (4) ، والحنابلة (5) ، إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم، فالشافعية يقيدون المس بباطن الكف، فإن مسه بغيره كما لو مسه بظاهر الكف لم ينقض، والحنابلة يعلقون النقض بمسه بالكف، ظاهره وباطنه.
_________
(1) انظر تبيين الحقائق (1/12) ، البحر الرائق (1/45) ، الاختيار لتعليل المختار (1/10) ، مراقي الفلاح (ص: 38) ، شرح فتح القدير (1/56) .
(2) انظر مواهب الجليل (1/299) ، حاشية الدسوقي (1/121) .
(3) حاشية الدسوقي (1/121) .
(4) الأم (1/19-20) ، المجموع (2/38) ، روضة الطالبين (1/75) ، مغني المحتاج (1/35) .
(5) كشاف القناع (1/126) ، شرح منتهى الإرادات (1/71) ، المبدع (1/160) ، الفروع (1/179) الإنصاف (1/202) ، شرح الزركشي (1/243) ، التحقيق (1/176) ، المحرر (1/14) .(9/713)
وقيل: يستحب الوضوء من مس الذكر، وهو اختيار المغاربة من المالكية (1) .
وقيل: إن مسه بشهوة أعاد الوضوء، وهو اختيار جماعة من البغدادين من أصحاب مالك (2) .
وقيل: إن مسه بعمد نقض، وإن مسه بغير عمد لم ينقض، اختاره بعض المالكية (3) .
فهذه خمسة أقوال في نقض الوضوء من مس الذكر، وهاك بيان أدلة كل قول من هذه الأقوال:
دليل من قال بوجوب الوضوء من مس الذكر مطلقاً.
الدليل الأول:
(1058-287) ما رواه مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مس الذكر الوضوء؟ فقال عروة: ما علمت هذا؟ فقال مروان بن الحكم:
_________
(1) يرى المغاربة من أصحاب مالك: أن من مس ذكره فإنه يعيد الوضوء ما لم يُصلِّ، فإن صلى أمر بالإعادة في الوقت، فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه، وظاهر هذا القول استحباب الوضوء منه؛ لأنه لو كان واجباً أعاد مطلقاً في الوقت وبعده. انظر مواهب الجليل (1/299) ، الخرشي (1/156) ، الاستذكار (3/25) ، حاشية الدسوقي (1/121) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 12) ، المقدمات الممهدات (1/101) .
(2) انظر المراجع السابقة.
(3) انظر المراجع السابقة.(9/714)
أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ (1) .
[إسناده حسن، والحديث صحيح لغيره] (2) .
_________
(1) الموطأ (1/42) .
(2) في إسناده مروان بن الحكم، اختلف العلماء فيه،
قال ابن حبان: عائذ بالله أن نحتج بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شيء من كتبنا؛ لأنا لا نستحل الاحتجاج بغير الصحيح من سائر الأخبار، وإن وافق ذلك مذهبنا. صحيح ابن حبان (3/397) .
وقال الذهبي: له أعمال موبقة، نسأل الله السلامة، رمى طلحة بسهم، وفعل وفعل. الميزان (4/89) .
وقال في سير أعلام النبلاء: كان كاتب ابن عمه عثمان، وإليه الخاتم، فخانه، وأجلبوا بسببه على عثمان رضي الله عنه، ثم نجا هو، وسار مع طلحة والزبير للطلب بدم عثمان، فَقَتَلَ طلحة يوم الجمل ونجى لا نجي. اهـ
وقال الحافظ ابن حجر: عد من موبقاته أنه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل، وهما جميعاً، فقتل، ثم وثب على الخلافة بالسيف، واعتذرت عنه في مقدمة شرح البخاري. اهـ تهذيب التهذيب (10/92) .
وسوف أسوق اعتذاره قريباً إن شاء الله.
هذا قول من جرح مروان بن الحكم، عفى الله عنه، وأما من وثقه:
فقد أخرج البخاري حديثه في صحيحه، واحتج به مالك في الموطأ، وكفى بهما في معرفة الرجال وتنقيتهما لهم، وصحح ابن معين حديث مروان بن الحكم من هذا الطريق خاصة، وتصحيح الحديث من طريقه خاصة توثيقاً له، وقال الدارقطني: لا بأس به، وكذلك صحح حديثه الإمام أحمد وابن عبد البر. وسوف أنقل ذلك عنهم إن شاء الله تعالى.
واعتذر ابن حجر في هدي الساري، فقال: " يقال له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه. وقال عروة بن الزبير: مروان لا يتهم بالحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتماداً على صدقه، وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم، فقتله، ثم شهر السيف في طلب الخلافة، حتى جرى ما جرى، فأما قتل طلحة فكان متأولاً فيه، كما قرره الإسماعيلي وغيره، وأما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميراً عندهم بالمدينة، قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا، والله أعلم، وقد اعتمد مالك على حديثه ورأيه، والباقون سوى مسلم. اهـ
وقال البيهقي: هذا الحديث وإن لم يخرجه الشيخان فقد احتجا بجميع رواته، واحتج البخاري بمروان بن الحكم في عدة أحاديث، فهو على شرط البخاري بكل حال، وقال الإسماعيلي: يلزم البخاري إخراجه بعد إخراج نظيره.
وقال الدارقطني: صحيح ثابت.
قلت: من طعن في مروان إنما طعن فيه لأمرين:
الأول: رميه طلحة بسهم، فقتله.
وثانياً: أنه شهر السيف في طلبه للخلافة حتى جرى منه ما جرى.
فأما رميه طلحة رضي الله عنه بسهم، فقد كان في ذلك متأولاً كما نقله الحافظ ابن حجر.
وأما إشهاره السيف في طلب الخلافة فإنه حدث بهذا الحديث قبل أن يحصل منه ما يطعن فيه، وذلك حين كان أميراً على المدينة، فقد أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في المسند (6/407) قال عبد الله: وجدت في كتاب أبي بخط يده: ثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري أنه سمع عروة بن الزبير يقول: ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مس الذكر... وذكر الحديث، فهذا صريح في أن حديثه كان في زمن إمارته على المدينة.
قال ابن حزم: لا نعلم لمروان شيئاً يجرح به قبل خروجه على ابن الزبير، وعروة لم يلقه إلا قبل خروجه على أخيه.
وقال ابن حجر في التقريب: لا تثبت له صحبة، قال عروة بن الزبير: مروان لا يتهم في الحديث. اهـ
فالذي يظهر لي أن حديثه لا ينزل عن رتبة الحديث الحسن لذاته، والله أعلم، وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات، والله أعلم.
والحديث يرويه عروة بن الزبير، ويرويه عن عروة جماعة منهم:
الأول: عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة.
أخرجها مالك في الموطأ كما في إسناد الباب، ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في الأم (1/19) ، وأبو داود (181) ، والنسائي (163) ، وابن حبان في صحيحه (1112) ، والبيهقي (1/128) وغيرهم.
وقد تابع مالكاً جماعة منهم:
الأول: سفيان بن عيينة، كما في مسند أحمد (6/406) ، بلفظ: من مس فرجه فليتوضأ، قال: فأرسل إليها رسولاً وأنا حاضر، فقالت: نعم، فجاء من عندها بذاك. اهـ فذكر سفيان مس الفرج بدلاً من مس الذكر. وزاد على مالك قوله: " فأرسل إليها رسولاً.. ألخ
وأخرجه الحميدي (352) عن سفيان به بمس الذكر كرواية مالك، إلا أنه ذكر في متنه قصة إرسال الرسول إلى بسرة.
وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (16) من طريق سفيان بنحو رواية الحميدي.
واختلف على سفيان في إسناده، فرواه أحمد والحميدي وابن المقرئ عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن مروان، عن بسرة، كرواية الجماعة.
ورواه النسائي (444) أخبرنا قتيبة، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، فأسقط ذكر مروان، ولا شك أن رواية الجماعة هي الصواب، خاصة أن النسائي قال: ولم أتقنه يعني: عن شيخه قتيبة. وصدق أبو عبد الرحمن رحمه اللهٍ.
الثاني: ابن علية كما في المسند (6/406) ، وابن أبي شيبة (1/150) .
الثالث: شعبة، كما في مسند أبي داود الطيالسي (1657) ، بلفظ " الذكر " بدلاً من الفرج.
الرابع: محمد بن إسحاق، كما في سنن الدارمي (725) ، بلفظ " من مس فرجه "
الخامس: الزهري، أخرجها عبد الله بن أحمد (6/406) قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده، ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن به.
وقد اختلف الرواة فيه على الزهري اختلافاً كثيراً جداً، وهذا الطريق هو أرجحها لموافقته رواية مالك وسفيان وإسماعيل ابن علية، وشعبة ومحمد بن إسحاق وسوف أتكلم عليها في طريق مستقل إن شاء الله تعالى.
فتبين لي من خلال طريق عبد الله بن أبي بكر ما يلي:
أولاً: أن الحديث يرويه مالك وشعبة وابن علية والزهري عن عبد الله بن أبي بكر بمس الذكر، ويرويه ابن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر واختلف عليه فيه:
فرواه أحمد عن ابن عيينة بلفظ: " من مس فرجه ".
ورواه الحميدي وابن المقرئ عن ابن عيينة كرواية الجماعة بمس الذكر.
ورواه ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بلفظ: " من مس فرجه " ولا شك أن مالكاً وشعبة والزهري وابن علية مقدمون على ابن عيينة وابن إسحاق، وذلك لأن ابن عيينة قد اختلف عليه في لفظه، ولأن ابن إسحاق خفيف الضبط، حديثه من قبيل الحسن.
ثانياً: إرسال مروان إلى بسرة رسولاً ليتثبت منها صحة الحديث قد اتفق على ذكره كل من ابن عيينة وشعبة وابن علية، فهو محفوظ من حديث عبد الله بن أبي بكر.
واعلم أن طريق عبد الله بن أبي بكر هو أصح الطرق لحديث بسرة بنت صفوان، فقد احتج به مالك، وصححه يحيى بن معين من هذا الطريق خاصة،
جاء في تلخيص الحبير (1/215) : وفي سؤالات مضر بن محمد: قلت ليحيى بن معين: أي شيء يصح في مس الذكر؟ قال: حديث مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن عن مروان، عن بسرة، فإنه يقول فيه: سمعت، ولولا هذا لقلت: لا يصح فيه شيء. قال ابن حجر: فأثبت صحته لهذا الطريق خاصة، وصححه ابن عبد البر من حديث مالك. اهـ
الطريق الثاني: الزهري، عن عروة، وقد ذكرت فيما سبق أن الزهري قد اختلف عليه اختلافاً كثيراً، سواء في لفظه أو في إسناده، وإليك بيان الاختلاف:
فقيل: عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة،
أخرجه عبد الله بن أحمد في المسند (6/407) والنسائي (164) من طريق شعيب.
وأخرجه الطحاوي (1/72) من طريق الليث.
وأخرجه البيهقي (1/132) من طريق عقيل.
كلهم عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة.
وهذا الطريق هو أصح الطرق، لموافقته رواية مالك وشعبة وسفيان بن عيينة وابن علية وابن إسحاق، وقد تقدم الكلام عن هذه الطرق، ولأن هذا الطريق من رواية جماعة من أصحاب الزهري وخاصته، كالليث وشعيب وعقيل؛ ولأن من خالف هؤلاء إما ضعيف وإما مختلف عليه في الحديث مما يدل على عدم ضبطه.
وقيل: عن الزهري، عن عروة، عن بسرة، بدون ذكر مروان.
رواها معمر، عن الزهري، واختلف على معمر فيه:
فرواه النسائي (445) من طريق شعبة، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة بدون ذكر مروان.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (411) ومن طريق عبد الرزاق أخرجها الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/71) عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: تذكرا هو ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة. فذكر هنا الزهري مروان في الإسناد، وكونه أسقط عبد الله بن أبي بكر فهذا من تدليس الزهري، ولذلك لما صرح بالتحديث ذكر عبد الله بن أبي بكر كما في رواية أحمد المتقدمة (6/407) ، ورواية النسائي (164) .
ورواية عبد الرزاق عن معمر أرجح من رواية شعبة عن معمر، لثلاثة أمور:
الأول: لموافقتها رواية أصحاب الزهري كالليث وشعيب وعقيل وعبد الرحمن بن نمر كلهم اتفقوا على ذكر مروان في الإسناد. وهذا وحده كاف في ترجيح رواية عبد الرزاق على رواية شعبة.
ثانياً: ولموافقتها من روى الحديث عن عبد الله بن أبي بكر كمالك وسفيان بن عيينة وابن علية وغيرهم.
وثالثاً: أن عبد الرزاق يمني، وشعبة بصري، وحديث معمر باليمن أرجح منه بالبصرة، قال أبو حاتم كما في تهذيب الكمال: ما حدث معمر بالبصرة ففيه أغاليط.
ورواه الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، واختلف على الوليد بن مسلم:
فرواه هشام بن عمار كما في سنن البيهقي (1/132)
وعبد الله بن أحمد بن ذكوان الدمشقي كما في صحيح ابن حبان (1117) ، كلاهما عن الوليد بن مسلم، ثنا عبد الرحمن بن نمر اليحصبي، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة، بدون ذكر مروان.
ورواه البيهقي (1/132) من طريق أبي موسى الأنصاري، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة.
وهذا الطريق هو الصحيح، وأن الزهري يروي الحديث عن عبد الله بن أبي بكر، وعروة يرويه عن مروان لما سبق ذكره.
وسوف يكون لي إن شاء الله تعالى وقفة أخرى عند هذا الطريق من جهة متنه.
وقيل: عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، عن زيد بن خالد الجهني،
فجعل الحديث من مسند زيد بن خالد، ترويه عنه بسرة، وبدون ذكر مروان بن الحكم.
أخرجه عبد الرزاق (412) قال: أخبرنا ابن جريج، قال: حدثني ابن شهاب (الزهري) ، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، أنه كان يحدث عن بسرة بنت صفوان، عن زيد بن خالد الجهني.... الحديث.
وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا أنه معلول.
وفي كتاب العلل لابن أبي حاتم (1/32) ذكر طريق عبد الرزاق هذا، إلا أنه قال: عن عروة، عن بسرة وزيد بن خالد، ولعل هذا أقرب.
وعلى كل حال فهو معلول، وعلته ابن جريج، فإنه وإن كان ثقة، وقد صرح بالتحديث إلا أن روايته عن الزهري فيها كلام.
قال ابن معين: ابن جريج ليس بشيء في الزهري.
وقال الذهبي: كان ابن جريج يرى الرواية بالإجازة والمناولة، ويتوسع في ذلك، ومن ثم دخل عليه الداخل في رواياته عن الزهري؛ لأنه حمل عنه مناولة، وهذه الأشياء يدخلها التصحيف، ولا سيما في ذلك العصر لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط...
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/32) : سألت أبي عن حديث رواه عبد الرزاق وأبو قرة موسى بن طارق، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة وزيد بن خالد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مس الذكر. قال أبي: أخشى أن يكون ابن جريج أخذ هذا الحديث من إبراهيم بن أبي يحيى؛ لأن أبا جعفر حدثنا، قال: سمعت إبراهيم بن أبي يحيى، يقول: جاءني ابن جريج يكتب مثل هذا - خفض يده اليسرى ورفع يده اليمنى مقدار بضعة عشر جزءاً - فقال: أروي هذا عنك، فقال: نعم. اهـ
وخالف محمد بن إسحاق ابن جريج، فرواه ابن أبي شيبة (1/150) حدثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن زيد بن خالد، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بلفظ: من مس فرجه فليتوضأ.
وقيل: عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
رواه البزار كما في كشف الأستار (284) من طريق أبي عامر،
وأخرجه الطحاوي (1/74) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، كلاهما عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي، عن عمرو بن شريح، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من مس فرجه فليتوضأ.
وفي الإسناد: إبراهيم بن إسماعيل.
قال أحمد: ثقة. تهذيب التهذيب (1/90) .
وقال ابن معين: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال وقال مرة: يكتب حديثه ولا يحتج به. المرجع السابق.
وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (1/271) .
وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالقوي يكتب حديثه، ولا يحتج به، منكر الحديث. تهذيب التهذيب (1/90) .
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (2) .
وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (1/90) وفي التقريب: ضعيف.
وفي الإسناد أيضاً: عمرو بن شريح، جاء في ترجمته:
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/245) : قال الأزدي: لا يصح حديثه.
وروى ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/328) بإسناده من طريق الحسين بن الحسن الخياط، أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مس فرجه فليتوضأ.
قال ابن عبد البر: وهذا إسناد منكر عن مالك، ليس يصح عنه، وأظن أن الحسين هذا وضعه، أو وهم فيه، والله أعلم.
قلت: وهو مخالف لكل من رواه عن مالك: كالقعنبي ومعن وابن القاسم وأحمد بن أبي بكر، والشافعي وغيرهم فقد رووه كلهم عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة، وقد تقدم تخريج هذا الطريق.
وقيل: عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عروة، عن بسرة.
أخرجه الطحاوي (1/72) من طريق بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: أخبرني ابن شهاب، قال: حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثني عروة، عن بسرة بنت صفوان، أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يتوضأ الرجل من مس الذكر.
فهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا أن بشر بن بكر وإن كان ثقة إلا أنه قد قال فيه مسلمة بن صلة: روى عن الأوزاعي أشياء انفرد بها.
لكنه هنا قد توبع، فقد تابعه أبو المغيرة كما في سنن الدارمي (724) وعبد الحميد بن حبيب كما في التمهيد انظر فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/330) كلاهما عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وقال الدارمي (عن ابن حزم) عن عروة به.
وعبد الحميد في التقريب: صدوق ربما أخطأ، قال أبو حاتم: كان صاحب ديوان، ولم يكن صاحب حديث، وأما أبو المغيرة فهو ثقة، لكن انفراد الأوزاعي من بين أصحاب الزهري بإسقاط مروان يدل على شذوذ روايته، فقد تقدم لنا أن كلاً من شعيب وعقيل والليث، ومعمر من رواية عبد الرزاق عنه، كلهم رووه عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة بذكر مروان، كما أن رواية الأوزاعي مخالفة لكل من روى الحديث عن عبد الله بن أبي بكر: كمالك وشعبة وسفيان بن عيينة، وابن علية، فكلهم رووه بذكر مروان.
وقد رجح ابن عبد البر رواية عبد الله بن أبي بكر على راوية أبيه؛ لأن الحديث عنده عن عروة، عن مروان، عن بسرة. فقال " والمحفوظ في هذا الحديث رواية عبد الله بن أبي بكر له عن عروة، ورواية أبي بكر له عن عروة أيضاً، وإن عبد الله قد خالف أباه في إسناده والقول عندنا في ذلك قول عبد الله، هذا إن صح اختلافهما في ذلك، وما أظنه إلا ممن دون أبي بكر، وذلك أن عبد الحميد كاتب الأوزاعي رواه عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد، عن عروة، عن بسرة، وإنما الحديث لعروة عن مروان عبن بسرة، والمحفوظ أيضاً في هذا الحديث أن الزهري رواه عن عبد الله بن أبي بكر، لا عن أبي بكر، والله أعلم. اهـ كلام ابن عبد البر.
قلت: ومما يرجح رواية عبد الله أنه ذكر أنه سمع الحديث هو وأبوه من عروة، كما تقدم من وراية أحمد (6/406) وابن الجارود (16) من طريق سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: تذاكر أبي وعروة ما يتوضأ منه، فأخبر عروة، أن مروان أخبره أنه سمع بسرة...
وكذا أخرجه أحمد (6/406) من طريق إسماعيل بن علية، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث أبي، قال: ذاكرني مروان مس الذكر، فهذان الطريقان يشهدان أن أبا بكر سمعه من عروة، عن مروان، عن بسرة.
وقد أخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/73) من طريق الخصيب، قال: ثنا همام، عن هشام بن عروة، قال: حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عروة أنه كان جالساً مع مروان... ثم ذكر الحديث، وفي آخره: " أرسل مروان إليها حرسياً يستثبت منها الحديث.
فتبين بهذه الروايات شذوذ رواية أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، وأن المحفوظ رواية أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة.
وبهذا أكون قد استكملت طرق الزهري، وقد تبين لنا الاختلاف عليه في هذا الحديث، لكن الراجح منها: رواية شعيب وعقيل والليث ومعمر لموافقتها رواية مالك وابن عيينة وشعبة وابن علية، وأن الحديث عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة.
الطريق الثالث: هشام بن عروة، عن أبيه، واختلف على هشام:
فقيل: عن عروة، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة. وهذا أصح الطرق.
وقيل: عن عروة، عن أبيه، عن بسرة، بدون ذكر مروان.
وقيل: عن عروة، عن أبيه، عن مروان، ثم إن عروة سأل بسرة فصدقته.
وقيل: عنه، عن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة، فصار بين عروة وأبيه واسطة.
وقيل: عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
وإليك تفصيل هذه الطرق:
أما طريق هشام، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة، بذكر مروان في الإسناد، فرواه جماعة عن هشام، منهم:
الأول: أبو أسامة كما في سنن الترمذي (83) ، وابن الجارود في المنتقى (17) .
الثاني: عبد الله بن إدريس كما في سنن ابن ماجه (479) .
الثالث: سفيان الثوري كما في صحيح ابن حبان كما في الموارد (213) ، وسنن الدارقطني (1/146) .
الرابع: حماد بن سلمة كما في شرح معاني الآثار (1/72) .
الخامس: علي بن مسهر كما في شرح معاني الآثار (1/72) .
السادس: يزيد بن سنان فأخرجها الدارقطني (1/147) .
السابع: إسماعيل بن عياش، كما سنن الداقطني (1/147) ، كلهم رووه عن هشام، عن عروة، عن مروان، عن بسرة.
ورواه الحاكم كما في المستدرك (1/136) من طريق سليمان بن حرب ومحمد بن الفضل عارم وخلف بن هشام، قالوا: ثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، أن عروة كان عند مروان بن الحكم، فسئل عن مس الذكر، فلم ير به بأساً، فقال عروة: إن بسرة بنت صفوان حدثتني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وذكر الحديث.
ولا أشك لحظة أن الحديث انقلب على حماد بن زيد؛ لأن جميع من رواه عن عروة يذكر عن عروة أنه أنكر على مروان حديثه في مس الذكر، فأخبره مروان أنه سمعه من بسرة، ولم يقل أحد أن عروة هو الذي حدث مروان، فانقلب الحديث على حماد بن زيد، لكن موضع الشاهد منه هو الذي يعنينا، وهو ذكر مروان في الإسناد.
فهؤلاء ثمانية رواة يروونه عن هشام، عن عروة يذكرون مروان في الإسناد، وهو المحفوظ.
وأما رواية هشام بن عروة، عن عروة، عن بسرة بإسقاط مروان.
فأخرجه أحمد (6/406) ، والترمذي (82) ، والنسائي (447) من طريق يحيى بن سعيد، عن هشام، قال: حدثني أبي أن بسرة بنت صفوان أخبرته... وذكر الحديث.
وقد صرح هشام بن عروة بالتحديث من أبيه، وصرح عروة بالسماع له من بسرة.
ووراه ابن حبان (1115) من طريق علي بن المبارك،
ورواه الدارقطني (1/148) من طريق أيوب، وابن عيينة وعبد الحميد بن جعفر فرقهم، أربعتهم عن هشام بن عروة به.
وهذا الطريق بحذف مروان بن الحكم طريق شاذ؛ لأمور:
أولاً: لمخالفته من رواه عن هشام، وقد وقفنا على ثمانية رواة: الثوري والحمادان وأبو أسامة وعبد الله بن إدريس وعلي بن مسهر ويزيد بن سنان وإسماعيل بن عياش كلهم رووه عن هشام بذكر مروان.
وثانياً: أن من رواه عن هشام بذكر مروان روايته موافقة لرواية مالك وشعبة وابن علية وابن عيينة وابن شهاب عن عبد الله بن أبي بكر.
وثالثاً: أن عبد الله بن أبي بكر لم يختلف عليه في الحديث، وهشام بن عروة مختلف عليه في إسناده، فإذا وافقت رواية هشام رواية عبد الله بن أبي بكر بذكر مروان قبلت من هذا الوجه، وصارت أرجح من غيرها، خاصة أن الذي يرويه عن هشام بذكر مروان من المتقدمين من أصحابه، وهم أكثر عدداً من غيرهم، والله أعلم.
وأما رواية من أثبت سماع عروة من مروان، ثم سماع عروة من بسرة مصدقة لمروان.
فقد رواه جماعة عن هشام:
الأول: شعيب بن إسحاق، وهو ثقة، رواه الداقطني (1/146) والحاكم (1/136) والبيهقي (1/129) من طريق الحكم بن موسى، عن شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة به. والحكم بن موسى، قال أبو حاتم: صدوق. وقال يحيى بن معين: ليس به بأس. وقال صالح بن محمد جزرة: الثقة المأمون، وفي التقريب: صدوق.
ورواه ابن حبان في صحيحه (1113) من طريق أحمد بن خالد بن عبد الملك، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا شعيب بن إسحاق به.
وأحمد بن خالد، قال عنه الدارقطني: ليس بشيء. انظر لسان الميزان (1/95) .
الثاني: المنذر بن عبد الله الحزامي، رواه الحاكم (1/137) من طريقه عن هشام به، والمنذر قال فيه الحافظ في التقريب مقبول: أي حيث يتابع، وإلا فلين الحديث.
الثالث: ربيعة بن عثمان، كما في المنتقى لابن الجارود (18) وربيعة صدوق له أوهام.
الرابع: عنبسة بن عبد الواحد، رواه الحاكم (1/137) ، ومن طريقه البيهقي (1/129) من طريق عبد الله بن عمر بن أبان، ثنا عنبسة بن عبد الوحد، وعنبسة ثقة، لكن الرواي عنه عبد الله بن عمر بن أبان صدوق فيه تشيع.
الخامس: حميد بن الأسود أبو الأسود، أخرجه البيهقي (1/130) من طريق علي بن المديني، عن حميد بن الأسود، عن هشام به.
وحميد في التقريب: صدوق يهم قليلاً.
واختلف العلماء في زيادة هؤلاء، فمنهم من اعتبر الحديث محفوظاً من طريق عروة، عن بسرة، وأن عروة سمعه من مروان، ثم سمعه من بسرة.
قال ابن حبان في صحيحه (3/397) : وأما خبر بسرة الذي ذكرناه، فإن عروة بن الزبير سمعه من مروان بن الحكم، عن بسرة، فلم يقنعه ذلك حتى بعث مروان له إلى بسرة، فسألها، ثم أتاهم فأخبرهم بمثل ما قالت بسرة، فسمعه عروة ثانياً عن الشرطي عن بسرة، ثم لم يقنعه ذلك حتى ذهب إلى بسرة فسمع منها، فالخبر عن عروة، عن بسرة متصل، وليس بمنقطع، وصار مروان والشرطي كأنهما عاريتان يسقطان من الإسناد. اهـ
وقال الحاكم (1/136) : نظرنا فوجدنا جماعة من الثقات الحفاظ رووا هذا عن هشام، عن أبيه، عن مروان عن بسرة، ثم ذكروا في روايتهم أن عروة قال: ثم لقيت بعد ذلك بسرة، فحدثتني بالحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حدثني مروان عنها، فدلنا ذلك على صحة الحديث وثبوته على شرط الشيخين، وزوال عنه الخلاف والشبهة، وثبت سماع عروة من بسرة.
وقال ابن حجر في التلخيص: وقد جزم ابن خزيمة وغير واحد من الأئمة بأن عروة سمعه من بسرة. اهـ
وصحح الدارقطني سماع عروة من بسرة.
وقال بعضهم: بأن عروة لم يسمعه من بسرة، وأن الصحيح من حديث عروة ما حدث به عن مروان، عنها، وهذا ما رجحه ابن معين، ونقلنا عبارته قبل، ورجحه ابن عبد البر وجماعة، وإليه تميل النفس للأسباب التالية:
الأول: أن هشام تفرد بهذه الزيادة، وهو قوله، " فسألت بسرة فصدقته " وقد رواه غير واحد عن عروة، ولم يذكر هذه الزيادة، منهم عبد الله بن أبي بكر، وأبوه أبو بكر بن محمد وأبو الأسود وعبد الرحمن بن أبي الزناد وغيرهم.
الثاني: أن هشام مع انفراده بهذه الزيادة، فقد اختلف عليه فيه، فقد روى الحديث عنه جماعة من الأئمة على رأسهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة والثوري وأبو أسامة وعبد الله بن إدريس ويزيد بن سنان وعلي بن مسهر وغيرهم، وهؤلاء لا يقارنون بمن رواه عن هشام بزيادة: فسألت بسرة فصدقته " لا من جهة الحفظ ولا من جهة العدد فإن كل من رواها عن هشام إما صدوق له أوهام أو مقبول في المتابعات فلم يصل أحد منهم إلى مرتبة الثقة إلا عنبسة ابن عبد الواحد والإسناد إليه حسن، فالراجح كما سبق أن فصلنا أن هذه الزيادة شاذة.
الثالث: يحتمل والله أعلم أن يكون السؤال الذي نسب إلى عروة بقوله " فسألت بسرة " باعتبار أن عروة طلب من مروان أن يرسل إلى بسرة ليسألها فأرسل إليها الحرسي، ونسب السؤال إلى عروة باعتباره هو من طلب سؤال بسرة، فقد جاء في المنتقى لابن الجارود (16) قلنا: أرسل إليها، فأرسل حرسياً أو رجلاً فجاء الرسول بذلك، وعليه يحمل ما جاء في الحديث: " فأنكر ذلك عروة، فسأل بسرة، فصدقته ".
وما رواية هشام، عن أبي بكر، عن عروة بذكر واسطة بين هشام وبين أبيه.
فرواه الطحاوي (1/73) من طريق الخصيب بن ناصح، قال: حدثنا همام، عن هشام بن عروة، قال: حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عروة أنه كان جالساً مع مروان... ثم ذكرا لحديث.
وقد انفرد الخصيب بن ناصح في هذا الإسناد بكون هشام سمع الحديث من أبي بكر، ولم يسمعه من أبيه، والخصيب بن ناصح قال أبو زرعة: ما به بأس إن شاء الله تعالى.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ، وفي التقريب: صدوق يخطئ.
قال النسائي في سننه (1/216) : هشام بن عروة لم يسمع من أبيه هذا الحديث.
وكذلك قال شعبة بن الحجاج كما في المعجم الكبير للطبراني (24/202) .
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/73) : هشام بن عروة لم يسمع هذا من أبيه، وإنما أخذه من أبي بكر.
فإن كان عمدة هذا القول هو طريق الخصيب بن ناصح، عن همام، عن هشام، فإننا لا نستطيع ترجيح هذا الطريق على سائر الطرق إلى هشام،
أولاً: أن من رواه عن هشام، عن عروة عدد كبير من الأئمة والحفاظ: منهم الثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأبو أسامة وعبد الله بن إدريس ويزيد بن سنان وعلي بن مسهر ويحيى بن سعيد القطان وشعيب بن إسحاق وربيعة بن عثمان والمنذر بن عبد الله الحزامي، وعنبسة بن عبد الوحد وحميد بن الأسود وإسماعيل بن عياش وعلي بن المبارك وعبد الحميد بن جعفر وغيرهم فهؤلاء ستة عشر راوياً، منهم أئمة متفق على إمامتهم وحفظهم لم يذكروا ما ذكره الخصيب بن ناصح، وقد تقدم تخريج طرقهم.
ثانياً: أن أحمد بن حنبل رواه في المسند (6/406،407) عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام، قال: حدثني أبي. وكذلك رواه الترمذي (82) ، والنسائي (447) بالتصريح بسماع هشام، عن أبيه.
ثالثاً: أن الطبراني في المعجم الكبير (24/202) رقم 519، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: قال شعبة: لم يسمع هشاماً حديث أبيه في مس الذكر، قال يحيى: فسألت هشاماً فقال: أخبرني أبي، إلا أن يحيى بن سعيد أدرك هشاماً في زمن الكبر.
فإن كان هناك متابع للخصيب بن ناصح على روايته عن هشام، عن أبي بكر، فالحمد لله فقد عرفنا الواسطة بين هشام وأبيه، وهو ثقة، وإن كان قد انفرد بهذا الطريق فالنظر يقضي بترجيح طريق عروة عن أبيه على طريق عروة عن أبي بكر، والله أعلم.
وقال الحافظ في التلخيص متعقباً كلام الطحاوي: رواه الجمهور من أصحاب هشام، عنه عن أبيه بلا واسطة، فإما أن يكون هشام سمعه من أبي بكر، ثم سمعه من أبيه، فكان يحدث به تارة هكذا، وتارة هكذا، أو يكون سمعه من أبيه، وثبته أبو بكر، فكان تارة يذكر أبا بكر، وتارة لا يذكره، وليست هذه علة قادحة عند المحققين. اهـ
وعلى كل حال، فرواية الخصيب بن ناصح، عن همام، عن هشام، عن أبي بكر، عن عروة هذه توافق رواية عبد الله بن أبي بكر وتوافق رواية الأكثر ممن رواه عن هشام بذكر مروان في الإسناد، وهذا الذي يعنينا: وهو أن المحفوظ من إسناد الحديث ذكر مروان فيه، والله أعلم.
وأما رواية هشام، عن عروة، عن عائشة.
فقد أخرجها الدارقطني (1/147) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون، ولا يتوضؤون. قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست أحداكن فرجها، فلتتوضأ للصلاة.
وضعفه الدارقطني بعبد الرحمن العمري.
وقال أحمد: كان كذاباً.
وقال النسائي وأبو حاتم وأبو زرعة: متروك، زاد أبو حاتم: وكان يكذب. اهـ
وجاء من طريق أخرى من مسند عائشة غير هذا الطريق، فقد جاء في كتاب العلل لابن أبي حاتم (1/36) سألت أبي عن حديث رواه حسن الحلواني، عن عبد الصمد بن
عبد الوارث، عن أبيه، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن المهاجر بن عكرمة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من مس ذكره فليتوضأ.
ورواه شعيب بن إسحاق، عن هشام، عن يحيى، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مس ذكره في الصلاة فليتوضأ. قال أبي: هذا حديث ضعيف، لم يسمعه يحيى من الزهري، وأدخل بينهم رجلاً ليس بالمشهور، ولا أعلم أحداً روى عنه إلا يحيى، وإنما يرويه الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو أن عروة سمع من عائشة لم يدخل بينهم أحداً، وهذا يدل على وهن الحديث.
هذا وجه الاختلاف على هشام في حديثه الوضوء من مس الذكر، وهذا الطريق وطريق الزهري قد اختلف عليهما اختلافاً كثيراً، فما وافق طريق عبد الله بن أبي بكر فهو صحيح، وما خالفه فهو إما منكر أو شاذ، والله أعلم. ولذلك قال ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/333) : الصحيح في حديث بسرة: عروة، عن مروان، عن بسرة، وكل من خالف هذا فقد أخطأ فيه عند أهل العلم، والاختلاف فيه كثير على هشام وعلى ابن شهاب، والصحيح فيه عنهما ما ذكرناه في هذا الباب، وقد كان يحيى بن معين يقول: أصح حديث في مس الذكر حديث مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة، وكان أحمد بن حنبل يقول نحو ذلك أيضاً. اهـ
الطريق الرابع: رواية أبي الأسود يتيم عروة، عن عروة.
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/73) حدثنا محمد بن الحجاج وربيع المؤذن، قالا: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، ثنا أبو الأسود، أنه سمع عروة يذكر عن بسرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -... الحديث.
وإسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة، وباقي رجاله ثقات إلا أسد بن موسى فإنه صدوق يغرب.
الطريق الخامس: عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عروة، عن بسرة، بدون ذكر مروان.
أخرجه الترمذي (82) حدثنا علي بن حجر، قالك حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة به.
وهذا إسناد ضعيف من أجل عبد الرحمن بن أبي الزناد؛ لأنه من رواية علي بن حجر، وهو بغدادي، وقد قال ابن المديني: ما حدث به بالمدينة فصحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون.
وقال النسائي: لا يحتج بحديثه.
وفي التقريب: صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً. وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات.
هذا ما وقفت عليه من طرق حديث بسرة، والراجح فيها كما قلت: طريق عروة، عن مروان، عن بسرة.
وللحديث شواهد كثيرة من حديث أم حبيبة وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهم، وسيأتي تخريجها في صلب الكتاب إن شاء الله تعالى.
أنظر أطراف المسند (8/396) ، تحفة الأشراف (15785) ، إتحاف المهرة (21362) .(9/715)
الدليل الثاني:
(1059-288) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معلى بن منصور، قال: حدثنا الهيثم ابن حميد، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عنبسة ابن أبي سفيان،(9/730)
عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مس فرجه فليتوضأ (1) .
[إسناده منقطع] (2) .
_________
(1) المصنف (1/150) ح 1724.
(2) دراسة الإسناد: الأول: معلى بن منصور، روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة سني فقيه، طلب للقضاء فامتنع، أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب.
الثاني: الهيثم بن حميد: قال أحمد فيه: لا أعلم إلا خيراً.
وقال يحيى بن معين: لا بأس به. وفي رواية أخرى عنه، قال: ثقة.
وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال أبو داود: ثقة.
وقال أبو زرعة: فأعلم أهل دمشق بحديث مكحول، وأجمعه لأصحابه الهيثم بن حميد.
وقال عبد الرحمن بن إبراهيم: الهيثم بن حميد كان أعلم الآخرين والأولين بقول مكحول.
ولا أعلم أحداً جرحه إلا علي بن مسهر، وهو جرح غير مفسر لا يقدم على التعديل.
وفي التقريب: صدوق رمي بالقدر.
الثالث: العلاء بن الحارث، قال ابن سعد فيه: كان قليل الحديث، ولكنه كان أعلم أصحاب مكحول، وأقدمهم، وكان يفتي حتى خولط.
وقال أبو حاتم: لا أعلم في أصحاب مكحول أوثق منه.
وقال صاحب الكواكب النيرات (339) : أطلق يحيى بن معين وعلي المديني ويعقوب بن سفيان ودحيم وأبو داود القول بتوثيقه، لكنه خلط.
في التقريب: صدوق فقيه رمي بالقدر، وقد اختلط. اهـ
ولم أجد أحداً نص على من سمع منه قبل الاختلاط أو بعده، لكن يمكن أن يقال: ما دام أن الراوي عن العلاء بن الحارث هو الهيثم بن حميد، والهيثم من أصحاب مكحول، فاشتراكه هو وشيخه العلاء بن الحارث في السماع من مكحول دليل على أن الهيثم من كبار أصحاب العلاء، فإذا أضفت إلى ذلك أن الرواي عن العلاء قد قيل فيه: أنه من أعلم الناس بقول مكحول، زال ما يخشى من خطأ العلاء بسبب اختلاطه، ثم إن جميع من تكلم في الحديث لم يعلوه بالعلاء، وإنما تكلموا فيه هل سمع مكحول من عنبسة أم لا؟ وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات، ومع ذلك فالإسناد منقطع، حيث قال البخاري ويحيى بن معين أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي: لم يسمع مكحول من عنبسة. انظر جامع التحصيل (796) ، تهذيب التهذيب (10/258) ، تلخيص الحبير (1/217) .
وخالفهم دحيم، قال الحافظ في التلخيص (1/217) : وهذا أعرف بحديث الشاميين، فأثبت سماع مكحول من عنبسة. اهـ
لكن يعارض أبا دحيم قولُ يحيى بن معين: قال أبو مسهر: لم يسمع مكحول من عنبسة. وأبو مسهر شامي، وهو أكبر من دحيم، وقد قال يحيى بن معين في ترجمة أبي مسهر: من ثبت أبو مسهر من الشاميين فهو مثبت، وقال أيضاً: إن الذي يحدث بالبلد، وبها من هو أولى منه بالحديث أحمق، إذا رأيتني أحدث ببلدة فيها مثل أبي مسهر فينبغي للحيتي أن تحلق، فإذا أضفت إلى قول أبي مسهر قول الأئمة كالبخاري والنسائي وأبي زرعة وأبي حاتم ويحيى بن معين لم تكن كفة أبي دحيم راجحة عليهم، وعلى كل سواء رجحنا سماعه أم لا فإن مكحول مدلس، وقد عنعن، وهو من المكثرين فعنعنته على الانقطاع، والله أعلم.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة: مكحول الدمشقي مدلس وقد رواه بالعنعنة، فوجب ترك حديثه لا سيما وقد قال البخاري في التاريخ الصغير وأبو زرعة وهشام بن عمار وأبو مسهر وغيرهم إنه لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان، فالإسناد منقطع. اهـ
وأعله البخاري بعلة أخرى، قال في التاريخ الكبير (7/37) : روى الهيثم بن حميد، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عنبسة، عن أم حبيبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مس الذكر، ويرونه وهماً؛ لأن النعمان بن المنذر قال: عن مكحول، أن ابن عمر مرسل كان يتوضأ منه. اهـ
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه ابن ماجه (481) من طريق ابن أبي شيبة به.
وأخرجه ابن ماجه أيضاً والطبراني في الكبير (23/235) ح 451 من طريق مروان بن محمد.
وأخرجه أبو يعلى في مسند (7144) والطبراني في الكبير (23/235) رقم 45 والطحاوي (1/75) ، والبيهقي (1/130) من طريق أبي مسهر.
وأخرجه الطحاوي (1/75) أيضاً من طريق عبد الله بن يوسف، كلهم رووه عن الهيثم ابن حميد به.
انظر تحفة الأشراف (15864)(9/731)
الدليل الثالث:
(1060-289) ما وراه الطبراني في المعجم الصغير، قال: قال: حدثنا أحمد بن عبد الله ابن العباس الطائي البغدادي، حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك النوفلي،
عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب، فقد وجب عليه الوضوء.
قال الطبراني: لم يروه عن نافع إلا عبد الرحمن بن القاسم الفقيه المصري، ولا عن عبد الرحمن إلا أصبغ، تفرد به أحمد بن سعيد (1) .
[إسناده حسن] (2) .
_________
(1) المعجم الصغير (1/42) .
(2) دراسة الإسناد:
أحمد بن عبد الله بن العباس الطائي له ترجمة في تاريخ بغداد، وسكت عليه فلم يذكر فيه جرحاً. تاريخ بغداد (4/220) ، لكنه قد توبع كما في صحيح ابن حبان، تابعه علي بن أحمد بن سليمان العدل وعمران بن فضالة الشعيري بالموصل، انظر الموارد (1445) .
أحمد بن سعيد الهمداني، قال النسائي: ليس بالقوي.
وقال أبو عبد الرحمن النسوي: لو رجع أحمد بن سعيد الهمداني عن حديث بكير بن الأشج في الغار لحدثت عنه.
ووثقه أحمد بن صالح.
وقال زكريا الساجي: ثبت.
ووثقه العجلي.
وذكره ابن حبان في الثقات، وخرج له في صحيحه،.
وقال الذهبي: لا بأس به.
وقال أبو علي الغساني: كان مقدماً في الحديث فاضلاً. انظر حاشية تهذيب الكمال للدكتور بشار (1/3147) .
ـ أصبغ بن الفرج، قال أبو حاتم: صدوق، وقال: كان أجل أصحاب ابن وهب.
ووثقه العجلي، وقال مرة: لا بأس به.
وقال أبو علي بن السكن: ثقة ثقة.
ووثقه ابن حبان، وخرج له هو وابن خزيمة في صحيحيهما.
وقال ابن معين: كان من أعلم خلق الله كلهم برأي مالك، يعرفها مسألة مسألة متى قالها مالك، ومن خالفها فيها. وفي التقريب: ثقة.
ـ عبد الرحمن بن القاسم: قال النسائي: ثقة مأمون، أحد الفقهاء،
وقال الحاكم أبو عبد الله: ثقة مأمون،
ووثقه الخطيب، وروى له البخاري وفي التقريب: ثقة.
ـ يزيد بن عبد الملك، في التقريب: ضعيف. اهـ
لكن تابعه نافع بن عبد الرحمن أبو نعيم القاري، وقد وثقه يحيى بن معين وقال أحمد: كان يؤخذ عنه القرآن، وليس في الحديث بشيء، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي فيه كلاماً منه: لم أر في أحاديثه شيئاً منكراً، وأرجو أنه لا بأس به.
وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث.
وقال الساجي: صدوق اختلف أحمد ويحيى، فقال أحمد: منكر الحديث، وقال يحيى بن معين: ثقة. وفي التقريب: صدوق ثبت بالقراءة.
فالإسناد حسن من طريق نافع وحده، وأما يزيد بن عبد الملك فإنه على ضعفه قد اختلف عليه في إسناده، فقال الحافظ في التلخيص (1/220) أدخل البيهقي في الخلافيات بين يزيد بن عبد الملك النوفلي وبين المقبري رجلاً؛ فإنه أخرجه من طريق الشافعي، عن عبد الله ابن نافع، عن النوفلي، عن أبي موسى الحناط، عن المقبري به، وقال: قال ابن معين: أبو موسى هذا رجل مجهول. اهـ
قلت: عبد الله بن نافع ضعيف، لكن أخرجه الطبراني أيضاً كما في مجمع البحرين
(450) من طريق خالد بن نزار، ثنا يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن أبي موسى الحناط به.
وهذا إسناد ضعيف أيضاً، مقدام بن داود ضعفه النسائي والدارقطني.
وقال مسلمة بن قاسم: روايته لا بأس بها.
وخالد بن نزار، صدوق يخطئ.
وقد رواه عن يزيد جماعة من الرواة لم يذكروا فيه أبا موسى، منهم: معن بن عيسى القزاز، وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن يزيد وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وإسحاق بن محمد الفروي وغيرهم، لكن يزيد متكلم فيه، وقد تابعه أبو نعيم القارئ، وهو صدوق، فيكون الحديث صحيحاً لغيره، والله أعلم.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه ابن حبان كما في الموارد (210) من طريقين عن أحمد بن سعيد الهمداني به بإسناد الطبراني بذكر أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك.
وأخرجه الحاكم (1/138) من طريق أبي نعيم وحده، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري به، وقال: هذا حديث صحيح.
وأخرجه من طريق يزيد بن عبد الملك وحده جماعة منهم:
الشافعي في الأم (1/19) ومن طريق الشافعي أخرجه البغوي في شرح السنة (166) عن سليمان بن عمرو ومحمد بن عبد الله.
وأخرجه أحمد (2/333) عن يحيى بن يزيد بن عبد الملك.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/74) والبزار كما في كشف الأستار
(286) من طريق معن بن عيسى القزاز.
وأخرجه الدارقطني (1/147) من طريق عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، كلهم عن يزيد بن عبد الملك النوفلي به.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/245) رواه أحمد والطبراني في الأوسط والصغير، وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي، وقد ضعفه أكثر الناس، ووثقه يحيى بن معين ولم ينتبه الهيثمي لمتابعة نافع.
وحسن إسناده ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/335، 336) من طريق أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا أصبغ بن فرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، حدثنا نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة.
قال ابن عبد البر: قال ابن السكن: هذا الحديث من أجود ما روي في هذا الباب، لرواية ابن القاسم له عن نافع بن أبي نعيم، وأما يزيد فضعيف. اهـ
قال ابن عبد البر: كان هذا الحديث لا يعرف إلا ليزيد بن عبد الملك النوفلي هذا، وهو مجمع على ضعفه، حتى رواه عبد الرحمن بن القاسم - صاحب مالك - عن نافع بن أبي نعيم القاري، وهو إسناد صالح إن شاء الله تعالى، وقد أثنى ابن معين على عبد الرحمن بن القاسم وقد أثنى ابن معين على عبد الرحمن بن القاسم في حديثه ووثقه، وكان النسائي يثني عليه أيضاً في نقله عن مالك لحديثه، ولا أعلم يختلفون في ثقته، ولم يرو هذا الحديث عنه، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك إلا أصبغ بن الفرج، وأما سحنون فإنما رواه عن ابن القاسم عن يزيد وحده، وذكر عن ابن القاسم أنه استقر قوله أنه لا إعادة على من مس ذكره وصلى لا في وقت ولا في غيره، واختار ذلك سحنون أيضاً. اهـ
فتبين من كلام ابن عبد البر رحمه الله تعالى أن ابن القاسم هو الذي انفرد بذكر نافع بن أبي نعيم في الإسناد، وأنه قد اختلف عليه فرواه أصبغ بن الفرج بزيادة نافع، ورواه سحنون عن ابن القاسم عن يزيد بن عبد الملك وحده،
قلت: كذلك رواه البيهقي في الخلافيات (522، 523) من طريق يحيى بن بكير: قال: ثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن يزيد بن عبد الملك النوفلي وحده، ولم يذكر في الإسناد نافع ابن أبي نعيم.
وقد ذكره الدارقطني في العلل (8/131) وصوب وقفه على أبي هريرة.
والحديث شاهد لحديث بسرة وأم حبيبة رضي الله عنهما.
انظر إتحاف المهرة (18426) ، أطراف المسند (7/245) .(9/733)
الدليل الرابع:
(1061-290) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الجبار بن محمد (يعني: الخطابي) حدثني بقية، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس ذكره فليتوضأ، وأي امرأة مست فرجها فلتتوضأ (1) .
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (2) .
_________
(1) المسند (2/223) .
(2) دراسة الإسناد:
الأول: عبد الجبار بن محمد، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه جماعة، انظر تعجيل المنفعة (603) .
ولم ينفرد به بل تابعه جماعة منهم الإمام إسحاق بن راهوية كما في مسنده وفي الاعتبار للحازمي.
وتابعه أيضاً أحمد بن الفرج الحمصي كما في منتقى ابن الجارود (19) .
وتابعه كذلك الخطاب بن عثمان الفوزي، كما في شرح معاني الآثار (1/75) .
الثاني: بقية، ثقة في حديثه عن الشاميين، صدوق في غيرهم، وشيخه هنا شامي، وأما ما يتهم به من تدليس التسوية فذاك مشهور عنه، فلا بد أن يصرح بالتحديث من شيخه وشيخ شيخه، وقد صرح في إسناد ابن الجارود في المنتقى بالتحديث من شيخه الزبيدي، وصرح الزبيدي بالتحديث من شيخه عمرو بن شعيب، وأما عنعنة عمرو عن أبيه، وعنعنة أبيه عن جده فلا يتحملها بقية؛ لأن رواية عمرو عن أبيه عن جده أكثرها صحيفة، فهي تروى هكذا بالعنعنة، فلا تكون تبعتها على بقية، وسند عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مختلف فيه، والذي أميل إليه أن هذا الإسناد من قبيل الحسن، وقد حررت النقول عن أهل العلم في كتاب الحيض والنفاس، وهو مطبوع فارجع إليه إن شئت.
وقد قال الترمذي في العلل الكبير (1/161) : قال محمد - يعني البخاري - حديث عبد الله بن عمرو في مس الذكر هو عندي صحيح. اهـ
وقال الحازمي: هذا إسناد صحيح؛ لإن إسحاق بن إبراهيم إمام غير مدافع، وقد أخرجه في مسنده، وبقية ثقة في نفسه، وإذا روى عن المعروفين فمحتج به، وقد أخرج مسلم بن الحجاج فمن بعده من أصحاب الصحاح حديثه محتجين به، والزبيدي هو من محمد بن الوليد قاض دمشق من ثقات الشاميين محتج به في الصحاح كلها، وعمرو بن شعيب ثقة باتفاق أئمة الحديث وإذا روى عن غير أبيه لم يختلف أحد في الاحتجاج به، وأما روايته عن أبيه، عن جده فالأكثر على أنها متصلة، ليس فيها إرسال ولا انقطاع.... الخ كلامه رحمه الله.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه الحازمي في الاعتبار (ص: 44) من طريق إسحاق بن راهوية.
وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (19) والدارقطني (1/147) ، والبيهقي في السنن
(1/132) عن أحمد بن الفرج الحمصي.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/75) من طريق الخطاب بن عثمان الفوزي، كلهم عن بقية بن الوليد به.
وأخرجه البيهقي (1/132،133) من طريق حمزة بن ربيعة، ثنا يحيى بن راشد، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، فذكر بإسناده ومعناه. قال البهيقي: وهكذا رواه عبد الله بن المؤمل، عن عمرو.
قلت: هكذا قال البيهقي: فذكر بإسناده ومعناه، وظاهر فعل البيهقي أن الإسناد هو نفس إسناد حديث الزبيدي ومعناه، وبالرجوع إلى كتب السنة لمعرفة الإسناد والمعنى وجدت فيه بعض المخالفة التي لم ينبه عليها البيهقي رحمه الله تعالى.
فقد روى الطبراني كما في مجمع البحرين (452) حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن بسرة بنت صفوان سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة تدخل يدها في فرجها، فقال: عليها الوضوء.
وحديث بسرة المعروف أنه في مس الذكر كما بينا في تخريج الدليل الأول، خاصة أن هذا الإسناد فيه سليمان بن داود المنقري، وهو متروك، وفيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو صدوق يخطئ، وقد رمي بالقدر، وتغير بآخره.
وتابعه عبد الله بن المؤمل كما في شرح معاني الآثار (1/75) ، وعبد الله ضعيف.
فالمعروف من حديث عمرو بن شعيب، أنه ليس فيه ذكر لبسرة بنت صفوان.
ورواه إسحاق بن راهوية (5/68) والبيهقي (1/133) من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن بسرة بنت صفوان إحدى نساء بني كنانة، أنها قالت: يا رسول الله كيف ترى في إحدانا تمس فرجها، والرجل يمس ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تتوضأ يا بسرة بنت صفوان. قال عمرو: وحدثني سعيد بن المسيب أن مروان أرسل إليها ليسألها، فقالت: وعني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده فلان وفلان وفلان وعبد الله بن عمرو، فأمرني بالوضوء.
وهذا إسناد منكر تفرد به المثنى بن الصباح، وهو ضعيف، وقد خالف فيه من هو أوثق منه: محمد بن الوليد الزبيدي في إسناده ومتنه. قال البيهقي: خالفهم المثنى بن الصباح عن عمرو في إسناده، وليس بالقوي. اهـ
إتحاف المهرة (11703) ، أطراف المسند (4/50)(9/737)
الدليل الخامس:
(1062-291) ما رواه الشافعي في الأم، قال: أخبرنا عبد الله بن نافع، عن ابن أبي ذئب، عن عقبة بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان،
عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ (1) .
[رفعه منكر، والمعروف أنه مرسل] (2) .
_________
(1) الأم (1/19) .
(2) في إسناده: عبد الله بن نافع، جاء في ترجمته:
قال أحمد: لم يكن صاحب حديث، كان ضيقاً فيه، وكان صاحب رأي مالك، وكان يفتي أهل المدينة برأي مالك، ولم يكن في الحديث بذاك. الجرح والتعديل (5/183) .
وقال أبو زرعة: لا بأس به. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: ليس بالحافظ، هو لين تعرف حفظه وتنكر، وكتابه أصح. المرجع السابق.
وقال البخاري: يعرف حفظه وينكر، وكتابه أصح. التأريخ الكبير (5/213) .
وقال أيضاً: في حفظه شيء. تهذيب التهذيب (6/47) .
وقال النسائي: ليس به بأس. وقال في موضع آخر: ثقة. المرجع السابق.
وقال الدارقطني: فقيه يعتبر به. المرجع السابق.
وفي التقريب: ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين.
وقد توبع في الإسناد فزال ما يخشى من قبل حفظه كما سيأتي في تخريج الحديث، ولكن علة الحديث عقبة بن عبد الرحمن لم يرو عنه إلا ابن أبي ذئب، ولم يوثقه إلا ابن حبان.
وقال ابن المديني: شيخ مجهول.
وقال الذهبي في الميزان (3/86) : لا يعرف، له عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر، وعنه ابن أبي ذئب: من مس فرجه فليتوضأ، قال البخاري: لا يصح خبره. اهـ
وفي التقريب: مجهول.
وفي تلخيص الحبير (1/216) قال ابن عبد البر: إسناده صالح.
لكن قال ابن عبد البر في التهذيب (7/245) غير مشهور بحمل العلم.
وقال الضياء: لا أعلم بإسناده بأساً. قلت: هذا الكلام لا يتفق مع ما قيل في ترجمته، فقد جهله ابن المديني والحافظان الذهبي وابن حجر، والله أعلم.
كما أن للحديث علة أخرى، فقد اختلف في وصله وإرساله كما سيأتي إن شاء الله تعالى في تخريج الحديث.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه البيهقي (1/134) من طريق الشافعي به.
وأخرجه ابن ماجه (481) من طريق معن بن عيسى وعبد الله بن نافع جميعاً عن ابن أبي ذئب به، وهذه متابعة من معن وهو ثقة لعبد الله بن نافع، ولكن علة الحديث كما أفصحت ليست من ابن نافع، ولكن من عقبة بن عبد الرحمن.
وأخرجه الطحاوي (1/74) من طريق دحيم، ثنا عبد الله بن نافع به.
والحديث على ضعفه اختلف في وصله وإرساله، وهذا الاختلاف والله أعلم من قبل عقبة بن عبد الرحمن، وهو دليل على ضعفه.
فقد أخرجه الشافعي في الأم (1/19) ومن طريقه البيهقي (1/134) عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن عقبة بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ.
وأخرجه الطحاوي (1/75) من طريق أبي عامر، ثنا ابن أبي ذئب به مرسلاً.
قال الشافعي: وسمعت غير واحد من الحفاظ يروونه لا يذكرون فيه جابراً.
وقال الطحاوي: كل من رواه عن ابن أبي ذئب من الحفاظ يقطعه، ويوقفه على محمد ابن عبد الرحمن.
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/19) : سألت أبي عن حديث رواه دحيم، عن عبد الله ابن نافع الصائغ، عن ابن أبي ذئب، عن عقبة بن عبد الرحمن بن أبي معمر، عن محمد بن
عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من مس ذكره فليتوضأ. قال أبي هذا خطأ، الناس يروونه عن ابن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، لا يذكرون جابراً.
انظر طرقه في إتحاف المهرة (3121) ، تحفة الأشراف (2591) .(9/739)
الدليل السادس:
(1063-292) ما رواه الدارقطني من طريق إسحاق بن محمد الفروي، نا عبد الله بن عمر، عن نافع،
عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مس ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/147) .
(2) في إسناده إسحاق بن محمد الفروي، جاء في ترجمته:
قال أبو حاتم: كان صدوقاً، ولكنه ذهب بصره، فربما لقن الحديث، وكتبه صحيحة. الجرح والتعديل (2/233) .
وقال النسائي: ليس بثقة. الضعفاء والمتروكين (49) .
وسكت عليه البخاري في التاريخ الكبير (1/401) .
وفي الضعفاء للعقيلي: جاء عن مالك بأحاديث كثيرة لا يتابع عليها، وسمعت أبا جعفر الصائغ يقول: كان إسحاق الفروي كَفَّ وكان يلقن. الضعفاء الكبير (1/106) .
وقال الآجري: سألت أبا داود فوهاه جداً. تهذيب التهذيب (1/217) .
وقال الدارقطني: لا يترك. المرجع السابق.
وفي التقريب: صدوق كف، فساء حفظه، وقد روى له البخاري.
وفي إسناده أيضاً عبد الله العمري ضعيف في حفظه.
والحديث قد رواه ابن عدي في الكامل (4/142) من طريق عثمان بن معبد بن نوح به، وله طرق كثيرة إلى ابن عمر، هذا أحدها.
الثاني: ما رواه الطحاوي (1/74) ، والبزار (285) من طريق صدقة بن عبد الله، عن هاشم بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من مس فرجه فليتوضأ.
وفي الإسناد: صدقة بن عبد الله بن هاشم، قال أحمد: ليس بشيء.، ضعيف الحديث.
وضعفه يحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة والنسائي.
وقال مسلم: منكر الحديث.
وقال دحيم في رواية: ثقة. وقال في رواية أخرى: مضطرب الحديث، ضعيف. وفي التقريب: ضعيف.
وفي إسناده أيضاً: هاشم بن زيد، هكذا في إسناد البزار، وفي الطحاوي: هشام بن زيد، ولعل ما في البزار هو الصواب، وله ترجمة في الجرح والتعديل (9/103) قال أبو حاتم: ضعيف.
وقال الهيثمي في المجمع (1/245) : في سند البزار هاشم بن زيد، وهو ضعيف جداً.
وقال الطحاوي: ليس من أهل العلم الذين تثبت بروايتهم مثل هذا.
الطريق الثالث: ما رواه الطحاوي (1/74) ، والطبراني في الكبير (12/217) ، وابن عدي في الكامل (5/223) من طريق العلاء بن سليمان، عن الزهري، عن سالم،
عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس ذكره فليتوضأ.
قال ابن عدي: العلاء منكر الحديث، ويأتي بأسانيد ومتون لا يتابعه عليها أحد.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/245) : وفي سند الكبير العلاء بن سليمان، وهو ضعيف جداً.
الطريق الرابع: ما رواه البيهقي في المعرفة (1/391،392) قال: أخبرنا أبو سعد الماليني، ثنا أبو أحمد بن علي الحافظ، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا عبد الرحمن بن سلام، ثنا سليم ابن مسلم أبو مسلم، عن ابن جريج، عن عبد الواحد بن قيس، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من مس ذكره فليتوضأ.
ورواه ابن عدي في الكامل (3/319) في ترجمة سليم بن مسلم، وسليم هذا، قال النسائي فيه: متروك الحديث. الكامل (3/319) .
وقال ابن معين جهمي خبيث.
وقال أخرى: ليس بثقة. المرجع السابق.
وقال أحمد: رأيته بمكة، ليس يسوى حديثه شيئاً، ليس بشيء، وكان يتهم برأي جهم. العلل (2/307) .
وقال أبو حاتم: منكر الحديث. الجرح والتعديل (3/314) .
وقال أبو زرعة: ليس بقوي. المرجع السابق.
وعبد الواحد لا يروي عن ابن عمر، وإنما يروي عن نافع عنه، ففي الإسناد انقطاع، قال ابن حبان في المجروحين (2/153) : شيخ يروي عن نافع، وروى عنه الأوزاعي، والحسن ابن ذكوان، ممن ينفرد بالمناكير عن المشاهير، فلا يجوز الاحتجاج بما خالف الثقات، فإن اعتبر معتبر بحديثه الذي لم يخالف الأثبات فيه فحسن. اهـ
الطريق الخامس: ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (4/310) من طريق عبد العزيز ابن أبان، حدثنا سفيان الثوري، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا ضعيف جداً؛ فيه عبد العزيز بن أبان، قال في التقريب: متروك، وكذبه ابن معين وغيره، ونسبه الحافظ في تلخيص الحبير (1/218) إلى الحكم في المستدرك، ولم أجده فيه، ولم يذكره الحافظ في إتحاف المهرة، والمعروف من حديث ابن عمر موقوفاً عليه.
وانظر في مراجعة طرق الحديث: إتحاف المهرة (10618) و (11437) و (9564) .(9/741)
الدليل السابع:
(1064-293) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا سفيان بن وكيع، ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق ابن أبي فروة، عن الزهري، عن عبدالرحمن بن عبد القاري،
عن أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مس فرجه فليتوضأ (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الثامن:
(1065-294) ما رواه الخطيب في تاريخه من طريق ناجية بن حبان ابن بشر، حدثنا عمر بن سعيد بن سنان المنبجي بالمصيصة، قال: حدثنا الضحاك بن حجوة، قال: حدثنا هيثم بن جميل، قال: حدثنا أبو هلال الراسبي، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر،
عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من مس ذكره فليتوضأ (3) .
[الحديث ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (482) .
(2) في إسناده سفيان بن وكيع، قال عنه الحافظ في التقريب: كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراق فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه.
وفيه إسحاق بن أبي فروة، قال البوصيري في الزوائد: اتفقوا على ضعفه، وقد سبقت ترجمته في حديث ابن عمر المتقدم.
انظر تحفة الأشراف (3470) .
(3) تاريخ بغداد (13/425) .
(4) في إسناده الضحاك بن حجوة، قال الدارقطني: كان يضع الحديث. المغني (1/311) .
وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه إلا للمعرفة فحسب. المجروحين (1/379) .
وفيه أيضاً: ناجية بن حيان البغدادي، ذكره الخطيب ولم يذكر فيه جرجاً ولا تعديلاً. تاريخ بغداد (513/425) .
وفيه أبو هلال الراسبي، وهو محمد بن سليم البصري، قال ابن سعد: فيه ضعف. تهذيب التهذيب (9/173) .
قال البخاري: كان يحيى بن سعيد لا يروي عنه، وكان ابن مهدي يروي عنه. التاريخ الكبير (1/105) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (516) .
وقال ابن معين: صويلح. الجرح والتعديل (7/273) .
وقال مرة: صدوق. تهذيب التهذيب (9/173) .
وقال أحمد: قد احتمل حديثه، إلا أن يخالف في حديث قتادة، وهو مضطرب الحديث عن قتادة. الجرح والتعديل (7/273) .
في التقريب: صدوق فيه لين.(9/744)
أدلة من قال: لا يجب الوضوء من مس الذكر مطلقاً.
الدليل الأول:
(1066-295) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق،
عن أبيه طلق بن علي، قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا معه، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الذكر في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلا بضعة أو مضغة منك (1) .
[إسناده فيه ضعف تفرد به قيس بن طلق، ولم يتابعه عليه أحد] (2) .
_________
(1) المصنف (1/152) .
(2) في إسناده قيس بن طلق، ومع كونه لين الحديث، فقد انفرد بهذا الحديث، والصدوق إذا انفرد بحديث، وكان هو الأصل في الباب، ولا يعلم له أصل غيره لم يقبل تفرده، هذا هو عمل المتقدمين، فكيف إذا انفرد بالحديث رجل متكلم فيه، جاء في ترجمته:
قال الدراقطني: ليس بالقوي.
وقال أحمد: غيره أثبت منه. تهذيب التهذيب (8/356) .
وهذه العبارة من عبارات الجرح، بخلاف ما لو قال: فلان أثبت منه، وذكر اسمه، فيحمل على أن كلاً منهما ثبت، وأحدهما أثبت من الآخر.
وقال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق، فلم نجد من يعرفه، بما يكون لنا قبول خبره؟! المرجع السابق.
وقال الدارقطني في سننه (1/139) ، ونقله عنه البيهقي في السنن (1/135) : قال: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث محمد بن جابر، فقالا: قيس بن طلق ليس ممن تقوم به حجة، ووهناه، ولم يثبتاه. اهـ
وتعقب هذا الكلام أحد المعاصرين، قائلاً: كيف يفلت محمد بن جابر من تبعة الحديث، وتلصق بقيس بن طلق، وقيس وثقه ابن معين وغيره، بل الآفة ابن جابر هذا، ولكنه لم يتفرد بالحديث، فقد تابعه عبد الله بن بدر، عن قيس. اهـ
قلت: لم يتكلم أبو زرعة وأبو حاتم عن محمد بن جابر؛ لأن مدار الحديث على قيس بن طلق، فكلامهما منصب على من يدور عليه الحديث، وأما معارضة جرح أبي زرعة وأبي حاتم بتوثيق ابن معين فليس كلام ابن معين حجة على أبي زرعة وعلى أبي حاتم لكونهما من أئمة الجرح والتعديل، فكيف وقد وافق كلامهما كلام الإمام أحمد والشافعي والدارقطني وابن معين في إحدى الروايتين عنه!
وقد اختلف قول ابن معين فيه، فقد ضعفه في رواية كما نقل ذلك سبط ابن العجمي في حاشيته على الكاشف، وذكر ذلك الحافظ الذهبي في الميزان (3/397) .
وأما ما أخرجه الحاكم في المستدرك (1/139) : ومن طريقه البيهقي (1/135) عن عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي، ثنا رجاء بن مرجي الحافظ، قال: اجتمعنا في مسجد الخيف، أنا وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين، فتناظروا في مس الذكر، فقال يحيى بن معين: يتوضأ منه، وقال علي بن المديني بقول الكوفيين، وتقلد قولهم، واحتج يحيى بن معين بحديث بسرة بنت صفوان، واحتج علي بن المديني بحديث قيس بن طلق، عن أبيه، وقال ليحيى بن معين: كيف تتقلد إسناد بسرة، ومروان إنما أرسل شرطياً حتى رد جوابها إليه؟ فقال يحيى: لم يقنع عروة حتى أتى بسرة فسألها، وشافهته بالحديث، ثم قال يحيى: ولقد أكثر الناس في قيس بن طلق، وأنه لا يحتج بحديثه.... الخ المناظرة.
فهذا إسناد ضعيف جداً، لأن في إسناده عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي، قال عنه في الميزان (2/524) : لقيه أحمد بن عدي، واتهمه بالكذب في روايته عن علي بن حجر ونحوه... وضعفها ابن التركماني في الجوهر النقي (1/135) ، والمعتمد في تضعيف يحيى بن معين ما نقله الذهبي وسبط بن العجمي، لا هذه الرواية.
وقد وثقه ابن معين في رواية، قال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين، قلت: عبد الله بن النعمان، عن قيس بن طلق؟ قال: شيوخ يمامية ثقات.
وجاء في نصب الراية للزيلعي (1/62) : ذكر عبد الحق في أحكامه حديث طلق، وسكت عنه، فهو صحيح عنده على عادته في مثل ذلك، وتعقبه ابن القطان في كتابه، فقال: إنما يرويه قيس بن طلق، عن أبيه، وقد حكى الدارقطني في سننه، عن ابن أبي حاتم أنه سأل أباه وأبا زرعة عن هذا الحديث، فقالا: قيس بن طلق... وذكر الكلام المتقدم عنهما. ثم قال ابن القطان: والحديث مختلف فيه، فينبغي أن يقال فيه: حسن، ولا يحكم بصحته. اهـ
قلت: هل كل حديث يختلف في صحته وضعفه يكون حسناً؟ ! حتى الراوي إذا اختلف في توثيقه وتضعيفه لا يجعل حديثه من قبيل الحسن، بل هناك قواعد في هذا، منها إذا ثبت الجرح والتعديل من أئمة معتبرين لم يعرف عنهما التشدد ولا التساهل كان الجرح مقدماً، لأن مع الجارح زيادة علم ليست مع المعدل، فإذا تأملت قيساً هذا رأيت أن من جرح قيس بن طلق كالإمام أحمد وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني والشافعي وابن معين في إحدى الروايتن عنه، فهولاء لا شك أنهم مقدمون في جرحهم على توثيق ابن حبان والعجلي، وأما ابن حجر فقد قال في التقريب: صدوق، ومعلوم أن ابن حجر قد رزق اعتدالاً وسبراً إلا أن عمدته كلام المتقدمين، وقد علمت أقوالهم فيه، ولا أعلم أحداً تابع قيس بن طلق في حديثه عن أبيه، كما لا أعلم شاهداً معتبراً لحديث طلق هذا، فلذا أجد نفسي تميل إلى تليين قيس بن طلق، ولا أجرؤ على مخالفة الإمام أحمد وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني لكلام ابن حبان والعجلي، والله أعلم.
[تخريج الحديث] .
الحديث مداره على قيس بن طلق، عن أبيه، ويرويه عن قيس جماعة، منهم:
الأول: عبد الله بن بدر، عن قيس به. أخرجه ابن أبي شيبة كما في إسناد الباب، وأبو داود (182) ، والترمذي (85) ، والنسائي (165) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/75،76) ، والدارقطني (1/149) ، والبيهقي في السنن (1/134) من طريق ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر به.
الثاني: محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، أخرجه عبد الرزاق (426) عن هشام بن حسان.
وأخرجه أحمد (4/23) عن موسى بن داود.
