B: لا تزرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله B دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله B. قال: فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنه عليه.
وجه الاستدلال:
قوله B: " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول أو القذر".
قال القرطبي في المفهم: " فيه حجة لمالك، في منع إدخال الميت المسجد، وتنزيهها عن الأقذار جملة، فلا يقص فيها شعر، ولا ظفر، ولا يتسوك فيها ؛ لأنه من باب إزلة القذر، ولا يتوضأ فيها، ولا يؤكل فيها طعام منتن الرائحة إلى غير ذلك مما في هذا المعنى ". (1) .
فلما كان السواك عندهم من باب إزالة الأذى، والمساجد يجب صيانتها، وقد يخرج قذر من أسنانه مع التسوك، فيقع في المسجد، لذلك منعوا التسوك في المسجد.
دليل من قال: لا يكره.
(710-46) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله B، قال:
لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل
_________
(1) المفهم (1/544).(3/694)
صلاة (1) .
فهذا دليل على استحباب السواك عند كل صلاة، وكل ما كان السواك مقارناً لفعل الصلاة كانت العندية أكثر تحققاً، وأحاديث السواك عند كل صلاة في الصحيحين، فلا سبيل إلى الطعن فيها.
وثانياً: لا نسلم أن السواك من باب إزالة المستقذرات، ولو سلم لم يلزم منه تلويث المسجد حتى يمنع منه، ثم إننا نقول: بمشروعية السواك للصلاة، ولو كان الفم نظيفاً تحقيقاً للسنة، كما نقول: بغسل اليدين ثلاثاً عند الوضوء، ولو تحققنا من نظافة اليد.
قال ابن تيمية: السواك في المسجد ما علمت أحداً من العلماء كرهه، بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون في المسجد، ويجوز أن يبصق الرجل في ثيابه في المسجد، ويمتخط في ثيابه باتفاق الأئمة، وبسنة رسول الله B الثابتة عنه، بل يجوز التوضؤ في المسجد بلا كراهة عند جمهور العلماء، فإذ جاز الوضوء فيه مع أن الوضوء يكون فيه السواك، وتجوز الصلاة فيه، والصلاة يستاك عندها، فكيف يكره السواك؟ وإذا جاز البصاق والامتخاط فيه، فكيف يكره السواك ؟ (2) .
وقال العراقي في طرح التثريب: " ولو سلم أن السواك من باب إزالة القاذورات، فهو لا يلقيه في المسجد، وإنما يزيله في السواك، فإذا كان السواك محفوظاً معه فلا بأس، وقد ندب إلى السواك لكل صلاة، فيؤمر حاضر المسجد أن يخرج حتى يستاك خارج المسجد ؟هذا مما لا يعقل معناه. والله أعلم. اهـ (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (887).
(2) الفتاوى الكبرى (1/272،302).
(3) طرح التثريب (2/141).(3/695)
[صفحة فارغة](3/696)
الفصل الرابع
حكم السواك بحضرة الناس
الفصل الرابع
حكم السواك بحضرة الناس
قيل: يكره السواك بحضرة الناس، اختاره بعض المالكية (1) .
وقيل: لا يكره، وهو الصواب (2) .
تعليل من قال بالكراهة.
قال القرطبي: يتجنب استعمال السواك في المساجد والمحافل، وحضرة الناس، ولم يرو أنه تسوك في المسجد ولا في محفل من الناس لأنه من باب إزالة القذر والوسخ، ولا يليق بالمساجد، ولا محاضر الناس، ولا يليق بذوي المروءات فعل ذلك في الملأ من الناس ". (3) .
دليل من قال: لا يكره.
(711-47) استدل بما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه، قال:
أتيت النبي B فوجدته يستن بسواك بيده، يقول: أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع (4) .
ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أنه يؤخذ من الحديث أن
_________
(1) الفواكه الدواني (1/265)، حاشية العدوي (1/183).
(2) حاشية ابن عابدين (1/169)،
(3) المفهم (1/509).
(4) صحيح البخاري (244).(3/697)
السواك من باب التنظيف والتطيب، لا من باب إزالة القاذورات، لكونه B لم يختف به، وبوبوا عليه " استياك الإمام بحضرة رعيته" (1) .
_________
(1) فتح الباري، شرح حديث (244). وقد ذكر ذلك ابن دقيق العيد، حيث رد القول بأنه لا يتسوك بحضرة الناس مستدلاً بحديث أبي موسى الذي ذكرناه، ثم قال: إن بعضهم ترجم على هذا الحديث: استياك الإمام بحضرة رعيته. انظر مواهب الجليل (1/266).(3/698)
الفصل الخامس
التسوك في الخلاء
الفصل الخامس
التسوك في الخلاء
كره بعض فقهاء الحنفية السواك في الخلاء (1) .
والصحيح عدم الكراهة.
تعليل الكراهة.
لعلهم رأوا أن السواك من باب التطيب، ولم يعتبروه من باب إزالة القاذورات، وأنه عبادة، فيه مرضاة للرب.
والصحيح عدم الكراهة، والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، ولا دليل في المسألة. والسواك فيه جانب تطهير للفم، فلا يصح التعليل أنه من باب التطيب فقط.
_________
(1) درر الحكام (1/10)، بريقة محمودية (4/188)(3/699)
[صفحة فارغة](3/700)
الفصل السادس
لو تسوك بمضر
هل يحصل له أجر السواك
الفصل السادس
لو تسوك بمضر هل يحصل له أجر السواك
قيل: يحرم التسوك بضار، ويجزئ (1) .
وقيل: لا يجزئ.
تعليل من قال: يجزئ.
قال: لأن المقصود قد حصل به، وهو إزالة القلح، وتطهير الفم.
تعليل من قال لا يجزئ.
قالوا: إن هذا العمل محرم، ولا يمكن أن يقع قربة، لأنه مضاد لأمر الله ورسوله، من تحريم تعاطي المضر. ولو قلنا: يحصل به إصابة السنة، لكنا رتبنا على فعل محرم أثراً شرعياً، وهذا غير جائز.
(712-48) وقد روى مسلم رحمه الله قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعا، عن أبي عامر، قال عبد بن حميد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، عن القاسم بن محمد، قال:
أخبرتني عائشة أن رسول الله B قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
الرد: هو المردود، وإذا كان مردوداً فكيف تحصل به السنة، ويصيب الأجر ؟ والله أعلم.
_________
(1) نهاية المحتاج (1/179)، حاشية الجمل (1/117).(3/701)
[صفحة فارغة](3/702)
الفصل السابع
هل تشرع التسمية للسواك
الفصل السابع
هل تشرع التسمية للسواك
استحب بعض المالكية (1) ، والشافعية (2) ، التسمية للسواك.
دليلهم:
(713-49) حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله B: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع (3) .
[إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب] (4) .
_________
(1) الخرشي (1/140) .
(2) أسنى المطالب (1/36) .
(3) المسند (2/359) .
(4) أما ضعف إسناده ففيه قرة بن عبد الرحمن، وفي التقريب يقال: اسمه يحيى.
قال أحمد: منكر الحديث جداً. الكامل (6/53) ، لسان الميزان (7/492) .
وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، كما في رواية ابن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (7/131) ، تهذيب التهذيب (8/333) .
وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال أبو زرعة: الأحاديث التي يرويها مناكير. الجرح والتعديل (7/131) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/333) .
وذكره ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار (526) .
وذكره في الثقات. ثقات ابن حبان (7/382) ورد قول ابن السمط أن قرة بن عبد الرحمن أعلم الناس بالزهري، وقال: كيف يكون أعلم الناس بالزهري، وكل شيء روى عنه لا يكون ستين حديثاً.
قلت ما نسبه ابن حبان من قول ابن السمط إنما هو من قول الأوزاعي. انظر الجرح والتعديل (7/131) ، وتهذيب التهذيب (8/333) .
وقال الآجري عن أبي داود: في حديثه نكارة. تهذيب التهذيب (8/333) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/485)
وفي التقريب: صدوق له مناكير.
وقد اضطرب إسناده ومتنه.
أما اضطراب الإسناد فقيل فيه كما في إسناد الباب:
الأوزاعي عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقيل: الأوزاعي، عن الزهري به، سقط منه قرة.
وقيل: الأوزاعي، عن يحيى (قرة بن عبد الرحمن) عن أبي سلمة به، سقط منه الزهري.
وقيل: عن الزهري عن النبي B مرسلاً.
وأما اضطراب المتن، فقيل:
" كل أمر لا يفتح بذكر الله.. "
وقيل: " لا يبدأ فيه بحمد الله.. ".
وقيل: " لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ".
وقيل: " لا يبدأ بحمد الله والصلاة عليَّ ـ أي على النبي B " فزاد الصلاة على النبي B? وإليك تفصيل ما أجمل من الإسناد والمتن:
أما رواية:] لا يبدأ فيه بذكر الله [:
فرواها ابن المبارك كما عند أحمد (2/359) ، وموسى بن أعين كما في سنن الدارقطني (1/129) كلاهما عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وأما رواية:] لا يبدأ فيه بحمد الله [:
فرواها جماعة
الأول: الوليد بن مسلم، كما في سنن أبي داود (4840) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة (494) ، والدارقطني (1/229) .
الثاني: عبيد الله بن موسى، كما في سنن ابن ماجه (1849) .
الثالث: عبد الحميد بن أبي العشرين، كما في صحيح أبن حبان رقم (1) .
الرابع: شعيب بن إسحاق، كما في صحيح ابن حبان رقم (2) .
الخامس: أبو المغيرة: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني كما في سنن البيهقي (3/208،209) خمستهم رووه عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة به، فتبين أن أكثر الرواة يروونه بلفظ " الحمد " وليس فيها شاهد على مسألتنا، ولذا قال الحافظ في الفتح (8/220) في تفسير قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} في الكلام على حديث هرقل، قال: " وصححه ابن حبان وفي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته، فالمشهور فيه بلفظ: حمد الله ".
وأما الرواية بلفظ:] لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم [
فقد رواه الخطيب في الجامع (1210) من طريق مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن الزهري به.
وهذا الطريق كما أن فيه مخالفة في المتن، فيه مخالفة في الإسناد، حيث أسقط من سنده قرة بن عبد الرحمن.
وأما رواية:] لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليَّ [:
فقد أخرجها الخليلي في الإرشاد (1/449) من طريق إسماعيل بن أبي زياد الشامي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة به.
قال المناوي في فيض القدير (5/14) : " وقال الرهاوي غريب تفرد بذكر الصلاة. فيه إسماعيل بن أبي زياد، وهو ضعيف جداً، لا يعتبر بروايته ولا بزيادته ".
قال الدارقطني: يضع الحديث، كذاب متروك. الضعفاء والمتروكين له (85) . الكشف الحثيث (142) ، اللسان (1/1/406) .
وقال الخليلي: ليس بالمشهور، كان يكون في دار المهدي. يقال: إنه كان يعلم ولد المهدي، وهو من جملة الحواشي، ويشحن هذا التفسير بأحاديث مسندة يرويها عن شيوخه عن ثور بن يزيد، وعن يونس الأيلي أحاديث لا يتابع عليها. الإرشاد (1/391) .
] وأما رواية الزهري عن النبي B مرسلاً [
فأخرجها النسائي (496) في عمل اليوم والليلة عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري مرسلاً، وأخرجه (495) عن محمود بن خالد، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد ابن عبدالعزيز، عن الزهري به.(3/703)
والراجح أن التسمية لا تشرع
أولاً: الأصل في العبادات الحظر حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث السواك لم ينقل فيها عن النبي B أنه تسوك. واستحباب التسمية في كل شيء ليس على اطلاقه، فهناك أمور تكون التسمية فيها من البدع، كالتسمية للأذان، والتسمية للصلاة، والتسمية لرمي الجمرات، فلم ينقل عن النبي B أنه كان يسمي لهذه العبادات.(3/706)
الباب الرابع
في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك
ويشتمل على عشرة فصول ومبحثين:
الفصل الأول: السواك عند الصلاة.
الفصل الثاني: السواك عند الوضوء.
الفصل الثالث: في مشروعية السواك للغسل والتيمم.
الفصل الرابع: يستحب السواك عند الانتباه من النوم.
الفصل الخامس: يستحب السواك عند تغير الفم.
الفصل السادس: استحباب السواك عند دخول البيت.
الفصل السابع: حكم السواك عند دخول المسجد.
الفصل الثامن: التسوك عند قراءة القرآن.
المبحث الأول: حكم السواك لسجود التلاوة والشكر.
المبحث الثاني: الاستياك للقراءة بعد السجود.
الفصل التاسع: من المواضع التي يتأكد فيها السواك يوم الجمعة.
الفصل العاشر: هل يستحب السواك عند الاحتضار.(3/707)
[صفحة فارغة](3/708)
الباب الرابع
في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك
لا شك أن السواك مسنون كل وقت؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " مطلق.
قال الشوكاني: " أطلق فيه السواك، ولم يخصه بوقت معين، ولا بحالة مخصوصة، فأشعر بمطلق شرعيته، وهو من السنن المؤكدة " اهـ (1) .
لكن هناك مواضع يكون استحباب السواك فيها آكد. وسوف نعرض لها مسألة مسألة، ونبين ما فيها من خلاف ووفاق. والله المستعان.
الفصل الأول
السواك عند الصلاة
قيل: السواك واجب للصلاة. على خلاف هل تصح الصلاة إذا تركه أم لا؟ وهو مذهب داود (2) ، وإسحاق بن راهوية (3) .
وقيل: السواك سنة عند الصلاة مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً، وسواء صلى بطهارة ماء أو تيمم، وسواء كان الفم متغيراً أو نظيفاً. وهو اختيار
_________
(1) نيل الأوطار (1/133،134) .
(2) المنتقى شرح الموطأ (1/130) ، مواهب الجليل (1/264) ، المغني - ابن قدامة (1/69) والمجموع (1/327) .
(3) المجموع (1/327) ، المغني ـ ابن قدامة (1/69) .(3/709)
بعض الحنفية (1) ،
ومذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، واختيار ابن حزم (4) .
وقيل: إن السواك من سنن الوضوء، لا من سنن الصلاة، اختاره أكثر الحنفية (5) .
_________
(1) قال في حاشية ابن عابدين (1/114) : " كيف لا يستحب للصلاة التي هي مناجاة الرب تعالى، مع أنه يستحب للاجتماع بالناس ".
وقال في البحر الرائق (1/21) : " يبعد عدم استحبابه في الصلاة التي هي مناجاة للرب تعالى، سيما عند بعد العهد من الوضوء مع ما فيها من قراءة القرآن التي يستحب استعماله عندها، وحضور الملائكة عندها مع أنهم استحبوه عند مجامع الناس، فبالأولى مع حضور الملائكة ". اهـ
(2) المجموع (1/328) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/58) ، وقال في تحفة المحتاج (1/216) : " ويتأكد للصلاة فرضها ونفلها، وإن سَلَّمَ من كل ركعتين، وقرب الفصل". وانظر مغني المحتاج (1/184) ،
(3) المغني (1/116) ، الإنصاف (1/118) ، أسنى المطالب (1/36) ، كشاف القناع (1/72) ،
(4) قال في المحلى (1/423) : " والسواك مستحب، ولو أمكن لكل صلاة لكان أفضل ".
(5) قال في مراقي الفلاح ص: 28) : " وهو من سنن الوضوء عندنا، لا من سنن الصلاة، فتحصل فضيلته لكل صلاة أداها بوضوء استاك فيه ". اهـ
وقال في الجوهرة النيرة (1/6) : " السواك عندنا من سنن الوضوء، وعند الشافعية من سنن الصلاة ". اهـ
والفرق بينه، وبين من استحب السواك للصلاة قال في البحر الرائق (1/21) : تظهر فيمن صلى بوضوء واحد صلوات، فيكفيه السواك للوضوء عندنا، وعند الشافعي: يستاك لكل صلاة ". اهـ
وقد قال الرملي من الشافعية في فتاويه في سؤال عمن تسوك عند وضوئه، ولم يتسوك عند الصلاة، فأجاب بأنه لا يحصل له الثواب المترتب على الصلاة بالسواك، وإن أثيب على إتيانه عند الوضوء ". اهـ فتاوى الرملي (1/39) .(3/710)
وقيل: إن صلى في المسجد فلا يستاك، وإن صلى بغير المسجد فيستاك. وهو مذهب المالكية (1) .
وقيل: يتأكد السواك عند صلاتي الصبح والظهر حكاه الأوزاعي عن بعض أهل العلم (2) .
دليل من قال: السواك واجب عند الصلاة.
ذكرت دليله في حكم السواك، والجواب عنه فليراجع.
_________
(1) سبق أن بينا في مسألة مستقلة أن القرطبي في المفهم ذكر أن مالكاً لا يرى السواك في المسجد، ولا يعني هذا أنه لا يرى السواك للصلاة، لأنه يمكن أن يتسوك عند قيامه إلى الصلاة. وقد قال صاحب مواهب الجليل (1/264) : " السواك مستحب في جميع الأوقات، ولكنه في خمسة أوقات أشد استحباباً. أحدها عند الصلاة، سواء كان متطهراً بماء أو بتراب، أو غير متطهر، كمن لم يجد ماء ولا تراباً ". وقال ابن عبد البر في التمهيد (3/172) : " فضل السواك مجمع عليه، لا اختلاف فيه، والصلاة عند الجميع بعد السواك أفضل منها قبله ". اهـ ولولا ما جاء في المفهم ـ للقرطبي (1/544) ، والتاج والإكليل (1/618) ، ومنح الجليل (8/89) ، ومواهب الجليل (1/266) من كراهية السواك في المسجد. لولا هذه النقول لقلت: إن مذهب مالك لا يختلف عن مذهب الجمهور.
وفي الفواكه الدواني (1/136) : " وكما يطلب السواك عند الوضوء، يطلب عند الصلاة ". اهـ
(2) طرح التثريب (2/65) ، وجاء في التمهيد (3/172) : " قال الأوزاعي رحمه الله: أدركت أهل العلم يحافظون على السواك مع وضوء الصبح والظهر، وكانوا يستحبونه مع كل وضوء، وكانوا أشد محافظة عليه عند هاتين الصلاتين ".(3/711)
دليل الجمهوز على استحاب السواك عند الصلاة.
(714-50) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله B، قال:
لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (1) .
دليل من قال يستحب للصلاة عند الوضوء لا عند الصلاة.
قالوا: إذا استاك للصلاة ربما يخرج منه دم، وهو نجس بالإجماع (2) ، كما أن خروج الدم ناقض للوضوء (3) .
ورده ابن عابدين، فقال: " هذا التعليل عليل، فقد رد بأن ذاك أمر متوهم، مع أنه لمن يثابر عليه لا يدمي" (4) .
وقال في تحفة الأحوذي: " نعم، من يخاف ذلك ـ يعني خروج الدم ـ فليستعمل بالرفق على نفس الأسنان واللسان دون اللثة، وذلك لا يخفى" (5) .
قلت: الراجح أن خروج الدم لا ينقض الوضوء، كما سأبينه إن شاء الله تعالى، في باب نواقض الوضوء. وحتى على القول بأنه ناقض فإن الدم
_________
(1) صحيح البخاري (887) ، ورواه مسلم (252) .
(2) البحر الرائق (1/21) ، وحكاية الإجماع غير صحيحة، كما سيأتي بيانه في باب نواقض الوضوء إن شاء الله تعالى.
(3) تحفة الأحوذي (1/102) .
(4) حاشية ابن عابدين (1/113) .
(5) تحفة الأحوذي (1/102) .(3/712)
الخارج يسير عرفاً، وهم حدوه بالفاحش.
دليل من كره السواك في المسجد.
ذكرت أدلتهم في مسألة سابقة مستقلة، وأجبت عن أدلتهم، فارجع إليه غير مأمور.(3/713)
[صفحة فارغة] [4/ 715] #(3/714)
الفصل الثاني
السواك عند الوضوء
الفصل الثاني
السواك عند الوضوء
قيل: السواك مستحب في الوضوء. وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (1) والمشهور من مذهب المالكية (2) ،
وقيل: سنة، وهو قول في مذهب الحنفية (3) ، ومذهب الشافعية (4) ،
_________
(1) وفي مذهب الحنفية قولان. قال ابن عابدين: قيل: إنه مستحب؛ لأنه ليس من خصائص الوضوء، وصححه الزيلعي وغيره. وقال في فتح القدير: إنه الحق. قال ابن عابدين: لكن في شرح المنية الصغير: وقد عده القدوري والأكثرون من السنن. وهو الأصح. قال ابن عابدين: وعليه المتون. حاشية ابن عابدين (1/113) ، وانظر البحر الرائق (1/1/21) ، وتبيين الحقائق (1/4) ، العناية شرح الهداية (1/25) ، الجوهرة النيرة (1/6) ، شرح فتح القدير (1/24،25) ، وانظر بدائع الصنائع (1/19) .
(2) وفي مذهب المالكية أيضاً قولان: المشهور أنه مستحب. واختار ابن عرفة أنه سنة. انظر: التاج والإكليل (1/380) ، وعده فضيلة (أي من المستحبات) ، وكذلك اعتبره الخرشي (1/138) من الفضائل. وقال في مواهب الجليل (1/264) : " أما حكمه فالمعروف في المذهب أنه مستحب. قال ابن عرفة: والأظهر أنه سنة لدلالة الأحاديث على مثابرته B عليه " وانظر المنتقى شرح الموطأ (1/130) .
(3) البحر الرائق (1/1/21) ، وتبيين الحقائق (1/4) ، العناية شرح الهداية (1/25) ، الجوهرة النيرة (1/6) ، شرح فتح القدير (1/24،25) .
(4) قال النووي في المجموع (1/328) : " الثالث ـ يعني من الأحوال التي يتأكد فيها استحباب السواك ـ عند الوضوء، اتفق عليه أصحابنا، ممن صرح به صاحبا الحاوي، والشامل، وإمام الحرمين، والغزالي، والروياني، ولا يخالف هذا اختلاف الأصحاب في أن السواك هل هو من سنن الوضوء أم لا؟ فإن ذلك الخلاف إنما هو في أنه يعد من سنن الوضوء أم سنة مستقلة عند الوضوء لا منه. وكذا اختلفوا في التسمية وغسل الكفين، ولا خلاف أنهما سنة، وإنما الخلاف في كونها من سنن الوضوء ". اهـ. وانظر أسنى المطالب (1/36) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/58) ، وفتاوى الرملي (1/51) ، تحفة المحتاج (1/213) . نهاية المحتاج (1/177) .(3/715)
والحنابلة (1) ، واختاره ابن عرفة (2) ، وابن العربي من المالكية (3) .
دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة.
فرق بعض الفقهاء بين المستحب والسنة فقالوا:
السنة: ما واظب عليه النبي B.
والمستحب: مافعله مرة أو مرتين. وألحق بعضهم به ما أمر به، ولم ينقل أنه فعله (4) .
وهذا التفريق بين السنة والمستحب لا دليل عليه،، والصحيح أن لفظ السنة والمندوب والمستحب ألفاظ مترادفة، في مقابل الواجب، ولو سلم هذا التفريق فإن السواك سنة أيضاً، لأن الرسول B كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، حتى استاك B، وهو في سكرات الموت.
قال ابن العربي: " لا زم النبي B السواك فعلاً، وندب إليه أمراً، حتى قال في الحديث الصحيح: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند
_________
(1) الإنصاف (1/118) ، كشاف القناع (1/94) .مطالب أولى النهى (1/92) .
(2) التاج والإكليل (1/380) ، الشرح الصغير (1/125) .
(3) قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/79) وقال: " السواك من سنن الوضوء، لا من فضائله ".
(4) قال في البحر الرائق (1/29) : " ما واظب عليه النبي B مع تركٍ ما، بلا عذر سنة. وما لم يواظب عليه مندوب، ومستحب، وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه". ثم قال: والاستحباب لا يلزم المواظبة؛ لأن جميع المستحبات محبوبة له، ومعلوم أنه لم يواظب على كلها، وإلا لم تكن مستحبة، بل مسنونة ". اهـ وانظر البحر المحيط (1/378) ، شرح البهجة (1/388) ، نهاية المحتاج (1/105) .(3/716)
كل وضوء)) وما غفل عنه قط، بل كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، فهو مندوب إليه، ومن سنن الوضوء، لا من فضائله".اهـ كلام ابن العربي (1) .
وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على مواظبة النبي B على السواك منها:
(715-51) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل،
عن حذيفة، قال: كان النبي B إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. ورواه مسلم أيضاً. وسبق تخريجه.
فقوله: " إذا قام من الليل " دليل على تكرار ذلك منه b كلما قام من الليل.
(716-52) ومنها حديث عائشة، قالت: كان رسول الله B إذا دخل بيته بدأ بالسواك، وهو حديث صحيح، وسبق تخريجه.
ولفظ: " كان " يدل على فعله دائماً أو غالباً. فكيف يقال بعد هذه الأحاديث الصحيحة أن الرسول b لم يواظب عليه.
دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء.
(717-53) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف،
عن أبي هريرة، عن رسول الله B أنه قال: لولا أن أشق على أمتي
_________
(1) أحكام القرآن (2/79) .(3/717)
لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (1) .
واختلف القائلون بأنه سنة:
هل هو من سنن الوضوء، أو هو سنة مستقلة عند الوضوء
فقيل: إنه سنة مستقلة، يسن عند الوضوء
تعليلهم:
أن السواك أولاً، ليس مختصاً بالوضوء.
وثانياً: أنه ليس من جنس أفعال الوضوء، لأن الوضوء هو استعمال الماء بنية مخصوصة، والسواك ليس فيه استعمال ماء (2) .
وقيل: بل هو من سنن الوضوء.، قال إمام الحرمين: ليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه، فإن السجود ركن في الصلاة، ومشروع في غيرها لتلاوة، وشكر (3) . وأرى أن الخلاف لفظي.
_________
(1) سبق تخريجه في مسألة: حكم السواك.
(2) حاشية الجمل (1/123).
(3) المجموع شرح المهذب (1/386).(3/718)
مبحث
في محل السواك من الوضوء
مبحث
في محل السواك من الوضوء
فقيل: عند المضمضة. وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: قبل الوضوء. وهو قول في مذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، والشافعية (4) .
_________
(1) قال في البحر الرائق (1/21): " واختلف في وقته: في النهاية وفتح القدير أنه عند المضمضة، وفي البدائع والمجتبى قبل الوضوء، والأكثر على الأول، وهو الأولى "
وقال في العناية شرح الهداية (1/24): " ويستاك عرضاً لا طولاً عند المضمضة ".
وقال في الجوهرة النيرة (1/5): " السواك: هو سنة مؤكدة، ووقته عند المضمضة".اهـ وانظر شرح فتح القدير (1/24)، بريقة محمودية (1/161).
وفي مذهب المالكية قال في الفواكه الدواني: " ويسن الاستياك عند المضمضة (1/136). وقال في مواهب الجليل (1/265): " ويفعل ذلك مع المضمضة ". وقال في شرح مختصر خليل (1/138،139): " ويكون ـ يعني السواك ـ قبل الوضوء، ويتمضمض بعده ". اهـ وانظر الشرح الصغير (1/124).
وفي مذهب الشافعية قال في حاشيتا قليوبي وعميرة (1/59) " ويستاك قبل المضمضة". وقال في تحفة المحتاج (1/214): " ومحله ـ يعني السواك ـ بين غسل الكفين والمضمضة ". اهـ وانظر نهاية المحتاج (1/178).
وفي مذهب الحنابلة قال في كشاف القناع " ويسن تسوكه عند المضمضة (1/93). وانظر شرح منتهى الإرادات (1/46).
(2) البحر الرائق (1/21)، حاشية ابن عابدين (1/113).
(3) قال في حاشية العدوي (1/183): " في المسألة قولان، فقيل: يستاك عند المضمضة، لا قبل ولا بعد، وهل مع كل مرة أو مع البعض ؟ وقيل: إنه يستاك قبل الوضوء، ويتمضمض بعده ليُخْرج الماء ما حصل بالسواك ". اهـ
(4) قال الرملي في فتاويه (1/51): يبدأ بالسواك قبل التسمية وغيرها كما صرح به جماعة منهم القفال في محاسن الشريعة والماوردي في الإقناع، والغزالي في الوسيط، وصاحب البيان، ومال إليه الأذرعي ". اهـ
وقال في تحفة المحتاج (1/214): " ومحله بين غسل الكفين على ما قاله ابن الصلاح وابن النقيب في عمدته، وكلام الإمام وغيره يميل إليه، وينبغي اعتماده. وقال الغزالي كالماوردي والقفال: محله قبل التسمية مغني، وجرى على ما قاله الغزالي والشهاب الرملي، والنهاية والزيادي ".(3/719)
دليل من قال السواك قبل الوضوء.
(718-54) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري،
عن أبي هريرة، قال رسول الله B: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء (1) .
فقوله B: " عند كل وضوء " فالعندية لا تقتضي المصاحبة، كما في السواك عند كل صلاة، فمعلوم قطعاً أنه لم يرد المصاحبة، بل قبل الصلاة، فالوضوء كذلك، والله أعلم.
دليل من قال السواك عند المضمضة.
(719-55) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف،
عن أبي هريرة، عن رسول الله B أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (2) .
_________
(1) المصنف (1/155) رقم 1787.
(2) سبق تخريجه في مسألة: حكم السواك.(3/720)
فقوله B: " مع كل وضوء " المعية هنا تقتضي المصاحبة، لأن من تسوك بعد غسل الكفين، وقبل المضمضة يصدق عليه أنه تسوك مع الوضوء، وليس قبله.
والذي يظهر والله أعلم أن الحديثين حديث واحد، إحدى الروايتين تفسر الأخرى، فالعندية لا تعارض المعية هنا والله أعلم.
والتسوك والمضمضة كلاهما متعلق بالفم دون سائر أعضاء الوضوء. والأفضل والله أعلم أن يكون تسوكه قبل المضمضة سواء كان بعد غسل الكفين أو قبل الشروع في الوضوء ؛ وذلك لأن السواك إذا نظف الأسنان، ثم جاءت بعده المضمضة، ومج الماء يكون قد سقط كل أذى اقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة. والله أعلم.
وهناك تفسير آخر فيه بعد، ذكره بعض الفقهاء.
قال الزرقاني: " قوله: " مع كل وضوء " أي مصاحباً له. كقوله في رواية: " عند كل وضوء ". ويحتمل أن معناه لأمرتهم به كما أمرتهم بالوضوء ". اهـ (1) .
_________
(1) شرح الزرقاني لموطأ مالك (1/195).(3/721)
[صفحة فارغة](3/722)
الفصل الثالث
هل يشرع السواك للغسل والتيمم
الفصل الثالث
هل يشرع السواك للغسل والتيمم
استحب بعض الفقهاء السواك للغسل والتيمم (1) ، وقال بعضهم: حتى ولو استاك للوضوء قبل الغسل، فيشرع للغسل (2) .
وحجتهم والله أعلم أنها إذا كان السواك مشروعاً في الطهارة الصغرى، فالكبرى من باب أولى، وإذا كان السواك مشروعاً في الوضوء، كان مشروعاً في بدله، وهو التيمم.
والذي أراه والله أعلم أنه إن توضأ قبل الغسل، شرع له السواك من أجل الوضوء، وإن لم يتوضأ لم يشرع، لعدم الدليل على مشروعيته للغسل لا من قوله b، ولا من فعله، وما كان ربك نسياً.
وكذلك لا يشرع السواك للتيمم لأنه لم ينقل، والعبادات مبناها على الحظر، حتى يرد دليل على المشروعية، وقد نقلت لنا صفة التيمم في السنة، ولم يرد فيها السواك، والقياس على طهاة الماء ضعيف. والله أعلم.
_________
(1) تحفة المحتاج (1/214) ، مغني المحتاج (1/262) ، نهاية المحتاج (1/302) .
(2) تحفة المحتاج (1/275) .(3/723)
[صفحة فارغة](3/724)
الفصل الرابع
يستحب السواك عند الانتباه من النوم
الفصل الرابع
يستحب السواك عند الانتباه من النوم
يستحب السواك عند الانتباه من النوم
وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
الدليل على استحبابه.
الدليل الأول:
(720-56) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل،
عن حذيفة، قال: كان النبي B إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. ورواه مسلم أيضاً (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/25) ، حاشية ابن عابدين (1/113) ، البحر الرائق (1/21) .
(2) مواهب الجليل (1/264) ، الفواكه الدواني (1/136) ، حاشية الدسوقي (1/103) ، الشرح الصغير (1/126) .
(3) الأم (1/94) ، المجموع (1/329) ، طرح التثريب (1/66) ، أسنى المطالب (1/36) ، تحفة المحتاج (1/219) ، حاشية الجمل (1/121) .
(4) الإنصاف (1/118) ، مطالب أولى النهى (1/82) ، الفروع (1/126) ، شرح منتهى الإرادات (1/42) ، كشاف القناع (1/72،73) .
(5) مدار هذا الحديث على أبي وائل: شقيق بن سلمة، عن حذيفة مرفوعاً.
رواه حصين، عن أبي وائل بزيادة: " إذا قام ليتهجد، ورواه منصور، والأعمش، عن أبي وائل بدون هذه الزيادة: إذا قام من الليل، واستغرب ابن مندة زيادة: ليتهجد، وذكر مسلم أن كلاً من منصور والأعمش لم يقولا: ليتهجد. وإليك تخريج رواياتهم:
الطريق الأول: عن منصور وحصين، مجموعين كلاهما، عن أبي وائل به.
أخرجه أحمد (5/402) ، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن منصور وحصين به. بلفظ: كان رسول الله b إذا قام من الليل للتهجد يشوص فاه بالسواك.
وهذا لفظ حصين، وذلك أن رواية منصور إذا جاءت وحدها، لم يذكر فيها لفظ: "التهجد " وكذلك إذا قرن منصور برواية الأعمش، عن أبي وائل، وإذا ذكرت رواية حصين منفردة جاء لفظ التهجد، ولم تتخلف رواية حصين عن ذكر هذه اللفظة في كل الروايات التي رويت عنه وحده. وقد صرح مسلم في صحيحه أن رواية منصور والأعمش عن حصين ليس فيها لفظ التهجد.
وأخرجه ابن ماجه (286) عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، عن منصور وحصين به.
وأخرجه ابن خزيمة (136) من طريق يوسف، عن موسى، أخبرنا وكيع به. وأخرجه ابن حبان (1072) من طريق إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور وحصين به. ولم يقل: " للتهجد ". وهذا واضح أنه قدم لفظ منصور.
وتابع وكيعاً: عبد الرحمن بن مهدي، فأخرجه أحمد (5/402) حدثنا عبد الرحمن ـ يعني ابن مهدي ـ عن سفيان، عن منصور وحصين به، ولم يقل: " للتهجد ".
وأخرجه مسلم (47ـ255) حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا عبدالرحمن به. وأخرجه النسائي في الصغرى (1321) وفي السنن الكبرى للنسائي (1321) وفي سنن البيهقي في السنن (1/38) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان به. وأخرجه ابن خزيمة (136) حدثنا أبو موسى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي به.
كما رواه محمد بن كثير، عن سفيان به.
أخرجه البخاري (889) حدثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور وحصين به. ولم يذكر لفظة: " للتهجد ". وأخرجه أبو داود (55) حدثنا محمد بن كثير به.
وأخرجه ابن حبان (1075) من طريق محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور وحصين به.
وأخرجه البيهقي في السنن (1/38) من طريق أبي المثنى، حدثنا محمد بن كثير به. ولم يذكر في هذه الطرق لفظة: " التهجد ".
وأخرجه الطبراني في الأوسط (5858) من طريق فضيل بن عياض، عن منصور وحصين به.
وأما طريق منصور وحده، عن أبي وائل
فأخرجه ابن أبي شيبة (1/155) حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن منصور به
وأخرجه أحمد (5/407) ثنا عبيدة بن حميد، ثنا منصور به. وأخرجه أحمد أيضاً (5/382) ثنا سفيان بن عيينة، عن منصور وحده.
وأخرجه الحميدي (441) ثنا سفيان، ثنا منصور به.
وأخرجه البخاري (245) حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور به.
وأخرجه مسلم (255) حدثنا إسحاق بن إبراهيم وقتيبة بن سعيد، عن جرير به.
وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (2) وفي الصغرى (2) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم وقتيبة بن سعيد، عن جرير، عن منصور، عن أبي وائل به.
وأخرجه ابن حبان (2591) من طريق قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، عن منصور به.
وأما طريق حصين بن عبد الرحمن السلمي وحده، عن أبي وائل.
فأخرجه ابن أبي شيبة (1/155) ، ومن طريقه مسلم (46ـ255) والبيهقي في السنن (1/38) حدثنا هشيم، عن حصين به بلفظ: " كان رسول الله b إذا قام ليتهجد". وفيه: ذكر التهجد.
وأخرجه الطيالسي (409) عن شعبة به. ومن طريق الطيالسي أخرجه أبو عوانة (1/193) .
وأخرجه أحمد (5/390) ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حصين به، قال: كان رسول الله b إذا قام إلى التهجد.. وذكر الحديث.
وأخرجه أبو عوانة (1/193) من طريق محمد بن فضيل، عن حصين به.
وأخرجه النسائي في الصغرى (1622) حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا شعبة به.
وأخرجه الدارمي (685) أخبرنا سعيد بن الربيع، ثنا شعبة به. وأخرجه النسائي (1622) حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا شعبة به.
وأخرجه أحمد (5/390) ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن حصين به. بذكر "التهجد "
وأخرجه البخاري (1136) حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن حصين بذكر التهجد.
فطريق حصين وحده يذكر فيه: " إذا قام ليتهجد.. " رواه أربعة حفاظ عنه:
وتابع الأعمش منصوراً وحصيناً في أبي وائل، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/155) حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش به. وأخرجه أحمد (5/397) حدثنا أبو معاوية وابن نمير، عن الأعمش به: بلفظ: كان رسول الله b إذا قام من الليل يشوص فاه ولم يقل: بالسواك. قال ابن نمير، فقلت للأعمش: بالسواك. قال: نعم.
وأخرجه مسلم (255) وابن ماجه (286) من طريق ابن نمير وأبي معاوية به. وأشار مسلم إلى أنه لم يقل: "ليتهجد ".
وأخرجه مسلم (255) من طريق سفيان، عن الأعمش به. مقروناً برواية منصور وحصين.
وأخرجه ابن الجعد (ص: 380) من طريق زهير، عن الأعمش به.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (2927) من طريق أبي حفص الأبار، عن الأعمش به.(3/725)
قال ابن دقيق العيد: " فيه دليل على استحباب السواك في هذه الحالة الأخرى، وهي القيام من النوم، وعلته: أن النوم مقتض لتغير الفم، والسواك هو آلة التنظيف للفم، فيسن عند مقتضى التغير. وقوله: "يشوص " اختلفوا في تفسيره، فقيل: يدلك. وقيل: يغسل. وقيل: ينقي. والأول أقرب. وقوله: " إذا قام من الليل " ظاهره يقتضي تعليق الحكم بمجرد القيام. ويحتمل أن يراد: إذا قام من الليل للصلاة "اهـ (1) .
الدليل الثاني:
(721-57) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبونعيم، حدثنا إسمعيل بن مسلم، حدثنا أبو المتوكل، أن ابن عباس حدثه،
_________
(1) إحكام الأحكام (1/109) .(3/728)
أنه بات عند النبي B ذات ليلة فقام نبي الله B من آخر الليل، فخرج فنظر في السماء، ثم تلا هذه الآية في آل عمران {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار} حتى بلغ {فقنا عذاب النار} ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ، ثم قام فصلى، ثم اضطجع، ثم قام فخرج فنظر إلى السماء فتلا هذه الآية، ثم رجع فتسوك فتوضأ، ثم قام فصلى (1) .
_________
(1) صحيح مسلم (48 ـ 256) .
وفي رواية للبخاري قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله B مع أهله ساعة، ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فقال: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} ثم قام فتوضأ واستن فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح.
وقد ذكر مسلم هذه الرواية واختصرها (763) ، قال رحمه الله: حدثني أبو بكر بن إسحق، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني شريك بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس أنه قال:
رقدت في بيت ميمونة ليلة كان النبي B عندها لأنظر كيف صلاة النبي B بالليل، قال: فتحدث النبي B مع أهله ساعة، ثم رقد. وساق الحديث، وفيه: ثم قام فتوضأ واستن.
وفي رواية لمسلم (763) ، قال: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن فضيل، عن حصين بن عبد الرحمن، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه، عن عبد الله بن عباس، أنه رقد عند رسول الله B، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ، وهو يقول: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة. الحديث.
ورواه أبو داود (58) ، قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين به. ولفظه:
بت ليلة عند النبي B، فلما استيقظ من منامه، أتي طهوره، فأخذ سواكه، فاستاك، ثم تلا هذه الآيات {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} حتى قارب أن يختم السورة أو ختمها، ثم توضأ فأتى مصلاه، فصلى ركعتين، ثم رجع إلى فراشه، فنام ما شاء الله، ثم استيقظ، ففعل مثل ذلك، ثم رجع إلى فراشه، فنام، ثم استيقظ، ففعل مثل ذلك ثم رجع إلى فراشه فنام، ثم استيقظ ففعل مثل ذلك كل ذلك يستاك، ويصلي ركعتين، ثم أوتر.
قال أبو داود رواه ابن فضيل عن حصين قال فتسوك وتوضأ وهو يقول: {إن في خلق السموات والأرض} حتى ختم السورة.
وهذا سند صحيح. محمد بن عيسى ثقة فقيه، كان من أعلم الناس بحديث هشيم. وهشيم ومن فوقه على شرط مسلم.
وتابع الأعمش حصين بن عبد الرحمن. فأخرجه ابن أبي شيبة (1/155) رقم 1789 حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن حبيب به. قال: كان رسول الله B يصلي ركعتين، ثم يستاك.
وهذا اللفظ شاذ، والله أعلم؛ لأن الحديث حديث ابن عباس في مبيته عند النبي B، وقد رواه مسلم من طريق حصين بن عبد الرحمن، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه، عن عبد الله بن عباس، أنه رقد عند رسول الله B، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ، وهو يقول: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} الحديث.
ورواه سفيان، وزيد بن أبي أنيسه، عن حبيب، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن ابن عباس بنحو رواية مسلم، كما في سنن النسائي الكبرى (1/424) رقم 1344،1345
وانفرد عثام بن علي، عن الأعمش، عن حبيب بي أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه، عن عبد الله بن عباس، بذكر السواك بعد الصلاة.
وجميع من رواه عن ابن عباس، في الصحيحين وغيرهما لم يذكروا أنه يصلي ركعتين ثم يستاك، بل نصوا على أن التسوك قبل الصلاة.
وعثام بن علي.
قال فيه عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن عثام بن على، فقال: صدوق وهو أحب الي من يحيى بن عيسى بن يونس الرملي. الجرح والتعديل (7/44) .
وقال أبو زرعة: عثام بن على ثقة. المرجع السابق.
وقال ابن سعد: كان ثقة. الطبقات الكبرى (6/392) .
وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (7/305) .
وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (19/335) .
قال الآجري، عن أبي داود: سمعت أحمد يقول: عثام رجل صالح. قال: وسألت أبا داود عنه فجعل يثني، ويقول قولا جميلا. تهذيب التهذيب (7/97) .
وفي التقريب: صدوق.(3/729)
يحتمل أنه تسوك من أجل القيام من النوم، أو من أجل الوضوء، أو من أجل الصلاة، ولا يبعد أن يكون تسوك منها كلها، ولا يمنع أن يكون هناك أكثر من سبب للتسوك، ولو لم يثبت في التسوك من القيام من الليل حديث، لكان يكفي فيه حديث عائشة: " السواك مطهرة للفم " فإن النوم مظنة لتغير الفم، فيشرع تطهير الفم منه. والله أعلم.
الدليل الثالث:
(722-58) ما رواه أحمد، قال رحمه الله: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا محمد بن مسلم بن مهران مولى لقريش، سمعت جدي يحدث عن ابن عمر، أن رسول الله B كان لا ينام إلا والسواك عنده فإذا استيقظ بدأ بالسواك.
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (1) .
_________
(1) دراسة الإسناد:
سليمان بن داود: هو الطيالسي صاحب المسند، حافظ غني عن التعريف.
ومحمد بن مسلم. هو محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران.
ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطئ. الثقات (7/371) رقم 10487
قال البخاري: أكثر عليه أصحاب الحديث فحلف أن لا يسمي جده. التاريخ الكبير (1/23) رقم 20.
قال الدارقطني بصري يحدث عن جده ولا بأس بهما. تهذيب التهذيب (9/15) .
وقال عباس الدوري، عن يحيى بن معين: ليس به بأس. تهذيب الكمال (24/331)
وقال ابن عدي: ليس له من الحديث إلا اليسير، ومقدار ما له من الحديث لا يتبين صدقه من كذبه. الكامل (6/243) رقم 1720.
وأما جده مسلم بن مهران، فقد قال فيه أبو زرعة: كوفى ثقة. الجرح والتعديل (8/195) رقم854.
ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/392) . رقم 5355.
وفي التقريب: ثقة. فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه أبو يعلى (5749) حدثنا عبد الله بن الدورقي، حدثنا أبو داود به.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/24) ، قال: حدثنا خليفة، قال: حدثنا أبوداود به.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (6/243) من طريق إبراهيم بن محمد بن عرعرة، ثنا أبو داود به.
وجاء عن ابن عمر من طريق آخر إلا أنه ضعيف.
فقد أخرج أبو يعلى في مسنده (5661) ، قال: حدثنا موسى بن محمد بن حيان، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد، حدثنا حسام بن مصك، حدثنا عطاء بن أبي رياح،
عن ابن عمر أن رسول الله B كان لا يتعار من الليل ساعة إلا أجرى السواك على فيه.
وهذا إسناد ضعيف، فيه: موسى بن محمد بن حيان.
قال ابن أبي حاتم: ترك أبو زرعة حديثه ولم يقرأ علينا، كان قد أخرجه قديما في فوائده. الجرح والتعديل (8/161) رقم 714.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما خالف. الثقات (9/161) رقم 15775.
وفي الإسناد: حسام بن مصك.
قال سفيان بن عبد الملك: سمعت ابن المبارك يقول حسام بن المصك ارم به. الضعفاء الكبير ـ العقيلي (1/299) رقم 374.
وقال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن لا يحدث عن حسام بن المصك بشيء. المرجع السابق.
وقال ابن سعد: هو من الأزد، وهو ضعيف. الطبقات الكبرى (7/284) .
وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. كما في رواية ابن أبي مريم وعباس بن محمد الدوري، وعثمان بن سعيد. زاد ابن أبي مريم: ولا يكتب حديثه. الكامل (2/432) رقم 546. الجرح والتعديل (3/317) .
وقال ابن عدي: عامة أحاديثه إفرادات، وهو مع ضعفه حسن الحديث، وهو إلى الضعف أقرب منه الى الصدق. المرجع السابق.
وقال محمد بن عوف الحمصي: سألت أحمد بن حنبل عن الحسام بن مصك، فقال: مطروح الحديث. الجرح والتعديل (3/317) رقم 1419.
وقال أبو زرعة: واهي الحديث منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالقوي يكتب حديثه. المرجع السابق.
وفي التقريب: ضعيف، يكاد أن يترك.
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (13598) حدثنا محمد بن قضاء الجوهري، ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو علي الحنفي ثنا حسام بن مصك به.
وأخرجه الطبراني في الكبير أيضاً (13593) ، قال: حدثنا محمد بن يوسف التركي، ثنا عيسى بن إبراهيم البركي، ثنا سعيد بن راشد، عن عطاء عن ابن عمر أن رسول الله B كان لا يقعد ساعة من الليل إلا مر السواك على فيه.
وفيه سعيد بن راشد:
قال يحيى بن معين: سعيد بن راشد السماك يروي من أذن فهو يقيم ليس حديثه بشيء. الضعفاء الكبير (2/105) .
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث منكر الحديث. الجرح والتعديل (4/19) .
وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (3/471)
وقال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (280) .
وقال ابن عدي: لسعيد بن راشد غير ما ذكرت من الحديث شيء يسير، ورواياته عن عطاء وابن سيرين وغيرهما، ولا يتابعه أحد عليه. الكامل (3/381) .
وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمعضلات. المجروحين (1/324) .
قال أبو حاتم: صدوق. الجرح والتعديل (6/272) رقم 1506.
وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (22/580) .
وذكره بن حبان في كتاب الثقات. الثقات (8/494) رقم 14624.
وقال بن معين مرة: ليس برضي. ومرة: لا يساوي شيئاً. المرجع السابق.
وقال البزار في مسنده: كان ثقة. المرجع السابق.
وقال الساجي صدوق أحسبه كان يهم ما سمعت بندارا يحدث عنه وحدثنا عنه ابن مثنى وقال ابن معين ليس بشيء هذا بقية كلام الساجي. المرجع السابق.
وقال مسلمة بن قاسم: ثقة. المرجع السابق.
وقال الأزدي: كان يهم في أحاديث وهو صدوق. المرجع السابق.(3/731)
الدليل الرابع:
(723-59) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي، ثنا إبراهيم بن ثابت من بني عبد الأول، حدثني عكرمة بن مصعب من بني عبد الدار، عن محرر بن أبي هريرة،
عن أبيه، قال: كان النبي B لا ينام ليلة ولا ينتبه إلا استن.
[إسناده ضعيف] (1) .
_________
(1) الأوسط (8/67) رقم 7980. وفيه عكرمة بن مصعب:
قال ابن أبي حاتم: سألت أبى عنه فقال: هو مجهول. الجرح والتعديل (7/10) .
وقال الحافظ أيضاً: مجهول. لسان الميزان (4/182) .
وفي الإسناد أيضاً محرر بن أبي هريرة
ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/408) .
وقال ابن سعد: روى عن أبيه، وكان قليل الحديث. الطبقات الكبرى (5/254) .
وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/460) .
وقال في التقريب: مقبول. يعني حيث توبع، وإلا فلين الحديث. ولا أعلم أحداً تابعه في أبي هريرة.(3/734)
الدليل الخامس:
(724-60) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، قال: حدثني علي بن زيد بن جدعان، قال: حدثتني أم محمد،
عن عائشة، أن النبي B كان لا يرقد ليلاً ولا نهاراً إلا تسوك قبل أن يتوضأ (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/155) .
(2) الحديث فيه: علي بن زيد بن جدعان، جاء في ترجمته:
قال شعبة: ثنا على بن زيد وكان رفاعاً. الجرح والتعديل (6/186) .
وقال حماد بن زيد: كان على بن زيد يحدثنا اليوم بالحديث ثم يحدثنا غداً فلكأنه ليس ذلك. المرجع السابق.
وقال أحمد بن حنبل: على بن زيد بن جدعان ليس هو بالقوي روى عنه الناس. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين: على بن زيد بن جدعان ليس بحجة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو أحب إلى من يزيد بن أبى زياد وكان ضريراً، وكان يتشيع. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: ليس بقوي. المرجع السابق.
وفيه أم محمد امرأة أبيه. لم يرو عنها إلا زيد بن علي بن جدعان، ولم يوثقها أحد فهي في عداد المجهولين.
تخريج الحديث:
الحديث رواه أحمد (6/121) حدثنا عفان، قال: حدثنا همام به.
وأخرجه أبو داود (57) حدثنا محمد بن كثير، ثنا همام به. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/28) من طريق جعفر بن محمد، ثنا عفان به. وأجره الطبراني في الأوسط (3557) من طريق معاذ بن هانئ البهراني، نا همام به. وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/482) من طريق همام به. وضعفه الحافظ في تلخيص الحبير (1/63) .(3/735)
الدليل السادس:
(725-61) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا همام، حدثنا هشام بن عروة، قال: حدثني أبي،
أن عائشة حدثته، أن رسول الله B كان يرقد، فإذا استيقظ تسوك، ثم توضأ، ثم صلى ثمان ركعات يجلس في كل ركعتين، فيسلم، ثم يوتر بخمس ركعات لا يجلس إلا في الخامسة، ولا يسلم إلا في الخامسة.
[رجاله ثقات إلا أن ذكر السواك فيه شاذ] (1) .
_________
(1) رواه البيهقي في الكبرى (3/28) من طريق عفان، ثنا همام، ثنا هشام بن عروة به بقوله: " كان يرقد فإذا استيقظ تسوك. ورواه الحاكم في المستدرك (1/448) من طريق أبي عمر، أنبأ همام به. وليس فيه ذكر التسوك. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وقد رواه سبعة عشر حافظاً، ولم يذكروا فيه السواك وأكثرهم أحفظ من همام، وإليك تخريج رواياتهم:
الأول: عبدة بن سليمان، كما في مسند إسحاق بن راهويه (2/132) رقم 616 ومسلم (737) ، وسنن النسائي الكبرى (1420) . وابن حبان (2437) (2440) ، والبيهقي (3/27) .
الثاني: يحيى بن سعيد القطان، كما في مسند أحمد (6/50) وصحيح ابن خزيمة (2/140،141) رقم1076،1077.
الثالث: أبو أسامة كما في مسند أحمد (6/161) ، وصحيح ابن خزيمة (2/140) رقم 1076.
الرابع: شعبة. كما في صحيح ابن حبان (2438) وزاد (وأوتر بسبع) .
الخامس والسادس: حماد بن سلمة وحماد بن زيد. صحيح ابن حبان (2439) .
السابع: وهيب، كما في سنن أبي داود (1338) .
الثامن: جعفر بن عون، سنن البيهقي الكبرى (3/27) ، سنن الدارمي (1581) مسند أبي عوانة (2/325) .
التاسع: ابن جريج، كما في مسند الشافعي (2/213) ومسند أبي عوانة (2/325) .
العاشر: معمر، كما في مصنف عبد الرزاق (4667) .
الحادي عشر: سفيان الثوري، كما في سنن النسائي (1717)
الثاني عشر: وكيع، كما في مسند أحمد (6/205) ومسند أبي عوانة ((2/325)
الثالث عشر: عبد الله بن نمير، كما في مسند أحمد (6/230) وصحيح مسلم (737) وسنن الترمذي (459) .
الرابع عشر: سفيان بن عيينة، كما في مسند الحميدي (195) .
الخامس عشر: حسان بن إبراهيم كما في مسند أبي يعلى (4526) .
السادس عشر: الليث، كما في مسند أحمد (6/64) .
السابع عشر: أبو عوانة الوضاح، كما في مسند أبي داود الطيالسي (1449) . كلهم رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ولم يذكروا فيه التسوك.
وتابع هشاماً عمر بن مصعب بن الزبير، عند الطبراني في الأوسط (7714) .(3/736)
الدليل السابع:
(726-62) ما رواه مسلم بسنده، عن سعد بن هشام، أنه قال لعائشة: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله B فقالت(3/737)
كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصل التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد وتلك إحدى عشرة ركعة. الحديث قطعة من حديث طويل (1) .
(727-63) وفي رواية لأبي داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا بهز بن حكيم، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام،
عن عائشة أن النبي B كان يوضع له وضوءه وسواكه، فإذا قام من الليل تخلى، ثم استاك.
[سنده حسن] (2) .
الدليل الثامن:
(728-64) ما رواه ابن أبي عمر، قال: حدثنا وكيع، ثنا المنذر بن ثعلبة العبدي، عن ابن بريدة،
عن أبيه رضي الله عنه، قال: إن النبي B كان إذا انتبه من الليل دعا جارية - يقال لها بريرة - بالسواك (3) .
[إسناده صحيح] (4) .
_________
(1) صحيح مسلم (139-746) .
(2) سنن أبي داود (56) ورجاله كلهم ثقات إلا بهز بن حكيم، وهو صدوق.
(3) المطالب العالية (62) .
(4) رواه ابن أبي شيبة، في المصنف (1/197) حدثنا وكيع، عن المنذر بن ثعلبة، عن عبد الله بن بريدة، قال: كان النبي B وذكر الحديث، فالظاهر أنه سقط من الإسناد بريدة الصحابي رضي الله عنه.(3/738)
الدليل التاسع:
(729-65) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا واصل، عن أبي سورة،
عن أبي أيوب أن رسول الله B كان يستاك من الليل مرتين أو ثلاثا وإذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات لا يتكلم ولا يأمر بشيء ويسلم بين كل ركعتين (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (5/417) .
(2) فيه أبو سورة. جاء في ترجمته:
ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/570) .
قال البخاري: منكر الحديث، يروي عن أبي أيوب مناكير لا يتابع عليه. تهذيب الكمال (33/394) .
قال الترمذي: وأبو سورة، هو ابن أخي أبي أيوب، يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن معين جداً، قال: وسمعت محمد بن إسمعيل - يعني البخاري - يقول: أبو سورة هذا منكر الحديث، يروي مناكير عن أبي أيوب، لا يتابع عليها. سنن الترمذي (2544) .
وقال الساجي: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (12/136) .
وقال الدارقطني: مجهول. المرجع السابق.
وقال الترمذي في العلل الكبير: سألت البخاري عن أبي سورة ما اسمه، فقال: لا أدري، ما يصنع به، عنده مناكير، ولا يعرف له سماع من أبي أيوب. علل الترمذي (ص:33) .
وقال الحافظ: أغرب أبو محمد بن حزم، فزعم أن ابن معين قال: أبو أيوب الذي روى عنه أبو سورة، ليس هو الأنصاري. تهذيب التهذيب (12/136) .
تخريج الحديث:
أخرجه ابن أبي شيبة (1/196) حدثنا أبو خالد الأحمر، عن واصل به. إلا أنه سقط من إسناده أبو أيوب. وقد ذكره الحافظ في المطالب العالية (61) عن ابن أبي شيبة، بزيادة أبي أيوب.
ورواه عبد بن حميد، كما في المنتخب (219) ، ثنا محمد بن عبيد، ثنا واصل به.
ومن طريق محمد بن عبيد أخرجه الطبراني في الكبير (4066) .
كما أن في الإسناد واصل بن السائب، ضعيف أيضاً. جاء في ترجمته:
قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (8/173) ، الضعفاء الصغير (387) .
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن واصل بن السائب، فقال: ضعيف الحديث، مثل أشعث بن سوار، وليث بن أبي سليم وأشباههم. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سألت أبي عن واصل بن السائب، فقال: منكر الحديث. الجرح والتعديل (9/30) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (600) .
وقال ابن عدي: ولواصل غير ما ذكرت ـ يعني من الأحاديث المنتقدة ـ وأحاديثه لا تشبه أحاديث الثقات. الكامل (7/85) .
وقال يعقوب بن سفيان والساجي: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (11/92) .
وقال الأزدي: متروك الحديث. المرجع السابق.
وقال يعقوب أيضاً والدارقطني وابن حبان: ضعيف. المرجع السابق.
وقال البزار: حدث بالكوفة أحاديث لم يتابع عليها، وهو لين. المرجع السابق.(3/739)
الفصل الخامس
يستحب السواك عند تغير الفم
الفصل الخامس
يستحب السواك عند تغير الفم
السواك عند تغير الفم سنة، وهو مذهب الأئمة (1) ، ولا أعلم فيه خلافاً إلا ما سبق من الخلاف في كراهيته للصائم بعد الزوال، وقد سبق البحث فيه.
قال العراقي: وتغير الفم: سواء فيه تغير الرائحة، أو تغير اللون كصفرة الأسنان (2) .
الدليل على استحباب السواك عند تغير الفم.
(730-66) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا عبدالرحمن بن أبي عتيق، عن أبيه، أنه سمع عائشة تحدثه،
عن النبي B، قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب.
[إسناده حسن إن شاء الله وقد سبق بحثه] .
_________
(1) بريقة محمودية (1/188) مواهب الجليل (1/264) ، حاشية الدسوقي (1/103) ، الشرح الصغير (1/126) . وقال الشافعي في الأم (1/40) : " واستحب السواك عند كل حال يتغير فيه الفم".
وقال النووي في المجموع (1/328) : " وتغيره ـ يعني الفم ـ تارة يكون بالنوم، وقد يكون بأكل ما له رائحة كريهة، وقد يكون بترك الأكل والشرب، وبطول السكوت. قال صاحب الحاوي: ويكون أيضاً بكثرة الكلام ". انتهى كلام النووي. تحفة المحتاج (1/219) ، مغني المحتاج (1/185) ، وانظر الإنصاف (1/118) ، الفروع (1/126) ، كشاف القناع (1/73) .
(2) طرح التثريب (1/66) .(3/741)
وجه الاستدلال:
قوله: " السواك مطهرة للفم " فقوله: " السواك " مبتدأ. ومطهرة خبر. فأسند التطهير إلى السواك، فكأن الغرض من مشروعية السواك تطهير الفم، والذي يحصل به مرضاة الرب إذا طهره امتثالاً لأمر الله، فالسواك سبب لطهارة الفم، وسبب لمرضاة الرب، وكل ما تغير الفم واحتاج إلى التطهير كان مشروعية السواك آكد، وتطهير الفم إنما شرع لمناجاة الله سبحانه وتعالى، ولذلك شرع عند الصلاة، ولتلاوة كتاب الله، ولدنو الملائكة؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم.(3/742)
الفصل السادس
استحباب السواك عند دخول البيت
الفصل السادس
استحباب السواك عند دخول البيت
استحب السواك عند دخول البيت الأئمة الأربعة (1) ، ولم أقف فيه على خلاف.
دليل المسألة.
(731-67) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه،
عن عائشة، قالت: كان رسول الله B إذا دخل بيته بدأ بالسواك.
[حديث صحيح] (2) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/24) ، حاشية ابن عابدين (1/114) ، البحر الرائق (1/21) ، ومواهب الجليل (1/266) ، المجموع (1/328) ، الأشباه والنظائر (1/427) ، شرح منتهى الإرادات (1/43) ، كشاف القناع (1/73) ، المغني (1/69) .
(2) المسند (1/188) . والحديث مداره على المقدام بن شريح، عن أبيه عن عائشة. وله طرق كثيرة إلى المقدام.
الأول: سفيان الثوري، عن المقدام به.
أخرجه أحمد (1/188) كما في رواية الباب، وأخرجه مسلم (44-253) حدثنا أبو بكر بن نافع العبدي، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان به.
وأخرجه ابن خزيمة (134) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان به. ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي أخرجه ابن حبان (1074) .
وتابع وكيع ابن مهدي، فرواه أحمد (6/192) وإسحاق بن راهويه في مسنده (1577) حدثنا وكيع، عن سفيان به. وأخرجه ابن خزيمة (134) من طريق يوسف بن موسى، حدثنا وكيع به.
وأخرجه أبو عوانة (1/192) من طريق قبيصة، ثنا سفيان به.
الطريق الثاني: مسعر، عن المقدام بن شريح به.
أخرجه أحمد (6/41،42) ثنا عبدة، ثنا مسعر به. بزيادة في أوله. وأخرجه مسلم (43ـ253) بدون زيادة أحمد، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا ابن بشر، عن مسعر به. وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/192) من طريق وكيع، ويعلى، ويزيد بن هارون، ومحمد بن عبيد، وأبو نعيم كلهم، عن مسعر به.
وأخرجه أبو داود (51) حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا مسعر به.
وأخرجه النسائي في المجتبى (8) وفي الكبرى (7) أخبرنا علي بن خشرم، قال: حدثنا عيسى: وهو ابن يونس، عن مسعر به.
وأخرجه ابن خزيمة (134) من طريق يزيد بن هارون، أخبرنا مسعر به. ومن طريق مسعر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/34) ، والبغوي في شرح السنة (201) .
الطريق الثالث: شريك، عن المقدام بن شريح به.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/155) حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (290) ، وابن حبان (2514) .
وأخرجه أحمد (6/110،182،237) ثنا أسود بن عامر، ويزيد فرقهما، عن شريك به بلفظ: " بأي شيء كان يبدأ رسول الله B إذا دخل بيته، وبأي شيء كان يختم؟ قالت: كان يبدأ بالسواك، ويختم بركعتي الفجر. هذا لفظ يزيد. ولفظ الأسود نحوه. إلا أنه ليس فيه سؤال. وهذه الزيادة زادها شريك، ولم يذكرها سفيان، ولا مسعر، وهما أحفظ منه.(3/743)
قال القرطبي: " يحتمل أن يكون ذلك؛ لأنه كان يبدأ بصلاة النافلة، فقلما كان يتنفل في المسجد، فيكون السواك لأجلها. وقال غيره: الحكمة في ذلك أنه ربما تغير رائحة الفم عند محادثة الناس، فإذا دخل البيت كان من حسن معاشرة الأهل إزالة ذلك " اهـ (1) .
وقال بعضهم: لعله يفعل ذلك إذا انقطع عن الناس استعداداً لنزول
_________
(1) نقلاً من شرح السيوطي على سنن النسائي (1/13) .(3/744)
الوحي، وأياً كان فإنه يشرع للإنسان إذا دخل بيته في أي وقت من ليل أو نهار أن يبدأ بالسواك تأسياً بالنبي B.(3/745)
[صفحة فارغة](3/746)
الفصل السابع
حكم السواك عند دخول المسجد
الفصل السابع
حكم السواك عند دخول المسجد
استحب الحنابلة التسوك عند دخول المسجد (1) .
ولا أعلم لهم دليلاً على الاستحباب، وهذه المسألة غير المسألة السابقة، وهي التسوك في المسجد؛ لأن هذه المسألة نعني بها التسوك لدخول المسجد. من أجل الدخول فقط، أما من أجل الصلاة فنعم، فقد ذكرنا أدلته في مسألة مستقلة. ولو كان دخول المسجد يشرع له التسوك لجاء التشريع فيه إما قولاً وإما فعلاً، فعدم النقل في العبادة مع إمكان الفعل دليل على العدم.
(732-68) نعم روى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني، ثنا سهل بن عثمان، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثني أبو أيوب، عن صالح،
عن زيد بن خالد الجهني قال: ما كان رسول الله B يخرج من شيء لشيء من الصلوات حتى يستاك.
[إسناده ضعيف؛ لأن مثل هذه السنة لا يقبل فيه تفرد أبي أيوب، وقد لينه أبو زرعة] (2) .
_________
(1) شرح منتهى الإرادات (1/43) ، كشاف القناع (1/73) ، مطالب أولى النهى (1/81) .
(2) دارسة الإسناد:
سهل بن عثمان هو العسكري الكندي. قال فيه أبو حاتم الرازي: صدوق. الجرح والتعديل (4/203) رقم 877.
حدث عنه من الكبار علي بن المديني. تذكره الحفاظ (2/452) .
وذكره ابن حبان في الثقات (8/292) .
وقال الذهبي: ثقة صاحب غرائب. الكاشف (2174) .
وفي التقريب: أحد الحفاظ له غرائب.
وفيه أبو أيوب: عبد الله بن علي الإفريقي
قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال ليس بالمتين في حديثه إنكار هو لين. الجرح والتعديل (5/115) رقم 526.
وقال الدوري، عن ابن معين: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (5/285) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/21) . وفي التقريب: صدوق يخطئ من السادسة.
وفيه صالح مولى التوأمة:
قال الحافظ في التقريب: صدوق اختلط. قال ابن عدي لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج. وقد أخطأ من زعم أن البخاري أخرج له. اهـ كلام الحافظ.
قلت: قد ذكر ابن الكيال في الكواكب النيرات (ص: 262) على أن أبا أيوب عبد الله بن علي الإفريقي سمع من صالح بن نبهان قبل الاختلاط.(3/747)
على أن هذا الحديث في الذهاب إلى المسجد، ومسألتنا في دخول المسجد. وإذا تسوك عند الخروج إلى الصلاة بنية التسواك للصلاة أصاب السنة؛ وكل ما قرب من الصلاة كانت إصابته للسنة أوكد. ولله أعلم.(3/748)
الفصل الثامن
التسوك عند قراءة القرآن
ويشتمل على مبحثان:
المبحث الأول: حكم السواك لسجود التلاوة والشكر.
المبحث الثاني: الاستياك للقراءة بعد السجود.(3/749)
[صفحة فارغة](3/750)
الفصل الثامن
التسوك عند قراءة القرآن
من المواضع التي يستحب لها السواك قراءة القرآن.
وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) .
أدلة الاستحباب.
(733-69) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن العلوي، وأبو علي الحسين بن محمد الروذباري، قالا: أنا أبو طاهر محمد بن الحسين المجد أباذي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا عمرو بن عون الواسطي، ثنا خالد بن عبد الله، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال:
أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك، فقام خلفه يستمع القرآن، ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك.
[ إسناده صحيح ] (2) .
الدليل الثاني:
(734-70) روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن الحسين
_________
(1) البحر الرائق (1/21)، ومواهب الجليل (1/264)، الفواكه الدواني (1/136)، حاشية الدسوقي (1/103)، والمجموع شرح المهذب (2/190)، طرح التثريب (1/66)، الأشباه والنظائر (ص: 427) أسنى المطالب (1/36)، الإنصاف (1/118)،
(2) سبق تخريجه.(3/751)
بن محمد لفظا، ثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا أبي، ثنا شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله B:
إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك؛ فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك (1) .
[ إسناده ضعيف، وهو شاهد للحديث الذي قبله ] (2) .
الدليل الثالث:
(735-71) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا بحر بن كنيز، عن عثمان بن ساج، عن سعيد بن جبير،
عن علي بن أبي طالب قال: إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك (3) .
[ إسناده ضعيف ] (4) .
_________
(1) شعب الإيمان (2/381) رقم 2117
(2) سبق تخريجه في حكم السواك.
(3) سنن ابن ماجه (291).
(4) هذا الإسناد له علتان:
الأولى: الانقطاع بين سعيد بن جبير، وبين علي، حيث لم يدرك سعيد بن جبير علياً رضي الله عنه. المراسيل ـ ابن أبي حاتم (ص: 74).
الثاني: ضعف بحر بن كنيز.
قال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (82).
وقال يزيد بن زريع: بحر السقاء كان لا شيء. الجرح والتعديل (2/418) رقم 1655.
وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: بحر السقاء لا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف. المرجع السابق.(3/752)
الدليل الرابع
(736-72) روى البيهقي في شعب الإيمان، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا الحسن بن الفضل بن السمح، حدثنا غياث بن كلوب الكوفي، حدثنا مطرف بن سمرة ـ ولقيته سنة خمس وسبعين ومائة ـ عن أبيه، قال:
قال رسول الله B: طيبوا أفواهكم بالسواك ؛ فإنها طرق القرآن.
قال البيقي: غياث مجهول (1) .
[ إسناده ضعيف ] (2) .
الدليل الخامس:
(737-73) قال ابن الملقن في البدر المنير: روى مسلم الكشي في
_________
(1) شعب الإيمان للبيهقي (2/382) رقم 2119.
(2) في الإسناد أيضاً: الحسن بن الفضل
قال أبو الحسين بن المنادى: أكثر الناس عنه، ثم انكشف، فتركوه وخرقوا حديثه. ميزان الاعتدال (1/517)، لسان الميزان (2/244)، تاريخ بغداد (7/401).
وقال ابن حزم: مجهول. المحلى (9/296).
وغياث بن كلوب: قال فيه البيهقي ما علمت.
وضعفه الدارقطني. لسان الميزان (4/423).(3/753)
سننه، وأبونعيم، عن أبي رجاء،
عن وضين، قال: قال رسول الله B: " طيبوا أفواهكم، فإن أفواهكم طرق القرآن " (1) .
[ إسناده ضعيف ] (2) .
_________
(1) البدر المنير (3/200).
(2) فيه أربع علل:
الأولى: في إسناده مندل. قاله ابن الملقن في البدر المنير. وهو ضعيف.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبى عن مندل بن على، فقال: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (8/434).
واختلف قول ابن معين فيه، فقال في رواية أبي بكر بن أبى خيثمة عنه: مندل بن على ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال في روية عثمان بن سعيد عن يحيى بن معين: ليس به بأس. المرجع السابق.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن مندل، فقال: لين. المرجع السابق.
وقال عبد الرحمن أيضاً: سئل أبى عن مندل، فقال: شيخ. المرجع السابق.
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (578).
وقال ابن سعد: فيه ضعف، ومنهم من يشتهي حديثه ويوثقه، وكان خيراً فاضلاً من أهل السنة. الطبقات الكبرى (6/381).
وقال ابن عدي: له أحاديث افراد وغرائب، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (6/455).
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/266).
وقال ابن حبان: كان مرجئا من العباد، إلا أنه كان يرفع المراسيل، ويسند الموقوفات، ويخالف الثقات في الروايات من سوء حفظه، فلما سلك غير مسلك المتقنين مما لا ينفك منه البشر من الخطأ، وفحش ذلك منه، عدل به غير مسلك العدول فاستحق الترك. المجروحين (3/24).
العلة الثانية: أبو رجاء لم ينسب فيتبين، فإن كان محرز بن عبد الله فهو مدلس مكثر، وقد عنعن.
العلة الثالثة: الإرسال.
العلة الرابعة: وضين. قال فيه أبو حاتم الرازي: تعرف وتنكر. الجرح والتعديل (9/50).
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/329).
وقال السعدي: واهي الحديث. الكامل ـ ابن عدي (7/88).
قال إبراهيم الحربي: غيره أوثق منه. تهذيب التهذيب (11/106).
وقال محمد بن سعد: كان ضعيفا في الحديث. تهذيب الكمال (30/449).
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: واهي الحديث. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأساً. المرجع السابق.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبى ثقة ليس به بأس. الجرح والتعديل (9/50).
وثقه يحيى بن معين ودحيم. تهذيب الكمال (30/449).
ذكره بن حبان في الثقات. الثقات (7/564).
وفي التقريب: صدوق سيء الحفظ.(3/754)
المبحث الأول
هل يستحب السواك لسجود التلاوة والشكر
استحب بعض الفقهاء السواك لسجود التلاوة والشكر (1) .
دليلهم:
ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول B قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (2) .
_________
(1) الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (1/109)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/58).
(2) سبق تخريجه.(3/755)
وإذا ثبتت مشروعية السواك للصلاة، فإن سجود التلاوة صلاة، لأنه قد جاء في الشرع إطلاق السجود على الصلاة. فهذا دليل على أن له حكم الصلاة.
(738-74) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرنا نافع،
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: صليت مع النبي B سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة فأما المغرب والعشاء ففي بيته (1) .
والراجح أنه لا يشرع السواك بسبب السجود، لأمرين:
الأول: لا نسلم أن سجود التلاوة صلاة، والفارق بينه وبين الصلاة أكثر من الجامع. فلا تشرع فيه القراءة، ولا ركوع فيه، ولامصافة فيه.
الأمر الثاني: لا نحتاج إلى قياس سجود التلاوة والشكر على الصلاة، والسجود قد وقع في عهده B، ولم ينقل أنه تسوك له.
_________
(1) صحيح البخاري (1172)، ومسلم (729).(3/756)
المبحث الثاني
الاستياك للقراءة بعد السجود.
قال في شرح العباب: " الاستياك للقراءة بعد السجود ينبغي بناؤه على الاستعاذة، فإن سنت سن، لأن هذه تلاوة جديدة، وإلا فلا (1) .
وهذا التفصيل جيد، والاستعاذة على الراجح لا تسن إلا إذا طال الفصل عرفاً بحيث لا يمكن بناء القراءة السابقة على القراءة اللاحقة.
وعليه فإذا طال الفصل، وأراد أن يقرأ من جديد شرع السواك، والسجود بمجرده لا يقطع التلاوة، كما لا يقطعها في الصلاة. والله أعلم.
_________
(1) نقلاً من تحفة المحتاج 1/218).(3/757)
[صفحة فارغة](3/758)
الفصل التاسع
في السواك يوم الجمعة
الفصل التاسع
في السواك يوم الجمعة
من المواضع التي يتأكد فيها السواك يوم الجمعة (1) .
واستحبه الحنفية عند الاجتماع بالناس مطلقاً في الجمعة وغيرها (2) .
وقيل: السواك فرض لازم يوم الجمعة. وهو اختيار ابن حزم (3) .
ألأدلة على كون السواك يتأكد في يوم الجمعة.
الدليل الأول:
(739-74) ما رواه مسلم، قال: حدثنا عمرو بن سواد العامري، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حدثاه، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري،
عن أبيه أن رسول الله B قال: غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه.
قال مسلم: إلا أن بكيرا لم يذكر عبد الرحمن وقال في الطيب ولو من طيب المرأة (4) .
_________
(1) المنتقى ـ الباجي (1/186)، الأم (1/226)، المجموع (4/410)، وكشاف القناع (2/42)، مطالب أولى النهى (1/784)، شرح منتهى الإرادات (1/320).
(2) حاشية ابن عابدين (1/168)، واستحبه الشافعي عند الخروج إلى صلاة الاستسقاء كما في الأم (1/283)، وقد يؤخذ منه أن الشافعي يستحبه في كل تجمع. والله أعلم.
(3) المحلى (مسألة: 1780).
(4) صحيح مسلم (846)، وهو في البخاري (880) بغير هذا اللفظ.(3/759)
الدليل الثاني:
(740-76) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان يحدث عن رجل من الأنصار، عن رجل من أصحاب النبي B،
عن النبي B، أنه قال: ثلاث حق على كل مسلم، الغسل يوم الجمعة، والسواك، ويمس من طيب إن كان (1) .
[إسناده ضعيف؛ لإبهام راويه] (2) .
هذا دليل من استدل باستحباب السواك يوم الجمعة.
وأخذ بظاهره ابن حزم، فقال بوجوب السواك، لأن قوله: "على كل محتلم " وقوله: " حق على كل مسلم " ظاهره الوجوب.
وأما الحنفية فأخذوا من الأمر بالسواك يوم الجمعة أن الإنسان مأمور بالسواك عند كل اجتماع للناس كالجمعة والعيد ونحوهما، وهو مأخذ حسن.
_________
(1) المصنف (1/434) رقم 4997.
(2) سبق تخريجه.(3/760)
الفصل العاشر
هل يستحب السواك عند الاحتضار
الفصل العاشر
هل يستحب السواك عند الاحتضار
ذكر بعض الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، يقلد بعضهم بعضاً أن السواك يسهل خروج الروح.
دليلهم على هذا.
(741-77) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، حدثنا عفان، عن صخر بن جويرية، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه،
عن عائشة، قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي B، وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبده رسول الله B بصره، فأخذت السواك، فقصمته ونفضته، وطيبته، ثم دفعته إلى النبي B فاستن به، فما رأيت رسول الله B استن استنانا قط أحسن منه، فما عدا أن فرغ رسول الله B رفع يده أو إصبعه، ثم قال: في الرفيق الأعلى ثلاثاً، ثم قضى. وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي (5) .
_________
(1) بريقة محمودية (1/189)، حاشية ابن عابدين (1/115).
(2) الفواكه الدواني (1/265).
(3) أسنى المطالب (1/35)، مغني المحتاج (1/185). نهاية المحتاج (1/183) وذكر في حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ ): " أنه يذكر الشهادة !!". ا هـ
(4) مطالب أولى النهى (1/83).
(5) صحيح البخاري (4438).(3/761)
فالرسول B استاك في آخر ساعة من الدنيا، وهو في سكرات الموت، فهل يعتقد أنه مسنون من أجل الاحتضار، متأكد عنده، أو أنه استاك ؛ لأنه داخل في كونه مسنوناً كل قت، وهذا الوقت فرد من أفراده. هذا محل تأمل.
ولا يبعد استحباب السواك عند الاحتضار لأمور:
أولاً: لتطييب فمه عند اقتراب الملائكة منه، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس.
وثانياً: استعداداً للقاء الله سبحانه وتعالى.
وثالثاً: كون الرسول B استاك في تلك الساعة، مع كون النبي B كان فيها مشغولاً بنفسه، حيث كان يعاني من سكرات الموت، وكون عائشة تقول عنه: بأنه استاك فما رأيت رسول الله B استن استناناً قط أحسن منه ظاهر أنه كان متقصداً لذلك في تلك الساعة.
وأما كونه أسهل في خروج الروح كما ذكره بعض الفقهاء فهذا يحتاج إلى توقيف. فلا تصح الدعوى حتى يثبت ذلك عن رسول الله B ، ولم يثبت فيما أعلم. والله أعلم.(3/762)
الباب الخامس
في صفة التسوك
ويشتمل على تسعة فصول:
الفصل الأول: كيفية التسوك.
الفصل الثاني: هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر؟
الفصل الثالث: أفضيلة السواك بيده اليمنى أم اليسرى؟
الفصل الرابع: في كيفية أخذ السواك.
الفصل الخامس: الكلام في قبض السواك.
الفصل السادس: في موضع السواك من الرجل.
الفصل السابع: في الاستياك حال الاضطجاع.
الفصل الثامن: أقل ما تحصل به السنة من الاستياك.
الفصل التاسع: هل يحتاج المتسوك إلى نية؟(3/763)
[صفحة فارغة](3/764)
الفصل الأول
في كيفية التسوك
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، إلى أن المستحب أن يستاك عرضاً إلا في اللسان فإنه يستاك طولاً.
دليل من قال: المستحب أن يستك عرضاً.
(742-78) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي وإبراهيم بن متوية الأصبهاني، قالا: ثنا يحيى بن عثمان الحمصي، ثنا اليمان بن عدي ثنا ثبيت بن كثير البصري الضبي، عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب،
عن بهز قال: كان النبي B يستاك عرضاً، ويشرب مصاً، ويتنفس ثلاثاً، ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ (5) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/114)
(2) حاشية الخرشي (1/139) .
(3) المجموع (1/55) ، أسنى المطالب (1/37) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/57) ، حاشية الجمل (1/117) ، روضة الطالبين (1/56) .
(4) قال في كشاف القناع (1/73) : " ويستاك عرضاً بالنسبة إلى الأسنان " ثم قال: " وفي الشرح إن استاك على لسانه أو حلقه فلا بأس أن يستاك طولاً ".الخ كلامه وانظر المغني ـ ابن قدامة (1/135) .
(5) المعجم الكبير (1/47) رقم 1242.(3/765)
[الحديث ضعيف] (1) .
_________
(1) في الإسناد: اليمان بن عدي
قال البخاري: في حديثه نظر. التاريخ الكبير (8/425) .
وقال أبو حاتم الرازي: شيخ صدوق. الجرح والتعديل (9/311) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/464)
وقال ابن عدي: لليمان أحاديث يروى عن الزبيدي وعن غيره من أهل حمص بأحاديث غرائب، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (7/181) .
وقال أحمد بن حنبل: ضعيف. تهذيب التهذيب (11/357) .
وقال الحاكم: ليس بالقوي عندهم. المرجع السابق.
وقال الدارقطني: ضعيف. المرجع السابق.
وفي التقريب: لين الحديث.
وفي الإسناد أيضاً: ثبيت بن كثير
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/470) .
وضعفه الإمام أحمد، كما في البدر المنير (3/127) .
وقال ابن عدي في ترجمة يمان بن عدي: ثبيت غير معروف. الكامل (7/181) .
وقال ابن حبان: منكر الحديث على قلته، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد. المجروحين (1/208) . ثم ذكره أيضاً في الثقات. (6/129) . وضعفه الهيثمي في الزوائد (5/80) ، وقال: فيه ثبيت بن كثير، وهو ضعيف.
وفي الإسناد بهز.
قال البغوي: لا أعلم روى بهز الا هذا وهو منكر. الإصابة (1/330) .
وقال البيهقي: إنما يعرف بهز بهذا الحديث. سنن البيهقي (1/40) .
وقال ابن عبد البر: لم يرو عن بهز غير سعيد، ولم ينسبه، وإسناد حديثه ليس بالقائم.
ورواه ابن عدي في الكامل (7/181) ثنا محمد بن محمد بن سليمان، ثنا يحيى بن عثمان به. ورواه ابن حبان في المجروحين (1/208) ، قال: حدثناه الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فيل البالسي بأنطاكية، ثنا يحيى بن عثمان الحمصي به.
بيان الاختلاف في إسناد الحديث
الحديث رواه يحيى بن عثمان، عن اليمان، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن بهز.
ورواه عباد بن يوسف كما في البدر المنير (3/128) والإصابة (1/330) عن ثبيت به إلا أنه قال بدلاً من بهز، قال: عن القشيري.
ورواه سليمان بن سلمة كما في البدر المنير (3/128) والإصابة (1/330) ، عن اليمان بن عدي، فقال: عن ثبيت، عن يحيى، عن سعيد، عن معاوية القشيري.
ومعاوية القشيري صحابي هو جد بهز بن حكيم.
وعباد بن يوسف
قال ابن عدي: عباد بن يوسف هذا روى عن أهل الشام، وهو شامي حمصي، وروى عن صفوان بن عمرو وغيره أحاديث ينفرد بها. الكامل (4/346) .
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/88) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: عباد بن موسى (8/435) .
وقال عثمان بن صالح: ثنا إبراهيم بن العلاء ثنا عباد بن يوسف صاحب الكرابيس ثقة. تهذيب التهذيب (5/96) .
وفي التقريب: مقبول. يعني إن توبع. وفي الكاشف: صدوق يغرب.
وأما سليمان بن سلمة:
قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبى ولم يحدث عنه، وسألته عنه، فقال: متروك الحديث لا يشتغل به. فذكرت ذلك لابن الجنيد، فقال: صدق كان يكذب ولا أحدث عنه بعد هذا. الجرح والتعديل (4/121) .
وقال النسائي: ليس بشيء. الضعفاء والمتروكين (253) .
وقال الخطيب: مشهور بالضعف. اللسان (3/93) .
ورواه البيهقي (1/40) والعقيلي في الضعفاء (3/229) من طريق علي بن ربيعة القرشي المدني، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن ربيعة بن أكثم به. فجعله من مسند ربيعة بدلاً من مسند بهز.
وعلي بن ربيعة
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: هو مثل يزيد بن عياض في الضعف. الجرح والتعديل (6/185) .
قال العقيلي: مجهول بالنقل، حديثه غير محفوظ، ولا يتابعه إلا من هو دونه. الضعفاء الكبير (3/229) .
وقال الحافظ في التلخيص: إسناده ضعيف جداً. قلت: مع ضعفه فقد ذكر البيهقي (1/40) بأن ربيعة بن أكثم قتل بخيبر، فلم يدركه سعيد.
فتبين من هذا أن الحديث مع كونه ضعيفاً فيه اختلاف كثير على سعيد فمن دونه.
فقيل: عن سعيد، عن بهز غير منسوب.
وقيل: عن سعيد، عن القشيري.
وقيل: عن سعيد، عن معاوية القشيري.
وقيل: عن سعيد، عن ربيعة بن أكثم.
وذكر ابن حجر في التلخيص (1/109) : أن أبا نعيم رواه عن سعيد، عن بهز بن حكيم. فيكون معضلاً، وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر.
وروى ابن الأثير في أسد الغابة (1/247) وابن مندة كما في تلخيص الحبير (1/109) وابن ححر في الإصابة (1/330) من مخيس بن تميم، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. اهـ
فلو كان الحديث ظاهره الصحة، وكان فيه هذا الاختلاف لوجب رده، فكيف وهو رواية ضعيف، عن مثله أو أضعف. وقد ذكره كثير ممن ألف في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإليك بعض من وقفت عليه منهم:
المقاصد الحسنة (1/98) .
كشف الخفاء ومزيل الإلباس (1/338) .
الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (1/16) .
الغماز على اللماز (1/5) .
النخبة البهية في الأحاديث المكذوبة على خير البرية (1/20) .
النوافح العطرة في الأحاديث المشتهرة (1/183) .
حسن الأثر، فيما فيه ضعف واختلاف من حديث وخبر (1/11) .
تمييز الطيب من الخبيث (1/21) .
الشذرة في الأحاديث المشتهرة (1/88) .
وله شاهد من حديث عائشة إلا أنه لا يفرح به، فهو ضعيف جداً. رواه أبو نعيم كما في البدر المنير (3/130) من طريق عبد الله بن حكيم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. قال الحافظ في التلخيص: وفي إسناده عبد الله بن حكيم، وهو متروك.
قلت: عبد الله بن حكيم
قال ابن أبي حاتم: ترك أبو زرعة حديثه، ولم يقرأه علينا، وقال: هو ضعيف. الجرح والتعديل (5/41) .
وقال أيضاً: سمعت أبى يقول: ضعيف الحديث. وقال مرة: ذاهب الحديث. المرجع السابق.
قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علياً يعنى ابن المديني يقول: ليس بشيء لا يكتب حديثه. تاريخ بغداد (9/446) .
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كذاب. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين: ليس بثقة كما في رواية ابن أبي مريم عنه. المرجع السابق.
وقال أحمد بن حنبل: بروي أحاديث منكرة، ليس بشيء. الميزان (3/277) .
قال فيه ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه. المجروحين (2/21) .
وقال الذهبي: واه، متهم بالوضع. المغني (1/335) .
وله شاهد آخر مرسل، وهو ضعيف أيضاً، فقد روى أبو داود في المراسيل (ص:74) رقم 5 ومن طريقه البيهقي (1/40) حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، أخبرنا هشيم، عن محمد بن خالد القرشي، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال رسول الله B: إذا شربتم فاشربوا مصاً، وإذا استكتم فاستاكوا عرضاً.
وهذا سند ضعيف، له ثلاث علل:
العلة الأولى: كونه مرسلاً. قال أحمد بن حنبل: مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات النخعي لا بأس بها. وليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح؛ فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. وقال نحوه علي بن المديني. تهذيب الكمال (20/83) .
العلة الثانية: عنعنة هشيم بن بشير، فإنه مدلس مكثر.
العلة الثالثة: جهالة محمد بن خالد القرشي.
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/242) .
وقال ابن القطان الفاسي: لا يعرف. تهذيب التهذيب (9/128) .
وقال الحافظ: ذكره ابن حبان في الثقات، وسمى جده سلمة، وزعم أنه أخو عكرمة بن خالد، وقال: روى عنه عبد الله بن الأسود. قال الحافظ: لكن فرق بينهما البخاري وابن أبي حاتم، وهو الصواب. المرجع السابق.
وقال الذهبي: لا يعرف حاله. الميزان (3/534) .
وقال الحافظ في التقريب: مجهول.(3/766)
الدليل الثاني
من النظر، قالوا: إن الاستياك طولاً مضر باللثة والأسنان، فهو يدمي اللثة، ويفسد منابت الأسنان.
قلت: لم يثبت هذا، وإذا كان أحد يضره ذلك نهي عنه خاصة. لا أن يكون نهياً عاماً، ولذلك لا وجه لكونه مكروهاً - أعني السواك طولاً - كما ذكره النووي والخطيب عن بعض فقهاء الشافعية (1) .
فلم يثبت في ذلك سنة، وله أن يستاك بحسب ما يراه مناسباً داعياً للتطهير، فالمطلوب أن يستاك، فكيفما استاك حصلت السنة.
وقال محمد نجيب المطيعي: " أطباء الأسنان يقولون: إن الاسيتاك الصحيح يكون طولاً: أي أعلى وأسفل؛ لأن الغشاء العاجي الأملس الذي يكسو الأسنان ينبغي المحافظة عليه، فالاستياك عرضاً يضر بهذا الغشاء،
_________
(1) المجموع (2/334) .(3/770)
فيسرع إلى الأسنان الفساد " اهـ (1) .
فإن ثبت هذا طبياً، فإن الاستياك عرضاً يكون منهياً عنه.
وقد وصف بعض الأطباء طريقة التسوك بما يلي:
" يجب أن تطبق باتجاه رأسي لمحور السن واللثة مما يساعد على تنشيط الدورة الدموية في اللثة، والتنظيف الفعال للأسنان دون أن يحدث أذى لهما. فيجب - والوجوب ليس في اصطلاح الشرع - أن يكون تسويك الأسنان العلوية على حدة، وكذلك الأسنان السفلية. أما اتجاه حركة التسويك لتنظيف الاسطح الخارجية والداخلية للأسنان العلوية فيجب أن يكون من أعلى إلى أسفل نحو الاسطح الماضغة والقاطعة للأسنان وتكون حركة التنظيف شاملة حواف اللثة لتدليكها، فيزداد تقرنها والوارد الدموي لانسجتها فتزداد مقاومتها للأمراض وحيويتها أيضاً. وأما اتجاه حركة التنظيف للأسنان السفلية فيجب أن تكون من أسفل إلى أعلى، وشاملة حواف اللثة أيضاً
وأما الدليل على مشروعية الاستياك في اللسان، وأنه يستاك طولاً فمنها:
(743-79) الدليل الأول: ما رواه أحمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا حماد بن زيد، ثنا غيلان بن جرير، عن أبي بردة،
عن أبي موسى، قال: دخلت على رسول الله B، وهو يستاك، وهو واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق. فوصف حماد كأنه يرفع سواكه. قال حماد: ووصفه لنا غيلان قال: كان يستن طولا
[الحديث صحيح] (2) .
_________
(1) حاشية المجموع شرح المهذب (1/313) .
(2) والحديث أخرجه البخاري (244) ، ومن طريقه البغوي في شرح السنة (203) حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا: حماد بن زيد، عن غيلان به. بلفظ: أتيت النبي B فوجدته يستن بسواك بيده، يقول: أع أع. والسواك في فيه، وكأنه يتهوع.
وأخرجه مسلم (254) حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا حماد بن زيد به، بلفظ: دخلت على النبي B وطرف السواك على لسانه.
ورواه أبو داود (49) قال: حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي، قالا: حدثنا حماد بن زيد به. قال مسدد، قال: أتينا رسول الله B نستحمله فرأيته يستاك على لسانه. قال أبو داود: وقال سليمان، قال: دخلت على النبي B وهو يستاك وقد وضع السواك على طرف لسانه وهو يقول إه إه يعني يتهوع. قال أبوداود: قال مسدد: فكان حديثا طويلا ولكني اختصرته.
وأخرجه النسائي في المجتبى (3) وفي الكبرى (3) أخبرنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: أخبرنا حماد بن زيد به.
وأخرجه ابن حبان (1073) وابن خزيمة (141) من طريق أحمد بن عبدة الضبي، قال: أخبرنا حماد به. بمثل ما تقدم، إلا أنه قال: " عأ عأ " بتقديم العين على الألف.(3/771)
وجه الاستدلال:
قول الراوي: " والسواك على طرف لسانه "
قال الحافظ: والمراد: طرفه الداخل، كما عند أحمد: " يستن إلى فوق ". ولهذا قال هنا: " كأنه يتهوع. والتهوع: التقيؤ. أي له صوت كصوت المتقيء على سبيل المبالغة (1) .
وقال في التلخيص: " وأما اللسان فيستاك طولاً، كما في حديث أبي موسى في الصحيحين، ولفظ أحمد: " وطرف السواك على لسانه يستن إلى فوق " قال الراوي: كان يستن طولاً " اهـ (2) .
_________
(1) فتح الباري، في شرحه لحديث (244) .
(2) تلخيص الحبير (1/109) .(3/772)
الدليل الثاني:
من حيث النظر، قال ابن دقيق العيد: " العلة التي تقتضي الاستياك على الأسنان موجودة في اللسان، بل هي أبلغ وأقوى؛ لما يرتقي إليه من أبخرة المعدة" (1) .
_________
(1) إحكام الأحكام (1/111) .(3/773)
[صفحة فارغة](3/774)
الفصل الثاني
هل يبدأ المتسوك بجانب
فمه الأيمن أم الأيسر؟
الفصل الثاني
هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر
استحب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، أن يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن، ولم أقف فيه على خلاف.
الدليل على أن المستوك يبدأ بالجانب الأيمن.
الدليل الأول
(744-80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي B يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله (5) .
الدليل الثاني:
ثبت أن السواك من باب التطهير والتطيب، لا من باب إزالة القاذورات، والدليل على ذلك أن الرسول B كان يتسوك عند أصحابه
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/113) ، الجوهرة النيرة (1/6) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/10) ، البحر الرائق (1/21) .
(2) حاشية الدسوقي (1/102) ، مواهب الجليل (1/265) .
(3) المجموع (1/336) ، طرح التثريب (2/70) ، تحفة المحتاج (1/215) ، مغني المحتاج (1/183) .
(4) مطالب أولي النهى (1/83) ، الفروع (1/128) ، الإنصاف (1/128) ، أسنى المطالب (1/37) ،.
(5) صحيح البخاري (168) . ورواه مسلم بنحوه (268) .(3/775)
كما في حديث أبي موسى المتقدم في الصحيحين (1) ، وإذا كان كذلك استحب البداءة بالجانب الأيمن من الفم.
الدليل الثالث:
القياس على الوضوء، فكما أنه يستحب البداءة بالوضوء باليمين، فكذلك هنا قياساً عليه، والجامع بينهما علة التطهير، فالوضوء فيه طهارة حسية ومعنوية، والسواك يشاركه في الطهارة الحسية (2) .
الدليل الرابع:
(745-81) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروق،
عن عائشة قالت: كان رسول الله B يحب التيمن ما استطاع في طهوره وترجله ونعله وسواكه.
[زيادة "وسواكه" شاذة، والحديث في الصحيحين، وليست فيه زيادة وسواكه] (3) .
_________
(1) سبق ذكره، وقد رواه البخاري (244) ، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: أتيت النبي b فوجدته يستن بسواك بيده يقول أع أع، والسواك في فيه كأنه يتهوع.
(2) ذكر النووي القياس دليلاً في المجموع (1/336) .
(3) انفرد مسلم بن إبراهيم، عن شعبة بذكر السواك، وقد رواه جماعة من الحفاظ عن شعبة، ولم يذكروا: هذه الزيادة.
الأول: أبو داود الطيالسي، كما في مسنده (1410) ، ومسند أبي عوانة (1/222) .
الثاني: بهز عند أحمد (6/94) .
الثالث: عفان. كما في مسند أحمد (6/130) ، ومسند أبي عوانة (1/222) .
الرابع: محمد بن جعفر، كما في المسند (6/147) .
الخامس: يحيى بن سعيد القطان، كما في المسند (6/202) .
السادس: حفص بن عمر. كما في البخاري (168) ، وسنن أبي داود (4140) .
السابع: سليمان بن حرب. كما في البخاري (426) ، وشعب الإيمان للبيهقي (5/179) .
الثامن: عبد الله بن المبارك. كما في صحيح البخاري (5380) ، وسنن النسائي (421) .
التاسع: حجاج بن منهال. البخاري (5854) .
العاشر: أبو الوليد. كما في صحيح البخاري (5926) ، وسنن البيهقي (1/86) .
الحادي عشر: معاذ. كما في صحيح مسلم (268) .
الثاني عشر: خالد بن الحارث، كما في سنن النسائي الكبرى (9320) ، وصحيح ابن حبان (1091) .
الثالث عشر: بشر بن عمر، كما في مسند أبي عوانة (1/222) ، وسنن البيهقي (1/216) .
الرابع عشر: أبو عمر الحوضي، كما في سنن البيهقي (1/216) .
الخامس عشر: عبد الرحمن بن مهدي: كما في مسند أحمد (6/187) .
السادس عشر: النضر بن شميل، كما في مسند إسحاق بن راهوية (3 /821) رقم 1463.
فهؤلاء ستة عشر حافظاً، رووه عن شعبة، ولم يذكروا ما ذكره مسلم بن إبراهيم من زيادة وسواكه، فيبعد أن تكون محفوظة، ثم لا يرويها هذا العدد الكثير ممن روى الحديث عن شعبة.(3/776)
[صفحة فارغة](3/778)
الفصل الثالث
هل يستاك بيده اليمنى أم اليسرى
الفصل الثالث
هل يستاك بيده اليمنى أم اليسرى
اختلف الفقهاء هل المتسحب أن يمسك السواك بيده اليمنى أم اليسرى على أقوال:
فقيل: يمسكه بيده اليمنى
وهو المشهور من مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، واختاره جماعة من الشافعية (3) ، وبعض الحنابلة (4) .
وقيل: التسوك باليد اليسرى أفضل.
وهو المشهور من مذهب الحنابلة (5) ، واختاره بعض الحنفية (6) ، ورجحه
_________
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/10) ، البحر الرائق (1/21) ، الفتاوى الهندية (1/8) ، حاشية ابن عابدين (1/114) .
(2) مواهب الجليل (1/265) ، الخرشي (1/138،139) ، الشرح الصغير (1/124) ، حاشية الدسوقي (1/102) .
(3) أسنى المطالب (1/37) ، مغني المحتاج (1/183)
(4) قال في الإنصاف (1 /128) : " قال المجد في شرحه السنة إرصاد اليمنى للوضوء والسواك والأكل ونحو ذلك، وقدمه في تجريد العناية، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب. قال ابن رجب في شرح البخاري: وهو ظاهر كلام ابن بطة من المتقدمين، وصرح به طائفة من المتأخرين " اهـ.
(5) كشاف القناع (1/73) ، وقال في الفروع (1/128) : " ويستاك بيساره. نقله حرب قال شيخنا ـ يعني ابن تيمية ـ: ما علمت إماماً خالف فيه كانتثاره " اهـ. وانظر الإنصاف (1/128) .
(6) حاشية ابن عابدين (1/114) .(3/779)
العراقي (1) .
وقيل: يكره بالشمال (2) .
وقيل: إن تسوك لتغير الفم فيكون تسوكه باليسار، وإن تسوك لتحصيل السنة، كما لو كان الفم نظيفاً يكون باليمين (3) .
وهذا الخلاف مبني على أن السواك هل هو من باب التطهير والتطيب، أو من باب إزالة القاذورات؟
فإن جعلناه من باب التطهير والتطيب، استحب أن يكون باليمين كالمضمضة، وإن جعلناه من باب إزالة الأذى والقاذورات جعلناه باليسرى، كالاستنجاء.
دليل من قال يمسك السواك باليد اليمنى.
الدليل الأول:
هذا الدليل مبني على مقدمة، ونتيجة:
المقدمة: أن السواك من باب التطهير والتطيب.
والنتيجة: ما كان كذلك، فإنه تستعمل فيه اليد اليمنى.
أما دليل المقدمة الأولى، وهو كون السواك من باب التطهير والتطيب، أن الرسول B، تسوك أمام رعيته، كما في حديث أبي موسى في الصحيحين، (4) ولو كان من باب إزلة القاذورات لم يفعله النبي B حتى
_________
(1) طرح التثريب (2/71) .
(2) مواهب الجليل (1/265) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/114) ، ومغني المحتاج (1/183،184) .
(4) الحديث رواه البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا: حماد بن زيد، عن غيلان به. بلفظ: أتيت النبي b فوجدته يستن بسواك بيده، يقول: أع أع. والسواك في فيه، وكأنه يتهوع.. ورواه مسلم بنحوه، وسبق تخريجه.(3/780)
يتوارى عن الناس.
ولأن الفم، وما فيه ليس نجساً حتى يلحق بالاستنجاء، بل إن مخاط المسلم وعرقه وريقه طاهر بالإجماع، وإذا كان طاهراً فهو من باب التطهير والتطيب كالوضوء يقدم فيه اليمين، ويباشره باليمين، وكالمضمضة، فيها تطهير للفم، وتباشر باليمين. هذا دليل المقدمة الأولى. وهو كون السواك من باب التطهير.
وأما الدليل على النتيجة، وهو أن ما كان من باب التطهير فيقدم فيه اليمين.
ففيه دليلان: نص، وقياس.
(746-82) أما النص، فقد روى أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت:
كانت يد رسول الله B اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى.
قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه
[إسناده منقطع] (1) .
_________
(1) دراسة الإسناد:
عبد الوهاب بن عطاء، وإن كان في التقريب: صدوق ربما وهم، إلا أنه من أصحاب سعيد المكثرين عنه، وممن سمع من سعيد قبل اختلاطه.
قال الأثرم عن أحمد: كان عالماً بعطاء.
وأخرج مسلم حديث سعيد من طريق عبد الوهاب بن عطاء. فهذا دليل على أنه ثقة فيه.
وقال ابن عدي: أرواهم عنه ـ أي عن سعيد بن عبد الأعلى السامي، والبعض منها عن شعيب، وعبدة بن سليمان، وعبد الوهاب الخفاف.
وقال الذهبي: روى الخفاف كل مصنفات سعيد بن أبي عروبة. الميزان (2/153) .
وباقي الإسناد رجاله ثقات.
تخريج الحديث:
الحديث رواه أيضاً أبو داود (34) حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء به. ورواه الحاكم في المستدرك (1/113) من طريق عبد الله بن محمد بن الحسن بن الشرقي، ثنا محمد بن بزيع به. ورواه البيهقي في شعب الإيمان (5/77) رقم 5840، من طريق يحيى بن جعفر، أنا عبد الوهاب به.
بيان الاختلاف على سعيد بن أبي عروبة
رواه عبد الوهاب،، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة على الاتصال كما سبق.
وخالف محمد بن جعفر وعيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان، ثلاثتهم خالفوا عبدالوهاب، فرووه عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن عائشة. وإبراهيم النخعي لم يسمع من عائشة. وإليك تخريج رواياتهم
فقد رواه أحمد (6/265) ثنا محمد بن جعفر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن عائشة، قالت: كانت يد رسول الله B اليسرى لخلائه، وما كان من أذى، وكانت اليمنى لوضوئه ولمطعمه.
ورواه إسحاق بن راهوية (1639) أخبرنا عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن عائشة به.
وأخرجه أبو داود (33) حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثني عيسى بن يونس عن ابن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة به. ومن طريق أبي داود أخرجه الحاكم في المستدرك (1/113) .
وتابعهم مغيرة بن مقسم، فقد رواه أحمد (6/170) حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: كان رسول الله B يفرغ يمينه لمطعمه ولحاجته، ويفرغ شماله للاستنجاء ولما هناك.
وهذا إسناد حسن، وعنعنة مغيرة زالت بالمتابعة، فقد تابعه ثلاثة حفاظ كما سبق.
وعيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان كلاهما رويا عن سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط.
بل قال يحيى بن معين: أثبت الناس سماعاً منه ـ يعني من سعيد بن أبي عروبة ـ عبدة بن سليمان. علوم الحديث (ص: 353) .
واختلف في سماع محمد بن جعفر هل سمع من سعيد قبل اختلاطه أم بعد؟
فذهب عبد الرحمن بن مهدي كما في شرح علل الترمذي أن محمد بن جعفر سمع من سعيد بن أبي عروبة بعد الاختلاط.
وخالفه عمرو بن الفلاس، فقال: سمعت غندراً يقول: ما أتيت شعبة حتى فرغت من سعيد، يعني أنه سمع منه قديماً، وأياً كان فقد تابعه عيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان، ومغيرة بن مقسم.
ورواه ابن أبي عدي، وخالف فيه جميع من سبق. فروه أحمد (6/265) قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن رجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن عائشة.
فزاد ابن أبي عدي رجلاً بين سعيد بن أبي عروبة، وبين أبي معشر. وقد قال أحمد: ابن أبي عدي جاء إلى ابن أبي عروبة بآخرة. يعني: وهو مختلط. نقله محقق كتاب الكواكب النيرات (ص: 211) من شرح علل الترمذي (ل 327) (ل 328) .
فالراجح أن الحديث من رواية إبراهيم، عن عائشة، ولم يسمع منها، وذكر الأسود شاذ في الحديث. والله أعلم.
وله شاهد من حديث حفصة، إلا أنه مضطرب والله أعلم. رواه أحمد (6/287) قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عاصم، عن المسيب، عن حفصة زوج النبي B، قالت: كان رسول الله B إذا أخذ مضجعه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وكانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه، وكانت شماله لما سوى ذلك، وكان يصوم الاثنين والخميس.
ورواه عبد بن حميد، كما في المنتخب (1545) حدثني ابن أبي شيبة، ثنا حسين بن علي، عن زائدة به.
وهذا إسناد منقطع، لأن المسيب بن رافع لم يسمع من حفصة.
وقد اختلف على عاصم بن بهدلة، فرواه حسين بن علي، عن عاصم بن بهدلة، عن المسيب، عن حفصة كما تقدم على الانقطاع.
ورواه حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدله، عن سواء الخزاعي، عن حفصة كما في مسند أحمد (6/287) قال: ثنا أبو كامل، قال: ثنا حماد يعنى بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن سواء الخزاعي، عن حفصة زوج النبي B أن النبي B كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، يوم الإثنين ويوم الخميس، ويوم الإثنين من الجمعة الأخرى.
ورواه أبو أيوب الإفريقي، عن عاصم، عن المسيب بن رافع ومعبد، عن حارثة بن وهب الخزاعي، عن حفصة، فجعل بين المسيب، وحفصة الحارثة بن وهب الخزاعي.
رواه أبو داود (32) ، قال: حدثنا محمد بن آدم بن سليمان المصيصي، حدثنا ابن أبي زائدة، قال حدثني أبو أيوب يعني الإفريقي، عن عاصم، عن المسيب بن رافع ومعبد، عن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: حدثتني حفصة زوج النبي B أن النبي B كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك.
وأخرجه أبو يعلى (7042) وابن حبان (5227) من طريق عبد الله بن عامر بن زرارة الكوفي، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبي أيوب به.
وأخرجه أبو يعلى أيضاً (7060) من طريق معلى بن منصور، حدثنا ابن أبي زائدة به. وأخرجه الطبراني في الكبير (23/203) رقم 346 من طريق سهل بن عثمان، ثنا يحيى ابن زكريا بن أبي زائدة به. والحديث ضعيف، لاضطراب إسناده. والله أعلم.(3/781)
(747-83) ونص آخر، رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق،
عن عائشة قالت: كان النبي B يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (168) . ورواه مسلم بنحوه (268) .(3/784)
واعترض على الاستدلال بحديث عائشة، قال العراقي: " ليس فيه دلالة على ما ذهب إليه، فإن المراد منه البداءة بالشق الأيمن في الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى في التطهر، والبداءة بالجانب الأيمن من الفم في الاستياك " اهـ (1) .
وأما القياس: فقاسوه على المضمضة، فإذا كانت المضمضة فيها تطهير للفم، ومع ذلك استعملت في ذلك اليمين، فكذلك السواك (2) .
الدليل الثاني:
قالوا: إن السواك عبادة مقصودة تشرع عند القيام إلى الصلاة، وإن لم يكن هناك وسخ، وما كان عبادة مقصودة كان باليمين.
دليل من قال يتسوك بيده اليسرى.
قال ابن تيمية: الاستياك من باب إماطة الأذى، فهو كالاستنثار والامتخاط، ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى، وذلك باليسرى، كما أن إزالة النجاسات كالاستجمار ونحوه باليسرى، وإزالة الأذى واجبها ومستحبها باليسرى. والأفعال نوعان: أحدهما مشترك بين العضوين، والثاني: مختص بأحدهما. وقد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمين إذا كانت من باب الكرامة: كالوضوء، والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال، والترجل، ودخول المسجد.
والذي يختص بأحدهما إن كان من باب الكرامة كان باليمين كالأكل
_________
(1) طرح التثريب (2/71) .
(2) حاشية ابن عابدين (1/114) .(3/785)
والشرب والمصافحة، ومناولة الكتب وتناولها، ونحو ذلك. وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر والاستنثار والامتخاط، ونحو ذلك.
فإن قيل: السواك عبادة مقصودة تشرع عند القيام إلى الصلاة وإن لم يكن هناك وسخ، وما كان عبادة مقصودة كان باليمين.
قيل: كل من المقدمتين ممنوع. فإن الاستياك إنما شرع لإزالة ما في داخل الفم، وهذه العلة متفق عليها بين العلماء، ولهذا شرع عند الأسباب المغيرة له، كالنوم والإغماء، وعند العبادة التي يشرع لها تطهير كالصلاة والقراءة، ولما كان الفم في مظنة التغير شرع عند القيام إلى الصلاة، كما شرع غسل اليدين للمتوضيء قبل وضوئه، لأنها آلة لصب الماء. وقد تنازع العلماء فيما إذا تحقق نظافتها، هل يستحب غسلها؟ على قولين مشهورين. ثم قال: وقد يقال مثل ذلك في السواك إذا قيل باستحبابه مع نظافة الفم عند القيام إلى الصلاة، مع أن غسل اليد قبل المضمضة المقصود بها النظافة. فهذا توجيه المنع للمقدمة الأولى.
وأما المنع للمقدمة الثانية: فإذا قدر أنه عبادة مقصودة، فما الدليل على أن ذلك مستحب باليمنى، وهذه مقدمة لا دليل عليها. بل قد يقال: إن العبادات تفعل بما يناسبها، ويقدم فيها ما يناسبها. ثم قول القائل: إن ذلك عبادة مقصودة، إن أراد به أن السواك تعبد محض، لا تعقل علته، فليس هذا بصواب؛ لاتفاق المسلمين على أن السواك معقول، ليس بمنزلة رمي الجمار. وإن أراد أنها مقصودة، أنه لا بد فيها من النية كالطهارة، وأنها مشروعة مع تيقن النظافة، ونحو ذلك، فهذا الوصف إن سلم لم يكن في ذلك ما يوجب كونها باليمنى؛ إذ لا دليل على ذلك. أرأيت إلى الاستنجاء بالثلاث عند من(3/786)
يوجبه كأحمد والشافعي، فإنهم يوجبون الحجر الثالث مع حصول الإنقاء بدونه، فالاستجمار بالحجر الثالث يكون باليسرى، وإن كان المحل نظيفاً، والغسلة السابعة من ولوغ الكلب تكون باليسرى وإن حصلت الإزالة بما دونه، ونحو ذلك مما كان المقصود به إزالة الأذى، فكذلك إماطة الأذى من الفم مقصودة بالسواك، وإن شرع مع عدمه، وذلك لا ينافي أن يكون باليسرى اهـ (1) .
دليل من قال إن قصد به العبادة فباليمنى، وإن قصد النظافة فباليسرى
هذا القول جمع بين أدلة القول الأول، وبين أدلة القول الثاني.
ورأى أن السواك تارة يكون من باب التطييب والتطهر، فهنا يستاك باليمنى، وتارة يكون السواك من باب إزالة القاذورات، فيكون باليسرى. وهذا القول فيه جمع بين أدلة الفريقين.
وأما من قال: بالكراهة، فلا أعلم له دليلاً، وهو أضعف الأقوال، لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، وعلى القول بأن التسوك باليمنى سنة، أو العكس، لا يلزم من ترك السنة الوقوع في المكروه.
والمسألة ليس فيها نص واضح، والرسول B كان يتسوك، ولم يأمر بأن يكون السواك باليمين أو بالشمال، وكل من قال قولاً في ذلك اجتهد في قياس المسألة على نظائر أخرى. وقول شيخ الإسلام له قوة، إلا أن القول الأول أقوى، والأمر في المسألة واسع. والله أعلم.