وأخرجه أبو داود (183) عن مسدد.
وأخرجه ابن ماجه (483) من طريق وكيع.
وأخرجه الدارقطني (1/149) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل.
وأخرجه بن الجارود (20) ، والطحاوي (1/75) ، والحازمي في الاعتبار (ص:81) من طريق سفيان،
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8/330) من طريق يحيى بن إسحاق السيلحيني، كلهم عن محمد بن جابر به.
ومحمد بن جابر، جاء في ترجمته:
قال البخاري: محمد بن جابر، عن قيس بن طلق وحماد ليس بالقوي عندهم. ضعفاء البخاري (313) ، الضعفاء الكبير (4/41) .
وقال أحمد: كان محمد بن جابر ربما ألحق في كتابه أو يلحق في كتابه - يعني الحديث - الجرح والتعديل (7/219) .
وقال يحيى بن معين: كان أعمى واختلط عليه حديثه، وكان كوفياً، فانتقل إلى اليمامة، وهو ضعيف. المرجع السابق.
وقال عمرو بن علي: صدوق كثير الوهم. المرجع السابق، زاد ابن عدي عنه في الكامل (6/148) : متروك الحديث.
وقال أبو حاتم: ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقن، وكان
عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه، ثم تركه بعد، وكان يروي أحاديث مناكير، وهو معروف بالسماع، جيد اللقاء، رأوا في كتبه لحقاً، وحديثه عن حماد فيه اضطراب، روى عنه عشرة من الثقات. المرجع السابق
وسئل أبو حاتم عنه وعن ابن لهيعة، فقال: محلهما الصدق، ومحمد بن جابر أحب إلي من ابن لهيعة. المرجع السابق.
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (533) .
وقال أحمد بن حنبل: لا يحدث عنه إلا شر منه. تهذيب التهذيب (9/78) .
وقال أبو داود: ليس بشيء. المرجع السابق.
وفي التقريب: صدوق ذهبت كتبه، فساء حفظه.
الطريق الثالث: أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق.
أخرجه أبو داود الطيالسي (1096) ومن طريق أبي داود أخرجه الحازمي في الاعتبار (ص: 82) ،
وأخرجه ابن الجعد في مسنده (3299) .
وأخرجه أحمد (4/22) عن حماد بن خالد.
وأخرجه الطحاوي (1/65، 67) من طريق حجاج وأسود بن عامر وخلف بن الوليد وأحمد بن يونس وسعيد بن سليمان جميعهم عن أيوب بن عتبة به.
وأيوب بن عتبة قال عنه الحافظ في التقريب: ضعيف.
الطريق الرابع: أيوب بن محمد، عن قيس. أخرجه الدراقطني في السنن (1/149) ، وقال: أيوب مجهول.
الطريق الخامس: عكرمة بن عمار، عن قيس به، أخرجه ابن حبان في صحيحه
(1121) .
انظر أطراف المسند (2/623) ، تحفة الأشراف (5023) ، إتحاف المهرة (6661) .
وحديث طلق هذا معارض في ظاهره لحديث بسرة بنت صفوان، وقد اختلف العلماء في الموقف منهما، فهناك من جمع بينهما، وسوف يأتي وجه الجمع إن شاء الله تعالى في أدلة القول الثالث والرابع، واختار بعضهم الترجيح، فهناك من رجح حديث بسرة، وهناك من رجح حديث طلق بن علي.
ذكر من رجح حديث طلق:
ذهب جماعة من أهل العلم إلى تقديم حديث بسرة على حديث طلق، منهم البخاري رحمه الله تعالى، والإمام أحمد والترمذي والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر والدارقطني وأبو حاتم وأبو زرعة والشافعي وابن حبان وابن حزم وغيرهم.
قال الترمذي: قال محمد - يعني البخاري - أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة. السنن (1/129) .
وقال البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق أن حديث طلق لم يخرجه الشيخان، ولم يحتجا بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته إلا أنهما لم يخرجاه للاختلاف فيه على عروة، وعلى هشام بن عروة، وقد بينا أن الاختلاف لا يمنع من الحكم بصحته، وإن نزل على شرط الشيخين.
وتقدم أيضاً عن الإسماعيلي أنه ألزم البخاري إخراجه لإخراج نظيره في الصحيح، وقد ضعف حديث طلق الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي وكل هؤلاء ذكرهم الحافظ في التلخيص.
وفي التمهيد لابن عبد البر كما في فتح البر بترتيب التمهيد لابن
عبد البر (3/338) .: قال أبو بكر الأثرم: سئل أبو عبد الله عن الوضوء من مس الذكر؟ فقال: نعم نرى الوضوء من مس الذكر. قيل له: من لم يره أنعنفه؟ فقال: الوضوء أقوى. قال: من قال: لا وضوء؟ قال: الوضوء أكثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وعن التابعين. اهـ.
ومن وجوه ترجيح حديث بسرة ما قاله ابن عبد البر حيث قال: إيجاب الوضوء من مس الذكر إنما هو مأخوذ من جهة الشرع، لا مدخل فيها للعقل؛ لاجتماعه مع سائر الأعضاء، ونقل البيهقي عن الشافعي أن الذي قال من الصحابة لا وضوء به فإنما قاله بالرأي، ومن أوجب الوضوء به يعني من الصحابة فلا يوجبه إلا بالاتباع - يعني أن العقل والقياس لا يقضيان بهذا الحكم، فكان أولى بالقبول، والله أعلم.
قلت: الشرع لا يعارض العقل، لكن العقل عرضة للصواب والخطأ بخلاف الشرع، وإذا لم يستطع العقل إدراك الحكمة من التشريع عبر عنه الفقهاء بأنه تعبدي، وليس معنى كونه تعبدياً أنه خال من الحكمة، فالله سبحانه وتعالى حكيم منزه عن العبث، ولا يشرع إلا ما فيه حكمة، ولا يفرق الشرع بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، والمؤمن متبع للشرع أبداً، لا يعبد عقله ونظره، وإذا بدا في الظاهر بعض التعارض بين العقل والشرع، كان العقل هو المتهم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} .
وحين نبحث عن الحكمة إنما نبحث عنها من أجل القياس، لكي نلحق النظير بشبيهه، فإذا علمنا أن علة التحريم في الخمر هي الإسكار ألحقنا به كل مسكر، وإذا زالت علة الإسكار رجع الحكم إلى الحل، والله أعلم.
وهناك من أخذ بحديث بسرة لكونه ناسخاً لحديث طلق، قال ابن حبان في صحيحه (3/504) : خبر طلق الذي ذكرناه خبر منسوخ؛ لأن طلق بن علي كان قد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - أول سنة من سني الهجرة حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى إيجاب الوضوء من مس الذكر أبو هريرة، وأبو هريرة أسلم سنة سبع للهجرة، فدل ذلك على أن خبر أبي هريرة كان بعد خبر طلق بن علي بسبع سنين. اهـ
قلت: الاستدلال بالنسخ بتأخر إسلام الراوي فيه نظر كبير؛ لأنه يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع هذا الحديث من صحابي قد تقدم إ سلامه، ومرسل الصحابي على الاتصال، وليست كل أحاديث أبي هريرة قد سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد استدل ابن حزم على النسخ بوجه آخر، حيث قال: وهذا خبر صحيح - يعني حديث طلق - إلا أنه لا حجة فيه لوجوه:
أحدها: أن هذا الخبر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء من مس الفرج، هذا لا شك فيه، فإذا هو كذلك فحكمه منسوخ يقيناً حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء من مس الفرج، فلا يحل ترك ما يتيقن أنه ناسخ، والأخذ بما تيقن أنه منسوخ.
وثانيها: أن كلامه عليه السلام " هل هو إلا بضعة منك " دليل على أنه كان قبل الأمر بالوضوء منه؛ لأنه لو كان بعده لم يقل بعده هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه حكم أصلاً، وأنه كسائر الأعضاء () . اهـ
وكلام ابن حزم مبني على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صح عنه أنه قال: "وهل هو إلا بضعة منك " وهذا الذي لم يترجح عندي حتى الآن، فلو ثبت أن ذلك من كلامه - صلى الله عليه وسلم - لامتنع أيضاً أن يقال بالنسخ، وذلك أن الحكم إذا ربط بعلة لا يمكن أن تزول، كان الحكم أولى بأنه لا يزول، فالذكر بضعة منا، هذه العلة في عدم الطهارة من مس الذكر ثابتة لا يمكن أن يتصور زوالها، فكان الحكم المترتب عليها كذلك، لكن قد علمت ضعف حديث طلق بن علي.
فتلخص من هذا أن من قدم حديث بسرة قدمه لأمور:
الأول: الاعتبار برجال الإسناد، فرجال إسناد حديث بسرة أرجح من رجال إسناد حديث طلق.
الثاني: قدمه باعتبار أنه حديث ناسخ لحديث طلق بن علي.
الثالث: قدمه باعتبار أنه ناقل عن البراءة الأصلية، وحديث طلق على البراءة، وإذا تعارض حديثان أحدهما يوافق البراءة الأصلية، والآخر ينقل عنها، ويشغل الذمة كان الناقل مقدماً.
الرابع: أن رواة النقض بمس الذكر أكثر، وأحاديثه أشهر، فقد رود فيه حديث بسرة وأبي هريرة وأم حبيبة وابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن عباس وأيوب وغيرهم، بخلاف حديث طلق، فإنه حديث غريب.
الخامس: لو قدر تعارض الحديثين من كل وجه لكان الترجيح لحديث النقض لكونه قول أكثر الصحابة كما نقلته عن أحمد بن حنبل في معرض البحث.
[وأما من رجح حديث طلق]
فمنهم عمرو الفلاس، قال كما في التلخيص الحبير: هو عندنا أثبت من حديث بسرة، وقال علي بن المديني: هو عندنا أحسن من حديث بسرة، وقال الطحاوي: إسناده مستقيم غير مضطرب بخلاف حديث بسرة، وصححه ابن حبان والطبراني وابن حزم إلا أنهم ادعوا فيه النسخ.
قلت: قول الإمام علي بن المديني: هو أحسن من حديث بسرة، فكلمة أحسن أفعل تفضيل، لا تدل على أنه حسن مطلقاً، بل هو مقيد بأنه أحسن من حديث بسرة، على أن حديث بسرة له شواهد صحيحة بخلاف حديث طلق، وهو معارض بكلام البخاري في تقديمه حديث بسرة، والله أعلم.(9/745)
الدليل الثاني على ترك الوضوء من مس الذكر: من النظر.(9/752)
قالوا: النظر دال على أنه لا يجب الوضوء من مسه، فقد قال ابن
عبد البر: ذكر عبد الرزاق عن الثوري (1) ،
وأخرجه البيهقي (2) بسنده إلى علي ابن المديني، قال: اجتمع سفيان وابن جريج فتذاكرا مس الذكر، فقال ابن جريج: يتوضأ منه، وقال سفيان: لا يتوضأ منه، فقال سفيان: أرأيت لو أن رجلاً أمسك بيده منياً، ما كان عليه؟ فقال ابن جريج: يغسل يده. فقال أيهما أكبر المني أو مس الذكر؟ ولفظ عبد الرزاق: أيهما نجس المني أم الذكر؟ فقال ابن جريج: ما ألقاها عليك إلا الشيطان.
قال البيهقي: وإنما أراد ابن جريج أن السنة لا تعارض بالقياس. اهـ
قلت: إيجاب الوضوء ليس متلقى من العقل، وإذا كان الحكم الشرعي يخالف في بادي الرأي نظر الإنسان دل ذلك على أن المسألة فيها توقيف، وقد ذكرت هذا الدليل من وجوه ترجيح حديث بسرة على حديث طلق، وبسطت الكلام عليه.
الدليل الثالث:
قالوا: جوب الوضوء من مس الذكر مما تعم به البلوى، وما عمت به البلوى لا يقبل فيه أخبار الآحاد حتى يكون نقله متواتراً مستفيضاً (3) .
قلت: أين الدليل على هذا الشرط، وخبر الآحاد يجب العمل به كالخبر المتواتر، وحديث إنما الأعمال بالنيات من أعظم الأحاديث التي يعتمد عليها في
_________
(1) التمهيد (17/202) .
(2) سنن البيهقي (1/136) .
(3) انظر الحاوي (1/192) .(9/753)
الأحكام، ومع ذلك هو فرد غريب، ولم يمنع ذلك من صحته مع عظم الحاجة إليه، وتبليغ الرسالة من أعظم الأمور، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل آحاد الصحابة لتبليغها عن طريق المكاتبة وغيرها، وكانت الحجة تقوم بذلك، وأكثر الأخبار التي تعم بها البلوى هي أخبار آحاد، والأخبار المتواترة قليلة، بل إن تقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد هو تقسيم حادث، لا يعرف عند أئمة الحديث المتقدمين، والله أعلم.
الدليل الرابع:
قالوا: تحمل الأحاديث الآمرة بالوضوء على غسل اليد جمعاً بينها وبين حديث طلق.
وأجيب:
بأن حمله على غسل اليد لا يصح إلا بقرينة، ولا قرينة هنا؛ على أن الألفاظ يجب حملها على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر حملت على الحقيقة العرفية، وحملها على الحقيقة الشرعية لا يمنع منه مانع، خاصة أن حديث قيس لا يصح، والله أعلم.
دليل من قال: يستحب الوضوء من مس الذكر.
وجه الاستحباب: قالوا: إن حديث طلق السؤال فيه عن وجوب الوضوء من مس الذكر، كما قال في الحديث (أعليه وضوء، فقال: لا) وحديث بسرة وغيرها مما فيه الأمر بالوضوء من مس الذكر يحمل على الاستحباب، جمعاً بين الأدلة.
وأجيب:
بأن الجمع إنما يكون بين دليل صحيح ودليل آخر مثله أو أعلى منه،(9/754)
وأما أن يكون أحد الحديثين صحيحاً والآخر ضعيفاً فإن الواجب هو العمل بالحديث الصحيح وحده وطرح الضعيف؛ لأن الجمع وإن كان فيه إعمال لكلا الدليلين إلا أن إعمالهما معاً سيكون على حساب الحديث الصحيح إما تقييد لمطلقه أو تخصيص لعمومه، فيخرج أفراد من الحديث الصحيح كان الإطلاق والعموم شاملاً لها مراعاة لحديث غريب لا يصح، فيكون الحديث الضعيف قد جنى على الحديث الصحيح، فهنا الوضوء من مس الذكر مطلق، يشمل ما كان على وجه اللذة وما كان بدونها، ويشمل ما كان متعمداً وغير متعمد، وظاهر الأمر الوجوب، فإذا قمت بتقييد أحاديث الوضوء من مس الذكر بالشهوة، فمعنى هذا أنني أخرجت الوضوء من مسه بدونها، مع أن الأحاديث مطلقة فهذا إخراج لبعض أفراد العموم من أجل حديث ضعيف، والكلام نفسه يقال: فيمن حمل الأحاديث على الاستحباب، مع أن ظاهرها الوجوب، والله أعلم.
دليل من قال: يجب إن كان المس بشهوة ولا يجب بدونها.
قالوا: إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنما هو بضعة منك إيماء لاعتبار الشهوة لأمرين:
الأول: إنك إذا مسست ذكرك بدون شهوة منك لم يكن هناك فرق بينه وبين أي عضو من أعضائك، أما إذا مسسته بشهوة فإنه يفارق بقية الأعضاء حيث يجد اللذة بلمسه دون غيره، وقد يخرج منه شيء، وهو لا يشعر، فما كان مظنة للحدث علق الحكم به كالنوم.
ثانياً: أن حديث طلق فيه سؤال عن الرجل يمس ذكره في الصلاة؟ فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو بضعة منك، ومس الذكر بالصلاة لا يكون بشهوة، لأن في الصلاة شغلاً عن مس ذكره بشهوة، بخلاف مسه خارج الصلاة فقد(9/755)
يقع منه المس بشهوة، والله أعلم.
وأجيب:
أولاً: أن مظنة الخروج سببها الشهوة، وليس المس، ومع ذلك لو انتصب ذكره بشهوة لم يجب عليه الوضوء مع كونه مظنة لخروج الخارج، ولا ينتقض وضوءه حتى يتيقن الخارج، وهذا دليل على أن انتقاض الوضوء من مس الذكر ليس سببه الشهوة، فإن قيل: إن مس الذكر باليد مع انتشار الذكر قد يساعد في خروج الخارج، قيل: لو انتشر الذكر لشهوة ومسه فخذه أو أي عضو من أعضائه غير يده لم يجب عليه الوضوء، مع أن ذلك عامل مساعد لخروج الخارج، بل لو مسه بيده مع حائل لم ينتقض وضوءه فهذا دليل على أن إيحاب الوضوء لم يكن سببه الشهوة، ولا مظنة خروج الخارج من الذكر.
ثانياً: أن الذكر بضعة منا سواء مسسناه بشهوة أو بغير شهوة، فهل إذا مس ذكره بشهوة لا يكون بضعة منه.
ثالثاً: أن قيد الشهوة لم يرد في الدليلين الموجب للوضوء وغيره، فحديث بسرة: (من مس ذكره فليتوضأ) أين قيد الشهوة من الحديث، وكذا بقية الأحاديث الآمرة بالوضوء من مس الذكر. وحديث طلق (في الرجل يمس ذكره، قال: وهل هو إلا بضعة منك) فهو بضعة من الجسد سواء مس بشهوة أو بغير شهوة، فقيد الشهوة قيد لما أطلقه الشارع بغير دليل.
دليل من قال: ينقض مس الذكر بباطن الكف دون ظاهره.
استدل الشافعية بحديث أبي هريرة المتقدم: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء) .
قال الشافعي: الإفضاء باليد إنما هو ببطنها كما تقول: أفضى بيده(9/756)
مبايعاً، وأفضى بيده إلى الأرض ساجداً أو إلى ركبتيه راكعاً، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بالوضوء إذا أفضى به إلى ذكره فمعلوم أن ذكره يماس فخذيه، وما قارب ذلك من جسده فلا يوجب ذلك عليه بدلالة السنة وضوءاً (1) .
وقال النووي: قال ابن فارس في الجمل: أفضى بيده إلى الأرض إذا مسها براحته في سجوده، ونحوه في صحاح الجوهري وغيره (2) .
ولأن ظهر الكف ليس بآلة لمسه، فالتلذذ لا يكون إلا بالباطن، فالباطن هو آلة مسه.
قال الحافظ في التلخيص: ((احتج أصحابنا بهذا الحديث في أن النقض إنما يكون إذا مس الذكر بباطن الكف لما يعطيه لفظ الإفضاء؛ لأن مفهوم الشرط يدل على أن غير الإفضاء لا ينقض فيكون تخصيصاً لعموم المنطوق، لكن نازع في دعوى أن الإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف غير واحد، قال ابن سيدة في المحكم: أفضى فلان إلى فلان: وصل إليه، والوصول أعم من أن يكون بظاهر الكف أو باطنها. وقال ابن حزم: الإفضاء يكون بظهر اليد كما يكون ببطنها، وقال بعضهم: الإفضاء فرد من أفراد المس، فلا يقتضي التخصيص)) (3) . اهـ
وهذا هو الحق؛ لأن اليد تطلق على الكف كلها، قال تعالى: {والسارق
_________
(1) الأم (1/20) .
(2) المجموع (2/40) .
(3) تلخيص الحبير (1/220) .(9/757)
والسارقة فاقطعوا أيديهما} (1) ، والقطع إنما هو للكف.
وقال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (2) ، وإنما يمسح الكف كما دل عليه حديث عمار في الصحيح، فإذا ذكر الإفضاء بباطن الكف، وهو فرد من أفراد المطلق لم يقتض تقييداً للمطلق.
قال ابن حزم: وحتى لو كان الإفضاء بباطن اليد لما كان في ذلك ما يسقط الوضوء عن غير الإفضاء إذا جاء أثر بزيادة على لفظ الإفضاء، فكيف والإفضاء يكون بجميع الجسد، قال تعالى: {وقد أفضى بعضكم إلى
بعض} (3) (4) .
دليل من اشترط العمد في المس.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} (5) .
فدلت الآية على عدم النقض بالنسيان والخطأ.
وليس في الآية دليل على عدم النقض بالعمد؛ لأن الآية ليس فيها إلا نفي الجناح، والمقصود به الإثم، ونفي الإثم لا يدل على بقاء الطهارة.
_________
(1) المائدة: 38.
(2) المائدة: 6.
(3) النساء: 21.
(4) المحلى (1/222) .
(5) الأحزاب: 5.(9/758)
الدليل الثاني:
قالوا: إن الشرط في مس الذكر أن يمس بقصد وإرادة؛ لأن العرب لا تسمي الفاعل فاعلاً إلا بقصد منه إلى الفعل، وهذه الحقيقة في ذلك، ورجح ذلك ابن عبد البر (1) ، واختاره ابن تيمية في الفتاوى، وقال: إذا لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوءه (2) .
الدليل الثاني:
قالوا: الوضوء المجمع عليه لا ينتقض إلا بإجماع أو سنة ثابتة غير محتملة للتأويل، وعليه فلا يجب الوضوء إلا من مس ذكره قاصداً مفضياً (3) .
ويجاب:
بأن اشتراط العمد فيه إشكال؛ لأن معناه أنه حكم تكليفي، فإذا مسه عن طريق الخطأ لم ينتقض الوضوء، ويلزم من ذلك ألا ينتقض وضوء الصي بمسه ذكره؛ لأن عمد الصبي بمنزلة الخطأ، ولعدم توفر القصد الصحيح، والراجح عندي أن المس حكم وضعي، فإذا كان مس الذكر مفسداً للطهارة استوى فيه العمد والخطأ كباقي الأحداث، فكما أنه إذا خرجت منه ريح أو بول لم يفرق بين العامد وغيره، فكذلك مس الذكر، والله أعلم.
هذه خلاصة الأقوال في المسألة، وأدلة كل قول، وأجد القول الراجح في المسألة هو القول بوجوب الوضوء من مس الذكر، لضعف حديث طلق بن
_________
(1) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/335) .
(2) مجموع الفتاوى (21/231) .
(3) بتصرف (3/342) .(9/759)
علي، وصحة الأحاديث الواردة في وجوب الوضوء من مس الذكر وكثرتها، والله أعلم.
تنبيه: يشترط في النقض بمس الذكر شرطين:
الأول: أن يكون مسه بالكف، وسبق ذكر دليله.
الثاني: أن يكون مسه بلا حائل، ودليله حديث أبي هريرة المتقدم: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء) وسبق تخريجه.
وقال ابن حزم: والماس على الثوب ليس ماساً (1) .
_________
(1) المحلى (1/225) .(9/760)
المبحث الثاني:
في مس المرأة فرجها
اختلف العلماء في مس المرأة فرجها، هل ينقض الوضوء أم لا؟
فقيل: لا ينقض مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: ينقض مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
واختلف النقل عن مالك،
فقيل: عليها الوضوء كالرجل، قال ابن عبد البر في الكافي: وهو الأشهر (4) .
وقيل: لا يجب عنها إلا أن تلطف وتلتذ.
وقيل: لا يجب مطلقاً، حكاه جماعة بأنه هو المشهور من المذهب (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/56) ، تبيين الحقائق (1/12) ، البحر الرائق (1/45) .
(2) الأم (1/19) ، المجموع (2/38) ، الحاوي (1/195) ، مغني المحتاج (1/35،36) مختصر المزني (ص:40) نهاية المحتاج (1/118،119) ، روضة الطالبين (1/75) .
(3) كشاف القناع (1/126) ، الفروع (1/179) ، الإنصاف (1/209) ، شرح الزركشي (1/251) .
(4) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 12) .
(5) ساق ابن رشد في المقدمات (1/102) عن مالك أربع روايات، فقال: " أحدها: سقوط الوضوء. والثانية: استحبابه. والثالثة: إيجابه. والرابعة: التفرقة بين أن تلطف أو لا تلطف، وهي رواية ابن أبي أويس عنه.
فأما الرواية الأولى والثانية فواحدة في إسقاط الوجوب، وذهب أبو بكر الأبهري: إلى أن ذلك كله ليس باختلاف رواية، وإنما هو اختلاف أحوال، فرواية ابن القاسم وأشهب في سقوط الوضوء، معناها: إذا لم تلطف، ولا قبضت عليه فالتذت.
ورواية علي بن زياد عن مالك في وجوب الوضوء معناها: إذا ألطفت على ما بُيِّن في رواية ابن أبي أويس، عن مالك. ومن أصحابنا من يحمل الروايات كلها على روايتين: إحداهما: وجوب الوضوء. والثانية: سقوطه، والوجوب متعلق بالإلطاف والالتذاذ.
فإذا مست المرأة فرجها فلم تلطف ولم تلتذ فلا وضوء عليها عند مالك ولم يختلف عنه في ذلك، فإذا ألطفت والتذت وجب عليها الوضوء عند مالك بلا خلاف، وقيل: إن عنه في ذلك روايتين على ما بيناه. اهـ
وقال في أسهل المدارك (1/60) : وفي مس المرأة فرجها خلاف، وقد علمت أن المعتمد الذي به الفتيا عدم النقض ولو ألطفت، وعليه مشى خليل. والإلطاف: أن تدخل المرأة يدها بين شفري فرجها ".
وفي الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/123) : " ولا مس امرأة فرجها - يعني: ولا ينقض- ألطفت أم لا، قبضت عليه أم لا، وهذا هو المذهب، وأوِّلت أيضاً بعدم الإلطاف، فإن ألطفت انتقض، والإلطاف: أن تدخل شيئاً من يدها في فرجها. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/302) المطبوع بهامش مواهب الجليل، الخرشي (1/158) ، وصرح الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/145) بأن المذهب المالكي لا ينتقض بمس المرأة فرجها ولو ألطفت.(9/761)
دليل من قال: يجب عليها الوضوء.
الدليل الأول:
(1067-296) ما رواه أحمد من طريق بقية، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس ذكره فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ.
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (1) .
_________
(1) سبق تخريجه، انظر رقم (1061) .(9/762)
الدليل الثاني:
(1068-297) ما وراه ابن أبي شيبة من طريق مكحول، عن عنبسة ابن أبي سفيان،
عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس فرجه فليتوضأ.
[إسناده منقطع وسبق تخريجه] (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: (من مس فرجه) فكلمة (من) من ألفاظ العموم تشمل الرجل والمرأة، وسوأة المرأة يقال لها: فرج، كما قال تعالى: {والحافظين فروجهم والحافظات} (2) ، والحديث وإن كان قد اختلف فيه: هل سمع مكحول من عنبسة أم لا؟ إلا أنه شاهد للحديث الأول من حديث عبد الله بن عمرو.
الدليل الثالث:
(1069-298) ما رواه الطبراني في الصغير من طريق أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك النوفلي، عن سعيد المقبري،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء (3) .
[سبق تخريجه] (4) .
_________
(1) انظر حديث رقم (1059) .
(2) الأحزاب: 35.
(3) المعجم الصغير (1/42) .
(4) انظر حديث رقم (1060) .(9/763)
وجه الاستدلال:
الحديث علق الوضوء بمس الفرج، ولو علقه بالذكر لقيل: إن الحكم خاص بهذا المسمى، والمرأة ليس لها ذكر، فحين علقه بمسمى الفرج فما ثبت لفرج الرجل ثبت لفرج المرأة إلا بدليل، ثم إن كلمة (فرجه) الفرج: اسم جنس مضاف فيعم كل فرج، وذكر الذكر في حديث بسرة لا يقتضي تخصيص الفرج؛ لأن الذَّكَر بعض أفراده، وذكر فرد من أفراد المطلق أو العام بحكم يوافق المطلق والعام لا يقتضي تخصيصاً. كما أن من نص على أن الفرج لا يدخل في مسمى الذَّكَر إنما أخذ بطريق المفهوم، والمفهوم لا عموم له.
الدليل الرابع:
(1070-299) ما رواه الطحاوي من طريق عبد الله بن المؤمل المخزومي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، أن بسرة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: المرأة تضرب بيدها، فتصيب فرجها، قال: تتوضأ يا بسرة.
[وهذا حديث منكر] (1)
الدليل الخامس:
(1071-300) ما رواه الداقطني من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
_________
(1) عبد الله بن المؤمل ضعيف، وقد خالف الثقة الزبيدي، فقد رواه كما تقدم عن عمرو بن شعيب، وليس فيه ذكر بسرة، كما أن حديث بسرة المحفوظ فيه أنه في مس الذكر، لا في مس الفرج، والله أعلم. وانظر تخريجه كاملاً، والكلام على طرقه في حديث رقم
(2063) .(9/764)
عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون، ولا يتوضئون. قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست إحداكن فرجها، فلتتوضأ للصلاة.
قال الدارقطني: عبد الرحمن العمري ضعيف (1) .
[قلت: بل الحديث ضعيف جداً] (2) .
الدليل السادس:
(1072-301) ما أخرجه البيهقي من طريق أبي موسى الأنصاري، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، قال: سألت الزهري عن مس المرأة فرجها أتتوضأ؟ فقال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان بن الحكم،
عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ، والمرأة كذلك (3) .
[قوله والمرأة كذلك من قول الزهري وليست من الحديث المرفوع] (4) .
_________
(1) الحديث ضعيف جداً إن لم يكن موضوعاً، والعمري كذبه أحمد.
وقال النسائي وأبو حاتم وأبو زرعة: متروك.
(2) تكلمت عليه ضمن الكلام على حديث بسرة، انظر (2060) عند بيان الاختلاف في رويات هشام بن عروة لحديث بسرة. وانظر طريقه هذا في إتحاف المهرة (22256) .
(3) سنن البيهقي (1/132) .
(4) الحديث قد اختلف فيه على الوليد بن مسلم:
فرواه أبو موسى الأنصاري، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة كما تقدم في إسناد الباب.
ووراه البيهقي (1/132) من طريق هشام بن عمار.
وابن حبان (1117) من طريق عبد الله بن أحمد بن ذكوان الدمشقي، كلاهما عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة. فخالف في موضعين:
الأول: كون الزهري يرويه مباشرة عن عروة.
الثاني: إسقاط مروان من الإسناد.
والأول أرجح لأن المحفوظ أن الزهري يرويه عن عبد الله بن أبي بكر، هكذا رواه جماعة عن الزهري منهم شعيب وعقيل والليث وغيرهم وقد تكلمت على هذا في الكلام على حديث بسرة في المسألة السابق، فأغنى عن إعادته هنا.
هذا وجه المخالفة في الإسناد، وأما قوله " والمرأة كذلك " فهو من كلام الزهري، والدليل على ذلك:
أن الحديث في هذا الإسناد وقع جواباً على سؤال ألقاه عبد الرحمن بن نمر عن مس المرأة فرجها، فكأن الزهري يقول: إذا كان هذا حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الرجل، فالمرأة كذلك، بدليل أن جميع من رواه عن الزهري من غير طريق عبد الرحمن بن نمر لم يذكر المرأة منهم الليث وشعيب وعقيل ومعمر وغيرهم، وكل من رواه عن عبد الله بن أبي بكر غير الزهري كذلك لم يذكر المرأة كمالك وشعبة وسفيان وغيرهم.
وقد جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/38) : سألت أبي عن حديث رواه الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، عن عروة عن مروان، عن بسرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يأمر بالوضوء من مس الذكر، والمرأة مثل ذلك؟ فقال: هذا حديث وهم فيه في موضعين: أحدهما أن الزهري يرويه عن عبد الله بن أبي بكر، وليس في الحديث ذكر المرأة. اهـ
وقال البيهقي (1/132) : ظاهر هذا يدل على أن قوله: " قال: والمرأة مثل ذلك " من قول الزهري، ومما يدل عليه أن سائر الرواة رووه عن الزهري، دون هذه الزيادة. اهـ
قلت: الصحيح أيضاً من حديث بسرة أنه في مس الذكر، لا في مس الفرج، ومن رواه بلفظ الفرج إنما رواه بالمعنى، ومن اطلع على جميع طرق الحديث لا يشك لحظة أن الحديث في مس الذكر، ولولا خشية الإطالة لجمعت الرواة الذين رووه بمس الذكر، وقارنتهم بمن خالفهم، فتركت ذلك اختصاراً خاصة أنني كتبت في حديث بسرة بحثاً مطولاً جداً، وأخشى أن يفهم ذلك على أنه نوع من التكرار والإطالة، فمن أراد أن يقف على ذلك فليرجع إلى المصادر التي أشرت إليها في تخريج حديث بسرة، وليقارن بين ألفاظها، وسيتبين له إن شاء الله تعالى اللفظ المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله سبحانه وتعالى أعلم.(9/765)
دليل من قال: لا ينتقض وضوء المرأة إذا مست فرجها.
الدليل الأول:
الأصل بقاء الطهارة حتى يوجد دليل صحيح صريح في أن الطهارة قد انتقضت، ولا يوجد دليل هنا؛ لأن جميع الأحاديث التي وردت بمس الفرج لا تخلو من مقال، جاء في المغني لابن قدامة: قال المروذي: قيل لأبي عبد الله: الجارية إذا مست فرجها أعليها وضوء؟ قال: لم أسمع في هذا بشيء. قلت لأبي عبد الله: حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ؟ فتبسم، وقال: هذا حديث الزبيدي، ليس حديثه بذاك.
وأجيب:
بأن حديث عبد الله بن عمرو الذي أشار الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى ضعفه قد صححه البخاري فيما نقله عنه الترمذي، والإسناد إلى عمرو بن شعيب إسناد صحيح، ويبقى الحكم في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهو سند حسن عند أكثر المحققين، والله أعلم.
الدليل الثاني:
الحديث الوارد في وجوب الوضوء إنما ورد في مس الذكر، ومس المرأة فرجها ليس في معناه، لكونه لا يدعو إلى خروج خارج.(9/767)
وأجيب:
بأن العلة في وجوب الوضوء من مس الذكر ليس كونه مظنة خروج خارج؛ لأن العلة هذه لم ينص عليها الشارع، ولم يتفق في كونها هي العلة، ولو كانت هي العلة لكنا إذا تيقنا بأنه لم يخرج خارج بقيت الطهارة على حالها كما قيل في النوم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم في المس، ومن مس ذكره بدون شهوة لم يكن مظنة لخروج شيء من ذكره، ومع ذلك ظاهر النصوص توجب الوضوء؛ لأن الحكم معلق على مطلق المس بدون قيد الشهوة.
الدليل الثالث:
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلق بن علي حين سئل عن مس الذكر، هل ينقض الوضوء؟ فقال: إنما هو بضعة منك، فإذا كانت العلة في عدم النقض من مس الذكر كونه بضعة من جسم الرجل، فكذلك فرج المرأة بضعة من جسدها، لا يوجب وضوءاً.
وأجيب:
بأن حديث طلق بن علي حديث ضعيف كما بينته في الخلاف في مس الذكر، وقد بينت وجوهاً كثيرة في تقديم حديث بسرة على حديث طلق في المسألة التي قبل هذه.
الراجح من أقوال أهل العلم.
الذي أميل إليه أن مس المرأة فرجها ناقض للوضوء، إما بالنص على النقض من مس الفرج إن صحت الأحاديث بذلك، وإما بالقياس على الرجل لعدم الفارق، والله أعلم.(9/768)
المبحث الثالث:
في مس المرأة ذكر الرجل والعكس ومس فرج الصغير
اختلف العلماء في ذلك، فقيل: لا ينقض مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: ينقض مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: حكم مس الفرج من الغير حكم مس الأجنبي، فإن كان مسه بشهوة انتقض وإن مسه بغير شهوة لم ينتقض، وهو مذهب المالكية، إلا أنهم اختلفوا في مس فرج الصغير إذا التذ بلمسه على قولين (4) .
دليل من قال: لا ينقض مطلقاً.
الدليل الأول:
قالوا: الأصل بقاء الطهارة، فلا تنتقض طهارة مجمع عليها إلا بدليل صحيح صريح، ولا دليل هنا.
الدليل الثاني:
كل دليل استدل به الحنفية على عدم الوضوء من مس الفرج، يستدلون
_________
(1) سبق أن نقلت في خلاف العلماء في مس الذكر، أن مذهب الحنفية لا يرون النقض مطلقاً من مس الذكر، سواء مس ذكره هو، أو مس ذكر غيره، وسواء كان متصلاً أو منفصلاً، وسواء كان من حي أو من ميت، فانظر العزو هناك يغني عن إعادته هنا.
(2) انظر العزو إلى كتبهم في الكلام على خلاف العلماء في الوضوء من مس الذكر.
(3) انظر العزو إلى كتبهم في الكلام على خلاف العلماء في الوضوء من مس الذكر.
(4) مواهب الجليل (1/299) ، التلقين (ص: 50) ، القوانين الفقهية (ص: 22) ، الشرح الصغير (1/142) ، الشرح الكبير (1/120) ،(9/769)
به هنا، كحديث طلق بن علي وغيره من الأدلة، وقد سقناها في مسألة مستقلة فارجع إليها.
الدليل الثالث:
على التنزل والأخذ بحديث بسرة ونحوه مما يدل على وجوب الوضوء من مس الذكر، فإن لفظ الأحاديث الواردة (من مس ذكره فليتوضا) (أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) فالنصوص وردت في فرج نفسه، لا في فرج غيره، والعلة غير معقولة المعنى فلا يصح قياس غيره عليه.
الدليل الرابع:
(1073-302) ما رواه البيهقي من طريق يعقوب أبي العباس، حدثنا محمد بن إسحاق، ثنا محمد بن عمران، حدثني أبي، حدثني ابن أبي ليلى، عن عيسى،
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء الحسن، فأقبل يتمرغ عليه، فرفع عن قميصه، وقبل زبيبته (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/137) .
(2) قال البيهقي بعده: هذا إسناد غير قوي، وليس فيه أنه مسه بيده، ثم صلى ولم يتوضأ.
قلت: في إسناده عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، لم يوثقه إلا ابن حبان، وفي التقريب: مقبول، يعني: حيث يتابع وإلا ففيه لين.
وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، صدوق سيء الحفظ.
وله شاهد عند الطبراني (2658) من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فرج ما بين فخذي الحسين، وقبل زبيبته.
وهذا إسناد ضعيف أيضاً، فيه قابوس بن أبي ظبيان، ضعفه النسائي وغيره، وفي التقريب: فيه لين.
وليس في الحديث شاهد لمسألتنا، قال الحافظ في التلخيص (1/222) : وإذا تقرر أنه ليس في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى عقب ذلك، فلا يستدل به على عدم النقض، نعم يستدل به على جواز مس فرج الصغير ورؤيته.(9/770)
دليل من قال بالنقض مطلقاً.
الدليل الأول:
(1074-303) ما رواه عبد الرزاق ومن طريقه الطحاوي، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: تذاكر هو ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان:
حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج، فكأن عروة لم يقنع بالحديث، فأرسل مروان إليها شرطياً، فرجع فأخبرهم،
أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج. قال معمر: وأخبرني هشام بن عروة، عن أبيه مثله.
وجه الاستدلال:
قوله في الحديث: (يأمر بالوضوء من مس الفرج) وهذا مطلق، سواء كان فرجه أو فرج غيره، من ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، حي أو ميت.
وأجيب:
بأن هذا اللفظ شاذ، والرواية المحفوظ في الحديث (إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ) (1) .
_________
(1) انفرد بهذه اللفظة الزهري، رواه عنه معمر، وقد اختلف على معمر فيه:
فرواه عبد الرزاق عنه كما سبق في إسناد الباب.
ورواه شعبة عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة، بلفظ: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ. ولم يقل: كان يتوضأ من مس الفرج.
روواه شعيب كما في مسند أحمد (6/406) .
وعقيل كما في سنن البيهقي (1/132) كلاهما عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر أنه سمع عروة بن الزبير يقول: ذكر مروان بن الحكم في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مس الذكر إذا أفضى إليه الرجل بيده، فأنكرت ذلك عليه، فقلت: لا وضوء على من مسه. فقال مروان: أخبرتني بسرة أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر ما يتوضأ منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويتوضأ من مس الذكر. وهذا مطلق يشمل ذكره وذكر غيره، لكن قد خالف فيه الزهري جميع من رواه عن عبد الله بن أبي بكر، منهم:
مالك كما في الموطأ (1/42) .
سفيان بن عيينة كما في مسند الحميدي (352) .
ابن علية كما في مسند أحمد (6/406) .
وشعبة كما في مسند أبي داود الطيالسي (1657) ، فكل هؤلاء رووه عن عبد الله بن أبي بكر بلفظ: من مس ذكره فليتوضأ، وخالفوا فيه الزهري. كما رواه هشام بن عروة عن أبيه بلفظ: من مس ذكره فليتوضأ، رواه عنه كل من:
أبو أسامة كما في المنتقى لابن الجارود (17) .
وعبد الله بن إدريس كما في رواية ابن ماجه (479) .
وسفيان الثوري كما في صحيح ابن حبان (1116) .
ويحيى بن سعيد القطان كما في مسند أحمد (6/406) ، والترمذي (82) ، والنسائي (447) كلهم رووه عن هشام بن عروة، عن عروة به، بلفظ: من مس ذكره فليتوضأ. ولم يقل أحد منهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: يتوضأ من مس الذكر إلا الزهري، والزهري قد اختلف عليه في الحديث اختلافاً كثيراً، فقيل: عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة.
وقيل: عن الزهري، عن عروة، عن بسرة بدون ذكر مروان.
وقيل: عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، عن زيد بن خالد.
وقيل: الزهري، عن عروة، عن زيد بن خالد بدون ذكر بسرة.
وقيل: الزهري، عن عروة، عن عائشة.
وقيل: الزهري، عن أبي بكر بن حزم، عن عروة، عن بسرة.
وقيل: الزهري، عن عبد الله بن عبد القاري عن أبي أيوب.
وسبق أن تكلمت على هذه الطرق، والراجح منها حين تخريج حديث بسرة، فهذا الاختلاف على الزهري في الإسناد يدل على أنه لم يضبط الحديث، فإذا خالف في متنه لم يقدم على الحفاظ الذين لم يختلفوا في متن الحديث.(9/771)
الدليل الثاني:
قال ابن قدامة: إن مس ذكر غيره معصية، وأدعى إلى الشهوة وخروج الخارج، وحاجة الإنسان تدعو إلى مس ذكر نفسه، فإذا انتقض بمس ذكر نفسه، فبمس ذكر غيره أولى.
قلت: أما كون مس ذكر الغير معصية فليست العلة في النقض كونه معصية، ولذلك لا يجب الوضوء من الكذب والغيبة والنميمة وهي من كبائر الذنوب، ولا يلزم أن يكون مس ذكر الغير معصية كما لو مست المرأة ذكر زوجها، أو طفلها.
وأما كونه مدعاة للشهوة وخروج الخارج، فليست هذه هي العلة أيضاً ولذلك لو مسه بشهوة مع الحائل لم ينتقض وضوؤه مع كونه مدعاة للشهوة وخروج الخارج، وكما لو مسه بغير يده بدون حائل لم ينتقض وضوؤه، فالعلة في النقض من مس الذكر إنما هي تعبدية ليست معقولة المعنى، والله أعلم.
دليل من قال: حكم مس الفرج من الغير حكم مس بدن الأجنبية.
سوف يأتي إن شاء الله تعالى ذكر أدلة هذه المسألة في بحث مستقل في حكم مس المرأة بشهوة، ونبين فيها بحوله وقوته الراجح فيها.(9/773)
الراجح في هذه المسألة، والله أعلم القول بعدم النقض، واختاره ابن عبد البر، حيث يقول: والنظر عندي في هذا الباب أن الوضوء لا يجب إلا على من مس ذكره أو فرجه قاصداً مفضياً، وأما غير ذلك منه أو من غيره فلا يوجب الظاهر، والأصل أن الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض إلا بإجماع أو سنة ثابتة غير محتملة للتأويل (1) .
وكلامه جيد إلا أن اشتراط القصد قول مرجوح، وقد ناقشنا وجه كونه مرجوحاً فيما تقدم، والله أعلم.
_________
(1) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/342) .(9/774)
الفرع الأول:
في مس فرج الميت
قال ابن قدامة: ((وفرج الميت كفرج الحي؛ لبقاء الاسم والحرمة؛ ولاتصاله بجملة الآدمي، وهو قول الشافعي.
وقال إسحاق: لا وضوء عليه)) (1) . اهـ
قلت: قول إسحاق هو الراجح؛ لأن النصوص إنما وردت في فرج نفسه، لا في فرج غيره، وكما قلت: يخطئ من يعتقد أن العلة في النقض إذا مسه بشهوة كونه مظنة لخروج حدثٍ ناقضٍ للوضوء؛ لأن الأحاديث مطلقة، ولم تقيده بالشهوة، ولا يقيد النص الشرعي إلا نص مثله أو إجماع، ولو كانت العلة مظنة خروج الحدث لكان انتشار الذكر بشهوة موجباً للوضوء، ولكان مس الذكر بشهوة، ولو من وراء حائل موجباً له، لأنه مظنة لخروج شيء من الفرج، والوقوف عند النص ما دام أن العلة ليس معقولة هو الاحتياط، والجزم بفساد العبادة الثابتة بدليل لا يجوز إلا بدليل صريح في المسألة، وحين أقول بذلك ليس الحامل له رد القياس؛ فإن تركه جمود، لكني أقول به لعدم وضوح العلة في المسألة، ولا بد حتى يلحق الفرع بالأصل من كون العلة معقولة المعنى، وهذا الذي لم يتضح لي في مس ذكر الغير، كبيراً كان أو صغيراً حياً كان أو ميتاً، وحديث (يتوضأ من مس الذكر) لا يثبت هذا اللفظ كما بينت في المسألة التي قبل هذه، والمحفوظ من حديث بسرة لفظ: (من مس ذكره فليتوضأ) والاحتياط ليس في جانب إفساد العبادة، بل الاحتياط اعتبار صحة الوضوء حتى يتيقن الناقض أو يغلب على الظن وقوعه، والله أعلم بالصواب، وهو الهادي وحده إلى الحق.
_________
(1) المغني (1/117) .(9/775)
[صفحة فارغة](9/776)
الفرع الثاني:
في مس الذكر المنفصل
اختلف القائلون بنقض الوضوء من مس الذكر المتصل إذا مَسَّ ذكراً منقطعاً، هل ينتقض وضوؤه أم لا؟
فقيل: لا ينقض، وهو مذهب المالكية (1) ، واختاره بعض الشافعية (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: ينتقض، وعليه أكثر الشافعية (4) ، ووجه في مذهب الحنابلة (5) .
دليل من قال: لا ينقض.
قالوا: الدليل ورد في الذكر المتصل، فلا دليل على المنفصل؛ ولأنه لا لذة في لمسه، ولا يقصد لمسه، ولذهاب الحرمة، فلا يحرم النظر إليه.
دليل من قال: بالنقض.
قالوا: بأنه يقع عليه اسم الذكر، فيصدق عليه أنه مس ذكراً فعليه الوضوء.
_________
(1) مواهب الجليل (1/299) ، حاشية الدسوقي (1/121) ، أسهل المدارك (1/60) ، الشرح الصغير (1/145) .
(2) المجموع (2/42) .
(3) كشاف القناع (1/127) ، الإنصاف (1/204) ، المغني (1/244) .
(4) المجموع (2/42) ، روضة الطالبين (1/75) ، مغني المحتاج (1/35) .
(5) الإنصاف (1/204) .(9/777)
والراجح القول الأول، لأن النص إنما ورد في ذكر الشخص المتصل، فإذا كنا قد رجحنا أنه لا ينتقض وضوؤه إذا مس ذكر غيره مع اتصاله ببدن صاحبه، فهذا من باب أولى، ومن هذه المسألة مس القلفة التي تقطع للختان، فإن مسها قبل قطعها انتقض وضوؤه عند من يقول بنقض الوضوء بمس ذكر الغير، وتعليلهم: لأنها من جلدة الذكر، وإن مسها بعد القطع لم ينتقض؛ لأنه بائن من الذكر لا يقع عليه اسم الذكر.(9/778)
المبحث الرابع:
في الملموس ذكره
اختلف العلماء القائلون بنقض الوضوء من مس الذكر، هل ينتقض وضوء الملموس ذكره، أو أن الحكم يختص باللامس فقط؟
فقيل: إن كان الملموس بالغاً، ووجد لذة من ذلك، أو وجد منه قصد بأن مالت نفسه بأن يلمسه غيره، فلمسه انتقض وضوؤه، وهو مذهب المالكية.
وقيل: لا ينتقض وضوءه، وهو مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة.
دليل من قال بنقض الوضوء إن وجد منه قصد أو لذة.
جعل المالكية هذه المسألة من باب لمس الأجنبي، فإذا لمس الرجل أجنبياً بلذة انتقض وضوؤه، ومثله الملموس إن وجد منه لذة، وسوف يأتي بحثها في مسألة مستقلة ونذكر أدلتهم التفصيلية إن شاء الله تعالى.
دليل من قال لا ينتقض وضوء الملموس.
الدليل الأول:
الإجماع على عدم وجوب الوضوء على الملموس، قال المجد ابن تيمية نقلاً من الإنصاف: لا أعلم فيه خلافاً - يعني في عدم وجوب الوضوء على الملموس.
ونقل الإجماع غير دقيق لما علمت من مذهب المالكية واختاره كثير من الخرسانيين من الشافعية من القول بالنقض، والله أعلم.(9/779)
الدليل الثاني:
قالوا: إن الأحاديث الواردة جاءت في اللامس، لا في الملموس، فلا نتعدى النص، ولو كان النقض يسري إلى الملموس لأمر بالوضوء كما أمر اللامس، فلما لم يؤمر علمنا أنه لم ينتقض وضوؤه.
وهذا القول مع كونه يتفق مع النص إلا أنه لا يتفق مع العلة التي ذكروها في نقض اللامس، فإنهم قد عللوا النقض بكونه مظنة لخروج الخارج خاصة إذا كان ذلك عن شهوة، فالعلة موجودة في الملموس إذا انتشر ذكره بسبب لمس غيره، ووجد لذة فإن المظنة موجودة، فكان لزاماً عليهم أن يطردوا العلة، وفي هذا بيان أن العلة التي استنبطوها لم تكن هي العلة الحقيقية في وجوب الوضوء من مس الذكر، وإذا رجحنا أن الأمر تعبدي وقفنا عند ظاهر النص، وأوجبنا الوضوء على من لمس ذكره فقط، سواء كان ذلك عن شهوة أم كان من غير شهوة، دون من لمس ذكر غيره ودون الملموس، والله أعلم.(9/780)
فرع:
في مس المرأة شفري فرجها
اختلف العلماء في مس المرأة شفري فرجها، هل ينتقض الوضوء أم لا.
فقيل: لا ينتقض الوضوء بمس الشفرين، وهو قول في مذهب المالكية (1) ، ومذهب الحنابلة (2) ،
وقال الشافعية: ينتقض إن مس ملتقى الشفرين على المنفذ (3) .
_________
(1) تقدم لنا تحرير الأقوال في مذهب مالك رحمه الله في مسألة مس المرأة فرجها، وقدمنا فيه أربعة أقوال، ومن هذه الأقوال القول بنقض الوضوء بشرط أن تلطف، والإلطاف: أن تدخل المرأة يدها بين شفري فرجها، وعليه فلا ينقض مجرد مس الشفرين، والله أعلم انظر المراجع في مسألة مس المرأة فرجها، فقد عزونا الأقوال في مذهب مالك إلى كتب المالكية المعتمدة، والله أعلم.
(2) قال في كشاف القناع (1/128) : " ولا ينقض مس امرأة شفريها، وهما اسكتاها؛ لأن الفرج هو مخرج الحدث، وهو ما بينهما دونهما "
والظاهر أن الشفرين غير الإسكتين، جاء في اللسان (4/419) : يقال لناحيتي فرج المرأة: الإسكتان، ولطرفيهما: الشفران. وجاء في نهاية المحتاج (1/119) : الشفران هما اللحمان المحيطان بالفرج إحاطة الشفة بالفم.
(3) قال النووي في المجموع (2/44) : قال أصحابنا: لا ينقض مس الأنثيين وشعر العانة من الرجل والمرأة, ولا موضع الشعر, ولا ما بين القبل والدبر, ولا ما بين الأليين، وإنما ينقض نفس الذكر وحلقة الدبر وملتقى شفري المرأة, فإن مست ما وراء الشفر لم ينقض بلا خلاف، صرح به إمام الحرمين والبغوي وآخرون. اهـ
وقال الأنصاري في شرح البهجة (1/139) : قوله: (ملتقى المنفذ) قال م ر (الشمس بن الرملي) في حاشية شرح الروض: المراد بقبل المرأة الشفران على المنفذ من أولهما إلى آخرهما: أي بطناً وظهراً، لا ما هو على المنفذ منهما كما وهم فيه جماعة من المتأخرين. وقال ولده في شرح العباب: المراد بملتقى الشفرين طرف الأسكتين المنضمتين على المنفذ، ولا يشترط مسهما بل مسهما أو مس أحديهما من باطنها أو ظاهرها بخلاف موضع ختانها; لأنه لا يسمى فرجاً. اهـ وقال ع ش (ابن حجر الهيتمي في شرح العباب) : والإسكتان ناحيتا الفرج، والشفران طرفاهما، قاله الأزهري ع ش أيضاً. وعبارة المجموع: ملتقى شفري المرأة وظاهرها كغيرها أن الناقض هو القدر المماس من كل من الشفرين للآخر عند الانطباق فقط، وبهامش حاشية الشرح بخط عالم ما نصه: المتعمد النظر لما يلتقي: وهو تماس أحد الحرفين مع الآخر فليتأمل، وعبارة التحفة: والناقض من قبل الآدمي ملتقى شفريه المحيطين بالمنفذ إحاطة الشفتين بالفم دون ما عدا ذلك. اهـ وهو موافق لما بالهامش المذكور. وعبارة م ر في شرح المنهاج والمراد بحلقة الدبر: ملتقى المنفذ دون ما وراءه. قال ع ش: مقتضى تقييده بالملتقى عدم النقض بما يظهر عند الاسترخاء; لأنه ليس من الملتقى بل زائد عليه; لأنه ليس محل الالتقاء اهـ فيفيد أن الملتقى هو محل الالتقاء فقط قال ع ش أيضاً: وهو مخالف لما مر عن شرح العباب والحق أن العبارة محتملة فيرجع لما في شرح العباب. أهـ(9/781)
دليل من قال: لا ينقض: قالوا: إن النقض علق بمس الفرج، والفرج هو مخرج الحدث، لا ما قاربه.
قلت: إن كانت اللغة تساعدهم قبل ذلك اعتماداً على الحقيقة اللغوية، وإلا فإن حافتي الفرج المتصلة به حكمها حكم الفرج، ومثلها حافة الدبر المستديرة، وكأنهم يشترطون إدخال اليد في الفرج حتى ينقض، وهذا ما صرح به المالكية، وقد جاء في اللسان: ((الفرج: اسم لجميع سوآت الرجال والنساء والفتيان وما حواليها كله فرج)) (1) اهـ
فجعل ما حوالي الفرج منه، ولو اعتبرنا مخرج الحدث للزم أن نعتبر من الذكر مخرج البول فقط؛ لأنه هو الفرج، جاء في اللسان: الفرج: الثغر المخوف، وجمعه فروج، سمي فرجاً؛ لأنه غير مسدود: أي ينفرج على الجوف (2) . والله أعلم.
_________
(1) اللسان (2/342) .
(2) المرجع السابق نفس الصفحة.(9/782)
المبحث الخامس:
في مس فرج البهيمة
اختلف العلماء في مس فرج البهيمة،
فقيل: لا ينقض الوضوء مس فرج البهيمة مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، وإحدى القولين في مذهب المالكية (3) .
وقيل: ينقض مطلقاً، وهو قول الليث (4) .
وقيل: ينقض الوضوء إذا قصد اللذة أو وجدها، وهو إحد القولين في مذهب المالكية (5) .
وقيل: ينقض مس قبل البهيمة دون دبرها، وهو اختيار الرافعي من الشافعية (6) .
_________
(1) المجموع (2/43) ، روضة الطالبين (1/75) ، مغني المحتاج (1/36) .
(2) الإنصاف (1/203) ، شرح منتهى الإرادات (1/71) ، المغني (1/264) ، الفروع (1/181) ، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/231) : لمس فرج الحيوان غير الإنسان لا ينقض الوضوء حياً ولا ميتاً باتفاق الأئمة، وذكر بعض المتأخرين من أصحاب الشافعية فيه وجهين، وإنما تنازعوا في مس فرج الإنسان خاصة. اهـ
(3) حاشية الدسوقي (1/119) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/144) ، مواهب الجليل (1/302) .
(4) الأوسط (1/211) .
(5) مواهب الجليل (1/302) ، حاشية الدسوقي (1/119) .
(6) المجموع (2/43) .(9/783)
وقيل: ينقض مس فرج الحيوان النجس الذي لا يؤكل لحمه، وأما الحيوان الطاهر المأكول اللحم فلا ينقض مس فرجه، وهو قول عطاء رحمه الله تعالى (1) .
وهذه المسألة وغيرها لا تتأتى على مذهب الحنفية الذين لا يقولون بالوضوء من مس الفرج مطلقاً.
دليل من قال بالنقض من مس فرج البهيمة.
(1075-304) استدل بما رواه عبد الرزاق، ومن طريقه الطحاوي عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: تذاكرا هو ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان:
حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج، فكأن عروة لم يقنع بحديثه، فأرسل مروان إليها شرطياً، فرجع فأخبرهم أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج.
فقوله: (يأمر بالوضوء من مس الفرج) لفظ الفرج لفظ مطلق، يشمل كل فرج حتى البهيمة.
وقد بينت فيما سبق شذوذ هذه اللفظة في مسألة مس المرأة ذكر الرجل.
دليل من قال بعدم النقض.
قالوا: إن المراد بالفرج فرج نفسه، أو فرج الآدمي لا فرج البهيمة؛ لأنه هو المتبادر عند الاطلاق، والله أعلم.
_________
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف (449) ، وذكره ابن المنذر في الأوسط (1/211) .(9/784)
دليل من اشترط لوجوب الوضوء وجود اللذة.
جعلوا حكم مس فرج البهيمة حكم مس بدن الأجنبي إذا مسه بشهوة، وهي مسألة مستقلة سيأتي بحثها إن شاء الله تعالى.
دليل من فرق بين الحيوان الطاهر والحيوان النجس.
هذا قول عطاء رحمه الله تعالى، ولا أعلم له وجهاً، وليس مناط الحكم هو طهارة الحيوان ونجاسته؛ لأن الإنسان لو مس بولاً أو غائطاً لم يجب عليه إلا غسل تلك النجاسة، ولم ينتقض وضوؤه، ولعل عطاء يقصد بالوضوء من مس فرج البهيمة: هو غسل يده، لأن الفرج قد يكون رطباً، فإذا كان نجساً تعدت النجاسة إلى اليد، فكان عليه وضوء يده، والله أعلم.
والراجح أنه لا يجب وضوء من مس فرج البهيمة، وأن الوضوء فقط متعلق بمس الإنسان فرجه، لا فرج غيره، والله أعلم.(9/785)
[صفحة فارغة](9/786)
المبحث السادس:
مس الأنثيين والأليتين والرفغين
مس الأنثيين والأليتين والرفغين (1) لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
وقيل: ينقض، وهو قول منسوب إلى عروة بن الزبير.
والراجح الأول، لأن من ثبتت طهارته بمقتضى الكتاب والسنة فالأصل أنه على طهارته، ولا يجوز الحكم بفسادها إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل على نقض الوضوء بمس الأنثيين والرفغين والأليتين، وليس الاحتياط أن نوجب الوضوء من ذلك، بل الاحتياط أن لا نشغل ذمة الناس ونفسد عباداتهم الصحيحة إلا بدليل.
(1076-305) وأما ما رواه الدارقطني من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن بسرة بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليتوضأ (2) .
[ذكر الأنثيين والرفغين مدرج من كلام عروة] (3) .
_________
(1) الرفغ جاء في اللسان (3/429) الرفغ: أصول الفخذين من باطن، وهما ما اكتنفا أعالي جانبي العانة عند ملتقى أعالي بواطن الفخذين وأعلى البطن. اهـ
(2) سنن الدارقطني (1/148) .
(3) قال الدارقطني بعد أن ساق هذا الحديث: كذا رواه عبد الحميد بن جعفر، عن هشام، ووهم في ذكر الأنثيين والرفغ، وإدراجه ذلك في حديث بسرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمحفوظ أن ذلك من قول عروة غير مرفوع، كذلك رواه الثقات عن هشام، منهم أيوب السختياني، وحماد بن زيد وغيرهما.
قلت: لفظ أيوب عند الدارقطني (1/148) عن بسرة بنت صفوان أنه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مس ذكره فليتوضأ، قال: وكان عروة يقول: إذا مس رفغيه أو أنثييه فليتوضأ. وصحح إسناده الدارقطني، فهنا فصل المرفوع عن الموقوف، ولفظ حماد بن زيد عند الدارقطني أيضاً عن هشام بن عروة، قال: كان أبي يقول: إذا مس رفغيه أو أنثييه أو فرجه فلا يصلي حتى يتوضأ. قال الدارقطني: كلهم ثقات.
وقال النووي في المجموع (2/44) عن حديث عبد الحميد بن جعفر: هذا حديث باطل موضوع، وإنما هو من كلام عروة، كذا قاله أهل الحديث. اهـ وسبق أن ذكر جميع من روى الحديث من طريق هشام، وليس فيها هذا اللفظ المرفوع حين تخريجنا لحديث بسرة، فارجع إليه إن شئت.(9/787)
المبحث السابع:
في مس الخنثى المشكل
الفرع الأول:
في مس الخنثى المشكل فرجه
الخنثى إما أن يكون مشكلاً أو غير مشكل، فإن كان غير مشكل فإن حكمه حكم المسائل السابقة في مس الرجل والمرأة، وقد فصلناها مع بيان الراجح.
وإن كان الخنثى مشكلاً (1) ، فالخلاف فيه على النحو التالي
فقيل: لا ينقض مس الفرج مطلقاً، سواء كان مشكلاً أو غير مشكل، وهو مذهب الحنفية (2) .
_________
(1) الخنثى المشكل نوعان: أحدهما: أن يكون له ذكر رجل وفرج امرأة يبول منهما.
النوع الثاني: أن لا يكون له واحد منهما، بل له ثقبة يخرج منها الخارج، ولا تشبه فرج واحد منهما، وللفقهاء في تمييز الخنثى المشكل وإلحاقه بالرجال أو بالنساء طرق كثيرة، منها مخرج البول والمني والحيض، فلو كان يبول من الذكر ألحق بالرجال أو يبول من فرج المرأة ألحق بالنساء، وكذا المني والحيض، ومنها الميل، فلو وجد منه ميل بعد البلوغ إلى النساء حكم بأنه رجل، أو إلى الرجال حكم بأنه امرأة،؛ لأن الرجال غالباً تميل إلى النساء، والنساء تميل إلى الرجال، وأعتقد أن الطب في العصر الحاضر يستطيع أن يحدد جنس الخنثى المشكل من جهة وجود الرحم والمبايض وهرمون الأنوثة وغيرها مما لم يكن موجوداً في عصر الفقهاء الأوائل، والله أعلم. انظر طرق تمييز الخنثى المشكل في المجموع (2/52) .
(2) انظر مراجع الحنفية في مسألة مس الذكر هل ينقض الوضوء أم لا؟(9/789)
وقيل: يتوضأ مطلقاً، وهل هو للوجوب أو للاستحباب فيه قولان، وهو مذهب المالكية (1) .
وقيل: إن مسهما معاً انتقض وضوؤه مطلقاً، سواء كان لشهوة أو لغير شهوة، وهو مذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
دليل من قال: لا ينقض مطلقاً.
ذكرنا أدلة الحنفية في مسألة مس الإنسان ذكره، فهم لا يرون الوضوء من مس الذكر مطلقاً، وقد أجبنا عليها فأغنى عن إعادتها هنا.
دليل المالكية على النقض بمس فرج الخنثى المشكل.
خرَّج بعض المالكية كابن العربي والمازري الوضوء من مس الخنثى المشكل فرجه على الشك في الحدث، فالمالكية يرون الوضوء من الشك. قال ابن العربي: إذا مس خنثى ذكره، وقلنا بانتقاض الوضوء بالشك انتقض وضوؤه؛ لاحتمال أن يكون رجلاً، وكذلك إن مس فرجه في الفتوى والتوجيه.
دليل الشافعية والحنابلة.
قالوا: إذا مس الخنثى المشكل فرجيه معاً لا بد أن يكون أحدهما فرجاً
_________
(1) مواهب الجليل (1/299) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/121) ، الخرشي (1/156) قال في شرح عبارة مختصر خليل (ومس ذكره المتصل ولو خنثى مشكلاً) قال أو خنثى مشكلاً تخريجا ً على من تيقن الطهارة وشك في الحدث على المشهور. اهـ
(2) روضة الطالبين (1/76) ، المجموع (2/49) ، مغني المحتاج (1/36) .
(3) كشاف القناع (1/127) ، شرح منتهى الإرادات (1/72) ، المغني (1/245) ، الإنصاف (1/206) .(9/790)
أصلياً، وإذا لمس الفرج الأصلي انتقض وضوؤه لما تقدم من حديث بسرة وأم حبيبة وأبي هريرة وغيرها من الأحاديث الموجبة للوضوء من مس الفرج، وأما إذا لمس أحد فرجيه لم ينتقض وضوؤه لاحتمال أن يكون الملموس فرجاً زائداً، ومع الشك لا ينتقض الوضوء على قاعدة: الشك لا يقضي على اليقين، وهذه المسألة فيما إذا مس الخنثى المشكل فرج نفسه، وأما إذا مسه غيره فسوف يأتي بحثها إن شاء الله تعالى.(9/791)
[صفحة فارغة](9/792)
الفرع الثاني:
في مس الأجنبي فرج الخنثى المشكل
اختلف العلماء في وجوب الوضوء فيما إذا مس أجنبي فرج خنثى مشكل،
فقيل: لا ينقض مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) .
وأما المالكية فيجرون حكمه حكم الملامسة لبدن الأجنبي، إن وجد اللذة أو قصدها انتقض وإلا فلا (2) .
وأما الحنابلة والشافعية فيقسمون المسألة إلى حالات:
الأولى: أن يمس أحد فرجي الخنثى المشكل بدون شهوة، فهذا لا ينقض عندهم؛ وعللوا ذلك بعدم علمهم هل هو فرج أصلي أو زائد، فإن كان زائداً فلا نقض؛ لأن مس بدن المرأة يشترط أن يكون بشهوة، وإن كان أصلياً نقض، ومع الشك فلا تنتقض الطهارة المتيقنة بالشك، لحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) .
الثانية: مسهما جميعاً؛ وهذا ناقض للوضوء؛ لأن أحدهما فرج أصلي يقيناً، ومس فرج الغير ينقض الوضوء عندهم، وقد ذكرنا أدلته في مسألة مستقلة.
_________
(1) سبق أن بينت عند تحرير الخلاف في مس الإنسان ذكره أن الحنفية لا يقولون بالنقض مطلقاً، سواء كان الفرج أصلياً أم مشكلاً، وسواء مس فرجه أم فرج غيره، وسواء كان ذلك بشهوة أم بغير شهوة، وذكرت مصادر هذا القول من مذهب الحنفية في تلك المسألة فارجع إليها إن أردت الرجوع إلى مذهب الحنفية من كتبهم المعتمدة.
(2) مواهب الجليل (1/299) ، الخرشي (1/156) ، حاشية الدسوقي (1/121) .(9/793)
الثالثة: أن يمس الذكر ذكر الخنثى المشكل بشهوة، فهذا ناقض للوضوء؛ لأنه إن كان الذكر أصلياً فقد انتقضت الطهارة للمسه الذكر، ومس ذكر الغير عندهم ناقض للوضوء، وإن كان الذكر زائداً فقد مس بدن المرأة بشهوة، ومسها بشهوة حدث ناقض للوضوء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الخلاف في مس المرأة بشهوة.
الرابعة: أن يمس الذكر قبل الخنثى المشكل بشهوة، فلا نقض عندهم؛ لأننا لا نعلم هل الخنثى المشكل رجل أو امرأة، فإن كان رجلاً فمس الرجل الرجل لا ينقض الوضوء عندهم ولو كان ذلك بشهوة، وإن كان امرأة فإن الوضوء ينتقض، ومع الشك في حقيقة الحال لم يكن ذلك ناقضاً للطهارة المتيقنة.
الحالة الخامسة: أن تمس الأنثى فرج الخنثى المشكل بشهوة، فهنا ينتقض الوضوء؛ لأن الخنثى إن كان رجلاً فقد مست بدنه بشهوة، ومس المرأة بدن الرجل بشهوة حدث ناقض للوضوء، وإن كانت أنثى فقد مست فرجها، ومس فرج الغير عندهم ينقض الطهارة.
الحالة السادسة: أن تمس الأنثى ذكر الخنثى المشكل بشهوة، فلا ينتقض الوضوء؛ لأننا لا نعلم هل هو أنثى أم رجل؟ فإن كان أنثى فلا نقض؛ لأن مس المرأة المرأة بشهوة لا ينقض الوضوء عندهم، وإن كان الخنثى رجلاً فإن الوضوء ينتقض، ومع الشك فلا تنتقض الطهارة المتيقنة (1) ، فصارت الحالات باختصار كالآتي:
_________
(1) انظر في مذهب الشافعية: روضة الطالبين (1/76) ، المجموع (2/49) ، مغني المحتاج (1/36) ، وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/127) شرح منتهى الإرادات (1/72) .(9/794)
الأول: مس الفرجين معاً من الخنثى المشكل ناقض للوضوء عندهم مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة.
الثاني: مس أحد الفرجين بدون شهوة لا ينقض مطلقاً.
الحالة الثالثة: مس أحد فرجي الخنثى المشكل بشهوة له أربع حالات:
حالتان ينتقض الوضوء منهما، وهما: الأولى: أن يمس الذكر ذكر الخنثى المشكل.
الثانية: أن تمس الأنثى فرج الخنثى المشكل.
وحالتان لا ينقض الوضوء، وهما: أن يمس الذكر قبل الخنثى المشكل.
الثانية: أن تمس الأنثى ذكر الخنثى المشكل، وقد ذكرنا تعليلهم لكل حالة من هذه الحالات.
والراجح في هذه المسألة: أن مس فرج الغير مطلقاً لا ينقض الوضوء، سواء كان أصلياً أم مشكلاً؛ لأن الأدلة الواردة إنما وردت في مس الإنسان ذكره، وفي مس المرأة فرجها، ولا يوجد دليل على النقض بمس فرج الغير، وما ورد في ذلك فهو ضعيف كما بينته في مسألة مستقلة، والقياس على مسه لفرجه لا يصح؛ لأن العلة غير معقولة المعنى، وقد بينت خطأ من تصور أن العلة مظنة خروج الخارج في مسألة متقدمة، وعلى التنزل أن العلة هي مظنة خروج الخارج فإنه ينبغي أن يقال بعدم النقض للامس؛ لأن ذكره في هذه الحالة لم يقع عليه مس حتى يكون المس سبباً في خروج حدث منه، وأن يقال بنقض الوضوء من الملموس لوجود المظنة المتوهمة، وهم لا يقولون بنقض الملموس، فتناقضوا في طرد العلة، وهكذا القول الضعيف يحمل تناقضه في ذاته، والله أعلم.(9/795)
[صفحة فارغة](9/796)
الفصل الخامس:
في مس المرأة والأمرد
المبحث الأول:
في مس بدن المرأة من غير حائل
اختلف العلماء في مس بدن المرأة، هل ينقض الوضوء أم لا؟
فقيل: لا ينقض مطلقاً، إلا أن يتجردا متعانقين متماسي الفرجين وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: ينقض مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (2) .
وقيل: ينقض إن كان ذلك بشهوة، ولا ينقض مع عدمها، وهو مذهب المالكية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: إن كان مسه عمداً انتقض، وإلا فلا، حكاه النووي عن داود (5) .
_________
(1) قال في شرح فتح القدير (1/54) : يجب الوضوء من المباشرة الفاحشة: وهي أن يتجردا معاً متعانقين متماسي الفرجين، وعن محمد: لا إلا أن يتيقن خروج شيء. اهـ وانظر البحر الرائق (1/47) ، المبسوط (1/68) ، بدائع الصنائع (1/30) ، تبيين الحقائق (1/12) .
(2) المجموع (2/29) ، مغني المحتاج (1/34) ، حاشية قليوبي وعميرة (1/32) .
(3) مذهب المالكية يقولون بالنقض إن قصد اللذة أو وجدها، انظر المدونة (1/13) ، حاشية الدسوقي (1/119) ، الاستذكار (1/320) ، الشرح الصغير (1/142) .
(4) المحرر (1/13) ، الإنصاف (1/211) ، الكافي (1/46) .
(5) المجموع (2/34) .(9/797)
دليل من قال: مس المرأة لا ينقض الوضوء.
الدليل الأول:
قالوا: لا يوجد دليل صحيح صريح في نقض الوضوء من مس المرأة، والأدلة الواردة إما أدلة غير صحيحة، أو ليست صريحة، ولا ينقض الوضوء إلا دليل صحيح صريح.
الدليل الثاني:
(1077-306) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ. قال عروة: قلت لها: من هي إلا أنت؟ فضحكت (1) .
[حديث معلول] (2) .
_________
(1) المسند (6/210) .
(2) هذا الحديث فيه علل:
الأولى: عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلس مكثر، ذكره في المدلسين الذهبي، والعلائي والمقدسي والحلبي وابن حجر.
وفي التقريب: ثقة فقيه جليل، كان كثير الإرسال والتدليس.
العلة الثانية: اختلافهم في عروة من هو؟ هل هو عروة المزني فيكون مجهولاً أو هو ابن الزبير فيكون منقطعاً؛ لأن حبيباً لم يسمع من عروة بن الزبير شيئاً.
قال أبو داود في السنن (180) : وروي عن الثوري قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني، يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير شيئاً. اهـ
وقد وضع المزي هذا الحديث في تحفة الأشراف (12/233) تحت ترجمة عروة المزني، ولم يتعقبه ولي الدين العراقي في الأطراف، ولا ابن حجر في النكت الظراف.
قال الزيلعي في نصب الراية (1/200) : واعلم أن أبا داود لم ينسب عروة في هذا الحديث، كما نسبه ابن ماجه، وأصحاب الأطراف لم يذكروه في ترجمة عروة بن الزبير، وإنما ذكروه في ترجمة عروة المزني. الخ كلامه رحمه الله.
وأما ما رواه أبو داود في السنن (180) من طريق عبد الرحمن بن مغراء، حدثنا الأعمش، حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني، عن عائشة بهذا الحديث: يعني في ترك الوضوء من القبلة.
فإن في إسناده عبد الرحمن بن مغراء متكلم فيه، جاء في ترجمته:
قال أبو زرعة: صدوق. الجرح والتعديل (5/290) .
وقال عثمان بن أبي شيبة: رأيت أبا خالد الأحمر يحسن الثناء عليه. المرجع السابق.
وقال علي بن المديني: ليس بشيء، كان يروي عن الأعمش ستمائة حديث، تركناه، لم يكن بذاك، قال ابن عدي تعليقاً على كلام ابن المديني: وهذا الذي قاله ابن المديني هو كما قال، إنما أنكرت عليه أحاديث يرويها عن الأعمش لا يتابعه الثقات عليها. الكامل (4/289) .
العلة الثالثة: على فرض أن يكون عروة هو ابن الزبير فإن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير كما صرح بذلك جمع من الأئمة.
قال أحمد ويحيى بن معين: لم يسمع حبيب بن أبي ثابت من عروة شيئاً. المراسيل لابن أبي حاتم (ص 28) .
قال الترمذي في السنن (1/135) عن البخاري: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة شيئاً.
وقال أبو حاتم: روى عن عروة حديث المستحاضة وحديث القبلة، ولم يسمع ذلك من عروة. الجرح والتعديل (3/107) ، والمراسيل (ص 28) .
وقال يحيى بن معين كما في تهذيب الكمال (5/362) قال أحمد بن سعيد بن أبي مريم قيل ليحيى: حبيب ثبت؟ قال: نعم إنما روى حديثين. قال: أظن يحيى يريد منكرين: حديث تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير، وحديث القبلة للصائم.
وساق البيهقي بسنده (1/126) عن يحيى بن سعيد قال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيباً لم يسمع من عروة شيئاً.
وروى الدارقطني (1/139) : عن علي بن المديني قال: سمعت يحيى - يعني: ابن القطان - وذكر عنده حديث الأعمش عن حبيب عن عروة، عن عائشة: تصلي وإن قطر الدم على الحصير، وفي القبلة. قال يحيى: إحك عني أنهما شبه لاشيئ.
ونقله أبو داود (180) ، والنسائي في السنن (1/104،105) عن ابن القطان.
كما ضعف هذا الحديث البخاري فيما نقله عنه الترمذي في سننه (1/135) ، وقال الترمذي: وإنما ترك أصحابنا حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؛ لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد، فهذا يحيى بن معين والبخاري والثوري وابن القطان والترمذي يذهبون إلى تضعيف هذا الحديث.
وهناك من أثبت سماع حبيب من عروة بن الزبير.
قال أبو داود في السنن (180) : قد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثاً صحيحاً. اهـ
قلت: إن كان لم يصح إلا من هذا الطريق فينظر فيه فإن حديث حمزة الزيات، ليس من قبيل الصحيح، فإنه في التقريب: صدوق زاهد ربما وهم. اهـ وقد تكلم فيه بعضهم.
وقال ابن عبدالبر في الاستذكار (3/52) : وحبيب بن أبي ثابت لاينكر لقاؤه عروة، لروايته عمن هو أكبر من عروة، وأجل وأقدم موتاً، وهو إمام من أئمة العلماء الجلة.
قلت: قد جزم الأئمة بعدم سماع حبيب بن أبي ثابت من عروة: كسفيان، وأحمد، وابن القطان، والبخاري، ويحيى بن معين، وأبي حاتم الرازي وغيرهم، وليس عند ابن عبدالبر إلا مجرد إمكان اللقي، وكم من راو عاصر رواة ولم يسمع منهم، فلا يكفي هذا الاحتمال لرد ما جزم به الأئمة، كما أن كلام الأئمة مقدم على كلام أبي داود في قوله: روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثاً صحيحاً، لما علمت من الكلام على حمزة الزيات، وعلى التنزل فإنه يحمل على حديث خاص، كما قد يصرح بعض الأئمة بأن فلاناً لم يسمع من فلان إلا حديثاً واحداً أو حديثين وهكذا، ولا يكون سماعه لحديث واحد مسوغاً لاتصال جميع مروياته، فنحمل كلام أبي داود على هذا جمعاً بين كلام الأئمة أحمد والبخاري وسفيان ويحيى بن سعيد القطان وابن معين والبخاري وأبي حاتم الرزاي وبين كلام أبي داود، فإن ثبت في كلامهم التعارض فلا يقدم كلام أبي داود على هذا الجمع فالخطأ من الواحد أقرب من الخطأ من الجماعة، والله أعلم.
فالخلاصة أن الحديث سواء قلنا: إن عروة هو ابن الزبير أو المزني فإن الحديث يبقى فيه علة توجب الرد، لأن الانقطاع قائم بين حبيب بن أبي ثابت وعروة بن الزبير، والله أعلم.
العلة الرابعة: المخالفة في المتن، فإن حديث عروة، عن عائشة إنما هو في القبلة للصائم، وليس في ترك الوضوء من القبلة، كذا رواه هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، كما سيأتي في التخريج إن شاء الله تعالى.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب، وابن أبي شيبة (1/44) ، وإسحاق (566) ، وأبو داود (179) ، والترمذي (86) ، وابن ماجه (502) ، والدارقطني (1/137) ، والبيقهي في السنن (1/125) ، وفي الخلافيات (435) من طريق وكيع به.
وقد صرح أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه بأن عروة هو ابن الزبير.
ورواه الدارقطني في سننه (1/136) من طريق حاجب بن سليمان، حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه، ثم صلى، ولم يتوضأ.
قال الدارقطني: تفرد به الحاجب عن وكيع، ووهم فيه، والصواب عن وكيع بهذا الإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم، وحاجب لم يكن له كتاب، إنما كان يحدث من حفظه.
قلت: خالف حاجب بن سليمان جمع من الأئمة على رأسهم مالك ويحيى بن سعيد القطان، وابن جريج ومعمر وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وغيرهم
فقد رواه مالك في الموطأ (1/292) ، ومن طريقه أخرجه البخاري (1928) ، والشافعي في الأم (1/84) ، وابن حبان (3537) والبيهقي في السنن (4/233) .
ورواه أحمد (6/192) ، والبخاري (1928) ، والنسائي في الكبرى (3054) ، وابن حبان (3540) من طريق يحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (7410) عن معمر وابن جريج.
وأخرجه الحميدي (198) ومسلم (1206) عن سفيان.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/314) عن شريك.
وأخرجه إسحاق بن راهوية (672) عن أبي معاوية.
وأخرجه الدارمي (1722) من طريق حماد بن سلمة.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (4423) من طريق عمر بن علي.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/91) من طريق سعيد،
وأخرجه البيهقي (1/233) من طريق أنس بن عياض، كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم.
وأخرجه الدارقطني (1/136) عن الحسين بن إسماعيل، نا علي بن عبد العزيز الوراق، نا عاصم بن علي، أنا أبو أويس، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنه بلغها قول ابن عمر في القبلة الوضوء، فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل، وهو صائم، ثم لا يتوضأ.
قال الدراقطني: لا أعلم حدث به عن عاصم بن علي هكذا غير علي بن عبد العزيز.
قلت: وقد خالف الأئمة الحفاظ الذين تقدم ذكرهم في روايتهم عن هشام على رأسهم مالك والقطان وسفيان وابن جريج وغيرهم.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (4686) ، والدارقطني في السنن (1/135) من طريق سعيد بن بشير، عن منصور بن زاذان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل بعض نسائه، ثم يخرج إلى الصلاة، وما يتوضأ.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا منصور، تفرد به سعيد بن بشير.
قال الدراقطني: تفرد به سعيد بن بشير، عن منصور، عن الزهري، ولم يتابع عليه، وليس بقوي في الحديث، والمحفوظ عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل، وهو صائم، كذلك رواه الحفاظ الثقات عن الزهري، منهم معمر وعقيل وابن أبي ذئب.
قلت: أما رواية عقيل، فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/223) ، والنسائي في الكبرى (3057) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/91) من طريق ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلها، وهو صائم.
واختلف على عقيل في إسناده، فرواه ليث ابن سعد كما تقدم.
وخالفه أحمد بن عمرو بن السرح كما في سنن النسائي الكبرى (3056) فرواه عن خاله وجادة، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبره عن عروة، عن عائشة، فذكر عروة بدلاً من أبي سلمة. ورواية ليث هي الصواب.
وأما رواية معمر فقد رواها عبد الرزاق (7408) ومن طريقه إسحاق بن راهوية (1062) ، وأحمد (6/232) ، والطبراني في الأوسط (4686) وابن حبان (3545) عن معمر، الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل بعض نسائه، وهو صائم.
وأخرجه النسائي في الكبرى (3058) من طريق يزيد بن زريع، عن معمر به.
واختلف على معمر، فرواه عبد الزراق ويزيد بن زريع، كلاهما عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة.
وخالفهما عيسى بن يونس، كما في سنن الدارقطني (1/142) فرواه عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة عن عروة، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل، وهو صائم، ثم يصلي، ولا يتوضأ. قال الدارقطني: هذا خطأ من وجوه.
وقال في العلل: وهم في إسناده ومتنه، فأما وهمه في إسناده فقوله: عن أبي سلمة، عن عروة، وإنما رواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة.
وأما قوله في متنه: " ولا يتوضأ " فهو وهم أيضاً، والمحفوظ كان يقبل، وهو صائم. انظر العلل للدارقطني (5/ ورقة 148) .
وأخرجه البزار في مسنده كما في نصب الراية (1/74) قال: حدثنا إسماعيل بن يعقوب ابن صبيح، حدثنا محمد بن موسى بن أعين، حدثنا أبي، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن عائشة أنه عليه السلام كان يقبل بعض نسائه، ولا يتوضأ.
وهذا إسناد ضعيف؛ لأن الجزري وإن كان ثقة إلا أنه متكلم في روايته عن عطاء، فقد نقل ابن عدي عن الدوري، قوله: سمعت يحيى يقول: أحاديث عبد الكريم عن عطاء رديئة. قال ابن عدي: وهذا الحديث الذي ذكره يحيى بن معين عن عبد الكريم عن عطاء هو ما رواه عبيدالله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلها ولا يحدث وضوءاً: إنما أراد ابن معين هذا الحديث؛ لأنه ليس بمحفوظ، ولعبد الكريم أحاديث صالحة مستقيمة يرويها عن قوم ثقات، وإذا روى عنه الثقات فحديثه مستقيم. الكامل (5/341) .
وروى عبد الرزاق (511) ، وأحمد (6/210) وابن أبي شيبة (1/45) ، والدارقطني (1/139، 141) والبيهقي في السنن الكبرى (1/126) ، وفي الخلافيات (439) من طريق سفيان الثوري.
ورواه أبو داود (178) والنسائي (170) ، وفي الكبرى (155) من طريق يحيى بن سعيد القطان.
ورواه أبو داود (178) والدارقطني (1/139) من طريق عبد الرحمن بن مهدي.
ورواه الدارقطني (1/139) من طريق أبي عاصم الضحاك ومحمد بن جعفر، كلهم أعني: (الثوري والقطان وابن مهدي وأبو عاصم ومحمد بن جعفر) رووه عن أبي روق الهمداني، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل، ثم صلى، ولم يتوضأ.
وهذا إسناد ضعيف، إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، قاله أبو داود في السنن وغيره.
قال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلاً. اهـ
قلت: وهذا ذهاب من الإمام النسائي رحمه الله إلى تضعيف حديث حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، خاصة أنه قال بعد هذا الكلام متصلاً بالكلام السابق: وقد روى الحديث الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة، قال يحيى القطان: حديث حبيب لا شيء. ولم يتعقبه بشيء.
وقد اختلف على أبي روق هذا، فرواه عنه من تقدم من مسند عائشة، وخالفهم أبو حنيفة رحمه الله، فرواه الدارقطني (1/141) ، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (444) فقال: عن أبي روق، عن إبراهيم، عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتوضأ، ثم يقبل، ولا يحدث وضوءاً.
ورواه البيهقي في الخلافيات (445) من طريق معاوية بن هشام، عن الثوري، عن روق، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها، وهو صائم.
وخالف معاوية بن هشام كل من رواه عن الثوري، مثل وكيع وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم، بل خالف كل من رواه عن أبي روق ممن تقدم ذكرهم في تخريج الحديث كابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأبو عاصم الضحاك ومحمد بن جعفر وغيرهم، فهذه الرواية لا شك أنها منكرة، لمخالفتها رواية الثقات سنداً ومتناً، والله أعلم.
وروى أحمد (6/62) وابن ماجه (503) عن محمد بن فضيل.
والدارقطني (1/142) من طريق عباد بن العوام.
والبيهقي في الخلافيات (446) من طريق عبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ثم يقبل، ويصلي، ولا يتوضأ.
وخالفهم حفص بن غياث، كما في تفسير الطبري (9630) فرواه عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
ورواه الأوزاعي، واختلف عليه فيه:
فرواه الدارقطني (1/142) من طريق عبد الحميد، عن الأوزاعي، عمرو بن شعيب، عن زينب، عن عائشة.
وخالفه عبد الرزاق، فرواه في المصنف (509) عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن امرأة سماها أنها سمعت عائشة به.
وهذا الحديث ضعيف، وعلة الحديث زينب روى عنها اثنان، ولم يوثقها إلا ابن حبان. وفي العلل لابن أبي حاتم (1/48) : " قال أبو حاتم وأبو زرعة: الحجاج يدلس في حديثه عن الضعفاء، ولا يحتج به. اهـ
وقد ضعف الحديث جماعة منهم ابن عبد البر في الاستذكار (1/324) ، وابن عبد الهادي في التنقيح (1/440) ، والبوصيري في مصباح الزجاجة (1/127) .
وقال الدارقطني: زينب هذه مجهولة، ولا تقوم بها حجة.
انظر في مراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (9/104) ، تحفة الأشراف (17371) ، إتحاف المهرة (21964) .(9/798)
الدليل الثاني:
(1078-307) روى الطبري في تفسيره من طريق يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة،(9/805)
عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءاً (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) تفسير الطبري (5/106) ، ومن طريق يزيد بن سنان رواه الطبراني في الأوسط (3805) ، قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي إلا يزيد بن سنان، تفرد به سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه.
(2) تفرد به يزيد بن سنان عن الأوزاعي، وهو ضعيف، وقد خالف في إسناده ومتنه، فقد رواه النسائي في الكبرى (3061) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/91) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها، وهو صائم.
فرواه من مسند عائشة، وفي القبلة للصائم، ولم يذكر وضوءاً.
وكذلك رواه الخطيب في تاريخ بغداد (7/426) من طريق يحيى بن عبد الله البابلتي.
والدراقطني في العلل من طريق مبشر بن إسماعيل وعقيل، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة.
وسبق أن ذكرنا أن الزهري رواه كذلك عن أبي سلمة عن عائشة في القبلة للصائم عند الكلام على حديث عائشة.
ونقلنا قول الدارقطني: والمحفوظ عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل، وهو صائم، كذلك رواه الحفاظ الثقات عن الزهري، منهم معمر وعقيل وابن أبي ذئب.
قلت: أما رواية عقيل، فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/223) ، والنسائي في الكبرى (3057) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/91) من طريق ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلها، وهو صائم.
وأما رواية معمر فقد رواها عبد الرزاق (7408) ومن طريقه إسحاق بن راهوية (1062) ، وأحمد (6/232) ، والطبراني في الأوسط (4686) وابن حبان (3545) عن معمر، الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل بعض نسائه، وهو صائم.
وأخرجه النسائي في الكبرى (3058) من طريق يزيد بن زريع، عن معمر به.
وبناء على هذه الطرق فإن مخالفة يزيد بن سنان لا تحتمل مع شدة ضعفه، والله أعلم.(9/806)
الدليل الثالث:
(1079-308) ما رواه الطبراني، من طريق أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، ثنا زفر بن الهذيل، عن ليث بن أبي سليم، عن ثابت بن عبيد،
عن أبي مسعود الأنصاري أن رجلا أقبل إلى الصلاة، فاستقبلته امرأته فأكب عليها فتناولها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فلم ينهه. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن زفر إلا أبو علي الحنفي (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الرابع:
(1080-309) ما رواه البخاري، من طريق مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن،
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. ورواه مسلم أيضاً (3) .
_________
(1) المعجم الأوسط (7227) .
(2) في إسناده ليث بن أبي سليم، وهو مشهور الضعف، وقد تخير بآخرة، ولم يتميز حديثه.
(3) صحيح البخاري (382) ، ومسلم (512) .(9/807)
وجه الاستدلال:
لو كان مس المرأة ناقضاً للوضوء لما مس الرسول - صلى الله عليه وسلم - عائشة، وهو في الصلاة، فهذا دليل على أن مس المرأة ليس حدثاً.
وأجاب عنه المخالفون بحسب أقوالهم، فمن يرى أن مس المرأة إنما ينقض إذا كان بشهوة، قال: إن هذا الغمز لا يمكن أن يكون بشهوة، خاصة وأن هذا كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، ومن يرى أن مس المرأة ناقض مطلقاً يقول: ربما كان غمزه للمرأة بحائل، وإنما ينقض إذا مس المرأة بلا حائل، وليس في الحديث ما يشير إلى أن الغمز كان بحائل، والأصل عدمه.
الدليل الخامس:
(1081-310) ما رواه البخاري من طريق عمرو بن سليم الزرقي،
عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. ورواه مسلم أيضاً (1) .
الدليل السادس:
(1082-311) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، حدثني عبيد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة،
عن عائشة قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول:
_________
(1) صحيح البخاري (516) ، وصحيح مسلم (543) .(9/808)
اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (1) .
الدليل السابع:
مس بدن المرأة لا يمكن أن يكون حدثاً، ولو تصور أن يكون حدثاً لرفع الحكم لعموم البلوى، ولرفع الحرج عن هذه الأمة، قال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (2) .
الدليل الثامن:
الأصل بقاء الطهارة، وعدم وجود المفسد إلا بدليل صحيح صريح، ولا يوجد دليل على إبطال طهارة من مس بدن امرأته.
الدليل التاسع:
لو كان مس المرأة بمجرده حدثاً ناقضاً للوضوء، لكان مس الرجل من الرجل ومس المرأة من المرأة ناقضاً للوضوء كذلك، لأن بطلان الوضوء أو صحته من الأحكام الوضعية، وليست أحكاماً تكليفية، فيستوي فيها مس الرجل للرجل، ومس المرأة للمرأة، والمس من المحارم ومن غيرهم، ومس الصغيرة كمس الكبيرة، كما أن جماع الرجل الرجل كجماعه للمرأة، فلما ذهب القائلون بنقض الوضوء من مس المرأة إلى التفريق بين هذه المسائل علم أن القول بالنقض قول ضعيف، والله أعلم.
_________
(1) صحيح مسلم (486) .
(2) الحج: 78.(9/809)
وأما الدليل على التفريق بين المباشرة الفاحشة وبين غيرها، قالوا: إن المباشرة الفاحشة يندر معها عدم نزول مذي في هذه الحالة، والغالب كالمتحقق في مقام وجوب الاحتياط.
دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء مطلقاً.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} (1) .
وحقيفة اللمس: ملاقاة البشرتين، واللمس يطلق على الجس باليد، قال الله تعالى: {فلمسوه بأيديهم} (2) .
(1083-312) وروى البخاري من طريق ابن شهاب، قال: أخبرني عامر بن سعد،
أن أبا سعيد الخدري قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين وعن بيعتين نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك... الحديث، والحديث رواه مسلم أيضاً.
(1084-313) وقد روى أحمد، قال: حدثنا يزيد، أخبرنا جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة،
عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز بن مالك حين أتاه فأقر عنده بالزنا: لعلك قبلت، أو لمست. قال: لا قال: فنكتها. قال: نعم،
_________
(1) المائدة: 6.
(2) الأنعام: 7.(9/810)
فأمر به فرجم (1) .
[رجاله ثقات، وهو في الصحيح بلفظ: أو غمزت، وهي رواية الأكثر، والله أعلم] (2) .
_________
(1) المسند (2/238) .
(2) الحديث رواه أحمد كما في إسناد الباب، وعبد بن حميد كما في المنتخب (571) ، والدارقطني في سننه (3/121) من طريق يزيد بن هارون به، بالنص على كلمة " أو لمست ".
ورواه أحمد (1/270) حدثنا إسحاق بن عيسى،
والبيهقي في السنن (8/226) من طريق سليمان بن حرب، حدثنا جرير به، بلفظ: أو غمزت بدلاً من قوله: " أو لمست ".
وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/338) وفي الأوسط (2554) حدثنا أبو مسلم الكشي، ثنا سليمان بن حرب به، بلفظ: أو لمست. وفي الأوسط " غمزت أو لمست.
ورواه الدارقطني (3/121-122) ، والحاكم في المستدرك (8076) من طريق وهب ابن جرير، حدثني أبيه به. بلفظ: " أو لمست " وهذه متابعة ليزيد بن هارون على هذه اللفظة.
إلا أن البخاري قد رواه في الصحيح (6824) عن عبد الله بن محمد الجعفي،
ورواه أبو داود (4427) من طريق زهير بن حرب وعقبة بن مكرم،
ورواه النسائي في السنن الكبرى (7169) أخبرنا عمرو بن علي وعبد الله بن الهيثم بن عثمان البصري خمستهم عن وهب ابن جرير به، بلفظ: " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ". وقد ترجم له البخاري رحمه الله بقوله: باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت. وهذا ذهاب من الإمام البخاري إلى صحة هذه اللفظة، وإلا لما ترجم بها.
ورواه ابن أبي شيبة (5/520) ومن طريقه أحمد وابنه عبد الله كما في المسند (1/255) ،
وأخرجه الدارقطني (3/121) من طريق أحمد موسى بن إسماعيل، كلاهما عن ابن المبارك، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة به. بلفظ: " أو لمست ". وهذا طريق آخر غير طريق جرير يوافقه على قوله أو لمست إلا أن أحمد رواه في المسند (1/289) قال: حدثنا عتاب،
ورواه أيضاً (1/325) حدثنا يحيى بن آدم.
ووراه النسائي في الكبرى (7168) أخبرنا سويد بن نصر، ثلاثتهم عن عبد الله بن المبارك به، بلفظ: أو غمزت.
ورواه الحاكم في المستدرك (8077) من طريق حفص بن عمر العدني، ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، وفيه: لعلك قبلتها؟ قال: لا، قال: فمسستها؟ قال: لا.
وضعفه الذهبي في التلخيص بحفص بن عمر العدني.
انظر أطراف المسند (3/233) ، تحفة الأشراف (6276) ، إتحاف المهرة (8435) .(9/811)
فدل على أن اللمس يكون باليد وبغير اليد، والمطلق يجب أخذه على إطلاقه، فقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (1) ،يشمل لمس اليد وغيره بمقتضى اللغة، والسنة الصحيحة.
وأجيب:
على التسليم بأن اللمس يطلق على اللمس باليد ويطلق على الجماع، فإن في الآية قرينة تدل على أن المراد من الآية الجماع لا غير، ووجهه:
أن الله سبحانه وتعالى ذكر طهارتين: الماء والتيمم، وذكر في وجوب طهارة الماء سببين: الحدث الأصغر والأكبر، فالأصغر بقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...} الآية (2) .
والحدث الأكبر بقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) المائدة: 6.
(3) المائدة: 6.(9/812)
وفي طهارة التيمم كذلك ذكر حدثين الأصغر والأكبر، فالأصغر بقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} والأكبر بقوله: {أو لا مستم النساء} أي جامعتم النساء، ولو حمل على اللمس باليد لكان معنى هذا أن الآية كررت ذكر حدثين أصغرين، وأهملت الحدث الأكبر في طهارة التيمم، وهذا مناف للبلاغة المعهودة من كتاب الله سبحانه وتعالى، فكان مقتضى التقسيم في طهارة الماء من ذكر الحدث الأكبر والأصغر أن يعاد التقسيم نفسه في طهارة التيمم، لا أن يكرر الحدث الأصغر ويهمل الحدث الأكبر.
وهذه القرينة كافية في حمل اللمس على الجماع في الآية الكريمة، وقد فسرها ابن عباس بالجماع، وهو ترجمان القرآن الكريم كما سيأتي الإسناد إليه قريباً إن شاء الله تعالى.
وقد ناظر أبو موسى ابن مسعود في التيمم من الجنابة بهذه الآية مما يدل على أن المراد من المس الحدث الأكبر،
(1085-314) فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق الأعمش، عن شقيق: قال:
كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهراً، أما كان يتيمم ويصلي؟! فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيباً، فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد قلت: وإنما كرهتم هذا لذا قال نعم.. الحديث، والحديث رواه مسلم (1) .
_________
(1) البخاري (247) ، ومسلم (368) .(9/813)
وفي رواية للبخاري: (فقال أبو موسى: فكيف تصنع بهذه الآية، فما درى عبد الله ما يقول) (1) .
الدليل الثاني من الآثار:
(1086-315) ما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله،
عن أبيه عبد الله ابن عمر، أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء (2) .
[إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن عمر] .
(1087-316) وروى عبد الرزاق، عن معمر وابن عيينة فرقهما، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة،
أن ابن مسعود قال: يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة إذا قبل امرأته، وكان يقول في هذه الآية: {أو لا مستم
النساء} (3) ، قال: هو الغمز (4) .
_________
(1) البخاري (346) .
(2) الموطأ (1/43) ، ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في الأم (1/15) ،وابن المنذر في الأوسط (1/117) ، والدارقطني (1/144) .
ورواه عبد الرزاق في المصنف (496) ومن طريقه الدارقطني (1/144) ، عن معمر، عن الزهري به.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/49) حدثنا عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن الزهري به.
(3) المائدة: 6.
(4) المصنف (499، 550) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/118) ، والطبراني في الكبير (9/285) ،
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/49) حدثنا حفص وهشيم، عن الأعمش به. قال الهيثمي في المجمع (1/247) : أبو عبيدة لم يسمع من أبيه.(9/814)
[أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وقد قال الحافظ ابن رجب: إن ما يرويه أبو عبيدة عن أبيه قد سمعه من آل بيته عنه، فيكون على الاتصال] (1) .
وأجيب:
أولاً: أن هذا القول من ابن عمر وابن مسعود معارض بقول ابن عباس
(1088-317) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: هو الجماع (2) .
[صحيح عن ابن عباس] (3) .
(1089-318) وروى ابن أبي شيبة أيضاً من طريق عبد الملك بن ميسرة،
_________
(1) انظر تحفة التحصيل (430) .
(2) المصنف (1/153) .
(3) ورواه ابن أبي شيبة (1/154) من طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير به، بلفظ: اللمس والمس والمباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء لما شاء.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/116) من طريق داؤد بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن جبير به.
ورواه ابن أبي شيبة (1/153) وابن المنذر في الأوسط (1/116) من طريق حفص، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير به.
ورواه ابن المنذر أيضاً (1/116) من طريق عكرمة عن ابن عباس به، بلفظ أبي بشر المتقدم.(9/815)
عن سعيد بن جبير قال: اختلفت أنا وأناس من العرب في اللمس، فقلت: أنا وأناس من الموالي: اللمس ما دون الجماع، وقالت العرب: هو الجماع، فأتينا ابن عباس، فقال: غلبت العرب، هو الجماع (1) .
[وإسناده صحيح] .
وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر، وينظر في أقربهما إلى الصواب، وقد قدمنا أن في الآية قرينة على أن المراد باللمس هنا الجماع.
ثانياً: أن القرآن أطلق المس وأراد به الجماع في آيات من كتاب الله، قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} (2) ، وقال: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (3) ، {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف
ما فرضتم} (4) .
قال ابن المنذر: وقد أجمع أهل العلم على أن رجلاً لو تزوج امرأة ثم مسها بيده أو قبلها بحضرة جماعة ولم يخل بها، فطلقها أن لها نصف الصداق، إن كان سمى لها صداقاً، والمتعة إن لم يكن سمى لها صداقاً، ولا عدة عليها، فدل إجماعهم على ذلك أن الله إنما أراد في هذه الآيات الجماع، فإذا كان كذلك حكمنا اللمس بحكم المس إذا كان في المعنى واحداً.
_________
(1) المصنف (1/153) .
(2) البقرة: 236.
(3) الأحزاب: 49.
(4) البقرة: 237.(9/816)
ثالثاً: أن قول ابن عمر وابن مسعود يحمل على ما إذا كان بشهوة، فلا دليل فيه للشافعية على الوضوء من مجرد اللمس، لأن الرجل لا يقبل امرأته كما يقبل أمه أو ابنته، وإنما يقبلها بدافع الشهوة، وكذلك المراد من قوله: أو جسها بيده، ولهذا قال ابن تيمية: وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال، ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة، ولا روى أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المسلمين أن يتوضؤوا من ذلك، مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم منه أحد في عموم الأحوال، فإن الرجل لا يزال يناول امرأته شيئاً، وتأخذه بيدها، وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به، فلو كان الوضوء من ذلك واجباً، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بذلك مرة بعد مرة، ويشيع ذلك، ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد، فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحداً من المسلمين بشيء من ذلك مع عموم البلوى به، علم أن ذلك غير واجب (1) .
وقال ابن تيمية أيضاً: ((اللمس العاري عن الشهوة لا يعلق به حكم من الأحكام أصلاً، وهذا كقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (2) ، فنهى العاكف عن مباشرة النساء مع أن العلماء يعلمون أن المعتكف لو مس امرأته بغير شهوة لم يحرم ذلك عليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدني رأسه إلى عائشة رضي الله عنها فترجله، وهو معتكف، ومعلوم أن ذلك مظنة مسه لها، ومسها له، وأيضاً فالإحرام أشد من الاعتكاف، ولو مسته المرأة لغير شهوة لم يأثم بذلك، ولم يجب عليه دم، وهذا
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/236) وما بعدها.
(2) البقرة: 187.(9/817)
الوجه يستدل به من وجهين: من جهة ظاهر الخطاب، ومن جهة المعنى والاعتبار؛ فإن خطاب الله تعالى في القرآن بذكر اللمس والمس والمباشرة للنساء ونحو ذلك لا يتناول ما تجرد عن شهوة أصلاً، ولم يتنازع المسلمون في شيء من ذلك إلا في آية الوضوء، والنزاع فيها متأخر، فيكون ما أجمعوا عليه قاضياً على ما تنازع فيه متأخروهم.
وأما طريق الاعتبار فإن اللمس المجرد لم يعلق الله به شيئاً من الأحكام، ولا جعله موجباً لأمر، ولا منهياً عنه في عبادة ولا اعتكاف، ولا إحرام ولا صلاة ولا صيام، ولا غير ذلك، ولا جعله ينشر حرمة المصاهرة، ولا يثبت شيئاً غير ذلك، بل هذا في الشرع كما لو مس المرأة من وراء ثوبها ونحو ذلك من المس الذي لم يجعله الله سبباً لإيجاب شيء ولا تحريم شيء.
وإذا كان كذلك كان إيجاب الوضوء بهذا مخالفاً للأصول الشرعية المستقرة، مخالفاً للمنقول عن الصحابة، وكان قولاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، بل المعلوم من السنة مخالفته)) (1) .
دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء إن كان بشهوة.
هذا القول ذهب إلى الجمع بين الآية والأخبار،
فالآية الكريمة بقوله سبحانه وتعالى {أو لا مستم النساء} يقتضي أن يكون مس المرأة ناقضاً للوضوء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة، وجاءت الأخبار دالة على أن المس بدون شهوة لا ينقض الوضوء، كحديث عائشة في مسلم: قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وتقدم تخريجه بتمامه.
_________
(1) المرجع السابق.(9/818)
(1090-319) وحديث عائشة في الصحيحين: (كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما..) الحديث، وسبق تخريجه بتمامه (1) .
وقال ابن المنذر: وما زال الناس في القديم والحديث يتعارفون أن يعانق الرجل أمه وجدته ويقبل ابنته في حال الصغر قبلة الرحمة، ولا يرون ذلك ينقض الطهارة ولا يوجب الوضوء عندهم، ولو كان ذلك حدثاً ينقض الطهارة ويوجب الوضوء لتكلم فيه أهل العلم، كما تكلموا في ملامسة الرجل امرأته وقبلته إياها (2) .
وقال أيضاً: وقد أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن لا وضوء على الرجل إذا قبل أمه أو ابنته أو أخته إكراماً لهن وبراً عند قدوم من سفر أو مس بعض بدنه بعض بدنها عند مناولة شيء إن ناولها إلا ما ذكر من أحد قولي الشافعي فإن بعض المصريين من أصحابه حكى عنه في المسألة قولين: أحدهما إيجاب الوضوء منه، والآخر كقول سائر أهل العلم، ولم أجد هذه المسألة في كتبه المصرية التي قرأناها على الربيع، ولست أدري أيثبت ذلك عن الشافعي أم لا؛ لأن الذي حكاه لم يذكر أنه سمعه منه، ولو ثبت ذلك عنه لكان قوله الذي يوافق فيه المدني والكوفي وسائر أهل العلم أولى به (3) .
الراجح: القول بأن اللمس في الآية الجماع، وأن مس بدن المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، سواء مسه بشهوة أو بغير شهوة.
_________
(1) انظر حديث رقم (1080) .
(2) الأوسط (1/131) .
(3) المرجع السابق (1/130) .(9/819)
[صفحة فارغة](9/820)
المبحث الثاني:
في مس شعر وظفر المرأة
اختلف العلماء في مس شعر المرأة وظفرها وسنها أو مس بدن المرأة بشعره أو ظفره أو سنه هل ينتقض الوضوء بذلك أم لا؟
فقيل: لا ينقض الوضوء مطلقاً، وهو نص الشافعي في الأم (1) ، وعليه جمهور أصحابه، وهو مذهب الحنابلة رحمهم الله (2) .
وقيل: ينقض الوضوء مطلقاً، وهو وجه عند الشافعية (3) .
وقيل: ينقض الوضوء إن كان بشهوة، وهو مذهب المالكية (4) .
دليل من قال: لا ينقض الوضوء مطلقاً.
التعليل الأول:
أن هذه الأشياء بحكم المنفصل.
التعليل الثاني:
أن هذه الأجزاء ليست محلاً للشهوة الأصلية.
_________
(1) مغني المحتاج (1/35) ، وانظر المجموع (2/30) .
(2) كشاف القناع (1/129) ، القاعدة الثانية من قواعد ابن رجب (ص:4) ، المغني (1/125) .
(3) المجموع (2/30) ،
(4) حاشية الدسوقي (1/120) ، التاج والإكليل (1/431) ، حاشية العدوي (1/139) ، التفريع لابن الجلاب (1/213) .(9/821)
التعليل الثالث:
أنه لا يلحقه طلاق بطلاق هذه الأشياء. وهذا التعليل في نزاع كما سيتضح إن شاء الله من أدلة المالكية.
دليل من قال: مس الشعر والظفر ينقض الوضوء مطلقاً.
أدلتهم هي أدلتهم في وجوب الوضوء من مس بدن المرأة، وقد ذكرناها بالتفصيل في المسألة السابقة.
كما عللوا ذلك بأن الشعر جزء من البدن متصل به اتصال خلقة فأشبه اللحم؛ ولأنه جزء من البدن يلحقه طلاقه فأشبه ما ذكرناه (1) .
دليل من قيد النقض بالشهوة.
من اعتبر الشهوة هنا قد اعتبرها في مس بدن المرأة، وأدلتهم هنا هي أدلتهم هناك، وقد ذكرناها في المسألة السابقة، وأجبنا عليها.
الراجح:
لو قلنا بنقض الوضوء من مس بدن المرأة لقلنا به هنا، وقد بينا أن القول الراجح أن مس بدن المرأة لا ينقض الوضوء لعدم الدليل الصحيح الصريح في المسألة.
_________
(1) الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/148) .(9/822)
المبحث الثالث:
في مس المرأة مع حائل
اختلفوا فيمن مس امرأته من وراء حائل،
فقيل: لا وضوء عليه، وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: إن كان الحائل رقيقاً، فعليه الوضوء، بشرط أن يقصد اللذة أو يجدها، وإن ضم بدن الملموس أو قبض على شيء من جسده نقض مطلقا: ً أي سواء كان الحائل رقيقاً أو صفيقاً، وهو مذهب المالكية (3) .
وقيل: ينقض إذا وجد اللذة أو قصدها، ولو كان الحائل كثيفاً، وهو قول في مذهب المالكية، وهو ظاهر المدونة (4) .
دليل من قال: لا ينقض.
قالوا: إن اللمس إذا أطلق إنما يراد به بدون حائل، وأما مع الحائل فكأنه لمس ثياب المرأة، ولمس ثياب المرأة لا يوجب وضوءاً.
دليل من قال: ينقض إن كان الحائل رقيقاً.
لعله رأى أن الحائل إذا كان رقيقاً فإنه لا يمنع من كمال اللذة، ويستشعر اللامس طراوة جسد الملموس فأوجب عليه الوضوء كما لو لم يكن هناك حائل.
_________
(1) المجموع (2/34) ،
(2) الإنصاف (1/213) ،
(3) حاشية الدسوقي (1/120) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/143) .
(4) حاشية الدسوقي (1/120) ، الفواكه الدواني (1/115) ، منح الجليل (1/112) .(9/823)
تعليل من قال: ينقض مطلقاً ولو مع حائل.
إذا لمس بدن المرأة لشهوة ولو مع حائل فإنه يصدق عليه أنه لمس المرأة، واللذة بلمس بدن المرأة مع الحائل موجودة كما لو مسها بدون حائل، ومظنة خروج الحدث قائمة.
والراجح: ما رجحت قبل، وهو أن مس المرأة مطلقاً لا ينقض الوضوء، بحائل أو بدونه، والله أعلم.(9/824)
المبحث الرابع:
في مس المحارم
إذا لمس الرجل ذات محرم، فهل ينتقض وضوؤه؟ اختلف العلماء في ذلك.
فقيل: إن وجد اللذة انتقض، لا فرق بين ذوات المحارم والأجنبية، وهو مذهب المالكية (1) ، ومذهب الحنابلة (2) .
وقيل: ينتقض وضوؤه مطلقاً، سواء كان بشهوة أو بغيرها، وهو قول في مذهب الشافعية (3) .
وقيل: لا ينقض، وهو مذهب الشافعية (4) ، وظاهر عبارة ابن الجلاب من المالكية (5) .
دليل المالكية بالنقض:
عموم قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} (6) .
_________
(1) الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/148) ، التاج والإكليل (1/432) ، مواهب الجليل (1/298) .
(2) قال ابن قدامة في المغني (1/125) : ولا فرق بين الأجنبية وذات المحرم، والكبيرة والصغيرة. الخ كلامه رحمه الله. وانظر الروض المربع بحاشية الدكتور الشيخ خالد المشيقح ومن معه (1/307) ، كشاف القناع (1/129) .
(3) المجموع (2/31) .
(4) المجموع (2/31) ، أسنى المطالب (1/56) ، تحفة المحتاج (1/138) .
(5) التفريع (1/213) .
(6) المائدة: 6.(9/825)
وقياساً على الإيلاج، فكما أنه لا فرق بين المحارم وغيرهم في وجوب الغسل منه، فلا فرق في وجوب الحدث الأصغر.
وتعليل الشافعية على عدم النقض:
أن المحارم ليسوا محلاً للشهوة، فهي كالرجل في حقه، فكما أنه لو مس رجلاً لم ينتقض وضوؤه، فكذلك إذا مس أحداً من محارمه، حتى ولو وجد شهوة من ذلك لم ينتقض.
الراجح من الخلاف:
لو قلنا بنقض الوضوء من مس المرأة لكان الراجح عدم الفرق بين المحارم وغيرهم، ولكن لم يقم دليل صحيح على انتقاض الوضوء من مس المرأة مطلقاً، سواء كانت من الأجنبيات أو المحارم، وسواء كانت صغيرة أو كبيرة.(9/826)
المبحث الخامس:
في مس الطفلة الصغيرة بشهوة
اختلف العلماء في مس الرجل الطفلة أو المرأة الطفل، هل ينقض الوضوء،
فقيل: لا ينقض الوضوء، وهو مذهب المالكية (1) ، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: ينقض الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (3) ، ووجه في مذهب الشافعية (4) .
وقيل: إن كانت بنت سبع سنين نقض وإن كانت أصغر لم ينقض، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (5) .
وسبب الخلاف في هذه المسألة خلافهم في مس ذوات المحارم، فمن ذهب إلى عدم النقض، قال: إن الصغيرة ليست محلاً للشهوة، فيكون النظر إليها كالنظر إلى الرجل، ومن ذهب إلى النقض رأى أن السن ليس مناطاً للحكم، فلو أولج ذكره في فرج الصغيرة وجب لذلك الغسل، فكذلك يجب
_________
(1) اشترط المالكية بأن يكون الملموس يشتهى عادة، فلا ينتقض مس البنت الصغيرة، انظر شرح المواق على مختصر خليل (1/298) ، حاشية الدسوقي (1/123) .
(2) المجموع (2/32) ،
(3) انظر حاشية الدسوقي (1/123) .
(4) المجموع (2/32) ،
(5) كشاف القناع (1/129) ، الروض المربع (1/307) ، الإنصاف (1/212) .(9/827)
من مس بدنها الوضوء، ومن فرق بين بنت سبع سنين وبين غيرها رأى أن البنت في مثل هذا السن قد تشتهى، وينظر إلى محاسن جسمها كما ينظر إلى المرأة الكبيرة.
وما رجحناه في مسألة مس ذوات المحارم نرجحه، هنا، والله أعلم.(9/828)
المبحث السادس:
في لَمس الأمرد
اختلف العلماء في مس الأمرد،
فقيل: ينقض الوضوء، وهو المشهور من مذهب مالك (1) ، وقول في مذهب الحنابلة (2) ، واختاره أبو سعيد الإصطخري من الشافعية (3) .
واشترط الحنفية للقول بالنقض: أن تكون المباشرة فاحشة: بأن يتجردا متعانقين متماسي الفرجين (4) .
وقيل: لا ينتقض، وهو المشهور من مذهب الشافعية (5) والحنابلة (6) .
وسبب خلافهم اختلافهم في الأمرد هل مسه كمس المرأة، أو كمس الرجل البالغ ممن ليس محلاً للشهوة؟
فمن رأى أن مس الأمرد كمس الأنثى سواء، أوجب الوضوء من مسه، ومن رأى أن الأمرد ليس محلاً للشهوة جعل مسه كمس الرجل والمحارم لم يوجب الوضوء من مسه، ولو قلنا بنقض الوضوء من مس المرأة لقلنا بنقض الوضوء من مس الأمرد خاصة إذا كان الرجل يلتذ بالنظر إليه.
_________
(1) انظر التاج والإكليل (1/433) ، مواهب الجليل (1/296) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/119) .
(2) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/281) ، الإنصاف (1/214) .
(3) المجموع (2/34) ،
(4) شرح فتح القدير (1/54) ، الفتاوى الهندية (1/13) .
(5) المجموع (2/33) ،
(6) الإنصاف (1/214) ، الروض المربع بحاشية الدكتور خالد المشيقح ومجموعة من طلبة العلم (1/308) ،(9/829)
وسئل ابن تيمية: إذا مس يد الصبي الأمرد, فهل هو من جنس النساء في نقض الوضوء, وما جاء في تحريم النظر إلى وجه الأمرد الحسن؟ وهل هذا الذي يقوله بعض المخالفين للشريعة إن النظر إلى وجه الصبي الأمرد عبادة, وإذا قال لهم أحد: هذا النظر حرام يقول: أنا إذا نظرت إلى هذا أقول: سبحان الذي خلقه, لا أزيد على ذلك؟
فأجاب رحمه الله: الحمد لله، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء, وهو المشهور من مذهب مالك , ذكره القاضي أبو يعلى في شرح المذهب.
والثاني: أنه لا ينقض الوضوء وهو المشهور من مذهب الشافعي, والقول الأول أظهر؛ فإن الوطء في الدبر يفسد العبادات التي تفسد بالوطء في القبل: كالصيام والإحرام والاعتكاف, ويوجب الغسل كما يوجبه هذا, فتكون مقدمات هذا في باب العبادات كمقدمات هذا , فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم , فعليه دم كما لو مس أجنبية لشهوة, وكذلك إذا مسه لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة في نقض الوضوء. والذي لم ينقض الوضوء بمسه يقول: إنه لم يخلق محلا لذلك, فيقال له: لا ريب أنه لم يخلق لذلك, وإن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات, لكن هذا القدر لم يعتبر في باب الوطء، فإن وطئ في الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام, وإن كان الدبر لم يخلق محلا للوطء, مع أن نفرة الطباع عن الوطء في الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة, ونقض الوضوء بالمس يراعى فيه حقيقة الحكمة, وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين: كمالك , وأحمد , وغيرهما , كما يراعى مثل(9/830)
ذلك في الإحرام والاعتكاف وغير ذلك. وعلى هذا القول: فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم , حتى لو مس أمه وأخته وبنته لشهوة انتقض وضوؤه, فكذلك الأمرد, وأما الشافعي وأحمد في رواية فتعتبر المظنة, وهو أن النساء مظنة الشهوة , فينقض الوضوء, سواء بشهوة أو بغير شهوة, ولهذا لا ينقض لمس المحارم, لكن لو لمس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة, وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة. والتلذذ بمس الأمرد: كمصافحته ونحو ذلك: حرام بإجماع المسلمين, كما يحرم التلذذ بمس ذوات محارمه والمرأة الأجنبية, بل الذي عليه أكثر العلماء أن ذلك أعظم إثما من التلذذ بالمرأة الأجنبية, كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطي أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية , فيجب قتل الفاعل والمفعول به.
سواء كان أحدهما محصنا أو لم يكن , وسواء كان أحدهما مملوكا للآخر أو لم يكن, كما جاء ذلك في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم. ثم قال رحمه الله: والنظر إلى وجه الأمرد لشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم, والمرأة الأجنبية بالشهوة, سواء كانت الشهوة شهوة الوطء, أو شهوة التلذذ بالنظر, فلو نظر إلى أمه وأخته, وابنته يتلذذ بالنظر إليها كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية كان معلوماً لكل أحد أن هذا حرام, فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة (1) .
وقال أيضاً: النظر إلى الأمرد لشهوة حرام بإجماع المسلمين، وكذلك إلى ذوات المحارم ومصافحتهم والتلذذ بهم، ومن قال: إنه عبادة فهو كافر، وهو بمنزلة من جعل إعانة طلب الفواحش عبادة، بل النظر إلى الأشجار والخيل
_________
(1) انظر الفتاوى الكبرى (1/281) .(9/831)
والبهائم إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال فهو مذموم، لقول الله تعالى {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} (1) ، (2) .
_________
(1) طه: 131.
(2) انظر مختصر الفتاوى المصرية (ص: 29) ،(9/832)
الفصل السادس:
من نواقض الوضوء أكل لحم الجزور
المبحث الأول:
خلاف أهل العلم في الوضوء من لحم الإبل
اختلف العلماء في الوضوء من لحم الجزور،
فقيل: لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: يجب منه الوضوء، وهو القول القديم في مذهب الشافعي (2) ، والمشهور من مذهب أحمد (3) ، وهو مذهب أهل الحديث (4) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/32) ،
وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (1/65) ،
(2) قال النووي في المجموع (2/66) : وفي لحم الجزور بفتح الجيم وهو لحم الإبل قولان, الجديد المشهور: لا ينتقض, وهو الصحيح عند الأصحاب، والقديم أنه ينتقض. وهو ضعيف عند الأصحاب، ولكنه هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل، وهو الذي أعتقد رجحانه, وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه واختياره والذب عنه. اهـ
(3) الفتاوى الكبرى (1/296) ، إعلام الموقعين (1/298) ، الفروع (1/183) ، الإنصاف (1/216) ،.
(4) انظر صحيح ابن خزيمة (1/21) ، صحيح ابن حبان (3/432) ،
سنن الترمذي (1/120) ، مسائل الكوسج لإسحاق بن راهوية (110) .(9/833)
دليل الجمهور على ترك الوضوء من لحوم الإبل.
الدليل الأول:
(1091-320) ما رواه أبو داود، من طريق علي بن عياش، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر،
عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما غيرت النار (1) .
[اختصر الحديث شعيب بن أبي حمزة، فأوقع الجمهور في وهم كبير، وهو أن الأمر بالوضوء مما مست النار منسوخ ومنه لحم الإبل وقد ذهب إلى القول بأن شعيباً اختصر الحديث: جماعة من أهل العلم منهم أبو داود وأبو حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (192) .
(2) الحديث مداره على محمد بن المنكدر، عن جابر، وقد أعل هذا الحديث بعلتين: أحدهما في الإسناد والثانية في المتن.
أما العلة في إسناده، فقد قيل: إن محمد بن المنكدر لم يسمع هذا الحديث من جابر، وإنما سمعه من ابن عقيل، وأكثر الأئمة على تضعيف ابن عقيل، (انظر كلام الأئمة في حفظ ابن عقيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فأغنى عن إعادته هنا) .
قال الشافعي رحمه الله كما في كتاب المعرفة للبيهقي (1/395) : لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، وإنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل. قال البيهقي: وهذا الذي قاله الشافعي محتمل؛ وذاك لأن صاحبي الصحيح لم يخرجا هذا الحديث من جهة محمد بن المنكدر، عن جابر في الصحيح، مع كون إسناده على شرطهما؛ ولأن عبد الله بن عقيل قد رواه أيضاً عن جابر، ورواه عنه جماعة، ثم قال: إلا أنه قد روي عن حجاج بن محمد وعبد الرزاق ومحمد ان بكر، عن ابن جريج، عن ابن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله.. فذكروا هذا الحديث، فإن لم يكن ذكر السماع فيه وهماً من ابن جريج فالحديث صحيح على شرط صاحبي الصحيح. اهـ
قلت: ما ساقه البيهقي احتمالاً قد صرح به البخاري في التاريخ الصغير (2/250) ، قال رحمه الله: وقال بعضهم: عن ابن المنكدر: سمعت جابراً، ولا يصح. اهـ وهذا ذهاب من البخاري رحمه الله أن ذكر سماع ابن المنكدر عن جابر في هذا الحديث لا يصح، وأن الحديث ليس على شرط البخاري.
وقد أخرج أحمد (3/307) ثنا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابراً، ظننته سمعه من ابن عقيل.
ولفظ ابن عقيل على فرض تحسين حديثه ليس فيها: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، وإنما فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً، ثم توضأ، فصلى الظهر، ثم رجع إلى فضل طعامه، فأكل منه، ثم قام إلى صلاة العصر، ولم يتوضأ، وهذا اللفظ لا إشكال فيه، ولا حجة فيه على نسخ الوضوء من لحوم الإبل، بل ولا على نسخ الأمر بالوضوء مما مست النار، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما العلة في المتن، فإن الحديث يرويه جماعة: منهم ابن جريج وابن عيينة ومعمر وأيوب وروح بن القاسم وغيرهم عن محمد بن المنكدر، عن جابر بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نزل على امرأة من الأنصار، فقربت له لحماً، فأكل، ثم حان وقت صلاة الظهر، فتوضأ، وصلى، ثم رجع فقربت له فضل طعامه، فأكل، فحانت صلاة العصر، فصلى، ولم يتوضأ.
فأراد شعيب بن أبي حمزة أن يختصر الحديث والقصة، فقال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فأوقع هذا الاختصار المخل في فهم غير مراد للحديث، وفهم الجمهور أن هذا الحديث بهذا اللفظ ناسخ لأحاديث الأمر بالوضوء مما مست النار، وكان شعيب رحمه الله يقصد من قوله: في آخر الأمرين: المقصود بالأمر: الشأن والقصة، وليس الأمر الشرعي.
قال أبو داود عن رواية شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر: هذا اختصار من الحديث الأول: يعني: حديث ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بلفظ: قربت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خبزاً ولحماً، فأكل، ثم دعا بوضوء، فتوضأ به، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه، فأكل، ثم قام إلى الصلاة، ولم يتوضأ.
وقال ابن حبان في صحيحه: وهذا خبر مختصر من حديث طويل.
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/64) : سمعت أبي يقول: هذا حديث مضطرب المتن، إنما هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل كتفاً، ولم يتوضأ، كذا رواه الثقات، عن ابن المنكدر، عن جابر، ويحتمل أن يكون شعيب حدث به من حفظه، فوهم فيه. اهـ
وقال ابن القيم عن حديث جابر " كان آخر الأمرين... في زاد المعاد (4/377) : "ليس فيه حكاية لفظ عام عن صاحب الشرع، وإنما هو إخبار عن واقعة فعل في أمرين: أحدهما متقدم على الآخر، كما ذلك جاء ذلك مبيناً في نفس الحديث: أنهم قربوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لحماً، فأكل، ثم حضرت الصلاة، فتوضأ، فصلى، ثم قربوا إليه، فأكل، ثم صلى، ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار، هكذا جاء الحديث، فاختصره الراوي لمكان الاستدلال.
وقال ابن القيم أيضاً في تهذيب السنن (1/138) : الحديث قد جاء مثبتاً من حديث جابر نفسه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعى إلى طعام، فأكل، ثم حضرت الظهر، فقام وتوضأ وصلى، ثم أكل، فحضرت صلاة العصر، فقام فصلى، ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار، فالحديث له قصة، فبعض الرواة اقتصر على موضع الحجة، فحذف القصة، وبعضهم ذكرها، وجابر روى الحديث بقصته.
وقال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (21/263) : " ليس في حديث جابر ما يدل على ذلك - يعني ما يدل على الترك العام من الوضوء مما مست النار - بل المنقول عنه الترك في قضية معينة ".
وهذا الاختصار من شعيب رحمه الله لم يكن اختصاراً موفقاً حتى ولو حملناه على أن المقصود بالأمر الشأن، والقصة. لسببين:
الأول: أنه يوهم أن الوضوء مما مست النار منسوخ، وليس كذلك؛ لأننا لا نستطيع أن نقطع أن الوضوء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الظهر كان بسبب أكل اللحم، فقد يكون محدثاً، ولم يكن عندنا دليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أكل من اللحم قبل صلاة الظهر كان على وضوء، ثم فعل الوضوء بسبب اللحم، بل إن ابن عقيل رحمه الله والحديث كما بينا إنما هو حديثه، سمعه منه ابن المنكدر، ولم يسمعه من جابر، قد روى الحديث عن جابر، وذكر أن الرسول صلى الله عليه كان وضوءه الأول عن حدث، وليس بسبب أكل اللحم، وسوف نسوق لفظها إن شاء الله تعالى حين تخريج الحديث.
الثاني: أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخ قوله، فالأمر بالوضوء مما مست النار ثبت في أحاديث قولية في الصحيحين وفي غيرهما، وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً ثم صلى، ولم يتوضأ يجعل الأمر بالوضوء للاستحباب، وليس للوجوب، ولا يصح أن نقول: إن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليل على النسخ، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيء كان نهيه دليلاً على التحريم، فإذا ارتكب هذا النهي حملنا النهي على الكراهة ولا نقول: إن ارتكابه لهذا النهي دليل على نسخ النهي، إلا أن يقوم دليل على أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاص به فنبقي الأمر والنهي على ظاهرهما.
وقد ذهب ابن تيمية رحمه الله إلى أن الوضوء مما مست النار ليس منسوخاً، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/263) : لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث عام ينسخ الوضوء من كل ما مسته النار، وإنما ثبت في الصحيح أنه أكل كتف شاة، ثم صلى، ولم يتوضأ، وكذلك أتي بالسويق فأكل منه، ثم لم يتوضأ. وهذا فعل لا عموم له، فإن التوضؤ من لحوم الغنم لا يجب باتفاق الأئمة المتبوعين.
[تخريج الحديث] .
الحديث كما سبق مداره على محمد بن المنكدر، عن جابر، ويرويه جماعة عن محمد بن المنكدر،
الأول: شعيب بن أبي حمزة، عنه.
أخرجه أبو داود كما في إسناد الباب، والنسائي (185) ، وفي الكبرى (188) ، وابن الجارود في المنتقى (24) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/67) وابن خزيمة (1/28) ، والطبراني في المعجم الصغير (2/3) ، وابن حبان (1134) ، والبيهقي في السنن (1/155) من طريق علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، بلفظ: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار.
قال ابن حبان: هذا خبر مختصر من حديث طويل اختصره شعيب بن أبي حمزة متوهما لنسخ إيجاب الوضوء مما مست النار مطلقا وإنما هو نسخ لإيجاب الوضوء مما مست النار خلا لحم الجزور فقط
الثاني: ابن جريج، عن محمد بن المنكدر به.
أخرجه عبد الرزاق (639) في المصنف، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد في المسند (3/322) ، وابن حبان (1130) .
وأخرجه أحمد (3/322) عن محمد بن بكر،
وأبو داود (191) من طريق حجاج بن محمد،
والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/42) والبيهقي (1/156) من طريق ابن وهب، كلاهما عن ابن جريج به.
وذكروا من لفظه: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرب له خبز ولحم، فأكل منه، ثم توضأ لصلاة الظهر، ثم رجع فأكل من فضل طعامه، ثم صلى العصر ولم يتوضأ. وبعضهم يزيد على بعض.
الطريق الثالث: سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر به.
أخرجه أحمد (3/307) حدثنا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته يقول: أخبرني من سمع جابراً، فظننته سمعه من ابن عقيل. ابن المنكدر وعبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً، ثم صلى ولم يتوضأ، وأن أبا بكر أكل لبأ ثم صلى ولم يتوضأ، وأن عمر أكل لحماً ثم صلى، ولم يتوضأ.
وأخرجه ابن ماجه (489) من طريق سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر وعمرو بن دينار وعبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بنحوه.
وأخرجه الحميدي في مسنده (1266) والترمذي في السنن (80) عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، ومحمد بن المنكدر به، بذكر قصة في الحديث..
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2017) من طريق سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل، ومحمد بن المنكدر به، مختصراً.
كما أخرجه البيهقي (1/154) من طريق سفيان عن ابن المنكدر وحده، بلفظ مختصر أيضاً.
وسيأتي إن شاء الله مزيد تخريج لطريق ابن عقيل وحده عن جابر في نهاية البحث.
الطريق الرابع: معمر، عن محمد بن المنكدر به.
أخرجه عبد الرزاق (639،640) وابن حبان (1132) عن معمر به.
الطريق الخامس: أيوب عن محمد بن المنكدر، أخرجه ابن حبان (1137) من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: حدثنا أيوب به.
الطريق السادس: جرير بن حازم، عن محمد بن المنكدر، أخرجه ابن حبان (1138) من طريق وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه به.
الطريق السابع: أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/65) وابن حبان (1139) من طريق روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر به.
الطريق الثامن: أخرجه ابن حبان (1135) من طريق محمد بن عبد الله بن أبي فروة، قال: حدثني محمد بن المنكدر به.
الطريق التاسع: رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4974) من طريق يونس بن عبيد، عن محمد بن المنكدر به.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يونس إلا زهير بن إسحاق، تفرد به بشر بن معاذ.
الطريق العاشر، رواه الحارث في مسنده كما في زوائد مسند الحارث (1/99) من طريق عبد الوارث، عن محمد بن المنكدر.
هذا ما وقفت عليه من طرق إلى محمد بن المنكدر، ولم يتفق أحد من الرواة ممن روى هذا الحديث مع ما ذكره شعيب بن أبي حمزة من اختصاره لهذا الحديث بقوله: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فكان هذا اختصاراً منه رحمه الله للقصة التي حكاها بعض الرواة من كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً، ثم حان وقت الظهر، فتوضأ فصلى، ثم عاد فأكل بقية الطعام، ثم صلى العصر، ولم يتوضأ. فهل في هذه القصة ما يدل على ترك الوضوء مما مست النار بالكلية حتى يقال: إن الحكم الشرعي بالوضوء مما مست النار قد نسخ، وأصبح غير مشروع، أو يقال: إن هذا الفعل دليل على أن الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، وإنما هو للاستحباب، الثاني هو المتعين، والله أعلم.
انظر إتحاف المهرة (3688، 3702) ، تحفة الأشراف (3047) .
وكنا قد ذكرنا في بداية البحث أن حديث محمد بن المنكدر، إنما سمعه من ابن عقيل، عن جابر، ووعدنا أن نخرج طريق عبد الله بن عقيل في نهاية البحث، فهذا أوان تخريجنا لطريق عبد الله بن عقيل رحمه الله:
الحديث أخرجه أحمد في المسند (3/374) من طريق ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، قال:
دخلت على جابر بن عبد الله الأنصاري ومعي محمد بن عمرو بن حسن ابن علي وأبو الأسباط مولى لعبد الله بن جعفر، كان يتتبع العلم، قال: فسألناه عن الوضوء مما مست النار من الطعام، فقال: وذكر قصة في الحديث، وفيها: وجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صور من نخل قد رش له فهو فيه، قال: فأتي بغداء من خبز ولحم قد صنع له، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم معه، قال: ثم بال، ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للظهر، وتوضأ القوم معه، قال: ثم صلى بهم الظهر، قال: ثم قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض ما بقي من قسمته لهن حتى حضرت الصلاة، وفرغ من أمره منهن، قال: فردوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضل غذائه من الخبز واللحم، فأكل وأكل القوم معه، قال: ثم نهض فصلى بنا العصر، وما مس ماء ولا أحد من القوم.
فهذا الحديث هو حديث محمد بن المنكدر، وقد ذكر البخاري والشافعي وسفيان بن عيينة أن محمد بن المنكدر سمعه من ابن عقيل، فلا يقال: إن هذا قد انفرد به ابن عقيل بذكر البول قبل صلاة الظهر، لأن حديث ابن المنكدر إنما سمعه منه، وهو نص على أن الوضوء قبل صلاة الظهر لم يكن سببه أكل اللحم، وإنما سببه الحدث، حتى ولو لم ينص ابن عقيل على هذا، فليس عندنا نص على أن الوضوء الأول كان بسبب أكل اللحم، وليس عندنا ما يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان على طهارة حين أكل اللحم قبل صلاة الظهر، والأصل عدم الطهارة، وأن الوضوء قبل صلاة الظهر كان بسبب الحدث لا غير.(9/834)
ورد ابن حزم وابن التركماني القول باختصار الحديث، وقالا: إنما هما حديثان، وأيدهما أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
قال ابن حزم: القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن، وهو أكذب الحديث، بل هما حديثان كما ورد (1) .
وقال ابن التركماني: ودعوى الاختصار في غاية البعد (2) .
وقال أحمد شاكر: ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جداً، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه، ورمي الرواة
_________
(1) المحلى (1/243) .
(2) الجوهر النقي (1/156) .(9/840)
الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن معناها قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالرويات الصحيحة جملة... الخ كلامه رحمه الله (1) .
وكلام أهل العلل كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان ومعهم ابن تيمية وابن القيم لا يمكن أن يعارض بكلام ابن حزم وابن التركماني، وذلك أن ابن حزم رحمه الله لم يكن من أهل العلل أصلاً، وليست له عناية في هذا الفن، ومن قرأ كتابه المحلى قطع بذلك، وإن كان هذا لا يقدح في إمامته في الفقه، فالمرد عند الكلام على العلل إنما هو إلى أهله وصيارفته، وما ساقه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إنما هو من قبيل حسن الظن بالراوي، وهذا لا يمنع من الوقوع بالخطأ، والثقة بل الأئمة قد يقع لهم بعض الأوهام، فهذا مالك وسفيان والزهري وشعبة قد يحصي أئمة الحديث أوهاماً لهم وقعوا فيها، إما في المتن وإما في الإسناد، وليس ذلك بقادح في الثقة حتى يكثر ذلك منه، فإذا كثرت مخالفته قدح ذلك في ضبطه، والله أعلم.
وبناء عليه فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء، ثم أكل لحماً وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب.
وأن لحوم الإبل ليست العلة في الأمر بالوضوء منه كونه مما مسته النار، وإلا لم يكن هناك فرق بين لحوم الغنم ولحوم الإبل، لأن الجميع قد مسته النار، ومع ذلك فرق بينهما في الحكم في الحديث، كما في حديث جابر والبراء بن عازب، وسوف نأتي على ذكرهما إن شاء الله تعالى.
_________
(1) سنن الترمذي تحقيق أحمد شاكر (1/122) .(9/841)
وقد يقال أيضاً: إن ترك الوضوء مما مست النار عام، والأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام، خاصة إذا علمنا أن الحديث قد جمع بين نوعين من اللحوم وكلاهما قد مسته النار، فعلق الوضوء من لحوم الغنم بالمشيئة، وأمر بالوضوء من لحوم الإبل، ولم يعلقه على المشيئة، والله أعلم.
الدليل الثاني على ترك الوضوء من لحوم الإبل:
(1092-321) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن خالد، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل (1) .
[إسناده صحيح، وهو موقوف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/52) رقم 535.
(2) ورواه عبد الرزاق في المصنف (653) عن ابن جريج عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس يقول: إنما النار بركة الله، وما تحل من شيء ولا تحرمه، ولا وضوء مما مست النار، ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج من الإنسان. وسنده صحيح.
وأخرجه البيهقي (1/158) من طريق عبد الوهاب، أنا ابن جريج به.
وأخرجه البيهقي أيضاً (1/116) من طريق أبي ظبيان، عن ابن عباس بنحوه.
وأخرجه البيهقي في السنن (1/116) من طريق الفضل بن المختار، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس. وإسناده ضعيف.
فيه الفضل بن مختار، قال العقيلي: منكر الحديث. الضعفاء الكبير (3/449) .
وقال أبو حاتم الرازي: هو مجهول، وأحاديثه منكرة، يحدث بالأباطيل. الجرح والتعديل (7/69) .
وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة، عامتها لا يتابع عليها.
وفيه شعبة مولى ابن عباس، جاء في ترجمته:
قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279) ، تهذيب الكمال (12/497) .
وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال أحمد: ما أرى به بأساً. قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279) ، تهذيب الكمال (12/497) .
وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال أحمد: ما أرى به بأساً. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس.
وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال ابن عدي: ولم أر له حديثاً منكراً جداً، فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/23) .
وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279) ، تهذيب الكمال (12/497) .
وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال أحمد: ما أرى به بأساً. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس.
وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال ابن عدي: ولم أر له حديثاً منكراً جداً، فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/23) .
وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279) ، تهذيب الكمال (12/497) .
وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال أحمد: ما أرى به بأساً. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس.
وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال ابن عدي: ولم أر له حديثاً منكراً جداً، فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/23) .
وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس.
وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/303) .
وقال ابن عدي: ولم أر له حديثاً منكراً جداً، فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/23) .
وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. ولا حاجة إلى هذا الإسناد، وقد ثبت الأثر بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما.(9/842)
الدليل الثالث:
(1093-322) ما رواه ابن الجعد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثاب، قال:
سألت ابن عمر عن الوضوء مما غيرت النار، فقال: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل؛ لأنه لا يدخل إلا طيباً، ولا يخرجه إلا خبيثاً (1) .
[رجاله ثقات] (2) .
_________
(1) مسند ابن الجعد (447) .
(2) واختلف على يحيى بن وثاب، فرواه عنه أبو إسحاق كما تقدم من مسند ابن عمر، ورواه عبد الرزاق في مصنفه (100) عن الثوري، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عباس، فجعله من مسند ابن عباس،
ورواه ابن أبي شيبة (1/52) حدثنا هشيم، عن أبي حصين به.
ويحيى بن وثاب قد روى عن ابن عباس وابن عمر، وقد ثبت الأثر عن ابن عباس من طرق كثيرة، كما قدمنا، فإن كان الطريقان محفوظين، وإلا فطريق أبي حصين أرجح من وجهين:
الأول: أن الأثر عن ابن عباس لم يكن فرداً كما هو الحال في أثر ابن عمر.
الثاني: أن الإمام أحمد سئل عن أبي حصين، فقال: كان صحيح الحديث. قيل له: أيما أصح حديثاً هو أو أبو إسحاق؟ قال: أبو حصين أصح حديثا بقلة حديثه. تهذيب التهذيب (7/116) ، والله أعلم.(9/844)
الدليل الرابع:
(1094-323) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن وائل بن داود، عن إبراهيم،
عن عبد الله بن مسعود، قال: إنما الوضوء مما خرج، والفطر مما دخل، وليس مما خرج (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الخامس:
(1095-324) روى البيهقي من طريق إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن،
عن علي أنه أطعم خبزاً ولحماً، فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: إن الوضوء مما خرج، وليس مما دخل (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المصنف (658) ، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/251) رقم: 9237.