_________
(1) انظر مجموع الفتاوى (21/108) بتصرف يسير في آخر كلامه.(3/787)
[صفحة فارغة](3/788)
الفصل الرابع
في كيفية أخذ السواك
الفصل الرابع
في كيفية أخذ السواك
اختلف الفقهاء في كيفية أخذ السواك
والمشهور عند الحنفية في كيفية أخذ السواك أن يجعل الخنصر أسفله، والإبهام أسفل رأسه، وباقي الأصابع فوقه (1)
واختارها من الشافعية البجيرمي (2) .
وذكروا أن ذلك مروي عن ابن مسعود رضي الله عنه (3) ،
وقيل: بل يجعل خنصره وإبهامه تحته، والأصابع الثلاثة الباقية فوقه. اختاره بعض المالكية (4) ، والشافعية (5) .
ولا أعلم في الشرع ثبوت هذه الصفة، ولم يرد شيء فيما أعلم في كيفية أخذه، فكيفما أخذه صح ذلك، والمطلوب، هو التسوك في الأسنان، فأي طريقة حصل فيها التسوك، حصل المقصود. والفقهاء رحمهم الله يتوسعون في المستحبات والمكروهات، ولو لم يكن هناك دليل على ذلك من السنة. والله المستعان.
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/114) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/10) ، البحر الرائق (1/21) ، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/13) .
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/122) .
(3) لم أقف عليه في كتب الحديث. والله أعلم، وقد نسبته كتب الحنفية، انظر الإحالة السابقة.
(4) الشرح الصغير (1/124) .
(5) تحفة المحتاج (1/221) ، حاشية الجمل (1/118) ، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/59) .(3/789)
[صفحة فارغة](3/790)
الفصل الخامس
الكلام في قبض السواك
الفصل الخامس
الكلام في قبض السواك
كره بعض الفقهاء قبض السواك (1)
دليل الكراهة.
قالوا: إن قبض السواك يورث الباسور.
ولا دليل على الكراهة. ولا يعرف سبب شرعي، أو قدري بأن قبض السواك يمكن أن يورث الباسور، والكراهة كما قدمنا حكم شرعي، لا يقال إلا بناء على دليل شرعي صحيح، مأثور أو معقول. ولا يتوفر هذا هنا، ولو صح أنه يورث الباسور لم يكن حكمه الكراهة فقط، بل يكون حكمه التحريم؛ لأن تعاطي ما يضر بالبدن محرم شرعاً.
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/114) ، ودرر الحكام شرح غرر الأحكام (1/10) ، والبحر الرائق (1/21) ، مجمع الأنهر (1/13) ، حاشية الدسوقي (1/102) ، وتحفة الحبيب (1/122) ، وحاشية البجيرمي على الخطيب (1/122) .(3/791)
[صفحة فارغة](3/792)
الفصل السادس
في موضع السواك من الرجل
الفصل السادس
في موضع السواك من الرجل
استحب بعض الفقهاء أن يوضع السواك خلف الأذن (1) .
الدليل على استحبابه.
(748-84) ما رواه البيهقي، قال: أنبأ أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان، أنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا الحضرمي، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر،
عن جابر بن عبد الله قال: كان السواك من أذن النبي B موضع القلم من أذن الكاتب.
قال أبو القاسم رواه عن ابن إسحاق سفيان، ولم يروه عن سفيان إلا يحيى.
[الحديث معلول] (2) .
_________
(1) حاشية الجمل (1/119) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/59) .
(2) سنن البيهقي (1/37) . ورواه تمام الرازي في الفوائد (2/220) 1579 من طريق أحمد بن النعمان، ثنا يحيى بن اليمان به. ورواه ابن عدي في الكامل (7/236) من طريق عمر بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن يمان به.
وقد اختلف على ابن إسحاق، فرواه يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله قال: كان السواك من أذن النبي B موضع القلم من أذن الكاتب.
ورواه أحمد (4/116) حدثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله B: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، قال: فكان زيد بن خلد الجهني يضع السواك منه موضع القلم من أذن الكاتب، كلما قام إلى الصلاة استن. اهـ
تفرد بهذه الزيادة محمد بن إسحاق، وقد عنعن. وسبق تخريجه مع حديث أبي هريرة، فارجع إليه، فاختلط الحديث على يحيى بن يمان، فظنه من فعل الرسول B، وإنما هو من فعل زيد بن خالد الجهني. هذا إن ثبت عنه.
وقد قال ابن أبي حاتم في العلل (1/55) : " سئل أبو زرعة عن حديث رواه عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن يمان، عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن جابر، فذكر الحديث. قال أبو زرعة: وهذا وهم، وهم فيه يحيى بن يمان.
وقال البيهقي (1/37) : يحيى بن يمان ليس بالقوي عندهم، ويشبه أن يكون غلطاً من حديث محمد بن إسحاق الأول ـ يعني كونه من فعل زيد بن خالد ـ إلى هذا " اهـ.
ويحيى بن يمان:
قال فيه أبو حاتم الرازي: مضطرب الحديث، في حديثه بعض الصنعة ومحله الصدق. الجرح والتعديل (9/199) .
وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. الضعفاء الكبير (4/433) .
قال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: فيحيى بن يمان في الثوري؟ قال: أرجو أن يكون صدوقاً. قلت كيف هو في حديثه؟ قال: ليس بالقوي. المرجع السابق.
قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، عن يحيى بن معين: ليس بثبت، لم يكن يبالي أي شيء حدث، كان يتوهم الحديث. تهذيب الكمال (32/55) .
وقال الدوري: سئل يحيى بن معين عن يحيى بن يمان، فقال: لا يشبه حديثه عن الثوري أحاديث غيره عن الثوري. وذكر لوكيع حديثه عن الثوري فقال وكيع كأن هذا ليس سفيان الذي سمعنا نحن منه. الجرح والتعديل (9/199) .
وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: يحيى بن يمان ثقة. المرجع السابق.
وكان محمد بن عبد الله بن نمير يضعف يحيى بن يمان، ويقول: كأن حديثه خيال. المرجع السابق.
وقال العجلي: يحيى بن يمان العجلي من كبار أصحاب الثوري، وكان ثقة جائز الحديث متعبداً معروفاً بالحديث صدوقاً إلا أنه فلج بآخره فتغير حفظه، وكان فقيراً صبوراً. معرفة الثقات (2/360) .(3/793)
الدليل الثاني:
(749-85) ما رواه أحمد بن منيع، قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن العلاء بن كثير، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال:
كان أصحاب رسول الله B يوثقون مساويكهم في ذوائب سيوفهم (1) .
[الحديث ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) المطالب العالية (65) .
(2) فيه يوسف بن عطية، والعلاء بن كثير، وهما متروكان. وإليك ترجمة كل واحد منهما.
أولاً: ترجمة يوسف بن عطية.
قال يحيى بن معين: يوسف بن عطية ليس بشيء، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (9/226) .
وقال عمرو بن على: كثير الوهم والخطأ. المرجع السابق. زاد ابن عدي عنه: سمعته يقول: ثنا قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله B: خير الناس قرني، فكان يهم وما علمته كان يكذب، وقد كتبت عنه، وانما رواه قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين. الكامل (7/152) .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى وأبا زرعة عن يوسف بن عطية أبى سهل الصفار، فقال: ضعيف الحديث. وقال عبد الرحمن: سمعت أبى يقول هو منكر الحديث. الجرح والتعديل (9/226) .
وقال ابن عدي: عامة حديثه مما لا يتابع عليه. الكامل (7/152) .
وقال النسائي: متروك الحديث، بصري. الضعفاء والمتروكين (617) . وزاد في التهذيب: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (11/367) .
وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (8/387) .
وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الموضوعة بالأسانيد الصحيحة، ويحدث بها، لا يجوز الاحتجاج به بحال. المجروحين (3/134) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/455) .
وقال الجوزجاني: لا نحمد حديثه. التهذيب (11/367) .
وقال أبو داود: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال الساجي: ضعيف الحديث وكان صدوقاً يهم، كان يغير أحاديث ثابت عن الشيوخ، فيجعلها عن أنس. المرجع السابق.
وقال الدارقطني: ضعيف الحديث. وقال أيضا: متروك المرجع السابق.
وأما العلاء بن كثير فقد جاء في ترجمته:
قال أبو زرعة: ضعيف الحديث، واهي الحديث. الجرح والتعديل (6/360) .
وقال أبو حاتم الرزاي: هو ضعيف الحديث، منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال البخاري: العلاء بن كثير، عن مكحول منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/520) ، الكامل (5/219) ، ضعفاء العقيلي (3/347) . والمنقول في تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب: منكر الحديث، ولم يقيد بمكحول.
وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث جداً. الكامل (5/219) .
وقال أحمد: ليس بشيء، كما في رواية حنبل بن إسحاق. تهذيب الكمال (22/535) .
وقال النسائي: متروك. تهذيب التهذيب (8/170) .
وقال ابن عدي: وللعلاء بن كثير، عن مكحول، عن الصحابة، عن النبي B نسخ كلها غير محفوظة، وهو منكر الحديث. الكامل (5/219) .
وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات، عن الأثبات، لا يحل الاحتجاج به، وإن وافق الثقات. المجروحين (2/181) .
وقال الدارقطني: ضعيف. سنن الدارقطني (2/218) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/347) .(3/795)
الدليل الثالث
(750-86) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا أبو خالد(3/796)
الأحمر، عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان،
أن عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله B كانوا يروحون، والسواك على آذانهم (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/196) .
(2) فيه إسامة بن زيد الليثي.
قال أحمد بن حنبل: ترك يحيى بن سعيد حديث أسامة بن زيد بأخرة. الجرح والتعديل (2/284) .
وقال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: قال أبى: روى أسامة بن زيد، عن نافع أحاديث مناكير. قلت له: إن أسامة حسن الحديث، فقال: إن تدبرت حديثه، فستعرف النكرة فيها. المرجع السابق.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد - يسأل عن أسامة بن زيد، فقال: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين كما في رواية الدوري عنه: أسامة بن زيد الليثي، هو الذي روى عنه جعفر بن عون، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، ومعن بن عيسى، وهو ثقة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: أسامة بن زيد الليثي يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق.
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/17) .
وقال ابن عدي: أسامة بن زيد كما قال يحيى بن معين، ليس بحديثه ولا برواياته بأس، وهو خير من أسامة بن زيد بن أسلم بكثير. الكامل (1/394) .
وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/217) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (1/183) .
وقال الآجري، عن أبي داود: صالح إلا أن يحيى يعني ابن سعيد أمسك عنه بآخرة. المرجع السابق.
وقال الدارقطني: لما سمع يحيى القطان أنه حدث، عن عطاء، عن جابر رفعه: أيام مني كلها منحر. قال إشهدوا أني قد تركت حديثه. قال الدارقطني: فمن أجل هذا تركه البخاري. المرجع السابق.
وقال الحاكم في المدخل: روى له مسلم واستدللت بكثرة روايته له على أنه عنده صحيح الكتاب، على أن أكثر تلك الأحاديث مستشهد بها، أو هو مقرون في الإسناد. المرجع السابق.
وقال ابن القطان الفاسي: لم يحتج به مسلم، إنما أخرج له استشهاداً. المرجع السابق.
وقال بن حبان في الثقات: يخطئ، كان يحيى القطان يسكت عنه. الثقات (6/74) .(3/797)
الفصل السابع
في الاستياك حال الاضطجاع
الفصل السابع
في الاستياك حال الاضطجاع
كره بعض الفقهاء: الاستياك مضطجعاً (1) .
وعللوا ذلك بأنه يورث كبر الطحال.
وما قلناه في مسألة قبض السواك نقوله هنا.
ولا ينبغي أن يقال: بالاستحباب، أو بالكراهة إلا أن يكون في ذلك دليل من الشرع؛ لأن الكراهة حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي. ولو صح من جهة الطب لقلت بالتحريم. ولكن مثل ذلك لا يصح.
(751-87) وقد روى ابن أبي شيبة، في مصنفه، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حرام بن عثمان، عن أبي عتيق،
عن جابر، قال: كان يستاك إذا أخذ مضجعه، وإذا قام من الليل، وإذا خرج إلى الصبح، قال: فقلت له: قد شققت على نفسك بهذا السواك، فقال: إن أسامة أخبرني أن رسول الله B كان يستاك بهذا السواك.
[الحديث ضعيف جدً] (2) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/114) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/10) ، البحر الرائق (1/21) ، الفتاوى الهندية (1/7) .
(2) فيه حرام بن عثمان.
قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (3/101) .
وقال مالك: ليس بثقة. الجرح والتعديل (3/282) .
وقال الشافعي: الحديث عن حرام بن عثمان حرام. المرجع السابق.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: حرام بن عثمان منكر الحديث متروك الحديث. قال أبو زرعة: حرام بن عثمان ضعيف الحديث وأتى على حديث لحرام بن عثمان فقال اضربوا عليه ولم يقرأه علينا. المرجع السابق.
وقال الحافظ في التلخيص: فيه حرام بن عثمان، وهو متروك (1/115) .(3/799)
الفصل الثامن
أقل ما تحصل به السنة من الاستياك
الفصل الثامن
أقل ما تحصل به السنة من الاستياك
قيل: أقله ثلاث في الأعالي، وثلاث في الأسافل (1) .
وقيل: أقله مرة إلا إن كان للتغير، فلا بد من إزالته فيما يظهر. ويحتمل الاكتفاء بها فيه؛ لأنها مخففة (2) .
دليل من قال: أقله ثلاث.
قاسوه على الاستنجاء بالأحجار، قالوا فإذا كان الإنسان مأموراً بالاستنجاء أن يستنجي بثلاثة أحجار فكذلك هنا.
(752-88) فقد روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش ومنصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد،
عن سلمان، قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة، فقال: أجل إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القبلة، ونهى عن الروث والعظام وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار (3) .
قال ابن عابدين: " لو حصل بأقل من ثلاث فالمستحب إكمالها كما قالوا في الاستنجاء.
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/114) .
(2) حاشية البجيرمي على المنهج (1/73) .
(3) صحيح مسلم (262) .(3/801)
دليل من قال يحصل بمرة.
قالوا: إن الإنسان أمر بالسواك، ولم يرد فيه تقدير فالامتثال يحصل بالمرة الواحدة. وهذا أقوى.
ولو قيل: إن كان السواك لتحصيل السنة، والفم نظيف، فيكفي فيه مرة واحدة، وإن كان السواك لتغير الفم، واصفرار الأسنان، فإنه يستاك حتى يطمئن قلبه بزوال النكهة واصفرار الأسنان، وله من الأجر بقدر ما يخفف التغير وإن لم يزله بالمرة. والله أعلم.(3/802)
الفصل التاسع
هل يحتاج المتسوك إلى نية
الفصل التاسع...
هل يحتاج المتسوك إلى نية
ذهب بعض الفقهاء إلى أن السواك يحتاج إلى نية إن كان مستقلاً، فإن كان في ضمن عبادة كالوضوء فنية الوضوء تشمله (1) .
دليلهم على أن السواك يحتاج إلى نية.
(753-89) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبدالوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله B يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (2) .
والراجح أن السواك لا يحتاج إلى نية، والخلاف في هذه المسألة ينبني على هل السواك من باب إزالة القاذورات، فلا يحتاج فيه إلى نية، أو من باب فعل العبادات، وتحصيل السنة فيحتاج فيه إلى نية، حتى تتميز العبادة عن العادة.
ولو قيل: تارة يكون السواك لتحصيل السنة، كالسواك للصلاة، ولو
_________
(1) أسنى المطالب (1/36) ، تحفة المحتاج (1/221) ، مغني المحتاج (1/184) ، حاشيتا قليوبي وعميرة: (1/58) .
(2) صحيح البخاري (6689) ومسلم (1907) .(3/803)
كان الفم نظيفاً، فيحتاج إلى نية، وتارة يكون السواك من باب إزالة القاذورات، كما لو تسوك من أجل تغير فمه، فهنا لا يحتاج إلى نية، فإذا زال التغير أثيب عليه، ولو لم ينو. والله أعلم.(3/804)
فوائد متفرقة
متممة لبحوث السواك
ويشتمل على ستة عشر فائدة(3/805)
[صفحة فارغة](3/806)
الفائدة الأولى
استحباب غسل السواك
يستحب غسل السواك إذا احتاج إلى ذلك:
(754-90) لما روى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن عبدالله الأنصاري، حدثنا عنبسة بن سعيد الكوفي الحاسب، حدثني كثير، عن عائشة أنها قالت:
كان نبي الله B يستاك فيعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك ثم أغسله وأدفعه إليه (1) .
[إسناده فيه لين] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (52) ، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/39) .
(2) تفرد به كثير بن عبيد، ولم يوثقه إلا ابن حبان.
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/155) .
وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/330) .
وفي التقريب: مقبول. أي إن توبع، وإلا فحديثه فيه لين. ولم أقف له على متابع.
وفيه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري
قال أبو حاتم: صدوق ثقة. الجرح والتعديل (7/305) .
وقال مرة: لم أر من الأئمة إلا ثلاثة أحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمي ومحمد بن عبد الله الأنصاري. تهذيب التهذيب (9/244) .
وقال أبو داود: تغير تغيراً شديداً. المرجع السابق.
وقال أحمد: ما كان يضع الأنصاري عند أصحاب الحديث إلا النظر في الرأي، وأما السماع فقد سمع، وذكر الحديث الذي رواه الأنصاري عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن بن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي B احتجم وهو صائم، فضعفه، وقال: كانت كتب الأنصاري ذهبت في فتنة، أظنه قال: المصيبة، فكان بعد يحدث من كتب غلامه أبى حكيم، أراه قال: فكان هذا من ذاك. الضعفاء الكبير (4/90) .
قلت: قد روى عنه البخاري مباشرة، وروى عن محمد بن بشار عنه، فيكون محمد بن بشار من كبار أصحابه، وهذا الحديث من رواية محمد بن بشار. وروى له مسلم أيضاً.
لكن علة الحديث والله أعلم كثير بن عبيد. وقول ابن الملقن في البدر المنير (3/194) رواه أبو داود بإسناد جيد. فيه نظر. وسكت عليه الحافظ في التلخيص (1/115،116) .
وقال النووي في المجموع (1/336) : " يستحب إذا أراد أن يستاك ثانياً أن يغسل سواكه، وهذا يحتج له بحديث عائشة رضي الله عنها، وذكر الحديث. ثم قال: حديث حسن رواه أبو داود بإسناد جيد، وقال: هذا محمول على ما إذا حصل عليه شيء من وسخ أو رائحة. قلت: الحديث لو ثبت لكان مطلقاً.(3/807)
والمعنى يقتضيه، فإن السواك يزيل ما على الفم من طعام وغيره، وربما علق به شيء مما يخرجه من الفم، فإذا كثر ذلك احتاج أن يتعاهده بالتنظيف، حتى لا يكون السواك، وهو آلة النظافة سبباً في زيادة التلوث.(3/808)
الفائدة الثانية
إباحة التسوك بسواك الغير
الدليل على ذلك.
(755-91) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني سليمان بن بلال، قال: قال هشام بن عروة: أخبرني أبي،
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر، ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله B فقلت: له أعطني هذا السواك يا عبدالرحمن، فأعطانيه فقصمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله B،فاستن به وهو مستسند إلى صدري (1) .
وفي رواية للبخاري: " فقصمته، ونفضته، وطيبته " (2) .
وفي رواية له أيضاً: " فلينته " (3) .
وفي رواية له أيضاً: " فقضمته " بالضاد (4) .
فقولها رضي الله عنها: " فقصمته " بالصاد: أي كسرته.
وبالضاد: فقضمته: أي هو الأكل بأطراف الأسنان، ولعلها قصمته، ثم قضمته، ثم دفعته إلى النبي B.
وقد يقال: ليس فيه دليل على التسوك بسواك الغير؛ لأن عائشة حين قصمته: أي كسرته فكأنه سواك جديد، قسم قسمين:
_________
(1) صحيح البخاري (890) .
(2) صحيح البخاري (4438) .
(3) صحيح البخاري (4449) .
(4) صحيح البخاري (4438) .(3/809)
قسم تسوك به عبد الرحمن.
وقسم تسوك به النبي B.
وكون عائشة مضغته: أي أكلته بأطراف أسنانها، فهي زوج النبي B، والإنسان لا يستنكف من ريق زوجته، والزوجة ليست كالأجنبي.
(756-92) لكن روى أبو داود في سننه، قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا عنبسة بن عبد الواحد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:
كان رسول الله B يستن، وعنده رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فأوحى الله إليه في فضل السواك أن كبر أعط السواك أكبرهما (1) .
[إسناده حسن، ورجح أبو حاتم أنه عن عروة، عن النبي B مرسلاً] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (50) .
(2) ورواه معمر بن راشد، عن هشام فأرسله، فقد رواه في الجامع (2/430) ، عن هشام، عن أبيه، قال: كان رسول الله B يتسوك، وعنده رجلان الحديث.
وعنبسة مقدم على معمر خاصة في هشام، فإن رواية معمر عن هشام فيها كلام، وكذا روايته عن أهل البصرة. وله شاهد من حديث ابن عمر في الصحيحين، سوف يأتي بحثه في مسألة تالية إن شاء الله. وحسن إسناده الحافظ في الفتح (246) .
وجاء في العلل لابن أبي حاتم (2/342) سألت أبي عن حديث رواه دحيم، عن عبدالله بن محمد بن زاذان المديني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي B كان يستن، وعنده رجلان، فأوحي إليه أن كبر، وأعطى السواك حين فرغ الرجلين. فقال أبي هذا خطأ، إنما هو عن عروة أن النبي B مرسل. وعبدالله ضعيف " اهـ.
قلت: عبد الله بن زاذان. قال ابن عدي: لم أر للمتقدمين فيه كلاماً، ولكن له أحاديث غير محفوظة، فأحببت أن أذكره لما شرطت في الكتاب. الكامل (4/200) .
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (5/158) . ولم أقف على من رواه مرسلاً ليتبين لي أيهما أرجح. والله أعلم.(3/810)
وترجم له أبو داود: باب الرجل يستاك بسواك غيره.
وقال الخطابي: " وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه، على من يذهب إليه بعض من يتقزز، إلا أن السنة فيه أن يغسله، ثم يستعمله (1) .
قلت: وفي هذا نظر من وجهين:
الأول: أن الرسول B ليس كغيره، والتبرك بريقه B، والتداوي به لا يقاس عليه غيره، وكان الصحابة يتبركون بفضل وضوئه، وبنخامته أحياناً.
ثانياً: أنه لو ثبت الجواز مطلقاً، فحديث عائشة في غسل السواك فيه لين. كما سبق تخريجه.
_________
(1) معالم السنن (1/27) .(3/811)
[صفحة فارغة](3/812)
الفائدة الثالثة
إذا دفع السواك للغير يبدأ بالأكبر، وليس بالأيمن
(757-93) لما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، أخبرني أبي، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع،
أن عبد الله بن عمر حدثه، أن رسول الله B قال: أراني في المنام أتسوك بسواك، فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما فقيل لي كبر فدفعته إلى الأكبر (1) .
_________
(1) مسلم (13ـ2271، 3003) . والحديث أخرجه البيهقي (1/40) من طريق عفان، حدثنا صخر بن جويرية به. وعلقه البخاري (246) ، قال: وقال عفان: حدثنا صخر بن جويرية به. قال: أراني أتسوك بسواك. ولم يقل: " في المنام " كما هو في رواية مسلم.
واختلف على نافع. فرواه صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر على أنها رؤيا في المنام.
ورواه أسامة بن زيد الليثي، عن نافع به على أن ذلك كان في اليقظة. رواه أحمد (2/138) قال: حدثنا يعمر بن بشر، حدثنا عبد الله ـ يعني ابن مبارك ـ قال قال أسامة بن زيد، حدثني نافع أن ابن عمر قال: رأيت رسول الله B وهو يستن فأعطى أكبر القوم، وقال: إن جبريل B أمرني أن أكبر.
ولا شك أن صخر بن جويرية أحفظ من أسامة بكثير، فالأول قال فيه الحافظ: ثقة ثبت فقيه مشهور. وقال في أسامة: صدوق يهم.
وحاول الحافظ أن يجمع بينهما في الفتح (246) ، فقال: " يجمع بينه وبين رواية صخر بن جويرية أن ذلك لما وقع في اليقظة أخبرهم بما رآه في النوم، تنبيهاً على أنه أمره بذلك بوحي متقدم، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ البعض، ويشهد لرواية ابن المبارك ما رواه أبو داود بأسناد حسن عن عائشة، قالت: كان رسول الله B يستن، وعنده رجلان، فأوحي إليه أن أعط السواك الأكبر".اهـ(3/813)
[صفحة فارغة](3/814)
الفائدة الرابعة
في بلع الريق عند ابتداء السواك
استحب بعض الفقهاء بلع ما اجتمع في فمه من ريقه عند ابتداء السواك (1) .
قال الرملي: ولعل حكمته التبرك بما يحصل في أول العبادة (2) .
وفي الحلية، قال الحكيم الترمذي: " وابلع ريقك أول ما تستاك، فإنه ينفع الجذام والبرص، وكل داء سوى الموت، ولا تبلع بعده شيئاً؛ فإنه يورث الوسوسة، يرويه زياد بن علاقة " اهـ (3) .
ولا أعلم دليلاً على الاستحباب، بل لا أراه مستحسناً، أن يبلع المرء ريقه بعد تنظيف فمه، فلو قيل: الأولى أن يبصقه، لكان مستحسناً حتى لا يبلع ما تخلف في فيه من أوساخ الطعام.
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/114،115) ، نهاية المحتاج (1/179) ، وقال في حاشية الجمل (1/117) : " هل المراد في ابتداء كل استياك؟ أو المراد في ابتداء اليوم مثلاً. والذي في فتاوى شهاب الرملي: أن المراد ما اجتمع في فيه من الريق عند ابتداء السواك. قال شيخنا الشبراملسي، وظاهره أن المراد به في ابتداء كل فعل منه"اهـ. وانظر حاشية البجيرمي على الخطيب (1/122) .
(2) المرجع السابق.
(3) حاشية ابن عابدين (1/115) .(3/815)
[صفحة فارغة](3/816)
الفائدة الخامسة
في الدعاء عند السواك
استحب بعض الفقهاء أن يدعي عند التسوك بقوله: اللهم بيض أسناني، وشد به لثتي، وثبت به لهاتي، وبارك لي فيه يارب العالمين، برحمتك يا أرحم الراحمين (1) .
" وفي الرعاية: يقول: إذا استاك: اللهم طهر قلبي، ومحص ذنوبي. وقال العيني في شرحه على البخاري: ويقول عند الاستياك: اللهم طهر فمي، ونور قلبي، وطهر بدني، وحرم جسدي على النار، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " هـ (2) .
وهذا الدعاء لا أصل له، والغريب أن النووي قال بعد أن ذكر هذا الدعاء، قال: وإن لم يكن له أصل، فلا بأس به؛ فإنه دعاء حسن (3) .
والصحيح أن الدعاء بهذا بدعة؛ لأن استحباب دعاء معين، في وقت معين، يجعله من الأذكار المقيدة، والأذكار المقيدة لا تجوز إلا إذا صح فيها الدليل، وفرق بين الدعاء المطلق، وبين الدعاء المقيد؛ لأن الأول أعني الدعاء المطلق جاءت الأدلة من القرآن والسنة بطلبه بينما الدعاء الثاني لا يفعل إلا إذا صح فيه الدليل، وإذا جاء الدليل وجب التقيد به، كمية وكيفية، ووقتاً. فإذا زاد فيه أو نقص أو ذكره في غير وقته كان ذلك بدعة. وحيث لم يرد في ذلك دليل يكون التعبد به بدعة.
_________
(1) المجموع (1/337) ، حاشية الجمل (1/118) ، مغني المحتاج (1/185) .
(2) مطالب أولى النهى في شرح غاية المنتهى (1/81) .
(3) المجموع (1/337) .(3/817)
[صفحة فارغة](3/818)
الفائدة السادسة
في منافع السواك
ذكر بعض الفقهاء في فوائد السواك: أنه يبطئ بالشيب، ويحد البصر، وأحسنها أنه شفاء لما دون الموت، وأنه يسرع في المشي على الصراط، وأنه مطهرة للفم، ومرضاة للرب، ومفرحة للملائكة، ومجلاة للبصر، ويذهب البخر، ويبيض الأسنان، ويشد اللثة، ويهضم الطعام، ويقطع البلغم، ويضاعف الصلاة، ويطهر طريق القرآن، ويزيد في الفصاحة، ويقوي المعدة، ويسخط الشيطان، ويزيد في الحسنات، ويقطع المرة، ويسكن عروق الرأس ووجع الأسنان، ويطيب النكهة، ويسهل خروج الروح.
قال في النهر: ومنافعه وصلت إلى نيف وثلاثين منفعة، أدناها إماطة الأذى، وأعلاها تذكير الشهادة عند الموت (1) .
ما يذكره الفقهاء في فوائد السواك لا أعلم له أصلاً إلا ما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله B: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب.
وما ورد أيضاً من وضع الملك فاه على في القارئ. وأنه تطهير لطرق القرآن، وكونه يزيد في الحسنات، ويسخط الشيطان ليس خاصاً بالسواك، بل في كل قربة قصد بها وجه الله تعالى، وكان فيها متابعة للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما ما ورد من مضاعفة أجر الصلاة، فقد بحثت في بحث خاص،
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/115) ، حاشية الجمل (1/118،119) مطالب أولى النهى في شرح غاية المنتهى (1/83) .(3/819)
وملت إلى أن الحديث الوارد غير ثابت. والله أعلم
وأما منافع السواك في المعدة والرأس ونحوها، فالمرجع فيها إلى الطب، فإن أثبت هذا أثبتناه، وإلا فالأصل عدم ثبوته.
(758-94) وأما ما رواه البيهقي في شعب الإيمان من طريق إسحاق بن إبراهيم الغزي، حدثنا محمد بن السري، حدثنا بقية، عن الخليل بن مرة، عن عطاء بن أبي رباح،
عن ابن عباس، قال: عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، يزيد الحسنات، وهو من السنة، ويجلو البصر، ويذهب الحفر، ويشد اللثة، ويذهب البلغم، ويطيب الفم (1) .
قال البيهقي: ورواه غيره، وزاد فيه: " ويصلح المعدة " وهو مما تفرد به الخليل بن مرة، وليس بالقوي في الحديث. وسبق بحثه.
(759-95) وأما ما روى ابن عدي، قال: أخبرنا أبو يعلى، ثنا محمد بن بحر البصري، ثنا معلى بن ميمون، ثنا عمرو بن داود، عن سنان بن سنان،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله B: إن السواك ليزيد الرجل فصاحة.
[الحديث موضوع] (2) .
_________
(1) شعب الإيمان (6/71) رقم 2521.
(2) الكامل (6/370) ومن طريق المعلى بن ميمون أخرجه الخطيب في الجامع (1/373،374) رقم 859، وتلخيص المتشابه (2/705ـ706) ، والعقيلي في الضعفاء الكبير (3/156) والقضاعي في مسند الشهاب (1/164) رقم 232.
قال ابن عدي: ولمعلى بن ميمون غير ما ذكرت من الأحاديث، والذي ذكرت والذي لم أذكره كلها غير محفوظة مناكير، ولعل الذي لم أذكره أنكر من الذي ذكرته، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما، إلا أن أحاديثه رأيتها غير محفوظة، فشرطت في أول الكتاب أن أذكر كل من هو بصورته. الكامل (6/370) .
وقال العقيلي: عمر بن داود، عن سنان بن أبي سنان كلاهما مجهول، والحديث منكر غير محفوظ، ومعلى بن ميمون ضعيف. الضعفاء الكبير (3/156) .
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا أصل له. العلل المتناهية (1/336) رقم 549.
وانظر لسان الميزان (6/65) ، والأسرار المرفوعة (1/رقم 233) ، وكشف الخفاء ومزيل الإلباس (1494) . والكشف الإلهي (1/460) .(3/820)
(760-96) وأما ما رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث عائشة رضي الله عنها: " السواك شفاء من كل داء إلا السام " والسام: الموت.
[فالحديث ضعيف] (1) .
وأما ما ذكروه بالنسبة لفوائد السواك للثة، وأنه يشد اللثة، فهذا ما يؤكده أحد الأطباء، يقول:
" نحن أطباء الأسنان في مصر نصف لمرضانا الذين يعانون من الالتهابات اللثوية أو كمقبض للثة هذه الوصفة العلاجية:
حامض العفص 20%... tannic acid 20%
جليسرين 80%... glycerine 80%
وطريقة استعمالها تكون بغمس الإصبع بهذا المحلول، ودلك اللثة بها مع العلم أنه كلما كانت نسبة حمض العفص أعلى كلما كان التأثير أفضل
_________
(1) عزاه للديلمي السيوطي في الجامع الصغير. انظر ضعيف الجامع (3360) ، والقارئ في معرفة النساك (14) . وذكره أبو الفيض في المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير (3/79) . وذكره صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس (1497) .(3/821)
وأجود، ويمنعنا من زيادة نسبته عن 20% طعمه الحريق اللاذع، وغير المقبول، في حين أنه يحتمل وجوده بالسواك بنسبة أعلى بكثير من 20%، وطعمه مقبول، وله رائحة طيبة ونكهة، وهذه ناحية ينفرد بها السواك كميزة رائعة (1) .
_________
(1) السواك والعناية بالأسنان (ص: 191) الطبيب عبد الله عبد الرزاق السعيد.(3/822)
الفائدة السابعة
العلك بالنسبة للمرأة
ذكر بعض فقهاء الحنفية أن العلك يقوم مقام السواك بالنسبة للمرأة (1) .
وعللوا ذلك: بأن سن المرأة أضعف من سن الرجل، ولأنها قد تخشى سقوط أسنانها من السواك. وهذا الاستحباب ضعيف، وأحكام السواك عامة للرجل والمرأة، ولم يأت نهي للنساء عن السواك، وقد ذكر الفقهاء من فوائد السواك أنه يشد اللثة، فكيف يستقيم هذا مع ما يذكرونه.
(761-97) وأما ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن رزيق، ثنا أبوالطاهر ثنا ابن وهب نا يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب،
عن عائشة قالت: قال رسول الله B: لزمت السواك حتى خشيت أن يدردني.
قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن عائشة إلا بهذا الإسناد تفرد به أبن وهب (2) .
والدرد: سقوط الأسنان. وقد سبق بحثه.
وإذا كان هناك حالة خاصة تخشى المرأة سقوط أسنانها لم يستحب لها أن تكثر منه، بل تأخذ منه بقدر. لكن لا يمكن أن يقال: إن هذا عام في كل النساء. والله أعلم.
_________
(1) الفتاوى الهندية (1/7) ، درر الحكم شرح غرر الأحكام (1/11) ، تبيين الحقائق (1/5) ، البحر الرائق (1/21) ..
(2) المعجم الأوسط (6/323) رقم 6526.(3/823)
[صفحة فارغة](3/824)
الفائدة الثامنة
التسوك والإمام يصلي
لا يشرع للإنسان أن يتسوك بعد دخول الإمام في الصلاة.
وذلك لأن السواك شرع للعبادة، فلا ينبغي أن يفوت جزءاً من العبادة من أجل فضيلة شرعت لها، وليست فيها. فإدراك هذا الجزء من العبادة خير من تحصيل فضيلة شرعت لها.
ودائما القاعدة الفقهية إنه إذا تزاحمت فضيلتان:
أحدهما: في العبادة
والأخرى: للعبادة، خارجة عنها. فإدراك الفضيلة الخاصة في العبادة أولى من إدراك الفضيلة الخارجة عنها. ويكفي أن فيه مخالفة للإمام.
(762-98) وقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال حدثني أبو الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة قال: قال النبي B: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوسا أجمعون (1) .
ومن يتسوك والإمام يكبر، فقد خالف أمر الرسول B، وقد أمره بالتكبير، والفاء في قوله: وإذا كبر فكبروا" دالة على التعقيب، بلا تراخ. والله أعلم.
ومثله لو تزاحم فضيلتان أحدهما تتعلق بالمكان، كما لو كان في يمين
_________
(1) صحيح البخاري (734) ، ومسلم (414) .(3/825)
الإمام، أو في يسار الإمام مع إدراك جزء من العبادة يفوت لو طلب يمين الإمام، فإدراك جزء من العبادة أفضل من تحصيل فضيلة خارجة عنها. والله أعلم.(3/826)
الفائدة التاسعة
في الوضوء من فضل السواك
(763-99) روى البزار في مسنده، قال: حدثنا يوسف بن خالد، ثنا أبي، عن الأعمش،
عن أنس أن النبي B كان يتوضأ بفضل سواكه (1) .
[إسناده ضعيف جداً، والأعمش لم يسمع من أنس] (2) .
_________
(1) كشف الأستار عن زوائد البزار (1/144) رقم 274.
(2) فيه يوسف بن خالد:
قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: سمعت يحيى بن معين يقول، وذكر يوسف بن خالد السمتي، فقال: كذاب خبيث عدو الله رجل سوء رأيته بالبصرة مالا أحصى لا يحدث عنه أحد فيه خير. الجرح والتعديل
وقال يحيى بن معين أيضاً: يوسف بن خالد السمتي كذاب زنديق لا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبى، وسألته عن يوسف بن خالد السمتي فقال: أنكرت قول يحيى بن معين فيه إنه زنديق حتى حمل إلي كتاب قد وضعه في التجهم باباً باباً ينكر الميزان في القيامة فعلمت أن يحيى بن معين كان لا يتكلم الا على بصيرة وفهم. قلت: ما حاله؟ قال: ذاهب الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث ضعيف الحديث اضرب على حديثه كان يحيى بن معين يقول: كان يكذب. المرجع السابق.
تخريج الحديث:
أخرجه أبو يعلى في مسنده (4020) حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا يوسف بن خالد، عن الأعمش به.
وأخرجه الدارقطني (1/40) قال: نا بن أبي حية، نا إسحاق بن أبي إسرائيل، نا يوسف بن خالد، نا الأعمش، عن أنس أن رسول الله B كان يستاك بفضل وضوئه.
فخالف في متنه، فجعل الاسيتاك بفضل الوضوء، وليس الوضوء بفضل الاستياك.
قال الحافظ في الفتح (187) : " أخرجه الدارقطني من حديث أنس، أن النبي B كان يتوضأ بفضل سواكه. وسنده ضعيف " اهـ كلام الحافظ.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/216) : " رواه البزار، والأعمش لم يسمع من أنس.(3/827)
وقال البزار: رواه سعد بن الصلت، عن الأعمش، عن مسلم (1) .
_________
(1) هذه الرواية التي أشار إليها البزار، هي في سنن الدارقطني (1/40) ، قال: نا محمد بن أحمد بن محمد بن حسان الضبي، نا إسحاق بن إبراهيم شاذان، نا سعيد بن الصلت ـ والصواب: سعد ـ، عن الأعمش، عن مسلم الأعور، عن أنس بن مالك أن النبي B كان يستاك بفضل وضوئه.
وفيه مخالفتان: في الإسناد والمتن.
أما الإسناد، فإنه جعل بين الأعمش، وأنس واسطة.
وأما المتن، فإنه قال: كان يستاك بفضل وضوئه. والأولى لفظها: كان يتوضأ بفضل سواكه. وبينهما فرق.
وراية الدارقطني ضعيفة، فإن فيها مسلم بن كيسان الأعور
قال البخاري: يتكلمون فيه. التاريخ الكبير (7/271) ، الضعفاء الصغير (343)
وقال في موضع آخر: ضعيف ذاهب الحديث لا أروى عنه. تهذيب التهذيب (10/122) .
وقال أحمد: ضعيف لا يكتب حديثه. الضعفاء الكبير (4/153)
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (568) .
وقال أيضاً: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (10/122) .
وقال يحيى بن معين أيضا: ليس بثقة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: يتكلمون فيه وهو ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (8/192) .
وقال أبو رزعة: كوفى ضعيف الحديث. المرجع السابق.(3/828)
(764-100) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير أنه كان يستاك، ويأمرهم أن يتوضؤا بفضل سواكه.
[إسناده صحيح] (1) .
قال الشافعي: إذا وضع المرء ماء، فاستن بسواك، وغمس السواك في الماء، ثم أخرجه توضأ بذلك الماء؛ لأن أكثر ما في السواك ريقه، وهو لو بصق أو تنخم أو امتخط في ماء لم ينجسه، والدابة نفسها تشرب في الماء، وقد يختلط به لعابها، فلا ينجسه إلا أن يكون كلباً أو خنزيراً " اهـ (2) .
_________
(1) المصنف (1/199) ، وإسماعيل: هو ابن أبي خالد. وقيس: هو ابن أبي حازم. وسنده صحيح.
ورواه الدارقطني (1/40) ، قال: نا الحسين، نا حفص بن عمرو، نا يحيى بن سعيد، نا إسماعيل، ثنا قيس، قال: كان جرير يقول لأهله توضؤوا من هذا الذي أدخل فيه سواكه.
قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح
وعلقه البخاري في الوضوء جازماً به. (40) باب استعمال فضل وضوء الناس. قال البخاري: وأمر جرير بن عبد الله أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه.
قال الحافظ في الفتح: " هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة والدارقطني وغيرهما، من طريق قيس بن أبي حازم عنه. وفي بعض طرقه: " كان جرير يستاك، ويغمس رأس سواكه في الماء، ثم يقول لأهله: توضؤا بفضله، لا يرى به بأساً ".
(2) الأم (1/18) .(3/829)
[صفحة فارغة](3/830)
الفائدة العاشرة
هل يستحب أن يكون السواك من شجر مر؟
استحب فقهاء الحنفية أن يكون من شجر مر
وعللوا ذلك بأنه يطيب النكهة، ويشد الأسنان، ويقوي المعدة (1) .
وليس فيه شيء عن الشارع، فإن كان ما ذكر من التعليل ثابتاً طبياً استحب لذلك، وإلا فالأصل عدم الاستحباب.
_________
(1) مجمع الأنهر (1/13) .(3/831)
[صفحة فارغة](3/832)
الفائدة الحادي عشرة
التسواك بطرف السواك
نهى بعض الفقهاء أن يتسوك بطرف السواك الآخر (1) .
وعلل ذلك بأن الأذى يستقر فيه (2) .
ولا دليل على الكراهة، وليس لما عللوا فيه أصل، ولو كان الأذى يستقر فيه، لجاء الأمر باستبدال السواك بعد استعماله حتى لا يصل إلى الموضع الذي فيه أذى، بل لو قيل: إنه مأمور أن يستاك بطرفه الآخر بعد استياكه بطرفه الأول، لأن السواك مع الاستعمال قد يضعف في التنظيف، لو قيل بهذا في مقابل قولهم لكان مقبولاً. والله أعلم.
_________
(1) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/13) ، وحاشيتا قليوبي وعميرة (1/59) ، تحفة المحتاج (1/215) ، حاشية الجمل (1/118) ..
(2) حاشية الجمل (1/118) .(3/833)
[صفحة فارغة](3/834)
الفائدة الثانية عشرة
في التسوك بالقصب (1) .
نهى بعض الفقهاء عن التسوك بالقصب، وعرف القصب: بأنه كل نبات يكون ساقه أنابيب، وكعوباً. قال صاحب الصحاح: والقصب الفارسي منه صلب غليظ تعمل منه المزامير، وتسقف به البيوت، ومنه ما يتخذ منه الأقلام اهـ ثم قال: إذا تقرر هذا فالظاهر أن مراد الفقهاء بالقصب مطلقه لا خصوص الفارسي.
وعلل الكراهة بأن القصب يولد الأكلة في الأسنان
وليس فيه شيء عن الشارع، فإن ثبت طبياً أنه يسبب الأكلة حرمناه، ولم نكتف بالكراهة، وإلا فالأصل الإباحة.
_________
(1) حاشية العدوي (1/184) .(3/835)
[صفحة فارغة](3/836)
الفائدة الثالثة عشر
تعويد الصبي على السواك
قال النووي: يستحب أن يعود الصبي السواك ليألفه كسائر العبادات (1) .
قلت: كما يؤمر بالصلاة، والصيام، والآداب المستحبة.
(765-101) أما الصلاة، فقد روى أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، وعبد الله بن بكر السهمي، المعنى واحد قالا: حدثنا سوار أبو حمزة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه،
عن جده قال: قال رسول الله: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع. وإذا أنكح أحدكم عبده فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته (2) .
[صحيح لغيره] (3) .
_________
(1) المجوع شرح المهذب (1/336) .
(2) المسند (2/187) .
(3) الإسناد مداره على سوار بن داود المزني أبي حمزة الصيرفي.
قال أحمد: شيخ بصري، لا بأس به. روى عنه وكيع فقلب اسمه، وهو شيخ يوثق بالبصرة. لم يرو عنه غير هذا الحديث. يعني: حديثه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده."علموا أولادكم الصلاة". الجرح والتعديل (4/272) ، تهذيب الكمال (12/236) .
ووثقه يحيى بن معين، كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (4/272) ، تهذيب التهذيب (4/253) .
وقال الدارقطني: لا يتابع على حديثه فيعتبر به. تهذيب الكمال (12/236) تهذيب (4/253) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/167) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. الثقات (1/422) .
وفي التقريب: صدوق له أوهام.
قلت: إذا كان الأمر كما قال أحمد: لم يرو عنه إلا حديث واحد: " مرو أبناءكم بالصلاة... " فكيف يمكن أن يقال: له أوهام. ولعل الحافظ تابع ابن حبان حين ذكره في الثقات، وقال: يخطئ، ولو اقتصر الحافظ على كلمة (صدوق) لكان أولى.
أما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. فقد اختلف الناس فيه:
فمنهم من ضعفه مطلقاً.
ومنهم من وثقه مطلقاً.
ومنهم من وثق عمرواً في روايته عن غير أبيه.
والحق أن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده من قبيل الحسن لذاته. وإليك تفصيل هذه الأقوال:
أما من ضعفه مطلقاً، فمنهم يحيى بن سعيد، فقد نقل عنه علي بن المديني أنه قال: حديثه عندنا واهٍ. الجرح والتعديل (6/238) ، الكامل (5/114) .
وقال ابن عيينة: حديثه عند الناس فيه شيء. تهذيب الكمال (22/64) .
وقال أيضاً: غيره خير منه. وهذا من الجرح. الضعفاء الكبير ـ العقيلي (3/273) .
وقال أحمد: له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه، يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا. تهذيب الكمال (22/64) .
وقال يحيى بن معين: ليس بذاك، كما في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (6/238) .
وقال الآجري: قيل لأبي داود: عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، حجة عندك؟ قال: لا، ولا نصف حجة.
قلت: ينبغي أن يحمل تضعيفه على روايته عن أبيه، عن جده، فهذا يحيى القطان يقول فيما رواه صدقة بن الفضل عنه: إذا روى عنه الثقات، فهو ثقة يحتج به.
ومنهم من وثقه مطلقاً.
قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: من الناس بعدهم؟ تهذيب الكمال (22/69) ، والتاريخ الكبير (6/342) وليس في التاريخ قوله: " من الناس بعدهم ". وانظر الترمذي (2/140) .
وقال يحيى بن معين: ثقة، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (6/238) ، ولعله يقصد روايته عن غير أبيه، لأني نقلت عنه قبل قليل قوله: ليس بذاك.
وقال العجلي: ثقة. ثقات العجلي (2/178) .
ومن الناس من فصل:
قال ابن حبان: فليس الحكم عندي إلا مجانبة ما روى عن أبيه، عن جده، والاحتجاج بما روى عن الثقات غير أبيه، ولولا كراهة التطويل لذكرت من مناكير أخباره التي رواه عن أبيه، عن جده أشياء يستدل بها على وهن هذا الإسناد. المجروحين. (2/71) .
وقال يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو كتاب ومن هنا جاء ضعفه، وإذا حدث عن سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء.
وقال أبو زرعة: روى عنه الثقات مثل أيوب السختياني وأبي حازم والزهري والحكم ابن عتيبة، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه، عن جده، وقال: "إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها. وقال أبو زرعة: ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن أبيه عن جده من المنكر وعامة هذه المناكير التي تروى عنه إنما هي عن المثنى بن الصباح وابن لهيعة، والضعفاء.
وقال أبو رزعة أيضاً: مكي كأنه ثقة في نفسه، وإنما تكلم فيه بسبب كتاب عنده. الجرح والتعديل (6/238) .
قال ابن حجر: فأما روايته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة بلفظ: " عن " فإذا قال: حدثني أبي فلا ريب في صحتها، كما يقتضيه كلام أبي زرعة.
وقال: " والمقصود بجده الجد الأعلى: عبد الله بن عمرو، لا محمد بن عبد الله. وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله، ثم ساق جملة من الأحاديث في التهذيب يصرح فيها شعيب بسماعه من عبد الله بن عمرو. تهذيب التهذيب (8/43) .
وقال ابن عدي: روى عنه أئمة الناس وثقاتهم، وجماعة من الضعفاء، إلا أن أحاديثه عن أبيه، عن جده، عن النبي B اجتنبه الناس مع احتمالهم إياه، ولم يدخلوه في صحاح ما خرجوه، وقالوا: هي صحيحة. الكامل (5/114) .
وقال ابن معين: هو ثقة في نفسه، وما روى عن أبيه عن جده لا حجة فيه وليس بمتصل، وهو ضعيف من قبل أنه مرسل. وجد شعيب كتب عبد الله بن عمرو فكان يرويها عن جده أرسالاً، وهي صحاح عن عبد الله غير أنه لم يسمعها. تهذيب التهذيب (8/43) .
قال ابن حجر: فإذا شهد ابن معين أن أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل. اهـ.
وهذا هو غاية التحرير. وبناء عليه يكون إسناد حديثنا: " مروا أبناءكم بالصلاة " حسناً إن شاء الله تعالى.
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه ابن ابي شيبة (1/304) ح3482: حدثنا وكيع، عن داود بن سوار. به، انقلب اسمه على وكيع، كما لم يرو زيادة: " إذا أنكح أحدكم عبده ": لكن أخرجه أبو داود (496) : حدثنا زهير بن حرب، حدثنا وكيع به، بذكر الزيادة.
وأخرجه أبو داود (495) : حدثنا مؤمل بن هشام - يعني: اليشكري - حدثنا إسماعيل، عن سوار أبي حمزة به، بدون ذكر الزيادة.
وأخرجه الدارقطني (1/230) من طريق النضر بن شميل، ومن طريق عبد الله بن بكر السهمي، فرقهما، عن سوار أبي حمزة به. بذكر الزيادة من كليهما. وأخرجه الحاكم (1/197) من طريق عبد الله بن بكر السهمي به.
ومن طريق عبد الله بن بكر، أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/167) والخطيب في تاريخه (2/278) والبيهقي (3/84) .
وله شاهد ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة (1/304) ح3481، وأحمد (3/404) والدارمي (1431) وابن الجارود في المنتقى (147) وأبو داود (494) والترمذي (407) وقال: حسن صحيح. والطحاوي في مشكل الآثار (3/231) والدارقطني (1/230) والحاكم (1/201) وقال: صحيح على شرط مسلم!! وأقره الذهبي!! وأخرجه البيهقي (2/14) (3/83) كلهم من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله B: " إذا بلغ الغلام سبع سنين أمر بالصلاة، فإذا بلغ عشراً ضرب عليها ".
هذا لفظ أحمد. والحديث إسناده ضعيف. فيه عبد الملك بن الربيع.
قال ابن معين: أحاديث عبد الملك، عن أبيه، عن جده ضعاف. الجرح والتعديل (5/350) .
وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً يروي عن أبيه ما لم يتابع عليه. المجروحين (2/132) .
ووثقه العجلي.
وقال أبو الحسن بن القطان: لم تثبت عدالته، وإن كان مسلم أخرج له، فغير محتج به. تهذيب التهذيب (6/349) .
يقصد أن مسلماً لم يحتج به. وإنما أخرج له حديثاً واحداً في المتعة متابعة، فليس على شرط مسلم. ولهذا لم يصب الحاكم عندما قال: على شرط مسلم. ومع ضعف إسناده إلا أنه صالح في الشواهد. فيكون الحديث صحيحاً لغيره.
وقد روي من حديث أنس. أخرجه الحارث في مسنده، كما في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (ص48) قال: حدثنا داود بن المحبر، ثنا عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس قال: قال رسول الله B: " مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لثلاث عشرة ".
وأخرجه الطبراني كما في مجمع البحرين (537) : من طريق أبي بكر الأعين، ثنا داود ابن المحبر، ثنا أبي، عن ثمامة به.
وأخرجه الدارقطني (1/231) من طريق الفضل بن سهل، ثنا داود بن المحبر، ثنا عبد الله ابن المثنى به.
فالحديث ضعيف جداً، وأورده الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (349) من مسند أنس. وقال: فيه داود بن المحبر، متروك، وقد خالف في هذا الحديث سنداً ومتناً.
يقصد الحافظ: مخالفته في الإسناد: وذلك بجعله من مسند أنس، وهو غير معروف، والمخالفة في المتن، فإن المعروف في لفظه: " واضربوهم عليها لعشر " وهذا قال: " لثلاث عشرة ".
قلت: داود بن المحبر، قال فيه أبو حاتم: غير ثقة، ذاهب الحديث، منكر الحديث. الجرح والتعديل (3/424) .
وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (3/173) .
وكذبه أحمد. ضعفاء الأصبهاني (61) .
وقال أيضاً: شبه لا شيء، لا يدري ما الحديث. التاريخ الكبير (3/242)
وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (3/244) .
وقال أيضاً: منكر الحديث، شبه لا شيء، كان لا يدري ما الحديث. الضعفاء الصغير (110) .
وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات، ويروي عن المجاهيل المقلوبات.
وقال الدارقطني: كتاب العقل وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود ابن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة.. الخ كلام الدارقطني. تاريخ بغداد (8/359) .
وقال يحيى بن معين: ثقة. فتعقبه الخطيب، وقال: حال داود ظاهرة في كونه غير ثقة، ولو لم يكن له غير وضعه كتاب العقل بأسره لكان دليلاً كافياً على ما ذكرته. تاريخ بغداد (8/359) .
ومع شدة ضعفه فإن داود بن المحبر تارة يحدث به عن عبد الله بن المثنى وتارة يحدث به عن أبيه، والله أعلم.(3/837)
(766-102) وأما أمرهم بالصيام، فقد روى البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا خالد بن ذكوان،
عن الربيع بنت معوذ، قالت: أرسل النبي B غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار، من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم. قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك، حتى يكون عند الإفطار (1) .
وأما أمرهم ببعض الآداب
(767-103) فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، أخبرنا
_________
(1) صحيح البخاري (1960) ، ومسلم (1136) .(3/842)
سفيان، قال الوليد بن كثير: أخبرني أنه سمع وهب بن كيسان، أنه سمع عمر بن أبي سلمة يقول:
كنت غلاما في حجر رسول الله B، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله B: ياغلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طعمتي بعد (1) .
ولا شك أن الصبي غير مكلف، ولكن يؤمر بذلك تأديباً وتعليماً حتى يألف الواجبات، هذا فيما يتعلق في باب المأمورات، وفي باب المنهيات آكد حيث ينهى الصغير عما ينهى عنه الكبير، فينهى عن الكذب، وعن الغيبة، وعن أكل الحرام،
(768-104) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن زياد، قال:
سمعت أبا هريرة رضي الله عنه: قال أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي B: كخ كخ؛ ليطرحها، ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة (2) .
أوجب بعض الفقهاء السواك على من اضطر لأكل الميتة، وعلل ذلك بإزالة الدسومة (3) .
قال بعضهم: ولو وجب إزالتها لم يتعين السواك في إزالتها حتى يقال بوجوبه في هذه الحال (4) .
_________
(1) صحيح البخاري (5376) ، وصحيح مسلم (2022) .
(2) صحيح البخاري (1491) ، وصحيح مسلم (1069) .
(3) مغني المحتاج (1/185) .
(4) انظر تحفة المحتاج (1/216) .(3/843)
[صفحة فارغة](3/844)
الفائدة الرابعة عشرة
في لقطة السواك
(769-105) روى ابن أبي شيبة، قال: نا حفص،
عن ليث، قال: كان عطاء يرخص في القضيب والسواك والسنا من الحرم.
[ إسناده ضعيف ] (1) .
(770-106) وقد روى البخاري رحمه الله،قال: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن طلحة،
عن أنس رضي الله عنه، قال: مر النبي B بتمرة مسقوطة، فقال: لولا أن تكون من صدقة لأكلتها (2) .
فدل الحديث على أنه لا حرج في التقاط اليسير من المال.
وقال ابن قدامة: " لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة أخذ اليسير، والانتفاع به، وقد روي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، وطاووس، والنخعي، ويحيى بن أبي كثير، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي " اهـ (3) .
_________
(1) المصنف (4/509).
(2) صحيح البخاري (2055)، ومسلم (1071).
(3) المغني (6/6).(3/845)
[صفحة فارغة](3/846)
الفائدة الخامسة عشرة
يتسوك المحرم كما يتسوك الحلال
(771-107) فقد روى أبن أبي شيبة : ثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع،
عن ابن عمر قال: لا بأس بالسواك للمحرم.
[ وإسناده صحيح ] (1) .
ثم إن عموم السواك مطهرة للفم مرضاة للرب يشمل المحرم والحلال، ولم أعلم أن أحداً كره السواك للمحرم، بل قد يقال: إن الإحرام شرع فيه الاغتسال، والقصد منه النظافة، ولذلك تغتسل الحائض والنفساء، ومن نظافة البدن السواك، لأن الفم جزء من البدن، والله أعلم.
_________
(1) المصنف (4/203).(3/847)
[صفحة فارغة](3/848)
الفائدة السادسة عشرة
تم في كلية طب الأسنان بجامعة الرياض إجراء بحث علمي على المسواك، قام به الدكتور عبد الرحيم محمد الأستاذ المشارك، والمحاضر في الكلية، وقد اتضح من نتائج هذا البحث بأن السواك ليس له تأثير ضار على الأنسجة المحيطة بالأسنان لمدة أربعة وعشرين ساعة من استخدامه، بل إن له فوائد شتى.. ولكن إذا استخدم رأس المسواك لمدة أكثر من يوم دون تغيير هذا الجزء، فإن بعض المواد، وهي مواد فيتولية يمكن لها أن تؤثر على الأنسجة المحيطة بالأسنان، لذلك يوصي الدكتور صاحب البحث المتسوكين باستخدام المسواك لمدة أربعة وعشرين ساعة، وبعد ذلك يقطع الجزء المستخدم، ويستخدم جزء جديد (1) .
ويقول بعض الأطباء: " إن عدم تنظيف الفم والأسنان، هو أحد أهم العوامل المسببة لنخر الأسنان، وخاصة في العصر الحديث لانتشار استخدام السكريات.
وقد أجمع أطباء الأسنان والباحثون على أهمية تنظيف الفم بعد الطعام، وغسله بالمضمضة، واستخدام السواك، وبما أن الإنسان في العصر الحديث يأكل بين الوجبات، ويشرب سوائل محلاة بالسكر، فإنه يحتاج إلى استخدام السواك كل أربع ساعات، وقد ذكر الدكتور عبد الغني السروجي من جامعة دمشق يقول: " مبدأ حفظ صحة الأسنان هو التأكيد على تنظيفها تنظيفاً مستمراً، وبخاصة الثلم اللثوي كل أربع ساعات، وهو أمر لا يتحقق بالنسبة
_________
(1) السواك، والعناية بالأسنان (ص: 222) ، نقلاً من صحيفة الجزيرة السعودية عدد الأحد، 6 رجب 1401 هـ(3/849)
للإنسان في العصر الحديث إلا إذا اتبع تعاليم المصطفى B، حيث ندب بقوة إلى السواك عند كل وضوء، وعند كل صلاة، وبما أن الصلاة مفروضة على المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، فإن عليه أن يتسوك خمس مرات، ثم يضاف إليها التسوك عند قراءة القرآن، وعند القيام من النوم، وعند تغير الفم،... الخ فيكون ذلك أكثر من عشر مرات في اليوم والليلة، فأنى يتأتى للويحة السنية أن تتجمع، وتترسب، وهي تزال كل ما تكونت، وكيف تسطيع البكتيريا أن تحول بقايا الطعام، وبقايا الطعام تزال بانتظام.
وتنفق الولايات المتحدة والدول الأوربيه الآف الملايين من الدولارت سنوياً على التثقيف الصحي، وعشرات الآلاف من الملايين من الدولارت سنوياً على مداواة أمراض الأسنان، ورغم كل ذلك فإن الدول الأوربية، والولايات المتحدة لا تزال تتصدر قائمة الدول المصابة بنخر الأسنان، والدول الإسلامية رغم عدم اتباعها لتعاليم نبيها، إلا أنها أفضل حالاً ومآلاً من الدول المتقدمة صناعياً في موضوع نخر الأسنان رغم أن التثقيف يكان يكون منعدماً.
ولو اهتمت الدول الإسلامية بِحَثِّ العلماء وأئمة المساجد على أن يقوموا بدورهم بالتوعية الصحية، وذلك بالحث على السواك وتنظيف الفم، وذكر الأحاديث النبوية الكثيرة في هذا الصدد لا ختفت أو كادت حالات نخر الأسنان... كما ينبغي محاربة الرذائل الغربية، والتلفزيون لا يكف عن الإعلان من أنواع الشوكلاتة والحلويات (الكاندي) وتصوير الشباب، وهم يتعاطونها بنهم، مع أن تناول الشوكلاتة مقصورة في البلاد الإسلامية عرباً وعجماً على الأطفال، وعلى أطفال الطبقة الغنية المترفة بصورة خاصة.
كذلك ينبغي محاربة التدخين الذي له دور كبير وهام في تخريب الصحة(3/850)
بصورة عامة بما في ذلك صحة الفم والأسنان.
وهكذا نجد أن تعاليم الإسلام، واتباع سنن الهدى، وتوجيهات المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة، والفوز برضا الرب، والتمتع بحياة صحية، وعقلية وبدنية، ونفسية سليمة.... فالله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين الصادقين بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة. قال تعالى:
{من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينة حياة طيبة} (1) .
وإذا علمت الحكومات مقدار التوفير الذي ستوفره من آلاف الملايين من الدولارت سنوياً باتباع تعاليم الإسلام لسعت لتنفيذها ونشرها بين الناس، فإن اتباع سنة السواك فقط ستوفر على الأمة الإسلامية مبالغ تنوء بها الجبال الرواسي (2) .
ويقول الطبيب أيضاً: " وفي بحث هام للدكتور الخطيب وزملائه نشرته مجلة صحة المجتمع للإسنان عام 1991، ذكر فيه أنه تم فحص 480 شخصاً بالغاً (سن 35ـ45) ومجموعة أخرى من سن 65 فما فوق من مدينتي جدة ومكة المكرمة، وقد وجد الباحثون أن من يستخدم السواك بانتظام لا يعانون من التهاب محيط السن periodentitis)) إلا بنسبة ضئيلة. وهم أقل بكثير ممن لا يستعملون المسواك. وبمقارنتهم بالدول الأخرى فإن استعمال السواك يوضح مدى الوقاية في صحة الأسنان وصحة الفم نتيجة استخدام المسواك.
وفي بحث آخر نشرته مجلة (quintessence) الطبية لكل من الدكتور
_________
(1) النحل: 97.
(2) السواك. د. محمد علي البار (ص: 96) .(3/851)
عيد الشمري، وسليم عام 1990 جاء أن استخدام المسواك يقلل من الإصابة بالتهاب اللثة، والتهاب محيط السن، ووجود جيوب صديدية، وكانت المجموعة التي لا تستخدم المسواك ولا الفرشاة والمعجون أكثرها تعرضاً للإصابة. ويبدو أن استخدام المسواك ربما كان أفضل من الفرشاة في إزالة اللويحة السنية، والمحافظة على صحة الأسنان والفم " اهـ (1) .
_________
(1) السواك. د محمد البار (ص: 146) .(3/852)
الفائدة السابعة عشرة
الأدب والسواك
ورد ذكر السواك في الشعر العربي، فمن ذلك قول بعضهم:
تالله إن جزت بوادي الأراك... وقَبَلَت أغصانُه الخضرُ فاك
فابعث إلى المملوك من بعضها... فإنني والله ما لي سواك
وقال آخر:
طلبت منك سواكا... وماطلبت سواك
وما أردت أراكاً... لكن أردت أراك
وكان نساء المسلمين يكثرن من السواك ويمدحن بذلك حتى عيب على نساء النصارى تركهن السواك.
قال جرير يهجو الأخطل:
لقي الأخيطل أمه مخمورة
قبحاً لذلك شارباً مخمورا
لم يجر مذ خلقت على أنيابها
لم يجر مذ خلقت على أنيابها
وقال أيضاً:
وما قرأ المفصل تغلبي
ولا مس الطهور ولا السواكا
ولا عرفوا مواقف يوم جمع
ولا حوض السقاية والأراكا
وقال ابن زيدون:
بل ما عليك وقد محضت لك الهوى
في أن أفوز بحظوة المسواك
ناهيك ظلما أن أضر بي الصدى
برحا ونال البرء عود أراك(3/853)
وقال أيضاً:
أهدي إلي بقية المسواك
لا تظهري بخلا بعود أراك
فلعل نفسي أن ينفس ساعة
عنها بتقبيل المقبل فاك
ياكوكبا بارى سناه سناءه
تزهى القصور به على الأفلاك
قرت وفازت بالخطير من المنى
عين تقلب لحظها فتراك
وقيل أيضاً
هنيت يا عود الأراك بثغرها
ما خفت مني يا أراك أراكا
لو كان غيرك يا سواك قتلته
ما فاز مني يا سواك سواكا
وقال آخر:
يا قرة العين إني لا أسميكِ... أكني بأخرى، ولكن أنت أعنيكِ
يا أطيب الناس ثغراً غير مختبر
إلا شهادة أطراف
المساويكِ
قد زرتنا مرة في الدهر واحدة
ثني ولا تجعليها بيضة الديكِ
وقال بشار بن برد:
لما أتتني على المسواك ريقتها... مثلوجة الطعم مثل الشهد
بالراحِ
قبلت ما مس فاها ثم قلت له... ياليتني كنت ذا المسواك ياصاحِ
وقال بشار أيضاً:
وهبتِ له على المسواك ريقاً
فطاب له بطيب ثنيتيك
أقبله على الذكرى كأني
أقبل فيه فاك ومقلتيك
وقال ابن المعتز:
أهلا وسهلا بمن في النوم ألقاها
وحبذا طيفها لو كان آتاها
يا حبذا شعث المسواك من فمها
إذا سقته عقاراً من ثناياها(3/854)
وقال جميل بثينة:
تسوك بقضبان الأراك مفلجاً
يشعشع فيه الفارسي المروق
وقال أبو العتاهية:
يخبرني عنه السواك بطيبه
ولست به لولا السواك بذي خبر
وقال بعض الدعاة:
يا تائها في الغي من
أعماك... وبحب هذا الداء من أغراك
ياتائها في مَهْمَة الغفلات يا... متجاهلاً متخبطاً بخطاك
تستحسن التنباك في فيك
الطهور... وتستحي أن تأخذ المسواك
والشرع ثم الطب قد نهياك عن
هذا الأذى وبفضل ذا أمراك
لو كنت تعكس في القضية كان
أو... لى منك لكن اللعين أغراك
أتراك تفعله وجدك حاضر
لا والذي من نطفة سواك
ما ينبغي لك يابن طه
ترتضي... خلق اللئام وشؤمها يغشاك
وخلعت جلباب الحياء وقلت
ذا... حرية أخطأ في مرماك
ومن النظم:
إن السواك من رضى الرحمن
وهو كذا مبيض الأسنان
مطهر الثغر ومذكي الفطنة
يزيد في فصاحة وحسنة
مشدد اللثة أيضا مذهب
لبخر وللعدو مرهب
كذا يصفي حلقه ويقطع
رطوبة وللغذا ينفع
ومبطئ للشيب والإهرام
ومهضم للأكل والطعام
وقد غدا مذكر الشهادة
مسهل النزع لدى الشهادة
ومرغم الشيطان والعدو
والعقل والجسم كذا يقوي
ومورث لسعة مع الغنى
ومذهب الآلام حتى للعنا(3/855)
وللصداع وعروق الراس
مسكن لوجع الأضراس
مبيض للوجه جال للبصر
ومذهب للبلغم مع الحفر
ميسر موسع للرزق
... مفرح للكاتبين الحق(3/856)
الفائدة السابعة عشر والآخيرة
صفة شجرة الآراك
شجرة الأراك: شجرة تنمو في الأماكن الحارة والاستوائية، وتكثر عادة في أودية الصحاري، وتوجد في المملكة العربية السعودية، وأكثر ما تكون في منطقة عسير وجيزان. وتوجد شجرة الأراك في اليمن والسودان ومصر، وخاصة في الصعيد وسيناء، كما توجد في إيران وشرق الهند، وأماكن أخرى.
وفروعها شائكة، وأوراقها بيضاوية ملساء، متقابلة، دائمة الخضرة، وإذا أكلت منها الماشية اكتسب لبنها رائحة طيبة.
وتنتشر أغصان شجرة الأراك على الأرض لمسافة كبيرة، وأزهارها صفراء مخضرة، وثمرتها صغيرة في حجم حبة الحمص، أو أكبر قليلاً، يكون لونها أخضر أول الأمر، ثم تحمر وتسود، وبها بذرة واحدة، وتجتمع الثمار على شكل عنقود، وعند نضج الثمرة تصبح حلوة الطعم، حاذقة، وقد تؤكل (1) .
الفحص المجهري لمقطع شجرة الأراك
قال الدكتور صلاح الدين الحنفي في أبحاثه في رسالته الجامعية، تحت إشراف الدكتور محمد زهير البابا، أستاذ العقاقير في كلية الصيدلة
_________
(1) السواك والعناية بالأسنان ـ د. عبد الله عبد الرزاق السعيد (ص: 36) ، السواك. د. محمد البار (ص: 147) .(3/857)
بجامعة دمشق، يقول الدكتور صلاح: " نجري مقطعاً عرضياً في عود السواك ـ بعد غليه ونقعه في مزيج الغول والماء والغيليسرين بأقسام متساوية، ونفحصه تحت المجهر، فيبين لنا الطبقات التالية الموضحة بالرسم:
1 ـ طبقة فلينية.
2 - نسيج قشري، تتخلله بعض الخلايا المتصلبة، والألياف، وداخله حبيبات نشا.
3 - حزم لحائية خشبية تتألف من لحاء نحو الخارج، وطبقة مولدة cambium وأوعية خشبية، وهي تشكل الألياف المنظفة للأسنان، حولها نسيج متخشب، وهذه الأوعية الخشبية والنسيج المتخشب تكون(3/858)
على عدة طبقات يفصل بين هذه الطبقات نيسج خاص، كما يتضح من الرسم التفصيلي.
4 - أشعة مخية، تفصل بين الحزم الخشبية اللحائية، وتكون خلاياها ملئية ببلورات السيليس والحماضات وحبيبات النشا (1) .
_________
(1) السواك والعناية بالأسنان ـ د. عبد الله عبد الرزاق السعيد (ص: 45) .(3/859)
[صفحة فارغة](3/860)
وإليك هذه الصورة لشجرة الأراك أخذت من كتاب عبد الرزاق السعيد.(3/861)
[صفحة فارغة](3/862)
الخاتمة
بعد أن يسر الله لنا المرور على أحكام السواك الفقهية والحديثية يتبين لنا عظمة هذا الدين، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (1) .
ففي نظافة الفم، وعناية الشارع به، مر علينا أكثر من مائة حديث، مع الشواهد، ولا أعني المتابعات، وإن كنت لم أعط الشوهد في الحاشية أي نصيب من الترقيم، ومر علينا أربعين مسألة فقهية، وستة عشر فائدة، أغلبها فقهي، فيكون المجموع ستة وخمسين مسألة، في هذا الجانب اليسير، والذي يتعلق في طهارة جزء من البدن، وهو الفم. فالله الحمد كما ينبغي لوجهه، وعظيم سلطانه أن وفقنا إلى هذا الدين الحنيف، والذي أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته أن يميتنا عليه بمنه وكرمه. والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد تبين لي فوئد جمة من خلال البحث، أوجزها فيما يلي:
الأولى: أن مباحث السواك، كان للفقهاء رحمهم الله توسع كبير فيما يكره، ويستحب دون أن يكون لذلك ضابط شرعي.
الثانية: أن السواك كان في شريعة من قبلنا.
الثالثة: أن العبادات، قد تكون يسيرة، ويرتب عليها ثواب عظيم، كالسواك، فإنه مرضاة للرب.
الرابعة: أن الرسول b كان يواظب على السواك في جميع أحواله، عند دخوله إلى البيت، وعند قيامه من النوم، وعند الصلوات، وعند الوضوء.
الخامسة: لو حافظ المسلم على السواك في جميع الأوقات التي يتأكد فيها، لكان معنى ذلك أن يستاك في اليوم أكثر من عشر مرات. وذلك عند الوضوء، وعند الصلوات الخمس، وعند السنن منها، وعند القيام من النوم، وعند دخول المنزل، ويوم الجمعة، وعند قراءة القرآن، وبعد تناول الطعام، وكل ما يغير الفم.
السادسة: لا حرج في ذكر الفوائد الصحية لبعض العبادات، وإن كان بعض
_________
(1) النساء:(3/863)
الصالحين قد يكره ذلك، ويقول: إننا نفعل العبادة ليست خدمة للجسم، وإنما قربة وطاعة، وهذا المعنى صحيح، لكن لا يمنع أن تذكر الفوائد الصحية ولا تنافي أن الباعث على ذلك مرضاة الله، وحديث السواك: " مطهرة للفم مرضاة للرب " شاهد على ذلك، وإن كان المسلم يعلم حق العلم أن الشرع لا يأمر إلا ما فيه منفعة وفائدة، ولا ينهى إلا عن شيء مؤذ وضار.
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تذكرون} (1) .
السابعة: وردت أحاديث في فضل السواك عن الصلاة بغير سواك، وهي أحاديث كثيرة، وقد اختلف العلماء فيها. والراجح أن الأحاديث ضعيفة.
الثامنة: لم يثبت لي أن السواك من سنن الفطرة، والحديث الوارد في مسلم تكلم فيه الإمام أحمد.
التاسعة: الأحاديث الواردة في التسوك بالأصبع لا يصح منها، شيء، ولكن الذي ينظف فاه بأصبعه خير من الذي لا ينظف فاه أبداً، ولكن لا يحصل له الثواب المترتب على السواك؛ لأنه دونه في التطهير، لكن يحصل له من الأجر بقدر ما يحصل له من الإنقاء، والتسوك بالأصبع يناسب إذا كان مع المضمضة، فإنه لا شك أنه مع الماء يحصل به قدر من نظافة الفم وتطهيره، واعتبره بعض المالكية من الدلك المشروع في الوضوء
العاشرة: السواك أفضل من الفرشاة، وهذا الأمر ثابت طبياً.
الحادي عشرة: الراجح أن السواك ليس بواجب، بل هو سنة مؤكدة.
الثانية عشرة: اختلف في وجوب السواك على النبي B، ولا يبعد تأكيد السواك في حقه B، لأنه يناجي من لا نناجي، وقد جاء حديث في إسناده اختلاف. والله أعلم.
الثالثة عشرة: خلاف داود، وابن حزم خلاف معتبر، وعدم الاعتداد بخلافهما
_________
(1) النحل: 90.(3/864)
من التعصب المذهبي المجانب للصواب.
الرابعة عشرة: لا يكره السواك للصائم مطلقاً لا برطب السواك، ولا يابسه، ولا قبل الزوال، ولا بعده.
الخامسة عشرة: الخلوف أطيب عند الله في الدنيا وفي الآخرة من ريح المسك، وليس خاصاً في الآخرة.
السادسة عشرة: لا يكره التسوك في المسجد، ولا يشرع التسوك من أجل الدخول، بل من أجل الصلاة.
السابعة عشرة: لا يكره التسوك بحضرة الناس.
الثامنة عشرة: لا يكره التسوك في الخلاء.
التاسعة عشرة: لا تشرع التسمية للسواك.
العشرون: الأفضل والله أعلم أن يكون تسوكه قبل المضمضة سواء كان بعد غسل الكفين أو قبل الشروع في الوضوء؛ وذلك لأن السواك إذا نظف الأسنان، ثم جاءت بعده المضمضة، ومج الماء يكون قد سقط كل أذى اقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة. والله أعلم.
الحادية والعشرون: لا يشرع التسوك للغسل ولا للتيمم، لعدم الدليل.
الثانية والعشرون: لا يستحب السواك لسجود التلاوة والشكر، لعدم الدليل، ولا يعتبر سجودهما صلاة على الراجح.
الثالثة والعشرون: ذكر الأطباء بأن السواك عرضاً يضر بالأسنان، لذا يستحب السواك طولاً من أجل كلامهم والله أعلم.
الرابعة والعشرون: يمسك السواك إن شاء باليد اليمنى وإن شاء باليد اليسرى، ولا يوجد نص في المسألة، والأمر فيها واسع.
الخامسة والعشرون: لا يستحب وضع السواك في موضع الأذن، ولم نتعبد بهذا. والحديث الوارد عن الرسول ضعيف، ولم يثبت كذلك عن زيد بن خالد الجهني. والله أعلم.(3/865)
السادسة والعشرون: أقل ما يحصل به التسوك مرة واحدة، وبه يتحقق الامتثال، وكلما أكثر كان أفضل.
السابعة والعشرون: لا يحتاج التسوك إلى نية، وقد يقال: إذا كان التسوك لتحصيل السنة، كالتسوك عند الصلاة، والفم نظيف احتاج إلى نية. وأما غيره فلا.
الثامنة والعشرون: لم يتبين لي من حيث السنة جواز التسوك بسواك الغير، وما ورد فيه لا يدل عليه، لأن التسوك بسواك الرسول، لا يؤخذ منه هذه الفائدة، والرسول B ليس كغيره.
التاسعة والعشرون: إذا أعطي السواك للغير، بدئ بالأكبر، وليس بالأيمن
الثلاثون: لا يشرع الدعاء عند ابتداء السواك، وليس فيه لا ذكر مطلق، ولا مقيد.
الحادية والثلاثون: لا يشرع التسوك، والإمام قد دخل في الصلاة، بل المشروع إذا كبر الإمام أن يكبر المأموم.
الثانية والثلاثون: لا بأس بالوضوء من فضل السواك.
الثالثة والثلاثون: يستحب أن يعود الصبي للسواك حتى يألفه.
الرابعة والثلاثون: يستحب أن يقطع المتسوك الجزء المستخدم من السواك بعد أربعين وعشرين ساعة، وذلك كما أثبته أحد الباحثين طبياً.
هذه جل الفوائد الفقهية التي خرجت بها من البحث.
أما الفوائد الحديثية، فهي كالتالي:
الأولى: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب حديث حسن.
الثانية حديث ابن عباس: ما زال النبي يأمرنا به حتى خشينا أن ينزل عليه فيه. حديث حسن.
الثالثة: حديث فضل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفاً. حديث ضعيف.
الرابعة: حديث عائشة، قالت: قال رسول الله B: عشر من الفطرة قص(3/866)
الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، الخ الحديث. المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ.
الخامسة: حديث ابن عباس في قوله عز وجل: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك الخ الحديث. إسناده صحيح
السادسة: حديث أبي أيوب: قال رسول الله B: أربع من سنن المرسلين التعطر والنكاح والسواك والحياء. إسناده ضعيف
السابعة: حديث ابن مسعود أنه كان يجتني سواكاً من الأراك. حديث صحيح.
الثامنة: أبي خيرة الصنابحي، قال: كنا في الوفد الذين أتينا رسول الله B، من عبدالقيس، فزودنا الأراك نستاك به. حديث ضعيف جداً.
التاسعة: معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله B يقول: نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة يطيب الفم ويذهب بالحفر وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي. حديث موضوع.
العاشرة: حديث ضمرة بن حبيب: قال نهى رسول الله B عن السواك بعود الريحان والرمان، وقال: يحرك عرق الجذام. إسناده ضعيف
الحادية عشرة: بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين على في المسجد على باب الرحبة، جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول الله B، وهو عند الزوال فدعا قنبر، فقال: ائتني بكوز من ماء فغسل كفيه ووجهه ثلاثا، وتمضمض ثلاثا فادخل بعض أصابعه في فيه، الحديث. إسناده ضعيف جداً، وذكر إدخال الأصبعين في فيه منكر.
الثانية عشرة: حديث أنس عن النبي B: قال: يجزئ من السواك الأصابع إسناده ضعيف جداً.
الثالثة عشرة: عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله B: الأصابع تجري مجرى السواك إذا لم يكن سواك. الحديث ضعيف جداً.(3/867)
الرابعة عشرة: حديث عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله الرجل يذهب فوه يستاك؟ قال: نعم. قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه. إسناده ضعيف.
الخامسة عشرة: أثر كان عثمان إذا توضأ يسوك فاه بأصبعه. إسناده ضعيف.
السادسة عشرة: علي رضي الله تعالى عنه، قال: أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك، فقام خلفه يستمع القرآن، ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه الحديث. وإسناده صحيح.
السابعة عشرة: حديث عليكم بالسواك فإنه مطيبة للفم، ومرضاة للرب. الحديث حسن، دون زيادة عليكم بالسواك، فإنها منكرة.
الثامنة عشرة: أن رسول الله B كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله B أمر بالسواك عند كل صلاة الحديث. في إسناده اختلاف.
التاسعة عشرة: حديث عائشة، قالت: قال رسول الله B: ثلاث هن علي فريضة وهو لكم سنة: الوتر، والسواك،، وقيام الليل. إسناده ضعيف جداً.
العشرون: حديث ابن عباس، عن النبي B، قال: أمرت بالسواك حتى خفت على أسناني. حسن بالمجموع.
الحادية والعشرون: حديث عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله B ما لا أعد وما لا أحصى يستاك وهو صائم. حديث ضعيف.
الثانية والعشرون: حديث عن عائشة، قالت: قال رسول الله B: من خير خصال الصائم السواك. إسناده ضعيف.
الثالثة والعشرون: حديث أيستاك الصائم؟ قال نعم: قلت: برطب السواك ويابسه؟ قال: نعم. قلت: أول النهار وآخره. قال: نعم. ضعيف.
الرابعة والعشرون: حديث سألت معاذ بن جبل، أتسوك وأنت صائم؟ قال: نعم. قلت: أي النهار أتسوك؟ قال: أي النهار شئت. حديث ضعيف.(3/868)
الخامسة والعشرون: حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: إن النبي B تسوك، وهو صائم. حديث حسن.
السادسة والعشرون: أثر ابن عمر أنه لم يكن يرى به باساً بالسواك للصائم. إسناده صحيح.
السابعة والعشرون: شذوذ كلمة: " يوم القيامة " من حديث: " ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك ".
الثامنة والعشرون: شذوذ لفظة: " حين يخلف " من حديث ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك.
التاسعة والعشرون: حديث جابر بن عبد الله عن النبي B، قال: أعطيت آمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي أما واحدة فإذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدا وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك. الحديث ضعيف.
الثلاثون: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله B: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع. إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب.
الحادية والثلاثون: حديث ابن عمر، أن رسول الله B كان لا ينام إلا والسواك عنده فإذا استيقظ بدأ بالسواك. إسناده حسن إن شاء الله تعالى.
الثانية والثلاثون: حديث أبي هريرة كان النبي B لا ينام ليلة ولا ينتبه إلا استن. حديث ضعيف. إسناده ضعيف.
الثالثة والثلاثون: حديث عائشة، أن النبي B كان لا يرقد ليلاً ولا نهاراً إلا تسوك قبل أن يتوضأ. إسناده ضعيف.
الرابعة والثلاثون: حديث أن رسول الله B كان يرقد، فإذا استيقظ تسوك، ثم توضأ، ثم صلى ثمان ركعات يجلس في كل ركعتين، فيسلم، ثم يوتر بخمس ركعات لا يجلس إلا في الخامسة، ولا يسلم إلا في الخامسة. رجاله ثقات إلا أن ذكر(3/869)
السواك فيه شاذ.
الخامسة والثلاثون: حديث زيد بن خالد الجهني قال: ما كان رسول الله b يخرج من شيء لشيء من الصلوات حتى يستاك. إسناده ضعيف.
السادسة والثلاثون: حديث بهز قال: كان النبي b يستاك عرضاً، ويشرب مصاً، ويتنفس ثلاثاً، ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ. حديث ضعيف.
السابعة والثلاثون: حديث عن عائشة أنها قالت:
كانت يد رسول الله b اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. الحديث الراجح فيه إن إسناده منقطع.
الثامنة والثلاثون: حديث جابر بن عبد الله قال: كان السواك من أذن النبي b موضع القلم من أذن الكاتب. حديث معلول.
هذا ما خلصت إليه من نتائج في بحث السواك، والتي أرجو من الله العلي القدير أن أكون وفقت في كثير منها إلى الحق، وأن يغفر لي ما حصل في ذلك من تقصير وزلل، وهو الأصل في عمل الإنسان
كما قال سبحانه {إنه كان ظلوماً جهولاً} (1) .
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
(1) الأحزاب: 72.(3/870)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، لا يستحق الحمد المطلق سواه، له الحمد في السموات والأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، يحمد سبحانه وتعالى على خلقه، وشرعه وقدره، وعلى كمال صفاته، قال تعالى: {الحمد الله الذي خلق السموات والأرض} (1) .
وأما حمده سبحانه وتعالى على كمال صفاته، قال سبحانه: {الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً} (2) .
وأما حمده على كمال شرعه، قال سبحانه: {الحمد لله الذي نزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً} (3) .
ويحمد على قضائه وقدره، قال سبحانه {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} (4) .
وقال سبحانه: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين} (5) .
_________
(1) الأنعام، آية: 1.
(2) الإسراء، آية: 111.
(3) الكهف، آية: 1.
(4) الأعراف، آية: 43.
(5) المؤمنون، آية: 28.(5/3)
وقال: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون} (1) .
{الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} (2) .
وبعد، فهذا كتاب في أحكام المسح على الحائل من خف وجورب وعمامة وجبيرة، حاولت أن أجمع مسائله المتفرقة، متبعاً في منهجي ما يأتي:
أولاً: من ناحية الأحاديث والآثار، لم أذكر حديثاً أو أثراً إلا وخرجته من مصادره، وتكلمت على أسانيده، وصرفت عناية خاصة للمتن، مبيناً حسب اجتهادي القاصر ما تبين لي من المحفوظ والشاذ بحسب القواعد الحديثية، وقد اعتمدت في الحكم عليها منهج الأئمة المتقدمين في عدم القبول والرد لأي زيادة ترد في المتن إلا بعد مقارنة من ذكرها بمن لم يذكرها، مبتعداً عن منهج جمهور الأصوليين والفقهاء الذين يشترطون في رد الزيادة أن تكون منافية، ولي في زيادة الثقة والشذوذ بحث سوف أبسطه في نشر الكتاب الأم الذي يعتبر أصلاً لهذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ثانياً: من ناحية الأقوال الفقهية، وجهت عناية خاصة بمذاهب الأئمة الأربعة، لشهرتها، وانتشارها، وتحريت في نسبة كل مذهب إلى أمهات كتبهم المعتمدة عند أصحابها، وتحريت في مذهب الإمام أحمد أن أنقل عنه من مسائله ما أمكن، فإن لم توجد المسألة في مسائل أحمد نقلتها من الكتب المشهورة في مذهب الحنابلة، وأضفت إلى المذاهب الأربعة أقوال
_________
(1) العنكبوت، آية: 63.
(2) إبراهيم، آية: 39.(5/4)
بعض المحققين، كابن حزم الظاهري، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني وغيرهم.
ثالثاً: بينت الراجح من الأقوال بما تقتضيه الأدلة، وتحريت الإنصاف في مناقشة الخلاف، مع التزام أدب الخلاف في بيان الراجح، مبتعداً عن التقليد والتعصب، معرضاً عن تتبع أوهام المشايخ والعلماء، وإذا اضطررت إلى ذلك أشرت إلى القول دون ذكر القائل، حرصاً على سلامة الصدور، ومحبة في تأليف القلوب.
رابعاً: لم أضع فهارس للبحث؛ لأن الفهارس سوف توضع للكتاب الأم، والذي قارب أن يخرج للناس منه أحكام الطهارة، ووضعت خطة للبحث، مكونة من مقدمة، وثمانية أبواب، وخاتمة على النحو التالي:
خطة البحث:
تمهيد: تشتمل على حكمة الشرع في إباحة المسح على الخفين، وكون هذا الباب يذكره أهل العلم في باب العقائد وذلك لمخالفة بعض الفرق الضالة لأهل السنة والجماعة.
الباب الأول: في حكم المسح.
ويشتمل على فصول:
الفصل الأول: في خلاف العلماء في المسح على الخفين.
الفصل الثاني: في خلاف العلماء في المسح على الجوربين.
الفصل الثالث: في خلاف العلماء في المسح على النعلين.
الفصل الرابع: في خلاف العلماء في المسح على الخرق واللفائف.
الفصل الخامس: أيهما أفضل المسح أو الغسل؟
الفصل السادس: هل المسح رخصة أم عزيمة؟(5/5)
الفصل السابع: هل المسح على الخفين رافع للحدث أم مبيح؟
الفصل الثامن: حكم من لبس الخفين ليمسح.
الفصل التاسع: حكم مسح من به حدث دائم.
الباب الثاني: في صفة المسح.
وفيه فصول:
الفصل الأول: في المقدار المجزئ في المسح على الخفين.
الفصل الثاني: الخلاف في مسح أسفل الخف.
الفصل الثالث: هل يكفي غسل الخف عن مسحه؟
الفصل الرابع: هل يشرع تكرار المسح؟
الفصل الخامس: هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معاً؟
فرع: هل يشترط إظهار أثر الأصابع خطوطاً على الخف من المسح.
الباب الثالث: في شروط المسح على الخفين.
الشرط الأول: في طهارة الخف.
الشرط الثاني: هل يشترط أن يكون الخف مباحاً؟
الشرط الثالث: خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساتراً لما... يجب غسله.
الشرط الرابع: ثبوت الخف بنفسه على القدم.
الشرط الخامس: إمكان متابعة المشي على الخف.
الشرط السادس: هل يشترط أن يكون الخف من جلد؟
الشرط السابع: هل يشترط أن يمنع الخف وصول الماء إلى الرجل؟
الشرط الثامن: يشترط أن يكون المسح في الطهارة الصغرى.(5/6)
الشرط التاسع: أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعاً.
الشرط العاشر: هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية؟
الشرط الحادي عشر: يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة.
الشرط الثاني عشر: يشترط إن كان سليم القدمين أن يمسح على... الرجلين معاً.
الشرط الثالث عشر: يشترط أن يكون المسح على الخفين، وما في... معناهما.
الشرط الرابع عشر: هل تشترط النية للمسح على الخفين؟
فرع: إذا لبس الخفين، وهو يدافع الأخبثين.
الباب الرابع: خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح.
الباب الخامس: في السفر وأحكام المسح على الخفين.
وفيه فصول:
الفصل الأول: اختلاف التوقيت بين المسافر والمقيم
الفصل الثاني: اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ... فيها مسح مسافر.
الفصل الثالث: إذا لبس الخفين، وهو مقيم، ثم سافر.
الفصل الرابع: إذا مسح في السفر، ثم أقام.
الفصل الخامس: إذا شك في ابتداء المسح، هل كان في السفر أم في... الحضر؟
الفصل الخامس: هل يمسح من كان عاصياً بسفره؟
الباب السادس: في أحكام لبس الخف على الخف.
الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز المسح إذا لبس خفاً على خف.(5/7)
الفصل الثاني: إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه؟
الفصل الثالث: حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما.
الفصل الرابع: إذا مسح الأعلى، ثم خلعه، فهل يمسح الأسفل؟
الباب السابع: مبطلات المسح على الخفين.
الفصل الأول: خلاف العلماء إذا نزع خفيه بعد المسح، وقبل تمام المدة.
الفصل الثاني: إذا ظهر بعض محل الفرض، ولم يخلع الخف فهل... تبطل طهارته؟
الفصل الثالث: إذا انتهت مدة المسح، فهل يستأنف الوضوء؟
الفصل الرابع: يبطل المسح بوجود الحدث الأكبر.
الباب الثامن: في أحكام المسح على العمامة.
الفصل الأول: خلاف العلماء في المسح على العمامة.
الفصل الثاني: خلاف العلماء في المسح على الخمار.
الفصل الثالث: خلاف العلماء في المسح على القلانس.
الفصل الرابع: في شروط المسح على العمامة.
الشرط الأول: في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة.
الشرط الثاني: الخلاف في اشتراط لبسها على طهارة.
الشرط الثالث: الخلاف في توقيت المسح على العمامة.
الشرط الرابع: لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر.
الشرط الخامس: الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح.
الشرط السادس: يشترط أن تكون العمامة مباحة.
الشرط السابع: أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره.(5/8)
الباب التاسع: في المسح على الجبيرة.
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز المسح على الجبيرة.
الفصل الثاني: في شروط المسح على الجبيرة.
الشرط الأول: أن يكون الغسل مما يضر بالعضو
الشرط الثاني: الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة.
الشرط الثالث: الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة.
الشرط الرابع: هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة؟
الشرط الخامس: هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحاً؟
الشرط السادس: هل يجوز المسح على الجرح إذا لم يكن عليه جبيرة؟
الشرط السابع: هل يشترط أن تكون الجبيرة من خشب أو يلحق... بها اللصوق ونحوها؟
الفصل الثالث: إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟
الفصل الرابع: في صفة المسح
المبحث الأول: هل يجب استيعاب الجبيرة بالمسح؟
المبحث الثاني: إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثاً، فهل... يستحب له أن يمسح ثلاثاً؟
الخاتمة: أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث.
هذا ما حاولت بحثه، فإن كنت وفقت فهذا من الله سبحانه وتعالى، وله الفضل كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن كانت الأخرى، فهو من تقصيري وتفريطي، فالله أسأله سبحانه وتعالى مغفرته وعفوه، اللهم كما(5/9)
سترت الذنوب والعيوب، وأظهرت الجميل والحسن، اللهم فاكتب لي، ولوالدي، ولمشايخي، ولإخواننا المغفرة والرحمة والتجاوز يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
كتبه
أبو عمر: دبيان بن محمد الدبيان
السعودية ـ القصيم ـ بريدة(5/10)
تمهيد(5/11)
[صفحة فارغة](5/12)
تمهيد
لقد رفع الله سبحانه وتعالى الحرج عن هذه الأمة، فشريعة الله سبحانه وتعالى لا عنت فيها، ولا مشقة، تراعي أحوال المكلف، فاليسر وعدم التكلف هو شأن هذه الملة التي جاءت من أحكم الحاكمين، ومن رب العالمين، ومع أن شرع الله لا حرج فيه إلا أنه إذا طرأ على المكلف ما يستدعي التيسير عليه خفف عنه بالقدر الذي لا يشق عليه، فهذا المسافر يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان لأن الغالب في السفر أن يكون فيه كلفة ومشقة، وهذا المريض يصلي قائماً، فإذا لم يستطع صلى قاعداً، فإذا لم يستطع صلى على جنب، وهكذا الشرع مع أحوال المكلف، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ما جعل عليكم في الدين من حرج، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم، ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكراً عليماً.
وفي المسح على الخفين والجوارب والعمامة ما فيه من التيسير على المكلف خاصة في أيام البرد الشديد، وفي بعض البلاد الباردة جداً ما يدرك المرء نعمة الله سبحانه وتعالى عليه، ولو شاء الله لأعنتكم.
ولقد ظل بعض أهل البدع في مسألة المسح على الخفين حتى أنكروه مع ثبوته عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل وثبت عنه المسح على النعلين، وكان الأليق في دعواهم لمحبة الإمام علي بن أبي طالب أن يتبعوه ولكن المحبة التي لا تكون مبنية على أسس شرعية لن تهدي صاحبها إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فخالفوا فيه أهل السنة من وجهين:
الأول: أنهم يرون مسح القدم، ولو لم يكن عليها خف، فوقعوا في(5/13)
وعيد قوله b في الحديث المتفق عليه: ويل للأعقاب من النار (1) .
الثاني: أنهم أنكروا المسح على الخفين على كثرة الأحاديث الواردة فيه، حتى اعتبرت من قبيل الأحاديث المتواترة.
وقد ذكر المسح على الخفين بعض ممن ألف في العقائد مع أنه مسألة فقهية، للتنبيه على أن حكم هذه المسألة فرق بين أهل السنة، وبين أهل البدع من الخوارج والرافضة هداهم الله.
وعلى كل حال فهم يخالفون أهل السنة في أكبر من ذلك، ولهم في كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسول الله b، وصحابته عقائد منكرة، وإنما ذكرت ما ذكرت تحذيراً لمن ينكر سنة المسح لئلا يتشبه بهم، وليحذر من طريقة أهل البدع. والله الهادي وحده إلى الطريق المستقيم.
وقبل أن أختم هذا الفصل، أود أن أعرف الخف والجورب والموق والجبيرة عند أهل اللغة.
تعريف الخف:
قال الفيومي: الخف: الملبوس، جمعه: خفاف، مثل كتاب. وفرق بين هذا وخف البعير؛ إذ يجمع الثاني على أخفاف، مثل قفل، وأقفال (2) .
وقال الفيروزآبادي: أخفاف: واحد الخفاف، التي تلبس، وتخفّف: لبسه.
_________
(1) البخاري (165) ، ومسلم (242) من حديث أبي هريرة، وجاء من حديث عبدالله بن عمرو في الصحيحين، ومن حديث عائشة عند مسلم (240) .
(2) المصباح المنير (ص: 1/175،176) .(5/14)
ثم ذكر المثل المشهور: جئتكم بخفي حنين، مثل يضرب عند اليأس من الحاجة (1) .
وجاء في المعجم الوسيط: الخف: ما يلبس في الرجل من جلد رقيق (2) .
تعريف الجوارب:
قال الأزهري والفيروزآبادي: الجورب لفافة الرجل (3) .
وقيل: إنه فارسي معرب، وأصله كورب (4) .
وأما مادته التي يصنع منها، فقال أبو بكر بن العربي: الجورب غشاآن للقدم من صوف، يتخذ للوقاء.
وفي التوضيح للحطاب المالكي: الجوارب ما كان على شكل الخف، من كتان أو قطن أو غير ذلك.
وفي الروض المربع للبهوتي الحنبلي: الجورب: ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد.
وقال العيني: الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب (5) .
_________
(1) القاموس المحيط (ص: 1041) .
(2) المعجم الوسيط (1/247) .
(3) تهذيب اللغة (11/53) ، القاموس المحيط (ص: 86) .
(4) لسان العرب (1/263) .
(5) انظر المسح على الجوربين للقاسمي (ص: 50) .(5/15)
فظهر أن الفرق بينه وبين الخف، أن الخف يكون من جلد، والجورب يكون من غير الجلد.
تعريف الجرموق:
الجرموق: بضم الجيم والميم: فارسي معرب، وهو شيء يلبس فوق الخف لشدة البرد، أو حفظه من الطين وغيره، ويكون من الجلد غالباً. والجمع: جراميق.
وقال الأزهري: الجرموق: خف يلبس فوق الخف.
وفي القاموس: لا تجتمع الجيم والقاف في كلمة إلا معربة، أو تكون صوتاً (1) .
تعريف الموق:
والموق كما في مختار الصحاح: ما يلبس فوق الخف، وهو فارسي معرب (2) .
وقال الجوهري والمطرزي: الموق خف قصير، يلبس فوق الخف، نقلاً من شرح فتح القدير (3) .
وأنكر النووي أن يكون الموق يلبس فوق الخف، فذكر عن أصحابه أن الموق: هو الخف لا الجرموق، وقال: هو الصحيح المعروف في كتب أهل الحديث وغريبه (4) .
_________
(1) تهذيب اللغة (9/384) ، لسان العرب (10/35) ، القاموس المحيط (ص:1125) .
(2) مختار الصحاح (226) .
(3) شرح فتح القدير (1/158) .
(4) المجموع (1/536) .(5/16)
وجاء في نصب الراية: " قال الشيخ تقي الدين في الإمام: وقد اختلفت عباراتهم في تفسير الموق، فقال: ابن سيده: الموق ضرب من الخفاف، والجمع أمواق، عربي صحيح. وحكى الأزهري عن الليث: الموق ضرب من الخفاف، ويجمع على أمواق. وقال الجوهري: الموق الذي يلبس فوق الخف، فارسي معرب.
وقال الفراء: الموق الخف فارسي معرب، وجمعه أمواق. وكذلك قال الهروي الموق الخف فارسي معرب، وقال كراع: الموق الخف والجمع أمواق انتهى " (1) .
تعريف الجبيرة:
جاء في المصباح: " جبرت اليد: وضعت عليها جبيرة، والجبيرة: عظام توضع على الموضع العليل من الجسد، ينجبر بها، والجبارة بالكسر: مثله، والجمع: الجبائر (2) .
وفي المختار: الجبيرة: العيدان التي تجبر بها العظام (3) .
وقال في طلبة الطلبة: الجبائر: هي التي تربط على الجرح، جمع جبيرة: وهي العيدان التي تجبر بها العظام (4) .
وقال البعلي: هي أخشاب ونحوها، تربط على الكسر ونحوه (5) .
_________
(1) نصب الراية (1/184) .
(2) المصباح (1/89) .
(3) مختار الصحاح (ص: 68) .
(4) طلبة الطلبة (1/8) .
(5) المطلع على أبواب المقنع (ص: 22) .(5/17)
[صفحة فارغة](5/18)
الباب الأول
في حكم المسح
ويشتمل على تسعة فصول(5/19)
[صفحة فارغة](5/20)
الفصل الأول
خلاف العلماء في المسح على الخفين
اختلف العلماء في جواز المسح على الخفين:
فقيل: يجوز في الحضر والسفر.
وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، ورواية عن مالك (4) ، واختيار ابن حزم (5) .
_________
(1) قال الجصاص في أحكام القرآن (3/353) : " ثبت المسح على الخفين عن النبي b من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم، ولذلك قال أبو يوسف: إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة ".
وانظر المبسوط (1/97) ، شرح فتح القدير (1/143) ، بدائع الصنائع (1/7) ،والعناية في شرح الهداية (1/144) ، وقال في تبيين الحقائق (1/45) : "صح المسح لما ورد فيه من الأخبار المستفيضة، حتى روي عن أبي حنيفة أنه قال: ما قلت بالمسح على الخفين حتى وردت فيه آثار أضوأ من الشمس، حتى قال: من أنكر المسح على الخفين يخاف عليه الكفر... الخ.
(2) الأم (1/49،50) ، وقال في (7/239) : " سألت الشافعي عن المسح على الخفين؟ فقال: يمسح المسافر والمقيم إذا لبسا على كمال الطهارة... الخ،
وقال في المجموع (1/500) : " مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز المسح على الخفين في الحضر والسفر.... الخ اهـ.
(3) المغني (1/174) ، الفروع (1/158) ، الإنصاف (1/169) .
(4) شرح الخرشي (1/176) ، الفواكه الدواني (1/160،161) ، حاشية العدوي (1/235) حاشية الدسوقي (1/141) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/152) .
(5) المحلى بالآثار (1/321) .(5/21)
وقيل: يجوز في السفر ولا يجوز في الحضر.
وهو رواية عن مالك (1) .
وقيل: لا يجوز مطلقاً، وهو أضعف الروايات عن مالك (2) .
أدلة الجمهور على جواز المسح على الخفين.
الدليل الأول:
من الكتاب قوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (3) .
قال الطبري: اختلف القراء، في قراءة قوله تعالى (وأرجلكم) فقرأه جماعة من قراء الحجاز والعراق: " وأرجلكم " نصباً، فتأويله: إذا قمتم إلى
_________
(1) قال مالك في المدونة (1/144) : " لا يمسح المقيم على خفيه ".
وقال في المنتقى (1/77) : " وأما المسح في الحضر، فعن مالك فيه روايتان:
أحدهما: المنع. والثانية: الإباحة، وهو الصحيح، وإليه رجع مالك.. الخ. وانظر الخرشي (1/176) .
(2) قال الباجي في المنتقى (1/77) : " قال الشيخ أبو بكر في شرح المختصر: أنه روي عن مالك لا يمسح المسافر ولا المقيم، فإن صحت هذه الرواية فوجهها أن المسح منسوخ. قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: وهذا عندي يبعد؛ لأن ابن وهب روى عنه أنه قال: لا أمسح في سفر ولا حضر، وكأنه كرهه، وفي النوادر عن ابن وهب أنه قال: آخر ما فارقته على المسح في السفر والحضر، وكأنه وهو الذي روى عنه متأخر وأصحابه مطرف وابن الماجشون، فدل ذلك على أنه منعه أولاً على وجه الكراهة لما لم ير أهل المدينة يمسحون، ثم رأى الآثار فأباح المسح على الإطلاق. اهـ.
(3) المائدة، آية: 6.(5/22)
الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم.
ثم قال: وقرأ آخرون من قراء الحجاز والعراق: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} بخفض الأرجل (1) .
وقال ابن الجوزي: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس (2) .
وجه الشاهد من الآية:
على قراءة كسر: (وأرجلكم) تأولها بعضهم أن فيها إشارة للمسح على الخفين.
قال القرطبي: قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيداً لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله b إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين b بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل، والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن (3) .
قلت: ولا يمكن أن يفهم من قراءة الجر جواز مسح القدم، ولو كانت مكشوفة، لأن النبي b لم يمسح قدميه قط، وقد قال b في الحديث المتفق عليه: " ويل للأعقاب من النار " (4) .
_________
(1) تفسير الطبري (6/126) .
(2) زاد المسير (2/301) .
(3) تفسير القرطبي (6/93) .
(4) سبق تخريجه في المقدمة.(5/23)
وقال ابن العربي: وطريق النظر البديع أن القراءتين محتملتان، وأن اللغة تقضي بأنهما جائزتان، فردهما الصحابة إلى الرأس مسحاً، فلما قطع بنا حديث النبي b ووقف في وجوهنا وعيده - يعني حديث ويل للأعقاب من النار - قلنا: جاءت السنة قاضية بأن النصب يوجب العطف على الوجه واليدين، ثم قال: وجاء الخفض ليبين أن الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل، وهما الخفان، بخلاف سائر الأعضاء، فعطف النصب مغسولاً على مغسول، وعطف بالخفض ممسوحاً على ممسوح، وصح المعنى فيه (1) .
وقال الشنقيطي رحمه الله: قال بعض العلماء: المراد بقراءة الجر: المسح، ولكن النبي b بين أن ذلك المسح لا يكون إلا على خف، وعليه فالآية تشير إلى المسح على الخف في قراءة الخفض (2) .
الدليل الثاني:
(1) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وإسحاق بن إبراهيم وأبو كريب جميعاً، عن أبي معاوية ح
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع - واللفظ ليحيى -قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم،
عن همام، قال: بال جرير، ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم رأيت رسول الله b بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه.
_________
(1) أحكام القرآن (2/72) .
(2) أضواء البيان (2/15) .(5/24)
قال الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
وفي رواية: قال: فكان أصحاب عبد الله يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، والحديث في البخاري (1) .
الدليل الثالث:
(2) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق،
عن مغيرة بن شعبة، قال: كنت مع النبي b في سفر، فقال: يامغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله b حتى توارى عني، فقضى حاجته، وعليه جبة شأمية، فذهب ليخرج يده من كمها، فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه، فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه، ثم صلى. ورواه مسلم (2) .
الدليل الرابع:
(3) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج المصري، عن ابن وهب، قال: حدثني عمرو بن الحارث، حدثني أبو النضر، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمر،
عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي b أنه مسح على الخفين، وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك، فقال: نعم إذا حدثك شيئاً
_________
(1) البخاري (387) ومسلم (272) ، واللفظ لمسلم.
(2) البخاري (363) ومسلم (77-274) .(5/25)
سعد عن النبي b فلا تسأل عنه غيره (1) .
الدليل الخامس:
(4) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، أن أباه أخبره، أنه رأى النبي b يمسح على الخفين (2) .
الدليل السادس:
(5) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا أبوخيثمة، عن الأعمش، عن شقيق،
عن حذيفة، قال: كنت مع النبي b، فانتهى إلى سباطة قوم، فبال قائماً، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ، فمسح على خفيه (3) .
الدليل السابع:
(6) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو معاوية ح
وحدثنا إسحاق، أخبرنا عيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،
_________
(1) صحيح البخاري (202) .
(2) البخاري (204) ، وسيأتي الكلام عليه في باب المسح على العمامة.
(3) مسلم (273) ، والحديث في البخاري من غير ذكر للمسح على الخفين، انظر (224) .(5/26)
عن كعب بن عجرة، عن بلال أن رسول الله b مسح على الخفين والخمار (1) .
ورواه النسائي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم (دحيم) وسليمان بن داود، واللفظ له، عن ابن نافع، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن أسامة بن زيد، قال: دخل رسول الله b وبلال الأسواق، فذهب لحاجته، ثم خرج، قال أسامة: فسألت بلالاً ما صنع؟ فقال بلال: ذهب النبي b لحاجته، ثم توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين، ثم صلى (2) .
[حديث صحيح] (3) .
_________
(1) مسلم (275) .
(2) النسائي (120) وفي السنن الكبرى بالسند نفسه (127) .
(3) الحديث أخرجه ابن خزيمة (185) أيضاً من طريق يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، كلاهما عن عبد الله بن نافع به.
ورواه ابن حبان (1323) ، والحاكم (1/151) من طريق محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن نافع به. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث.
وأخرجه البيهقي (1/275) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن عبد الله ابن نافع به.
وفي إسناده عبد الله بن نافع:
وثقه يحيى بن معين. الجرح والتعديل (5/183) .
وقال فيه أحمد: لم يكن صاحب حديث، كان ضيقاً فيه، وكان صاحب رأي مالك، وكان يفتي أهل المدينة برأي مالك، ولم يكن في الحديث بذاك. تهذيب التهذيب (6/46) ، الكامل (4/242) .
وقال البخاري: في حفظه شيء. الكاشف (3017) .
وقال أيضاً: يعرف وينكر في حفظه، وكتابه أصح. الضعفاء للعقيلي (2/311) .
وقال أبو حاتم: ليس بالحافظ، هو لين، وتعرف حفظه وتنكر، وكتابه أصح.
وقال أبو زرعة: لا بأس به. الجرح والتعديل (5/183) .
وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم.
وقال الدارقطني: يعتبر به.
وقال الخليلي: لم يرضوا حفظه، وهو ثقة. تهذيب التهذيب (6/46) ، تهذيب الكمال (16/208) .
وقال النسائي: ليس به بأس، وقال مرة: ثقة. تهذيب التهذيب (6/46) .
ووثقه العجلي. معرفة الثقات (2/64) .
وفي التقريب: ثقة صحيح الكتاب، وفي حفظه لين.
ولم ينفرد به عبد الله بن نافع، بل تابعه غيره عليه. فقد أخرجه الحاكم (1/151) حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هانئ، ثنا أبو نعيم، عن داود بن قيس به.
وأبو جعفر محمد بن صالح بن هانئ، ثقة حافظ زاهد. انظر البداية والنهاية (11/225) . وطبقات الشافعية (3/174) .
وأبو نعيم: هو الفضل بن دكين، روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة ثبت.
وداود بن قيس، روى له مسلم، والبخاري تعليقاً، وأصحاب السنن، وفي التقريب: ثقة فاضل. وبقية الإسناد كلهم ثقات، فالحديث صحيح.
وتابع مالك بن أنس داود بن قيس، فقد أخرجه الحاكم (1/151) من طريق عبد الله ابن نافع، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، إلا أنه من طريق عبد الله بن نافع، وهذا اختلاف عليه في الحديث، فتارة يرويه عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، وتارة يرويه عن مالك، عن زيد بن أسلم، ولم يتابع عبد الله بن نافع في مالك، فأين أصحاب مالك عن هذا الحديث لو كان محفوظاً عنه؟(5/27)
والحديث صريح بأنه مسح في الحضر، وليس بالسفر.
الدليل الثامن:
(7) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد ح
وحدثني محمد بن حاتم - واللفظ له - حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة،
عن أبيه، أن النبي b صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعته يا عمر (1) .
الدليل التاسع:
في الأحاديث التي توقت للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، فيها دلالة على جواز المسح في الحضر والسفر، وسوف يأتي ذكرها - إن شاء الله - في بحث هل المسح مؤقت أم لا؟ منها حديث علي بن أبي طالب، وصفوان بن عسال، وحديث خزيمة بن ثابت، وعوف بن مالك، وغيرها من الأحاديث، وكذلك جاء المسح في حديث ثوبان، وأنس، وسلمان، وأبي طلحة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تخريجها في باب المسح على العمامة. والله أعلم.
الدليل العاشر:
قال ابن عبد البر: لا أعلم في الصحابة مخالفاً - يعني: في جواز
_________
(1) مسلم (277) .(5/29)
المسح على الخفين - إلا شيئاً لا يصح عن عائشة، وابن عباس وأبي هريرة، وقد روي عنهم من وجوه خلافه في المسح على الخفين (1) ، وكذلك لا أعلم في التابعين أحداً ينكر ذلك، ولا في فقهاء المسلمين إلا رواية جابر، عن مالك، والروايات الصحاح عنه بخلافه، وهي منكرة يدفعها موطؤه، وأصول مذهبه (2) .
ونقل ابن المنذر، عن ابن المبارك، قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف؛ لأن كل من روي عنهم إنكاره، فقد روى عنه إثباته (3) .
(8) وروى ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن الحسن، ثنا أحمد بن يونس، ثنا محمد بن الفضل بن عطية،
عن الحسن، قال: حدثني سبعون من أصحاب النبي b أنه عليه السلام مسح على الخفين (4) .
قال ابن المنذر بعد أن ساق جملة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ممن يرى جواز المسح على الخفين، قال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وكل من لقيت منهم على القول به (5) .
_________
(1) إلا ما جاء عن عائشة، فقد ثبت عنها إنكار المسح على الخفين، ولم يختلف عليها في ذلك، وقد نقلته مثل هذا الكلام عن ابن عبد البر في أدلة القائلين بأنه لا يجوز المسح.