(2) إبراهيم النخعي لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات، والله أعلم.
(3) سنن البيهقي (1/157) .
(4) في إسناده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وهو ضعيف، انظر ترجمته في الجرح والتعديل (6/25) ، التاريخ الكبير (6/71) ، الضعفاء الكبير للعقيلي (3/57) ، الكامل (5/316) ، المجروحين لابن حبان (2/155) .(9/845)
وأجيب:
قال البيهقي: وروينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل، وإنما قالا ذلك في ترك الوضوء مما مست النار (1) .
قلت: والوضوء من الحوم الإبل ليست علة الوضوء منه كونه مما مسته النار، وإنما كونه من لحوم الإبل، ولذا يتوضأ منه سواء مسته النار أم لا، ولو كان الوضوء منه لكونه قد مس بالنار لم يكن هناك فرق بين لحم الغنم ولحم الإبل، وقد فرق بينهما الحديث كما سيأتي من حديث جابر والبراء رضي الله عنهما.
الدليل السادس:
(1096-325) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن يحيى بن قيس، قال:
رأيت ابن عمر أكل لحم جزور، وشرب لبن الإبل، وصلى ولم يتوضأ (2) .
[إسناده فيه لين] (3) .
الدليل السابع:
(1097-326) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن أبي سبرة النخعي،
_________
(1) سنن البيهقي (1/159) .
(2) المصنف (1/50) رقم: 515.
(3) في إسناده يحيى بن قيس الطائفي، ذكره البخاري وابن أبي حاتم، وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه شيئاً. انظر التاريخ الكبير (8/298) ، والجرح والتعديل (9/181) ، وقد ذكر ابن أبي حاتم بأنه روى عنه عائذ بن حبيب، ولم أقف على راو آخر روى عنه، وقد ذكره ابن أبي حاتم في الثقات (5/529) الترجمة: 6075. ولم يوثقه غيره.(9/846)
أن عمر بن الخطاب أكل لحم جزور، ثم قام، فصلى، ولم يتوضأ (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الثامن:
(1098-327) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن الحسن،
أن علياً أكل لحم جزور، ثم صلى، ولم يتوضأ (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
الدليل على وجوب الوضوء من لحوم الإبل.
الدليل الأول:
1099-328) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور،
_________
(1) المصنف (1/50) رقم 517.
(2) في إسناده جابر الجعفي مشهور الضعف. كما في إسناده أبو سبرة النخعي، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/385) .
وقال يحيى بن معين: لا أعرفه. تهذيب الكمال (33/340) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/569) .
وقال الذهبي في الكاشف (6637) : ثقة.
وقد قال كل من المزي والحافظ ابن حجر، بأنه روى عن عمر، ويقال: مرسل.
(3) المصنف (1/51) .
(4) في إسناده شريك، وهو سيء الحفظ.(9/847)
عن جابر بن سمرة أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال لا (1) .
_________
(1) مسلم (360) .
وقال البيهقي (1/158) : ذهب علي بن المديني إلى أن جعفر بن أبي ثور هذا مجهول.
وقال الحافظ في التقريب عن جعفر بن أبي ثور: مقبول، يعني: إن توبع، وإلا فلين الحديث، ونعلم أن جعفر بن أبي ثور لم يتابع في هذا الحديث في هذا الإسناد.
وقد روى عن أبي ثور جماعة، ووثقه ابن حبان.
وقول الحافظ في التقريب مقبول ليس بالدقيق، خاصة وأنه قد صحح حديثه جماعة من أهل الحديث، كالإمام أحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وابن مندة وابن دقيق العيد وابن تيمية وابن القيم وغيرهم وسوف نوثق النقول عن بعضهم من خلال تخريج الحديث إن شاء الله تعالى.
والحافظ ابن حجر ليس له منهج مطرد في الحكم على الراوي بأنه مقبول، ومع أن له اصطلاحاً خاصاً في كلمة مقبول، وهي لا تعني التوثيق إلا بشرط المتابعة، وإلا فلين الحديث، ومع ذلك ومن خلال تتبعي لأحكام الحافظ ابن حجر في هذا المصطلح لم أخرج بمعرفة منهجه، وهو بشر، فقد يسلم له في رجال كثيرين ولا يسلم له القول في رجال آخرين، ومنهم جعفر بن أبي ثور، فخذ مثلاً الرواي: عبد الرحمن بن رزين، روى عنه اثنان كما في تهذيب الكمال للمزي، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة سوى أبي داود وابن ماجه، ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان، وقد قال الدارقطني في السنن (1/198) : مجهول، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء، ومع ذلك قال فيه الحافظ: صدوق، بينما يحكم أحياناً على رجال خرج لهم أحد الشيخين، ولم يوثقهم أحد إلا ابن حبان، يحكم عليهم بقوله: مقبول، يعني: إن توبع كما سبق وإلا فلين الحديث، فهذا إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله المخزومي أخرج له البخاري، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وقال فيه: مقبول.
وعبد الرحمن بن مسور بن مخرمة أخرج له مسلم، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبان وقال فيه مقبول، وهذه أمثلة تدل على غيرها، وإن كان الحافظ ممن أعطي إنصافاً واعتدالاً وسبراً إلا أن الكمال لله سبحانه وتعالى، فالحق أن جعفر بن أبي ثور ثقة، وليس حقه أن يقال فيه صدوق فضلاً أن يقال: فيه مقبول، وأما قول علي بن المديني مجهول فهو معارض بتصحيح أئمة الجرح والتعديل حديثه هذا، ومداره عليه، وهم أكثر عدداً، وعلى رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهوية، عليهم رحمة الله،
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: حديث البراء وحديث جابر بن سمرة جميعاً صحيح إن شاء الله تعالى. انظر مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/65) ، ومسائل ابن هانئ (1/9) .
وقال البيهقي في السنن (1/159) : بلغني عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية الحنظلي إنهما قالا: قد صح في هذا الباب حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث البراء وحديث جابر بن سمرة. اهـ
وقال ابن خزيمة: لم نر خلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر أيضاً صحيح من جهة النقل؛ لعدالة ناقليه. اهـ
وهذا نقل من ابن خزيمة ليس بتصحيح الحديث من قبله، وإنما نسبة التصحيح لأهل الحديث قاطبة.
والله أعلم.
تخريج الحديث:
الحديث مداره على جعفر بن أبي ثور، ويرويه عنه جماعة كالتالي:
الأول: أشعث بن أبي الشعثاء، عن جعفر بن أبي ثور به.
أخرجه أحمد (5/96، 97) ومسلم (360) والطبراني (1864، 1867) من طريق شيبان.
وأخرجه ابن ماجه (495) ، وابن حبان (1157) من طريق زائدة بن قدامة، كلاهما عن أشعث به.
الثاني: سماك بن حرب، عن جعفر بن أبي ثور به.
أخرجه أحمد (5/86) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/70) من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري عن سماك به.
وأخرجه أحمد (5/86) حدثنا عبد الله بن الوليد.
وابن الجاورد في المنتقى (25) من طريق أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي، كلاهما عن سفيان الثوري به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1456) ، والطبراني في الكبير (1861) من طريق زكريا بن أبي زائدة.
وأخرجه الطبراني (1862) من طريق الحسن بن صالح.
وأخرجه أحمد (5/92) وابن عاصم في الآحاد والمثاني (1455) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/70) والطبراني في الكبير (1860) من طريق حماد بن سلمة.
وأخرجه الطيالسي (766) ، وأحمد (5/93) ، والطبراني (1863) وابن حبان (1126) من طريق شعبة.
وأخرجه أحمد (5/100) ومسلم (360) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/70) ، والطبراني (1859) من طريق زائدة بن قدامة. كلهم (زكريا بن أبي زائدة والحسن بن صالح وحماد بن سلمة وشعبة وزائدة بن قدامة) رووه عن سماك به.
الطريق الثالث: عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور به.
أخرجه أحمد (5/89) ، ومسلم (360) ، وابن خزيمة (93) (7/270، 396) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/70) ، والطبراني (1866) ، وابن حبان (1124) ، والبيهقي (1/158) من طريق أبي عوانة، عن عثمان بن موهب به.
وأخرجه مسلم (360) ، والطبراني (1867) من طريق شيبان، عن عثمان بن عبد الله به.
الطريق الرابع: محمد بن قيس الأسدي، عن جعفر بن أبي ثور.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/385) والطبراني (1868) من طريق محمد بن قيس الأسدي، عن جعفر بن أبي ثور به.
انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/677) ، تحفة الأشراف (2131) إتحاف المهرة (2544) .(9/848)
الدليل الثاني:
(1100-329) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،
عن البراء بن عازب قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: توضؤا منها. قال: وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا فيها؛ فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فيها؛ فإنها بركة (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المسند (4/303) .
(2) الحديث اختلف في إسناده،
فقيل: عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب.
وقيل: عن عبيدة الضبي، عن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة الجهني.
وقيل: عن حجاج بن أرطأة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أسيد بن حضير.
وقيل: عن جابر الجعفي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سليك الغطفاني.
وقد رجح جمع من أئمة الحديث أن الحديث صحيح من مسند البراء بن عازب، منهم أحمد وإسحاق بن راهوية، وسبق أن نقلنا كلامهما سابقاً في الحديث السابق.
وكذلك نقل الترمذي هذا الاختلاف وصحح الحديث من مسند البراء.
قال الترمذي في السنن (1/87) : وقد روى الحجاج بن أرطأة هذا الحديث عن عبد الله ابن عبد الله، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، وهو قول أحمد وإسحاق، وروى عبيدة الضبي عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة الجهني.
وروى حماد بن سلمة هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة، فأخطأ فيه، وقال فيه: عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه عن أسيد بن حضير، والصحيح عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، قال إسحاق: صح في هذا الباب حديثان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة. اهـ وانظر العلل الكبير للترمذي (1/152) .
وقال أبو حاتم الرازي كما في العلل لابنه (38) ، وقد سأله ابنه عن الصحيح من هذا الخلاف، فقال: الصحيح ما رواه الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن البراء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأعمش أحفظ. اهـ
وكذلك رجح ابن خزيمة في صحيحه (1/22) ، والبيهقي في سننه (1/159) .
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب، وابن أبي شيبة (1/50) رقم 511، وأبو داود (184،493) والترمذي (81) ، وأبو يعلى (1709) ، من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، عن الأعمش به.
وأخرجه الطيالسي (734،735) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/159) عن شعبة.
وأخرجه أحمد (4/303) وابن المنذر في الأوسط (1/138) ، وابن حبان (1128) من طريق الثوري.
وأخرجه ابن الجاورد في المنتقى (26) وابن خزيمة (1/21) رقم 32 من طريق محاضر الهمداني.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/50) رقم 511، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/384) عن عبد الله بن إدريس، كلهم عن الأعمش به.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1597) عن معمر، عن الأعمش، عن رجل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به. وهذا الرجل المبهم في هذا الإسناد هو عبد الله بن عبد الله كما في الطرق السابقة.
وأخرجه أحمد (4/352) عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطأة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أسيد بن حضير.
ورواه الحارث في مسنده كما في زوائد الهيثمي (98) عن داود بن المحبر، عن حماد به.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/206) رقم 558 من طريق هدبة بن خالد، عن حماد به.
وقد جعل الترمذي رحمه الله الحمل على حماد بن سلمة، فجعل الخطأ منه، كما في سننه (1/87) والذي يظهر لي والعلم عند الله أن الخطأ من حجاج بن أرطأة، وليس من حماد، أولاً أن حماد بن سلمة أوثق من حجاج، والراوي عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه، والأئمة يجعلون الحمل غالباً على الضعيف إلا إذا وجدت قرينة تدل على أن الخطأ من الثقة.
ثانياً: أن حماداً قد توبع فيه، فقد أخرجه أحمد (4/352، 391) ، وابن ماجه (496) الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/383) من طريق عباد بن العوام، أنا الحجاج، ثنا عبد الله ابن عبد الله مولى بني هاشم، وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير، إلا أنه اقتصر على النهي عن الصلاة في أعطان الإبل والإذن بالصلاة في مرابض الغنم.
ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (7407) من طريق عمرو بن عاصم الكلابي، ثنا عمران القطان، عن الحجاج بن أرطأة، عن عبد الله بن عبد الله قاضي الري، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير.
فتبين أن الخطأ من حجاج، والله أعلم.
ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/112) وابن أبي عاصم كما في الآحاد والمثاني (2667) من طريق عبيدة الضبي، عن عبد الله بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة.
وقد قدمنا أن أبا حاتم في العلل قد صرح بأن هذا الإسناد خطأ، كما نقلنا عن بعض الأئمة أن الصحيح في هذا الحديث حديث الأعمش، وأن الحديث من مسند البراء بن عازب، وكل من خالف ذلك فقد أخطأ، والله أعلم.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (6713) من طريق أبي حمزة السكري، عن جابر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سليك الغطفاني.
وفي إسناده جابر الجعفي كذبه بعضهم.
انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/582) ، تحفة الأشراف (1783) ، إتحاف المهرة (2098) .(9/851)
الدليل الثالث:
(1101-330) ما رواه ابن ماجه من طريق بقية، عن خالد بن يزيد ابن عمر بن هبيرة الفزاري، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت محارب بن دثار يقول:
سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم، وتوضئوا من ألبان الإبل، ولا توضئوا من ألبان الغنم، وصلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل (1) .
[إسناده ضعيف، والصحيح وقفه] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (497) .
(2) في إسناده عطاء بن السائب، وقد تغير بآخرة، والرواي عنه خالد بن يزيد، قال: ابن عبد الهادي في التنقيح (1/176) : وهو غير مشهور.
وقد اختلف فيه على عطاء بن السائب، فرواه بقية، عن خالد بن يزيد عن عطاء بن السائب مرفوعاً، كما في إسناد الباب.
ورواه ابن إسحاق كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم في العلل (48) ، قال: حدثني عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر موقوفاً، قال ابن أبي حاتم في العلل (48) : حديث ابن إسحاق أشبه موقوفا. اهـ
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/176) : وقد روي هذا الحديث موقوفاً على ابن عمر، وهو أشبه.(9/854)
الدليل الرابع:
(1102-331) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، حدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن مولى لموسى بن طلحة - أو عن ابن لموسى بن طلحة - عن أبيه،
عن جده قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا يصلي في أعطانها ولا يتوضأ من لحوم الغنم وألبانها ويصلي في مرابضها (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الخامس:
(1103-332) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق سليمان بن داود الشاذكواني، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن موهب، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب، عن جابر بن سمرة،
عن أبيه سمرة السوائي، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا أهل بادية وماشية، فهل نتوضأ من لحوم الإبل وألبانها؟ قال: نعم. قال: فهل نتوضأ من لحوم الغنم وألبانها؟ قال: لا (3) .
[إسناده منكر] (4) .
ويكفي في الباب حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما.
_________
(1) مسند أبي يعلى (632) .
(2) إسناده ضعيف، قال الهيثمي في المجمع (1/250) : رواه أبو يعلى، وفيه من لم يسم.
(3) المعجم الكبير (7/270) رقم 7106.
(4) الإسناد فيه سليمان بن داود الشاذكواني، وهو متروك، والمعروف أن الحديث من مسند جابر بن سمرة، وليس من مسند أبيه، وقد سبق تخريج حديث جابر بن سمرة، والله أعلم.(9/855)
وأجاب الجمهور عن هذه الأحاديث بأجوبة، منها:
أن المقصود بالوضوء ليس الوضوء الشرعي، وإنما المراد غسل الأيدي من لحوم الإبل.
ويجاب عن هذا:
أولاً: بأن الكلام إذا صدر من الشارع فالأصل حمله على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر ذلك حمل على الحقيقة اللغوية، ولا يوجد هنا سبب يحملنا على صرف الكلام عن حقيقته الشرعية إلى حقيقته اللغوية.
ثانياً: أن السؤال عن الوضوء من لحومها قرن بالسؤال عن الصلاة في أعطانها مما يدل على أن المراد بالوضوء الوضوء الشرعي المتعلق بالصلاة.
ثالثاً: لو كان المقصود بالوضوء هو غسل الأيدي لكان غسل الأيدي من لحوم الغنم أولى من غسلها من لحوم الإبل، وذلك أن نسبة الدهون في لحوم الغنم أكثر منها في لحوم الإبل، وهذا أمر معروف عند كل من يتعاطى أكل لحوم الإبل.
رابعاً: أن غسل الأيدي ليس واجباً لا في لحوم الإبل ولا في لحوم الغنم، فلماذا يترك الشارع غسل الأيدي من لحوم الغنم إلى مشيئة الفاعل، ولا يترك هذا الأمر في لحوم الإبل، مع أن غسل الأيدي من لحوم الإبل والغنم الحكم فيها سواء، إلا إن كنتم تذهبون إلى وجوب غسل الأيدي من لحوم الإبل، ولا قائل به.
الجواب الثاني للجمهور:
قالوا: إن هذه الأحاديث منسوخة بحديث (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) وقد أجبنا على ذلك، بأجوبة منها:(9/856)
أولاً: أن الحديث اختصره شعيب بن حمزة فأخطأ فيه.
ثانياً: أنه لا يذهب إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، ولم يتعذر هنا؛ لأن الجمع فيه إعمال لكلا الدليلين، بينما النسخ فيه إبطال لأحدهما.
ثالثاً: أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، وترك الوضوء مما مست النار عام، والخاص مقدم على العام.
قال ابن القيم: ((ومن العجب معارضة هذه الأحاديث بحديث جابر: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) ولا تعارض بينهما أصلاً؛ فإن حديث جابر هذا إنما يدل على أن كونه ممسوساً بالنار، ليس جهة من جهات نقض الوضوء، ومن نازعكم في هذا؟ نعم هذا يصلح أن يحتجوا به على من يوجب الوضوء مما مست النار على صعوبة تقرير دلالته، وأما من يجعل كون اللحم لحم إبل هو الموجب للوضوء، سواء مسته النار أم لم تمسه، فيوجب الوضوء من نيئه ومطبوخه وقديده، فكيف يحتج عليه بهذا الحديث؟ وحتى لو كان لحم الإبل فرداً من أفراده فإنما تكون دلالته بطريق العموم، فكيف يقدم على الخاص؟ هذا مع أن العموم لم يستفد ضمناً من كلام صاحب الشرع، وإنما هو من قول الراوي.
وأيضاً فأبين من هذا كله أنه لم يحك لفظاً لا خاصاً ولا عاماً، وإنما حكى أمرين: هما فعلان: أحدهما متقدم، وهو فعل الوضوء، والآخر متأخر، وهو تركه الوضوء من ممسوس النار، فهاتان واقعتان، توضأ في إحداهما، وترك الوضوء في الأخرى من شيء معين مسته النار، لم يحك لفظاً عاماً ولا خاصاً ينسخ به اللفظ الصريح الصحيح... الخ كلامه رحمه الله تعالى (1) .
_________
(1) تهذيب السنن (1/137) .(9/857)
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القائل بوجوب الوضوء من لحوم الإبل أسعد بالدليل، وليس مع القائلين بعدم الوجوب إلا حديث جابر (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار)
ومع أن هذا الحديث معلول، فإن حديث جابر بن سمرة وحديث البراء ابن عازب فرق بين نوعين من اللحوم، وكلاهما قد مسته النار،
فإما أن يكون الوضوء من لحوم الإبل متقدماً على حديث ترك الوضوء مما مست النار أو متأخراً عنه، فإن كان متأخراً لم يصح نسخه بنص متقدم عليه، لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً.
وإن فرضنا أن حديث الوضوء من لحوم الإبل كان متقدماً، قبل أن ينسخ الوضوء مما مست النار، فكيف يترك الوضوء من لحوم الغنم لمشيئة الفاعل، فكان يجب أن يكون الأمر بالوضوء منهما جميعاً، لكون اللحمين قد مستهما النار، فلا بد من القول: إن حديث ترك الوضوء من لحوم الغنم دليل على أنه متأخر عن الأحاديث التي تأمر بالوضوء مما مست النار، وإلا لأوجب الوضوء من لحوم الغنم، فلما ترك الوضوء من لحوم الغنم مع كونه قد مسته النار كان دليلاً على تأخر هذا الحديث عن أحاديث الوضوء مما مست النار، وتبين أن العلة في الأمر بالوضوء من لحوم الإبل ليست العلة كونه قد مسته النار، وإنما العلة فيه كونه من الإبل، سواء كان قد مسته النار أو لم تمسه النار، فيجب الوضوء منه مطلقاً، سواء كان مطبوخاً أو نيئاً، والله أعلم.(9/858)
المبحث الثاني:
العلة في الوضوء من لحوم الإبل مع كونها طيبة
اختلف العلماء في العلة من الوضوء من لحم الإبل، وعدم الأمر بالوضوء من سائر اللحوم الأخرى كالغنم والبقر والطيور ونحوها،
فقيل: إن الأمر بالوضوء منها لكونه كان مشروعاً في أول الأمر الوضوء مما مست النار، ثم نسخ هذا الحكم، بحديث جابر، كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، وهذا مذهب الجمهور.
ويشوش عليه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرن معها لحم الغنم، فأمر بالوضوء من لحوم الإبل، ولم يأمر بالوضوء من لحم الغنم، ولو كانت العلة في الوضوء من لحوم الإبل كون النار قد مستها لم يختلف الحكم في لحم الغنم، لأن النار أيضاً قد مستها.
وقيل: إن الحكم تعبدي، فتكون علته مخفية عنا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وقيل: إنه ورد في الحديث أن الإبل خلقت من الشياطين.
(1104-333) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن،
عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقت من الشياطين (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المصنف (1/337) رقم 3877.
(2) الحديث رواه ابن أبي شيبة كما في إسناد الباب، ومن طريقه أخرجه ابن حبان في صحيحه (1702) .
ورواه البيهقي في سننه (2/449) من طريق هشيم به.
ورواه أحمد في مسنده (4/85) حدثنا إسماعيل بن علية، قال: أخبرنا يونس به. وزاد عليه قتل الكلب الأسود، وإباحة اتخاذ الكلب في الصيد والماشية.
ورواه أحمد أيضاً (5/56، 57) حدثنا عبد الأعلى، عن يونس به.
ورواه الروياني في مسنده (898) من طريق سفيان، عن يونس به.
ورواه ابن ماجه (769) من طريق أبي نعيم، عن يونس به.
ورواه ابن حبان في صحيحه (5657) من طريق يزيد بن زريع، قال: حدثنا يونس به.
فهؤلاء ستة حفاظ رووه عن يونس بن عبيد: وهم هشيم وابن علية وعبد الأعلى وسفيان ويزيد بن زريع وأبو نعيم.
كما تابع أبو سفيان بن العلاء ومبارك بن فضالة يونسَ بن عبيد.
فقد أخرجه أحمد (5/54) ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/317) حدثنا وكيع، عن أبي سفيان بن العلاء، عن الحسن به.
وأبو سفيان بن العلاء لم أقف على أحد وثقه، لكن قال فيه يحيى بن سعيد القطان: كنت أشتهي أن أسمع من أبى سفيان حديث الحسن، عن عبد الله بن مغفل، كان يقول فيه: حدثني ابن مغفل. الجرح والتعديل (9/381) ، كما أنه قد توبع في هذا الحديث، فإذا روى حديثاً لم ينكر عليه، بل قد تابعه عليه الثقات، ولم نقف له على جرح كان هذا مما يقوي أمره، والله أعلم.
وأخرجه أبو داود الطيالسي (913) وأحمد (4/86) وعلي بن الجعد (3180) وابن عدي في الكامل (6/320) من طريق مبارك بن فضالة، عن الحسن به.
قال ابن عبد البر (22/333) : حديث عبد الله بن مغفل رواه نحو خمسة عشر رجلاً عن الحسن، وسماع الحسن من عبد الله بن مغفل صحيح. اهـ
وقد خرجت من هذه الطرق ما نص فيها على أن الإبل خلقت من الشياطين، وتركت غيرها مما لم يرد فيه موضع الشاهد، والله أعلم.
انظر أطراف المسند (4/241) ، التحفة (9649) ، إتحاف المهرة (13415) .(9/859)
وفسر الحديث ابن حبان بأن معنى خلقت من الشياطين بأن معها شياطين على سبيل المجاورة والقرب.(9/860)
قال ابن حبان في صحيحه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين، وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله؛ فإنه شيطان، ثم قال في خبر صدقة بن يسار، عن ابن عمر: فليقاتله؛ فإن معه القرين (1) .
وقال في موضع آخر في صحيحه: لو كان الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل لأجل أنها خلقت من الشياطين لم يصل - صلى الله عليه وسلم - على البعير؛ إذ محال أن لا تجوز الصلاة في المواضع التي قد يكون فيها الشيطان ثم تجوز الصلاة على الشيطان نفسه، بل معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين على سبيل المجاورة والقرب (2) .
وقيل: معناه أن من طبعها الشيطنة، وليس معناه أن مادة خلقها الشيطنة، فهو كقوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} (3) ، يعني: طبيعته هكذا، فهي لا تكاد تهدأ، ولا تقر في العطن، بل تثور، فربما قطعت على المصلي صلاته، وشوشت عليه خشوعه، وهذه هي الشيطنة المذكورة في الحديث.
ولذلك لما صلى عليها أمن من شرها، بخلاف الصلاة في مباركها، فقد تأتي إليه مجتمعة في حالة من النفار فتفسد عليه صلاته.
وقال ابن القيم: ((وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطاناً، وجاء: أنها خلقت من جن، ففيها قوة شيطانية، والغاذي شبيه بالمغتذي، ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير؛ لأنها دواب عادية فالاغتذاء بها تجعل
_________
(1) صحيح ابن حبان (4/601) .
(2) صحيح ابن حبان (4/603) .
(3) الأنبياء: 37.(9/861)
في طبيعة المغتذي من العدوان ما يضره في دينه، فإذا اغتذى من لحوم الإبل، وفيها تلك القوة الشيطانية، والشيطان خلق من نار، والنار تطفأ بالماء، ونظير الحديث الآخر: إن الغضب من الشيطان، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) (1) .
وكل هذه العلل إنما هي التماس، فلم ينص الشارع على العلة من الوضوء من لحمها، وسواء كانت هذه العلة أم غيرها فإن اليقين المقطوع به أن الشارع حكيم ولا يأمر إلا بما فيه حكمة، وأنه لا بد أن يكون هناك علة اقتضت التفريق بين لحم الإبل ولحم الغنم، فإن الشارع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، فالحكمة، هو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتماس العلة إنما هو من أجل القياس، وتعدية الحكم إلى حكم آخر لعلة جامعة بينهما، وليس لأمر آخر، ولذا قالت عائشة حين سئلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصيام، ولا نؤمر بقضاء الصلاة، وهو حديث متفق عليه (2) .
_________
(1) إعلام الموقعين (2/15) .
(2) البخاري (321) ، ومسلم (335) .(9/862)
المبحث الثالث:
في الوضوء من شحم الإبل وكبده وطحاله ومصرانه
اختلف القائلون بوجوب الوضوء من لحم الإبل هل يشمل ذلك جميع أجزاء البعير من كبد وطحال وكرش ومصران ونحوها؟.
فقيل: لا ينقض الوضوء إلا اللحم خاصة، وهو المشهور من مذهب أحمد (1) .
وقيل: ينقض جميع أجزاء البعير، وهي رواية في مذهب أحمد (2) .
دليل من قال بعدم النقض.
الدليل الأول:
قالوا: إن النص إنما ورد في اللحم خاصة، سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: توضؤا منها.
والكبد والطحال ونحوهما لا يسمى لحماً، فلم يتناوله النص، فلو أنك أمرت أحداً أن يشتري لك لحماً فاشترى كرشاً أو كبداً لأنكرت عليه.
ويجاب عن ذلك بأن عدم دخولها هل مرده إلى اللغة أو إلى العرف، فإن كان ذلك في العرف فلا تقدم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية، وأما اللغة فإن اللحم يشمل جميع أجزاء الحيوان، بما في ذلك شحمه وكبده كما سيأتي ذكر دليل ذلك في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى.
_________
(1) الفتاوى الكبرى (1/296) ، إعلام الموقعين (1/298) ، الفروع (1/183) ، الإنصاف (1/216) ،.
(2) انظر المراجع السابقة.(9/863)
التعليل الثاني:
أن الأصل بقاء الطهارة، فالطهارة متيقنة، ودخول غير اللحم في حكم اللحم أمر غير متيقن، واليقين لا يزول بالاحتمال.
التعليل الثالث:
أن النقض باللحم أمر تعبدي، وإذا كان كذلك لم يمكن قياس غير اللحم على اللحم؛ لأن من شرط القياس العلم بالعلة، والأمور التعبدية غير معلومة العلة، والله أعلم.
ويجاب: بأن إلحاق الكبد باللحم ليس من باب القياس، وإنما دخوله لاشتمال النص عليه، فاللحم ليس هو الهبر خاصة.
دليل من قال بالنقض.
أولاً: من القرآن قال تعالى: {حرمت علكيم الميتة والدم ولحم
الخنزير} (1) ، فنص على اللحم، ومع ذلك دخل جميع أجزاء الخنزير من شحم وكبد وطحال ونحوها، وهذا دليل على أن اللحم شامل لجميع أجزاء الحيوان.
وأجاب بعضهم:
بأن لحم الخنزير حرم لنجاسته وخبثه، وأجزاء الخنزير كلها نجسة، فلا طاهر فيها، وأما لحم الإبل فلا شيء فيها نجس، وإذا كانت العلة أنها خلقت من الشياطين فهذا لا يصير إلا فيما فيه القوة الزائدة، وهي في اللحوم، واللحم في اللغة اسم لهذا الأحمر من اللحم المسمى بالهبر.
_________
(1) المائدة: 3.(9/864)
ثانياً: قد يطلق اللحم على الحيوان باعتبار أنه أكثر الحيوان وأغلبه، ولا يعني هذا اختصاصه بالحكم، إذ لا فرق بين الهبر وبين غيره، فالكل يتغذى بدم واحد وطعام وشراب واحد، وهذا على افتراض أن النص لا يتناول بقية أجزاء الحيوان بالعموم اللفظي، فيبقى تناوله بالعموم المعنوي لعدم الفارق.
الراجح من هذا الخلاف:
القول بأن النقض عام في كل أجزاء الإبل من هبر وشحم وكبد وطحال ونحوه أقوى من حيث النظر من القول باختصاص النقض بالهبر خاصة.
نعم القول بعدم النقض من حليب الإبل ومرقه ظاهر؛ لأنه لا يدخل في مسمى اللحم لا في الشرع ولا في العرف، ولا يقال: إذا شرب حليب الإبل بأنه أكل من الحيوان، وسوف نناقش هذه المسألة ببحث مستقل إن شاء الله تعالى.(9/865)
[صفحة فارغة](9/866)
المبحث الرابع:
في الوضوء من لبن الإبل
اختلف أهل العلم القائلون بالوضوء من لحوم الإبل، هل يتوضأ من ألبانها؟.
فقيل: لا يجب الوضوء منه، وهو مذهب الجمهور (1) ، ورواية عن أحمد (2) .
وقيل: يستحب الوضوء منه، رجحه ابن تيمية (3) .
وقيل: يجب الوضوء منه، وهو قول في مذهب أحمد (4) .
دليل من قال: يتوضأ من ألبانها.
الدليل الأول:
(1105-334) ما رواه ابن ماجه من طريق بقية، عن خالد بن يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت محارب بن دثار يقول:
سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم، وتوضئوا من
_________
(1) قال النووي في المجموع (2/69) : ولأحمد رواية أنه يجب الوضوء من شرب لبن الإبل، ولا أعلم أحداً وافقه عليها، ومذهبنا ومذهب العلماء كافية أنه لا يجب الوضوء من لبنها. اهـ
(2) انظر المغني (1/123) ، كشاف القناع (1/130) ، الفروع (1/183) .
(3) شرح العمدة (1/335) .
(4) المغني (1/122) ، الإنصاف (1/218) .(9/867)
ألبان الإبل، ولا توضئوا من ألبان الغنم، وصلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل (1) .
[إسناده ضعيف، وسبق تخريجه] (2) .
الدليل الثاني:
(1106-335) ما رواه أحمد، من طريق عباد بن العوام، حدثنا الحجاج، عن عبد الله بن عبد الله مولى بني هاشم، قال: وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،
عن أسيد بن حضير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن ألبان الإبل، قال: توضئوا من ألبانها، وسئل عن ألبان الغنم؟ ، فقال: لا توضئوا من ألبانِها (3) .
[إسناده ضعيف، وسبق تخريجه] (4) .
الدليل الثالث:
(1107-336) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، حدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن مولى لموسى بن طلحة - أو عن ابن لموسى بن طلحة - عن أبيه،
عن جده، قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا
_________
(1) سنن ابن ماجه (497) .
(2) انظر حديث رقم (1101) .
(3) أحمد (4/352، 391) .
(4) انظر تخريج حديث (1100) فقد ذكر تخريج هذا الطريق ضمن التخريج.(9/868)
يصلي في أعطانها ولا يتوضأ من لحوم الغنم وألبانها ويصلي في مرابضها (1) .
[إسناده ضعيف، وسبق تخريجه] (2) .
الدليل الرابع:
(1108-337) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق سليمان بن داود الشاذكواني، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن موهب، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب، عن جابر بن سمرة،
عن أبيه سمرة السوائي، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا أهل بادية وماشية، فهل نتوضأ من لحوم الإبل وألبانها؟ قال: نعم. فهل نتوضأ من من لحوم الغنم وألبانها؟ قال: لا (3) .
[إسناده منكر، وسبق تخريجه] (4) .
دليل من قال: بعدم النقض.
الدليل الأول.
إذا توضأ الإنسان، فهو على طهارته حتى يأتي دليل صحيح على نقض الوضوء من ألبان الإبل، والأحاديث الورادة إنما في هي في لحوم الإبل، والحكم غير معقول المعنى، فوجب الاقتصار على ما ورد فيه النص.
_________
(1) مسند أبي يعلى (632) .
(2) سبق تخريجه، انظر رقم: (1102) .
(3) المعجم الكبير (7/270) رقم 7106.
(4) انظر رقم (1103) .(9/869)
الدليل الثاني:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أمر العرنيين بأن يلحقوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها (1) ، لم يأمرهم بالوضوء من ألبانها، ولو كان ذلك واجباً لأمرهم.
الراجح القول بعدم النقض، لعدم الدليل الصحيح في الباب، وما ورد من أحاديث فهي ضعيفة، والله أعلم، بل إن كلام أحمد وإسحاق حين قالا: صح في هذا الباب حديثان: حديث البراء وحديث جابر دليل على أنه لم يصح فيه غيرهما، وهذان الحديثان لم يذكرا ألبان الإبل، ولو كان الوضوء واجباً منه لنص عليه الحديثان، والله أعلم.
_________
(1) روى البخاري (6802) من طريق أبي قلابة الجرمي، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من عكل، فأسلموا فاجتووا المدينة، فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحوا، فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل فبعث في آثارهم فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. ورواه مسلم أيضاً (1671) .(9/870)
المبحث الخامس:
الوضوء من مرق لحم الإبل
اختلف العلماء في الوضوء من مرق لحم الإبل،
فقيل: الوضوء منه غير واجب حتى ولو ظهر طعمه في المرق، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: يجب الوضوء منه، وهو وجه في مذهب الحنابلة (2) .
دليل من قال: لا يجب الوضوء من مرق اللحم.
دليلهم هو دليل من قال: لا يجب الوضوء من ألبان الإبل، فانظره في المسألة التي قبل هذه.
دليل من قال: يتوضأ من المرق.
قال: إذا ظهر طعم اللحم في المرق، فإنه قد تناوله، كما أن الماء إذا ظهر فيه أثر النجاسة، كان الماء نجساً، ومرق لحم الخنزير لا يجوز أكله تبعاً للحمه، فكذلك هنا، إذا ظهر طعم اللحم وجب الوضوء منه.
الراجح من الخلاف.
بعد استعراض الأقوال وأدلة كل قول نرى أن الصحيح أنه لا يجب الوضوء من مرق لحم الإبل، والقياس على مرق الخنزير قياس مع الفارق، وهناك فرق بين أثر النجاسة، وبين أثر لحم الإبل، فلو أقسم لا يأكل لحماً ثم
_________
(1) كشاف القناع (1/130) ، مطالب أولي النهى (1/148) ، المغني (1/122) .
(2) الإنصاف (1/218) ، الفروع (1/183) .(9/871)
شرب مرق لحم لم يحنث، ولا يعتبر قد أكل لحماً، حتى ولو ظهر طعم اللحم في المرق، وما كان ربك نسياً، فلو كان الوضوء واجباً من مرق اللحم لجاء النص في بيانه، وما سكت عنه فهو عفو، لكن لو قيل بالاستحباب قياساً على الجلالة، فإنه حين ظهر أثر النجاسة باللبن كره شربه (1) ، حتى ولو تحولت النجاسة إلى مادة أخرى، فكذلك إذا ظهر أثر اللحم في المرق استحب الوضوء منه احتياطاً، لو قيل بهذا لم يكن بعيداً، والله أعلم.
_________
(1) سيأتي بحث مستقل في باب الجلالة، في أحكام النجاسات، فانظره مشكوراً.(9/872)
المبحث السادس:
الوضوء من أكل اللحوم الخبيثة كالسباع
اختلف أهل العلم في هذه المسألة،
فقيل: لا ينقض الوضوء أكل الأطعمة المحرمة من لحم وغيره، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: ينقض الطعام المحرم، سواء كان لحماً أو غيره، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: ينقض اللحم المحرم فقط دون سائر الأطعمة، وهو قول في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: ينقض لحم الخنزير فقط، وهو قول في مذهب الحنابلة، خرج عليه بعضهم أكل جميع النجاسات (4) .
_________
(1) قال في الإنصاف (1/218) : ظاهر كلام المصنف أيضاً: أن أكل الأطعمة المحرمة لا ينقض الوضوء, وهو صحيح, وهو المذهب, وعليه الأصحاب.
وعنه ينقض الطعام المحرم.
وعنه ينقض اللحم المحرم مطلقاً.
وعنه ينقض لحم الخنزير فقط. قال أبو بكر: وبقية النجاسات تخرج عليه, حكاه عنه ابن عقيل، وانظر الفروع (1/183، 184) .
(2) قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/299) : " وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة كلحوم السباع إذا أبيحت للضرورة روايتان, والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل, فإذا عقل المعنى لم يكن بد من تعديته, ما لم يمنع منه مانع , والله أعلم. اهـ
(3) الفروع (1/183، 184) ، الإنصاف (1/218) .
(4) انظر المراجع السابقة.(9/873)
وسبب الخلاف ما أفصح عنه ابن تيمية رحمه الله حيث يقول:
وأما اللحم الخبيث المباح للضروة كلحم السباع، ينبني الخلاف على النقض بلحم الإبل، هل هو تعبدي فلا يتعدى إلى غيره أو معقول المعنى؟ فيعطى حكمه، بل هو أبلغ منه (1) . انتهى
وقال ابن القيم: والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل, فإذا عقل المعنى لم يكن بد من تعديته, ما لم يمنع منه مانع (2) . اهـ
قال المردواي: الصحيح من المذهب , أن الوضوء من لحم الإبل تعبدي. وعليه الأصحاب.
قال الزركشي: هو المشهور.
وقيل: هو معلل. فقد قيل: إنها من الشياطين , كما جاء في الحديث الصحيح. رواه أحمد وأبو داود. وفي حديث آخر: (على ذروة كل بعير شيطان) فإن أكل منها أورث ذلك قوة شيطانية , فشرع وضوؤه منها ليذهب سورة الشيطان (3) . اهـ
قلت: سبق لنا الكلام في الحكمة من مشروعية الوضوء من لحوم الإبل، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم.
_________
(1) الاختيارات (ص: 16) .
(2) إعلام الموقعين (1/299) .
(3) الإنصاف (1/218) .(9/874)
الفصل السابع:
في نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة
القهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء اتفاقاً، وأما في الصلاة، فقد اختلف العلماء،
فقيل: تنقض الوضوء في الصلاة إلا صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: لا تنقض، وهو مذهب الجمهور (2) ، وهو الصحيح.
دليل الحنفية على القول بالنقض.
الدليل الأول:
(1109-338) ما رواه الدارقطني من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن
_________
(1) انظر الأصل (1/171) ، المبسوط (1/77) ، شرح فتح القدير (1/45) ، تبيين الحقائق (1/11) ، البحر الرائق (1/42-44) ، بدائع الصنائع (1/32) ، وأما استنثناء صلاة الجنازة وسجدة التلاوة قال السرخسي في المبسوط (1/78) : وصلاة الجنازة ليست بصلاة مطلقة، وكذلك سجدة التلاوة. اهـ
والحق أن ما ثبت للصلاة ثبت لصلاة الجنازة إلا بدليل، لأنها صلاة لغة وشرعاً، وأما سجدة التلاوة فقد قدمنا في كتاب الحيض والنفاس أن سجدة التلاوة ليست بصلاة أصلاً، ولا تشترط لها الطهارة.
(2) انظر في مذهب المالكية: المدونة (1/190) ، المنتقى للباجي (1/65) ،
وانظر في مذهب الشافعية: المهذب (1/24) ، الخلافيات للبيهقي (2/361) ، مغني المحتاج (1/32) .
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/116) ، كشاف القناع (1/149) .(9/875)
إسحاق، حدثني الحسن بن دينار، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي المليح بن أسامة،
عن أبيه، قال: بينا نحن نصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل رجل ضرير البصر، فوقع في حفرة، فضحكنا منه، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الوضوء كاملاً وإعادة الصلاة من أولها (1) .
[اضطرب فيه ابن إسحاق، والمعروف كونه مرسلاً عن أبي العالية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (2) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/160، 161) .
(2) اضطرب فيه ابن إسحاق،
فقيل: عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه.
وقيل: عن محمد بن مسلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه به.
وقيل: عن ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح، عن أبيه.
فأما رواية إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه.
فقد أخرجه الدراقطني كما في إسناد الباب، ومن طريق الدارقطني: رواه البيهقي في الخلافيات (684) ،
وأخرجه ابن عدي في الكامل (2/302) ومن طريقه ابن الجوزي في العلل المتناهية (613) ، وفي التحقيق (235) من طريق إبراهيم بن سعد به.
قال ابن الجوزي في العلل: وهذا لا يصح، وابن دينار هو الحسن، وقد كذبه العلماء، منهم شعبة. اهـ
وقال البخاري في تاريخه الكبير: تركه يحيى وابن مهدي ووكيع وابن المبارك. (2/292)
وقال النسائي: متروك. تهذيب التهذيب (2/240) .
وقال أحمد: لا أكتب حديثه. المرجع السابق.
وأما رواية محمد بن مسلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه به.
فقد أخرجه الدارقطني في سننه (1/162) والبيهقي في الخلافيات (683) .
قال الدارقطني: الحسن بن دينار: متروك الحديث. اهـ
ووراه الدارقطني (1/163) من طريق داود بن المحبر، نا أيوب بن خوط، عن قتادة، عن أنس.
قال الدارقطني: رواه داود بن المحبر، وهو متروك، يضع الحديث، عن أيوب بن خوط، وهو ضعيف. اهـ
ورواه الدارقطني (1/162) من طريق عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة، نا سلام بن أبي مطيع، عن قتادة، عن أبي العالية وأنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الدارقطني: لم يروه عن سلام غير عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة، وهو متروك يضع الحديث.
قلت: المعروف من رواية قتادة أنه يرويه عن أبي العالية مرسلاً.
فقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (3761) ، من طريقه الدارقطني (1/163) والبييهقي في الخلافيات (696) عن معمر، عن قتادة، عن أبي العالية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
كما أخرجه الدراقطني (1/163) والبيهقي في الخلافيات (695،694) من طريق أبي عوانة، وابن أبي عروبة فرقهما.
وأخرجه الدراقطني (1/163) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي العالية مرسلاً.
وأخرجه الدارقطني (1/163) من طريق سلم بن أبي الذيال، عن قتادة، قال: بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -... مثله.
قال الدارقطني: وهذا هو الصحيح عن قتادة، اتفق عليه معمر وأبو عوانة وسعيد بن أبي عروبة وسعيد بن بشير، فرووه عن قتادة، عن أبي العالية، وتابعهم عليه سلم بن أبي الذيال، عن قتادة، فأرسله، فهؤلاء خمسة ثقات رووه عن قتادة، عن أبي العالية مرسلاً، وأيوب بن خوط وداود بن المحبر وعبد الرحمن بن عمرو بن جبلة والحسن بن دينار كلهم متروكون، وليس فيهم من يجوز الاحتجاج بروايته لو لم يكن له مخالف، فكيف وقد خالف كل واحد منهم خمسة ثقات من أصحاب قتادة. اهـ
وأما رواية ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح، عن أبيه. فقد ذكرها الدارقطني (1/161) .
قال الدارقطني: وأما قول الحسن بن عمارة، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح، عن أبيه، فوهم قبيح، وإنما رواه خالد الحذاء، عن حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه عنه كذلك سفيان الثوري وهشيم ووهيب وحماد بن سلمة وغيرهم، وقد اضطرب فيه ابن إسحاق في روايته عن الحسن بن دينار لهذا الحديث: فمرة رواه عنه عن الحسن البصري، ومرة رواه عنه عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه، وقتادة إنما رواه عن أبي العالية مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذلك رواه عنه سعيد بن أبي عروبة ومعمر وأبو عوانة وسعيد بن بشير وغيره. الخ كلامه رحمه الله تعال.
ثم ساق في سننه (1/168) بأسانيده رواية الثوري وحماد ووهيب بن خالد فرقهم عن خالد الحذاء، عن حفصة، عن أبي العالية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفين بذلك الحسن ابن عمارة.
كما رواه حفص بن سليمان المنقري، عن حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية مرسلاً، وهذه متابعة لرواية خالد الحذاء من طريق الثوري وحماد ووهيب عنه.
وقد رواه الحسن البصري، واختلف عليه فيه:
فرواه الدارقطني (1/165) من طريق سفيان بن محمد الفزاري، عن عبد الله بن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن، عن أنس.
وخالف موهب بن يزيد سفيان بن محمد، فرواه الدارقطني (1/166) من طريق موهب ابن يزيد، نا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، ليس فيه ذكر أنس.
وهذا الطريق هو الصحيح من حديث ابن وهب، قال الدارقطني: سفيان بن محمد كان ضعيفاً سيئ الحال في الحديث، وأحسن حالات سفيان بن محمد أن يكون وهم في هذا الحديث على ابن وهب إن لم يكن تعمد ذلك في قوله: عن الحسن عن أنس، فقد رواه غير واحد عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن الحسن مرسلاً، منهم خالد بن خداش المهلبي، وموهب بن يزيد، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب وغيرهم، لم يذكر أحد منهم في حديثه عن ابن وهب في الإسناد: أنس بن مالك، ولا ذكر فيه بين الزهري والحسن سليمان بن أرقم، وإن كان ابن أخي الزهري وابن عتيق قد روياه عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن مرسلاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذه أقاويل أربعة عن الحسن كلها باطلة؛ لأن الحسن إنما سمع هذا الحديث من حفص بن سليمان المنقري، عن حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية الرياحي مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ كلام الدارقطني.
فرجعت رواية الحسن إلى رواية أبي العالية المرسلة.
وقد روى الداقطني في سننه (1/164) بإسناده عن علي بن المديني، قال: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: هذا الحديث يدور على أبي العالية. فقلت: قد رواه الحسن مرسلاً؟ فقال: حدثني حماد بن زيد، عن حفص بن سليمان المنقري، قال: أنا حدثت به الحسن عن حفصة، عن أبي العالية.
فقلت: قد رواه إبراهيم مرسلاً؟
فقال عبد الرحمن: حدثني شريك، عن أبي هاشم، قال: أنا حدثت به إبراهيم، عن أبي العالية.
فقلت: قد رواه الزهري مرسلاً؟
فقال: قرأته في كتاب ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن. اهـ
فرجعت رواية الزهري المرسلة إلى رواية الحسن، ورواية الحسن سبق لنا أن مردها إلى مرسل أبي العالية، والله أعلم.(9/876)
الدليل الثاني:
(1110-339) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن يزيد بن سنان، حدثنا أبي، نا سليمان الأعمش، عن أبي سفيان،(9/879)
عن جابر، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عيه وسلم من ضحك منكم في صلاته فليتوضأ، ثم ليعد الصلاة (1) .
[منكر، والمعروف عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر خلافه] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/172) .
(2) ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في الخلافيات (748) .
وأخرجه ابن عدي في الكامل (7/270) ، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (746) من طريق يزيد بن محمد بن يزيد بن سنان، ثنا أبي، عن عن أبيه، عن الأعمش به.
قال الدارقطني: يزيد بن سنان ضعيف، ويكنى بأبي فروة الرهاوي، وابنه ضعيف أيضاً، وقد وهم فيه في موضعين:
أحدهما: في رفعه إياه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والآخر: في لفظه، والصحيح عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر من قوله: من ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء، وكذلك رواه عن الأعمش جماعة من الرفعاء الثقات، منهم: سفيان الثوري وأبو معاوية الضرير ووكيع وعبد الله بن داود الخريبي وعمر بن علي المقدمي وغيرهم، وكذلك رواه شعبة وابن جريج، عن يزيد بن أبي خالد، عن أبي سفيان، عن جابر.
ثم ساق الدارقطني في سننه (1/172) بإسناده من طريق ابن مهدي وأبي نعيم فرقهما، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر، قال: ليس في الضحك وضوء.
كما أخرجه أبو يعلى في المسند (2313) ، والدارقطني (1/172) والبيهقي في الخلافيات (675) من طريق وكيع، عن الأعمش به موقوفاً.
وأخرجه الدارقطني (1/172) من طريق أبي معاوية وعمر بن علي المقدمي فرقهم عن الأعمش به، بنحوه موقوفاً
كما أخرجه الدارقطني (1/172) من طريق شعبة وابن جريج فرقهما، عن يزيد بن أبي خالد، عن أبي سفيان به، موقوفاً على جابر.(9/880)
الدليل الثالث:
(1111-340) ما رواه الدارقطني من طريق الحسن بن قتيبة ومن طريق إسماعيل بن عياش، كلاهما عن عمر بن قيس، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن،
عن عمران بن حصين، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ضحك في الصلاة قرقرة، فليعد الوضوء والصلاة.
وقال الحسن بن قتيبة: إذا قهقه الرجل أعاد الوضوء والصلاة (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
الدليل الرابع:
(1112-341) ما رواه الدارقطني من طريق عبد العزيز بن الحصين، عن عبد الكريم، عن الحسن،
_________
(1) سنن الدارقطني (1/156) ، وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/110) ، ومن طريقه ابن الجوزي في الواهيات (617) إسماعيل بن عياش، عن عمر بن قيس به.
وأخرجه البيهقي في الخلافيات (698) من طريق عبد الرحمن بن سلام الجمحي، ثنا عمر بن قيس به.
(2) في إسناده عمر بن قيس المكي المعروف قال الدارقطني: ضعيف ذاهب الحديث.
وقال أحمد: متروك الحديث، لم يكن حديثه بصحيح. الجرح والتعديل (6/129) .
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، متروك الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: مكي لين الحديث. المرجع السابق.
وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/187) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الكامل (5/7) .(9/881)
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قهقه الرجل أعاد الوضوء والصلاة (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
وفي الباب أحاديث شديدة الضعف، تركتها اقتصاراً واختصاراً.
دليل الجمهور على عدم النقض بالقهقهة.
الدليل الأول:
(1113-342) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان،
عن جابر، قال: إذا ضحك الرجل في الصلاة أعاد الصلاة، ولم يعد الوضوء (3) .
[إسناده صحيح] (4) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/164) ، وقد أخرجه الخطيب في تاريخه (9/379) ، ومن طريق الخطيب أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (231) ، وفي العلل (368) من طريق علي بن حجر، عن عبد العزيز بن الحصين به.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/167) ، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (720) من طريق الهيثم بن جميل، ثنا عبد العزيز بن الحصين به.
(2) قال الدارقطني في سننه: عبد الكريم متروك، والراوي له عنه عبد العزيز بن الحصين، وهو ضعيف ذاهب الحديث.
(3) المصنف (1/340) رقم: 3908,
(4) رجاله ثقات، وسبق لنا تخريج هذا الأثر من طرق عن الأعمش في أدلة القول الأول.(9/882)
الدليل الثاني:
من تطهر فالأصل بقاء الطهارة حتى يأتي دليل صحيح صريح على بطلان طهارته، ولم يوجد.
الدليل الثالث:
إذا كانت القهقة خارج الصلاة لا تنقض الطهارة، لم تنقض الطهارة داخل الصلاة.
الدليل الرابع:
الكلام ممنوع في الصلاة، ومع ذلك لا ينقض الطهارة ولو تعمده الإنسان بطلت صلاته دون طهارته، فكذلك القهقهة فهي من جنس الكلام، بل إذا كان القذف داخل الصلاة لا يبطل الطهارة، مع أنه من كبائر الذنوب فالقهقهة من باب أولى.
الراجح من الخلاف:
القول بالنقض من القهقة قول ضعيف جداً أثراً ونظراً،
أما الأثر فإن مدارها على أحاديث إما مرسلة، وإما شديدة الضعف.
وأما النظر، فإن القهقهة كما أنها لا تنقض الوضوء خارج الصلاة، فإنها لا تنقض الوضوء في الصلاة، والله أعلم.(9/883)
[صفحة فارغة](9/884)
الفصل الثامن:
في نقض الوضوء بالردة
اختلف العلماء في الردة، هل تبطل الوضوء،
فقيل: لا تبطل الوضوء، وهو مذهب الحنفية (1) ، وأحد القولين في مذهب المالكية (2) ، ووجه في مذهب الشافعية (3) ، واختيار ابن حزم (4) .
وقيل: تبطل الردة التيمم دون الوضوء، وهو وجه في مذهب الشافعية (5) .
_________
(1) المبسوط (1/116-117) ، فتح القدير (1/132) ،
(2) المنتقى للباجي (1/66) ، التاج والإكليل (1/435) ، وقد ذهبوا إلى استحباب الوضوء من الردة، وهو صريح بأن الردة لا تنقض الوضوء؛ لأن المستحب ليس بلازم.
(3) المجموع (2/5) ، وسيأتي نقل نص النووي بعد قليل من كتابه العظيم المجموع إن شاء الله تعالى.
(4) المحلى مسألة (169) .
(5) قال النووي في المجموع (2/5) : الردة وفيها ثلاثة أوجه , أصحها أنها تبطل التيمم دون الوضوء. والثاني تبطلهما. والثالث لا تبطل واحدا منهما. ثم قال النووي: وأما مسألة الردة فالنقض في الوضوء وجه ضعيف لم يعرجوا عليه هنا, وقد قطع المصنف ببطلان التيمم بالردة ذكره في باب التيمم،. واحتج لإبطال الوضوء والتيمم بأن الطهارة عبادة لا تصح مع الردة ابتداء , فلا تبقى معها دواما كالصلاة إذا ارتد في أثنائها.
ولعدم الإبطال بأنها ردة بعد فراغ العبادة فلم تبطلها كالصوم والصلاة بعد الفراغ منهما.
وللفرق بين الوضوء والتيمم بقوة الوضوء وضعف التيمم. الخ كلامه رحمه الله. وانظر نهاية المحتاج (1/109) ،(9/885)
وقيل: تبطل الوضوء، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) ، واختاره بعض المالكية (2) ، ووجه في مذهب الشافعية (3) .
دليل من قال: لا تبطل الردة الوضوء.
التعليل الأول:
قالوا: إن الردة ليست حدثاً، وإنما يبطل الوضوء بالحدث.
قلت: سبق لنا أن الحنفية يصححون الوضوء من الكافر، ولا يشترطون الإسلام في صحة الوضوء، فضلاً أن يروا الردة مبطلة للوضوء.
التعليل الثاني:
بعد الفراغ من العبادة لا يمكن له رفضها ولا إبطالها، فكما أنه لو صام أو صلى لا يمكنه أن يرفض العبادة أو يغير نيتها حال إسلامه، فكذلك لا يمكن له إبطال العبادة بالردة بعد الفراغ منها.
قال ابن حزم: وأما الردة فإن المسلم لو توضأ واغتسل للجنابة أو كانت امرأة فاغتسلت من الحيض ثم ارتدا ثم راجعا - الإسلام دون حدث يكون منهما, فإنه لم يأت قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قياس بأن الردة حدث ينقض الطهارة, وهم يجمعون معنا على أن الردة لا تنقض
_________
(1) المغني (1/115) ، الفروع (1/185) ، الإنصاف (1/220) ، شرح منتهى الإرادات (1/74) .
(2) اختاره خليل في مختصره، انظر الخرشي على مختصر خليل (1/157) ، والمنتقى للباجي (1/66) ، ومواهب الجليل (1/300) ، حاشية الدسوقي (1/122) .
(3) المجموع (2/5) .(9/886)
غسل الجنابة ولا غسل الحيض ولا أحباسه السالفة ولا عتقه السالف ولا حرمة الرجل, فمن أين وقع لهم أنها تنقض الوضوء وهم أصحاب قياس, فهلا قاسوا الوضوء على الغسل في ذلك, فكان يكون أصح قياس لو كان شيء من القياس صحيحاً (1) . اهـ
قالوا: إن الردة إنما تبطل ثواب العمل، وليست تبطل العمل نفسه، وإبطال الثواب مشروط بالموت على الكفر كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه.
الدليل الثالث:
(1114-343) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه،
عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا وضوء إلا من صوت أو ريح (2) .
[المحفوظ في لفظ الحديث فلا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً] (3) .
ثم إن هذا العموم لا يدخل فيه مس الفرج كما لا يدخل فيه أكل لحم الإبل ومس بدن المرأة وغيرها من النواقض المختلف فيها، وقد يدخل في ذلك النوم باعتباره مظنة لخروج خارج، كما يدخل فيه البول والغائط، ووجهه: حيث نبه على الأخف، فيدخل الأغلظ من باب أولى.
_________
(1) المحلى مسألة 169 (1/241) .
(2) المسند (2/471) .
(3) انظر حديث رقم (1001) .(9/887)
دليل من قال: الردة تبطل الوضوء.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (1) ، فكلمة (عملك) نكرة مضافة فتعم كل عمل، ومنه الوضوء.
وأجيب:
بأن إحباط العمل مشروط بالموت على الردة، كما قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (2) ، الآية.
قال ابن حزم: فإن ذكروا قول الله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} قلنا هذا على من مات كافراً، لا على من راجع الإسلام. يبين ذل ك قول الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} وقوله تعالى {ولتكونن من الخاسرين} شهادة صحيحة قاطعة لقولنا؛ لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من ارتد ثم رجع إلى الإسلام ومات مسلما فإنه ليس من الخاسرين , بل من الرابحين المفلحين, وإنما الخاسر من مات كافراً (3) .
الدليل الثاني:
(1115-344) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان ابن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) الزمر: 65.
(2) البقرة: 217.
(3) المرجع السابق.(9/888)
الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها (1) .
وجه الاستدلال:
فإذا كان الطهور شطر الإيمان، والردة تبطل الإيمان، فهي تبطل أيضاً الوضوء؛ لأنه من الإيمان، بل هو شطر الإيمان.
دليل من فرق بين الوضوء والتيمم.
قالوا: إن التيمم مبيح لفعل الصلاة وليس رافعاً للحدث، ولا إباحة مع قيام المانع، بخلاف الوضوء فإنه رافع للحدث، فهو أقوى من التيمم، فالردة تبطل التيمم لضعفه بخلاف الوضوء.
هذه أدلة كل قول من الأقوال، وقد تجنب بعض المصنفين من الحنابلة ذكر الردة من نواقض الوضوء، وعلل ذلك المرداوي من الحنابلة بقوله:
لم يذكر القاضي في الجامع , والمحرر , والخصال , وأبو الخطاب في الهداية , وابن البنا في العقود , وابن عقيل في التذكرة , والسامري في المستوعب , والفخر ابن تيمية في التلخيص , والبلغة , وغيرهم: الردة من نواقض الوضوء.
فقيل: لأنها لا تنقض عندهم.
وقيل: إنما تركوها لعدم فائدتها; لأنه إن لم يعد إلى الإسلام فظاهر, وإن
_________
(1) صحيح مسلم (223) .(9/889)
عاد إلى الإسلام وجب عليه الغسل، ويدخل فيه الوضوء. وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير. فقال: لا معنى لجعلها من النواقض مع وجوب الطهارة الكبرى.
وقال الشيخ تقي الدين: له فائدة تظهر فيما إذا عاد إلى الإسلام , فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل. فإن نواهما بالغسل أجزأه , وإن قلنا لم ينتقض وضوؤه: لم يجب عليه الغسل. انتهى.
قال الزركشي: قلت: ومثل هذا لا يخفى على القاضي. وإنما أراد القاضي: أن وجوب الغسل ملازم لوجوب الطهارة الصغرى. وممن صرح بأن موجبات الغسل تنقض الوضوء: السامري. وحكى ابن حمدان وجها بأن الوضوء لا يجب بالالتقاء بحائل , ولا بالإسلام. وإذن ينتفي الخلاف بين الأصحاب في المسألة. انتهى (1) .
قلت: سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الخلاف في وجوب الغسل على من أسلم أو رجع إلى الإسلام بعد كفره في كتاب الغسل، وهو بعد كتابنا هذا، والذي أميل إليه في موضع الردة أنها ليست من نواقض الوضوء، ولم يقم دليل صحيح صريح في كون الردة حدثاً من الأحداث، والله أعلم.
_________
(1) الإنصاف (1/219) .(9/890)
مبحث:
في الوضوء مما مست النار
اختلف الفقهاء في الوضوء مما مست النار،
فقيل: يجب الوضوء مما مسته النار، اختاره بعض الصحابة رضي الله عنهم، منهم ابن عمر، وعائشة، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وأبو طلحة، وزيد بن ثابت، وغيرهم (1) .
واختاره الزهري رحمه الله تعالى (2) .
وقيل: لا يجب فيه وضوء، وعليه عمل الخلفاء الراشدين (3) ، وهو مذهب جماهير أهل العلم على خلاف بينهم:
هل كان الوضوء منه واجباً فنسخ؟ اختاره بعض المالكية (4) ، وهو
_________
(1) انظر الأوسط لابن المنذر (2/213) ، التمهيد (3/331) .
(2) التمهيد (3/331) .
(3) التمهيد (3/332) ، المفهم (1/603) .
(4) قال الباجي في المنتقى (1/65) : " روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد لا بأس بها، أنه قال: توضئوا مما أنضجت النار " واختلف أصحابنا في تأويل ذلك، فمنهم من قال: إنه لم يكن قط الوضوء مما أنضجت النار واجباً، وإنما كان معناه المضمضة وغسل الفم على وجه الاستحباب، ومنهم من قال: قد واجباً، ثم نسخ، وتعلقوا في ذلك بما رواه شعيب ابن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله أنه قال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار ".
وقال القرطبي في المفهم (1/603) : " قوله: " توضئوا مما مست النار " هذا الوضوء هنا هو الوضوء الشرعي العرفي عند جمهور العلماء، وكان الحكم كذلك ثم نسخ، كما قال جابر ابن عبد الله: " كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار " وعلى هذا تدل الأحاديث الآتية بعد، وعليه استقر عمل الخلفاء ومعظم الصحابة وجمهور العلماء من بعدهم، وذهب أهل الظاهر والحسن البصري والزهري إلى العمل بقوله: " توضئوا مما مست النار، وأن ذلك ليس بمنسوخ...... وذهبت طائفة إلى أن ذلك الوضوء إنما هو الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد والفم من الدسم والزفر... والصحيح الأول فليعتمد عليه".
وضعف ابن عبد البر تأويل الوضوء مما مست النار بغسل الأيدي من الدسم، وذهب إلى القول بالنسخ، انظر التمهيد (3/330) .(9/891)
مذهب الشافعية (1) ،
والحنابلة (2) ، واختيار ابن حزم (3) .
أو كان معنى الوضوء مما مست النار، هو المضمضة وغسل الفم على وجه الاستحباب، وهو مذهب الحنفية (4) ، واختاره بعض المالكية (5) .
وقيل: الوضوء مما مسته النار، مستحب، وليس بواجب، وأن ترك الوضوء مما مست النار لم يكن من قبيل النسخ، وإنما هو لبيان أنه ليس بواجب، وهو وجه في مذهب أحمد، رجحه ابن تيمية رحمه الله تعالى (6) ، وابن القيم، وهو الراجح.
_________
(1) قال النووي في المجموع (2/68) : " والجواب عن أحاديثهم - يعني: أحاديث الوضوء مما مست النار - أنها منسوخة، هكذا أجاب الشافعي وأصحابه وغيرهم من العلماء، ومنهم من حمل الوضوء فيها على المضمضة، وهو ضعيف ".
ووقال في نهاية المحتاج (6/215) :: نظم جلال الدين السيوطي، فقال:
وأربع تكرر النسخ لها... جاءت بها الأخبار والآثار
فَقِبلة ومتعة وخمر... كذا الوضوء مما تمس النار
(2) المغني (1/121-122) ،
(3) المحلى (1/226) .
(4) المبسوط (1/80) ، بدائع الصنائع (1/33) ،
(5) سبق نقل كلام الباجي في المنتقى والإشارة إلى الخلاف الواقع بين الأصحاب في مذهب المالكية، والله أعلم.
(6) مجموع الفتاوى (20/524) ، شرح العمدة (1/330) .(9/892)
وسبب الخلاف اختلافهم في الأحاديث الواردة:
فثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: توضئوا مما مست النار،
(1116-345) رواه مسلم من طريق عقيل بن خالد قال: قال ابن شهاب: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره،
أن أباه زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الوضوء مما مست النار (1) .
ورواه مسلم من مسند عائشة رضي الله عنها (2) .
وثبت عنه أنه أكل لحماً، ثم صلى ولم يتوضأ.
(1117-346) وروى البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن عبد الله بن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. ورواه مسلم (3) .
وقد رواه الشيخان أيضاً من مسند عمرو بن أمية الضمري (4) ، ومن مسند ميمونة (5) ، كما رواه مسلم من مسند أبي رافع (6) .
_________
(1) صحيح مسلم (351) .
(2) صحيح مسلم (353) .
(3) رواه البخاري (207) ، ومسلم (354) .
(4) البخاري (208) ، ومسلم (355) .
(5) البخاري (210) ، ومسلم (356) .
(6) مسلم (357) .(9/893)
فمن أهل العلم من أخذ بالأحاديث الآمرة بالوضوء مما مست النار، وأنها ناقلة عن البراءة الأصلية فهي مقدمة على غيرها من الأحاديث الموافقة للبراءة الأصلية، وهذا حجة من ذهب إلى القول بوجوب الوضوء مما مست النار.
ومن أهل العلم من رأى أن القواعد تقتضي بأن الرسول إذا أمر بشيء ثم خالفه، ولم يأت دليل صريح بأن هذه المخالفة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك يدل ذلك على أن الأمر ليس على الوجوب، وإنما هو على الاستحباب، وهذا حجة من ذهب إلى استحباب الوضوء مما مست النار، وأن الأمر بالوضوء مما مست النار ما زال محكماً، ولم ينسخ.
(1118-347) وأخذ جماهير أهل العلم بما رواه شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر،
عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما غيرت النار (1) .
فرأوا أن الحديث دليل على أن الوضوء مما مست النار كان مشروعاً فنسخ، إلا أن الحديث بهذا اللفظ، قد ذهب بعض أهل العلم منهم أبو داود وأبو حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم إلى أن شعيب اختصر الحديث، فأخطأ فيه (2) ، فأوقع هذا الاختصار المخل للحديث في لبس، وأن الحديث عند من بسطه لا يدل على ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وإنما
_________
(1) سنن أبي داود (192) .
(2) سبق بحثه في الكلام على الوضوء من أكل لحم الإبل، انظر رقم (1091) فأغنى والله الحمد عن إعادته هنا.(9/894)
فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً عند امرأة من الأنصار، ثم قام إلى صلاة الظهر، فتوضأ، وصلى، ثم عاد مرة أخرى، فقدمت له بقية اللحم، فأكل، ثم قام، وصلى العصر، ولم يتوضأ، فأراد شعيب أن يختصره، فقال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، والمقصود بالأمرين أي في شأن هذه القصة، وليس في الأمر العام الشرعي على أن الحديث له علة أخرى، فقد قيل: إن محمد بن المنكدر لم يسمعه من جابر، وإنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل، وأكثر أهل العلم على ضعفه. وقد سبق بحث الحديث، فأغنى عن إعادته هنا.
ورد ابن حزم (1) ، وابن التركماني (2) ، القول باختصار الحديث، وقالا: إنما هما حديثان، وأيدهما أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
وقال أحمد شاكر: ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جداً، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه، ورمي الرواة الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن معناها قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالرويات الصحيحة جملة... الخ كلامه رحمه الله (3) .
وكلام أهل العلل كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان ومعهم ابن تيمية وابن القيم لا يمكن أن يعارض بكلام ابن حزم وابن التركماني، وذلك أن ابن حزم رحمه الله لم يكن من أهل العلل أصلاً، وليست له عناية في هذا
_________
(1) المحلى (1/243) .
(2) الجوهر النقي (1/156) .
(3) سنن الترمذي تحقيق أحمد شاكر (1/122) .(9/895)
الفن، ومن قرأ كتابه المحلى قطع بذلك، وإن كان هذا لا يقدح في إمامته في الفقه، فالمرد عند الكلام على العلل إنما هو إلى أهله وصيارفته، وما ساقه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إنما هو حسن الظن بالراوي، وهذا لا يمنع من الوقوع بالخطأ، والثقة بل الأئمة يقع لهم بعض الأخطأ، فهذا مالك وسفيان والزهري وشعبة قد يحصي أئمة الحديث أوهاما ً لهم وقعوا فيها، إما في المتن وإما في الإسناد، وليس ذلك بقادح في الثقة حتى يكثر ذلك منه، فإذا كثرت مخالفته قدح ذلك في ضبطه، والله أعلم.
وبناء عليه فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء، ثم أكل لحماً وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب، وإنما هو على قبيل الاستحباب، والله أعلم.(9/896)
الفصل التاسع:
في الوضوء من غسل الميت
اختلف أهل العلم في غسل الميت، هل ينقض الوضوء،
فقيل: لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الجمهور (1) ، ورواية عن أحمد (2) .
وقيل: ينقض، وهي مفردات مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى (3) .
وقيل: يسن، نص عليه الشافعي (4) .
دليل من قال بالنقض.
الدليل الأول:
(1119-348) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء،
قال: سئل ابن عباس: أعلى من غسل ميتاً غسل؟ قال: لا، إذن
_________
(1) انظر المبسوط (1/82) ، بدائع الصنائع (1/32) ، المغني (1/123) ،
(2) الفروع (1/184) ، الإنصاف (1/215) .
(3) قال صاحب الإنصاف (1/215) : الصحيح من المذهب: أن غسل الميت ينقض الوضوء , نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب, مسلما كان أو كافرا, صغيرا كان أو كبيرا, ذكرا أو أنثى, وهو من مفردات المذهب. اهـ وانظر الفروع (1/184) ، شرح منتهى الإرادات (1/73) ، مطالب أولي النهى (1/147) .
(4) قال النووي في المجموع (2/234) : ويسن الوضوء من مس الميت، نص عليه الشافعي في مختصر المزني رحمه الله. اهـ(9/897)
نجسوا صاحبهم، ولكن وضوء (1) .
[رجاله ثقات] (2) .
_________
(1) المصنف (6101) .
(2) وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (2/469) ، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً.
ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ولم يذكر ما ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج من زيادة الوضوء.
وروى البيهقي (3/398) من طريق أبي شيبة، ثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن عمرو، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً، وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم. اهـ
قال البيهقي: هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة.
فعلق الحافظ في تلخيص الحبير (1/239) بقوله: أبو شيبة هو إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، احتج به النسائي، ووثقه الناس، ومن فوقه احتج بهم البخاري، ثم قال: فالإسناد حسن.
وقال في التهذيب (1/138) : وهم البيهقي في ذلك، وكأنه ظنه جده إبراهيم بن عثمان، فهو المعروف بأبي شيبة أكثر مما يعرف بها هذا.
قلت: قال أبو حاتم الرازي: صدوق. الجرح والتعديل (2/110) .
وقال الخليلي: كان ثقة، روى عنه الحفاظ. تهذيب التهذيب (1/137) .
وقال مسلمة بن قاسم: كوفي ثقة. المرجع السابق.
وقال العقيلي: ليس به بأس. المرجع السابق.
وقال الذهبي في الكاشف: ثقة.
وقال الحافظ في التقريب: صدوق.(9/898)
ويجاب:
أولاً: هذا موقوف على ابن عباس رضي الله عنه، وقوله هذا خلاف القياس.
ثانياً: لعله يحمل ذلك على المحدث، حتى إذا أراد الصلاة على الميت فإذا هو طاهر، أو يحمل على الوضوء اللغوي، وهو نظافة يديه؛ لأن الغاسل قد يمس فرجه بحائل، وقد تخرج من الميت نجاسة تلوث من باشر غسله، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1120-349) ما رواه عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: إذا غسلت الميت فأصابك منه أذى فاغتسل، وإلا إنما يكفيك الوضوء (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الثالث:
ربما أخذوا نقض الوضوء من كون بعض أهل العلم يرى وجوب الغسل من تغسيل الميت، فإذا أوجب عنده ذلك الطهارة الكبرى، فقد أوجب الطهارة الصغرى؛ لأنها داخلة فيها وللقاعدة عندهم ((كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً)) وعمدتهم في إيجاب الغسل من تغسيل الميت:
_________
(1) المصنف (6107) .
(2) في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف في حفظه، وسبقت ترجمته في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية.(9/899)
(1121-350) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من غُسْلِها الغسلُ، ومن حَمْلِها الوضوء (1) . يعني الميت.
[اختلف في رفعه ووقفه، ورجح جمع من الأئمة المتقدمين وقفه] (2) .
_________
(1) المسند (2/272) .
(2) قال أبو حاتم: إنما هو موقوف عن أبي هريرة، لا يرفعه الثقات. العلل (1/351) .
وقال البخاري بعد أن ساق الاختلاف على أبي هريرة، في رفعه ووقفه، فقال: وهذا أشبه. يعني الموقوف. التاريخ الكبير (1/397) .
وقال البيهقي: بعد أن رواه مرفوعاً وموقوفاً قال: هذا هو الصحيح موقوفاً على أبي هريرة، كما أشار إليه البخاري. السنن (1/303) .
وقال البيهقي أيضاً: الروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية لجهالة بعض رواتها، وضعف بعضهم، والصحيح عن أبي هريرة من قوله موقوفاً غير مرفوع. اهـ المرجع السابق.
وقال أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء. مسائل
وكذا قال علي بن المديني: لا يثبت فيه حديث: سنن البيهقي (1/305) .
وقال الذهلي: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً، ولو ثبت للزمنا استعماله. تلخيص الحبير (1/236) .
وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت. المرجع السابق.
فهذا أبو حاتم وأحمد والبخاري وعلي بن المديني والذهلي وابن المنذر والبيهقي كلهم يذهبون إلى عدم ثبوت المرفوع.
وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن. وهذه العبارة ليست تصحيحاً من الترمذي، لأن الحسن عند الترمذي هو ما اصطلح عليه المتأخرون بالحسن لغيره، وهو أن يكون روايه غير متهم، ويروى من غير وجه.
وصححه ابن حبان حيث أورده في صحيحه كما سيأتي في التخريج.
وقواه الذهبي حيث يقول في مختصر سنن البيهقي (1/301) : بل هي- أي الأحاديث - غير بعيدة عن القوة إذا ضم بعضها إلى بعض، وهي أقوى من أحاديث القلتين، وأقوى من أحاديث "الأرض مسجد إلا المقبرة والحمام" إلى غير ذلك مما احتج بأشباهه فقهاء الحديث. اهـ
[تخريج الحديث] .
رواه أحمد كما في إسناد الباب من طريق سهيل بن أبي صالح، وقد اختلف عليه فيه:
فرواه ابن جريج كما في إسناد أحمد هذا.
وأخرجه ابن ماجه (1436) ، والترمذي (993) ، والبيهقي (1/300-301) من طريق عبد العزيز بن المختار.
وأخرجه ابن حبان (1161) من طريق حماد بن سلمة.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (989) من طريق زهير بن محمد، أربعتهم، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً.
ورواه ابن عيينة، واختلف عليه فيه:
فرواه الشافعي عن ابن عيينة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، ذكره الدارقطني في العلل (10/162) .
وأخرجه أبو داود (3162) ، ومن طريقه البيهقي في السنن (1/301) من طريق حامد ابن سفيان.
والحميدي وابن أبي عمر كما في العلل للدارقطني (10/162) ثلاثتهم عن سفيان ابن عيينة، عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة مرفوعاً.
فزاد سهيل في إسناده إسحاق مولى زائدة.
ووراه البخاري في التاريخ الكبير (1/396) من طريق ابن علية، عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً.
فتابع ابن علية سفيان بن عيينة في زيادة إسحاق في إسناده، وخالفه من جهة كونه رواه موقوفاً على أبي هريرة، ولم يرفعه كما فعل ابن عيينة.
وقد ذكر الدارقطني في علله طريق ابن علية هذا إلا أنه صرح أن ابن علية يرويه عن سهيل، عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة موقوفاً بدون ذكر صالح والد سهيل، فلعل هذا اختلاف آخر على ابن علية أو وهم.
وأخرجه البيهقي (1/301) من طريق وهيب بن خالد، عن سهيل، عن أبيه، عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وهذا اختلاف ثالث على سهيل، والحارث بن مخلد، لم يوثقه إلا ابن حبان حيث ذكره في ثقاته (2152) .
وقال ابن القطان: مجهول الحال. تهذي التهذيب (2/136) .
وقال البزار: ليس بمشهور. المرجع السابق.
وفي التقريب: مجهول الحال.
ورواه ابن أبي ذئب، واختلف عليه فيه:
فقيل: عنه، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً..
فقيل: عنه، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وقيل: عنه: عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وقيل: عنه: عن القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير، عن أبي هريرة مرفوعاً. وهذا تفصيله:
فقد رواه ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة. ذكره الدارقطني في العلل (10/379) ، قال الدارقطني: أغرب ابن أبي فديك.
ووراه حبان بن علي، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة. ذكره الدارقطني في العلل، وقال الدارقطني: حديث المقبري أصح. (10/378) .
ورواه الطيالسي (2314) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/303) ،
وابن أبي شيبة (2/470) عن شبابة.
وأحمد في مسنده (2/433) عن يحيى، وأيضاً (2/454) عن حجاج. كلهم عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة مرفوعاً.
قال البيهقي: هذا هو المشهور من حديث ابن أبي ذئب، وصالح مولى التوأمة ليس بالقوي.
وأخرجه أبو داود (3161) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/303) من طريق ابن أبي فديك، حدثني ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وعمرو بن عمير، لم يرو عنه إلا القاسم بن عباس، ولم يوثقه أحد، وفي التقريب: مجهول.
قال الدراقطني في علله (10/162) بعد أن ساق الاختلاف على سهيل: ويشبه أن يكون كان يضطرب فيه.
هذا فيما يخص طريق سهيل، عن أبيه.
وأخرجه البيهقي في سننه (1/301) وذكره البخاري في التاريخ الكبير (1/396-397) من طريق ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً.
ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة موقوفاً.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/470) حدثنا عبدة بن سليمان.
وأخرجه أيضاً (3/47) حدثنا يزيد بن هارون.
والبيهقي (1/302) من طريق عبد الوهاب بن عطاء.
والبخاري في التاريخ الكبير (1/397) من طريق عبد العزيز الدراوردي، كلهم عن محمد بن عمرو به، موقوفاً على أبي هريرة.
وخالفهم حماد بن سلمة، فأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/397) من طريق حماد ابن سلمة، عن محمد بن عمرو به، مرفوعاً.
ورجح البخاري الرواية الموقوفة على الرواية المرفوعة، كما في التاريخ الكبير (1/397) كما خطأ أبو حاتم حماد بن سلمة، انظر العلل (1/351) .
وتابع حنين بن أبي حكيم حماد بن سلمة في رفعه متابعة قاصرة، فأخرجه البيهقي في سننه (1/302) من طريق ابن لهيعة، عن حنين بن أبي حكيم، عن صفوان بن أبي سليم، عن أبي سلمة مرفوعاً.
قال البيهقي: ابن لهيعة وحنين بن حكيم لا يحتج بهما، والمحفوظ من حديث أبي سلمة ما أشار إليه البخاري أنه موقوف من قول أبي هريرة.
وأخرجه البيهقي (1/303) من طريق أبي واقد الليثي، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وإسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وأبو واقد الليثي ضعيف.
قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (4/291) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (297) .
وأخرجه البيهقي (1/303) من طريق الوليد بن مسلم، حدثني ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف.
وأخرجه أحمد (2/280) ، والبخاري في التاريخ الكبير (1/397) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن رجل من بني ليث، عن أبي إسحاق، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف؛ لأن في إسناده مبهماً، وفيه جهالة أبي إسحاق.
انظر أطراف المسند (7/199) ، تحفة الأشراف (12726) ، إتحاف المهرة (18106) .(9/900)
وفي الباب من حديث عائشة وعلي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وحذيفة والمغيرة بن شعبة، وكلها أحاديث ضعيفة، وسنأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى في كتاب الغسل، وهو بعد هذا الكتاب.
الدليل الثاني:
وقالوا: ولأن العادة أن الغاسل لا تسلم يده أن تقع على فرج الميت، كما لا يسلم النائم المضطجع من خروج الحدث، وأوجبنا الوضوء من النوم.
وأجيب:
أولاً: لا يحل له أن يمس فرج الميت بدون حائل.
وثانياً: ليس مس الفرج متيقناً ولا غالباً، بل هو نادر، وبالتالي لا يكون غسل الميت مظنة للمس الفرج.(9/904)
ثالثاً: أن غاسل الميت يكون معه عقله، ويعلم بما يقوم به، فإذا مس فرج الميت شعر بذلك، بخلاف النائم فإنه يحدث وهو لا يشعر، ولذلك لو كان نومه نعاساً لم يغلب على عقله لم يكن النوم ناقضاً للوضوء؛ لأنه لو أحدث لشعر بذلك.
رابعاً: الوضوء من مس الذكر أمر تعبدي، وقد قدمنا الخلاف في مس ذكر الغير، ورجحنا أن الوضوء إنما يجب إذا مس ذكره بيده لحديث (من مس ذكره فليتوضأ) وأما إذا مس ذكر غيره فلم يصح فيه الحديث، وبالتالي لا يجب عليه الوضوء، ولا يقاس مس ذكر الغير على مس ذكره؛ لأن الأمر تعبدي لم تظهر لنا علته، والله أعلم.
دليل من قال: لا ينقض الوضوء.
الدليل الأول:
قالوا: لم يصح في وجوب الوضوء ولا في وجوب الغسل من تغسيل الميت حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قاله جماعة من أهل العلم:
قال أبو داود في مسائل الإمام أحمد: ((سمعت أحمد ذكر في (من غسل ميتاً فليغتسل) فقال: ليس يثبت فيه حديث)) (1) .
وكذا قال علي بن المديني والذهلي والبيهقي وابن المنذر وغيرهم، نقلنا ذلك عنهم في أدلة القول الأول.
فإذا كان ذلك كذلك فالأصل عدم الوجوب حتى يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر منه بذلك، ولم يثبت.
_________
(1) مسائل أبي داود (1964) .(9/905)
الدليل الثاني:
قالوا: بدن الميت طاهر، ومس الطاهر ليس بحدث، بل لو كان نجساً لم يكن حدثاً، وكل ما عليه أن يغسل النجاسة فقط، فإذا كان الإنسان لا يتوضأ من مس الميتة والنجاسات، فكذلك لا يتوضأ من باب أولى من غسل بدن المسلم.
الراجح والله أعلم.
بعد استعراض الأقوال في المسألة، وبعد أن نقلنا عن جمع من الأئمة بأنه لم يثبت حديث في الأمر بالغسل أو الوضوء من تغسيل الميت أرى والله أعلم أن القول بأن غسل الميت ناقض من نواقض الوضوء قول ضعيف، ولكن القول بالاستحباب من ذلك ليس ببعيد، وقد روى الخطيب في تاريخه في ترجمة محمد بن عبد الله المخزومي، من طريق عبد الله بن الإمام أحمد، قال: قال لي أبي: كتبت حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل؟ قال: قلت: لا. قال: في ذلك الجانب شاب يقال له: محمد بن عبد الله يحدث به، عن أبي هشام المخزومي، عن وهيب، فاكتب عنه (1) .
وهذا إسناد صحيح، وصححه الحافظ ابن حجر في التلخيص، وقال: وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث (2) . اهـ
_________
(1) تاريخ بغداد (5/424) .
(2) تلخيص الحبير (1/239) .(9/906)
الفصل العاشر:
في نقض الوضوء بالشك
إذا توضأ، ثم شك هل أحدث، فهل ينتقض وضوؤه؟
فقيل: لا ينتقض، بل يبني على اليقين مطلقاً، سواء كان في صلاة أم في غيرها، وهو مذهب الجمهور، ورواية ابن نافع، عن مالك.
وقيل: ينقض مطلقاً، وهو رواية ابن القاسم عن مالك.
وقيل: الشك ينقض الوضوء خارج الصلاة، ولا ينقض داخلها، وهو المشهور من مذهب المالكية (1) ،
ونسب هذا القول للحسن رحمه الله (2) .
دليل الجمهور على عدم النقض.
الأصل العظيم، أن اليقين لا يزول بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك
_________
(1) جاء في تهذيب المدونة (ص: 181) : " ولو أيقن بالوضوء، ثم شك في الحدث، فلم يدر أأحدث بعد الوضوء أم لا، فليعد وضوءه".اهـ
وقال الخرشي في شرحه (1/157) : من شك في طريان الحدث له بعد علمه بطهر سابق، فإن وضوءه ينتقض إلا أن يكون مستنكهاً بأن يشم في كل وضوء أو صلاة أو يطرأ له في اليوم مرة أو أكثر فلا أثر لشكه الطارئ بعد علم الطهر، ولا يبني على أول خاطر به على ما اختاره ابن عبد السلام؛ لأن من هذه صفته لا ينضبط له الخاطر الأول من غيره، والوجود يشهد لذلك، وإن كان ابن عرفة اقتصر على بنائه على ذلك، وكلام المؤلف فيمن حصل له الشك في طرو الحدث قبل الدخول في الصلاة بخلاف من شك في طرو الحدث في الصلاة أو بعدها فلا يخرج منها ولا يعيدها إلا بيقين؛ لأنه شك طرأ بعد تيقن سلامة العبادة. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/301) ، الثمر الداني (1/200) ، القوانين الفقهية (ص: 21) ، حاشية العدوي (1/431) .
(2) المغني (1/126) .(9/907)
بالحدث، أو تيقن النجاسة وشك في الطهارة، بنى على اليقين، وهذا الأصل له أدلة شرعية صحيحة، منها.
(1122-351) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم،
عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم.
دليل من قال بوجوب الوضوء بالشك بالحدث إلا أن يكون في صلاة.
قالوا: إنما أوجب الوضوء بالشك؛ لأن الطهارة شرط، والشك في الشرط مؤثر، بخلاف الشك في طلاق زوجته، أو عتق أمته، أو شك في الطهارة أو الرضاع لا يؤثر؛ لأنه شك في المانع، وهو لا يؤثر، وإنما أثر في الشرط دون المانع، لأن العبادة محققة في الذمة فلا تبرأ منها إلا بطهارة محققة، والمانع يطرأ على أمر محقق وهو الإباحة أو الملك من الرقيق، فلا تنقطع بأمر مشكوك فيه (1) .
وأما وجه الفرق بين الحدث داخل الصلاة وخارج الصلاة.
فقد أخذوا ذلك من ظاهر الحديث،
(1123-352) فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم،
عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد
_________
(1) الفواكه الدواني (1/237) .(9/908)
الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (1) .
فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا شك في الصلاة أن يستمر فيها، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، قالوا: وأما إذا شك خارج الصلاة، فالحكم مختلف، فيلزمه أن يأتي بالطهارة بيقين.
قال الدسوقي في حاشيته: من شك، وهو في الصلاة طرأ عليه الشك فيها بعد دخوله، فوجب أن لا ينصرف عنها إلا بيقين، ومن شك خارجها طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب أن لا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (2) .
وتعليل آخر: قالوا: قياساً على النوم، فإن وجوب الوضوء من النوم لوجود الشك في الحدث، فكذلك إذا شك في الحدث بدون نوم فإنه يوجب الوضوء.
قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: إن كان ناقضاً خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة كبقية النواقض (3) .
الراجح من القولين:
بعد استعراض الأدلة يتبين لنا والله أعلم أن قول الجمهور أقوى، لأن الشك لا يقضي على اليقين، وأن الأصل استصحاب المتيقن حتى ينتقل عنه إما بيقين أو بغلبة ظن، وأما الشك الذي هو استواء الطرفين، فإنه لا يقضي على اليقين، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (137) ، ومسلم (361) .
(2) حاشية الدسوقي (1/124) .
(3) فتح الباري (1/238) .(9/909)
[صفحة فارغة](9/910)
الفصل الحادي عشر:
كل ما يوجب الحدث الأكبر فإنه يوجب الوضوء
إذا اغتسل من وجب عليه حدث أكبر، دون أن يتوضأ أو ينوي رفع الحدث الأصغر، فهل يرتفع حدثه؟
فقيل: يرتفع حدثه، وهو مذهب الجمهور.
وقيل: كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلا الموت فلا بد أن يتوضأ، أو ينوي رفع الحدث الأصغر، وهو المشهور من مذهب الحنابلة.
وقيل: فعل الوضوء شرط في صحة الغسل من الجنابة، وهو رأي داود الظاهري.
دليل الجمهور:
لم يذكر الله سبحانه وتعالى الوضوء في القرآن، بل قال تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (1) ، ولو كان الوضوء واجباً لذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه.
الدليل الثاني:
(1124-353) ما رواه البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فأفرغه عليك (2) .
_________
(1) المائدة، آية: 6.
(2) صحيح البخاري (337) .(9/911)
ولو كان الوضوء واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ولم يطلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا مجرد إفراغه عليه.
الدليل الثالث:
(1125-354) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (1) .
وجه الدلالة:
عبر بـ " إنما " الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر الوضوء.
الدليل الرابع:
حكى بعضهم الإجماع على عدم وجوب الوضوء.
قال الحافظ في الفتح: " قام الإجماع على أن الوضوء في غسل الجنابة غير واجب " (2) .
_________
(1) صحيح مسلم (330) .
(2) في شرحه لحديث (259)(9/912)
وقال ابن عبد البر: " الله عز وجل إنما فرض على الجنب الغسل دون الوضوء، بقوله عز وجل: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (1) ، وقوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (2) (3) .
ولا تصح دعوى الإجماع مع خلاف داود الظاهري ".
دليل الحنابلة على وجوب الوضوء أو نيته.
لعلهم يرون أنه إذا قام الحدث الأكبر في البدن، فقد قام الحدث الأصغر من باب أولى، فإذا لم يتوضأ، ولم ينو رفع الحدث الأصغر فإن الحدث الأصغر قائم في البدن، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنيات " وهذا لم ينو، فلم يحصل له هذا العمل، والله أعلم.
دليل داود الظاهري بأن الوضوء شرط في صحة الغسل.
لعل داود لظاهري رأى في قوله تعالى أن قوله سبحانه: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ? (4) .
فقوله سبحانه: {فاطهروا} أمر، وهو مجمل، وبيانه يؤخذ من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حافظ على الوضوء قبل الغسل، فإذا كان قوله: {فاطهروا} أمر، والأصل في الأمر الوجوب، كان
_________
(1) النساء، آية: 43.
(2) المائدة، آية: 6.
(3) التمهيد (3/415) كما في فتح البر.
(4) المائدة، آية: 6.(9/913)
الفعل الذي وقع بياناً لهذا المجمل له حكم المجمل، فيكون واجباً مثله.
وهذا الاستدلال ممكن أن يسلم لو أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على صحة الغسل بلا وضوء، كحديث الأعرابي، وحديث أم سلمة، وقد سقناهما في أدلة الجمهور.
الراجح من الخلاف.
الذي يظهر والله أعلم أن موجبات الغسل لا توجب إلا الغسل، ولا توجب الوضوء، ولا نيته؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يطلب منا إلا التطهر في حال الجنابة: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) ، ولم يوجب علينا وضوءاً، ومن غسل جميع جسمه ناوياً رفع الحدث الأكبر فقد ارتفع حدثه، وكان له أن يصلي بهذا الغسل حتى يحدث، والله أعلم.
_________
(1) المائدة: 6.(9/914)
الباب الثاني:
فيما يحرم على المحدث
الفصل الأول:
يحرم على المحدث فعل الصلاة
قال ابن حزم: الوضوء للصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به لمن وجد الماء. هذا إجماع لا خلاف فيه من أحد, وأصله قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (1) .
وقال النووي: الطهارة شرط في صحة الصلاة، هذا مجمع عليه، ولا تصح صلاة بغير طهور، إما بالماء أو بالتيمم بشرطه (2) .
وقال أيضاً: جمعت الأمة على أنه من صلى محدثا مع إمكان الوضوء فصلاته باطلة , وتجب إعادتها بالإجماع , سواء أتعمد ذلك أم نسيه أم جهله (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) المجموع (3/139) .
(3) المجموع (4/160) .(9/915)
وقال في مغني المحتاج: ويحرم بالحدث حيث لا عذر: الصلاة بأنواعها بالإجماع (1) .
وقال العراقي في شرحه لحديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ، قال: ((استدل به العلماء على اشتراط الطهارة في صحة الصلاة، وهو مجمع عليه، حكى الإجماع في ذلك جماعة من الأئمة)) (2) .
مستند الإجماع:
(1126-355) جاء في الصحيحين من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (3) .
(1127-356) روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة ابن سعيد وأبو كامل الجحدري ـ واللفظ لسعيد ـ قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال:
ألا تدعو الله لي يا ابن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول وكنت على البصرة (4) .
_________
(1) مغني المحتاج (1/36) .
(2) طرح التثريب (2/213) .
(3) البخاري (135) ، ومسلم (2ـ 225) .
(4) رواه مسلم (224) .(9/916)
الفصل الثاني:
في تحريم الطواف على المحدث
اختلف الفقهاء في اشتراط الطهارة من الحدث للطواف،
فقيل: الطهارة من الحدث شرط لصحة الطواف. وهو المشهور من مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها، وتجبر بدم. وهو الراجح عند الحنفية (4) ، ورواية عن أحمد (5) .
وقيل: الطهارة من الحدث الأصغر سنة. وهو اختيار ابن تيمية (6) .
وقد حررنا أدلة كل قول، وبيان الراجح منها في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية، فأغنى عن إعادته هنا.
_________
(1) المنتقى ـ الباجي (2/290) ، مواهب الجليل (1/374) القوانين الفقهية ـ ابن جزي (ص55) ، الخرشي (2/314) .
(2) المجموع ـ النووي (8/17) ، حاشية البيجوري (1/600) .
(3) انظر الإنصاف (4/16) ، الفروع (1/260، 261) ، المبدع (3/221) .
(4) البحر الرائق (1/203) ، شرح فتح القدير (1/166) ، بدائع الصنائع (2/129) ، المبسوط (4/38) .
(5) المبدع (1/261) .
(6) مجموع الفتاوى (26/198) ، وانظر أعلام الموقعين (3/34) .(9/917)
[صفحة فارغة](9/918)
الفصل الثالث:
في وجوب الوضوء من مس المصحف
اختلف العلماء في من يريد مس المصحف هل يشترط أن يكون على طهارة من الحدث أم لا.
فقيل: يحرم على المحدث مس المصحف. وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) . واختيار ابن تيمية (2) .
وقيل: تستحب له الطهارة، ولا تجب. قال البيهقي: اختارها العراقيون (3) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/ 168) ، تبيين الحقائق (1/57ـ58) ، البحر الرائق (1/211) ، بدائع الصنائع (1/33ـ34) ، مراقي الفلاح (ص: 60) . وانظر في مذهب المالكية مختصر خليل (ص:14) ، الخرشي (1/160) ، حاشية الدسوقي (1/125) ، الكافي (ص: 24) ، مواهب الجليل (1/303) ، منح الجليل (1/117،118) ، القوانين الفقهية (ص: 25) ، الشرح الصغير (1/149) ، وانظر في مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/36) ، روضة الطالبين (1/79) ، المجموع (2/77) ، الحاوي الكبير (1/143ـ145) . وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/134) ، المحرر (1/16) ، شرح منتهى الإاردات (1/77) ، الإنصاف (1/222) ، المغني (1/202) الفروع (1/188) الكافي (1/48) .
(2) قال في مجموع الفتاوى (21/266) : " قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه له - يعني: كتاب عمرو بن حزم - وهو أيضاً قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف ".
(3) الخلافيات للبيهقي (1/497) .(9/919)
وهو مذهب الظاهرية (1) ، واختيار ابن المنذر (2) .
وقد ذكرنا أدلة كل قول، مع بيان الراجح في كتاب الحيض والنفاس، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم.
_________
(1) المحلى (مسألة 116) .
(2) الأوسط (2/103) .(9/920)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم، وبعد:
فهذا كتاب أحكام الغسل الفقهية والحديثية، أقدمه لإخواني طلبة العلم الشرعي، ويأتي بعد أن انتهيت من أحكام الوضوء: سننه وفروضه ونواقضه وأحكام المسح على الحائل، في ثلاثة مجلدات، ولله الحمد، للنتقل من الطهارة الصغرى إلى الطهارة الكبرى بالماء، وقد اشتمل الكتاب على ما يزيد على مائة مسألة فقهية تقريباً، وبلغ عدد أحاديثه وآثاره بالمكرر: خمساً وأربعين ومائتي حديث (245) ، وستكون مسائله على النحو التالي.
خطة البحث:
تشتمل الخطة على ستة أبواب، مقسمة إلى فصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي:
الباب الأول: في موجبات الغسل.
الفصل الأول: خروج المني.
المبحث الأول: خروجه في اليقظة.
فرع: هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج.
المبحث الثاني: خروج المني حال النوم.
فرع: إذا التذ في نومه، ثم خرج منه المني في اليقظة من غير لذة.
المبحث الثالث: في تكرار خروج المني.
الفرع الأول: في الرجل يذكر احتلاماً ولم ير بللا.(11/3)
الفرع الثاني: إذا رأى منياً في ثوب ينام فيه هو وغيره.
الفرع الثالث: في الرجل يجامع دون الفرج، ثم يدب ماؤه، فيدخل في الفرج، ثم يخرج.
الفصل الثاني: من موجبات الغسل التقاء الختانين، ولو لم يحصل إنزال.
المبحث الأول: في الإيلاج في فرج امراة ميتة، أو إيلاج فرج رجل ميت في قبل امرأة.
المبحث الثاني: في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها.
المبحث الثالث: إذا كان المجامِع أو المجامَع صغيراً فهل يجب عليه الغسل.
فرع: إذا دخل ذكر النائم والمجنون ونحوهما في فرج المرأة أو العكس.
المبحث الرابع: إذا أولج رجل ذكره في فرج البهيمة.
المبحث الخامس: يشترط لوجوب الغسل بالإيلاج دخول كامل الحشفة.
فرع: إذا قطعت الحشفة.
المبحث السادس: في الإيلاج في الدبر.
فرع: في إدخال الأصبع ونحوها في الفرج.
المبحث السابع: إذا أولج ذكره في قبل أو دبر مع وجود حائل.
الفرع الأول: إذا أولج في قبل أو دبر خنثى مشكل.
الفرع الثاني: لو غيب الرجل ذكره في دبر نفسه.
الفصل الثالث: في الشك في التقاء الختانين أو الشك في إنزال المني.
الفصل الرابع: من موجبات الغسل إسلام الكافر.(11/4)
الفصل الخامس: من موجبات الغسل موت الرجل أو تغسيله.
المبحث الأول: في وجوب غسل الميت.
المبحث الثاني: في الغسل من تغسيل الميت.
الفصل السادس: في غسل الجمعة.
المبحث الأول: خلاف أهل العلم في وجوب غسل الجمعة.
المبحث الثاني: غسل الجمعة لليوم أو للصلاة.
الفصل السابع: من موجبات الغسل حيض المرأة.
مبحث: خلاف العلماء في الموجب للغسل.
الفصل الثامن: من موجبات الغسل النفاس.
الباب الثاني: في الأغسال المستحبة.
الفصل الأول: الغسل للإحرام.
الفصل الثاني: الغسل لدخول مكة.
الفصل الثالث: الغسل من زوال العقل.
الفصل الرابع: الغسل للعيدين.
المبحث الأول: في وقت الغسل للعيد.
المبحث الثاني: هل اغتسال العيد لليوم أو للصلاة.
الفصل الخامس: الغسل يوم عرفة.
الفصل السادس: في الاغتسال للوقوف بمزدلفة.(11/5)
الفصل السابع: في الاغتسال لرمي الجمار.
الفصل الثامن: الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء.
الفصل التاسع: الغسل من الحجامة.
الباب الثالث: أحكام الجنب.
الفصل الأول: تحريم فعل الصلاة.
الفصل الثاني: في طواف الجنب.
الفصل الثالث: في مكث الجنب في المسجد.
الفصل الرابع: في قراءة الجنب للقرآن.
الفصل الخامس: في مس الجنب للمصحف.
الفصل السادس: في صيام الجنب.
مبحث: في الحائض والنفساء تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح.
الفصل السابع: في أذان وإقامة الجنب للصلاة.
المبحث الأول: في أذان الجنب.
المبحث الثاني: في إقامة الجنب للصلاة.
الفصل الثامن: في نوم الجنب.
الفصل التاسع: في أكل الجنب وشربه.
الفصل العاشر: في استحباب الوضوء لمعاودة الوطء.(11/6)
الفصل الحادي عشر: في طهارة جسد الجنب وعرقه.
الفصل الثاني عشر: في انغماس الجنب في الماء الدائم.
المبحث الأول: في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم.
المبحث الثاني: أثر انغماس الجنب على الماء القليل.
الفصل الثالث عشر: في ذبيحة الجنب.
الباب الرابع: في آداب الغسل.
الفصل الأول: عدم الإسراف في الماء مع إحكام الغسل.
الفصل الثاني: من آداب الغسل: أن يستتر عن أعين الناس.
المبحث الأول: في حكم ستر العورة.
الفرع الأول: ستر العورة عن النظر إليها من الأجانب.
الفرع الثاني: في كشف العورة بالخلوة من غير حاجة.
الفرع الثالث: في كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خالياً.
المبحث الثاني: في ساتر سائر البدن حال الغسل.
المبحث الثالث: في دخول الحمام من أجل الاغتسال.
المبحث الرابع: إذا دخل الحمام بنية الاغتسال، ثم شك هل اغتسل؟
الفصل الثالث: في اغتسال الرجل وزوجه من إناء واحد، وهما جنبان.
الفصل الرابع: حكم التسمية في الغسل.
الفصل الخامس: من آداب الغسل البداء بغسل فرجه وما أصابه من آذى قبل الاغتسال.(11/7)
الفصل السادس: من آداب الغسل: غسل اليدين قبل الوضوء وقبل غسل الفرج.
المبحث الأول: في محل غسل اليدين من غسل الجنابة.
المبحث الثاني: هل يغسل يديه كليهما، أو اليمنى فقط لأنها آلة الغرف.
المبحث الثالث: الموجب لغسل اليدين في غسل الجنابة.
المبحث الرابع: في عدد غسل الكفين في ابتداء الغسل.
الفصل السابع: من سنن الغسل الوضوء قبله.
المبحث الأول: في حكم الوضوء في غسل الجنابة.
المبحث الثاني: موضع الوضوء في غسل الجنابة.
المبحث الثالث: إذا اغتسل بدون وضوء، فهل يرتفع حدثه الأصغر.
المبحث الرابع: في نية الوضوء في غسل الجنابة.
المبحث الخامس: في التثليث في وضوء الغسل.
الفصل الثامن: في استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل.
الفصل التاسع: في السنن الواردة في غسل الرأس.
المبحث الأول: ما السنة في وضوء الغسل غسل الرأس أو مسحه.
المبحث الثاني: في تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس.
المبحث الثالث: في استحباب التثليث في غسل الرأس.
المبحث الرابع: هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس.
المبحث الخامس: هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة.
المبحث السادس: في حكم المسترسل، هل يجب غسل ظاهره وباطنه.(11/8)
الفصل العاشر: في استحباب التيامن في الاغتسال.
الفصل الحادي عشر: في حكم تأخير غسل الرجلين.
الفصل الثاني عشر: في الموالاة في غسل الجنابة.
الفصل الثالث عشر: في تدليك البدن في الغسل.
الباب الخامس: في فروض الغسل.
الفرض الأول: الماء الطهور مع القدرة عليه.
الفرض الثاني: النية.
الفرض الثالث: تعميم جميع البدن بالغسل.
الباب السادس: في ذكر صفة الغسل الكامل والمجزئ.(11/9)
[صفحة فارغة](11/10)
الباب الأول
في موجبات الغسل
الفصل الأول
خروج المني
المبحث الأول
خروجه في اليقظة
إذا خرج المني دفقاً بلذة فإنه يوجب الغسل بلا خلاف بين الفقهاء،
قال الكاساني: الجنابة تثبت بأمور بعضها مجمع عليها، وبعضها مختلف فيه، أما المجمع عليها فنوعان: أحدهما: خروج المني عن شهوة دفقاً من غير إيلاج، بأي سبب حصل الخروج كاللمس والنظر والاحتلام حتى يجب الغسل بالإجماع (1) .اهـ
وقال ابن جزي: فإن خرج بلذة معتادة من الجماع فما دونه وجب الغسل إجماعاً. (2)
وقال النووي: وقد أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني (3) . اهـ.
_________
(1) بدائع الصنائع (1/160) .
(2) القوانين الفقهية (ص: 30-31) .
(3) المجموع (2/158) .(11/11)
وقال ابن قدامة: خروج المني الدافق بشهوة, يوجب الغسل من الرجل والمرأة في يقظة أو في نوم. وهو قول عامة الفقهاء. قاله الترمذي، ولا نعلم فيه خلافاً (1) . اهـ.
واختلفوا في خروج المني بدون لذة كما لو خرج لعلة من مرض أو برد ونحوهما؟ .
فقيل: لا يوجب الغسل إلا إذا خرج دفقاً بلذة، وهو مذهب الجمهور (2) .
وقيل: يوجب الغسل على أي صفة خرج، سواء كان بدفق أم بغيره، وسواء كان بلذة أم بغير لذة، وهو مذهب الشافعي (3) .
_________
(1) المغني (1/128) .
(2) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/67) ، بدائع الصنائع (1/36) ، حاشية ابن عابدين (1/160) ،
والمالكية يشترطون اللذة فقط، والظاهر أنه يلزم من وجود اللذة أن يكون خروجه دفقاً، انظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/127-128) ، الشرح الصغير (1/161) ، الخرشي (1/161) ، مواهب الجليل (1/305) .
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/128) ، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/232) ، مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/112) ، المبدع (1/177) ، شرح الزركشي (1/285) .
(3) قال النووي في المجموع (2/158) : ولا فرق عندنا بين خروجه بجماع أو احتلام, أو استمناء أو نظر أو بغير سبب, سواء خرج بشهوة أو غيرها، وسواء تلذذ بخروجه أم لا, وسواء خرج كثيراً أو يسيراً، ولو بعض قطرة, وسواء خرج في النوم أو اليقظة، من الرجل والمرأة: العاقل والمجنون , فكل ذلك يوجب الغسل عندنا، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: لا يجب إلا إذا خرج بشهوة ودفق. اهـ(11/12)
دليل الجمهور على اشتراط الدفق بلذة.
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} (1) .
وجه الاستدلال:
أن الماء الذي يجب منه الغسل إنما هو الماء الذي يكون منه الولد، وقد ذكر الله لنا صفته، بقوله: {مِن مَّاء دَافِقٍ} فإذا خرج بدون دفق فلا يعتبر هو الماء الذي يكون منه الولد، والذي يجب به الغسل.
الدليل الثاني:
(1128-1) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبيدة بن حميد التيمي أبو عبد الرحمن، حدثني ركين، عن حصين بن قبيصة،
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء، فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، قال: فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذكر له، قال: فقال: لا تفعل، إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فضخت الماء فاغتسل (2) .
_________
(1) الطارق: 5و6.
(2) المسند (1/109) .(11/13)
وفي رواية لأحمد، عن علي قال: " كنت رجلا مذاء، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إذا حذفت فاغتسل من الجنابة، وإذا لم تكن حاذفاً فلا تغتسل " (1) .
[الحديث في الصحيحين دون ذكر هذه الزيادة، والقصة واحدة، وقد تفرد بزيادة الاغتسال بفضخ الماء أو بحذف الماء بعض الرواة، والأكثر على عدم ذكر هذه الزيادة، فهي زيادة شاذة] (2) .
_________
(1) المسند (1/107) .
(2) روى زيادة " إذا فضخت الماء فاغتسل " الركين بن الربيع، رواها عنه ثلاثة:
الأول: عبيدة ابن حميد كما في مسند أحمد (1/109) ، وسنن أبي داود (206) ، والبزار (802) ،. وسنن النسائي (193) ، وفي الكبرى له (199) ، وابن خزيمة (20) ، وصحيح ابن حبان (1107) .
والثاني: زائدة بن قدامة كما في مسند الطيالسي (144) ، وأحمد (1/109، 125) ، وأبو داود (206) ، والنسائي في المجتبى (194) ، وفي الكبرى (200) ، والطحاوي (1/46) ، وابن حبان (1102) .
الثالث: شريك، كما في مسند أحمد (1/145) بزيادة ذكر غسل الأنثيين.
وخالهفم حسين بن علي، فرواه ابن أبي شيبة (1/89) عنه عن الركين، عن حصين ابن قبيصة، عن علي مرفوعاً بلفظ: إذا رأيت المذي توضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل.
وأخشى أن تكون لفظة " الودي " تحرفت عن المني، وأن العبارة " وإذا رأيت المني فضخ الماء فاغتسل " خاصة أن الودي مجمع على أنه لا يوجب الغسل، وإنما الذي يوجب الغسل هو المني، وبناء عليه، فيكون هنا متابعة أخرى لطريق عبيد بن حميد بزيادة " ذكر الغسل من المني".
كما جاءت زيادة ذكر الغسل من طريق ضعيف آخر، وإن لم يكن فيه شاهد على مسألتنا، فقد رواه أحمد (1/87) من طريق خالد الطحان.
وابن أبي شيبة (1/87) والترمذي (114) وابن ماجه (504) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/46) عن هشيم،
وأخرجه الترمذي (114) من طريق زائدة،،
وأخرجه أبو يعلى (314) من طريق أيوب بن واقد الليثي.
وأخرجه أبو يعلى أيضاً (457) والبزار (630) من طريق جرير بن عبد الحميد، كلهم رووه عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاءً، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أما المني ففيه الغسل وأما المذي ففيه الوضوء.
وإسناده ضعيف، فيه يزيد بن أبي زياد، جاء في التقريب: ضعيف، كبر، فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً. اهـ
وقد رواه أحمد (1/111) من طريق محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد به، بلفظ الجماعة بدون ذكر الغسل.
كما رواه أحمد (1/107) من طريق جواب التيمي، عن يزيد بن شريك،
عن علي، قال: كنت رجلاً مذاء، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إذا حذفت فاغتسل من الجنابة، وإذا لم تكن حاذفاً فلا تغتسل.
وجواب صدوق رمي بالإرجاء،
وقد ساق ابن عدي في الكامل (2/177) هذا الحديث من طريق رزام بن سعيد قال سألت جواب التيمي عن المذي فقال: سألت عنه أبا إبراهيم التيمي يزيد بن شريك، فألجأ الحديث الى علي، فألجأ علي الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
رآني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد شجبت، فقال: أبا علي لقد شجبت! قال: شجبت من الاغتسال بالماء وأنا رجل مذاء. قال: لا تغتسل منه إلا من الخذف، فان رأيت منه شيئا فلا تعد أن تغسل ذكرك ولا تغتسل إلا من الخذف.
وهذا المتن منكر؛ لأن الحديث متفق عليه بأن علياً قد استحيى من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته منه، وأنه أوصى غيره بأن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم المذي، وهذا اللفظ يشعر بأن الأمر كان بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين علي مباشرة بدون واسطة.
ورواه أبو يعلى (362) من طريق حصين بن صفوان،
عن علي، قال: كنت رجلاً غلاماً مذاء، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماء قد آذاني، قال: إنما الغسل من الماء الدافق. وحصين بن صفوان مجهول.
وحديث علي هي قصة واحدة لا تحتمل التعدد، وقد رواه عن علي جماعة لم يذكروا هذه الزيادة، هم أكثر عدداً وأقوى حفظاً، ورواية بعضهم في الصحيحين وبعضهم في أحدها، وبعضهم خارج الصحيح بإسناد صحيح منهم:
الأول: محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
كما في صحيح البخاري (132،178) ، ومسلم (303) ، وعبد الرزاق (604) ، ابن أبي شيبة (1/87) رقم 968، وأحمد (1/82) ، والنسائي في الكبرى (149) ، والطحاوي (1/46) .
الثاني: ابن عباس، عن علي.
وهو في صحيح مسلم (303) ، وأخرجه أحمد (1/104) ، والنسائي (438،436) ، وابن خزيمة (22،23) ، والطحاوي (1/46) .
الثالث: أبو عبد الرحمن السلمي، عن علي.
وهو في صحيح البخاري (296) ، ومسند الطيالسي (144) ، وأحمد (1/129) ، والنسائي (1/152) ، وابن الجارود في المنتقى (6) ، وابن خزيمة (18) .
الرابع: هانئ بن هانئ، عن علي.
كما في مسند أحمد (1/108) ، والطحاوي (1/46) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي.
الخامس: عائش بن أنس، عن علي.
كما في مسند أحمد (6/5) ، و (4/320،321) ، والحميدي (39) ، والنسائي (154) ، والطحاوي (1/47) وغيرهم.
السادس: سليمان بن يسار، عن المقداد.
كما في الموطأ (1/40) ، وعبد الرزاق (600) ، وأحمد (6/5) ، وابن ماجه (505) ، وابن الجارود (5) ، والبيهقي في السنن (1/115) ، وابن خزيمة (21) ، وابن حبان (1101) ، كلهم رووه من طريق سالم أبي النضر، عن سليمان بن يسار، عن المقداد بن الأسود، أن علي ابن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل إذا دنا من أهله، فخرج منه المذي، فذكر نحو ما تقدم، وفيه: إذا وجد ذلك أحدكم، فلينضح فرجه بالماء، وليتوضأ وضوءه للصلاة.
هذا لفظ مالك في الموطأ، قال ابن عبد البر: هذا إسناد ليس بمتصل؛ لأن سليمان بن يسار لم يسمع من المقداد، ولا من علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. اهـ
قلت: قد رواه بكير بن عبد الله الأشج، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن علي، كما في صحيح مسلم (19-303) ، وهذا سند متصل، وقد خرجت هذه الرواية في ما سبق.
السابع: الحارث بن شبيل كما في مصنف ابن أبي شيبة (987) .
فهؤلاء سبعة من الرواة رووه عن علي، بعضها في الصحيحين وبعضها في أحدهما، وليس في روايتهم ذكر زيادة: " وإذا فضحت الماء فاغتسل".
انظر لمراجعة بعض طرق هذا الحديث: أطراف المسند (4/400) ، إتحاف المهرة
(14196) ، تحفة الأشراف (10079) .(11/14)
قال ابن الأثير: قوله: وإذا رأيت فضخ الماء فاغتسل " أي دفقه، يريد المني (1) .
دليل الشافعية على وجوب الغسل بخروج المني كيفما كان.
الدليل الأول:
(1129-2) ما رواه مسلم، قال: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب حدثه، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه،
_________
(1) النهاية لابن الأثير (ص: 709) وقد طبع الكتاب في مجلد واحد، من دار ابن الجوزي.(11/17)
عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنما الماء من الماء (1) .
[الحديث له قصة، وهو في من جامع زوجته، ولم ينزل، وقد نسخ هذا الحكم كما سيأتي إن شاء الله تعالى] (2) .
الدليل الثاني:
القياس على إيلاج الحشفة، فكما أن إيلاج الحشفة يجب به الغسل، سواء كان هذا بلذة أم بغير لذة، فكذلك نزول المني موجب للغسل، سواء كان ذلك بلذة أم بغيرها.
الدليل الثالث:
القياس على خروج المني حال النوم، فكما أنه يجب عليه الغسل إذا استيقظ ورأى ماء، ولو كان خروجه بدون لذة، فكذلك رؤيته حال اليقظة لا تشترط فيها اللذة.
الراجح من الخلاف.
الغسل بخروج المني إنما يجب بخروجه المعتاد المعروف، وهو خروجه بلذة وفي حالة الدفق، لأن خروجه على خلاف هذا لا يختلف المني فيه عن
_________
(1) صحيح مسلم (343) .
(2) فقد رواه مسلم (343) من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري،
عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم، وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان، فصرخ به، فخرج يجر إزاره فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعجلنا الرجل. فقال عتبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن، ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الماء من الماء.(11/18)
المذي، ثم إن الأصل عدم وجوب الغسل حتى نتيقن أو يغلب على ظننا وجوبه، فالأمر المتيقن هو خروجه في حالة اللذة، وذلك لأنه مجمع عليه، وما عداه فإن الأصل بقاء الطهارة، ولا ننتقل عنها إلا بيقين أو غلبة ظن راجح، والله أعلم.(11/19)
[صفحة فارغة](11/20)
فرع
هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج
اختلف الفقهاء في هذه المسألة،
فقيل: لا يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، فإذا انتقل المني من مكانه على وجه اللذة، ثم خرج بعد ذلك من غير لذة وجب عليه الغسل، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد (1) ، والمشهور من مذهب المالكية (2) .
وقيل: يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، وهو اختيار أبي يوسف رحمه الله (3) ، وقول في مذهب المالكية (4) .
وقيل: يجب عليه الغسل إذا انتقل المني من مكانه على وجه اللذة، ولو لم يخرج، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (5) .
ولا تأتي هذه المسألة على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى؛ لأنه يوجب الغسل بخروج المني مطلقاً، سواء كان لشهوة أم لغير شهوة (6) .
_________
(1) المبسوط (1/67) ، البناية (1/271) ، شرح فتح القدير (1/61) .
(2) انظر الخرشي على متن خليل (1/162) ، الشرح الصغير (1/161) ، أسهل المدارك (1/64) .
(3) المبسوط (1/67) ، البناية (1/271) ، شرح فتح القدير (1/61)
(4) جاء في المنتقى للباجي (1/100) : وقال القاضي أبو الحسن: والظاهر من مذهب مالك أنه إذا لم تقارنه لذة حال خروجه لم يجب عليه غسل. اهـ
(5) الإنصاف (1/230) ، كشاف القناع (1/141) ،
(6) تقدم العزو إلى مذهب الشافعية في المسألة التي قبل هذه، فانظره مشكوراً.(11/21)
ويظهر الفرق بين هذه الأقوال فيمن احتلم، فأمسك ذكره حتى سكنت شهوته، ثم سال منه المني، وكذلك المجامع إذا اغتسل، ثم سال منه بقية المني، فمن قال: يشترط أن تكون اللذة مقارنة لظهوره من الجسد لم يشترط الغسل هنا، ومن قال: لا يشترط، أوجب الغسل، ومن لم يشترط خروج المني، واكتفى بانتقاله على وجه اللذة أوجب الغسل في المسألتين، والله أعلم.
دليل من قال يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج.
قال: إذا اشترطنا وجود اللذة، فإن المعتبر بوجودها في الحال الذي يجب فيه الغسل، والغسل إنما يجب بخروج المني، لا في انتقاله من مكانه، فإذا كان حال خروجه غير مصحوب بلذة لم يجب الغسل، لأنه في هذه الحالة لا فرق بين خروج المني وخروج المذي، فإن خروج المذي يخرج بعد انكسار الشهوة، ومع ذلك لا يجب فيه غسل.
دليل من اشترط أن تكون اللذة حال انتقال المني، ولو لم تكن مقارنة للخروج.
قال: الوجوب مبني على أمرين: خروج المني، ووجود اللذة، فإذا وجدت اللذة حال انتقال المني من مكانه، ثم خرج المني بعد ذلك فقد وجد موجب الغسل، وهو خروج المني بسبب الشهوة، ولا فرق بين أن تكون اللذة مقارنة أو غير مقارنة.
وصدق عليه حديث أم سلمة " هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم إذا هي رأت الماء ".(11/22)
دليل من قال: يكفي وجود الشهوة حال انتقال المني ولو لم يخرج المني.
قالوا: الغسل يجب بوجود الجنابة، وحقيقة الجنابة: هي تباعد الماء عن مكانه مع وجود الشهوة، هذا أصلها في اللغة قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (1) ، أي البعيد، فإذا انتقل الماء ولو لم يخرج فقد باعد الماء محله، فصدق عليه اسم الجنب، وبالتالي وجب الغسل لوجود الجنابة.
وهذا أضعف الأقوال؛
لأن المعتبر في الأحداث ليس انتقالها، وإنما ظهورها، فالريح والبول والغائط والمذي وسائر الأحداث لا عبرة بانتقالها من مكانها حتى تخرج من البدن، فإذا خرجت بطلت الطهارة، فكذلك المني.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق وجوب الاغتسال بالرؤية.
قال ابن قدامة: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الاغتسال على الرؤية، وفضخه، بقوله: " إذا رأت الماء " وقوله: " إذا فضخت الماء فاغتسل " فلا يثبت الحكم بدونه، وما ذكره من الاشتقاق لا يصح ; لأنه يجوز أن يسمى جنبا لمجانبته الماء , ولا يحصل إلا بخروجه منه أو لمجانبته الصلاة أو المسجد أو غيرهما مما منع منه, ولو سمي بذلك مع الخروج لم يلزمه وجود التسمية من غير خروج , فإن الاشتقاق لا يلزم منه الاطراد, ومراعاة الشهوة للحكم لا يلزم منه استقلالها به, فإن أحد وصفي العلة وشرط الحكم مراعى له, ولا يستقل بالحكم , ثم يبطل بلمس النساء , وبما إذا وجدت الشهوة هاهنا من غير انتقال; فإن الشهوة لا تستقل بالحكم في الموضعين مع مراعاتها فيه, وكلام أحمد هاهنا إنما يدل على أن الماء إذا انتقل, لزم منه الخروج. وإنما يتأخر,
_________
(1) النساء: 36.(11/23)
ولذلك يتأخر الغسل إلى حين خروجه، الخ كلامه رحمه الله تعالى (1) .
الراجح من الخلاف:
الراجح، والله أعلم أن الغسل يجب بخروج المني دفقاً بلذة، فإذا تخلف ذلك، فإن كان المانع من قبل الإنسان، بأن أمسك ذكره حتى لا يخرج المني على وجه الدفق، ثم خرج المني بعد ذلك، فإن الغسل يجب عليه، وإن كان المانع ليس من كسب الإنسان، فقد تخلف موجب الغسل، وهو خروجه دفقاً بلذة، والله أعلم.
_________
(1) المغني (1/129) .(11/24)
المبحث الثاني
خروج المني حال النوم
إذا استيقظ من النوم فرأى بللاً في ثوبه فله ثلاث حالات.
الأولى: أن يتيقن أنه مني، فهنا يجب عليه الغسل ذكر احتلاماً أو لم يذكر، ولا يشترط أن يكون خروجه دفقاً أو بلذة (1) ؛
لأن الإنسان في حالة النوم قد يخرج منه المني، وهو لا يشعر.
ودليل هذا القول:
(1130-3) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة،
عن أم سلمة أم المؤمنين أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء. ورواه مسلم (2) .
فلم يشترط لوجوب الغسل إلا رؤية الماء.
_________
(1) قال ابن نجيم في البحر الرائق (1/58) : يجب الغسل اتفاقاً فيما إذا تيقن أنه مني وتذكر الاحتلام أو لا. اهـ
وقال الإمام مالك في المدونة (1/31) : من انتبه من نومه فرأى بللاً على فخذه أو في فراشه، قال: ينظر، فإن كان مذياً توضأ، ولم يكن عليه غسل، وإن كان منياً اغتسل. اهـ
وانظر في مذهب الحنابلة: الكافي (1/55) .
(2) البخاري (282) ، ومسلم (313) .(11/25)
الحالة الثانية: إذا تيقن أنه مذي.
فقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً ذكر احتلاماً أو لم يذكر، وهو قول أبي حنيفة ومحمد (1) .
ووجهه، قالوا: إن المني يرق بإطالة المدة، فتصير صورته صورة المذي، لا حقيقة المذي.
فإن قيل: كيف توجبون الغسل في خروج المذي؟
أجاب ابن الهمام: لو تيقن أنه مذي لا يجب الغسل اتفاقاً، لكن التيقن متعذر مع النوم (2) .
ونقل ابن نجيم عن الخلاصة قوله: " ولسنا نوجب الغسل بالمذي، لكن المني يرق بإطالة المدة فتصير صورته صورة المذي، لا حقيقة المذي " (3) .
وقيل: إذا لم يذكر احتلاماً لم يجب عليه الغسل، وهو قول أبي يوسف (4) .
_________
(1) البحر الرائق (1/59) ، شرح فتح القدير (1/62) ، حاشية ابن عابدين (1/163) ، وهم يخصون هذا في النائم فقط، أما لو كان مغمى عليه أو كان سكران فأفاق، فوجد مذياً فلا غسل عليه.
ووجه الفرق: أن النوم مظنة الاحتلام، بخلاف المغمى عليه والسكران. كما أن بعض كتب الحنفية تذكر خلافاً في مسألة: ما إذا وجد مذياً ولم يتذكر الاحتلام، فعند أبي حنيفة ومحمد يجب عليه الغسل، وعند أبي يوسف لا يجب عليه الغسل، وبعضهم لا يذكر هذا الخلاف، ولعلهم لا يذكرونه اقتصاراً، والله أعلم.
(2) شرح فتح القدير (1/62) .
(3) البحر الرائق (1/59) .
(4) شرح فتح القدير (1/62) .(11/26)
وقيل: لا يجب عليه الغسل مطلقاً ذكر احتلاماً أو لم يذكر، وهو مذهب الجمهور (1) .
ودليله ظاهر، وذلك أن المذي لا يوجب الغسل، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غسل ذكره، والوضوء منه، فقط كما في قصة علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وقد تقدم ذكره وتخريجه.
الحالة الثالثة: أن يشك هل هو مني أو مذي؟
فقيل: إذا شك هل هو مني أو مذي، وذكر احتلاماً فإنه يجب عليه الغسل قولاً واحداً في مذهب الحنفية (2) .
وإذا شك، ولم يذكر احتلاماً، فإنه يجب عليه الغسل عند أبي حنيفة ومحمد، ولا يجب عند أبي يوسف (3) .
وقيل: يجيب عليه الغسل مطلقاً مع الشك، وهو مذهب المالكية (4) .
_________
(1) سبق لنا قول الإمام مالك في المدونة (1/31) : من انتبه من نومه فرأى بللاً على فخذه أو في فراشه، قال: ينظر، فإن كان مذياً توضأ، ولم يكن عليه غسل، وإن كان منياً اغتسل. اهـ
وانظر في مذهب الحنابلة: الكافي (1/55) .
(2) شرح فتح القدير (1/62) ، البحر الرائق (1/59) .
(3) انظر المرجعين السابقين.
(4) قال في الشرح الصغير (1/162) : " من انتبه من نومه، فوجد بللاً في ثوبه أو بدنه، فشك هل هو مني أو مذي، وجب عليه الغسل؛ لأن الشك مؤثر في إيجاب الطهارة، بخلاف الوهم، فمن ظن أنه مذي، وتوهم في المني فلا يجب عليه الغسل، فلذا لو شك بين ثلاثة أمور: كمني ومذي وودي لم يجب الغسل؛ لأن تعلق التردد بين ثلاثة أشياء، يصير كل فرد من أفرادها وهماً. اهـ(11/27)
وقيل: لا يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (1) .
وقيل: إذا رأى بللاً وجهل كونه منياً، فإن لم يتقدم نومه سبب من نظر أو فكر أو ملاعبة أو انتشار وجب عليه الغسل، وإن تقدم نومه سبب مما سبق لم يجب عليه الغسل، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (2) .
والراجح:
أنه لا يجب عليه الغسل مع الشك حتى يتيقن موجب الغسل، أو يغلب على ظنه؛ لأن القاعدة: أن الشك لا يقضي على اليقين.
_________
(1) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/241) ، المجموع (2/162) .
(2) كشاف القناع (1/139) ، الإنصاف (1/228-229) .(11/28)
فرع
إذا التذ في نومه ثم خرج منه المني في اليقظة من غير لذة
اختلف الفقهاء في هذه المسألة، هل يجب عليه الغسل؟
فقيل: يجب، وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن (1) ، وأشهر القولين في مذهب المالكية (2) ، ومذهب الشافعية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: لا يجب، وهو قول أبي يوسف، وقول في مذهب المالكية (5) .
وأدلة هذه المسألة هي الأدلة نفسها والتي ذكرناها في مسألة سابقة: وهي هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، أو يكفي أن يجد اللذة حال انتقال المني، فإذا خرج بعد ذلك المني ولو بدون شهوة فقد وجب الغسل؟ وما دمنا قد ذكرنا الأدلة في تلك المسألة فلا حاجة إلى إعادتها هنا، والله أعلم.
_________
(1) سبق لنا أن مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن لا يشترطان أن تكون اللذة مقارنة لخروج المني، فيكفي أن يجد اللذة حال انتقال المني، بخلاف أبي يوسف فإنه يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، وقد سبق العزو إلى مذهبهم في المسألة السابقة، وهذه المسألة ترجع إلى تلك المسألة، فمن اشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، لم ير وجوب الغسل، ومن لم يشترط قال بوجوبه، والله أعلم.
(2) مواهب الجليل (1/307) ، وقال في الشرح الصغير (1/161) : " ويلفق حالة النوم لحالة اليقظة، فإذا التذ في نومه، ثم خرج منه المني في اليقظة بعد انتباهه من غير لذة اغتسل. اهـ
(3) يرى الشافعية أن وجوب الغسل متعلق بخروج المني، كيفما خرج، ولا يشترطون اللذة أصلاً لوجوب الغسل، انظر المجموع (2/158) .
(4) يرى الحنابلة وجوب الغسل بمجرد انتقال المني، ولو لم يخرج، فإذا انتقل المني من مكانه بشهوة، فقد وجب الغسل، خرج المني أو لم يخرج، انظر: الإنصاف (1/230) ، كشاف القناع (1/141) .
(5) مواهب الجليل (1/307) .(11/29)
[صفحة فارغة](11/30)
المبحث الثالث
في تكرار خروج المني
إذا اغتسل ثم خرج المني منه مرة ثانية، فهل يعيد الاغتسال؟
فقيل: لا يجب الغسل، وهو مذهب المالكية (1) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يجب الغسل، وهو مذهب الشافعية (3) ، وقول في مذهب أحمد (4) .
وقيل: يجب إذا خرج قبل البول أو النوم أو المشي الكثير، فإن خرج بعد البول أو النوم أو المشي الكثير لم يجب، وهو مذهب الحنفية (5) .
وقيل: عكسه، أي يجب الغسل إن خرج بعد البول، فإن خرج قبل البول لم يجب به غسل، وهو مذهب الأوزاعي (6) .
دليل القائلين بعدم وجوب الغسل.
ذكروا لحجتهم أكثر من تعليلك
_________
(1) الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/155) ، الشرح الصغير (1/162) ،
(2) جاء في الإنصاف (1/231) : " قال الخلال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله أنه ليس عليه إلا الوضوء، بال أو لم يبل، على هذا استقر قوله. قال المصنف والشارح وابن عبيدان: هذا المشهور عن أحمد ". وانظر كشاف القناع (1/141) ، المقنع في شرح مختصر الخرقي (1/233) ، الفروع (1/197) ، المبدع (1/179) .
(3) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/239) ، الحاوي (1/216) المجموع (2/158) .
(4) الهداية (1/18) ، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/233) .
(5) حاشية ابن عابدين (1/160) ، تبيين الحقائق (1/16) ، وهذا القول هو رواية عن أحمد إلا أنه اقتصر على ذكر البول دون النوم والمشي، انظر الإنصاف (1/231) .
(6) الحاوي الكبير (1/216) .(11/31)
منها: أن هذا مني واحد، يوجب غسلاً واحداً، كما لو خرج دفعة واحدة
ومنها: أنه خارج لغير شهوة، وإنما يجب الغسل بخروج المني لشهوة، وبه علل أحمد: قال: لأن الشهوة ماضية، وإنما هو حدث أرجو أن يجزيه الوضوء (1) .
دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقاً.
الدليل الأول:
عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الماء من الماء " فلم يفرق بين ماء وآخر.
وأجيب:
بأن مطلق قوله - صلى الله عليه وسلم - الماء من الماء غير مراد، بدليل أن الرجل لو أولج ذكره في قبل امرأة حتى التقى الختانان وجب عليهما الغسل، وإن لم يكن هناك ماء منهما، فالمراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: الماء من الماء، هو جواب على سؤال، وهو إذا احتلمت المرأة في المنام، فهل يجب عليها الغسل بمجرد الاحتلام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: الماء من الماء. وكذلك قاله - صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام لمن جامع امرأته، ثم نزع قبل أن ينزل، وقد نسخ هذا الأمر بعد، وصار الغسل واجباً بالتقاء الختانين، كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة، والله أعلم.
الدليل الثاني:
ولأن هذا ماء آدمي خرج من محله، فأوجب الغسل، كما لو خرج ابتداء.
ولأن ما أوجب الغسل في الأول أوجبه في الثانية بلا فرق.
_________
(1) كشاف القناع (1/142) .(11/32)
وقد أجيب: بأن الغسل إنما يجب بخروجه دفقاً بلذة، كما سبق التدليل على ذلك، وهذا ما لم يوجد مع الماء الثاني.
دليل من قال: يجب عليه الغسل إن خرج قبل البول.
قالوا: إن خرج بعد البول، فإن هذا ماء جديد لا علاقة له بالماء الأول، وقد خرج بدون شهوة، فلا يجب به غسل، وإن خرج قبل البول فهو جزء من الماء السابق، وقد خرج مع الشهوة فيوجب غسلاً جديداً.
دليل من قال: يجب عليه الغسل إن خرج بعد البول.
عكسوا التعليل السابق، فقالوا: إن ما قبل البول هو من المني الأول، وكفاه الغسل الأول، وما بعد البول هو مني ثان، فلزمه غسل ثان.
الراجح من الخلاف:
القول بعدم وجوب الغسل مرة أخرى، لأنه موجب واحد، لم يتعدد، وقد اغتسل له، فلا يوجب غسلين، ولأنه بقية الماء السابق، وقد خرج بدون شهوة، فيكتفى في الغسل الأول، والله أعلم.(11/33)
[صفحة فارغة](11/34)
الفرع الأول
في الرجل يذكر احتلاماً ولم ير بللاً
اختلف العلماء فيمن رأى احتلاماً ولم ير بللاً،
فقيل: لا يجب عليه الغسل، وهو قول عامة أهل العلم (1) .
قال الترمذي: إذا رأى احتلاماً ولم يرى بلة، فلا غسل عليه عند عامة أهل العلم (2) .
وقيل: يجب عليه الغسل، وهو رواية عن أحمد (3) .
وقيل: يجب على المرأة دون الرجل، وهو قول في مذهب الحنفية (4) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (1/62) ،
وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (1/106) ،
وفي مذهب الشافعية: البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/241) ، الأوسط (2/83) ،
وفي مذهب الحنابلة انظر المغني لابن قدامة (1/130) ،
(2) سنن الترمذي عقب حديث (113) .
(3) قال ابن رجب في شرحه للبخاري (1/283) : " حكى ابن أبي موسى من أصحابنا رواية عن أحمد أنه إذا رأى في منامه احتلاماً ووجد لذة الإنزال في منامه، ولم يجد بللاً عند استيقاضه أنه يلزمه الغسل، وبناه على قول الإمام أحمد المشهور عنه أن المني إذا انتقل من محله، ولم يخرج، فإنه يجب الغسل بانتقاله.... الخ كلامه رحمه الله.
وقال في الإنصاف (1/229) : إذا احتلم ولم يجد بللاً: لم يجب الغسل على الصحيح من المذهب. وعليه الأصحاب، وحكاه ابن المنذر وغيره إجماعاً. وعنه يجب.
قال الزركشي: وأغرب ابن أبي موسى في حكايته رواية الوجوب. وعنه يجب إن وجد لذة الإنزال، وإلا فلا. اهـ
(4) التفريق بين الرجل والمرأة أن الرجل يقذف الماء قذفاً دون المرأة، وبناء عليه فرق هذا القول بين الرجل والمرأة: انظر شرح فتح القدير (1/62) .(11/35)
دليل القائلين بعدم وجوب الغسل.
الدليل الأول:
الإجماع، قال ابن المنذر: " أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا رأى في نومه أنه احتلم أو جامع، ولم يجد بللاً، أنه لا غسل عليه (1) .
وقال ابن الهمام: ولو تذكر الاحتلام والشهوة، ولم ير بللاً لا يجب اتفاقاً (2) .
وسبق أن نقلت لك خلافاً في المسألة في معرض ذكر الأقوال، فتكون حكاية الإجماع فيها نظر، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(1131-4) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة،
عن أم سلمة أم المؤمنين، أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء، ورواه مسلم (3) .
وجه الاستدلال:
لم يوجب عليه الصلاة والسلام الغسل بمجرد الاحتلام، وإنما شرط رؤية الماء.
_________
(1) الأوسط (2/83) .
(2) شرح فتح القدير (1/62) .
(3) البخاري (282) ، ومسلم (313) .(11/36)
دليل من قال: يجب عليه الغسل.
استدلوا بما استدلوا به في مسألة سابقة، من وجوب الغسل على الرجل في انتقال المني من محله، ولو لم يخرج، وقد أجيب على دليلهم هناك، وتبين ضعف هذا الدليل، وما بني على دليل ضعيف فهو ضعيف، ويضاف إليه أنه على التسليم بوجوب الغسل بمجرد انتقال المني، فإنه هنا قد لا يتحقق انتقال المني بمجرد ذكر الاحتلام، ووجود اللذة في النوم، فقد يجد النائم كل ذلك ولا ينتقل المني من مكانه، والله أعلم.
دليل من فرق بين الرجل والمرأة.
قالوا: إن ماء المرأة لا يكون دافقاً كالرجل، وبالتالي قد يوجد منها الماء، ولا يخرج، فإذا وجدت شهوة الإنزال كان عليها الغسل (1) .
وهذا التعليل ضعيف، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سئل: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء. وسبق تخريجه قبل قليل.
فعلق الاغتسال على الرؤية، وهي لا تراه إلا إذا خرج منها، فإذا لم يخرج منها لم يجب عليها الغسل.
وقال ابن الهمام: المراد بالرؤية العلم مطلقاً، بدليل أنها لو تيقنت الإنزال بأن استيقظت في فور الاحتلام، فأحست بيدها البلل، ثم نامت فما استيقظت حتى جف، فلم تر بعينها شيئاً لا يسع القول بأن لا غسل عليها، مع أنه لا رؤية بصر، بل رؤية علم، ورأى يستعمل حقيقة في معتى علم باتفاق اللغة (2) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/63) .
(2) المرجع السابق.(11/37)
ويجاب عن هذا القول:
بأن رأى البصرية غير رأى بمعنى علم، فالأولى تتعدى إلى مفعول واحد، والثانية تتعدى إلى مفعولين، وعليه فرأى في الحديث بصرية، وليست علمية، والاعتراض الذي ساقه ابن الهمام لا يعارض الحديث، فإن الإنسان إذا حس المني بيده صار كمن رأه في عينه، وليست المسألة ظاهرية بحته، المهم أن يتحقق من خروج المني بيده كالأعمى، أو بعينه، ولكن أين الدليل على وجوب الغسل على امرأة لم يخرج منها الماء يقيناً، ولم تحسه مطلقاً لا في يدها ولا في عينها، وإنما وجدت اللذة فقط، وإذا كان ابن الهمام ينقل الإجماع على أن الرجل لا بد أن يرى الماء، ولا يكفي الإحساس باللذة، فكذلك المرأة، بل المرأة ورد فيها نص نبوي بخلاف الرجل، والله أعلم.(11/38)
الفرع الثاني
إذا رأى منياً في ثوب ينام فيه هو وغيره
اختلف الفقهاء في هذه المسألة،
فقيل: يجب الغسل عليهما، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يندب الغسل في حقهما، ولا يجب، وهو اختيار ابن العربي من المالكية (2) .
وقيل: يجب الغسل عليهما إن كانا غير زوجين، وإن كانا زوجين اغتسل الزوج فقط، وهو المشهور من مذهب المالكية (3) .
وقيل: لا غسل على واحد منهما، وهذا مذهب الشافعية (4) ،
_________
(1) قال ابن الهمام في شرح فتح القدير (1/62) : " ولو وجد الزوجان بينهما ماء، دون تذكر ولا مميز: بأن لم يظهر غلظه ورقته، ولا بياضه ولا صفرته، يجب عليهما الغسل، صححه في الظهيرية، ولم يذكروا القيد، فقالوا: يجب عليهما، وقيل: إذا كان غليظاً أبيض فعليه، أو رقيقاً أصفر فعليها، فيفيدونه بصورة نقل الخلاف، والذي يظهر تقييد الوجوب بما ذكرنا، فلا خلاف إذاً ". اهـ وانظر البحر الرائق (1/59) .
(2) الشرح الصغير (1/163) .
(3) الشرح الصغير (1/163) ،
(4) قال الماوردي في الحاوي (1/213) : لو رأى رجل المني في ثوب هو لا بسه، ولم يحس من نفسه الإنزال فيه، فلا يخلو حال ذلك الثوب من أن يلبسه غيره أم لا، فإن لبسه غيره فلا غسل عليه؛ لجواز أن يكون غيره، ولا على ذلك الغير لجواز أن لا يكون ذلك منه، وإن كان ذلك الثوب لا يلبسه غيره، أو لم يلبسه غيره منذ غسله، وقد كان يلبسه غيره قبل الغسل، نظر فيه: فإن كان المني من ظاهره، فلا غسل عليه لجواز أن يكون قد لا قى منياً على ثوب غيره فتعدى عليه، أو قد حاكه رجل أنزل فوقع منيه على ثوبه، فإن كان المني من داخل الثوب فالغسل عليه واجب؛ لعلمنا أنه منه، وامتناع كونه من غيره. اهـ(11/39)
والحنابلة (1) ، وقول في مذهب الحنفية (2) .