(2) التمهيد (11/141) .
(3) فتح الباري في الكلام على حديث (202) .
(4) الأوسط (1/433) .
(5) الأوسط (1/434) .(5/30)
وقال أيضاً: " أجمعوا على أن كل من أكمل طهارته، ثم لبس الخفين، وأحدث، أن له أن يمسح عليهما (1) .
أدلة القائلين بجواز المسح في السفر خاصة.
الدليل الأول:
(9) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال:
أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله b، فسألناه، فقال: جعل رسول الله b ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (2) .
[الحديث روي مرفوعاً وروي موقوفاً، والرفع محفوظ إن شاء الله تعالى] (3) .
_________
(1) الإجماع (ص: 34) .
(2) مسلم (276) .
(3) هذا الإسناد مداره على الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ورواه جماعة عن الحكم مرفوعاً، منهم الأعمش، وعمرو بن قيس، وزيد بن أبي أنيسة.
ورواه شعبة عن الحكم، فكان في بادئ الأمر يرويه مرفوعاً، ثم ترك رفعه فرواه موقوفاً.
وقد رواه عن شعبة مرفوعاً كل من يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر (غندر) وأبو سعيد مولى بني هاشم، والطيالسي.
ورواه أبو إسحاق السبيعي، عن القاسم بن مخيمرة مرفوعاً وموقوفاً.
ورواه يزيد بن أبي زياد وعبدة بن أبي لبابة، عن القاسم به، موقوفاً.
فصار الحديث يرويه عن القاسم بن مخيمرة:
يزيد بن أبي زياد وعبدة بن أبي لبابة، وروايتهما موقوفة.
ويرويه الحكم وأبو إسحاق، وقد اختلف عليهما في وقفه ورفعه، وإليك تخريج هذه الطرق:
أما رواية الحكم بن عتيبة، فله طرق كثيرة جداً، منها:
الطريق الأول: عمرو بن قيس، عن الحكم.
أخرجه عبد الرزاق (789) ومن طريقه أحمد (1/134) ومسلم (276) ، وأبو عوانة (1/261) والنسائي (128) والبيهقي (1/275) عن سفيان، عن عمرو بن قيس به. وقرن أحمد رواية عبد الرزاق برواية إسحاق بن يوسف.
وأخرجه الدارمي (714) والطحاوي (1/81) من طريق محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان الثوري به.
وأخرجه أبو عوانة (1/261) من طريق قبيصة وزيد بن الحباب، وإسحاق الأزرق ثلاثتهم، عن سفيان به.
الطريق الثاني: شعبة، عن الحكم به.
أخرجه أحمد (1/120) حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني الحكم، عن القاسم، عن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة... الخ إلا أنه جعله موقوفاً.
قال يحيى: وكان يرفعه - يعني شعبة - ثم تركه. أي ترك الرفع.
وعليه فرواية الرفع متقدمة على رواية الوقف.
وأخرجه أبو عوانة (1/262) وابن حبان (1331) من طريق يحيى بن سعيد القطان به مرفوعاً
قال ابن حبان: ما رفعه عن شعبة إلا يحيى القطان، وأبو الوليد الطيالسي اهـ.
وأخرجه أبو داود الطيالسي (92) عن شعبة به موقوفاً.
وأخرجه أحمد (1/120) حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة به موقوفاً. قيل لمحمد: كان يرفعه؟ فقال: كان يرى أنه مرفوع، ولكنه كان يهابه.
وأخرجه ابن ماجه (552) من طريق محمد بن جعفر به. مرفوعاً.
وأخرجه أحمد (1/100) حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شعبة، عن الحكم وغيره، عن القاسم به موقوفاً. وسنده صحيح.
الطريق الثالث: عن الأعمش، عن الحكم بن عتيبة به.
أخرجه أحمد (1/113) وابن أبي شيبة (1/162) ، ومسلم (276) ، والنسائي (129) ، وأبو يعلى (364) ، وابن خزيمة (194) ، وأبو عوانة (1/261،262) والبيهقي (1/272،275) والبغوي في شرح السنة (238) من طريق أبي معاوية، حدثنا الأعمش، عن الحكم به مرفوعاً. ورجاله ثقات.
الطريق الرابع: الحجاج بن أرطاة، عن الحكم به.
أخرجه أحمد (1/149،296) حدثنا يزيد، أنبأنا الحجاج بن أرطاة، عن الحكم به مرفوعاً.
والحجاج قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس. اهـ وما يخشى من غلطه وتدليسه قد زال بكثرة الطرق والمتابعات.
ورواه أحمد (1/96) حدثنا يزيد، عن الحجاج، إلا أنه قال: عن أبي إسحاق، عن علي بن ربيعة، عن علي، بمثل رواية الحجاج عن الحكم، وأخرجه الطحاوي من هذا الطريق، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
الطريق الخامس: زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم.
أخرجه مسلم (276) حدثنا إسحاق - هو ابن إبراهيم - أخبرنا زكريا بن عدي، عن عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم به.
الطريق السادس: عبد الملك بن حميد (أبو غنية) عن الحكم به.
أخرجه ابن خزيمة (195) وابن حبان (1322) من طريق زياد بن أيوب، حدثنا ابن أبي غنية، حدثنا أبي، عن الحكم به، بدون ذكر عائشة.
الطريق السابع: زبيد اليامي، عن الحكم به.
أخرجه الطحاوي (1/81) من طريق أسد بن موسى، قال ثنا محمد بن طلحة عن زبيد به. مرفوعاً. وزبيد ثقة، وابن طلحة صدوق له أوهام.
الطريق الثامن: ابن أبي ليلى، عن الحكم.
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/282) من طريق زائدة، عن محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى، عن الحكم به موقوفاً.
هذا ما وقفت عليه من طرق إلى الحكم بن عتيبة، ولم ينفرد به، فقد تابعه كل من:
الأول: أبو إسحاق السبيعي، عن القاسم بن مخيمرة به.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/165) رقم 1892 قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن القاسم به موقوفاً. وهذا إسناد فيه لين؛ أبو بكر بن عياش قال فيه بالتقريب: ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح. اهـ وقد توبع أبو بكر.
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/277) من طريق زياد بن خيثمة عن أبي إسحاق به. موقوفاً.
وأخرجه الطحاوي (1/81) من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن القاسم ابن مخيمرة به. ولفظه: كنا نؤمر إذا كنا سفرا أن نمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وإذا كنا مقيمين فيوماً وليلةً. وهذا مرفوع حكماً، وسنده صحيح، وقد أخرج الشيخان حديث أبي إسحاق من رواية أبي الأحوص عنه، وعنعنة أبي إسحاق قد زالت بالمتابعة إن شاء الله تعالى.
وأخرجه ابن الجعد في مسنده (2549) والطحاوي (1/84) من طريق زهير، عن أبي إسحاق به موقوفاً.
وأخرجه الدراقطني في العلل (3/237) من طريق سفيان، عن أبي إسحاق به مرفوعاً.
فصار أبو الأحوص وسفيان يرويانه عن أبي إسحاق مرفوعاً.
وأبو بكر بن عياش، وزهير وزياد بن خيثمة يروونه عنه موقوفاً.
الثاني: يزيد بن أبي زياد، عن القاسم به.
أخرجه الحميدي (46) عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن القاسم به. وفيه سقط فلم أتحقق من رفعه ووقفه، لكن أشار الدارقطني في العلل أن رواية سفيان مرفوعة.
وأخرجه عبد الرزاق (788) عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد به، موقوفاً.
وأخرجه أبو يعلى (556) من طريق يونس بن أرقم، عن يزيد بن أبي زياد به.
وابن أبي زياد فيه لين.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في فضائل الصحابة (1148) من طريق صالح - يعني: ابن عمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن القاسم به موقوفاً بذكر المسح على الخفين للمقيم.
الثالث: عبدة بن أبي لبابة، عن القاسم.
أخرجه أحمد (1/100) ثنا ابن الأشجعي، ثنا أبي، عن سفيان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن القاسم بن مخيمرة به، بلفظ: أمرني علي أن أمسح على الخفين، وهذا مع كونه موقوفاً لم يذكر توقيتاً.
وابن الأشجعي لم يوثقه إلا ابن حبان، وفي التقريب: مقبول، وباقي الإسناد كلهم ثقات.
وتابع شريك القاسم بن مخيمرة.
فأخرجه أحمد (1/117،118) قال: حدثنا حجاج، حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها، فقلت: أخبريني برجل من أصحاب النبي b أسأله عن المسح على الخفين، فقالت: ائت علياً رضي الله تعالى عنه، فسله؛ فإنه كان يلزم النبي b. قال: فأتيت علياً رضي الله تعالى عنه، فسألته، فقال: أمرنا رسول الله b بالمسح على خفافنا إذا سافرنا.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/272) من طريق عمرو بن عون عن شريك به.
وسنده فيه ضعف من أجل شريك. لكنه قد توبع
فقد أخرجه الطبراني في الأوسط (1564) قال: حدثنا أحمد، قال حدثنا الفضل بن يعقوب الرخامي، قال: حدثنا سعيد بن مسلمة، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن علي، قال: كان النبي b يمسح على الخفين إذا كان مسافراً ثلاثة أيام ولياليهن، وإذا كان مقيماً يوماً وليلة.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبد الملك، إلا سعيد.
فالخلاصة أن الحديث روي مرفوعاً من أكثر من طريق، كما روي موقوفاً من أكثر من طريق أيضاً، وعلى فرض أن يكون الحديث موقوفاً فإن المقادير لا دخل للرأي فيها، فكون المسافر يقدر بثلاثة أيام، والمقيم يوم وليلة، هذا مما لا مجال فيه للرأي، فيكون الموقوف في حكم المرفوع، والله أعلم.(5/31)
وجه الاستدلال:
أخذوه من قول عائشة: " فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله "b فعللت الأمر بسؤاله بكونه يسافر معه، وهذا دليل على اختصاص الحكم بالسفر، كما أن المسح لو كان جائزاً في الحضر لعلمته عائشة، ولم يكن له لقولها معنى: " فإنه كان يسافر مع النبي b، والله أعلم.
وأجيب على هذا:
قال ابن عبد البر: ولم يمعن النظر من احتج بهذا - يعني: حديث علي بن أبي طالب - أو سامح نفسه في احتجاجه ببعض الحديث، وترك بعضه، وفي هذا الحديث المسح بالحضر والسفر، والتوقيت في ذلك أيضاً، فكيف يسوغ لعاقل أن يحتج بحديث موضع الحجة منه عليه لا له؟ (1) .
وقال أيضاً: " ليس في الحديث أكثر من جهل عائشة المسح على الخفين، وليس من جهل شيئاً كمن علمه، وقد سأل شريح علياً كما أمرته
_________
(1) التمهيد (11/142) .(5/36)
عائشة، فأخبره أن رسول الله b قال في المسح على الخفين: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وهو حديث ثابت صحيح، نقله أئمة حفاظ (1) .
الدليل الثاني:
(10) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو محمد، أنا إسماعيل، ثنا أحمد، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه،
عن ابن عباس، قال: أنا عند عمر حين اختصم إليه سعد وابن عمر في المسح على الخفين، فقضى لسعد، فقلت: لو قلتم بهذا في السفر البعيد والبرد الشديد (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
وهذا الكلام من ابن عباس يعارضه قول عمر وسعد، وليس قبول
_________
(1) الاستذكار (2/246) .
(2) سنن البيهقي الكبرى (2/273) قال البيهقي: قال فهذا تجويز منه للمسح في السفر البعيد والبرد الشديد بعد أن كان ينكره على الإطلاق، وقد روي عنه أنه أفتى به للمقيم والمسافر جميعاً.
(3) أبو محمد: هو عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري، وقد نسبه بالإسناد الذي قبله، وهو ثقة. انظر سير أعلام النبلاء (17/386) .
وإسماعيل: هو ابن محمد الصفار، قال عنه الدارقطني: صام إسماعيل الصفار أربعة وثمانين رمضاناً، وكان ثقة متعصباً للسنة. السير (15/440) ، وتاريخ بغداد (6/302) .
وأحمد هو ابن منصور الرمادي، كما في الإسناد الذي قبله، قال الحافظ في التقريب: ثقة حافظ. وبقية رجال الإسناد ثقات معروفون. وهو في مصنف عبدالرزاق (768) بالإسناد نفسه، مع اختلاف يسير في متنه، وإسناد عبد الرزاق إسناد صحيح.(5/37)
كلامه بأولى من قبول كلامهما، خاصة أن رأي عمر وسعد يؤيدهما ما جاء مرفوعاً عن النبي b من التوقيت للمقيم والمسافر، ثم أن ابن عباس قد جاء عنه القول بالمسح، كما ذكر ذلك البيهقي، وسيأتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى.
الدليل الثالث:
قال ابن عبد البر: واحتج بعض أصحابنا للمسح في السفر دون الحضر، بأنه رخصة لمشقة السفر، قياساً على الفطر والقصر.
قال ابن عبد البر: وهذا ليس بشيء؛ لأن القياس والنظر لا يعرج عليه مع صحة الأثر (1) .
أدلة القائلين بأنه لا يجوز المسح.
الدليل الأول:
(11) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، أنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد،
عن عائشة، قالت: لأن أجزهما بالسكاكين أحب إلي من أن أمسح عليهما (2) .
[سنده صحيح] .
قال ابن عبد البر: " لا أعلم أحداً من الصحابة جاء عنه إنكار المسح
_________
(1) الاستذكار (2/247) .
(2) المصنف (1/169) رقم 1944، ورواه أيضاً (1/170) حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، قال: سمعت عروة بن الزبير، عن عائشة به بنحوه.(5/38)
على الخفين ممن لا يختلف عليه فيه إلا عائشة " (1) .
قلت: قد اعترفت عائشة على نفسها كما في حديث شريح بن هانئ، عن علي، بأنها ليس عندها علم في المسألة، ولهذا أشارت على شريح بأن يسأل علياً، ولو كان ما قالته عن علم بلغها عن النبي b ما ردت شريحاً إلى علي، والاجتهاد في ما يخالف النص غير مقبول، وقد خالفها غيرها من الصحابة.
الدليل الثاني:
(12) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: قد مسح رسول الله b على الخفين، فاسألوا هؤلاء الذين يزعمون أن النبي b مسح قبل نزول المائدة، أو بعد المائدة؟ والله ما مسح بعد المائدة، ولأن أمسح على ظهر عابر بالفلاة أحب إلي من أن أمسح عليهما (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) الاستذكار (2/241) .
(2) المسند (1/323) .
(3) فيه عطاء بن السائب، جاء في ترجمته:
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت أبي يقول: إبراهيم بن مهاجر ليس بقوي، هو وحصين بن عبد الرحمن، وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض، فمحلهم عندنا محل الصدق، يكتب حديثهم، ولا يحتج بحديثهم. قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟ .
قال: كانوا أقواماً لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون، فيغلطون. ترى في حديثهم اضطراباً ما شئت. الجرح والتعديل (2/132) .
وعطاء صدوق، لكنه اختلط بآخرة، وقد سمع أبو عوانة من عطاء في الصحة والاختلاط جميعاً، انظر الكواكب النيرات (ص: 328) .
وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: من سمع منه قديماً كان صحيحاً، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء، سمع منه قديماً شعبة وسفيان، وسمع منه حديثاً جرير وخالد بن عبد الله وإسماعيل يعنى ابن علية وعلى بن عاصم، فكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها. الجرح والتعديل (6/332) .
وقال أبو حاتم: كان عطاء بن السائب محله الصدق قديماً قبل أن يختلط، صالح مستقيم الحديث، ثم بآخرة تغير حفظه، في حديثه تخاليط كثيرة، وقديم السماع من عطاء سفيان وشعبة، وحديث البصريين الذين يحدثون عنه تخاليط كثيرة؛ لأنه قدم عليهم في آخر عمره، وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب، رفع أشياء كان يرويه عن التابعين، فرفعه إلى الصحابة. المرجع السابق.
[تخريج الأثر]
الأثر أخرجه الطبراني (12287) من طريق محمد الرقاشي، عن أبي عوانة به.
ورواه خصيف بن عبد الرحمن، واختلف عليه فيه:
فقيل: عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
أخرجه الطبراني (12237) من طريق عتاب بن بشير، عن خصيف بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير به، ولفظه عن ابن عباس قال: قد علمنا أن رسول الله b قد مسح على الخفين، ومسح أصحابه، فهل مسح منذ نزلت سورة المائدة؟
وقيل: عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس.
أخرجه أحمد (1/366) حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج. وروح قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني خصيف أن مقسماً مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل أخبره، أن ابن عباس أخبره، قال:
أنا عند عمر حين سأله سعد وابن عمر عن المسح على الخفين؟ فقضى عمر لسعد، فقال ابن عباس: فقلت: يا سعد قد علمنا أن النبي b مسح على خفيه، ولكن أقبل المائدة أم بعدها؟ قال: لا يخبرك أحد أن النبي b مسح عليهما بعد ما أنزلت المائدة، فسكت عمر.
وأخرجه الطبراني في الكبير (11140) وفي الأوسط (2931) من طريق عبيد بن عبيدة التمار، عن عثمان بن وساج، عن خصيف، عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وفيه: عبيد بن عبيدة، قال ابن حبان: يغرب. الثقات (8/431) .
وقال الدراقطني: يحدث عن معتمر بغرائب، لم يأت بها غيره. اللسان (4/121) .
وفيه عثمان بن ساج، قال الحافظ في التقريب: فيه ضعف.
كما أن خصيفاً سيء الحفظ، جاء في ترجمته:
قال أحمد: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (3/403) .
وقال أبو حاتم: خصيف صالح يخلط، وتكلم في سوء حفظه. المرجع السابق.
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبى عن خصيف، فقال: ليس هو بقوي في الحديث، قال: وسمعته مرة أخرى يقول: خصيف ليس بذاك، وسمعت أبى يقول: خصيف شديد الاضطراب في المسند. الضعفاء للعقيلي (2/31) .
وقال ابن حبان: تركه جماعة من أئمتنا، واحتج به جماعة آخرون، وكان خصيف شيخاً صالحاً فقيهاً عابداً إلا أنه كان يخطىء كثيراً فيما يروي، وينفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف في أمره قبول ما وافق الثقات من الروايات، وترك ما لم يتابع عليه وإن كان له مدخل في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه. المجروحين (1/287) .
وقال أبو زرعة: ثقة. الجرح والتعديل (3/403) .
وقال ابن سعد: كان ثقة. الطبقات الكبرى (7/482) .
وفي التقريب: صدوق سيء الحفظ، خلط بآخرة، ورمي بالإرجاء.
وقد جاء عن خصيف خلاف هذا، فقد روى البزار كما في نصب الراية (1/169) من طريق خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: أشهد أن رسول الله b مسح على الخفين.(5/39)
وأجيب:
قد صح عن النبي b أنه مسح على الخفين بعد نزول سورة المائدة، كما في حديث: بال جرير، ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله b بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه، قال الأعمش: قال إبرهيم: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وقد سبق تخريجه.
وأخرج مسلم: عن بريدة الأسلمي، أن النبي b صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعته يا عمر (1) ، ونزول آية المائدة قبل الفتح.
ومسح رسول الله b في غزوة تبوك من حديث المغيرة في الصحيحين، وهي متأخرة، وسبق تخريجه.
ثم لو فرض أن المسح قبل نزول المائدة، فإن آية المائدة ليست معارضة للمسح على الخفين، حتى تكون ناسخة له، بل هي توجب غسل الرجلين إذا لم يكن هناك خفان.
قال الشوكاني في النيل: " واعلم أن في المقام مانعاً من دعوى النسخ لم ينتبه إليه أحد فيما علمت، وهو أن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق، فإن كان المسح على الخفين ثابتاً قبل نزولها فورودها بتقدير أحد الأمرين: أعني الغسل، مع عدم التعرض للآخر، وهو المسح لا يوجب نسخ
_________
(1) مسلم (277) .(5/42)
المسح على الخفين، لا سيما إذا صح ما قاله البعض من أن قراءة الجر في قوله تعالى في الآية: {وأرجلِكم} مراد بها مسح الخفين، وأما إذا كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ بالقطع، نعم يمكن أن يقال على التقدير الأول: أن الأمر بالغسل نهي عن ضده، والمسح على الخفين من أضداد الغسل المأمور به، لكن كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده محل نزاع واختلاف، وكذلك كون المسح على الخفين ضداً للغسل، وما كان بهذه المثابة حقيق بأن لا يعول عليه، ولا سيما في إبطال مثل هذه السنة التي سطعت أنوار شموسها في سماء الشريعة المطهرة اهـ.
قلت: ما ورد عن ابن عباس من القول بعدم المسح مطلقاً، مع ضعفه، فقد سقت أنه يقول بجوازه في السفر والبرد الشديد، وجاء عنه بجوازه مطلقاً.
(13) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه مسح (1) .
[وهذا إسناد صحيح] (2) .
_________
(1) المصنف (1/165) رقم 1896.
(2) وأخرجه ابن أبي شيبة (1/170) رقم 1951 قال: حدثنا ابن إدريس، عن فطر، قال: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول:
قال ابن عباس: سبق الكتاب الخفين، فقال عطاء: كذب عكرمة، أنا رأيت ابن عباس يمسح عليهما اهـ.
وكذب في لغة أهل الحجاز: يعني: أخطأ.
وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات إلا فطر بن خليفة فإنه صدوق رمي بالتشيع كما في التقريب.
ورواه البيهقي (1/277) من طريق ابن فضيل، عن فطر بن خليفة به.
قال البيهقي: ويحتمل أن يكون ابن عباس قال: ماروى عنه عكرمة، ثم لما جاءه التثبت عن النبي b أنه مسح بعد نزول المائدة قال ما قال عطاء اهـ.
وروى ابن أبي شيبة (1/166) حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة الهذلي،
عن ابن عباس، قال: يمسح المسافر على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة.
وهذا إسناد صحيح، وابن علية سمع من ابن أبي عروبة قبل اختلاطه. انظر حاشية الكواكب النيرات ص: 211.
وتابعه شعبة، عن قتادة عند البيهقي (1/273) ، وفيه التصريح بسماع قتادة من موسى بن سلمة، قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح. وفي هذا الأثر التصريح من ابن عباس بالمسح في الحضر.(5/43)
الدليل الثالث لمن منع المسح:
(14) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: أخبرنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثني إسماعيل بن سميع، قال: حدثني أبو رزين، قال:
قال أبو هريرة: ما أبالي على ظهر خفي مسحت، أو على ظهر حماري (1) .
[إسناده حسن] (2) .
_________
(1) المصنف (1/170) رقم 1951.
(2) رجاله كلهم ثقات إلا إسماعيل بن سميع فإنه صدوق، تكلم فيه لبدعة الخوارج.(5/44)
وأجيب:
بأنه جاء عن أبي هريرة بسند أصح من هذا أنه يرى المسح على الخفين.
(15) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن جرير، عن أيوب، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، قال: رأيت جريراً مسح على خفيه. قال: وقال أبو زرعة: قال أبو هريرة، قال رسول الله b: إذا أدخل أحدكم رجليه في خفيه، وهما طاهرتان، فليمسح عليهما ثلاث للمسافر، ويوم للمقيم (1) .
[رجال إسناده كلهم ثقات] (2) .
_________
(1) المصنف (1/167) رقم 1924.
(2) ورواه أحمد (2/358) قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، حدثنا أبان
- يعني ابن عبد الله البجلي، حدثني مولى لأبي هريرة، قال:
سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله b وضئني، فأتيته بوضوء، فاستنجى، ثم أدخل يده في التراب، فمسحها، ثم غسلها، ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقلت: يا رسول الله رجلاك لم تغسلهما؟ قال إني أدخلتهما، وهما طاهرتان.
وإسناده ضعيف؛ فيه أبان بن عبد الله البجلي:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبى يقول: أبان بن أبى حازم هو أبان بن عبدالله البجلي صدوق، صالح الحديث. الجرح والتعديل (2/296) .
وقال ابن أبي حاتم: ذكره أبى، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: أبان بن عبد الله البجلي ثقة. المرجع السابق.
وقال ابن نمير: ثقة. تهذيب التهذيب (1/84) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق.
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/42) .
وقال ابن حبان: كان ممن فحش خطؤه، وانفرد بالمناكير. أخبرنا الهمداني قال: سمعت عمرو بن علي يقول: ما سمعت يحيى بن سعيد القطان يحدث عنه بشيء قط - يعني: أبان البجلي. المجروحين (1/99) .
وفي التقريب: صدوق في حفظه لين.
كما أن في الإسناد مولى أبي هريرة، وكنيته أبو وهب كما في إسناد البيقهي.
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/451) .
وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. الطبقات الكبرى القسم المتمم (148) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/51) : " لم يجرحه أحد، ولم يوثقه " اهـ.
[تخريج الحديث]
الحديث على ضعف إسناده قد اختلف فيه على أبان:
فرواه أحمد كما في هذا الإسناد والبيهقي (1/107) عن أبي أحمد الزبيري
وأخرجه الدارمي (678) عن محمد بن يوسف.
وأبو يعلى (6136) من طريق أبي داود الطيالسي ثلاثتهم، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة به. ولم يذكر الدارمي وأبو يعلى المسح على الخفين.
وأخرجه الدارمي (679) عن محمد بن يوسف.
وابن ماجه (359) من طريق أبي نعيم.
والنسائي (51) من طريق شعيب بن حرب.
والبيهقي (1/107) من طريق محمد بن عبيد الله أبي عثمان الكوفي أربعتهم عن أبان ابن عبد الله البجلي، عن إبراهيم بن جرير بن عبد الله، عن أبيه جرير. بدون ذكر المسح على الخفين. وهذا إسناد منقطع.
قال يحيى بن معين وأبو حاتم: إبراهيم بن جرير لم يسمع من أبيه شيئاً. جامع التحصيل (ص: 139) .
ورواه شريك، وخالف فيه أبان. فرواه عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة بن عمرو ابن جرير، عن أبي هريرة. فذكر بدلاً من أبيه أبا زرعة. كما في مسند أحمد (2/311) وابن راهوية (164) وسنن أبو داود (45) والنسائي (50) وصحيح ابن حبان (1405) ، وسنن البيهقي (1/106،107) كلهم من طرق، عن شريك، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة ابن عمرو بن جرير عن أبي هريرة يزيد بعضهم على بعض. والله أعلم.
وشريك سيء الحفظ. قال النسائي: رواية إبراهيم بن جرير، عن أبيه أشبه بالصواب من رواية شريك.
وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة من طريق آخر يقوي هذا،
قال ابن ماجه (555) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: ثنا زيد بن الحباب، قال: ثنا عمر بن عبد الله بن أبي خثعم الثمالي، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله ما الطهور على الخفين؟ قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة.
وهذا إسناد حسن لولا أن فيه عبد الله بن أبي خثعم ضعيف. والله أعلم.(5/45)
الدليل الرابع:
(16) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال علي سبق الكتاب الخفين (1) .
[إسناده منقطع والراجح عن علي خلافه] (2) .
الراجح:
لا شك أن الراجح في هذه المسألة جواز المسح على الخفين، والقول
_________
(1) المصنف (1/169) رقم 1946.
(2) والد جعفر: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يدرك علياً، والثابت عن علي حديث شريح بن هانئ عنه في مسلم، وفيه التوقيت للمسافر وللمقيم.(5/47)
بمنع المسح على الخفين قول ضعيف جداً.
قال ابن عبد البر: وفيه - يعني: حديث المغيرة - الحكم الجليل الذي فيه فرق بين أهل السنة وأهل البدع، وهو المسح على الخفين، لا ينكره إلا مخذول أو مبتدع خارج عن جماعة المسلمين أهل الفقه والأثر، لا خلاف بينهم في ذلك، بالحجاز والعراق والشام، وسائر البلدان إلا قوماً ابتدعوا فأنكروا المسح على الخفين، وقالوا: إنه خلاف القرآن، وعسى القرآن نسخه، ومعاذ الله أن يخالف رسول الله b كتاب الله، بل بين لهم مراد الله منه كما أمره الله عز وجل في قوله: {وأنزلنا عليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} .
وقال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}
والقائلون بالمسح جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين قديماً وحديثاً، وكيف يتوهم أن هؤلاء جاز عليهم جهل معنى القرآن؟ أعاذنا الله من الخذلان.
ثم قال: وعمل بالمسح على الخفين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر أهل بدر والحديبية، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين أجمعين، وفقهاء المسلمين في جميع الأمصار، وجماعة أهل الفقه والأثر، كلهم يجيز المسح على الخفين في الحضر والسفر للرجال والنساء (1) .
(17) وروى عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن،
_________
(1) التمهيد (11/134) ، وقال نحوه في الاستذكار (2/236) .(5/48)
أن ابن عمر رأى سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه، فأنكر ذلك عبد الله، فقال سعد: إن عبد الله أنكر علي أن أمسح على خفي، قال عمر: لا يختلجن في نفس رجل مسلم أن يتوضأ على خفيه، وإن جاء من الغائط (1) . وأصل الحديث في الصحيحين، وقد سبق ذكره.
وقد روى ابن عبد البر بسنده عن المعتمر بن سليمان، قال: كان أبي لا يختلف عليه في شيء من أمر الدين إلا أخذ بأشده، إلا المسح على الخفين، فإنه كان يقول: هو السنة، واتباعها أفضل (2) .
وقال ابن تيمية: " خفي أصله على كثير من السلف والخلف حتى أنكره بعض الصحابة، وطائفة من أهل المدينة، وأهل البيت، وإذا علم سبب الخلاف لم يبق في الصدر شيء من المسح على الخفين، وهو هل آية المائدة معارضة للمسح على الخفين أم لا؟ وهل كان المسح قبل نزول المائدة أم بعدها، وقد أثبتنا بالأدلة الصحيحة أن الرسول b مسح بعد آية المائدة
كما في حديث جرير والمغيرة وبريدة، فزال الإشكال، والحمد لله رب
العالمين (3) .
_________
(1) المصنف (1/195) رقم 760.
(2) الاستذكار (2/242) .
(3) الاختيارات (ص: 12) .(5/49)
[صفحة فارغة](5/50)
الفصل الثاني
خلاف العلماء في المسح على الجوربين(5/51)
[صفحة فارغة](5/52)
الفصل الثاني
خلاف العلماء في المسح على الجوربين
اختلف العلماء في المسح على الجوربين،
فقيل: يجوز المسح على الجوربين الصفيقين.
وهو اختيار أبي يوسف ومحمد من الحنفية (1) . ويقال: إنه رجع إليه أبو حنيفة في مرضه (2) ، وهو أرجح القولين في مذهب الشافعي (3) ، وهو
_________
(1) أحكام القرآن- الجصاص (2/494) ، المبسوط (1/102) ، بدائع الصنائع (1/10) تبيين الحقائق (1/52) ، البحر الرائق (1/191،193) ، شرح معاني الآثار (1/97) .
(2) قال السرخسي في المبسوط (1/102) : " وحكي أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في مرضه مسح على جوربيه، ثم قال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه ". وانظر بدائع الصنائع (1/10) ، وقال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/52) " ويروى رجوع أبي حنيفة إلى قولهما قبل موته، وعليه الفتوى اهـ.
(3) قال النووي في المجموع (1/526) : " قال القاضي أبو الطيب: لا يجوز المسح على الجورب إلا أن يكون ساتراً لمحل المفروض، ويمكن متابعة المشي عليه، قال: وما نقله المزني من قوله: إلا أن يكونا مجلدي القدمين ليس بشرط، وإنما ذكره الشافعي رضي الله عنه؛ لأن الغالب أن الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه إلا إذا كان مجلد القدمين، هذا كلام القاضي أبي الطيب، وذكر جماعات من المحققين مثله، ونقل صاحبا الحاوي والبحر وغيرهما وجهاً أنه لا يجوز المسح وإن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه حتى يكون مجلد القدمين، والصحيح بل الصواب ما ذكره القاضي أبو الطيب والقفال وجماعات من المحققين أنه إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان، وإلا فلا، وهكذا نقله الفواراني في الإبانة عن الأصحاب أجمعين، فقال: قال أصحابنا: إن أمكن متابعة المشي على الجوربين جاز المسح، وإلا فلا اهـ. وانظر روضة الطالبين (1/126) .(5/53)
مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: يجوز المسح على الجوربين المجلدين أو المنعلين، هو قول أبي حنيفة (2) ، وأحد القولين في مذهب الشافعي (3) ، ونص عليه في الأم (4) .
وقيل: يجوز المسح على الجوربين إن كانا مجلدين، وهو مذهب المالكية (5) .
_________
(1) جاء في مسائل ابن هانئ (1/21) : " وسئل عن المسح على الجوربين؟ فقال: إذا كان ثابتاً لا يسترخي، مسح عليه ".
وانظر المغني (1/181) ، الفروع (1/159،160) ، والمقنع في شرح مختصر الخرقي (1/268) ، المحرر (1/12) ، كشاف القناع (1/124،125) ، الكافي (1/35،36) .
(2) المبسوط (1/101،102) ، بدائع الصنائع (1/10) ، شرح معاني الآثار (1/97) .
(3) قال النووي في المجموع (1/526) : " هذه المسألة مشهورة، وفيها كلام مضطرب للأصحاب، ونص الشافعي رضي الله عنه في الأم كما قاله المصنف، وهو أنه يجوز المسح على الجورب بشرط أن يكون صفيقاً منعلاً، وهكذا قطع به جماعة: منهم الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ، والمتولي، وغيرهم. ونقل المزني أنه لا يمسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدي القدمين. الخ
(4) قال الشافعي في الأم (1/49) : " إذا كان الخفان من لبود أو ثياب فلا يكونان في معنى الخف حتى ينعلا جلداً أو خشباً ثم قال: ويكون كل ما على مواضع الوضوء منها صفيقاً لا يشف، فإذا كان هكذا مسح عليه، وإذا لم يكن هكذا لم يمسح عليه، وذلك أن يكون صفيقاً لا يشف، وغير منعل، فهذا جورب، أو يكون منعلا ويكون يشف فلا يكون هذا خفاً، إنما الخف ما لم يشف". فصرح الإمام أن الجورب إذا لم يكن منعلاً لم يمسح عليه.
(5) جاء في المدونة (1/143) : " قال ابن القاسم: كان يقول مالك في الجوربين يكونان على الرجل، وأسفلهما جلد مخروز، وظاهرهما جلد مخروز، أنه يمسح عليهما. قال: ثم رجع، فقال: لا يمسح عليهما. وانظر الشرح الصغير (1/153) ، حاشية الدسوقي (1/141) ، والخرشي (1/177) .(5/54)
وقيل: لا يجوز المسح على الجوربين مطلقاً، وهو رواية عن مالك (1) .
والفرق بين المنعل والمجلد، أن المنعل ما جعل على أسفله جلدة، والمجلد ما جعل على أعلاه وأسفله.
وقيل: يجوز المسح على الجوربين وإن كانا يشفان القدمين، حكاه النووي أنه قول عمر وعلي، وإسحاق وداود (2) .
دليل القائلين بجواز المسح على الجوارب.
الدليل الأول:
(18) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل،
عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله b توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين (3) .
[رجاله ثقات إلا أبا قيس فإنه صدوق، والحديث معلول] (4) .
_________
(1) انظر ما نقلته من المدونة من رواية ابن القاسم عن مالك (1/143) ، وانظر التمهيد (11/157) .
(2) قال النووي في المجموع (1/527) : " وحكى أصحابنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما جميعاً جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً، وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود " اهـ.
(3) المسند (2/252) ، ومن طريق أحمد أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/215) .
(4) أبو قيس عبد الرحمن بن ثروان، جاء في ترجمته:
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبى، عن أبى قيس عبد الرحمن بن ثروان، فقال: روى عنه الأعمش وشعبة، وهو يخالف في أحاديثه. الجرح والتعديل (5/218) .
وقال أحمد مرة: لا بأس به. تهذيب التهذيب (6/138) .
وقال العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين: يقدم أبو قيس على عاصم. الجرح والتعديل (5/218) .
وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: أبو قيس ثقة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: ليس بقوي، هو قليل الحديث، وليس بحافظ، قيل له: كيف حديثه؟ قال: صالح، هو لين الحديث. المرجع السابق.
وقال العجلي: كوفى ثقة ثبت. معرفة الثقات (2/74) .
وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (6/138) .
وقال الحاكم عن الدراقطني: ثقة. المرجع السابق.
ونقل ابن خلفون عن ابن نمير توثيقه. المرجع السابق.
وخرج له البخاري في صحيحه مع شدته في الرجال أخرج له حديثين:
الأول (6736) أخبر ابن مسعود بقول أبي موسى في ميراث ابنة وابنة ابن، وأخت.. الحديث.
والحديث الثاني: من قول ابن مسعود: إن أهل الإسلام لا يسبون...
وفي التقريب: صدوق ربما خالف. وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/188) حدثنا وكيع به.
وأخرجه مسلم في كتاب التمييز (2/202) ، فقال: ذكر خبر ليس بمحفوظ المتن، ثم رواه عن يحيى بن يحيى، حدثنا وكيع به.
وأخرجه أبو داود (159) حدثنا عثمان بن أبي شيبة،
وأخرجه الترمذي (99) حدثنا هناد، ومحمود بن غيلان،
وأخرجه النسائي في الكبرى (130) قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم،
وأخرجه ابن ماجه (559) قال: حدثنا علي بن محمد، كلهم عن وكيع به.
وصححه ابن خزيمة، فذكره في صحيحه (189) .
وأخرجه الطبراني (20/415) رقم 996 من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، حدثني أبي وعبد الله بن المبارك ووكيع وزيد بن الحباب، عن سفيان به.
وتابع زيد بن الحباب وكيعاً، فرواه عن سفيان به كما عند ابن خزيمة (189) ومن طريقه ابن حبان (1338) .
كما تابعه أيضاً الضحاك بن مخلد (أبو عاصم) في مسند عبد بن حميد كما في المنتخب (398) ، واختلف عليه فيه:
فرواه ابن خزيمة (198) من طريق بندار ومحمد بن الوليد، قالا: حدثنا أبو عاصم،
نا سفيان به.
قال ابن خزيمة: ليس في خبر أبي عاصم: والنعلين. وإنما قال: مسح على الجوربين.
ورواه أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق كما عند الطحاوي (1/97)
ورواه علي بن الحسن بن أبي عيسى الدرابجردي، ومحمد بن أحمد بن أنس كما في سنن البيهقي (1/283) أربعتهم عن أبي عاصم، عن سفيان به. بذكر النعلين كما هي رواية وكيع ززيد بن الحباب، وهي أرجح.
ورواه أبو مسلم الكشي، ثنا أبو عاصم به كما في معجم الطبراني الكبير (20/414) رقم 995 بذكر ومسح على الخفين، ولم يذكر الجوربين والنعلين. والمحفوظ من رواية هزيل ذكر الجوربين والنعلين. والله أعلم.
[كلام أهل العلم في الحديث]
اختلف العلماء في قبول هذا الخبر، وأكثر المتقدمين على تضعيفه خلافاً للمتأخرين.
فقد ذكر البيهقي (1/284) : قال أبو محمد يحيى بن منصور: رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر، وقال: أبو قيس الأودي، وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان، هذا مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة، فقالوا: مسح على الخفين، وقال: لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهزيل.
وقال أبو داود في السنن (159) : " كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النبي b مسح على الخفين.
وذكر البيهقي بسنده عن عبد الرحمن بن مهدي (1/284) : " قال: قلت لسفيان: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك، فقال سفيان: الحديث ضعيف أو واه، أو كلمة نحوها.
وساق البيهقي بسنده أيضاً: عن محمد بن يعقوب: قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: حدثت أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس يروي هذا إلا من حديث أبي قيس، وقال أبي: إن عبد الرحمن بن مهدي أبى أن يحدث به، يقول: هو منكر.
وساق البيهقي أيضاً بسنده، عن علي بن المديني أنه قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة إلا أنه قال: ومسح على الجوربين، وخالف الناس.
وروى البيهقي من طريق المفضل بن غسان، قال: سألت أبا زكريا - يعني يحيى بن معين - عن هذا الحديث؟ فقال: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس.
وقال النسائي كما في السنن الكبرى (130) : ما نعلم أن أحداً تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أن النبي b مسح على الخفين
وقال العقيلي: الرواية في الجوربين فيها لين. الضعفاء الكبير (2/327) .
وقال الدارقطني: في هذا الحديث لم يروه غير أبي قيس، وهو مما يغمز عليه به؛ لأن المحفوظ عن المغيرة المسح على الخفين. العلل (7/112) .
فهذا سفيان الثوري وابن مهدي وأحمد وابن معين ومسلم، والنسائي، والعقيلي، والدارقطني ثمانية أئمة من أئمة العلل أعلوه وقدحوا فيه، فكيف ينهض وقد جرحه هؤلاء؟
ولم يخرجه البخاري مع أنه على شرطه، فيظهر أنه تركه لعلة المخالفة.
وقال النووي بعد أن نقل عن بعض الأئمة المتقدم ذكرهم تضعيفه، قال في المجموع (1/500) : " وهؤلاء هم أعلام أئمة الحديث، وإن كان الترمذي قال: حديث حسن (صحيح) فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد مقدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة... الخ
وصحح الحديث بعضهم:
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. السنن (99) .
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (198) وابن حبان في صحيحه (1338) .
وأومأ ابن دقيق العيد إلى تصحيحه، فقال كما في نصب الراية (185) : " ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس على كونه ليس مخالفاً لرواية الجمهور مخالفة معارضة، بل هو أمر زائد على ما رووه، ولا يعارضه، ولا سيما وهو طريق مستقل برواية أبي هزيل، عن المغيرة لم يشارك المشهورات في سندها " اهـ.
وقال نحوه ابن التركماني في الجوهر النقي (1/284) .
وقال أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي (1/168) : " وليس الأمر كما قال هؤلاء الأئمة!!! والصواب صنيع الترمذي في تصحيح هذا الحديث، وهو حديث آخر غير حديث المسح على الخفين، وقد روى الناس عن المغيرة أحاديث المسح في الوضوء، فمنهم من روى المسح على الخفين، ومنهم من روى المسح على العمامة، ومنهم من روى المسح على الجوربين، وليس في شيء منها بمخالف للآخر، إذ هي أحاديث متعددة، وروايات على حوادث مختلفة، والمغيرة صحب النبي b نحو خمس سنين، فمن المعقول أن يشهد من النبي b وقائع متعددة في وضوئه ويحكيها، فيسمع بعض الرواة منه شيئاً، ويسمع غيره شيئاً آخر، وهذا واضح بديهي.
وقال أيضاً في مقدمته لرسالة جمال الدين القاسمي: " العلماء جمعوا بين الأحاديث التي صحت في صفة صلاة الكسوف على أوجه متعددة، بأن هذا اختلاف وقائع، لا اختلاف رواية، مع علمهم بأن وقوع الخسوف والكسوف قليل، فأولى أن يحمل بذلك في صفة الوضوء الذي يتكرر كل يوم مراراً. اهـ كلام أحمد شاكر.
هذا كلام المتقدمين، واعتراض المتأخرين، والمرجع في العلل إلى أهله وصيارفته، وربما حسنت لي نفسي مخالفة هؤلاء الأئمة ابن مهدي وسفيان وأحمد وابن معين ومسلم والنسائي والدارقطني فأردها معاتباً لها قائلاً: أتظنين أن هؤلاء الجبال يجهلون أن هذا الطريق طريق آخر مستقل، ألست يا نفس متيقنة أنك لو ولدت في زمن أولئك ما كان لك سهم في قالوا، وقلنا، ولكن راج سوقك في زمن العقم فتكلمت، وما كان ينبغي لك. فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالصحيح كلام أهل العلل أن الحديث معلول، وكيف ينهض وقد أعله أئمة الجرح؟(5/55)
وعلى فرض صحة الحديث إنما مسح جوربين منعلين، وليس معناه أنه مسح على جوربين مرة، ومرة مسح على نعلين، فالحديث حكاية لفعل واحد.
وأجيب:
على فرض تضعيف هذا الحديث فإنه لا يكفي لمنع المسح على الجوربين؛ لأن هناك أدلةً أخرى أصح من هذا الحديث تكفي في الدلالة.
قال ابن القيم: قال ابن المنذر روي المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي b: علي وعمار وأبي مسعود الأنصاري وأنس وابن عمر والبراء وبلال وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد، وزاد أبو داود:
وأبو أمامه وعمرو بن حريث وعمر وابن عباس، فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً.
والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم، لا على حديث
أبي قيس، مع أن المنازعين في المسح متناقضون، فإنهم لو كان هذا الحديث من جانبهم، لقالوا: هذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ولا يلتفتون إلى ماذكروه ههنا من تفرد أبي قيس، فإذا كان الحديث مخالفاً لهم أعلوه بتفرد راويه، ولم يقولوا زيادة الثقة مقبولة، كما هو موجود في تصرفاتهم، والإنصاف أن تكتال لمنازعك بالصاع الذي تكتال به لنفسك، فإن في كل شيء وفاءً وتطفيفاً، ونحن لا نرضى هذه الطريقة، ولا نعتمد على حديث أبي قيس (1) .
وقد نص أحمد على جواز المسح على الجوربين، وعلل رواية أبي
_________
(1) تهذيب السنن (1/187،188) .(5/60)
قيس، وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريح القياس؛ فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه.
الدليل الثاني:
(19) ما رواه بن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا معلى بن منصور وبشر بن آدم، قالا: ثنا عيسى بن يونس، عن عيسى بن سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب،
عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله b توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين.
قال المعلى في حديثه: لا أعلمه إلا قال: والنعلين (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (560) .
(2) الحديث فيه علتان:
الأولى: الانقطاع، الضحاك لم يسمع من أبي موسى. كذا قال البيهقي كما سيأتي النقل عنه.
وقال البوصيري في الزوائد (1/80) : " الضحاك لم يسمع من أبي موسى، وعيسى ضعيف لا يحتج به ".
العلة الثانية: في إسناده: عيسى بن سنان، جاء في ترجمته:
قال الأثرم أبو بكر: قلت لأحمد بن حنبل: أبو سنان عيسى بن سنان؟ فضعفه. الجرح والتعديل (6/277) .
وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ضعيف. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: أبو سنان هذا ليس بقوي في الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: مخلط، ضعيف الحديث، وهو شامي قدم البصرة. تهذيب التهذيب (8/189) .
وقال النسائي: ضعيف. المرجع السابق.
وقال ابن خراش: صدوق، وقال مرة: في حديثه نكرة. المرجع السابق.
ذكره ابن حبان في الثقات (7/235) .
وقال العجلي: لا بأس به. معرفة الثقات (2/199) .
وفي التقريب: لين الحديث. وباقي رجال الإسناد ثقات.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه ابن ماجه كما في حديث الباب، ومن طريق ابن ماجه أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/216)
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/97) والبيهقي (2/284) من طريق المعلى بن منصور، قال: ثنا عيسى بن يونس به.
قال البيهقي: الضحاك بن عبد الرحمن لم يثبت سماعه من أبي موسى، وعيسى بن سنان ضعيف، لا يحتج به.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (1112) من طريق أبي جعفر، قال: حدثنا عيسى بن يونس به. وزاد والعمامة.
قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي موسى إلا بهذا الإسناد، تفرد به عيسى.
ورواه العقيلي في الضعفاء (3/383) من طريق القاسم بن مطبب، عن عيسى بن يونس به.(5/61)
الدليل الثالث:
(20) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، حدثني أبي، ثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة،(5/62)
عن بلال رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله b يمسح على الخفين والجوربين (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الرابع:
(21) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد،
عن ثوبان، قال: بعث رسول الله b سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي b شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (3) .
_________
(1) المعجم الكبير (1/350) رقم 1063.
(2) دراسة الإسناد:
ـ شيخ الطبراني الوكيعي، ثقة، انظر ترجمته في تاريخ بغداد (6/5) .
ـ والده أحمد بن عمر من رجال مسلم، ثقة.
ـ ابن فضيل جاء في التقريب: صدوق عارف رمي بالتشيع.
ـ يزيد بن أبي زياد متكلم فيه قال الحافظ في التقريب: ضعيف، كبر، فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً.
وقد خولف يزيد بن زياد، فقد رواه الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة عن بلال، قال: كان رسول الله b يمسح على الخفين وعلى الخمار. ولم يذكر الجوربين.
أخرجه مسلم وغيره (275) من طريق أبي معاوية وعيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، عن الحكم به، وهو المعروف.
(3) المسند (5/277) .(5/63)
[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (1) .
_________
(1) رجال إسناده ثقات، وقد أُعِل بالإنقطاع،
جاء في العلل للإمام أحمد (1/104) والمراسيل لابن أبي حاتم (ص: 59) : راشد بن سعد لم يسمع من ثوبان ".
لكن يعارضه بأن البخاري جزم بسماعه منه، قال في التاريخ الكبير في ترجمة راشد: "سمع ثوبان ويعلى بن مرة " اهـ.
والمثبت مقدم على النافي، وقد ذكر البخاري في تاريخه الكبير، عن حيوة، أنه قال: حدثنا بقية، عن صفوان بن عمرو: ذهبت عين راشد يوم صفين " التاريخ الكبير (3/292) رقم 994.
فإذا كان شهد صفين، وثوبان مات عام 54، فقد عاصره مدة طويلة، ثم إنه لم يتهم بالتدليس، وما عند أحمد رحمه الله هو عدم العلم بالسماع كما يبدو من نقل الخلال في علله، عن أحمد، حيث قال: لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان؛ لأنه مات قديماً، فعلل عدم السماع بأن ثوبان مات قديماً، فإذا تبين أنه عاصره أكثر من ثلاثين سنة؛ لأنه لن يشهد موقعة صفين إلا وهو بالغ، فإذا قدرنا عمره خمسة عشر سنة، حين موقعة صفين، يكون راشد بن سعد قد عاصر ثوبان أكثر من ثلاثين سنة، والله أعلم.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه أحمد كما في حديث الباب، ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود (146) ، والبيهقي (1/62) ، والطبراني في مسند الشاميين (1/274) رقم 477.
وأخرجه الروياني في مسنده (642) حدثنا محمد بن بشار، والطبراني في مسند الشاميين (1/274) رقم 477 من طريق مسدد، كلاهما عن يحيى بن سعيد به.
ورواه الحاكم في المستدرك (1/275) من طريق أحمد بن حنبل به، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما اتفقا على المسح على العمامة بغير هذا اللفظ.
فتعقبه الذهبي في السير (4/491) فقال: إسناده قوي، وخرجه الحاكم، فقال على شرط مسلم، فأخطأ؛ فإن الشيخين ما احتجا براشد، ولا ثور من شرط مسلم. اهـ
وقال الزيلعي في نصب الراية (1/165) : " ورواه أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، وقال: على شرط مسلم، وفيه نظر؛ فإنه من رواية ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد به، وثور لم يرو له مسلم، بل انفرد به البخاري، وراشد بن سعد لم يحتج به الشيخان.
وقال أحمد: لا ينبغي أن يكون راشد سمع من ثوبان؛ لأنه مات قديماً، وفي هذا القول نظر؛ فإنهم قالوا: إن راشداً شهد مع معاوية صفين، وثوبان مات سنة أربع وخمسين، ومات راشد سنة ثمان ومائة، ووثقه ابن معين وأبو حاتم والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي، وخالفهم ابن حزم، فضعفه، والحق معهم " اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر كما في الدراية (1/72) : " أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم، وإسناده منقطع، وضعفه البييهقي، وقال البخاري: حديث لا يصح، ولفظ أحمد أن النبي b توضأ، ومسح على خفيه وعلى الخمار والعمامة ". اهـ
قلت: هذه الرواية منكرة، والمعروف من حديث ثوبان، المسح على العصائب والتسخين. والرواية التي أشار إليها الحافظ أخرجها أحمد (5/281) من طريق معاوية - يعني ابن صالح - عن عتبة أبي أمية الدمشقي، عن أبي سلام الأسود، عن ثوبان به مرفوعاً.
وعتبة أبو أمية الدمشقي قال فيه الحسيني في الإكمال: مجهول. الإكمال (1028) .اهـ
ولم يرو عنه سوى معاوية بن صالح، في ما وقفت عليه.
وأبو سلام الأسود، اسمه ممطور، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/431) .
قال العجلي: تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/297) .
ووثقه الدارقطني. تهذيب التهذيب (10/262) .
وجاء في جامع التحصيل: روى عن ثوبان، وقد قال يحيى بن معين وابن المديني: لم يسمع منه، وتوقف أبو حاتم في ذلك. جامع التحصيل (797) .
وقال أحمد: ما أراه سمع منه. تهذيب التهذيب (10/262) .
ورواه البزار في مسنده كما في كشف الأستار (300) والطبراني في المعجم الكبير (2/86) ح 149 من طريق معاوية بن صالح به.
ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه (11/424) من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/255) : رواه أحمد والبزار، وفيه عتبة بن أبي أمية، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي المقاطيع.(5/64)
وجه الاستدلال:
قوله: (العصائب) والمراد بها العمائم؛ لأن الرأس يعصب بها، والتساخين: كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما، ولا واحد لهما من لفظهما (1) .
واعترض عليه:
قالوا: إن الحديث إنما يدل على المسح على التساخين في حال البرد خاصة؛ لأنه جواب السائل في تلك الحالة، فالدليل أخص من الدعوى.
وأجيب:
قال القاسمي في رسالته: " تقرر في الأصول أن اللفظ العام على سبب خاص يحمل على عمومه، ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه، قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي: والدليل عليه هو: أن الحجة في قول رسول الله b دون السبب، فوجب أن يعتبر عمومه، وحاصل القاعدة في هذا: أن اللفظ الذي يستقل بنفسه يعتبر حكمه، فإن كان خاصاً حمل على خصوصه، وإن كان عاماً حمل على عمومه، ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه، وما يقال في العام يقال في المطلق لاشتراكهما في الأحكام كما تقرر في الأصول، وتقرر
_________
(1) انظر كلام ابن الأثير في جامع الأصول (7/171) ، والنهاية في غريب الحديث (3/244) ، (2/352) .(5/66)
أيضاً: أن ترك الاستفصال في حكاية الحال ينزل منزلة العموم في المقال.... الخ كلامه رحمه الله (1) .
الدليل الخامس:
من الآثار، فقد جاء القول بالمسح على الجوربين عن جملة من الصحابة، منهم أبو مسعود، وأنس، والبراء بن عازب، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسهل بن سعد، وابن عمر، وبلال وغيرهم، فمنها:
(22) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: نا ابن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم،
عن همام، أن أبا مسعود كان يمسح على الجوربين (2) .
[رجاله ثقات] (3) .
_________
(1) المسح على الجوربين (1/28) .
(2) المصنف (1/171) رقم 1971.
(3) ورواه عبد الرزاق (777) ومن طريقه الطبراني في الكبير (9/251) رقم 9239، عن الثوري، عن الأعمش به، وزاد: والنعلين.
ورواه عبد الرزاق (774) قال: عن الثوري، عن منصور، عن خالد بن سعد، قال: كان أبو مسعود الأنصاري يمسح على جوربين له من شعر ونعليه. وإسناده صحيح.
ورواه أحمد في كتاب العلل ومعرفة الرجال (3/222) رقم 4964، قال: حدثني ابن خلاد، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني منصور، عن إبراهيم، قال: حدثني خالد بن سعد، أن أبا مسعود كان يمسح على الجوربين والنعلين.
قال منصور: فلقيت خالد بن سعد، فحدثني بمثله.
وأخرجه البيهقي (1/285) من طريق شعبة، عن منصور، قال: سمعت خالد بن سعد يقول: رأيت أبا مسعود الأنصاري يمسح على الجوربين والنعلين.
ورواه ابن أبي شيبة (1/172) رقم 1988، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن يسير بن عمرو، قال: رأيت أبا مسعود بال، ثم توضأ، ومسح على الجوربين 0 وهذا إسناد صحيح أيضاً.
ورواه ابن أبي شيبة (1/172) حدثنا وكيع، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، عن واصل الأحدب، عن أبي وائل،
عن عقبة بن عمرو، أنه توضأ، ومسح على الجوربين.
وهذا إسناد صحيح. وعقبة بن عمرو هو أبو مسعود الأنصاري.(5/67)
(23) وأما ما جاء عن أنس بن مالك، فقد رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة،
عن أنس، أنه كان يمسح على الجوربين (1) .
[رجاله ثقات، وعنعنة قتادة لا تضر؛ لأنه مكثر عن أنس] (2) .
_________
(1) المصنف (1/172) رقم 1978.
(2) ورواه الطبراني في الكبير (1/244) رقم 686 قال: حدثنا أبو مسلم، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام، ثنا قتادة، أن أنسا كان يمسح على الجوربين.
ورواه عبد الرزاق (779) أخبرنا معمر، عن قتادة،
عن أنس بن مالك أنه كان يمسح على الجوربين، قال: نعم، يمسح عليهما مثل الخفين.
ولعل اللفظ: سئل أيمسح على الجوربين؟ قال: نعم؛ لأن الجملة يظهر أنها استفهامية، وليست خبرية، والله أعلم.
ورواه ابن أبي شيبة (1/172) حدثنا ابن مهدي، عن واصل، عن سعيد بن عبد الله ابن ضرار، أن أنس بن مالك توضأ، ومسح على جوربين مرعزي.
ورواه البيهقي (1/285) من طريق سفيان، عن الأعمش، أظنه عن سعيد بن عبدالله، أنه قال:
رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء، فتوضأ، ومسح على قلنسية بيضاء، وعلى جوربين أسودين مرعزين.
وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا سعيد بن عبد الله،
ذكره ابن حبان في الثقات (4/280) .
وقال عنه أبو حاتم: ليس هو بقوي. الجرح والتعديل (4/36) .
ومع ذلك هي متابعة صالحة لقتادة.
وروى الدولابي في الكنى (1/181) من طريق أحمد بن شعيب، عن عمرو بن علي، أخبرني سهل بن زياد أبو زياد الطحان، حدثنا الأزرق بن قيس، قال:
رأيت أنس بن مالك أحدث، فغسل وجهه ويديه، ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما؟ فقال: إنهما خفان، ولكن من صوف.
وسهل بن زياد، ذكره ابن حبان في الثقات (8/291) .
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (4/197) .
وقال الأزدي: سهل بن زياد الطحان أبو زياد، عن سليمان التيمي وطبقته، منكر الحديث. لسان الميزان (3/118) . وباقي رجاله ثقات.
ورواه أحمد في كتاب العلل (3/375) قال: حدثني محمد بن عبيد بن حساب، قال: حدثنا أبو رجاء الكلبي،
عن أبي الطفيل، قال: رأيت أنس بن مالك يمسح على الجوربين.
إسناده صحيح، أبو رجاء، له ترجمه في الجرح والتعديل (9/370) جاء فيه: قال أبوبكر ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: أبو رجاء الكلبي ثقة. وباقي رجاله
ثقات.(5/68)
(24) وأما ما جاء عن البراء بن عازب، فقد رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، قال: حدثنا إسماعيل بن رجاء،
عن أبيه، قال: رأيت البراء بن عازب توضأ فمسح على
جوربين (1) .
_________
(1) المصنف (1/172) رقم 1984.(5/69)
[وهذا إسناد حسن] (1) .
(25) وأما ما جاء عن علي بن أبي طالب، فقد رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن يزيد بن مردانية، عن الوليد بن سريع، عن عمرو بن حريث، أن علياً توضأ، ومسح على الجوربين (2) .
[إسناده حسن] (3) .
_________
(1) رجاله كلهم ثقات إلا رجاء بن ربيعة فإنه صدوق.
ورواه عبد الرزاق (778) عن الثوري، عن الأعمش به. وزاد على جوربيه ونعليه.
(2) المصنف (1/172) .
(3) عمرو بن حريث صحابي صغير، رأى النبي b، وسمع منه، ومسح برأسه، وقد تحرفت (حريث) إلى كريب، وهو خطأ، والصحيح (حريث) كما هو في الأوسط، لابن المنذر، فقد رواه فيه (1/462) من طريق جعفر بن عون، ثنا يزيد بن مردانية، ثنا الوليد بن سريع، عن عمرو بن حريث، قال: رأيت علياً بال، ثم توضأ، ومسح على الجوربين.
وأخرجه عبد الرزاق (773) عن الثوري، عن الزبرقان (العبدي) عن كعب بن عبدالله، قال: رأيت علياً بال، فمسح على جوربيه ونعليه، ثم قام يصلي.
ورواه ابن عدي في الكامل (3/240) من طريق أبي نعيم، حدثنا سفيان به.
ورواه ابن أبي شيبة (1/172) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الزبرقان العبدي به.
ورواه ابن سعد في الطبقات (6/232) من طريق إسرائيل، عن الزبرقان به.
ورواه البيهقي (1/285) من طريق شعبة وإسرائيل، كلاهما عن الزبرقان بن عبد الله به.
والزبرقان العبدي، جاء في ترجمته:
ذكره ابن حبان في الثقات (6/340) .
وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. الطبقات (6/348) .
وقال ابن عدي: لا أعرف له حديثاً مسنداً له ضوء، وما يروي عنه الثوري وإسرائيل لعله مقاطيع. الكامل (3/240) .
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/611) .
وقال البخاري: وهم فيه، يعني: حديثه عن كعب بن عبد الله. يقصد: حديثه لا يقطع الصلاة شيء. الضعفاء الكبير (2/82) .
كما أن شيخه كعب بن عبد الله، لم يرو عنه إلا الزبرقان، وقد ذكره ابن حبان في الثقات (5/334) .
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/162) ، فالإسناد ضعيف.
ورواه ابن أبي شيبة (1/172) حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد الله بن سعيد، عن خلاس، قال: رأيت علياً بال، ثم مسح على جوربيه ونعليه.
وقد اختلف في سماع خلاس من علي، وقد سمع خلاس من عمار.
كما أن عبد الله بن سعيد لم يتبين لي من هو؟ وقد راجعت تهذيب المزي، فلم أجد أحداً من تلاميذ خلاس يدعى عبد الله بن سعيد، لكن رأيت في ترجمة عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري من تلاميذه أبو بكر بن عياش، فإن كان هو فهو متروك. وعلى كل حال، فقد ثبت المسح على الجوربين من طريق عمرو بن حريث السابق.(5/70)
(26) وأما ما روي عن سهل بن سعد، فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن هشام بن سعد، عن أبي حازم،
عن سهل بن سعد، أنه مسح على الجوربين (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/172) .
(2) فيه هشام بن سعد، جاء في ترجمته:
قال فيه الإمام أحمد: لم يكن بالحافظ. وذكر له مرة فلم يرضه. وقال: ليس بمحكم للحديث.
وضعفه يحيى بن معين. وقال مرة: ليس بمتروك الحديث، وقال مرة: ليس بذاك القوي. وكان لا يحدث عنه.
وفضله أبو زرعة على محمد بن إسحاق، قال أبو زرعة عنه: شيخ محله الصدق. وكذلك محمد بن إسحاق، هكذا هو عندي، وهشام أحب إلي من محمد بن إسحاق.
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ضعيف. وقال في موضع آخر: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: ومع ضعفه يكتب حديثه.
وقال أبو داود: هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم. انظر تهذيب الكمال (30/207) .
وروى له مسلم قريباً من عشرة أحاديث إلا أني لم أجد حديثاً واحداً لم يتابع عليه. وفي التقريب (7294) : صدوق له أوهام. اهـ قلت: إلى الضعف أقرب.
والأثر رواه ابن المنذر في الأوسط (1/463) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، ثنا هشام بن سعد به.(5/71)
(27) وأما ما يروى عن ابن عمر، فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: نا أبو جعفر الرازي، عن يحيى البكاء، قال:
سمعت ابن عمر يقول: المسح على الجوربين كالمسح على الخفين (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
(28) وأما ما يروى عن أبي أمامة، فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة،
_________
(1) المصنف (1/173) .
(2) فيه أبو جعفر الرازي، صدوق سيء الحفظ، ويحيى بن مسلم البكاء ضعيف.
ورواه عبد الرزاق (782) عن أبي جعفر به.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/462) من طريق أبي نعيم، حدثنا أبو جعفر الرازي به.
ورواه ابن الجعد في مسنده (2991) نا أبو جعفر، عن يحيى البكاء به، وقال: كالمسح على الجرموقين، بدلاً من الخفين.(5/72)
عن أبي غالب، قال: رأيت أبا أمامة يمسح على الجوربين (1) .
[إسناده حسن] (2) .
(29) وأما ما جاء عن بلال، فرواه ابن المنذر، من طريق أبي سعد البقال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال:
رأيت بلالاً قضى حاجته، ثم توضأ، ومسح على جوربيه وخفيه (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
الدليل السادس:
ما حكي من الإجماع.
قال ابن قدامة: " الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الجوارب،
_________
(1) المصنف (1/172) .
(2) رجاله ثقات إلا أبا غالب فإنه صدوق يخطئ.
(3) الأوسط (1/463) .
(4) أبو سعد البقال، ضعيف مدلس، وقد عنعن هنا، كما أن قوله عن عبد الرحمن
ابن أبي ليلى: رأيت بلالاً فيه خطأ؛ فإنه لم يسمع من بلال. جاء في المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 126) : " سمعت أبي، وسئل هل سمع عبدالرحمن بن أبي ليلى من بلال؟ قال:
كان بلال خرج إلى الشام في خلافة عمر قديماً، فإن كان رآه كان صغيراً؛ فإنه ولد في
بعض خلافة عمر، ويروى عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه رأى عمر، وبعض أهل
العلم يدخل بينه وبين عمر البراء بن عازب، وبعضهم يدخل بينه وبين عمر كعب بن
عجرة " اهـ.
وقال العلائي في جامع التحصيل (ص: 226) : " روي عن ابن أبي ليلى، عن بلال رأيت النبي b مسح على الخفين والخمار، وبينهما فيه في بعض الطرق كعب بن عجرة، وهو الصحيح " اهـ.(5/73)
ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعاً " (1) .
الدليل السابع:
أن أحاديث المسح على الجوربين وردت مطلقة، من غير تقييد بأن تكون منعلة أو مجلدة، وتقييد ما أطلقه الشارع لا يجوز إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل.
الدليل الثامن:
من النظر، إذا جاز المسح على الخف جاز المسح على الجورب؛ لأن كلاً منهما لباس للقدم، ولا فرق.
فإما أن تكون الجوارب داخلة في مسمى الخف لغة، وإما أن تلحق الجوارب بالخفاف قياساً.
قال ابن تيمية: يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما، سواء كانت مجلدة، أو لم تكن في أصح قولي العلماء، ففي السنن أن النبي b مسح على جوربيه ونعليه، وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك؛ فإن الفرق بين الجوربين والخفين إنما كون هذا من صوف، وهذا من جلد، ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة، فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف، وهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً، بل يجوز المسح على ما يبقى، وعلى ما لا يبقى، وأيضاً
_________
(1) المغني (1/374) .(5/74)
فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين متماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح، الذي جاء به الكتاب والسنة (1) .
وسبق لنا كلام أنس رضي الله عنه في تخريج الأثر الوارد عنه، فقد قال عن الجوربين: إنهما خفان، ولكنهما من صوف.
وعلق أحمد شاكر بكلام جميل طويل اقتصر منه بقوله: " المعنى في حديث أنس أدق، فليس الأمر قياساً للجوربين على الخفين، بل هو أن الجوربين داخلان في مدلول كلمة الخفين بدلالة الوضع اللغوي للألفاظ على المعاني، والخفان ليس عليهما موضع خلاف، فالجوربان من مدلول كلمة (الخفين) فيدخلان فيهما بالدلالة الوضعية اللغوية، وأنس بن مالك صحابي من أهل اللغة قبل دخول العجمة، واختلاط الألسنة فهو يبين أن معنى الجلد أعم من أن يكون من الجلد وحده، ولم يأت دليل من الشرع يدل على حصر الخفاف في التي تكون من الجلد فقط، وقول أنس هذا أقوى حجة ألف مرة من أن يقول مثله مؤلف من مؤلفي اللغة كالخليل والأزهري والجوهري وابن سيده، وأضرابهم؛ لأنهم ناقلون للغة، وأكثر نقلهم يكون من غير إسناد، ومع ذلك يحتج بهم العلماء، فأولى ثم أولى إذا جاء التفسير اللغوي من مصدر من مصارد اللغة، وهو الصحابي العربي من الصدر الأول بإسناد صحيح إليه... الخ كلامه رحمه الله (2) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/214) .
(2) مقدمة أحمد شاكر لرسالة القاسمي (ص: 15) .(5/75)
دليل من منع المسح على الجوارب مطلقاً أو أجاز بشرط أن يكون منعلاً أو مجلداً.
الدليل الأول:
قالوا: الأصل هو غسل الرجلين، كما هو ظاهر القرآن، والعدول عنه لا يجوز إلا بأحاديث صحيحة اتفق على صحتها أئمة الحديث كأحاديث المسح على الخفين، أما أحاديث المسح على الجوربين ففي صحتها كلام عند أئمة الفن، وإلى هذا أشار مسلم بقوله: " لا يترك ظاهر القرآن بمثل أبي قبيس وهزيل " اهـ.
والجواب على هذا من وجوه:
الوجه الأول:
قد بينت أن الأحاديث ليست كلها ضعيفة، فحديث ثوبان رجاله كلهم ثقات، وحديث بلال، وحديث أبي موسى الأشعري وإن كان فيهما ضعف فهو يسير منجبر صالح في الشواهد، أضف إلى ذلك الآثار الصحيحة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
الوجه الثاني:
كيف يظن بالصحابة رضي الله عنهم بأنهم تركوا ظاهر القرآن، وخالفوه بالمسح على الجوربين.
قال ابن القيم: الذين سمعوا القرآن من النبي b، وعرفوا تأويله، مسحوا على الجوربين، وهم أعلم الأمة بظاهر القرآن، ومراد الله منه (1) .
_________
(1) تهذيب السنن (1/ 123) .(5/76)
الوجه الثالث:
إذا كان ظاهر القرآن لا ينافي المسح على الخفين، فكذلك لا ينافي المسح على الجوربين.
الوجه الرابع:
أن الحكمة التي شرع من أجلها المسح على الخفين موجودة في المسح على الجورب.
الدليل الثاني:
قالوا: إن الجوارب تتخذ من الأديم، وكذا من الصوف، وكذا من القطن، ويقال لكل واحد من هذه جورب، ومن المعلوم أن هذه الرخصة بهذا العموم التي ذهبت إليها تلك الجماعة لا يثبت إلا بعد أن يثبت أن الجوربين اللذين مسح عليهما النبي b كانا من صوف، سواء كانا منعلين أو ثخينين فقط، ولم يثبت هذا قط، فمن أين علم جواز المسح على الجوربين غير المجلدين، بل يقال: إن المسح يتعين على الجوربين المجلدين لا غيرهما؛ لأنهما في معنى الخف، والخف لا يكون إلا من أديم، نعم لو كان الحديث قولياً، بأن قال النبي b: امسحوا على الجوربين، لكان يمكن الاستدلال بعمومه على كل أنواع الجوارب.
فإن قلت: ويحتمل أن يكون الجوربان اللذان مسح عليهما النبي b من صوف.
قيل: الاحتمال وارد، لكن رجحنا كون الجوارب من أديم، لكونها في معنى الخف، أما المسح على غير الأديم فثبت بالاحتمالات التي لا تطمئن لها النفس، وقد قال النبي b: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.(5/77)
وأجيب:
قال المباركفوري: هذا القول لا يثبت إلا بعد أن يثبت أن الجوربين اللذين مسح عليهما النبي b كانا مجلدين، ولم يثبت هذا قط.
قلت: ولو كان الحكم يختلف بين ما كان مجلداً أو غير مجلد، لبين هذا الصحابة رضوان الله عليهم وهم ينقلون لنا جواز المسح على الجوربين، ولو كان الحكم يختلف لجاء نهي من الشرع أو من الصحابة عن المسح على الجورب إذا كان من صوف أو قطن، فالعام والمطلق يعمل به على عمومه وإطلاقه كما بينت.
قال الفيروز آبادي في القاموس: الجورب لفافة الرجل اهـ.
وقال في تاج العروس: الجوارب لفافة الرجل، وهو بالفارسية كورب.
وقال أبو بكر بن العربي: الجورب غشآان للقدم من صوف، يتخذ للوقاء، وفي التوضيح للحطاب المالكي: الجوارب ما كان على شكل الخف، من كتان أو قطن أو غير ذلك.
وفي الروض المربع للبهوتي الحنبلي: الجورب: ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد.
وقال العيني: الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب اهـ.
فهذه النقول ليس فيها ما يدل على أن الجوارب فيها ما هو منعل أو(5/78)
مجلد، بحيث يمكن أن يدعى أن الجوارب التي مسح عليها النبي b وأصحابه كانت منعلة أو مجلدة، فالأصل في الجوارب ما عرفه أهل اللغة وأهل الفقه، ومن ادعى خلاف هذا فعليه الدليل.
الدليل الثالث:
قالوا: إن الجوارب إذا لم تكن منعلة أو مجلدة لا يمكن متابعة المشي عليها، فإذا لم يمكن لم يصح المسح عليها.
وأجيب:
أين الدليل على اشتراط إمكان متابعة المشي عليها، وهل يسوغ أن تعارض الأدلة الشرعية بهذا التعليل الذي لا دليل عليه، فلا يعارض الدليل الشرعي إلا دليل مثله، على أننا نقول: لا نسلم أنه لا يمكن متابعة المشي عليها، وكونها قد يسرع إليها التلف فهذا أمر غير معتبر؛ لأنه معلوم أن القطن أضعف من الصوف، والصوف أضعف من الجلد، وبعض الجلود أضعف من بعض، وكل هذا لا تأثير له في الحكم الشرعي كما أسلفت، ومشقة النزع كما هي موجودة في الخف موجودة في الجورب، والحاجة إلى هذه كالحاجة إلى تلك.
اعتراض والجواب عليه:
قال المانعون: بأن المراد من حديث أن النبي b مسح على الجوربين والنعلين. بأن ذلك محمول على أنه مسح على جوربين منعلين.
(30) قال البيهقي: وقد وجدت لأنس بن مالك أثراً يدل على ذلك، أخبرناه أبو علي الروذباري، ثنا أبو طاهر محمد بن الحسن أباذي، ثنا محمد بن(5/79)
عبد الله المنادي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا عاصم الأحول،
عن راشد بن نجيح، قال: رأيت أنس بن مالك دخل الخلاء، وعليه جوربان، أسفلهما جلود، وأعلاهما خز (1) .
[إسناده حسن] (2) .
وأجيب:
قال ابن التركماني: الحديث ورد بعطف النعلين على الجوربين، وهو يقتضي المغايرة، فلفظه مخالف لهذا التأويل، وكون أنس مسح على
_________
(1) سنن البيهقي (1/285) .
(2) دراسة الإسناد:
شيخ البيهقي أبو علي الروذباري ثقة حافظ، له ترجمة في السير (17/219) ، وتذكرة الحفاظ (3/1078) .
- أبو طاهر محمد بن الحسن المحمد أباذي حافظ مفسر نحوي، كان ابن خزيمة إذا شك في اللغة لا يرجع إلا إلى أبي طاهر، له ترجمة في السير (15/304) .
- محمد بن عبد الله المنادي، الصواب: محمد بن عبيد الله المنادي كما في تهذيب الكمال، وشذارت الذهب. قال الإسماعيلي: كان ثقة صدوقاً. الأنساب (5/386) .
وقال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وسئل عنه أبي، فقال: صدوق.
وفي التقريب: صدوق.
- راشد بن أبي نجيح
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/484) .
وذكره بن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. الثقات (4/234) .
وقال أبو حاتم: صالح الحديث. تهذيب الكمال (9/16) .
ولم أقف عليه في الجرح والتعديل.
وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ. وباقي رجال الإسناد كلهم ثقات.(5/80)
جوربين منعلين لا يلزم منه أن يكون النبي b فعل كذلك، فلا يدل فعل أنس على تأويل الحديث بما لا يحتمله لفظه (1) اهـ.
وقد ثبت عن النبي b المسح على النعلين بلا جوربين، فيؤيد هذا أن مسحه على الجورب كان بانفراده، وسوف تأتي أحاديث المسح على النعلين في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.
والجلد في أسفل الجورب لا يسمى نعلاً في لغة العرب، حتى يقال: مسح على جوربين منعلين.
الدليل الرابع:
قالوا: إن المسح على الخف على خلاف القياس، فلا يصح إلحاق غيره به إلا إذا كان بطريق الدلالة، وهو أن يكون في معناه، ولا يكون الجورب في معنى الخف إلا إذا كان مجلداً أو منعلاً.
والجواب على هذا:
أننا لم نلحق الجورب بالخف اعتماداً على القياس وحده، بل اعتماداً على ما صح من الأحاديث المرفوعة، وأفعال الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولو لم يأت إلا فعل الصحابة رضي الله عنهم لكفى به دليلاً، فهم أعلم بمراد الله، ومراد رسوله b، وهم أهل اللغة، ويعرفون معنى الجورب، ومعنى الخف أكثر من غيرهم، ولذلك قال أنس رضي الله عنه عن الجورب: إنهما خفان، ولكن من صوف.
_________
(1) الجوهر النقي (1/280) .(5/81)
الراجح من هذه الأقوال:
الراجح جواز المسح على الجوربين، واشتراط كونهما صفيقين لا دليل عليه، وسوف يأتي بحث هذا الشرط في مسألة مستقلة في شروط المسح على الخفين إن شاء الله تعالى.
وقد أطلت القول في هذه المسألة مع شدة وضوحها خاصة في بلد مثل بلدي أغلب أهله على مذهب الحنابلة، ويرجع هذا لسببين:
الأول: أن هذا الكتاب كتب لطالب العلم في بلاد المسلمين شرقها وغربها، وليس المخاطب فيه أهل بلدي خاصة.
الثاني: حتى لا يأتي محتج فيقول: إن القول بأنه لا يجوز المسح على الجوربين هو قول الجمهور، فالحق يعرف بدليله، لا بمن قاله، وكم من مسألة فقهية كان فيها قول الجمهور مجانباً للصواب، ولو بحث باحث فقط في مسائل العبادات التي خالف فيها الجمهور الدليل لوقع ذلك في مجلد ضخم، فكيف بمسائل الفقه كلها، نعم احتمال الخطأ على المجتهد الواحد أكثر من احتماله على الجماعة لو كانت المسألة خالية من التقليد، لكن إذا كان كل مذهب له جمهوره الذين لا يتجاوزن قول إمامهم لم تكن الكثرة مظنة الإصابة، والله أعلم.(5/82)
الفصل الثالث
في خلاف العلماء في المسح على النعلين(5/83)
[صفحة فارغة](5/84)
الفصل الثالث
في خلاف العلماء في المسح على النعلين
ذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، إلى أنه لا يجوز المسح على النعل.
وقال قوم: يجوز المسح على النعلين كما يمسح على الخفين (5) .
_________
(1) الهداية مطبوع مع نصب الراية (1/269،270) ، شرح معاني الآثار (1/98) .
(2) الإمام مالك لا يرى المسح على الخف إذا قطع أسفل من الكعب، فضلاً أن يرى المسح على النعلين، جاء في المدونة (1/143) : " وقال مالك في الخفين يقطعهما أسفل من الكعبين المحرم وغيره لا يسمح عليهما؛ من أجل أن بعض مواضع الوضوء قد ظهر اهـ.
فيشترط المالكية كالجمهور أن يكون ساتراً لمحل المفروض، والنعال لا تستر المحل، ولذلك لا يجيزون المسح على الجوارب حتى تكون مكسية بالجلد كما سبق في المسح على الجوارب، انظر الشرح الصغير (1/154) ،
(3) نص الشافعي في الأم على أن الخف إذا لم يستر الكعبين أو ما يحاذيهما فلا يمسح عليهما، وعليه فلا يرى المسح على النعال؛ لأن النعال لا تستر المحل المفروض. انظر الأم (1/49) .
(4) جاء في مسائل عبد الله بن أحمد (1/122) : " سألت أبي عن الرجل يمسح على نعليه؟ فكرهه، وقال: لا. اهـ.
وفي مسائل ابن هانئ (1/18) : " لا يمسح على النعلين إلا أن يكونا في جوربين" اهـ.
وفي مسائل ابنه صالح (379) : " وسألته عن المسح على النعلين؟ قال: إذا كان في القدم جوربان قد ثبتا في القدم، فلا بأس أن يمسح على النعلين " اهـ.
(5) شرح معاني الآثار (1/97) .(5/85)
وقيده ابن تيمية بالنعل التي يشق نزعها (1) .
دليل من قال بجواز المسح.
الدليل الأول:
(31) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل،
عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله b توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين (2) .
[رجاله ثقات إلا أنه معلول، وسبق بحثه في المسح على الجوارب] .
وأجيب:
أولاً: الحديث ضعيف؛ وقد علمت كلام أحمد وابن مهدي وسفيان ومسلم والنسائي والدارقطني وغيرهم في تعليل هذا الحديث.
ثانياً: قالوا: إن حديث المغيرة هذا، المقصود منه أنه مسح على جوربين منعلين، لا أنه جورب منفرد، ونعل منفرد، فكأنه قال: مسح على جوربيه المنعلين.
وسبق الجواب على هذا الإشكال في مسألة المسح على الجورب، فارجع إليه إن شئت.
الدليل الثاني:
(32) ما رواه أحمد، قال: ثنا بهز بن أسد، ثنا حماد بن سلمة، أنا
_________
(1) الفتاوى الكبرى (1/304) وقيده بالنعل التي يشق نزعها، الإنصاف (1/183) .
(2) المسند (2/252) ، ومن طريق أحمد أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/215) .(5/86)
يعلى بن عطاء،
عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت أبي يوما توضأ، فمسح على النعلين، فقلت له: أتمسح عليهما؟ فقال: هكذا رأيت رسول الله b يفعل (1) .
[الحديث معلول] (2) .
_________
(1) المسند (4/9) .
(2) الحديث فيه علتان:
الأولى: الانقطاع، يعلى بن عطاء لم يدرك أوس بن أبي أوس، نص على ذلك البيهقي في السنن (1/287) .
الثانية: الاختلاف فيه على يعلى بن عطاء،
فرواه حماد بن سلمة وشريك، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس، عن أبيه.
وخالفهما هشيم وشعبة، فروياه عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس أن رسول الله، فزادا في الإسناد عطاء والد يعلى، وهو ضعيف.
وجعلوه من مسند أوس، وليس من مسند أبي أوس. وهو الراجح.
فأما رواية حماد بن سلمة، فأخرجها الطيالسي في مسنده (1113) قال: حدثنا حماد ابن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن أوس الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه.
ومن طريق أبي داود أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/96) ، والبيهقي (1/287) .
وأخرجه أحمد (4/9) حدثنا بهز بن أسد، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت أبي يوماً توضأ، فمسح على النعلين، فقلت له: أتمسح عليهما؟ فقال: هكذا رأيت رسول الله b يفعل.
ورواه الطبراني في الكبير (1/222) رقم 605 والطحاوي (1/96) من طريق الحجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة به.
وتابع شريك حماداً، فرواه أحمد (4/9) حدثنا وكيع، عن شريك، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس، عن أبيه أن النبي b توضأ، ومسح على نعليه.
وأخرجه أحمد (4/10) حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا شريك به بنحوه.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/173) رقم 1997، (7/309) رقم 36356 قال: حدثنا شريك، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس به، وتحرف الإسناد الأول في المطبوع إلى (ابن أبي إياس) .
ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الطبراني في الكبير (1/122) رقم 606.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/97) من طريق محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا شريك به.
فهذان الطريقان أعني طريق حماد وشريك فقط هما اللذان جعلاه من مسند أبي أوس حذيفة، كما أن فيها رواية يعلى بن عطاء عن أوس، ولم يسمعه منه، إنما دلسه عنه، والصحيح أنه سمعه من أبيه، عن أوس.
وأما رواية شعبة وهشيم، فجعلاه من مسند أوس الابن، وهو صحابي أيضاً، وزادا في الإسناد والد يعلى بن عطاء، وهو مجهول. وإليك تخريجها:
الحديث أخرجه أحمد (4/8) حدثنا يحيى - يعني ابن سعيد - قال: حدثني يعلى، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت رسول الله b توضأ، ومسح على نعليه.
ومن طريق أحمد أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة (978) .
ورواه الطبراني في الكبير (1/222) رقم 607،608 من طريق يحيى بن سعيد عن شعبة به.
فهنا أوس يصرح بأنه رأى رسول الله b يمسح على نعليه، بينما في رواية حماد وشريك أنكر أوس على أبيه المسح على النعلين حتى أخبره أنه رأى رسول الله b يفعله، وإذا كان أوس قد رأى الرسول b يفعله، فلماذا ينكر على أبيه شيئاً رأي رسول اللهb يفعله.
وأما رواية هشيم، فأخرجها أبو داود (160) قال: حدثنا مسدد وعباد بن موسى، قالا: ثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، قال عباد قال:
أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي أن رسول الله b توضأ، ومسح على نعليه وقدميه. وقال عباد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم يعني الميضأة - ولم يذكر مسدد الميضأة والكظامة - ثم اتفقا: فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه.
ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/286) .(5/87)
الدليل الثالث:
(33) ما رواه بن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا معلى بن منصور وبشر بن آدم، قالا: ثنا عيسى بن يونس، عن عيسى بن سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب،
عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله b توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين.
قال المعلى في حديثه: لا أعلمه إلا قال: والنعلين (1) .
[إسناده ضعيف، وسبق بحثه، وهو صالح في الشواهد] (2) .
الدليل الرابع:
(34) ما رواه البزار في مسنده كما في نصب الراية، قال البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا روح بن عبادة، عن ابن أبي ذئب، عن نافع،
أن ابن عمر كان يتوضأ، ونعلاه في رجليه، ويمسح عليهما، ويقول: كذلك كان رسول الله b يفعل (3) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (560) .
(2) انظر تخريجه في المسح على الجورب.
(3) نصب الراية (1/188) .(5/89)
[إسناده صحيح] (1) .
_________
(1) رجاله ثقات، وصحح إسناده الحافظ في الدراية (1/83) .
ورواه الطحاوي (1/97) من طريق ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب به، بلفظ: "كان إذا توضأ، ونعلاه في قدميه، مسح على ظهور قدميه بيديه، ويقول: كان رسول الله b يصنع هكذا.
وهذه الرواية توضح ما رواه البخاري (166) ومسلم (1187) من طريق عبيد بن جريج، أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تصنع أربعاً، لم أر أحداً من أصحابك يصنعها، قال: وما هي يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية.
قال عبد الله: أما الأركان؛ فإني لم أر رسول الله b يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية؛ فإني رأيت رسول الله b يلبس النعل التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها. الحديث.
فقوله: " ويتوضأ فيها ": أي توضأ، وعليه النعلان، وقد تقدم أن ابن عمر كان يمسح عليها، وهذا أولى من حمل البخاري بأنه يغسل رجليه في النعلين؛ لأن فعل ابن عمر عند البزار والطحاوي يفسر ما أجمل في رواية الصحيحين، وقد روى البيهقي في السنن (1/287) من طريق محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، قال: قيل لابن عمر رأيناك تفعل شيئاً لم نر أحداً يصنعه غيرك. قال: وما هو؟ قال: رأيناك تلبس هذه النعال السبتيه، قال: إني رأيت رسول الله b يلبسها، ويتوضأ فيها، ويمسح عليها.
وهذا إسناد حسن، وقوله: " ويمسح عليها " ذكرها ابن عجلان، عن سعيد، ولم يذكرها مالك عن سعيد في الصحيحين، ولم أعتبرها مخالفة؛ لأنها مفسرة لقوله في رواية مالك: " ويتوضأ فيها " خاصة إذا أضيف إلى ذلك فعل ابن عمر الصريح في مسحه على نعليه كما عند البزار والطحاوي، والله أعلم.
وكتب لي بعض مشايخي قائلاً: الحديث فيه نظر، وشذوذه قوي، والبزار نفسه فيه لين. اهـ.(5/90)
الدليل الخامس:
(35) ما رواه ابن جرير الطبري، قال: حدثنا عبد الله بن الحجاج ابن المنهال، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا جرير بن حازم، قال: سمعت الأعمش، عن أبي وائل،
عن حذيفة، قال: أتى رسول الله سباطة قوم، فبال عليها قائماً، ثم دعا بماء، فتوضأ، ومسح على نعليه (1) .
[لم أقف على ترجمة عبد الله بن الحجاج بن منهال، والمسح على النعلين ليس محفوظاً من حديث الأعمش] (2) .
_________
(1) تفسير ابن جرير الطبري (6/134) .
(2) لم أقف على عبد الله بن الحجاج بن منهال، وفي ترجمة أبيه حجاج بن منهال في تهذيب المزي ذكر من الرواة عنه ابنه عبيد الله، فهل هما اثنان أو واحد لا أدري، وفي المعجم الكبير للطبراني أخرج حديثاً من رواية عبيد الله بن حجاج بن منهال، عن أبيه، وإليك لفظه.
أخرجه في المعجم الكبير (22/282) رقم 723، قال: حدثنا محمد بن العباس الأخرم الأصبهاني، ثنا عبيد الله بن الحجاج بن المنهال، حدثني أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن صدقة بن أبي عمران، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة، قال: انطلقت أنا وأبي قبل رسول الله b فلما كان في بعض الطريق تلقاني، فقال أبي: تدري من هذا؟ قلت: لا قال: هذا رسول الله b الحديث.
وهو في مسند أحمد (2/227) من زيادات عبد الله، قال: حدثني شيبان بن أبي شيبة، حدثنا يزيد - يعني: ابن إبراهيم التستري به.
وعلى كل حال فالمعروف من رواية الأعمش المسح على الخفين، وليس فيه النعلان وهو في صحيح مسلم (273) ، من طريق أبي خيثمة، عن الأعمش، عن شقيق،
عن حذيفة، قال: كنت مع النبي b، فانتهى إلى سباطة قوم، فبال قائماً، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ، فمسح على خفيه.
قال الطبري في تفسيره تعليقاً على الرواية التي خرجها، قال (6/135) :
" وأما حديث حذيفة، فإن الثقات الحفاظ من أصحاب الأعمش، حدثوا به عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، أن النبي أتى سباطة قوم، فبال قائماً، ثم توضأ، ومسح على خفيه.
قال الطبري: حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبي، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة (ح)
وحدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن حذيفة (ح)
وحدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة (ح)
وحدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة (ح)
وحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة (ح)
وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة.
وكل هؤلاء يحدث ذلك عن الأعمش بالإسناد الذي ذكرنا، عن حذيفة أن النبي مسح على خفيه.
وهم أصحاب الأعمش، ولم ينقل هذا الحديث عن الأعمش، غير جرير بن حازم، ولو لم يخالفه في ذلك مخالف لوجب التثبت فيه لشذوذه، فكيف والثقات من أصحاب الأعمش يخالفونه في روايته.(5/91)
الدليل السادس:
(36) من الآثار، ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما (1) .
_________
(1) المصنف (1/173) .(5/92)
[إسناده في غاية الصحة] (1) .
الدليل السابع:
(37) ما رواه ابن عدي في الكامل، قال: ثنا محمد بن بشر القزاز، ثنا أبو عمير، ثنا رواد، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن ابن عباس، أن رسول الله b توضأ مرة مرة، ومسح على
_________
(1) أبو ظبيان اسمه: حصين بن جندب، من رجال الجماعة، وقد وثقه ابن معين والنسائي وأبو زرعة، والدارقطني وغيرهم.
وإن كان الأثر موقوفاً على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أن علياً قد أمرنا باتباع سنته، ولم أقف على مخالف له، وهو يؤيد ما سبق من حديث المغيرة، وأبي أوس الثقفي، وابن عمر، وأبي موسى الأشعري.
ورواه عبد الرزاق (784) عن الثوري، عن الأعمش به.
وأخرجه البيهقي (1/288) من طريق ابن نمير، عن الأعمش به مطولاً، ولفظه:
رأيت علي بن أبي طالب بالرحبة بال قائماً حتى أدعى، فأتى بكوز من ماء، فغسل يديه، واستنشق، وتمضمض، وغسل وجهه وذراعيه، ومسح برأسه، ثم أخذ كفاً من ماء، فوضعه على رأسه حتى رأيت الماء ينحدر على لحيته، ثم مسح على نعليه، ثم أقيمت الصلاة، فخلع نعليه، ثم تقدم، فأم الناس. قال ابن نمير: قال الأعمش: فحدثت إبراهيم، قال: إذا رأيت أبا ظبيان فأخبرني، فرأيت أبا ظبيان قائماً في الكناسة، فقلت: هذا أبو ظبيان، فأتاه، فسأله عن الحديث.
ورواه عبد الرزاق (783) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن أبي ظبيان به. ويزيد بن أبي زياد فيه ضعف.
ورواه ابن أبي شيبة (1/173) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب، عن زيد، أن علياً بال، ومسح على النعلين. ورجاله ثقات، وعنعنة حبيب بن أبي ثابت زالت بالمتابعة.
وفي هذا الأثر عن علي، ليس فيه ذكر الجوربين حتى يمكن أن يقال: إنه مسح على جوربين منعلين، وكذلك الأثر عن ابن عمر.(5/93)
نعليه (1) .
[رواد مجروح في روايته عن سفيان إلا أنه لم ينفرد به، والحديث فيه اختلاف كثير في لفظه] (2) .
_________
(1) الكامل (3/177) .
(2) ومن طريق ابن عدي رواه البيهقي (1/286) ، وقال: هكذا رواه رواد بن الجراح، وهو يتفرد عن الثوري بمناكير، هذا أحدها، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة.
جاء في ترجمته:
قال الدارمي: سألت يحيى بن معين، عن رواد بن الجراح العسقلاني، فقال: ثقة. الجرح والتعديل (3/524) .
وقال ابن معين في رواية: لا بأس به، إنما غلط في حديث سفيان. تهذيب التهذيب (3/249) .
وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: صاحب سنة، لا بأس به، إلا أنه حدث عن سفيان أحاديث مناكير. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: هو مضطرب الحديث تغير حفظه في آخر عمره وكان محله الصدق، قال ابن أبي حاتم: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، فقال: يحول عن ذلك. الجرح والتعديل (3/524) .
وقال البخاري: كان قد اختلط، لا يكاد يقوم حديثه. التاريخ الكبير (3/336) .
وقال الحافظ: صدوق اختلط بآخرة فترك، وفي حديثه عن الثوري ضعف شديد.
قلت: لم ينفرد به عن سفيان، فأخرجه البيهقي (1/286) من طريق زيد بن الحباب، عن الثوري به.
كما رواه معمر، عن زيد بن أسلم به، بالمسح على النعلين.
رواه عبد الرزاق (783) عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي ظبيان، في قصة مسح أمير المؤمين علي بن أبي طالب على نعليه. قال معمر: ولو شئت أن أحدث أن زيد بن أسلم حدثني عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أن النبي b صنع كما صنع علي.
والحديث اختلف فيه على سفيان، فرواه رواد بن الجراح وزيد بن الحباب كما سبق في المسح على النعلين.
ورواه جماعة عن سفيان، ولم يذكروا النعلين:
الأول: محمد بن يوسف، كما عند البخاري (157) ، ولفظه: أن النبي b توضأ مرة مرة.
الثاني: يحيى بن سعيد، أخرجه أبو داود (138) والنسائي (80) ، والترمذي (42) وابن ماجه (411) ، وابن حبان (1195) ولفظه أيضاً كلفظ محمد بن يوسف (توضأ مرة مرة) .
الثالث: وكيع، كما عند الترمذي (42) بالوضوء مرة مرة.
الرابع: أبو عاصم النبيل كما عند الدارمي (696) والطحاوي (1/29) بذكر الوضوء مرة مرة.
الخامس: أبو شهاب الحناط، كما عند أبي عبيد في كتاب الطهور (103) .
السادس: المؤمل بن إسماعيل، كما عند البغوي في شرح السنة (226) .
السابع: قبيصة بن عقبة، كما عند الدارمي (711) ، فهؤلاء لا يختلفون على سفيان، رووه بالوضوء مرة مرة، وزاد قبيصة: ونضح على فرجه، ولم يذكرها أحد غيره، فذكر النضح غير محفوظ بهذا الحديث.
الثامن: عبد الرزاق كما في المصنف (128) بلفظ: " ألا أخبركم بوضوء رسول الله b فغرف بيده اليمنى، ثم صب على اليسرى صبة صبة. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (1/365) .
خالفهم رواد بن الجراح وزيد بن الحباب، فذكرا المسح على النعل.
وانفرد محمد بن يزيد الجرمي، عن سفيان، وفيه: " وغسل رجليه وعليه نعله " والقطان وحده مقدم على كل هؤلاء ممن خالفه، كيف وقد وافقه وكيع والفريابي والضحاك وغيرهم ممن ذكرتهم.
هذا بيان الاختلاف على سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس
أما الاختلاف على زيد بن أسلم فكالتالي:
رواه عن زيد بن أسلم أحد عشر نفساً
ففي بعض الروايات ذكرت غسل الرجلين، ولم تذكر الرش ولا النعلين:
رواه جماعة منهم:
- ابن عجلان عند ابن أبي شيبة (1/17) رقم 64، وأبي يعلى (2486) ، والنسائي (103) ، وابن ماجه (439) ، وابن خزيمة (148) ، وابن حبان (1078،1086) ، والبيهقي (1/55،73) وغيرهم.
- محمد بن جعفر بن كثير عند البيهقي (1/73) .
- ورقاء بن عمر، كما عند البيهقي (1/67،73) .
- وأبو بكر بن محمد عند عبد الرزاق (129) .
وروايات تذكر الرش حتى يبلغ الغسل:
كرواية سليمان بن بلال عند البخاري (140) ، وأحمد (1/286) والبيهقي (1/72) .
ورواية تذكر الرش على النعلين مع المسح: وذلك مثل:
- هشام بن سعد عند أبي داود (137) والحاكم (1/147) ، والبيهقي (1/73) وفي المعرفة (1/222) ، وانفرد هشام بن سعد بذكر مسح أسفل النعل، وليس بمحفوظ.
- الدراوردي، كما في الطهور لأبي عبيد (105) والطحاوي (1/35) ، ورواه بعضهم عن الدراوردي، ولم يذكر مسح النعل، انظر النسائي (101) ، وابن ماجه (403) ، والدارمي (697) ، ومسند أبي يعلى (2670،2672) ، والطحاوي (1/32) والبيهقي (1/50) ، وابن حبان (1076) .
- معمر، بذكر المسح على النعلين عند عبد الرزاق (783) وسبق أن ذكرت لفظها.
فما هو الراجح من هذه الروايات، هل يكون المسح على النعلين محفوظاً والاختلاف فيه كما ترى؟
أقول - والله أعلم -: إن هذا الحديث قد اتفق رواته على أن الوضوء فيه مرة مرة، سواء ذكروه بهذا اللفظ المختصر، أو ذكروه على سبيل التفصيل، وكلا الروايتين في البخاري، والذي ساقه مختصراً لم يتعرض لذكر أعضاء الوضوء بما فيها الرجلان، والذين ذكروه مفصلاً ذكروا أن الرسول b كان يأخذ غرفة واحدة لكل عضو، ويكتفي بها، بما في ذلك القدمان، وعند التأمل فلن يكفي في غسل القدم ظاهره وباطنه من أصابع القدمين حتى نهاية الكعبين من كف واحدة، فالذي ذكر الغسل نظر إلى غسل ظاهر القدم، والذي ذكر مسح النعل، نظر إلى أن غسل القدم لم يعم المحل المفروض، وهو باطن القدم، وبعض الروايات ذكرت الغسل والمسح معاً كطريق القاسم بن محمد الجرمي عن سفيان وهشام بن سعد عند البيهقي (1/73) فلو كان الغسل كافياً فلماذا المسح؟ فإن قيل: وإذا كان المسح كافياً فلماذا الغسل؟
أجيب: بأن النعل، وإن كان مسحها كافياً كما جاء من حديث المغيرة وأبي موسى، وأوس بن أبي أوس وابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، ومن حديث علي بن أبي طالب موقوفاً عليه إلا أن الرش مع النعل جائز أيضاً، وهو درجة بين المسح والغسل، فإن مسح النعل أجزأه، وإن رش القدم مع النعل أجزأه أيضاً، وقد ذكر ابن القيم في معرض إجابته عن حديث المسح على النعلين ما يقوي هذا، فقال: " إن الرجل لها ثلاثة أحوال:
حال تكون في الخف، فيجزئ مسح سائرها.
وحال تكون حافية، فيجب غسلها، فهاتان مرتبتان: وهما كشفها وسترها.
ففي حال كشفها لها أعلى مراتب الطهارة، وهي الغسل التام.
وفي حال استتارها، لها أدناها، وهي المسح على الحائل.
ولها حال ثالثة، وهي حالما تكون في النعل، وهي حال متوسطة بين كشفها وبين سترها بالخف، فأعطيت حالاً متوسطة من الطهارة، وهي الرش؛ فإنه بين الغسل والمسح، وحيث أطلق لفظ المسح عليها فالمراد به الرش؛ لأنه جاء مفسراً في الرواية الأخرى " اهـ.
وهذا الكلام جيد، وحمل حديث ابن عباس على هذا متعين جمعاً بين الروايات،
إلا أن الرش ليس واجباً كما قدمت فالمسح كاف كما دلت عليه الأحاديث السابقة.(5/94)
وقد وقف العلماء من أحاديث المسح على النعال على مواقف منها:
الأول: القول بالمسح على النعال. وهذا أسعدها بالدليل، وحمل الأحاديث ابن تيمية على النعل التي يشق نزعها إلا بيد أو رجل (1) .
_________
(1) الفروع (1/160) .(5/97)
ولعله لحظ الحكمة من المسح على الخفين، وهي مشقة النزع فألحق بها ما يشق نزعها من النعال، والله أعلم.
الموقف الثاني:
ضعف بعضهم الأحاديث الواردة في المسح على النعل، وهذا وإن كان قد يُسَلَّم في بعضها، لكن لا يسلم في الكل.
الموقف الثالث:
بعضهم أولها على أنه مسح على جوربين منعلين، وقد أجبت عن هذا التأويل فيما سبق، ومع أن هذا فيه تكلف فإن هذا ممكن أن يقال في أحاديث مسح على الجوربين والنعلين، وأما الأحاديث الكثيرة التي تفيد المسح على النعلين بدون ذكر الجوربين فلا يقبل هذا التأويل.
الموقف الرابع:
ذهب بعضهم إلى معارضة أحاديث المسح على النعلين بأحاديث وجوب غسل الرجلين، وهذا ضعيف؛ لأن أحاديث مسح النعلين لا تعارض غسل القدمين إلا إذا كان المسح على الخفين يعارض أحاديث غسل الرجلين، فإذا كان المسح على الخفين لا يعارض أحاديث غسل القدمين، فكذلك المسح على النعلين.
الموقف الخامس:
ادعى بعضهم أن أحاديث مسح النعل منسوخة بأحاديث غسل الرجلين!! ، ذكر ذلك ابن القيم في تهذيب السنن.(5/98)
الموقف السادس:
حمل بعضهم أحاديث المسح على النعلين بأنه في حال تجديد الوضوء؛ وذلك لأنه ثبت عن النبي b المسح على القدمين في تجديد الوضوء، فكذلك يحمل المسح على النعلين بأنه في حال تجديد الوضوء.
(38) فقد روى أحمد، قال: ثنا بهز، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال بن سبرة، قال:
رأيت علياً رضي الله تعالى عنه صلى الظهر، ثم قعد لحوائج الناس، فلما حضرت العصر أتى بتور من ماء، فأخذ منه كفا، فمسح وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه، ثم أخذ فضله، فشرب قائماً، وقال: إن ناس يكرهون هذا، وقد رأيت رسول الله b يفعله، وهذا وضوء من لم يحدث (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) أحمد (1/153) .
(2) رجاله ثقات.
والحديث أخرجه النسائي في الكبرى (133) ، وفي الصغرى (130) قال: أخبرنا عمرو بن يزيد، قال: حدثنا بهز بن أسد به.
وأخرجه ابن الجعد في مسنده (459) وأبو داود الطيالسي في المسند (148) عن شعبة به. ومن طريق الطيالسي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5982) .
وأخرجه أحمد (1/123) عن وكيع.
وابن جرير الطبري في تفسيره (6/113) ، والبزار في مسنده (782) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/34) من طريق وهب بن جرير.
وأخرجه أحمد (1/139) وابن خزيمة (16) من طريق محمد بن جعفر.
وأخرجه البيهقي في السنن (1/75) من طريق آدم، كلهم عن شعبة، عن عبد الملك به. وهو في البخاري (5616) من طريق آدم عن شعبة، لكن بقصة الشرب قائماً فقط.
وأخرجه أحمد (1/78) والترمذي في الشمائل (210) عن محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الملك به.
وأخرجه أحمد (1/144) وأبو يعلى في مسنده (309) ، والبيهقي في السنن (7/282) من طريق مسعر، عن عبد الملك به.
وأخرجه البخاري (5615) حدثنا أبو نعيم،
وأخرجه أبو داود (3718) من طريق يحيى،
وأخرجه البزار (780) من طريق أبي أحمد، ثلاثتهم عن مسعر به، بقصة الشرب قائماً فقط.
وأخرجه أحمد (1/159) وأبو يعلى (368) وابن خزيمة (1/11،101) وابن حبان (1057،1340) من طريق منصور، عن عبد الملك به.(5/99)
الموقف السابع:
قالوا: إن معنى: مسح على النعلين المقصود بالمسح هو الغسل الخفيف، قال ابن الأثير: المسح يأتي بمعنى المسح باليد، وبمعنى الغسل (1) ، ويكون معنى حديث علي رضي الله عنه: " مسح وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه " أي غسلهما غسلاً خفيفاً، والله أعلم.
والجواب:
أولاً: حمل أحاديث المسح على النعلين على تجديد الوضوء حمل ضعيف؛ لأنه صح عن علي رضي الله عنه غسل الرجلين ثلاثاً، ومَسْحُ النعلين، ومَسْح القدمين بلا نعلين في طهارة تجديد الوضوء، وهذه الأحاديث لا يعارض بعضها بعضاً، مع اختلاف مخارجها.
_________
(1) النهاية في غريب الحديث (4/92) .(5/100)
ثانياً: ثبت عن علي بسند صحيح كما خرجته عنه أنه بال، ثم توضأ، فمسح على نعليه، ثم أقام المؤذن فخلعهما، ثم صلى، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1) ، وهذا صريح في أنه مسح على نعليه بعد الحدث، وهو نفسه الراوي لمسح القدمين في طهارة تجديد الوضوء.
والقول: بأن المسح يأتي بمعنى الغسل، هذا أيضاً فيه إشكال، وهو أن علياً رضي الله عنه جعل هذا وضوء من لم يحدث، ولو كان المسح بمعنى الغسل لم يكن قيد (ما لم يحدث) معنى، والله أعلم.
هذا ما أمكن جمعه في مسألة المسح على النعلين، والراجح عندي جوازه، ولو لم يأت في المسألة إلا الأثر عن علي بن أبي طالب لانشرح الصدر بالقول به، ما دام أنه لم يعلم له مخالف، وكونه لم ينتشر القول به كانتشار المسح على الخفين فهذا ليس كافياً في رده، وقد أنكر بعض السلف المسح على الخفين من الصحابة ومن بعدهم، أيكون إنكارهم للمسح على الخفين رافعاً لما ثبت شرعاً من جواز المسح عليهما، وسواء مسح على النعل، أو رش القدم في النعل فكلاهما جائز، والله سبحانه وتعالى أعلم.
_________
(1) المصنف (1/173) .(5/101)
[صفحة فارغة](5/102)
الفصل الرابع
خلاف العلماء في المسح على اللفائف(5/103)
[صفحة فارغة](5/104)
الفصل الرابع
خلاف العلماء في المسح على الخرق واللفائف
اختلف العلماء في المسح على اللفائف:
فقيل: لا يمسح عليها، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) .
وقيل: بل يمسح عليها، وهو وجه في مذهب أحمد، وحكاه بعضهم رواية (2) ،
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: الاختيار لتعليل المختار (1/24) ، المبسوط (1/102) ، بدائع الصنائع (1/10) .
وانظر في مذهب المالكية: التاج والإكليل المطبوع بهامش مواهب الجليل (1/319) ، تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/600) ، مواهب الجليل (1/319) .
وبالغ المالكية فقالوا: يشترط أن يكون الخف من جلد، وأن يكون مخروزاً، فلو صنع من غير الجلد على صفة الخف لم يمسح عليه، ويشترط أن يكون مخروزاً، فلا يجوز المسح على ما لزق بنحو رسراس، ولا ما نسج أو سلخ، يعني: ولو كان في صورة الخف!! انظر الشرح الصغير (1/154) ، حاشية الدسوقي (1/143) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/530) ، روضة الطالبين (1/126) .
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/182) ، الإنصاف (1/182ـ183) ، المبدع (1/145) ، كشاف القناع (1/118) ، الفروع (1/160) ، المقنع في شرح مختصر الخرقي (1/270) ، الكافي (1/44) .
وفي كتاب الهداية لأبي الخطاب (ص: 15) : " ولا يجوز المسح على اللفائف، وإن كان تحتها نعل؛ لأنها لا تثبت بنفسها " اهـ.
وذكر صاحب المغني، وابن مفلح في الفروع وشرح الزركشي أن أحمد نص على أنه
لا يجوز المسح على اللفائف.
(2) انظر الإنصاف (1/182 - 183) ، شرح الزركشي (1/395) .(5/105)
واختاره ابن تيمية (1) .
دليل من قال لا يجوز المسح على اللفائف
الدليل الأول:
الإجماع بأنه لا يجوز المسح على اللفائف.
نقل الإجماع من المالكية المواق في التاج والإكليل، قال: " لا خلاف أنه لا يجزئ المسح على الخرق إذا لف بها رجليه " (2) .
وقال ابن قدامة في منع المسح على اللفائف: لا نعلم في ذلك خلافاً (3) .
وسوف أناقش دعوى الإجماع إن شاء الله تعالى في أدلة القول الثاني.
الدليل الثاني:
أن المسح ورد على الخف، وهذه اللفائف لا تسمى خفاً، ولا هي في معناه (4) .
والجواب: أن الأشياء ليست بمسمياتها، بل بمعانيها، ولا فرق بين اللفائف والجوارب والخفاف في تدفئة الرجل، ومشقة النزع، بل قد يكون
_________
(1) قال ابن تيمية: اللفائف بالمسح أولى من الخف انظر الفتاوى الكبرى (1/319) ، الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية (ص: 24) ، مجموع الفتاوى (21/185) .
(2) التاج والإكليل (1/467) .
(3) المغني (1/182) .
(4) ذكره النووي في المجموع، قال (1/530) : " لو لف على رجله قطعة من أدم، واستوثق شده بالرباط، وكان قوياً يمكن متابعة المشي عليه، لم يجز المسح عليه؛ لأنه
لا يسمىخفاً، ولا هو في معناه اهـ.(5/106)
نزعها أشق من الخف والجورب.
الدليل الثالث:
قالوا: إن اللفائف لا تثبت بنفسها، وإنما تثبت بشدها، ومن شروط المسح على الخفين أن يثبت بنفسه، لا بشده.
قال ابن قدامة: " لا يجوز المسح على اللفائف والخرق، نص عليه أحمد، وقيل: إن أهل الجبل يلفون على أرجلهم لفائف إلى نصف الساق؟ قال: لا يجزئه المسح على ذلك إلا أن يكون جورباً؛ وذلك أن اللفافة لا تثبت بنفسها، وإنما تثبت بشدها، ولا نعلم في هذا خلافاً " (1) .
قلت: سوف يأتي إن شاء الله تعالى في شروط المسح على الخفين هل يشترط أن يثبت الخف بنفسه؟ والراجح أنه ليس بشرط، ولا دليل على اشتراطه.
دليل من قال يجوز المسح على اللفائف.
الدليل الأول:
(39) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد،
عن ثوبان، قال: بعث رسول الله b سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي b شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (2) .
_________
(1) المغني (1/182) .
(2) المسند (5/277) .(5/107)
[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع، وسبق بحثه] (1) .
وجه الاستدلال:
فالعصائب: هي العمائم؛ لأن الرأس يعصب بها، والتساخين: كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما، من الخرق واللفائف التي تسخن الرجل، فإنه مما لا شك فيه أن هذه اللفائف تسخن القدم، فهي داخلة في عموم اللفظ (2) .
الدليل الثاني:
كل دليل استدل به على جواز المسح على الجورب يصلح أن يكون دليلاً على جواز المسح على اللفائف؛ لأن الجورب في القاموس: هي لفافة الرجل، لكن العرف خص اللفافة بما ليس بمخيط، والجورب بما هو مخيط، ومعلوم أن وجود الخيط وعدمه ليس مؤثراً في الحكم.
الدليل الثالث:
أن اللفائف أولى بالجواز من الخفاف والجوارب؛ لأن نزعها أشق؛ ولأن من يلبسها غالباً لا يملك ثمن الجوارب والخفاف، فيكون محتاجاً إليها، وهو أولى بالمراعاة من الغني.
قال ابن تيمية: " والصواب أن يمسح على اللفائف، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب؛ فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة،
_________
(1) انظر مسألة المسح على الجوربين.
(2) انظر كلام ابن الأثير في جامع الأصول (7/171) ، والنهاية في غريب الحديث (3/244) ، (2/352) .(5/108)
وفي نزعها ضرر، إما إصابة بالبرد، وإما التأذي بالحفاء، وإما التأذي بالجرح، فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين، فعلى اللفائف بطريق الأولى. ومن ادعى في ذلك إجماعاً فليس معه إلا عدم العلم، ولا يمكنه أن ينقل المنع عن عشرة من العلماء المشهورين، فضلاً عن الإجماع، والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره، وذلك أن أصل المسح على الخفين خفي على كثير من السلف والخلف حتى إن طائفة من الصحابة أنكروه، وطائفة من فقهاء أهل المدينة وأهل البيت أنكروه مطلقاً.. الخ ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى.