دليل من قال بوجوب الغسل عليهما.
الطهارة شرط في صحة الصلاة، ولا بد من تيقن تحققها، فإذا رأى المني في ثوبهما لم يتحقق كل واحد منهما من تحقيق الطهارة، وأصبحت طهارة كل واحد منهما مشكوكاً فيها؛ لاحتمال أن يكون الماء منه، ولا بد من اليقين في قيام الطهارة، ولذا وجب الغسل عليهما.
دليل من قال: لا يجب الغسل على واحد منهما.
قدم تعليلاً عكس التعليل السابق، فقال: الطهارة متيقنة، والحدث مشكوك فيه، والشك لا يقضي على اليقين، فنستصحب اليقين حتى نتيقن زواله، ولهذه القاعدة دليل صحيح صريح من السنة،
(1132-5) بما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب ح
وعن عباد بن تميم، عن عمه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً (3) .
_________
(1) قال في الإنصاف (1/229) : " لا يجب الغسل إذا رأى منياً في ثوب ينام فيه هو وغيره، وكانا من أهل الاحتلام على الصحيح من المذهب. وعنه يجب ". اهـ وانظر كتاب المغني (1/130) ، كشاف القناع (1/140) .
(2) بدائع الصنائع (1/130) ،
(3) صحيح البخاري (137) ومسلم (361) .(11/40)
دليل من قال: إن كانا زوجين وجب الغسل على الزوج.
قالوا: أوجبنا الغسل على الرجل دون المرأة؛ عملاً بالغالب، وهو أن الرجل هو الذي يخرج ماؤه غالباً إلى ثوبه مع الاحتلام دون المرأة.
وهذا التعليل عليل، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين سئل، هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فالحديث له منطوق ومفهوم: منطوقه: أن الغسل واجب على المرأة إذا رأت الماء، ومفهومه: أن الغسل غير واجب عليها إذا لم تر الماء، فكيف نقول: إن المرأة ممكن أن تحتلم، ويجب عليها الغسل، ولا يظهر منها الماء الموجب لذلك.
دليل من قال: يستحب الغسل منهما.
أن وجود المني على الثوب دليل على أن أحدهما محدث لا بعينه، فلا يجب الغسل على واحد منهما، لعدم التعيين، ولكن قد تيقن موجب الطهارة من أحدهما لا بعينه، ولهذا يذهب بعضهم إلى أنه لا يأتم أحدهما بالآخر كما لو سمعا ريحاً من أحدهما ولا يعلم من أيهما، فيستحب الاغتسال منهما حتى نتيقن حصول الطهارة منهما، وحتى نخرج من خلاف العلماء، والله أعلم.
الراجح:
أن الطهارة ليست واجبة، والاستحباب دليل شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، والأصل بقاء الطهارة، وعدم الحدث حتى نتيقن حصوله من أحدهما، والله أعلم.(11/41)
[صفحة فارغة](11/42)
الفرع الثالث
في الرجل يجامع دون الفرج ثم يدب ماؤه فيدخل في الفرج ثم يخرج
إذا جامع الزوج دون الفرج ثم دب ماءه فدخل في فرج المرأة، ثم خرج منها فهل يوجب ذلك غسلاً، اختلف العلماء في هذا،
فقيل: لا غسل عليه إلا أن يظهر عليها الحبل من هذا الماء، وهو مذهب الحنفية (1) ، واختاره بعض المالكية (2) .
وقيل: لا غسل عليها مطلقاً، اختاره بعض المالكية (3) ، وهو مذهب الشافعية (4) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (5) ، واختاره ابن حزم رحمه الله تعالى (6) .
وقيل: عليها الغسل بشرط أن يحصل منها لذة بذلك، وهو قول في مذهب المالكية (7) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/16) ، الفتاوى الهندية (1/15) .
(2) منح الجليل (1/122) ، حاشية العدوي على الخرشي (1/165) .
(3) الخرشي (1/165) ، الفواكه الدواني (1/116) ، وقال في الذخيرة (1/293) : وعدم الوجوب رواية لابن القاسم عن مالك.
(4) المجموع (2/173) ، روضة الطالبين (1/85) .
(5) الإنصاف (1/232) ، المستوعب (1/225) .
(6) المحلى (1/254) .
(7) قال القرافي في الذخيرة (1/293) : " إذا جامع دون الفرج، فأنزل، ووصل ماؤه إلى فرجها، فإن أنزلت يجب الغسل، وإن لم تنزل، ولم تلتذ لم يجب، وإن التذت، ولم يظهر منها إنزال فقولان: الوجوب؛ لأن التذاذها قد يحصل به الإنزال، وهو الغالب، وهو مقتضى قول مالك رحمة الله عليه في الكتاب لقوله: لا يجب عليها إلا أن تكون قد التذت، وعدم الوجوب رواية لابن القاسم عن مالك". اهـ(11/43)
وقيل: عليها الغسل بشرط أن يخرج من الفرج بعد دخوله، وهو قول في مذهب الحنفية (1) ، وهو وجه في مذهبي الشافعية (2) ، والحنابلة، اختاره ابن عقيل (3) ، وهو مروي عن عطاء والزهري وقتادة (4) .
تعليل الحنفية:
أن الحبل منها دليل على أنها قد حصل منها إنزال؛ لأن الولد يخلق من مائهما.
ويجاب عن هذا:
بأن هذا الاعتقاد بأن الجنين يخلق من ماء المرأة والرجل رأيته في بعض كتب فقه الحنفية والمالكية، والطب قد حسم هذه المسألة، وثبت له أن الولد إنما يخلق من ماء الرجل وبويضة المرأة، وليس لماء المرأة أي دور في تخلق الجنين بإذن الله تعالى، فإذا صادف جماع الرجل نزول البويضة حبلت، سواء أنزلت أم لم تنزل، وإذا لم يصادف ذلك نزول البويضة لم تحبل، ولو أنزلت، وهذا الأمر أصبح من الحقائق الطبية.
دليل من قال: لا غسل عليها:
بأن الغسل إنما يجب بخروج مائها، أو بإيلاج الذكر، ولم يحصل منها
_________
(1) تبين الحقائق (1/16) .
(2) قال النووي في المجموع (2/ 172) : " حكى القفال والمتولي والبغوي وغيرهم من الخرسانيين وجهاً شاذاً أنه يلزمها الغسل، وهو قول الشيخ أبي زيد المروزي ". ثم قال النووي: وهو غلط، وإن كثر قائلوه أو ناقلوه. الخ كلامه رحمه الله تعالى.
(3) الإنصاف (1/232) ،
(4) المحلى (1/254) ، المجموع (2/172) .(11/44)
إنزال ولم يحدث إيلاج، فلم يجب الغسل، وخروج هذا الماء الأجنبي منها شأنه شأن خروج ماء الاستنجاء ونحوه، وآخر ما يمكن أن يلحق به هو البول، لا غير، والله أعلم.
دليل من قال: يجب عليها الغسل.
لعله نظر إلى أن موجب الحدث هو خروج المني من فرج المرأة، والمقصود مطلق المني، سواء كان منها أو من غيرها.
وهذا التعليل ضعيف جداً؛ لأن مرور الماء من المخرج ليس هو الموجب، للغسل، ولذلك لم يوجب الغسل خروج دم الاستحاضة، مع أنه دم خارج من المرأة نفسها، وإنما الموجب خروج الماء على صفة مخصوصة توجب فتور البدن وانكسار الشهوة، فلو خرج ماؤها على غير هذه الصفة لم يوجب الغسل كما بينا حتى يكون خروجه على وجه اللذة، فكيف بخروج ماء غيرها، والله أعلم.
دليل من اشترط اللذة.
قال: إن اللذة قد يحصل منها إنزال في الغالب، وهي لا تدري، فأقيمت اللذة مقام تحقق نزول المني، لكون اللذة هي سبب الإنزال.
وهذا القول ضعيف أيضاً، ولا يوجد دليل من السنة أن اللذة من موجبات الغسل، وقد تحصل اللذة ولا يحصل الإنزال، وقد علق الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل برؤية الماء، فقال لأم سليم حين سألته هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت، فقال: نعم، إذا رأت الماء، والله أعلم.(11/45)
[صفحة فارغة](11/46)
الفصل الثاني
من موجبات الغسل التقاء الختانين ولو لم يحصل إنزال
إذا التقى الختانان، فهل يوجب هذا الغسل؟ اختلف العلماء في ذلك،
فقيل: يوجب الغسل، وهو مذهب الأئمة (1) .
قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، والفقهاء من التابعين ومن بعدهم: مثل سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، قالوا: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل (2) . اهـ
وقيل: لا يوجب الغسل، اختاره جمع من الصحابة والتابعين (3) ، وهو مذهب داود الظاهري (4) ، وقال البخاري: الغسل أحوط، فلعله لا يرى الوجوب (5) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/36) ، تبيين الحقائق (1/16) ، شرح فتح القدير (1/63) ، البحر الرائق (1/61) .
وفي مذهب المالكية، انظر: المدونة (1/135) ، المنتقى للباجي (1/96) ، موهب الجليل (1/308) ، الخرشي (1/163) .
وفي مذهب الشافعية، انظر: المجموع (2/148) ، نهاية المحتاج (1/212) ،
وفي مذهب الحنابلة انظر: المغني (1/131) ، الإنصاف (1/232) ، كشاف القناع (1/142) .
(2) سنن الترمذي (1/182) .
(3) سوف يأتي إن شاء الله تعالى الآثار عنهم مسندة في ثنايا بحث هذه المسألة.
(4) المنتقى للباجي (1/96) ، المغني (1/131) .
(5) صحيح البخاري (1/111) ، وهذه العبارة تارة تساق لترجيح قول على قول، وتارة تكون ظاهرة في عدم الوجوب، وإنما الغسل من باب الاحتياط، وقد تكون إشارة إلى أن الخلاف في المسألة قوي جداً، وإن كان البخاري رحمه الله قد يرى الوجوب.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/398) : استشكل بن العربي كلام البخاري، فقال: إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم، وما خالف فيه إلا داود، ولا عبرة بخلافه، وإنما الأمر الصعب مخالفة البخاري، وحكمه بأن الغسل مستحب، وهو أحد أئمة الدين وأجلة علماء المسلمين، ثم أخذ يتكلم في تضعيف حديث الباب بما لا يقبل منه، وقد أشرنا إلى بعضه ثم قال: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بقوله: الغسل أحوط أي في الدين، وهو باب مشهور في الأصول، قال: وهو أشبه بإمامة الرجل وعلمه. قال الحافظ: وهذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل، وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث من غير هذه المسألة. الخ كلامه رحمه الله تعالى.
وقول ابن العربي: إيحاب الغسل أطبق عليه الصحابة فمن بعدهم كلام فيه نظر كبير، وقد رده الحافظ ابن حجر، وسوف ننقل كلامه بحروفه في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى.(11/47)
وسبب الخلاف في ذلك: ما جاء من النصوص الصحيحة الصريحة في عدم إيجاب الغسل من مجرد الإيلاج حتى يحصل إنزال، وقد قيل: إن هذا الحكم كان في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم بالأمر بالغسل بالتقاء الختانين، ولو لم يكن إنزال، فمن بلغه النسخ أخذ به، ومن لم يبلغه النسخ، لم يوجب الغسل حتى يحصل الإنزال، وإليك أدلة كل قول.
دليل من قال: لا يجب الغسل بالتقاء الختانين حتى ينْزل.
الدليل الأول:
(1133-6) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة، أن عطاء بن يسار أخبره، أن زيد بن خالد الجهني أخبره،
أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال: عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب،(11/48)
والزبير ابن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك. قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة، أن عروة بن الزبير أخبره، أن أبا أيوب أخبره، أنه سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم أيضاً (1) .
فهذان حديثان مسندان، عن عثمان وأبي أيوب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صريحان في عدم إيجاب الغسل على من جامع، ولم ينزل.
وأجيب عن هذا بجوابين:
الأول: انفراد يحيى بن أبي كثير بهذا الحديث.
قال ابن عبد البر: هو حديث انفرد به يحيى بن أبي كثير، وقد جاء عن عثمان وعلي وأبي بن كعب ما يدفعه من نقل الثقات الأثبات ويعارضه، وقد دفعه جماعة منهم: أحمد بن حنبل وغيره، وقال علي وأبي بخلافه
قال يعقوب بن شيبة: سمعت علي بن المديني وذكر حديث يحيى بن أبي كثير هذا، فقال: إسناده جيد، ولكنه حديث شاذ، قال: وقد روي عن عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، أنهم أفتوا بخلافه
ثم قال: وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل حديث حسين المعلم، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال: سألت خمسة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وأبي بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة تدفعه بها؟ قال: نعم؛ بما يروى عنهم من خلافه، قلت: عن عثمان، وعلي، وأبي بن كعب؟ قال: نعم.
_________
(1) البخاري (292) ، ومسلم (347) .(11/49)
والحق أن الأحاديث في هذا الباب كثيرة، قال الحافظ ابن حجر: وفي الباب عدة أحاديث في عدم الإيجاب (1) .
قلت: منها ما رواه البخاري ومسلم من طريق عروة، عن أبي أيوب، عن أبي بن كعب مرفوعاً.
ومنها ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي صالح السمان، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
وكل هذه الأحاديث في الصحيحين، وسوف نأتي إن شاء الله تعالى على ذكر هذه المتون، ولو لم يرد في هذا الباب إلا حديث يحيى ابن أبي كثير لقيل ربما يكون معلولاً بالتفرد، وربما يحمل كلام الإمام أحمد على الترجيح بينها، وليس مراده الحكم بوهم الراوي فيما روى.
قال الحافظ ابن حجر: وقد حكى الأثرم، عن أحمد أن حديث زيد بن خالد المذكور في هذا الباب معلول؛ لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث، وقد حكى يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني أنه شاذ، والجواب عن ذلك أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده، وحفظ رواته، وقد روى ابن عيينة أيضا، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة، عن عطاء، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، فليس هو فرداً، وأما كونهم أفتوا بخلافه فلا يقدح ذلك في صحته؛ لاحتمال أنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه، وكم من حديث منسوخ، وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية. اهـ (2) .
_________
(1) تلخيص الحبير (1/235) .
(2) فتح الباري (1/397) .(11/50)
وقد ثبت الخلاف بين الصحابة في هذه المسألة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري، عن عائشة.
كما ثبت الخلاف بعد الصحابة من التابعين، رحمهم الله تعالى، والله أعلم.
الجواب الثاني:
أن هذا الحديث كان في أول الإسلام، ثم نسخ في إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل. وسوف أسوق إن شاء الله تعالى في أدلة القول الثاني ما ورد في هذا الباب.
الدليل الثاني:
(1134-7) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني أبو أيوب، قال:
أخبرني أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينْزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي (1) . وأخرجه مسلم أيضاً.
الدليل الثالث:
(1135-8) ما رواه البخاري من طريق النضر، قال: أخبرنا شعبة، عن الحكم، عن ذكوان أبي صالح،
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى رجل من الأنصار، فجاء، ورأسه يقطر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لعلنا أعجلناك؟ فقال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أعجلت أو قحطت فعليك الوضوء.
_________
(1) البخاري (293) ، ومسلم (346) .(11/51)
قال البخاري: تابعه وهب، قال: حدثنا شعبة، قال أبو عبد الله: ولم يقل غندر ويحيى، عن شعبة الوضوء. ورواه مسلم أيضاً (1) .
(1136-9) وفي رواية لمسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري،
عن أبيه، قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان، فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعجلنا الرجل. فقال عتبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الماء من الماء (2) .
وأجيب عنه بجوابين:
الأول: قال ابن عبد البر: هذا إسناد صحيح من جهة النقل ثابت، ولكنه يحتمل التأويل؛ لأن قوله (الماء من الماء) ليس فيه ما يدفع الماء من التقاء الختانين؛ لأن من أوجب الغسل من التقاء الختانين يقول: الماء من الماء ومن التقاء الختانين أيضا، فهي زيادة حكم (3) .
ويجاب عن هذا:
بأن هناك فرقاً بين قولنا: الماء من الماء، وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الماء من الماء.
فاللفظ الثاني يدل على الحصر، بطريقة النفي والإثبات، لأن معناه: لا ماء واجب إلا من الماء النازل، بخلاف قولنا: الماء من الماء، فهو لا يمنع الزيادة.
_________
(1) البخاري (180) ، ومسلم (345) .
(2) مسلم (343) .
(3) التمهيد (23/108) .(11/52)
الجواب الثاني:
قالوا: إن المراد " الماء من الماء " في الاحتلام لا في اليقظة، وهذا مجمع عليه، فيمن رأى أنه يجامع ولم ينزل أنه لا غسل عليه، وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس.
(1137-10) فقد روى الترمذي رحمه الله، من طريق شريك، عن أبي الجحاف، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: إنما الماء من الماء في الاحتلام.
قال أبو عيسى: سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لم نجد هذا الحديث إلا عند شريك (1) .
[ضعيف الإسناد] (2) .
وأجيب:
أولاً: ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ضعيف، لا يثبت من جهة الإسناد.
ثانياً: حديث أبي سعيد الخدري يأباه، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - جواباً على سؤال من عتبان، وقد اغتسل عتبان قبل أن ينزل، فقال عتبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن، ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما
_________
(1) سنن الترمذي (112) .
(2) في إسناده شريك بن عبد الله النخعي، سيء الحفظ، وقد انفرد به كما أشار إلى ذلك وكيع رحمه الله، وقد أخرجه الطبراني (11/304) رقم: 11812 عن عبد الله بن أحمد، ثنا محمد بن الصباح، ثنا شريك به.(11/53)
الماء من الماء. رواه مسلم، وسبق تخريجه.
فهذا دليل على أن حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إنما الماء من الماء ليس خاصاً في الاحتلام، بل هو محكم في النائم واليقظان.
(1138-11) ثالثاً: أن ما وراه البخاري ومسلم وتقدم لفظه، عن زيد ابن خالد الجهني،
أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن، قال: عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب والزبير ابن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك. سبق تخريجه.
فقوله: إذا جامع الرجل امرأته، ولم يمن صريح في إنه قد وقع الجماع، فليس الحديث عن الاحتلام، ولا عن المباشرة فيما دون الجماع.
دليل من قال: يجب الغسل بالتقاء الختانين ولو لم ينْزل.
لهم أدلة تنص على وجوب الغسل بالتقاء الختانين ولو لم يحصل إنزال، وأدلة تنص على نسخ الحكم الأول من كون الغسل لا يجب بالإكسال، أما الأدلة التي تذكر وجوب الغسل بالتقاء الختانين، فمنها:
الدليل الأول:
(1139-12) ما رواه البخاري من طريق قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع،
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل. وأخرجه مسلم أيضاً (1) .
_________
(1) البخاري (291) ومسلم (348) .(11/54)
وأجيب:
بأن الحديث ليس صريحاً في وجوب الغسل بمجرد التقاء الختانين، لأن قوله " ثم جهدها " يحتمل أنه أراد بالجهد الإنزال، لأنه هو الغاية في الأمر، فلا يكون فيه دليل.
وأجيب: بأنه قد رواه مسلم من طريق مطر، عن الحسن به، وزاد: وإن لم ينْزل (1) .
بل وقع التصريح حتى في بعض طرق قتادة (2) .
_________
(1) مسلم (348) .
(2) فقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1/321) عن حماد بن سلمة، عن قتادة به، وزاد: أنزل أو لم ينْزل.
ورواه البيهقي في السنن (1/163) من طريق يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به، بالزيادة نفسها.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/396) ورواه ابن أبي خيثمة في تاريخه، عن عفان، قال: حدثنا همام وأبان، قالا: حدثنا قتادة به، وزاد في آخره: أنزل أو لم ينْزل.
قلت: هذا الطريق هو في مسند أحمد (2/347) يرويه الإمام أحمد، عن عفان، حدثنا همام وأبان به، وفي آخره: أنزل أو لم ينْزل. ... =
= ورواه الدارقطني في سننه (1/112) من طريق علي بن سهل، حدثنا عفان به بالزيادة نفسها.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/56) من طريق عفان به، إلا أنه لم يذكر متنه، بل أحال إلى متن سابق.
فعلى هذا يكون طريق مطر، عن الحسن لم يختلف عليه في زيادة " وإن لم ينزل ".
وأما طريق قتادة، فقد اختلف عليه في ذكر هذه الزيادة،
فرواه شعبة وهشام، عن قتادة بدون زيادة: (وإن لم ينزل) .
ورواه همام، وأبان، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، عن قتادة بذكر زيادة وإن لم ينْزل، وإليك تخريج ذلك:
أما رواية شعبة وهشام بدون زيادة وإن لم ينْزل،
فقد أخرجها أبو داود الطيالسي (1/321) ومن طريقه أخرجه أحمد (2/520) وأبو عوانة (1/288) والبيهقي في المعرفة (257) قال: حدثنا شعبة وهشام، عن قتادة به.
وأخرجه أبو داود (216) حدثنا مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، حدثنا هشام وشعبة به، بلفظ: وألزق الختان بالختان.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/84) رقم931، وأحمد (2/234، 393، 520) وإسحاق ابن راهوية (19) والبخاري (287،291) ، ومسلم (348) ، والدارمي (761) وابن ماجه
(610) ، وابن الجارود (92) ، والطحاوي (1/56) ، وابن حبان (1174، 1182، 1178) وأبو عوانة (1/288) والدارقطني (1/113) ، والبيهقي في السنن (1/163) ، والبغوي في شرح السنة (241،242) من طريق هشام به.
وأخرجه أحمد (2/520) وإسحاق بن راهوية (110) ، ومسلم 0348) والنسائي في الكبرى (197) ، وفي المجتبى (191) ، وابن الجارود (92) ، والطحاوي (1/56) والبيهقي (1/163) من طريق شعبة وحده به. ... =
= وأما رواية همام، وأبان، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، بذكر زيادة: (وإن لم ينْزل) ، فقد سبق تخريجها في أول تخريج هذا الحديث.
فالذي يظهر أنها محفوظة حتى من طريق قتادة، وهي متابعة قوية لطريق مطر، عن الحسن، والله أعلم.
واستكمالاً لتخريج الحديث، فقد رواه أحمد (2/470،471) من طريق أشعث.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/84) رقم 932 من طريق يونس بن عبيد.
وأبو يعلى (6227) من طريق جرير بن حازم، كلهم عن الحسن، عن أبي هريرة به.
وهنا دلسه الحسن، فإنه قد سبق لنا من رواية الصحيحين أن الحسن يرويه عن أبي رافع، عن أبي هريرة.
ذكر الدارقطني في العلل (8/260) بسنده عن موسى بن هارون، قال: سمع الحسن من أبي هريرة إلا أنه لم يستمع منه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا قعد بين شعبها الأربع، بينهما أبو رافع. اهـ
قلت: وهذا دليل على أن تدليس الحسن ليس من قبيل الإرسال فحسب، وإنما قد يدلس أحاديث من سمع منهم ما لم يسمعه، وإن كان الغالب عليه الإرسال، والله أعلم. وكنت فيما سبق قد جزمت أن تدليسه من قبيل الإرسال حتى وقعت على هذا الحديث، فينظر هل له أمثله أخرى، والله أعلم.
وأخرجه النسائي (192) وفي الكبرى (198) من طريق يونس، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة.
وقال النسائي عقبه: هذا خطأ، والصواب أشعث عن الحسن، عن أبي هريرة، وقال نحوه: أبو حاتم وأبو زرعة في العلل لابنه (1/38) ، والدارقطني في العلل (8/258،259) .
وأخرجه أبو يعلى (4926) من طريق هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وذكر أبو هريرة قصة الاختلاف بين الصحابة، وإن أبا هريرة انطلق إلى عائشة، فسألها، فأجابته بوجوب الغسل بالتقاء الختانين، وذكر ذلك عن عائشة موقوفاً عليها، وسوف يأتي بحث مسند عائشة بعد هذا الحديث إن شاء الله تعالى.
انظر لمراجعة بعض طرق هذا الحديث في أطراف المسند (8/112-113) ، تحفة الأشراف (14659) ، إتحاف المهرة (20052) .(11/55)
الدليل الثاني:
(1140-13) ما رواه مسلم من طريق هشام، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة،
عن أبي موسى قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق، أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فأذن لي، فقلت لها: يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك،(11/57)
فإنما أنا أمك. قلت فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل (1) .
ورواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنا أبا موسى أتى عائشة فذكر نحوه موقوفاً على عائشة، وقال أبو موسى في آخره: لا أسأل عن هذا أحداً بعدك أبداً (2) .
[اختلف على عائشة في وقفه ورفعه، والطرق الموقوفة أقوى، إلا أن الموقوف له حكم الرفع] (3) .
_________
(1) مسلم (349) .
(2) الموطأ (1/46) .
(3) رواه جمع من الرواة عن عائشة موقوفاً، منهم سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وميمون بن مهران، وعبيد الله بن عدي بن الخيار، ورفاعة بن رافع، وغيرهم. ... =
= ورواه جمع آخر مرفوعاً، على اختلاف على بعضهم في رفقه ووقفه، وإليك بيان من وقفت على رواياتهم:
فقد أخرجه مالك في الموطأ (1/46) ومن طريقه الشافعي في مسنده (1/37-38) .
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (954) عن ابن جريج، كلاهما، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة موقوفاً. وفيه قصة مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (23/100) من طريق أبي قرة، عن مالك، عن يحيى ابن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب مرفوعاً.
قال ابن عبد البر: هذا خطأ - يعني رفعه من طريق مالك - والصواب ما في الموطأ. اهـ يعني رواية الوقف.
وأخرجه أحمد (6/47) ، وابن أبي شيبة (1/84) رقم: 929، وإسحاق بن راهوية
(1100) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/55) ، والبيهقي في المعرفة (1/463) ، والبغوي في شرح السنة (243) من طريق علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة مرفوعاً. وعلي بن زيد ضعيف.
وأخرجه عبد الرزاق (945) ، وابن أبي شيبة (1/84) وابن راهوية (1219) من طريق عطاء بن أبي رباح.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/60) من طريق ميمون بن مهران، كلاهما عن عائشة موقوفا، بلفظ: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل.
ووراه مسروق، واختلف عليه أيضاً:
فأخرجه ابن أبي شيبة (1/84) رقم 935 من طريق داود، عن مسروق، عن عائشة موقوفاً.
وأخرجه عبد الرزاق (938) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (579) من طريق الشعبي، عن مسروق، عن عائشة مرفوعاً.
وأخرجه مالك في الموطأ (1/46) ومن طريقه عبد الرزاق (941) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/60) ، والبيهقي (1/166) من طريق أبي النظر مولى عمر بن عبيد الله. =
= قال البخاري في التاريخ الكبير (6/182) وقال أبو النضر ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة موقوفاً.
وأخرجه إسحاق بن راهوية (1044) من طريق أبي واقد الليثي.
وأخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/374) من طريق عثمان بن عطاء، كلاهما عن أبي سلمة، عن عائشة به مرفوعاً.
وأخرجه أحمد في المسند (6/161) والترمذي في السنن (108) ، والنسائي في الكبرى
(196) ، وابن ماجه (608) ، وابن حبان (1176) والدارقطني (1/111) من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واغتسلنا.
وقد توبع الوليد بن مسلم، فقد أخرجه أبو يعلى (4925) من طريق عيسى بن يونس.
وابن الجاورد في المنتقى (93) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/55) من طريق بشر ابن بكر.
وابن حبان (1175،1181،1186) من طريق عبد الله بن كثير.
والدراقطني (1/111) والبيهقي في السنن (1/164) من طريق الوليد بن مزيد.
كلهم عن الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/84) عن ابن علية، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه وعن نافع، قالا: قالت عائشة: إذا خالط الختان الختان فقد وجب الغسل. وهذا موقوف.
وقد أعله البخاري كما نقله عنه الترمذي في العلل الكبير (1/184) : هذا حديث خطأ، إنما يرويه الأوزاعي عن عبد الرحمن بن القاسم مرسلاً، ثم استدل على ذلك بأن أبا الزناد قال: سألت القاسم بن محمد: سمعت في هذا الباب شيئاً؟ فقال: لا.
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (1/233) : وأجاب من صححه بأنه يحتمل أن يكون القاسم كان نسيه، ثم تذكر، فحدث به ابنه، أو كان حدث به ابنه، ثم نسي. قال الحافظ: ولا يخلو الجواب عن نظر. اهـ
وأخرجه مسلم (349) وابن خزيمة (227) وأبو عوانة (1/288-289) وابن حبان (1183) ، والطبراني في الأوسط (7119) من طريق هشام بن حسان، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن عائشة مرفوعاً. ... =
= قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي بردة إلا حميد بن هلال، ولا عن حميد إلا هشام، ولا عن هشام إلا الأنصاري. اهـ
قلت: قد أخرجه مسلم من طريق محمد الأنصاري ومن طريق عبد الأعلى، كلاهما عن هشام بن حسان، فتأمل.
وقد سبق لنا رواية سعيد بن المسيب، عن عائشة في قصة أبي موسى الأشعري موقوفاً على عائشة.
وأخرجه مسلم (350) ، وأبو عوانة (1/289) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/55) ، والدارقطني (1/112) ، والبيهقي (1/164) من طريق عياض بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، عن أم كلثوم، عن عائشة قالت: إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامع أهله، ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل.
وفي إسناده عياض بن عبد الله، قال أبو حاتم: ليس بقوي. الجرح والتعديل (6/409) .
وذكره ابن حبان في الثقات (8/524) .
وقال الساجي: روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر. تهذيب التهذيب (8/180) .
وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال البخاري: منكر الحديث. المرجع السابق. وقد ساق مسلم حديثه هذا في المتابعات.
وفي التقريب: فيه لين. ومع لين حفظه إلا أنه هنا قد توبع: تابعه أشعث بن سوار وابن لهيعة من رواية عبد الله بن وهب عنه.
فقد أخرجه أحمد (6/68) من طريق حسن بن صالح.
وأبو يعلى (4697) من طريق عبد الرحيم بن سليمان، كلاهما عن أشعث، عن الزبير، عن جابر، عن أم كلثوم، عن عائشة، قالت: فعلناه مرة، فاغتسلنا. يعني الذي يجامع ولا ينزل. اهـ هذا لفظ أحمد، ولفظ أبي يعلى: قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالطها من غير أن ينزل، قالت: فاغتسلنا. وأشعث ضعيف.
كما أخرجه أحمد (6/74) حدثنا موسى. ... =
= وأخرجه الدارقطني (1/112) من طريق عبد الله بن وهب، كلاهما عن أبي الزبير به بنحوه.
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2754) حدثنا عبد الله بن الحسين المصيصي، ثنا محمد بن بكار، ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أم كلثوم، عن عائشة، قالت: إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا.
وعبد الله بن الحسين المصيصي ضعيف.
كما رواه عن عائشة: عبد العزيز بن النعمان، وعبد العزيز فيه جهالة، لم يخرج له أصحاب الكتب الستة، ولم يرو عنه أحد إلا عبد الله بن رباح فيما ذكره ابن حجر في تعجيل المنفعة، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبان، ولا يعرف له سماع من عائشة فيما ذكره البخاري في التاريخ الكبير (6/9) .
فقد أخرجه أحمد (6/123، 227، 239) ، وإسحاق بن راهوية (1354) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/55) من طريق حماد بن سلمة، قال: حدثنا ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن عبد العزيز بن النعمان، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقى الختانان اغتسل.
وراه أحمد (6/265) عن عبد الوهاب بن عطاء.
وإسحاق بن راهوية (1355) عن عبدة بن سليمان، كلاهما، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عبد الله بن رباح، أنه دخل على عائشة، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، فذكر نحو قصة أبي موسى مع عائشة، وذكر وجوب الغسل مرفوعاً. وقد اختصره إسحاق بن راهوية رحمه الله.
وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (9/49) ، والتحفة (16119) ، وإتحاف المهرة (21698) .
ورواه أحمد (5/115) قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا زهير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد بن رفاعة بن رافع، عن رفاعة بن رافع، وكان عقبياً بدرياً قال:... =
= كنت عند عمر، فقيل له: إن زيد بن ثابت يفتي الناس برأيه في المسجد، في الذي يجامع ولا ينزل. فقال: أعجل به، فأتى به، فقال: يا عدو نفسه، أوقد بلغت أن تفتي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيك؟! قال: ما فعلت، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: أي عمومتك؟
قال: أبي بن كعب، وأبو أيوب، ورفاعة بن رافع. فالتفت إليَّ: ما يقول هذا الغلام؟
فقلت: كنا نفعله في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: فسألتم عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟.
قال: كنا نفعله في عهده، فلم نغتسل.
قال: فجمع الناس، واتفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء إلا رجلين، علي ابن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل.
فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن أعلم الناس بهذا أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم لي. فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. قال: فتحطم عمر ـ يعني: تغيظ ـ ثم قال: لا يبلغني أن أحداً فعله، ولا يغتسل إلا أنهكته عقوبة.
وقد سبق لي الكلام على هذا الطريق بالذات في كتابي الحيض والنفاس رقم (81) ، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم.
هذا ما تيسر لي الوقوف عليه من طريق عائشة، وأقوى الطرق عنها ما جاء من طريق سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وميمون بن مهران، وقد رووا الحديث عنها موقوفاً، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي موسى الأشعري عنها مرفوعاً، وكما ذكرت في المتن أن الموقوف له حكم الرفع، والله أعلم.(11/58)
قال ابن عبد البر: وهذا الحديث يدخل في المسند بالمعنى والنظر؛ لأنه محال أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على غيرها من الصحابة حين اختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم، ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه؛ لأن كل واحد ليس بحجة على صاحبه عند التنازع؛ لأنهم أمروا إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدلك على أن تسليم أبي موسى لعائشة في هذه المسألة إنما كان من أجل أن علم ذلك كان عندها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلذلك سلم لها؛ إذ هي أولى بعلم مثل ذلك من غيرها (1) .
قلت: وقولها: على الخبير سقطت إشارة إلى أنها لا تتكلم إلا عن علم فإن معنى خبر الأمر أي علمه والخُبْرُ بالضم: هو العلم بالشيء، والخَبِيرُ العالم (2) .
_________
(1) التمهيد (23/100) .
(2) مختار الصحاح (ص: 71) .(11/63)
وأما الأدلة التي تصرح أن عدم الغسل كان في أول الأمر ثم نسخ، فمنها:
الدليل الثالث:
(1141-14) روى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن مهران البزاز الرازي، حدثنا مبشر الحلبي، عن محمد أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل ابن سعد،
حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (215) .
(2) رجاله ثقات، وقد أخرجه الدارمي (760) ، وابن خزيمة (226) ، وابن حبان (1179) ، والطبراني (538) ، والدارقطني (1/126) والبيهقي (1/166) من طريق محمد بن مهران به. ... =
= ورواه الزهري، واختلف عليه فيه:
فرواه عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهري، عن سهل بالعنعنة بين الزهري وسهل. وأخرجه أحمد (5/115) ، وابن ماجه (609) ، وابن الجارود (91) ، وابن خزيمة (225) ، والبيهقي (1/165) من طريق عثمان بن عمر، أخبرنا يونس، عن الزهري، قال: قال سهل الأنصاري، حدثني أبي ابن كعب.
ورواه عبد الله بن المبارك، عن يونس به، واختلف على عبد الله،
فأخرجه أحمد (5/115) حدثنا علي بن إسحاق.
وأخرجه أيضاً (5/115) حدثنا خلف بن الوليد.
وأخرجه الترمذي (110) ، وابن خزيمة (225) ، والحازمي في الاعتبار (ص:32) والضياء في المختاره (1178) من طريق أحمد بن منيع.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/57) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني.
وابن حبان (1173) من طريق حبان بن موسى.
والبيهقي (1/165) من طريق الحسن بن عرفة، ستتهم رووه عن ابن المبارك: عن يونس، عن الزهري، عن سهل بالعنعنة.
وخالفهم كل من أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني كما في تهذيب الآثار ومسند بقي ابن مخلد.
ومعلى بن منصور، كما في كتاب ابن شاهين كلاهما، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، حدثني سهل بن سعد.
وهذا خطأ، والصحيح رواية من رواه بالعنعنة لما يلي:
أولاً: أن ستة رواة رووه عن ابن المبارك بالعنعنة، فهم أكثر عدداً.
ثانياً: أن من رواه عن الزهري من غير طريق ابن المبارك كلهم لم يصرحوا بالتحديث،
منهم شعيب بن أبي حمزة كما في مسند أحمد (5/116) وابن خزيمة (225) .
ومنهم عقيل بن خالد، كما في سنن الدارمي (759) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/57) ، من طريق عبد الله بن صالح، عن عقيل بن خالد به. ... =
= ثالثاً: أنه قد رواه عمرو بن الحارث، وصرح بأن هناك واسطة بين الزهري وسهل بن سعد، فقد أخرجه أبو داود (214) ، والطحاوي (1/57) ، وابن خزيمة (226) ، والبيهقي
(1/165) من طريق عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، حدثني بعض من أرضى، عن سهل بن سعد، أن أبياً حدثه... وذكر نحو الحديث.
وأخرجه أحمد (5/116) من طريق رشدين بن سعد، حدثني عمرو بن الحارث به. ورشدين فيه كلام معروف، ولكنه قد توبع كما لحظت.
ولا يفرح بطريق معمر بن راشد المصرح فيها بالسماع عند ابن خزيمة (226) من طريق محمد بن جعفر، نا معمر بن راشد، عن الزهري، قال: أخبرني سهل بن سعد؛ لما قاله أبو حاتم في الجرح والتعديل (8/257) ما حدث معمر بن راشد بالبصرة ففيه أغاليط. اهـ
قال ابن خزيمة: أهاب أن يكون هذا وهماً من محمد بن جعفر أو ممن دونه؛ لأن ابن وهب روى عن عمرو بن الحارث، عن الزهري، قال: أخبرني من أرضى عن سهل بن سعد.
ولأن معمر لم يضبط الحديث، فقد رواه مرة كما تقدم، ورواه مرة موقوفاً على سهل ابن سعد، أخرجه عبد الرزاق (951) ، وابن أبي شيبة (1/89) عن عبد الأعلى السامي.
وابن خزيمة (226) من طريق محمد بن جعفر،
والطبراني في الكبير (5696) من طريق عبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن معمر بن راشد، عن الزهري، عن سهل بن سعد، قال: إنما كان قول الأنصار: الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم أمرنا بالغسل. ولم يذكر في إسناده أبي بن كعب.
ولهذا قال ابن خزيمة عن طريق معمر بن راشد المصرح فيه بالتحديث، قال: في القلب من هذه اللفظة التي ذكرها محمد بن جعفر: أعني قوله: أخبرني سهل بن سعد - وأهاب أن يكون هذا وهماً من محمد بن جعفر، أو ممن دونه. أهـ
وجاء في التمهيد لابن عبد البر (23/107) : قال موسى بن هارون: كان الزهري إنما يقول في هذا الحديث: قال سهل بن سعد، ولم يسمع الزهري هذا الحديث من سهل بن سعد، وقد سمع من سهل أحاديث إلا أنه لم يسمع هذا منه، رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن الزهري، قال: حدثني بعض من أرضى، أن سهل بن سعد أخبره. الخ كلامه رحمه الله تعالى. ... =
= وفي تلخيص الحبير (1/234) : جزم موسى بن هارون، والدارقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل. اهـ
وإذا ثبت لنا أن الزهري لم يسمعه من سهل، فقد صح الطريق الذي اخترته في المتن من طريق أبي حازم، عن سهل، عن أبي بن كعب، ولا يبعد أن يكون الزهري إنما سمعه من أبي حازم، ودلسه، قال ابن خزيمة في صحيحه (1/113) : وهذا الرجل الذي لم يسمه عمرو بن الحارث يشبه أن يكون أبا حازم سلمة بن دينار؛ لأن ميسرة بن إسماعيل روى هذا الخبر عن أبي غسان محمد بن مطرف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد.
وقال ابن حبان في صحيحه (3/447) : وقد تتبعت طرق هذا الخبر، على أن أجد أحداً رواه عن سهل بن سعد، فلم أجد في الدنيا أحداً إلا أبا حازم، ويشبه أن يكون الرجل الذي قال الزهري: حدثني من أرضى، عن سهل بن سعد، هو أبو حازم رواه عنه. اهـ
وهذا القول أقرب للصواب من قول ابن حبان قبل هذا الكلام: ويشبه أن يكون الزهري سمع الخبر من سهل بن سعد كما قاله غندر، وسمعه عن بعض من يرضاه عنه، فرواه مرة عن سهل بن سعد، وأخرى عن الذي رضيه عنه. اهـ
لأنه في معرض المقارنة بين من رواه بالعنعنة وبين من صرح بالتحديث نجد لا مقارنة بين الرواة، وأن الكفة ترجح رواية من رواه بالعنعنة لما ذكرناه سابقاً، ويكفي أن هذا هو رأي الإمام الدارقطني، كما نقلناه عنه سابقاً، وكفى بالدارقطني خبيراً في العلل، والله أعلم.
انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/198) ، تحفة الأشراف (27) ، إتحاف المهرة (46) .(11/64)
الدليل الرابع:
(1142-15) ما رواه ابن حبان، من طريق الحسين بن عمران، عن الزهري، قال: سألت عروة عن الذي يجامع ولا ينزل، قال: على الناس أن يأخذوا بالآخر والآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
حدثتني عائشة ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل بعد ذلك، وأمر الناس بالغسل (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) صحيح ابن حبان (1180) .
(2) في إسناده الحسين بن عمران، قال فيه البخاري: لا يتابع على حديثه في القدر.
وقال ابن حبان في صحيحه: ثقة من الثقات. صحيح ابن حبان (3/455) وسماه الحسين بن عثمان. وهو وهم.
وذكره في الثقات.
وقال الدراقطني: لا بأس به.
وذكره العقيلي في الضعفاء (1/254) : ونقل قول البخاري: لا يتابع على حديثه، ثم قال: والحديث في الغسل في التقاء الختانين ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير هذا الوجه. اهـ
وأخرجه الحازمي في الاعتبار (ص: 34) من طريق ابن حبان، وقال: هذا حديث قد حكم أبو حاتم بن حبان بصحته، وأخرجه في صحيحه، غير أن الحسين بن عمران قد يأتي عن الزهري بالمناكير، وقد ضعفه غير واحد من أصحاب الحديث، وعلى الجملة فالحديث بهذا السياق فيه ما فيه، ولكنه حسن جيد في الاستشهاد. اهـ
وقال الزيلعي في نصب الراية (1/83) : الذي وجدته في كتاب الضعفاء للعقيلي، أنه روى هذا الحديث، ثم أعله بالحسين بن عمران، وقال: لا يتابع على حديثه، ولا يعلم هذا اللفظ عن عائشة إلا في هذا الحديث. وذكر العقيلي عن آدم بن موسى قال: سمعت البخاري يقول: حسين بن عمران الجهني لا يتابع على حديثه. وكذلك ذكر أبو العرب القروي عن أبي بشر، قال: ولم أقف على أكثر من هذا في حسين بن عمران، وهو أخف من قول الحازمي: وقد ضعفه غير واحد، بل لو قيل: ليس فيه جزم بالتضعيف لم يبعد ذلك. اهـ كلام الزيلعي رحمه الله تعالى.
قلت: الأثر بهذا الإسناد منكر، فأصحاب الزهري: معمر، ويونس، وعقيل، وشعيب، رووه عن الزهري، عن سهل بن سعد، عن أبي، وخالفه حسين بن عمران، فرواه عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وتفرده بمثل هذا الإسناد يعتبر منكراً، ولو كان ثقة لم يقبل تفرده ومخالفته لأصحاب الزهري، فكيف وقد تكلم فيه، والله أعلم.(11/67)
الدليل الخامس:
(1143-16) ما رواه أحمد، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا رشدين بن سعد، عن موسى بن أيوب الغافقي، عن بعض ولد رافع بن خديج،
عن رافع بن خديج قال: ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا على بطن امرأتي، فقمت، ولم أنزل، فاغتسلت، وخرجت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته أنك دعوتني، وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا عليك، الماء من الماء. قال رافع: ثم أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بالغسل (1) .
[إ سناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (4/143) .
(2) في إسناده رشدين بن سعد، وهو ضعيف، وفيه جهالة بعض ولد رافع، واسمه سهل كما في رواية الطبراني، ولم أقف له على ترجمة.
وأخرجه الطبراني في الكبير (4374) من طريق أبي طاهر بن السرح، عن رشدين بن سعد، وسمى بعض ولد رافع سهلاً.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/264) : فيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف.
وقال الحازمي في الاعتبار (ص: 32) : هذا حديث حسن. قال الزيلعي في نصب الراية (1/84) : وهذا فيه نظر؛ فإن فيه رشدين بن سعد، أكثر الناس على ضعفه، وبعض ولد رافع مجهول العين والحال، وحيث سنده على ضعيف ومجهول، كيف يكون حسناً؟!
انظر أطراف المسند (2/334-335) ، إتحاف المهرة (4551) .(11/68)
الدليل السادس:
أن بعض من كان يرى عدم وجوب الغسل إلا بالإنزال قد رجع إلى وجوب الغسل، وهذا يدل على أنه ثبت عنده ما يدل على نسخ حكم إنما الماء من الماء.
(1144-17) فمنها ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان،
أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل؟ فقال زيد: يغتسل. فقال له محمود: إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل. فقال له زيد بن ثابت: إن أبي ابن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت (1) .
[إسناده صحيح، إن كان عبد الله بن كعب مولى عثمان سمعه من محمود بن لبيد الأنصاري] (2) .
_________
(1) الموطأ (1/47) ، ومن طريق مالك أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/166) .
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/57) من طريق يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد به. انظر إتحاف المهرة (4844)
(2) قال الحافظ في التهذيب (5/323) : نقل ابن خلفون أنه روى عن محمود بن لبيد الأنصاري، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري. اهـ ولم يتعقبه بشيء.
وقال بعضهم: هذا الخبر يدور على عبد الله بن كعب، ولم يصح له سماع من زيد بن ثابت، وإنما يروى عن خارجة بن زيد، وهو أيضاً غير مشهور بنقل العلم. انظر التمهيد (23/116) . اهـ
وقد يشهد له ما ذكرته بسند صحيح من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن أبي ابن كعب في دليل سابق من هذه المسألة.(11/69)
قال الشافعي: لا أحسبه تركه إلا أنه ثبت له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعده ما نسخه (1) . اهـ
وقال البيهقي: قول أبي بن كعب الماء من الماء، ثم نزوعه عنه، يدل على أنه ثبت له أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بعدُ ما نسخه، وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب (2) .
الدليل الثامن:
(1145-18) ومنها ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب،
أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل (3) .
[سعيد بن المسيب قد سمع من عثمان، ومات عمر وله ثمان سنوات، وهو من أعلم الناس بقضاء عمر، وعلى تقدير أنه عن عمر مرسل فإن مراسيله من أصح المراسيل] (4) .
_________
(1) نصب الراية (1/84) .
(2) سنن البيهقي (1/166) .
(3) ومن طريق مالك أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/57) . وانظر إتحاف المهرة (13667) .
(4) اختلف في سماع سعيد من عمر،
قال أبو طالب: قلت لأحمد بن حنبل: سعيد بن المسيب؟ فقال: ومن كان مثل سعيد ابن المسيب، ثقة من أهل الخير. قلت: سعيد، عن عمر، حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر، وسمع منه، إذا لم يقبل سعيد عن عمر، فمن يقبل؟ الجرح والتعديل (4/60) .
وقال عبدالله بن وهب: سمعت مالكاً، وسئل عن سعيد بن المسيب، قيل: أدرك عمر؟ قال: لا، ولكنه ولد في زمان عمر، فلما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره حتى كأنه رآه. قال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره. تهذيب الكمال (11/74) . ... =
= وقال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: سعيد بن المسيب قد رأى عمر، وكان صغيراً. قلت ليحيى: يقول: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر؟ قال يحيى: ابن ثمان سنين يحفظ شيئاً!! المرجع السابق.
وقال إسحاق بن منصور: قلت ليحيى بن معين: يصح لسعيد بن المسيب سماع من عمر؟ قال: لا. المراسيل ـ ابن أبي حاتم (ص: 71) .
وقال أبو حاتم الرزاي: سعيد بن المسيب، عن عمر مرسل، يدخل في المسند على المجاز.
وقال أيضاً: لا يصح سماع لسعيد بن المسيب عن عمر إلا رؤيته على المنبر ينعي النعمان ابن مقرن. المرجع السابق.(11/70)
فهذا دليل آخر على رجوع عثمان إلى القول بوجوب الغسل.
وسبق لنا قول الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: حديث حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد قال: سألت خمسة من أصحاب رسول الله: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وأبي بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة تدفعه بها؟ .
قال: نعم بما يروى عنهم من خلافه.
قلت: عن عثمان وعلي وأبي بن كعب؟ قال: نعم (1) .
_________
(1) التمهيد (23/111) .(11/71)
الدليل التاسع:
ذكر ابن خواز منداد، أن إجماع الصحابة انعقد على إيجاب الغسل من التقاء الختانين (1) .
وقال القاضي ابن العربي: انعقد الإجماع أخيراً على إيجاب الغسل (2) .
وأجيب:
بأن الخلاف محفوظ من الصحابة وممن دونهم، أما الصحابة فالخلاف بينهم مشهور.
قال ابن عبد البر وهو ممن يرى وجوب الغسل: " كيف يجوز القول بإجماع الصحابة في شيء في هذه المسألة مع ما ذكرناه في هذا الباب، ومع ما ذكره عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال: سمعت خمسة من المهاجرين الأولين، منهم علي بن أبي طالب، فكلهم قال: الماء من الماء (3) .
وأما الخلاف فيمن بعدهم فقد قال الحافظ ابن حجر: ادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، وهو معترض أيضاً، فقد قال الخطابي: إنه قال به من الصحابة جماعة، فسمى بعضهم، قال: ومن التابعين الأعمش، وتبعه عياض لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره، وهو معترض أيضاً، فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وعن هشام بن عروة عند عبد الرزاق بإسناد صحيح.
_________
(1) التمهيد (23/113) .
(2) تلخيص الحبير (1/235) .
(3) التمهيد (23/113-114) .(11/72)
وقال عبدالرزاق أيضا عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: لا تطيب نفسي إذا لم انزل حتى اغتسل؛ من أجل اختلاف الناس لأخذنا بالعروة الوثقى.
وقال الشافعي في اختلاف الحديث: حديث الماء من الماء ثابت، لكنه منسوخ، إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا - يعني من الحجازيين - فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل. اهـ قال الحافظ: فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهوراً بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب والله أعلم.
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض الأدلة يظهر لي أن الخلاف في المسألة قوي، وأنه قد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - القول بعدم وجوب الغسل، وربما كان هذا القول في أول الأمر، ثم نسخ هذا الحكم، فالأحاديث التي تدل على وجوب الغسل ناقلة عن البراءة الأصلية فهي مقدمة على غيرها، وكما قال البخاري: الغسل أحوط.(11/73)
[صفحة فارغة](11/74)
المبحث الأول
في الإيلاج في فرج امرأة ميتة،
أو إيلاج فرج رجل ميت في قبل امرأة
إذا أولج رجل ذكره في فرج امرأة ميتة، ولم ينزل، فهل حكمهما حكم المرأة الحية؟ فيجب الغسل بمجرد الإيلاج، ولو لم ينزل، أو يشترط هنا لوجوب الغسل الإنزال؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة،
فقيل: لا يجب الغسل بمجرد الإيلاج في فرج امرأة ميتة حتى ينزل، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يجب، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
دليل من قال: لا يجب الغسل في فرج الميتة.
تعليل الحنفية في عدم وجوب الغسل: إن الموجب للغسل هو إنزال المني كما أفاده حديث (إنما الماء من الماء) لكن المني تارة يوجد حقيقة، وتارة يوجد حكماً عند كمال سببه، وهو غيبوبة الحشفة في محل يشتهى عادة مع
_________
(1) البحر الرائق (1/61) ، البناية (1/273) ، حاشية ابن عابدين (1/161) .
(2) الخرشي (1/164) ، الفواكه الدواني (1/117) ، حاشية الدسوقي (1/129) وقد فرق المالكية بين أن يولج الرجل ذكره في فرج امرأة ميتة، فيجب عليه الغسل، وبين أن تدخل المرأة ذكر رجل ميت في فرجها، فلا يجب عليها الغسل إلا أن تنزل، ولا أعلم ما هو الفرق بين المسألتين.
(3) الأم (1/37) ، روضة الطالبين (1/81) ، المهذب (1/29) ، الوسيط (1/339) ، الحاوي الكبير (1/212) .
(4) الإنصاف (1/235-236) ، مطالب أولي النهى (1/164) ،(11/75)
خفاء خروجه، وفي الميتة ونحوها لم يكن الإيلاج سبباً كاملاً لإنزال المني؛ لعدم الداعية إليه، فلم يوجد إنزال المني حقيقة ولا تقديراً، فلو قلنا بالوجوب من غير إنزال لكان فيه ترك العمل بالحديث أصلا, وهو لا يجوز (1) .
فملخص الكلام هنا بأن الميتة لا تشتهى عادة، وأن الإيلاج في حشفة الميتة لا لذة فيها، أو أن اللذة فيها ناقصة غير كاملة.
دليل من قال بوجوب الغسل.
استدلوا بأن النصوص التي توجب الغسل بالتقاء الختانين مطلقة، ولم تقيد ذلك بكون المرأة حية أو ميتة، فالأخذ بالمطلق والعام أسعد من تقييد النص المطلق، أو تخصيص العام بعلة مستنبطة، لا ندري هل هي العلة أم غيرها؟ وكون المحل لا يشتهى عادة فهذا ليس كافياً في تقييد النص، فانظر إلى المرأة العجوز المتناهية في القبح العمياء البرصاء المقطعة الأطراف لو جومعت، وهي لا تشتهى عادة، وجب الغسل بالتقاء الختانين، فانتقضت العلة.
الراجح:
أن الغسل يجب بالتقاء الختانين، ونقصان اللذة لا يكفي للقول بتقييد النص النبوي المطلق، والله أعلم.
_________
(1) بتصرف البحر الرائق (1/61) .(11/76)
المبحث الثاني
في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها
اختلف الفقهاء في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، هل يجب على من وطئها الغسل؟ .
فقيل: لا يجب، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: إن كانت تطيق الجماع وجب عليه الغسل، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية (2) .
وقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
دليل القائلين بعدم وجوب الغسل.
إن الموجب للغسل هو إنزال المني، كما أفاده حديث (إنما الماء من الماء) لكن المني تارة يوجد حقيقة، وتارة يوجد حكماً عند كمال سببه، وهو غيبوبة الحشفة في محل يشتهى عادة مع خفاء خروجه، فكان الإيلاج في مثل هذا سبباً لاستطلاق وكاء المني عادة، فقام مقام خروج المني احتياطاً؛ لأنه
_________
(1) البحر الرائق (1/61) ، البناية في شرح الهداية (1/273) .
(2) الشرح الصغير (1/163) ، مواهب الجليل (1/309) .
(3) روضة الطالبين (1/81) ، حاشية البيجوري على متن أبي شجاع (1/138) .
(4) جاء في مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/1030) قال: سألت أبي عن رجل وطئ امرأته، وهي صغيرة، يجب عليها الغسل؟ قال: نعم، إذا وصل إليها وجب الغسل، وإذا التقى الختانان وجب الغسل، الصغيرة والكبيرة " وانظر المبدع (1/182) ، الفروع (1/198) شرح العمدة (1/360) ، الإنصاف (1/234) ، كشاف القناع (1/143) ، المستوعب (1/226) .(11/77)
مغيب عن بصره، فربما خرج ولم يقف عليه لقلته، وفي الصغيرة ونحوها لم يكن الإيلاج سببا كاملا لإنزال المني؛ لقصور اللذة، فلم يوجد إنزال المني حقيقة ولا تقديراً، فلو قلنا بالوجوب من غير إنزال لكان فيه ترك العمل بالحديث أصلا, وهو لا يجوز (1) .
ويشكل على هذا التنظير أن المرأة لو أدخلت ذكر زوجها العنين، فعلى مقتضى التعليل لا يجب عليه غسل؛ لأنه ليس هناك إنزال للماء لا حقيقة ولا تقديراً، وهو خلاف ظاهر النصوص من وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وقد أوجب الحنفية الغسل من جماع الخصي على الفاعل والمفعول به، والله أعلم (2) .
دليل القائلين بوجوب الغسل:
عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)) وحديث ((إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل)) ، فهذه النصوص مطلقة، وهي توجب الغسل بالتقاء الختانين من غير قَيْدٍ، ومن قَيَّد ذلك بكونه من الكبيرة فقد قيد النصوص الشرعية بلا دليل.
_________
(1) بتصرف البحر الرائق (1/61) .
(2) انظر الفتاوى الهندية (1/15) ، وقد نص المالكية على وجوب الغسل على العنين إذا أولج حشفته في فرج امرأته، انظر مواهب الجليل (1/308) .(11/78)
المبحث الثالث
إذا كان المجامِع أو المجامَع صغيراً فهل يجب عليه غسل؟
اختلف الفقهاء في ذلك،
فقيل: لا يجب عليه غسل، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) .
وتعليلهم ظاهر، وهو قائم على أن الصغير غير مكلف، ولا تجب عليها الصلاة التي تجب الطهارة لها، وأن الأصل في وجوب الغسل هو الإنزال، وليس من أهله، وإنما أقيم التقاء الختانين مقام الإنزال؛ لأنه سبب فيه، ولأنه لا
_________
(1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (1/16) ،
(2) الشرح الصغير (1/165) ، بل إن المالكية لا يوجبون الغسل على المرأة الكبيرة إذا وطئها غير بالغ، انظر مواهب الجليل (1/309) .
وهناك قول آخر في مذهب المالكية، وهو أن الصغيرة إذا وطئها بالغ، فإن كانت تؤمر بالصلاة أمرت بالغسل، انظر مواهب الجليل (1/309) وانظر بهامشه التاج والإكليل في الصفحة نفسها، والله أعلم.
قال الحطاب في مواهب الجليل: الصور العقلية أربع: الأولى: أن يكونا بالغين، فلا إشكال في وجوب الغسل.
الثاني: عكسه، أن يكونا غير بالغين، ولا فرق بين الصغير والمراهق على المشهور. قال ابن بشير: مقتضى المذهب أن لا غسل، وقد يؤمران فيه على وجه الندب.
الثالث: أن يكون الواطئ غير بالغ، فلا غسل إلا أن تنزل.
الرابع: أن تكون الموطوءة غير بالغة، وهي ممن تؤمر بالصلاة، قال ابن شاس: لا غسل عليها؛ لأنها إنما أمرت بالوضوء ليسره، بخلاف الغسل، كما أمرت بالصلاة دون الصوم. وقال أشهب: عليها الغسل. قال ابن الحاجب: تؤمر الصغيرة على الأصح. الخ كلامه رحمه الله.
(3) الإنصاف (1/234) .(11/79)
يطلق عليه جنب ما دام لم يبلغ السن الذي يستطيع فيه الإنزال.
وقيل: يجب عليه الغسل، وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) إلا أن الحنابلة اشترطوا أن يكون مثله يجامع وإن لم يبلغ، وبعضهم يشترط كون الذكر ابن عشر سنين والأنثى بنت تسع سنين، وهذا تفسير للشرط.
قالوا: وإذا قلنا بوجوب الغسل، فلا يعني ذلك: أنه يأثم بتركه، وإنما هو شرط لصحة الصلاة ونحوها مما تشترط لفعله الطهارة.
وللقياس على البول، فكما أن الصغير إذا بال لم تصح صلاته حتى يتوضأ، ولا يقال: يجب عليه الغسل، كما لا يقال: يجب عليه الوضوء، بل يقال: صار محدثاً، ويجب على الولي أن يأمره بالغسل إن كان مميزاً، كما يأمره بالوضوء.
واستدل الإمام أحمد بفعل عائشة، وقد تزوجت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي بنت تسع سنين.
قال ابن قدامة: سئل يعني أحمد عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ , فجامع المرأة , يكون عليهما جميعا الغسل؟
قال: نعم.
قيل له: أنزل أو لم ينزل؟ قال: نعم. وقال: ترى عائشة حين كان يطؤها النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن تغتسل؟ ويروى عنها: ((إذا التقى الختانان وجب الغسل)) (3) .
_________
(1) قال النووي في روضة الطالبين (1/81) : " ويصير الصبي والمجنون المولجان أو المولج فيهما جنبين بلا خلاف، فإن اغتسل الصبي وهو مميز صح غسله، ولا يجب إعادته إذا بلغ. الخ كلامه رحمه الله تعالى.
(2) المغني (1/132) ،
(3) المغني (1/132) .(11/80)
إلا أن السؤال الذي يرد على الاستدلال بفعل عائشة، هل كانت عائشة صغيرة لم تبلغ الحنث حين كانت زوجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ?؟ أو كانت قد بلغت، وإن كانت بنت تسع سنين؟ الظاهر الثاني، فإذا كانت قد بلغت لم يكن هناك دليل على مسألتنا، والله أعلم.
ولذلك روى الترمذي (1) ، والبيهقي (2) ، كلاهما تعليقاً:
قال البيهقي: وروينا عن عائشة رضي الله عنها قالت:
إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
قال البيهقي: تعني - والله أعلم - فحاضت فهي امرأة.
[ضعيف لتعليقه] (3) .
_________
(1) سنن الترمذي (3/418) .
(2) سنن البيهقي (1/320) .
(3) سبق بحثه في كتاب الحيض والنفاس رقم (17) .(11/81)
[صفحة فارغة](11/82)
فرع
إذا دخل ذكر النائم والمجنون في فرج المرأة أو العكس
نص الجمهور من المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .على أن المرأة إذا أدخلت ذكر رجل نائم، أو مجنون، أو مغمى عليه، أو مكره، فعليهما الغسل؟
وعللوا ذلك بأن موجب الطهارة لا يشترط فيه القصد، بدليل احتلام النائم وسبق الحدث، والله أعلم.
ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ". سبق تخريجه.
وقيل: لا يجب الغسل على النائم والمجنون ونحوهما، وهو قول في مذهب الحنابلة (4) ، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (5) .
واستدل ابن حزم بأن الغسل لا يجب بمجرد مطلق الإيلاج، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل "
فقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا جلس " وقوله " ثم جهدها " هذه الألفاظ لا تطلق إلا على المختار القاصد، ولا يسمى المغلوب أنه قعد، ولا النائم ولا المغمى عليه كذلك.
_________
(1) مواهب الجليل (1/308) ، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/163-164) .
(2) روضة الطالبين (1/81) ، تحفة المحتاج (1/162) .
(3) شرح منتهى الإرادات (1/80) ، الإنصاف (1/233) ، مطالب أولي النهى (1/165) .
(4) الإنصاف (1/233) .
(5) المحلى (1/248) .(11/83)
فكان المراد معنى زائداً على مجرد الإيلاج، وهو انتشار الذكر ولذته بذلك، وأما إذا كان الذكر لم ينتشر، كما هو الحال في النائم فلا فرق بين دخوله ودخول الأصبع في الفرج، ومع ذلك لا يوجب الغسل إيلاجه في فرج المرأة، ولو وجدت اللذة بذلك.(11/84)
المبحث الرابع
إذا أولج رجل ذكره في فرج البهيمة
اختلف الفقهاء في الرجل يدخل ذكره في فرج بهيمة، هل يجب عليه الغسل بمجرد الإيلاج أو لا بد من الإنزال؟
فقيل: لا يجب عليه الغسل، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: بل يجب عليه، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
دليل من قال: لا يجب عليه الغسل.
لا يجب الغسل إلا بدليل شرعي، ولا يوجد دليل يوجب الغسل من الإيلاج في فرج البهيمة، ولا يصح القياس على فرج المرأة لوجود الفارق؛ وذلك لأن الشهوة في فرج البهيمة ليست كالشهوة في فرج المرأة، وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بقصور الشهوة في البهيمة.
دليل من قال بوجوب الغسل:
أن هذا الإيلاج إيلاج في فرج أصلي فأشبه الإيلاج في فرج المرأة.
_________
(1) بدائع الصنائع (1/37) ، البحر الرائق (1/61) ، الفتاوى الهندية (1/15) ، حاشية ابن عابدين (1/166) ، فتح القدير (1/64) .
(2) الخرشي (1/164) ، الفواكه الدواني (1/117) ، حاشية العدوي (1/146) ، حاشية الدسوقي (1/129) ، منح الجليل (1/121-122) .
(3) المجموع (2/150) ، أسنى المطالب (1/65) ، حاشية الجمل (1/152) .
(4) الإنصاف (1/235) ، الفروع (1/198) ، كشاف القناع (1/143) ، وقد أوجب الحنابلة الغسل فيما لو أولج في فرج سمكة.(11/85)
والقول الأول أقوى من حيث التعليل، ويظهر ذلك بأنه لو أولج أصبعه في فرج المرأة لم يجب عليها غسل، وإن كانت قد تتلذذ المرأة بهذا، وقد يتلذذ الرجل أيضاً، ومع ذلك لم يجب الغسل عليهما، فلا بد من أن يكون ذكر الرجل في قبل المرأة، هذا ما ورد فيه النص، وما عداه فالأصل عدم الوجوب، والله أعلم.(11/86)
المبحث الخامس
يشترط لوجوب الغسل بالإيلاج دخول كامل الحشفة
ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه يشترط إيلاج الحشفة كاملة لوجوب الغسل بالتقاء الختانين (1) .
وقيل: يجب الغسل بإيلاج بعض الحشفة، اختاره بعض الشافعية،
وأبو يعلى الصغير من الحنابلة (2) .
دليل من قال: يجب إدخال الحشفة.
(1146-19) ما رواه مسلم من طريق هشام بن حسان، حدثنا حميد ابن هلال، عن أبي بردة،
عن أبي موسى الأشعري قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت، فاستأذنت على عائشة، فأذن لي، فقلت لها: يا أماه - أو يا أم المؤمنين- إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك؟ فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل.
_________
(1) انظر فصل: وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وانظر مواهب الجليل (1/308) .
(2) الإنصاف (1/232) .(11/87)
[وقد رواه مالك في الموطأ (1) من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي موسى الأشعري، عن عائشة من قولها بلفظ: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وسبق الكلام على الحديث] (2) .
الدليل الثاني:
(1147-20) ما رواه أحمد من طريق أبي معاوية، عن حجاج بن أرطأة، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه،
عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا التقت الختانان، وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
فهذه الأحاديث تشترط أن يجاوز الختان الختان، وبعضها يقول: وتوارت الحشفة، وهو تفسير لمجاوزة الختان الختان، لأن ختان الرجل لا يجاوز موضع الختان من المرأة إلا وقد توارت الحشفة.
قال النووي: بين الشيخ أبو حامد فرج المرأة , والتقاء الختانين، بياناً شافياً، فقال هو وغيره: ختان الرجل: هو الموضع الذي يقطع منه في حال الختان، وهو ما دون حزة الحشفة.
_________
(1) الموطأ (106) .
(2) سبق تخريجه مفصلاً: انظر حديث رقم (2140) .
(3) المسند (2/178) .
(4) لضعف حجاج بن أرطأة، وأخرجه ابن أبي شيبة (1/86) وابن ماجه (611) من طريق أبي معاوية به.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (4489) من طريق أبي حنيفة، عن عمرو بن شعيب به. وزاد: أنزل أو لم ينزل.
وهو موجود في مصنف مسند أبي حنيفة لأبي نعيم (ص: 161) .(11/88)
وأما ختان المرأة - فاعلم - أن مدخل الذكر: هو مخرج الحيض والولد والمني , وفوق مدخل الذكر ثقب مثل إحليل الرجل, هو مخرج البول, وبين هذا الثقب ومدخل الذكر جلدة رقيقة, وفوق مخرج البول جلدة رقيقة مثل ورقة بين الشفرين, والشفران تحيطان بالجميع, فتلك الجلدة الرقيقة يقطع منها في الختان وهي ختان المرأة; فحصل أن ختان المرأة مستعل, وتحته مخرج البول, وتحت مخرج البول مدخل الذكر. قال البندنيجي وغيره: ومخرج الحيض الذي هو مخرج الولد ومدخل الذكر هو خرق لطيف, فإذا افتضت البكر اتسع ذلك الخرق فصارت ثيباً. قال أصحابنا: فالتقاء الختانين أن تغيب الحشفة في الفرج, فإذا غابت فقد حاذى ختانه ختانها, والمحاذاة هي التقاء الختانين, وليس المراد بالتقاء الختانين التصاقهما وضم أحدهما إلى الآخر, فإنه لو وضع موضع ختانه على موضع ختانها, ولم يدخله في مدخل الذكر لم يجب غسل بإجماع الأمة, هذا كلام الشيخ أبي حامد وغيره (1) .
دليل من قال: يكفي بعض الحشفة.
لا أعلم لهم دليلاً من السنة، إلا أن يقال: إذا كان إدخال الحشفة بمثابة إدخال الذكر كله، والحشفة بعض الذكر، فإدخال بعض الحشفة بمنزلة إدخال الحشفة.
وهذا القياس إن كان قد قيل به، فإنه قياس بمقابلة النص، فإن النص علق وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وبمجاوزة الختان الختان، وإدخال بعض الحشفة لا يتحقق هذا الشرط، فلا يجب به غسل، والله أعلم.
_________
(1) المجموع (2/148-149) .(11/89)
[صفحة فارغة](11/90)
فرع
إذا قطعت الحشفة
إذا قطع بعض الذكر فإن كان الباقي دون قدر الحشفة لم يتعلق به شيء من الأحكام باتفاق الأئمة (1) .
وإن كان قدرها فقط تعلقت الأحكام بتغييبه كله دون بعضه.
وإن كان أكثر من قدر الحشفة فقولان:
فقيل: لا بد لوجوب الغسل من تغييب جميع الباقي، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: يتعلق الحكم بقدر الحشفة منه، وهو مذهب الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، ووجه في مذهب الشافعية رجحه النووي (5) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (6) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/162) و (4/5) حاشية الطحطاوي (ص: 63) ، الفواكه الدواني (1/117) ، المجموع (2/151) ، شرح العمدة (1/360) ،
(2) قال النووي في الروضة (1/82) : " ولنا وجه أن تغييب قدر الحشفة لا يوجب الغسل، وإنما يوجبه تغييب جميع الباقي إن كان قدر الحشفة فصاعداً. قال النووي: هذا الوجه مشهور، وهو الراجح عند كثير من العراقيين، ونقله صاحب الحاوي عن نص الشافعي رحمه الله، ولكن الأول أصح - يعني أنه يكفي أن يغيب قدر الحشفة- اهـ وانظر حلية العلماء
(1/170) ، شرح زبد ابن رسلان (ص: 56) .
(3) البحر الرائق (1/61) ، حاشية الطحطاوي (ص: 63) ، حاشية ابن عابدين
(1/162) .
(4) حاشية الدسوقي (1/528) ، الفواكه الدواني (1/117) .
(5) حلية العلماء (1/170) ، الوسيط (1/339) ، مغني المحتاج (1/71) .
(6) المبدع (1/182) ، دليل الطالب (ص: 14) .(11/91)
دليل من قال: لابد من إيلاج جميع الذكر.
الأصل أن الغسل يتعلق بإيلاج الذكر كله؛ لأنه آلة الجماع، جاء الدليل بوجوب الغسل بإدخال الحشفة، فقلنا به بموجب الدليل، فإذا لم توجد الحشفة رجعنا إلى المتيقن، وهو وجوب الغسل بإيلاج الذكر كله، ولا يوجد دليل على أن إيلاج مقدار الحشفة من الذكر موجب للغسل، وقياس غير الحشفة على الحشفة قياس مع الفارق، فإن الحشفة من الذكر، هي مجمع الشهوة من العضو.
دليل من قال: يكفي إيلاج مقدار الحشفة.
دليل هذا القول: هو القياس على الحشفة، فإذا كان مقدار الحشفة يوجب الغسل، فإدخال مقدار الحشفة من الذكر عند عدم الحشفة موجب للغسل أيضاً، والله أعلم.(11/92)
المبحث السادس
في الإيلاج في الدبر
اختلف الفقهاء في الإيلاج في الدبر، هل يوجب الغسل؟
فقيل: يوجب الغسل، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: لا يوجب الغسل، وهو قول آخر غير مشهور عن مالك (2) ، واختيار ابن حزم (3) .
دليل من قال: يوجب الغسل.
الدليل الأول:
قال تعالى عن قوم لوط: {إنكم لتأتون الفاحشة} (4) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/61) ، تبيين الحقائق (1/16،17) ، شرح فتح القدير (1/63) .
وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/129) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/164) .
وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/37) ، البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/234) .
وقال النووي في المجموع (2/149) : أما إيلاج الحشفة فيوجب الغسل بلا خلاف عندنا, والمراد بإيلاجها إدخالها بكمالها في فرج حيوان آدمي أو غيره, قبله أو دبره, ذكر أو أنثى, حي أو ميت, صغير أو كبير, فيجب الغسل في كل ذلك, والله أعلم.
وفي مذهب الحنابلة: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/57) ، المغني (1/131) .
(2) قال الدسوقي في حاشيته (1/129) وفي قول شاذ لمالك، أن التغييب في الدبر لا يوجب غسلاً حيث لا إنزال ". وقال في مواهب الجليل (1/308) : وحكى ابن رشد رواية عن مالك لا غسل في الوطء في الدبر. اهـ
(3) المحلى (1/274) مسألة: 187.
(4) العنكبوت: 28.(11/93)
وقال عن الزنا في القبل: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} (1) .
وقال تعالى: {واللذان يأتيانها منكم} (2) .
فجعل هاهنا فاحشة، وهاهنا فاحشة، فسمي هذا كما سمي هذا، فكان الموجب في هذا كالموجب في تلك.
الدليل الثاني:
إذا كان الإيلاج في الدبر يوجب الحد، فكذلك يوجب صاعاً من ماء.
الدليل الثالث:
قالوا: إن الإيلاج في الدبر سبب لنزول المني عادة، مثل الإيلاج في السبيل المعتاد، والسبب يقوم مقام المسبب خصوصاً في موضع الاحتياط (3) .
دليل من قال: لا يوجب الغسل.
الدليل الأول:
عدم الدليل الموجب للغسل، والغسل لا يجب إلا بدليل شرعي، ولم يأت نص من الشارع على وجوب الغسل في الإيلاج في الدبر، وإنما النصوص الواردة جاءت بالتقاء الختانين، {وما كان ربك نسياً} (4) .
الدليل الثاني:
كون الإيلاج محرماً لا يكفي لوجوب الغسل، فالقتل والكذب والغيبة محرمات بأدلة قطعية، ومع ذلك لا يجب الغسل منها.
_________
(1) النساء: 15.
(2) النساء: 16.
(3) بدائع الصنائع (1/36) .
(4) مريم: 64.(11/94)
الدليل الثالث:
أن هذا المحل لم يخلق للجماع، وبالتالي لا يوجب الغسل الإيلاج فيه، كما لا يوجب الغسل الإيلاج في فخذ المرأة أو في إبطها أو عكن بطنها أو نحو ذلك، والدليل على أنه لم يخلق لهذا قوله تعالى إنكاراً على قوم لوط
{أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من
أزواجكم} (1) .
وكونه يسمى فاحشة فلا يكفي هذا لوجوب الغسل، بل جاء إطلاق الفاحشة على غير الجماع قال تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} (2) .
وقد ذكر المفسرون أن الآية نزلت فيمن يطوف بالبيت عرياناً، ومع ذلك من تعرى أمام الناس لا يجب عليه الغسل، وإن كان فعله من الفواحش، والله أعلم (3) .
والقول بعدم وجوب الغسل قول قوي، والغسل أحوط، والله أعلم.
_________
(1) الشعراء (165-166) .
(2) الأعراف: 28.
(3) تفسير الطبري (8/154) .(11/95)
[صفحة فارغة](11/96)
فرع
في إدخال الأصبع ونحوها في الفرج
قد يدخل الإنسان أصبعه في قبل أو دبر، وقد يدخل الطبيب آلة تعرف بالمنظار للكشف على الجهاز الهضمي عن طريق الدبر، فهل يوجب مثل هذا الغسل؟
فقيل: لا يوجب الغسل، وهو مذهب الأئمة (1) .
وقيل: إذا أدخل أصبعه في دبره وجب عليه الغسل، وهو قول في مذهب الحنفية (2) .
دليل من قال: لا يجب الغسل.
بأن الأصبع ليس آلة للجماع، فلا يجب فيه غسل، سواء أدخله في قبل أو دبر، وسواء وجدت الشهوة أم لم توجد، مثله تماماً لو استنكح يده، ووجد اللذة بذلك إلا أنه لم ينزل، فلا يجب في ذلك غسل، لأن اليد لم تخلق للنكاح.
دليل من قال: يجب عليه الغسل.
ربما قاسه على كلام لبعض الفقهاء من وجوب قضاء الصيام بمثل هذا الفعل، وأن الفاعل قد يجد لذة بذلك. وهذا كلام ضعيف، ولا دليل عليه البتة والله أعلم.
_________
(1) البحر الرائق (1/62) ، حاشية ابن عابدين (1/166) ، التاج والإكليل (1/449) ، المجموع (2/156) .
(2) البحر الرائق (1/62) .(11/97)
[صفحة فارغة](11/98)
المبحث السابع
إذا أولج ذكره في قبل أو دبر مع وجود حائل
لو أدخل الرجل ذكره في كيس أو لف عليه خرقة، ثم أدخل ذكره في قبل أو دبر امرأة، فهل عليهما الغسل؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة،
فقيل: لا غسل عليه مطلقاً، وهو وجه في مذهب الشافعية (1) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو قول لبعض المالكية (3) ، وأصح الأوجه في مذهب الشافعية (4) ، ووجه في مذهب الحنابلة (5) .
وقيل: إن كان الحائل رقيقاً وجب الغسل، وإن كان كثيفاً لم يجب، قال الحطاب المالكي: وهو الأشبه بمذهبنا (6) ، اهـ وهو وجه في مذهب الشافعية (7) .
_________
(1) حلية العلماء (3/269) ، المجموع (2/152) ، روضة الطالبين (1/82) .
(2) كشاف القناع (1/143) ، الإنصاف (1/232) ، المستوعب (1/228) .
(3) مواهب الجليل (1/308) .
(4) قال النووي في الروضة (1/82) : " ولو لف على ذكره خرقة، فأولجه، وجب الغسل على أصح الأوجه، ولا يجب في الثاني، والثالث: إن كانت الخرقة خشنة: وهي التي تمنع وصول بلل الفرج إلى الذكر، وتمنع وصول الحرارة من أحدهما إلى الأخر لم يجب، وإلا وجب. اهـ
وقال النووي في المجموع (2/152) : ولو لف على ذكره خرقة، وأولجه بحيث غابت الحشفة، ولم ينزل، ففيه ثلاثة أوجه حكاها الماوردي والشاشي في كتبه والروياني وصاحب البيان وغيرهم: الصحيح وجوب الغسل عليهما، وبه قطع الجمهور. الخ كلامه رحمه الله تعالى. وانظر مغني المحتاج (1/69) .
(5) المستوعب (1/228) .
(6) مواهب الجليل (1/308) ، وانظر حاشية العدوي (1/183) .
(7) المجموع (2/152) .(11/99)
وفسر المالكية الخفيفة: ما يحصل معها اللذة.
وفسرها بعض الشافعية: بحيث لا تمنع وصول بلل الفرج إلى الذكر، ولا يمنع وصول الحرارة إليه.
دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقاً.
قالوا: إن الإيلاج إنما هو وقع على الخرقة، ولم يمس الذكر الفرج، والدليل على أنه لم يقع مماسة أن هذه الأكياس يستعملها حتى المبتلى بأمراض جنسية معدية كمرض نقص المناعة، ولا تنتقل العدوى مع وجود هذه العوازل، وقياساً على القول بنقض الوضوء من مس الذكر ومس المرأة، فكما أنه لا ينقض الوضوء مس الذكر بحائل، وكذلك لا ينقض الوضوء مس المرأة بحائل على من يقول بالنقض من المس، فكذلك لا يوجب الغسل إيلاج بحائل، فلا بد من وجود مماسة بين الفرج وبين الذكر، وهذا ما لم يحصل.
دليل من قال: يجب الوضوء مع الحائل.
قالوا: إن الحكم متعلق بالإيلاج، وقد حصل.
دليل من قال بالتفريق بين الرقيق والغليظ.
إذا سلمنا أن إيلاج الذكر في الفرج موجب للغسل بدون إنزال، وكان هذا الحائل رقيقاً لم يمنع كمال اللذة والإحساس بحرارة المكان، وقد يصل بلل الفرج إلى الذكر، فوجود العازل كعدمه حيث يجد مع العازل ما يجده بدونه.(11/100)
الراجح: القول بأن الجماع مع وجود هذه الأكياس كالجماع بدونها من حيث اللذة والحرارة قول ليس دقيقاً، وكل من جرب هذه الأكياس يشعر بأن وجودها يكون على حساب كمال الاستمتاع واللذة، فالقول بعدم وجوب الغسل قول قوي، والغسل أحوط للدين خاصة أن الأمر يتعلق بالركن العملي الأول في الإسلام، والله أعلم.(11/101)
[صفحة فارغة](11/102)
الفرع الأول
إذا أولج في قبل أو دبر خنثى مشكل
إذا أولج الرجل في دبر خنثى مشكل، كان على الخلاف في الإيلاج في الدبر، لأن الدبر أصلي لا إشكال فيه، وقد سبق تحرير الخلاف.
فقيل: يجب عليه الغسل، وهو مذهب الجمهور.
وقيل: لا يجب الغسل بالإيلاج في الدبر، وهو رواية عن مالك، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى. وانظر أدلتهم والعزو إلى كتبهم في مسألة الإيلاج في الدبر.
أما إذا أولج رجل في فرج خنثى مشكل، أو أولج خنثى مشكل ذكره في دبر أو قبل،
فقيل: لا يجب عليهما الغسل، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، وقول في مذهب المالكية (4) .
وقيل: يجب عليهما الغسل، وهو المشهور من مذهب المالكية (5) ، ووجه في مذهب الحنابلة (6) .
_________
(1) البحر الرائق (1/63) ، البناية في شرح الهداية (1/274-275) .
(2) المهذب (1/29) ، إعانة الطالبين (1/71) ، روضة الطالبين (1/82) .
(3) الإنصاف (1/235) ، الكافي (1/57) ، كشاف القناع (1/143-144) ، المغني (1/131) .
(4) مواهب الجليل (1/309) .
(5) قال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/162) : والمعتمد وجوب الغسل على قاعدة: أن الشك في الحدث يوجب الغسل. وانظر: حاشية الدسوقي (1/128) ، الفواكه الدواني (1/117) ، حاشية العدوي (1/183) ، الذخيرة (1/292) .
(6) الإنصاف (1/235) .(11/103)
دليل القول بعدم وجوب الغسل من الإيلاج في فرج الخنثى المشكل.
قالوا: إن فرج الخنثى المشكل لا يعلم، هل هو فرج أصلي أو عضو زائد؟ ومع عدم اليقين بحقيقة الحال لا يجب الغسل بمجرد الشك؛ لأن الأصل عدم وجوب الغسل حتى نتيقن الحدث.
واستدلوا على هذه القاعدة:
(1148-21) بما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم،
عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (1)
دليل المالكية على وجوب الغسل.
الدليل الأول:
قالوا: قد تيقنا حصول الإيلاج، وحدث شك، هل هو فرج أصلي أو زائد، فأصبحت طهارته مشكوكاً في بقائها؛ لأن كلا الاحتمالين قائم، ولا بد من اليقين في تحقيق الطهارة، وإنما أوجب الغسل بالشك؛ لأن الطهارة شرط، والشك في الشرط مؤثر، بخلاف الشك في طلاق زوجته، أو عتق أمته، أو في الرضاع فلا يؤثر؛ لأنه شك في المانع، وهو لا يؤثر، وإنما أثر في الشرط دون المانع، لأن العبادة محققة في الذمة فلا تبرأ منها إلا بطهارة محققة، والمانع يطرأ على أمر محقق، وهو الإباحة أو الملك من الرقيق، فلا تنقطع بأمر مشكوك فيه (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (137) ، ومسلم (361) .
(2) الفواكه الدواني (1/237) .(11/104)
الدليل الثاني:
وعملاً بعموم الخبر ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)) وسبق تخريجه.
الدليل الثالث:
القياس على الإيلاج في دبر الخنثى المشكل.
وأجاب المالكية عن حديث عبد الله بن زيد: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) .
بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره إذا شك في الصلاة أن يستمر فيها، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، لأن الخروج من الصلاة محرم، قالوا: وأما إذا شك خارج الصلاة، فالحكم مختلف، فيلزمه أن يأتي بالطهارة بيقين.
قال الدسوقي في حاشيته: من شك، وهو في الصلاة طرأ عليه الشك فيها بعد دخوله، فوجب أن لا ينصرف عنها إلا بيقين، ومن شك خارجها طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب أن لا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (1) .
قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: إن كان ناقضاً خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة كبقية النواقض (2) .
بعد استعراض الأدلة نجد أن مذهب الجمهور أقيس، ومذهب الإمام مالك رحمه الله أحوط، والله أعلم.
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/124) .
(2) فتح الباري (1/238) .(11/105)
[صفحفة فارغة](11/106)
الفرع الثاني
لو غيب الرجل ذكره في دبر نفسه
ذكر بعض الفقهاء هذه الصورة، واختلفوا في وجوب الغسل منها:
فقيل: لا غسل عليه، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يجب عليه الغسل، وهو قول في مذهب الحنفية (2) ، ومذهب المالكية (3) ، والشافعية (4) .
دليل الحنفية:
النصوص الموجبة للغسل وردت في فاعل ومفعول به، فنقتصر على ما ورد فيه النص.
قال ابن عابدين: ((ولأنه أولى من الصغيرة والميتة في قصور الداعي)) . اهـ
ومعناه هذا: أي أن الحنفية لا يوجبون الغسل بالإيلاج في الصغيرة والميتة، فالإيلاج في دبر نفسه من باب أولى لنقص اللذة.
دليل من أوجب الغسل.
العمل بعموم الخبر، فإنه إيلاج ذكر في أحد السبيلين، فمناط الحكم هو إيلاج فرج أصلي في قبل أصلي، وقد تحقق، سواء كان الفاعل والمفعول به
_________
(1) البحر الرائق (1/62) ، حاشية ابن عابدين (1/162) .
(2) حاشية ابن عابدين (1/162) .
(3) حاشية العدوي على الخرشي (1/164) ، حاشية الدسوقي (1/128) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/163) .
(4) حاشية البجيرمي (1/90) .(11/107)
مختلفين أو كانا من شخص واحد كالإنزال، قد يكون سبب الإنزال الاستمتاع بامرأة لا تحل له، وقد يكون سبب الإنزال الاستمتاع بيده، فلا فرق في الحكم في وجوب الغسل، والله أعلم.(11/108)
الفصل الثالث
في الشك في التقاء الختانين أو الشك في إ نزال المني
إذا شك الرجل هل أنزل منياً أو لم ينزل، أو شك، هل التقى الختانين أو لا؟ فهل يوجب هذا الشك الغسل عليه؟ اختلف العلماء في ذلك،
فذهب الجمهور إلى أنه لا يجب عليه الغسل بمجرد الشك حتى يستيقن (1) .
وذهب المالكية إلى وجوب الغسل بالشك (2) .
وأدلة هذه المسألة هي أدلة المسألة السابقة معنا، إذا أولج في فرج خنثى مشكل، فهل يجب عليه الغسل، مع الشك هل هو فرج أصلي أو زائد؟ أو لا يجب عليه الغسل حتى يتيقن أنه فرج أصلي؟ فأغنى ذكر الأدلة هناك عن إعادتها هنا.
ومذهب المالكية في الشك قول ضعيف غير مطرد، فهم يفرقون بين الشك في نجاسة الماء، وبين الشك في نجاسة غيره، ويفرقون بين الشك في نجاسة البدن، وبين الشك في نجاسة الثوب، ويفرقون بين الشك في النجاسة وبين الشك في الحدث، ويفرقون بين الشك في الحدث داخل الصلاة وبين الشك فيه خارجها.
_________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 57) ، شرح فتح القدير (1/186) ، السراج الوهاج (صك 13) ،مغني المحتاج (1/39) ، منهاج الطالبين (1/4) ، المغني (1/130) ، المبدع (1/171) .
(2) الشرح الصغير (1/162) ، الذخيرة (1/302) .(11/109)
وإليك بيان مذهبهم في هذه المسائل.
إذا شك في نجاسة الثوب ونحوه وجب نضحه (1) .
وإذا شك في نجاسة البدن وجب غسله (2) .
وإذا شك في حصول الحدث، ففيه قولان:
فقيل: ينقض مطلقاً، وهو رواية ابن القاسم عن مالك.
وقيل: الشك ينقض الوضوء خارج الصلاة، ولا ينقض داخلها، وهو المشهور من مذهب المالكية (3) ،
ونسب هذا القول للحسن رحمه الله (4) .
_________
(1) قال الدسوقي في حاشيته (1/81) : " يجب غسل النجاسة في حالتين: إذا تحققت النجاسة، أو ظنها ظناً قوياً، ويجب النضح في حالتين: إذا شك في إصابة النجاسة أو ظنها ظناً ضعيفاً. اهـ وانظر مختصر خليل (ص: 9) ، الخرشي (1/116) ، البيان والتحصيل (1/85) .
(2) البيان والتحصيل (1/81) .
(3) جاء في تهذيب المدونة (ص: 181) : " ولو أيقن بالوضوء، ثم شك في الحدث، فلم يدر أأحدث بعد الوضوء أم لا، فليعد وضوءه".اهـ
وقال الخرشي في شرحه (1/157) : من شك في طريان الحدث له بعد علمه بطهر سابق، فإن وضوءه ينتقض إلا أن يكون مستنكحاً بأن يشم في كل وضوء أو صلاة أو يطرأ له في اليوم مرة أو أكثر فلا أثر لشكه الطارئ بعد علم الطهر، ولا يبني على أول خاطر به على ما اختاره ابن عبد السلام؛ لأن من هذه صفته لا ينضبط له الخاطر الأول من غيره، والوجود يشهد لذلك، وإن كان ابن عرفة اقتصر على بنائه على ذلك، وكلام المؤلف فيمن حصل له الشك في طرو الحدث قبل الدخول في الصلاة بخلاف من شك في طرو الحدث في الصلاة أو بعدها فلا يخرج منها ولا يعيدها إلا بيقين؛ لأنه شك طرأ بعد تيقن سلامة العبادة. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/301) ، الثمر الداني (1/200) ، القوانين الفقهية (ص: 21) ، حاشية العدوي (1/431) .
(4) المغني (1/126) .(11/110)
وروى ابن نافع عن مالك أنه لا وضوء عليه مطلقاً كالجمهور (1) .
وأما مذهب المالكية في الشك في الماء، فيعمل بالأصل، وهو الطهارة كمذهب الجمهور (2) .
وقد بسطت أدلتهم والجواب عليها في كتاب المياه من هذا البحث، فارجع إليها إن شئت (3) .
_________
(1) فتح الباري (1/238) .
(2) قال الباجي في المنتقى (1/59) : " إن وجد مريد الطهارة الماء متغيراً، ولم يدر من أي شيء تغير، أَمِنْ معنى يمنع التطهر به، أم مِنْ معنى لا يمنع ذلك؟ فإنه ينظر إلى ظاهر أمره، فيقضي عليه به، فإن لم يكن له ظاهر، ولم يدر من أي شيء هو حمل على الطهارة، روى ذلك ابن القاسم في المجموعة. اهـ
وقال في الفواكه الدواني (1/125) : لو تحققنا تغير الماء، وشككنا في المغير له، هل هو من جنس ما يضر أم لا؟ فهو طهور حيث استوى طرفا الشك، وإلا عمل على الظن، بخلاف ما لو تحققنا التغير وعلمنا أن المغير مما يضر التغير به وشككنا في طهارته ونجاسته فلا يكون طهوراً بل هو طاهر فقط. اهـ
(3) انظر كتاب أحكام الطهارة: المياه والآنية: الباب التاسع: في الشك والاشتباه. الفصل الأول: في حكم الماء ونحوه إذا كان مشكوكاً فيه.(11/111)
[صفحة فارغة](11/112)
الفصل الرابع
من موجبات الغسل إسلام الكافر
اختلف العلماء في إسلام الكافر الأصلي أو المرتد هل يوجب الغسل؟
فقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو قول في مذهب المالكية (1) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: لا يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو قول في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: يستحب الغسل مطلقاً وجد منه ما يوجب الغسل أو لم يوجد، وهو قول في مذهب الحنفية (4) ، وقول في مذهب المالكية (5) ، وقول في مذهب الحنابلة (6) .
وقيل: يستحب الغسل إلا أن يوجد منه ما يوجب الغسل حال كفره
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/130-131) ، مواهب الجليل (1/311) ، وقال القرطبي في تفسيره (8/102) : " والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله... الخ كلامه رحمه الله.
(2) قال في الإنصاف (1/236) : الثالث: إسلام الكافر - أي من موجبات الغسل- أصلياً كان أو مرتداً، هذا المذهب، نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب. الخ كلامه رحمه الله. وانظر الكافي (1/57) ، كشاف القناع (1/145) ، الفروع (1/199) .
(3) الكافي (1/57) .
(4) شرح فتح القدير (1/64) .
(5) حاشية الدسوقي (1/130-131) ، مواهب الجليل (1/311) .
(6) المستوعب (1/230-231) ، قال في الإنصاف (1/236) : وهو أولى.(11/113)
فإنه يجب عليه الغسل، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) .
دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقاً.
الدليل الأول:
(1149-22) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر (4) .
[الحديث إسناده منقطع] (5) .
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/90) : والاغتسال في الحاصل أحد عشر نوعاً: خمسة منها فريضة، ثم ذكرها، ثم قال: وآخر مستحب وهو الكافر إذا أسلم، فإنه يستحب له أن يغتسل، به أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جاءه يريد الإسلام، وهذا إذا لم يكن جنباً، فإن أجنب ولم يغتسل حتى أسلم، فقد قال بعض مشايخنا: لا يلزمه الغسل؛ لأن الكفار لا يخاطبون بالشرائع والأصح أنه يلزمه. الخ كلامه رحمه الله تعالى. وانظر الفتاوى الهندية (1/16) ، البحر الرائق (1/69) ، شرح فتح القدير (1/64) .
(2) حاشية الدسوقي (1/131-132) .
(3) الحاوي الكبير (1/217) ، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/71) ، كفاية الأخيار (1/47) .
(4) المسند (5/61) .
(5) اختلف فيه على سفيان:
فرواه عبد الرزاق في المصنف (9833) .
وأحمد (5/61) والترمذي (605) وابن خزيمة (255) عن عبد الرحمن بن مهدي.
وأبو داود (355) حدثنا محمد بن كثير العبدي.
وأخرجه النسائي (188) وابن خزيمة (255) وابن حبان (1240) من طريق يحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه ابن الجاورد في المنتقى (14) من طريق أبي عامر.
وأخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (885) ، والطبراني في الكبير (18/338) رقم 866، والبيهقي في السنن (1/171) من طريق أبي عاصم.
كلهم (ابن مهدي والقطان وعبد الرزاق والعبدي وأبو عامر وأبو عاصم) رووه عن سفيان، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس بن عاصم.
ورواه وكيع، واختلف عليه فيه:
فرواه أحمد في المسند (5/61) حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأغر المنقري، عن خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم، عن أبيه، أن جده أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يغتسل بماء وسدر.
فزاد في الإسناد حصين بن قيس، وحصين بن قيس لم يرو عنه إلا ابنه، وذكره ابن حبان في الثقات (4/156) فهو مجهول.
وأخرجه أبو علي بن السكن في كتابه السنن كما في كتاب الوهم والإيهام (2/429) من طريق علي بن خشرم، عن وكيع به بنفس إسناد الإمام أحمد رحمه الله.
ورواه ابن سعد في الطبقات (7/37) .
والبيهقي في السنن (1/171) من طريق سعدان بن نصر، كلاهما عن وكيع، عن سفيان، عن الأغر، عن خليفة بن حصين أن جده قيس بن عاصم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -.... فذكر الحديث.
وهذه الرواية عن وكيع، عن سفيان موافقة لرواية الجماعة عن سفيان.
وتابع قبيصة بن عقبة وكيعاً بذكر زيادة (حصين بن قيس) ، أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/396) و (3/187) ، ومن طريقه البيهقي (1/172) .
فهل يسلك في الطريقين طريق الترجيح أو يقال: إن خليفة بن حصين عنعنه عن جده، وقد دلسه، وقد تبين من جمع الطرق وجود الراوي الساقط، في هذا قولان لأهل العلم.
قال أبو حاتم في العلل (1/24) هذا خطأ، أخطأ قبيصة في هذا الحديث، إنما هو الثوري، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس.
وقد علمت بأن قبيصة لم ينفرد بالحديث عن سفيان، بل رواه وكيع عن سفيان بالزيادة أيضاً، والراوي عن وكيع أمة في الحفظ، وهو الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وتابعه غيره كما سلف.
ورجح ابن القطان الفاسي وابن السكن، أن الحديث من رواية خليفة بن حصين، عن أبيه، عن جده.
قال ابن السكن كما في كتاب الوهم والإيهام (2/429) : هكذا رواه وكيع مجوداً عن أبيه، عن جده.
وقال ابن القطان: في كتابه الوهم والإهام (2/429) : فقد تبين أن رواية يحيى ومحمد ابن كثير عن سفيان منقطعة، فإنه كانت معنعنة، فجاء وكيع - وهو في الحفظ من هو - فزاد في الإسناد (عن أبيه) فارتفع الإشكال، وتبين الانقطاع. ثم نقول: فإذ لا بد في هذا الإسناد من زيادة حصين بن قيس، بين خليفة وقيس، فالحديث ضعيف؛ فإنه زيادة عادت بنقص، فإنها ارتفع بها الانقطاع، وتحقق ضعف الخبر، فإن حاله مجهولة، بل هو في نفسه غير مذكور، ولم يجر له ذكر في كتابي البخاري وابن أبي حاتم إلا غير مقصود برسم يخصه، أما البخاري فإنه لما ذكر خليفة بن حصين قال: روى عن أبيه.
وأما ابن أبي حاتم فإنه لما ذكر قيس بن عاصم، قال: روى عنه ابن ابنه خليفة بن حصين، فأما في باب من اسمه حصين فلم يذكر، وابنه خليفة ثقة، وكذلك الأغر بن الصباح، فاعلم ذلك. اهـ كلام ابن القطان رحمه الله.
ونقل ابن دقيق العيد كلام ابن السكن وكلام ابن القطان، ولم يتعقبه بشيء انظر كتاب الإمام في معرفة أحاديث الأحكام (3/37) .
ورواه الطبراني في الكبير (18/338) رقم 867 من طريق يحيى الحماني، ثنا قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن قيس بن عاصم، أنه قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستخلاه، فأمره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر، فاغتسل، فأقيمت الصلاة، فدخل بين أبي بكر وعمر، فقام بينهما، فلما قضي الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد سألني قيس بن عاصم ثلاث كلمات، ما سألني عنهن غير أبي بكر.
ورواه أبو بكر أحمد بن عبد الله البرقي في تاريخه كما في كتاب الإمام لابن دقيق العيد
(3/37) من طريق عبد الرحيم بن سليمان، عن قيس بن الربيع به، بلفظ: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر، وأن يقوم بين أبي بكر وعمر، فيعلمانه.
وهذه الزيادة في حديث قيس بن الربيع زيادة منكرة.
وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (5/210) ، التحفة (11100) ، إتحاف المهرة (16356) .(11/114)
الدليل الثاني:
(1150-23) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبيد الله وعبد الله ابنا عمر، عن سعيد المقبري،
عن أبي هريرة أن ثمامة الحنفي أسر، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إليه، فيقول: ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمن تمن على شاكر، وإن ترد المال تعط منه ما شئت، وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا، فمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فأسلم، فحله، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل، وصلى ركعتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد حسن إسلام إخيكم (1) .
[في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالغسل، وهو غير محفوظ، وإنما المحفوظ أنه اغتسل من قبل نفسه كما هي رواية الصحيحين، كما أن المحفوظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مَنَّ عليه بإطلاق سراحه قبل أن يعلن إسلامه، فذهب واغتسل، ثم أعلن إسلامه، فكان غسله قبل أن يعلن إسلامه خلاف
_________
(1) المصنف (9834) . ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن الجارود في المنتقى (15) ، وابن خزيمة (253) ، وأبو عوانة (6699) ، وابن حبان (1238) ، والبيهقي في السنن (1/171) .
وأخرجه ابن حبان في الثقات (1/280) من طريق عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر وحده به.
وأخرجه أحمد (2/304) حدثنا عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن عمر وحده به، ولفظه: " اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل ".(11/117)
هذا الحديث] (1) .
_________
(1) انفرد بهذا الحديث العمريان: عبيد الله وعبد الله ابنا عمر، وقد رواه غيرهما عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وليس فيه الأمر بأن يغتسل، وإنما فيه أنه اغتسل، وقد كنت أحمل على عبد الرزاق في المخالفة، إلا أني وقفت على راو آخر وهو عبد الرحمن بن مهدي يرويه عن عبد الله بن عمر المكبر، وفيه الأمر بالغسل، كما جاء في علل الخلال نقلاً من كتاب الإمام في معرفة أحاديث الأحكام (3/38) عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن سريج، عن عبد الله بن عمر - يعني العمري - عن سعيد المقبري به، وفيه: فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينطلق إلى حائط أبي طلحة، فيغتسل. فخرج عبد الرزاق من عهدته، والله أعلم.
وقد قُرِنَتْ رواية عبد الله بن عمر الضعيف برواية أخيه عبيد الله الثقة، وكنت أعتقد أن اللفظ لعبد الله وحده، لأنه يبعد أن يكون عبيد الله بن عمر، وهو الثقة ينفرد بألفاظ في هذا الحديث ليست محفوظة، منها الأمر بالغسل، ومنها أنه اغتسل بعد إسلامه، ومنها أن إطلاق سراحه كان بعد أن أعلن إسلامه، وكل هذه الألفاظ مخالفة لرواية الصحيحين، بل ومخالف لكل من روى الحديث ولو خارج الصحيح، وقد وقفت على طريق عبد الله بن عمر منفرداً، وفيه الأمر بالغسل، كما سبق ذكره من طريق ابن مهدي وسريج، وقد كان من سبيل أهل الحديث الحمل على الضعيف وتبرئة الثقة إذا وجد إلى ذلك سبيل، خاصة أن هذه المخالفات تليق بحال عبد الله بن عمر لما عرف من سوء حفظه، إلا أني وقفت على طريق عند البزار كما في كشف الأستار (333) حدثنا سلمة بن شبيب وزهير بن محمد - واللفظ لزهير - أنا عبد الرزاق، أنا عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال رضي الله عنه أسلم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر.
وقد انفرد البزار بهذا الطريق، وكل من رواه من طريق عبد الرزاق إنما رواه مقروناً برواية أخيه عبد الله، فإن كان طريق البزار محفوظاً فهذا يبين أن الوهم من عبيد الله وأخيه، وأنا أشك في ذلك، لأن البزار فيه لين، وانفراده بهذا الطريق يجعل في النفس منه شيئاً، والموجود في مصنف عبد الرزاق روايته عن الأخوين مقرونين (9834) .
وقد رواه جمع من الحفاظ عن عبد الرزاق عن العمريين مقرونين، منهم:
الأول: محمد بن يحيى الذهلي، كما في المنتقى لابن الجارود (15) ، وصحيح ابن خزيمة (253) ، ومسند أبي عوانة (6699) ، والسنن الصغرى للبيهقي (1/113) ، وفي الكبرى
(1/171) .
الثاني: سلمة بن شبيب، كما في صحيح ابن حبان (1238) ، وهذه الواية عن سلمة تخالف رواية البزار عنه، حيث رواه سلمة عن عبد الرزاق، عن عبيد الله وعبد الله، بل إن ابن حبان رواه في الثقات (1/280) من طريق سلمة بن شبيب، ثنا عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر المكبر وحده.
الثالث: النجار، كما في الأوسط لابن المنذر (2/115) .
الرابع: أبو الأزهر، كما في سنن البيهقي الصغرى (1/113) ، والكبرى (1/171) .
وسواء جعلنا الوهم من عبد الله أو من أخيه عبيد الله إلا أن الحديث من هذا الطريق قد انفرد بالأمر بالغسل، والمحفوظ أن ثمامة هو الذي اغتسل من قبل نفسه، وقبل أن يعلن إسلامه، وإليك بيان من وقفت عليه ممن روى الحديث، ولم يذكر الأمر بالغسل:
الأول: الليث بن سعد، وهو في البخاري (462، 469، 2422، 2423، 4372) ومسلم (1764) ، وأبو داود (2679) ، والنسائي (189) ، وابن خزيمة (252) ، وابن حبان (1239) ، والبيهقي (1/171) .
وأنقل إليك لفظ البخاري لتعرف قدر المخالفة في لفظ العمريين عن لفظ الصحيح،
فقد رواه البخاري (4372) من طريق الليث، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد،
أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال عندي ما قلت لك، فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ
الثاني: عبد الحميد بن جعفر، كما في صحيح مسلم (1764) ، وأبي عوانة (6696) ، والبيهقي في السنن (9/65) .
الثالث: ابن عجلان، كما في مسند أحمد (2/246) إلا أنه قال: فذهبوا به إلى بئر الأنصار، فغسلوه، فأسلم.... الخ الحديث، وليس فيه الأمر بالاغتسال، وإن كان هذا مخالف لما في الصحيحين من كونه انطلق هو فاغتسل.
الرابع: محمد بن إسحاق، واختلف عليه في إسناده،
فرواه البيهقي في السنن (9/66) وفي الدلائل (4/79-80) من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وفيه: " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أطلقوه، فقد عفوت عنك يا ثمام، فخرج ثمامة حتى أتى حائطاً من المدينة، فاغتسل فيه، وتطهر، وطهر ثيابه، ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو جالس في المسجد... وذكر الحديث. وليس فيه أنه أمره بالغسل.
ورواه البيهقي في الدلائل (4/181) من طريق محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، فزاد في إسناده (والد سعيد المقبري) وهو وهم.
ورواه أحمد (2/304) حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي- حدثنا عبد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد به، بلفظ: أن ثمامة بن أثال أو أثالة أسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل. ومن طريق أحمد أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/36) .(11/118)
ويحتمل أن يكون ثمامة اغتسل لمقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان في الأسر ثلاثة أيام، وهو كبير قومه، فلما أطلق سراحه وكان يريد الجلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، لإعلان إسلامه رأى أن يحسن من حاله، خاصة أن بلاد الحجاز بلاد حارة، كما أنه يليق بثمامة وهو كبير قومه، وقد نوى أن يقابل رجلاً مثل النبي - صلى الله عليه وسلم -(11/120)
أن يُحَسِّنَ من هيئته ما استطاع، فكان غسله ليطرد عنه رائحة العرق، وقد وقع غسله قبل أن يعلن إسلامه، فإذا قلنا: تشترط النية للغسل، فقبل إعلان إسلامه ليس من أهل العبادة، فلا يصح غسله عن غسل الإسلام على القول بوجوب الغسل.
الدليل الثالث:
(1151-24) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن إدريس بن مطيب المصيصي، حدثنا سليم بن منصور بن عمار، حدثنا أبي، حدثنا معروف أبو الخطاب،
عن واثلة بن الأسقع لما أسلمت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: اغتسل بماء وسدر، واحلق عنك شعر الكفر.
قال الطبراني: لم يروه عن واثلة بن الأسقع إلا بهذا الإسناد، تفرد به منصور بن عمار (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المعجم الصغير (880) .
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/82) رقم: 199. وأخرجه الحاكم في المستدرك (6428) من طريق محمد بن إسماعيل بن مهران، ثنا سليم بن منصور به.
ورواه صاحب طبقات المحدثين بأصبهان (3/238-239) من طريق عامر بن عامر، ثنا سليم بن منصور به.
وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (13/71) من طريق أبي الحسن أحمد بن الحسن الصوفي، قال: سمعت سليم بن منصور به.
وفي إسناده منصور بن عمار، جاء في ترجمته:
قال أبو حاتم: ليس بالقوي، صاحب مواعظ. الجرح والتعديل (8/176) .
وقال ابن حبان: أخباره في القصص والحث على الخير أكثر من أن يحتاج إلى ذكرها، وليس من أهل الحديث الذين يحفظون، وأكثر روايته عن الضعفاء. الثقات (9/170) .
وقال العقيلي: لا يقيم الحديث، وكان فيه تجهم من مذهب جهم. الضعفاء الكبير... (4/193) .
وقال الدارقطني: يروي عن ضعفاء أحاديث لا يتابع عليها. لسان الميزان (6/98) .
وأما ابنه سليم بن منصور، فله ترجمة في الجرح والتعديل (4/216) : قال ابن أبي حاتم: روى عنه أبى، وسألته عنه، فقلت أهل بغداد يتكلمون فيه؟ فقال: مه، سألت ابن أبى الثلج عنه، فقلت له: إنهم يقولون: كتب عن ابن عليه، وهو صغير، فقال: لا، كان هو أسن منا. وترجم له الخطيب في تاريخ بغداد (9/232) ونقل كلام أبي حاتم المتقدم.
وفي الإسناد معروف الخياط، جاء في ترجمته:
قال أبو حاتم: ليس بالقوي. الجرح والتعديل (8/322) .
وقال ابن عدي: هذه الأحاديث لمعروف عن واثلة منكرة جداً، ثم قال: ومعروف هذا عامة ما يرويه، وما ذكرته أحاديث لا يتابع عليه. الكامل (6/327) .
وقال الحافظ ابن حجر: أورد له ابن عدي في ترجمته عدة أحاديث منكرة من رواية عمر بن حفص المعمر، والبلية فيه، لا من معروف. تهذيب التهذيب (10/209) .
وفي التقريب: ضعيف.
فالحديث ضعيف، وقد ضعفه الحافظ في تلخيص الحبير (2/68) .(11/121)
الدليل الرابع:
(1152-25) ما رواه الطبراني من طريق أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني، ثنا قتادة بن الفضل بن قتادة الرهاوي، عن أبيه، حدثني عم أبي هشام ابن قتادة الرهاوي،
عن أبيه، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: يا قتادة اغتسل بماء وسدر، واحلق عنك شعر الكفر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر من أسلم أن(11/122)
يختتن، وإن كان ابن ثمانين سنة (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الخامس:
(1153-26) قال ابن دقيق العيد: وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن نافع،
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أسلم أن يغتسل (3) .
[مع كونه ساقه معلقاً، فإسناده ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) المعجم الكبير (19/14) رقم 20.
(2) ترجمة الإسناد:
قتادة بن الفضل بن قتادة الرهاوي، سأل ابن أبي حاتم أباه عنه، فقال: شيخ. الجرح والتعديل (7/135) .
وذكره ابن حبان في الثقات (9/22) .
وليس له رواية في الكتب الستة أو في المسند.
الفضل بن قتادة، ذكره البخاري في التاريخ الكبير، ولم يذكر فيه شيئاً. التاريخ الكبير (7/115) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/317) . وليس له رواية في المسند أو في الكتب الستة.
ـ هشام بن قتادة، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/68) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/503) .
وضعفه الحافظ في تلخيص الحبير (2/68) .
(3) الإمام (3/39) .
(4) في إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، وهو متروك.
قال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (356) .
وقال أحمد: ليس يسوى حديثه شيئاً، خرقنا حديثه، سمعت منه، ثم تركناه، وكان ولي قضاء المدينة، أحاديثه مناكير، وكان كذاباً حرقت أحاديثه منذ دهر. الكامل (4/277) .
وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن عمه ما ليس من حديثه، وذاك أنه يهم، فيقلب الإسناد، ويلزق المتن بالمتن، يفحش ذلك في روايته، فاستحق الترك. المجروحين (2/53) .
وفي التقريب: متروك.(11/123)
الدليل السادس:
(1154-27) قال ابن دقيق العيد: وروي من حديث سالم بن سالم، عن أبي المغيرة،
عن أبي البراء رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أسلم أن يغتسل بماء وسدر (1) .
[إسناده ضعيف مع كونه ساقه معلقاً] (2) .
_________
(1) الإمام في معرفة أحاديث الأحكام (3/39) .
(2) في إسناده سلم بن سالم البلخي، وقد ضعفوه،
قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: سلم بن سالم البلخي ليس بذاك في الحديث، كأنه ضعفه. الجرح والتعديل (4/266) .
وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: سلم بن سالم ضعيف الحديث، وترك حديثه ولم يقرأه علينا. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سئل أبو زرعة عن سلم بن سالم فقال: أخبرني بعض الخراسانيين، قال: سمعت ابن المبارك يقول: اتق حيات سلم بن سالم لا تلسعك.
وقال أيضاً: سمعت أبا زرعة يقول ما أعلم أنى حدثت عن سلم بن سالم إلا أظنه مرة، قلت: كيف كان في الحديث؟ قال: لا يكتب حديثه، كان مرجئاً، وكان لا - وأومى بيده إلى فيه- يعنى لا يصدق.(11/124)
دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقاً.
الدليل الأول:
عدم قيام دليل صحيح يوجب الغسل على الكافر إذا أسلم، والأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل صحيح، وقد رأينا من خلال ذكر أدلة القائلين بالوجوب بأنها أدلة ضعيفة.
الدليل الثاني:
ما أكثر الصحابة الذين أسلموا، ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالغسل، ولو كان الغسل واجباً، لكان هذا الحكم مشهوراً؛ لحاجة الناس إليه، ولجاءت به النصوص الصحيحة؛ لأنه ما من أحد أسلم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا ويحتاج إلى معرفة هذا الحكم، فكونه ينفرد بهذا الحكم حصين بن قيس، وهو غير معروف، ولم يرو عنه إ لا ابنه يجعل في النفس شيئاً من إيجاب مثل هذا الحكم، لا سيما أننا قد علمنا أن حديث ثمامة في الأمر بالغسل حديث شاذ مخالف لرواية الصحيحين وغيرهما.
وأجيب:
كونه لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من أسلم بالغسل بعد إسلامه، فيقال: إن عدم النقل ليس نقلاً للعدم؛ لأن الأصل العمل بما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يلزم أن ينقل العمل به من كل واحد؛ ولأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - واحداً من الأمة أمر لجميع الأمة.
ورد هذا:
بأن هذا الجواب مسلم لو ثبت الأمر النبوي لواحد من الأمة، وإذا لم يثبت كما تبين من خلال الكلام على إسناد الأحاديث فلا يصح أن يقال: إنه قد ثبت الأمر به لواحد من الأمة فيكون أمراً للجميع.(11/125)
الدليل الثالث:
بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن ليدعو أهل الكتاب إلى الإسلام، وأخبره بأن يدعوهم إلى الشهادتين، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة وهكذا، ولم يخبره بأن من أسلم فعليه أن يغتسل، ولو كان لزاما ً على كل كافر دخل في الإسلام أن يغتسل لنبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى هذا، والله أعلم.
(1155-28) فقد روى البخاري رحمه الله من طريق يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب. ورواه مسلم (1) .
دليل من قال: يستحب له الغسل مطلقاً.
أخذ من حديث قيس بن عاصم وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالغسل بأن الأمر للاستحباب، والذي حمله على صرف اللفظ عن ظاهره، كون الذي أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير، ولم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرهم بالغسل، فصار هذا قرينة لصرف الأمر من الوجوب إلى الندب.
_________
(1) البخاري (1496) ، ومسلم (19)(11/126)
وهذا التوجيه حسن لو صح حديث قيس بن عاصم، أما من لم يصحح الحديث، ولا يرى ثبوت الأحكام الشرعية بالأحاديث الضعيفة، فإن الأصل براءة الذمة حتى يثبت دليل صحيح خال من النزاع، وهذا ما لم يتحقق في مسألتنا هذه، والله أعلم.
دليل من قال: يجب عليه الغسل إن كان جنباً حال كفره.
قالوا: لا خلاف في أن الكافر إذا بال في حال كفره، ثم أسلم، أنه يلزمه الوضوء إذا أراد الصلاة، فإذا كان ذلك في الحدث الأصغر، فكذلك الحدث الأكبر، فإذا أجنب قبل أن يسلم، ثم أسلم، فإنه يلزمه الغسل قياساً على البول.
وأجيب:
بأن الله سبحانه وتعالى قال: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (1) .
ولحديث عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الإسلام يهدم ما قبله)) رواه مسلم.
ولأنه أسلم خلق كثير لهم الزوجات والأولاد , ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغسل وجوباً, ولو وجب لأمرهم به.
ولأن الكافر إذا أسلم لا يطالب بقضاء الصلاة ولا بقضاء الصوم، فكذلك لا يطلب بما فعله حال كفره قبل أن يلتزم أحكام الإسلام.
وأما القياس على البول فهو قياس مع الفارق، فهو لم يجب عليه الوضوء للصلاة بسبب الحدث السابق حال كفره، وإنما هو مخاطب عند القيام إلى
_________
(1) الأنفال: 38.(11/127)
الصلاة بأن يكون على طهارة، وهو لم يفعلها، وقد قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم....} (1) الآية، فكان فعله الوضوء بناء على امتثال أمر الله سبحانه وتعالى حال إسلامه، وليس بسبب الحدث القائم وقت كفره.
ورده النووي بقوله:
أما الآية الكريمة والحديث فالمراد بهما غفران الذنوب, فقد أجمعوا على أن الذمي لو كان عليه دين أو قصاص لا يسقط بإسلامه, ولأن إيجاب الغسل ليس مؤاخذة وتكليفاً بما وجب في الكفر, بل هو إلزام شرط من شروط الصلاة في الإسلام فإنه جنب والصلاة لا تصح من الجنب, ولا يخرج بإسلامه عن كونه جنباً، والجواب عن كونهم لم يؤمروا بالغسل بعد الإسلام أنه كان معلوماً عندهم, كما أنهم لم يؤمروا بالوضوء لكونه معلوماً لهم, والفرق بين وجوب الغسل ومنع قضاء الصوم والصلاة من وجهين.
أحدهما: ما سبق أن الغسل مؤاخذة بما هو حاصل في الإسلام، وهو كونه جنباً بخلاف الصلاة.
والثاني: أن الصلاة والصوم يكثران فيشق قضاؤهما، وينفر عن الإسلام، وأما الغسل فلا يلزمه إلا غسل واحد، ولو أجنب ألف مرة وأكثر، فلا مشقة فيه.
الراجح من الأقوال:
بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن أقرب الأقوال إلى الصحة القول بعدم الوجوب، لعدم ثبوت دليل صحيح يقضي بوجوب الغسل، والله أعلم.
_________
(1) المائدة: 6.(11/128)
الفصل الخامس
من موجبات الغسل موت الرجل أو تغسيله
المبحث الأول
في وجوب غسل الميت
إذا مات المسلم، ولم يكن شهيداً، شرع تغسيله قبل الصلاة عليه، وهل غسله واجب أو سنة؟ في هذا خلاف بين العلماء،
فقيل: غسله واجب، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، واختاره بعض المالكية (4) .
وقيل: سنة، وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى (5) .
_________
(1) المبسوط (2/58) ، بدائع الصنائع (1/299) ، البحر الرائق (1/68) ، حاشية ابن عابدين (1/167) .
(2) الأم (1/274) ، المهذب (1/127) ، المجموع (5/112) روضة الطالبين (2/98) .
(3) المبدع (2/220) ، الإنصاف (2/469) ، الكافي (1/247) .
(4) جاء في حاشية الدسوقي (1/407) : " أما وجوب الغسل فهو قول عبد الوهاب وابن محرز وابن عبد البر، وشهره ابن راشد وابن فرحون... الخ كلامه رحمه الله تعالى.
(5) مواهب الجليل (2/208) ، وقال في حاشية الدسوقي (1/407) : " وأما سنيته فحكاها ابن أبي زيد وابن يونس وابن الجلاب وشهره ابن بزيزة... اهـ(11/129)
دليل الجمهور:
الدليل الأول:
(1156-29) ما رواه البخاري من طريق حفصة،
عن أم عطية رضي الله عنها قالت: توفيت إحدى بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اغسلنها بالسدر وتراً، ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها. ووراه مسلم أيضاً (1) .
وجه الاستدلال:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلنها، وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب.
الدليل الثاني:
(1157-30) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن جبير،
عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: بينما رجل واقف بعرفة، إذ وقع عن راحلته، فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً، ورواه مسلم (2) .
_________
(1) البخاري (1263) ، ومسلم (939) .
(2) البخاري (1256) ، مسلم (1206) .(11/130)
وجه الاستدلال:
قوله - صلى الله عليه وسلم - ((اغسلوه)) وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة.
الدليل الثالث:
حكى بعضهم الإجماع على وجوب غسل الميت،.
قال ابن الهمام: غسل الميت فرض بالإجماع (1) .
وقال النووي في المجموع: ((وغسل الميت فرض كفاية بإجماع المسلمين)) (2) .
وكذا حكاه النووي في الروضة (3) .
وأنكر ابن حجر على النووي دعوى الإجماع، فقال: وهو ذهول منه شديد، فإن الخلاف مشهور عند المالكية، حتى إن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة، ولكن الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك - أي من لم يقل بالسنية - (4) .
الدليل الرابع:
لقد غُسِّل أشرفُ الخلق على الله سبحانه وتعالى، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتغسيل ابنته، وغُسِّل أبو بكر بعده، والناس يتوارثونه خلفاً عن سلف، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه مات، فدفن من غير غسل إلا الشهداء (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير (2/105) .
(2) المجموع (5/112) .
(3) روضة الطالبين (2/98) .
(4) فتح الباري (3/126) .
(5) بدائع الصنائع (2/257) .(11/131)
الدليل الخامس:
يستدل الحنفية بحديث ينسبونه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونصه: ((حق المسلم على المسلم ستة حقوق، وفي جملته: أن يغسله بعد موته)) (1) .
وبعضهم يقول: حق المسلم على المسلم ثمانية حقوق، وذكر منها غسل الميت (2) .
قال الزيلعي: فهذا حديث ما عرفته، ولا وجدته، والذي وجدناه من هذا النوع، ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس. انتهى.
وفي لفظ لمسلم: ((حق المسلم على المسلم ست، فزاد: وإذا استنصحك فانصح له)) (3) .
الدليل السادس:
(1158-31) ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، قال:، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد ابن سلمة، عن حميد، عن الحسن،
عن عتي قال: رأيت شيخا بالمدينة يتكلم، فسألت عنه، فقالوا: هذا أبي بن كعب، فقال: إن آدم عليه السلام لما حضره الموت قال لبنيه: أي بني، إني أشتهي من ثمار الجنة؟ فذهبوا يطلبون له، فاستقبلتهم الملائكة، ومعهم أكفانه وحنوطه، ومعهم الفؤوس والمساحي والمكاتل، فقالوا لهم:
_________
(1) المبسوط (2/58) .
(2) شرح فتح القدير (2/106) .
(3) نصب الراية (2/257) .(11/132)
يا بني آدم ما تريدون وما تطلبون - أو ما تريدون وأين تذهبون - قالوا: أبونا مريض، فاشتهى من ثمار الجنة، قالوا لهم: ارجعوا فقد قضي قضاء أبيكم، فجاءوا، فلما رأتهم حواء عرفتهم، فلاذت بآدم فقال: إليك إليك عني؛ فإني إنما أوتيت من قبلك، خلي بيني وبين ملائكة ربي تبارك وتعالى، فقبضوه، وغسلوه، وكفنوه، وحنطوه، وحفروا له، وألحدوا له، وصلوا عليه، ثم دخلوا قبره، فوضعوه في قبره، ووضعوا عليه اللبن، ثم خرجوا من القبر، ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا: يا بني آدم، هذه سنتكم (1) .
[ضعيف انفرد به عتي بن ضمرة ولم يتابع عليه، وفي إسناده اختلاف] (2) .
_________
(1) المسند (5/ 136) .
(2) انفرد بهذا الخبر عتي، عن أبي بن كعب، ولم يتابع عليه، وقد اختلف فيه، فقال فيه ابن سعد: كان عتي ثقة قليل الحديث، روى عن أبي بن كعب وغيره. انظر الطبقات الكبرى (7/146) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/286) .
وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، روى عنه الحسن ستة أحاديث. انظر معرفة الثقات (2/127) .
وقال علي بن المديني: مجهول، سمع من أبي بن كعب، لا نحفظها إلا من طريق الحسن، وحديثه يشبه حديث أهل الصدق، وإن كان لا يعرف. تهذيب التهذيب (7/95) .
وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وسكت عليه (7/41) .
وقال عمرو بن علي: إسحاق بن الربيع كان شديد القول في القدر، وحدث عن الحسن بحديث منكر، عن عتي، عن أبي، كان آدم عليه السلام رجلاً طوالاً، كأنه نخلة سحوق.
فهذا عمرو بن علي رحمه الله يعتبر هذا الحديث حديثاً منكراً. الكامل (1/336) .
وعتي بن ضمرة رحمه الله لم يرو عنه إلا راو واحد، وهو الحسن، وقد قيل: إنه روى عنه ابنه عبد الله، وابنه هذا لم يوقف له على ترجمة، ولذلك قال ابن المديني: سمع من أبي، لا نحفظها إلا من طريق الحسن. اهـ فمثله لا يقبل تفرده بمثل هذا الحديث، وهذا كان سبيل المتقدمين لا يقبلون من الصدوق سنة يتفرد بها، فكيف والحديث فيه اختلاف في وقفه ورفعه، كما أن فيه اختلافاً في إسناده كما سنوضحه إن شاء الله تعالى عند الكلام على طرق الحديث، وهو مخالف لما ذكر في الكتاب بأن الله سبحانه وتعالى بعث غراباً يبحث في الأرض ليعلم ولد آدم كيف يواري سوأة أخيه، والله أعلم.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه حماد بن سلمة، واختلف عليه فيه:
فقد رواه عبد الله بن أحمد كما في متن الباب، ومن طريقه رواه ابن عساكر في تاريخه، والضياء المقدسي في المختارة (1251) عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عتي، عن أبي بن كعب موقوفاً.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/545) من طريق موسى بن إسماعيل.
والطبراني في الأوسط (8261) والمقدسي في الأحاديث المختارة (1252) والمحاملي في أماليه (403) ، وابن عدي في الكامل (3/143) من طريق روح بن أسلم، كلاهما عن حماد ابن سلمة، عن ثابت، عن الحسن، عن أبي بن كعب مرفوعاً.
قال الطبراني: لم يرفع هذا الحديث عن حماد بن سلمة إلا روح بن أسلم.
وقال المقدسي: روح بن أسلم تكلم فيه غير واحد من الأئمة، والمشهور غير مرفوع، والله أعلم.
وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث عن حماد غير محفوظة إلا حديث أبي فإنه شورك فيه. اهـ
فهنا جعل حماد في الإسناد ثابتاً بدلاً من حميد، وجعله مرفوعاً بدلاً من وقفه، إلا أن الحافظ ابن حجر قد أشار في إتحاف المهرة (1/248) أنه عند الحاكم موقوف، فإما أن يكون من اختلاف النسخ، أو أحدهما خطأ، فيتأمل.
هذا فيما يتعلق برواية حماد بن سلمة.
وأخرجه عبد الرزاق (6088) عن معمر، عن ثابت البناني، قال: نزلت الملائكة حين حضر آدم الوفاة، فلما رآهم عرفهم، فقبضوه، وغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، ودفنوه، وبنوه ينظرون، قال عبد الرزاق: قال معمر: سمعت غير ثابت يقول: ثم قالوا: هذه سنة ولدك.
ورواية معمر عن ثابت فيها كلام.
ورواه جماعة عن الحسن من غير طريق حماد،
فرواه يونس بن عبيد، واختلف عليه أيضاً
فرواه الطيالسي في مسنده (549) ، والبيهقي (3/404) عن خارجة بن مصعب، عن يونس، عن الحسن، عن عتي السعدي، عن أبي بن كعب موقوفاً. وخارجة متروك.
ورواه الدارقطني (1/71) من طريق شبابة، ثنا خارجة، عن يونس به مرفوعاً.
ورواه إسماعيل بن علية، واختلف عليه:
فرواه ابن أبي شيبة (2/450) رقم 10912 وسعيد بن منصور كما في إتحاف الخيرة
(2557) عن إسماعيل بن علية، عن يونس به موقوفاً.
ورواه الحاكم في المستدرك (1/344-345) عن أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله ابن أحمد، حدثني أبي، ثنا إ سماعيل به مرفوعاً.
ورواه عن يونس أيضاً هشيم، واختلف عليه فيه:
فرواه سعيد بن سليمان كما في الطبقات الكبرى (1/33-34) .
وأحمد بن منيع كما في إتحاف الخيرة (2558) روياه عن هشيم، عن يونس به موقوفاً.
وخالفهما سعيد بن منصور وعلي بن حجر فرواه الحاكم (1/344) من طريقهما مقرونين عن هشيم به مرفوعاً.
ورواه عثمان بن سعد، واختلف عليه أيضاً:
فأخرجه ابن أبي شيبة (4/258) رقم 4426، والطبراني في الأوسط (4/358) رقم 4426، والدارقطني (2/71) ، والبيهقي (4/36) من طريق أبي عبيدة الحداد، عن عثمان ابن سعد، عن الحسن، عن عتي به مرفوعاً. وعثمان بن سعد ضعيف.
وأخرجه الدراقطني (2/71) من طريق داود بن المحبر، ثنا رحمة بن مصعب، عن عثمان ابن سعد به موقوفاً.
وهذا أضعف من الذي قبله، داود بن المحبر متروك.
كما رواه ابن سعد (1/33) من طريق إسحاق بن الربيع، عن الحسن، عن عتي به موقوفاً.
قال عمرو بن علي، عن إسحاق بن الربيع كما في الكامل لابن عدي (1/336) : حدث عن الحسن بحديث منكر، عن عتي، عن أبي كان آدم عليه السلام رجلاً طوالاً، كأنه نخلة سحوق... اهـ
روواه الطيالسي (549) حدثنا ابن فضالة، عن الحسن، عن عتي به مرفوعاً.
كما أخرجه الطبراني في الأوسط (9259) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن ذكوان، عن الحسن به مرفوعاً.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/346) رقم: 1276 من طريق عمر بن مالك المعافري، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن الحسن، عن أبي بن كعب.
وهنا رواه الحسن عن أبي بن كعب مباشرة، ولعله دلسه عنه، فإنه قد صرح بالتحديث من رواية سعيد بن سليمان، أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا يونس بن عبيد، عن حسن، قال: أخبرنا عتي السعدي به.
وقد جعل الحاكم هذا الاختلاف عن الحسن هو السبب في عدم إخراج الشيخين لهذا الحديث، فقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وهو من النوع الذي لا يوجد للتابعي إلا الرواي الواحد، فإن عتي بن ضمرة السعدي ليس له راو غير الحسن، وعندي أن الشيخين عللاه بعلة أخرى، وهو أنه روي عن الحسن، عن أبي دون ذكر عتي، ثم ساق طريق يزيد بن عبد الله بن الهاد السابق، ثم قال: وهذا لا يعلل به حديث يونس بن عبيد؛ فإنه أعرف بحديث الحسن من أهل المدينة ومصر، والله أعلم.
ورواه عبد الرزاق (6086) عن ابن جريج، قال: حدثت عن أبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وهذا إسناد ضعيف لجهالة الواسطة بين ابن جريج وبين أبي بن كعب رضي الله عنه. وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/224) ، إتحاف المهرة (100، 104)(11/133)
وعلى تقدير صحته فإن قوله ((سنة ولد آدم)) تعم الواجب والمندوب، فليست نصاً صريحاً في الوجوب.(11/136)
دليل من قال: غسل الميت ليس بواجب.
الدليل الأول:
قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم عطية المتقدم: ((اغسلنها بالسدر وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك)) .
فجعلوا قوله ((إن رأيتن ذلك)) عائد إلى جميع ما ذكر من الغسل أو الزيادة على الثلاث.
ولو كان غسل الميت بمثابة الغسل من الحدث، وأنه تعبدي لم يزد على الثلاث، ولم يجعل الغسل راجعاً إلى تقدير الغاسل، وإذا ترجح أن الغسل ليس تعبدياً لم يكن واجباً؛ لأن المسلم الميت طاهر، والطاهر لا يجب تطهيره.
ثم إنه ذكر مع الغسل، الثلاث والوتر، وهما ليس واجبين إجماعاً، فكذلك الغسل.
وقال القاضي عياض: وسبب الخلاف قوله عليه السلام: ((إن رأيتن ذلك)) هل معناه: إن رأيتن الغسل، أو إن رأيتن الزيادة في العدد، وهذا وأشباهه مما اختلف فيه أهل الأصول، وذلك أنهم مختلفون في التقييد والاستنثناء، والشروط إذا تعقبت الجمل، هل يرجع إلى جميعها إلا ما أخرجه الدليل، أو إلى أقربها؟ (1) .
الراجح من الخلاف:
أرى أن القول بوجوب الغسل أرجح من القول بسنيته، للأمر به، والمحافظة عليه، ولكي يهيأ الميت لملاقاة الملائكة، والله أعلم.
_________
(1) شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (3/383) .(11/137)
[صفحة فارغة](11/138)
المبحث الثاني
في الغسل من تغسيل الميت
اختلف العلماء في حكم الغسل لمن غَسَّل ميتاً،
فقيل: ليس بسنة، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: بل سنة، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، واختاره بعض الحنابلة (4) .
وقيل: يجب الغسل، وهو قول في مذهب الحنابلة (5) ، ورجحه ابن حزم (6) .
وقيل: يجب الغسل من تغسيل الكافر دون المسلم، وهو قول في مذهب الحنابلة (7) .
وقيل: غسل الكافر يوجب الوضوء فقط، وهو المنصوص عن أحمد (8) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/66) بدائع الصنائع (1/32) ، حاشية ابن عابدين (1/166) ، أحكام القرآن للجصاص (5/169) .
(2) الذخيرة (1/290) ، الإشراف على مسائل الخلاف (1/47) ، القوانين الفقهية (ص:39) ، الاستذكار (2/137-138) .
(3) الأم (1/38) ، روضة الطالبين (1/85) ، الحاوي الكبير (1/460) .
(4) الكافي في فقه ابن حنبل (1/255) ، كشاف القناع (1/151) .
(5) المبدع (1/191) ، المغني (1/134) .
(6) المحلى (1/270) مسألة: 181.
(7) المبدع (1/191) ، المغني 1/134) .
(8) انظر شرح العمدة (1/342) .(11/139)
دليل من قال: يجب عليه الغسل.
الدليل الأول:
(1159-32) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة،
عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ (1) .
[اختلف في رفعه ووقفه، وقد رجح جمع من الأئمة المتقدمين وقفه] (2) .
الدليل الثاني:
(1160-33) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن عبد الله ابن أبي السفر، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله ابن الزبير،
عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغتسل من أربع من الجمعة، والجنابة، والحجامة، وغسل الميت (3) .
[ضعيف] (4) .
_________
(1) المسند (2/454) .
(2) منهم أبو حاتم، وأحمد، والبخاري، والذهلي، وابن المنذر، والبيهقي، وغيرهم، وقد سبق تخريج الحديث في كتاب نواقض الوضوء، باب الوضوء من غسل الميت، فأغنى عن إعادته هنا.
(3) المسند (6/152) .
(4) في إسناده مصعب بن شيبة متكلم فيه،
قال أبو داود في السنن (3160) : سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن الغسل من غسل الميت، فقال: يجزيه الوضوء. ثم قال أبو داود: وحديث مصعب ضعيف، فيه خصال ليس العمل عليه. اهـ
وفي سنن البيهقي (1/301) : قال أبو عيسى (الترمذي) : سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: إن أحمد بن حنبل وعلي بن عبد الله قالا: لا يصح في هذا الباب شيء، قال البخاري: حديث عائشة في هذا الباب ليس بذاك. اهـ
وساق العقيلي بإسناده من طريق أحمد بن محمد بن هانئ، قال: ذكرت لأبي عبد الله -يعني الإمام أحمد - الوضوء من الحجامة، فقال: ذاك حديث منكر، رواه مصعب بن شيبة، أحاديثه مناكير، منها هذا الحديث، وعشر من الفطرة... ".
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن الغسل من الحجامة، قلت: يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الغسل من أربع؟ فقال: لا يصح، هذا رواه مصعب بن شيبة، وليس بقوي. قلت لأبي زرعة: لم يرو عن عائشة من غير حديث مصعب؟ قال: لا.
وضعفه ابن عبد البر في الاستذكار (8/202) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/300) ، والخطابي في معالم السنن (4/306) وغيرهم.
ومصعب بن شيبة، تقدمت ترجمته في كتابي سنن الفطرة، وفي كتابي الإنصاف فيما جاء في الأخذ من اللحية وتغيير الشيب بالسواد من الخلاف، في الكلام على حديث: عشر من الفطرة..." فأغنى عن إعادته هنا.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه الدارقطني في السنن (1/134) ومن طريقه ابن الجوزي في الواهيات
(630) من طريق عبد الله بن محمد بن حجاج بن المنهال، عن يحيى بن حماد به، ولفظه: الغسل من خمسة: فزاد الغسل من ماء الحمام.
ورواه البيهقي في السنن (1/300) من طريق سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر به، بزيادة الغسل من ماء الحمام.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/48) رقم 483، وأيضاً (1/433) رقم: 4994، وأبو داود (348،3160) ، وابن خزيمة (256) ، والدارقطني (1/113) ، والحاكم في المستدرك
(1/163) ، والبيهقي في السنن (1/199،300) ، وفي الخلافيات (1002) من طريق زكريا ابن أبي زائدة، عن مصعب به.
وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: إتحاف المهرة (21789) ، أطراف المسند (9/68) ، تحفة الأشراف (16193) .(11/140)
الدليل الثالث:
(2161-34) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وقد كنت حفظت من كثير من علمائنا بالمدينة أن محمد بن عمرو بن حزم كان يروي عن المغيرة أحاديث،
منها أنه حدثه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من غسل ميتاً فليغتسل (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الرابع:
(1162-35) ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن زريع، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبيه،
عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من غسل ميتاً فليغتسل (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المسند (4/246) .
(2) ضعيف لجهالة من روى عنهم ابن إسحاق، ولذلك قال الهيثمي في المجمع (3/22) : في إسناده من لم يسم.
ولو كان صحيحاً لما قال أحمد وعلي بن المديني: لا يصح في هذا الباب شيء، وقد نقلت ذلك في الحديث السابق فانظره. وانظر أطراف المسند (5/375) .
(3) الأوسط (3/149) رقم: 2760.
(4) اختلف فيه على ابن إسحاق،
فرواه يزيد بن زريع، عن معمر، عن إبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة.
وخالف معمراً جماعة، منهم:
الأول: شعبة، كما في مسند أحمد (1/97) ، والطيالسي (120) ، ومسند الإمام الشافعي (1/207) ، والنسائي (190) ، وابن الجارود (550) ، والأحاديث المختارة للمقدسي (745) .
الثاني: الثوري، كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/470) ح 11155، وأحمد (1/131) وأبو داود (3214) ، والنسائي في الكبرى (195) ، والبيهقي في السنن (3/398) ، والمقدسي في الأحاديث المختارة (746) .
الثالث: إسرائيل، كما في سنن البيهقي (1/304) .
الرابع: إبراهيم بن طهمان، كما في مسند أبي يعلى (423) ، وفي معجمه أيضاً
(239) ، والأحاديث المختارة للمقدسي (747) .
الخامس: أبو الأحوص، كما في مصنف ابن أبي شيبة (11840) .
السادس والسابع والثامن والتاسع: شريك وزهير وقيس بن الربيع وورقاء ذكر ذلك الدارقطني في علله (4/144) .
كلهم رووه عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي بن أبي طالب في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالاغتسال من دفن أبيه. وسوف أحكم على هذا الطريق إن شاء الله تعالى عند الكلام على دليل من قال: يغتسل من غسل الكافر إذا مات دون المسلم.
قال الدراقطني في علله (4/146) : وقال يزيد بن زريع، عن معمر، عن إبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، قال: ولا يثبت هذا عن أبي إسحاق، والمحفوظ قول الثوري وشعبة ومن تابعهما، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي. اهـ
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1046) : " سألت أبي عن حديث رواه محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، قال: قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - من غسل ميتاً فليغتسل. قال أبي: هذا حديث غلط، ولم يبين غلطه. اهـ
قلت: لم يبين غلطه اختصاراً أو اقتصاراً، وإلا فغلطه بين كما أوضحه الدارقطني.
كما أن في إسناده والد أبي إسحاق السبيعي، قال الهيثمي في المجمع (3/22-23) : رواه الطبراني في الأوسط من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، ولم أجد من ذكر أباه. اهـ(11/142)
الدليل الخامس:
(1163-36) ما رواه البخاري في التاريخ الكبير من طريق ابن وهب، عن إسامة، عن سعيد بن أبي سعيد مولى المهري، عن إسحاق مولى زائدة،
عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من غسل ميتاً فليغتسل (1) .
[ضعيف] (2) .
دليل من قال: لا يشرع الغسل من تغسيل الميت.
الدليل الأول:
لم يثبت دليل صحيح في الأمر بالغسل من تغسيل الميت، والواجبات لا تثبت إلا بدليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قول صحابي لا مخالف له.
وقد قال جمع من أئمة المسلمين بأنه لم يثبت فيه حديث، من ذلك:
الإمام أحمد (3) ، وعلي بن المديني (4) ، والذهلي (5) ، وابن المنذر (6) .
_________
(1) التاريخ الكبير (1/397) ومن طريقه البيهقي (1/301) .
(2) قد ساق البخاري الاختلاف في إسناد هذا الحديث في تاريخه (1/396-397) ، مما يدل على اضطراب فيه، فقد رواه البخاري من طريق ابن علية وابن عيينة، عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة من قوله.
وقال وهيب: عن أبي واقد، عن إسحاق مولى زائدة وابن ثوبان، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وذكر البخاري اختلافات أخرى من غير طريق إسحاق مولى زائدة، فرجع هذا الحديث إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ذكرت طرقه بشيء من التفصيل عند الكلام على الوضوء من غسل الميت، فارجع إليه غير مأمور، والله أعلم.
(3) سنن البيهقي الكبرى (1/301) .
(4) المرجع السابق.