الراجح: جواز المسح على اللفائف، وإذا كنت رجحت جواز المسح على النعل، مع أنها لا توجد مشقة كبيرة في نزعها، ولا تستر القدم المفروض غسله، فما بالك باللفائف التي تأتي على القدم كاملة، وتكون طبقات بعضها فوق بعض، وهي جورب إلا أنه لا خيط فيها، وهذا غير مؤثر كما بينت، والله أعلم.(5/109)
[صفحة فارغة](5/110)
الفصل الخامس
أيهما أفضل المسح أم الغسل(5/111)
[صفحة فارغة](5/112)
الفصل الخامس
أيهما أفضل المسح أم الغسل
اختلف العلماء في أيهما أفضل المسح أم الغسل؟
فقيل: الغسل أفضل، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، ورواية عن أحمد (4) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/144) ، تبيين الحقائق (1/46) .
(2) منح الجليل (1/134) ، حاشية الدسوقي (1/141) ، الخرشي (1/176) ، وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير بأن المسح خلاف الأولى (1/153)
وقال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/176) : بأن المسح رخصة، والرخصة تارة تكون وجوباً كوجوب أكل الميتة للمضطر، وتارة تكون ندباً كندب القصر في السفر، وتارة تكون خلاف الأولى كخلاف أولوية فطر مسافر في رمضان، وتارة تكون إباحة كإباحة السلم، والرخصة هنا - يعني في المسح على الخفين - من ذلك القبيل، يعني مباحة، وليست الأفضل. وسوف يأتي بحث هل المسح رخصة أم عزيمة إن شاء الله تعالى.
(3) المجموع (1/502) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/64) ، نهاية المحتاج (1/199) .
(4) المغني (1/174) وقال في الإنصاف (1/169) : " وعنه الغسل أفضل، وقيل: إنه آخر أقواله" اهـ.(5/113)
وقيل: المسح أفضل من الغسل، وهذا القول من مفرادت مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: هما سواء، وهو رواية عن أحمد (2) .
وقيل: الأفضل في حق كل واحد بحسبه، فمن كان عليه الخف كان الأفضل في حقه المسح، ومن كان لا خف عليه فالأفضل في حقه الغسل، وأن لا يلبس من أجل أن يمسح، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم (3) .
دليل الجمهور على أن الأفضل الغسل.
ذكر بعضهم شرطاً في كون الغسل أفضل من المسح هو أن لا يترك المسح رغبة عن السنة. واستدلوا لذلك:
الدليل الأول:
أن الغسل هو الذي واضب عليه النبي b في معظم الأوقات، وإذا كان الغسل هو الغالب من فعله b كان أفضل.
الدليل الثاني:
أن الغسل هو المفترض في كتاب الله سبحانه وتعالى
قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (4) .
على قراءة النصب، وهي الأشهر فيها وجوب غسل القدمين، وأما المسح فهو رخصة، فالغاسل لرجليه مؤد لما افترض الله عليه، والماسح لرجليه فاعل لما أبيح له.
الدليل الثالث:
(40) ترجم البخاري في صحيحه قائلاً: باب أجرة العمرة على قدر
_________
(1) كشاف القناع (1/110) .
(2) الإنصاف (1/169) .
(3) زاد المعاد (1/199) .
(4) المائدة، آية: 6.(5/114)
النصب، ثم روى هو ومسلم أن الرسول b قال لعائشة: ولكنها - يعني العمرة - على قدر نفقتك أو نصبك (1) .
ولا شك أن غسل القدمين فيه مشقة أكثر من المسح خاصة في المناطق الباردة.
الدليل الرابع:
أن المسح مختلف فيه، والغسل مجمع عليه.
الدليل الخامس:
(41) أن بعض الصحابة كان يفضل غسل رجليه، فقد روى ابن المنذر في الأوسط، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح، ثنا محمد بن بشار، ثنا جعفر بن محمد، ثنا شعبة، قال: سمعت جبر بن حبيب،
عن أم كلثوم ابنة أبي بكر أن عمر نزل بواد يقال له وادي العقاب، فأمرهم أن يمسحوا على خفافهم، وخلع خفيه، وتوضأ، وقال: إنما خلعت لأنه حبب إلي الطهور (2) .
[رجاله ثقات] (3)
(42) ومنهم أبو أيوب، فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا
_________
(1) البخاري (1787) ومسلم (226) .
(2) الأوسط (1/439) .
(3) أم كلثوم ابنة أبي بكر توفي أبو بكر، وهي حمل في بطن أمها، فتكون عند وفاة عمر عمرها اثنتا عشرة سنة، فسنها قابل للتحمل، وهي من الطبقة الثانية من كبار التابعيات، ولم أقف على من صرح بسماعها من عمر، فإن كانت سمعت فالإسناد صحيح، والله أعلم.(5/115)
هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن ابن سيرين، عن أفلح مولى أبي أيوب،
عن أبي أيوب، أنه كان يأمر بالمسح على الخفين، وكان هو يغسل قدميه، فقيل له: كيف تأمر بالمسح وأنت تغسل؟ فقال: بئس ما لي إن كان مهنأة لكم، ومأثمة علي، قد رأيت رسول الله b يفعله ويأمر به، ولكن حبب إلي الوضوء (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
قلت: ليس في هذا ما يدل على أفضلية الغسل على المسح؛ لأن أبا أيوب صرح بأن الرسول b كان يأمر به، ويفعله، وأن أبا أيوب كان يأمر بالمسح، ولا يليق بالصحابي أبي أيوب أن يأمر الناس بالمفضول دون الفاضل، لكن استحب الغسل في خاصة نفسه، وهذا لا يدل على أفضلية مطلقة.
دليل من قال المسح أفضل.
الدليل الأول:
(43) ما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن عبد الله، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع،
_________
(1) المصنف (1/161) رقم 1854.
(2) ورواه البيهقي (1/293) من طريق عمرو بن عون وأبي الربيع الزهراني، كلاهما عن هشيم به.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/439) من طريق هشيم به.
وأخرجه عبد الرزاق (769) عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين أن أبا أيوب كان يفتي بالمسح على الخفين... وذكره، ولم يذكر أفلح.(5/116)
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله b: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته (1) .
[إسناده حسن] (2) .
_________
(1) المسند (2/108) .
(2) في إسناده عبد العزيز بن محمد الدراوردي، جاء في ترجمته:
قال أبو طالب: سئل أحمد بن حنبل، عن عبد العزيز الدراوردي، فقال: كان معروفاً بالطلب، وإذا حدث من كتابه، فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وهم، كان يقرأ من كتبهم فيخطىء، وربما قلب حديث عبد الله العمري يرويه عن عبيد الله بن عمر. الجرح والتعديل (5/395) .
وقال أبو زرعة: سيء الحفظ، فربما حدث من حفظه الشيء فيخطىء. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين: صالح ليس به بأس. المرجع السابق.
وقال مرة: ثقة حجة. تهذيب التهذيب (6/315) .
وقال أيضاً: الدراوردي أثبت من فليح وابن أبي الزناد وأبي أويس. المرجع السابق.
وكان مالك بن أنس يوثق الدراوردي. الجرح والتعديل (5/395) .
وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، يغلط. الطبقات الكبرى (5/424) .
وفي التقريب: صدوق كان يحدث من كتب غيره، فيخطئ، قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر اهـ.
روى له البخاري مقروناً، وروى له مسلم والبقية. والله أعلم.
وفي إسناده أيضاً حرب بن قيس:
ذكره ابن حبان في الثقات (6/230) .
وقال البخاري: قال ابن أبي مريم، عن بكر بن مضر، قال: زعم عمارة بن غزية أن حرباً كان رضا. التاريخ الكبير (3/61) .
[تخريج الحديث]
الحديث اختلف فيه على الدراوردي،
فقيل: عن الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع عن ابن عمر كما في إسناد الباب.
وقيل: عن الدراوردي، عن موسى بن عقبة، عن حرب بن قيس، عن نافع، عن ابن عمر بدون ذكر عمارة بن غزية وجعل بدلاً منه موسى بن عقبة.
وقيل: عن الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن نافع، بدون ذكر حرب بن قيس.
أما رواية الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع عن ابن عمر. فأخرجه أحمد كما في حديث الباب.
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3890) والخطيب في تاريخه (10/347) من طريق علي بن المديني.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى (3/140) من طريق أبي مصعب،
ورواه البزار كما في كشف الأستار (988) من طريق أحمد بن أبان، ثلاثتهم عن الدراوردي به.
وأخرجه ابن خزيمة (950) من طريق يحيى بن أيوب (في المطبوع زياد) ، عن عمارة به. وأخرجه أيضاً (2027) من طريق بكر بن مضر، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، وزعم عمارة أنه رضى، عن نافع به.
وأما طريق الدراوردي، عن موسى بن عقبة، عن حرب بن قيس به.
فأخرجه الطبراني في الأوسط (5302) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبير، قال: نا عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، عن موسى بن عقبة، عن حرب بن قيس، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله b إن الله يحب أن تؤتى عزائمه، كما يكره أن تؤتى معصيته.
قلت: بعكس لفظ حرب بن قيس أن تؤتى رخصه.
قال الطبراني: لم يدخل في هذا الحديث بين موسى بن عقبة وبين نافع (حرب بن قيس) إلا الدراوردي. اهـ
ورواه البيهقي في السنن الكبرى (1/140) من طريق هارون بن معروف، عن الدراوردي، عن موسى بن عقبة به، بلفظ: إن الله يحب أن تؤتى رخصه.
ورجح البيهقي أن يكون الدراوردي سمعه منهما جيمعاً أي من عمارة بن غزية، ومن موسى بن عقبة.
وأما رواية الدراوردي، عن عمارة، عن نافع، بدون ذكر حرب بن قيس،
فقد رواه قتيبة بن سعيد، عن الدراوردي، واختلف عليه فيه:
فرواه أحمد (2/108) حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن نافع به. ولم يذكر حرب بن قيس. بلفظ: إن الله يحب أن تؤتى رخصه... الخ
ورواه ابن حبان (3568) عن محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع به. فذكر حرب بن قيس، وقال في آخره: " كما يحب أن تؤتى عزائمه، بدلاً من لفظ أحمد: " كما يكره أن تؤتى معصيته ".
وعندي أن أرجح الطرق عن الدراوردي روايته عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع؛ لأن الدراوردي قد توبع في حديثه عن عمارة بن غزية، تابعه بكر بن مضر البصري، كما في صحيح ابن خزيمة (2027) : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تترك معصيته ". وبكر بن مضر قال عنه في التقريب: ثقة ثبت.
كما تابعه يحيى بن أيوب المصري، كما في صحيح ابن خزيمة (950) ، ويحيى بن أيوب، قال عنه الحافظ: صدوق ربما أخطأ.
وتابعه أيضاً عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني، وهو ضعيف، كما في تاريخ بغداد (10/347) .
وابن الأعرابي في معجمه (223/آ) نقلاً من زوائد تاريخ بغداد (7/446) .والله أعلم.
والحديث له شواهد:
منها حديث ابن عباس، عند ابن حبان (354) قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى، قال: حدثنا الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا أبو محصن حصين بن نمير، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله b: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه. وسنده صحيح.
وشاهد آخر من حديث أنس عند الطبراني في الأوسط (4927) من طريق إسماعيل بن عيسى العطار، ثنا عمرو بن عبد الجبار، قال: عبد الله بن يزيد بن آدم،
عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك، أن رسول الله b قال: إن الله يحب أن تقبل رخصه، كما يحب العبد مغفرة ربه.
قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي الدرداء، وأبي أمامة وواثلة وأنس إلا بهذا الإسناد، تفرد به إسماعيل بن عيسى.
قال الهيثمي في المجمع (3/162) : " عبد الله بن يزيد ضعفه أحمد وغيره اهـ.
قلت: والعطار وشيخه ضعيفان.
وله شاهد ثالث من حديث عائشة أخرجه الطبراني في الأوسط (8032) وابن عدي في الكامل (5/63) من طريق حفص بن عبد الله أبو عمر الحلواني، ثنا عمر بن عبيد بياع الخُمُر، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة، قالت: قال النبي b إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه. زاد ابن عدي: قلت: وما عزائمة؟ قال: فرائضه.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة إلا عمر بن عبيد، تفرد به أبوعمر الضرير.
قال ابن عدي: عمر بن عبيد البصري حديثه عن كل من روى عنه ليس بمحفوظ.
وضعفه أبو حاتم. وذكره العقيلي في الضعفاء. انظر اللسان (4/316) والميزان (3/212) .
ورواه ابن عدي (3/354) من طريق سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، حدثني أخي عبد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه.
وسعد بن سعيد المقبري في التقريب: لين الحديث، قال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً إلا أني ذكرته لأبين أن رواياته عن أخيه، عن أبيه، عن أبي هريرة عامتها لا يتابعه أحد عليها.
فالخلاصة أن الحديث صحيح بطرقه، وحديث ابن عباس وابن عمر كافيان في الاستدلال، والله أعلم.(5/117)
الدليل الثاني: أن المسح على الخفين أيسر على المكلف من غسلهما، خاصة في أيام الريح الباردة، والماء البارد، وما كان أيسر فهو أولى.
(44) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: ما خير رسول الله b بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله b لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها (1) .
الدليل الثالث:
(45) ما رواه النسائي في السنن الكبرى وغيره من طريق عاصم، عن زر، قال: سألت صفوان بن عسال عن المسح على الخفين، فقال: كان رسول الله b يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم، إلا من جنابة (2) .
[سنده حسن، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى] (3) .
وجه الاستدلال:
فقوله: " يأمرنا " إذا لم يكن للوجوب، كان للندب، وهو دليل على أن المسح أفضل.
_________
(1) صحيح البخاري (3367) ومسلم (2327) .
(2) سنن النسائي الكبرى (144،145) .
(3) انظر مسألة الخلاف في توقيت المسح.(5/121)
الدليل الرابع:
أن المسح على الخفين قد طعن فيه طوائف من أهل البدع، فكان إحياء السنن التي طعن فيه المخالفون أفضل من إماتتها،
جاء عن سفيان الثوري أنه قال لشعيب بن حرب: لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين أفضل من الغسل (1) .
وقد كان المصنفون في كتب العقائد يذكرون اعتقادهم بالمسح على الخفين بالرغم أنه من مسائل الفقه ليتميز أهل السنة فيه عن غيرهم (2) .
(46) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة قال:
كان إبراهيم في سفر، فأتى عليه يوم حار، فقال: لولا خلاف السنة لنزعت خفي (3) .
وقال ابن المنذر: وممن روى أن المسح على الخفين أفضل من الغسل الشعبي والحكم وأحمد وإسحاق، وكان ابن أبي ليلى والنعمان يقولان: إنا لنريد الوضوء فنلبس الخفين حتى نمسح عليهما.
وروينا عن النخعي أنه قال: من رغب عن المسح على الخفين فقد رغب عن سنة محمد b (4) .
_________
(1) المغني (1/174) .
(2) علق على هذا أحد مشايخي قائلاً: " هذا على التنزل في التفريق بين المسائل، وإلا فكل حديث صح عن رسول الله b فالإيمان به واعتقاده والعمل به عقيدة اهـ.
(3) المصنف (1/167) رقم 1919.
(4) الأوسط (1/440) .(5/122)
دليل من قال المسح والغسل سواء.
قالوا: إن الأدلة جاءت بهذا وهذا، ولم يرد دليل في الشرع ينص على أن الغسل أفضل، أو المسح أفضل، فيبقى الحكم واحداً.
قال ابن المنذر: " قد شبه بعض أهل العلم من لبس خفيه على طهارة وأحدث بالحانث في يمينه، قال: فلما كان الحانث في يمينه بالخيار إن شاء أطعم، وإن شاء كسا، ويكون مؤدياً للفرض الذي عليه، فكذلك الذي أحدث، وقد لبس خفيه على طهارة إن مسح، أو خلع خفيه فغسل رجليه مؤد ما فرض الله عليه، مخير في ذلك (1) .
دليل من قال إن كان عليه الخف فالأفضل المسح، وإلا فالأفضل الغسل.
قال ابن القيم: لم يكن يتكلف - يعني النبي b ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين، غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه، وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل، قاله شيخنا (2) . والله أعلم.
الراجح:
بعد سياق هذا الخلاف بين أهل العلم في أيهما أفضل المسح أو الغسل؟ الذي يتبين لي أن ما قاله ابن القيم فيه توسط بين الأقوال، وإن كنت أميل إلى أن الغسل قد يكون أفضل، ووجهه: أن الغسل هو الغالب من فعل الرسول b بدليل أن عائشة لم تكن تعلم عن المسح على الخفين،
_________
(1) الأوسط (1/440) .
(2) زاد المعاد (1/199) .(5/123)
وأحالت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين سُئلت عن المسح على الخفين، ولو كان يكثر منه رسول الله b ما غاب هذا الفعل عن بيت النبوة، عن أم المؤمنين رضي الله عنها، ولله أعلم.(5/124)
الفصل السادس
هل المسح رخصة أم عزيمة(5/125)
[صفحة فارغة](5/126)
الفصل السادس
هل المسح رخصة أم عزيمة
اختلف الفقهاء هل المسح رخصة أم عزيمة،
فقيل: إن المسح رخصة، وهو مذهب الأئمة (1) .
وقيل: إن المسح عزيمة، وهو رواية عن أحمد (2) .
ومن ثمرة الخلاف، أن المسح إذا كان عزيمة، فإن المسافر يمسح مطلقاً سواء كان سفره مباحاً أو محرماً.
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: حاشية ابن عابدين (1/442) ، مراقي الفلاح (ص: 53) ، شرح فتح القدير (1/147) .
وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/141) ، مواهب الجليل (1/318) ، وقال الخرشي (1/176) : بأن المسح رخصة، والرخصة تارة تكون وجوباً كوجوب أكل الميتة للمضطر، وتارة تكون ندباً كندب القصر في السفر، وتارة تكون خلاف الأولى كخلاف أولوية فطر مسافر في رمضان، وتارة تكون إباحة كإباحة السلم، والرخصة هنا
- يعني في المسح على الخفين - من ذلك القبيل ". يعني: مباحة.
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/510) ، والروضة (1/131) ، الفتاوى الفقهية الكبرى - الهيتمي (1/233) .
وأما مذهب الحنابلة، فقد قال ابن قدامة (1/181) : " ولو سافر لمعصية لم يستبح المسح أكثر من يوم وليلة؛ لأن يوماً وليلة غير مختصة بالسفر، ولا هي من رخصه، فأشبه غير الرخص، بخلاف ما زاد على اليوم والليلة؛ فإنه من رخص السفر، فلم يستبحه بسفر المعصية كالقصر والجمع ". اهـ فنص على أنها رخصة، وانظر الإنصاف (1/169) .
(2) قال في الإنصاف (1/169) : " والمسح رخصة على الصحيح من المذهب. وعنه عزيمة.(5/127)
واختلف القائلون: بأن المسح رخصة هل يمسح العاصي بسفره أم لا، وقد جعلت هذا في بحث مستقل سوف يأتي إن شاء الله تعالى.
دليل من قال المسح على الخفين رخصة.
الدليل الأول:
(47) ما وراه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن بشار وبشر بن هلال الصواف، قالا: ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، قال: ثنا المهاجر أبو مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة،
عن أبيه، عن النبي b أنه رخص للمسافر إذا توضأ، ولبس خفيه، ثم أحدث وضوءاً، أن يمسح ثلاثةَ أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلةً (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) رواه ابن ماجه (556) .
(2) فيه مهاجر بن مخلد، جاء في ترجمته:
ذكره ابن حبان في الثقات (7/486) .
وقال: إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: صالح. الجرح والتعديل (8/262) .
وقال ابن أبي حاتم: قال سألت أبي عن مهاجر أبي مخلد مولى البكرات، فقال: لين الحديث، ليس بذاك، وليس بالمتين شيخ يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال العجلي: بصري ثقة. معرفة الثقات (2/301) .
وكان وهيب يعيب المهاجر يقول لا يحفظ. الكامل (6/460) .
وقال العقيلي بعد أن خرج هذا الحديث: والمتن معروف من غير هذا الوجه، ولا يتابع مهاجر على هذه الرواية. الضعفاء الكبير (4/208) .
وفي التقريب: مقبول، يعني إن توبع، ولا أعلم أحداً تابعه على هذا الإسناد، فالحديث ضعيف.
وقال الترمذي في العلل الكبير (1/175) : " سألت محمداً - يعني البخاري - فقلت: أي الحديث عندك أصح في التوقيت في المسح على الخفين؟ قال: حديث صفوان بن عسال، وحديث أبي بكرة حسن اهـ.
ولعل البخاري لم يقصد الحسن الاصطلاحي؛ وذلك لأن حديث صفوان حديث حسن، مداره على عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث وحديث أبي بكرة أقل منه درجة، فيكون ضعيفاً. والله أعلم.
وسوف يأتي تخريجه مستوفى في الخلاف في التوقيت في المسح على الخفين.
على أنه معروف من كلام الأئمة أن كلمة (أصح) لا تعني الصحة المطلقة.(5/128)
الدليل الثاني:
(48) ما رواه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الملك بن حميد بن أبي غنية، قال: سمعت الحكم بن عتيبة يحدث عن القاسم بن مخيمرة،
عن شريح بن هانئ، قال: سألت علي بن أبي طالب في المسح على الخفين؟ فقال: رخص رسول الله b في المسح على الخفين في الحضر يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن (1) .
[الحديث صحيح إلا أن لفظ: (رخص) غير محفوظ في الحديث] (2) .
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (195) ، وابن حبان (1327) .
(2) قد رواه جماعة عن الحكم، ولم يذكر أحد منهم لفظ رخص، منهم:
الأول: عمرو بن قيس.
كما في مصنف عبد الرزاق (789) وأحمد (1/134) ، ومسلم (276) ، والدارمي (714) ، والنسائي (128) ، والبيهقي (1/275) .
الثاني: زيد بن أبي أنيسة. كما في صحيح مسلم (276) .
الثالث: الأعمش.
كما في مسند أحمد (1/113) ، وأبي يعلى (264) ، والنسائي (129) ، والبيهقي (1/275) .
الرابع: شعبة، كما في مسند أحمد (1/120،100) ، والطيالسي (92) وأبي عوانة، وابن ماجه (552) ، وصحيح ابن حبان (1331) .
الخامس: زبيد، عن الطحاوي (1/81) .
السادس: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كما في سنن البيهقي (1/282) .
السابع: الحجاج بن أرطاة، كما في مسند أحمد (1/96) ، كل هؤلاء رووه عن الحكم، ولم يذكر أحد منهم لفظ: " رخص "
كما أن جميع من رواه عن القاسم بن مخيمرة لم يذكر لفظ (رخص) منهم أبو إسحاق السبيعي ويزيد بن أبي زياد وعبدة بن أبي لبابة، وقد تكلمت على جميع هذه الطرق في حكم المسح على الخفين، فانظره غير مأمور.(5/129)
الدليل الثالث:
(49) ما رواه أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون،
عن أبى عبد الله الجدلي سمعه يحدث عن خزيمة بن ثابت سألنا رسول الله b عن المسح على الخفين، فرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوماً وليلةً.
قال عبد الله: قال أبي: سمعته من سفيان مرتين يذكر للمقيم، ولو أطنب السائل في مسألته لزادهم (1) .
[رجاله ثقات ورواية الأكثر ليس فيها لفظ: رخص] (2) .
_________
(1) المسند (5/213) .
(2) هذا الحديث رجاله ثقات، إلا أن العلماء اختلفوا في تصحيحه، فصححه بعضهم:
جاء في سنن الترمذي (95) : وذكر عن يحيى بن معين أنه صحح حديث خزيمة بن ثابت.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وصححه ابن حبان، وصححه أبو عوانة، فهؤلاء أربعة من الأئمة حكموا بأنه صحيح، وبالتالي يكون متصلاً.
وأعله البخاري بالانقطاع، فقال أبو عيسى الترمذي: سألت محمداً - يعني البخاري -عن هذا الحديث؟ فقال: لا يصح عندي حديث خزيمة بن ثابت في المسح على الخفين؛ لأنه لا يعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة. انظر علل الترمذي الكبير (ص: 53) ، سنن البيهقي (1/278) ، وجامع التحصيل (482) .
قال ابن التركماني في الجوهر النقي (1/279) : " هذا بناء على ما حكي عن البخاري أنه يشترط ثبوت سماع الراوي عمن روى عنه، ولا يكتفي بإمكان اللقي، وحكى مسلم عن الجمهور خلاف هذا، وأنه يكتفى بالإمكان " اهـ.
قلت: قول البخاري: لا يعرف لأبي عبد الله سماع، يقصد بها أنه لم يسمع منه، ومن تتبع عبارات البخاري في التاريخ الكبير وجد مصداق هذا، فتارة يقول في مكان: لايعلم له سماع، ثم يقول في مكان آخر، فلان لم يسمع من فلان.
وإذا جزم إمام من أئمة الجرح والتعديل بأن فلاناً لم يسمع من فلان قبل، ولا يرد بكونه عاصره، فإن هناك رواة كثيرين عاصروا رواة آخرين، ولم يسمعوا منهم شيئاً، ولايُعَارض قول البخاري: بأن يحيى بن معين أو غيره صححه؛ لأن المثبت مقدم على النافي، والبخاري مثبت أن أبا عبد الله الجدلي لم يسمع من خزيمة، والله أعلم.
وأما الاختلاف في إسناده، فقيل:
عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلى، عن خزيمة.
وقيل: عن إبراهيم، التيمي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، بإسقاط عمرو ابن ميمون.
وقيل: عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة. وهنا سقط أبو عبد الله الجدلي بين عمرو بن ميمون وبين خزيمة رضي الله عنه. وزيد في إسناده الحارث بن سويد بين إبراهيم وبين عمرو بن ميمون.
وقيل: عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة.
وفي بعضها زيادة: لو استزدناه لزادنا، وفي بعضها: ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمساً، وفي بعضها بدون هذه الزيادة. هذا ملخص الاختلاف، وإليك التفصيل.
أما رواية إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، فرواه منصور عن إبراهيم به.
أخرجه أحمد كما في حديث الباب، ورواه أبو عوانة (1/262) من طريق سفيان بن عيينة به. إلا أنه لم يذكر متناً، وأحال على رواية شريح بن هانئ، عن علي، فقال: ثم ذكر مثله، فلعل المثلية هنا في التوقيت، فإن حديث علي بن أبي طالب، ليس فيه لفظ (رخص) .
وأخرجه الحميدي (434) ثنا سفيان به، بلفظ: " رخص ".
وأخرجه الطبراني (3754) من طريق الحميدي وإبراهيم بن بشار الرمادي، كلاهما عن سفيان به. بلفظ: " رخص لنا رسول الله b في المسح... وذكر الحديث.
واختلف على سفيان، فرواه عنه أحمد والحميدي وإبراهيم بن بشار ثلاثتهم عن سفيان به بلفظ: رخص...
ورواه يونس بن عبد الأعلى كما في شرح معاني الآثار (1/81) عن سفيان به، بلفظ: " جعل المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة " اهـ.
وأخرجه ابن حبان (1332) من طريق أبي خيثمة، ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم التيمي به، بلفظ: " رخص لنا رسول الله b أن نمسح ثلاثاً، ولو استزدناه لزادنا".
ورواه الطبراني في الكبير (4/94) رقم 3757 من طريق عثمان بن أبي شيبة وإسحاق ابن راهوية قالا: ثنا جرير، عن منصور به، بلفظ: " جعل لنا رسول الله b أن نمسح ثلاثاً، ولو استزدناه لزادنا، فهذا اختلاف على جرير أيضاً.
وأخرجه أحمد (5/213) ومن طريقه الطبراني في الكبير (4/93) رقم 3755 حدثنا أبو عبد الصمد العمي، ثنا منصور به، بلفظ: "امسحوا على الخفاف ثلاثة أيام، ولو استزدناه لزادنا " اهـ.
ولم يذكر أن ذلك في السفر ولم يذكر مسح المقيم، وليس فيه لفظ (رخص) .
وأخرجه الطبراني في الكبير (4/93) من طريق مسدد وإسحاق بن راهوية وعلي بن المديني ثلاثتهم، عن أبي عبد الصمد العمي به.
وراه البيهقي (1/277) من طريق زائدة بن قدامة، قال: سمعت منصوراً يقول: كنا في حجرة إبراهيم النخعي، ومعنا إبراهيم التيمي، فذكرنا المسح على الخفين، فقال إبراهيم التيمي: ثنا عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت، قال: جعل لنا رسول الله b ثلاثاً، ولو استزدته لزادنا - يعني المسح على الخفين للمسافر اهـ.
وليس فيه لفظ (رخص) .
واختلف على منصور من وجه آخر، فرواه سفيان بن عيينة وزائدة بن قدامة، وأبو عبد الصمد العمي وجرير، أربعتهم رووه عن منصور، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبدالله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت مرفوعاً.
ورواه أبو الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم التيمي، عن أبي عبد الله الجدلي، فأسقط من إسناده عمرو بن ميمون، رواه أبو داود الطيالسي (1218) ، والطبراني (4/93) رقم 3765 من طريق مسدد وعمرو بن عون، ثلاثتهم عن أبي الأحوص به. ولم يذكر أبوالأحوص لفظ (رخص) .
ورواه إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي بإسقاط عمرو بن ميمون كرواية أبي الأحوص، وسوف تأتي إن شاء الله تعالى.
وتبين لنا من خلال بحث هذا الطريق أن لفظ رخص انفرد بها سفيان بن عيينة، عن منصور، ورواه زائدة بن قدامة، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي، وجرير وأبو الأحوص، عن منصور بدون لفظ رخص. على أن سفيان بن عيينة وجريراً قد اختلف عليهما.
وكذا كل من رواه عن إبراهيم التيمي، لم يذكر لنا لفظ (رخص) كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
وأعل بعضهم رواية التيمي بأنه لم يسمعه من عمرو بن ميمون، وأن بينه وبين عمرو ابن ميمون واسطة، فقد رواه أحمد (5/213) وابن ماجه (554) من طريق شعبة، عن سلمة ابن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة، فزيد في إسناده الحارث بن سويد بين إبراهيم التيمي، وعمرو بن ميمون، ولم يُذْكر أبو عبد الله الجدلي، وسوف يأتي الكلام عليها في طريق مستقل إن شاء الله تعالى.
قال أبو زرعة في العلل لابن أبي حاتم (1/22) : " الصحيح من حديث إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، عن النبي b.
وقال الحافظ في الدراية (1/78) : " ورواه شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة، فأسقط الجدلي بين عمرو ابن ميمون وخزيمة، ولابد منه، وهذا مما أعلت به رواية التيمي ".
وقال الحافظ: وقد يجاب بأنه سمعه من عمرو، وسمعه عنه بواسطة، أو يكون من المزيد في متصل الأسانيد؛ لأنه صرح في رواية زائدة بسماعه من عمرو، وأيضا فكيف ما دار الإسناد فهو على ثقة.
وجاء في نصب الراية (1/176) :" الروايات متضافرة برواية التيمي له، عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة. وأما إسقاط أبي الأحوص لعمرو بن ميمون من الإسناد فالحكم لمن زاد، فإنه زيادة عدل، وأما زيادة الحارث بن سويد وإسقاط الجدلي، فيقال في إسقاط الجدلي ما قيل في إسقاط أبي الأحوص، وأما زيادة الحارث بن سويد، فمقتضى المشهور من أفعال المحدثين والأكثر أن يحكم بها، ويجعل منقطعاً فيما بين إبراهيم وعمرو بن ميمون؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يروي حديثاً عن رجل، عن ثالث، وقد رواه هو عن ذلك الثالث، لقدرته على إسقاط الواسطة، لكن إذا عارض هذا الظاهر دليل أقوى منه عمل به، كما فعل في أحاديث حكم فيها بأن الراوي علا ونزل في الحديث الواحد، فرواه على الوجهين، وفي هذا الحديث قد ذكرنا زيادة زائدة وقصة في الحكاية، وأن إبراهيم التيمي، قال: حدثنا عمرو بن ميمون، فصرح بالتحديث، فمقتضى هذا التصريح لقائل أن يقول: لعل إبراهيم سمعه من عمرو بن ميمون ومن الحارث بن سويد عنه.
ووجه آخر على طريقة الفقه، وهو أن يقال: إن كان متصلاً فيما بين التيمي وعمرو بن ميمون فذاك، وإن كان منقطعاً فقد تبين أن الواسطة بينهما الحارث بن سويد، وهو من أكابر الثقات، قال ابن معين: ثقة ما بالكوفة أجود إسناداً منه. وقال أحمد بن حنبل: مثل هذا يسأل عنه، لجلالته ورفعة منزلته، وأخرج له الشيخان في الصحيحين وبقية الجماعة. اهـ كلام الزيلعي رحمه الله.
الطريق الثاني: سعيد بن مسروق، عن إبراهيم التيمي به.
أخرجه عبد الرزاق (790) ومن طريقه أحمد (5/215) أنا سفيان، حدثني أبي (سعيد بن مسروق) ، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون به، جعل النبي b ثلاثة أيام للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم، وايم الله لو مضى السائل في مسألته لجعلها خمساً.
وفي هذه الرواية ذكر المقيم، وقال: " لجعلها خمساً " بدلاً من قوله: " لزادنا".
وأخرجه الطبراني في الكبير (3749) والبيهقي (1/277) من طريق عبد الرزاق به.
وأخرجه أحمد (5/214) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، وأبونعيم قالا: ثنا سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي به بلفظ: " جعل للمسافر ثلاثاً وللمقيم يوماً وليلة، قال: وأيم الله لو مضى السائل في مسألته لجعلها خمساً. وقال أبو نعيم: يوم للمقيم.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/162) رقم 1864 حدثنا الفضل بن دكين (أبو نعيم) عن سفيان به. ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن حبان (1329) والطبراني (3749) .
واختلف على سفيان الثوري فيه:
فرواه عبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي وأبو نعيم كلهم رووه عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي به.
وخالفهم وكيع ومحمد بن يوسف الفريابي، فروياه عن سفيان به بإسقاط أبي عبد الله الجدلي.
أخرجه ابن ماجه (553) عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة، لم يذكر أبا عبد الله الجدلي.
وتابعه محمد بن يوسف الفريابي، فأخرجه الخطيب في تاريخه (2/50) من طريق محمد ابن سعيد بن أبي مريم، قال: أنبأنا محمد بن يوسف الفريابي، قال: أنبأنا سفيان به، بإسقاط أبي عبد الله الجدلي كرواية وكيع.
وقد تابع سفيان بذكر أبي عبد الله الجدلي كل من أخيه عمر بن سعيد، وأبو عوانة.
فأخرجه الحميدي (435) قال: ثنا عمر بن سعيد (أخو سفيان) ، عن أبيه به.
وأخرجه الترمذي (95) حدثنا قتيبة، ومن طريق قتيبة أخرجه ابن حبان (1330) حدثنا أبو عوانة، عن سعيد بن مسروق به.
وأخرجه البيهقي (1/276) من طريق مسدد، ثنا أبو عوانة به.
الطريق الثالث: الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم التيمي.
أخرجه البيهقي في السنن (1/277) أخبرنا أبو الحسن المقرئ، ثنا الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا فضيل بن سليمان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي،
عن خزيمة بن ثابت أن أعرابياً سأل رسول الله b عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام ولياليهن، وقال: ورأيت أنه لو استزاده لزاده، ولم يذكر المقيم.
وإسناده إلى الحسن بن عبيد الله ثقات إلا الفضيل بن سليمان صدوق له خطأ كثير.
وأما رواية إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة.
رواه أحمد (5/215) قال: ثنا عفان، ثنا شعبة، أخبرني حكم وحماد سمعا إبراهيم، عن أبى عبد الله الجدلي،
عن خزيمة بن ثابت، عن النبي b أنه رخص ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلةً للمقيم.
وأخرجه أبو داود الطياليسي في مسنده (1219) حدثنا شعبة به.
ومن طريق أبي داود أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/81) ، والبيهقي في السنن (1/278) .
وأخرجه أبو داود السجستاني (157) حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة به.
وأخرجه أحمد (5/213) ثنا محمد بن جعفر، وابن مهدي، قالا: حدثنا شعبة به.
ورواه الطحاوي (1/82) من طريق حجاج بن منهال، حدثنا شعبة به
ورواية إبراهيم النخعي ليس فيه زيادة " ولو استزدناه لزادنا " كذا رواه محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي وعفان وأبو داود الطيالسي وحفص بن عمر، عن شعبة، عن حكم وحماد عن إبراهيم، عن أبى عبد الله الجدلي كما تقدم.
وخالفهم بشر بن عمر، فأخرجه الطحاوي (1/81) من طريقه، قال: ثنا شعبة، عن الحكم وحده به بذكر الزيادة " ولو أطنب السائل في مسألته لزاده "، وأظن أن هذا وهم منه، إنما جاء ذكر الزيادة في حديث إبراهيم التيمي، حتى قال ابن دقيق العيد في الإمام كما في نصب الراية (1/175) : " فأما رواية النخعي فإنها عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة وليس فيها ذكر الزيادة اهـ.
هذا فيما جاء من طريق الحكم وحماد مقرونين.
وجاء الحديث من رواية حماد وحده عن إبراهيم به،
رواه إسماعيل بن علية، واختلف على إسماعيل، فرواه ابن أبي شيبة (1/162) رقم 1863 عنه، عن هشام الدستوائي، قال: حدثنا حماد، عن إبراهيم النخعي به، بذكر زيادة: "ولو استزدناه لزادنا ".
وراه أحمد (5/213) عن إسماعيل به، بدون ذكر الزيادة.
وأخرجه أحمد (5/214) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا هشام، عن حماد، عن إبراهيم به. وليس فيه ذكر الزيادة.
وأخرجه الطبراني (3772) إلى (3780) متسلسلاً من طرق عن حماد، عن إبراهيم به. وأخرجه الطحاوي (1/81،82) من طريق حماد بن سلمة وهشام، فرقهما عن حماد به.
وحماد: هو ابن أبي سليمان، في التقريب: فقيه صدوق، له أوهام، ورمي بالإرجاء.
وجاء الحديث من طريق منصور، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي به. أخرجه أحمد (5/213،214) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد ومنصور، عن إبراهيم به. وليس فيه ذكر زيادة: (ولو استزدناه لزادنا) .
وأخرجه أبو عوانة (1/262) من طريق منصور به.
كما رواه أبو معشر، عن إبراهيم، أخرجه أحمد (5/214،215) ثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وسعيد بن أبي عروبة فرقهما، عن قتادة، عن أبي معشر، عن النخعي به.
وليس فيه ذكر الزيادة، وأخرجه الطبراني (3781،3782،3783) من طرق عن أبي معشر به، والله أعلم.(5/130)
الدليل الرابع:
أن حد الرخصة منطبق على المسح على الخفين، فآية المائدة توجب(5/137)
غسل القدم، قال تعالى {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (1) .
وجاءت الأحاديث الصحيحة تدل على جواز المسح على الخفين نظراً لمشقة النزع، فصدق عليها حد الرخصة، وهو كون المسح ثبت بدليل مخالف للأدلة التي توجب غسل الرجل، فكان المسح رخصة.
دليل من قال المسح عزيمة.
قالوا: لا تعارض بين المسح وغسل الرجل، فالغسل واجب إذا كانت القدم مكشوفة، والمسح واجب إذا كانت القدم في الخف، قال بعض مشايخنا: وخلع الخف لغسل الرجل بدعة خلاف السنة.
وقال ابن مفلح: ويتعين المسح على لابسه: يعني الخف.
فليس إيجاب المسح على الخفين معارضاً لغسلهما، وكل من لبس الخف جاز له المسح مطلقاً، سواء شق نزعه أم لا، وسواء كان في حاجة إلى لبسه أم لا، حتى الزمن الذي لا يمشي، وحتى المرأة التي في بيتها، وفي حال السفر أو حال الإقامة، فالمسح جائز ولو لم يكن هناك عذر.
وأجيب عن حديث: " رخص رسول الله b "
أولاً: بأن لفظ (رخص) في الأحاديث لا تخلو من ضعف أو شذوذ.
وثانياً: بأن المراد بالرخصة المعنى اللغوي، وهي التسهيل والتيسير.
وأجيب على هذا الاعتراض:
بأن الأصل في حمل الكلام على حقيقته الشرعية، فلا تقدم الحقيقة
_________
(1) المائدة، آية: 6.(5/138)
اللغوية على الحقيقة الشرعية إلا بقرينة مانعة من إرادة المعنى الشرعي، ولا قرينة، وكون المسح جائزاً ولو لم يكن هناك عذر لا يمنع ذلك من كونه رخصة؛ لأن المعتبر في المشقة وجودها غالباً، فلا يلزم وجودها مع كل شخص، فرخص السفر من قصر وجمع وفطر جائزة، وإن كانت المشقة ليست متحققة من كل مسافر، وهي رخص بالاتفاق. والله أعلم.(5/139)
[صفحة فارغة](5/140)
الفصل السابع
هل المسح على الخفين رافع أم مبيح(5/141)
[صفحة فارغة](5/142)
الفصل السابع
هل المسح على الخفين رافع أم مبيح
اختلف العلماء هل المسح على الخفين يرفع الحدث، أو لا يرفع الحدث ولكنه يبيح الصلاة؟ على قولين:
فقيل: إنه رافع للحدث، وهذا القول عليه جمهور الشافعية (1) ، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: إنه مبيح، وليس برافع، هو مذهب المالكية (3) ، واختاره بعض الشافعية (4) .
دليل من قال المسح رافع للحدث.
الدليل الأول:
(50) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري- واللفظ لسعيد- قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب،
عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر
_________
(1) المجموع (1/561) ، وروضة الطالبين (1/132،133) .
(2) الإنصاف (1/169) ، الفروع (1/169) .
(3) قال في مواهب الجليل (1/323) " التيمم والمسح على الخفين والجبيرة لا يرفع الحدث على المذهب ".
وانظر حاشية العدوي على الخرشي (1/178) .
(4) المجموع (1/561) ، وروضة الطالبين (1/132،133) .(5/143)
يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر. قال: إني سمعت رسول الله b يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة (1) .
وجه الاستدلال:
بأن الصلاة لا تقبل بغير طهارة: والنفي هنا نفي للصحة، فإذا كان ماسح الخفين صلاته صحيحة، فهو إذاً قد صلى متطهراً، وإذا كان متطهراً فقد ارتفع حدثه.
الدليل الثاني:
قالوا: إن المسح على الخفين طهارة بالماء أشبه الغسل.
الدليل الثالث:
إذا كان مسح الرأس بالماء يرفع الحدث، فكذلك مسح الخف.
الدليل الرابع:
استدل النووي على أنه يرفع الحدث، بأنه يصلي بالمسح فرائض، ولو كان لا يرفع لما جمع به فرائض كالتيمم، وطهارة المستحاضة.
والصحيح أن التيمم رافع لا مبيح، لكنه رفع مؤقت إلى وجود الماء، وطهارة المستحاضة لا يلزمها الوضوء من الحدث الدائم؛ لأنه ليس من فعلها، {ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وسوف يأتي بحث هاتين المسألتين إن شاء الله تعالى.
_________
(1) مسلم (224) .(5/144)
دليل من قال إن المسح مبيح لا رافع.
قالوا: بأن المسح طهارة تبطل بظهور الأصل، فلم ترفع الحدث كالتيمم.
ولأنه مسح قائم مقام الغسل، فلم يرفع الحدث كالتيمم.
والصحيح الأول، ولا نسلم أن التيمم لا يرفع الحدث، بل هو مطهر بنص القرآن والسنة.
قال تعالى بعد أن ذكر طهارة الماء والتيمم: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (1) .
(51) وروى البخاري، قال: حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا هشيم (ح) قال: وحدثني سعيد بن النضر، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد، هو ابن صهيب الفقير، قال:
أخبرنا جابر بن عبد الله، أن النبي b قال: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. الحديث (2) . وهو في مسلم.
فلا شك أن التيمم مطهر كالماء إلا أن طهارته مؤقتة إلى وجود الماء، فإذا وجد الماء عاد إليه حدثه السابق أصغر كان أو أكبر، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة إن شاء الله تعالى، في البحث الأم الذي هو أصل هذا الكتاب.
_________
(1) المائدة، آية: 6.
(2) صحيح البخاري (335) ومسلم (521) .(5/145)
[صفحة فارغة](5/146)
الفصل الثامن
حكم من لبس الخفين ليمسح(5/147)
[صفحة فارغة](5/148)
الفصل الثامن
حكم من لبس الخفين ليمسح
اختلف العلماء في من لبس الخفين من أجل أن يمسح عليهما،
فقيل: يجوز أن يلبس من أجل أن يمسح، وهو مذهب الحنفية (1) ، وقول في مذهب المالكية (2) ، واختاره ابن حزم (3) ، وهو الراجح.
وقيل: إن لبس من أجل أن يمسح فلا يجوز له المسح، وهو المعتمد في مذهب المالكية (4) .
_________
(1) قال في المبسوط (1/104) : " إذا أراد أن يبول - يعني المتطهر - فلبس خفيه، ثم بال، فله أن يمسح على خفيه، ثم قال: ولما سئل أبو حنيفة رحمه الله عن هذا، قال: لا يفعله إلا فقيه ". اهـ وانظر بدائع الصنائع (1/10) .
(2) مواهب الجليل (1/322) ، التاج والإكليل (1/471) .
(3) قال ابن حزم رحمه الله في المحلى (1/341) : " ومن تعمد لباس الخفين على طهارة ليمسح عليهما، أو خضب رجليه، أو حمل عليهما دواء، ثم لبسهما ليمسح على ذلك، أو خضب رأسه، أو حمل عليه دواء ثم لبس العمامة أو الخمار ليمسح على ذلك، فقد أحسن ".
(4) جاء في المدونة (1/41) : عن ابن القاسم، أنه سأل مالكاً عن رجل على وضوء، فأراد أن ينام، فقال: ألبس خفي حتى إذا أحدثت، مسحت عليه، فقال له مالك: هذا لا خير فيه. وسأل مالكاً أيضاً عن المرأة تخضب رجليها بالحناء، وهي على وضوء، فتلبس خفيها لتمسح عليهما إذا أحدثت، أو نامت، أو انتقض وضؤها. قال: لا يعجبني اهـ.
هذا نص مالك، فحمل بعض أصحابه عبارته على المنع، وعليه قالوا: إن لبس من أجل أن يمسح، فمسح أعاد أبداً. قال في مواهب الجليل (1/322) ، وفي شرح الخرشي (1/181) : وهو المشهور. وقال في الشرح الكبير (1/144) : " وهو المعتمد ". وقال الباجي في المنتقى شرح الموطأ (1/80) : "وأما من لبسهما ليمسح عليهما، فالمشهور من المذهب أنه لا يجزئ ".
بل إن المالكية ذهبوا إلى أبعد من هذا، فاشترطوا عدم الترفه بلبسه، قال في الشرح الصغير في ذكره شروط المسح على الخفين (1/156) : " الرابع: أن لا يكون مترفهاً بلبسه، كمن لبسه لخوف على حناء برجليه، أو لمجرد النوم به، أو لكونه حالماً، ولقصد مجرد المسح، أو لخوف برغوث، فلا يجوز له المسح عليه ".
ونص خليل عليه، فقال في مختصره (ص: 16) : " بلا ترفه ".(5/149)
وقيل: يكره له المسح، وهو قول في مذهب المالكية (1) .
وقيل: لا يستحب له أن يمسح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (2) .
دليل من قال بجواز المسح.
الدليل الأول:
قد جاء الإذن بالمسح على الخفين مطلقاً غير مقيد، وما جاء مطلقاً فهو على إطلاقه، لا يقيده إلا نص مثله من كتاب أو سنة أو إجماع، ولايوجد دليل يمنع الرجل من المسح إذا لبس الخفين على طهارة تامة، فمن
_________
(1) انظر مواهب الجليل (1/322) ، وذكر الباجي في المنتقى (1/80) : أنه قول أصبغ.
(2) ظاهر كلام الحنابلة أنه لا يستحب له، ونفي الاستحباب لا يدل على نفي الإباحة، وإن كان استدلالهم في قولهم: كالسفر ليترخص يقتضي المنع؛ لأنه إذا كان لا يجوز للمسافر أن يسافر ليفطر، ولو سافر من أجل الفطر حرم عليه الفطر، فكان مقتضى استدلالهم أنه لايجوز له أن يلبس ليمسح، ولكن الموجود في كتب الحنابلة نفي الاستحباب فقط، فليتأمل.
انظر الإنصاف (1/169) ، الفروع (1/158) . وقال في الفروع (2/57) قال صاحب المحرر: " أما من لا خف عليه، وأراد اللبس لغرض المسح خاصة، فلا يستحب له، كما لا يستحب إنشاء السفر لغرض الترخص، كذا قال " اهـ.(5/150)
منع فعليه الدليل، ولا دليل.
الدليل الثاني:
أن الإنسان إنما يلبس الخفين ليمسح عليهما، فالغرض من لبس الخف هو المسح عليه، مع ما في ذلك من تدفئة القدمين في البرد الشديد، والريح الشديدة، فطلب المسح غرض صحيح، ليس محرماً حتى يكون قصده مؤثراً في الحكم، فيمنع.
دليل من قال لا يمسح.
الدليل الأول:
القياس على من سافر ليفطر، فإذا كان من سافر ليفطر حرم عليه الفطر، فكذلك من لبس ليمسح.
وأجيب:
هناك فرق بين من سافر ليفطر، ومن لبس ليمسح؛ لأن الفطر الأصل فيه التحريم، جاز للمسافر لعلة السفر، فمن سافر طلباً للفطر فقد تحايل على إسقاط الواجب، والحيل على المحرمات لا يبيحها، وعلى الواجبات لا يسقطها، ولا يوجد أحد يسافر من أجل الفطر، بخلاف الخف، فإن الإنسان يلبسه من أجل أن يمسح عليه، والمسح ليس محرماً، فالغرض من لبس الخف هو المسح سواء قصد دفع المشقة أم لا، فقصد الفطر في السفر محرم، وقصد المسح في لبس الخف مباح، فافترقا.
الدليل الثاني:
أن القاعدة الفقهية تقول: إن تعاطي سبب الترخص لقصد الترخص(5/151)
لايبيح الرخص، والمسح رخصة، فلبس الخف من أجل المسح من هذا الباب.
وأجيب:
أولا: المسح على الخفين هل هو رخصة أو عزيمة، فيه خلاف، وقد سبق الكلام عليه.
ثانياً: على التسليم أن المسح رخصة، فإن الرخصة تارة يكون قصدها لا يسقط واجباً، ولا يرتكب محرماً، فيكون قصده صحيحاً، وليس محرماً، وتارة تكون الرخصة سبباً في إسقاط واجب، أو ارتكاب محرم، فيكون قصد الترخص لا يجوز، كالسفر من أجل الفطر، فالفطر محرم، فالتحايل على إسقاطه لا يجوز، وأما اللبس من أجل المسح فليس محرماً، لأن اللبس يقصد به المسح، فقصده غرض صحيح كما قدمنا، والله أعلم.
دليل من قال لا يستحب.
لعل الحنابلة أخذوه من حال النبي b بأنه لم يكن يتحرى لبس الخفين ليمسح عليهما، بل كان يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين، ويمسح إذا كان لابساً للخفين، وهذا دليل لا يرقى للمنع، ولذا قالوا: لا يستحب لبس الخفين ليمسح عليهما.
قال ابن القيم: " لم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما، ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخفين ليمسح عليهما " (1) .
_________
(1) زاد المعاد (1/192) .(5/152)
الفصل التاسع
حكم مسح من به حدث دائم(5/153)
[صفحة فارغة](5/154)
الفصل التاسع
حكم مسح من به حدث دائم
اختلف العلماء في من كان حدثه دائماً كالمستحاضة، ومن به سلس بول، ونحوهما:
فقيل: إذا لبس الخفين بعد طهارتهما، وقبل أن يسيل منها شيء، مسح كغيره، وإن توضأ، والحدث قائم، أو أحدث بعد الوضوء، وقبل اللبس مسح ما دام الوقت باقياً، ولم يكن له أن يمسح بعد خروج الوقت، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: المستحاضة ومن به حدث دائم كغيرهما له أن يمسح على خفيه، وهو المشهور من مذهب المالكية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: إن لبس الخف بعد وضوئه، فإن أحدث بغير حدثه الدائم وقبل أن يصلي به فريضة، مسح وصلى به فريضة واحدة، وما شاء من النوافل، وإن كان حدثه بعد صلاته تلك الفريضة، مسح لما شاء من النوافل، ولا يمسح به لصلاة أي فريضة. وهو مذهب الشافعية (4) .
_________
(1) المبسوط (1/105) ، شرح فتح القدير (1/148) ، حاشية ابن عابدين (1/453) .
(2) المدونة (1/144) ، الخرشي (1/177) ، مواهب الجليل (1/318) ،حاشية الدسوقي (1/141) .
(3) شرح الزركشي (1/383) ، الإنصاف (1/169) ، الفروع (1/168) ، كشاف القناع (1/114) .
(4) المجموع (1/543،544) ، روضة الطالبين (1/125) ، الحاوي الكبير (1/368) ، مغني المحتاج (1/64) .(5/155)
وقيل: لا يمسح مطلقاً من به حدث دائم، وهو وجه في مذهب الشافعية (1) والحنابلة (2) .
وسبب اختلافهم خلافهم في طهارة المستحاضة، ومن به حدث دائم مقيس عليها.
(52) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي b فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله b: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي".
قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (3) .
[زيادة قال هشام قال أبي الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (4) .
_________
(1) المجموع (1/543،544) .
(2) الإنصاف (1/169) ، الفروع (1/168) .
(3) صحيح البخاري (228) .
(4) سبب اختلاف العلماء في دم الاستحاضة، هل هو حدث أم لا؟ اختلافهم في قول هشام: " وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " هل هذه الزيادة موقوفة أو مرفوعة؟ وهل هي متصلة أو معلقة؟ وعلى تقدير كونها مرفوعة، هل هي محفوظة أو شاذة؟
فالحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
ورواه عن هشام جمع كثير على اختلاف يسير في متنه، وبعضهم يذكر هذه الزيادة وبعضهم لا يذكرها.
وقد جاءت الزيادة بالوضوء من طريق أبي معاوية عن هشام به.
واختلف على أبي معاوية فيه، فروى بعضهم الحديث عن أبي معاوية دون ذكر الزيادة، وبعضم رواه عن أبي معاوية مصرحاً برفعها، وبعضهم روى الزيادة عن أبي معاوية موقوفة على عروة.
وممن روى الزيادة أبو حمزة السكري، واختلف عليه أيضاً:
فروي عنه مرفوعاً، وروى عنه مرسلاً.
وروى الزيادة أيضاً حماد بن زيد، وحماد بن سلمة عن هشام، إلا أنهما ذكرا الوضوء ولم ينصا على التكرار لكل صلاة بل قال: " فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي " فكما أن الاغتسال يكفي فيه الامتثال مرة واحدة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ الحمادين، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه الوضوء.
وممن روى الزيادة أيضاً أبو عوانة (الوضاح بن عبد الله اليشكري) وأبو حنيفة واختلف عليهما فيه كما سيأتي.
هؤلاء هم الذين انفردوا بذكر الزيادة على الخلاف السابق، وخالفهم جمع كثير، وفيهم من هو أحفظ منهم، فقد روى الحديث عن هشام ستة عشر حافظاً ولم يذكروها، منهم مالك، ووكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وزهير، وسفيان بن عيينة، وأبو أسامة، والليث ابن سعد، وعمرو بن الحارث، وعبدة، ومحمد بن كناسة، ومعمر، وجعفر بن عون، والداروردي، وعبدالله بن نمير، وسعيد بن عبد الرحمن. هذا بعض من وقفت عليه ممن رواه عن هشام ولم يذكر الزيادة، فلو كان من ذكر هذه الزيادة لم يضطرب فيها لكانت شاذة، لأن الحكم عند أهل الحديث للأحفظ، وللأكثر عدداً على من دونهم، كما فصلت ذلك في بحث زيادة الثقة.
وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود كما سيأتي، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/72) : والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة " اهـ كلام ابن رجب.
فهنا فصل مالك الحديث المرفوع من الموقوف في روايته عن هشام، فحين روى المرفوع لم يورد قال هشام: قال أبي ثم توضئي لكل صلاة، وحين روى الموقوف لم يذكر المرفوع، والله أعلم. هذا الكلام المجمل حول الحديث، وأما تفصيله فإليك هو:
فالحديث كما ذكرت سابقاً مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وله طرق كثيرة إلى هشام.
الأول: أبو معاوية عن هشام.
وقد سقت لفظه في الباب، وقد أخرجه البخاري (228) : حدثنا محمد - يعني ابن سلام - حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة به.
وقال في آخره: قال - يعني هشاماً - قال أبي: " ثم توضئي لكل صلاة ".
ورواه الترمذي (125) : حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية، عن هشام به، قال أبو معاوية في حديثه: " وقال توضئي لكل صلاة حتى يجيىء ذلك الوقت ".
وأخرجه مسلم (333) : حدثنا يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام به، ولم يذكر الأمر بالوضوء.
وأخرجه النسائي (359) : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو معاوية به، بدون ذكر الزيادة.
وأخرجه الدارقطني (1/206) من طريق يعقوب بن إبراهيم، نا أبو معاوية به، وفيه: "فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم اغتسلي " فخالف الجماعة فإن لفظهم " فاغسلي عنك الدم وصلي ".
فصار الحديث يرويه يحيى بن يحيى كما عند مسلم، وإسحاق بن إبراهيم كما عند النسائي، ويعقوب بن إبراهيم كما عند الدارقطني، ثلاثتهم عن أبي معاوية دون ذكر الوضوء لكل صلاة.
ورواه هناد عن أبي معاوية كما في رواية الترمذي، وهي صريحة بالرفع.
ورواه البخاري عن محمد بن سلام عن أبي معاوية بذكر الزيادة موقوفة على عروة بسند ظاهره التعليق؛ لأنه قال بعد ذكر الحديث، وقال هشام قال أبي، ويحتمل أنه موصول بالإسناد نفسه.
وكذلك رواه إسماعيل بن قتيبة، عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية عند البيهقي (1/344) ، قال هشام: قال أبي: " ثم توضئي لكل صلاة ".
وإسماعيل بن قتيبة ثقة له ترجمة في السير (13/344) .
واختلف العلماء في هذه الزيادة، هل هي معلقة أم لا؟ وهل هي موقوفة أو مرفوعة؟
قال البيهقي في السنن (1/327) : وفيه زيادة الوضوء لكل صلاة، وليست بمحفوظة.
وقال أيضاً (1/344) : " والصحيح أن هذه الكلمة من قول عروة بن الزبير.
وقال الزيلعي في نصب الراية (1/201) : " وهذه اللفظة - أعني: توضئي لكل صلاة- هي معلقة عند البخاري، عن عروة في صحيحه "، ثم قال: " وقد جعل ابن القطان في كتابه مثل هذا تعليقاً " اهـ.
قلت: ذكر مسلم أنه ترك تخريجها في كتابه من طريق حماد، عن هشام، وكذلك أشار النسائي إلى أنها غير محفوظة، وسوف يأتي نقل كلامه عند الحديث على زيادة حماد.
وقال بعضهم: إنها مرفوعة.
قال الحافظ في الفتح (1/441) ح 228 وادعى بعضهم أن هذا معلق، وليس بصواب، بل هو بالإسناد المذكور، عن محمد، عن أبي معاوية، عن هشام، وقد بين ذلك الترمذي، وادعى آخر أن قوله: " ثم توضئي " من كلام عروة موقوفاً عليه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان من كلام عروة لقال: " ثم تتوضأ " بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في المرفوع وهو قوله: "فاغسلي " اهـ.
قلت: ظاهر نقل البخاري أنها موقوفة عليه، خاصة أن هشاماً لايروي الحديث إلا عن أبيه، ولا يشاركه شيخ آخر، فلماذا إذاً قال، قال هشام: قال أبي، ولو أن هشاماً يروي الحديث عن أكثر من شيخ لأمكن أن يقال: إن هشاماً أراد أن يفصل زيادة أبيه عن لفظ مشايخه الآخرين، فلما لم يكن له شيخ إلا أبوه، علمنا أن هشاماً أضاف إلى أبيه هذا الكلام، ولم يقصد رفعها، وكون هذه الكلمة جاءت صريحة في رواية الترمذي فهذا من الاختلاف على أبي معاوية، ويرجح كونها موقوفة أيضاً أن الإمام مالك رحمه الله روى الحديث عن هشام فذكر المرفوع، ولم يذكر الزيادة، وروى الزيادة عن هشام موقوفاً على عروة دون ذكر المرفوع، ففصل المرفوع عن الموقوف كما روى الحديث ابن أبي شيبة (1/119) عن أبي معاوية عن هشام عن عروة قال: " المستحاضة تغتسل وتتوضأ لكل صلاة" موقوفاً عليه.
كما رواه ابن أبي شيبة (1/119) عن حفص عن هشام به قرنه بأبي معاوية موقوفاً على عروة
فصار الحديث عن أبي معاوية، تارة يروى بدون زيادة الوضوء.
وتارة تروى عنه صريحة بالرفع.
وتارة تروى عنه موقوفة على عروة.
وهل السند معلق أو موصول ظاهره التعليق، وإن كنت أميل إلى أنه موصول بالإسناد نفسه، إلا أن الأمر بالوضوء لكل صلاة موقوف على عروة.
وأبو معاوية قد قال فيه أحمد: في غير حديث الأعمش مضطرب لايحفظها جيداً.
وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام؟ قال: فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي b.
وفي التقريب: ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره.
وقد جاءت الزيادة في غير طريق أبي معاوية كما في الطريق الآتي:
الطريق الثاني:
أبو حمزة، محمد بن ميمون السكري، عن هشام به.
فقد تابع أبو حمزة أبا معاوية بذكر الزيادة بالأمر بالوضوء لكل صلاة، لكن قد اختلف عليه فيه.
فرواه ابن حبان (1354) من طريق علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا أبو حمزة عن هشام بن عروة به، وفيه: " فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيها، فإذا أدبرت فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة ".
لكن رواه البيهقي (1/544) من طريق عبدالله بن عثمان، ثنا أبو حمزة، قال: سمعت هشاماً يحدث عن أبيه، أن فاطمة بنت أبي حبيش، قالت: " يا رسول الله: إني أستحاض فلا أطهر... " الحديث، وقال فيه: " فاغتسلي عند طهرك وتوضئي لكل صلاة ". فصار الحديث يروى عن أبي حمزة تارة مرسلاً، وتارة موصولاً.
وجاءت الزيادة من طريق الحمادين كما في الطريق التالي.
الطريق الثالث والرابع:
حماد بن سلمة، وحماد بن زيد عن هشام به.
فقد جاء ذكر الزيادة أيضاً من طريق حماد بن سلمة عن هشام، إلا أنه لم يأمرها بالوضوء لكل صلاة، بل أمرها بالوضوء عقب غسل الدم، فكما ذكرت سابقاً: أن غسل الدم يكفي في الامتثال مرة واحدة عند إدبار الحيضة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ حماد بن سلمة.
فقد أخرج الحديث الدارمي (779) : أخبرنا حجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأترك الصلاة؟ قال: لا؛ إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي ".
قال هشام: فكان أبي يقوله: تغتسل غسل الأول، ثم ما يكون بعد ذلك فإنها تطهر وتصلي.
قلت: في هذا الحديث دليل ظاهر على أن هشام يتبع الحديث المرفوع بكلام لأبيه موقوفاً عليه، فلا يبعد أن يكون بعض الرواة أدرج الموقوف في المرفوع، كما ذكر ابن رجب ونقلت كلامه سابقاً.
وقد اختلف على حماد بن سلمة:
فرواه حجاج بن منهال، عن حماد، عن هشام به، كما سبق بذكر الزيادة.
ورواه ابن عبدالبر في التمهيد كما في فتح البر (3/512) من طريق عفان، عن حماد بن سلمة به، وليس فيه " وتوضئي " وعفان من أثبت أصحاب حماد بن سلمة، فهو مقدم على غيره.
ولم ينفرد حماد بن سلمة بلفظ: " وتوضئي " دون قوله: " عند كل صلاة " بل تابعه على هذا حماد بن زيد، فقد أخرجه النسائي (364) أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد، عن هشام به، وفيه " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، وتوضئي وصلي؛ فإنما ذلك عرق، وليست بالحيضة. قيل له: فالغسل؟ قال: وذلك لايشك فيه ".
قال أبو عبدالرحمن (النسائي) : وقد روى هذا الحديث غير واحد عن هشام بن عروة ولم يذكر فيه " وتوضئي " غير حماد، والله تعالى أعلم.
وأخرجه مسلم (233) : حدثنا خلف بن هشام، حدثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة به ثم قال مسلم: وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره. اهـ.
يشير إلى زيادة الأمر بالوضوء، ولعله تركها للخلاف فيها. قال البيهقي في السنن (1/344) : وكأنه ـ يعني مسلماً ـ ضعفه لمخالفته سائر الرواة عن هشام. اهـ
فهذا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد روياه بلفظ: " فاغسلي عنك الدم، وتوضئي وصلي "، ولم يقل: " عند كل صلاة ". وهذا وجه من المخالفة.
الطريق الخامس:
أبو عوانة عن هشام به.
أخرجه ابن حبان (1355) بلفظ: " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المستحاضة فقال: تدع الصلاة أيامها، ثم تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ عند كل صلاة "، فيظهر أنه روى الحديث بالمعنى فاختصره.
الطريق السادس:
عن أبي حنيفة عن هشام به.
رواه أبو نعيم الفضل بن دكين، عن أبي حنيفة، واختلف على أبي نعيم به.
فرواه الطحاوي (1/102) عن فهد بن سليمان، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبوحنيفة رحمه الله، عن هشام به، بذكر الوضوء لكل صلاة.
وأخرجه ابن عبدالبر في التمهيد كما في فتح البر (3/510،511) من طريق محمد بن الحسين بن سماعه، قال: حدثنا أبو نعيم به، ولم يذكر زيادة الوضوء لكل صلاة.
وقد ذكرت الزيادة أيضاً عن كل من:
1 ـ يحيى بن سليم. أخرجها السراج كما في فتح الباري (306) ، والدارقطني معلقاً في العلل (5ـ ورقة 32) .
2 ـ الحجاج بن أرطاة. أخرجها الطبراني في الكبير (24/361) ح 361، 897.
3 ـ ومحمد بن عجلان. البيهقي (1/344) . وعلقه الدارقطني في العلل (5 - ورقة 32) . ثلاثتهم عن هشام به بنحوه. وهذه ضعيفة، بل هي أشد ضعفاً.
هذا ما وقفت عليه ممن ذكر الزيادة، ولا يخلو أحد من الرواة ممن ذكر هذه الزيادة إلا وقد خالف واختلف عليه فيها، فأبو معاوية تارة يذكرها، وتارة لايذكرها، وتارة مرفوعة، وتارة موقوفة.
وأبو حمزة السكري، تارة يروي الحديث مرسلاً، وتارة موصولاً.
وأما الحمادان فقد خالفا غيرهما بذكر الأمر بالوضوء، ولم يذكرا بأنه عند كل
صلاة، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه
هذه الزيادة، وكذا أبوحنيفة تارة يذكرها، وتارة لايذكرها، والذي لم يختلف عليه هو
أبو عوانة فقد ذكرها، وقد روى الحديث بالمعنى، وهو ثقة إلا أن مخالفته لاتحتمل،
فقد روى الحديث عن هشام أئمة ثقات أعلى قدراً، وأكثر عدداً فلم يذكروا هذه الزيادة وإليك هم:
الأول: إمام دار الهجرة مالك بن أنس.
أخرجه في الموطأ (1/61) ، ومن طريق مالك أخرجه البخاري (306) ، والنسائي (366) ، وأبو عوانة (1/319) ، والدارقطني (1/206) ، وابن حبان (1350) ، والبيهقي (1/329،321) ، والبغوي (324) .
الثاني: وكيع.
أخرجه أحمد (6/194) ، ومسلم (332) ، والترمذي (125) ، والنسائي (359) ، وابن ماجه (621) .
الثالث: زهير.
أخرجه البخاري (331) ، وأبو داود (282) .
الرابع: يحيى بن سعيد القطان.
عند أحمد (6/194) ، والدارقطني (1/206) .
الخامس: جعفر بن عون، عند الدارمي (774) ، وأبو عوانة في مسنده (1/319) ، وابن الجارود في المنتقى (112) .
السادس: معمر عند عبدالرزاق في المصنف (1165) .
السابع: عبدالعزيز بن محمد عند مسلم (333) .
الثامن والتاسع: جرير، وابن نمير عند مسلم (333) .
العاشر: عبدة عند الترمذي (125) ، والنسائي (359) .
الحادي عشر: سفيان بن عيينة.
عند البخاري (320) ، والحميدي (193) ، والبيهقي (1/327) .
الثاني عشر: أبو أسامة عند البخاري (325) ، والبيهقي (1/324) .
الثالث عشر: محمد بن كناسة كما عند البيهقي (1/324) .
الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر: سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، والليث ابن سعد، وعمرو بن الحارث كما عند أبي عوانة (1/319) ، والطحاوي (1/102،103) ، فهؤلاء ستة عشر حافظاً رووا الحديث عن هشام ولم يذكروا زيادة الوضوء لكل صلاة، وهو المحفوظ فيما أرى. والله أعلم.
وأما تحرير بعض ألفاظ الحديث والاختلاف بينهم:
فبعضهم يقول: " وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ".
وبعضهم يقول: " وإذا أدبرت ".
وبعضهم يقول: " فاغتسلي وصلي "، فقد خرجت هذه الألفاظ في بحث المستحاضة المعتادة المميزة من كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، وبينت الراجح منها، فارجع إليه غير مأمور.(5/156)
وعليه فالمالكية لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب. لأنه معفو عنه، خارج من غير إرادتها، فخروجه ليس من فعلها (1) ، وهو الراجح.
_________
(1) قال صاحب مواهب الجليل (1/291) : " طريقة العراقيين من أصحابنا، أن ما خرج على وجه السلس لا ينقض الوضوء مطلقاً وإنما يستحب منه الوضوء ". ثم قال:
" والمشهور من المذهب طريقة المغاربة أن السلس على أربعة أقسام:
الأول: أن يلازم، ولا يفارق، فلايجب الوضوء، ولا يستحب؛ إذ لا فائدة فيه فلا ينتقض وضوء صاحبه إلا بالبول المعتاد.
الثاني: أن تكون ملازمته أكثر من مفارقته، فيستحب الوضوء إلا أن يشق ذلك عليه لبرد أو ضرورة فلا يستحب.
الثالث: أن يتساوى إتيانه ومفارقته، ففي وجوب الوضوء واستحبابه قولان "
ثم قال:
والرابع: " أن تكون مفارقته أكثر، فالمشهور وجوب الوضوء خلافاً للعراقيين فإنه عندهم مستحب " اهـ.
وانظر حاشية الدسوقي (1/116) وانظر بهامش الصفحة التاج والإكليل.
وانظر الخرشي (1/152) ، فتح البر في ترتيب التمهيد (3/508) ، الاستذكار (3/225 - 226) القوانين الفقهية لابن جزي (ص29) .(5/164)
وأما الحنفية (1) والحنابلة (2) فيرون وجوب الوضوء لوقت كل صلاة، فحملوا قوله: " وتوضئي لكل صلاة " أي لوقت كل صلاة.
وأما الشافعية فحملوا قوله: " وتوضئي لكل صلاة " أي لكل فريضة مؤداة أو مقضية، وأما النوافل فتصلي ما شاءت (3) .
وأما ابن حزم فأوجب الوضوء لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج (4) .
وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، وقد بسطت أدلتها في كتابي
_________
(1) الاختيار لتعليل المختار (3/508) حاشية ابن عابدين (1/504) البحر الرائق (1/226) مراقي الفلاح (ص60) شرح فتح القدير (1/181) تبيين الحقائق (1/64) بدائع الصنائع (1/28) .
(2) المغني (1/421) شرح منتهى الإرادات (1/120) كشاف القناع (1/215) الإنصاف (1/377) الفروع (1/279) شرح الزركشي (1/437) .
(3) المجموع (1/543، 363) ، مغني المحتاج (1/111) ، روضة الطالبين (1/147، 125) .
(4) المحلى (مسألة: 168) .(5/165)
الحيض والنفاس رواية ودراية، فارجع إليه غير مأمور.
إذا عرفنا هذا نأتي إلى استدلالهم في مسألة المسح على الخفين
دليل من قال يمسح من به حدث دائم كغيره.
الدليل الأول:
قالوا: إن الطهارة كاملة في حق من به حدث دائم، وإذا كانت كذلك، وقد لبس الخفين على طهارة فله أن يمسح، ولا يوجد دليل يمنع من به حدث دائم من المسح على الخفين.
الدليل الثاني:
إذا كان خروج الحدث لم يؤثر في نقض طهارته، وجاز له أن يستبيح بتلك الطهارة الصلاة، فكونه يستبيح به المسح على الخفين من باب أولى.
قال زفر: لما كان سيلان الدم عفواً في حقها، بدليل جواز الصلاة معه، كان اللبس حاصلاً على طهارة.
الدليل الثالث:
من المعلوم في قواعد الشريعة أن الإنسان لا يسأل إلا عن فعله، الذي نواه وأراده، ولذلك لما كان الصبي ليس له قصد صحيح اعتبر عمده خطأ، فكذلك المستحاضة ومن به حدث دائم مع حدثه، لم ينو الحدث، ولم يرده، وهو مغلوب عليه، فكأنه لم يوجد، فالشرع حكيم، ولا يؤخذ المكلف إلا بما فعل قاصداً لذلك الفعل.(5/166)
الدليل الرابع:
الحدث لا يبطل المسح حتى مع الرجل الصحيح، فكذلك من به حدث دائم، فكوننا نحكم عليه أنه محدث بعد خروج الوقت لا يبطل مسحه ما دام قد لبس الخف، وهو محكوم بطهارته.
الدليل الخامس:
قال ابن عقيل: ولأنها مضطرة إلى الترخص، وأحق من يترخص المضطر.
دليل من قال يمسح ما لم يخرج الوقت.
قال في المبسوط: سيلان الدم عفو في الوقت لا بعده، حتى تنتقض الطهارة بخروج الوقت، وخروج الوقت ليس بحدث، فكان اللبس حاصلاً على طهارة معتبرة في الوقت لا بعد خروج الوقت، فلهذا كان لها أن تمسح في وقت الصلاة، لا بعد خروج الوقت.
الدليل الثاني:
قالوا: بخروج الوقت عاد إليها الحدث السابق المتقدم على لبس الخف، فتكون كأنها لبست الخف، وهي محدثة، وقاسوها بمن تيمم، ثم لبس خفيه، ثم وجد الماء، فإنه بوجود الماء رجع إليه حدثه السابق المتقدم على لبس الخف، فوجب نزعه، والذي جعلهم يقولون برجوع الحدث السابق أن خروج الوقت على المستحاضة ليس حدثاً في ذاته، وإنما حكم لها برجوع حدثها السابق المتقدم على تلك الطهارة، والله أعلم.(5/167)
وأجيب:
بأن هذا القول لا يصح إلا بعد التسليم بصحة زيادة: " وتوضئي لكل صلاة " وأن المراد منه: " وتوضئي لوقت كل صلاة " وأنه بخروج الوقت يعود لها الحدث السابق على الطهارة ولبس الخف، وليس اعتباراً للحدث القائم الذي لم ينقطع، وكل هذه الأمور محل نزاع، وليس إثباتها بظاهر.
دليل من قال يمسح فريضة واحدة.
قالوا: بأن طهارتها مقصورة على استباحة فريضة واحدة ونوافل، وهي محدثة بالنسبة لما زاد على ذلك، فكأنها لبست الخفين على حدث، بل لبست على حدث حقيقة، فإنه طهارتها لا ترفع الحدث عندهم.
وهذا أضعف الأقوال، لأنه فيه بعض التناقض؛ إذ كيف يسمح لها أن تصلي بتلك الطهارة نوافل، ولا تصلي بها فرائض، فإن كانت حين صلت تلك النافلة محدثة، لم تصح النافلة منها، وإن كانت طاهرة صحت، وصحت منها الفريضة، فما صح في النفل صح في الفرض إلا بدليل، ولا دليل هنا على التفريق.
دليل من قال لا تمسح مطلقاً.
قالوا: لأنها محدثة، وإنما جوزت لها الصلاة مع الحدث الدائم للضرورة، ولا ضرورة للمسح على الخفين، بل هي رخصة بشرط لبسه على طهارة كاملة، ولم توجد مع من حدثه دائم.
قلت: بل هي أولى بالمراعاة من إنسان لا يجب عليه الوضوء إلا إذا(5/168)
أحدث، بينما أنتم توجبون عليها الوضوء لكل صلاة، بل إن الشرع رخص لها بجمع الصلوات التي تجمع، ولم يرخص لغيرها إلا بسبب.
القول الراجح:
بعد استعراض أدلة كل قول، يتبين لي أن مذهب المالكية والحنابلة أقوى الأقوال، وأن من كان به حدث دائم يمسح كغيره، وذلك لقوة أدلته، وللجواب عن الأدلة السابقة، ولكون المبتلى بهذا البلاء أحوج من غيره إلى الرخصة، ولعدم الدليل الدال على منع المستحاضة ومن به حدث دائم من المسح على الخفين، والله أعلم.(5/169)
[صفحة فارغة](5/170)
الباب الثاني
في شروط المسح على الخفين(5/171)
[صفحة فارغة](5/172)
الشرط الأول
في طهارة الخف(5/173)
[صفحة فارغة](5/174)
الشرط الأول
في طهارة الخف
يشترط أن يكون الخف طاهراً، وضد الطاهر النجس.
والنجس تارة يكون نجساً، وتارة يكون متنجساً.
فإن كانت عينه نجسة كما لو كان الخف من جلد خنزير فحكي الإجماع بأنه لا يمسح عليه.
قال في مواهب الجليل: " لا يمسح على خف من جلد ميتة، لو دبغ على المشهور... " (1) .
وهذا بناء على أن الدباغ لا يطهر.
وقال النووي: لا يصح المسح على خف من جلد كلب أو خنزير، أو جلد ميتة لم يدبغ، وهذا لا خلاف فيه (2) .
وقال في الإنصاف: ومنها طهارة عينه - يعني الخف - إن لم تكن ضرورة بلا نزاع (3) .
فهذا النووي من الشافعية والمرداوي من الحنابلة ينقلان الإجماع على أنه لا يجوز المسح على الخف النجس في غير ضرورة، واستدلوا بالمنع:
أولاً: ما حكي من الإجماع.
_________
(1) مواهب الجليل (1/320) ، وذكر في الشرح الصغير (1/154) من شروط المسح على الخف أن يكون طاهراً. وانظر حاشية الدسوقي (1/143) .
(2) المجموع (1/539) .
(3) الإنصاف (1/181) .(5/175)
ثانياً: أن الخف بدل عن الرجل، ولو كانت الرجل نجسة لم تطهر من الحدث مع بقاء النجاسة.
والصحيح في مسألة جلد الميتة إذا دبغ أنه طاهر، وليس هذا موضع بحثه.
وإن كان الخف متنجساً لا نجساً،
فقيل: لا يمسح عليه، فالمتنجس كالنجس، وهو مذهب المالكية (1) ،
والشافعية (2) .
قال النووي: وكذا لا يصح المسح على خف أصابته نجاسة إلا بعد غسله؛ لأنه لا يمكن الصلاة فيه (3) .
وأجاز الحنابلة المسح على الخف المتنجس، ويستبيح به مس المصحف، ولا يصلي به إلا بعد غسله إن تمكن (4) .
وصحح الحنابلة هنا الطهارة مع أنهم يمنعون الطهارة قبل الاستنجاء، وفرقوا بينهما: بأن النجاسة الموجبة للاستنجاء قد أوجبت طهارتين الحدث والخبث بخلاف الطهارة هنا، والصحيح أنه لا فرق بينهما.
_________
(1) حاشية الخرشي (1/179) ، وقال في الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/143) : بشرط جلد طاهر أو معفو عنه، لا نجس ومتنجس اهـ.
ونقل الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير اعتراض الرماصي، وذلك لأن الطهارة من النجاسة عند المالكية ليست شرطاً لصحة الصلاة، فليتأمل.
(2) مغني المحتاج (1/65) ، المجموع (1/539) .
(3) المجموع (1/539) .
(4) كشاف القناع (1/116) .(5/176)
والراجح صحة الطهارة إذا مسح على خف متنجس؛ لأن طهارة الحدث لا يشترط لها أن يكون البدن طاهراً، وما دام أن النجاسة لا تمنع وصول الماء إلى العضو الواجب غسله أو مسحه، فطهارته صحيحة، ولولا ما حكي في المسألة من إجماع في الخف إذا كان نجس العين لقلت بصحة طهارته أيضاً، ويجوز له فيها مس المصحف على القول بوجوب الطهارة لمسه، وفي المسألة خلاف.
فإذا حضرت الصلاة وجب عليه تطهير الخف أو خلعه، والدليل على أنه لا يجوز الصلاة في الخف المتنجس،
(53) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري،
أن رسول الله b صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (1) .
[الحديث إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المسند (3/20، 92) .
(2) أبو نعامة، ثقة. روى له مسلم.
وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا بأس به. انظر الجرح والتعديل (6/41) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/155) .
وأبو نضرة العبدي. روى له مسلم.
وقال أحمد: ما علمت إلا خيراً. ووثقه يحيى بن معين، وأبو زرعة. انظر الجرح والتعديل: (10/268) .
ووثقه النسائي كما في لسان الميزان (7/398) .
وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، كثير الحديث، وليس كل أحد يحتج به. انظر الطبقات الكبرى (7/208) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/420) وقال: كان من فصحاء الناس، فلج في آخر عمره، وكان ممن يخطي.
واعتمد الذهبي كلام ابن حبان، فقال في الكاشف (6532) : " فصيح بليغ مفوه ثقة يخطي. وفي التقريب ثقة. وباقي رجاله مشهورون.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه الدارمي (1378) ، وأبو يعلى (1194) ، والبيهقي في السنن (2/402) من طرق عن حماد بن سلمة به. وصححه الحاكم (1/260) ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو داود (650) من طريق حماد بن زيد، عن أبي نعامة به. ولعله خطأ؛ فإني لم أقف على أبي نعامة من شيوخ حماد بن زيد. والله أعلم.
أما حديث أبي هريرة عند أبي داود (385) : " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور " فإنه حديث ضعيف قد اضطرب إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد. فالأوزاعي تارة يرويه عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.
وتارة يرويه منقطعاً، فيقول: نبئت أن سعيد بن أبي سعيد كما عند أبي داود (386) .
وتارة يرويه متصلاً دون واسطة عن سعيد بن أبي سعيد كما عند ابن حبان (1403) . وتارة يرويه عن محمد بن الوليد، عن سعيد بن أبي سعيد. ويجعله من مسند عائشة. كما عند أبي داود (1403) .
واختلف فيه أيضاً على سعيد بن أبي سعيد، فتارة يرويه عن أبيه، عن أبي هريرة. وتارة يرويه عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة. كما في سنن أبي داود (386،387) .
قال ابن عبد البر في التمهيد (13/103) :" حديث مضطرب الإسناد، لا يثبت، اختلف في إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد اختلافاً يسقط الاحتجاج به " اهـ، فيكفي الاحتجاج بحديث أبي سعيد.(5/177)
وحكم الخفين حكم النعلين، فإذا كان لا يصلي في نعليه إذا كان بهما أذى، فكذلك لا يصلي في خفيه إذا كان بهما خبث، إلا أن صحة المسح منفكة عن منع الصلاة بهما، فإذا حضرت الصلاة خلع خفيه،
ولا يعيد المسح عليهما لصحته، والله أعلم.
وقال في الإنصاف: " لو مسح على خف طاهر العين، ولكن بباطنه أو قدمه نجاسة لا يمكن إزالتها إلا بنزعه جاز المسح عليه، ويستبيح بذلك مس المصحف والصلاة إذا لم يجد ما يزيل النجاسة وغير ذلك اهـ (1) .
كما أنه إذا اضطر إلى لبس الخف النجس عيناً كما لو كان في بلاد الثلوج، وخشي سقوط أصابعه بخلعه، ففي مذهب الحنابلة وجهان:
الأول: له أن يمسح عليه؛ لأنه لما أذن له في لبسه، جاز له أن يمسح عليه؛ ولأنه كالجنب إذا اغتسل، وعليه نجاسة لا تمنع وصول الماء ارتفع حدثه.
ورجحه ابن تيمية، قال: إن الخف الذي يتضرر بنزعه في حكم الجبيرة، وضرره يكون بأشياء، إما أن يكون في ثلج وبرد عظيم إذا نزعه ينال رجليه ضرر، أو يكون الماء بارداً لا يمكن معه غسلهما، فإن نزعهما تيمم، فمسحهما خير من التيمم، ووجه ترجيح المسح على التيمم، أن المسح يكون بالماء، والتيمم بالتراب، والمسح يكون على العضو المتعذر غسله، والتيمم يكون على عضوين فقط: الوجه واليدين، وليس على القدم، فإذا جاز له ترك طهارة الماء إلى التيمم، فلأن يجوز ترك طهارة الغسل إلى المسح أولى.
_________
(1) الإنصاف (1/182) .(5/179)
الوجه الثاني: هو المشهور من مذهب الحنابلة أنه يتيمم، ولا يمسح.
اختاره ابن عقيل وابن عبدوس والمجد؛ لأنه منهي عنه في الأصل، وهذه ضرورة نادرة (1) .
كما أن المشهور من مذهب الحنابلة أنه يصلي بالخف النجس، ويعيد ما صلى؛ لأنه صلى، وهو حامل للنجاسة، والطهارة من النجاسة شرط في صحة الصلاة عندهم، والراجح أنه لا يعيد؛ لأنه فعل ما أمره الله به بحسب وسعه وطاقته، فلا إعادة عليه، ولم يوجب الله على العباد الصلاة مرتين إلا بتفريط. والله أعلم.
_________
(1) انظر المبدع (1/146) ، والإنصاف (1/181) .(5/180)
الشرط الثاني
هل يشترط أن يكون الخف مباحاً؟(5/181)
[صفحة فارغة](5/182)
الشرط الثاني
هل يشترط أن يكون الخف مباحاً؟
الخف المباح في مقابل الخف المحرم، والمحرم نوعان:
تارة يكون التحريم لحق الله، كما لو لبس الخف، وهو مُحْرِم، أو كان الخف من حرير، وهو رجل.
وتارة يكون التحريم لحق الآدمي كالخف المغصوب والمسروق.
وقد اختلف العلماء في المسح على الخف المحرم على أقوال:
فقيل: يمسح عليه مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) ، وعليه أكثر الشافعية (2) .
وقيل: لا يجوز المسح عليه مطلقاً، سواء كان التحريم لحق الله، أو لحق الآدمي، وهو المشهور عند الحنابلة (3) ، واختاره بعض الشافعية (4) .
وقيل: التفريق بين ما كان محرماً لحق الله، وحق الآدمي، هو مذهب المتأخرين من المالكية (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/47) ، العناية شرح الهداية (1/47،48) .
(2) المجموع (1/538،539) .
(3) تصحيح الفروع (1/164) مطبوع مع الفروع. وقال في الإنصاف (1/180) : "ومنها - يعني: من شروط المسح - إباحته، فلو كان مغصوباً أو حريراً، أو نحوه لم يجز المسح عليه على الصحيح من المذهب والروايتين ". الخ كلامه.
(4) المجموع (1/538،539) .
(5) ذكر المالكية بأن المحرم لا يمسح إذا لبس الخف، هو عاص بلبسه، وأما المغصوب فذكر خليل في متنه: " وفي خف غصب تردد ". قال العدوي في حاشيته معلقاً (1/181) : " أي تردد في الحكم لعدم نص المتقدمين عليه " اهـ.
قلت: وأما المتأخرون فلهما قولان:
الأول: المنع قياساً على ما كان محرماً لحق الله.
الثاني: الإجزاء مع الإثم. قال في الشرح الكبير (1/144) : " وهو المعتمد، قياساً على الماء المغصوب.
ورجحه الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/156) .
وقال في التاج والإكليل (1/471) : " قال ابن عرفة: لا نص في الخف المغصوب، وقياسه على المُحْرِم - يعني لبس الرجل المحرم في النسك الخفين - يرد بأن حق الله آكد، وقياسه على مغصوب الماء يتوضأ به، والثوب يستتر به، والمدية يذبح بها والكلب يصاد به، والصلاة في الدار المغصوبة يرد بأنها عزائم " اهـ.(5/183)
دليل من قال لا يجوز المسح.
القياس على الصلاة في الثوب المسبل، فإذا كانت الصلاة في ثوب حرام لا تصح، فكذلك المسح على شيء محرم لا يصح
(54) فقد روى أحمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال، ثنا أبان وعبدالصمد، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار،
عن بعض أصحاب النبي b قال: بينما رجل يصلي، وهو مسبل إزاره، إذ قال له رسول الله b: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال له رسول الله b: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال: ما لك يا رسول الله، ما لك أمرته يتوضأ؟ ثم سكت، قال: إنه كان يصلي، وهو مسبل إزاره، وإن الله عز وجل لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره (1) .
_________
(1) المسند (4/67) .(5/184)
[حديث ضعيف، ومتنه منكر] (1) .
_________
(1) فيه أبو جعفر المدني الأنصاري، لم يرو عنه سوى يحيى بن أبي كثير.
قال الدارمي: أبو جعفر هذا رجل من الأنصار.
وقال ابن القطان: مجهول.
وفي التقريب: مقبول، ومن زعم أنه محمد بن علي بن الحسين فقد وهم. اهـ
قلت: قال ابن حبان في صحيحه هو محمد بن علي بن الحسين. فتعقبه الحافظ في التهذيب، وقال: ليس هذا بمستقيم؛ لأن محمد بن علي لم يكن مؤذناً، ولأن أبا جعفر هذا قد صرح بسماعه من أبي هريرة في عدة أحاديث، وأما محمد بن علي بن الحسين فلم يدرك أبا هريرة فتعين أنه غيره. تهذيب التهذيب (12/58) .
واختلف أيضاً في إسناده فرواه أبان، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي b، وقيل عن أبي هريرة.
وخالفه حرب بن شداد، في سنن البيهقي (2/241) فرواه عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن أبا جعفر المدني حدثه، أن عطاء بن يسار حدثه، أن رجلاً من أصحاب رسول الله b حدثه، فذكره، فزاد في الإسناد إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة.
وكما صرح يحيى بن أبي كثير بالتحديث من إسحاق، قد صرح أيضاً بالتحديث من أبي جعفر كما في بغية الباحث في زوائد مسند الحارث (138،573) ، فلعله سمعه منهما.
وقال النووي: على شرط مسلم، انظر رياض الصالحين (ص: 358) ، ولم يصب.
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/92) : " وفي إسناده أبو جعفر المدني، إن كان محمد بن علي بن الحسين، فروايته عن أبي هريرة مرسلة له، وإن كان غيره فلا أعرفه".
[تخريج الحديث]
الحديث رواه أحمد أيضا (5/379) بالإسناد نفسه.
ورواه النسائي في الكبرى (9703) عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن هشام الدستوائي به مختصراً بلفظ: " لا تقبل صلاة رجل مسبل إزاره ".
وأخرجه أبو داود (638،4086) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة به. فسمى الصحابي.
ورواه البيهقي في السنن (2/241) من طريق أبي إسماعيل الترمذي، ثنا موسى بن إسماعيل به.
ورواه الحارث في مسنده كما في بغية الباحث (138،573) حدثنا يزيد بن هارون، ثنا هشام الدستوائي به.(5/185)
وجه النكارة فيه؛ إذا كانت الصلاة لا تقبل من أجل الإسبال، فلماذا يطلب منه إعادة الوضوء، وهو لم يحدث، ما بال الوضوء؟!
ولماذا لم يبلغه بأن يرفع إزاره، فقد يكون الرجل جاهلاً، والبلاغ تعليمه ما أخطأ فيه، لا أن يحيله على أمر قد أحسنه، فما إعادته للوضوء إلا عبث، حتى تجديد الوضوء لا يشرع في هذه الصورة؛ لأنه ما إن فرغ من وضوئه حتى طلب منه أن يعيده، لا لنقص في الوضوء، ولكن لأن الله لايقبل صلاة المسبل إزاره!! .
الدليل الثاني:
أن المسح رخصة على قول، وإذا كان رخصة فإن العاصي لا ينبغي أن يرخص له، قال تعالى:
{فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (1) .
والباغي عندهم: الخارج على الإمام، والعادي: هو المحارب وقاطع الطريق، فإذا كان الله لم يبح أكل الميتة للمضطر إذا كان عاصياً، فغيرها من الرخص من باب أولى.
_________
(1) البقرة، آية: 173.(5/186)
وأجيب:
بأن المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات، وهو يجد عنها مندوحة، فليس في الآية دليل على ما ذكرتم.
الدليل الثالث:
إذا صححنا المسح على الخف المحرم نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله b.
(55) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعاً عن أبي عامر، قال عبد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبدالله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد، عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال:
أخبرتني عائشة أن رسول الله b قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (1) .
ومعنى رد: أي مردود عليه، والمسح على الخف المحرم خلاف أمر الله ورسوله b.
وأجيب:
بأن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، والله أعلم.
_________
(1) صحيح مسلم (1718) .(5/187)
الدليل الرابع:
جاء في المجموع: " المسح إنما جاز لمشقة النزع، وهذا عاص بترك النزع، واستدامة اللبس، فينبغي ألا يعذر " (1) .
التعليل الخامس:
قال بعض الشافعية: تجويز المسح على الخف المغصوب يؤدي إلى إتلافه بالمسح عليه، واستعماله بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة، فإن الصلاة فيها والجلوس سواء.
ورده الروياني من الشافعية، فقال: هذا غلط؛ لأنه إذا توضأ بالماء فقد أتلفه، ولم يمنع ذلك الصحة (2) .
قلت: هذا التنظير على مذهب الشافعية.
أدلة القائلين بصحة المسح.
عدم الدليل المقتضي لفساد الطهارة، فهذا قد تطهر الطهارة الشرعية بغسل ما يجب غسله، ومسح ما يجب مسحه، فطهارته صحيحة،
ولا يحكم ببطلانها إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل هنا.
الدليل الثاني:
إن المنع في المسح على الخف لا يختص بالطهارة، فالغاصب مأذون له في المسح في الجملة، والمنع عارض أدركه من جهة الغصب، لا من جهة
_________
(1) المجموع (1/538) .
(2) المجموع (1/538) .(5/188)
الطهارة، فأشبه غاصب ماء الوضوء، ومدية الذبح، وكلب الصيد، فيأثمون، ويصح فعلهم.
والقاعدة الشرعية: أن العبادة الواقعة على وجه محرم:
إن كان التحريم عائداً إلى ذات العبادة، كصوم يوم العيد، لم تصح العبادة.
وإن كان التحريم عائداً إلى شرطها على وجه يختص بها كالصلاة بالثوب النجس على قول بأن الطهارة من النجاسة شرط، لم تصح إلا لعاجز أو عادم على الصحيح.
وإن كان التحريم عائداً إلى شرط العبادة، ولكن لا يختص بها، ففيها روايتان:
فقيل: يصح، وهو الأرجح.
وقيل: لا يصح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة.
وإن كان التحريم عائداً على أمر خارج لا يتعلق بشرطها، كالوضوء من الإناء المحرم، فالراجح صحة العبادة، وعليه الأكثر (1) .
وهنا المنع ليس عائداً على شرط العبادة التي هي الطهارة، وإنما عائد على أمر خارج، وهو الغصب، فهو وصف عارض لا تعلق له بالطهارة، فيصح المسح، والله أعلم.
_________
(1) انظر بتصرف القاعدة التاسعة من قواعد ابن رجب الفقهية (ص: 12) ، وفي مسألة اعتبار الطهارة من النجاسة شرطاً لصحة الصلاة خلاف بين أهل العلم، وإن كنت أميل إلى مذهب المالكية، وأنها الطهارة منها واجبة، وليست شرطاً، وهذا مذهب الشوكاني رحمه الله تعالى.(5/189)
[صفحة فارغة](5/190)
الشرط الثالث
خلاف العلماء في اشتراط كون الخف
ساتراً لما يجب غسله(5/191)
[صفحة فارغة](5/192)
الشرط الثالث
خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساتراً لما يجب غسله
إذا كان الخف فيه فتق أو خرق، نظر،
فإن كان الخرق فوق الكعب جاز المسح عليه بلا خلاف (1) .
وإن كان الخرق في محل الفرض، فاختلفوا:
فقيل: يمسح عليه مطلقاً ما أمكن المشي فيها، وهو قول سفيان الثوري، وإسحاق، وابن المبارك، وابن عيينة (2) ، واختاره ابن تيمية (3) .
وقيل: لا يمسح عليه مطلقاً، ما دام أنه يظهر منه شيء، وهو القول الجديد في مذهب الشافعية (4) ، والمشهور عند الحنابلة (5) .
وقيل: التفريق بين الخرق اليسير والخرق الكبير، وهو مذهب
_________
(1) حكى النووي الإجماع على ذلك في المجموع (1/523) .
(2) نقله عنهم ابن المنذر في الأوسط (1/448) .
(3) مجموع الفتاوى (21/172) .
(4) الحاوي (1/362) ، والمجموع (1/522) ، ومغني المحتاج (1/65) ، وروضة الطالبين (1/125) .
(5) جاء في مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 16) : " سمعت أحمد سئل عن الخف المخرق يمسح عليه؟ قال: إذا استبانت رجله فإنه لا يجزئه، وذلك أنه وجب عليه غسلهما ". وانظر مسائل ابن هانئ (1/18) ، وفي مسائل ابنه صالح (1316) : " قلت: الخف إذا كان مخرقاً يمسح عليه؟
قال: إذا بدا من القدم فلا يمسح؛ إلا أن يكون عليه جورب، أو يكون خرق ينظم على القدم " اهـ وانظر الفروع (1/159) ، المبدع (1/144) ، الإنصاف (1/181،182) .(5/193)
الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، على خلاف بينهم في حد اليسير والكثير (3) .
دليل من قال: لا يجوز المسح على الخف المخرق.
قالوا: إن القدر الذي ظهر من القدم فرضه الغسل، والجمع بين المسح والغسل لا يجوز.
واعترض:
بأننا لا نسلم المقدمة، حتى نسلم النتيجة، فأين الدليل على أن ماظهر فرضه الغسل، قال ابن تيمية: " قول القائل: إن ما ظهر فرضه الغسل ممنوع، فإن الماسح على الخف لا يستوعبه بالمسح كالمسح على الجبيرة، بل يمسح أعلاه دون أسفله وعقبه، وذلك يقوم مقام غسل الرجل، فمسح بعض الخف كاف عما يحاذي الممسوح، وما لا يحاذيه، فإذا كان الخرق في العقب لم يجب غسل ذلك الموضع، ولا مسحه، ولو كان على
_________
(1) بدائع الصنائع (1/11) ، حاشية ابن عابدين (1/459) ، تبيين الحقائق (1/49) ، مراقي الفلاح (ص: 53) .
(2) حاشية الخرشي (1/180) ، مواهب الجليل (1/320) ، حاشية الدسوقي (1/143) .
(3) ذهب الحنفية إلى أنه إن بدا منه ثلاثة أصابع، فهو كثير، وإن بدا منه أقل فهو قليل، وتجمع الخروق من خف واحد، لا من الخفين لانفصال أحدهما عن الآخر، وهل تقدر بأصابع الرجل أم اليد قولان في مذهبهم.
وأما المالكية فاليسير عندهم ما كان دون الثلث، فإن بدا من الخرق ثلث القدم فأكثر لم يجز المسح عليه، وإن كان ما يبدو أقل من الثلث، فهو قليل، ويجوز المسح عليه، انظر العزو إلى كتبهم.(5/194)
ظهر القدم لم يجب مسح كل جزء من ظهر القدم.. الخ كلامه رحمه الله (1) .
وأما قولكم: إنه لا يجتمع مسح وغسل في عضو واحد فهذا منتقض بالجبيرة إذا كانت في نصف الذراع، فإنك تغسل الذراع، وتمسح الموضع الذي فيه الجبيرة، فاجتمع مسح وغسل في عضو واحد، على أننا لا نرى في الخف المخرق أن يغسل ما ظهر، بل يكفي مسح ظاهر القدم سواء كان مخرقاً أو مستتراً، ولا دليل لمن قال: يغسل ما ظهر، ويمسح ما استتر.
الدليل الثاني:
أن الأصل وجوب غسل الرجلين، قال تعالى {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأجلكم إلى الكعبين} (2) .
فكان مطلق الآية يوجب غسل الرجلين إلا ما قام دليله من المسح على خفين صحيحين.
وأجيب:
بل الإذن مطلق لكل ما يسمى خفاً، فأين الدليل على كون الخفين صحيحين، فهذا هو موضع النزاع، فلو كان الدليل يدل على اشتراط كون الخفين صحيحين لم نختلف معكم، ولكن لا يوجد دليل يدل على اشتراط ذلك، والله أعلم.
الدليل الثالث:
قالوا: إذا انكشفت إحدى الرجلين لم يجز المسح على الأخرى، فكذلك إذا انكشف بعض القدم لم يجز المسح على الباقي من باب أولى؛ لأنه إذا كان انكشاف إحدى الرجلين يؤثر على الأخرى، وهي منفصلة عنها، فكونه يؤثر في الرجل نفسها المتصلة ببعض من باب أولى.
وأجيب:
ليست العلة هي انكشاف القدم، ولكن العلة هي النهي عن المشي في نعل واحدة، ومثله الخف، فإن كان ترك إحدى القدمين لعلة، فلا مانع من المسح على الأخرى،
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/213) .
(2) المائدة، آية: 6.(5/195)
وسوف يأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
أدلة القائلين بجواز المسح على الخف المخرق.
الدليل الأول:
أن النبي b مسح على الخفين، وأذن بالمسح، وإذنه b عام مطلق لم يشترط فيه كونه سليماً من العيوب، فكلما وقع عليه اسم خف، فالمسح عليه جائز على ظاهر الأخبار، ولا يستثنى من الخفاف شيء إلا بسنة أو إجماع، وتقييد ما أطلقه الله ورسوله b لا يجوز كإطلاق ما قيده الله ورسوله b سواء بسواء.
الدليل الثاني:
اشتراط كون الخف سليماً من الخروق هذا الشرط هل هو في كتاب الله، أو في سنة رسول الله b، أو من عمل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن لم يكن، فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط،
الدليل الثالث:
معظم الصحابة فقراء، وخفافهم لا تخلو من فتوق أو خروق، ولو(5/196)
كان الفتق والخرق مؤثراً لوجب على النبي b أن يبينه لهم؛ لأن الأمر متعلق بالصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام العملية، فلما لم يبينه لهم علم أن الفتق والخرق لا يمنع من المسح. وهذا من أوضح الأدلة.
الدليل الرابع:
فعل الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن تيمية: " أصحاب النبي b الذين بلغوا سنته، وعملوا بها، لم ينقل عن أحد منهم تقييد الخف بشيء من القيود، بل أطلقوا المسح على الخفين، مع علمهم بالخفاف وأحوالها، فعلم أنهم كانوا قد فهموا عن نبيهم b جواز المسح على الخفين مطلقاً (1) .
الدليل الخامس:
اشتراط كون الخفاف سليمة من الخروق ينافي المقصود من الرخصة، فإن المقصود من المسح على الخفين التيسير على المكلفين، ولهذا اكتفى الشرع بمسح ظاهره، بينما في غسله يجب غسل جميع القدم، قال b في الحديث المتفق عليه: ويل للأعقاب من النار، فلو قلنا: لا يجوز المسح إلا على الخف السليم بطل المقصود من الرخصة، لا سيما والذين يحتاجون إلى ذلك هم الأكثر، وهم المحتاجون، وهم أحق بالرخصة من غير المحتاجين، فإن سبب الرخصة هو الحاجة، ولهذا قال b لما سئل عن الصلاة في الثوب الواحد؟ قال: " أو لكلكم ثوبان " فبين أن منكم من لا يجد إلا ثوباً واحداً فلو أوجب الثوبين لما أمكن هؤلاء أداء الواجب (2) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/175) .
(2) مجموع الفتاوى (21/175) .(5/197)
الدليل السادس:
تناقض قول من يشترط أن يكون الخف ساتراً لما يجب غسله خالياً من الخروق يدل على ضعف الشرط، فبعضهم يقول: لا يجوز، ولو كان الخرق بمقدار رأس المخراز، وبعضهم يمنع ظهور ثلاثة أصابع، ولا يمنع مادونها، وبعضهم يحده بالثلث، وبعضهم يوجب غسل ما ظهر، ومسح الباقي، فهذا الاختلاف دليل على أن الأمر ليس من عند الله، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (1) فالتحديد بمقدار معين لابد فيه من توقيف شرعي، فإنه لا يبدو فرق بين الأصبعين والثلاثة، ولا ما بين الثلث وما دون الثلث بقليل.
الدليل السابع:
إذا كان المسح على الخفين إنما شرع لمشقة نزعهما، فلا فرق في ذلك بين الخف الذي فيه خرق، وبين الخف الذي لا خرق فيه، فالمشقة موجودة فيهما.
الدليل الثامن:
قالوا: إذا كان لبس الخف المخرق محرماً على المُحْرِم، ويسمى خفاً، فلما لم يخرجه خرقه عن مسمى الخف لم يمنع من المسح عليه لبقاء اسم الخف عليه.
دليل القائلين بالتفريق بين اليسير والكثير.
قالوا: إن الخف قلما يخلو من فتوق وخروق، حتى ولو كان جديداً
_________
(1) النساء، آية: 82.(5/198)
فأثار الزرور والآثافي خرق فيه، ولهذا يدخله التراب، فجعلنا القليل عفواً لهذا. فأما إذا كان الخرق كبيراً فلا يجوز المسح عليه، وقدرنا القليل بما دون ثلاثة أصابع؛ لأنه إذا ظهر ثلاثة أصابع ظهر أكثر الأصابع، وللأكثر حكم الكل (1) .
والدليل على أن القليل معفو عنه أن جماهير أهل العلم كانوا يعفون عن ظهور يسير العورة، وعن يسير النجاسة التي يشق الاحتراز منها، فالخرق اليسير في الخف من باب أولى.
قال ابن تيمية: " كان أحدهم - يعني الصحابة - يصلي في الثوب الضيق، حتى إنهم كانوا إذا سجدوا تقلص الثوب فظهر بعض العورة، وكان النساء نهين عن أن يرفعن رؤوسهن حتى يرفع الرجال رؤوسهم، لئلا يرين عورات الرجال من ضيق الأزر، مع أن ستر العورة واجب في الصلاة وخارج الصلاة بخلاف ستر الرجلين في الخف.
وأما دليل المالكية بتقدير القليل بما دون الثلث، واعتبار الثلث فما فوق من الكثير، فلعلهم يستدلون بما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين،
(56) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص،
عن أبيه رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله b يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. فقلت:
_________
(1) انظر المبسوط (1/100) .(5/199)
بالشطر؟ فقال: لا، ثم قال: الثلث، والثلث كبير، أو كثير (1) . الحديث.
فسمى الثلث بأنه كثير، فعموم هذا اللفظ يدل على أن الثلث في كل شيء كثير.
الراجح من هذه الأقوال.
الراجح القول بجواز المسح على الخف المخرق مطلقاً، سواء كان الخرق يسيراً أو كبيراً ما دام أنه يسمى خفاً.
وقد يكون الخف ليس فيه خرق، ولكنه يصف البشرة، بكونه غير صفيق، فالمالكية يمنعون المسح عليه، ويفهم ذلك من اشتراط التجليد عندهم (2) .
والحنابلة لا يجيزون المسح على ما يبدو منه القدم، سواء كان ذلك لخرق فيه، أو كان واسعاً يرى منه الكعب، أو كان الجورب خفيفاً يصف القدم، كل ذلك عندهم مانع من المسح (3) .
وأجاز الشافعية المسح على الخف الشفاف.
قال النووي: " إذا لبس خف زجاج يمكن متابعة المشي عليه، جاز المسح عليه، وإن كانت ترى تحته البشرة، بخلاف ما لو ستر عورته بزجاج، فإنه لا يصح إذا وصف لون البشرة؛ لأن المقصود سترها عن الأعين، ولم
_________
(1) صحيح البخاري (1295) ، ومسلم (1628) .
(2) انظر شروطهم في المسح على الجورب، فقد ذكرنا مراجعهم، وانظر الشرح الصغير (1/229) .
(3) كشاف القناع (1/117) ، شرح منتهى الإرادات (1/61) .(5/200)
يحصل، والمعتبر في الخف عسر القدرة على غسل الرجل بسبب الساتر، وذلك موجود، ثم قال: ولا نعلم أحداً صرح بمنعه، وقد نقل القاضي حسين جوازه عن الأصحاب مطلقاً " اهـ (1) .
ومن هذا نفهم أن الذي منع المسح من الجورب إذا كانت تصف البشرة لا دليل معه على المنع، فأين الدليل على اشتراط كونها صفيقة.
وإذا جوزنا المسح على الخف المخرق جوزنا المسح على غيره، سواء كان الخف واسعاً يرى منه الكعب، أو كان الجورب خفيفاً يصف القدم، والله أعلم.
_________
(1) المجموع (1/529) .(5/201)
[صفحة فارغة](5/202)
الشرط الرابع
ثبوت الخف بنفسه على القدم(5/203)
[صفحة فارغة](5/204)
الشرط الرابع
ثبوت الخف بنفسه على القدم
لا يمسح ما يسقط من القدم، وهو مذهب الحنفية (1) ، وقول في مذهب المالكية (2) ، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (3) .
وإذا كان الخف لا يثبت في القدم إلا بشده لم يجز المسح عليه عند الحنفية (4) ،
والحنابلة (5) .
_________
(1) سيأتي العزو إليه قريباً إن شاء الله تعالى.
(2) قال في الشرح الصغير (1/155) : " لا بد من ستر المحل بذاته، ولو بمعونة أزرار، لا ما نقص عنه، ولا ما كان واسعاً ينزل عن محل الفرض ".
وقال في حاشية العدوي على الخرشي (1/180) : " قوله " فلا يُمْسَح واسع " أي: لا يستقر جميع القدم أو جلها في محله من الخف ". وانظر حاشية الدسوقي (1/143) .
(3) انظر روضة الطالبين (1/126) ، وقال النووي في المجموع (1/528) : " ولو اتخذ خفاً واسعاً لا يثبت في الرجل إذا مشى فيه، أو ضيقاً جداً لا يمكن المشي فيه، فوجهان: أصحهما لا يجوز المسح عليه " اهـ.
(4) جاء في مراقي الفلاح في ذكر شروط المسح على الخفين (ص53) : "استمساكهما على الرجلين من غير شد " اهـ.
وقال في المبسوط (1/102،103) : " وأما المسح على الجوربين فإن كانا ثخينين منعلين جاز المسح عليهما " ثم فسر الثخين من الجوارب: أن يستمسك على الساق من غير أن يشده بشيء. وانظر تبيين الحقائق (1/52) ، وحاشية ابن عابدين (1/263) .
(5) قال في الفروع (1/158) في ذكر شروط المسح " ثابت بنفسه، لا بشده في المنصوص " اهـ.
وقال في الإنصاف (1/179) " إذا كان لا يثبت إلا بشده، لا يجوز المسح عليه، وهو المذهب من حيث الجملة، ونص عليه، وعليه الجمهور ". وانظر كشاف القناع (1/116) ، المبدع (1/145) ، شرح العمدة (1/250) .(5/205)
وقيل: يجوز المسح على الجوربين وإن لم يثبتا بأنفسهما بل بنعلين، وهو رواية في مذهب أحمد (1) .
وقيل: لا يشترط، اختاره بعض المالكية (2) ، ووجه عند الشافعية (3) ، ورجحه ابن تيمية (4) .
دليل من قال: لا يجوز المسح عليه.
أولاً: أن ما يسقط من القدم لا فائدة من لبسه؛ لأنه إذا مشى عليه سقط الخف.
ثانياً: أن ما يسقط من القدم لا يمكن متابعة المشي عليه.
ثالثاً: أن هذا خف غير معتاد، فلا يشمله النص.
رابعاً: أن ما يسقط من القدم لا يشق نزعه، فيمكن إخراج القدم بسهولة، ثم غسلها وردها.
دليل من قال بجواز المسح.
أولاً: أن الإذن بالمسح على الخفاف وما في معناها مطلق غير مقيد،
_________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/184) ، والإنصاف (1/179) .
(2) قال الجلاب كما في التاج والإكليل (1/469) : " ولا بأس بالمسح على الخفين الواسعين، فإن خرجت رجله من مقدم الخف إلى ساقه بطل مسحه، ووجب عليه غسل رجليه، وإن خرج عقبه من مقدمه إلى ساقه، فلا شيء عليه إلا أن يخرج جل رجله ".
(3) انظر روضة الطالبين (1/126) ، والمجموع (1/528) .
(4) مجموع الفتاوى (21/184) .(5/206)
فأين الدليل على اشتراط ما ذكرتم، وما ورد مطلقاً لا يجوز تقييده إلا بدليل.
ثانياً: أن هذا الخف الواسع صالح بنفسه، بدليل أنه لو لبسه رجل، وكانت قدمه كبيرة بحيث لا تسقط جاز المسح عليه اتفاقاً، فإذا كان صالحاً في نفسه فلا يمنع من المسح عليه.
ثالثاً: أن هذا الخف الواسع قد يلبسه من لا يحتاج إلى المشي، كالمريض المقعد والزمن، فمنعه من المسح عليه منع بلا دليل.
قال ابن تيمية: " قد اشترط ذلك - يعني: ثبوت الخف بنفسه - الشافعي، ومن وافقه من أصحاب أحمد، فلو لم يثبت إلا بشده بشيء يسير، أو خيط متصل به، أو منفصل عنه، ونحو ذلك لم يمسح عليه، وإن ثبت بنفسه لكن لا يستر جميع المحل إلا بالشد، ففيه وجهان:
أصحهما أنه يمسح عليه، وهذا الشرط لا أصل له في كلام أحمد، بل المنصوص عنه في غير موضع أنه يجوز المسح على الجوربين ما لم يخلع النعلين، فإذا كان أحمد لا يشترط في الجوربين إن يثبتا بأنفسهما، بل إذا ثبتا بالنعلين جاز المسح عليهما، فغيرهما بطريق الأولى، وهنا قد ثبتا بالنعلين، وهما منفصلان عن الجوربين، فإذا ثبت الجوربان بشدهما بخيوطهما كان المسح عليهما أولى بالجواز (1) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (20/148) .(5/207)
[صفحة فارغة](5/208)
الشرط الخامس
إمكان متابعة المشي على الخف(5/209)
[صفحة فارغة](5/210)
الشرط الخامس
إمكان متابعة المشي على الخف (1)
يشترط في الخف حتى يمسح عليه أن يمكن متابعة المشي عليه، وهو مذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، والشافعية (4) ، الحنابلة (5) .