(5) فتح الباري تحت رقم (1253) .
(6) الأوسط (5/351) .(11/144)
الدليل الثاني:
(1164-37) ما رواه الحاكم من طريق أبي شيبة: إبراهيم بن عبد الله، ثنا خالد بن مخلد، ثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه؛ فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم (1) .
[المحفوظ أنه موقوف على ابن عباس، وأخطأ من رفعه] (2) .
_________
(1) الحاكم في المستدرك (1/386) ، ومن طريق أبي شيبة أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ (38) ، والدارقطني في السنن (2/76) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/306) .
(2) هكذا رواه أبو شيبة عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال.
وخالفه معلى بن منصور كما في سنن البيهقي (1/306) .
وأبو سلمة منصور بن سلمة كما في الناسخ والمنسوخ لابن شاهين (39) ، وسنن البيهقي (1/306) فروياه عن سليمان بن بلال به، موقوفاً على ابن عباس.
كما رواه عن ابن عباس من قوله جماعة، منهم:
عطاء بن أبي رباح، كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/469) ، وعبد الرزاق (6101) ، وابن المنذر في الأوسط (5/349) ، والبيهقي في السنن (1/306) .
وسعيد بن جبير وعكرمة، كما في سنن البيهقي (1/306) .
فالخطأ إما من خالد بن مخلد الراوي عن سليمان بن بلال، أو ممن دونه كأبي شيبة.
ومال البيهقي رحمه الله إلى أن الخطأ من أبي شيبة، فقال: وروي هذا - يعني أثر ابن عباس- مرفوعاً، ولا يصح، ثم ساقه بإسناده مرفوعاً من طريق أبي شيبة، وقال: هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة كما أظن.
وتعقب الحافظ ابن حجر البيهقي في تلخيص الحبير (1/138) ، فقال: " أبو شيبة هو إبراهيم ابن أبي بكر بن أبي شيبة، احتج به النسائي، ووثقه الناس "، ثم قال: " فالإسناد حسن".
وقال في التهذيب (1/136) : " وكأن البيهقي ظنه جده إبراهيم بن عثمان، فهو المعروف بأبي شيبة أكثر مما يعرف بها هذا، وهو المضعف ". اهـ
قلت: سواء كان الخطأ من أبي شيبة، أو من خالد بن مخلد، وسواء كان أبو شيبة الثقة أو الضعيف، فإن الرفع خطأ، فإن كان الخطأ من ثقة، فيقال: المحفوظ وقفه، وإن كان الضعيف، فيقال: المعروف، هذه ما تقتضيه قواعد هذا الفن، والله أعلم.(11/145)
وكون الثابت موقوفاً على ابن عباس فهو حجة خاصة أنه حكم معلل بمقدمة ونتيجة، وهو بما أن الميت طاهر، فإن غسل الطاهر لا يوجب الغسل.
الدليل الثالث:
(1165-38) مارواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة،
عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت، هل على الذين يغسلون المتوفين غسل؟ قالت: لا (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
قلت: وهذا الأثر عن عائشة يدل على بطلان ما رواه مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغتسل من أربع وذكر منها غسل الميت، والذي خرجته في أدلة القول الأول.
قال ابن عبد البر عقب أثر عائشة: ((فدل على بطلان حديث مصعب ابن شيبة؛ لأنه لو صح عنها ما خالفته، ومن جهة النظر والاعتبار لا تجب طهارة على من لم يوجبها الله عليه في كتابه، ولا أوجبها رسوله من وجه يشهد بها عليه)) .
_________
(1) المصنف (2/469) رقم: 11141.
(2) ومن طريق ابن أبي شيبة رواه ابن المنذر في الأوسط (5/349-350) .(11/146)
الدليل الرابع:
(1166-39) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه
أن ابن عمر كفن ميتاً، وحنطه، ولم يمس ماء (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المصنف (2/470) رقم 11144.
(2) ورواه ابن أبي شيبة (2/469) رقم 111، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عمر: أغتسل من غسل الميت، قال: لا.
وعطاء بن السائب قد اختلط بآخرة، وقد روى النسائي في السنن الكبرى (1970) حديثاً من طريق أبي الأحوص، عن عطاء، ثم قال: عطاء بن السائب كان قد اختلط، وأثبت الناس فيه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج.
ولم يذكر صاحب كتاب الكواكب النيرات، ولا محققه، هل سمع أبو الأحوص من عطاء قديماً أو سمع منه بآخرة؟ ولكن طريق عروة، عن ابن عمر يشهد لصحة هذا الطريق.
وروى عبد الرزاق في المصنف (6106) عن الثوري، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عمر، أغتسل من الميت؟ قال: أمؤمن هو؟ قلت: أرجو. قال: فتمسح من المؤمن، ولا تغتسل منه. اهـ وسنده حسن.
ووراه ابن أبي شيبة (1/469) من طريق حجاج، عن سليمان بن الربيع، عن سعيد بن جبير، قال: غسلت أمي ميتة، فقالت: هل علي غسل؟ فأتيت ابن عمر، فسألته، فقال: أنجساً غسلت! ثم أتيت ابن عباس فسألته، فقال: مثل ذلك.
ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (1/469) من طريق حجاج، عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر، قالا: ليس على غاسل الميت غسل.
وحجاج هو ابن أرطأة، ضعيف، ويدلس عن المتروكين.
وروى عبد الرزاق (1141) من طريق الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر قال: إني لأحب أن أغتسل من خمس: وذكر منها غسل الميت.
ورواية الأعمش عن مجاهد فيها كلام.(11/147)
الدليل الخامس
(1167-40) روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن بكر بن عبد الله المزني،
قال: أخبرني علقمة المزني، قال: غسل أباك أربعة من أصحاب الشجرة، فما زادوا على أن احتجزوا على ثيابهم، فلما فرغوا توضؤوا وصلوا عليه. قال: وسمعت أبا الشعثاء يقول: ألا تتقون الله، تغتسلون من موتاكم، أنجاس هم؟ (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
دليل من قال: يجب الغسل من تغسيل الكافر.
(1168-41) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت ناجية بن كعب يحدث عن علي رضي الله عنه،
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبا طالب مات، فقال له: النبي - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فواره، فقال: إنه مات مشركا. فقال: اذهب فواره. قال: فلما واريته، رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: اغتسل (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المصنف (6103) .
(2) ورواه ابن أبي شيبة (11142) من طريق حبيب بن الشهيد، عن بكر بن عبد الله به بنحوه.
(3) المسند (1/97) .
(4) تفرد به ناجية بن كعب، عن علي، ولم يتابع عليه، وقد جاء في ترجمته:
قال يحيى بن معين: صالح. الجرح والتعديل (8/486) .
أي في دينه، ولو قصد غير ذلك لقال: صالح الحديث.
وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. المرجع السابق. وهذه ليست عبارة توثيق.
وقال ابن المديني: لا أعلم أحداً روى عنه غير أبي إسحاق، وهو مجهول.
وقال الحافظ: ذكره ابن حبان في الثقات، ولم أقف عليه فيها، وإنما وقفت عليه في المجروحين (3/57) قال عنه ابن حبان: كان شيخاً صالحاً، إلا أن في حديثه تخليطاً، لا يشبه حديثه أقرانه الثقات عن علي، فلا يعجبني الاحتجاج إذا انفرد، وفيما وافق الثقات فإن احتج به محتج أرجو أنه لم يجرح في فعله ذلك. اهـ
وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة.
وقال البيهقي في السنن (1/304) : وناجية بن كعب الأسدي لم تثبت عدالته. اهـ
وفي التقريب: ثقة. اهـ ولم يصب الحافظ رحمه الله تعالى، بل هو إلى الضعف أقرب.
[تخريج الحديث] .
سبق أن خرجت هذا الحديث عند الكلام على حديث حذيفة في أدلة القول الأول، فارجع إليه غير مأمور.(11/148)
وأجيب:
أولاً: الحديث تفرد به ناجية بن كعب، عن علي، ولم يتابع عليه.
ثانياً: لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً بأن يغسله، وإنما أمره أن يواره، ولو صح لكان الحديث دليلاً على الغسل من دفن الكافر أو من حمله، ولا قائل به.
وقد قال البيهقي رحمه الله: ((وليس فيه أنه غسله)) (1) .اهـ
قلت: ولا يشرع إذا مات الكافر أن يغسل.
ثالثاً: لعل الغسل بسبب أمر آخر، لا يرجع إلى أبي طالب، ولذلك جاء عند ابن أبي شيبة، من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي وفيه: ((فانطلقت، فواريته، ثم رجعت إليه وعلي أثر التراب والغبار)) (2) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/304) .
(2) المصنف (11840) .(11/149)
وعلى الرغم من تفرد أبي الأحوص بهذه الزيادة إلا أن واقع الحال يشهد لها، فإن من أراد أن يحفر للميت حفرة بأرض مثل أرض الحجاز، لا بد أن يصيبه من أثر التراب والغبار، فبعيد أن يشتغل الإنسان بالحفر والدفن، ثم يرجع نظيف البدن.
دليل من قال: غسل الميت يوجب الوضوء فقط.
قد تعرضت لأدلة هذا القول في باب نواقض الوضوء، وهل غسل الميت يوجب الوضوء أم لا؟ ورجحت هناك أن غسل الميت لا يوجب الوضوء، وليس حدثاً، ولا مظنة للحدث فارجع إليه غير مأمور.
دليل من قال: يستحب الغسل ولا يجب.
استدلوا بأدلة القائلين بالوجوب، إلا أنهم حملوا الأمر فيها على الاستحباب، والذي حملهم على صرف الأمر من الوجوب إلى الندب ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (1) ، والدارقطني في السنن (2) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3) ، من طريق محمد بن عبد الله المخرمي، عن أبي هشام المغيرة بن سلمة المخزومي، عن وهيب، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لم يغتسل.
[إسناده صحيح] (4) .
_________
(1) تاريخ بغداد (5/423) .
(2) سنن الدراقطني (2/72) .
(3) سنن البيهقي (1/306) .
(4) وأمر الإمام أحمد ابنه عبد الله أن يكتب هذا الحديث، فجاء في تاريخ بغداد (5/423) ، وفي سير أعلام النبلاء (12/266) قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال لي أبي: كتبت حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر.... وذكر الأثر. قلت: لا. قال: في المخرم شاب يقال له محمد بن عبد الله، يحدث به عن أبي هشام المخزومي، عن وهيب، فاكتبه عنه. اهـ
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/138) : وهذا إسناد صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث. والله أعلم.(11/150)
الراجح من الأقوال:
بعد استعراض الأقوال وأدلتها نجد أن القول بوجوب الغسل من تغسيل الميت قول ضعيف، والآثار في ذلك لا تسلم من ضعف، وقد حكم جمع من أئمة الحديث بأنه لا يثبت في الباب حديث، وأما القول بالاستحباب فإنه قول قوي.
قال الخطابي: ولا أعلم أحداً من الفقهاء يوجب الاغتسال من غسل الميت، ولا الوضوء من حمله، ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب. اهـ (1) .
قلت: أما القول بوجوب الاغتسال من غسل الميت والقول بوجوب الوضوء من حمله فقد حفظ القول بهما، ولكن الأدلة لا تعضدهما، والله أعلم.
_________
(1) معالم السنن (4/305) .(11/151)
[صفحة فارغة](11/152)
الفصل السادس
في غسل الجمعة
المبحث الأول
خلاف أهل العلم في وجوب غسل الجمعة
اختلف العلماء في حكم غسل الجمعة،
فقيل: الغسل سنة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والمالكية (3) ، والحنابلة (4) ،
وقيل: الغسل واجب، وهو رواية عن أحمد (5) ، ومذهب الظاهرية (6) .
_________
(1) المبسوط (1/90) ، بدائع الصنائع (1/35) ، تبيين الحقائق (1/18) ، شرح فتح القدير (1/65) ، البحر الرائق (1/66) ، الفتاوى الهندية (1/16) .
(2) المجموع (4/404) ، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/329) ، فتاوى الرملي (1/60) ، نهاية المحتاج (2/328) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (18/106) ، التمهيد (10/80) ، الفواكه الدواني (2/266) ، المنتقى شرح الموطأ (1/185) ، ويعبر عنه بعض فقهاء المالكية بأن الغسل يوم الجمعة واجب وذلك لتأكيد سنيته، وليس معنى أنه واجب وجوب الفرائض الذي يأثم بتركها.
(4) الفروع (1/202) ، وقال في الإنصاف (1/247) : وهذا المذهب مطلقاً، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، ونص عليه. اهـ وانظر كشاف القناع (1/149) ، شرح منتهى الإرادات (1/83) .
(5) الإنصاف (1/247) ،
(6) قال ابن حزم في المحلى (2/8) مسألة: 178: " وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغ من الرجال والنساء، وكذلك الطيب والسواك... ". اهـ وانظر رسالة الإمام داود الظاهري، وأثره في الفقه الإسلامي (ص: 233) .(11/153)
وقيل: يجب من عرق أو ريح يتأذى به الناس، اختاره بعض الحنابلة (1) .
دليل من قال: الغسل يوم الجمعة مسنون.
الدليل الأول:
(1169-42) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن الحسن،
عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل (2) .
[إسناده ضعيف، الحسن لم يسمع هذا الحديث من سمرة] (3) .
_________
(1) قال صاحب الإنصاف (1/247) : " وأوجبه الشيخ تقي الدين من عرق أو ريح يتأذى به الناس، وهو من مفردات المذهب أيضاً.
(2) المسند (5/11) .
(3) الحديث فيه ثلاث علل:
العلة الأولى: لم يسمعه الحسن من سمرة، وقد اختلف العلماء في سماع الحسن من سمرة إلى ثلاثة أقوال:
الأول: قيل: إنه سمع منه مطلقاً، وهو قول علي بن المديني، والترمذي.
الثاني: أنه لم يسمع منه شيئاً، اختاره ابن حبان في صحيحه، وقال شعبة وابن معين: الحسن لم يلق سمرة.
القول الثالث: أنه سمع منه حديث العقيقة فقط، ففي صحيح البخاري سماع منه لحديث العقيقة، واختار هذا النسائي، قال أبو عبد الرحمن في المجتبى (1380) ، وفي السنن الكبرى (1684) : الحسن عن سمرة كتاباً، ولم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة. اهـ
ومال إليه الدارقطني في سننه. انظر نصب الراية للزيلعي (1/89) فقد أطال الكلام فيه، وحاشية سبط ابن العجمي على الكاشف (1/322) تحقيق محمد عوامة.
العلة الثانية: الاختلاف في إسناده، فقيل: عن الحسن، عن سمرة.
وقيل: عن الحسن، عن أنس.
وقيل: عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة.
وقيل: عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وقيل غير ذلك مما سيأتي تفصيله عند تخريج الحديث.
العلة الثالثة: مخالفته لما أهو أصح منه وأقوى من أحاديث في الصحيحين، وظاهرها وجوب الغسل يوم الجمعة، وسوف نذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكر أدلة القائلين بالوجوب.
قال الترمذي في العلل (141) بعد أن ساق الحديث من طريق شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعاً. قال الترمذي: سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: روى همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وروى سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكرا: عن سمرة. اهـ
فألمح البخاري بذكر الاختلاف على قتادة إلى تضعيف الحديث.
وقال ابن حجر في الفتح تحت رقم (879) : " ولهذا الحديث طرق، أشهرها وأقواها رواية الحسن، عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة، وابن خزيمة، وابن حبان، وله علتان:
إحداهما: أنه من عنعنة الحسن.
والأخرى: أنه اختلف عليه فيه. أخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطبراني من حديث أنس، والطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد، وابن عدي من حديث جابر، وكلها ضعيفة. الخ كلامه رحمه الله.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب، وابن أبي شيبة (1/436) ، رقم 5026 والدارمي (1540) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/119) ، والبيهقي (1/295)
و (3/190) من طريق عفان به.
وأخرجه أحمد (5/8) ، والبيهقي (3/190) من طريق عبد الصمد.
وأحمد (5/8) من طريق بهز.
وأخرجه أحمد أيضاً (5/16) ، وابن الجارود في المنتقى (285) من طريق عبد الرحمن ابن مهدي.
وأبو داود (354) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/119) ، والطبراني في الكبير (7/199) رقم 6817، والبيهقي (3/190) من طريق أبي الوليد الطيالسي.
وأخرجه الطبراني (6817) ، والبيهقي (3/190) من طريق أبي عمر حفص بن عمر الحوضي، كلهم: (بهز، وعبد الصمد، وأبو الوليد، وابن مهدي، وأبو عمر الحوضي) رووه عن همام به.
وتابع شعبة بن الحجاج هماماً في هذا الإسناد،
فأخرجه أحمد (5/11) والنسائي في المجتبى (1380) ، وفي الكبرى (1684) ، وابن خزيمة (1757) ،والطبراني في الكبير (6818) وابن الجعد في مسنده (986) من طريق يزيد ابن زريع.
وأخرجه الترمذي (497) ، والطبراني (6819) ، والبغوي في شرح السنة (335) والروياني في مسنده (787) من طريق سعيد بن سفيان.
وأخرجه البيهقي (1/295-296) ، والخطيب في تاريخه (2/352) من طريق عفان. ثلاثتهم، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة.
وأخرجه الطبراني في الكبير (6820) من طريق أبي عوانة، عن قتادة به.
وتابع يونس بن عبيد قتادة في روايته عن الحسن، فأخرجه الطبراني في الكبير (7/223) من طريق يحيى بن خالد، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن سمرة به.
وقد تفرد بذلك يحيى بن خالد، عن يونس، وهو ممن لا يحتمل تفرده بذلك، فالمعروف أن الحديث حديث قتادة، عن الحسن.
قال ابن عدي: حدث عن يونس بن عبيد وغيره ما لا يرويه غيره، وقال: ولخالد هذا إفرادات وغرائب عمن يحدث عنه، وليس بالكثير، وأرجو أنه لا بأس به؛ لأني لم أر في حديثه متناً منكراً. الكامل (3/9) .
وقال الذهبي: صويلح، قواه ابن عدي. المغني في الضعفاء (1889) .
والحديث مداره على قتادة، وقد اختلف فيه عليه:
فقيل: عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، كما سبق.
وقيل: عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
وقيل: عن قتادة، عن الحسن، عن أنس.
وقيل: عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة.
وقيل: عن الحسن، عن أبي هريرة.
أما الرواية المرسلة:
فرواه كل من معمر، وسعيد بن أبي عروبة، وأبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فقد أخرجه عبد الرزاق (5311) ، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرجه البيهقي (1/296) من طريق عبد الوهاب الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال البيهقي: وكذلك رواه أبان بن يزيد العطار، عن قتادة. اهـ أي رواه مرسلاً.
وأما رواية الحسن، عن أنس.
فأخرجها البزار كما في كشف الأستار (628) ، والطحاوي (1/119) من طريق الربيع بن صبيح، عن الحسن. وعن يزيد الرقاشي، عن أنس رضي الله عنه.
قال البزار: إنما يعرف هذا عن يزيد، عن أنس، هكذا رواه غير واحد، وجمع يحيى، عن الربيع في هذا الحديث بين الحسن ويزيد، عن أنس، فحمله قوم على أنه عن الحسن، عن أنس، وأحسب أن الربيع إنما ذكره عن الحسن مرسلاً، وعن يزيد عن أنس، فلما لم يفصله جعلوه كأنه عن الحسن، عن أنس، وعن يزيد، عن أنس. اهـ
قلت: من تأمل الإسناد السابق لم يستبعد كلام البزار، وقد سبق تخريج الحديث عن الحسن مرسلاً، لكن روي الحديث من طريق الحسن، عن أنس من غير طريق الربيع بن صبيح، فقد أخرجه الطحاوي (1/119) ، والعقيلي (2/167) من طريق الضحاك بن حمزة، عن الحجاج بن أرطأة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن الحسن، عن أنس.
وهذا إسناد ضعيف، مسلسل بالضعفاء، فالضحاك والحجاج ضعيفان، وإبراهيم بن مهاجر متكلم فيه.
وأخرجه أبو داود الطيالسي (2110) حدثنا الربيع، عن يزيد، عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل.
ومن طريق الربيع بن صبيح أخرجه الطحاوي (1/119) ، وابن عدي (3/133) ، والبيهقي (1/296) .
وأخرجه علي بن الجعد في مسنده (1750) أنا سفيان الثوري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك به.
ومن طريق علي بن الجعد رواه أبو يعلى في مسنده (4086) .
وكذلك ورواه الطحاوي (1/119) من طريق ابن الجعد، قال: أنا الربيع بن صبيح وسفيان الثوري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس به.
وقال البغوي في الجعديات (1773) : هكذا حدثنا علي، عن سفيان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، وهو مرسل، لم يسمع الثوري من يزيد الرقاشي شيئاً، بينهما الربيع بن صبيح.
قلت: قال الغماري في الهداية (3/291) : " ورواه أبو العباس بن سريج في جزئه، قال: حدثنا الرمادي، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، ثنا سفيان، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي به. اهـ فهذا يؤكد ما ذكره البغوي.
وأخرجه ابن ماجه (1091) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي، عن يزيد الرقاشي به.
ويزيد الرقاشي مشهور الضعف، وإسماعيل بن مسلم المكي ضعيف أيضاً.
ورواه عبد الرزاق (5312) من طريق عكرمة بن عمار، عن يزيد الرقاشي به.
ورواه الدارقطني في العلل كما في تلخيص الحبير (2/67) من طريق عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس. وقال: وهم فيه عباد بن العوام، والصواب رواية يزيد بن زريع وغيره، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. اهـ
وأما رواية الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة.
فأخرجها أبو داود الطيالسي (1350) ، ومن طريقه البيهقي (1/296) .
وأخرجه العقيلي (2/167) ، والطبراني في الأوسط (7765) ، والبيهقي (1/296) وأسلم بن سهل الواسطي في تاريخ واسط (1/158) ، من طريق أبي حرة به من غير شك.
وأبو حرة، وثقه أحمد.
وقال يحيى بن معين: صالح، وحديثه عن الحسن ضعيف، يقولون: لم يسمعه من الحسن.
وفي التقريب: صدوق عابد، وكان يدلس عن الحسن.
وقال الحافظ في التلخيص (655) : " ورواه أبو حرة عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، ووهم في اسم صحابيه.
وله شاهد من حديث جابر ومن حديث أبي سعيد، وهما ضعيفان.
أما حديث جابر فرواه عبد الرزاق (5313) عن الثوري، عن رجل، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله والإسناد ضعيف.
ورواه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (1077) من طريق الثوري، عن أبان، عن أبي نضرة به. فاتضح الرجل المبهم في إسناد عبد الرزاق.
ورواه الطحاوي (1/119) والبزار، كما في مختصر زوائد مسند البزار (439) من طريق قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/175) : رواه البزار، وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وضعفه جماعة. قلت: أين أصحاب الإعمش لو كان هذا من حديثه، فانفراد قيس بن الربيع دون أصحاب الأعمش يوجب في النفس شيئاً من قبول هذا الخبر.
وأما حديث أبي سعيد، فرواه البزار كما في مختصر مسند البزار (440) من طريق أسيد ابن زيد، ثنا شريك، عن عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ يوم الجمعة، فبها ونعمت، ومن اغتسل، فالغسل أفضل".
قال البزار: لا نعلمه عن أبي سعيد إلا من هذا الوجه، وأسيد كوفي شديد التشيع، احتمل حديثه أهل العلم، وكذبه غيره. اهـ ومن طريق أسيد بن زيد رواه البيهقي في السنن (1/296) .
قال الذهبي في اختصاره لسنن البيهقي (1275) : أسيد بن زيد واهٍ.
وأشار البيهقي إلى اختلاف على أبي نضرة، فقد قيل: عن أبي نضرة، عن أبي سعيد كما تقدم.
وقال البيهقي في السنن (1/296) : ورواه الثوري، عمن حدثه عن أبي نضرة، عن جابر. اهـ
فتبين من خلال هذا التخريج أن الحديث على ضعفه، فيه اختلاف كثير، فلا يمكن أن يعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة في الصحيحين من الأمر بالغسل، والأصل في الأمر الوجوب، وبعضها صريح بأن الغسل واجب، وكلمة واجب لا تستعمل إلا بما لزم شرعاً كما سيأتي بيانه.
وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (2/527) ، التحفة (4587) ، إتحاف المهرة (6066) .(11/154)
الدليل الثاني:
(1170-43) ما رواه مسلم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا (1) .
وجه الاستدلال:
أنه - صلى الله عليه وسلم - أثنى على المتوضئ، ولم يذكر الغسل، فلو كان واجباً لذكره عليه الصلاة والسلام.
قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتباً عليه الثواب المقتضي للصحة،
_________
(1) صحيح مسلم (857) .(11/160)
فدل على أن الوضوء كاف (1) .
وأجيب:
قال ابن حجر: ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ ((من اغتسل)) فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب، فاحتاج إلى إعادة الوضوء (2) .
قلت: كلام ابن حجر ظاهر، فهذا الدليل لا يمنع وجوب الغسل بدليل آخر، ولا يوجد دليل واحد يقوم بكل الواجبات الشرعية، فهذا دليل يوجب السعي للجمعة عند سماع النداء، وآخر يوجب الغسل، وثالث يوجب الاستماع وعدم الكلام وهكذا، وعلى التنزل أن يكون هذا الدليل فيه تلويح بعدم وجوب الغسل، فيكون ذلك على البراءة الأصلية، والأحاديث التي توجب الغسل تكون مقدمة؛ لأنها ناقلة عن البراءة الأصلية، وشاغلة للذمة، والله أعلم.
الدليل الثالث:
(1171-44) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن
عبد الله بن عمر،
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فناداه عمر، أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت. فقال: والوضوء أيضاً، وقد
_________
(1) فتح الباري تحت رقم (879) .
(2) المرجع السابق.(11/161)
علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل (1) .
وجه الاستدلال:
قالوا: لما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دل ذلك على أنهما قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار (2) .
وزاد بعضهم بأن من حضر من الصحابة الصلاة قد وافقوهما على ترك عثمان للغسل، فكان إجماعاً.
وقال ابن عبد البر: ((ومن الدليل على أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغسل يوم الجمعة ليس بفرض واجب، أن عمر رضي الله عنه في هذا الحديث لم يأمر عثمان بالانصراف للغسل، ولا انصرف عثمان حين ذكره عمر بذلك، ولو كان الغسل واجباً فرضاً للجمعة ما أجزأت الجمعة إلا به، كما لا تجزئ الصلاة إلا بوضوء للمحدث أو بالغسل للجنب، ولو كان كذلك ما جهله عمر ولا عثمان)) (3) .
قال القاضي عياض: هذا قول من عمر، وإقرار بمحضر جماعة من الصحابة، ولا منكر له، ولا مخالف، فهو كالإجماع، وعامة الفقهاء والأصوليين منهم يعدون هذا إجماعاً (4) . اهـ
وأجيب:
بأنه لم يقل أحد: بأن غسل الجمعة شرط لصحة الصلاة، لا تجزئ صلاة
_________
(1) البخاري (878) ، ومسلم (845) .
(2) الفتح تحت رقم (879) .
(3) التمهيد (5/247) .
(4) إكمال المعلم (3/233) .(11/162)
الجمعة إلا به، ولم يأت نص نبوي يقول: ((لا يقبل الله صلاة الجمعة إلا بالغسل)) كما قيل ذلك في الوضوء، ولو صلى تاركاً للغسل عمداً مع القدرة عليه صحت صلاته، وقد حكي إجماعاً صحة صلاة الجمعة ولو لم يغتسل (1) ، وإنما قالوا: الغسل واجب، وليس بشرط، وإذا فهم ذلك فلا يمكن أن تكون قصة عثمان رضي الله عنه مع عمر دليلاً على نفي وجوب الغسل، بل إن الحديث ظاهر في وجوب الغسل، من وجهين:
الأول: كون عمر يقطع الخطبة، ويشتغل بمعاتبة عثمان رضي الله عنه، ويقوم بتوبيخه على رؤوس الناس، كل ذلك دليل على وجوب الغسل، فلو كان ترك الغسل مباحاً لما فعل ذلك عمر رضي الله عنه.
الثاني: أن عمر رضي الله عنه قد أعلن في خطبته، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل، والأصل في الأمر الوجوب، وإنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت، إذ لو فعل لفاتته الجمعة، خاصة وأن الخطبة كانت على عهد الخلفاء الراشدين قصيرة، كما كانت على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يلزم من ذلك تأثيم عثمان؛ لأنه إنما تركه ذاهلاً عن الوقت، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإنسان إذا خشي لو توضأ أن تفوته الجمعة فإنه يتيمم، فما بالك بالغسل الذي هو مجرد واجب، وليس شرطاً في صحة الصلاة، على أن عثمان قد يكون قد اغتسل في أول النهار، لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران، أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء (2) ، وإنما لم يعتذر بذلك
_________
(1) الفتح تحت رقم (879) .
(2) صحيح مسلم (231) .(11/163)
لعمر كما اعتذر عن التأخير؛ لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة، كما هو الأفضل (1) .
الدليل الرابع:
(1172-45) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير،
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في العباء يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم، وهو عندي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا (2) .
وجه الاستدلال:
قوله ((لو أنكم تطهرتم)) فكلمة ((لو)) حرف للتمني، أو للشرط، والجواب محذوف لكان حسناً، وهذا يدل على الحض والترغيب في الغسل، لا على الوجوب.
وأجيب:
بأن حديث عائشة هذا ليس فيه الأمر بالغسل، وإنما عرض عليهم الغسل عرضاً، وحثهم عليه، فليس فيه دليل على وجوب الغسل، ثم أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أمر إلزام، فصار الغسل واجباً لذلك، ولو لم يرد إلا هذا الحديث ما قال أحد بوجوب الغسل، وإنما وردت مجموعة من الأحاديث تأمرهم بالغسل،
_________
(1) بتصرف يسير انظر الفتح تحت رقم (879) .
(2) البخاري (902) ، ومسلم (847) .(11/164)
وبعضها يعبر بالوجوب، (غسل الجمعة واجب) وبعضها بلفظ: (الغسل على كل بالغ) وهي ظاهرة في الوجوب، وبعضها بلفظ
(الغسل على كل مسلم) ولا يمنع أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغبهم بالغسل أول الأمر، ثم أوجبه عليهم، فيكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - تدرج بهم كشأن بعض الأحكام الشرعية، والله أعلم.
الدليل الخامس:
(1173-46) ما رواه البخاري، من طريق عمرو بن سليم الأنصاري، قال:
أشهد على أبي سعيد، قال: أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد.
قال عمرو: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم، أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث. ورواه مسلم دون قول عمرو (1) .
وجه الاستدلال:
ظاهر الحديث وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعطف على الغسل، فالتقدير الغسل واجب، والاستنان والطيب كذلك، وليس الطيب والاستنان بواجبين اتفاقاً، فدل على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد.
وأجيب بعدة أجوبة، منها:
الأول: لا نسلم أن دلالة الاقتران، تعني التساوي في الحكم، لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف، وقد قال سبحانه وتعالى: {كلوا من ثمره إذا
_________
(1) صحيح البخاري (880) ، ومسلم (846) .(11/165)
أثمر، وآتوا حقه يوم حصاده} (1) ، والأكل مباح، ودفع الحق واجب.
ثانياً: على التسليم بأن الحديث ظاهر في وجوب الاستنان والطيب، فيقال: قد دل الإجماع على خروج الطيب والاستنان من القول بالوجوب، وبقي ما عداه على الأصل، وهو وجوب الغسل.
ثالثاً: لا نسلم حكاية الإجماع بأن الطيب والاستنان ليسا واجبين، فالخلاف محفوظ فيهما، فأما الاستنان، فالقول بوجوبه ذهب إليه داوود الظاهري (2) ، ونُسِبَ هذا القول إلى إسحاق بن راهوية (3) .
وقد استعرضت أدلة الأقوال في كتابي سنن الفطرة، وهو جزء من هذه السلسلة، والله الموفق.
وأما الطيب، فقد قال الحافظ ابن حجر: روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة. وإسناده صحيح، وكذا
_________
(1) الأنعام: 141.
(2) المنتقى شرح الموطأ (1/130) ، مواهب الجليل (1/264) ، المغني ـ ابن قدامة
(1/69) قال: ولا نعلم أحداً قال بوجوبه إلا إسحاق وداود ". وقال النووي في المجموع
(1/327) : " السواك سنة، وليس بواجب. هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة إلا ما حكى الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا عن داود، أنه أوجبه. وحكى صاحب الحاوي أن داود أوجبه، ولم يبطل الصلاة بتركه،. قال: وقال إسحاق بن راهويه: هو واجب، فإن تركه عمداً بطلت صلاته. وهذا النقل عن إسحاق غير معروف، ولا يصح عنه، وقال القاضي أبو الطيب والعبدري: غلط الشيخ أبو حامد في حكايته وجوبه عن داود، بل مذهب داود أنه سنة؛ لأن أصحابنا نصوا أنه سنة، وأنكروا وجوبه، ولا يلزم من هذا الرد على أبي حامد ".اهـ
(3) المجموع (1/327) ، المغني ـ ابن قدامة (1/69) .(11/166)
قال بوجوبه بعض أهل الظاهر (1) .
وإن كنت أرجح أن الطيب والاستنان ليسا واجبين، وظاهر حديث أبي سعيد يفيد الوجوب في الجميع، لكن لا يمنع أن يقال: خرج الطيب والاستنان من القول بالوجوب بدليل آخر، وبقي غسل الجمعة على الوجوب، ولذلك روى البخاري عن عمرو بن سليم الأنصاري الراوي لحديث أبي سعيد قوله: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث.
مما يدل على أن فهم السلف للوجوب على ظاهره، وهو الإلزام، ولذلك شهد عمرو بن سليم بوجوب الغسل يوم الجمعة، ولم يشهد على وجوب الطيب والاستنان، ولو كان الوجوب بمعنى التوكيد كما تأوله الجمهور لشهد بذلك للجميع.
الدليل السادس:
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: ((أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب، وفي ذلك ما يكفي ويغني عن الإكثار)) . ثم قال: ((ومع إجماعهم على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب، اختلفوا فيه: هل هو سنة مسنونة للأمة؟ أم هو استحباب وفضل؟ أو كان لعلة فارتفعت؟)) (2) .
ودعوى الإجماع على أنه ليس بواجب فيه نظر كبير، فالقول بوجوبه قد شهد به عمرو بن سليم الأنصاري الراوي للحديث عن أبي سعيد، وقوله في
_________
(1) الفتح تحت رقم (879) .
(2) التمهيد (10/80) .(11/167)
البخاري، وسبق تخريجه، كما أنه رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الظاهرية، وقال الحافظ: وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار بن ياسر (1) .
قلت: وهو مقتضى صنيع عمر حين أنكر على عثمان بن عفان ترك الاغتسال، وهو على المنبر محتجاً بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل، وهو في الصحيحين، وسبق تخريجه.
دليل من قال: غسل الجمعة واجب.
الدليل الأول:
(1174-47) ما رواه البخاري من طريق نافع وسالم فرقهما،
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل (2) .
وجه الدلالة:
قوله - صلى الله عليه وسلم - ((فليغتسل)) وهذا أمر بالغسل يوم الجمعة، والأصل في الأمر الوجوب، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (3) .
وقال تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} (4) ، وقد عاقبه على ترك الامتثال.
_________
(1) الفتح تحت رقم (879) .
(2) البخاري (877،894،919) .
(3) النور: 63.
(4) الأعراف: 12.(11/168)
وقال تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} (1) ، فذم على ترك امتثال أمره.
(1175-45) وبما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال:
لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (2) .
وقد أجمعت الأمة على وجوب الصلاة والزكاة من قوله سبحانه وتعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (3) .
الدليل الثاني:
(1176-49) ما رواه مسلم من طريق وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه،
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده. ورواه البخاري (4) .
وجه الدلالة: قوله (حق لله) فالحق بمعنى الواجب، ففي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه، ولا
_________
(1) المرسلات: 48.
(2) صحيح البخاري (887) .
(3) النور: 56.
(4) مسلم (849) ، والبخاري (898) .(11/169)
يشركوا به شيئاً)) (1) .
فاسْتُعْمِلَتْ كلمة حق في أعظم الواجبات على الإطلاق، وهو ما خلق الخليقة من أجله، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (2) .
الدليل الثالث:
(1177-50) ما رواه البخاري من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار،
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. ورواه مسلم (3) .
فالواجب هو اللازم شرعاً، وقد حاول الجمهور تأويل الحديث؛ فقالوا: إن كلمة واجب المقصود بها التوكيد، كما تقول: إكرامك علي واجب، والذي حملهم على هذا التأويل المخالف لظاهر الحديث:
إما لأنهم فهموا من كلمة واجب، أن الغسل شرط في صحة الصلاة، فقالوا: الإجماع منعقد على صحة الصلاة، ولو لم يغتسل للجمعة، فحملهم هذا على تأويل الحديث عن ظاهره، والحق أن الحديث نص في وجوب الغسل، وليس نصاً على شرطية الغسل، فلا يصح الاعتراض (4) .
_________
(1) البخاري (7373) ، ومسلم (30) .
(2) الذاريات: 56.
(3) صحيح البخاري (879) ، ومسلم (846) .
(4) قال الشافعي في الرسالة (ص: 303) قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسل يوم الجمعة واجب، يحتمل معنيين: الظاهر منهما أنه واجب، فلا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، كما لا يجزئ في طهارة الجنب غير الغسل.
ويحتمل واجب في الاختيار والأخلاق والنظافة، ثم استدل للاحتمال الثاني بقصة عثمان مع عمر التي تقدمت، قال: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دل ذلك على أنهما عقد علما، أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغسل على الاختيار. اهـ
قال ابن حجر في الفتح تحت رقم (879) بعد أن نقل نص الشافعي المتقدم: وقد نقل الخطابي وغيره الإجماع على أن صلاة الجمعة بدون الغسل مجزئة لكن حكى الطبري من قوم أنهم قالوا بوجوبه، ولم يقولوا: إنه شرط، بل واجب مستقل تصح الصلاة بدونه، كأن أصله قصد التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس. الخ كلامه رحمه الله تعالى.(11/170)
أو لأنهم حاولوا الجمع بين الأحاديث التي توجب الغسل وبين أحاديث تعارضها، ولكن ليست صحيحة، مثل حديث ((من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)) .
قالوا: فقوله ((الغسل أفضل)) فإنه يقتضي إشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء، فحملهم ذلك على تأويل ((غسل يوم الجمعة واجب)) إلى ما ذكرنا من أن المقصود به توكيد الغسل، وليس لزومه.
والحق أن سند هذا الحديث لا يمكن أن يعارض به أحاديث الصحيحين، فقد علمت ما في الحديث من اختلاف من خلال الكلام على سنده ومتنه.
قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة، وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر - يعني من الأمر بالغسل، ومن الحكم بأنه واجب - وقد أولوا صيغة الأمر على الندب، وصيغة الوجوب على التأكيد، كما يقال: إكرامك علي واجب، وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحاً على هذا الظاهر، وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)) ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث. الخ كلامه رحمه الله (1) .
_________
(1) الفتح تحت رقم (879) .(11/171)
قلت: وكلمة (واجب) في الحقيقة الشرعية تعني اللزوم، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم)) .
وقد أخرج أبو داود (1) ، والنسائي (2) ، وابن الجارود (3) ، والطبراني في المعجم الأوسط (4) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار، (5) وابن خزيمة (6) ، وابن حبان (7) ، والبيهقي (8) ، من طرق عن مفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن نافع، عن ابن عمر،
عن حفصة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل. فجمع بكلمة (على) الظاهرة في الوجوب بين الرواح وبين الغسل (9) .
_________
(1) السنن (342) .
(2) روى النسائي الجملة الأولى منه فقط دون الغسل (1371) .
(3) المنتقى (287) .
(4) الأوسط (4816) .
(5) شرح معاني الآثار (1/116) .
(6) صحيح ابن خزيمة (1721) .
(7) صحيح ابن حبان (1220) .
(8) سنن البيهقي (3/172) .
(9) تفرد بالزيادة في إسناده ومتنه مفضل بن فضالة، عن عياش، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن نافع، ورواية نافع عن ابن عمر في الصحيحين وغيرهما، ليس فيه زيادة ذكر حفصة في الإسناد، وليس فيه الجمع بين الأمر بالرواح، والأمر بالغسل.
قال الطبراني كما في الفتح تحت رقم (879) : لم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلا بكير، ولا عنه إلا عياش، تفرد به مفضل. ولم أقف على تعليق الطبراني في نسختي من الأوسط.
وتعقبه الحافظ بقوله: رواته ثقات، فإن كان محفوظاً فهو حديث آخر، ولا مانع أن يسمعه ابن عمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن غيره من الصحابة، فسيأتي في ثاني أحاديث الباب من رواية ابن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله الله عليه وسلم، ولا سيما مع اختلاف المتون. أهـ
قلت: القواعد الحديثية تقتضي شذوذ هذه الزيادة، فقد رواه نافع وسالم وأخوه عبد الله وعبد الله بن دينار عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعضها: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، ورواية بعضهم في الصحيحين، ولم يذكروا حفصة في إسناده، كما لم يجمعوا بين وجوب الرواح ووجوب الغسل، بل اقتصروا على لفظ: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل. وإليك بيان ما وقفت عليه ممن خرج أحاديثهم، فقد روى الحديث جماعة منهم:
الأول: مالك كما في الموطأ (1/102) ، ومسند أحمد (2/64) ، وصحيح البخاري
(877) ، وسنن النسائي (1376) ، والسنن الكبرى له (1678) ، وسنن الدارمي (1536) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/115) ، وسنن البيهقي (1/293) .
الثاني: الليث كما في صحيح مسلم (844) ، وسنن البيهقي (1/297) .
الثالث: عبيد الله بن عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/435) ، رقم 5014، ومسند أحمد (2/3) ، والمنتقى لابن الجاورد (280) ، والطبراني في الكبير (13392) ، وصحيح ابن حبان (1225) ، والخطيب في تاريخه (5/300) .
الرابع: الحكم بن عتيبة، كما في الطيالسي (1850) ، ومصنف ابن أبي شيبة (1/436) رقم 5021، وأحمد (2/77) ، وسنن النسائي (1405) ، وفي الكبرى (1677) ، والطحاوي (1/115) ، والمعجم الأوسط للطبراني (108) .
الخامس: أبو إسحاق السبيعي، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/433) ، ومسند أحمد (2/42) ، والنسائي في الكبرى (1679) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/115) .
السادس: يحيى بن سعيد الأنصاري كما في صحيح ابن حبان (1225) .
السابع: يحيى بن كثير الكاهلي، كما في صحيح ابن حبان (1224) ،.والله أعلم.
الثامن: مالك بن مغول، كما في مسند أحمد (2/41) .
التاسع: أيوب، كما في مسند الطيالسي (1848) ، والحميدي (610) ، أحمد (2/48) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/115) .
العاشر: يحيى بن أبي كثير، كما في مسند أحمد (2/105) ، والطبراني في الأوسط
(26، 56) .
الحادي عشر: الزهري، كما في معجم الأوسط للطبراني (46) .
الثاني عشر: عبد الله بن سعيد بن أبي هند، كما في المعجم الأوسط للطبراني (257) .
كل هؤلاء رووه عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يذكروا في الإسناد حفصة، ولم يجمعوا بين الأمر بالرواح إلى الجمعة وبين الأمر بالغسل، بل اقتصروا على قولهم " من جاء منكم الجمعة فليغتسل ".
وقد وافقهم سالم وأخوه عبد الله وعبد الله بن دينار، فرووه عن ابن عمر بمثل ما رواه الجماعة من طريق نافع، عنه.
فأما رواية سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد رواه الطيالسي (1818) ، وأحمد (2/9) ، والحميدي (608) ، والبخاري (894) ، ومسلم (844) ، والترمذي (492) ، والنسائي في الكبرى (1672) ، وفي المجتبى (1406) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/155) وابن الجارود في المنتقى (283) وابن خزيمة (1749) ، والبيهقي (3/188) .
وأما رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنه. فهي في مسند أحمد (2/37) ، والحميدي (609) ، وصحيح ابن حبان (1223) .
وأما رواية عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، فهي في مسند أحمد (2/120) ، وصحيح مسلم (844) ، والترمذي (493) ، والنسائي في الكبرى (1675) ، وفي المجتبى
(1407) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/115) من طريق الليث،
وأخرجه عبد الرزاق (5291) ، وأحمد (2/149) ، ومسلم (844) ، والنسائي في الكبرى (1673) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/115) ، والبيهقي في السنن (1/293) من طريق ابن جريج كلاهما (الليث وابن جريج) روياه عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر مرفوعاً.
قال النسائي: ما أعلم أحداً تابع الليث على هذا الإسناد غير ابن جريج، وأصحاب الزهري يقولون: عن سالم بن عبد الله عن أبيه.
ورواه يحيى بن وثاب، عن ابن عمر كما في مسند أحمد (2/53،115) ، والنسائي في الكبرى (16801) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/115) .
فكل هؤلاء يشهد على خطأ حديث من جعله عن ابن عمر عن حفصة، وهو طريق فرد لم يتابع، فالباحث يجزم بشذوذ مثل هذا الطريق، وطريقة المتقدمين تأبى قبول مثل ذلك، بل إذا كان النسائي يشير إلى تعليل الحديث من طريق عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، مع أنه ورد من طريقين كلاهما ثقة ابن جريج والليث، ولم يختلف في متنه لمجرد أن أصحاب الزهري رووه عنه، عن سالم، عن ابن عمر، فما بالك بهذا الطريق الذي اشتمل على مخالفتين أحدهما في الإسناد، والأخرى في المتن، والله أعلم.
انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: إتحاف المهرة (21382) .(11/172)
دليل من قال: الغسل واجب على من كان به رائحة كريهة.
الدليل الأول:
(1178-51) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير،
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في العباء يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم، وهو عندي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا. ووراه مسلم (1) .
وأجيب:
بأن هذا الحديث لا ينافي الوجوب، فبيان سبب الوجوب لا ينافي استصحاب الحكم، مع أن حديث عائشة ليس فيه أمر بالغسل، وإنما كان مجرد عرض وحث على الغسل، ثم أمرهم أمر إلزام بالغسل بعد ذلك، وكون السبب قد ارتفع لا يرتفع الحكم، أرأيت إلى مشروعية الرمل في الطواف، كان سبب مشروعيته إغاظة المشركين، ودحض ما أشاعوه بين الناس، بأن
_________
(1) البخاري (902) ، ومسلم (847) .(11/175)
الصحابة رضوان الله عليهم قد وهنتهم حمى يثرب، ولا يزال الناس يرملون إلى اليوم، مع أن الله سبحانه وتعالى قد طهر مكة من رجس المشركين.
الدليل الثاني:
(1179-52) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز، يعني ابن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو،
عن عكرمة، أن أناسا من أهل العراق جاءوا، فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الريح قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه. قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق (1) .
_________
(1) سنن أبي داود (353) ، ومن طريق عبد الله بن مسلمة أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/116-117) .
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/116-117) من طريق ابن أبي مريم، عن الدراوردي به.
ورواه أحمد (1/268) وعبد بن حميد كما في المنتخب (590) ، وابن خزيمة (3/127) والحاكم في المستدرك (1/280-281) من طريق سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو به.
إنظر إتحاف المهرة (8295) ، أطراف المسند (3/221) ، التحفة (6179) .(11/176)
[قال الحافظ إسناده حسن] (1) .
وأجاب عنه الحافظ بعدة أجوبة، منها:
أولاً: الثابت عن ابن عباس خلافه.
قلت: لعل الحافظ يشير إلى ما رواه ابن عباس مرفوعاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالغسل أمراً مطلقاً (2) ، فإن كان مقصود الحافظ بقوله: ((خلافه)) أنه يخالفه مخالفة معارضة، بحيث يلزم من قبول هذا طرح ذاك، فليس بصواب، فابن عباس ساق سبب وجوب الغسل، ثم روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالغسل أمراً مطلقاً، وهما لا يتعارضان، خاصة فيما يتعلق بالمرفوع، أما فهم ابن عباس، بأن السبب إذا ارتفع ارتفع الحكم، فهذا فهم من عنده، موقوفاً عليه، والحجة في المرفوع خاصة، كما سيشير إليه الحافظ في الكلام التالي.
ثانياً: قال الحافظ: ((على تقدير الصحة، فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب فهو موقوف؛ لأنه من استنباط ابن عباس، وفيه نظر؛ إذ لا يلزم من زوال السبب زوال المسبب، كما في الرمل والجمار)) (3) .
هذا فيما يتعلق بأهم الأدلة لكل فريق، وبعد استعراض الأدلة نجد أن
_________
(1) الفتح تحت رقم (879) ، وهو كما قال، ويشهد له حديث عائشة الذي قبله.
(2) روى البخاري في صحيحه (884) من طريق طاوس، قال: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رءوسكم، وإن لم تكونوا جنباً، وأصيبوا من الطيب. قال ابن عباس: أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أدري. ورواه مسلم أيضاً (848) .
(3) المرجع السابق.(11/177)
الخلاف في المسألة قوي جداً، وأجد نفسي تميل إلى القول بالوجوب، لأنه ظاهر الأحاديث، والقائلون بالسنية يحتاجون إلى تأويل النصوص، وصرفها عن ظاهرها، لمعارض ليس من القوة بحيث نضطر إلى تأويل النصوص عن ظاهرها، والله أعلم، ومع القول بوجوب الغسل فإن من صلى بدون أن يغتسل فصلاته صحيحة، حتى ولو تركه بدون عذر؛ لأن الغسل واجب، وليس شرطاً في صحة الصلاة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وجوب الغسل إنما كان من أجل النظافة وإزالة العرق، وليس عن حدث، والله أعلم.(11/178)
المبحث الثاني
غسل الجمعة لليوم أو للصلاة
اختلف الفقهاء هل غسل الجمعة للصلاة، أو لليوم؟
فقيل: الغسل للصلاة، ويدخل وقته بطلوع الفجر، وهو مذهب الجمهور من المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: الغسل للصلاة، ووقته أن يصلي الجمعة بذلك الغسل، حتى ولو اغتسل قبل طلوع الفجر، فإن اغتسل قبيل صلاة الجمعة، ثم أحدث قبل أن يصلي، أعاد الغسل، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (4) .
وقيل: الغسل لليوم، فلو اغتسل قبل غروب يوم الجمعة حقق السنة، اختاره بعض الحنفية (5) ، وهو اختيار ابن حزم (6) .
_________
(1) حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (1/379) ، واشترط المالكية ألا يفصل بني الغسل والرواح نوم أو غذاء إلا أن يكون ذلك في المسجد.
(2) إعانة الطالبين (2/72) ، المنهج القويم (ص: 380) ، المهذب (1/113) ، مغني المحتاج (1/291) .
(3) كشاف القناع (1/150) ، شرح منتهى الإرادات (1/83) .
(4) تبيين الحقائق (1/18) ، شرح فتح القدير (1/67) ، حاشية ابن عابدين (1/169) ، شرح فتح القدير (1/67) .
(5) حاشية ابن عابدين (1/169) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص:69) ، شرح فتح القدير (1/67) .
(6) المحلى (2/19) مسألة: 179.(11/179)
دليل من قال: الغسل يوم الجمعة للصلاة.
الدليل الأول:
(1180-53) ما رواه البخاري من طريق نافع وسالم فرقهما،
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل (1) .
الدليل الثاني:
ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز، يعني ابن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو،
عن عكرمة أن أناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الريح قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه. قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم
_________
(1) البخاري (877،894،919) .(11/180)
بعضا من العرق (1) .
[قال الحافظ إسناده حسن] (2) .
فكان مشروعية الغسل من أجل اجتماع الناس في المسجد، ودفعاً لما قد يتأذى بعضهم من بعض نتيجة انبعاث الروائح الكريهة عند اجتماع الناس.
الدليل الثالث:
(1181-54) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن
عبد الله بن عمر،
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فناداه عمر، أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت. فقال: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل (3) .
وجه الاستدلال:
أنكر عمر على عثمان إتيانه الجمعة مقتصراً على الوضوء، وتاركاً للغسل، ولو كان وقت الغسل لم يذهب بعد، لم يكن الإنكار في محله، فكان يمكن لعثمان أن يغتسل بعد الجمعة، فدل هذا على أن الغسل لحضور الصلاة، وليس لذات اليوم.
_________
(1) سنن أبي داود (353) .
(2) الفتح تحت رقم (879) ، وهو كما قال، ويشهد له حديث عائشة الذي قبله.
(3) البخاري (878) ، ومسلم (845) .(11/181)
الدليل الرابع:
(1182-55) ما رواه البخاري من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح السمان،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. ووراه مسلم (1) .
قوله: ((من اغتسل ثم راح)) التعبير بـ (ثم) دليل على الترتيب، فكان الغسل قبل الرواح.
دليل من قال: الغسل لليوم، وليس للصلاة.
الدليل الأول:
(1183-56) ما رواه البخاري من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار،
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. ورواه مسلم (2) .
_________
(1) البخاري (881) ، ومسلم (850) .
(2) صحيح البخاري (879) ، ومسلم (846) .(11/182)
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أضاف الغسل إلى يوم الجمعة، ويوم الجمعة يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
الدليل الثاني:
(1184-57) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير،
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في العباء يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم، وهو عندي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا (1) .
وجه الاستدلال:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا)) فجعل الطهر من أجل اليوم، وليس من أجل الصلاة.
الدليل الثالث:
(1185-58) ما رواه مسلم من طريق وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه،
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده.
_________
(1) البخاري (902) ، ومسلم (847) .(11/183)
وفي رواية للبخاري ((على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً)) (1) .
وجه الاستدلال:
جعل الغسل مشروعاً في السبعة أيام، فإذا اغتسل في اليوم السابع فقد قام بالمشروع، وقد بينب الرويات الأخرى، أن هذا اليوم هو يوم الجمعة، ففي أي ساعة اغتسل فقد امتثل الأمر.
(1186-59) فقد روى أحمد رحمه الله، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن داود بن أبي هند، عن أبي الزبير،
عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على كل مسلم غسل في سبعة أيام، كل جمعة (2) .
[أخطأ فيه داود بن أبي هند، فرواه على الجادة، عن أبي الزبير، عن جابر، وقد رواه الثقات عن أبي الزبير، عن طاووس، عن أبي هريرة] (3) .
_________
(1) مسلم (849) ، والبخاري (898) .
(2) المسند (3/304) .
(3) الحديث رواه أحمد كما في إسناد الباب، وابن أبي شيبة (1/434) رقم: 5007، والنسائي (1378) ، وابن خزيمة (1747) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/116) ، وابن حبان (1219) من طريق داود بن أبي هند به.
قال ابن أبي حاتم في العلل (49) : " سألت أبي عن حديث رواه داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " غسل يوم الجمعة واجب في كل سبعة أيام " قال أبي: هذا خطأ، إنما هو على ما رواه الثقات، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن أبي هريرة موقوف. اهـ
قلت: قد تابع ابن جريج داود بن أبي هند، فرواه عبد بن حميد كما في المنتخب
(1072) حدثني ابن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على كل مسلم في كل سبع غسل يوم، وذلك يوم الجمعة، فإما أن يكون الخطأ من ابن جريج، وقد دلسه عن أبي الزبير، حيث لم يصرح بالتحديث، وإما أن يكون الحمل على أبي الزبير، فإن أبا الزبير ليس بالمتقن، والله أعلم، خاصة أن رواية طاووس عن أبي هريرة والتي أشار إليها أبو حاتم الرازي، هي في الصحيحين، وقد سقتها قبل قليل، والله أعلم.
انظر إتحاف المهرة (3259) ، أطراف المسند (2/125) ، تحفة الأشراف (2706) .(11/184)
قلت: الجمع بين هذه الروايات ممكن، فقد يطلق الكل، ويراد به البعض، كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم
فاخشوهم} (1) .
وقد يطلق البعض، ويراد به الكل، كما في قوله تعالى: {فتحرير
رقبة} (2) ، فالأحاديث التي أطلق فيها الغسل يوم الجمعة، لم يرد به كل اليوم، وإنما أراد به بعض اليوم، وهو ما قبل صلاة الجمعة، والقرينة التي تؤيد ذلك الأحاديث الصحيحة المصرحة بالأمر بالغسل من أراد أن يأتي الجمعة، أي الصلاة، والله أعلم.
دليل من قال: لو اغتسل قبل الفجر ثم صلى الجمعة بذلك الغسل أجزأ.
استدل من جهة اللغة، فإن النصوص قد نصت على الغسل يوم الجمعة لمن يريد حضور الصلاة، واليوم يطلق ويراد به اليوم والليلة، قال تعالى: {قال
_________
(1) آل عمران: 173.
(2) النساء: 92.(11/185)
رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً} (1) .
وقال في آية أخرى {ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً} (2) .
(1187-60) وقد روى البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام (3) .
وفي رواية لمسلم: (أن أعتكف يوماً) ، قال - صلى الله عليه وسلم -: أوف بنذرك (4) .
الراجح من الخلاف:
أن الغسل للصلاة، ليس من قبيل الغسل عن الأحداث، فهو مراد به النظافة، ومن أجل اجتماع الناس، وقد أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في الأمر الوجوب، وجاء بعضها بلفظ (غسل الجمعة حق لله) وفي بعضها ((غسل الجمعة واجب)) وفي بعضها (على كل مسلم) وهي كلها ألفاظ إن لم تكن صريحة فهي ظاهرة في الوجوب، وقد علق الأمر بالسعي إلى الجمعة: ((إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)) وفي بعضها أضاف الغسل إلى يوم الجمعة، فيقال: الغسل للصلاة يوم الجمعة، ويوم الجمعة يدخل من ليلة الجمعة حتى حضور الصلاة، لكن لو أنه عندما نام ليلة الجمعة، تعرض لعرق كثير أذهب فائدة اغتسال ذلك اليوم، كان المطلوب منه إعادة الغسل؛ لأن غسل الجمعة المراد منه النظافة، وليس رفع الحدث، والله أعلم.
_________
(1) مريم: 10.
(2) آل عمران: 41.
(3) البخاري (2042) ، ومسلم (1656) .
(4) مسلم (1656) .(11/186)
مبحث
في غسل من لا تجب عليه الجمعة
بينت فيما سبق خلاف أهل العلم في وقت الغسل، وهل الغسل مشروع للصلاة أو لليوم؟ وينبني على هذا الخلاف خلاف آخر، فمن قال: إن الغسل للصلاة رأى أن الحكم خاص بمن تلزمه الجمعة، أو بمن أراد حضورها، ولو لم تلزمه.
ومن قال: إن الغسل لليوم، رأى أن الغسل مشروع للمرأة، والرجل، والمسافر، وغيرهم، بل ذهب بعض أهل العلم إلى مشروعيته حتى للحائض والنفساء، وإليك بيان الأقوال في هذه المسألة،
فقيل: يسن لكل من أراد حضور الجمعة، سواء الرجل والمرأة، والصبي والمسافر والعبد وغيرهم، ولا يسن لمن لم يرد الحضور، وإن كان من أهل الجمعة، وهو الصحيح من مذهب الحنفية (1) ، وهو مذهب المالكية (2) ، وأصح الأقوال في مذهب الشافعية (3) .
_________
(1) انظر الفتاوى الهندية (1/16) ، شرح فتح القدير (1/67) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/20) ،
(2) قال العدوي في حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني (1/379) : " تسن في حق كل من حضرها، ولو لم تلزمه من مسافر وعبد وامرأة وصبي، كان ذا رائحة كالقصاب: أي اللحام أم لا... الخ كلامه رحمه الله. وقال الدسوقي في حاشيته (1/384) : " والمعروف من المذهب أنه سنة لآتيها، ولو لم تلزمه ". اهـ وانظر الفواكه الدواني (2/266) .
(3) المجموع (4/405) ، وقال في حلية العلماء (2/240) : " والصحيح تعلق ذلك بالحضور دون لزومه ". اهـ وانظر مغني المحتاج (1/290) ، منهاج الطالبين (1/22) .(11/187)
وقيل: يسن لذكر حضر الجمعة، ولو لم تجب عليه، كالعبد، والمسافر، ولا يستحب للمرأة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: لا يسن إلا لمن لزمه الحضور، وهو قول في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: يسن لمن هو من أهل الجمعة، ومنعه من الحضور عذر ونحوه، وهو قول في مذهب الشافعية (3) .
وقيل: الغسل على كل بالغ من الرجال والنساء، حضروا الصلاة أو لم يحضروا، وهو قول أبي ثور (4) ، وقول في مذهب الشافعية (5) ، واختاره ابن حزم حتى للحائض والنفساء (6) .
دليل من قال: الغسل متعلق بالحضور، ولو لم تلزمه.
الدليل الأول:
(1188-61) ما رواه البخاري من طريق نافع وسالم فرقهما،
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل (7) .
_________
(1) الإنصاف (1/247) ، شرح منتهى الإرادت (1/83) ، كشاف القناع (1/150) ، مطالب أولي النهى (1/176) .
(2) المجموع (4/405) .
(3) المجموع (4/405) .
(4) حلية العلماء (2/240) .
(5) المجموع (4/405) ، مغني المحتاج (1/290) ، منهاج الطالبين (1/22) .
(6) المحلى (1/266) مسألة: 1790.
(7) البخاري (877،894،919) .(11/188)
فكلمة ((أحد)) نكرة مضافة، فتعم كل أحد ممن جاء إلى الجمعة، سواء كان صغيراً أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، مسافراً أو غير مسافر، ومن قصر اللفظ على بعض أفراده لزمه دليل على تقييد هذا المطلق.
الدليل الثاني:
(1189-62) ما رواه البخاري من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح السمان،
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. ووراه مسلم (1) .
قوله: ((من اغتسل ثم راح)) فيه فائدتان:
الأولى: أن الغسل قبل الرواح.
والثانية: أن الرواح سبب في الغسل.
الدليل الثالث:
(1190-63) ما رواه ابن خزيمة من طريق محمد بن رافع، عن زيد بن الحباب، حدثني عثمان بن واقد العمري، حدثني نافع،
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أتى الجمعة من الرجال
_________
(1) البخاري (881) ، ومسلم (850) .(11/189)
والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء (1) .
[ذكر النساء في الحديث غير محفوظ] (2) .
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (1752) .
(2) رواه ابن خزيمة كما في إسناد الباب، ومن طريق ابن خزيمة رواه البيهقي
(3/188) .
ورواه ابن حبان (1226) من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا زيد بن الحباب به. انظر إتحاف المهرة (11006) وقد ذكر الحافظ أن أبا عوانة قد رواه أيضاً من طريق زيد بن الحباب، عن عثمان بن واقد به.
وقد انفرد بزيادة ذكر النساء عثمان بن واقد، عن نافع، وقد رواه جمع عن نافع، ولم يذكروا ما ذكره عثمان بن واقد، كما رواه سالم وأخوه عبد الله وابن دينار ويحيى بن وثاب وغيرهم عن ابن عمر ولم يذكروا في الحديث لفظ (النساء) .
قال الآجري عن أبي داود: عثمان بن واقد ضعيف. قلت له: إن الدوري يحكي عن ابن معين أنه ثقة، فقال: هو ضعيف، حدث بحديث: " من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل " ولا نعلم أحدا ًقال هذا غيره. اهـ
قلت: قد خالف عثمان بن واقد كلاً من مالك، وعبيد الله بن عمر، والليث، والحكم ابن عتيبة، وأبي إسحاق السبيعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن كثير الكاهلي، ومالك ابن مغول، وأيوب، ويحيى بن أبي كثير.
وإليك بيان مصادر هذه الرويات، فلو خالف عثمان بن واقد مالكاً وحده لردت رواياته، كيف وقد خالف أخص أصحاب نافع: عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس.
فرواية مالك في الموطأ (1/102) ، ومسند أحمد (2/64) ، وصحيح البخاري (877) ، وسنن النسائي (1376) ، والسنن الكبرى له (1678) ، وسنن الدارمي (1536) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/115) ، وسنن البيهقي (1/293) .
الثاني: الليث كما في صحيح مسلم (844) ، وسنن البيهقي (1/297) ،
الثالث: عبيد الله بن عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/435) ، رقم 5014، ومسند أحمد (2/3) ، والمنتقى لابن الجاورد (280) ، والطبراني في الكبير (13392) ، وصحيح ابن حبان (1225) ، والخطيب في تاريخه (5/300) .
الرابع: الحكم بن عتيبة، كما في الطيالسي (1850) ، ومصنف ابن أبي شيبة (1/436) رقم 5021، وأحمد (2/77) ، وسنن النسائي (1405) ، وفي الكبرى (1677) ، والطحاوي (1/115) .
الخامس: أبو إسحاق السبيعي، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/433) ، ومسند أحمد (2/42) ، والنسائي في الكبرى (1679) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/115) .
السادس: يحيى بن سعيد الأنصاري كما في صحيح ابن حبان (1225) .
السابع: يحيى بن كثير الكاهلي، كما في صحيح ابن حبان (1224) ،.والله أعلم.
الثامن: مالك بن مغول، كما في مسند أحمد (2/41) .
التاسع: أيوب، كما في مسند الطيالسي (1848) ، والحميدي (610) ، أحمد (2/48) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/115) .
العاشر: يحيى بن أبي كثير، كما في مسند أحمد (2/105) ، والطبراني في الأوسط (26، 56) .(11/190)
دليل من قال: الغسل يلزم كل بالغ حضر الجمعة أو لا.
الدليل الأول:
(1191-64) ما رواه البخاري من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار،
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم (1) .
فكلمة ((كل)) من ألفاظ العموم، فتعم الرجال والنساء، مَنْ حضر الجمعة ومن لم يحضر، حتى الحائض والنفساء.
_________
(1) صحيح البخاري (879) ، ومسلم (846) .(11/191)
الدليل الثاني:
(1192-65) ما رواه مسلم من طريق وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه،
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده. ورواه البخاري (1) .
وجه الاستدلال:
أنه جعل الغسل في كل سبعة أيام، فكأن هذا توقيت لتنظيف الجسد مرة واحدة من كل أسبوع، حضر الجمعة أو لم يحضر.
وأجابوا عن حديث ((من جاء منكم الجمعة فليغتسل)) بأن هذا الحديث فيه الأمر بالغسل على من حضر الجمعة، وليس فيه نص على إسقاط الغسل عمن لم يحضر، وفي الأحاديث الأخرى بينت وجوب الغسل على كل مسلم كما في حديث ((حق لله على كل مسلم)) وفي بعضها ((واجب على كل محتلم)) فهذا قدر زائد فيجب الأخذ به.
دليل من قال: الغسل واجب على الرجال دون النساء.
(1193-66) ما رواه البخاري، من طريق سالم بن عبد الله،
أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من جاء منكم الجمعة فليغتسل. ورواه مسلم.
وجه الاستدلال:
أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من جاء منكم الجمعة)) يؤخذ منه فائدتان:
_________
(1) مسلم (849) ، والبخاري (898) .(11/192)
الأولى: أن الغسل مشروع في حق من يحضر الجمعة.
الثانية: أنه نص على وجوب الغسل على الرجال، لقوله: ((منكم)) ولم يقل: ((منكن)) فسقط وجوب الغسل على النساء.
وأجيب:
بأن الأحكام على عمومها للرجال والنساء إلا بدليل، فما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، وكذلك العكس، وقد قال تعالى: {وأقيموا الصلاة} فكان هذا خطاباً للرجال، وقدخل فيه النساء، وكذلك قوله:... {آتوا الزكاة} عام للرجال والنساء، كما أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى الجمعة فليغتسل)) فإن كلمة (من) اسم شرط، وهو من ألفاظ العموم.
دليل من قال: يلزم الغسل لمن تلزمه الجمعة وإن تركها لعذر.
قالوا: هذا الرجل المعذور في ترك الجمعة مشروع في حقه أمران، الأول حضور الجمعة، والثاني الغسل لها، فإذا عجز عن أحدهما لم يسقط الآخر.
الراجح من أقوال أهل العلم:
بعد استعراض أدلة كل قول، أجد أن القول بأن الغسل مشروع في حق من حضر الجمعة من الرجال والنساء البالغين أقوى من حيث الأدلة، والنصوص تفسر بعضها بعضاً، فالأحاديث التي تأمر بالغسل يوم الجمعة، يجب أن تقيد بالأحاديث التي تعلق الأمر بالغسل على شهود الجمعة، وقد نصت على أن الوجوب على كل محتلم، فغير البالغ، ولو حضر ليس مخاطباً في الغسل، خاصة إذا علمنا أن سبب مشروعية الغسل هو اجتماع الناس، وقد يتضايق بعضهم من بعض بسبب اجتماع الناس، وقد ينبعث من بعضهم بعضُ الروائح التي تؤذي الآخرين، والله أعلم.(11/193)
[صفحة فارغة](11/194)
الفصل السابع
من موجبات الغسل حيض المرأة
اتفق العلماء على أن الغسل يجب من الحيض، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع.
أما من القرآن: فقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (1) .
وجه الاستدلال:
أن المرأة يلزمها تمكين زوجها من الوطء، ولا يجوز ذلك إلا بالغسل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإن قيل: أين الدلالة من الآية على أنه لا يجوز الوطء إلا بعد الاغتسال؟
فالجواب:
أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بجواز إتيان الزوجة بشرطين:
الأول: انقطاع الدم، ويؤخذ من قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (2) .
فقوله: ((يطهرْنَ)) بالتخفيف. كلمة ((طهر)) تستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع دم الحيض.
_________
(1) البقرة آية (222) .
(2) البقرة، آية: 222.(11/195)
الشرط الثاني: ((فإذا تطهرن فأتوهن)) وكلمة (تطهرن) بالتشديد: أي اغتسلن؛ لأن كلمة (تطهرّ) تستعمل فيما يكتسبه الإنسان بفعله، وهو الاغتسال من الماء.
وقد سبق تحرير هذه المسألة في كتاب الحيض والنفاس من هذه السلسلة.
الدليل من السنة على وجوب الاغتسال:
(1194-67) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي،
عن عائشة رضي الله عنها، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: ((إني استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟)) فقال: لا، إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)) (1) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم اغتسلي وصلي)) أمر بالاغتسال، والأصل في الأمر الوجوب.
(1195-68) ودليل آخر رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبدالله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن،
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة بنت جحش، ختنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف، استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي.
_________
(1) صحيح البخاري (325) . وقد رواه الشيخان أيضاً بلفظ: " فاغسلي عنك الدم ثم صلي ".(11/196)
قالت عائشة فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش، حتى تعلو حمرة الدم الماء. قال ابن شهاب فحدثت بذلك أبا بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: يرحم الله هنداً، لو سمعت بهذه الفتيا، والله إن كانت لتبكي؛ لأنها كانت لا تصلي (1) .
وجه الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فاغتسلي وصلي)) .
وفي رواية: ((امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي)) .
وأما الدليل من الإجماع:
فقد نقل الإجماع جماعة، منهم الكاساني الحنفي (2) .
وقال النووي: ((أجمع العلماء على وجوب الغسل بسبب الحيض، وبسبب النفاس، وممن نقل الإجماع فيهما ابن المنذر، وابن جرير الطبري وآخرون)) (3) .
ونقل الإجماع ابن مفلح الحنبلي (4) .
_________
(1) صحيح مسلم (334) .
(2) بدائع الصنائع (1/138) .
(3) المجموع (2/168) .
(4) المبدع (1/185) .(11/197)