وقيل: إن ذلك ليس بشرط، وهو وجه في مذهب الشافعية (6) .
_________
(1) قد أغفل كتاب زاد المستقنع، وهو متن حنبلي، يدرسه الشيوخ عندنا، فهل أغفله اكتفاء بقوله: " يثبت بنفسه " باعبتارهما بمعنى واحد، فإن كان كذلك فالذي يظهر لي أنهما شرطان، وليسا شرطاً واحداً، كما فعل ذلك ابن تيمية في شرح العمدة (1/250) : " فذكر شرط المسح على الخفين قائلاً: أحدها: أن يستر محل الفرض، وهو القدم إلى ما فوق الكعبين.
الثاني: أن يثبت في القدم بنفسه.
الثالث:: أن يمكن متابعة المشي فيه. ففرق ابن تيمية رحمه الله بين الشرطين، ولم يجعلهما شرطاً واحداً، وكذلك صنع صاحب كشاف القناع (1/115،116) ، والفروع (1/158) ، وكذلك فرق بينهما من الحنفية صاحب مراقي الفلاح (ص: 53) .
وهو الظاهر؛ لأن الشيء قد يثبت بنفسه، ولا يمكن متابعة المشي فيه لضيقه، وقد جعلهما بعض مشايخنا ممن شرح زاد المستقنع جعلهما شرطاً واحداً، وفيه تأمل.
(2) حاشية ابن عابدين (1/263) ، تبيين الحقائق (1/52) ، مراقي الفلاح (ص: 53) .
(3) حاشية الخرشي (1/179،180) ، مواهب الجليل (1/320) ، حاشية الدسوقي (1/143) .
(4) المجموع (1/522) ، روضة الطالبين (1/126) ، مغني المحتاج (1/66) .
(5) شرح العمدة (1/520) ، كشاف القناع (1/116) ، المبدع (1/145) .
(6) قال النووي في المجموع (1/528) : " لو اتخذ خفاً واسعاً لا يثبت في الرجل إذا مشى فيه، أو ضيقاً جداً بحيث لا يمكن المشي فيه، فوجهان:
أصحهما: لا يجوز المسح عليه.
والثاني: يجوز؛ لأنه صالح في نفسه بدليل أنه يصلح لغيره، فأما الضيق الذي يتسع بالمشي فيجوز المسح عليه بلا خلاف اهـ.(5/211)
واختلف القائلون بهذا الشرط، هل يقدر إمكان المشي فيه بمسافة معينة أم لا؟
فذهبت الحنفية إلى تقديره بفرسخ، فأكثر (1) .
وقالت المالكية: أن يمكن المشي فيه عادة (2) .
وقيل: بقدر ما يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحط والترحال، وهو مذهب الشافعية (3) .
_________
(1) انظر العزو إلى مذهب الحنفية.
(2) الشرح الصغير (1/155) .
(3) اختلف كلام أصحاب المذهب الشافعي، فذكر النووي في روضة الطالبين (1/126) : " بقدر ما يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحط والترحال ".
وقال النووي في المجموع (1/523) : " اتفق الأصحاب ونصوص الشافعي رضي الله عنه على أنه يشترط في الخف كونه قوياً يمكن متابعة المشي عليه، قالوا: ومعنى ذلك أن المشي يمكن عليه في مواضع النزول، وعند الحط والترحال، وفي الحوائج التي يتردد فيه في المنزل، وفي المقيم نحو ذلك كما جرت عادة لابسي الخفاف، ولا يشترط إمكان متابعة المشي فراسخ، هكذا صرح به أصحابنا " اهـ.
وقال في مغني المحتاج (1/66) : " واختلف في قدر المدة المتردد فيها، فضبطه المحاملي بثلاث ليال فصاعداً، ووافقه الأسنوي في التنقيح.
وقال في المهمات: إن المعتمد ما ضبطه به الشيخ أبو حامد بمسافة القصر تقريباً.
وقال ابن النقيب: لو ضبط بمنازل ثلاثة أيام ولياليهن لم يبعد اهـ. ثم قال: والأقرب إلى كلام الأكثرين ما قاله ابن العماد: أن المعتبر التردد فيه بحوائج سفر يوم وليلة للمقيم ونحوه، وسفر ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر سفر قصر؛ لأنه عند انقضاء المدة يجب نزعه، فقوته تعتبر بأن يمكن التردد فيه لذلك. الخ كلامه رحمه الله.(5/212)
وقيل: يمكن متابعة المشي عليه عرفاً، وهو مذهب الحنابلة (1) .
دليل من قال بهذا الشرط.
قالوا: إن الذي تدعو الحاجة إلى مسحه هو الخف الذي يمكن متابعة المشي عليه، فإن كان يسقط من القدم لسعته، فلا يشق نزعه، فيجب غسل القدم.
ثانياً: أن الرخصة وردت في الخف المعتاد، وهو ما يمكن المشي فيه، وما لا يمكن المشي فيه فلا يدخل في الرخصة.
والراجح: أنه ليس بشرط، وأن الذي لا يمكن المشي فيه إن كان لضيقه، فإن كان لا يضره، وكان لا يحتاج للمشي كما لو كان راكباً، أو مقعداً فما المانع من المسح عليه، فهو لا يحتاج إلى المشي حتى نشترط إمكان متابعة المشي عليه، والمسح على الخفاف والجوارب ورد مطلقاً غير مقيد بشيء، فمن وضع قيداً طلب منه الدليل.
وإن كان الخف ضيقاً يضره حرم لبسه فضلاً عن المسح عليه.
قال العدوي من المالكية: " أما انتفاء ضيقه، فليس بشرط فمتى أمكن لبسه مسح، وإلا فلا " (2) .
وإن كان لا يمكن متابعة المشي عليه لسعته بحيث إذا مشى خرجت
_________
(1) قال في الروض المربع (1/278) : " يجوز المسح على خف يمكن متابعة المشي فيه عرفاً " اهـ.
(2) حاشية العدوي على الخرشي (1/179) .(5/213)
قدمه، كما لو كان الخف كبيراً، وقدمه صغير، فإن شده على ساقه بحيث يمكنه المشي عليه، رجعت هذه المسألة إلى المسألة السابقة، وهو اشتراط كونه يثبت بنفسه، وقد بينت الراجح في هذه المسألة، وأنه لا يشترط أن يثبت بنفسه.
قال في التاج والإكليل: " ولا بأس بالمسح على الخفين الواسعين، فإن خرجت رجله من مقدم الخف إلى ساقه بطل مسحه، ووجب عليه غسل رجله، وإن خرج عقبه من مقدمه إلى ساقه فلا شيء عليه إلا أن يخرج جل رجله (1) .
وإن كان لا يمكن متابعة المشي عليه لثقله، كخف الحديد الثقيل، فذكر النووي وجهين:
الأول: المنع، وهو الذي قطع به الجمهور.
والثاني: الجواز، واختاره إمام الحرمين والغزالي، قالا: لأن عدم إمكان المشي فيه لضعف اللابس، لا الملبوس، ولا نظر إلى أحوال اللابسين (2) .
ومع أن النووي ضعفه إلا أنه هو المختار فيما أرى؛ لأن من منع شيئاً فعليه الدليل، والخف ورد الإذن فيه مطلقاً، ولا تقييد لما أطلقه الله إلا بنص أو إجماع، والله أعلم.
_________
(1) التاج والإكليل (1/469)
(2) المجموع (1/528) .(5/214)
الشرط السادس
هل يشترط أن يكون الخف من جلد(5/215)
[صفحة فارغة](5/216)
الشرط السادس
هل يشترط أن يكون الخف من جلد
فقيل: لا يشترط، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: يشترط، وهو مذهب المالكية (4) ، والأول أرجح.
دليل الجمهور.
أولاً: اشتراط كون الخفاف من جلود لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع.
ثانياً: المسح على الخفين ورد مطلقاً، فكل ما كان يسمى خفاً جاز المسح عليه.
ثالثاً: التفريق بين الخف الذي من جلود، والخف الذي من غيره تفريق بين متماثلين، قال ابن تيمية: " ولا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً
_________
(1) قال في مراقي الفلاح (ص: 53) : " صح المسح على الخفين في الحدث الأصغر للرجال والنساء، ولو كانا من شيء ثخين غير الجلد، سواء كان لهما نعل من جلد أو لا ".
(2) قال النووي في المجموع (1/522) : " اتفق أصحابنا على أنه لا يشترط في الخف جنس الجلود " اهـ.
(3) قال ابن قدامة في المغني (1/373) : " يجوز المسح على كل خف ساتر يمكن متابعة المشي فيه، سواء كان من جلود أو لبود، وما أشبهها ".
(4) مواهب الجليل (1/319) ، حاشية الدسوقي (1/141) ، الخرشي (1/179) ، تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/600) .(5/217)
أو كتاناً أو صوفاً، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف، وهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً، بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى (1) . الخ كلامه.
رابعاً: سبب إباحة المسح على الخفين هو الحاجة، وهي موجودة في الخف الذي من جلد، كما هي موجودة في غيره من الخفاف.
قال ابن تيمية: ومعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء بسواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين متماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة، وما أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله (2) .
دليل المالكية على اشتراط الجلد.
قالوا: إن الرخصة وردت في الخفاف المعهودة، وكانت خفافهم من الجلود، فيقتصر المسح عليها.
والصحيح الأول، ولو كان الحكم يتعلق بالاسم لما مسح رسول الله b على الجوربين؛ فإنهما لا يسميان خفاً، ومع ذلك ثبت المسح عليهما، بل وعلى النعلين.
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/214) .
(2) انظر المرجع السابق.(5/218)
الشرط السابع
هل يشترط كون الخف يمنع وصول
الماء إلى الرجل(5/219)
[صفحة فارغة](5/220)
الشرط السابع
هل يشترط في الخف كونه يمنع وصول الماء إلى الرجل
قيل: يشترط، اختاره بعض الحنفية (1) ، وهو ظاهر المذهب عند الشافعية (2) .
وقيل: لا يشترط، وهو مذهب الجمهور، (3) وهو الراجح.
دليل من اعتبره شرطاً.
قال: الغالب في الخفاف أنها تمنع نفوذ الماء، فتنصرف إليها النصوص الدالة على الترخيص، ويبقى الغسل واجباً فيما عداها.
ولأن الذي يقع عليه المسح ينبغي أن يكون حائلاً بين الماء والقدم.
_________
(1) قال ابن عابدين في حاشيته (1/261) : ذكر الشرنبلالي من شروط المسح على الخفين: منعهما: أي الخفان: وصول الماء إلى الرجل اهـ.
ولم أقف على غيره من الحنفية ذكر هذا الشرط، بل كون الحنفية يجيزون مسح الخف المخرق إذا كان الخرق أقل من ثلاثة أصابع دليل على أن هذا ليس بشرط، فليتأمل.
(2) قال النووي في المجموع (1/531) :"هل يشترط كون الخف صفيقاً يمنع نفوذ الماء؟
فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره:
أحدهما يشترط، فإن كان منسوجاً بحيث لو صب عليه الماء نفذ لم يجز المسح، وبهذا قطع الماوردي والفوراني والمتولي، قال الرافعي: وهو ظاهر المذهب.
والثاني: لا يشترط، بل يجوز المسح، وإن نفذ الماء، واختاره إمام الحرمين والغزالي. اهـ وانظر أسنى المطالب (1/96) ، نهاية المحتاج (1/204) .
(3) لأنه لو كان شرطاً عندهم لنصوا عليه، ولم أقف عليه منصوصاً، إلا في شرح منتهى الإرادات قال (1/60) : " لا كونه يمنع نفوذ الماء ".(5/221)
دليل من لم يعتبره شرطاً.
لا يوجد دليل على اعتبار هذا الشرط، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط.
ثم إن فرض الخف المسح، والغسل ليس مأموراً به، فلا حاجة إلى اشتراط كون الخف يمنع نفوذ الماء.(5/222)
الشرط الثامن
يشترط أن يكون المسح على الخفين
في الطهارة الصغرى(5/223)
[صفحة فارغة](5/224)
الشرط الثامن
يشترط أن يكون المسح على الخفين في الطهارة الصغرى
يمسح الخفان والجوربان والعمامة في الحدث الأصغر دون الأكبر، وهذا إجماع لا خلاف فيه، حكاه النووي وابن قدامة وغيرهما.
قال النووي: " لا يجزئ المسح على الخف في غسل الجنابة، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، ولا أعلم فيه خلافاً لأحد من العلماء، وكذا لا يجزئ مسح الخف في غسل الحيض والنفاس، ولا في الأغسال المسنونة كغسل الجمعة والعيد وأغسال الحج وغيرها، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب " (1) .
وقال ابن قدامة: " جواز المسح مختص به - يعني الحدث الأصغر - ولا يجزئ المسح في جنابة، ولا غسل واجب ولا مستحب، لا نعلم في هذا خلافاً " (2) .
_________
(1) المجموع (1/505) .
(2) المغني (1/362) .
وانظر في كتب الحنفية: تبيين الحقائق (1/46) ، العناية شرح الهداية (1/152) ، شرح فتح القدير (1/152) ، البحر الرائق (1/177) ، البناية (1/586) .
وانظر في مذهب المالكية، الشرح الصغير (1/156،157) ، حاشية الدسوقي (1/145) .
وانظر في مذهب الشافعية، الأم (1/34) ، المجموع (1/505) .
وانظر في مذهب الحنابلة شرح الزركشي (1/383) ، الهداية - أبو الخطاب (1/16) ، المغني (1/362) .(5/225)
الدليل من السنة:
(57) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله b فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. الحديث (1) .
[وإسناده حسن، وسوف يأتي تخريجه إن شاء الله تعالى] (2) .
وذكر النووي رحمه الله تعالى بعض فوائده، فقال:
أحدها: جواز مسح الخف. قلت مع أن قوله b: " كان يأمرنا " دالة على الاستحباب، أو على أقل أحواله الأفضلية على الغسل.
الثانية: أنه مؤقت. وسيأتي الخلاف فيها.
الثالثة: أن وقته للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن.
قلت: يؤخذ منه مراعاة الشرع لأحوال المكلفين، والتخفيف عليهم، ودفع الحرج والمشقة.
الرابع: أنه لا يجوز المسح في غسل الجنابة، وما في معناها من
_________
(1) المصنف (795) .
(2) انظر بحثه في مسألة التوقيت في المسح على الخفين.(5/226)
الأغسال الواجبة والمسنونة.
الخامسة: جوازه في جميع أنواع الحدث الأصغر.
السادسة: أن الغائط والبول والنوم ينقض الوضوء، وهو محمول على نوم غير ممكن مقعده.
قلت: الأفضل أن يقال: لو أحدث أحس بحدثه، فلاينقض، وإلا نقض؛ لأن النوم مظنة الحدث، وليس حدثاً بذاته.
السابعة: أنه يؤمر بالنزع للجنابة في أثناء المدة. إلى غير ذلك من الفوائد التي ذكرها النووي رحمة الله عليه.(5/227)
[صفحة فارغة](5/228)
الشرط التاسع
أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعا(5/229)
[صفحة فارغة](5/230)
الشرط التاسع
أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعا
هذا الشرط وقع فيه خلاف بين العلماء، هل المسح على الخفين مؤقت بوقت أم لا؟
فقيل: يمسح يوماً وليلة للقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، وهو مذهب الحنفية، والشافعية والحنابلة.
وقيل: ليس فيه توقيت، وهو المشهور من مذهب مالك.
وقيل: يمسح المقيم خمس صلوات، والمسافر خمس عشرة صلاة.
وقيل: يسقط التوقيت في حال الضرورة.
إلى غير ذلك من الأقوال، وسيأتي بحث هذه المسألة في مسألة مستقلة، ونحرر الأدلة، ونبين الراجح إن شاء الله تعالى.(5/231)
[صفحة فارغة](5/232)
الشرط العاشر
هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية(5/233)
[صفحة فارغة](5/234)
الشرط العاشر
هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية؟
إذا تيمم لفقد الماء، ثم لبس الخف، فلا يمسح إذا وجد الماء، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ،
_________
(1) قال السرخسي في المبسوط (1/105) : " وإذا لبس الخفين على طهارة التيمم أو الوضوء بنبيذ، ثم وجد الماء نزع خفيه؛ لأن طهارة التيمم غير معتبرة بعد وجود الماء ". وانظر بدائع الصنائع (1/10) .
(2) قال مالك في الموطأ (1/37) : " وإنما يمسح على الخفين من أدخل رجليه في الخفين، وهما طاهرتان بطهر الوضوء، وأما من أدخل رجليه في الخفين، وهما غير طاهرتين بطهر الوضوء فلا يمسح على الخفين ". وجاء في المدونة (1/144) قال ابن القاسم في من تيمم، وهو لا يجد الماء، فصلى، ثم وجد الماء في الوقت، فتوضأ به إنه لا يجزئه أن يمسح على خفيه وينزعهما ويغسل قدميه إذا أدخلهما غير طاهرتين " اهـ. وانظر حاشية الدسوقي (1/143) ، ومواهب الجليل (1/1/320) ، والخرشي (1/179) ، والتاج والإكليل (1/468) .
وجاء في المنتقى للباجي (1/78) : " ومن تيمم، ثم لبس خفيه، فقد قال أصبغ في العتبية: إن لبس خفيه قبل أن يصلي كان له أن يمسح على خفيه، وإن لبسهما بعد أن صلى لم يمسح عليهما.
قال سحنون: لا يمسح عليهما، وإن لبسهما قبل الصلاة، حكى ابن حبيب، عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم معناه.
وجه قول أصبغ: أنه لبس خفيه بطهارة يستبيح بها الصلاة، فكان له أن يستبيح بها الماء، كالمسح على الجبائر.
ووجه القول الثاني: أن هذه أحد حالتي التيمم، فلم يستبح المسح على الخفين أصله إذا لبسهما بعد الصلاة. واحتج مطرف وصاحباه بأن منتهى طهر التيمم فراغ تلك الصلاةاهـ.(5/235)
والشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: يمسح، هو رواية عن أحمد (3) .
دليل الجمهور.
الدليل الأول:
(58) ما رواه عبد الرزاق (4) ، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبي b وقد أجنب، فدعا النبي b بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي b: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير.
[حديث حسن] (5) .
_________
(1) المجموع (1/545) ، الروضة (1/125) .
(2) الفروع (1/160) ، الإنصاف (1/176) ، الشرح الكبير (1/153) ، المغني (1/175) .
(3) حكاه صاحب الإنصاف رواية عن أحمد (1/176) .
(4) المصنف (913) .
(5) الإسناد فيه: عمرو بن بجدان.
ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/171) .
وقال العجلي: بصري، تابعي، ثقة. ثقات العجلي (2/172) .
وصحح حديثه الحاكم، ومن قبله الترمذي.
وذكره البخاري في التاريخ الكبير (6/317) ولم يورد جرحاً ولا تعديلاً.
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/222) .
وقال الذهبي: حسنه الترمذي، ولم يرقه إلى الصحة للجهالة بحالة عمرو، وقال: وقد وثق عمرو مع جهالته. الميزان (3/247) بينما صحح حديثه في المستدرك (1/176) ، وقال في الكاشف: وثق.
قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي عمرو بن بجدان معروف؟ قال: لا. تهذيب التهذيب (8/7) .
وقال ابن القطان: لا يعرف. المرجع السابق.
وقال ابن حجر في التقريب: لا يعرف حاله.
قلت: من عادة الحافظ في الراوي إذا كان لم يرو عنه إلا واحد، وكان من التابعين ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وقد وثقه ابن حبان أن يقول في حقه: مقبول، أي حين يتابع، كيف وقد صحح حديثه الترمذي، والحاكم والبيهقي وابن حبان، فهذا توثيق ضمني، وقد أجاب ابن دقيق العيد على قول ابن القطان في عمرو بن بجدان: لايعرف له حال، فقال كما في نصب الراية (1/149) : " ومن العجب كون ابن القطان لم يكتف بتصحيح الترمذي في معرفة حال عمرو بن بجدان، مع تفرده بالحديث، وهو قد نقل كلامه: هذا حديث حسن صحيح، وأي فرق بين أن يقول: هو ثقة، أو يصحح له حديثاً انفرد به. وإن كان توقف في ذلك لكونه لم يرو عنه إلا أبو قلابة، فليس هذا بمقتضى مذهبه، فإنه لا يلتفت إلى كثرة الرواة في نفي جهالة الحال، فذلك لا يوجب جهالة الحال بانفراد راو واحد عنه بعد وجود ما يقتضي تعديله، وهو تصحيح الترمذي له.
[تخريج الحديث] :
مداره على أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر.
ويرويه عن أبي قلابة خالد الحذاء، وأيوب السختياني.
أما طريق خالد الحذاء فله طرق كثيرة إليه.
الأول: يزيد بن زريع عن خالد الحذاء به.
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (6/317) من طريق هشام بن عبد الملك، عن يزيد ابن زريع به، وأخرجه البيهقي (1/220) من طريق إبراهيم بن موسى. وأخرجه (1/220) من طريق مسدد، كلاهما عن يزيد بن زريع به، وأخرجه ابن حبان (1312) من طريق الفضيل بن الحسين الجحدري، قال: حدثنا يزيد بن زريع به.
الطريق الثاني: خالد بن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء به.
أخرجه أبو داود (332) حدثنا عمرو بن عوف، ومسدد، قالا: أخبرنا خالد ـ يعني ابن عبد الله الواسطي ـ عن خالد الحذاء به. قال أبو داود: حديث عمرو أتم.
وأخرجه البيهقي (1/220) والحاكم (1/176،177) من طريق مسدد به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، إذ لم نجد لعمرو بن بجدان راوياً غير أبي قلابة الجرمي، وهذا مما شرطت فيه، وثبت أنهما قد خرجا مثل هذا في مواضع من الكتابين.
الطريق الثالث: الثوري عن خالد الحذاء به.
منه إسناد الباب، أعني: عبد الرزاق (913) عن الثوري به، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (5/155) ، وأخرجه أحمد أيضاً (5/180) ثنا أبو أحمد ـ يعني: الزبيري ـ ثنا سفيان، عن خالد الحذاء به.
وأما رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة به:
فأخرجه أحمد (5/155) ثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن أيوب السختياني وخالد الحذاء به، وأخرجه النسائي (322) أخبرنا عمرو بن هشام، قال: ثنا مخلد، عن سفيان، عن أيوب به، وأخرجه الدارقطني (1/186) من طريق مخلد بن يزيد، حدثنا سفيان، عن أيوب وخالد به.
وأخرجه البيهقي (1/212) من طريق أحمد بن بكار، حدثنا مخلد بن يزيد به.
وأخرجه ابن حبان كما في الموارد (197) من طريق عبد الحميد بن محمد المستام، حدثنا مخلد بن يزيد به.
وجاء الحديث (عن أيوب عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبي ذر) .
أخرجه ابن أبي شيبة (1/144) : حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة به.
وأخرجه أحمد (5/146) حدثنا إسماعيل ـ يعني: ابن علية ـ به.
وأخرجه الدارقطني (1/187) من طريق يعقوب بن إبراهيم، نا ابن علية به.
وأخرجه الطيالسي (484) حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عن أيوب به.
وأخرجه أبو داود (133) حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد، عن أيوب به.
(وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني قشير عن أبي ذر)
أخرجه عبد الرزاق (912) عن معمر، عن أيوب به.
وأخرجه أحمد (5/146،147) ثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد، عن أيوب به.
(وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن أبي ذر)
أخرجه الدارقطني (1/187) من طريق خلف بن موسى العمي، أخبرنا أبي، عن أيوب عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهلب به.
فتبين من هذا أن رواية خالد الحذاء لم يختلف عليه في إسناده، وأما رواية أيوب فقد اختلف عليه كما سبق، ففي بعض طرقها ما يوافق رواية خالد، والبعض الآخر يخالفه في الإسناد، فهل ما خالف فيه أيوب خالداً يطرح؟ أو أن الخلاف على أيوب لا يضر؟ قال أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/215) :
" عن رجل من بني قشير، عن أبي ذر، وهذا الرجل هو الأول نفسه، لأن بني قشير من بني عامر كما في الاشتقاق لابن دريد (ص:181) ، وهو عمرو بن بجدان نفسه ". اهـ.
قلت: فعلى هذا قوله: " عن رجل من بني قشير، أو عن رجل من بني عامر " لا فرق بينهما وهو عمرو بن بجدان؛ لأنه قشيرى من بني عامر. فيبقى رواية أبي المهلب، فإن لم تكن كنية لعمرو بن بجدان، فقد تفرد بها خلف بن موسى بن خلف العمي، حدثني أبي، وخلف وأبوه، كل واحد منهما صدوق له أوهام، فيكون هذا من أوهامه لمخالفته من هو أوثق منه.
وضعفه ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (3/327) وقال:
" لا يعرف لعمرو بن بجدان هذا حاله، وإنما روى عنه أبو قلابة واختلف عنه: فيقول: خالد الحذاء عنه، عن عمرو بن بجدان ولا يختلف ذلك على خالد.
وأما أيوب فإنه رواه عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر.
ومنهم من يقول: عن رجل فقط.
ومنهم من يقول: عن رجاء بن عامر.
ومنهم من يقول: عن عمرو بن بجدان كقول خالد.
ومنهم من يقول: عن أبي المهلب.
ومنهم من لا يجعل بينهما أحداً، فيجعله عن أبي قلابة، عن أبي ذر.
ومنهم من يقول: عن أبي قلابة أن رجلاً من بني قشير، قال: يا نبي الله.
هذا كله اختلاف على أيوب في روايته إياه عن أبي قلابة، وجميعه في علل الدارقطني وسننه، وهو حديث ضعيف لا شك فيه ". اهـ. وتعقبه ابن دقيق العيد في (الإمام) فقال:
" أما الاختلاف الذي ذكره من كتاب الدارقطني، فينبغي على طريقته، وطريقة الفقه أن ينظر في ذلك، إذ لا تعارض بين قولنا: عن رجل، وبين قولنا عن رجل من بني عامر، وبين قولنا: عن رجل من بني بجدان.
وأما من أسقط ذكر هذا الرجل فيؤخذ بالزيادة ويحكم بها.
وأما من قال: عن أبي المهلب، فإن كان كنية لعمرو فلا اختلاف، وإلا فهي رواية واحدة مخالفة احتمالاً لا يقيناً.
وأما من قال: عن رجل من بني قشير، قال: يا نبي الله، فهي مخالفة، فكان يجب أن ينظر في إسنادها على طريقته، فإن لم يكن ثابتاً لم يعلل بها " اهـ.
قال أحمد شاكر معلقاً في تحقيقه للسنن (1/215،217) :
وهذا الذي حققه ابن دقيق العيد بديع ممتع، وهو الصواب المطابق لأصول هذا الفن، وأنا أظن أن رواية من قال: إن رجلاً من بني قشير قال: يا نبي الله. فيها خطأ، وأن أصله ما ذكرته من رواية ابن أبي عروبة، عند أحمد في المسند، عن رجل من بني قشير، فذكر القصة في كونه أتى أباذر، وسأله، وأجابه وأن يكون سقط من بعض الرواة ذكر أبي ذر خطأ فقط. اهـ
وأما شاهده من حديث أبي هريرة، فقد رواه البزار، كما في مختصر زوائد البزار (193) قال: حدثنا مقدم بن محمد بن علي بن مقدم المقدمي، حدثنا عمي القاسم بن يحيى ابن عطاء بن مقدم ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله ويمسه بشرته، فإن ذلك خير.
قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه.
ومقدم ثقة معروف النسب.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/261) : رجاله رجال الصحيح.
ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (478) :
حدثنا أحمد ـ يعني ابن محمد بن صدقه، ثنا مقدم به.
وفي تلخيص الحبير (1/271) صححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إن إرساله أصح.(5/236)
وجه الاستدلال:
قوله b: " فليمسه بشرته " فأمر بوجوب مس الماء للبشرة، وكلمة " بشرته " مفرد مضاف يعم جميع البشرة إن كان غسلاً عن جنابة، ويعم جميع الأعضاء الأربعة إن كانت الطهارة طهارة صغرى، ومن أخرج القدمين فعليه الدليل، ولا دليل.
الدليل الثاني:
بوجود الماء رجع إلى المتيمم حدثه السابق، وليس رجوع الحدث المتقدم على لبس الخف كإنشاء الحدث بعد لبسه، وبينهما فرق، وإذا حكمنا برجوع الحدث السابق المتقدم للابس الخف لم يشرع له المسح من جهتين:
الوجه الأول: إبطال تلك الطهارة من أصلها، وكأنها لم تكن، فكأنه لبس الخفين على غير طهارة.
الوجه الثاني: رجوع الحدث السابق إلى جميع الأعضاء بما في ذلك القدمان، ومن أخرج القدمين فعليه الدليل.
الدليل الثالث:
قالوا إن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما هو مبيح للصلاة.
وهذا الدليل فيه نظر، والصحيح أن التيمم مطهر بنص القرآن(5/241)
والسنة، وقد تقدم الدليل على ذلك.
دليل القائلين بجواز المسح.
(59) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة،
عن أبيه، قال: كنت مع النبي b في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما (1) .
فلم يشترط إلا الطهارة، ولم ينص على نوع المطهر ماء كان أو تراباً، ومن تيمم عن عدم الماء فقد تطهر بنص القرآن والسنة،
أما القرآن، فقال تعالى بعد أن ذكر طهارة التيمم: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (2) .
ومن السنة الحديث المتفق عليه، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وسبق تخريجه.
والطهور: اسم لما يتطهر به، فإذا كان متطهراً، ولبس خفيه على طهارة، صدق عليه قوله b: " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ".
والقول الأول أقوى؛ لأن عودة الحدث السابق للبس الخف جعل الخف كأنه لبس على غير طهارة من حين وجد الماء، فإذا كان يجب إيصال الماء إلى البشرة كان الواجب إيصاله إلى جميعها بما في ذلك القدمان، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (206) ومسلم (274) .
(2) المائدة، آية: 6.(5/242)
الشرط الحادي عشر
يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة(5/243)
[صفحة فارغة](5/244)
الشرط الحادي عشر
يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة
إذا غسل رجله اليمنى ثم أدخلها في الخف، ثم غسل رجله اليسرى، ثم أدخلها في الخف فطهارته صحيحة، ولكن إذا أحدث هل يمسح على خفيه أم لا؟
فقيل: له أن يمسح، هو مذهب الحنفية (1) ، والظاهرية (2) ، ورواية عن أحمد (3) ، ورجحه ابن تيمية (4) ، وتلميذه ابن القيم (5) ، وابن دقيق
_________
(1) شرح فتح القدير (1/147) ، تبيين الحقائق (1/47،48) ، البحر الرائق (1/176) ، المبسوط (1/99،100) ، مراقي الفلاح (ص: 53) ، الاختيار لتعليل المختار (1/23،24) ، بدائع الصنائع (1/9) .
(2) المحلى (مسألة: 215) (1/334) ، ونص على أنه رأي دواد رحمه الله، وممن صرح بأنه مذهب داود أبو الخطاب الحنبلي في الانتصار (1/553) وغيره.
(3) نص على أنها رواية عن أحمد كل من ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/209) ، والفتاوى الكبرى (5/305) ، وابن رجب في القواعد، في القاعدة الثالثة عشرة بعد المائة (ص: 248) ، وأبو الخطاب في الانتصار (1/553) ، قال: " نقل عنه أبو طالب: أنه سئل فيمن غسل رجلاً ولبس خفاً، ثم يغسل الأخرى، ويلبس خفاً؟ فقال: يغسلهما جميعاً، فقيل له: فإن فعل؟ فقال: ليس عليه شيء، هو أحب إلي، إنما هو تأويل، وهذا يدل على أن ذلك ليس بشرط، وإنما هو اختيار واستحباب. اهـ كلام أبي الخطاب، وانظر الروايتين لأبي يعلى (1/96) .
(4) مجموع الفتاوى (21/209،211) .
(5) أعلام الموقعين (3/287) .(5/245)
العيد (1) .
وقيل: لا يمسح، وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (2) ؛ لأنه أدخل خفه الأيمن قبل كمال الطهارة.
_________
(1) قال في الإحكام (1/114،115) تعليقاً على حديث: " أدخلتهما، وهما طاهرتان " قد استدل به بعضهم على أن كمال الطهارة فيهما شرط، حتى لو غسل إحداهما وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، لم يجز المسح.
وفي هذا الاستدلال عندنا ضعف - أعني في دلالته على حكم هذه المسألة - فلا يمنع أن يعبر بهذا العبارة عن كون كل واحدة منها أدخلت طاهرة، بل ربما يدعي أنه ظاهر في ذلك؛ فإن الضمير في قوله: " أدخلتهما " يقتضي تعليق الحكم بكل واحدة منهما، نعم من روى: " فإني أدخلتهما، وهما طاهرتان " فقد يتمسك برواية هذا القائل من حيث إن قوله: " أدخلتهما " إذا اقتضى كل واحدة منهما، فقوله: " وهما طاهرتان " حال من كل واحدة منهما، فيصير التقدير: أدخلت كل واحدة في حال طهارتها، وذلك إنما يكون بكمال الطهارة.
وهذا الاستدلال بهذه الرواية من هذا الوجه لا يتأتى في رواية من روى: " أدخلتهما طاهرتين ". وعلى كل حال، فليس الاستدلال بذلك القوي جداً لاحتمال الوجه الآخر في الروايتين معاً، اللهم إلا أن يضم إلى هذا دليل يدل على أنه لا يحصل الطهارة لإحداهما إلا بكمال الطهارة في جميع الأعضاء، فحينئذ يكون ذلك الدليل مع هذا الحديث مستنداً لقول القائلين بعدم الجواز - أعني: أن يكون المجموع هو المستند - فيكون هذا الحديث دليلاً على عدم اشتراط طهارة كل واحدة منهما، ويكون ذلك دالاً على أنها لا تطهر إلا بكمال الطهارة " اهـ.
(2) شرح فتح القدير (1/147) ، تبيين الحقائق (1/47،48) ، البحر الرائق (1/176) ، المبسوط (1/99،100) ، مراقي الفلاح (ص: 53) ، الاختيار لتعليل المختار (1/23،24) .
وفي المذهب المالكية انظر الخرشي (1/179) ، حاشية الدسوقي (1/143) ، مواهب الجليل (1/320) .
وانظر في المذهب الشافعي: الأم (1/33) ، روضة الطالبين (1/124) ، المجموع (1/540) ، نهاية المحتاج (1/186،187) .
وفي المذهب الحنبلي: جاء في مسائل ابن هانئ (1/20) : " قلت: فإني توضأت، فغسلت رجلاً واحدة، فأدخلتها الخف، والأخرى غير طاهرة، ثم غسلت الأخرى، ولبست الخف.
فقال لي أبو عبد الله: لا تفعل، كذا قال النبي b: " إني أدخلتهما، وهما طاهرتان"، فهذه واحدة طاهرة، والأخرى غير طاهرة، تعيد الوضوء من الرأس إن كان جف
الوضوء " اهـ.
وانظر المحرر (1/12) ، الإنصاف (1/171،172) ، كشاف القناع (1/126،127) .(5/246)
دليل الجمهور.
(60) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة،
عن أبيه، قال: كنت مع النبي b في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما (1) .
وجه الدلالة:
قوله: " أدخلتهما طاهرتين " فالجمهور حملوا الطهارة على كمالها؛ لأنه إذا غسل رجله اليمنى، ثم ألبسها الخف، فقد لبس الخف، وهو محدث، ومن شرط المسح لبس الخف، وقد ارتفع حدثه، ولا يكون طاهراً إلا إذا أتم الطهارة، ولذا لا يجوز له أن يصلي، وقد بقي عليه شيء لم يغسله مما يجب غسله.
_________
(1) صحيح البخاري (206) ومسلم (274) .(5/247)
الدليل الثاني:
(61) ما رواه ابن خزيمة، قال: نا بندار وبشر بن معاذ العقدي ومحمد بن أبان، قالوا: نا عبد الوهاب بن عبد المجيد، نا المهاجر، وهو ابن مخلد أبو مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة،
عن أبيه، عن النبي b أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلةً إذا تطهر، فلبس خفيه، أن يمسح عليهما (1) .
[إسناده ضعيف، وكلمة (فلبس) اختلف الرواة في ذكرها] (2) .
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (192) .
(2) أما سبب ضعف إسناده، فإن فيه المهاجر بن مخلد، وسبقت ترجمته.
والحديث مداره على عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن المهاجر بن مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه مرفوعاً.
رواه بشر بن معاذ العقدي ومحمد بن أبان كما عند ابن خزيمة (192) ، والدارقطني (1/204) عن عبد الوهاب به بلفظ: " إذا تطهر فلبس خفيه ".
ورواه الشافعي، واختلف عليه، فرواه عنه الربيع عن عبد الوهاب به، كما في شرح السنة للبغوي (237) بلفظ: " إذا تطهر فلبس خفيه ".
ورواه الشافعي في مسنده (ص: 17) عن عبد الوهاب، بلفظ: " أنه رخص للمسافر أن يمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة ". وليس فيه الشرط، والتعبير بالفاء.
ورواه جماعة عن عبد الوهاب بلفظ: " إذا تطهر ولبس خفيه " بالواو، فلا يكون فيه دليل للجمهور، منهم:
بشر بن هلال الصواف كما عند ابن ماجه (556) .
ومحمد بن المثنى، كما في صحيح ابن حبان (1324) ، وسنن الدارقطني (1/194) .
وأبو الأشعث، والعباس بن يزيد، ومسدد، كما في سنن الدارقطني (1/194) .
فهؤلاء خمسة رواة، رووه بلفظ: " لبس خفيه وتطهر ".
والواو لا تفيد ترتيباً كما هو معروف في اللغة.
ورواه بندار باللفظين، تارة بلفظ: " فلبس خفيه " كما عند ابن خزيمة (192) والدارقطني (1/204) .
وتارة بلفظ: " إذا تطهر ولبس خفيه " كما عند ابن ماجه (556) .
ورواه بعضهم بدون اشتراط الطهارة، منهم:
يحيى بن معين، كما في المنتقى لابن الجارود (87) .
وزيد بن الحباب، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/163) .
وعمر بن يزيد السياري، كما في صحيح ابن حبان (1328) .
والشافعي في مسنده (ص: 17) وسبق الإشارة إليها. فهؤلاء أربعة رووه عن عبدالوهاب، ولم يذكروا اشتراط الطهارة. وعليه فأكثر الرواة لم يذكروا لفط " إذا تطهر فلبس" وهو موضع الشاهد، على أن إسناده لو ثبت ضعيف كما قدمنا.(5/248)
الدليل الثالث:
(62) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال:
أتيت صفوان بن عسال المرادي، فقال: ما حاجتك؟ قال: قلت: جئت أبتغي العلم، قال: فإني سمعت رسول الله b يقول: ما من خارج يخرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضى بما يصنع. قال: جئتك أسألك عن المسح على الخفين؟ فقال: نعم، كنت في الجيش الذي بعثه رسول الله b فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهور ثلاثاً إذا سافرنا، وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول، ولا نخلعهما إلا من جنابة. الحديث.(5/249)
[حديث حسن، وزيادة: " إذا أدخلناهما على طهر" شاذة] (1) .
_________
(1) ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد (4/239،240) والدراقطني (1/196،197) ، والبيهقي (1/281،282) .
والحديث مداره على عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال.
وزيادة " إذا أدخلناهما على طهر، وذكر التوقيت للمقيم " انفرد بها معمر، رواها عنه عبد الرزاق، وقد اختلف على عبد الرزاق،
فرواه أحمد كما في المسند (4/239) .
والحسن بن أبي الربيع، كما عند الدارقطني (1/196) ، والبيهقي (1/281،282) .
ومحمد بن يحيى، ومحمد بن نافع، كما عند ابن خزيمة (193) ومن طريقه ابن حبان (1325) . كلهم رووه عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم به، بذكر اشتراط إدخالهما على طهر، وتوقيت المسح للمقيم.
ورواه إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق كما عند ابن حبان (1319) ، وليس فيه اشتراط إدخالهما على طهر، وزاد فيه التوقيت للمقيم.
وقد رواه جمع كثير من الحفاظ، عن عاصم، ولم يذكروا ما ذكره معمر، من اشتراط إدخالهما على طهر، كما لم يذكروا التوقيت للمقيم، منهم:
الأول: الثوري، عن عاصم.
كما في مصنف عبد الرزاق (792) ، وأحمد (4/239) ، والبيهقي (1/118) .
الثاني: ابن عيينة، عن عاصم، كما عند عبد الرزاق (795) ، وأحمد (4/240) ، والحميدي في مسنده (881) ، وابن أبي شيبة (1/162) ، والترمذي (3535) ، والنسائي (126) ، وابن ماجه (478) ، والطحاوي (1/82) ، والبيهقي (1/276) .
الثالث: همام، عن عاصم.
كما في مسند أبي داود الطيالسي (1166) ، ومسند أحمد (4/239) .
الرابع: شيبان بن عبد الرحمن، كما في سنن البيهقي (1/114) .
الخامس: أبو خيثمة، كما في سنن النسائي (127) ، وسنن البيهقي (1/289) .
السادس: شعبة، كما في مسند أبي داود الطيالسي (1166) .
السابع والثامن: حماد بن زيد وحماد بن سلمة، كما في مسند الطيالسي (1166) .
التاسع: أبو الأحوص، كما عند الترمذي (96) .
العاشر: مالك بن مغول، كما عند النسائي (127) .
الحادي عشر: أبو بكر بن عياش، كما عند النسائي (127) .
الثاني عشر: مسعر، كما عند البيهقي (1/114،115) ، إلا أنه قال: من غائط وبول وريح، وذِكْر الريح شاذ في الحديث مخالف لما رواه الجماعة من ذكر النوم، فهؤلاء اثنا عشر حافظاً كلهم اتفقوا على رواية الحديث، ولم يذكروا فيه اشتراط إدخالهما على طهر، ولم يذكروا فيه التوقيت للمقيم، ولا يعني الحكم بشذوذها في هذا الحديث ألا يكون اللفظ ثابتاً من حديث آخر، فهذا بحث آخر، المهم أن حديث عاصم ليس فيه ما زاده معمر، وهؤلاء الواحد منهم مقدم على معمر في روايته عن عاصم، فكيف وقد اجتمعوا، وقد قال الحافظ في التقريب بأن رواية معمر، عن عاصم فيها شيء، حيث قال: ثقة ثبت، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش وعاصم بن أبي النجود، وهشام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدث به بالبصرة اهـ.
وقد تابع معمراً أبو الغريف، قال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/527) : " وقد روى أبو يعلى الموصلي، ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا أبو إسامة، حدثني أبو روق، عن عطية ابن الحارث الهمداني، حدثني أبو الغريف، عن صفوان بن عسال، قال: بعثنا رسول الله b سرية، وقال: سيروا باسم الله، قاتلوا أعداء الله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا،
ولا تقتلوا وليداً، وليمسح أحدكم إذا كان مسافراً إذا أدخل رجليه، وهما طاهرتان، ثلاثة أيام ولياليها، وإن كان مقيماً فيوم وليلة. اهـ ولم أجد مسند صفوان بن عسال في مسند أبي يعلى المطبوع، فلعله رواه في كتاب آخر.
وهذا إسناد ضعيف، وقد اختلف على أبي إسامة، فرواه عنه إسحاق بن أبي إسرائيل كما سبق، ويوسف بن موسى، وحوثرة بن محمد، كما في سنن البيهقي (1/282) ، ثلاثتهم رووه عن أبي أسامة به، بذكر اشتراط إدخالهما، وهما طاهرتان.
ورواه هارون بن عبد الله، كما في سننن النسائي الكبرى (8837) .
والحسن بن علي الخلال الحلواني، كما في سنن ابن ماجة (2857) .
والحسن بن علي بن عفان العامري، كما في سنن البيهقي (1/276) .
ثلاثتهم رووه عن أبي أسامة به، بدون ذكر المسح على الخفين.
ورواه أحمد (4/240) والطحاوي (1/82) من طريق عبد الواحد بن زياد، ثنا أبو روق به، وذكر فيه التوقيت للمسح على الخفين، ولم يذكر اشتراط إدخالهما على طهر.
لكن رواه أحمد أيضاً (4/240) من طريق زهير، عن أبي روق به، بذكر اشتراط إدخالهما على طهر.
فالمعروف من رواية أبي الغريف ليس فيها ذكر اشتراط إدخالهما على طهر.
كما أن إسناد الحديث ضعيف، فيه أبو الغريف، قال ابن أبي حاتم: وسئل أبي عنه، فقال: كان على شرطة علي بن أبي طالب، ليس بالمشهور، قلت: هو أحب إليك أم الحارث الأعور؟ قال: الحارث أشهر، وهذا قد تكلموا فيه، وهو شيخ من نظراء أصبغ بن نباتة اهـ. الجرح والتعديل (5/313) .
قلت: أصبغ قال فيه الحافظ: متروك رمي بالرفض، والحارث الذي قدمه عليه
أبو حاتم، في التقريب: كذبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف.
فعلى كل حال، لفظ اشتراط الطهارة ليس بمحفوظ من حديث صفوان بن عسال، والله أعلم.(5/250)
وجه الاستدلال من الحديث قوله: " إذا نحن أدخلناهما على طهور" فكلمة طهور أبلغ في الدلالة من قوله: " فإني أدخلتهما طاهرتين " لأنه هنا قد ينازع منازع، فيقول: إني لم أدخل اليمنى إلا وهي طاهرة: أي قد غسلتها بالماء، فيصدق عليه أني أدخلتها وهي طاهرة، ولو كان قبل غسل اليسرى، لكن قوله: " على طهور ": أي وأنا طاهر، والمتوضئ لا يقال له: على طهور إلا إذا أكمل الطهارة، ولهذا قال ابن خزيمة: ذكرت للمزني خبر عبد الرزاق هذا، فقال: حدثه به أصحابنا، فإنه ليس للشافعي حجة(5/252)
أقوى من هذا، يعني: قوله: إذا نحن أدخلناهما على طهر " (1) .
الدليل الثالث:
دليل نظري، قال إمام الحرمين: " تقدم الطهارة على المسح شرط بالاتفاق، والطهارة تراد لغيرها، فإن تخيل متخيل أن الطهارة شرط للمسح كان محالاً؛ لأن المسح يتقدمه الحدث، وهو ناقض للطهارة، فاستحال تقديرها شرطاً فيه مع تخلل الحدث، فوضح أن الطهارة شرط في اللبس، وكل ما شرطت الطهارة فيه شرط تقديمها بكمالها على ابتدائه (2) الخ.
ولأن ما اعتبرت له الطهارة، اعتبر له كمالها كالصلاة، ومس المصحف، فمثله المسح على الخفين.
ولأن الأول خف ملبوس قبل رفع الحدث، فلم يجز المسح عليه كما لو لبسه قبل غسل قدميه، ودليل بقاء الحدث أنه لا يجوز له أن يصلي قبل إتمام الطهارة.
ولو أنه غسل قدمه اليمنى، ثم أدخلها الخف، ثم غسل اليسرى، فأدخل الخف، لم يلزمه على قول الجمهور إلا ن ينزع اليمنى مرة أخرى ثم يلبسها، فيصدق عليه أنه لبسها بعد كمال الطهارة.
دليل الحنفية على جواز المسح.
حمل الحنفية حديث: " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " الطهارة الكاملة وقت الحدث، لا وقت اللبس، فإذا غسل رجله اليمنى، ثم ألبسها
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (1/97) .
(2) المجموع (1/542) .(5/253)
الخف، ثم غسل رجله اليسرى، فألبسها الخف، فإذا أحدث جاز له المسح؛ لأنه وقت الحدث يصدق عليه أنه لبس الخف على طهارة كاملة.
قال الكاساني: " ولنا أن المسح إنما شرع لمكان الحاجة، والحاجة إلى المسح إنما تتحقق وقت الحدث بعد اللبس، فأما عند الحدث قبل اللبس فلا حاجة؛ لأنه يمكنه الغسل، وكذا لا حاجة بعد اللبس قبل الحدث؛ لأنه طاهر، فكان الشرط كمال الطهارة وقت الحدث بعد اللبس، وقد وجد" (1) .
ووافق قول ابن حزم وابن تيمية قول الحنفية، وإن كانا يختلفان معهم في توجيه الاستدلال، فهما يريان أن الرجل إذا غسل رجله اليمنى، ثم أدخلها الخف يصدق عليه أنه أدخلها الخف، وهي طاهرة، ثم إذا غسل رجله الأخرى في ساعته، ثم ألبسها الخف، فقد أدخلها، وهي طاهرة، فصدق على من هذه صفته أنه أدخل رجليه الخفين، وهما طاهرتان، فله أن يمسح عليهما بظاهر الخبر، والقائل بغير هذا القول قائل بخلاف هذا الحديث، وكوننا نأمره أن ينزع ثم يلبس من غير أن يلزمه غسل عبث محض ينزه الشارع عن الأمر به، ولا مصحلة للمكلف في القيام به.
والدليل على أن طهارته شرعية أنه لو صلى قبل أن يحدث فطهارته صحيحة بالإجماع، وليس لبس الخف كمس المصحف حتى نقول: لا تلبس حتى تتم غسل الرجل الأخرى.
والقول هذا أقوى، والأول أحوط، والله أعلم.
_________
(1) بدائع الصنائع (1/9) .(5/254)
الشرط الثاني عشر
يشترط إذا كان سليم القدمين
أن يمسح على الخفين معاً(5/255)
[صفحة فارغة](5/256)
الشرط الثاني عشر
يشترط إذا كان سليم القدمين أن يمسح على الخفين معاً
لو لم يكن للرجل إلا رجل واحدة جاز المسح عليها بلا خلاف (1) .
ولو بقي من الرجل الأخرى بقية مما يجب غسله لم يمسح على الأخرى حتى يسترها بما يجوز المسح عليه.
ولو كانت إحدى رجليه عليلة بحيث لا يجب غسلها، فلبس الخف في الصحيحة، فقطع الدارمي من الشافعية بصحة المسح عليها (2) .
وقيل: لا يمسح، وصححه النووي (3) .
والأول: أصح؛ لأنه لما كان معذوراً في خلعها للعلة، جاز المسح على الصحيحة، كما لو كانت له رجل واحدة.
وإن كان الرجل سليم القدمين، ولبس خفاً في رجل واحدة، فأخشى ألا يصح مسحه، وقد نقل النووي الإجماع على أنه لا يمسح (4) ،
_________
(1) حكاه النووي في المجموع (1/561) .
وقال في الفروع (1/158) : " ويجوز المسح حتى لزمن، وامرأة، وفي رجل واحدة إذا لم يبق من فرض الأخرى شيء ".
ونقله المرداوي في الإنصاف (1/170) .
(2) روضة الطالبين (1/133) .
(3) المجموع (1/561) .
(4) قال في المجموع (1/523) : " وفيه تنبيه على مسألة مهمة من أصول الباب،
وهي أنه لو لبس خفاً في رجل دون الأخرى، ومسح عليه، وغسل الأخرى لم يجز بلا
خلاف ".(5/257)
ولأن الإذن ورد بالمسح على الخفين، لا على أحدهما، وهو منهي عن المشي في نعل واحدة، ومثلها المشي في خف واحدة،
(63) قال البخاري رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة أن رسول الله b قال: لا يمش أحدكم في نعل واحدة، ليحفهما جميعاً، أو لينعلهما جميعاً، ورواه مسلم (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (5855) ، ومسلم (1774) .(5/258)
الشرط الثالث عشر
يشترط أن يكون المسح على الخفين
وما فيه معناهما(5/259)
[صفحة فارغة](5/260)
الشرط الثالث عشر
يشترط أن يكون المسح على الخفين وما فيه معناهما
فلا يمسح على البرقع في الوجه، ولا على القفازين في اليدين،
ولا على ما تطلي به المرأة أظفارها (1) .
قال النووي: أجمع العلماء على أنه لا يجوز المسح على القفازين في اليدين والبرقع في الوجه " (2) .
(64) قلت: روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، قال: حدثني أبو الضحى، قال: حدثني مسروق، قال:
حدثني المغيرة بن شعبة، قال: انطلق النبي b لحاجته، ثم أقبل، فتلقيته بماء، فتوضأ، وعليه جبة شأمية، فمضمض، واستنشق، وغسل وجهه، فذهب يخرج يديه من كميه، فكانا ضيقين، فأخرج يديه من تحت الجبة، فغسلهما، ومسح برأسه وعلى خفيه (3) .
فهنا حين ضاقت أكمام الجبة لم يمسح على يديه، بل أخرج يده من أسفلها مع ما في ذلك من المشقة، ولو كان كل شيء مقيساً على الخف
_________
(1) الاختيار لتعليل المختار (1/25) ، مراقي الفلاح (ص: 55) ، حاشية ابن عابدين (1/457) ، شرح فتح القدير (1/107) ، المبسوط (1/107) ، المجموع (1/503) ، كشاف القناع (1/113) .
(2) المجموع (1/503) .
(3) صحيح البخاري () ، ورواه مسلم (274) .(5/261)
لمسح النبي b على يديه، خاصة أنه كان في سفر أيضاً.
وينبغي التنبه إلى أن ما تطلي به المرأة اليوم أظفارها بما يسمى بالمناكير يجب إزالته عند الوضوء؛ لأنه يمنع وصول الماء إلى الأظفار، وبالتالي لا يصح معه الوضوء، فتحاول المرأة أن تزيله قبل الوضوء، أو أن تضعه في الوقت الذي لا يجب عليها صلاة، كما لو كانت حائضاً، ونفساء ونحوهما، والله أعلم.(5/262)
فرع
إذا لبس الخفين، وهو يدافع الأخبثين
فقيل: يكره، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: لا يكره، ورجحه النووي (2) .
دليل الحنابلة:
قالوا: لأن الصلاة مكروهة بهذه الطهارة، واللبس يراد ليسمح عليه للصلاة (3) .
والراجح عدم الكراهة، لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وقياس اللبس على الصلاة قياس مع الفارق، وذلك أن الصلاة إذا صلى، وهو يدافع الأخبثين فإن ذلك يذهب الخشوع، الذي هو مقصود الصلاة، وليس كذلك من لبس الخف (4) .
وقال ابن قدامة: ولأن الطهارة كاملة فأشبه ما لو لبسه إذا خاف غلبة النعاس (5) .
_________
(1) قال في الفروع (1/158) " ويكره في المنصوص لبسه مع مدافعة أحد الأخبثين ".
(2) المجموع (1/561) .
(3) المغني (1/179) .
(4) المجموع (1/561) .
(5) المغني (1/179) .(5/263)
[صفحة فارغة](5/264)
الشرط الرابع عشر
هل تشترط النية للمسح على الخفين(5/265)
[صفحة فارغة](5/266)
الشرط الرابع عشر
هل تشترط النية للمسح على الخفين
اختلف العلماء في اشتراط النية في المسح على الخفين،
فقيل: لا تشترط، وهو مذهب الحنفية (1) .
وذهب الجمهور إلى أن النية شرط (2) .
واختلافهم في هذه المسألة مبني على الخلاف في الطهارة من الحدث، هل تشترط لها النية أم لا؟
فقيل: النية شرط لطهارة الحدث الأصغر والأكبر، بالماء والتيمم.
وهو مذهب المالكية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة (5) ، وهو الراجح.
وقيل: سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في التيمم، وهو
_________
(1) بدائع الصنائع (1/12) ، تبيين الحقائق (1/54) ، البحر الرائق (1/199) ، الفتاوى الهندية (1/33) .
(2) انظر العزو إلى اشتراط النية في الوضوء في العزو التالي.
(3) حاشية الدسوقي (1/93) ، الخرشي (1/129) ، الشرح الصغير (1/114،115) ، القوانين الفقهية (ص:19) ، منح الجليل (1/84) ، مواهب الجليل (1/230) ، الكافي (1/19) .
(4) المجموع (1/355) ، الروضة (1/47) ، مغني المحتاج (1/47) ، نهاية المحتاج (1/156) ، الحاوي الكبير (187) ، متن أبي شجاع (ص:5) .
(5) معونة أولي النهى شرح المنتهى (1277) ، الممتع شرح المقنع (1/176) ، المحرر (1/11) ، كشاف القناع (1/85) ، المغني (1/156) ، الكافي (1/23) ، المبدع (1/116) .(5/267)
مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بلا نية. وهو قول الأوزاعي (2) .
أدلة الجمهور على أن النية شرط.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...} إلى أن قال: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (3) .
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى قد شرط في صفة فعل الطهارة الصغرى والكبرى إرادة الصلاة، والشرطية مأخوذة من لفظ: " إذا " في قوله:
" إذا قمتم " فإذا كان قد شرط إرادة الصلاة في فعل الطهارة كان من فعله مريداً للتبرد، أو النظافة لم يفعله على الشرط الذي شرطه الله، وذلك يوجب أن لا يجزئه.
وقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} (4) . أي أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (5) . أي إذا
_________
(1) شرح فتح القدير (1/32) ، البناية في شرح الهداية (1/173) ، تبيين الحقائق (1/5) ، البحر الرائق (1/24) ، بدائع الصنائع (1/19) ، مراقي الفلاح (ص:29) .
(2) الأوسط لابن المنذر (1/370) .
(3) المائدة: 6.
(4) المائدة: 6.
(5) النحل: 98.(5/268)
أردت قراءته.
قال ابن قدامة: " قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} أي للصلاة، كما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل: أي له. وإذا رأيت الأسد فاحذر: أي منه " (1) .
الدليل الثاني:
(65) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبدالوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ورواه مسلم (2) .
وجه الاستدلال:
قال النووي: " لفظة: (إنما) للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ودليل آخر، وهو قوله b: " وإنما لكل امرئ ما نوى " هذا لم ينو الوضوء، فلا يكون له " (3) .
_________
(1) المغني (1/157) .
(2) صحيح البخاري (6689) ، ومسلم (1907) .
(3) المجموع (1/356)(5/269)
وقال ابن قدامة: " نفى أن يكون له عمل شرعي بدون نية " (1) .
الدليل الثالث:
قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (2) .
والإخلاص: إنما هو النية، والوضوء من الدين، فوجب أن لا يجزئ بغير نية. فإن قيل: ما دليلكم على أن الوضوء من الدين؟
فالجواب:
(66) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان ابن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها (3) .
فإذا كان الإيمان عبادة فشطره كذلك.
والوضوء عبادة مستقلة رتب الشارع عليها ثواباً عظيماً، وإذا كانت عبادة كانت مفتقرة إلى نية حتى تتميز عن العادة.
والدليل على أنه رتب على الوضوء ثواباً ما جاء من الأحاديث في
_________
(1) المغني (1/156)
(2) البينة، آية: 5.
(3) صحيح مسلم (223) .(5/270)
فضل وثواب هذه العبادة ومنها
(67) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سويد بن سعيد عن مالك ابن أنس ح وحدثنا أبو الطاهر واللفظ له، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن مالك ابن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب (1) .
فدل على أن الوضوء عبادة، وإذا كانت كذلك لا تصح إلا بنية، لأنها قربة إلى الله تعالى، وطاعة له، وامتثال لأمره، ولا يحصل ذلك بغير نية.
الدليل الرابع:
القياس على طهارة التيمم، بجامع أن كلاً منها طهارة عن حدث.
الدليل الخامس:
الشريعة كلها إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى، فلا معنى للنية فيه، والمطلوب نواه وأوامر، فالنواهي يخرج الإنسان من عهدتها وإن لم يشعر بها، فضلاً عن القصد إليها. فزيد المجهول حرم الله علينا دمه وعرضه، وقد خرجنا عن العهدة وإن لم نشعر به. نعم إن شعرنا
_________
(1) صحيح مسلم (244) .(5/271)
بالمحرم ونوينا تركه حصل لنا الثواب مع الخروج من العهدة.
والأوامر منها ما يكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون، والودائع، ونفقة الزوجات والأقارب، فإن المقصود من هذه الأمور انتفاع أربابه، وذلك لا يتوقف على قصد الفاعل، فيخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها.
ومنها ما لا يكون صورة فعله كافية في حصول المقصود كالصلوات، والصيام، والنسك، فإن المقصود منها تعظيم الله تعالى والخضوع له، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله، وهذا هو الذي أمر الشرع فيه بالنيات، والطهارة من هذا الباب (1) .
أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} إلى قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (2) .
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوضوء والغسل أمراً مطلقاً دون قيد النية ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل، فمن غسل أعضاءه، ومسح رأسه فقد امتثل الأمر وصح وضوءه، وكذلك من غسل بدنه (3) .
_________
(1) مواهب الجليل (1/132) .
(2) المائدة آية (6) .
(3) انظر بدائع الصنائع (1/19) .(5/272)
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (1) .
وجه الاستدلال:
نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال، وأطلق ولم يشترط النية، فيقتضي انتهاء حكم النهي عند الاغتسال، ولو لم يكن معه نية (2) .
الدليل الثالث:
قال تعالى بعد أن ذكر طهارة الوضوء والغسل:
{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (3) .
وحصول الطهارة لا يقف على النية، بل على استعمال المطهر في محل قابل للطهارة (4) .
يوضح ذلك أيضاً أن النية إن اعتبرت بجريان الماء على الأعضاء فهو حاصل نوى أو لم ينو. وإن اعتبر لإزالة الحدث المتعلق بالأعضاء فإن الخبث المتعلق بها أقوى من الحدث، وزوال هذا الأقوى لا يتوقف على النية، فكيف للأضعف.
_________
(1) النساء آية (43)
(2) انظر المرجع السابق، ونفس الصفحة.
(3) المائدة آية: 6.
(4) انظر بدائع الصنائع (1/19) .(5/273)
الدليل الرابع:
(68) ما رواه أبو داود (1) ، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
إن رجلاً أتى النبي b فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟. فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، وأدخل اصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم " أو " ظلم وأساء ".
] إسناده حسن، وزيادة أو نقص وهم من الراوي [ (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (135) .
(2) الحديث مداره على موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وقد تكلمت على إسناد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في حديث رقم (19) من كتابي الحيص والنفاس وبينت أن إسناده حسن إذا صح الإسناد إلى عمرو.
وأما موسى بن أبي عائشة
قال الحميدي، عن ابن عيينة: حدثني موسى بن أبي عائشة، وكان من الثقات. الجرح والتعديل (29/90) .
وقال ابن معين: ثقة، كما في رواية إسحاق بن منصور، وعباس الدوري. المرجع السابق.
وقال ابن حبان: كان ثبتاً. مشاهير علماء الأمصار (787) .
وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/404) .
وقال يعقوب بن سفيان كوفي ثقة. تهذيب التهذيب (10/314) .
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: تريبني رواية موسى بن أبي عائشة حديث عبيد الله بن عبد الله، في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: ما تقول فيه. قال: صالح الحديث. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: يكتب حديثه. الجرح والتعديل (8/157) .
قال ابن حجر تعقيباً: عنى أبو حاتم: أنه اضطرب فيه، وهذا من تعنته، وإلا فهو حديث صحيح. تهذيب التهذيب (10/314) .
وفي التقريب: ثقة عابد وكان يرسل.
ويرويه عن موسى رجلان أبو عوانة، وسفيان الثوري.
أما رواية أبي عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، فأخرجها أبو داود كما هو في إسناد الباب (135) . ومن طريقه البغوي في شرح السنة (1/444،445) والبيهقي في السنن (1/79) .
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/36) قال حدثنا أحمد بن داود، ثنا مسدد، قال ثنا أبو عوانة به.
وهذا الإسناد رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، إلا أن فيه "زيادة" "أو نقص". وبعضهم يقتصر على قوله: " فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم " وهذه الزيادة وهم في الحديث ولا شك؛ لأن الوضوء جائز مرة مرة، ومرتين مرتين.
قال السندي في حاشيته على سنن النسائي (1/88) : " والمحققون على أنه وهم، لجواز الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين ".
ولم يختلف على أبي عوانة في ذكر كلمة: "أو نقص".
ورواه سفيان عن موسى بن أبي عائشة واختلف على سفيان.
فرواه ابن أبي شيبة (1/16) ح58 حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة به بلفظ: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هكذا الطهور، فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم ". وهذه متابعة لأبي عوانة بذكر كلمة (أونقص) . وخالفه يعلى بن عبيد، والأشجعي فروياه عن سفيان به بدون قوله: (أو نقص) . فقد أخرجه أحمد (2/180) : حدثنا يعلى ـ يعني ابن عبيد ـ حدثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة به، ولفظه: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: "هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم ".
وأخرجه النسائي في الصغرى (140) وفي الكبرى (90،173) أخبرنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا يعلى به. وأخرجه في الكبرى أيضاً (89) أخبرنا أحمد بن سليمان الرهاوي، قال: حدثنا يعلى به.
وأخرجه ابن ماجه (422) حدثنا علي بن محمد، حدثنا خالي يعلى به، إلا أنه قال:
" فقد أساء أو تعدى أو ظلم " فعبر بـ (أو) ولفظ الجماعة بالواو.
وأما رواية الأشجعي فقد رواها ابن الجارود (75) وابن خزيمة (174) قالا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان به.
وقال الحافظ في الفتح (1/233) : إسناده جيد، لكن عده مسلم في جملة ما أنكر على عمرو بن شعيب؛ لأن ظاهره ذم النقص من الثلاث، وأجيب بأنه أمر سيء، والإساءة تتعلق بالنقص، والظلم بالزيادة.
وقيل: فيه حذف، تقديره: من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد، من طريق المطلب بن حنطب مرفوعاً، الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً، فإن نقص من واحدة، أو زاد على ثلاث فقد أخطأ، وهو مرسل رجاله ثقات.
وأجيب عن الحديث أيضا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم مقتصر على قوله: (فمن زاد) فقط كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره. ومن الغرائب ماحكاه الشيخ أبو حامد الاسفراييني عن بعض العلماء، أنه لا يجوز النقص من الثلاث، وكأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور، وهو محجوج بالإجماع. اهـ كلام الحافظ رحمه الله.(5/274)
وجه الاستدلال:
فهذا الرجل وهو أعرابي كما في بعض الروايات، كان يجهل الطهور، وقد سأل عن الوضوء فلو كانت النية من شرائطه التي يتوقف عليها صحة الوضوء لذكر النبي b النية له. فلما لم يذكرها علم أنها ليست بشرط.
وأجيب:
بأن النبي b قد علم المسيء صلاته كيفية الصلاة، ولم يذكر له(5/276)
النية، وقد قلتم بوجوبها للصلاة فما الفرق؟
الدليل الخامس:
(69) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت:
يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: " إنما يكفيك " ساقه مساق الحصر، ولم يذكر النية.
قلت: السؤال عن الكيفية، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لعمار
كما في البخاري، ومسلم (2) في صفة التيمم: " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا " وذكر صفة التيمم، ولم يذكر له النية، وأنتم تقولون باشتراط النية في التيمم.
الدليل السادس:
القياس على إزالة النجاسة، فإذا كانت طهارة الخبث لا تتوقف على
_________
(1) مسلم (330) .
(2) البخاري (347) ومسلم (368) .(5/277)
نية فعدم توقف طهارة الحدث على النية أولى؛ وإنما قلنا إن طهارة الخبث أولى؛ لأن سببها وموجبها أمر حسي، وخبث مشاهد؛ ولأنه لا بدل لها من التراب، فقد ظهرت قوتها حساً وشرعاً.
وأجيب:
هناك فرق بين طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فالأولى من باب فعل المأمور، ولم يكن الموجب لها نجاسة حسية، وتخصيصها بالأعضاء الأربعة في الصغرى تعبد، أما طهارة الخبث فالمطلوب التخلي منها، فهي من باب التروك، ولهذا لو صلى ناسياً حدثه أعاد، بخلاف طهارة الخبث، فما كان من باب فعل المأمور وجبت له النية كالصلاة، وما كان من باب التروك لم تجب كالنجاسة وترك الزنا ونحوهما.
الدليل السابع:
قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (1) . فإذا كان الماء خلق طهوراً، فهذه صفته وطبيعته، كما خلق الماء مروياً، وخلق مبرداً سائلاً، كل ذلك طبعه ووصفه الذي جعل عليه، فكما أنه لا يحتاج إلى النية في حصول الري والتبريد، فكذلك في حصول التطهير، فإذا كان الماء خلق طاهراً، وطاهريته لا تتوقف على نية، فكذلك طهوريته (2) .
الدليل الثامن:
المراد من الوضوء النظافة والوضاءة، وقيام العبد بين يدي الرب
_________
(1) الفرقان، آية: 48.
(2) بدائع الفوائد ـ ابن القيم (3/186) .(5/278)
تبارك وتعالى على أكمل أحواله، مستور العورة، متجنباً للنجاسة، نظيف الأعضاء وضيئها، وهذا حاصل باتيانه بهذه الأفعال، نواها أو لم ينوها، يوضحه أن الوضوء غير مراد لنفسه، بل مراد لغيره، والمراد لغيره لا يجب أن ينوى؛ لأنه وسيلة. وإنما تعتبر النية في المراد لنفسه إذ هو المقصود المراد (1) . فالراجح قول الجمهور وأن النية شرط في طهارة الحدث، وقياسها على طهارة الخبث لا يصح، ونية الوضوء كافية، ولا يحتاج المسح على الخفين إلى نية مستقلة، بل هو داخل في نية الوضوء، كأفعال الصلاة، فالصلاة لا بد لها من نية، وأفعال الركوع والسجود لا يحتاجان إلى نية خاصة، بل هما داخلان في نية الصلاة، ومثله أفعال الحج، والله أعلم.
_________
(1) بدائع الفوائد (3/178) .(5/279)
[صفحة فارغة](5/280)
الباب الثالث
في صفة المسح
ويشتمل على خمسة فصول(5/281)
[صفحة فارغة](5/282)
الفصل الأول
في المقدار المجزئ في المسح على الخفين
فقيل: إن مسح خفه بأصبع أو أصبعين لم يجزه، وإن مسح بثلاثة أصابع أجزأه، وهو مذهب الحنفية.
وقيل: يجب استيعاب أعلى الخف بالمسح، وهو مذهب المالكية (1) .
وقيل: يجزئ مقدار ما يقع عليه اسم المسح في محل الفرض، وهو مذهب الشافعية (2) ، وبه قال سفيان، (3) وهو مذهب داود الظاهري، ورجحه ابن حزم (4) .
وقيل: يجب أن يمسح أكثر ظاهر الخف، وهو مذهب الحنابلة.
دليل من قال يمسح بثلاثة أصابع.
الدليل الأول:
(70) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي
_________
(1) قال الباجي في المنتقى (1/82) : " وهل عليه استيعاب الممسوح من الخف بالمسح أم لا؟ الظاهر من المذهب وجوب الاستيعاب ".
(2) قال في الأم (8/103) " وكيفما أتى بالمسح على ظهر القدم بكل اليد، أو ببعضه أجزأه ".
(3) المحلى (1/343) .
(4) قال في المحلى: مسألة: 222 (1/343) : " وما مسح من ظاهرهما بأصبع أو أكثر أجزأ ".(5/283)
العلاء (1) ، قال: رأيت قيس بن عباد بال، ثم أتى دجلة، فمسح على الخف، وفرج بينهما، فرأيت أثر أصابعه في الخف (2) .
[إسناده ضعيف، فيه أبو العلاء يريم] (3)
_________
(1) في المطبوع من مصنف عبد الرزاق (عن العلاء) قال محقق عبد الرزاق في الأصل (أبو العلاء) والصواب ما أثبتناه، وهو العلاء بن عرار كما في سنن البيهقي.
قلت: بل ما جاء في الأصل هو الصواب، والذي أوقع المحقق في الخطأ هو رواية البيهقي، وهي ضعيفة جداً، فقد رواه البيهقي (1/293) من طريق محمد بن يونس، ثنا روح، عن أبي عون، عن العلاء بن عرار، عن قيس بن سعد به.
وأخرجه أيضاً عن محمد بن يونس، ثنا روح، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن العلاء بن عرار، عن قيس به.
ومحمد بن يونس هو الكديمي، وهو متروك، واتهمه بعضهم بالوضع، وانفرد بهذا الطريق فلا يفرح بهذه المتابعة، والله أعلم.
(2) المصنف (1/219) رقم (852) .
(3) فيه أبو العلاء يريم والد هبيرة، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/313) ، ولم يذكر راوياً عنه إلا أبا إسحاق، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً.
والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/166) حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق به. وفيه قصة.
وأخرجه مسدد كما في المطالب العالية (102) والطبراني في الكبير (18/347) من طريقين يونس بن أبي إسحاق،
وأخرجه مسدد كما في المطالب العالية عن سفيان، كلاهما عن أبي إسحاق به.
وأخرجه البخاري في تاريخه (8/427) عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به. ومن طريق إسرائيل أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (14/357) .
وأخرجه ابن سعد في الطبقات (6/53) من طريق الأجلح، عن إبي إسحاق به بنحوه.(5/284)
الدليل الثاني:
(71) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال:
رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
وجه الاستدلال من الأثرين:
قوله في الأثرين: " فرأيت أثر أصابعه "، والأصابع: اسم جمع، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة، فكان هذا تقديراً للمسح ثلاثة أصابع اليد. وقدرناها بأصابع اليد؛ لأنها آلة المسح؛ ولأن الفرض يتأدى بها بيقين؛ لأنها ظاهرة محسوسة، فأما أصابع الرجل فمستترة بالخف، لا يعلم مقداره إلا بالحرز والظن، فكان التقدير بأصابع اليد أولى.
دليل من قال يجب إستيعاب ظاهر الخف.
استدلوا بالأحاديث الدالة على مسح ظاهر الخف، فإنها نصت على مسح الظاهر، ولو كان المقصود أكثر الظاهر أو بعضه لنقل. منها:
_________
(1) المصنف (851) .
(2) ورواه ابن أبي شيبة (1/166) ، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: المسح على الخفين خطاً بالأصابع.
وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن رواية هشام عن الحسن فيها كلام، قيل: إنه كان يرسل عنه.
ومن طريق فضيل بن عياض أخرجه الدارقطني (1/195) إلا أنه قال: خطط بالأصابع.(5/285)
(72) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير،
عن على رضي الله تعالى عنه قال: ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله b يمسح على ظهر خفيه (1) .
[رجاله ثقات] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (163) .
(2) مدار هذا الحديث على عبد خير، عن علي مرفوعاً، ورواه عن عبد خير ثلاثة: أبو إسحاق السبيعي، وأبو السوداء عمرو بن عمران النهدي، والسدي.
أما رواية أبي إسحاق السبيعي، فرواه عنه الأعمش، واختلف عليه:
فرواه وكيع، وعيسى بن يونس، عن الأعمش به، لا يختلفون في لفظه، ولا يذكرون المسح على الخفين، ولفظه: " كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله b يمسح على ظاهرهما ".
ورواه حفص بن غياث، عن الأعمش به، تارة بالمسح على القدمين، وتارة بالمسح على الخفين.
ورواه يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، بذكر المسح على الخفين، ولم يختلف عليه فيه، ولذا اخترتها أن تكون في المتن.
وكان ممكن أن يكون هذا الاختلاف من قبل الأعمش؛ فإن روايته عن أبي إسحاق فيها كلام، لكن جاء المسح على القدمين من غير طريق الأعمش، فرواه الثوري، عن أبي إسحاق به بلفظ: " لولا أني رأيت رسول الله b يمسح على ظاهر القدمين لرأيت أن أسفلهما أو باطنهما أحق ".
كما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق بذكر المسح على القدمين، لا على الخفين.
فالثوري وإبراهيم بن طهمان يرويانه عن أبي إسحاق بذكر المسح على ظاهر القدمين لا يختلف عليهما فيه، ولم يتعرضا لذكر الخفين.
ورواه أبو نعيم عن يونس، عن أبي إسحاق، واختلف على أبي نعيم فيه:
فرواه شعيب بن أيوب، عن أبي نعيم، به بذكر المسح على القدمين، لا على الخفين.
ورواه أحمد، عن أبي نعيم به، فخالف من سبق، وانفرد عنهم بذكر النعلين، ولفظه: رأيت رسول الله b توضأ، ومسح على النعلين، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله b فعل كما رأيتموني فعلت، لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما ".
هذا فيما يتعلق برواية أبي إسحاق، ولا يمكن أن يقال: إن هذا جاء من تغير أبي إسحاق، لأن من الرواة عنه سفيان الثوري، وهو من أصحابه القدماء.
أما رواية أبي السوادء، عن عبد خير، عن علي، فذكرت مسح القدم، لا مسح الخف، فخرج أبو إسحاق من عهدته بهذه المتابعة، إلا أنه ذكر غسل الظاهر، ولم يذكر مسح الظاهر، ومعلوم أنه لوكان الأمر يتعلق بالخف لذكر المسح؛ لأنه لم يقل أحد أنه يغسل ظاهر الخف إلا أن يحكم بشذوذ هذه اللفظة، وهو أقرب، قال: توضأ علي، فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله b يغسل ظهور قدميه، لظننت أن بطونهما أحق. وسنده صحيح.
وأما رواية السدي، عن عبد خير، فجاءت من طريق شريك، عن السدي به، واختلف على شريك فيه، فرواه محمد بن سعيد الأصبهاني، عن شريك بذكر مسح القدم، وليس مسح الخف.
ورواه إسحاق بن يوسف، عن شريك به، بمثله إلا أنه زاد: " هذا وضوء من لم يحدث "، وهذه الزيادة ليست محفوظة من هذا الحديث، لكنها محفوظة من حديث آخر، ولعله اختلط الحديثان على شريك بن عبد الله، وهو سيء الحفظ.
هذا ملخص الاختلاف في متن الحديث، فإما أن يقال: إنه يوجب الاضطراب، والمضطرب ضعيف.
أو يحمل من قال: بالمسح على ظاهر القدمين بالمسح عليه، وفيه الخف، وهذا أرجح، ولذلك جاء في بعضها الجمع بين المسح على ظاهر القدم، مع ذكر الخف مما يوحي بأن المراد بظاهر القدم هو ظاهر الخف، فقد جاء في رواية إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق:
" كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله b توضأ ومسح على ظهر قدميه على خفيه "
فتبين أن مراده من قوله: " ظاهر القدمين " أنه يريد ظاهر الخفين كما صرح به في آخر الحديث.
وقال الدارقطني في العلل (4/46) : " والصحيح في ذلك قول من قال: كنت أرى باطن الخفين أحق بالمسح من أعلاهما "، وكذا رجح البيهقي في السنن (1/292) .
قلت: وينبغي أن يحكم بشذوذ ذكر الغسل لظهور القدمين، وزيادة النعلين في هذا الحديث خاصة، ولا يعني أن المسح على النعلين ليس محفوظاً من حديث آخر، هذا ملخص ألفاظ هذا الحديث في الجملة، وإليك تخريجها من كتب السنة:
الحديث رواه ابن أبي شيبة (1/25) رقم 183 في باب المسح على القدمين، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي قال: لو كان الدين برأي كان باطن القدمين أحق بالمسح على ظاهرهما ولكن رأيت رسول الله b مسح ظاهرهما ".
وهذا يعني أن ابن أبي شيبة فهم من الحديث مسح القدمين من غير خفين؛ لأنه خرجه في باب من يرى مسح القدمين يعني بلا غسل، ثم أعقبه في باب غسل القدمين.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (1/114) حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا وكيع به.
وقد اختلف على الأعمش في متنه، فرواه وكيع كما سبق، وتابعه عيسى بن يونس كما في سنن النسائي الكبرى (119) ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عيسى بن يونس، عن الأعمش به.
فاتفق وكيع وعيسى بن يونس في روايتهما عن الأعمش، بأن المسح يتعلق بالقدم، وليس فيه ذكر الخف.
ورواه حفص، عن الأعمش، واختلف على حفص فيه:
فرواه ابن أبي شيبة (1/ 165) رقم 1895، قال: حدثنا حفص، عن الأعمش، به بلفظ: " لو كان الدين بالرأي كان باطن القدمين أولى وأحق بالمسح من ظاهرهما، ولكني رأيت رسول الله b مسح ظاهرهما.
وخالف ابْنَ أبي شيبة كلُ من أبي هشام الرفاعي، وإبراهيم بن زياد (سبلان) ، ومحمد بن العلاء، كلهم رووه عن حفص، عن الأعمش، بذكر المسح على الخفين، وهاك ألفاظها:
فرواه أبو داود (164) حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا حفص به، بلفظ: " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله b يمسح على ظاهر خفيه. لكن رواه أبو داود (164) عن محمد بن العلاء به، بدون ذكر المسح على الخفين، بلفظ: " لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله b يمسح ظاهرهما.
ورواه الدارقطني (1/199) من طريق أبي هشام الرفاعي، وإبراهيم بن زياد (سبلان) وسفيان بن وكيع، ثلاثتهم عن حفص به، بذكر المسح على الخفين.
وأخرجه البيهقي (1/292) من طريق إبراهيم بن زياد به.
ورواه يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، بذكر المسح على الخفين كما في سنن أبي داود (163) ، انظر سنده في حديث الباب (ما كنت أرى أن باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله b يمسح على ظهر خفيه) .
ورواه الدارقطني في العلل (4/74) حدثنا محمد بن مخلد، قال: ثنا أحمد بن عبد الله الحداد، قال: ثنا خلف بن سالم، ثنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد خير،
عن علي، قال: لولا أني رأيت رسول الله b يمسح على ظاهر القدمين لرأيت أن أسفلهما وباطنهما أحق ".
ـ فشيخ الدارقطني محمد بن مخلد، ثقة، انظر تاريخ بغداد (3/310) ، والسير (15/256) .
ـ وأحمد بن عبد الله الحداد ثقة، انظر تاريخ بغداد (4/217) .
ـ وباقي رجال الإسناد إلى أبي إسحاق كلهم ثقات.
كما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق به، بلفظ: " كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله b توضأ، ومسح على ظهر قدميه على خفيه، أخرجه البيهقي (1/292) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو الطيب محمد بن عبد الله الشعري، ثنا محمش بن عصام، ثنا حفص بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن طهمان به.
ورواه أبو نعيم، عن يونس، عن أبي إسحاق، واختلف على أبي نعيم:
فرواه البيهقي (1/292) من طريق شعيب بن أيوب، ثنا أبو نعيم به، بلفظ: رأيت علياً توضأ، ومسح، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله b يمسح على ظهر القدمين لرأيت أن أسفلهما أو باطنهما أحق بذلك.
ورواه أحمد (1/148) حدثنا أبو نعيم به، بلفظ: " رأيت علياً توضأ، ومسح على النعلين، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله b فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما.
فجعل المسح على النعلين، لا على ظاهر القدمين، ولا على الخفين، وهذا اللفظ بذكر النعلين لا أعلم أحداً تابع فيه أبا نعيم، فهي رواية شاذة، والله أعلم.
ورواه غير أبي إسحاق عن عبد خير، ولم يذكر الخفين، فخرج أبو إسحاق من العهدة، فقد رواه عبد الرزاق في المصنف (57) عن ابن عيينة، عن أبي السوداء، قال: سمعت ابن عبد خير يحدث عن أبيه، قال: رأيت علياً يتوضأ، فجعل يغسل ظهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله b يغسل ظهر قدميه لرأيت باطن القدمين أحق بالغسل من ظاهرهما.
وأخرجه الحميدي (47) عن سفيان به.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/114) حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا سفيان به.
ورواه النسائي في السنن الكبرى (120) أنبا إسحاق بن إبراهيم، أنبا سفيان به.
وهذا اللفظ شاذ أيضاً؛ لأنه ذكر غسل ظاهر القدمين، ومعلوم أنه لو كان الحديث عن الغسل، لما كان هناك فرق بين ظاهر القدم وباطنه، ولكن الحديث عن المسح، ولم يذكر الغسل إلا في هذا الطريق، فهو شاذ، والله أعلم.
هذا ما يتعلق بتخريج الحديث، والراجح كما قدمت أن من ذكر مسح ظاهر القدم عنى به مسح الخف. والله أعلم.(5/286)
وجه الاستدلال: فهذا الحديث نص على مسح ظاهر الخف، وهو دليل على وجوب استيعاب ظاهر الخف، ولو كان يغني أكثر الظاهر لنقل.
الدليل الثاني:
(73) ما رواه أحمد، قال: أبي ثنا إبراهيم بن أبي العباس، ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن عروة، قال:
قال المغيرة بن شعبة: رأيت رسول الله b يمسح على ظهور الخفين.
قال عبد الله: قال أبي: حدثنا سريج والهاشمي أيضاً (1) .
[تفرد بذكر المسح على ظهور الخفين عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفيه لين، وباقي رجاله ثقات] (2) .
_________
(1) المسند (4/246،247) .
(2) عبد الرحمن بن أبي الزناد، جاء في ترجمته:
قال ابن المديني: ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون ورأيت عبد الرحمن بن مهدي يخط على أحاديثه، وكان يقول في حديثه عن مشيختهم فلان وفلان وفلان، قال: ولقنه البغداديون عن فقهائهم. تهذيب التهذيب (6/155) .
وقال ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفاً. تاريخ بغداد (10/228) .
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (367) .
وقال ابن عدي: وبعض ما يرويه لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (4/274) .
وقال عمرو بن على: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن عبد الرحمن بن أبى الزناد. الضعفاء الكبير (2/340) .
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبى عن ابن أبى الزناد، فقال: كذا وكذا - يعنى ضعيف - المرجع السابق.
وقال ابن حبان: كان ممن ينفرد بالمقلوبات عن الأثبات، وكان ذلك من سوء حفظه وكثرة خطئه، فلا يجوزالاحتجاج بخبره إذا انفرد، فأما فيما وافق الثقات فهو صادق في الروايات يحتج به. المجروحين (2/56) .
وقال ابن سعد: كان كثير الحديث وكان يضعف لروايته عن أبيه. الطبقات الكبرى (7/324) .
وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، وفي حديثه ضعف. تهذيب التهذيب (6/155) .
ولخص حاله الذهبي، فقال: من أوعية العلم، لكنه ليس بالثبت جداً مع أنه حجة في هشام بن عروة. تذكرة الحفاظ (1/247) .
وفي التقريب: صدوق، تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً من السابعة، ولي خراج المدينة فحُمِدَ.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه ابن الجارود في المنتقى (85) والدارقطني (1/195) من طريق الهاشمي: سليمان بن داود، عن ابن أبي الزناد به.
وأخرجه الترمذي (98) حدثنا علي بن حجر، قال: حدثنا عبدالرحمن بن أبي الزناد.
واختلف على ابن أبي الزناد فيه:
فرواه عنه سليمان بن داود الهاشمي، وإبراهيم بن أبي العباس، وسريج، وعلي بن حجر، ومحمد بن الصباح كما في التاريخ الأوسط للبخاري، انظر تلخيص الحبير (1/159) ، خمستهم رووه عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن المغيرة.
وخالفهم الطيالسي في مسنده (692) فرواه عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة به، فجعل بدلاً من عروة بن الزبير عروة بن المغيرة.
ورواه البيهقي في السنن (1/291) من طريق أبي داود الطيالسي، ثم قال: "وكذلك رواه إسماعيل بن موسى، عن ابن أبي الزناد " اهـ.
وإسماعيل بن موسى، في التقريب: صدوق يخطئ، ورمي بالرفض، فلا شك أن رواية الجماعة أولى بالصواب، وهو كونه حديث عروة بن الزبير، عن المغيرة.
قال أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/166) : " فإن كانت الروايتان محفوظتين، وإلا كانت إحداهما وهماً، والأخرى صواباً، ولا ضرر في ذلك؛ لأنه تردد بين راويين ثقتين: عروة بن الزبير وعروة بن المغيرة ".
وقال الحافظ بن عبد البر في التمهيد، كما في فتح البر (1/282) : " وهذا أيضاً منقطع، ليس فيه حجة " اهـ.
ولم أقف على كلام أحد من أهل العلم يقول: إن رواية عروة بن الزبير، عن المغيرة مرسلة، وقد أدرك عروة بن الزبير المغيرة زمناً، وهو رجل كبير، والمغيرة توفي سنة خمسين، وقد راجعت المراسيل لابن أبي حاتم، وجامع التحصيل، وغيرهما، ولم أقف على من نص على عدم السماع، والله أعلم.
وقد روى حديث المغيرة في المسح على الخفين جماعة في الصحيحين وفي غيرهما، منهم على سبيل المثال لا الحصر:
1 ـ عروة بن المغيرة، في الصحيحين، انظر البخاري (206) ، ومسلم (274) .
2 - ومسروق فيهما أيضاً، انظر البخاري (363) ، ومسلم (274) .
3 - وحمزة بن المغيرة بن شعبة، عند مسلم (274) .
4 - وعمرو بن وهب، كما في مسند أبي داود الطيالسي (699) ، والمصنف لابن أبي شيبة (1/161) ، والنسائي (109) ، والدارقطني (1/192) ، والبيهقي (1/58) ، والبغوي (232) ، وغيرهم، وسوف يأتي تخريج بعض رواياتهم فيما تبقى من مسائل.
5 - الأسود بن هلال، كما في صحيح مسلم (274) .
6 - ابن أبي نعم، عند أحمد (4/246،253) .
7 هزيل بن شرحبيل، وسبق تخريج حديثه في المسح على الجوربين.
8 - ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة. كما في سنن الترمذي (97) ، ابن ماجه (550) .
9 - زرارة بن أوفى، كما في سنن أبي داود (151) .
10 - مسلم بن صبيح أبو الضحى، كما في مسند أحمد (4/247) .
11 - أبو السائب مولى هشام بن زهرة، كما في مسند أحمد (4/254) .
12 - الشعبي، عن المغيرة، كما في مسند أحمد (4/245) ، وقيل: عن الشعبي، عن عروة بن المغيرة كما في صحيح مسلم. وسوف يأتي إن شاء الله تعالى تخريج ألفاظهم.
وكل هؤلاء لم يذكروا لفظ (ظاهر خفيه) بل اقتصروا على ذكر الخفين، وانفرد بذكر (مسح على ظاهر خفيه) عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن المغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن أبي الزناد لا تحتمل مخالفته لبعض هؤلاء، فكيف وقد اجتمعوا. وقد نص الحافظ أن عبد الرحمن بن أبي الزناد قد تغير حفظه لما قدم بغداد، وإذا كان قد تغير في بغداد، فإن الرواة عنه في هذا الحديث كلهم بغداديون، سليمان بن داود الهاشمي، وإبراهيم بن أبي العباس، وسريج، ومحمد بن الصباح، فأخشى أن يكون هذا من قبل حفظ ابن أبي الزناد.
وله متابع ضعيف، رواه الحسن البصري، عن المغيرة، ولم يسمع منه، وفي إسناده أيضاً أبو عامر الخزاز، وفيه ضعف.
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/170) قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن،
عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله b بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله b على الخفين.
ورواه البيهقي (1/292) من طريق ابن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن أشعث، عن الحسن به مثله.(5/291)
وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله.
الدليل الثالث:
(74) ما رواه ابن المنذر في الأوسط (1) ، والبيهقي في السنن (2) ، من
_________
(1) الأوسط (1/453) .
(2) سنن البيهقي (1/292) .(5/294)
طريق عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب،
عن حميد بن مخراق الأنصاري، أنه رأى أنس بن مالك بقباء مسح ظاهر خفيه بكفيه مسحة واحدة. هذا لفظ البيهقي.
[إسناده ضعيف] (1) .
الدليل الرابع: من الآثار.
(75) ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة،
أنه رأى أباه يمسح على الخفين، قال: وكان لا يزيد إذا مسح على الخفين على أن يمسح على ظهورهما، ولا يمسح بطونهما (2) .
دليل من قال يجزئ ما يقع عليه اسم المسح.
قالوا: إن المسح ورد مطلقاً، ولم يصح عن النبي b في تقدير واجبه شيء، فتعين الاكتفاء بما يصدق عليه اسم المسح.
فإن قيل: لم ينقل عن النبي b الاكتفاء بما يصدق عليه مطلق المسح.
قيل: لا يفتقر ذلك إلى نقل؛ لأنه مستفاد من إطلاق إباحة المسح، فإنه يتناول القليل والكثير، ولا يعدل عنه إلا بدليل.
دليل من قال يجب أن يمسح أكثر ظاهر الخف.
إذا كان المسح بالأصابع على ظاهر الخف، فإن هذا دليل على أنه
_________
(1) حميد بن مخراق ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عنه، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجرح والتعديل (3/228) ، وبقية رجال الإسناد ثقات.
(2) الموطأ (1/38) .(5/295)
لايستوعب الظاهر بل يكفي مسح أكثر الظاهر.
الدليل الأول:
(76) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن المصفى الحمصي، قال: ثنا بقية، عن جرير بن يزيد، قال: حدثني منذر، حدثني محمد بن المنكدر،
عن جابر، قال: مر رسول الله b برجل يتوضأ، ويغسل خفيه، فقال بيده - كأنه دفعه - إنما أمرت بالمسح، وقال رسول الله b بيده هكذا من أطراف الأصابع إلى أصل الساق، وخطط بالأصابع (1) .
[حديث ضعيف جداً أو موضوع] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (551) .
(2) في إسناده جرير بن يزيد:
قال الذهبي: تفرد عنه بقية، ولا يعتمد عليه لجهالته. الميزان (1/397) .
وفيه منذر، هو ابن زياد الطائي، انظر لسان الميزان (6/90) ، وتنقيح التحقيق (1/534) ، ووهم الحافظ، فقال في ترجمة جرير بن يزيد، روى عن منذر الثوري، وليس بالثوري، وإنما هو ابن زياد الطائي يروي عن محمد بن المنكدر، جاء في ترجمته:
سمع منه الفلاس، وقال: كان كذاباً. الجرح والتعديل (8/243) ، ولسان الميزان (6/89) .
وقال الساجي: يحدث بأحاديث بواطيل، وحسبه ممن كان يضع الحديث. المرجع السابق.
وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في روايته. المرجع السابق.
وقال الحافظ في التلخيص (1/169) : إسناده ضعيف جداً.
[تخريج الحديث]
رواه إسحاق كما في المطالب العالية (97) قال إسحاق: حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا جرير بن يزيد، حدثني منذر، حدثني محمد بن المنكدر، عن جابر به، فصرح بقية بالتحديث من شيخه، وشيخ شيخه.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (1945) قال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا بقية، عن جرير بن يزيد الحميري به.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (1135) من طريق عبيد - يعني ابن جناد - نا بقية به، وانظر مجمع البحرين (461) . وسقط من إسناده منذر. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن جابر إلا بهذا الإسناد، تفرد به بقية.(5/296)
الدليل الثاني:
(77) ما رواه عبد الرزاق (851) عن معمر، عن أيوب، قال:
رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف.
[إسناده صحيح] (1) .
الدليل الثالث:
(78) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال:
رأيت عمر بن الخطاب بال، فتوضأ، ومسح على خفيه، قال: حتى إني لأنظر إلى أثر أصابعه على خفيه (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) سبق تخريجه في أدلة القول الأول.
(2) المصنف (1/166) .
(3) فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، صدوق سيء الحفظ، وهشيم مدلس، وقد عنعن، لكن صرح بالتحديث في رواية سعيد بن منصور، انظر التنقيح لابن عبدالهادي (1/534) .
ورواه ابن الجوزي في التحقيق (1/214) من طريق سعيد بن منصور، قال: حدثنا هشيم، قال: أنبأنا ابن أبي ليلى به.(5/297)
الدليل الرابع:
(79) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبدالعزيز، حدثنا زكريا بن زحمويه، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، حدثنا الفضل بن مبشر، قال:
رأيت جابر بن عبد الله يتوضأ، ويمسح على خفيه على ظهورهما مسحة واحدة إلى فوق، ثم يصلي الصلوات كلها، قال: ورأيت رسول الله b يصنعه، فأنا أصنع كما رأيت رسول الله b (1) .
[إسناده فيه لين] (2) .
_________
(1) الأوسط (1/454) .
(2) فيه زياد بن عبد الله البكائي، جاء في ترجمته:
قال أحمد: ليس به بأس، حديثه حديث أهل الصدق. الجرح والتعديل (3/537) .
وقال العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: زياد البكائي ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: زياد البكائي ليس حديثه بشيء وكان عندي في المغازي لا بأس به، زعم عبد الله بن إدريس أن زياد البكائي باع بعض داره وَكَتَبَ المغازي. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: زياد بن عبد الله البكائي يكتب حديثه ولا يحتج به. المرجع السابق.
وسئل أبو زرعة عن زياد بن عبد الله البكائي، فقال: صدوق. المرجع السابق.
وقال ابن سعد: كان عندهم ضعيفاً، وقد حدثوا عنه. الطبقات الكبرى (6/396) .
وقال ابن عدي: ولزياد بن عبد الله غير ما ذكرت من الحديث أحاديث صالحة، وقد روى عنه الثقات من الناس، وما أرى برواياته بأساً. الكامل (3/191) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (226) .
وقال في موضع آخر: ضعيف. تهذيب التهذيب (3/323) .
وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألت أبي عنه، فضعفه، وقال في موضع آخر: كتبت عنه شيئاً كثيراً وتركته. تهذيب التهذيب (3/323) .
وقال صالح بن محمد: ليس كتاب المغازي عند أحد أصح منه عند زياد، وزياد في نفسه ضعيف، ولكن هو من أثبت الناس في هذا الكتاب، وذلك أنه باع داره وخرج يدور مع ابن إسحاق حتى سمع منه الكتاب. المرجع السابق.
وقال ابن حبان: كان فاحش الخطأ، كثير الوهم، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وأما فيما وافق الثقات في الروايات فإن اعتبر بها معتبر فلا ضير. المجروحين (1/306) .
وفي التقريب: صدوق ثبت في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين، ولم يثبت أن وكيعاً كذبه، وله في البخاري موضع واحد متابعة.(5/298)
الدليل الخامس:
(80) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن،
عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله b بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله b على الخفين (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/170) .
(2) فيه ثلاث علل:
الأولى: المحفوظ من حديث المغيرة ليس فيه هذا التفصيل كما في رواية الصحيحين والسنن. وقد ذكرت فيما سبق في تخريج أحاديث القول الأول اثني عشر طريقاً عن المغيرة على سبيبل المثال لا الحصر، وليس فيها هذا التفصيل.
العلة الثانية: الحسن لم يسمع من المغيرة بن شعبة.
العلة الثالثة: أبو عامر الخزاز، اسمه صالح بن رستم، وفيه ضعف.
وقد أعله الحافظ في المطالب العالية بهذه العلل، قال (108) : " حديث المغيرة بن شعبة في المسح في الكتب الستة بغير هذا السياق، وأبو عامر الخزاز اسمه صالح بن رستم، فيه ضعف، والحسن لم يسمع عندي من المغيرة " اهـ.
ورواه البيهقي (1/292) من طريق ابن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن أشعث، عن الحسن به مثله.(5/299)
دليل من قال يجزئ مقدار ما يقع عليه اسم مسح.
قالوا: إن المسح ورد مطلقاً، ولم يصح عن النبي b في تقدير واجبه شيء، فتعين الاكتفاء بما يصدق عليه اسم المسح.
فإن قيل: لم ينقل الاكتفاء بما يصدق عليه مطلق المسح.
قيل: لا يفتقر ذلك إلى نقل؛ لأنه مستفاد من إطلاق إباحة المسح، فإنه يتناول القليل والكثير، ولا يعدل عنه إلا بدليل.
الراجح: هو القول بأن الواجب أكثر ظاهر الخف، واستيعاب ظاهره شاق جداً خاصة إذا علمنا أن آلة المسح هي الأصابع، وأنها تترك خطوطاً على ظاهر الخف، فكان أكثره قائماً مقام استيعاب ظاهره، والله أعلم.(5/300)
الفصل الثاني
الخلاف في مسح أسفل الخف(5/301)
[صفحة فارغة](5/302)
الفصل الثاني
الخلاف في مسح أسفل الخف
اختلف العلماء في مسح أسفل الخف،
فقيل: لا يمسح أسفل الخف، وهو مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: يمسح الظاهر والباطن، فإن مسح الباطن فقط لم يجزئ، وحكي إجماعاً والخلف محفوظ. وإن مسح الأعلى فقط أجزأه ذلك. وهو مذهب المالكية (3) ، والشافعية (4) .
قال مالك: إن مسح الأعلى فقط وصلى، يعيد الصلاة ما دام في
_________
(1) تبيين الحقائق (1/48) ، البحر الرائق (1/180) ، شرح فتح القدير (1/150) ، مراقي الفلاح (ص: 54) ، حاشية ابن عابدين (1/448) .
(2) المحرر (1/13) ، الإنصاف (1/184،185) وانظر مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (ص: 15) رقم 51، 52، ورواية عبد الله (1/117، 118) ، وقال في مسائل ابن هانئ (1/18،21) : لا يمسح على أسفل الخفين، هذا شيء ذهب إليه ابن عمر، والزهري أخذه عنه " اهـ.
(3) الخرشي (1/183) ، حاشية الدسوقي (1/146ـ147) ، مواهب الجليل (1/324) الاستذكار (2/261) ، التمهيد (11/146) .
(4) قال الشافعي في الأم (8/103) : " وأحب أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه ".
وانظر المجموع (1/550) ، روضة الطالبين (1/130) ، مغني المحتاج (1/67) ، نهاية المحتاج (1/291،292) .(5/303)
الوقت، فإن خرج الوقت أجزأه (1) .
دليل الحنفية والحنابلة.
الدليل الأول:
(81) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير،
عن علي رضي الله تعالى عنه قال: ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله b يمسح على ظهر خفيه (2) .
[رجاله ثقات وسبق تخريجه] .
الدليل الثاني:
(82) ما رواه أحمد، قال: أبي ثنا إبراهيم بن أبي العباس، ثنا عبد
_________
(1) جاء في المدونة (1/142) : " قال مالك: يمسح على ظهور الخفين وبطونهما، ولا يتبع غضونهما، والغضون الكسر الذي يكون في الخفين على ظهور القدمين.
ثم قال: قال ابن القاسم: أرانا مالك المسح على الخفين، فوضع يده اليمنى على أطراف أصابعه من ظاهر قدمه، ووضع اليسرى من تحت أطراف أصابعه من باطن خفه، فأمرهما، وبلغ اليسرى حتى بلغ بهما إلى عقبيه، فأمرهما إلى موضع الوضوء، وذلك أصل الساق حذو الكعبين.
قال: وقال مالك: وسألت ابن شهاب، فقال: هكذا المسح.
ثم قال: قلت: فهل يجزئ عند مالك باطن الخف من ظاهره، أو ظاهره من باطنه؟
قال: لا، ولكن لو مسح رجل ظاهره، ثم صلى، لم أر عليه الإعادة إلا في الوقت؛ لأن عروة بن الزبير كان يمسح ظهورهما، ولا يمسح بطونهما،، وأما في الوقت فأحب إلى أن يعيد ما دام في الوقت.
(2) سنن أبي داود (163) .(5/304)
الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن عروة، قال:
قال المغيرة بن شعبة: رأيت رسول الله b يمسح على ظهور الخفين.
قال عبد الله: قال أبي: حدثنا سريج والهاشمي أيضاً (1) .
[تفرد بذكر المسح على ظهور الخفين عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفيه لين، وباقي رجاله ثقات، وسبق بحثه] .
الدليل الثالث:
(83) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن،
عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله b بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله b على الخفين (2) .
[إسناده ضعيف، وسبق بحثه]
الدليل الرابع:
(84) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي العلاء، قال: رأيت قيس بن عباد بال، ثم أتى دجلة، فمسح على الخف، وفرج بينهما، فرأيت أثر أصابعه في الخف (3) .
_________
(1) المسند (4/246،247) .
(2) المصنف (1/170) .
(3) المصنف (1/219) رقم (852) .(5/305)
[إسناده ضعيف، فيه أبو العلاء، وسبق بحثه] .
الدليل الخامس:
(85) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبدالعزيز، حدثنا زكريا بن زحمويه، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، حدثنا الفضل بن مبشر، قال:
رأيت جابر بن عبد الله يتوضأ، ويمسح على خفيه على ظهورهما مسحة واحدة إلى فوق، ثم يصلي الصلوات كلها، قال: ورأيت رسول الله b يصنعه، فأنا أصنع كما رأيت رسول الله b (1) .
[إسناده فيه لين، وسبق بحثه]
الدليل السادس:
(86) من الآثار، ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال:
رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف.
[إسناده صحيح] (2) .
دليل من قال: يمسح أسفل الخف.
الدليل الأول:
(87) ما رواه أحمد، قال: ثنا الوليد بن مسلم، ثنا ثور، عن رجاء ابن حيوة، عن كاتب المغيرة،
_________
(1) الأوسط (1/454) .
(2) المصنف (851) وسبق تخريجه.(5/306)
عن المغيرة أن رسول الله b توضأ فمسح أسفل الخف وأعلاه (1) .
[الحديث معلول] (2) .
_________
(1) المسند (4/251) .
(2) الحديث له أكثر من علة:
العلة الأولى: قيل عنعنة الوليد بن مسلم، وهو وإن صرح بالتحديث من ثور إلا أنه متهم بتدليس التسوية، فلا بد من أن يصرح بالتحديث من شيخه، ومن شيخ شيخه، وهو ما لم يتوفر هنا.
قلت: قد يقال: إنه متهم بتدليس التسوية في أحاديث الأوزاعي خاصة، فليتأمل.
العلة الثانية: أن ثور بن يزيد لم يسمعه من رجاء.
فقد رواه أحمد كما في مسائل ابنه صالح (544) ، وابن حزم في المحلى (2/114) ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في مصنفه كما في الهداية في تخريج أحاديث البداية (1/204) رووه من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن المبارك، عن ثور بن يزيد، قال: حدثت عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، أن رسول الله b مسح أعلى الخف وأسفله.
قال أحمد: ولا أرى الحديث ثبت اهـ.
وقال أيضاً في مسائل صالح (271) : " وليس هو بحديث ثبت عندنا " اهـ.
فهنا رواية عبد الله بن المبارك، وهو مقدم على الوليد بن مسلم بيد أن ثوراً لم يسمعه من رجاء، وأن الحديث مرسل، عن كاتب المغيرة، عن رسول الله b.
فإن قيل: قد رواه الدارقطني (1/195) حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، أخبرنا داود بن رشيد، نا الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، أخبرنا رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة.. فهنا قد رواه عبد الله بن عبد العزيز، عن داود بن رشيد، عن الوليد بالتصريح بسماع ثور من رجاء، وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز قد قال عنه الدارقطني: كان قَلَّ أن يتكلم عن حديث، فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار في السياج، ثقة جليل، إمام، أقل المشايخ خطأ. انظر تاريخ بغداد (10/111) وتذكرة الحفاظ (2/737) .
فالجواب: هذا وهم، ولا شك فقد رواه البيهقي (1/290،291) من طريق أحمد بن يحيى بن إسحاق الحلواني، ثنا داود بن رشيد، ثنا الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن رجاء، ولم يقل: " أخبرنا رجاء ". والحلواني ثقة أيضاً، له ترجمة في تاريخ بغداد (5/212) ، وهذه الرواية توافق رواية كل من رواه عن الوليد بن مسلم،
وقد خالف فيه عبد الله بن عبد العزيز كل من رواه عن الوليد بن مسلم، وقد وقفت على تسعة حفاظ، منهم:
أحمد بن حنبل في المسند، وإبراهيم بن موسى كما في التاريخ الأوسط للبخاري، وموسى بن مروان ومحمود بن خالد الدمشقي عند أبي داود، وأحمد بن عبد الرحمن الدمشقي عند الترمذي، وهشام بن عمار، عند ابن ماجه، وعبد الله بن يوسف، والهيثم بن خارجه عند الطبراني في الكبير، والحكم بن موسى كما في سنن البيهقي، فهؤلاء تسعة حفاظ رووه عن الوليد بالعنعنة، ولم يقل واحد منهم: أن ثور سمعه من رجاء، وسيأتي العزو إليهم قريباً إن شاء الله تعالى.
العلة الثالثة: أنه مرسل، تفرد الوليد بن مسلم بوصله، وخالفه ابن المبارك، وهو أوثق منه، ولم يتابع الوليد بن مسلم أحد في وصله إلا ما رواه الشافعي في مختصر المزني (1/50) عن ابن أبي يحيى، عن ثور بن يزيد، كرواية الوليد بن مسلم، إلا أن هذه المتابعة لا تسمن ولا تغني من جوع؛ لأنها من طريق إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متهم على ما فيه من البدع.
وقال ابن حجر في التلخيص (1/159) :"قال الأثرم عن أحمد: أنه كان يضعفه - يعني حديث الوليد - ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: عن ابن المبارك، عن ثور، حدثت عن رجاء، عن كاتب المغيرة، ولم يذكر المغيرة. قال أحمد: وقد كان نعيم بن حماد حدثني به عن ابن المبارك، كما حدثني الوليد بن مسلم به عن ثور، فقلت: إنما يقول هذا الوليد، وأما ابن المبارك فيقول: حدثت عن رجاء، ولا يذكر المغيرة، فقال لي نعيم: هذا حديثي الذي أسأل عنه، فأخرج إلي كتابه القديم بخط عتيق، فإذا فيه ملحق بين السطرين بخط ليس بالقديم: عن المغيرة، فأوقفته عليه، وأخبرته أن هذه زيادة في الإسناد، لا أصل لها، فجعل يقول للناس بعد وأنا أسمع: اضربوا على هذا الحديث " اهـ.
فالحديث ضعيف، مخالف لما روينا عن الحسن وعروة بن المغيرة، عن المغيرة من أن الرسول b كان يمسح ظاهر خفيه.
وقد ضعف الحديث أبو حاتم في العلل لابنه (1/54) قال: " حديث الوليد ليس بمحفوظ، وسائر الأحاديث عن المغيرة أصح ".
وضعفه أحمد كما سبق.
وقال البخاري في التاريخ الأوسط (1/292) رقم 1424: " حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا ابن أبي الزناد، عن عروة بن الزبير، عن المغيرة رأيت رسول الله b يمسح على خفيه على ظاهرهما. قال: وهذا أصح. يعني من حديث رجاء، عن كاتب المغيرة.
وقال الترمذي في العلل (1/180) : " سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: لا يصح هذا، روي عن ابن المبارك، عن ثور بن يزيد، قال: حدثت عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن النبي b مرسلاً، وضعف هذا، وسألت أبا زرعة، فقال نحواً مما قال محمد بن إسماعيل اهـ.
وضعفه أبو داود، وضرب عليه نعيم بن حماد كما مر معنا، وقال الترمذي في السنن: هذا حديث معلول.
وضعفه الدارقطني في العلل (1/110) .
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه أحمد كما في رواية الباب، ومن طريق الإمام أحمد أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/176) ، والخطيب في تاريخ بغداد (2/135) .
وأخرجه البخاري في التاريخ الأوسط (الصغير) (1/292) رقم 1422 حدثني إبراهيم ابن موسى، عن الوليد.
وأخرجه أبو داود (165) حدثنا موسى بن مروان ومحمود بن خالد الدمشقي، المعنى قالا: ثنا الوليد به.
وأخرجه الترمذي (97) حدثنا أبو الوليد الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم به.
وأخرجه ابن ماجه (550) قال: حدثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد بن مسلم به.
وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (84) والطبراني في الكبير (20/396) رقم 939، وفي مسند الشاميين (451) من طريق عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الوليد بن مسلم به.
وأخرجه الطبراني أيضاً في الكبير (939) ، وفي مسند الشاميين (451) من طريق الهيثم بن خارجه، ثنا الوليد بن مسلم به.
وأخرجه البيهقي في السنن (1/290) من طريق الحكم بن موسى، ثنا الوليد بن مسلم به.(5/307)
الدليل الثاني:
(88) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال:
قال عطاء: رأيت ابن عمر يمسح عليهما - يعني خفيه - مسحة واحدة بيديه كلتيهما، بطونهما وظهورهما، وقد أهرق قبل ذلك الماء، فتوضأ هكذا لجنازة دعي إليها.
[رجاله ثقات] (1) .
_________
(1) ولم يصرح ابن جريج بالتحديث، لكنه قد توبع كما سيأتي، وهو مكثر عن عطاء.
ورواه البيهقي (1/291) من طريق ابن جريج، والعمري مختصراً به.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/452) من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: قال لي نافع: رأيت ابن عمر يمسح عليهما - يعني: مسحة واحدة بيديه كلتيهما بطونهما وظهورهما. وهذا سند صحيح عن ابن عمر.
ورواه ابن عبد البر كما في فتح البر (3/280) من طريق سفيان، عن ابن جريج، عن نافع به.
وذكر أيضاً في الصفحة نفسها من التمهيد، وفي الاستذكار (2/261) من ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يمسح أعلاهما وأسفلهما. وهذا سند صالح في المتابعات.
وروى مالك في الموطأ (1/38) أنه سأل ابن شهاب عن المسح على الخفين كيف هو؟ فأدخل ابن شهاب إحدى يديه تحت الخف، الأخرى فوقه، ثم أمرهما. قال مالك: وقول ابن شهاب أحب ما سمعت إلى في ذلك.(5/310)
والجواب عن هذا:
أن هذا الأثر موقوف على ابن عمر رضي الله عنه، مخالف لما هو مرفوع، فلا يقبل.
الدليل الثالث:
من النظر أن المسح بدل من الغسل، وإذا كان في الغسل يغسل أعلى القدم وأسفله، فكذلك المسح ينبغي أن يستوعب القدم أعلاه وأسفله.
قال ابن رشد في بداية المجتهد " وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك، وتشبيه المسح بالغسل، وذلك أن في ذلك أثرين متعارضين:
أحدهما: حديث المغيرة بن شعبة، وفيه: " أنه مسح أعلى الخف وباطنه ".
والآخر: حديث علي: " لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ".
فمن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين، حمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب، وهي طريقة حسنة، ومن ذهب مذهب الترجيح أخذ إما بحديث علي، وإما بحديث المغيرة، فمن رجح حديث المغيرة على حديث علي رجحه من قبل القياس، أعني: قياس المسح على الغسل، ومن رجح حديث علي، رجحه من قبل مخالفته للقياس ، أو من جهة السند... الخ كلامه رحمه الله.
قلت: وإذا كان الاكتفاء بالظاهر مخالفاً للقياس، كان من قال به لابد أنه اطلع على سنة في هذا؛ لأن مجرد القياس قد لا يدل عليه، ومن مسح الأعلى والأسفل اجتهد برأيه قياساً على الغسل، ولا شك أن الأول(5/311)
أولى، على أن قولنا مخالف للقياس هذا بحسب الفهم القاصر، وإلا فلا يوجد في الشرع ما يخالف القياس الصحيح، فإن التخفيف بالمسح على وفق القياس.
وأنكر ابن حزم على المالكية كونهم يأمرون من ترك مسح أسفل الخف دون أعلاه، أن يعيد صلاته ما دام في الوقت.
قال ابن حزم: " إن كان قد أدى فرض طهارته وصلاته فلا معنى للإعادة، وإن كان لم يؤدها، فيلزمه عندهم أن يصلي أبداً " (1) . يعني في الوقت أو خارج الوقت. والحق ما قال ابن حزم.
وتكلف النووي في المجموع في تأويل حديث علي، ليوافق مذهب إمامه أن المجزئ في المسح أقل ما يصدق عليه أنه مسح.
قال النووي: " لو كان الدين بالرأي لكان ينبغي لمن أراد الاقتصار على أقل ما يجزئ أن يقتصر على أسفله، ولكني رأيت رسول الله b اقتصر على أعلاه، ولم يقتصر على أسفله، فقوله عفى الله عنه: " لكان ينبغي لمن أراد الاقتصار على أقل ما يجزئ " هذا اللفظ من كيس النووي بلا ريب، وليست من اللفظ النبوي، ثم قال عفى الله عنه:
" فليس فيه نفي استحباب الاستيعاب، وهذا كما صح أن النبي b مسح بناصيته، ولم يلزم منه نفي استحباب استيعاب الرأس، وإنما المقصود منه بيان أن الاستيعاب ليس بواجب ".
قلت: ظاهر كلام النووي رحمه الله أنه ثبت عن الرسول b أنه
_________
(1) المحلى (1/344) .(5/312)
اكتفى بالمسح على الناصية، ولم يثبت هذا عنه، وليس هذا موضع بحثه، وحمل حديث المغيرة على الاستحباب حمل جيد لو كان الحديث صحيحاً؛ لأن الجمع أولى من الترجيح، لكن إذا ثبت أن حديث المغيرة ضعيف كما بينته، فلا داعي للجمع، فيبقى القول الأول هو الصحيح المتعين، والله أعلم.(5/313)
[صفحة فارغة](5/314)
الفصل الثالث
هل يكفي غسل الخف عن مسحه(5/315)
[صفحة فارغة](5/316)
الفصل الثالث
هل يكفي غسل الخف عن مسحه
هل يكفي غسل الخف عن مسحه، اختلف في ذلك
فقيل: يكفي مع الكراهة، وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، واختاره محمد بن الحسن من الحنفية (4) .
وقيل: لا يجزئ، اختاره القفال من الشافعية (5) ، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (6) .
وقيل: إن مسح بيديه على الخفين حال الغسل أجزأه، وإلا فلا (7) .
_________
(1) مواهب الجليل (1/322) ، حاشية الدسوقي (1/144) ، الخرشي (1/181) ، التاج والإكليل (1/472) ، الشرح الصغير (1/156) ، منح الجليل (1/139) .
(2) روضة الطالبين (1/130) ، المجموع (1/550) .
(3) الإنصاف (1/185) ، شرح الزركشي (1/404) ، المغني (1/184) .
(4) جاء في كتاب الأصل (1/104) : " أرأيت رجلاً توضأ، فنسي أن يمسح على خفيه، وقد توضأ وضوءاً تاماً؟ قال: يجزيه ذلك من المسح "
وكونه يجزيه لا يعني أنه يستحبه، فقد قال في (1/109) : " أرأيت الرجل إذا أراد
أن يمسح على خفيه أترى له أن يغسل قدميه؟ قال: لا أرى له ذلك، ولكنه يمسحهما
مسحاً ".
(5) المجموع (1/550) .
(6) المغني (1/184) .
(7) المغني (1/184) .(5/317)
دليل من قال يجزئ مع الكراهة.
الدليل الأول:
أن الغسل خلاف المشروع، وأن المشروع هو المسح فقط.
الدليل الثاني:
ولأنه قد يدخل في الاعتداء بالطهور، وأقل أحواله أن يكون مكروهاً.
الدليل الثالث:
(89) ما رواه أحمد، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة،
أن عبد الله بن مغفل سمع ابناً له يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض من الجنة إذا دخلتها عن يميني، قال فقال له: يا بني سل الله الجنة، وتعوذه من النار؛ فإني سمعت رسول الله b يقول: سيكون من بعدي قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور (1) .
[رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً] (2) .
_________
(1) مسند أحمد (4/87) .
(2) حماد بن سلمة سمع من الجريري قبل الاختلاط، انظر الكواكب النيرات (ص:183) ، وتدريب الراوي (2/373) . إلا أن أبا نعامة لم يسمع من عبد الله بن مغفل، وإنما يروي عن ابن عبد الله بن مغفل، عن عبد الله بن مغفل، قال الذهبي في تلخيص المستدرك (1/162) : " فيه إرسال ".
واختلف على حماد بن سلمة،
فرواه عفان، وسليمان بن حرب، وعبد الصمد، وموسى بن إسماعيل، وكامل بن طلحة، كلهم رووه عن حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة، عن عبد الله بن مغفل، منقطع بين أبي نعامة، وبين عبد الله بن مغفل.
ورواه أحمد (4/86) عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أبي نعامة به. ورواية الجماعة أولى بالصواب.
ورواه ابن حبان (6763) أخبرنا الفضل بن حباب، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن عبد الله بن المغفل، فجعل بدلاً من أبي نعامة أبا العلاء، ورواية الجماعة أولى بالصواب، خاصة أن فيهم عفان، وقد قال يحيى بن معين: من أراد أن يكتب حديث حماد بن سلمة فعليه بعفان بن مسلم، ولم يتابع أبو الوليد الطيالسي في روايته عن حماد، وقد قال أبو حاتم في تهذيب الكمال في ترجمة أبي الوليد الطيالسي، بأن سماعه من حماد فيه شيء، وكأنه سمع منه بآخرة، وكان حماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/53) حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد ابن سلمة به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (3864) .
وأخرجه أحمد (5/55) حدثنا عبد الصمد وعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة به.
وأخرجه أبو داود (96) حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد به.
وأخرجه البيهقي (1/196،197) نا محمد بن أيوب، ثنا محمد بن إسماعيل به.
ورواه ابن حبان (6764) قال: أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا كامل بن طلحة، قال: حدثنا حماد بن سلمة به.
كما أن له شاهداً من حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه أحمد (1/172) قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن زياد بن مخراق، قال سمعت أبا عباية،
عن مولى لسعد أن سعداً رضي الله تعالى عنه سمع ابناً له يدعو، وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، ونحو من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله b يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} وإن حسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة، وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وأبو عباية: هو قيس بن عباية، وهو أبو نعامة، فحديث عبد الله بن مغفل، وحديث سعد مخرجه قيس بن عباية، وقد صرح الحسيني في الإكمال أن أبا عباية، هو قيس بن عباية، انظر الإكمال (732) ، وفي إسناد أبي يعلى، قال: " ابن عباية " بدلاً من أبي عباية.
وقال الحافظ في تعجيل المنفعة (1319) : " أبو عباية، عن مولى لسعد بن أبي وقاص، هو قيس بن عباية، وهو من رجال التهذيب ".
وقال الأثرم: سألت أحمد عنه - يعني زياد بن مخراق - فقال: ما أدري. قال: وقلت له روى حديث سعد أن النبي b قال: يكون بعدي قوم يعتدون في الدعاء، فقال: نعم، لم يقم إسناده اهـ.
والحديث ضعيف، له أكثر من علة.
العلة الأولى: الاختلاف في إسناده، فتارة يحدث به ابن عباية، من مسند عبد الله بن المغفل، وتارة يحدث به من مسند سعد.
العلة الثانية: جهالة مولى سعد بن أبي وقاص.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه أبو داود الطيالسي (200) قال: حدثنا شعبة، قال أخبرني زياد بن مخراق، قال: سمعت أبا عباية، شك أبو داود أن سعداً سمع ابنا له يقول: اللهم إني أسألك الجنة، وذكر الحديث. وسقط من إسناده مولى سعد. ومن طريق أبي داود أخرجه الدورقي (91) . وأخرجه ابن أبي شيبة (6/53) حدثنا عبيد بن سعد، عن شعبة به. وتصحفت عباية إلى صبابة.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (715) من طريق شبابة بن سوار، حدثنا شعبة به. وأخرجه الطبراني في الدعاء (55) من طريق عاصم، عن شعبه به.
وأخرجه أبو داود (1480) والطبراني في الدعاء (56) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة به غير أنه لم يذكر فيه مولى سعد بن أبي وقاص.(5/318)
ومن الاعتداء بالطهور مجاوزة الحد المشروع، وأنها من الإساءة والظلم.(5/320)
الدليل الرابع:
(90) ما رواه أحمد، قال: ثنا يعلي، ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:
جاء أعرابي إلى النبي b يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم (1) .
[رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، فهو حسن عند من يحسن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده] (2) .
ولا شك أن غسل الخف زيادة على المشروع، فيكون قد أساء وتعدى وظلم بهذه الزيادة.
دليل من قال لا يجزئ.
(91) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يعقوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن القاسم بن محمد،
عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله b: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد (3) .
وفي رواية لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".
فالرسول b إنما أمر بالمسح، فلما لم يفعله لم يجزه.
_________
(1) مسند أحمد (2/180) .
(2) وقد سبق بحثه.
(3) صحيح البخاري (...) ، ومسلم (1718) .(5/321)
دليل من قال إن مسح بيده على الخفين حال الغسل أجزأ.
قال: إن المطلوب هو المسح، وقد حصل بإمرار اليد على الخفين.
وهذا القول ربما يكون أقرب مع الكراهة؛ لأن الغسل فيه مخالفة للمشروع، ومن جهة قد يتلف الخف، لكن إن كان هناك حاجة إلى هذا الفعل ربما ترتفع الكراهة، والله أعلم.(5/322)
الفصل الرابع
حكم تكرار المسح على الخفين(5/323)
[صفحة فارغة](5/324)
الفصل الرابع
حكم تكرار المسح على الخفين
اختلف العلماء في حكم تكرار المسح على الخفين.
فقيل: لا يسن تكرار المسح، وهو مذهب الحنفية (1) ،
والشافعية (2) .
وقيل: يكره، هو مذهب المالكية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: يشرع تكرار المسح ثلاثاً، وهو اختيار عطاء (5) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/48) ، المبسوط (1/100) ، شرح فتح القدير (1/148) وقال: " إن تكرار المسح على الخفين غير مشروع ".
وانظر الفتاوى الهندية (1/33) .
(2) المجموع (1/549) ، روضة الطالبين (1/130) .
(3) حاشية الدسوقي (1/145) ، مواهب الجليل (1/322) ، وحاشية العدوي على الخرشي (1/181،182) التاج والإكليل (1/472) ، الشرح الصغير (1/156) .
والمالكية إنما يكرهون تكرار المسح إذا كان بماء جديد، فإن كان بدون أخذ ماء جديد فلا كراهة عندهم، وقد نص عليه في حاشية الدسوقي (1/145) ، وإذا جفت يد الماسح أثناء المسح لم يجدد، وكَمُلَ العضو الذي حصل فيه الجفاف.
(4) مسائل أحمد رواية أبي داود (1/16) رقم 53، وانظر الإنصاف (1/185) ، شرح الزركشي (1/404) ، حاشية العنقري (1/64) ، كشاف القناع (1/118) .
(5) رواه عبد الرزاق في المصنف عن عطاء بسند صحيح (856) ، وانظر الأوسط (1/456) .(5/325)
دليل من قال لا يسن ومن قال بكراهة التكرار (1) .
أولاً: لم ينقل تكرار المسح لا قولاً ولا فعلاً، وليس في الأحاديث إلا أنه مسح على خفيه، وهذا يصدق عليه بفعله مرة واحدة.
ثانياً: أن تكرار المسح يحوله من مسح إلى غسل.
ثالثاً: أن كل شيء فرضه المسح فشأنه التخفيف فهذا الرأس لايشرع تثليثه على الصحيح، ولايشرع تثليث المسح على الجبيرة على القول بمسحها.
قال في مواهب الجليل: " وإذا كانت الجبيرة في موضع يغسل في الوضوء ثلاثاً فإنه يمسح عليها مرة واحدة لا ثلاثاً، قاله عبد الحق في النكت، قال: ودليله المسح على الخفين إنما يمسح مرة واحدة، وهو بدل عن مغسول ثلاثاً؛ وذلك لأن شأن المسح التخفيف " (2) .
دليل من قال يستحب تكرار المسح ثلاثاً.
قال: إن المسح بدل عن الغسل، وإن كانت القدم تغسل ثلاثاً استحب التثليث في المسح؛ لأن البدل له حكم المبدل
وأجيب: بأن هذا قياس في مقابل النص، فيكون قياساً فاسداً، ثم إن التيمم بدل عن الوضوء، ولا يشرع فيه التثليث، فالبدل له حكم المبدل في الحكم لا في الصفة، ولذلك يكتفى في مسح الخف بظاهره، ولم يجب التعميم كالأصل.
_________
(1) لا يلزم من ترك السنة الوقوع في المكروه، فلو ترك الإنسان سنة الضحى، ونحو ذلك لا يلزم منه الوقوع في المكروه ولذلك اعتبرت من قال بالكراهة قولاً ومن قال: لا يسن قولاً آخر، ولكن أدلة هؤلاء هي أدلة هؤلاء في هذه المسألة خاصة.
(2) مواهب الجليل (1/362) .(5/326)
الفصل الخامس
هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معاً(5/327)
[صفحة فارغة](5/328)
الفصل الخامس
هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معاً؟
اختلف العلماء في سنة المسح، وأما الفرض فكيف أتى بالمسح على ظهر القدم بكل اليد، أو ببعضه أجزأه على الصحيح (1) .
وقال ابن حزم: ما وقع عليه اسم مسح، فقد أدى فرضه إلا أن أبا حنيفة قال: لا يجزئ المسح على الخفين إلا بثلاثة أصابع (2) .
وقال الصنعاني: لم يرد في الكيفية ولا الكمية حديث يعتمد عليه، إلا حديث علي في بيان المسح، والظاهر أنه إذا فعل المكلف ما يسمى مسحاً على الخف لغة أجزأه " (3) .
وهل يمسح الخفين معاً كالأذنين، أو يسن أن يقدم اليمنى ثم اليسرى؟
فقيل: يمسح الخفين معاً، بحيث يضع أصابع يده اليمنى على مقدم خفه الأيمن، وأصابع يده اليسرى علىمقدم خفه الأيسر، ويمدهما جميعاً إلى
_________
(1) قال الشافعي في الأم (8/103) : " وكيفما أتى بالمسح على ظهر القدم، بكل اليد، أو ببعضه أجزأه ".
وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير، وهو من المالكية (1/159) : " ولو خالف تلك الكيفية، ومسح كيفما اتفق كفاه ".
وقال أحمد كما في المغني (1/183) : " كيفما فعله، فهو جائز، باليد الواحدة، أو باليدين".
(2) المحلى (1/343) .
(3) سبل السلام (1/84) .(5/329)
الساق. وهذا مذهب الحنفية (1) ، وقول في مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يستحب تقديم اليمنى على اليسرى، وهو قول في مذهب الحنابلة (3) ، وظاهر مذهب من يرى مسح أسفل الخف مع أعلاه، كالمالكية والشافعية (4) .
دليل من قال يمسحان معاً.
الدليل الأول:
(92) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن،
عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله b بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله b على الخفين (5) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/267) ، البحر الرائق (1/183) ، والفتاوى الهندية (1/33) .
(2) الإنصاف (1/185) ، وقال في مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (1/135) : وسن مسحه بأصابع يديه، مفرجة من أصابعه - أي أصابع قدمه - إلى ساقه مرة واحدة معاً من غير تقديم إحداهما على الأخرى... الخ كلامه رحمه الله، وانظر المبدع شرح المقنع (1/148) ، كشاف القناع (1/118،119) .
(3) الإنصاف (1/185) ، مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (1/135) المبدع شرح المقنع (1/148) .
(4) انظر الصفة المستحبة عندهم في مسألة مسح أسفل الخف.
(5) المصنف (1/170) .(5/330)
[الحديث ضعيف، وسبق بحثه] .
الدليل الثاني:
(93) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة،
عن أبيه، قال: كنت مع النبي b في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما (1) .
فقوله: " فمسح عليهما " ولم يقل بدأ باليمنى، ولو كان مشروعاً لنقلت هذه الصفة، وحفظت؛ لأنه من شرع الله سبحانه وتعالى.
وأجيب:
بأن الحديث مجمل غير مبين، وليس صريحاً في التيامن، ولا في عدمه.
الدليل الثالث:
القياس على الأذنين، فطهارة المسح لا تيمن فيها، فكما أن الأذنين عضوان مستقلان، ومع ذلك لم يشرع التيمن فيهما، فكذلك الرجلان في حالة المسح.
وأجيب:
بأن الأذنين يمسحان مع الرأس، وهوعضو واحد، ولذلك لا يشرع أخذ ماء جديد لهما، بل يكفي ماء الرأس، وإذا كانا تبعاً للرأس، لم يكن هناك محل للتيامن، فلا يمكن في عضو واحد، يتيامن في بعضه، ولا يتيامن في بعضه الآخر، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (206) ومسلم (274) .(5/331)
دليل من قال تقدم اليمنى على اليسرى.
الدليل الأول:
أن المسح بدل من الغسل، والبدل له حكم المبدل، فكما أنه يشرع تقديم غسل اليمنى في الرجلين واليدين، فكذلك يشرع تقديم مسح اليمنى على اليسرى.
الدليل الثاني:
لم يأت نص صريح في مسح الرجلين معاً، وحيث لم يأت نص، يبقى الحكم لا يختلف عن غسلهما حتى يأت نص صريح في استحباب عدم التيامن، لأن الاستحباب حكم شرعي، يحتاج إلى نص شرعي صريح صحيح، ولم يتوفر هنا، والله أعلم.(5/332)
فرع
قال في الفتاوى الهندية: وإظهار الخطوط ليس بشرط في ظاهر الرواية، كذا في الزاهدي، وهكذا في شرح الطحاوي، ولكنه مستحب، هكذا في منية المصلي (1) .
(94) قلت: ربما يؤخذ استحباب إظهار الخطوط، بما رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن،
عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله b بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله b على الخفين (2) .
[إسناده ضعيف، وسبق بحثه] .
(95) ومن الآثار، ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال:
رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف.
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) الفتاوى الهندية (1/33) .
(2) المصنف (1/170) .
(3) المصنف (851) وسبق تخريجه.(5/333)
(96) وبما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي العلاء، قال: رأيت قيس بن عباد بال، ثم أتى دجلة، فمسح على الخف، وفرج بينهما، فرأيت أثر أصابعه في الخف (1) .
[إسناده ضعيف، فيه أبو العلاء، وسبق بحثه] .
وهل يشرع للإنسان أن يتقصد أن يظهر أثر أصابعه على خفه، وهل يؤخذ ذلك من هذه الأدلة، فيه تأمل، والذي أميل إليه عدم الاستحباب، والله أعلم.
_________
(1) المصنف (1/219) رقم (852) .(5/334)
الباب الرابع
خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح(5/335)
[صفحة فارغة](5/336)
الباب الرابع
خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح
لما كان الراجح من أقوال أهل العلم أن عبادة المسح على الخفين مؤقتة بوقت معين، فقد اختلف العلماء في ابتداء مدة المسح:
فقيل: من أول حدث بعد لبس الخف، هو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: من أول مسح بعد الحدث، وهو رواية عن أحمد (4) ، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور (5) ،
واختاره ابن المنذر (6) ، ورجحه النووي (7) .
وقيل: ابتداء المدة من اللبس،
_________
(1) المبسوط (1/99) ، مراقي الفلاح (ص: 54) ، بدائع الصنائع (1/8) ، تبيين الحقائق (1/48) ، حاشية ابن عابدين (1/271) .
(2) الأم (1/35) ، المجموع (1/512) ،
(3) المبدع (1/142) ، الفروع (1/167) ، وقال في الإنصاف (1/177) : " هذا المذهب بلا ريب، والمشهور من الروايتين، وعليه الأصحاب ".
(4) جاء في مسائل أبي داود (ص: 17) : " وسمعت أحمد سئل عن المسح على الخف؟ فقال: يمسح من الوقت الذي مسح إلى مثلها من الغد. قلت: إنه يدخل فيه ست صلوات؟ قال: لا بأس به يمسح من الغد إلى الساعة التي مسح عليها " اهـ. وقال في الإنصاف (1/177) : " وهي من المفردات ".
(5) المجموع (1/512) .
(6) الأوسط (1/443) .
(7) قال النووي: وهو المختار الراجح دليلاً، انظر المجموع (1/512) .(5/337)
وهو محكي عن الحسن البصري (1) .
وقيل: يمسح خمس صلوات في اليوم والليلة، وعليه تبتدئ مدة المسح من أول صلاة صلاها، وهو قول الشعبي وأبي ثور وإسحاق (2) .
دليل من قال ابتداء المدة من أول حدث بعد لبس الخف.
الدليل الأول:
(97) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال:
أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله b فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم.... الحديث (3) .
[وإسناده حسن، وسبق الكلام عليه] .
وجه الاستدلال:
قال ابن مفلح الصغير: " يدل بمفهومه أنه تنزع لثلاث يمضين من
_________
(1) المجموع (1/512) .
(2) الأوسط (1/444) ، والمجموع (1/512) .
(3) المصنف (795) .(5/338)
الغائط " (1) .
قلت: قوله: " من غائط وبول ونوم " التفريق بين الحدث الأصغر والأكبر، فلا تنزع في الحدث الأصغر، بل يمسح عليهما، ولم يتعرض الحديث لابتداء مدة المسح، والله أعلم.
الدليل الثاني:
روى القاسم بن زكريا المطرز من حديث صفوان، وفيه: " من الحدث إلى الحدث " (2) .
الدليل الثالث:
من القياس، قالوا: إن المسح على الخفين عبادة مؤقتة، فكان ابتداء وقتها من حين جواز فعلها، كالصلاة فإن أخر المسح بعد الحدث، فقد ترك ما أبيح له، وفوت على نفسه جزءاً من الوقت، فإن ترك ما أبيح له إلى أن جاء الوقت الذي أحدث فيه فقد تم الوقت الذي أبيح له فيه المسح، ووجب خلع الخف (3) .
الدليل الرابع:
قالوا: إن الحدث سبب للمسح على الخفين، فعلق الحكم به،
ولا يمكن اعتباره من وقت المسح؛ لأنه لو أحدث ولم يمسح، ولم يصل أياماً
_________
(1) المبدع (1/142) .
(2) ذكره النووي في المجموع (1/512) ، وقال: وهي زيادة غريبة، وليست ثابتة ".
(3) انظر المجموع (1/512) ، الأوسط (1/445) .(5/339)
لا إشكال أنه لا يمسح بعد ذلك، فكان العدل في الاعتبار من وقت
الحدث (1) .
أدلة القائلين بأن المدة تبتدئ من أول مسح بعد الحدث.
الدليل الأول:
(98) ما رواه أحمد، قال: ثنا أيوب، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة،
عن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن المسح، فقالت: ائت علياً رضي الله تعالى عنه، فهو أعلم بذلك مني، قال: فأتيت علياً رضي الله تعالى عنه، فسألته عن المسح على الخفين، قال: كان رسول الله b يأمرنا أن نمسح على الخفين يوماً وليلةً، وللمسافر ثلاثاً (2) .
(99) وما رواه أحمد، قال: ثنا إسماعيل، ثنا هشام الدستوائي، ثنا حماد، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي،
عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله b كان يقول: يمسح المسافر على الخفين ثلاث ليال، والمقيم يوماً وليلةً (3) .
فقوله في الحديث " نمسح يوماً وليلة " كما في حديث علي، وقوله: " يمسح المسافر ثلاث ليال " كما في حديث خزيمة ظاهرهما يدل على أن
_________
(1) المبسوط (1/99) .
(2) المسند (1/113) ، وسبق تخريجه.
(3) المسند (5/213) ، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.(5/340)
الوقت في ذلك وقت المسح، لا وقت الحدث.
الدليل الثاني:
قولكم: إن ابتداء المدة من الحدث ليس عليه دليل، فجميع أحاديث المسح على الخفين ليس للحدث ذكر في شيء منها، فلا يجوز أن يعدل
عن ظاهر قول الرسول b إلا قول غيره إلا بخبر عن رسول الله b أو إجماع.
الدليل الثالث:
أن الرسول b رخص للمقيم أن يمسح يوماً وليلة، فلو قلنا: إن ابتداء المدة من الحدث، لكان المسح أقل من يوم وليلة، فيكون خلاف الحديث، فلو أنه توضأ لصلاة العشاء، ثم مسح لصلاة الفجر، فإن هذا مدة مسحه يوماً وبعض ليلة، فلم يصدق عليه أنه مسح يوماً وليلة، ولا يمكن أن تكون مدة مسحه يوماً وليلة إلا إذا اعتبرنا المدة من المسح.
وقولكم: إنه هو الذي فوت على نفسه المسح، فالجواب حتى لو مسح بعد حدثه لا يمكن أن تكون المدة أربعاً وعشرين ساعة؛ لأنه معلوم أن الحدث لا بد أن يسبق المسح، ولو بفترة وجيزة، فلا يتصور أن يمسح يوماً وليلة تامين إلا إذا اعتبرنا المدة من المسح.
الدليل الرابع:
(100) ما رواه عبد الرزاق، عن عبد الله بن المبارك، قال: حدثني عاصم بن سليمان،
عن أبي عثمان النهدي، قال: حضرت سعداً وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين، فقال عمر: يمسح عليهما إلى مثل ساعته(5/341)
من يومه وليلته (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
قال ابن المنذر تعليقاً على هذا الأثر: ولا شك أن عمر بن الخطاب أعلم بمعنى قول الرسول b ممن بعده، وهو أحد من روى عن النبي b المسح على الخفين، وموضعه من الدين موضعه، وقد قال النبي b:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي "، وروي عنه أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ". اهـ كلام ابن المنذر (3) .
الدليل الخامس:
قالوا: إن القائلين بأن المدة تبتدئ من الحدث، قالوا: إذا أحدث قبل سفره، ثم سافر، فمسح في سفره، أتم مسح مسافر، ولو أحدث قبل سفره، ومسح، ثم سافر فمسح مقيم، فقد عُلِق الحكم بالمسح، ولم يعلقه بالحدث، وهذا دليل على أن المعتبر هو المسح، وليس الحدث، إلا أنهم حاولوا أن يخرجوا من هذا الإيراد، قال في الحاوي: " كل عبادة اعتبر فيها الوقت، فإن ابتداء وقتها محسوب من الوقت الذي يمكن فيها فعلها، وصفتها
_________
(1) المصنف (1/209) رقم 808.
(2) رجاله ثقات، وعاصم بن سليمان، هو الأحول.
والأثر أخرجه البيهقي في السنن (1/276) من طريق سفيان، عن عاصم به. وأخرجه الطحاوي (1/84) من طريق حفص بن غياث، عن عاصم به.
وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/443) من طريق خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي به. فهذه متابعة من خالد لعاصم.
(3) الأوسط (1/443) .(5/342)
معتبرة بوقت أدائها كالصلاة إن كانت ظهراً فأول وقتها زوال الشمس، وصفتها في القصر والإتمام بوقت الأداء والفعل، فإن كان وقت فعلها وأدائها مسافراً قصر، وإن كان مقيماً أتم، كذلك المسح أول زمانه من وقت الحدث، لأن أول وقت الفعل وصفته في مسح المقيم والمسافر معتبر بوقت المسح (1) .
وهذا الإنفكاك لا يفكهم؛ لأننا نقول: إن كان الحكم معلقاً بالحدث أنيط الحكم به من حين الحدث، سواء سافر قبل المسح أو بعده، وإن كان الحكم معلقاً بالمسح أنيط الحكم به، فمذهبكم أن الحاضر إذا لزمه مسح الحضر كما لو مسح في الحضر، ثم سافر لم يمسح أكثر من يوم وليلة، ثم يخلع، وهذا قد لزمه حكم مسح الحضر بوقت الحدث قبل أن يسافر، فحين علقتم الحكم بالمسح تركتم أصلكم الذي أصلتموه في هذه المسألة، وهذا دليل على ضعف قول من قال: إن ابتداء المدة من الحدث.
دليل من قال ابتداء المدة من اللبس.
استدلوا بحديث صفوان بن عسال المتقدم، وفيه: " كان رسولنا يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم ". وسبق تخريجه.
وجه الاستدلال:
قوله: " لا ننزع ثلاثة أيام " جعل الثلاثة مدة للبس الخف لا مدة
_________
(1) الحاوي (1/357) .(5/343)
للمسح، ولا مدة للحدث (1) .
والجواب أن يقال:
يحمل حديث صفوان على حديث غيره كحديث علي وخزيمة وغيرهما المصرحة بأن المسح ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وكلام الرسول b يفسر بعضه بعضاً، ولا يضرب بعضه ببعض.
دليل من قال تبتدئ مدة المسح من أول صلاة صلاها إلى خمس صلوات.
هذا القول حمل حديث يمسح المقيم يوماً وليلة حملوه على خمس صلوات مفروضة، وحجتهم كما ذكر ابن المنذر:
" لما اختلف أهل العلم في هذا الباب نظرنا إلى أقل ما قيل، وهو أن يصلي بالمسح خمس صلوات، فقلنا به، وتركنا ما زاد على ذلك لما اختلفوا؛ لأن الرخص لا يستعمل فيها إلا أقل ما قيل، وإذا اختلفوا في أكثر من ذلك وجب الرجوع إلى الأصل، وهو غسل الرجلين.
وأجيب:
لو عللنا بالخلاف لتركنا المسح على الخفين؛ لأن بعض الصحابة والسلف أنكر المسح على الخفين، أو قال بأنه منسوخ بآية المائدة، فلماذا لم تقولوا بأنهم لما اختلفوا في جواز المسح على الخفين رجعنا إلى الأصل المتيقن، وهو غسل الرجلين.
فإن قلتم: لأن القول بأن المسح على الخفين غير مشروع قول ضعيف.
_________
(1) انظر الحاوي الكبير (1/357) .(5/344)
قلنا: إذاً المنهج في الخلاف اتباع القول القوي على الضعيف، والأقوى على القوي، والاحتياط باب، والقول بأنه لا يجوز الزيادة في المسح على خمس صلوات باب آخر، ولا ينبغي في ترجيح قول أو في تركه التعليل بالخلاف.
فالراجح من الأقوال أن المدة تبتدئ من أول مسح بعد الحدث، وهذا القول هو الذي يصدق عليه أنه مسح يوماً وليلة، والله أعلم.(5/345)
[صفحة فارغة](5/346)
الباب الخامس
في السفر وأحكام المسح على الخفين
وفيه ستة فصول(5/347)
[صفحة فارغة](5/348)
الفصل الأول
اختلاف التوقيت بين المسافر والمقيم
اختلف العلماء هل المسح على الخفين عبادة مؤقتة أو لا؟
وعلى القول بالتوقيت، هل تختلف مدة المسافر عن المقيم أم لا؟
فقيل: إن المسح مؤقت بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليها للمسافر، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، وهو رواية عن مالك (4) ، واختاره ابن حزم (5) .
وقيل: لا توقيت فيه، وهو المشهور من مذهب مالك (6) ، والقول القديم للشافعي (7) .
_________
(1) المبسوط (1/98) ، حاشية ابن عابدين (1/271) ، شرح معاني الآثار (1/85) .
(2) الأم (1/50) ، روضة الطالبين (1/131) ، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/365) ، نهاية المحتاج (1/200) .
(3) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/117) رقم 148، ومسائل ابن هانئ (1/18) ، ومسائل أبي داود (ص:17) رقم 58، 59، ورواية الكوسج (1/18) ، وانظر مطالب أولي النهى (1/133،134) ، الإنصاف (1/176) ، شرح الزركشي (1/412،416) ، المحرر (1/12) .
(4) حاشية العدوي (1/235)
(5) المحلى (1/321) .
(6) المدونة (1/144) .
(7) روضة الطالبين (1/131) .(5/349)
وقيل: يمسح خمس صلوات إن كان مقيماً، ولا يمسح أكثر، ويمسح لخمس عشرة صلاة فقط إن كان مسافراً، وبه يقول إسحاق بن راهوية، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبو ثور.
وقيل: إن التوقيت يسقط في حال الضرورة، والمشقة، فالضرورة كأن يكون هناك برد شديد متى خلع تضرر، أو مع رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه، وخاف على نفسه (1) .
والمشقة كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس. واختاره ابن تيمية (2) .
دليل من قال بالتوقيت.
الدليل الأول:
(101) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن عمرو بن قيس، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة،
عن شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فاسأله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله b، فأتيته، فسألته، فقال: جعل رسول الله b ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (3) .
_________
(1) جاء في الفتاوى الهندية (1/34) : " ولو خاف من نزع خفيه على ذهاب قدميه من البرد، جاز له المسح وإن طالت المدة، كمسح الجبيرة، هكذا في التبيين والبحر الرائق. وانظر الجوهرة النيرة (1/28) ، حاشية ابن عابدين (1/275) .
(2) مجموع الفتاوى (21/215) ، الاختيارات (ص: 15) والإنصاف (1/176) .
(3) المصنف (789) ، وسقط من لفظه كلمة " يوماً ".(5/350)
[الحديث روي مرفوعاً وروي موقوفاً، والرفع محفوظ إن شاء الله تعالى] (1) .
الدليل الثاني:
(102) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم،
عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله b فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كأن يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. الحديث (2) .
[إسناده حسن] (3) .
_________
(1) سبق تخريجه في مسألة حكم المسح على الخفين.
(2) المصنف (795) .
(3) وسبق الكلام على بعض ألفاظه، فخرجت من ألفاظه زيادة (إذا أدخلناهما على طهر) وهي زيادة شاذة في شروط المسح على الخفين، في اشتراط إدخال الخفين على طهر. وأنا هنا إن شاء الله استوفي تخريجه.
الحديث مداره على عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان به، ورواه عن عاصم جماعة، منهم:
الأول: سفيان بن عيينة، كما في حديث الباب، وهو في مصنف عبد الرزاق (795) ومن طريقه الطبراني في الكبير (7353) والحميدي في مسنده (881) ، وابن
أبي شيبة (1/162) ، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (478) .
وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (4) حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد.
والنسائي (126) أخبرنا قتيبة.
والطحاوي (1/82) قال: حدثنا يونس.
والبيهقي (1/276) من طريق الحسن بن محمد الزعفراني، وأيضاً (1/118) من طريق سعدان بن نصر، كلهم عن سفيان به، بذكر المسح على الخفين فقط.
وأخرجه الترمذي (3535) قال: حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان به بذكر المسح على الخفين وباب التوبة، والمرء يحب القوم.
وأخرجه ابن حبان (1321) من طريق هارون بن معروف حدثنا سفيان به بتمامه، بذكر المسح على الخفين، والتوبة، والمرء مع من أحب.
الثاني: الثوري، عن عاصم.
كما في مصنف عبد الرزاق (792) ومن طريقه الطبراني (8/56) رقم 7351 بذكر المسح على الخفين فقط.
وأخرجه أحمد (4/239) حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان به، بذكر المسح على الخفين، وكون المرء مع من أحب.
وسنن النسائي الصغرى (127) ، والكبرى (145) من طريق يحيى بن آدم، عن الثوري، وقرن جماعة مع الثوري، عن عاصم به بذكر المسح على الخفين فقط.
وأخرجه ابن خزيمة (196) من طريق يحيى بن آدم به بذكر المسح على الخفين فقط.
الثالث: حماد بن سلمة، عن عاصم.
أخرجه أحمد (4/239) حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم به، ولفظه: غدوت على صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك؟ قلت: ابتغاء العلم. قال: ألا أبشرك، ورفع الحديث إلى رسول الله b قال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب قال: فذكر الحديث.
وأخرجه أحمد (4/240) قال: ثنا يونس، ثنا حماد - يعني: ابن سلمة به - بذكر فضل طلب العلم فقط.
ومن طريق حماد بن سلمة أخرجه الطيالسي (1166) وقرنه برواية حماد بن زيد وهمام وشعبة، عن عاصم به، بذكر المسح على الخفين.
ورواه من نفس الطريق (1165) بفضل طلب العلم. (1167) بذكر المرء مع من أحب. و (1168) بذكر باب التوبة.
وأخرجه الدارمي (357) أخبرنا عمرو بن عاصم، حدثنا حماد بن سلمة به، بذكر طلب العلم، وأشار إلى المسح على الخفين.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/82) والطبراني في الكبير (8/58) رقم 7359 من طريق حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة به.
الرابع: همام، عن عاصم.
رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1166) مقروناً بغيره، بذكر المسح على الخفين. وأخرجه أحمد (4/239) حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام به. واختصره بذكر غزوات صفوان بن عسال مع رسول الله b.
وأخرجه الطبراني في الكبير (7361) من طريق عبد الله بن رجاء، عن همام به، وذكر المسح على الخفين، والتوبة، وقصة الأعرابي.
الخامس: شعبة، عن عاصم.
رواه أبوداود الطيالسي في مسنده (1166) والنسائي (159) من طريق يزيد بن زريع، كلاهما عن شعبة به بذكر المسح على الخفين.
وأخرجه النسائي في الصغرى (158) وفي الكبرى (132) أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثني خالد، حدثنا شعبة به، وذكر طلب العلم، والمسح على الخفين.
السادس: حماد بن زيد، عن عاصم.
رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1166) مقروناً بغيره.
وأخرجه أحمد (4/241) قال: ثنا حسن بن موسى، ثنا حماد بن زيد به، بذكر فضل طلب العلم فقط.
وأخرجه الترمذي (3536) حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، حدثنا حماد بن زيد به، وذكر الحديث بطوله. وأخرجه أيضاً بعد ح (2387) قال: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، ثنا حماد بن زيد به، بذكر المرء مع من أحب. ومن طريق أحمد بن عبدة أخرجه ابن خزيمة (17) وقرنه مع غيره، بذكر فضل العلم، والمسح على الخفين.
وأخرجه النسائي في الكبرى (6/344) رقم 11178 قال: نا محمد بن النضر بن مساور، نا حماد به، بذكر المرء مع من أحب، وذكر باب التوبة.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/82) بذكر المسح على الخفين فقط.
وأخرجه الطبراني بتمامه (8/59) رقم 7360 من طريق عارم أبي النعمان ثنا حماد بن زيد به.
السابع: أبو خيثمة، عن عاصم.
وأخرجه ابن الجعد في مسنده (2587)
والنسائي في الصغرى (127) وفي الكبرى (145) من طريق يحيى بن آدم.
والبيهقي (1/289) من طريق أبي النضر، كلهم عن زهير بن معاوية (أبو خيثمة) به وقرنه النسائي بغيره بذكر المسح على الخفين فقط.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (1320) من طريق عبد الرحمن بن عمرو البجلي، قال: حدثنا زهير بن معاوية به.
وأخرجه الطبراني في الكبير (8/58) رقم 7358 من طريق عمرو بن خالد الحراني ثنا زهير به. بذكر المسح على الخفين، والمرء مع من أحب.
الثامن: أبو الأحوص، عن عاصم.
أخرجه الترمذي في سننه (96) قال: حدثنا هناد، حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم به. بذكر المسح على الخفين، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرجه الطبراني في الكبير (8/60) رقم 7362 من طريق عمرو بن عون، ثنا أبو الأحوص به.
التاسع: مالك بن مغول، عن عاصم. كما عند النسائي (127) ، والطبراني في الكبير (8/63) رقم 7374.
العاشر: شيبان بن عبد الرحمن، عن عاصم، كما في المعجم الكبير (8/64) رقم 7377، وسنن البيهقي (1/114) .
الحادي عشر: مسعر، عن عاصم، بذكر المسح على الخفين، كما في سنن الدارقطني (1/133) ، البيهقي (1/114،115) ، إلا أنه قال: من غائط وبول وريح، وذِكْر الريح شاذ في الحديث مخالف لما رواه الجماعة من ذكر النوم.
قال الدارقطني: لم يقل في هذا: أو ريح غير وكيع، عن مسعر.
الثاني عشر: النعمان بن راشد، عن عاصم.
أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (251) من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن النعمان بن راشد، عن عاصم به، بذكر المسح على الخفين.
الثالث عشر: عن المسعودي، عن عاصم، كما في معجم الطبراني الكبير (8/66) رقم 7386.
الرابع عشر: أبو بكر بن عياش، عن عاصم، كما عند النسائي (127) مقروناً بغيره.
الخامس عشر: روح، عن عاصم، كما في معجم الطبراني (8/64) رقم 7376
السادس عشر: شريك، عن عاصم، كما في المعجم الكبير (8/57) رقم 7356 بذكر المسح على الخفين فقط.
السابع عشر: الوليد بن معدان، عن عاصم، كما في معجم الطبراني (8/60) رقم 7363.
الثامن عشر: عن سعيد الجريري، عن عاصم. كما في معجم الكبير للطبراني (8/64) ح 7378، بذكر المسح على الخفين فقط.
التاسع عشر: حبيب بن حسان عن عاصم به، كما في المعجم الكبير (7380) .
العشرون: حجاج، عن عاصم، كما في المعجم الكبير (7381) .
الحادي والعشرون: عن أبي الحسن الهمداني علي بن صالح، عن عاصم، كما في المعجم الكبير (8/64) رقم 7375.
الثاني والعشرون: معمر، عن عاصم، وقد ذكر هذا الطريق بشيء من التفصيل، والاختلاف على معمر في لفظه، فانظره إن شئت في شروط المسح على الخفين، في شرط إدخال الخفيه على طهر، والله أعلم.
وقد جاء الحديث من غير طريق عاصم، أخرجه الطبراني في الكبير (8/68) رقم 7394 من طريق الوليد بن مسلم، أخبرني مروان بن جناح، عن إسحاق بن عبد الله، عن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن زر، عن صفوان بن عسال المرادي به. بذكر المسح على الخفين.(5/351)
الدليل الثالث:
(103) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم، عن أبى عبد الله الجدلي،
عن خزيمة بن ثابت، عن النبي b في المسح على الخفين، قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (1) .
[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (2) .
الدليل الرابع:
(104) ما رواه أحمد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله الحضرمي، عن أبي إدريس الخولاني،
عن عوف بن مالك الأشجعي، أن رسول الله b أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام للمسافر ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (3) .
_________
(1) المسند (5/214) .
(2) سبق بحثه في بحث هل المسح على الخفين رخصة أم عزيمة، فانظره إن شئت.
(3) المسند (6/27) .(5/356)
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (1) .
_________
(1) الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/161) رقم 1853 و (7/425) رقم 37011 قال: حدثنا هشيم بن بشير به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الطبراني في الكبير (18/40) رقم 69.
وأخرجه الروياني في مسنده (1/393) رقم 599 والبزار كما في كشف الأستار (309) قالا: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا هشيم به.
وأخرجه الدارقطني (1/197) والبيهقي في السنن (1/275) من طريق إبراهيم بن محشر، ثنا هشيم به.
قال البيهقي: قال أبو عيسى الترمذي: سألت محمداً - يعني: البخاري - عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن.
وأخرجه الطحاوي (1/82) والطبراني في الكبير (18/40) رقم 69 من طريق سعيد ابن منصور، ثنا هشيم به.
وأخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (473) من طريق أبي جعفر، حدثنا هشيم به.
وذكره البخاري في التاريخ الكبير (1/390) وقال هشيم، عن داود بن عمرو به. وقال أبو عبد الله: إن كان هذا محفوظاً فإنه حسن.
وجاء في العلل لابن أبي حاتم (1/39) قال: سألت أبي عن حديث رواه هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك... الأشجعي، عن النبي b أنه (أمر) بالمسح بتبوك للمسافر ثلاثاً، وللمقيم يوم وليلة وثبت.
ورواه الوليد بن مسلم، عن إسحاق بن سيار، عن يونس بن ميسرة بن حليس، عن أبي إدريس، قال: سألت المغيرة بن شعبة عن ماحصر عن رسول الله b بتبوك، فبال النبي b فمسح على خفيه.
قلت - القائل ابن أبي حاتم -: ورواه خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن إبي إدريس، عن بلال، عن النبي b أنه مسح على الخفين والخمار. قلت لأبي: أيهم أشبه وأصح؟
فقال أبي: داود بن عمرو، وليس بالمشهور، وكذلك إسحاق بن سيار ليس بالمشهور، لم يرو عنه غير الوليد، ولا نعلم روى أبو إدريس عن المغيرة بن شعبة شيئاً سوى هذا الحديث، وأما حديث خالد فلا أعلم أحداً تابع خالداً في روايته عن أبي قلابة، ويروونه عن أبي قلابة، عن بلال، عن النبي b مرسلاً لايقول: أبو إدريس. وأشبههما حديث بلال؛ لأن أهل الشام يروون عن بلال هذا الحديث في المسح من حديث مكحول وغيره، ويحتمل أن يكون أبو إدريس قد سمع من عوف والمغيرة أيضاً؛ فإنه من قدماء تابعي أهل الشام وله إدراك حسن اهـ.
فعلى هذا إسحاق بن سيار لم يرو عنه غير الوليد بن مسلم، ولم يوثقه أحد، فهو مجهول. جاء في لسان الميزان: إسحاق بن سيار، عن يونس بن ميسرة، وعنه الوليد بن مسلم، قال أبو حاتم: لا أعرفه مجهول. انتهى قال الحافظ: وعبارة ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: لا أعرفه، وإذا لم يعرفه مثل أبي صار مجهولاً. لسان الميزان (1/364) .
قلت: لم أقف على هذا النص في الجرح والتعديل، وقد ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، انظر الجرح والتعديل (2/222) ، فلعل الحافظين الذهبي وابن حجر نقلاه من كتاب آخر، والله أعلم. هذا فيما يتعلق في حديث إسحاق بن سيار، وأما ما يتعلق بحديث بلال فالأكثر على عدم ذكر أبي إدريس بين أبي قلابة، وبين بلال. فلعل أرجحها رواية عوف بن مالك، فإنها سالمة من الاختلاف، وطريقها مشهور، والله أعلم.
وذكر البخاري في التاريخ الكبير هذا الاختلاف على أبي إدريس في ترجمة إسحاق بن سيار، فقال البخاري (1/390) : إسحاق بن سيار، سمع يونس بن ميسرة الشامي سمع أبا إدريس الخولاني، سألت المغيرة بن شعبة بدمشق، قال: وضأت النبي b بتبوك، فمسح على خفيه، قاله لي سليمان بن عبد الرحمن، عن الوليد بن مسلم.
وقال هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن عوف ابن مالك، قال: جعل النبي b المسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثاً للمسافر ويوماً للمقيم، قال أبو عبد الله: إن كان هذا محفوظاً، فإنه حسن. وقال حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس، عن بلال مسح النبي b، وقال غير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن بلال مرسل اهـ.
وقال الحافظ في الدراية (1/73) رواه أحمد وإسحاق والبزار والطبراني في الأوسط قال أحمد: هذا من أجود حديث في المسح.(5/357)
الدليل الخامس:
(105) ما وراه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا المهاجر مولى البكرات، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر،
عن أبيه، أن النبي b جعل للمسافر يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة (1) .
[إسناده ضعيف] (2)
_________
(1) المصنف (1/163) رقم 1878.
(2) فيه مهاجر بن مخلد، جاء في ترجمته:
ذكره ابن حبان في الثقات (7/486) .
وقال: إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: صالح. الجرح والتعديل (8/262) .
وقال ابن أبي حاتم: قال سألت أبي عن مهاجر أبي مخلد مولى البكرات، فقال: لين الحديث، ليس بذاك، وليس بالمتين شيخ يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال العجلي: بصري ثقة. معرفة الثقات (2/301) .
وكان وهيب يعيب المهاجر يقول لا يحفظ. الكامل (6/460) .
وقال العقيلي بعد أن خرج هذا الحديث: والمتن معروف من غير هذا الوجه، ولا يتابع مهاجر على هذه الرواية. الضعفاء الكبير (4/208) .
وفي التقريب: مقبول، يعني إن توبع، ولا أعلم أحداً تابعه على هذا الإسناد، فالحديث ضعيف.
وقال الترمذي في العلل الكبير (1/175) : " سألت محمداً - يعني البخاري - فقلت: أي الحديث عندك أصح في التوقيت في المسح على الخفين؟ قال: صفوان بن عسال، وحديث أبي بكرة حسن اهـ.
ولعل البخاري لم يقصد الحسن الاصطلاحي، وذلك لأن حديث صفوان حديث حسن، مداره على عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث، فإذا كان حديث صفوان حديثاً حسناً، فحديث أبي بكرة أقل منه درجة، فيكون ضعيفاً. والله أعلم.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه الشافعي في مسنده (ص: 17) ومن طريق الشافعي أخرجه البغوي في شرح السنة (237) عن عبد الوهاب به.
وأخرجه ابن ماجه (556) قال: حدثنا محمد بن بشار وبشر بن هلال الصواف، قالا: ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد به.
وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (87) قال: من طريق يحيى بن معين، قال: حدثنا عبدالوهاب به.
وأخرجه الدارقطني (1/194) من طريق محمد بن المثنى، وأبي الأشعث، والعباس بن يزيد ومسدد أربعتهم، عن عبد الوهاب الثقفي به.
وأخرجه ابن خزيمة (1/96) من طريق بندار وبشر بن معاذ العقدي ومحمد بن أبان، قالوا: نا عبد الوهاب بن عبد المجيد به.
وأخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/211) من طريق ابن خزيمة، حدثنا بندار وحده به.
وأخرجه ابن حبان (1324) من طريق محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب الثقفي به.
وأخرجه أيضاً (1328) من طريق عمر بن يزيد السياري، حدثنا عبد الوهاب الثقفي به.
وأخرجه البيهقي (1/276) من طريق زيد بن الحباب، عن عبد الوهاب الثقفي به.
وأخرجه البيهقي (1/281) من طريق محمد بن أبي بكر، ثنا عبد الوهاب به.
وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (11/154،155) من طريق بندار وابن المثنى، قالا: حدثنا عبد الوهاب به.
ورواه ابن عبد البر في التمهيد أيضاً (11/155) من طريق علي بن المديني، قال: حدثنا عبد الوهاب به.
قال ابن عبد البر: قال أبو يحيى الساجي: مهاجر أبو مخلد هذا صدوق ومعروف، وليس قول من قال فيه مجهول بشيء، روى عنه أيوب السختياني وعوف الأعرابي وحماد بن زيد وإسماعيل بن علية وعبدالوهاب الثقفي وغيرهم، واحتج به الشافعي في توقيت المسح على الخفين اهـ.
وأخرجه الطحاوي (1/82) من طريق إبراهيم بن أبي الوزير، قال: حدثنا عبدالوهاب الثقفي به.
وسبق الكلام على الاختلاف في متنه عند الكلام على شروط المسح على الخفين، في ذكر اشتراط إدخال الخفين على طهارة، والله أعلم.(5/359)
الدليل السادس:
الآثار الموقوفة على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهي وإن كانت موقوفة إلا أن لها حكم الرفع، وذلك لأن القول بالتوقيت لا يمكن
أن يقال بمحض الرأي، فلا بد أن يكون القائل بذلك وقف عليه من الشرع، فما الفرق بين أربع وعشرين ساعة، وخمس وعشرين ساعة للمقيم لولا
أن ذلك متلقى من الشرع، ومثله يقال في حق المسافر، وإليك هذه
الآثار:
الأثر الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(106) رواه عبد الرزاق، عن عبد الله بن المبارك، قال: حدثني عاصم بن سليمان،
عن أبي عثمان النهدي، قال: حضرت سعداً وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين، فقال عمر: يمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته (1) .
_________
(1) المصنف (1/209) رقم 808.(5/361)
[إسناده صحيح] (1) .
_________
(1) رجاله ثقات، وعاصم بن سليمان، هو الأحول.
والأثر أخرجه البيهقي في السنن (1/276) من طريق سفيان، عن عاصم به. وأخرجه الطحاوي (1/84) من طريق حفص بن غياث، عن عاصم به.
وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/443) من طريق خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي به. فهذه متابعة من خالد لعاصم.
وقد جاء عن عمر القول بالتوقيت من طرق كثيرة، منها:
الأول: عن ابن عمر، عن عمر.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/164) حدثنا يزيد بن هارون، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن ابن عمر،
أن عمر بن الخطاب قال في المسح على الخفين: للمسافر ثلاث، وللمقيم يوم إلى الليل. وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات. وأبو حازم هو سلمان الأشجعي الكوفي، وليس سلمة بن دينار، فإن هذا لم يسمع من ابن عمر، بخلاف الأول.
ومنها سويد بن غفلة، عن عمر.
أخرجه الطحاوي (1/83) حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، قال:
قلنا لنابتة الجعفي، وكان أجرأنا على عمر: سله عن المسح على الخفين، فسأله، فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة.
فالأثر إسناد رجاله كلهم ثقات، وإنما جعلت الحديث من رواية سويد بن غفلة، عن عمر، لا من رواية نباتة عن عمر؛ لأن نباتة في هذا الإسناد ليس واسطة بين سويد وبين عمر حتى ممكن أن يكون من رواية نباتة عن عمر، وقد جاء عند الطحاوي (1/84) عن سويد ابن غفلة قال: أتينا عمر، فسأله نباتة، فهذا صريح في أن السائل والسامع اشتركا في سماعه من عمر... قلت ذلك حتى لا يضعف الأثر بنباتة.
ونباتة وثقه العجلي، وقال ابن حزم في المحلى (2/91) : من أوثق التابعين . وفي التقريب: مقبول. يعني: إن توبع، وإلا فلين. وحكم الحافظ أدق.
وقد اختلف على أبي الأحوص:
فرواه ابن أبي شيبة (1/164) حدثنا أبو الأحوص، عن عمران بن مسلم، قال: قلنا لنباتة الجعفي - وكان أجرأنا على عمر -: سله، فذكر الحديث. فهنا أسقط من الإسناد سويد بن غفلة.
ورواه يحيى بن حسان كما في إسناد الطحاوي المتقدم، عن أبي الأحوص، عن عمران، عن سويد بن غفلة به. وهذا أرجح؛ لأن يحيى بن حسان قد توبع بذكر سويد، تابعه: الثوري وزهير ومالك بن مغول، فقد أخرجه الطحاوي (1/83) من طريق مؤمل، قال: ثنا سفيان ثنا عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة به، إلا أنه قال: امسح عليهما يوماً وليلة. ومؤمل صدوق، وسوء حفظه قد زال بالمتابعة.
وأخرجه الطحاوي (1/83) من طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، أنا مالك بن مغول، عن سويد، قال: أتينا عمر، فسأله نباتة.. وذكر الأثر. وقد صرح هشيم بالتحديث فالإسناد صحيح.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/436) من طريق زهير، ثنا عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة. فهؤلاء ثلاثة ثقات يذكرون في الإسناد سويداً، وهم الثوري، ومالك بن مغول، وزهير.
ورواه حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، واختلف على حماد فيه:
فرواه شعبة كما عند الطحاوي (1/83) عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن نباتة، عن عمر، بذكر نباتة.
ورواه هشام، عن حماد، واختلف على هشام:
فرواه أبو عامر العقدي كما عند الطحاوي () عن هشام، عن حماد به، بذكر نباتة.
ورواه مسلم - يعني: ابن إبراهيم - ثنا هشام، ثنا حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر، فأسقط نباتة. وعلى تقدير ترجيح طريق شعبة حيث لم يختلف عليه، فإن الإسناد حسن؛ لأن نباتة قد توبع، وباقي الإسناد رجالهم كلهم ثقات إلا حماد بن أبي سليمان ففي التقريب: فقيه صدوق له أوهام، والله أعلم.(5/362)
الأثر الثاني: عن ابن مسعود.
(107) رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم، عن الحارث بن سويد،
عن عبد الله بن مسعود، قال: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم للمقيم (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المصنف (799) .
(2) رجاله كلهم ثقات، وإبراهيم هو التيمي، ومن طريق الثوري أخرجه الطحاوي (1/84) والبيهقي (1/276) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/167) حدثنا ابن مهدي، عن سفيان به. وهذا إسناد صحيح أيضاً.
ورواه ابن أبي شيبة (1/165) حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن الحارث، قال: خرجت مع عبد الله إلى المدائن، فمسح على خفيه ثلاثاً
لا ينزعهما. وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه البيهقي (1/277) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش به.
وأخرجه عبد الرزاق (800) عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل (شقيق بن سلمة) به.
وأخرجه عبد الرزاق (801) عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة به. فهذه متابعة من عامر بن شقيق للأعمش.
وأخرجه الطحاوي (1/84) من طريق مغيرة، عن إبراهيم، عن عمرو بن الحارث به. وهذا سند فيه عنعنة مغيرة، وهو يدلس عن إبراهيم، كما أن إبراهيم لم يسمع من عمرو بن الحارث؛ لأن إبراهيم كان مولده سنة خمسين، وعمرو بن الحارث توفي بعد الخمسين بيسير. وقد قال العجلي عن النخعي: لم يحدث عن أحد من الصحابة، وأدرك جماعة منهم، ورأى عائشة رؤيا، وعلى كل حال فهو صالح في المتابعات، وقد صح من طريق شقيق بن سلمة، عن عمرو.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/164) حدثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، أنه كان يقول في المسح على الخفين: ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا أنه منقطع؛ لأن إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وعليه فالقول بالتوقيت ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه.(5/364)
الأثر الثالث: عن ابن عباس.
(108) رواه الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة، قال:
سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن المسح على الخفين، قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الأثر الرابع: عن سعد بن أبي وقاص.
(109) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/84) .
(2) عبدالصمد بن عبد الوارث، وإن قيل فيه: صدوق إلا أن الحافظ قال في التقريب: ثبت في شعبة اهـ وقد توبع عبد الصمد، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/166) حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة به.
وأخرجه البيهقي في السنن (1/277) من طريق موسى بن خلف العمي، ثنا قتادة به.
وأخرجه عبد الرزاق (802) عن الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/165) حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة به. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا موسى بن عبيدة فإنه ضعيف، وعلى كل فهو إسناد صالح في المتابعات، وعليه فالقول ثابت عن ابن عباس بالتوقيت للمقيم والمسافر، وهذا يؤكد رجوع ابن عباس عن القول بإنكار المسح على الخفين كما بينت ذلك في مسألة متقدمة، والله أعلم.(5/365)
طلحة بن يحيى، عن أبان بن عثمان، قال:
سألت سعد بن أبي وقاص عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم (1) .
[إسناده حسن] (2) .
دليل من قال بعدم التوقيت.
الدليل الأول:
(110) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال:
إتردت من الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فخرجت من الشام يوم الجمعة، ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر، وعلي خفان مجرمقانيان، فقال لي: متى عهدك يا عقبة بخلع خفيك؟ فقلت: لبستهما يوم الجمعة، وهذا الجمعة، فقال لي: أصبت السنة (3) .
[إسناده صحيح، وأكثر الرواة على كلمة أصبت بدون كلمة السنة] (4) .
_________
(1) المصنف (1/166) .
(2) والمسح على الخفين ثابت عن سعد في البخاري (202) ، وهذا الأثر شاهد للأثار السابقة.
(3) شرح معاني الآثار (1/80) .
(4) في إسناده موسى بن عُلَّي بن رباح، جاء في ترجمته:
قال أحمد بن حنبل: شيخ ثقة. الجرح والتعديل (8/153) .
وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: موسى بن على ثقة. المرجع السابق.
وقال الحافظ في التهذيب (10/323) : وقال ابن معين لم يكن بالقوي، ولم يذكر الحافظ مرجعاً أو راوياً عن ابن معين، لأن ذلك من زياداته على تهذيب الكمال.
وقال أبو حاتم الرازي: كان رجلاً صالحاً، وكان يتقن حديثه لا يزيد ولا ينقص، صالح الحديث، وكان من ثقات المصريين، وكان والياً على مصر. المرجع السابق.
وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. الطبقات الكبرى (7/515) .
وقال العجلي: مصري ثقة. معرفة الثقات (2/305) .
وقال ابن حبان: من ثقات المصريين ومتقنيهم. مشاهير الأمصار (1531) .
فهذا أحمد وابن معين في رواية إسحاق بن منصور عنه، وأبو حاتم الرازي، وابن سعد، وابن حبان والعجلي كل هؤلاء وثقوه.
وقال الحافظ ابن حجر في زيادته على تهذيب الكمال: وقال الساجي: صدوق، وقال ابن عبد البر: ما انفرد به فليس بالقوي. تهذيب التهذيب (10/323) .
وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ. وباقي رجاله ثقات.
والحديث رواه موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر بذكر: أصبت السنة. وصحح إسناده الدارقطني كما في سننه، وحكم الدارقطني (1/196) بشذوذ زيادة أصبت السنة في كتابه العلل، وسيأتي النقل عنه إن شاء الله تعالى.
ورواه يزيد بن أبي حبيب، واختلف عليه فيه:
فرواه عمرو بن الحارث وابن لهيعة والليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر به. وفي آخره، قال: " أصبت " ولم يقل: " أصبت السنة ".
ورواه ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن يزيد بن أبي حبيب به، بذكر أصبت السنة، لم يختلف على ابن وهب فيه.
ورواه أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن حيوة بن شريح، واختلف على أبي عاصم:
فرواه ابن وهب وأحمد بن يوسف السلمي، عن أبي عاصم، عن حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب به، وقال في آخره: " أصبت السنة ".
وخالفهما عباس الدوري، فرواه عن أبي عاصم، عن حيوة به، بالاقتصار على قوله: "أصبت "، وهذه توافق رواية الليث وعمرو بن الحارث وابن لهيعة، عن عبد الله بن الحكم.
ورواه المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب به، بلفظ: " أصبت السنة ".
ورواه يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب به، إلا أنه أسقط علي بن رباح، وقال: أصبت السنة.
هذا فيما يتعلق بالاختلاف في متنه، خاصة زيادة: " أصبت السنة " وقد تبين لنا من زادها ممن لم يزدها. وإليك تفصيل ما أجمل.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه الطحاوي من طريق موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر به بذكر أصبت السنة، كما في إسناد الباب وهذا إسناد صحيح، وعلى أقل أحواله أن يكون حسناً.
والحديث رواه أيضاً الدارقطني (1/196) حدثنا أبو بكر النيسابوري، نا سليمان بن شعيب به.
قال أبو بكر: هذا حديث غريب، وقال الدارقطني: وهو صحيح الإسناد. وهذا توثيق ضمني من الدارقطني لموسى بن علي، وقد علمت الاختلاف فيه. وقد جعل ابن حجر حديثه من قبيل الحسن، وقد حكم الدارقطني في كتابه العلل بشذوذ كلمة: " السنة " من قوله: " أصبت السنة " كما سيأتي.
وأخرجه البيهقي (1/280) من طريق بحر بن نصر بن سابق الخولاني، ثنا بشر بن بكر به.
وجاء ذكر أصبت السنة من غير هذا الطريق، أخرجها الدارقطني (1/199) حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني حيوة، سمعت يزيد بن أبي حبيب، يقول: حدثني عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح، أن عقبة بن عامر حدثه أنه قدم على عمر بفتح دمشق، قال: وعلي خفان، فقال لي عمر: كم لك يا عقبة لم تنزع خفيك؟ فتذكرت من الجمعة إلى الجمعة، قال: أحسنت، وأصبت السنة.
فهذه متابعة من عبد الله بن الحكم لموسى بن علي بن رباح.
وأبو بكر النيسابوري شيخ الدارقطني: جاء في الأنساب: قال الدارقطني: لم نر مثله في مشايخنا، ولم نر أحفظ منه للأسانيد والمتون، وكان أفقه المشايخ، جالس المزني والربيع، وكان يعرف زيادات الألفاظ والمتون.. الأنساب (5/551) . ويونس ومن بعده من رجال التهذيب، وإسناده كلهم ثقات إلا عبد الله بن الحكم، لم يرو عنه إلا يزيد بن أبي حبيب،
قال الذهبي: مجهول. انظر المغني الترجمة (1660) ، وديوان الضعفاء له (1079) .
وقال الدارقطني في حاشية السنن: ليس بمشهور. لسان الميزان (3/276) .
وقال في موضع آخر: ليس بالقوي. المرجع السابق.
وقال الجوزقاني في كتاب الأباطيل: لا يعرف بعدالة ولا جرح. المرجع السابق.
وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: الحكم بن عبد الله البلوي ثقة. الجرح والتعديل (3/122) .
وذكره ابن حبان في الثقات. (7/30) . وفي التقريب: صدوق. وهذا إسناد حسن.
ورواه أبو عاصم، واختلف عليه فيه في.
فرواه ابن ماجه (558) قال: حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أبو عاصم، ثنا حيوة بن شريح، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الحكم بن عبد الله البلوي، عن علي بن رباح اللخمي، عن عقبة بن عامر الجهني، أنه قدم على عمر بن الخطاب من مصر، فقال: منذ كم لم تنزع خفيك؟ قال: من الجمعة إلى الجمعة قال أصبت السنة.
ورواه عباس الدوري، عن أبي عاصم به، بدونها.
فقد أخرجه المزي في تهذيب الكمال (7/107) بسنده، من طريق أبي بكر النيسابوري إملاء، قال: حدثنا عباس الدوري، قال: أبو عاصم، عن يزيد بن أبي حبيب به، وليس فيه إلا قوله: " أصبت "، ولم يقل: أصبت السنة.
ووافق أبا عاصم في رواية عباس الدوري عنه: كل من عمرو بن الحارث والليث وابن لهيعة فقد رووه عن يزيد بن أبي حبيب به، بدون زيادة كلمة: " السنة " مما يجعله موقوفاً على عمر.
ورواه محمد بن أحمد بن الجنيد كما في تهذيب الكمال (7/107) عن أبي عاصم به إلا أنه قال عبد الله بن فلان البلوي، بدلاً من الحكم بن عبد الله.
وقال مرة: الحكم بن عبيد الله كما في رواية أحمد بن منصور عن أبي عاصم.
قال أبو بكر بن زياد عقيب حديث عباس الدوري، هكذا قال عباس: الحكم بن عبدالله وأحسب هذا من أبي عاصم، أراه كان يضطرب في اسمه، وأهل مصر أعلم به، قالوا: عبد الله ابن الحكم. الخ كلامه رحمه الله.
ورواه يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب به، بلفظ: " أصبت السنة " إلا أنه خالف الجماعة في إسناده، فرواه الدارقطني (1/195) حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أبو الأزهر، نا وهب بن جرير، ثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر به، وقال: أصبت السنة.
قال الدارقطني: لم يذكر بين يزيد بن أبي حبيب وعلي بن رباح أحداً اهـ.
وقد رواه كما سبق حيوة بن شريح، وعمرو بن الحارث، والليث، وابن لهيعة كلهم رووه عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح. ويحيى بن أيوب لا تحتمل مخالفته لهؤلاء، وقد قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق ربما أخطأ.
وأخرج الطحاوي (498) من طريق المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب، وفيه: أصبت السنة، وقد اختلف على المفضل في إسناده:
فرواه الطحاوي (498) عن أبي بكرة، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن عقبة بن عامر. (لم يذكر علي بن رباح) .
وهذا إسناد منقطع مخالف لرواية الجماعة المتقدم ذكرهم، وقد خولف فيه إبراهيم بن أبي الوزير، فرواه البيهقي (1/380) أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا عبيد بن شريك، نا يحيى بن بكير، ثنا مفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله ابن الحكم البلوي، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر، وفيه: أصبت السنة.
وأخرجه الدارقطني (1/165،196) حدثنا أبو بكر النيسابوري، نا محمد بن أحمد بن الجنيد، نا يحيى بن غيلان، ثنا المفضل بن فضالة، فقال: سألت يزيد بن أبي حبيب، عن المسح على الخفين، فقال: أخبرني عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر به، وفيه: أصبت السنة.
فهذا يحيى بن بكير، ويحيى بن غيلان، كلاهما روياه عن المفضل بن فضالة بذكر الراوي علي بن رباح، فهي موافقة لرواية الجماعة في الإسناد، مخالفة لهم بذكر كلمة السنة.
فتبين من هذا البحث أن كلمة: " أصبت " متفقون عليها، مختلفون حول زيادة كلمة (السنة) وهي زيادة مؤثرة؛ لأنها تجعل الأثر بدلاً من يكون موقوفاً على عمر، تجعله في حكم الرفع، وقد جعلها الدارقطني زيادة " السنة " شاذة.
قال الدارقطني في كتاب العلل (2/110) رواه موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر أنه مسح من الجمعة إلى الجمعة على خفيه، وتابعه مفضل بن فضالة وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن علي بن رباح فقالا فيه: أصبت السنة.
قلت: رواية ابن لهيعة ليس فيها أصبت السنة، وإنما فيها كلمة أصبت فقط.
ثم قال الحافظ: وخالفهم عمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب - قلت: الصواب ابن لهيعة بدلاً من يحيى بن أيوب - والليث بن سعد، فقالوا فيه: فقال عمر أصبت، ولم يقولوا: السنة كما قال من تقدمهم، وهو المحفوظ، والله أعلم.
ورواه جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن رباح، عن عقبة، وأسقط من الإسناد عبد الله بن الحكم البلوي، وقال فيه: أصبت السنة كما قال ابن لهيعة والمفضل اهـ. كلام الدارقطني.
قلت: الصواب كما قال المفضل فقط، لما تقدم.
ويصعب الحكم بشذوذها وقد جاءت من أكثر من طريق، وإليك عدد الذين زادوها:
الأول: موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة، لم يختلف عليه في ذلك.
الثاني: يزيد بن أبي حبيب، وقد اختلف عليه.
فرواه المفضل بن فضالة، ويحيى بن أيوب، وإن كان أسقط من إسناده عبد الله بن الحكم. وحيوة بن شريح، في رواية، لأنه قد اختلف عليه. ثلاثتهم عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر.
وأما الذين قالوا: أصبت بدون كلمة السنة.
فجاءت من طريق عمرو بن الحارث والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة وحيوة بن شريح في رواية، أربعتهم رووه عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي به بلفظ: أصبت، ولم يقل: أصبت السنة.
فالخلاصة:
فرواية يزيد بن أبي حبيب يصعب الترجيح بين طرقها، فأرى أنه روي بالوجهين، وتبقى رواية موسى بن علي بن رباح طريق صحيح سالم من الاختلاف في زيادة كلمة السنة، والله أعلم.(5/366)
وأجيب عن هذا الحديث بعدة إجابات:
الأول: الحكم بشذوذ كلمة: " السنة " من قوله: " أصبت السنة" وممن حكم بشذوذها الدارقطني في العلل كما ذكرنا ذلك عنه في الكلام على تخريج الحديث. ويصعب الحكم بشذوذها، وقد جاءت من أكثر من طريق.
وقال أبو داود في مسائل أحمد: سمعت أحمد سئل عن رجل كان يتدين بحديث عقبة بن عامر في المسح، فكان يمسح أكثر من ثلاثة ولياليهن، ثم ترك ذلك.
قال أحمد: يعيد ما كان صلى، وقد مسح أكثر من ثلاثة ولياليهن.
فقال له الرجل: احتياطاً ذلك يُحتاط له، أو هو واجب عليه؟
فقال أحمد: لا يمسح على خفيه أكثر من ثلاثة ولياليهن، أمر رسول الله b أولى أن يتبع من قول عقبة بن عامر " (1) .
الجواب الثاني: الترجيح.
أي ترجيح الأحاديث التي تقول بالتوقيت على هذه الرواية، ووجه ترجيحها على هذه الرواية من وجوه:
منها: أن الرواة متفقون على كلمة: " أصبت " مختلفون في إضافة
_________
(1) مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 17) رقم 60.(5/372)
كلمة: " السنة "، وهي إضافة مؤثرة؛ لأن الاقتصار على كلمة: " أصبت" تجعل الحديث موقوفاً، بينما إذا قلنا: " أصبت السنة " جعلتها في حكم المرفوع، ولا ينبغي لمسألة مهمة جداً، تتعلق بركن من أركان الإسلام، بل هي أعظم الأركان العملية، وهي الصلاة التي مفتاحها الطهارة، أن نأخذ بهذه الكلمة المختلف في ثبوتها، وندع الأحاديث الصحيحة التي لا خلاف فيها، والمرفوعة صريحاً، وليس حكماً إلى النبي b، والأصل غسل الرجلين بالماء، جاءت الأحاديث الصحيحة بتوقيت المسح في ذلك يوماً وليلة للمقيم وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، ولا نتجاوز ذلك إلا بدليل صريح خال من النزاع، وإلا رجعنا إلى الغسل الذي هو المتيقن.
ومنها: أنه قد ثبت عن عمر القول بالتوقيت بأسانيد صحيحة، وقد سقتها بالقول الأول.
قال البيهقي: فإما أن يكون رجع إليه حين جاءه التثبت عن النبي b في التوقيت، وإما أن يكون قوله الذي يوافق السنة المشهورة أولى " (1) .
ومنها: أن القول بالتوقيت لا سبيل فيه للاجتهاد والرأي، فهو متلقى من الشرع، بخلاف القول بعدم التوقيت.
ومنها: أن الأحاديث المرفوعة الصريحة بالتوقيت أكثر عدداً، وقد سقتها من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخزيمة، وصفوان بن عسال، وعوف بن مالك الأشجعي، وأبي بكرة الثقفي، ويعضدها جمع من الآثار الموقوفة على الصحابة، وما كان أكثر عدداً فهو أولى بالقبول.
_________
(1) سنن البيهقي (1/280) .(5/373)
قال ابن عبد البر عن القول بالتوقيت: " وهو الاحتياط عندي؛ لأن المسح ثبت بالتواتر، واتفق عليه جماعة أهل السنة، واطمأنت النفس إلى ذلك، فلما قال أكثرهم: لا يجوز المسح للمقيم أكثر من يوم وليلة: خمس صلوات، ولا يجوز للمسافر أكثر من ثلاثة أيام ولياليها، وجب على العالم أن يؤدي صلاته بيقين، واليقين الغسل حتى يجمعوا على المسح، ويتفق جمهورهم على ذلك، ويكون الخارج عنهم في ذلك شاذاً، كما شذ عن جماعتهم من لم ير المسح " (1) .
الجواب الثالث: الجمع.
فيحمل حديث عمر على الضرورة، أو على المشقة الكبيرة، وتحمل أحاديث التوقيت فيما إذا لم يوجد ضرورة أو مشقة، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله، وسيأتي نقل كلامه عند ذكر قوله إن شاء الله تعالى.
الدليل الثاني:
(111) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن الكندي،
عن أبي بن عمارة الأنصاري، قال: وكان رسول الله b قد صلى في بيته للقبلتين، قال: قلت يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: قلت: يا رسول الله يوماً؟ قال: نعم، ويومين. قلت: يا رسول الله، يومين؟ قال: نعم، وثلاثة، قال: قلت: يا رسول الله،
_________
(1) الاستذكار (2/251) .(5/374)
وثلاثة؟ قال: نعم، وما شئت (1) .
[إسناده ضعيف جداً مسلسل بالمجاهيل] (2) .
_________
(1) المصنف (1/163) ، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه أبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (2154) ، قال الشيباني: قال ابن أبي عاصم رحمه الله: وهذا يقولون عن عبادة بن نسي، عن أُبَي هو ابن عمارة اهـ.
ورواه محمد بن نصر الإمام كما في إتحاف المهرة لابن حجر (1/178) عن يحيى بن إسحاق به.
(2) في إسناده عبد الرحمن بن يزيد، ويقال: ابن رزين، قال الحافظ: وهو الصواب. روى عنه اثنان كما في تهذيب الكمال، ذكره ابن حبان في الثقات (5/82) ولم يوثقه أحد سواه، وقال الدارقطني: مجهول. سنن الدارقطني (1/198) .
وذكره ابن الجوزي في الضعفاء.
وقال الحافظ في التقريب: صدوق.
ولا أدري هل هذا اعتماد من الحافظ على توثيق ابن حبان أم لا؟ ولقد وجدت أن الحافظ يحكم أحياناً على رجال خرج لهم أحد الشيخين، ولم يوثقهم إلا ابن حبان، فيحكم الحافظ عليهم بقوله: (مقبول) يعني إن توبع، وإلا فلين الحديث، انظر إلى جعفر بن أبي ثور، قد خرج له مسلم حديثه في الوضوء من لحوم الإبل، وصحح حديثه أحمد وابن حبان وغيرهما، ووثقه ابن حبان، ومع ذلك قال فيه الحافظ في التقريب: مقبول، ولم يقل صدوق كحال راوينا هذا.
وانظر إلى إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله المخزومي، لم يوثقه إلا ابن حبان، وخرج له البخاري، وقال فيه: مقبول.
وكذلك عبد الرحمن بن مسور بن مخرمة، خرج له مسلم، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبان، وقال الحافظ فيه: مقبول، وهذه أمثلة تدل على غيرها، وهي كثيرة، فما بالك بهذا الراوي الذي حكم عليه بالجهالة الإمام الدارقطني، ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء كيف يكون صدوقاً، ولم يخرج له أحد الصحيحين، بل
ولا الترمذي والنسائي، ولم يخرج له إلا أبو داود وابن ماجه حديثاً واحداً في المسح على الخفين.
وفي إسناده أيضاً محمد بن يزيد بن أبي زياد، جاء في ترجمته:
قال أبو حاتم الرازي: مجهول. الجرح والتعديل (8/126) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/147) .
وقال الدارقطني: مجهول. السنن (1/198) .
وقال الحافظ في زياداته على تهذيب الكمال: وقال الخلال: سئل أحمد عن حديثه -يعني حديث الصور - فقال: رجاله لا يعرفون.
وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره.
وقال الأزدي: ليس بالقائم، في إسناده نظر.
وقال الدارقطني: إسناده لا يثبت، ومحمد وأيوب والراوي عنه مجهولون. تهذيب التهذيب (9/462) .
وقال الذهبي: مجهول. ميزان الاعتدال (4/67) .
وقال أيضاً: ليس بحجة. الكاشف (5221) .
وفي التقريب: مجهول الحال.
وفي إسناده أيضاً: أيوب بن قطن.
قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أيوب بن قطن، فقال: هو من أهل فلسطين. قلت ما حاله؟ قال: محدث. الجرح والتعديل (2/254) .
فأعقبه الحافظ في التهذيب بقوله: وقال ابن أبي حاتم في العلل، عن أبي زرعة: لايعرف. تهذيب التهذيب (1/358) . وقد تصفحت قسم الطهارة من كتاب العلل لابن أبي حاتم، ولم أقف عليه، فلعله ذكره في مكان آخر.
وقال الحافظ في التهذيب: وفي إسناده جهالة واضطراب، وقال أبو داود عقب حديثه: اختلف في إسناده، وليس بالقوي.
وقال الأزدي والدارقطني وغيرهما: مجهول. وفي بعض نسخ أبي داود عقب حديثه قال ابن معين: إسناده مظلم. انظر تهذيب التهذيب (1/358) .
وعلى ضعف إسناده، فإن فيه اختلافاً،
فقيل: عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة بن نسي، عن أبي بن عمارة.
وقيل: عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن عبادة بن نسي، عن أبي بن عمارة. ليس فيه أيوب بن قطن.
وقيل: عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أبي بن عمارة، ليس فيه عبادة بن نسي.
وزاد المزي في تحفة الأشراف عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله، فذكره، فالظاهر أنه مرسل، وعبادة الأنصاري ليس هو عبادة بن نسي؛ لأني لم أقف في ترجمته أنه نسب إلى الأنصار، وإنما يقال: الكندي الشامي الأردني، قاضي طبرية.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه ابن ماجه (557) قال: حدثنا حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد المصريان، قالا: ثنا عبد الله بن وهب، أنبأ يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة بن نسي، عن أبي بن عمارة، وكان رسول الله b قد صلى في بيته القبلتين كلتيهما أنه قال لرسول الله b: أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: يوماً؟ قال: ويومين. قال: وثلاثاً؟ حتى بلغ سبعاً، قال له: وما بدا لك.
وأخرجه الطحاوي (1/79) ، والدارقطني (1/198) والطبراني في الكبير (1/203) رقم 546 والبيهقي (1/278) من طريق سعيد بن عفير نا يحيى بن أيوب بإسناد ابن ماجه ولفظه. إلا البيهقي والطبراني فإنهما ذكرا إلى ثلاثة أيام، ثم قال: وما بدا لك.
قال الدارقطني: هذا الإسناد لا يثبت، وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً قد بينته في موضع آخر، وعبد الرحمن ومحمد بن يزيد وأيوب بن قطن مجهولون كلهم، والله أعلم.
وأخرجه الطبراني (1/202) رقم 545 من طريق يحيى بن إسحاق السيلحيني، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن الكندي، عن ابن عمارة الأنصاري وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى في بيته القبلتين جميعا... وذكر الحديث.
قال المزي في تحفة الأشراف (1/10) : " رواه سعيد بن كثير بن عفير مثل رواية ابن وهب. قلت: رواية ابن وهب سبقت في سنن ابن ماجه.
وقال المزي: ورواه يحيى بن إسحاق السيلحيني، عن يحيى بن أيوب، واختلف عليه فيه: فقيل: عنه مثل رواية عمرو بن الربيع.
وقيل: عنه، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين الغافقي، عن محمد ين يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة الأنصاري، قال: قال رجل يا رسول الله... وذكره.
ورواه إسحاق بن الفرات، عن يحيى بن أيوب، عن وهب بن قطن، عن أبي اهـ.
وأما طريق محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أبي بن عمارة بدون ذكر عبادة بن نسي، فرواه أبو داود (158) قال: حدثنا يحيى بن معين، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أبي بن عمارة - قال يحيى بن أيوب: وكان قد صلى مع رسول الله b القبلتين - أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال نعم. قال: يوماً؟ قال: يوماً. قال: ويومين؟ قال: ويومين. قال: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت.
قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في السنن (1/297) .
وأخرجه الحاكم (1/170) من طريق عثمان بن صالح السهمي وأبي المثنى العنبري، عن يحيى بن معين، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق به. إلا أنه ذكر عبادة بن نسي، وأسقط أيوب بن قطن، وهذا اختلاف على يحيى بن معين.
قال الحاكم: ما في رواته مجروح. فتعقبه الذهبي بقوله: بل مجهول.
وأما رواية محمد بن يزيد، عن عبادة بن نسي، عن أبي عمارة، بإسقاط أيوب بن قطن. فرواه الطحاوي (1/79) والبيهقي (1/279) من طريق ثنا سعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب قال حدثني عبد الرحمن بن رزين عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن عبادة بن نسي عن أبي بن عمارة. وفيه حتى بلغ سبعاً، ثم قال: وما بدا لك.
جاء في تلخيص الحبير (1/284) : " قال أبو داود ليس بالقوي، وضعفه البخاري، فقال: لا يصح، وقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد: رجاله لا يعرفون، وقال أبو الفتح الأزدي: هو حديث ليس بالقائم. وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره. وقال ابن عبد البر: لا يثبت، وليس له إسناد قائم، ونقل النووي في شرح المهذب اتفاق الأئمة على ضعفه، قال ابن حجر: وبالغ الجوزجاني فذكره في الموضوعات ".(5/375)
الدليل الثالث:
(112) ما رواه الدارقطني: قال ثنا أبو محمد بن صاعد، نا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن أبي بكر وثابت،
عن أنس، عن النبي b قال: إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل بهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة (1) .
[رجاله ثقات إلا أسد بن موسى وهو صدوق وقد اختلف عليه] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/203) .
(2) دراسة الإسناد:
ـ أبو محمد بن صاعد: اسمه يحيىبن محمد بن صاعد، ثقة، له ترجمة في تاريخ بغداد (14/231) ، وتذكرة الحفاظ (2/776) .
ـ الربيع بن سليمان، قال النسائي: لا بأس به.
وقال ابن يونس: كان ثقة. وكذا قال الخطيب. تهذيب التهذيب (3/213) .
وقال ابن أبي حاتم: سمعنا منه، وهو صدوق ثقة، سئل أبي عنه، فقال: صدوق. الجرح والتعديل (3/464) .
وقال الخليلي: ثقة، متفق عليه - يعني في عدالته -. الإرشاد (1/428،429)
ـ أسد بن موسى:
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/338) .
وقال البخاري: مشهور الحديث، يقال له: أسد السنة. التاريخ الكبير (2/49) .
وذكره ابن حبان في الثقات. (8/136) .
وقال النسائي ثقة، ولو لم يصنف كان خيراً له. تهذيب التهذيب (1/228) .
وقال ابن يونس: حدث بأحاديث منكرة، وأحسب الآفة من غيره. المرجع السابق.
وقال أيضا هو وابن قانع والعجلي والبزار: ثقة، زاد العجلي صاحب سنة. المرجع السابق.
وقال الخليلي: يلقب بخياط السنة؛ لأنه كان خياط الكفن للسنة، يروي عن مصري صالح. الإرشاد (1/263،264) .
وقال ابن حزم: رواه أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، وأسد منكر الحديث، ولم يرو هذا الخبر أحد من ثقات أصحاب حماد. المحلى (1/326)
وقال عبد الحق في الأحكام الوسطى: لا يحتج به عندهم ورأيت لابنه سعيد تصنيفاً في فضائل التابعين في مجلدين أكثر، فيه عن أبيه وطبقته. تهذيب التهذيب (1/228) ، وبقية رجاله ثقات مشهورن.
قال ابن عبد الهادي: إسناد هذا الحديث قوي، وأسد صدوق، وثقه النسائي وغيره، ولا التفات إلى كلام ابن حزم فيه. تنقيح التحقيق (1/524) .
ورد ابن دقيق العيد على ابن حزم بكلام نفيس، نقله الزيلعي في نصب الراية (1/179) أورده بتمامه للفائدة: " قال ابن دقيق العيد: وهذا مدخول من وجهين:
أحدهما: عدم تفرد أسد بن موسى به كما أخرجه الحاكم عن عبد الغفار، ثنا حماد.
الثاني: أن أسداً ثقة، ولم ير في شيء من كتب الضعفاء له ذكر، وقد شرط ابن عدي أن يذكر في كتابه كل من تكلم فيه، وذكر فيه جماعة من الأكابر والحفاظ ولم يذكر أسداً، وهذا يقتضي توثيقه - قلت: في هذا نظر، وإذا لم يذكره ابن عدي في كتابه فهذا سهو منه عن شرطه؛ لأن شرط ابن عدي أن يذكر في كتابه كل من تكلم فيه، ولو كان من الأكابر، وقد ذكر جملة من الرواة لا يقارن فيهم أسد بن موسى، ولا يقاربهم تمشياً مع شرطه، فإذا كان أسد بن موسى قد تكلم فيه، وهو ثقة كان لزاماً على ابن عدي أن يذكره، فإذا لم يذكره كان ذلك سهواً منه، لا توثيقاً له - ثم قال: ونقل بن القطان توثيقه عن البزار وعن أبي الحسن الكوفي، ولعل ابن حزم وقف على قول ابن يونس في تاريخ الغرباء، أسد بن موسى حدث بأحاديث منكرة، وكان ثقة وأحسب الآفة من غيره؛ فان كان أخذ كلامه من هذا فليس بجيد؛ لأن من يقال فيه: منكر الحديث، ليس كمن يقال فيه: روى أحاديث منكرة؛ لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه، والعبارة الأخرى تقتضي أنه وقع له في حين لا دائما، وقد قال أحمد بن حنبل في محمد بن إبراهيم التيمي: يروي أحاديث منكرة، وقد اتفق عليه البخاري ومسلم، وإليه المرجع في حديث (إنما الأعمال بالنيات) وكذلك قال في زيد بن أبي أنيسة: في بعض حديثه نكارة، وهو ممن احتج به البخاري ومسلم، وهما العمدة في ذلك، وقد حكم ابن يونس بأنه ثقة، وكيف يكون ثقة، وهو لا يحتج بحديثه انتهى اهـ.
قلت: المتابعة التي أشار إليها ابن دقيق العيد قد رواها الدارقطني رحمه الله (1/203) قال: حدثنا علي بن محمد المصري، نا مقدام بن داود، ثنا عبد الغفار بن داود الحراني، حدثنا حماد بن سلمة به.
وأخرجها الحاكم في المستدرك (1/181) ، قال: ثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبدالله البغدادي، ثنا المقدام بن داود بن تليد الرعيني، ثنا عبد الغفار بن داود الحراني، ثنا حماد بن سلمة به.
قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وعبد الغفار ثقة، إلا أن هذا الحديث ليس هو عند أهل البصرة، وأقره الذهبي.
وفي إسناده المقدام بن داود، جاء في ترجمته:
قال فيه ابن أبي حاتم: سمعت منه بمصر، وتكلموا فيه. الجرح والتعديل (8/303) .
وقال الدارقطني: ضعيف. السير (13/345) .
وقال ابن يونس وغيره: تكلموا فيه. لسان الميزان (6/84) .
وقال محمد بن يوسف الكندي: كان فقيهاً مفتياً، لم يكن بالمحمود في الرواية. المرجع السابق.
وضعفه الدارقطني في غرائب مالك. المرجع السابق.
وقال مسلمة بن قاسم: رواياته لا بأس بها، وذكر ابن القطان أن أهل مصر تكلموا فيه. المرجع السابق.
فالإسناد ضعيف؛ إلا أنه إسناد صالح في المتابعات.
وقد اختلف في إسناده فرواه عنه أسد بن موسى، وعبد الغفار بن داود، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن أبي بكر وثابت، عن أنس.
ورواه الدارقطني (1/203) قال: حدثنا أبو محمد بن صاعد، نا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن زبيد بن الصلت، قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة.
ورواه ابن مهدي كما في المحلى (1/327) عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد به.
بلفظ: " إذا توضأ أحدكم، وأدخل خفيه في رجليه، وهما طاهرتان، فليمسح عليهما إن شاء، ولا يخلعهما إلا من جنابة "
قال ابن حزم: وهذا ليس فيه: وليصل فيهما ما لم يخلعهما "، ورجح ابن حزم هذا الطريق على طريق حماد، عن ثابت، عن أنس مرفوعاً.
فإن كان محفوظاً فقد روى من الحديث بالوجهين، وإن لم يكن محفوظاً فهل يرجح طريق ثابت عن أنس، باعتبار أن ثابتاً من أثبت أصحاب أنس، ورواه عنه حماد، وهو من أثبت الناس في ثابت، ورواه عن حماد بن سلمة اثنان: أسد بن موسى وعبد الغفار بن داود، فيكون حديث ثابت أرجح من هذا الوجه.
أو يرجح حديث حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، سمعت زبيد بن الصلت، عن عمر موقوفاً. ووجه الترجيح أن الطريق الأول اختلف على أسد بن موسى فرواه مرة من مسند أنس، ورواه مرة موقوفاً على عمر، وقد وافقه إمام من الأئمة عبد الرحمن بن مهدي في جعله موقوفاً على عمر، فيكون هو المحفوظ من حديث حماد، لكل ترجيح وجه، وإن كانت نفسي تميل إلى أن الأثر موقوف على عمر، كما رجحه ابن حزم، وإذا كان كذلك فقد سقت في الدليل الأول عن عمر في قوله لعقبة: " أصبت " حين مسح من الجمعة إلى الجمعة، وأجبت عنه، والله أعلم.(5/379)
والجواب: إن كان صحيحاً فالصحيح إذا عارضه ما هو أصح منه، فإن أمكن الجمع، وإلا عمل بالأرجح، ولا شك أن أحاديث التوقيت أرجح من غيرها لكثرة رواتها، وقوة إسنادها، وقد سقت جملة من الأحاديث المرفوعة على أن المسح على الخفين عبادة مؤقتة، وسقت جملة من الآثار ذكرتها في القول الأول، والله أعلم.
الدليل الرابع:
استدلوا ببعض الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم.
الأثر الأول:
(113) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا إسحاق - يعني: ابن إبراهيم - عن عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: امسح على الخفين ما لم تخلعهما (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) الأوسط (1/438) .
(2) وهو في مصنف عبد الرزاق (804،763) إلا أنه قال: عبد الله بن عمر بدلاً من عبيد الله، وعبد الله ضعيف، وعبيد الله ثقة، فإن لم يكن الحديث جاء من طريق الاثنين، وإلا فالراجح عبيد الله؛ لأنه هكذا في رواية البيهقي (1/280) ، وابن حزم (1/212) من طريق هشام بن حسان، وعند البيهقي أيضاً (1/280) من طريق عبد الله بن رجاء، كلاهما عن عبيد الله بالتصغير.
وقال ابن حزم في المحلى (1/328) : " ولا يصح خلاف التوقيت عن أحد من الصحابة إلا عن ابن عمر فقط ".(5/383)
قال ابن حزم: لا حجة فيه؛ لأن ابن عمر لم يكن عنده المسح، ولا عرفه، بل أنكره حتى أعلمه به سعد بالكوفة، ثم أبوه بالمدينة في خلافته، فلم يكن في علم المسح كغيره، ومع ذلك فقد روى عنه التوقيت،
(114) روينا من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: أين السائلون عن المسح على الخفين؟ للمسافر ثلاثاً، وللمقيم يوماً وليلة.
قلت: محمد بن عبيد الله العرزمي متروك، كما في التقريب.
لكن جاء بسند حسن عن ابن عمر القول بالتوقيت،
(115) فقد روى ابن أبي شيبة، حدثنا هشيم، قال أخبرنا غيلان بن عبد الله مولى بني مخزوم، قال:
سمعت ابن عمر سأله رجل من الأنصار عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام للمسافر، وللمقيم يوم وليلة (1) .
[إسناده حسن] (2) .
_________
(1) المصنف (1/164) .
(2) غيلان بن عبد الله، جاء في ترجتمه:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: غيلان بن عبد الله مولى قريش الذي حدثنا عنه هشيم وروى عنه شعبة، هو أحب إلي من سهيل بن ذكوان. الجرح والتعديل (7/53) .
وسهيل بن ذكوان حسن الحديث، فإذا كان غيلان مقدماً عليه لم ينزل حديث غيلان عن مرتبة الحسن.
وذكره ابن حبان في الثقات (5/219) ، فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى.(5/384)
الأثر الثاني:
(116) ما رواه ابن أبي شيبة، قال حدثنا أبو بكر الحنفي، عن أسامة بن زيد، عن إسحاق مولى زائدة،
أن سعد بن أبي وقاص خرج من الخلاء، فتوضأ، ومسح على خفيه، فقيل له: أتمسح عليهما، وقد خرجت من الخلاء، قال: نعم، إذا أدخلت القدمين الخفين، وهما طاهرتان، فامسح عليهما،
ولا تخلعهما إلا لجنابة (1) .
[إسناده ضعيف، وقد ثبت عن سعد القول بالتوقيت] (2) .
_________
(1) المصنف (1/168) .
(2) فيه أسامة بن زيد، جاء في ترجمته:
قال أحمد بن حنبل: ترك يحيى بن سعيد حديث أسامة بن زيد بأخرة. الجرح والتعديل (2/284) .
وقال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: قال أبي: روى أسامة بن زيد، عن نافع أحاديث مناكير. قلت له: إن أسامة حسن الحديث، فقال: إن تدبرت حديثه، فستعرف النكرة فيها. المرجع السابق.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد - يسأل عن أسامة بن زيد، فقال: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين كما في رواية الدوري عنه: أسامة بن زيد الليثي، هو الذي روى عنه جعفر بن عون، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، ومعن بن عيسى، وهو ثقة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: أسامة بن زيد الليثي يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق.
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/17) .
وقال ابن عدي: أسامة بن زيد كما قال يحيى بن معين، ليس بحديثه ولا برواياته بأس، وهو خير من أسامة بن زيد بن أسلم بكثير. الكامل (1/394) .
وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/217) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (1/183) .
وقال الآجري، عن أبي داود: صالح إلا أن يحيى يعني ابن سعيد أمسك عنه بآخرة. المرجع السابق.
وقال الدارقطني: لما سمع يحيى القطان أنه حدث، عن عطاء، عن جابر رفعه أيام منى كلها منحر، قال إشهدوا إني قد تركت حديثه. قال الدارقطني: فمن أجل هذا تركه البخاري. المرجع السابق.
وقال الحاكم في المدخل: روى له مسلم واستدللت بكثرة روايته له على أنه عنده صحيح الكتاب، على أن أكثر تلك الأحاديث مستشهد بها، أو هو مقرون في الإسناد. المرجع السابق.
وقال ابن القطان الفاسي: لم يحتج به مسلم، إنما أخرج له استشهاداً. المرجع السابق.
وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ، كان يحيى القطان يسكت عنه. الثقات (6/74) .
وفي التقريب: صدوق يهم، فالإسناد ضعيف، على أنني خرجت في القول السابق عن سعد بن أبي وقاص بسند حسن قوله بالتوقيت.(5/385)
الأثر الثالث:
(117) رواه الدارقطني، قال: حدثنا أبو محمد بن صاعد، نا الربيع ابن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن زبيد بن الصلت، قال:
سمعت عمر رضي الله عنه يقول: إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة (1) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/203) .(5/386)
[سبق الكلام عليه، وبيان الاختلاف فيه على حماد في الدليل الثالث من هذا القول]
الجواب على هذه الآثار:
اتضح لنا أن الصحابة الذين قالوا بعدم التوقيت، نقل عنهم أيضاً القول بالتوقيت، فعمر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر جاء عنهم القولان، وإن كان الراجح عن سعد وابن عمر القول بالتوقيت، ولم يصح عنهما القول بعدم التوقيت، ولو فرضنا أنه لم ينقل عنهم إلا قول واحد، وهو القول بعدم التوقيت، فيقابل أقوالهم بأقوال غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كعلي، وابن مسعود، وصفوان بن عسال، خزيمة بن ثابت، وغيرهم، وإذا اختلف الصحابة وجب الرد إلى كتاب الله، وسنة رسول b {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (1) فرجعنا إلى السنة المرفوعة عن رسول الله b، فوجدنا فيها جملة من الأحاديث القائلة بالتوقيت، منها حديث علي بن أبي طالب، وصفوان، وعوف بن مالك، وأبي بكرة، وخزيمة، وغيرها، فتعين الأخذ بها، وترك ما سواها، والله أعلم.
دليل من قدر التوقيت بعدد الصلوات.
قالوا: لما اختلف أهل العلم في هذا الباب نظرنا إلى أقل ما قيل، وهو أن يصلي بالمسح خمس صلوات، إن كان مقيماً، وخمس عشرة صلاة إن كان مسافراً، فقلنا به، وتركنا ما زاد على ذلك لما اختلفوا؛ لأن الرخص
_________
(1) النساء، آية: 59.(5/387)
لا يستعمل فيها إلا أقل ما قيل، وإذا اختلفوا في أكثر من ذلك وجب الرجوع إلى الأصل، وهو غسل الرجلين.
وهذا القول ضعيف جداً، مخالف للنص، لأن الحديث أذن للمقيم أن يمسح يوماً وليلة كاملين، بينما هم يقولون لمن مسح لصلاة الصبح، إذا صلى به العشاء لم يجز له أن يمسح، ولا أن يصلي به الوتر، فكان مدته يوماً وبعض ليلة، وهكذا يقال في الثلاثة أيام، فتبين ضعف هذا القول، كما أن الخلاف ليس سبباً في ترك القول الراجح، وإلا لزمكم ترك القول بالمسح على الخفين؛ لأنه قد اختلف فيه، فبعض السلف أنكره، وبعضهم ادعى أنه منسوخ بآية المائدة.
وقد ذكر بعض مشايخنا أن هذا القول هو من قول العامة، لكن وجدنا أن القول به محفوظ لبعض العلماء كالشعبي، وإسحاق بن راهوية، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبي ثور، والله أعلم.
دليل من قال لا توقيت في حال الضرورة والمشقة الكبيرة.
قال ابن تيمية: " لو كان في خلعه بعد مضي الوقت ضرر، مثل أن يكون هناك برد شديد متى خلع خفيه تضرر، كما يوجد في أرض الثلوج وغيرها، أو كان في رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه، فينقطع عنهم، فلا يعرف الطريق، أو يخاف إذا فعل ذلك من عدو أو سبع، أو كان إذا فعل ذلك فاته واجب، ونحو ذلك، فهنا قيل: إنه يتيمم.
وقيل: إنه يمسح عليها للضرورة، وهذا أقوى؛ لأن لبسها هنا صار كلبس الجبيرة من بعض الوجوه، فأحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوماً وليلة، وثلاثة أيام ولياليهن، وليس فيها النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم،(5/388)
والمفهوم لا عموم له، ثم قال: " وعلى ذلك يحمل حديث عقبة بن عامر، لما خرج من دمشق إلى المدينة، يبشر الناس بفتح دمشق، ومسح أسبوعاً بلا خلع، فقال له عمر: أصبت السنة، وهو حديث صحيح، وليس الخف كالجبيرة مطلقاً فإنه لا يستوعب بالمسح بحال، ويخلع بالطهارة الكبرى،
ولا بد من لبسه علىطهارة، لكن المقصود أنه إذا تعذر خلعه فالمسح أولى من التيمم (1) .
وقال أيضاً: " لما ذهبت على البريد، وجد بنا السير، وقد انقضت مدة المسح، فلم النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة، أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف، فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة، كما قلنا في الجبيرة، ونزلت حديث عمر، وقوله لعقبة بن عامر: أصبت السنة على هذا توفيقاً بين الآثار، ثم رأيته مصرحاً به في مغازي ابن عائد، أنه قد كان ذهب على البريد كما ذهبت لما فتحت دمشق، ذهب بشيرا بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، فقال له عمر: منذ كم لم تنزع خفيك؟ فقال: منذ يوم الجمعة، قال: أصبت، فحمدت الله على الموافقة، وهذا أظنه أحد القولين لأصحابنا، وهو أنه إذا كان يتضرر بنزع الخف، صار بمنزلة الجبيرة.... الخ كلامه رحمه الله (2) .
وقول الجمهور أحوط، وهو المتيقن، وحمل حديث عقبة بن عامر في حال الضرر ليس ظاهراً من اللفظ، وإذا كان على الرفقة أن ينتظروا للصلاة، كان عليهم أن ينتظروا لشروطها، وإذا كان عليهم أن ينتظرو لكي يغسل
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/177) .
(2) المرجع السابق (21/215) ، وهو قول في مذهب الحنفية كما قدمت في الأقوال.(5/389)
وجهه ويديه، ويمسح برأسه، فلن يعجزوا عن الانتظار لغسل قدميه، وممكن أن يخلع خفيه مسبقاً قبل الوقوف بقليل حتى لا يعيق الرفقة، ولا يقال: إن أحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوماً وليلة، وليس فيها النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم؛ لأن الأصل وجوب غسل الرجلين، جاء الإذن يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، وما عداه يرجع للأصل المستقر المجمع عليه، وهو وجوب غسل الرجلين، وقد قال b في الحديث المتفق عليه:"ويل للأعقاب من النار" خالفنا هذا الأصل لدليل صحيح في مدة معلومة فرقاً بين المقيم والمسافر لا يتجاوزها المسلم، فمن تجاوزها فقد تجاوز حدود الله، والله أعلم.(5/390)
الفصل الثاني
اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر
التي يسوغ فيها مسح مسافر(5/391)
[صفحة فارغة](5/392)
الفصل الثاني
اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ فيها المسح
اختلف العلماء في المسافة التي يسوغ فيها الترخص بالمسح ثلاثة أيام ولياليهن، إلى أقوال:
فقيل: المعتبر مسيرة ثلاثة أيام للسير الوسط، بسير الإبل محملة بالأثقال، مع اعتبار النزول المعتاد للنوم والأكل والصلاة. وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: المعتبر أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلاً، وهو مذهب الجمهور من المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
_________
(1) شرح فتح القدير (2/27، 28) ، وحاشية ابن عابدين (1/122) ، فتاوى الهندية (1/138) ، مجمع الأنهر شرح متلقى الأبحر (1/161) .
(2) قال مالك في المدونة (1/207) : لا يقصر الصلاة إلا في مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً، كما قال ابن عباس: في أربعة برد اهـ.
وانظر القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 100) ، منح الجليل (1/402) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/477) ، حاشية الدسوقي (1/358) ، حاشية العدوي (1/363،364) ، الفواكه الدواني (1/253) .
(3) قال الشافعي في الأم (1/118) : " وإذا سافر الرجل سفراً يكون ستة وأربعين ميلاً هاشمياً فله أن يقصر الصلاة ".
(4) مسائل أحمد رواية عبد الله (2/386) رقم 546، ومسائل ابن هانئ (1/81) رقم 404. وقال أبو داود في مسائل أحمد (1/106) رقم 514: " سمعت أحمد يسأل: في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد: ستة عشر فرسخاً. قيل له: وأنا أسمع، ويفطر فيه، قال: نعم.(5/393)
وقيل: مسيرة يوم وليلة، روي هذا عن مالك، وقيل: إنه رجع عنه (1) .
وقيل: أقل مسافة للترخص ثلاثة أميال.
وقيل: إن مشى ميلاً قصر الصلاة، وإن مشى أقل من ميل صلى أربعاً، وهذا اختيار ابن حزم (2) .
وقيل: جوازه في كل ما يسمى سفراً عرفاً، وهو اختيار ابن تيمية.
وقيل: أقوال غير ذلك.
دليل الجمهور القائلين بأربعة برد.
الدليل الأول:
(118) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا إسماعيل الترمذي، ثنا إبراهيم بن العلاء، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه وعطاء بن أبي رباح،
عن ابن عباس أن رسول الله b قال: يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان (3) .
_________
(1) جاء في المنتقى للباجي (1/262) : " المشهور عن مالك أن أقل سفر القصر أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً، وهي ثمانية وأربعين ميلاً، وإلى ذلك ذهب الشافعي.
وروي عنه مسيرة يوم وليلة. وروى ابن القاسم أن مالكاً رجع عنه.
قال القاضي أبو محمد عن بعض أصحابنا أن قوله: مسيرة يوم وليلة، ومسيرة أربعة برد واحد، وأن اليوم والليلة في الغالب هو ما يسار فيه أربعة برد، فيكون معنى قول ابن القاسم ترك التحديد باليوم والليلة، أنه ترك ذلك اللفظ إلى لفظ هو أبين منه. الخ كلامه.
(2) المحلى (3/192) .
(3) سنن الدارقطني (1/387) .(5/394)
[إسناده ضعيف جداً] (1) .
والمعروف أنه من حديث ابن عباس موقوفاً عليه.
(119) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، قال: أخبرني عطاء،
عن ابن عباس، قال: لا تقصر الصلاة إلى عرفة، وبطن نخلة، واقصر إلى عسفان والطائف وجدة، فإذا قدمت على أهل أو ماشية
فأتم (2) .
_________
(1) الحديث فيه ثلاث علل:
الأولى: أنه من رواية إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، وهذا منها.
الثانية: عبد الوهاب بن مجاهد لم يسمع من أبيه.
قال وكيع: كانوا يقولون: لم يسمع من أبيه شيئاً. التاريخ الكبير (6/98) .
الثالثة: أن عبد الوهاب بن مجاهد متروك، جاء في ترجمته:
قال النسائي: متروك الحديث، الضعفاء والمتروكين (375) .
قال مهران بن أبي عمر العطار الرازي: كنت مع سفيان الثوري في المسجد الحرام، فمر عبد الوهاب بن مجاهد، فقال سفيان: هذا كذاب. الجرح والتعديل (6/69) .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل قال أبي: عبد الوهاب بن مجاهد لم يسمع من أبيه ليس بشيء، ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال العباس بن محمد الدوري: سئل يحيى بن معين عن عبد الوهاب بن مجاهد؟ فقال: ضعيف. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: عبد الوهاب بن مجاهد ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وفي التقريب: متروك، وقد كذبه الثوري.
(2) المصنف (2/202)(5/395)
[إسناده صحيح] .
فإن قيل: أليس قول الصحابي حجة؟
قيل: بلى، بشرط ألا يخالفه مثله، فالصحابة إذا اختلفوا طلب مرجح، كما هو الحال هنا.
الدليل الثاني:
(120) ما أخرجه البخاري تعليقاً في كتاب تقصير الصلاة، قال البخاري:
كان ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً (1) .
[صحيح عنهما] (2) .
وأجيب:
بأن الصحابة مختلفون، قال ابن قدامة: " ولا أرى لما صار
إليه الأئمة حجة؛ لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها
مع الاختلاف، وقد روي عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به أصحابنا " (3) .
_________
(1) كتاب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة.
(2) ذكره البخاري بصيغة الجزم فيقتضي صحته عنده، ووصله ابن المنذر في الفتح كما في فتح الباري، والبيهقي في السنن (3/137) من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، أن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس كانا يصليان ركعتين ركعتين، ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك.
قال النووي: رواه البيهقي بإسناد صحيح.
(3) المغني (2/48) .(5/396)
وقال الحافظ ابن حجر: " وقد اختلف عن ابن عمر في تحديد ذلك
ـ يعني: مسافة القصر ـ اختلافاً غير ما ذكر، فروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني نافع، أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر فيه الصلاة مال له بخيبر، وبين المدينة وخيبر ستة وتسعون ميلاً.
وروى وكيع من وجه آخر عن ابن عمر، أنه قال: " يقصر من المدينة إلى السويداء " وبينهما اثنان وسبعون ميلاً.
وروى عبد الرزاق، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أنه سافر إلى ريم، فقصر الصلاة " قال عبد الرزاق: وهي على ثلاثين ميلاً من المدينة.
(121) وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن مسعر، عن محارب:
سمعت ابن عمر يقول: إني أسافر الساعة من النهار، فأقصر ".
وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة، إسناد كل منهما صحيح، وهذه أقوال متغيرة جداً، والله أعلم " اهـ (1) .
قلت: وهذه أسانيد صحيحة عن ابن عمر.
دليل من حدد بمسيرة ثلاثة أيام.
(122) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: قلت لأبي أسامة: حدثكم عبيد الله، عن نافع،
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي b قال: لا تسافر
_________
(1) فتح الباري (2/567) .(5/397)
المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم (1) .
وأجيب:
بأن العدد لا مفهوم له، فقد جاء النهي عن سفر المرأة يوماً وليلة، بلا محرم، وجاء النهي عن سفر المرأة يومين، وجاء النهي عن السفر مطلقاً إلا ومعها محرم.
(123) روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، قال: حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه،
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال النبي b: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة، ليس معها حرمة (2) .
(124) وروى مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة، جميعاً قال: قتيبة: حدثنا جرير، عن عبد الملك، وهو ابن عمير، عن قزعة،
عن أبي سعيد، قال: سمعت منه حديثاً فأعجبني، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله b؟ قال: فأقول على رسول الله b ما لم أسمع، قال سمعته يقول: قال رسول الله b: لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، وسمعته يقول: لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو
_________
(1) صحيح البخاري (1086) ، ومسلم (1338) .
(2) البخاري (1088) ، ورواه مسلم (1339) .(5/398)
زوجها (1) .
(125) وروى البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي معبد،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سمع النبي b يقول:
لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة، قال: اذهب فحج مع امرأتك (2) .
وهذا مطلق، ولم يذكر مدة، فيقتضي بحكم إطلاقه منع السفر طويله وقصيره.
قال البيهقي: وهذه الروايات في الأيام الثلاثة، واليومين واليوم صحيحة، وكأن الرسول b سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم؟ فقال: لا وسئل عن سفرها يومين بغير محرم؟ فقال: لا. وسئل عن يوم، فقال: لا، فأدى كل منهم ما حفظ، ولا يكون شيء من هذا حداً للسفر (3) .
وقال القرطبي: " كل ما دون الثلاث داخل في الثلاث، فيصح أن يعين بعضها، ويحكم عليه بحكم جميعها، فينص تارة على الثلاث، وتارة على أقل منها؛ لأنه داخل فيها (4) .
_________
(1) مسلم (827) ، وهو في البخاري بنحوه (1189) .
(2) صحيح البخاري (3006) ، ومسلم (1341) .
(3) سنن البيهقي (3/139) .
(4) المفهم (3/451) .(5/399)
الدليل الثاني:
(126) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة،
عن شريح بن هانئ قال أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله b، فسألناه، فقال: جعل رسول الله b ثلاثة أيام، ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (1) .
فالمراد بيان حكم جميع المسافرين؛ لأن الألف واللام في المسافر للجنس، فيدخل في هذا الحكم كل مسافر سفره ثلاثة أيام، فيمسح ثلاثة أيام، أما إذا كان سفره أقل من ثلاثة أيام فلا يعد مسافراً بالمعنى الشرعي؛ لأنه لا يكرر المسح في الأيام الثلاثة (2) .
وأجيب:
بأن الحديث جاء لبيان أكثر مدة المسح، فلا يصح الاحتجاج به؛ على أنه يمكن قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام. (3) .
الدليل الثالث:
من النظر، أن الثلاثة أقل الكثير، وأكثر القليل، ولا يجوز له القصر
_________
(1) صحيح مسلم (276) .
(2) الاختيار لتعليل المختار (1/79) .
(3) المغني (2/48) .(5/400)
في قليل السفر، فوجب أن يكون أقل الكثير، وهو الثلاث حد له (1) .
دليل من حدد المسافة بثلاثة أميال.
(127) روى الإمام مسلم، قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشار كلاهما، عن غندر. قال أبو بكر: حدثنا محمد بن جعفر غندر، عن شعبة، عن يحيى بن يزيد الهنائي، قال:
سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله b إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك- صلى ركعتين (2) .
وهذا من أقوى الأدلة على التحديد، ورده بعضهم: فقال: إنه مشكوك فيه، هل هو ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ؛ إذ كل واحد مشكوك فيه.
قال القرطبي: ولا يوافق عليه؛ لأن الشك في الثلاثة أميال، أما الثلاثة فراسخ فليس فيها شك باعتبارها الأكثر.
وقال بعضهم: إن ذلك حكاية لفعله b، وأنه قصر في هذه المسافة، وذلك لا يمنع جواز القصر في غيرها إذا كان يسمى سفراً، فليس في الحديث تحديد الترخص بهذه المسافة.
وهذا الجواب، وإن كان فيه قوة، لكنه مع ذلك ليس شافياً؛ لأن السؤال عن المسافة التي يقصر فيها، وجاء الجواب بلفظ: " كان " الدالة على الاستمرار غالباً، فقال: " كان رسول الله b إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال قصر الصلاة " مفهومه أنه إذا خرج أقل من ذلك لم يقصر، لكن القول
_________
(1) الحاوي (2/361) .
(2) صحيح مسلم (691) .(5/401)
بثلاثة فراسخ أرجح؛ لأنه هو المتيقن.
وبعضهم حمل الحديث على أن المراد به المسافة التي يبتدئ منها القصر، لا غاية السفر، وهذا بعيد، قال الحافظ في الفتح: " ولا يخفى بعد هذا المحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه، أن يحيى بن يزيد، رواه عن أنس، قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة - يعني من البصرة - فأصلي ركعتين حتى أرجع، فقال أنس:.. فذكر الحديث، فظهر أنه سأل عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يبتدأ القصر منه، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة، بل مجاوزة البلد الذي يخرج منها " (1) اهـ.
(128) وقد روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة،
عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: صليت الظهر مع النبي b بالمدينة أربعاً، وبذي الحليفة ركعتين (2) .
فإذا قصد الرجل سفراً، فإنه يقصر متى فارق بنيان القرية، وبحث هذه المسألة في موضع غير هذا.
دليل من قال يمسح في كل ما يسمى سفراً عرفاً.
الدليل الأول:
قال تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا
_________
(1) فتح الباري (2/567) .
(2) صحيح البخاري (1089) ، ومسلم (690) .(5/402)
لكم عدوا مبيناً} (1) .
وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية، فبقي ظاهر الآية متناول لكل ضرب (2) .
وأجيب:
بأن النبي b خرج إلى قباء، وإلى العوالي ولم يقصر الصلاة، فليس المراد بالضرب أي ضرب، بل المراد به ضرب مخصوص، بمسافة مخصوصة، وقد جاء في حديث أنس السابق كان إذا خرج ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة، ظاهره أنه لا يقصر الصلاة في كل ضرب، والله أعلم.
الدليل الثاني:
أن لفظ السفر في الكتاب والسنة مطلق غير مقيد بمسافة معينة.
قال ابن تيمية: السفر مطلق في الكتاب والسنة، فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر، ولا بقصر دون قصر، ولم يحد النبي b مسافة القصر بحد زماني، ولا مكاني، والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع، ويقيد ما قيده.
_________
(1) النساء، آية: 101.
(2) حديث يعلى رواه مسلم، (686) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم - قال إسحاق أخبرنا، وقال الآخرون حدثنا - عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله b عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.(5/403)
(129) قلت: ومن الأحاديث ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وأبو الربيع وقتيبة بن سعيد - قال يحيى: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا - أبو عوانة عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم b في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة (1) .
(130) وما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن سليمان قال، حدثني بن وهب، قال حدثني عمر بن محمد أن حفص بن عاصم حدثه، قال:
سافر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقال: صحبت النبي b، فلم أره يسبح في السفر، وقال جل ذكره: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (2) .
فالسفر في هذه الأحاديث، وفي غيرها مطلق لم يقيد بشيء، فمن قيده بمسافة معينة، فعليه الدليل، ولا دليل.
ويجاب عن هذه الأحاديث بما أجيب عنه في الآية الكريمة، وأن السفر ليس المقصود به كل سفور عن محل الإقامة، بل المراد به سفوراً معيناً، وإذا لم يصدق السفر على بعض أفراده بطل الاستدلال.
الدليل الثالث:
أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه.
_________
(1) صحيح مسلم (687) .
(2) صحيح البخاري (1101) ، وانظر مسلم (689) .(5/404)
الدليل الرابع:
(131) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر (1) .
وإسناده صحيح، ولم ينقل عن النبي b أنه قال لإهل مكة في عرفة أو مزدلفة أو منى: أتموا، وعليه فقد صلى أهل مكة بعرفة، ومزدلفة ركعتين، وهي أقل من أربعة برد.
قال ابن تيمية: " وأما القصر فلا شك أنه من خصائص السفر، ولا تعلق له بالنسك، ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنهم سفر، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم، والله لم يرخص في السفر ركعتين إلا لمسافر، فعلم أنهم كانوا مسافرين اهـ.
(132) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن إسماعيل ابن أمية، عن نافع،
عن ابن عمر أنه كان يقيم بمكة، فإذا خرج إلى منى قصر (2) .
[وإسناده صحيح] .
قلت: ابن عمر ممن هاجر، فالمقصود خروجه إلى منى في الحج.
_________
(1) الموطأ (1/149) ..
(2) المصنف (2/206) رقم 8184.(5/405)
الدليل الخامس:
أن الشيء إذا كان له حقيقة شرعية قدمت على غيرها من الحقائق، كالصلاة حقيقتها اللغوية: الدعاء، والإيمان حقيقته اللغوية: التصديق لكن جاء في الشرع بيان حقيقتهما الشرعية، فقضى على حقيقتهما اللغوية.
والسفر ليس له حقيقة شرعية، فتقدم، وليس له حقيقة لغوية، واللفظ إذا لم يكن له حقيقة شرعية ولا لغوية قدمت الحقيقة العرفية، فما عده الناس في عرفهم سفراً فهو سفر، وما لم يعتبره الناس سفراً فليس بسفر.
وأجيب:
بأن هذا الكلام جيد، ولكن تعليق الأمر بالعرف لا ينضبط، وقد يلتبس الأمر على عامة الناس، وقد يكون سبباً في تلاعب بعض الناس بفرائض الدين ممن لا يقدر الأمور بمقدارها، وأين اطراد العرف مع اتساع رقعة البلاد، وكثرة الناس، وقد كانت البلاد الإسلامية فيما سبق محدودة المكان وعدد الناس قليل، ويمكن ضبط العرف، أما الآن ففيه صعوبة.
وهذ القول والذي قبله رغم ما اعترض به عليهما هما أقوى الأقوال، والله أعلم.(5/406)
الفصل الثالث
إذا لبس الخفين وهو مقيم ثم سافر(5/407)
[صفحة فارغة](5/408)
الفصل الثالث
إذا لبس الخفين وهو مقيم
ثم سافر فهل يمسح مسح مسافر أو مقيم؟
إذا لبس خفيه، وهو مقيم، ثم سافر، فله حالات:
الحالة الأولى: أن يسافر بعد لبس خفيه، وقبل حدثه، فهنا يمسح مسح مسافر، لأن مجرد اللبس لا يتعلق به حكم، قال النووي: بالإجماع.
الحالة الثانية: أن يحدث، وهو مقيم، ولم يمسح إلا في السفر.
فقيل: يمسح مسح مسافر. وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: يمسح مسح مقيم، وهو اختيار المزني (2) ،وهو رواية عن
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية المبسوط (1/103،104) ، تبيين الحقائق (1/52) ، شرح فتح القدير (1/155) ، البحر الرائق (1/188) ، بدائع الصنائع (1/8،9) ، حاشية ابن عابدين (1/278) .
وانظر في مذهب الشافعية الأم (1/51) ، المجموع (1/513) ،.
وفي مذهب الحنابلة، انظر المغني (1/179) ، والفروع (1/168) ، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/265) ، شرح الزركشي (1/421) ، الإنصاف (1/179) ، كشاف القناع (1/115) .
(2) الحاوي (1/359) ، وقد ذكر النووي في المجموع (1/513) : قال: قال القاضي أبو الطيب: كذا حكاه الداركي عن المزني، وهو غلط، بل مذهب المزني كمذهبنا مسح مسافر ".
قلت: حتى لو كان ما نقل عن المزني غلط، فالخلاف في مذهب الحنابلة محفوظ، والله أعلم.(5/409)
أحمد (1) .
دليل الجمهور.
الأول:
الإجماع، نقل الإجماع ابن قدامة في المغني، قال: " لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن من لم يمسح حتى سافر، أنه يتم مسح المسافر " (2) .
قلت: الخلاف محفوظ، عن أحمد وغيره.
الدليل الثاني:
من النظر، أن كل عبادة اعتبر فيها الوقت، فإن ابتداء وقتها محسوب من الوقت الذي يمكن فيها فعلها، وصفتها معتبرة بوقت أدائها كالصلاة إن كانت ظهراً، فأول وقتها زوال الشمس، وصفتها في القصر والإتمام بوقت الأداء والفعل، فإن كان وقت فعلها وأدائها مسافراً قصر، وإن كان مقيماً أتم، كذلك المسح عند الحنفية والشافعية والحنابلة أول زمانه وقت الحدث، وصفته في مسح المقيم والمسافر معتبر بوقت المسح (3) .
_________
(1) الإنصاف (1/179) .
(2) المغني (1/179) .
(3) الجمهور هنا علقوا الحكم بالمسح لا بالحدث، فينبغي أن تكون مدة المسح معلقة بالمسح، لا بالحدث، وقد ناقشت هذه المسألة في مسألة مستقلة، كما قد يعترض عليهم بأنه لو مسح وهو مقيم، وقبل تمام المدة سافر، يلزمه أن يمسح مسح مقيم عندهم، ولو كان وقت الأداء في بعض المسح مسح مسافر، وإذا علق الحكم بوقت الأداء، فيلزم أن يمسح مسح مسافر، كما هو الراجح، وسوف يأتي مناقشة هذه المسألة في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.(5/410)
دليل من قال يمسح مسح مقيم.
قال: لأن ابتداء مدة المسح عنده من الحدث، وهو موجود في الحضر، والحدث كالمسح في اعتباره من زمان المسح، قال: ألا ترى لو أنه مر عليه بعد حدثه يوم وليلة، ولم يمسح، فقد انقضت المدة، كما لو مسح.
والقول الأول أقوى، وقول المزني مبني على قول ضعيف في أن مدة المسح تبتدئ من الحدث، وهو خطأ، بل الراجح أنها تبتدئ من المسح، وقد فصلت هذا القول في مسألة مستقلة.
الحالة الثالثة: أحدث في الحضر، ثم سافر بعد خروج وقت الصلاة.
فعند الشافعية في هذه المسألة وجهان:
الأول: قالوا: يتم مسح مقيم؛ لأن خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة دخوله في الصلاة في وجوب الإتمام، فكذا المسح.
وقيل: يتم مسح مسافر؛ لأنه تلبس بالمسح، وهو مسافر، فهو كما لو سافر قبل خروج الوقت، ويخالف الصلاة، بأن الصلاة تفوت وتقضى، فإذا فاتت في الحضر، ثبتت في الذمة صلاة حضر، فلزمه قضاؤها، والمسح لا يفوت، ولا يثبت في الذمة، فصار كالصلاة قبل فوات الوقت. اهـ
والصحيح أنه يمسح مسح مسافر لا لهذا التعليل، ولكن لأنه حين أراد أن يمسح في السفر كان حكمه حكم المسافر، اعتباراً بحاله وقت المسح.
الحالة الرابعة: أحدث، ومسح في الحضر، ثم سافر.
فإن كان قد أكمل مسح يوم وليلة في الحضر قبل سفره، لم يكن له أن يمسح.
وإن كان قد سافر قبل تمام يوم وليلة، فاختلفوا.(5/411)
فقيل: يمسح مسح مقيم، وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، وروى عن إسحاق، والثوري (3) ، ورجحه ابن حزم، بل بالغ حتى قال: يمسح ولو سافر بعد انقضاء اليوم والليلة (4) .
وقيل: يمسح مسح مسافر، وهو مذهب الحنفية (5) ، ورواية عن أحمد (6) .
دليل الجمهور.
الدليل الأول:
أنها عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر، فغلب جانب الحضر.
_________
(1) انظر في مذهب الشافعية الأم (1/51) ، الحاوي (1/358،359) ، روضة الطالبين (1/131) .
(2) المغني (1/179) ، وكشاف القناع (1/115) ، شرح العمدة (1/260) ، الإنصاف (1/177) ، الروض المربع (1/288) .
(3) المغني (1/179) .
(4) قال ابن حزم في المحلى (1/341) :"ومن مسح في الحضر ثم سافر قبل انقضاء اليوم والليلة، أو بعد انقضائهما مسح أيضاً حتى يتم لمسحه في كل ما مسح في حضره وسفره معاً ثلاثة أيام بلياليها، ثم لا يحل له المسح ". الخ كلامه رحمه الله.
(5) انظر في مذهب الحنفية شرح فتح القدير (1/157) ، المبسوط (1/103،104) ، تبيين الحقائق (1/52) ، البحر الرائق (1/188) ، بدائع الصنائع (1/8،9) ، حاشية ابن عابدين (1/278) ، الاختيار لتعليل المختار (1/25) .
(6) انظر مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانئ (1/19) ، والمغني (1/179) ، وقال الخلال: رجع أحمد إلى هذا القول.(5/412)
الدليل الثاني:
ولأن المسح عبادة يختلف قدرها في الحضر والسفر، فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكمه؛ لأنه المتيقن.
الدليل الثالث:
قياساً على الصلاة، فلو أنه أحرم بالصلاة في سفينة في البلد، فسارت وفارقت البلد، وهو في الصلاة، فإنه يتمها صلاة حضر بإجماع المسلمين.
الدليل الرابع:
مسحات الخف، وإن كن عبادات لا يرتبط بعضها ببعض، لكن وقتها وقت واحد، بعضه مرتبط ببعض، ولا بد من بناء أحد طرفيه على الآخر، فإذا وقع بعض المدة في الحضر، وجوزنا أن يتم مسح مسافر، لكان قد وقع مسح الثلاث في الإقامة والسفر، وهو خلاف الحديث.
دليل الحنفية على كونه يمسح مسح مسافر.
أن الرسول b جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وهذا مسافر، ولم يفرق الشرع بين مسافر ومسافر، فمن فرق فعليه الدليل.
الدليل الثاني:
أن المسافر إذا مسح في سفره، ثم أقام، مسح مسح مقيم، فنظرنا في حاله إلى انتهائه، وليس إلى ابتدائه، فكذلك هذا، إذا مسح، وهو مقيم، ثم سافر اعتبرنا حاله بانتهائها، وهو مسح مسافر، ولا فرق. وكل حكم تعلق بالوقت اعتبر فيه آخره، فالحائض إذا طهرت فيه تجب عليها الصلاة،(5/413)
وإذا حاضت فيه سقطت عنها، والمسافر إذا أقام في آخر الوقت أتم، والمقيم إذا سافر فيه قصر، فكذلك المسح.
الدليل الثالث:
ولكونه سافر قبل مضي مدة المسح، فأشبه من سافر قبل أن يمسح.
الدليل الرابع:
ولأن العبادة المعتبر فيها وقت الأداء، فالصلاة إذا دخل وقتها، وهو مقيم، ثم سافر، صلى صلاة مسافر.(5/414)
الفصل الرابع
إذا مسح في السفر ثم أقام(5/415)
[صفحة فارغة](5/416)
الفصل الرابع
إذا مسح في السفر ثم أقام
رجل لبس خفيه، وهو في السفر، ثم أقام، فما حكمه؟
الجواب: لا يخلو هذا الرجل إما أن يكون قد مسح في سفره أم لا.
فإن كان لم يمسح في سفره حتى أقام مسح يوماً وليلة مسح مقيم، وإن كان قد مسح في سفره، فلا يخلو فإما أن يكون قد استوفى مسح يوم وليلة أم لا.
فإن كان قد استوفى مسح يوم وليلة في سفره، فقد انتهت مدته، ولايصح أن يمسح في إقامته شيئاً، وإن لم يستوف مسح يوم وليلة أتم مسح مقيم، هذا مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، ممن يرى توقيت المسح.
وقال المزني: إن مسح في السفر ثم أقام، فإن مسح في السفر يوماً وليلة، يمسح في الإقامة ثلث يومين وليلتين، وهو ثلثا يوم وليلة؛ لأنه لو مسح ثم أقام في الحال، مسح ثلث ما بقي، وهو يوم وليلة، فإذا بقي له يومان وليلتان، جاز له أن يمسح ثلثيهما (4) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/51) ، البحر الرائق (1/189) ، حاشية ابن عابدين (1/278) .
(2) الأم (1/51) ، أسنى المطالب (1/98) ، المجموع (1/515) ، الحاوي الكبير (1/358،359) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/67) ، تحفة المحتاج (1/247) .
(3) الفروع (1/167،168) ، الإنصاف (1/177،178) ، شرح منتهى الإرادات (1/63) ، كشاف القناع (1/115) .
(4) المجموع (1/515) .(5/417)
واختار بعض الحنابلة: أنه يمسح مسح مسافر إن كان مسح في سفره أكثر من يوم وليلة (1) ، ولا أعلم له دليلاً.
دليل الجمهور.
الأول: أن هذا المسافر لما أقام أصبح حكمه حكم المقيم، ولا يجوز للمقيم أن يمسح أكثر من يوم وليلة.
وثانياً: أن المسح ثلاثة أيام ولياليهن إنما هي للمسافر، فإذا انتفى السفر، انتفت الرخصة.
وثالثاً: أنه اجتمع في حاله حضر وسفر، فغلب حكم الحضر احتياطاً.
وهنا الحنفية قد وافقوا الشافعية والحنابلة في الحكم، وإن كانوا يختلفون في العلة، فالعلة عند الحنابلة والشافعية أن الإقامة أغلظ الحالتين: أعني حالة السفر والإقامة.
والعلة عند الحنفية: أن الإقامة نهاية الحالتين، فالاعتبار بالنهاية،
لا بالأغلظ، ولذلك إذا مسح، وهو مقيم، ثم سافر يختلف الحكم عند الحنابلة والشافعية من جهة، وعند الحنفية من جهة أخرى، لاختلافهم في العلة، فيمنع الشافعية والحنابلة من المسح، لأن الاعتبار للأغلظ، ويجوز الحنفية المسح؛ لأن الاعتبار بالنهاية، والله أعلم.
وأما دليل المزني، فقد ذكرت تعليله مع قوله، وتعليله ضعيف جداً،
_________
(1) قال في الإنصاف (1/177) : " قال في المبهج: أتم مسح مسافر إن كان مسح مسافراً فوق يوم وليلة. وشذذه الزركشي.
قال ابن رجب في الطبقات: وهو غريب.
ونقله في الإيضاح رواية، ولم أرها فيه " اهـ.(5/418)
وإنما ذكرته ليعلم أن المسألة ليست إجماعاً عند من يرى التوقيت.
وأما مذهب المالكية فلا تتأتى هذه المسألة عند المشهور من مذهبهم؛ لأنهم لا يرون التوقيت أصلاً، فهو يمسح حتى يخلع لا فرق بين المسافر والحاضر، والله أعلم.
ويلحق بهذه المسألة لو مسح أحد الخفين في الحضر، والآخر في السفر، ففيها وجهان للشافعية:
الأول: يمسح مسح مقيم، تغليباً لجانب الحضر، اختاره النووي.
وقيل: يتم مسح مسافر، اعتباراً بتمام المسح.
ولا يتأتى هذا التفصيل على القول الراجح، لأن المعتبر في المسح وقت الأداء، فإذا مسح في الإقامة، ثم سافر أتم مسح مسافر ما دام مسافراً لما علمت (1) .
_________
(1) أسنى المطالب (1/98) .(5/419)
[صفحة فارغة](5/420)
الفصل الخامس
إذا شك في ابتداء المسح
هل كان في السفر أم في الحضر؟(5/421)
[صفحة فارغة](5/422)
الفصل الخامس
إذا شك في ابتداء المسح هل كان في السفر أم في الحضر؟
إذا شك في ابتداء المسح، هل كان في الحضر أم في السفر؟
فالحنفية لا فرق عندهم هل كان ابتداء المسح في الحضر أم في السفر؟ لأن المعتبر عندهم حاله الآن في المسح، فالعبرة بالانتهاء، لا بالابتداء، فإن كان مسافراً مسح مَسْحَ مسافر، وإن كان مقيماً أتم مسح مقيم، وقد سبق النقل عنهم، مع ذكر أدلتهم.
وأما الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، الذين يقولون: يغلب جانب الحضر متى اجتمع حضر وسفر، فإن الشك مؤثر عندهم، ليعلم هل يمسح مسح مقيم أو يمسح مسح مسافر، فالمشهور عندهم أنه يمسح مسح مقيم؛ لأن الأصل غسل الرجل، والمسح رخصة، فإذا لم يتيقن شرط الرخصة، رجع إلى أصل الفرض، وهو الغسل، وإذا شك هل كان أول مسحه وقت الظهر أم وقت العصر جعله وقت الظهر؛ لأن الأصل غسل الرجلين، فلا يجوز المسح إلا فيما يتيقنه.
والراجح في هذه المسألة أنه إن كان شك في ابتداء مسحه، وهو الآن مقيم، فالمسح مسح مقيم، وإن كان مسافراً مسح مسح مسافر، لأن المعتبر حالته وقت المسح، وليس المعتبر ابتداء مسحه، وأما لو شك هل مسح في الظهر أم في العصر، فإن جعله في الظهر مطلقاً، فهو أحوط، وإن أراد
_________
(1) الأم (1/51) ، تحفة المحتاج (1/255) ، حاشية الجمل (1/147،148) .
(2) الإنصاف (1/178) ، شرح منتهى الإرادات (1/63) ، كشاف القناع (1/115) .(5/423)
أن يعمل بغلبة ظنه، فله ذلك، وقد شرع التحري في السهو في الصلاة، وعمل بالظن في أمور كثيرة، منها دخول وقت الصلاة، ومنها طلوع الفجر في الإمساك للصائم، وغروب الشمس للفطر، والاستجمار، وغسل الجنابة إذا غلب على ظنه تعميم الماء، ومثلها مسائل كثيرة يكفي فيها غلبة الظن.(5/424)
الفصل السادس
إذا كان عاصياً بسفره هل يمسح؟(5/425)
[صفحة فارغة](5/426)
الفصل السادس
إذا كان عاصياً بسفره هل يمسح؟
إذا كان المسافر عاصياً بسفره، فهل يمسح على الخفين أم لا؟
فقيل: يمسح مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (1) ، واختاره ابن حزم (2) .
وقيل: لا يمسح ما زاد على اليوم والليلة مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: لا يمسح مطلقاً لا مسح مقيم، ولا مسح مسافر، وهو وجه في مذهب الشافعية (5) .
وقيل: كل رخصة جازت في الحضر كالمسح على الخفين والتيمم، وأكل الميتة، فتفعل، ولو كان عاصياً بسفره، وكل رخصة تختص بالسفر، كقصر الصلاة، والفطر في رمضان، فشرطه ألا يكون عاصياً بسفره، فلا تفعل، وهذا مذهب المالكية (6) .
_________
(1) مراقي الفلاح (ص: 163) ، الاختيار لتعليل المختار (1/81) ، حاشية ابن عابدين (1/124) ، الفتاوى الهندية (1/139) ،البحر الرائق (2/149) تبيين الحقائق (1/215،216) .
(2) المحلى (3/185) .
(3) قال الشافعي في الأم (1/119) : " وليس لأحد سافر في معصية أن يقصر، ولا يمسح مسح المسافر، فإن فعل أعاد، ولا تخفيف على من سفره في معصية ".
(4) المغني (2/51) ، مطالب أولى النهى (1/730) ، الإنصاف (1/169) ، الفروع (1/158) .
(5) المجموع (1/510) .
(6) حاشية الدسوقي (1/143) ، مواهب الجليل (1/320) ، الخرشي (1/179) .(5/427)
دليل من قال: لا يمسح.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (1) .
وقال تعالى {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} (2) .
قال ابن قدامة: أباح الأكل لمن لم يكن عادياً ولا باغياً، فلا يباح لباغ ولا عاد. قال ابن عباس: غير باغ على المسلمين، مفارق لجماعتهم، يخيف السبيل، ولا عاد عليهم (3) .
وأجيب:
بأن المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات، وهو يجد عنها مندوحة، فليس في الآية دليل على ما ذكرتم.
وهذا قول قتادة، والحسن، ورجحه ابن جرير الطبري في تفسيره، فقال: " وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير... باغ بأكله ما حرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله، وله عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى، وذلك أن الله تعالى ذِكْرِه لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتيا ما حرم الله عليهما من خروج
_________
(1) البقرة، آية: 173.
(2) المائدة، آية: 3.
(3) المغني (2/51) ، قلت: هذا القول ذكره ابن جرير الطبري عن مجاهد، وسعيد بن جبير، ولا يعرف هذا القول عن ابن عباس.(5/428)
هذا على من خرج عليه، وسعي هذا بالإفساد في الأرض، فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرم الله عليهما ما كان حرم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك من قتل أنفسهما " ثم قال: فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة الأوبة إلى طاعة الله والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه والتوبة من معاصي الله، لا قتل أنفسهما بالمجاعة فيزدادان إلى إثمهما إثما، وإلى خلافهما أمر الله خلافا " (1) .
ولاشك أن إهلاك النفس أعظم من المعصية التي من أجلها ترك الأكل، فحفظ النفس من أعظم مقاصد الشرع، وإذا تعارض ارتكاب مفسدتين، قدم ارتكاب الأخف منهما.
قلت: وما نسبه ابن قدامة لابن عباس غير معروف عنه، والمعروف عن ابن عباس في قوله: {غير باغ ولا عاد} أي غير باغ في أكل الميتة ولا عاد في أكله (2) .
وقيل: فمن اضطر: أي من أكره على أكله، فلا إثم عليه.
الدليل الثاني:
الإجماع، نقل النووي الإجماع على أن الرجل إذا كان سفره معصية كقطع الطريق، وإباق العبد أنه لا يمسح ثلاثة أيام بلا خلاف (3) .
_________
(1) تفسير القرطبي (2/88) .
(2) انظر تفسير ابن كثير (1/206) ، أحكام القرآن للجصاص (1/156) ، الدر المنثور (1/407) .
(3) المجموع (1/510) ولعله يقصد بلا خلاف في المذهب عندهم.(5/429)
ودعوى الإجماع فيها نظر؛ فإن الحنفية لا يفرقون بين العاصي بسفره، والعاصي في سفره، فكلاهما يحل له الترخص عندهم.
قال في مراقي الفلاح: " فيقصر فرض الرباعي من السفر، ولو كان عاصياً بسفره، كآبق من سيده، وقاطع طريق، لإطلاق الرخصة " (1) .
التعليل الثالث:
أن ما زاد على اليوم والليلة إنما يستبيحه بسبب السفر، وسفره معصية، ولا تكون الرخصة طريقاً إلى المعصية.
التعليل الرابع:
أن المسح على الخفين رخصة، والرخص لا تستباح بالمعاصي، وهذا يشبه الذي قبله.
التعليل الخامس:
أن في منعه من ترخص السفر كالمسح والقصر والفطر ونحوها تذكيراً له في أن يتوب، ويرجع عما عصى الله فيه.
وأجيب: لو أنه ترك التيمم إذا احتاج لاستعمال الماء، فهو بين أن نلزمه باستعمال الماء في الطهارة ويهلك، وإهلاك النفس مفسدة كبرى لايمكن أن يأمر بها الشرع، وبين أن يترك الصلاة فلا يتيمم، ولا يغتسل، ومن ثم لا يصلي، وترك الصلاة طامة كبرى، وبين أن يتيمم ويؤدي
الصلاة، ويأثم بسفره، وهو أخف الضررين، ويوافق يسر الشريعة.
_________
(1) مراقي الفلاح (ص: 163) .(5/430)
وسماحتها (1) .
دليل الحنفية على جواز المسح.
الدليل الأول:
النصوص في الكتاب والسنة مطلقة، لم تفرق بين مسافر وآخر، قال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر} (2) .
وقال b: " يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليها " فلو كان سفر المعصية غير داخل في النصوص لبينه الشرع {وما كان ربك نسياً} (3) ،
ولا يجوز تقييد ما أطلقه الله سبحانه، وأطلقه رسوله b إلا بنص أو إجماع، وما دام الإذن مطلقاً بالمسح فلا مانع أن يمسح المسافر، ولو كان عاصياً بسفره.
_________
(1) قال النووي في المجموع (1/511) : " قال ابن القاص والقفال وغيرهما: لو وجد العاصي بسفره ماء، فاحتاج إليه للعطش لم يجز له التيمم بلا خلاف، وكذا من به قروح يخاف من استعمال الماء الهلاك، وهو عاص بسفره لا يجوز له التيمم؛ لأنه قادر على التوبة وواجد للماء، قال ابن القفال: فإن قيل: كيف حرمتم أكل الميتة على العاصي بسفره، مع أنه يباح للحاضر في حال الضرورة، وكذا لو كان به قروح في الحضر جاز التيمم؟ فالجواب: أن أكل الميتة وإن كان مباحاً في الحضر عند الضرورة، لكن سفره سبب لهذه الضرورة، وهو معصية، فحرمت عليه الميتة في الضرورة، كما لو سافر لقطع الطريق فجرح لم يجز له التيمم لذلك الجرح، مع أن الجريح الحاضر يجوز له التيمم، فإن قيل: تحريم الميتة واستعمال الجريح الماء يؤدي إلى الهلاك. جوابه ما سبق أنه قادر على استباحته بالتوبة، هذا كلام القفال ". الخ كلامه
(2) البقرة، آية: 184.
(3) مريم، آية: 64.(5/431)
الدليل الثاني:
أن السفر نفسه لا يوصف بطاعة ولا معصية، وإنما تكون المعصية أو الطاعة مما يفعل فيه، فلا يقال: سفر طائع، أو عاصي، وإنما يتصف بالطاعة والمعصية العبد بحسب أفعاله.
التعليل الثالث:
أن المقيم قد يكون على معصية وظلم للمسلمين وعدوان عليهم وفي ذلك ما هو أشد أحياناً من سفر المعصية بل أنكم ترون المسح على الخفين من باب الرخص، ومع ذلك تسمحون للمقيم أن يمسح، ولو كانت إقامته للمعصية، فيكون استباح الرخصة بالمعصية، فينتقض دليلكم.
التعليل الرابع:
القياس على من نوى سفراً مباحاً، ثم نوى المعصية بعده، فإذا كان هذا يمسح، فكذلك العاصي بسفره؛ إذ لا فرق (1) .
التعليل الخامس:
قال الحنفية: نحن لا نجعل المعصية سبباً في الرخصة، وإنما السبب
_________
(1) قال النووي في المجموع (4/223) : " فأما من خرج بنية سفر مباح، ثم نقله إلى معصية، ففيه وجهان مشهوران، حكاهما الشيخ أبو حامد والبندنيجي وجماعات من العراقيين وإمام الحرمين وجماعات من الخرسانيين.
أحدهما: يترخص بالقصر وغيره؛ لأن السفر انعقد مباحاً مرخصاً فلا يتغير، قال إمام الحرمين: وهذا ظاهر النص.
وأصحهما: لا يترخص من حين نوى المعصية؛ لأن سفر المعصية ينافي الترخص. الخ كلامه رحمه الله.(5/432)
لحوق المشقة الناشئة من نقل الأقدام، والحر والبرد وغير ذلك، والمحظور ما يجاوره من المعصية، فكان السفر من حيث إفادته الرخصة مباحاً؛ لأن ذلك مما يقبل الإنفصال.(5/433)
فرع
هناك فرق بين العاصي بسفره، والعاصي في سفره، فالأول أنشأ السفر من أجل المعصية، لولا السفر لم يتمكن من فعلها، كما لو قطع الطريق، وأبق العبد، وسافر بقصد عمل الفواحش، ومنه السفر من أجل طلب علم محرم كالسحر والموسيقى وبعض الآداب المحرمة.
وأما العاصي في سفره أن يكون السفر عقد من أجل أمر مباح، لكن فعل فيه أموراً محرمة، كالغيبة، وشرب الدخان، وسماع الغناء وغيرها كثير، فهذا عاص في سفره، وليس عاصياً بسفره.
والعاصي في سفره له أن يترخص برخص السفر؛ لأن سفره ليس سبباً في فعل المحرم، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن عابدين من الحنفية (1) ، والدسوقي في حاشيته (2) وغيرهما.
قال الصاوي من المالكية: " بخلاف المعصية في السفر، فلا تمنع اتفاقاً كالسفر لتجارة، ثم تعرض له معاص" (3) .
قال النووي: " أما العاصي في سفره، وهو من خرج في سفر مباح وقصد صحيح، ثم ارتكب معاصي في طريقه كشرب الخمر وغيره، فله الترخص بالقصر وغيره بلا خلاف؛ لأنه ليس ممنوعاً من السفر، وإنما يمنع من المعصية، بخلاف العاصي بسفره " (4) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/124) .
(2) حاشية الدسوقي (1/358) .
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/153) .
(4) المجموع (4/224) .(5/434)
وجاء في حاشية العنقري: " خرج بقولنا: " العاصي بسفره " العاصي فيه، فإن له الترخص، نقله من فيروز (1) .
وقال في كشاف القناع: " ويقصر من ابتدأ سفراً، ولو عصى في سفره الجائز، كأن شرب مسكراً ونحوه، كأن زنى فيه، أو قذف، أو اغتاب؛ لأنه لم يقصد السفر لذلك " (2) .
الراجح:
أنه لا فرق بين العاصي في سفره، والعاصي بسفره، فكلاهما له حق الترخص؛ حيث وجد السفر، وليس في هذا إعانة على المحرم، ولا تخفيف عن العاصي، لأن السفر من حيث هو لا يوصف بمعصية ولا طاعة، ولابن تيمية كلام طويل في مناقشة هذه الأقوال أورده بطوله لأهميته.
قال ابن تيمية: " والذين قالوا: لا يثبت ذلك - يعني من الرخص - فى السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى فى الميتة: {فمن اضطر غير باغ
ولا عاد فلا اثم عليه} (3) .
وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي: هو الباغي على الإمام الذى يجوز قتاله، والعادي: هو العادي على المسلمين: وهم المحاربون، قطاع الطريق. قالوا: فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم، فسائر الرخص أولى. وقالوا: اذا اضطر العاصى بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل، ولا نبيح له
_________
(1) حاشية العنقري (1/58) .
(2) كشاف القناع (1/506) .
(3) البقرة، آية: 173.(5/435)
إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعى وأحمد، وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا: لأن السفر المحرم معصية، والرخص للمسافر إعانة على ذلك، فلا تجوز الإعانة على المعصية.
قال ابن تيمية: " وهذه حجج ضعيفة، أما الآية فأكثر المفسرين قالوا المراد بالباغي: الذى يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي: الذى يتعدى القدر الذى يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا فى السور المكية الأنعام والنحل وفى المدينة ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل، والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت فى سفر فليس السفر المحرم مختصاً بقطع الطريق والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبى b إمام يخرج عليه، ولا من شرط الخارج أن يكون مسافراً، والبغاة الذين أمر الله بقتالهم فى القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولاً مسافرين، بل كانوا من أهل العوالي مقيمين، واقتتلوا بالنعال والجريد، فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر، وليس فيها كل سفر محرم، فالمذكور فى الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقاً للسفر المحرم؛ فإنه قد يكون بلا سفر، وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضا فقوله: {غير باغ} حال من اضطر، فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذى يأكل فيه، غير باغ ولا عاد؛ فإنه قال: فلا إثم عليه، ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل، الذى هو الفعل، لا عن نفس الحاجة إليه، فمعنى الآية: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود: أنه لا يبغي فى أكله، ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان، فالبغى: ما جنسه ظلم، والعدوان: مجاوزة القدر المباح(5/436)
كما قرن بين الإثم والعدوان في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى
ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (1) فالإثم: جنس الشر. والعدوان: مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم. قال تعالى {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} (2) .
وقال تعالى: {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه} (3) ، فإثم: جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف: فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد، لكن قال كثير من المفسرين: الجنف الخطأ والإثم: العمد؛ لأنه لما خص الإثم بالذكر، وهو العمد بقي الداخل في الجنف الخطأ، ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود، كما قال تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} (4) ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا} (5) . والإسراف: مجاوزة الحد المباح، وأما الذنوب: فما كان جنسه شر وإثم.
وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية فغلط؛ لأن المسافر مأمور بأن يصلي ركعتين، كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم إذا عدم الماء فى السفر المحرم، كان عليه أن يتيمم ويصلي، وما زاد على الركعتين ليست طاعة
_________
(1) المائدة، آية: 2.
(2) الشورة، آية: 14.
(3) البقرة، آية: 182.
(4) البقرة، آية: 229.
(5) آل عمران، آية: 147.(5/437)
ولا مأموراً بها أحد من المسافرين، وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهياً عنه، فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن، فهل يصليها إلا ركعتين، وإن كان عاصياً بسفره، وإن كان إذا صلى وحده صلى أربعاً. وكذلك صومه فى السفر ليس براً، ولا مأموراً به؛ فإن النبى b ثبت عنه أنه قال: ليس من البر الصيام فى السفر، وصومه إذا كان مقيماً أحب إلى الله من صيامه فى سفر محرم، ولو أراد أن يتطوع على الراحلة فى السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي، ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عرياناً.
فإن قيل: هذا لا يمكنه إلا هذا. قيل: والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين، والمشروع فى حقه أن لا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام، هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتياط، فإن طائفة يقولون: من صلى أربعاً، أو صام رمضان فى السفر المحرم لم يجزئه ذلك، كما لو فعل ذلك فى السفر المباح عندهم.
وطائفة يقولون: لا يجزيه إلا صلاة أربع وصوم رمضان، وكذلك أكل الميتة واجب على المضطر، سواء كان فى السفر أو الحضر، وسواء كانت ضرورته بسبب مباح أو محرم، فلو ألقى ماله فى البحر واضطر إلى أكل الميتة كان عليه أن يأكلها، ولو سافر سفراً محرماً، فأتعبه، ولو قاتل قتالاً محرماً حتى أعجزته الجراح عن القيام، صلى قاعداً.
فإن قيل: فلو قاتل قتالاً محرماً هل يصلي صلاة الخوف؟
قيل: يجب عليه أن يصلي، ولا يقاتل، فإن كان لا يدع القتال المحرم، فلا نبيح له ترك الصلاة، بل إذا صلى صلاة خائف كان خيراً من(5/438)
ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة فى الوقت وجب ذلك عليه؛ لأنه مأمور بها، وأما إن خرج الوقت ولم يفعل ذلك ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع (1) .
فالراجح أن العاصي بسفره يقصر ويفطر، ويمسح، ويتمتع بكل رخص السفر، ولم يأت من منع بدليل قوي سالم من النزاع يصار إليه.
_________
(1) مجموع الفتاوى (24/110) وما بعدها.(5/439)
[صفحة فارغة](5/440)
الباب السادس
في أحكام لبس الخف على الخف.
وفيه ثلاثة فصول(5/441)
[صفحة فارغة](5/442)
الفصل الأول
خلاف العلماء في جواز المسح إذا لبس خفاً على خف
هل له أن يلبس خفاً على خف، اختلف العلماء في هذا،
فقيل: يجوز أن يلبس خفاً على خف، وهو مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة، ورواية في مذهب مالك (2) ، والقول القديم للشافعي (3) .
وقيل: لا يجوز، وهو رواية عن مالك (4) ، والقول الجديد
_________
(1) تبيين الحقائق (1/51،52) ، العناية شرح الهداية (1/155،156) ، شرح فتح القدير (1/155) ، البحر الرائق (1/189) .
(2) قال الباجي في المنتقى (1/82) : " واختلف قول مالك في جواز المسح على الجرموق، فأجازه مرة، وأخذ به ابن القاسم، ومنعه مرة، ووجه الجواز: أن هذا خف يمكن متابعة المشي فيه غالباً.
ووجه الرواية الثانية: أن المسح على الخف أبيح لضرورة مشقة خلعه ولبسه، وذلك معدوم في الجرموق كالنعل، واستدل القاضي أبو محمد في ذلك بأنه ملبوس على ممسوح، فلم يجز أن يمسح في الوضوء لغير ضرورة كالعمامة، فاقتضى استدلاله أن الجرموق: هو خف ملبوس على خف. قال الشيخ أبو محمد في نوادره: قال بعض البغداديين: اختلف قول مالك في مسح خف ملبوس على خف، فقال مرة: يمسح، وقال مرة: لا يمسح، وهكذا ذكره الشيخ أبو بكر في شرحه ". الخ كلامه
(3) قال النووي في المجموع (1/531) : " وفي الجرموقين: وهو الخف الذي يلبس فوق الخف، وهما صحيحان قولان: قال في القديم والإملاء: يجوز المسح عليه؛ لأنه خف يمكن متابعة المشي عليه، فأشبه المنفرد.
وقال في الجديد: لا يجوز؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب، وإنما تدعو الحاجة إليه في النادر، فلا تتعلق به رخصة عامة، كالجبيرة ".
(4) انظر المنتقى للباجي (1/82) ، التاج والإكليل (1/466) .(5/443)
للشافعي (1) .
أدلة القائلين بالجواز.
(133) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس،
عن بلال رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله b يمسح على الموقين والخمار (2) .
[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (3) .
_________
(1) المجموع (1/531) ، أسنى المطالب (1/97) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/69) .
(2) المصنف (1/162) .
(3) رجاله كلهم ثقات، وأخرجه أحمد (6/15) حدثنا عفان به. ومن طريق عفان أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/466) .
وأخرجه ابن خزيمة (189) من طريق أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة به.
ومن طريق حماد بن سلمة أخرجه الروياني في مسنده (744) .
وأخرجه الروياني في مسنده إلا أنه قال: عن أبي قلابة، عن بلال، وهو مرسل.
أخرجه الروياني في مسنده (735) قال: نا إسحاق بن شاهين، نا خالد بن الوليد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال: قام رجل من بني عمرو بن أمية في يوم بارد، فتوضأ من مطهرة بدمش، فذهب يقلع خفيه، فقال بلال: كان رسول الله b يمسح على الموقين، وفوق الخمار.
وذكر البخاري في التاريخ الكبير هذا الاختلاف على أبي إدريس في ترجمة إسحاق بن سيار، فقال البخاري (1/390) : إسحاق بن سيار، سمع يونس بن ميسرة الشامي سمع أبا إدريس الخولاني، سألت المغيرة بن شعبة بدمشق، قال: وضأت النبي b بتبوك، فمسح على خفيه، قاله لي سليمان بن عبد الرحمن، عن الوليد بن مسلم.
وقال هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن عوف بن مالك، قال: جعل النبي b المسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثاً للمسافر ويوماً للمقيم، قال أبو عبد الله: إن كان هذا محفوظاً، فإنه حسن. وقال حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس، عن بلال مسح النبي b، وقال غير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن بلال مرسل اهـ.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/168) رقم 1929، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن أبي عبد الله مولى التيم بن مرة، عن أبي
عبد الرحمن، قال: كنت جالسا مع عبد الرحمن بن عوف، فمر بنا بلال، فسألناه عن المسح على الخفين، فقال: كان رسول الله b يقضي حاجته، ثم يخرج، فنأتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على الموقين والعمامة.
وأخرجه أبو داود في سننه (153) والحاكم في المستدرك من طريق معاذ العنبري، ثنا شعبة به.
وأخرجه البيهقي (1/288) من طريق آدم بن أبي إياس ومعاذ العنبري، كلاهما عن شعبة به.
وأخرجه الشاشي في مسنده (963،964،965) من ثلاثة طرق، عن شعبة به.
قال ابن دقيق في الإمام (2/199) : " قيل في أبي عبد الله هذا: إنه مولى بني تميم (الصواب تيم) ولم يسم هو ولا أبو عبد الرحمن، ولا رأيت في الرواة عن كل واحد منهما إلا واحداً، وهو ما ذكر في الإسناد " اهـ.
وقال الحافظ في التقريب: أبو عبد الله مولى بني تيم مجهول من السادسة.
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1372) قال: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، حدثني أبي، عن أبيه، حدثني أبو وهب الكلاعي، أن مكحول حدثه، عن الحارث بن معاوية الكندي الأعرج، قال: كنت أتوضأ أنا وأبو جندل بن سهل من المطهرة، فتذاكرنا نزع الخفين، فمر بنا بلال مؤذن النبي b فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف سمعت رسول الله b يقول في نزع الخفين، فقال: سمعت رسول الله b يقول: امسحوا على الموق... والخمار.
وفي إسناده شيخ الطبراني: أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي.
قال أبو أحمد الحاكم: فيه نظر، وحدث عنه أبو الجهم الشعراني ببوطيل. لسان الميزان (1/295) .
وقال ابن حبان في ترجمة أبيه: محمد بن يحيى بن حمزة: ثقة في نفسه، يتقى حديثه ما روى عنه أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة وأخوه عبيد؛ فإنهما كانا يدخلان عليه كل شيء. الثقات (9/74) .
قال الحافظ في اللسان: وذلك لأن محمد كان قد اختلط. اللسان (5/422) .
وأبو وهب الكلاعي: وثقة دحيم. تهذيب التهذيب (7/32) .
وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين: ليس به بأس. المرجع السابق. وبقية الإسناد كلهم ثقات.
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1412) قال: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا جعفر بن مسافر، ثنا يحيى بن حسان، ثنا محمد بن مهاجر ثنا العباس بن سالم عن أبي جندل بن سهل، أنه سأل بلالاً عن المسح على الخفين، فقال: سمعت رسول الله b يقول: امسحوا على الموق.
شيخ الطبراني: لم أقف عليه.
وجعفر بن مسافر، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. الثقات (8/161) .
وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. الجرح والتعديل (2/491) .
وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ. وباقي رجال الإسناد كلهم ثقات.
وروى الطبراني في المعجم الكبير (1/340) رقم 1019 من طريق ليث بن أبي سليم، عن الحكم، عن شريح بن هانئ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: زعم بلال أن رسول الله b كان يمسح على الموقين والخمار.
وهذا إسناد منكر، تفرد به ليث، والمعروف من حديث الحكم، عن شريح، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب في توقيت المسح، وهو في صحيح مسلم، من مسند أمير المؤمنين رضي الله عنه.
وسبق لي أن أشرت إلى الاختلاف في حديث حماد في مسألة المسح على العمامة، فارجع إليه.
والموق كما في مختار الصحاح (266) : ما يلبس فوق الخف، وهو فارسي معرب.
وقال الجوهري والمطرزي: الموق خف قصير، يلبس فوق الخف، نقلاً من شرح فتح القدير (1/158) .
وأنكر النووي أن يكون الموق يلبس فوق الخف. المجموع (1/536) فذكر عن أصحابه أن الموق: هو الخف لا الجرموق، وقال: هو الصحيح المعروف في كتب أهل الحديث وغريبه.
وجاء في نصب الراية (1/184) : " الشيخ تقي الدين في الإمام: وقد اختلفت عباراتهم في تفسير الموق، فقال: ابن سيده: الموق ضرب من الخفاف، والجمع
أمواق، عربي صحيح. وحكى الأزهري عن الليث: الموق ضرب من الخفاف، ويجمع على أمواق.
وقال الجوهري: الموق الذي يلبس فوق الخف، فارسي معرب.
وقال الفراء: الموق الخف فارسي معرب، وجمعه أمواق. وكذلك قال الهروي الموق الخف فارسي معرب، وقال كراع: الموق الخف والجمع أمواق انتهى ".(5/444)
الدليل الثاني:
(134) ما رواه البيهقي في سننه، قال: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، ثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن نصير الصوفي، ثنا علي بن عبد العزيز، نا الحسن بن الربيع، ثنا أبو شهاب الحناط، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك أن رسول الله b كان يمسح على الموقين والخمار (1) .
[عاصم الأحول لم يسمع من بلال] (2) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/289) .
(2) وفي إسناده محمد بن محمد بن نصير الصوفي لم أعرفه، وباقي رجال الإسناد ثقات إلا أبا شهاب الحناط، وهو صدوق يهم كما في التقريب، وسوف يأتي تخريجه مستوفي في باب المسح على العمامة.(5/447)
الدليل الثالث:
(135) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن علي الصائغ، قال: نا المسيب بن واضح، قال: نا مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان، عن حميد بن هلال، عن عبدالله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: رأيت رسول الله b يمسح على الموقين والخمار.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن هشام بن حسان إلا مخلد بن الحسين، تفرد به المسيب بن واضح (1) .
الدليل الرابع:
أن الخف الأعلى خف ساتر، يمكن متابعة المشي عليه، أشبه المنفرد.
_________
(1) الأوسط (6/214) رقم 6220. وللمسيب أحاديث منكرة ساقها ابن عدي في الكامل، ثم قال (6/389) : " والمسيب بن واضح له حديث كثير عن شيوخه، وعامة ما خالف فيه الناس هو ما ذكرته، لا يتعمده، بل كان يشبه عليه، وهو لا بأس به ".
وقال فيه أيضاً: " كان النسائي حسن الرأي فيه، ويقول الناس يؤذوننا فيه: أي يتكلمون فيه ".
وجاء في الميزان (4/116) : " وقال أبو حاتم: صدوق، يخطيء كثيراً، فإذا قيل له لم يقبل ".
وسأل ابن عدي عبدان كما في الكامل (5/265) : " أيما أحب إليك، عبد الوهاب بن الضحاك، أو المسيب؟ قال: كلاهما سواء".
قال الذهبي في لسان الميزان (6/158) : " وعبد الوهاب هذا ضعيف جداً "
قال أبو داود: كان يضع الحديث.
وقال النباتي، والدارقطني، والعقيلي: متروك.
وقال الجوزقاني: كان كثير الخطأ والوهم. اهـ من لسان الميزان.(5/448)
الدليل الخامس:
جاء الإذن بالمسح على الخف، ولا فرق بين أن يكون خفاً واحداً أو أكثر، ومن منع فعليه الدليل.
الدليل السادس:
أن الخفين بحكم الخف الواحد، فيعتبر الأعلى كالظهارة، والأسفل كالبطانة، أو أن الأسفل كاللفافة، والأعلى هو الخف.
الدليل السابع:
ولأن الحاجة قد تدعو إليه لا سيما في البلاد الباردة جداً، فقد
لا يكفي خف واحد أو جورب واحد.
الدليل الثامن:
الإجماع على جواز المسح، قال المزني: لا أعلم بين العلماء في جوازه خلافاً.
وقال الشيخ أبو حامد: هو قول العلماء كافة.
قال الماوردي: واختيار المزني أن المسح عليه جائز، لعموم قوله b: يمسح المقيم يوماً وليلة (1) .
الدليل التاسع:
قالوا: لأن الخف الثاني بمنزلة الجورب، فإذا كان يجوز المسح على خف لبس على الجورب، يجوز المسح على خف لبس على خف.
_________
(1) الحاوي الكبير (1/366) .(5/449)
أدلة المانعين.
الأول: أن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب، وإنما تدعو إليه في النادر، فلا تتعلق به رخصة عامة.
وأجيب: بأن الشرع يعلق الحكم بعلة منضبطة، ولذلك فالعلة في الفطر للمسافر هو السفر، وليس المشقة، وإن أصل الرخصة مراعاة المشقة، فكذلك العلة في المسح على الخفين لبسهما على طهارة، سواء كان اللابس لهما محتاجاً إلى ذلك أو غير محتاج، في زمن البرد وغيره، شق نزعه أو لم يشق.
الدليل الثاني:
قالوا: إن الرخصة جاءت بالمسح على خف واحد، فلا نتعداها.
وأجيب: بأنه لم يأت شرط في الشرع بأن يكون الخف واحداً، وكون الفعل وقع على خف واحد؛ لأن الرسول b كان في بلاد الحجاز، وهي لا تحتاج إلى لبس خف على خف، ومجرد الفعل لا يكون شرطاً، مع أن الرسول b مسح على الموق، وقد قدمنا قول أهل اللغة في تفسير الموق، وتصححون المسح على خف ملبوس على جورب، مع أن هذا لباس على لباس.
الدليل الثالث:
قالوا: مسح الخف بدل عن الرجل، والبدل لا يكون له بدل بالرأي، فالأبدال لا تقرر إلا من جهة الشرع، ولهذا لما كان التيمم بدلاً عن الماء لم يجعل للتيمم بدل.(5/450)
وأجيب:
بأن الخف الأعلى بدل عن الرجل، لا عن الخف الأسفل، ولذا نشترط لبسه على طهارة الماء، لا على طهارة المسح كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
القول الراجح:
بعد استعراض الأدلة يتبين أن القول بجواز مسح خف على خف أقوى من حيث الأدلة، وأقرب من حيث الحكمة من إباحة المسح على الخفين، وخاصة في بعض بلاد المسلمين كالبلاد التي يكون فيه البرد قارصاً، وقد لا يكفي خف واحد، أو جورب واحد، بحيث يتجمد الدم في عروق الأصابع، ومن جرب هذا عرف قدر حاجة تلك البلاد إلى لبس خف على خف، وجورب على جورب، والله أعلم.(5/451)
[صفحة فارغة](5/452)
الفصل الثاني
إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث
فهل يمسح عليه(5/453)
[صفحة فارغة](5/454)
الفصل الثاني
إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه
إذا لبس خفاً على خف على طهارة غسل الرجل، وقبل الحدث مسح على الخف الفوقاني قولاً واحداً في مذهب من أجاز المسح على الخف فوق الخف.
وإذا لبس الخف الأول، ثم أحدث، ثم لبس خفاً عليه، وهو محدث،
فله حالتان:
الأولى: أن يكون ذلك قبل أن يمسح على الأسفل، وفيه قولان:
فقيل: لا يمسح إلا على الأسفل وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والحنابلة (3) ، وقول العراقيين من الشافعية (4) .
واختار الخرسانيون من الشافعية أنه يجوز المسح على الأعلى، ولو لبسه، وهو محدث، ما دام قد لبس الأسفل على طهارة (5) .
_________
(1) الاختيار لتعليل المختار (1/24،25) ، شرح فتح القدير (1/157) ، المبسوط (1/102) .
(2) الخرشي (1/178) ، مواهب الجليل (1/318،319) ، حاشية الدسوقي (1/141) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 27) .
(3) الروض المربع (1/289) ، المبدع () .
(4) المجموع (1/531) ، الحاوي الكبير (1/366) ، وروضة الطالبين (1/127) .
(5) انظر المجموع (1/531) .(5/455)
تعليل الجمهور:
أن من شرط جواز المسح على الخف لبسه على طهارة مائية، كما في حديث المغيرة: " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " وهذا قد لبس الخف، وهو محدث.
وتعليل الخرسانيين:
قاس الخرسانيون هذه المسألة على من لبس خفاً، ثم أحدث، ثم رقع فيه رقعة، فيجوز المسح، فكذلك الأعلى بمثابة الرقعة للأسفل، ما دام أنه قد لبس الأسفل على طهارة، وهذا القول ضعيف أيضاً.
الحالة الثانية:
أن يلبس الخف الأعلى بعد أن مسح على الخف الأسفل،
فقيل: لا يمسح إلا على الأسفل، وهو مذهب الحنفية (1) ،والحنابلة (2) ، وقول في مذهب المالكية (3) ، ووجه في مذهب الشافعية (4) .
وقيل: بل يمسح على الأعلى، وهو قول في مذهب المالكية، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (5) .
_________
(1) الاختيار لتعليل المختار (1/24،25) ، شرح فتح القدير (1/157) ، المبسوط (1/102) .
(2) الروض المربع (1/289) ، المبدع (1/147) .
(3) الخرشي (1/178) ، مواهب الجليل (1/318،319) ، حاشية الدسوقي (1/141) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 27) .
(4) المجموع (1/531) ، الحاوي الكبير (1/366) ، ورضة الطالبين (1/127) .
(5) قال النووي في المجموع (1/534) : " وهو الأظهر المختار ".(5/456)
تعليل الجمهور.
قالوا: إن الخف الأعلى لم يلبسه على طهارة مائية، وهي شرط في المسح على الخف، وليس المطلوب مطلق الطهارة، ولذلك لو كانت طهارته بالتيمم لم يمسح الخف فيها إذا وجد الماء، ولا يقال: ما دام أن التيمم مطهر فليمسح عليهما؛ لأنه يصدق عليه أنه لبسهما، وهو طاهر.
وتعليل القائلين بجواز المسح.
قالوا: إذا كان المسح على الخفين رافعاً للحدث، فإذا لبس الخف الأعلى بعد المسح يصدق عليه أنه أدخل رجليه الخف، وهما طاهرتان، فجاز له أن يمسح.
والقول الأول أصح، وقد علمت الجواب عن تعليلهم، ولهذا يعلقون المدة بالخف الأسفل، لا بالخف الأعلى، ولو كان لبسه على طهارة المسح مؤثراً لعلق الحكم بالأعلى، فهم في مدة المسح ألغوا الخف الأعلى، وهذا دليل على ضعف القول بالمسح عليه، ويلزمهم على قولهم إلغاء التوقيت، فقبل أن تنتهي المدة، ينزع خفيه قبل انتقاض طهارته، ثم يلبسه مرة أخرى ليستأنف مدة جديدة، ويصدق عليه أنه لبسه على طهارة، وبالتالي تذهب الحكمة من القول بالتوقيت في المسح على الخفين، وهم لا يقولون بهذا، ويشترطون أن تكون الطهارة مائية، فإذا كان ذلك كذلك لزم أن تكون الطهارة مائية للخف الأعلى أيضاً إذا كان المسح سوف يتعلق به الحكم، والله أعلم.(5/457)
[صفحة فارغة](5/458)
الفصل الثالث
حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما(5/459)
[صفحة فارغة](5/460)
الفصل الثالث
حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما
أما على قول من يجوز مسح الخف، ولو كان مخرقاً ما دام يسمى خفاً فلا إشكال تخرق الخفان أم لا، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقد سبق ذكر أقوالهما في مسألة المسح على الخف المخرق.
وأما على قول من يمنع المسح على الخف المخرق كالشافعية والحنابلة فللمسألة صور عندهم:
الصورة الأولى: أن يكون الخفان مخرقين، الأعلى والأسفل،
فيجب نزع الجميع، وهو وجه في مذهب الشافعية (1) ، والمشهور من مذهب
الحنابلة (2) .
وعللوا ذلك: بأنه لو انفرد كل خف ما جاز المسح عليه، فكذلك إذا اجتمعا.
وقيل: يجوز المسح عليهما إن كان الخرقان في موضعين متفاوتين، ويكون أحد الخفين بمنزلة الظهارة والثاني بمنزلة البطانة، وإذا تخرقت البطانة وبقي شيء من الظهارة يستر القدم لم يمنع المسح عليه.
والصحيح جواز المسح عليهما مطلقاً، سواء كان الخرقان متحاذيين أم لا، كما رجحت في مسألة المسح على الخف المخرق.
_________
(1) المجموع (1/535) .
(2) الإنصاف (1/183) ، شرح منتهى الإرادات (1/65) ، كشاف القناع (1/117) ، الفروع (1/159) .(5/461)
الصورة الثانية: أن يكون الأسفل مخرقاً، والأعلى سليماً، فهذا يجوز المسح عليه قولاً واحداً عند من يجيز المسح على الخف فوق الخف.
وعللوا ذلك: بأن الأسفل بمنزلة اللفافة، والأعلى هو الخف. وهو القول القديم للشافعي (1) ، والمشهور في مذهب الحنابلة (2) .
الصورة الثالثة: أن يكون الأعلى مخرقاً والأسفل صحيحاً.
فقيل: إن كان الخرق مانعاً من المسح كما لوكان بمقدار ثلاثة أصابع فأكثر لم يجز المسح على الأعلى، بل يمسح على الأسفل، وهو مذهب الحنفية (3) .
وقيل: يمسح على الأسفل دون الأعلى إذا كان فيه خرق مطلقاً، وهو قول في مذهب الشافعية (4) ، واختاره بعض الحنابلة (5) .
ووجهه: أن الأعلى لم يمكن المسح عليه لكونه مخرقاً وجب المسح على الأسفل، واعتبر الأعلى بمنزلة خرقة لف بها الخف الأسفل.
_________
(1) المجموع (1/533) .
(2) الإنصاف (1/183) ، المغني، شرح منتهى الإرادات (1/65) ، كشاف القناع (1/117) ، الفروع (1/159) .
(3) قال في البحر الرائق (1/191) : ولا يجوز المسح على الجرموق المتخرق، وإن خفاه غير متخرق، وينبغي أن يقال: إن كان الخرق في الجرموق مانعاً لا يجوز المسح عليه، وإنما يجوز المسح على الخف لا غير، لما علم أن المتخرق خرقاً مانعاً وجوده كعدمه، فكانت الوظيفة للخف، فلا يجوز المسح على غيره، وقد صرح به في السراج الوهاج اهـ.
(4) المجموع (1/535) .
(5) الإنصاف (1/183) .(5/462)
وقيل: يصح المسح على الفوقاني، وهو رواية عن أحمد (1) .
وقيل: يمسح على أيهما شاء، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) .
ويكون الأعلى بمنزلة الظهارة، والأسفل بمنزلة البطانة، ولو تخرقت الظهارة وبقيت البطانة تستر البشرة لم يمنع من المسح عليها.
وقيل: هما كنعل مع جورب، أي يمسح عليهما معاً (3) .
وقد بينت في مسألة المسح على الخف المخرق أنه يصح المسح عليه؛ لأنه لا يشترط أن يستر الخف محل الفرض. والله أعلم.
_________
(1) الإنصاف (1/183) ، المغني () ، شرح منتهى الإرادات (1/65) ، كشاف القناع (1/117) ، الفروع (1/159) .
(2) الإنصاف (1/183) .
(3) الإنصاف (1/183) ، المغني () ، شرح منتهى الإرادات (1/65) ، كشاف القناع (1/117) ، الفروع (1/159) .(5/463)
[صفحة فارغة](5/464)
الفصل الرابع
إذا مسح الأعلى ثم خلعه
فهل يمسح الأسفل(5/465)
[صفحة فارغة](5/466)
الفصل الرابع
إذا مسح الأعلى ثم خلعه فهل يمسح الأسفل
إذا مسح الخف الأعلى، ثم خلعه من رجليه أو من أحدهما، فهل يمسح الخف الأسفل أم لا؟ فيه خلاف:
فقيل: يكفي أن يعيد المسح على الخف الأسفل، سواء نزع خفاً واحداً أم الاثنين، فيمكن أن يمسح القدمين، ولو كان على أحدهما خف واحد، والأخرى عليها خفان. وهو مذهب الحنفية (1) ، ومذهب المالكية كمذهب الحنفية إلا أنهم يشترطون أن يكون مسح الأسفل في الحال؛ لأن الموالاة عندهم شرط بخلاف الحنفية، فإن لم يمسح، وتأخر في المسح استأنف الوضوء (2) .
وللشافعية (3) ، والحنابلة (4) في هذه المسألة ثلاثة وجوه لاختلاف قولهم في معنى الخف الأعلى.
فالأصح والأظهر عند الشافعية أن الجرموق بدل عن الخف، والخف بدل عن غسل الرجل، وعلى هذا فلا يلزمه نزع الأسفل، ولكن هل يكفيه مسح الخفين أم يجب أن يستأنف الوضوء بدون نزع الأسفل، قولان في
_________
(1) المبسوط (1/103) ، حاشية ابن عابدين (1/452) ،.
(2) الكافي (ص: 27) .
(3) روضة الطالبين (1/128) ، المجموع (1/534،535) .
(4) الشرح الكبير (1/163) ، الإنصاف (1/192،193) ، كشاف القناع (1/118) .(5/467)
مذهب الشافعية.
الوجه الثاني: أن الخف الأعلى بمنزلة اللفافة، والأعلى هو الخف، فإذا نزع الأعلى، وجب نزع الأسفل؛ وهو المشهور من مذهب الحنابلة؛ لأن القول عندهم لا يجيز المسح على اللفائف، وقد سبق الكلام عليه.
الوجه الثالث: أن الخف الأعلى بمنزلة الظهارة، والأسفل بمنزلة البطانة، وبناء عليه إذا خلع الأعلى لا يلزمه شيء، وأكمل المدة في الخف الأسفل؛ لأنه لو كان هناك خف صنع من طبقتين، ظهارة وبطانة، وفرض أن الظهارة تمزقت، لم يبطل المسح على البطانة، وهذا مثله.
والصحيح أن خلع الأعلى يبطل مسح الأسفل؛ لأنه حين مسح تعلق الحكم به. والله أعلم.(5/468)
الباب السابع
مبطلات المسح على الخفين.
وفيه أربعة فصول(5/469)
[صفحة فارغة](5/470)
الفصل الأول
خلاف العلماء إذا نزع خفيه بعد المسح وقبل تمام المدة
إذا خلع خفيه، وهو على طهارة المسح، وقبل تمام المدة،
فقيل: يجب عليه أن يغسل قدميه، ولا تشترط الموالاة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والقول الجديد للشافعي (2) ، ورواية عن أحمد (3) .
وقيل: إن غسل قدميه مباشرة، كفاه، وإن أخر حتى طال الفصل،
_________
(1) مراقي الفلاح (ص: 55) ، الاختيار لتعليل المختار (1/25) ، بدائع الصنائع (1/12) ، المبسوط (1/102،103) ، تبيين الحقائق (1/51) ، البحر الرائق (1/187) .
(2) روضة الطالبين (1/132) ، المجموع (1/553) .
(3) قال ابن رجب في قواعده (ص: 314) في القاعدة الثالثة والأربعين بعد المائة: "ومنها إذا مسح على الخف، ثم خلعه، فإنه يجزئه غسل قدميه على إحدى الروايتين، ولو فاتت الموالاة؛ لأن المسح كمل الوضوء وأتمه، وقام مقام غسل الرجلين إلى حين الخلع، فإذا وجد الخلع وتعقبه غسل القدمين، فالوضوء كالمتواصل، وعلى هذا لو وجد ما يكفي لغسل بعض أعضاء الحدث الأصغر، فاستعمله فيها، ثم تيمم للباقي، ثم وجد الماء بعد فوات الموالاة لم يلزمه إلا غسل باقي الأعضاء، وهو ظاهر ما ذكره الشيخ مجد الدين في شرح الهداية، لكنه بناه على سقوط الموالاة بالعذر " اهـ.
قلت: قد اختلف أصحاب أحمد في مبنى هذه الرواية:
فقيل: مبنية على الموالاة، وعليه فلو حصل غسل قدميه مباشرة قبل فوات الموالاة أجزأه.
وقيل: على كون المسح على الخفين هل يرفع الحدث أم لا؟
وقيل: على كون الطهارة هل تتبعض في النقض، وإن تبعضت في الثبوت كالصلاة والصيام. انظر شرح العمدة لابن تيمية (1/258) والإنصاف (1/190) .(5/471)
استأنف الوضوء، لفقد شرط الموالاة، وهو مذهب المالكية (1) .
وقيل: لا شيء عليه، بل طهارته صحيحة، مالم يحدث، وهو الراجح، اختاره ابن حزم (2) ، ورجحه ابن تيمية (3) .
وقيل: تبطل طهارته، وهو القول القديم للشافعي (4) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (5) .
دليل الحنفية على وجوب غسل القدم.
قالوا: إن المانع من سراية الحدث إلى القدم استتارها بالخف، وقد زال بالنزع، فسرى الحدث السابق إلى القدمين، ولما كان قد غسل سائر
_________
(1) جاء في المدونة (1/144) : " وقال مالك في الرجل يتوضأ، ويمسح على خفيه، ثم يمكث إلى نصف النهار، ثم ينزع خفيه، قال: إن غسل رجليه مكانه حين ينزع خفيه أجزأ، وإن أخر غسل رجليه، ولم يغسلهما حين ينزع الخفين أعاد الوضوء كله ".
وانظر الخرشي (1/182) ، حاشية الدسوقي (1/145) .
(2) المحلى (1/340،341) .
(3) قال ابن تيمية كما في الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية (ص: 26) : " ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما " اهـ.
(4) روضة الطالبين (1/132) ، المجموع (1/553) .
(5) مسائل ابن هانئ (1/19) ، وفي مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 16) رقم 54 قال: قلت لأحمد: إذا مسح على خفيه ثم نزعهما؟ قال: يعيد الوضوء، ثم قال: الذي يغسل قدميه بأي شيء يحتج، أليس حين مسح على خفيه قد طهرتا رجلاه، فحين نزعهما نقض طهور رجليه، ولم ينقض غير ذلك، إن كان نقض بعض طهوره، فقد نقض كله، وإلا لم ينقض شيئاً ". اهـ وانظر المحرر (1/13) ، المبدع (1/153) ، الكافي (1/38) ، الإنصاف (1/190) ، شرح منتهى الإرادات (1/63،64) ، كشاف القناع (1/137) .(5/472)
أعضاء الوضوء، وبقيت القدمان فقط، فلم يجب إلا غسلهما، والموالاة عند الحنفية ليست بشرط لصحة الطهارة، فلما غسل جميع أعضاءه إلا القدمين، ثم غسل القدمين بعد نزعهما صدق عليه أنه غسل جميع ما يجب غسله، غاية ما هنالك أنه فاته سنة الموالاة، وهي ليست بشرط في مذهبهم.
الدليل الثاني:
(136) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد الدالاني، عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة،
عن رجل من أصحاب النبي b في الرجل يمسح على خفيه، ثم يبدو له أن ينزع خفيه، قال: يغسل قدميه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/170) .
(2) ضعيف من أجل يزيد الدالاني، جاء في ترجمته:
قال عثمان بن سعيد: سألت يحيى بن معين عن يزيد الدالاني، فقال: ليس به بأس.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عنه، فقال: صدوق ثقة. الجرح والتعديل (9/277) .
وقال أحمد: لا بأس به. تهذيب التهذيب (12/89) .
وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه عبد السلام بن حرب، وفي حديثه لين إلا أنه مع لينه يكتب حديثه. الكامل (7/277) .
وقال ابن سعد: كان منكر الحديث. الطبقات (7/310) .
وقال ابن حبان: كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، يخالف الثقات في الروايات حتى إذا سمعها المبتدىء في هذه الصناعة علم أنها معلولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. المجروحين (3/105) .
وقال أبو الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في بعض حديثه. تهذيب الكمال (33/273) .
وقال ابن عبد البر: ليس بحجة. تهذيب التهذيب (12/89) .
فالإسناد ضعيف، ولو خلا من ضعف يزيد بن عبد الرحمن، ما خلا من عنعنته، وهو مدلس مكثر من التدليس، ذكره الحافظ في المرتبة الثالثة في طبقات المدلسين (113) .
وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيراً.
وقد اختلف في إسناده، فرواه البيهقي (1/289) من طريق أبي سعيد الأشج، ورواه من طريق البخاري، حدثنا أبو نعيم، كلاهما عن عبد السلام بن حرب، ثنا يزيد بن عبدالرحمن، وهو الدالاني، عن يحيى بن إسحاق، عن سعيد بن أبي مريم، عن رجل من أصحاب النبي b، وذكر الحديث، فزاد في الإسناد سعيد بن أبي مريم. قال البخاري: ولا نعرف أن يحيى سمع من سعيد أم لا، ولا سمع سعيد من أصحاب النبي b.(5/473)
الدليل الثالث:
(137) ما رواه البيهقي، من طريق الحسن بن علي بن عفان، عن زيد بن الحباب، حدثني عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة،
عن أبيه، عن النبي b في قصة المسح، قال: وكان أبي ينزع خفيه، ويغسل رجليه، ويذكر عن عطاء مثل ذلك (1) .
[وهذا شاذ سنداً ومتناً] (2) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/289)
(2) أما الإسناد فقد رواه أكثر من عشرة حفاظ، عن عبد الوهاب الثقفي، عن المهاجر، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، لا يذكرون في الإسناد خالداً الحذاء، وإليك هم حسب ما وقفت عليه:
الأول والثاني: بشر بن معاذ العقدي، ومحمد بن أبان، كما في صحيح ابن خزيمة (192) والدارقطني (1/204) .
الثالث: الشافعي، كما في مسنده (ص: 17) ، وشرح السنة للبغوي (237) .
الرابع: بشر بن هلال الصواف، كما في سنن ابن ماجه (556) ، والدارقطني (1/204) .
الخامس: محمد بن المثنى، كما في سنن الدارقطني (1/194) .
السادس والسابع والثامن: أبو الأشعث والعباس بن يزيد ومسدد، كما عند الدارقطني (1/194) .
التاسع: محمد بن بشار، كما عند ابن خزيمة (192) ، وابن ماجه (556) ، والدارقطني (1/204) .
العاشر: يحيى بن معين، كما في المنتقى لابن الجارود (87) .
وأما شذوذه متناً فقد رواه عشرة من الحفاظ عن عبد الوهاب، لا يذكرون في متنه: وكان أبي ينزع خفيه، ويغسل رجليه، وإنما تفرد بها الحسن بن علي بن عفان، عن زيد بن الحباب، عن عبد الوهاب، والبلاء ليس من زيد بن الحباب؛ لأن ابن أبي شيبة رواه في المصنف (1/163) عن زيد بن الحباب، عن عبد الوهاب، عن المهاجر، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة به كرواية الجماعة، فلم يذكر خالداً الحذاء، ولم يذكر الأثر الموقوف، فظهر أن الخطأ ليس من زيد بن الحباب، وإنما هو من الحسن بن علي بن عفان، وقد قال البيهقي (1/276) : " وهذا الحديث رواه جماعة عن عبد الوهاب الثقفي، عن المهاجر أبي مخلد، ورواه زيد بن الحباب، عنه، عن خالد الحذاء، فأما أن يكون غلطاً منه، أو من الحسن بن علي، وأما أن يكون عبد الوهاب رواه على الوجهين جميعاً، ورواية الجماعة أولى أن تكون محفوظة " اهـ.(5/474)
الدليل الرابع:
أننا إذا لم نقل بغسل القدمين لزم من ذلك أن يصلي بقدمين،
لا مغسولتين، ولا ممسوح عليهما، وهذ لا يصح.
دليل المالكية على وجوب غسل القدمين مباشرة.
دليل المالكية هو دليل الحنفية إلا أنهم اشترطوا أن يغسل رجليه(5/475)
مباشرة؛ لإن الموالاة عندهم شرط، وتسقط مع العذر، وكونه يوجد فاصل طويل بين أول الطهارة، وبين غسل الرجلين يعتبرون هذا من العذر الذي يسقط الموالاة، فإذا خلع خفيه وجب غسلهما فوراً؛ لأنه ليس هناك عذر في تأخير الموالاة، فلو نسي غسل قدميه فيبني باعتبار أن النسيان عذر، فالفرق بين قول الحنفية والمالكية، أن المالكية يشترطون الموالاة إلا من عذر، بخلاف الحنفية، فليست شرطاً عندهم.
دليل الحنابلة على بطلان الطهارة.
لا أعلم لهم دليلاً، ولكن لهم تعليل، يقولون: إن المسح أقيم مقام الغسل، فإذا زال المسح بطلت الطهارة في القدمين، وإذا بطلت في بعض الأعضاء، بطلت في جميعها؛ لأن الطهارة لا تتبعض. والقول عند الحنابلة ليس مبنياً على اشتراط الموالاة بين غسل الرجلين، وما قبلهما من أعضاء الوضوء حتى يقال: إذا غسل رجليه مباشرة هل تتحقق الموالاة أم لا، ولذلك لو توضأ، ومسح على قدميه، وقبل جفاف أعضاء الوضوء خلع خفيه، بطلت طهارته عندهم، ولا يقال: ما دام الأعضاء لم تجف اغسل قدميك؛ لأن الموالاة متحققة هنا بلا خلاف، فالعلة عندهم أنه بخلع أحد الخفين عاد الحدث إلى الرجل، فيسري إلى بقية الأعضاء، وإذا سرى وجب الاستئناف، ولو قرب الزمن، وهذا القول قد اختاره بعض التابعين.
(138) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي،
عن مكحول والزهري، قالا: إذا مسح، ثم خلع، قالا: يعيد(5/476)
الوضوء (1) .
[وهذا سند صحيح إليهما]
(139) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل،
عن ابن سيرين، قال: يعيد الوضوء (2) .
[وهذا سند صحيح إلى ابن سيرين]
دليل من قال طهارته صحيحة.
الدليل الأول:
(140) ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال:
رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما. زاد البيهقي: ثم تقدم، فأم الناس.
[سنده صحيح] (3) .
وهذا الفعل من خليفة راشد، وهو ممن أمرنا باتباع سنته.
الدليل الثاني:
أن هذا الرجل قد تطهر الطهارة الشرعية، وعليه خفاه، وحكمنا بطهارته، وطهارته ثابتة بمقتضى الدليل الشرعي الصحيح، فلا تنتقض طهارته بخلع خفيه إلا بدليل شرعي مثله أو إجماع، ولا دليل هنا.
_________
(1) المصنف (1/170) .
(2) المصنف (1/171) .
(3) سبق تخريجه في مسألة المسح على النعلين.(5/477)
الدليل الثالث:
أن خلع الخف ليس حدثاً حتى يعتبر ناقضاً للطهارة الثابتة، فليس من الأحداث المتفق عليها، ولا المختلف فيها، وإذا لم يكن حدثاً بقي طاهراً حتى يحدث.
الدليل الرابع:
أن هذا القول هو مقتضى القياس الصحيح، فلو كان على رجل شعر كثيف، ثم مسح شعره بحيث لا يصل إلى بشرة الرأس، ثم حلق شعره، لم تنتقض طهارته مع زوال الممسوح، فكذلك خلع الخفين.
ولابن حزم مناقشة جيدة للأئمة الأربعة إلا أني كرهت نقلها حرفياً لما فيها من الألفاظ القاسية التي لا تليق في مناقشة المخالف فضلاً عن الأئمة، لذا رأيت أن اختار منها، وعفى الله عن ابن حزم، فقد كان معظماً للدليل، متبعاً له، على قسوة في عبارته غير مناسبة، قال ما معناه مناقشاً لمذهب المالكية والحنفية: أما القول بغسل الرجلين فقط، فهو باطل متيقن؛ لأنه قد كان بإقرارهم قد تم وضوؤه، وجازت له الصلاة، ثم يأمرونه بغسل الرجلين فقط، ولا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما:
إما أن يكون الوضوء الذي قد تم، قد بطل أو لم يبطل. فإن كان لم يبطل، فهذا قولنا. وإن كان قد بطل فعليه أن يبتدئ الوضوء، وإلا فمن المحال أن يكون وضوء قد تم، ثم ينتقض بعضه، ولا ينتقض البعض الآخر (1) .
_________
(1) المحلى (1/329،330) .(5/478)
الفصل الثاني
إذا ظهر بعض محل الفرض
ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته(5/479)
[صفحة فارغة](5/480)
الفصل الثاني
إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته
إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف، فهل يبطل مسحه أم لا؟
فقيل: إن خرج أكثر عقبه بطل مسحه، وهو مذهب أبي حنيفة (1) .
وقيل: إن نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع، انتقض مسحه، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (2) .
وقيل: إن بقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع، لم يبطل، لبقاء محل المسح، وهو اختيار محمد بن الحسن (3) .
وقيل: إن خرج أكثر القدم لساق الخف انتقض، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية (4) .
_________
(1) المبسوط (1/105) ، شرح فتح القدير (1/154) بدائع الصنائع (1/13) ، تبيين الحقائق (1/50) ، العناية شرح الهداية (1/154) .
(2) اختلف النقل عن أبي يوسف، فبدائع الصنائع (1/13) وشرح فتح القدير (1/154) والعناية شرح الهداية (1/154) نقلوا أن مذهب أبي يوسف إن خرج أكثر القدم من الخف انتقض، وإلا فلا.
ونقل السرخسي في المبسوط (1/105) أن قول أبي يوسف إن نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع انتقض مسحه. فينبغي أن يحرر قول أبي يوسف، وإن الأكثر أرجح.
(3) المبسوط (1/105) ، بدائع الصنائع (1/13) .
(4) نص المدونة أن المسح يبطل إن نزع كل القدم لساق الخف، واختلف أصحاب مالك في الأكثر، فقال الجلاب: والأكثر كالكل، وقيل: لا. وهذا نص المدونة (1/144) :
" قال مالك: فيمن نزع خفيه من موضع قدميه إلى الساقين، وقد كان مسح عليهما حين توضأ: إنه ينزعهما، ويغسل رجليه بحضرة ذلك، وإن أخر استأنف الوضوء، قال: وإن خرج العقب إلى الساق قليلاً، والقدم كما هي في الخف فلا أرى عليه شيئاً، قال وكذلك إن كان واسعاً، فكان العقب يزول، ويخرج إلى الساق، وتجول القدم إلا أن القدم كما هي في الخفين، فلا أرى عليه شيئاً ".
قال في الشرح الكبير (1/145) : " والمعتمد: أن نزع أكثر القدم لا يبطل المسح، ولا يبطله إلا نزع كل القدم لساق الخف، خلافاً لمن قاس الجل على الكل التابع له ".
وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/157) : " وحاصله أن المدونة قالت: وبطل المسح بنزع كل القدم لساق الخف. قال الجلاب: والأكثر كالكل. قال الأجهوري: والأظهر أنه مقابل المدونة. وقال (ح) : إنه تفسير له " اهـ.(5/481)
وقيل: لو أخرجها من قدم الخف إلى الساق لم يؤثر إلا إذا كان الخف طويلاً خارجاً عن العادة، فأخرج رجله إلى موضع لو كان الخف معتاداً لظهر شيء من محل الفرض بطل مسحه، وهو مذهب الشافعية (1) ، ورواية عن أحمد (2) .
وقيل: تبطل طهارته، وهو مذهب الحنابلة (3) .
والصحيح أن طهارته لا تبطل سواء ظهر بعض القدم أو خلع الخف، وهو مذهب ابن حزم (4) ، ورجحه ابن تيمية (5) .
_________
(1) المجموع (1/559) .
(2) ذكره ابن قدامة في المغني (1/178) : أن أبا الخطاب حكى قول الشافعي رواية عن أحمد في رؤوس المسائل ".
(3) المغني (1/178) ، الفروع (1/169) ، الإنصاف (1/190) ، الكافي (1/38) ، الروض المربع (1/291) .
(4) المحلى (1/340،341) .
(5) الإنصاف (1/190) ، الاختيارات (ص: 15) ، مجموع الفتاوى (21/215) .(5/482)
دليل من قال تبطل الطهارة بظهور أكثر القدم.
التعليل الأول:
أن للأكثر حكم الكل، فإذا ظهر أكثر القدم، فكما لو ظهر القدم كله، فإذا كانت تبطل الطهارة بظهور القدم كله بطلت بظهور أكثر القدم.
التعليل الثاني:
أن المشي يتعذر بخروج أكثر القدم، فالمقصد من لبس الخف هو المشي عليه، فإذا تعذر المشي انعدم اللبس فيما قصد له.
التعليل الثالث:
قالوا: إن الاحتراز عن خروج القليل متعذر؛ لأنه ربما يحصل دون قصد، كما إذا كان الخف واسعاً إذا رفع القدم يخرج العقب، وإذا وضعها عادت العقب إلى مكانها، فلو قلنا بنقض المسح في مثله وقع الناس في الحرج، بخلاف الكثير فإن الاحتراز عنه ليس بمتعذر.
وحيث قلنا: بطل مسحه - يعني: حكم خلع الخف، فإن كان محدثاً استأنف الطهارة، وإن كان طاهراً غسل قدميه، وكفى كما سبق في المسألة السابقة - والله أعلم.
دليل من قال تبطل طهارته بظهور أكثر العقب.
دليلهم هو نفس دليل القول السابق، من أنه لا يمكن المشي بهذه الصفة. ولأن الأكثر له حكم الكل.
دليل من قال إذا نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع بطل مسحه.
الحنفية يقدرون الكثير بثلاثة أصابع، فالخرق في الخف إن ظهر منه مقدار ثلاثة أصابع لم يصح المسح عليه، والمسح على الخف يجزئ فيه إن مسح بثلاثة أصابع، وعليه إن نزع من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع لم يصح(5/483)
المسح عندهم، وهذا القول ضعيف؛ لأنه يقابل بقول محمد بن الحسن إن بقي مقدار ثلاثة أصابع من القدم، لم تنتقض الطهارة، لبقاء محل المسح.
الدليل على قول محمد بن الحسن.
قال: لو قطعت رجله، وبقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع فلبس عليه الخف جاز له أن يمسح، فكذلك إذا نزع الخف، وبقي منه مقدار ثلاثة أصابع لم يبطل المسح، لبقاء محله.
دليل الشافعية.
قالوا: إن من نزع الخف من قدم الخف إلى الساق، لم يبطل المسح؛ لأنه لم تظهر الرجل من الخف.
دليل من قال تبطل طهارته مطلقاً.
ذكرنا دليلهم في مسألة خلع الخف، فانكشاف بعض القدم، ولو كان من خرق يسير، حكمه حكم نزع الخف عندهم، وقد قدمنا دليل الحنابلة في إبطال طهارة من نزع خفه.
قال ابن حزم في مناقشة هذه الأقوال:
" أما من قال: إن الحكم يتعلق بأكثر القدم، فهم ليس لهم قول مطرد باعتبار الأكثر، فمرة الكثير أكثر من النصف، ومرة الثلث، ومرة الربع، ومرة شبراً في شبر، ومرة أكثر من قدر الدرهم، وهذا لا دليل عليه من قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا قول صاحب، ولا رأي مطرد.
وأما فرق مالك رحمه الله بين إخراج العقب إلى موضع الساق، فلاينتقض المسح، وبين إخراج القدم كلها إلى موضع الساق فينتقض المسح، فتحكم أيضاً لا يجوز القول به، ولا يوجبه قرآن ولا سنة صحيحة، ولا رأي مطرد؛ لأنه يرى أن بقاء العقب في الوضوء لا يطهر، وإن فاعل ذلك لا(5/484)
وضوء له، فإن كان المسح قد انتقض عن الرجل بخروجها عن موضع القدم، فلا بد من انتقاض المسح عن العقب بخروجها عن موضعها إلى موضع الساق، لا يجوز غير ذلك، وإن كان المسح لا ينتقض عن العقب بخروجها إلى موضع الساق؛ فإنه لا ينتقض أيضاً بخروج القدم إلى موضع الساق، كما قال الشافعي.
وأما تفريقهم جميعهم بين المسح على الخفين، ثم يخلعان فينتقض المسح، ويلزمه اتمام الوضوء، وبين الوضوء ثم يجز الشعر، وتقص الأظفار فلا ينتقض الغسل عن مقص الأظفار، ولا المسح على الرأس ففرق فاسد ظاهر التناقض، ولو عكس إنسان هذا القول، فأوجب مسح الرأس على من حلق شعره، ومس مجز الأظفار بالماء، ولم ير المسح على من خلع خفيه لما كان بينهما فرق.
وما وجدنا لهم في ذلك متعلقاً أصلاً إلا أن بعضهم قال: وجدنا مسح الرأس وغسل القدمين في الوضوء إنما قصد به الرأس لا الشعر، وإنما قصد به الأصابع لا الأظفار، فلما جز الشعر وقطعت الأظفار بقي الوضوء بحسبه، وأما المسح فإنما قصد به الخفان، لا الرجلان، فما نزعت بقيت الرجلان لم توضآ، فهو يصلي برجلين لا مغسولتين ولا ممسوح عليهما، فهو ناقص الوضوء.
قال ابن حزم: وهذا لا شيء؛ لأنه باطل وتحكم بالباطل، فلو عكس عليه قوله، فقيل له: بل المسح على الرأس وغسل الأظفار إنما قصد به الشعر والأظفار فقط، بدليل أنه لو كان على الشعر حناء، وعلى الأظفار كذلك لم يجز الوضوء، وأما الخفان فالمقصود بالمسح القدمان لا الخفان؛ لأن(5/485)
الخفين لولا القدمان لم يجز المسح عليهما، فصح أن حكم القدمين الغسل، وإن كانتا مكشوفتين، والمسح إن كانتا في خفين، لما كان بين القولين فرق.
ثم يقال لهم: هبكم أن الأمر كما قلتم في أن المقصود بالمسح الخفان، وبالمسح في الوضوء الرأس، وبغسل اليدين للأصابع لا للأظفار، فكان ماذا؟
أو من أين أوجب مِنْ هذا أن يعاد المسح بخلع الخفين، ولا يعاد بحلق الشعر؟
قال علي: فظهر فساد هذا القول.
وأما قولهم: إنه يصلي بقدمين لا مغسولتين، ولا ممسوح عليهما فباطل، بل ما يصلي إلا على قدمين ممسوح على خفين عليهما. فبطل هذا القول كما بينا. الخ كلامه رحمه الله (1) .
فالراجح: أن خلع الخفين أو بعضهما، أو بعض الخف ليس بحدث، ولا تنتقض الطهارة، ولكن لا يمسح عليهما إذا أعاد لبسهما إلا على طهارة مائية، فالرسول b أذن أن يبقى الخف على القدم إذا لبس على طهارة مائية ليمسح يوماً وليلة، وخلعها ليس حدثاً ناقضاً للطهارة، لكنه ينهي مدة المسح فيما يستقبل، ويحتاج إلى إعادة اللبس على طهارة مائية، ولو كانت إعادة لبسه ممكنة ليمسح على طهارة ممسوح عليها لم يكن للتوقيت فائدة، فقبل تمام يوم وليلة أخلع الخف، ثم أعيد لبسه لأستأنف مدة أخرى، فتذهب الحكمة من التوقيت، لكن إذا اشترطنا إعادة الخف بطهارة مائية كما لبس في الطهارة الأولى، لم نتحايل على إسقاط التوقيت، والله أعلم بالصواب.
_________
(1) المحلى (1/340،341) .(5/486)
الفصل الثالث
إذا انتهت مدة المسح فهل يستأنف الوضوء(5/487)
[صفحة فارغة](5/488)
الفصل الثالث
إذا انتهت مدة المسح فهل يستأنف الوضوء؟
إذا انتهت مدة المسح، يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر فما الحكم؟
فقيل: يكفيه غسل رجليه، وهو مذهب الحنفية (1) ، والراجح في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: يستأنف الوضوء، وهو المشهور في مذهب الحنابلة (3) ، والقول القديم في مذهب الشافعية (4) .
وقيل: لا تبطل طهارته بانتهاء مدة المسح، وهو اختيار ابن حزم (5) ، ورجحه ابن تيمية (6) . وهو الصحيح.
وأما المالكية فالمشهور في مذهبهم أن المسح غير مؤقت. وقد سبق ذكر الخلاف (7) .
_________
(1) مراقي الفلاح (ص: 55) ، الاختيار لتعليل المختار (1/25) ، بدائع الصنائع (1/12) ، المبسوط (1/102،103) ، تبيين الحقائق (1/51) .
(2) قال النووي في المجموع (1/557) : " في مذهبنا قولان: أصحهما يكفيه غسل القدمين ". وانظر المجموع (1/553) وروضة الطالبين (1/132،133) .
(3) الإنصاف (1/190) ، الفروع (1/169) ، المغني (1/177) .
(4) المجموع (1/553) .
(5) المحلى (1/321) .
(6) الاختيارات (ص: 15) .
(7) قال في التاج والإكليل (1/467) : " المسح جائز من غير توقيت لمدة من الزمان، لا يقطعه إلا الخلع، أو حدوث ما يوجب الغسل ".(5/489)
وهذا الخلاف هل هو مبني على اعتبار الموالاة، فلو أن المدة انتهت قبل جفاف الأعضاء، كفاه غسل القدمين، وجهان.
وقيل: مبني على أن المسح هل يرفع الحدث أم لا؟ وقد حرر الخلاف في هذا القول، فإن قيل: لا يرفع الحدث عن القدمين، فقد ارتفع عن الوجه واليدين والرأس، وبقي الرجلان، فيكفيه غسلهما.
وإن قلنا: يرتفع الحدث، فبالخلع عاد الحدث، والحدث لا يتبعض، فيجب إستئناف الوضوء.
وقيل: مبني على أن الطهارة لا تتبعض بالنقض، وإن تبعضت بالثبوت، كالصلاة والصيام.
دليل من قال يجب غسل القدمين.
قال السرخسي: إذا انقضى مدة مسحه، ولم يحدث، فعليه نزع خفيه، وغسل القدمين؛ لأن الاستتار كان مانعاً في المدة، فإذا انقضى سرى ذلك الحدث إلى القدمين، فعليه غسلهما، وليس عليه إعادة الوضوء، كما لو كانت السراية بخلع الخفين " (1) اهـ.
دليل من قال يجب إستئناف الوضوء.
قالوا: إن المسح أقيم مقام الغسل في المدة، فإذا انقضت المدة بطلت الطهارة في الممسوح، وإذا بطلت الطهارة في الممسوح، بطلت في سائر الأعضاء؛ لأن الحدث لا يتبعض.
_________
(1) المبسوط (1/103) .(5/490)
دليل من قال لا تبطل طهارته.
الدليل الأول:
أحاديث التوقيت للمقيم والمسافر تضمنت ابتداء وانتهاء مدة المسح، لا الطهارة، فهي تنهى أن يمسح أحدنا أكثر من يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام للمسافر، فمن قال: بأنها تدل على انتهاء مدة الطهارة، فقد قال في الحديث ما ليس فيه.
الدليل الثاني:
أن هذا الرجل قد تطهر بمقتضى الكتاب والسنة، فلا تنقض طهارته إلا بدليل من كتاب أو سنة، أو إجماع، ولا دليل هنا.
الدليل الثالث:
أن الطهارة لا ينقضها إلا حدث، وهذا قد صحت طهارته، ولم يحدث، فهو طاهر، وانتهاء مدة المسح ليس حدثاً حتى يحكم ببطلان طهارته، والأصل بقاء الطهارة.
الدليل الرابع:
(141) استدل بعض مشايخنا بما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب ح
وعن عباد بن تميم، عن عمه أنه شكا إلى رسول الله b الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (137) ومسلم (361) .(5/491)
وجه الاستدلال:
قال: لم يوجب النبي b الوضوء إلا على من تيقن سبب وجوبه، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكاً فيه من حيث الواقع كما في الحديث، أو من حيث الحكم الشرعي، فإن كلاً فيه جهالة، هذا جهالة بالواقع، هل حصل أم لم يحصل، وهذا جاهل بالشرع، هل يوجبه أو
لايوجبه، فالحديث دال على أن الوضوء لا ينتقض إلا باليقين، وهنا لا يقين.
الدليل الخامس:
القياس على من خلع خفه.
(142) فقد روى ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال:
رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما. زاد البيهقي: ثم تقدم، فأم الناس.
[سنده صحيح] (1) .
فإذا كان من خلع خفه لا تنتقض طهارته على الصحيح، فكذلك إذا خلع الخف لانتهاء مدة المسح، ولا فرق.
وهذا القول قد اختاره ابن المنذر، وقواه النووي، ورجحه ابن حزم، وابن تيمية، وهو الصحيح.
_________
(1) سبق تخريجه في مسألة المسح على النعلين.(5/492)
الفصل الرابع
يبطل المسح مع وجود الحدث الأكبر(5/493)
[صفحة فارغة](5/494)
الفصل الرابع
يبطل المسح مع وجود الحدث الأكبر
والمقصود من بطلان المسح انتهاء مدته بموجب غسل ونحوه.
وهذا بالإجماع، قال النووي: " لا يجزئ المسح على الخف في غسل الجنابة، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، ولا أعلم فيه خلافاً لأحد من العلماء، وكذا لا يجزئ مسح الخف في غسل الحيض والنفاس، ولا في الأغسال المسنونة كغسل الجمعة والعيد وأغسال الحج وغيرها، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب " (1) .
وقال ابن قدامة: " جواز المسح مختص به - يعني الحدث الأصغر - ولا يجزئ المسح في جنابة، ولا غسل واجب ولا مستحب، لا نعلم في هذا خلافاً " (2) .
والدليل من السنة:
(143) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر
_________
(1) المجموع (1/505) .
(2) المغني (1/362) .
وانظر في كتب الحنفية: تبيين الحقائق (1/46) ، العناية شرح الهداية (1/152) ، شرح فتح القدير (1/152) ، البحر الرائق (1/177) ، البناية (1/586) .
وانظر في مذهب المالكية، الشرح الصغير (1/156،157) ، حاشية الدسوقي (1/145) .
وانظر في مذهب الشافعية، الأم (1/34) ، المجموع (1/505) .
وانظر في مذهب الحنابلة شرح الزركشي (1/383) ، الهداية - أبو الخطاب (1/16) ، المغني (1/362) .(5/495)
ابن حبيش، قال:
أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله b فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. الحديث (1) .
[وإسناده حسن، وسبق تخريجه] .
وسبق الإشارة إلى هذا في الكلام في الشرط الثامن من شروط المسح على الخفين، وهو كون المسح في الطهارة الصغرى.
_________
(1) المصنف (795) .(5/496)
الباب الثامن
في أحكام المسح على العمامة.
وفيه أربعة فصول(5/497)
[صفحة فارغة](5/498)
الفصل الأول
خلاف العلماء في المسح على العمامة
اختلف العلماء في المسح على العمامة،
فقيل: لا يجوز، هو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ،
والشافعية (3) .
_________
(1) المبسوط (1/101) ، تبيين الحقائق (1/52) ، شرح فتح القدير (1/157) ، البحر الرائق (1/193) ، الفتاوى الهندية (1/6) ، حاشية ابن عابدين (1/272) .
(2) جاء في المدونة (1/124) : " وقال مالك في المرأة تمسح على خمارها أنها تعيد الصلاة والوضوء " اهـ. وفي المنتقى للباجي (1/75) " سئل مالك عن المسح على العمامة والخمار، فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة على عمامة ولا خمار، وليمسحا على رؤسهما ".
وجوز المالكية المسح على العمامة إذا كان يتضرر بنزعها، والحقيقة أن هذا لا يعتبر قولاً في المسح على العمامة، لأنه إذا كان يتضرر بنزعها أصبحت في حكم الجبيرة، ولذلك لم أعتبره قولاً؛ لأننا نقصد بالمسح على العمامة المسح عليها إذا لبسها مختاراً من غير ضرورة كالمسح على الخف. انظر: مختصر خليل (ص: 19) ، والتاج والإكليل (1/532) ، مواهب الجليل (1/207) ، حاشية الدسوقي (1/163،164) .
(3) الأم (7/29) ، ويرى النووي أنه لا يجوز المسح على العمامة وحدها، وإذا كان على رأسه عمامة، ولم يرد نزعها، مسح بناصيته، والمستحب أن يتمم المسح على العمامة، انظر حاشية الجمل (1/128) ، أسنى المطالب (1/41) ، المجموع (1/439) . والحقيقة ليس في هذا قول بالمسح على العمامة؛ لأن الفرض عندهم المسح على الناصية، وهو وحده كاف في إسقاط الفرض، ولو اقتصر على العمامة لم يصح وضوؤه. فمحصلة هذا القول أنه لا يجوز المسح على العمامة وحدها، ولذلك لم أجعل هذا قولاً برأسه، لأن النتيجة أنهم لا يرون المسح على العمامة، ولو كانوا يرون المسح على العمامة لجاز الاقتصار عليها وحدها، ولم يشترطون في الجواز مسح الناصية معها. والله أعلم.(5/499)
وقيل: يجوز، اختاره الثوري (1) ، والأوزاعي (2) ، وهو المشهو من مذهب الحنابلة (3) ، وهو مذهب الظاهرية (4) ، وهو الصحيح.
دليل الحنابلة على الجواز.
الدليل الأول:
(144) ما روا هـ مسلم، قال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن حاتم جميعاً، عن يحيى القطان، قال ابن حاتم: حدثنا يحيى بن سعيد، عن التيمي، عن بكر بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه. قال بكر: وقد سمعت من ابن المغيرة،
أن النبي b توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين (5) .
_________
(1) أحكام القرآن ـ الجصاص (2/495) .
(2) المرجع السابق.
(3) قال عبد الله في مسائل الإمام أحمد (1/124) : " سألت أبي عن الرجل يمسح على العمامة؟ قال: لا بأس به. اهـ وانظر مسائل أحمد رواية ابن هاني (1/18) ، ورواية صالح (579،1051) ، ورواية أبي داود (49،50) والفروع (1/162) ، الإنصاف (1/185) ، المغني (184) ، كشاف القناع (1/112) .
(4) نسبه لدواد الظاهري الحطاب في مواهب الجليل (1/207) .
وقال ابن حزم في المحلى (1/303) : " وكل ما لبس على الرأس من عمامة، أو خمار، أو قلنسوة، أو بيضة، أو مغفر، أو غير ذلك: أجزأ المسح عليه، المرأة والرجل سواء في ذلك، لعلة أو غير علة " اهـ.
(5) مسلم (83 ـ 274) .(5/500)
اعتراض وجواب.
قالوا: إن الفرض مسحه على الناصية، وأما مسحه على العمامة فمن أجل سنة الاستيعاب، ولو ترك المسح على العمامة أجزأه، أما لو اقتصر بالمسح على العمامة، ولم يمسح شيئاً من رأسه لم يجزه.
وأجيب:
بأنه ثبت المسح على العمامة دون ذكر الناصية، كما سيأتي، ولم يثبت العكس، فلم يثبت أنه اقتصر في مسحه على الناصية دون العمامة.
قال ابن القيم: " لم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة" ثم قال: " وأما اقتصاره على الناصية مجردة فلم يحفظ عنه " (1) .
فإذا ثبت أنه اقتصر على العمامة في المسح، ولم يثبت أنه اقتصر على الناصية وحدها، كيف تجعل الناصية هي الفرض، والمسح على العمامة مجرد سنة، والعادة أن البعض تبع للكل، وليس الكل تبعاً للبعض فالحكم دائماً للأغلب، والقليل يتبع الكثير، والعمامة لا شك أنها أغلب الرأس، فهي الأصل.
الدليل الثاني:
(145) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية،
_________
(1) زاد المعاد (1/193) .(5/501)
عن أبيه قال: رأيت النبي b يمسح على عمامته، وخفيه.
قال البخاري: وتابعه معمر، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عمرو قال: رأيت النبي b (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (205) .
وقول البخاري: تابعه معمر: أي تابع الأوزاعي في المتن لا في الإسناد، قال الحافظ: وهذا هو السبب في سياق المصنف الإسناد ثانياً ليبين أنه ليس في رواية معمر ذكر جعفر" اهـ كلام الحافظ. وأما تخريج الحديث، فالحديث مداره على يحيى بن كثير، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه به، وله طرق إلى يحيى:
منها طريق الأوزاعي، أخرجه أحمد (4/139) ثنا محمد بن مصعب، قال: ثنا الأوزاعي، به. ومحمد بن مصعب صدوق كثير الغلط، لكنه قد توبع.
وأخرجه ابن ماجه (562) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن مصعب به.
وأخرجه أحمد أيضاً (4/179،288) ثنا أبو المغيرة، ثنا الأوزاعي به.
وأبو المغيرة ثقة، واسمه: عبد القدوس بن حجاج الخولاني من رجال الجماعة.
وأخرجه الدارمي (710) أخبرنا أبو المغيرة ثنا الأوزاعي به. قيل للدارمي: تأخذ به؟ قال: إي والله.
وأخرجه البيهقي (1/270،271) من طريق بشر بن بكر، ومن طريق أبي المغيرة، ومن طريق عبد الله بن المبارك، ثلاثتهم عن الأوزاعي به.
وأخرجه ابن خزيمة (181) من طريق عبد الله بن داود، عن الأوزاعي به.
وأخرجه ابن ماجه (562) ثنا دحيم (عبد الرحمن بن إبراهيم) ومن طريق دحيم أخرجه ابن حبان (1343) ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي به.
واختلف على يحيى بن أبي كثير، فرواه عنه الأوزاعي بذكر المسح على العمامة والخفين، ورواه جماعة عن يحيى، ولم يذكروا العمامة، وإليك ذكرهم:
الأول: شيبان، كما عند البخاري (204) قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى - يعني: ابن أبي كثير - به، بلفظ: أنه رأى النبي b يمسح على الخفين.
ورواه ابن أبي شيبة (1/163) حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان به.
وأخرجه أحمد (4/139) حدثنا حسن بن موسى وحسين بن محمد، قالا: حدثنا شيبان به.
الثاني: حرب بن شداد، وهو ثقة، روى له الشيخان وغيرهما.
وأخرجه أبو داود الطيالسي (1254) حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير به، بلفظ: أنه رأى النبي b يمسح على الخفين.
وأخرجه النسائي (119) أخبرنا العباس بن عبد العظيم، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حرب بن شداد به.
الثالث: أبان بن يزيد العطار، وهو ثقة، قال فيه أحمد: ثبت في كل المشايخ.
أخرج روايته أحمد (4/179) ثنا يونس، حدثنا أبان، عن يحيى بن أبي كثير به، بلفظ: أنه أبصر رسول الله b يمسح على الخفين.
الرابع: علي بن المبارك، وهو ثقة، من رجال الجماعة.
أخرج روايته أحمد (4/139) ثنا أبو عامر، ثنا علي - يعني: ابن المبارك - عن يحيى به.
الخامس: معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أمية، فأسقط جعفر بن عمرو، ولم يختلف على معمر في إسناده بإسقاط جعفر، لكن رواه تارة بذكر العمامة، فيكون بهذا متابعاً للأوزاعي، ورواه مرة بذكر الخفين فقط، موافقاً لرواية الجماعة. وهذا تفصيلها:
فقد رواه عبد الرزاق (746) ، ومن طريقه أحمد (4/179) والبيهقي (1/271) عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أمية الضمري قال: رأيت رسول الله b يمسح على خفيه. اهـ وليس فيه ذكر العمامة.
قال الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (205) : " وأخرجها ابن مندة في كتاب الطهارة من طريق معمر بإثباتها - أي بإثبات المسح على العمامة - أما إسقاطه لجعفر بن عمرو، فقال الحافظ في الفتح أيضاً: سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سنة 60، وأبو سلمة مدني، لم يوصف بالتدليس، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو، وقد روى بكير بن الأشج، عن أبي سلمة، أنه أرسل إلى جعفر بن عمرو بن أميه عن هذا الحديث، فرجع إليه، فأخبره به، فلا مانع أن يكون أبو سلمة اجتمع بعمرو بعد، فسمعه منه، ويقويه توفر دواعيهم على الاجتماع بالمسجد النبوي " اهـ.
قلت: وقد توبع معمر بإسقاط جعفر بن عمرو، فقد رواه ابن حزم في المحلى (1/303) من طريق عبد الله بن أحمد، حدثني الحكم بن موسى، ثنا بشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة، حدثني عمرو بن أمية. قال ابن حزم: أبو سلمة سمعه من عمرو بن أمية سماعاً، وسمعه أيضاً من جعفر ابنه عنه " اهـ.
قلت: وتصريح أبي سلمة بالسماع من عمرو يبعد احتمال تدليسه، مع أنه لم يرم بالتدليس، وقد تفرد بشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي بإسقاط جعفر بن عمرو، وكل من رواه عن الأوزاعي لم يسقطوه، وقد سبق أن ذكرت منهم ستة حفاظ، ولم أعرف من هو بشر بن إسماعيل، فإن كان هو ابن علية، فإنه مجهول، له ترجمة في الجرح والتعديل (2/352) ، ولسان الميزان (2/20) . ولم يذكر له الحافظ شيخاً سوى أبيه، فلا يغني التصريح بالسماع إذا كان الحال كذلك، والله أعلم.
وأما زيادة الأوزاعي المسح على العمامة، فالبخاري قبلها في صحيحه، معتبرها زيادة ثقة، ونقل الحافظ في الفتح (205) عن الأصيلي، فيما حكاه ابن بطال عنه، فقال: " ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي؛ لأن شيبان وغيره رووه عن يحيى بدونها، فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحدة، قال: وأما متابعة معمر فليس فيها ذكر العمامة، وهي أيضاً مرسلة؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من عمرو... " اهـ كلامه.
قلت: أما سماع أبي سلمة من عمرو، فقد سبق الجواب عنه. وأما الجواب عن زيادة الأوزاعي بذكر العمامة، فقال الحافظ: " قد ذكرنا أن ابن مندة أخرجه من طريق معمر بإثبات العمامة فيه، وعلى تقدير تفرد الأوزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته؛ لأنها تكون زيادة من ثقة حافظ، غير منافية لرواية رفقته، فتقبل، ولا تكون شاذة، ولا معنى لرد الروايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية " اهـ.
قلت: كلام الأصيلي ليس تعليلاً واهياً، بل هو موافق لمقتضى القواعد الحديثية،
ولا نشترط في الزيادة الشاذة أن تكون منافية، وعفى الله عنك يا ابن حجر فقد كنت مضطرب المنهج في زيادة الثقة، وكلامك الذي رجحته في النكت في تعريف الشاذ يرد ما ذكرته هنا وما ذكرته في النخبة، ومنهج المحدثين مخالف لمنهج الأصوليين والفقهاء ممن لم يمارس هذا الفن. بل كم من حديث حكمت عليه في الشذوذ، ولم يكن منافياً لرواية من هو أوثق، بل يكفي مجرد المخالفة، والله أعلم.(5/502)
وجه الاستدلال:
أن الرسول b مسح هنا على العمامة، ولم يذكر الناصية، فدل على جواز الاقتصار عليها.
الدليل الثالث:
(146) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو معاوية ح
وحدثنا إسحق، أخبرنا عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة،
عن بلال أن رسول الله b مسح على الخفين والخمار (1) .
_________
(1) صحيح مسلم (84 - 275) .
وحديث بلال رواه جماعة عن بلال، منهم أبو إدريس الخولاني، ومنهم نعيم بن خمار، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
أما رواية ابن أبي ليلى، فرواه عنه الأعمش، عن الحكم بن عتيبة، عنه، واختلف على الأعمش:
فرواه عبد الله بن نمير، وعيسى بن يونس، وأبو معاوية، وعلي بن مسهر، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال.
وتابع الأعمش الليث بن سليم، فرواه عن الحكم به.
ورواه زائدة بن قدامة، وحفص بن غياث، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن بلال. فجعلا بدلاً من كعب بن عجرة البراء بن عازب، وهذا غير محفوظ كما سيأتي بيانه، وقد رواه زائدة بن قدامة عن الأعمش بمثل رواية أبي معاوية ومن ذكر معه فتابعهم على ذكر كعب بن عجرة.
ورواه الثوري، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال.
فهنا أسقط الواسطة بين ابن أبي ليلى، وبين بلال.
وتابع جماعة الأعمش في رواية الثوري عنه: وهم شعبة وزيد بن أبي أنيسة، وعبد الله ابن محرر، عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، دون واسطة بين ابن أبي ليلى وبلال، وحينئذ يصبح الحديث منقطعاً؛ لأني قد ذكرت في حديث سابق أن ابن أبي ليلى لم يسمع من بلال.
وإليك عزو الروايات السابقة بألفاظها:
أما رواية الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال. فقد رواه جماعة عن الأعمش، وهم:
الأول: أبو معاوية، وهو من أثبت الناس في الأعمش. أخرج روايته مسلم (84 - 275) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو معاوية به.
ورواه أحمد (6/12) حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/28،162) حدثنا أبو معاوية به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه أبو عوانة (1/260) .
وأخرجه النسائي (104) أخبرنا الحسين بن منصور، قال: حدثنا أبو معاوية به.
الثاني عيسى بن يونس، عن الأعمش به.
أخرجه مسلم (275) حدثنا إسحاق، أخبرنا عيسى بن يونس به. ورواه ابن ماجه (561) حدثنا هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس به. ورواه أبو عوانة (1/260) من طريق مسدد، عن عيسى بن يونس به.
الثالث: عن عبد الله بن نمير، عن الأعمش به.
أخرجه أحمد (6/14) حدثنا ابن نمير، عن الأعمش به. وأخرجه النسائي (104) أنبأنا الحسين بن منصور، قال: حدثنا عبد الله بن نمير به.
وأخرجه أبو عوانة (1/260) من طريق الحسين بن عفان وعيسى بن أحمد، كلاهما عن ابن نمير، عن الأعمش به.
وأخرجه من طريق محمد بن عبد الله بن نمير، حدثني أبي به.
الرابع: علي بن مسهر، عن الأعمش.
أخرجه الترمذي (101) حدثنا هناد، عن علي بن مسهر به.
الخامس: زائدة بن قدامة، عن الأعمش.
أخرجه ابن خزيمة (1/183) من طريق أبي أسامة، عن زائدة به. وقد روي عن زائدة بن قدامة، عن الأعمش به، فجعل بدلاً من كعب بن عجرة البراء بن عازب. والمحفوظ الأول.
وتابع ليث بن أبي سليم الأعمش بذكر كعب بن عجرة في الإسناد، إلا أنه زاد في متنه، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/168) نا يحيى بن يعلى، عن ليث، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال أن النبي b وأبا بكر وعمر كانوا يمسحون على الخفين والخمار.
وهذا السند فيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف مختلط، لكنه سند صالح في المتابعات، لكن زيادة ذكر أبي بكر وعمر في هذا الإسناد زيادة منكرة، تفرد بها ليث، وهو ممن لا يحتمل تفرده.
ورواه الثوري، عن الأعمش، وخالف فيه الجماعة، فقد رواه بإسقاط كعب بن عجرة، فقد أخرجها عبد الرزاق (736) ومن طريقه أحمد (6/15) عن سفيان، عن الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال.
والمحفوظ من رواية الأعمش ذكر كعب بن عجرة كما رواه أثبت الناس عن الأعمش أبو معاوية، وتابعه عيسى بن يونس وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر، ولعل سفيان اختلط عليه روايته عن الأعمش بروايته عن الحكم بن عتيبة مباشرة، فقد رواه الثوري وغيره كما سيأتي، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، بدون ذكر كعب، فتداخلت الروايتان على الثوري؛ لأن الثوري كما قلت تارة يروي الحديث عن الأعمش، عن الحكم، وتارة يرويه عن الحكم مباشرة، كما سيأتي تخريجها إن شاء الله تعالى.
وقيل: عن الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن بلال، فجعل البراء بدلاً من كعب بن عجرة، وذكر البراء شاذ في رواية الأعمش، بل وفي رواية غيره ممن رواه عن الحكم. رواه عن الأعمش زائدة بن قدامة وحفص بن غياث، فقد أخرجه أحمد (6/15) ثنا معاوية بن عمرو ويحيى بن أبي بكير، قالا: حدثنا زائدة، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، عن بلال، قال: كان رسول الله b يمسح على الخفين. اهـ ولم يذكر موضع الشاهد، وهو الخمار. ورجاله ثقات.
ولم يتابع زائدة أحد إلا حفص بن غياث في طريق فيه ضعف، فقد أخرجه النسائي (105) أخبرنا الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي، عن طلق بن غنام، قال: حدثنا زائدة وحفص بن غياث، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن بلال، قال: رأيت رسول الله b يمسح على الخفين.
وهذا الإسناد فيه الحسين بن عبد الرحمن. قال أبو حاتم: مجهول.
ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان ذكره في ثقاته (8/188) .
وقال أبو حاتم: مجهول. تهذيب التهذيب (2/296) .
وفي التقريب مقبول. فخالف فيه زائدة جميع من رواه عن الأعمش، كما خالف أيضاً جميع من رواه عن الحكم كشعبة وزيد بن أبي أنيسة والثوري، كما أنه قصر الحديث على المسح على الخفين، فذكر البراء في الإسناد شاذ بدون شك.
وأما تخريج رواية من رواه عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال، بدون ذكر أي واسطة بين ابن أبي ليلى وبلال، فهاك هي:
الأول: شعبة، عن الحكم. أخرجها أحمد (6/13) ثنا وكيع ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم به. رجاله ثقات.
وأخرجه النسائي (106) أخبرنا هناد بن السري، عن وكيع، عن شعبة به.
ورواه أبو داود الطيالسي (1116) قال: حدثنا الحكم، سمعت ابن أبي ليلى يحدث عن بلال، وقد سقط منه شيخ أبي داود لأن أبا دواد أصغر سناً أن يكون أدرك الحكم، فلعله رواه عن شعبة، عن الحكم، والله أعلم.
الثاني: زيد بن أبي أنيسة. أخرجه أحمد (6/14) حدثنا عبد الجبار بن محمد الخطابي، ثنا عبيد الله، عن زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم به.
وعبد الجبار ذكره ابن حبان في الثقات (8/418) ، ولم يوثقه أحد غيره، ولم يرو عنه أحد من أصحاب الكتب الستة.
وعبيد الله هو ابن عمرو الرقي، ثقة. هو راوية زيد بن أبي أنيسة. فالإسناد ضعيف.
الثالث: عبد الله بن محرر أخرجه عبد الرزاق (735) عنه قال: أخبرني الحكم به، وهذا الإسناد ضعيف جداً؛ لأن عبد الله بن محرر متروك كما في التقريب.
الرابع: الثوري، عن الحكم، وهي عند أحمد (6/13) عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن الحكم به.
الخامس والسادس: أبان بن تغلب ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كما في مسند الحميدي (150) ، قال: ثنا سفيان، ثنا أبان بن تغلب ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى به.
السابع: الأعمش، من رواية الثوري عنه.
أخرجه عبد الرزاق (1/736) ، ومن طريقه أحمد (6/15) عن سفيان، عن الأعمش، عن الحكم به.
هذا فيما يتعلق برواية الحكم، والمحفوظ منها ما رواه الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال. وهذه الرواية في صحيح مسلم، وكعب وبلال كلاهما صحابي، وأما رواية من أسقط كعب بن عجرة، فلا يضر إذا علمنا أن الراوي الذي سقط كان ثقة، فكيف إذا كان صحابياً.
وأما حديث بلال من رواية أبي إدريس عنه، فأخرجه أحمد (6/15) وابن أبي شيبة (1/162) كلاهما عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال إلا أنه ذكر الموقين بدلاً من الخفين، ولفظه: رأيت رسول الله b يمسح على الموقين والخمار.
ورواه ابن خزيمة (189) من طريق أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة به. ورجالها كلهم ثقات، وعفان من أثبت الناس في حماد
ورجح بعضهم أن هذا الإسناد منقطع يرويه أبو قلابة عن بلال، ولم يسمع منه،
لا يذكرون أبا إدريس بينهما، واختلف على أبي إدريس، فقد جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/39) قال: سألت أبي عن حديث رواه هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك الأشجعي، عن النبي b أنه بالمسح بتبوك للمسافر ثلاثاً، وللمقيم يوم وليلة وثبت.
ورواه الوليد بن مسلم، عن إسحاق بن سيار، عن يونس بن ميسرة بن حليس، عن أبي إدريس، قال: سألت المغيرة بن شعبة عن ماحصر عن رسول الله b بتبوك، فبال النبي b فمسح على خفيه.
قلت: ورواه خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن إبي إدريس، عن بلال، عن النبي b أنه مسح على الخفين والخمار. قلت لأبي: أيهم أشبه وأصح؟
فقال أبي: داود بن عمرو، وليس بالمشهور، وكذلك إسحاق بن سيار ليس بالمشهور، لم يرو عنه غير الوليد، ولا نعلم روى أبو إدريس عن المغيرة بن شعبة شيئاً سوى هذا الحديث، وأما حديث خالد فلا أعلم أحداً تابع خالداً في روايته عن أبي قلابة، ويروونه عن أبي قلابة، عن بلال، عن النبي b مرسلاً لايقول: أبو إدريس. وأشبههما حديث بلال؛ لأن أهل الشام يروون عن بلال هذا الحديث في المسح من حديث مكحول وغيره، ويحتمل أن يكون أبو إدريس قد سمع من عوف والمغيرة أيضاً؛ فإنه من قدماء تابعي أهل الشام وله إدراك حسن اهـ.
وذكر البخاري في التاريخ الكبير هذا الاختلاف على أبي إدريس في ترجمة إسحاق بن سيار، فقال البخاري (1/390) : إسحاق بن سيار، سمع يونس بن ميسرة الشامي سمع أبا إدريس الخولاني، سألت المغيرة بن شعبة بدمشق، قال: وضأت النبي b بتبوك، فمسح على خفيه، قاله لي سليمان بن عبد الرحمن، عن الوليد بن مسلم.
وقال هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن عوف بن مالك، قال: جعل النبي b المسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثاً للمسافر ويوماً للمقيم، قال أبو عبد الله: إن كان هذا محفوظاً، فإنه حسن. وقال حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس، عن بلال مسح النبي b، وقال غير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن بلال مرسل اهـ.
وأما رواية نعيم بن خمار، عن بلال. فأخرجها عبد الرزاق (737) ومن طريقه أحمد (6/13) عن محمد بن راشد، قال: حدثني مكحول، عن نعيم بن خمار، أن بلالاً أخبره أن رسول الله b قال: امسحوا على الخفين وعلى الخمار ".
وهذا إسناد حسن، ونعيم بن خمار صحابي. ورواه أحمد (6/12) ثنا هشام بن سعيد، كما رواه أحمد أيضاً (6/12،13) ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم كلاهما ثنا محمد بن راشد به.
كما رواه أحمد أيضاً (6/14) حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا محمد بن راشد به. وهذه الرواية قولية، والمحفوظ من حديث بلال أنه فعلي.
وأما رواية أبي عبد الرحمن السلمي، عن بلال، فأخرجها أحمد (6/13) حدثنا محمد ابن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن أبي عبد الله، عن أبي عبد الرحمن، قال: كنت قاعداً مع عبد الرحمن بن عوف فمر بلال، فسأله عن المسح على الخفين، فقال: كان رسول الله b يقضي حاجته، فآتيه بالماء، فيتوضأ، فيمسح على العمامة، وعلى الخفين.
وأخرجه أبو داود (153) عن عبيد الله بن معاذ، ومن طريق عبيد الله أخرجه الحاكم (1/170) عن أبيه، عن شعبة به.
وأخرجه أحمد (6/13) عن محمد بن أبي بكر وعبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبي بكر بن حفص بن عمر، عن أبي عبد الرحمن، عن أبي عبد الله، أنه سمع عبد الرحمن بن عوف يسأل بلالاً، فذكره.. وانقلب الإسناد على ابن جريج، فظنه عن أبي عبد الرحمن، عن أبي عبد الله، والصواب العكس، كما في رواية شعبة.
وأبو عبد الله مولى بني تميم مجهول العين، لم يرو عنه أحد إلا أبو بكر بن حفص، ولم يوثقه أحد، فالإسناد ضعيف.(5/505)
وجه الاستدلال:
أن بلالاً هنا نقل المسح على الخمار - يعني: العمامة - ولم يذكر أنه مسح معها شيئاً آخر مما يدل على جواز المسح على العمامة، ولاقتصار(5/511)
عليها، وهذا وجه الشاهد.
الدليل الرابع:
(147) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد،
عن ثوبان، قال: بعث رسول الله b سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي b شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (1) .
[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (2) .
الدليل الخامس:
(148) حديث سلمان، رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا داود ابن الفرات، قال: حدثنا محمد بن زيد العبدي، عن أبي شريح، عن أبي مسلم مولى يزيد بن صوحان، قال:
رأيت سلمان الفارسي، ورأى رجلاً يريد أن ينزع خفيه في الوضوء، فأمره سلمان أن يمسح على خفيه وعمامته وشعره، وقال سلمان: رأيت رسول الله b يمسح على خماره وخفيه (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) المسند (5/277) .
(2) سبق تخريجه.
(3) مسند أبي داود الطيالسي (656) .
(4) وأخرجه أحمد (5/439) قال: ثنا عبد الصمد، ثنا داود يعني بن أبي الفرات به. وأخرجه أحمد أيضاً (5/440) حدثنا عبد الرحمن المقرئ وعفان، قالا: ثنا داود بن أبي الفرات به.
ورواه ابن أبي شيبة (1/29) ومن طريقه ابن ماجه (563) عن يونس بن محمد، عن داود بن أبي الفرات به.
وأخرجه ابن حبان (1344) من طريق أبي الوليد الطيالسي، قال: حدثنا داود بن أبي الفرات به.
وأخرجه الطبراني (6164،6165،6166) من طريق داود بن أبي الفرات به.
وفي إسناده أبو مسلم مولى زيد بن صوحان، جاء في ترجمته:
قال أبو حاتم الرازي: لا بأس به، صالح الحديث. الجرح والتعديل (7/256) .
وذكره ابن حبان في الثقات. (7/424) .
وقال الدارقطني: ليس بالقوي. الكاشف (4860) .
وفي التقريب: مقبول. يعني: إن توبع، وإلا فلين.
ـ وفيه أبو شريح، ذكره ابن حبان في الثقات (7/660) ، ولم يوثقه أحد سواه، وفي الميزان: لا يعرف. وفي التقريب: مقبول.(5/512)
الدليل السادس:
(149) ما رواه الطبراني في المعجم الصغير، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود النضري، حدثنا عمر بن شبة النميري، حدثنا حرمي بن عمارة، حدثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الرحمن بن عبد القارىء،
عن أبي طلحة، أن النبي b توضأ، فمسح على الخفين والخمار.
قال الطبراني: لم يروه عن شعبة إلا حرمي تفرد به عمر بن شبة (1) .
_________
(1) المعجم الصغير (2/95) .(5/513)
[إسناده حسن إن كان شيخ الطبراني ليس ضعيفاً] (1) .
_________
(1) دراسة الإسناد:
ـ محمد بن الفضل بن الأسود النضري، شيخ الطبراني لم أقف عليه.
ـ عمر بن شبة النميري، جاء في ترجمته:
قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق، صاحب عربية وأدب، وسئل أبي عنه، فقال: نميري صدوق. الجرح والتعديل (6/116) .
وقال ابن حبان: مستقيم الحديث، وكان صاحب أدب وشعر وأخبار ومعرفة بتاريخ الناس. الثقات (8/446) .
وقال الخطيب: كان ثقةً عالماً بالسير وأيام الناس، وله تصانيف كثيرة. تاريخ بغداد (11/208) .
وقال الدارقطني: ثقة. المرجع السابق.
وقال مسلمة: ثقة. تهذيب التهذيب (7/404) .
وفي التقريب: صدوق له تصانيف.
ـ حرمي بن عمارة. جاء في هدي الساري.
قال أبو حاتم: هو صدوق، وقال: ليس هو في عداد يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغندر، وهو مع عبد الصمد بن عبد الوارث ووهب بن جرير وأمثالهما. الجرح والتعديل (3/307) .
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين عن حرمي بن عمارة بن أبي حفصة كيف هو؟ قال: صدوق. المرجع السابق.
وقال أحمد بن محمد: قال أبو عبد الله - يعني ابن حنبل - في حرمي بن عمارة كلاماً معناه أنه صدوق، ولكن كانت فيه غفلة، فذكرت له عن علي بن المديني، عن حرمي بن عمارة، عن شعبة، عن قتادة وأنس، من كذب.... فأنكره. ضعفاء العقيلي (1/270) .
وفي التقريب صدوق يهم.
ـ يحيى بن جعدة.
قال فيه ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال حجازي ثقة. الجرح والتعديل (9/133) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/520) .
وقال النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (11/169) . وبقية الإسناد ثقات مشهورون. فالإسناد حسن إن كان شيخ الطبراني ليس ضعيفاً، وهذا هو الظاهر إن شاء الله تعالى لإمرين:
الأول: أنه لم يذكر في لسان الميزان.
والثاني: أن الهيثمي رواه في المجمع، وقال (1/255،256) : " رجاله موثوقون ".(5/514)
الدليل السابع:
(150) ما رواه الخطيب، قال: أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدى، أخبرنا محمد بن مخلد العطار، حدثنا عباس بن أبي طالب، حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا أبو شهاب، عن عاصم،
عن أنس أن النبي b كان يمسح على الموقين والخمار (1) .
[عاصم الأحول لم يسمع من بلال] (2) .
_________
(1) تاريخ بغداد (12/141) .
(2) دراسة الإسناد:
ـ عبد الواحد بن مهدي، شيخ الخطيب، ترجم له في تاريخه، وقال: كان ثقة، أميناً. انظر تاريخ بغداد (11/13ـ14) ، وسير أعلام النبلاء (17/221) .
ـ محمد بن مخلد العطار إمام حافظ ثقة قدوة، وكان مشهوراً بالديانة، مذكوراً بالعبادة، انظر تاريخ بغداد (3/310ـ311) ، وسير أعلام النبلاء (15/256-257) .
ـ عباس بن أبي طالب، اسمه: عباس بن جعفر بن عبد الله بن الزبرقان البغدادي، روى له ابن ماجه، قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي ببغداد، وهو ثقة، سئل أبي عنه، فقال: بغدادي صدوق. الجرح والتعديل (6/215) .
وذكره ابن حبان في الثقات (8/513) .
وقال عبد الله بن إسحاق المدائني: حدثنا عباس بن أبي طالب، وكان ثقة. تهذيب التهذيب (5/101) . وفي التقريب: صدوق.
ـ أبو شهاب الحناط، اسمه عبد ربه بن نافع الكناني. جاء في هدي الساري (ص:585) : وثقه ابن معين وابن نمير وابن سعد والبزار والعجلي، وقال أحمد: ما بحديثه بأس. وقال يعقوب بن شيبة: تكلموا في حفظه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الساجي: صدوق يهم في حديثه. وقال القطان: لم يكن بالحافظ، وقد روى له الجماعة إلا الترمذي، قال ابن حجر: والظاهر أن من ضعفه إنما هو بالنسبة إلى غيره من أقرانه، كأبي عوانة وأنظاره " اهـ.
وفي التقريب: صدوق يهم. وفي الكاشف: صدوق.
ورواه البيهقي (1/289) من طريق علي بن عبد العزيز، عن الحسن بن الربيع به.
ويشكل عليه ما جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/73) قال: سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن الربيع، عن أبي شهاب، عن عاصم، عن أنس، عن النبي b في المسح على الخفين. قال أبي: هذا خطأ، إنما هو عاصم، عن راشد بن نجيح، قال: رأيت أنساً مسح على الخفين فعله " اهـ.
ورواه الطبراني في الأوسط (4664) حدثنا عبد الرحمن بن عمرو أبو زرعة، قال: حدثنا علي بن عياش الحمصي، قال: ثنا علي بن الفضل بن عبد العزيز الحنفي، قال: حدثنا سليمان التيمي، عن أنس بن مالك، قال: وضأت رسول الله b قبل موته، فمسح على العمامة والخفين.
رجاله كلهم ثقات إلا علي بن الفضيل، ذكره ابن حجر تمييزاً في تهذيب التهذيب، فقال: شيخ لبقية، روى عن سليمان التيمي. ولم أقف على أحد وثقه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/255) لم أجد من ذكره.
وقال صاحب كتاب (الهداية في تخريج أحاديث البداية) : أخرجه هلال بن العلاء الباهلي، في جزئه، حدثنا أبي، ثنا بقية بن الوليد، عن علي بن المفضل - قلت: الصواب ابن فضيل - سمعت سليمان التيمي يقول: سمعت أنس بن مالك يقول... وذكر الحديث.(5/515)
الدليل الثامن:
(151) ما رواه الطبراني في الأوسط، من طريق جعفر النفيلي، ثنا(5/516)
عفير بن معدان، عن سليم بن عامر،
عن أبي أمامة، أن رسول الله b مسح على الخفين والعمامة في غزوة تبوك (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل التاسع: من الآثار.
(152) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية وابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، قال:
رأيت أبا بكر يمسح على الخمار (3) .
_________
(1) مجمع البحرين (459) .
(2) فيه عفير بن معدان روى له الترمذي وابن ماجه،
قال أبو حاتم: قال دحيم: عفير بن معدان ليس بشيء، لزم الرواية عن سليم بن عامر وشبهه بجعفر بن الزبير وبشر بن نمير. الجرح والتعديل (7/36) .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن عفير بن معدان، فقال: هو ضعيف الحديث، يكثر الرواية عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة، عن النبي b بالمناكير ما لا أصل له، لا يشتغل بروايته. المرجع السابق.
وقال عباس - يعني الدوري -: سمعت يحيى قال: عفير بن معدان ليس بثقة. ضعفاء العقيلي (3/430) .
وقال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى: عفير بن معدان؟ قال: ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: عامة رواياته غير محفوظة. الكامل (5/379) .
وفي التقريب: ضعيف.
(3) المصنف (1/28) .(5/517)
[إسناده حسن إن سلم من عنعنة ابن إسحاق] (1) .
الأثر الثاني: عن عمر.
(153) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، قال:
قال عمر: إن شئت فامسح على العمامة، وإن شئت فانزعها (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
قال ابن المنذر: لو لم يثبت الحديث عن النبي b فيه، لوجب القول
_________
(1) رجاله كلهم ثقات إلا محمد بن إسحاق فإنه صدوق، لكن يخشى من عنعنته، وقد عنعن هنا. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/467) من طريق يعلى، أنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب به.
(2) المصنف (1/29) .
(3) رجاله كلهم ثقات، وعمران بن مسلم هو الجعفي الكوفي، قال ابن مهدي: أحاديث عمران بن مسلم أحاديث صحاح مستقيمة، لا يختلفون فيه، ووثقه أبو حاتم ويحيى ابن معين وأحمد، وذكره الحافظ في التقريب تمييزاً، وقال: ثقة.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/467) من طريق يحيى بن سعيد به. وسقط من إسناد ابن المنذر سفيان، ولعله من الناسخ، واختلف على سفيان فيه:
فرواه يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، عن عمر.
وخالفه ابن مهدي، فرواه ابن أبي شيبة (1/29) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، عن نباتة، قال: سألت عمر بن الخطاب عن المسح على العمامة، قال: إن شئت ورواه ابن المنذر (1/467) عن ابن مهدي به. فزاد في الإسناد نباتة.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/467) عن ابن مهدي به.(5/518)
به لقول النبي b: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، ولقوله b: إن يطيعوا أبا بكر وعمر فقد رشدوا "، ولقوله b: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " (1) .
الأثر الثالث:
صح المسح على العمامة من فعل أنس رضي الله عنه.
(154) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان،
عن عاصم، قال: رأيت أنساً يمسح على الخفين والعمامة (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
الأثر الرابع: عن أبي أمامة.
(155) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة،
عن أبي غالب، قال رأيت أبا أمامة يمسح على العمامة (4) .
[إسناده حسن] (5) .
_________
(1) الأوسط (1/468) .
(2) المصنف (1/29) .
(3) ورواه عبد الرزاق (738) عن الثوري، عن عاصم به، ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/468) من طريق يزيد بن هارون، أنا عاصم به. وهذا إسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه.
(4) المصنف (1/29) .
(5) رجاله كلهم ثقات إلا أبا غالب صاحب أبي أمامة، فإنه صدوق يخطئ، ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/468) من طريق حجاج، ثنا حماد به.(5/519)
جواب المانعين من المسح على هذه الآثار.
قال النووي: الأحاديث التي ذكر فيها المسح على العمامة فقط، وقع فيها اختصار، والمراد مسح على الناصية والعمامة، ويدل على صحة هذا التأويل أنه صرح به في حديث المغيرة كما سبق بيانه، ثم قال مستدلاً على صحة هذا التأويل: إن القرآن جاء بوجوب مسح الرأس، وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة، وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية، فكان محتملاً لموافقة الأحاديث الباقية، ومحتملاً لمخالفتها، فكان حملها على الاتفاق، وموافقة القرآن أولى. قال أصحابنا: وإنما حذف بعض الرواة ذكر الناصية؛ لأن مسحها كان معلوماً؛ لأن مسح الرأس مقرر، معلوم لهم، وكان المهم بيان مسح العمامة.
قال الخطابي: والأصل أن الله تعالى فرض مسح الرأس، والحديث محتمل للتأويل، فلا يترك اليقين بالمحتمل، وقال هو وسائر الأصحاب: وقياس العمامة على الخف بعيد؛ لأن يشق نزعه، بخلافها، والله أعلم (1) .
ورد عليهم:
بأن الظن بأن الصحابة رضوان الله عليهم اختصروا الحديث، وأنهم جاؤا بصيغة توهم أنه يجوز الاقتصار على العمامة، مع أن الاقتصار عليها لايجوز ظن لا يليق بصحابة رسول الله b، وقد عدلهم الله في كتابه، وعدلهم الرسول b بسنته، وهم أدرى الناس بمقتضى اللغة ومدلولها، وما حمل الناس على هذا الظن الذي لا يليق بصحابة رسول الله b إلا أن
_________
(1) المجموع (1/439) .(5/520)
الإنسان قد يعتقد حكم المسألة قبل النظر في أدلتها، إما تقليداً لإمام، أو موافقة لقول الأصحاب، وبالتالي إذا جاء ما يخالف هذا الاعتقاد تكلف في التأويل غير المستساغ، وأما من يسلم قياده للدليل الشرعي فإنه يميل معه حيث ما مال، وافق من وافق، وخالف من خالف؛ لأن الحجة هو الدليل والدليل وحده، بفهم الصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا تجد أهل الحديث أقل الناس خلافاً لسلامة المنهج، والله الموفق للصواب.
أدلة المانعين.
الدليل الأول:
قال تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (1) وحقيقته تقتضي إمساسه الماء، ومباشرته، العمامة ليس رأساً، وماسح العمامة غير ماسح برأسه، فلا تجزيه صلاته.
وأجيب:
بأن مسح الرأس لا ينافي إثبات المسح على العمامة بدليل آخر، وليس إثبات أحدهما مبطلاً للآخر، كما أن إثبات غسل الرجلين بقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} ليس مبطلاً لإثبات المسح على الخفين، هذا مع التسليم أن قوله تعالى: {وامسحوا بروؤسكم} لا يشمله المسح على العمامة، وقد يقال: إن من مسح على عمامته، فقد مسح برأسه، فمن قَبَّلَ رأس الرجل من فوق عمامته، قيل له: قبل رأسه، وكذا من مسح على العمامة. والنبي b هو المبين لكلام الله سبحانه وتعالى، وهو المفسر له،
_________
(1) المائدة، آية: 6.(5/521)
وقد مسح النبي b على العمامة، وأمر بالمسح عليها، وهذا يدل على أن المراد من الآية المسح على الرأس، أو حائله.
ثم كيف يظن أن المسح على العمامة معارض لآية المائدة، وقد مسح أبو بكر وعمر وجمع من الصحابة رضي الله عنهم.
قال ابن المنذر: كيف يجوز أن يجهل مثل هؤلاء فرض مسح الرأس، وهو مذكور في كتاب الله سبحانه وتعالى، فلولا بيان النبي b لهم ذلك وإجازته ما تركوا ظاهر الكتاب والسنة.
الدليل الثاني:
الآثار متواترة في مسح الرأس، فلو كان المسح على العمامة جائزاً لورد النقل به متواتراً في وزن وروده في المسح على الخفين، فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر، لم يجز المسح عليها من وجهين:
أحدهما: أن الآية تقتضي مسح الرأس، فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم.
والثاني: عموم الحاجة إليه، فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار (1) .
وأجيب:
بأن خبر الآحاد يوجب العلم على الصحيح، وتثبت به الأحكام، ولايشترط أن يكون الخبر متواتراً حتى يقبل، وما كان معروفاً عند السلف رد خبر الآحاد إذا كان السند إليه صحيحاً غير معارض بأقوى منه لكونه من
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (1/495) .(5/522)
أخبار الآحاد، وإنما جاء الكلام فيه من أهل البدع، وممن ردوا الأخبار الصحيحة لمعارضته لأفهامهم السقيمة، بل إن مصطلح التواتر والآحاد مصطلح حادث، وصدق القائل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم.
وليس هذا موضع الاستدلال على قبول خبر الآحاد، ولا على
تناقض أصحاب هذا القول، وقبولهم في مواضع كثيرة ما ردوه في موضع آخر.
الدليل الثالث:
(156) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، حدثني مرحوم بن عبد العزيز العطار، حدثني عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن معاوية بن قرة،
عن ابن عمر قال: توضأ رسول الله b واحدة واحدة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله منه صلاة إلا به. الحديث قطعة من حديث طويل (1) .
وجه الاستدلال:
قال الجصاص: معلوم أنه مسح برأسه؛ لأن مسح العمامة لا يسمى وضوءاً، ثم نفى جواز الصلاة إلا به.
وأجيب:
أولاً: أن الحديث ضعيف جداً فيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو
_________
(1) سنن ابن ماجه (419) .(5/523)
متروك، زيد العمي، وهو ضعيف، ومعاوية لم يدرك ابن عمر (1) .
_________
(1) جاء في ترجمة عبد الرحيم بن زيد العمي:
قال البخاري: تركوه. التاريخ الكبير (6/104) .
وقال يحيى بن معين: عبد الرحيم بن زيد العمي ليس بشيء. الجرح والتعديل (5/339) .
قال أبو حاتم الرازي: عبد الرحيم بن زيد العمي ترك حديثه، كان يفسد أباه يحدث عنه بالطامات. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن عبد الرحيم بن زيد، فقال: واهي ضعيف الحديث. المرجع السابق. فأمره واضح، فلا نطيل في ترجمته.
وفيه زيد العمي، ضعيف أيضاً، جاء في ترجمته:
قال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (7/240) .
وقال ابن معين: ليس بشيء. تاريخ ابن معين رواية ابن طهمان (47) .
وقال أبو داود: " ليس بذاك ". سؤالات الآجري لأبي داود (411) .
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء للنسائي (226) .
وذكره العقيلي في الضعفاء (2/74) .
وقال أحمد: صالح. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، وكان شعبة لايحمد حفظه. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، واهي الحديث، ضعيف. الجرح والتعديل (3/560ـ561) .
وقال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة لا أصل لها، حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها... وهو عندي لا يجوز الاحتجاج بخبره، ولا كتابة حديثه إلا للاعتبار ".
وقال ابن عدي: " هو في جملة الضعفاء، ويكتب حديثه على ضعفه ". الكامل (3/1055) .
وقال الدارقطني: صالح. الضعفاء للدارقطني (342) في ترجمة ابنه عبد الرحيم بن زيد العمي. وفي التقريب: ضعيف.
[تخريج الحديث]
الحديث رواه أبو يعلى في مسنده (5598) حدثنا أحمد بن بشير المذكر، حدثنا عبدالرحيم العمي به.
وقال أبو حاتم كما في علل الحديث لابنه (1/45) : " عبد الرحيم بن زيد متروك الحديث، وزيد العمي ضعيف الحديث، ولا يصح الحديث عن النبي b ".
وفيه أيضاً: " وسئل أبو زرعة عن هذا الحديث، فقال: هو عندي واه، ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر ".
وقال البوصيري كما في مصباح الزجاجة (1/61) : " وهذا إسناد فيه زيد العمي، وهو ضعيف، وعبد الرحيم متروك، بل كذاب، ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر، قاله ابن أبي حاتم في العلل، وصرح به الحاكم في المستدرك ".
وأخرجه الطيالسي (1924) قال: حدثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر أن رسول الله b توضأ مرة مرة، وقال: هذا وظيفة الوضوء الذي
لا تحل الصلاة الا به، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من أراد أن يضاعف له الأجر مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلى. ومن طريق سلام الطويل أخرجه الدارقطني (1/80) في سننه.
وأخرجه الدارقطني (1/79) من طريق محمد بن الفضل، عن زيد العمي به.
وأخرجه أحمد (2/98) ومن طريقه الدارقطني (1/81) ثنا أسود بن عامر، أنا أبو إسرائيل، عن زيد العمى، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي b. وهذا من تخليط زيد العمي.
وأخرجه الدارقطني (1/80) والبيهقي في السنن (1/80) من طريق المسيب بن واضح، حدثنا حفص بن ميسرة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
قال الدارقطني: تفرد به المسيب بن واضح، عن حفص بن ميسرة، والمسيب ضعيف.(5/524)
ثانياً: مسح الخفين لا يسمى وضوءاً، ولم يمنع الحديث من المسح على الخفين، ولا من المسح على الجبيرة، فكذلك لا يمنع على فرض ثبوته من المسح على العمامة.(5/525)
الدليل الرابع:
من النظر، قالوا: إن الرأس عضو طهارته المسح، فلم يجز المسح على حائل دونه كالوجه واليد في التيمم فرضه المسح، فلم يجز على حائل دونه، وهذا مجمع عليه.
وأجيب:
هذا قياس في مقابلة النص فلا يعتبر، والأمور في مثل هذا لا يجري فيها القياس، فالرجلان فرضهما الغسل، ويجوز المسح عليهما، والذراع فرضه الغسل، وحين لم يتمكن الرسول b من إخراجه لغسله لضيق كمه نزع يده من كمه وغسله، ولم يمسح عليه.
وقد يقابل هذا القياس بقياس مثله، فيقال: الرأس عضو يسقط فرضه بالتيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين.
الدليل الخامس:
(157) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن عبد العزيز بن مسلم، عن أبي معقل،
عن أنس بن مالك، قال: رأيت رسول الله b يتوضأ، وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة (1) .
_________
(1) سنن أبي داود (147) .(5/526)
وأجيب عن هذا الحديث:
أولاً: إسناده ضعيف (1) .
ثانياً: وعلى فرض صحته، فإنه لا يعارض المسح على العمامة. قال ابن المنذر: لأن المسح على العمامة ليس بفرض لا يجزئ غيره، ولكن المتطهر إن شاء مسح برأسه، وإن شاء على عمامته، كالماسح على الخفين، المتطهر بالخيار، إن شاء غسل رجليه، وإن شاء مسح على خفيه (2) اهـ.
_________
(1) في إسناده أبو معقل، مجهول العين، لم يرو عنه إلا عبد العزيز بن مسلم، ولم يوثقه أحد، وجهله ابن القطان، والذهبي، وفي التقريب: مجهول.
وفي إسناده أيضاً عبد العزيز بن مسلم،
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (5/395) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/123) ، ولا أعلم أحداً غيره وثقة.
وفي التقريب: مقبول. أي حيث توبع، وإلا فلين.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه ابن ماجه (564) حدثنا أبو طاهر: أحمد بن عمرو بن السرح، ثنا عبد الله بن وهب، ثنا معاوية بن صالح به.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/169) من طريق عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا أحمد ابن صالح به. وقال: هذا الحديث وإن لم يكن إسناده من شرط الكتاب، فإن فيه لفظة غريبة، وهي أنه مسح على بعض الرأس، ولم يمسح على عمامته.
وأخرجه البيهقي في السنن (1/60 - 61) من طريقين عن ابن وهب به.
وقال ابن السكن كما في تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (1/374) : لا يثبت إسناده.
وقال ابن القطان: لا يصح. وضعفه ابن عبد الهادي.
وقال ابن حجر في التلخيص (1/95) : " وفي إسناده نظر ".
(2) الأوسط (1/469) .(5/527)
ثالثاً: قال ابن القيم: " مقصود أنس به أن النبي b لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه " (1) . اهـ
وهذه الأجوبة جيدة لو كان الحديث صحيحاً، وما دام أنه لم يصح فلا نتكلف الإجابة عنه.
الدليل السادس:
(158) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، قال:
بلغني أن النبي b كان يتوضأ، وعليه العمامة، يؤخرها عن رأسه، ولا يحلها، ثم مسح برأسه، فأشار الماء بكف واحد على اليافوخ قط، ثم يعيد العمامة (2) .
[ضعيف] (3) .
وأجيب:
هذا الحديث مرسل، قال يحيى بن سعيد القطان: مرسلات مجاهد
_________
(1) زاد المعاد (1/194) .
(2) المصنف (739) .
(3) الحديث رواه ابن أبي شيبة (1/30) حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء، أن رسول الله b توضأ، فرفع العمامة، فمسح مقدم رأسه.
ورواه البيهقي (1/61) من طريق مسلم - يعني: ابن خالد ـ عن ابن جريج به. ومسلم ابن خالد وإن كان متكلماً فيه فقد توبع. وعلى كل فالحديث مرسل، والمرسل لاحجة فيه، خاصة إذا كان المرسل مثل عطاء.(5/528)
أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب.
وقال أحمد: ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء؛ فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد.
الدليل السابع: من الآثار.
(159) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عبيد الله، عن نافع،
عن ابن عمر أنه كان لا يمسح على العمامة (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الأثر الثاني، عن جابر رضي الله عنه.
(160) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن عباد بن إسحاق (عبد الرحمن بن إسحاق) عن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: سألت جابراً عن المسح على العمامة، فقال: أمس الماء الشعر (3) .
[إسناده حسن] (4) .
_________
(1) المصنف (1/29) .
(2) رجاله كلهم ثقات، ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/470) من طريق يحيى، عن سفيان به.
(3) المصنف (1/29) .
(4) رجاله كلهم ثقات إلا عبد الرحمن بن إسحاق، فإنه صدوق، وتكلم فيه بسبب بدعته حيث رمي بالقدر، جاء في ترجمته:
قال يحيى بن سعيد القطان: سألت بالمدينة عن عبد الرحمن بن إسحاق فلم أرهم يحمدونه. الجرح والتعديل (5/212) .
وقال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن إسحاق المديني، فقال: روى عن أبي الزناد أحاديث منكرة، وكان يحيى لا يعجبه. قلت: كيف هو؟ قال: صالح الحديث. المرجع السابق.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن عبد الرحمن بن إسحاق المديني، فقال: ليس به بأس، فقلت له: إن يحيى بن سعيد يقول: سألت عنه بالمدينة فلم يحمدوه، فسكت أحمد. المرجع السابق. قلت: من أجل المذهب.
وقال العباس بن محمد الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: عبد الرحمن بن إسحاق المديني ثقة صالح الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: عبد الرحمن بن إسحاق المديني كان ابن علية يرضاه. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد الرحمن بن إسحاق، فقال: يقال له عباد بن إسحاق مديني، قدم البصرة، يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو قريب من محمد بن إسحاق، صاحب المغازي، وهو حسن الحديث، وليس بثبت، ولا قوي، وهو أصلح من عبد الرحمن ابن إسحاق أبي شيبة. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق رمي بالقدر.
ـ وأبو عبيدة بن محمد بن عمار، قال فيه الحافظ في التقريب: مقبول اهـ.
قلت: هو أكبر من هذا، فقد وثقه ابن معين كما في تهذيب الكمال، وقال عبد الله ابن أحمد في مسند أبيه (2/219) : أبو عبيدة هذا: اسمه محمد، وهو ثقة اهـ.
فالإسناد حسن إلى جابر إن شاء الله تعالى.(5/529)
وسوف يأتي إن شاء الله تعالى عن عائشة وصفية بنت عبيد في المسح على الخمار نحو هذا.
قال ابن المنذر: وليس في إنكار من أنكر المسح على العمامة حجة؛ لأن أحداً لا يحيط بجميع السنن، ولعل الذي أنكر ذلك لو علم بالسنة لرجع(5/530)
إليها، بل غير جائز أن يظن مسلم ليس من أهل العلم غير ذلك، فكيف من كان من أهل العلم، ولا يجوز أن يظن بالقوم غير ذلك، وكما لم يضر إنكار من أنكر المسح على الخفين، ولم يوهن تخلف من تخلف عن القول بذلك إذا أذن النبي b في المسح على الخفين، كذلك لا يوهن تخلف من تخلف عن القول بإباحة المسح على العمامة.
والراجح من هذا الخلاف
بعد النظر في أدلة كل قول، نجد القول بالمسح على العمامة أقوى دليلاً من حيث الأثر، والله أعلم.(5/531)
[صفحة فارغة](5/532)
الفصل الثاني
خلاف العلماء في المسح على الخمار(5/533)
[صفحة فارغة](5/534)
الفصل الثاني
خلاف العلماء في المسح على الخمار
اختلف العلماء في مسح المرأة على الخمار،
فقيل: تمسح كما يمسح الرجل على العمامة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) ، ورجحه ابن حزم (2) .
وقيل: لا تمسح، وهو مذهب الجمهور (3) ،
ورواية عن أحمد (4) .
وقيل: إن خافت من البرد ونحوه مسحت، مال إليه ابن تيمية (5) .
_________
(1) انظر مسائل ابن هانئ (1/19) ، ورجح أصحاب أحمد أن تكون خمر النساء مدارة تحت حلوقهن، انظر الفروع (1/164) ، كشاف القناع (1/112،113) ، شرح غاية المنتهى (1/124) ، الروض المربع (1/283) .
(2) المحلى (1/303) .
(3) في المذهب الحنفية انظر أحكام القرآن- الجصاص (1/495) ، المبسوط (1/101) ، بدائع الصنائع (1/5) .
وفي مذهب المالكية، قال في المدونة (1/124) : " قال مالك في المرأة تمسح على خمارها أنها تعيد الصلاة والوضوء "، وفي المنتقى للباجي (1/75) : " وسئل مالك عن المسح على العمامة والخمار، فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة عمامة ولا خمار، وليمسحا على رؤسهما " اهـ. وانظر مواهب الجليل (1/207) .
وفي مذهب الشافعية انظر حاشية الجمل (1/128) ، أسنى المطالب (1/41) ، المجموع (1/439) .
(4) الفروع (1/164) .
(5) قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (21/218) : " وإن خافت المرأة من البرد ونحوه مسحت على خمارها، فإن أم سلمة كانت تمسح على خمارها، وينبغي أن تمسح معه بعض شعرها، وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك ففيه نزاع بين أهل العلم ".
ولا أدري لماذا رأى ابن تيمية رحمه الله أن تمسح مع الخمار بعض شعرها، مع العلم أنه يرى وجوب استيعاب الرأس بالمسح إذا لم يكن هناك خمار، فإن كان مسح الخمار كافياً لم يكن ثمة حاجة إلى مسح بعض الشعر، وإن لم يكن كافياً كمذهب الشافعية، يستحبون مسح الناصية مع العمامة فينبغي أن يرى أن مسح بعض الرأس كافياً إذا لم يكن هناك عمامة.(5/535)
دليل من قال لا تمسح.
الدليل الأول:
كل دليل استدلوا به في المنع من المسح على العمامة استدلوا به في المنع من مسح الخمار.
ولكل جواب قيل عن استدلالهم هناك، يقال لهم هنا.
الدليل الثاني:
جاء الإذن بالمسح على العمامة، أما المسح على الخمار فلم يأت دليل في المسح عليه، والأصل المنع.
وأجيب:
بأن العمامة تسمى خماراً، كما جاء في الأحاديث أن الرسول b مسح على العمامة والخمار، راجعها في مسألة المسح على العمامة، فإذا كانت العمامة تسمى خماراً فخمار المرأة داخل في العموم اللفظي لكلمة عمامة، فلم يتعلق الحكم بالمسمى؛ لأن العمامة تسمى خماراً، ولا مانع من تسمية خمار المرأة عمامة إلا أنها خاصة بالمرأة؛ لأن كلاً منهما تخمر الرأس: أي تغطيه، ثم إن الرسول b لم يقل: لا يمسح إلا على العمامة، ولو قال هذا لربما سلم ما تقولون، لكن علمنا بمسحه على العمامة أنه يجوز المسح(5/536)
على كل ما غطى الرأس، حتى الخضاب الذي على الرأس، والحناء ونحوهما إذا خمر رأس المرأة جاز المسح عليه، فمباشرة الرأس بالماء ليست فرضاً، والله أعلم بالصواب.
الدليل الثالث، من الآثار.
(161) روى البيهقي في السنن الكبرى، من طريق ابن وهب، أخبرك ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، عن أم علقمة مولاة عائشة رضي الله عنها،
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا توضأت تدخل يدها من تحت الرداء، تمسح برأسها كله " (1) .
[إسناده حسن] (2) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/61) .
(2) في إسناده أم علقمة: واسمها مرجانة.
روى لها البخاري تعليقاً، في كتاب الحيض، باب (19) : إقبال المحيض وإدباره، روى عنها ابنها علقمة كما في الموطأ (1/59) ، وبكير بن عبد الله الأشج، كما في سنن البيهقي (1/61،281،423) .
وذكرها ابن حبان في الثقات. الثقات (5/466) .
وذكرها الذهبي في الميزان (4/610) من المجهولات.
وفي التقريب: مقبولة، يعني حيث توبعت.
والذي أراه أن حديثها في مرتبة الحسن لذاته.
أولاً: لأنها من التابعين، والكلام في التابعين قليل، واشتراط أن يوجد فيها نص على توثيقها متعسر؛ لقلة الكلام في الرواة، ولكون الكذب في عهدهم لم يتفش.
ثانياً: البخاري قد علق في كتاب الحيض، في باب (19) إقبال الحيض وإدباره أثراً عن عائشة بصيغة الجزم، وهذا يقتضي صحته إلى من علقه عنها، وهو لا يعرف إلا من رواية أم علقمة، عن عائشة، فلو كان فيها ما يقدح في روايتها لعلقه البخاري عنها، عن عائشة.
ثالثاً: أن مالكاً أخرج لها في الموطأ (1/59) ، ومعلوم شدة الإمام مالك، وتنقيته للرجال، وهي مدنية، ومالك من أعلم الناس في أهل المدينة. والله أعلم.
وأما ابن لهيعة، وإن كان فيه ضعف فقد تابعه ثقة، وهو عمرو بن الحارث. فالإسناد حسن.(5/537)
الأثر الثاني:
(162) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن مالك بن أنس، عن نافع، قال: رأيت صفية بنت أبي عبيد توضأت، فأدخلت يدها تحت خمارها، فمسحت بناصيتها (1) .
[إسناده صحيح] .
وأجيب:
بأن المسح على الخمار ليس بواجب حتى يقال بأن في هذا دليلاً على أنه لا يجوز المسح على الخمار، بل المرأة في الخيار إن شاءت مسحت على رأسها، وإن شاءت مسحت على خمارها كالمسح على الخفين، ولو ورد عنهن المنع من المسح على الخمار لقيل: إن قولهما معارض بفعل أم سلمة رضي الله عنها، وقد جاء عنها المسح على الخمار.
دليل من قال تمسح.
الدليل الأول:
القياس الجلي على العمامة، فلا فرق بين العمامة والخمار.
_________
(1) المصنف (1/30) .(5/538)
الدليل الثاني:
ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، والعكس إلا ما دل الدليل باختصاصه بأحدهما، ولذلك فالنساء داخلات في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (1) مع أن المأمور في الآية الرجال.
الدليل الثالث:
(163) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبيد الله بن نمير، عن سفيان، عن سماك، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة أنها كانت تمسح على الخمار (2) .
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (3) .
_________
(1) البقرة، آية: 43.
(2) المصنف (1/29) .
(3) سماك بن حرب، قال يعقوب: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وليس من المثبتين، ومن سمع منه قديماً مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم.
وفي التقريب: صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخرة فكان ربما يلقن اهـ.
قلت: في هذا الأثر الرواي عنه سفيان، وهو ممن سمع منه قديماً، ولم يرو هذا الأثر عن عكرمة.
ـ وأم الحسن، واسمها خيرة، روى لها مسلم حديث: " تقتل عماراً الفئة الباغية "، وحديث: " كنا ننبذ لرسول الله b في سقاء يوكى أعلاه.
وذكرها ابن حبان في ثقاته (4/216) .
وقال ابن حزم: ثقة مشهورة. المحلى (3/127) . وفي التقريب: مقبولة اهـ.
قلت: لعل إخراج مسلم حديثها في صحيحه، يجعل حديثها على أقل الأحوال حسناً، فإذا أضفت إلى ذلك توثيق ابن حبان وابن حزم تأكد الاحتجاج بها، والله أعلم. وأما عنعنة الحسن البصري، فالذي رأيته في الحسن أنه يرسل، ويطلق التدليس على الإرسال، فإذا ثبت سماعه من الرواي لم يلتفت للعنعنة، والله أعلم، فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى.
والأثر رواه ابن المنذر في الأوسط (1/468) من طريق ابن نمير به.(5/539)
الراجح من هذا الخلاف:
بعد استعراض أدلة الفريقين، وبعد مناقشة الأدلة السابقة يتبين لي أن القول بجواز المسح على الخمار أرجح، وهو إما داخل في العموم اللفظي من جواز المسح على العمامة، وإما مقيس عليها بجامع أن كلاً منهما غطاء على الرأس، يشق نزعه. والله أعلم.(5/540)
الفصل الثالث
خلاف العلماء في المسح على القلانس(5/541)
[صفحة فارغة](5/542)
الفصل الثالث
خلاف العلماء في المسح على القلانس (1) .
اختلف العلماء في المسح على القلانس،
فقيل: لا يمسح عليها، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (2) ، والمالكية (3) والشافعية (4) ،والحنابلة (5) .
وقيل: يمسح عليها، هو رواية عن أحمد (6) ، ومذهب ابن حزم (7) .
_________
(1) قال في الجوهرة النيرة (1/28) : القلنسوة شيء تجعله الأعاجم على رؤوسهم أكبر من الكوفيه.
وقال الحافظ ابن حجر: القلنسوة غشاء مبطن، تستر به الرأس، قاله القزاز في شرح المفصل.
وقال أبو هلال العسكري: هي التي تغطى بها العمائم، وتستر من الشمس والمطر، كأنها عنده رأس البرنس. اهـ نقلاً من الإنصاف (1/171) .
وقال ابن عابدين في حاشيته (1/272) : ما يلبس على الرأس، ويتعمم فوقه.
(2) المبسوط (1/101) ، تبيين الحقائق (1/52) ، شرح فتح القدير (1/157) ، البحر الرائق (1/193) ، الفتاوى الهندية (1/6) ، حاشية ابن عابدين (1/272) .
(3) قال الباجي في المنتقى (1/76) : " ولا يجزئ المسح على حائل دون الرأس ".
(4) إذا كانوا يمنعون المسح على العمامة، فمنع المسح على القلانس من باب أولى، انظر العزو في منعهم من المسح على العمامة في الفصل الأول من هذا الباب.
(5) الإنصاف (1/170) ، شرح منتهى الإرادات (1/62) ، مطالب أولي النهى (1/128) ، الفروع (1/163) .
(6) الإنصاف (1/170) ، الفتاوى الكبرى (1/320) ، الفروع (1/163) .
(7) المحلى (1/303) .(5/543)
وقيل: يمسح إن كانت مشدودة تحت حلقه، وهو رواية عن أحمد (1) .
دليل من قال لا يمسح.
قالوا: الأصل وجوب مسح الرأس، لقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (2) وعدل عن الأصل في العمامة لورود النص بها.
التعليل الثاني:
قالوا: إنه لا يشق نزعها، فليست محنكة، ولا ذؤابة لها.
قال ابن المنذر: " ولا نعلم أحداً قال بالمسح على القلنسوة، وقد روينا عن أنس أنه مسح عليها " (3) .
قلت: قد علمت أن الإمام أحمد قد قال بالمسح على القلنسوة في رواية عنه.
دليل القائلين بالمسح.
الدليل الأول:
(164) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن سعيد ابن عبدالله بن ضرار، قال:
رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء، ثم خرج وعليه قلنسوة بيضاء مزرورة فمسح على القلنسوة وعلى جوربين له مرعزاً أسودين ثم صلى (4) .
_________
(1) الإنصاف (1/170) ، الفتاوى الكبرى (1/320) ، الفروع (1/163) .
(2) المائدة، آية: 6.
(3) الأوسط (1/472) .
(4) المصنف (745) .(5/544)
[إسناده فيه لين] (1) .
الدليل الثاني:
(165) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي عروبة، عن أشعث، عن أبيه،
أن أبا موسى خرج من الخلاء، فمسح على قلنسوته (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
وفعل الصحابي إذا لم يعارض نصاً مرفوعاً، ولم يخالفه صحابي مثله، فهو حجة؛ لأن فهمهم أولى من فهمنا، وعلمهم أكمل من علمنا، وإصابتهم للحق أقرب من غيرهم، ونحن مأمورون باتباع سبيلهم، فإذا نقل الخلاف بينهم كان على الإنسان أن يتحرى أقربها للحق.
الدليل الثالث:
قالوا: بأن القلنسوة ملبوس معتاد يستر الرأس، فأشبه العمامة، ولم نشترط أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة كما لا نشترطه في العمامة - وسوف تأتي مناقشة هذا الشرط إن شاء الله تعالى - قال أبو بكر الخلال: إن مسح إنسان على القلنسوة لم أر به بأساً، لأن أحمد قال في رواية الميموني: أنا
_________
(1) هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا سعيد بن عبد الله، قال أبو حاتم الرزاي: ليس بالقوي. الجرح والتعديل (4/36) .
وذكره ابن حبان في الثقات (4/280) .
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/472) من طريق إسحاق، عن جرير، عن الأعمش به.
(2) المصنف (1/29) .
(3) يحيى بن سعيد القطان سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل اختلاطه، وأشعث: هو ابن أبي الشعثاء، واسم أبيه: سليم بن أسود، فرجاله كلهم ثقات.(5/545)
أتوقاه، وإن ذهب إليه ذاهب لم يعنفه. قال الخلال: وكيف يعنفه؟ وقد روي عن رجلين من أصحاب رسول الله b بأسانيد صحاح، ورجال ثقات، فروى الأثرم بإسناده عن عمر أنه قال: إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء مسح قلنسوته وعمامته. وروى بإسناده عن أبي موسى أنه خرج من الخلاء فمسح على القلنسوة (1) اهـ.
قلت: وثبت عن أنس بن مالك أيضاً، وقد خرجته عنه.
الدليل الرابع:
قالوا: إن الرسول b لم يقل: لا تمسحوا إلا على العمامة والخمار، حتى يمكن أن يقال: لا يجوز المسح على حائل إلا إذا كان عمامة أو خماراً، فحين مسح على العمامة علمنا أن مباشرة الرأس بالماء ليست فرضاً.
دليل من قال يشترط أن تكون مشدودة تحت الحلق.
قالوا: إن القلنسوة إذا لم تكن مشدودة لا يشق نزعها، فأشبهت الكوفية (الطاقية) أما إذا كانت مشدودة فحينئذ تشبه العمامة بمشقة النزع، فجاز المسح عليها، والشارع لا يفرق بين متماثلين، كما لا يجمع بين متفرقين، وأثر أنس الوارد أنه مسح على قلنسوة مزرورة، والمزرور: هو المشدود بالزرار، وإذا كان كذلك فإنها تشبه العمامة بمشقة النزع.
هذه غالب أدلة الأقوال الثلاثة، والقول بالجواز قول قوي جداً، والقول باشتراط أن تكون مشدودة فيه احتياط، والله أعلم.
_________
(1) المغني (1/384) .(5/546)
الفصل الرابع
في شروط المسح على العمامة(5/547)
[صفحة فارغة](5/548)
الشرط الأول
في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة(5/549)
[صفحة فارغة](5/550)
الشرط الأول
في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة
اختلف العلماء في اشتراط التحنيك أو كون العمامة ذات ذؤابة،
فقيل: لا يمسح عليها إلا أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: لا يشترط، وهو اختيار ابن تيمية (2) ، وهو الراجح.
دليل الحنابلة.
الدليل الأول:
المسح المنقول لنا إنما جاء الإذن على العمائم المعهودة، التي يلبسها المسلمون، وصفتها بأن يكون تحت الحنك منها شيء.
قال ابن قدامة: " ومن شروط المسح عليها أن تكون على صفة عمائم المسلمين، بأن يكون تحت الحنك منها شيء؛ لأن هذه عمائم العرب، وهي أكثر ستراً من غيرها، ويشق نزعها، ولأنها إذا لم تكن محنكة أشبهت الكوفية (الطاقية) والكوفية لا يمسح عليها، فكذلك غير المحنكة (3) .
الدليل الثاني:
(166) قال ابن قدامة في المغني: روي عن النبي b أنه أمر بالتلحي،
_________
(1) كشاف القناع (1/119) ، الإنصاف (1/186) ، الفروع (1/162،163) .
(2) الإنصاف (1/186،187) .
(3) المغني (1/381) .(5/551)
ونهى عن الاقتعاط. رواه أبو عبيد، وقال: الاقتعاط: أن لايكون تحت الحنك منها شيء، وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً ليس تحت حنكه من عمامته شيء، فحنكه بكور منها، وقال: هذه الفاسقية؟ . فامتنع المسح عليها للنهي عنها (1) اهـ.
والحديث المرفوع، والأثر عن عمر لم أقف على أسانيدهما بشيء من الكتب، فالله أعلم بصحتهما.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: " وأما هذه الشرائط التي ذكرها ابن قدامة فلم أر ما يدل على ثبوتها من الأحاديث الصحيحة، وأما ما روي عن النبي b أنه أمر بالتلحي، ونهى عن الاقتعاط، فلم يذكر ابن قدامة سنده، ولم يذكر تحسينه ولا تصحيحه عن أحد من أئمة الحديث، ولم أقف على سنده، ولا على من حسنه أو صححه، فالله أعلم كيف هو؟ (2) .
الدليل الثالث:
قالوا: إن العمائم إذا لم تكن محنكة، ولم يكن لها ذؤابة أشبهت عمائم أهل الذمة، فيكون لبسها حراماً، وما حرم لبسه لم يجز المسح عليه.
وأجيب:
بأنه لم يرد نهي عن لبس العمامة غير محنكة أو صماء، وإذا لم يرد نهي، وكانت العمامة بلا ذؤابة ليست من لباسهم الذي يختصون به، ويتميزون به عن غيرهم، فلا تحريم في لبسها، وقد انتشر بين التابعين في
_________
(1) المغني (1/381) .
(2) تحفة الأحوذي (1/294) .(5/552)
المدينة من أولاد المهاجرين والأنصار لبسها بلا تحنيك كما سيأتي.
ثم قولهم: كل ما حرم لبسه لم يجز المسح عليه قد ناقشت هذا في الخف المغصوب والمحرم، ورجحت جواز المسح عليه وإن كان لبسه حراماً.
دليل من قال لا يشترط.
الدليل الأول:
قالوا: إن الإذن بالمسح ورد مطلقاً، وما ورد مطلقاً فلا يجوز تقييده إلا بدليل مثله من كتاب أو سنة أو إجماع.
الدليل الثاني:
أن تحنيكها زمن الصحابة كان للحاجة إلى الجهاد، قال ابن تيمية: "والسلف كانوا يحنكون عمائمهم؛ لأنهم كانوا يركبون الخيل، ويجاهدون في سبيل الله، فإن لم يربطوا العمائم بالتحنيك وإلا سقطت، ولم يمكن معها طرد الخيل، ولهذا ذكر أحمد عن أهل الشام أنهم كانوا يحافظون على هذه السنة؛ لأنهم كانوا في زمنه هم المجاهدون، وذكر إسحاق بن راهوية بإسناده أن أولاد المهاجرين والأنصار كانوا يلبسون العمائم بلا تحنيك، وهذا لأنهم كانوا في الحجاز في زمن التابعين لا يجاهدون، ورخص إسحاق وغيره في لبسها بلا تحنيك.. الخ كلامه رحمه الله (1) .
وقولهم: إن غير المحنكة لا يشق نزعها، فالجواب أن هذه العلة ليست علة منصوصاً عليها يمكن أن تخص العام، أو تقيد المطلق، والعلة المستنبطة علة مظنونة، قد تكون هي العلة، وقد تكون غيرها، فلا نستطيع
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/187) .(5/553)
أن نجزم بأنها هي العلة، وقد لا تتعين في مشقة النزع، بل قد تكون الحكمة أن العمامة لو حركها انفلت أكوارها؛ ولأن لبسها في أيام البرد قد يعرق الرأس بسببها فإذا نزعها قد يصاب بضرر بسبب الهواء البارد، المهم أن العلة المستنبطة ينبغي ألا يقيد بها الأحاديث المطلقة، والله أعلم.
الراجح من القولين:
بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القول بعدم الاشتراط أقوى دليلاً، وأن المسح على العمامة يجوز ولو لم تكن محنكة أو ذات ذؤابة. والله الموفق.(5/554)
الشرط الثاني
الخلاف في اشتراط لبس العمامة على طهارة(5/555)
[صفحة فارغة](5/556)
الشرط الثاني
الخلاف في اشتراط لبسها على طهارة
اختلف العلماء القائلين بالمسح على العمامة، هل يشترط الطهارة للبسها أم لا؟ على قولين:
فقيل: تشترط الطهارة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: لا تشترط، وهو رواية عن أحمد (2) ، واختاره ابن حزم (3) ، ورجحه ابن تيمية (4) .
دليل الحنابلة على اشتراط الطهارة.
الدليل الأول:
القياس على الخف، فإذا كان يشترط للمسح على الخف الطهارة فكذلك في المسح على العمامة، بجامع أن كلاً منهما ممسوح على عضو من أعضاء الوضوء، كان الواجب مباشرة ذلك العضو لولا هذا الحائل.
وأجيب:
بأن القياس على الخف فيه نظر؛ لأن طهارة القدم هي الغسل،
_________
(1) قال أحمد في مسائل ابن هانئ (1/18) :"سألت أبا عبدالله عن المسح على العمامة؟
قال: تمسح عليها إذا لبستها، وأنت طاهر، فإذا خلعتها أعد الوضوء ". وانظر المغني (1/176) الإنصاف (1/172) ، الفروع (1/166) .
(2) الإنصاف (1/172) ، الفروع (1/166) .
(3) المحلى (1/309) .
(4) الإنصاف (1/173) .(5/557)
وطهارة الرأس هو المسح فافترقا، فطهارة الرأس أخف من طهارة الخف، ثم إن العمامة تمسح كلها، والخف يمسح ظاهره على الصحيح، وفرق آخر عندكم: هو أن ظهور شيء من القدم يبطل المسح، وظهور شيء من الرأس كالناصية، وجوانب الرأس لا يبطل المسح على العمامة، ثم إن القياس في مثل هذه الأمور من أضعف الأقيسة.
دليل من قال لا تشترط الطهارة.
الدليل الأول:
عدم الدليل على الاشتراط، وهذا كاف في نفيه؛ لأن من اشترط شيئاً طلب منه الدليل، ولا دليل على الاشتراط.
الدليل الثاني:
أن الأحاديث ليس فيها إلا أن الرسول b مسح على العمامة، ولم تشترط للمسح عليها لبسها على طهارة كالمسح على الخف، فنقف عند حدود النص، ولا نقيد أو نخصص إلا بدليل.
قال ابن حزم في الرد على من قاس العمامة على الخف: " القياس باطل، وليس هنا علة جامعة بين حكم المسح على العمامة والخمار، والمسح على الخفين، وإنما نص رسول الله b في اللباس على الطهارة على الخفين، ولم ينص ذلك في العمامة والخمار، قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} (1) وقال تعالى: {وما كان ربك نسياً} (2) ، فلو وجب هذا في
_________
(1) النحل، آية: 44.
(2) مريم، آية: 64.(5/558)
العمامة والخمار لبينه عليه السلام كما بين ذلك في الخفين، ومدعي المساوة في ذلك بين العمامة والخمار مدعي بلا دليل، ويكلف البرهان على صحة دعواه في ذلك (1) .
الدليل الثالث:
العادة أن من توضأ مسح رأسه، ورفع العمامة، ثم أعادها،
ولا يبقى مكشوف الرأس إلى آخر الوضوء " (2) .
_________
(1) المحلى (1/309) .
(2) الإنصاف (1/172) .(5/559)
[صفحة فارغة](5/560)
الشرط الثالث
الخلاف في توقيت المسح على العمامة(5/561)
[صفحة فارغة](5/562)
الشرط الثالث
الخلاف في توقيت المسح على العمامة
اختلف العلماء هل المسح على العمامة مؤقت أم لا؟
فقيل: يمسح يوماً وليلة للمقيم، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: بل يمسح عليها بلا توقيت، هو مذهب الظاهرية (2) . وهو الراجح.
دليل الحنابلة على اشتراط التوقيت.
الدليل الأول:
(167) ما رواه الطبراني في الكبير، قال: حدثنا أبو مسلم الكشي وعبد الله بن أحمد بن حنبل قالا: ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا مروان أبو سلمة، ثنا شهر بن حوشب،
عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن النبي b كان يمسح على الخفين والعمامة ثلاثاً في السفر ويوماً وليلة في الحضر (3) .
_________
(1) جاء في مسائل أحمد رواية أبي داود (49) : " سمعت أحمد سئل: كم يمسح
على العمامة؟ قال: مثل الخف سواء "، وانظر مسائل أحمد رواية ابن هانئ (1/21) رقم 104.
(2) المحلى (1/309) ، ولم أذكر المذاهب الأخرى؛ لأنها لا ترى المسح على العمامة.
(3) المعجم الكبير (8/122) .(5/563)
[إسناده ضعيف] (1) .
الدليل الثاني:
قال ابن حزم: " قد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوقيت في ذلك ثابتاً عنه " (2) . يعني: التوقيت في المسح على العمامة.
ولم أقف على إسناده عن عمر في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وسنن البيهقي والدارقطني، والأوسط لابن المنذر وشرح معاني الآثار وغيرها من الكتب التي تعنى بالآثار، وفعل عمر يصلح للاستدلال بثلاثة شروط:
الأول: ألا يخالف المرفوع عن النبي b.
الثاني: ألا يعارضه قول صحابي مثله.
الثالث: أن يصح عنه هذا القول.
وإثبات هذه الأمور فيما ذكره ابن حزم لم أقدر عليه، وإذا كان عمر
_________
(1) في إسناده مروان أبو سلمة، جاء في ترجمته:
قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (7/373) ، الضعفاء الصغير (354) .
وقال أبو حاتم الرازي: مجهول، منكر الحديث. الجرح والتعديل (8/274) .
وقال العقيلي: الرواية في مسح العمامة فيها لين. الضعفاء الكبير (4/203) .
وقال ابن عدي: ومروان هذا قريباً من مروان بن نهيك، وليس بالمعروف. الكامل (6/385) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/260) : " فيه مروان أبو سلمة، قال الذهبي: مجهول" اهـ.
كما أن في إسناده شهر بن حوشب، مختلف فيه.
(2) المحلى (1/309) .(5/564)
رضي الله عنه نقل عنه عدم التوقيت في المسح على الخفين، فكيف ينقل عنه التوقيت في المسح على العمامة الذي لم يأت نص باشتراط التوقيت، والله أعلم.
الدليل الثالث:
القياس على الخف، بجامع أن كلا منهما ممسوح، والمسح عليه من قبيل الرخصة.
وقد أجبت على القول بالقياس في المسألة التي قبل هذه فراجعه إن احتاج الأمر.
دليل من قال يمسح بلا توقيت.
الدليل الأول:
عدم الدليل على كون المسح مؤقتاً. والأصل أن التوقيت يحتاج إلى توقيف؛ فلا يقال به إلا بدليل؛ لأنه ليس معقول المعنى، ولا دليل على التوقيت.
الدليل الثاني:
أن أحاديث المسح على العمامة ليس فيها إلا أن الرسول b مسح على العمامة، ولم يوقت في ذلك وقتاً كالمسح على الخف، فنقف عند حدود النص، ولا نقيد أو نخصص إلا بدليل.
وهذا القول أقوى من القول الأول لقوة دليله، والله أعلم.(5/565)
[صفحة فارغة](5/566)
الشرط الرابع
لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر(5/567)
[صفحة فارغة](5/568)
الشرط الرابع
لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر
وهذا الشرط متفق عليه عند من يرى المسح على العمامة، وأما الحدث الأكبر فلا يجزئ المسح عليها، بل ولا على الشعر كما لو لم يكن هناك عمامة، ولا بد في الحدث الأكبر من إيصال الماء إلى ما تحت الشعر، وقد نقلت الدليل على ذلك في شروط المسح على الخفين.
(168) وقد روى البخاري قال: حدثنا عبدان، قال أخبرنا: عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة قالت كان رسول الله b إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده الحديث (1) .
وجه الاستدلال:
أنه مع كونه خلل شعره بيده حتى رأى أنه قد أروى بشرته، ومع ذلك أفاض الماء على رأسه ثلاث مرات، كل ذلك ليعلم أن الماء قد وصل إلى ما تحت الشعر، ولا يشرع التثليث في غسل البدن من الجنابة إلا الرأس.
_________
(1) صحيح البخاري (273) ، ورواه مسلم (316) واللفظ للأول.(5/569)
[صفحة فارغة](5/570)
الشرط الخامس
الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح(5/571)
[صفحة فارغة](5/572)
الشرط الخامس
الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح
اختلف في وجوب استيعاب العمامة بالمسح
فقيل: يجب الاستيعاب، وهو قول في مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: يجزئ مسح أكثرها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يجزئ مسح بعضها، اختاره القاضي أبو يعلى (3) .
دليل من قال لا يجب الاستيعاب.
أن مسح العمامة جاء على وجه الرخصة، فأجزأ مسح بعضها قياساً على الخف.
دليل من قال بوجوب الاستيعاب.
الدليل الأول:
قالوا: يجب الاستيعاب لظاهر النصوص، فإن فيها ومسح على العمامة، فظاهر الخبر أنه شملها كلها بالمسح؛ إذ لو كان مقتصراً على البعض لنقل، ولذلك لما مسح معها الناصية أحياناً نقلوه.
الدليل الثاني:
أن فرض الرأس وجوب استيعابه بالمسح،
(169) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن
_________
(1) المغني (1/186) ، وذكره صاحب الإنصاف (1/187) رواية.
(2) قال في الفروع (1/169) : " ويجزئ مسح أكثر العمامة على الأصح "، وقال في الإنصاف: هذا المذهب، وعليه الجمهور، وجزم به كثير منهم ".
(3) المغني (1/186) .(5/573)
يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه،
أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد - وهو جد عمرو بن يحيى - أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله b يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض، واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه (1) .
قال ابن قدامة: ولأن مسح العمامة بدل من الجنس - يعني: أن المفروض في الرأس المسح، والمفروض في العمامة المسح كذلك، فهما من جنس واحد - قال: فيقدر بقدر المبدل، كقراءة غير الفاتحة من القرآن بدلاً من الفاتحة يجب أن يكون بقدرها، ولو كان البدل تسبيحاً لم يتقدر بقدرها، ومسح الخف بدل من غير الجنس؛ لأنه بدل عن الغسل، فلم يتقدر به، كالتسبيح بدلاً عن القرآن، والمنقول عن أحمد أنه قال: يمسح على العمامة كما يمسح على رأسه، فيحتمل أنه أراد التشبيه في صفة المسح دون الاستيعاب، وأنه يجزئ مسح بعضها؛ لأنه ممسوح على وجه الرخصة، فأجزأ مسح بعضه كالخف، ويحتمل أنه أراد التشبيه في الاستيعاب فيخرج فيها من الخلاف ما في وجوب استيعاب الرأس، وفيه روايتان: أظهرهما: وجوب استيعابه بالمسح (2) .
هذا فيما يتعلق بالعمامة، أما ما يتعلق بجوانب الرأس التي لم تشمله العمامة، فهل يجب مسحه أم لا؟
_________
(1) صحيح البخاري (185) ، ومسلم (235) .
(2) المغني (1/382) .(5/574)
فقيل: يجب، وهو وجه في مذهب الحنابلة.
وقيل: يستحب، ولا يجب، وهو رواية في مذهب أحمد.
دليل من قال بالوجوب.
أن الرسول b مسح على الناصية والعمامة دليل على وجوب الاستيعاب،
(170) فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن حاتم جميعاً، عن يحيى القطان، قال ابن حاتم: حدثنا يحيى بن سعيد، عن التيمي، عن بكر بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه. قال بكر: وقد سمعت من ابن المغيرة،
أن النبي b توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين (1) . فلم يكتف بالمسح على العمامة حتى مسح الناصية.
وأجيب:
بأنه ثبت أن الرسول b مسح بالعمامة وحدها، فلا يدل على الوجوب.
الدليل الثاني:
أن العمامة نابت عما استتر فقط، فوجب مسح الباقي، كما لو ظهر سائر رأسه.
دليل من قال لا يجب.
التعليل الأول:
قالوا: إن العمامة نابت مناب الرأس، فانتقل الفرض إليها، وتعلق
_________
(1) مسلم (83 ـ 274) .(5/575)
الحكم بها، فلم يبق لما ظهر حكم.
التعليل الثاني:
أن الجمع بينهما يفضي إلى الجمع بين البدل والمبدل في عضو واحد، فلم يجز من غير ضرورة كالمسح على الخفين.
وأجيب: بأن الرسول b جمع بينهما في مسحه على الناصية والعمامة كما نقلنا قبل قليل.
الراجح والله أعلم استحباب مسح الناصية مع العمامة، أما جوانب الرأس فلم ينقل أن الرسول b مسحها، فلا أرى استحباب مسحها، والله أعلم، ولا يترجح لي قياس جوانب الرأس على الناصية؛ لأنه لو كان مشروعاً لنقل فعله عن الرسول b ولو مرة واحدة، والله أعلم.
وهل تمسح الأذنان مع العمامة. قال في الشرح الكبير: " ولا يجب مسح الأذنين مع العمامة، لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه لم ينقل، وليستا من الرأس إلا على وجه التبع " (1) اهـ.
قلت: نفي الوجوب لايدل على نفي الاستحباب لكن ظاهر استدلاله نفي المشروعية، فإن ثبت ما يحكيه من الإجماع فهو حجة، وإلا فلادليل على كونهما لايمسحان إلا سكوت الراوي، وعدم تعرضه لذلك، وسكوته لا يلغي ما ثبت من مشروعية مسحهما، وقد ذكر في الفروع (2) ، وفي الإنصاف (3) ، رواية عن أحمد بوجوب مسح الأذنين مع العمامة، فأين دعوى الإجماع.
_________
(1) الشرح الكبير (1/167) .
(2) الفروع (1/163) .
(3) الإنصاف (1/187) .(5/576)
الشرط السادس
يشترط أن تكون العمامة مباحة(5/577)
[صفحة فارغة](5/578)
الشرط السادس
يشترط أن تكون العمامة مباحة
فإن كانت العمامة محرمة، سواء كانت محرمة لحق الله، كما لو كانت من حرير أو ذهب.
أو كانت العمامة محرمة لحق الغير، كما لو كانت مسروقة أو مغصوبة، ففي المسح عليها خلاف (1) ، والخلاف فيه كالخلاف في الخف المحرم، وقد ذكرنا أدلة كل قول هناك، وما رجحناه هناك نرجحه هنا، وهو جواز المسح على العمامة المحرمة؛ لأن التحريم ليس عائداً إلى المسح، وإنما هو لأمر خارج عنه، والله أعلم.
_________
(1) قال ابن قدامة في المغني (1/186) : " والعمامة المحرمة كعمامة الحرير والمغصوبة لا يجوز المسح عليها؛ لما ذكرنا في الخف المغصوب، وإن لبست المرأة عمامة لم يجز المسح عليها لما ذكرنا من التشبه بالرجال، فكانت محرمة في حقها، وإن كان لها عذر فهذا يندر، لم يرتبط الحكم به " اهـ.
وقال في الفروع (1/164) : " ولا تمسح امرأة عمامة، ولحاجة برد وغيره وجهان.
قال المرداوي في تصحيح الفروع تعقيباً:
ولحاجة برد وغيره وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وهو الصحيح، وجزم به في المغني، والشرح، وشرح ابن رزين ومجمع البحرين وغيرهم، وهو ظاهر العمدة، وقدمه ابن تميم وابن حمدان، وصححه غيرهم.
الوجه الثاني: يجوز، ويصح، قال المرداوي: والنفس تميل إلى ذلك، وهي شبيهة بما إذا لبس نجس العين في الضرورة على ما تقدم اهـ.(5/579)
[صفحة فارغة](5/580)
الشرط السابع
أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره(5/581)
[صفحة فارغة](5/582)
الشرط السابع
أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره
اختلف العلماء في العمامة، هل يشترط أن تكون العمامة ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، كمقدام الرأس والأذنين وشبههما من جوانب الرأس، فإنه يعفى عنه، على قولين.
والحنابلة رغم أنهم كانوا يتشددون في الخف المخرق، وأنه لا يمسح عليه ولو كان الخرق يسيراً إلا أنهم في العمامة قد قبلوا الانكشاف اليسير:
قال أحمد: إذا زالت عن رأسه فلا بأس ما لم يفحش.
وقال ابن عقيل: ما لم يرفعها بالكلية.
وقال صاحب المحرر: إن رفع العمامة يسيراً لم يضر.
وظاهر المستوعب: تبطل لظهور شيء من رأسه (1) .
وما رجحناه في المسح على الخف المخرق نرجحه هنا، وأنه لا يوجد دليل من الكتاب أو السنة على اشتراط أن تكون العمامة ساترة لما يجب مسحه، والشروط لا تثبت إلا بدليل، ولا دليل هنا.
_________
(1) الفروع (1/169،170) ، وقال في الإنصاف (1/185) : " ويجوز المسح على العمامة المحنكة إذا كانت ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، وهذا المذهب بشرطه، لا أعلم فيه خلافاً، وهو من مفرادت المذهب " اهـ.
وقوله: لا أعلم فيه خلافاً: يقصد في المسح على العمامة، وليس المقصود لا يعلم فيه خلافاً بالنسبة لاشتراط كونها ساترة لجميع الرأس. وانظر كشاف القناع (1/119) .(5/583)
[صفحة فارغة](5/584)
الفصل الخامس
إذا خلع العمامة فما حكم المسح عليها(5/585)
[صفحة فارغة](5/586)
الفصل الخامس
إذا خلع العمامة فما حكم المسح عليها
اختلف العلماء القائلون بالمسح على العمامة إذا نزعها من رأسه،
فقيل: تبطل الطهارة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: لا تبطل، اختاره ابن حزم (2) ، ورجحه ابن تيمية (3) ، وهو الصحيح.
وقيل: يجب عليه مسح رأسه مباشرة وغسل قدميه، هو رواية عن أحمد (4) .
وقيل: بل يجب عليه مسح رأسه، ولو لم يكن مباشرة، وهو قول آخر في مذهب الحنابلة (5) .
_________
(1) قال أحمد في مسائله رواية ابنه عبد الله (1/123) : " سألت أبي عن الرجل يمسح على عمامته، ثم يخلع العمامة؟ قال: يعيد الوضوء.
وفيه أيضاً: إن خلعها، وهو في الصلاة؟ قال: يعيد الوضوء والصلاة اهـ.
وانظر مسائل ابن هانئ (1/18) ، ومسائل أبي داود (1/15) رقم 50. ومسائل صالح (92،1323) ، وانظر كشاف القناع (1/121) ، مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (1/136) .
(2) قال ابن حزم في المحلى (1/337) : " ولو مسح على عمامة أو خمار، ثم نزعهما فلي عليه إعادة وضوء، ولا مسح رأسه، بل هو طاهر، كما كان، ويصلي كذلك ".
(3) الفتاوى الكبرى (5/305) ، الإنصاف (1/190) .
(4) قال ابن قدامة (1/178) : " وعلى الرواية الأخرى: يلزمه مسح رأسه، وغسل قدميه؛ ليحصل الترتيب ".
(5) الإنصاف (1/190) وانظر الأقوال في مسألة لو نزع الخف قبل تمام المدة.(5/587)
واختلف أصحاب أحمد في مبنى هذه الروايات على أقوال:
فقيل: مبنية على الموالاة، قال المرداوي: اختاره ابن الزاغوني، وقطع به المصنف في المغني، والشارح، وابن رزين في شرح، وقدمه في الرعاية الكبرى، فعلى هذا لو حصل ذلك قبل فوات الموالاة، أجزأه مسح رأسه وغسل قدميه قولاً واحداً لعدم الإخلال بالموالاة (1) .
وقيل: الخلاف مبني على أن المسح هل يرفع الحدث أم لا؟
قال المرداوي: قطع بهذه الطريقة القاضي أبو الحسين، واختاره وصححه المجد في شرحه، وابن عبيدان، وصاحب مجمع البحرين، والحاوي الكبير، وقدمه الشيخ تقي الدين في شرح العمدة، وقال هو وأبو المعالي وحفيده: وهو الصحيح من المذهب عند المحققين، واعلم أن المسح يرفع الحدث على الصحيح من المذهب - يعني: مذهب الحنابلة - نص عليه، وجزم به في التلخيص، والبلغة، وقدمه في الفروع... الخ كلامه (2) .
وقيل: مبني على أن الطهارة لا تتبعض في النقض، وإن تبعضت في الثبوت، كالصلاة والصيام (3) .
وانظر دليل كل قول في مسألة نزع الخف، فإن القول واحد، والدليل واحد. والله أعلم.
_________
(1) الإنصاف (1/190) .
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.(5/588)
فرع
لو انتقضت العمامة دون أن ينزعها
قال ابن قدامة في المغني:
وإن انتقضت العمامة بعد مسحها، بطلت طهارته؛ لأن ذلك بنزلة نزعها.
وإن انتقض بعضها ففيه روايتان ذكرهما ابن عقيل:
أحدهما: لا تبطل طهارته؛ لأنه زال بعض الممسوح عليه مع بقاء العضو مستوراً، فلم تبطل الطهارة، ككشط الخف مع بقاء البطانة.
والثانية: تبطل. قال القاضي: لو انتقض منها كور واحد بطلت؛ لأنه زال الممسوح عليه، فأشبه نزع الخف (1) .
وإذا كنا رجحنا في مسألة نزع الخف أن الطهارة لا تبطل، فكذلك الراجح هنا أن العمامة لو سقطت كلها فالطهارة باقية على حالها، انظر مسألة نزع الخف، فقد بسطت الأدلة هناك.
_________
(1) المغني (1/185) ، وقال ابن مفلح في الفروع (1/172) : " وان انتقض بعض العمامة فروايتان.
ورجح المرداوي في تصحيح الفروع: رواية البطلان. والله أعلم.(5/589)
[صفحة فارغة](5/590)
الباب التاسع
في المسح على الجبيرة
وفيه أربعة فصول(5/591)
[صفحة فارغة](5/592)
الفصل الأول
خلاف العلماء في جواز المسح على الجبيرة
اختلف العلماء في جواز المسح على الجبيرة،
فقيل: يجب المسح عليها، وهو مذهب المالكية (1) ، والقول القديم للشافعي (2) ، واختاره أبو يوسف ومحمد من الحنفية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وقال أبو حنيفة: ليس المسح على الجبيرة بفرض.
واختلف أصحابه في فهم عبارته.
فقيل: معناه أن المسح واجب، وليس بفرض (5) .
وقيل: بل معنى عبارة الإمام أن المسح مستحب، وليس بواجب (6) .
_________
(1) المدونة (1/129،130) ، مواهب الجليل (1/361) ، الخرشي (1/200) ، حاشية الدسوقي (1/162،163) ، التاج والإكليل (1/530) .
(2) المجموع (2/367) ،.
(3) بدائع الصنائع (1/13) ، أحكام القرآن للجصاص (2/493) ، حاشية ابن عابدين (1/279) ، تبيين الحقائق (1/52،53) .
(4) مسائل ابن هانئ (1/18،20) ، المقنع في شرح مختصر الخرقي (1/258) ، شرح الزركشي (1/204) ، المبدع (1/151،152) ، الإنصاف (1/187،188) ، تنقيح التحقيق (1/540) ، كشاف القناع (1/120) .
(5) شرح فتح القدير (1/159) ، البحر الرائق (1/194) ، مراقي الفلاح (ص: 55) ، تبيين الحقائق (1/52-53) ، الفتاوى الهندية (1/35) ، حاشية ابن عابدين (1/279) .
(6) انظر المراجع السابقة.(5/593)
وقيل: يجمع بين المسح والتيمم، وهو قول الشافعي في الأم، وعليه جمهور أصحابه (1) .
وقيل: لا يشرع المسح، واختلف القائلون به.
فقيل: يسقط المسح إلى غير بدل، وهو اختيار ابن حزم (2) .
وقيل: بل يكفيه التيمم، ولا يمسح، وهو قول للشافعية، ونسبه النووي إلى الحناطي وصاحب العدة، واختاره القاضي أبو الطيب (3) .
دليل القائلين بجواز المسح على الجبيرة.
الدليل الأول:
(171) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء،
عن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي b أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده (4) .
_________
(1) المجموع (2/367) .
(2) المحلى (1/316) .
(3) المجموع (1/367) .
(4) سنن أبي داود (336) .(5/594)
[إسناده ضعيف، وزيادة ويعصر أو يعصب ثم يمسح عليها زيادة منكرة] (1) .
_________
(1) في إسناده الزبير بن خريق.
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/580) .
ونسب الحافظ ابن حجر إلى أبي داود أنه قال في سننه: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (3/271) . ولم أقف عليه في المطبوع، فلعله نسخة.
وقال الدارقطني: ليس بالقوي. المرجع السابق، والكاشف (1619) .
وذكره ابن حبان في الثقات. (4/262) ، وفي التقريب: لين الحديث.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه الدارقطني (1/189ـ190) من طريق موسى بن عبد الرحمن، نا محمد ابن سلمة به.
وأخرجه البيهقي (1/227) والبغوي في شرح السنة (2/120) من طريق أبي داود به.
واختلف على عطاء فيه، فرواه الزبير بن خريق، عن عطاء، عن جابر كما سلف.
ورواه الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، وليس فيه ذكر التيمم مع المسح على الجبيرة، فتكون زيادة جمع التيمم مع المسح على الجبيرة زيادة منكرة، إلا أنه قد اختلف فيه على الأوزاعي:
فرواه أبو مغيرة كما عند أحمد (1/330) والدارمي (752) والدارقطني (1/192) ويحيى بن عبد الله كما عند الدارقطني (1/192) .
ومحمد بن شعيب كما عند أبي داود (337) .
والوليد بن مزيد، كما عند الدارقطني (1/192) ، والبيهقي (1/227) أربعتهم عن الأوزاعي، بلغني عن عطاء أنه سمع ابن عباس يخبر أن رجلاً أصابه جرح في عهد رسول الله b قد أصابه احتلام، فأمر بالاغتسال، فمات، فبلغ ذلك النبي b فقال: قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال. هذا لفظ أحمد.
زاد أبو المغيرة كما عند الدارمي، والوليد بن مزيد كما عند الدارقطني والبيهقي قال عطاء: فبلغنا أن رسول الله b سئل عن ذلك، فقال: لو غسل جسده، وترك رأسه، حيث أصابه الجرح.
وهذه الزيادة مرسلة، وليس فيها إلا ترك موضع الجرح إلى غير بدل من مسح أو تيمم. والحديث كله عن ابن عباس ليس فيه المسح على الجبيرة.
وأخرجه عبد الرزاق (867) ومن طريقه الدارقطني (1/191) عن الأوزاعي، عن رجل، عن عطاء، بنحو الرواية السابقة، وذكر الزيادة المرسلة عن عطاء.
وأخرجه الطبراني (11472) عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن الأوزاعي، سمعته منه، أو أخبرته عن عطاء به، وقال في آخره: " ألا يمموه ".
فهنا عبد الرزاق تارة يرويه عن الأوزاعي، عن رجل، عن عطاء.
وتارة يرويه بالشك، سمعته أو أخبرته عن عطاء.
وقال بعضهم، عن الأوزاعي، عن عطاء، أخرجه الدارقطني (1/191) من طريق أيوب بن سويد، وأبو نعيم في الحلية (3/317،318) من طريق محمد بن كثير، كلاهما عن الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح به.
وأخرجه أبو يعلى (2420) ، والدارقطني (1/190) ، والحاكم (1/178) من طريق الهقل بن زياد، قال: سمعت الأوزاعي، قال: قال عطاء: قال ابن عباس.
وهذه الروايات لا تعارض من رواه عن الأوزاعي، قال: بلغني عن عطاء، وذلك لأن الأوزاعي لم يصرح بالتحديث فيها.
وقد أخرجه الحاكم (1/178) من طريق بشر بن بكر، حدثني الأوزاعي، حدثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن عباس، وساق في آخره مرسل عطاء.
وضعف الحاكم رواية بشر، حيث قال: وقد رواه الهقل بن زياد، وهو من أثبت أصحاب الأوزاعي، ولم يذكر سماع الأوزاعي عن عطاء.
قلت: قد جاء في التهذيب: قال مسلمة بن صلة، عن بشر بن بكر: روى عن الأوزاعي أشياء انفرد بها، وهو لا بأس به إن شاء الله اهـ.
فالتصريح بالتحديث في روايته شاذة، فالراجح في رواية الأوزاعي أنها منقطعة.
وقد رواه عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، عن الأوزاعي، واختلف على عبدالحميد فيه:
فجاء في العلل لابن أبي حاتم (1/37) عن أبي حاتم وأبي زرعة قالا: روى هذا الحديث ابن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، وأفسد الحديث. اهـ
فقولهما: وأفسد الحديث: أي بين أن الواسطة بين الأوزاعي وعطاء هذا الرجل الضعيف، وهو إسماعيل بن مسلم المكي.
وقد رواه ابن ماجه (572) حدثنا هشام بن عمار، ثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، ثنا الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح به، ولم يذكر إسماعيل بن مسلم. وطريق الأوزاعي وإن كان ضعيفاً إلا أنه تابعه الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، وزاد فيه ذكر التيمم، ولم يذكر الأوزاعي فيه التيمم، رواه ابن الجارود في المنتقى (128) قال: حدثنا محمد بن يحيى، ومن طريق محمد بن يحيى أخرجه ابن خزيمة (273) وابن حبان (1314) قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: أنبأني الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، أن عطاء حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلاً أجنب في شتاء، فسأل، فأمر بالغسل، فاغتسل، فمات، فذكر ذلك للنبي b، فقال: ما لهم قتلوه، قتلهم الله ثلاثاً، قد جعل الله الصعيد أو التيمم طهوراً، شك ابن عباس، ثم أثبته بعد.
والوليد بن عبيد الله ضعفه الدارقطني، ووثقه يحيى بن معين، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما. انظر الجرح والتعديل (9/9) ، ولسان الميزان (6/223) .
وليس في هذا الطريق المسح على الجبيرة، فلا يكون فيه دليل للمسح على الجبيرة.
تلخص من هذه الروايات ما يلي:
أولاً: الحديث من مسند جابر منكر، فالمعروف أن الحديث من مسند ابن عباس.
ثانياً: المسح على الجبيرة بقوله: " يعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده.. " زيادة منكرة، تفرد بها الزبير بن خريق، وهو ضعيف.
ثالثاً: هذا الحديث أعني حديث جابر، الذي استدلوا به، هم لا يقولون بدلالته، فإن الحديث جمع بين المسح والتيمم، وهم لا يرون مشروعية الجمع بينهما، بل يقولون: المشروع: هو المسح فقط.
رابعاً: رواية الأوزاعي، عن عطاء لم يذكر فيها التيمم، ورواية الوليد بن عبيد الله ابن أبي رباح، عن عطاء، ذكر فيها التيمم، كما أن حديث جابر فيه ذكر التيمم، وصح عن ابن عباس موقوفاً عليه ذكر التيمم، فيكون الموقوف مقوياً للمرفوع، خاصة أنه من طريق آخر، فيكون ذكر التيمم في الحديث محفوظاً، وسوف أذكر قول ابن عباس الموقوف عليه عند ذكر أدلة من يرى التيمم إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/595)
الدليل الثاني:
(172) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده،
عن علي بن أبي طالب قال: انكسر إحدى زندي، فسألت رسول الله b، فأمرني أن أمسح على الجبائر (1) .
[ضعيف جداً، بل موضوع] (2) .
_________
(1) المصنف (623) .
(2) كما أخرجه من طريق عبد الرزاق أخرجه ابن ماجه (657) ، والدارقطني (1/226) ، والعقيلي في الضعفاء (3/268) .
وأخرجه ابن الجوزي في التحقيق من طريق الدارقطني (1/220) .
وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/124) والبيهقي (1/228) من طريق سعيد بن سالم القداح، حدثني إسرائيل به.
وهذا الحديث ضعيف جداً بل موضوع، فيه عمرو بن خالد الواسطي، جاء في ترجمته:
قال أحمد: متروك الحديث، ليس يسوى شيئا. الجرح والتعديل (6/230) .
قال عباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين قال: عمرو بن خالد كذاب غير ثقة ولا مأمون. المرجع السابق.
قال إسحاق بن راهويه: كان عمرو بن خالد الواسطي يضع الحديث. المرجع السابق.
قال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، ذاهب الحديث، لا يشتغل به. المرجع السابق.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن عمرو بن خالد الواسطي، فقال: كان واسطياً، وكان يضع الحديث، ولم يقرأ علينا حديثه، وقال: اضربوا عليه. المرجع السابق.
ورماه وكيع بالكذب كما في تقريب التهذيب.
وكذبه أحمد، كما في المجروحين لابن حبان (2/76) .
وقال ابن عدي: ولعمرو بن خالد غير ما ذكرت من الحديث، وعامة ما يرويه موضوعات. الكامل (5/123) .
قال الشافعي: لو عرفت إسناده بالصحة قلت به. الأم (1/44)
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/46) : سألت أبي عن حديث رواه عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه أن علياً انكسرت إحدى زنديه، فأمره النبي b أن يمسح على الجبائر، فقال أبي: هذا حديث باطل لا أصل له، وعمرو بن خالد متروك الحديث اهـ.
وقال البوصيري في مصباح الزجاجه (1/84) : "
هذا إسناد فيه عمرو بن خالد كذبه أحمد وابن معين
وقال البخاري منكر الحديث وقال أبو زرعة وكيع يضع الحديث
وقال الحاكم يروي عن زيد بن علي الموضوعات " اهـ.
قال البيهقي (1/228) : تابعه على ذلك عمر بن موسى بن وجيه، فرواه عن زيد بن علي مثله، وعمر بن موسى متروك، منسوب إلى الوضع، نعوذ بالله من الخذلان، وروي بإسناد آخر مجهول عن زيد بن علي، وليس بشيء، ورواه أبو الوليد خالد بن يزيد المكي بإسناد آخر عن زيد بن علي، عن علي مرسلاً، وأبو الوليد ضعيف، ولا يثبت عن النبي b في هذا الباب شيء، وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح الذي قد تقدم، وليس بالقوي، وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم، مع ما روينا عن ابن عمر في المسح على العصابة، والله أعلم. اهـ كلام البيهقي.
وجاء عن عبد الرزاق من طريق آخر، جاء في العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (3/15) : سمعت رجلاً يقول ليحيى: تحفظ عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، عن النبي b أنه مسح على الجبائر، فقال: باطل، ما حدث به معمر قط، سمعت يحيى يقول: عليه بدنة مقلدة مجللة، إن كان معمر حدث بهذا قط، هذا باطل، ولو حدث بهذا عبد الرزاق كان حلال الدم، من حدث بهذا عن عبد الرزاق؟ قالوا له: فلان، فقال: لا والله ما حدث به معمر، وعليه حجة من ههنا يعني المسجد إلى مكة إن كان معمر حدث بهذا اهـ.(5/598)
الدليل الثالث:
(173) ما رواه الدراقطني، قال: ثنا دعليج بن أحمد، نا محمد بن علي بن زيد الصائغ بمكة، حدثنا أبو الوليد ـ وهو خالد بن يزيد المكي ـ نا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثنا الحسن بن زيد، عن أبيه،
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، سألت رسول الله b عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها؟ وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يمسحان بالماء عليهما في الجنابة والوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا اغتسل؟ قال: يمر على جسده، وقرأ رسول الله b: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (1) يتيمم إذا خاف (2) .
[إسناده ضعيف جداً] (3) .
_________
(1) النساء، آية: 29.
(2) سنن الدارقطني (1/226) .
(3) وهذا الإسناد له علتان:
أحدهما: خالد بن يزيد المكي ضعيف، جاء في ترجمته:
قال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبو زرعة، وترك الرواية عنه. الجرح والتعديل (3/360) .
قال يحيى بن معين: خالد بن يزيد العمري كذاب. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن خالد بن يزيد العمري المكي، فقال: كان كذاباً أتيته بمكة، ولم أكتب عنه، وكان ذاهب الحديث. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: ولخالد بن يزيد العدوي غير هذا من الحديث، ومقدار ما يرويه عن من رواه لا يتابع عليه. الكامل (3/16) .
وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا أكثر من كتب عنه أصحاب الرأي لا يشتغل بذكره لأنه يروي الموضوعات عن الأثبات. المجروحين (1/284) .
العلة الثانية: زيد بن علي بن الحسين لم يدرك جده علي بن أبي طالب. قال البيهقي (1/228) : " ورواه أبو الوليد خالد بن يزيد المكي بإسناد آخر، عن زيد بن علي، عن علي مرسلاً، وأبو الوليد ضعيف؛ ولا يثبت عن النبي b في هذا الباب شيء اهـ.
وقال عبد الله بن أحمد في العلل لأحمد (3/16) : " وهذا الحديث يروونه عن إسرائيل، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي أن النبي b مسح على الجبائر وعمرو بن خالد لا يسوي حديثه شيئاً " اهـ.(5/600)
الدليل الرابع:
(174) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا أبو بكر الشافعي، نا أبو عمارة محمد بن أحمد بن المهدي، ثنا عبدوس بن مالك العطار، نا شبابة، نا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
عن ابن عمر أن النبي b كان يمسح على الجبائر.
قال الدارقطني: لا يصح مرفوعاً، وأبو عمارة ضعيف جداً (1) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/205) ، ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/361) وفي التحقيق (1/219) .
ورواه الخطيب في تاريخه (11/115) من طريق عبد الله بن إبراهيم الشافعي، أخبرنا محمد بن أحمد بن المهدي به.
قلت: جاء في ترجمة أبي عمارة: محمد بن أحمد بن مهدي ما يلي:
قال الدارقطني: متروك. لسان الميزان (5/37) .
وقال الخطيب: في حديثه مناكير وغرائب. تاريخ بغداد (3/360) .(5/601)
الدليل الخامس:
(175) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد،
عن ثوبان، قال: بعث رسول الله b سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي b شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (1) .
[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (2) .
وأجيب:
بأن المراد بالعصائب: العمائم، والتساخين: كل ما يسخن القدم من جورب ونحوه، فلا حجة فيه.
الدليل السادس: من الآثار.
(176) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا سماغ، ثنا الوليد، نا سعيد بن أبي عروبة، حدثني سليمان بن موسى، عن نافع، قال:
جرحت إبهام رجل ابن عمر، فألقمها مرارة، فكان يتوضأ
_________
(1) المسند (5/277) .
(2) سبق تخريجه.(5/602)
عليها (1) .
وأجيب:
بأن فعل ابن عمر، وإن كان صحيحاً فقد عارضه قول ابن عباس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن ابن عباس يرى أن يتيمم، بل يعارض فعل ابن عمر ظاهر القرآن، قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (2) فذكر أن التيمم يشرع إذا كان الإنسان مريضاً، والجرح: نوع من المرض.
قال ابن حزم: " فإن قيل: قد رويتم عن ابن عمر أنه ألقم أصبعه
_________
(1) الأوسط (2/24) .
وأخرجه البيهقي (1/228) من طريق أبي عامر موسى بن عامر، ثنا الوليد بن مسلم به. وفي الإسناد سعيد بن أبي عروبة، وقد اختلط، والراوي عنه: الوليد بن مسلم، ولم أقف هل سمع الوليد قبل الاختلاط، أو بعد الاختلاط، وقد ذكر صاحب الكواكب النيرات تسعة من الحفاظ ممن سمع من سعيد قبل الاختلاط، وألحق المحقق خمسة عشر آخرين، ولم يذكرا الوليد بن مسلم منهم، كما لم يذكروا الوليد بن مسلم ممن سمع منه بعد الاختلاط، لكن جاء المسح عن ابن عمر من طريق آخر، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/126) حدثنا شبابة، قال: حدثنا هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر، قال: من كان به جرح معصوب، فخشي عليه العنت، فليمسح ما حوله، ولا يغسله.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عمر، وقد رواه ابن المنذر في الأوسط (2/24) من طريق إسحاق والبيهقي في السنن (1/228) من طريق أبي عامر موسى بن عامر، كلاهما عن الوليد بن مسلم، قال: أخبرني هشام بن الغاز به، بلفظ:
إن كان عليه عصاب مسحه، وإن لم يكن عليه عصاب غسل ما حوله، ولم يمسه الماء. هذا لفظ ابن المنذر.
(2) المائدة، آية: 6.(5/603)
مرارة، فكان يمسح عليها.
قلنا: هذا فعل منه، وليس إيجاباً للمسح عليها، وقد صح عنه رضي الله عنه أنه كان يدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغسل، وأنتم
لا ترون ذلك، فضلاً عن أن توجبوه فرضاً " (1) اهـ.
فقد يكون ابن عمر فعل ذلك احتياطاً، ويبقى ما دام أن ابن عباس خالفه، يطلب مرجح لأحد القولين من دليل آخر.
الدليل السابع:
من النظر، قالوا: إن المسح على الجبيرة أولى من التيمم من وجهين:
الأول: أن المسح يكون بالماء، والتيمم بالتراب، والأصل: استعمال الماء.
الثاني: المسح يكون في ما يغطي موضع الغسل، وأما التيمم في عضوين فقط، وقد يكونا أجنبين عن موضع الجرح، فالجرح إما أن يكون مكشوفاً أو مستوراً، فإن كان مكشوفاً، فالواجب غسله، فإن تعذر غسله بالماء، انتقل إلى مسحه بالماء، فإن تعذر المسح، فالتيمم.
وإن كان العضو مستوراً ففرضه المسح، فإن تضرر انتقل إلى التيمم.
وأجيب:
بأن هذا الترتيب لا دليل عليه، وهو استحسان في مقابل النص، أعني آية المائدة، فلا يقبل.
_________
(1) المحلى (1/317) .(5/604)
الدليل الثامن:
قالوا: يشرع المسح على الجبيرة قياساً على العمامة والخفين؛ لأن هذا العضو ستر بما يسوغ شرعاً، فجاز المسح عليه كالخفين والعمامة.
وأجيب:
بأن هناك فرقاً بين الجبيرة والخفين، فلا يصح القياس، فمن ذلك:
أن المسح على الجبيرة واجب، والمسح على الخفين جائز.
الثاني: المسح على الجبيرة في الطهارتين الصغرى والكبرى، وفي الخف في الطهارة الصغرى فقط.
الثالث: المسح على الجبيرة لا توقيت فيها، بخلاف الخف.
الرابع: المسح على الجبيرة يستوعبها بالمسح، كما يستوعب الجلد، بخلاف الخف.
الخامس: أن المسح على الخفين يشترط له الطهارة، بخلاف الجبيرة على قول.
وإذا تبين بينهما هذه الفروق فكيف يصح قياس الجبيرة على الخف؟!
أدلة القائلين بالتيمم.
من القرآن قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) .
وإذا لم يكن هذا الجرح مرضاً، فما هو المرض المبيح للتيمم؟ فهل يشترط أن يكون مرضاً مانعاً من استعمال الماء مطلقاً؟ أين الدليل على هذا
_________
(1) المائدة، آية: 6.(5/605)
الشرط، وهذا الشرط لو قالوه مخالف لقولهم: إذا كان معه ماء يكفي بعض طهره، استعمله، وتيمم عن الباقي.
الدليل الثاني:
(177) ما رواه ابن الجارود، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: أنبأني الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، أن عطاء حدثه،
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً أجنب في شتاء، فسأل، فأمر بالغسل، فاغتسل، فمات، فذكر ذلك للنبي b قال: ما لهم قتلوه؟ قتلهم الله ثلاثاً قد جعل الله الصعيد، أو التيمم طهوراً، شك ابن عباس، ثم أثبته بعد (1) .
[إسناده حسن] (2) .
والغريب أن القائلين بالمسح تركوا هذا الحديث، وأخذوا بحديث جابر، وهو غلط من راويه الزبير بن خريق؛ لأن الأوزاعي والوليد بن عبيدالله قد خالفاه، فروياه عن عطاء من مسند ابن عباس، وليس فيه المسح على
_________
(1) المنتقى (128) .
(2) في إسناده الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، جاء في ترجمته:
والوليد بن عبيد الله ضعفه الدارقطني، ووثقه يحيى بن معين، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما. انظر الجرح والتعديل (9/9) ، ولسان الميزان (6/223) .
وجرح الدارقطني غير مفسر، فلا يعارض توثيق ابن معين، وابن معين معروف بتشدده، ومع ذلك وثقه، وقد أخرج له ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما، وهذا تصحيح منهما لحديثه، فأقل أحواله أن يكون حسناً جمعاً بين إعمال الجرح وإعمال التعديل.(5/606)
الجبيرة، ومع تقديمهم لحديث جابر على نكارته، لم يقولوا بمقتضاه من الجمع بين المسح والتيمم، بل أخذوا بعضه، وتركوا بعضه، وهذا من غرائب الاستدلال!! .
الدليل الثالث:
أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أهل جهاد، فكانت تكثر فيهم الجروح والقروح، فلو كان المسح على الجبيرة مشروعاً لجاء مبيناً في السنة تبييناً واضحاً لا إشكال فيه، كما بين الرسول b أن الريح حدث يبطل الوضوء، ولا ينازع في ذلك منازع، خاصة أن الأمر يتعلق بالصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام العملية، فلما لم يأت المسح إلا من حديث رجل إما متهم بالكذب، وإما ضعيف قد خالفه من هو أوثق منه، علم أن المسح ليس مشروعاً.
الدليل الرابع:
صح عن ابن عباس موقوفاً عليه القول بالتيمم،
(178) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: إذا أجنب الرجل، وبه الجراحة والجدري، فخاف على نفسه إن هو اغتسل، قال: يتيمم بالصعيد (1) .
[حديث حسن] (2) .
_________
(1) المصنف (1/96) .
(2) جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/26) : " قال: ورواه أبو عوانة وورقاء وغيرهما، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفاً، وهو الصحيح " اهـ.
وقد اختلف فيه على عطاء، فرواه ابن خزيمة (272) ومن طريقه ابن الجارود في المنتقى (129) قال: ثنا يوسف بن موسى،
ورواه الحاكم في المستدرك (1/165) من طريق إسحاق بن إبراهيم، كلاهما قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، يرفعه في قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري، فيجنب، فيخاف إن اغتسل أن يموت، فليتيمم اهـ. ورفعه ضعيف.
أولاً: لأنه انفرد به جرير بن عبد الحميد، عن عطاء، وهو ممن روى عنه بعد الاختلاط.
وثانياً: أن الجماعة قد رووه عن عطاء موقوفاً على ابن عباس، منهم أبو الأحوص وأبو عوانة، وورقاء.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (869) عن الثوري، عن عاصم الأحول، عن قتادة، عن ابن جبير، عن ابن عباس، قال: رخص للمريض في الوضوء التيمم بالصعيد، وقال ابن عباس: أرأيت إن كان مجدراً: كأنه صمغه ـ كيف يصنع؟
وقد رواه ابن المنذر في الأوسط (2/19) من طريق عبد الرزاق به. وقد سقط من المصنف الثوري وعاصم، والتصحيح من الأوسط لابن المنذر. كما أن متن عبد الرزاق فيه سقط أكملته من الأوسط.(5/607)
الدليل الخامس:
إذا كان الجنب قد رخص له إذا خاف على نفسه الضرر من الاغتسال أن يتيمم، فكذلك إذا خاف على جرحه، ولا فرق، ولا يقال له: امسح جسدك بالماء إذا خفت من الاغتسال؛ لأنه أولى من التيمم، فهذا بالماء، وذاك بالتراب، وهذا في عضوين، وذاك في الجسم كله، بل نقول له: تيمم، وهذا يكفيك، فكذلك إذا خاف على عضو من أعضائه.(5/608)
وفي المسألة قصة عمرو بن العاص، لكن اختلف فيه، هل تيمم أو غسل مغابنه وتوضأ؟
فرواه عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص بذكر الوضوء، وغسل المغابن (1) .
ورواه عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، بذكر التيمم،
_________
(1) أخرجه أبو داود (335) حدثنا محمد بن سلمة المرادي، أخبرنا ابن وهب، عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص كان على سرية وذكر الحديث نحوه، قال: فغسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم، فذكر نحوه، ولم يذكر التيمم.
وأخرجه ابن حبان (1315) قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم، قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث به، ولم يذكر ابن لهيعة.
واختلف على حرملة بن يحيى، فرواه عنه ابن حبان كما سبق.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/27) حدثنا أحمد بن داؤد، ثنا حرمله به بإسناد ابن حبان إلا أنه ذكر التيمم، ولم يذكر غسل المغابن ولا الوضوء، ولعله اختلط عليه رواية عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص، برواية عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس أن عمرو بن العاص... ألخ
وأخرجه الدارقطني (1/179) من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثني عمي (ابن وهب) عن عمرو بن الحارث وحده به.
وأخرجه الحاكم (1/177) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/226) من طريق أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم، أنبأ ابن وهب، حدثني عمرو بن الحارث ورجل آخر، عن يزيد بن أبي حبيب به.
قال البيهقي: ورجل آخر أظنه ابن لهيعة.(5/609)
ولم يسمعه من عمرو (1) .
_________
(1) رواه أحمد في مسنده (4/203،204) قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله b عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله b ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} ، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله b، ولم يقل شيئاً.
وهذا الإسناد له علتان:
الأولى: ضعف ابن لهيعة، لكن تابعه على ذلك يحيى بن أيوب المصري، فقد أخرجه أبو داود (334) والدارقطني (1/178) والحاكم (1/177،178) من طريق يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب به.
العلة الثانية: أخشى أن يكون منقطعاً بين عبد الرحمن بن جبير وعمرو بن العاص، فإن صح سماع عبد الرحمن بن جبير من عمرو، فالإسناد صحيح إن شاء الله تعالى.
وذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض، في باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم، قال البخاري: ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم، وتلا {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} فذكر للنبي b فلم يعنف.
قال الحافظ في الفتح (1/454) : " وإسناده قوي، لكن علقه بصيغة التمريض؛ لكونه اختصره. الخ كلامه.
واختلف على ابن لهيعة، فرواه حسن بن موسى عنه كما سبق.
ورواه زيد بن الحباب كما في فتوح مصر لابن عبد الحكم (ص: 249) عن ابن لهيعة، فزاد في إسناده بين عبد الرحمن بن جبير، وبين عمرو بن العاص أبا فراس يزيد بن رباح.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (878) عن ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي أمامة سهل بن حنيف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص أنه أصابته جنابة، وهو أمير الجيش، فترك الغسل من أجل آية، قال: إن اغتسلت مت، فصلى بمن معه جنباً، فلما قدم على النبي b عرفه بما فعل، وأنبأه بعذره، فسكت.
وأورده الهيثمي في المجمع (1/263) ، وقال: رواه الطبراني في الكبير، وقال: وفيه
أبو بكر بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، ولم أجد من ذكره.
وقال ابن حجر تغليق التعليق (2/191) : هذا إسناد جيد، لكني لم أعرف حال إبراهيم هذا.(5/610)
والطريق الأول: أوصل.
والطريق الثاني: أوفق لمقتضى القواعد، ولعله فعل الأمرين.
قال البيهقي: ويحتمل أن يكون قد فعل ما نقل في الروايتين جميعا، غسل ما قدر على غسله، وتيمم للباقي، والله أعلم (1) .
دليل من قال يسقط فرضه ولا يمسح ولا يتيمم.
استدل ابن حزم بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (2) .
وقول الرسول b: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
قال ابن حزم فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء، وكان التعويض منه شرعاً، والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة، ولم يأت قرآن ولاسنة بتعويض المسح على الجبائر " (3) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/226) .
(2) البقرة، آية: 286.
(3) المحلى (1/316) .(5/611)
وفي ما قاله رحمه الله نظر؛ لأن القرآن والسنة جاءت بالبدل،
وهو التيمم كما ذكرنا من سورة المائدة، ومن حديث ابن عباس، والله أعلم.
دليل من قال يجمع بين المسح والتيمم.
الدليل الأول:
حديث جابر في صاحب الشجة، وفيه: " إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده ".
[سبق تخريجه في أدلة القول الأول]
وقد ذكرنا أن هذه الزيادة زيادة منكرة، تفرد بها الزبير بن خريق مخالفاً لمن هو أوثق منه.
الدليل الثاني:
قالوا: إن ما تحت الجبيرة عليل لا يمكن غسله، فأشبه الجريح بوجوب التيمم، ولبسه لهذا الحائل أشبه الخف بمشقة النزع، فلما أشبههما وجب الجمع بين المسح والتيمم.
الدليل الثالث:
قالوا: ولأن في الجمع بينهما احتياطاً للعبادة، وخروجاً من الخلاف.
وهذا القول ضعيف أيضاً؛ لأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالف لقواعد الشرع، فإن كان المسح مطهراً، فلماذا التيمم؟ وإن كان التيمم مطهراً فلماذا المسح؟ ولا يكلف الله عبداً بعبادتين سببهما واحد.(5/612)
الراجح:
بعد استعراض أدلة الفريقين لا أرى في المسح على الجبيرة نصاً مرفوعاً يمكن أن يعول عليه، وجاء عن ابن عمر بسند صحيح موقوفاً عليه، وعارضه قول ابن عباس، والقول بالمسح هو قول عامة الفقهاء من التابعين وغيرهم، وأرى أن القول بالتيمم أرجح من المسح على الجبيرة؛ لآية المائدة، ولأثر ابن عباس الموافق لآية المائدة، وهو أحب إلى نفسي، ولو مسح أحد متبعاً بذلك الصحابي الجليل ابن عمر، فلا بأس عليه إن شاء الله تعالى.(5/613)
[صفحة فارغة](5/614)
الفصل الثاني
في شروط المسح على الجبيرة(5/615)
[صفحة فارغة](5/616)
الشرط الأول
أن يكون الغسل مما يضر بالعضو أو الجروح(5/617)
[صفحة فارغة](5/618)
الشرط الأول
أن يكون الغسل مما يضر بالعضو أو الجروح
من شروط المسح على الجبيرة أن يكون الغسل مما يضر بالعضو المنكسر، أو بالجروح والقروح، أو لا يخاف الضرر من جهة أخرى بسبب نزع الجبائر.
فإن كان لا يضره الغسل، ولا يخاف ضرراً بنزع الجبيرة، وجب الغسل؛ لأن الغسل فرض، سقط إلى بدل، وهو المسح لوجود العذر، فإذا لم يوجد العذر لم يسقط الغسل. وهذا لا خلاف فيه (1) .
فإن خاف من المسح على الجبيرة، فإن أمكن وضع جبيرة أخرى ليمسح، وضع أخرى، وإن لم يمكن سقط المسح، كما سقط الغسل، وهل يسقط إلى بدل، وهو التيمم، أو يسقط إلى غير بدل سبق لنا ذكر الخلاف في جواز المسح على الجبيرة، فارجع إليه إن شئت.
_________
(1) بدائع الصنائع (1/13) ، الخرشي (1/200) ، وقال ابن قدامة في المغني (1/172) : " لا يجوز المسح عليها إلا عند الضرر بنزعها ".(5/619)
[صفحة فارغة](5/620)
الشرط الثاني
الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة(5/621)
[صفحة فارغة](5/622)
الشرط الثاني
الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة
اختلف العلماء هل يشترط في المسح على الجبيرة أن يلبسها على طهارة.
فقيل: لا يشترط، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) .
وقيل: لا تلبس الجبيرة إلا على طهارة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، فإن كان لا يضره نزعها وجب، وإن كان يضره تيمم، ولم يمسح عند الحنابلة (3) ، وعند الشافعية يمسح مع الإثم، ويعيد الصلاة إذا برئ (4) .
دليل الحنفية والمالكية على عدم اشتراط الطهارة.
الدليل الأول:
عدم الدليل على اشتراط الطهارة، فالأحاديث التي جاء فيها المسح
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/14) : " لا تشترط الطهارة لوضع الجبائر، حتى لو وضعها، وهو محدث، ثم توضأ، جاز له أن يمسح عليها "، وانظر مراقي الفلاح (ص: 56) ، المبسوط (135) ، تبيين الحقائق (1/54) ، شرح فتح القدير (1/158) .
(2) حاشية الدسوقي (1/164) ، منح الجليل (1/163) ، الخرشي (1/201) .
(3) المحرر (1/13) ، كشاف القناع (1/114) ، الفروع (1/160،161) ، شرح الزركشي (1/402) ، المبدع (1/140) ، الإنصاف (1/173،174) ، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/258) .
(4) المجموع (2/369) ، أسنى المطالب (1/82) ، شرح البهجة (1/203) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/111) .(5/623)
على الجبيرة مطلقة، لم تشترط تقدم الطهارة.
الدليل الثاني:
المسح على الجبيرة يقع فجأة، أو في وقت لا يعلم الماسح وقوعها فيه، وبدون اختياره، بخلاف الخف، فإنه يلبسه مختاراً.
الدليل الثالث:
لو تأخر في لبس الجبيرة لتحصيل الطهارة، لحصل له ضرر بذلك، والشرع لا يأتي بمثل هذا.
الرابع:
أن اشتراط الطهارة فيه حرج ومشقة، والحرج والمشقة مرفوع عن هذه الأمة بنص القرآن والسنة.
دليل الحنابلة والشافعية على اشتراط الطهارة.
قالوا: لأن الجبيرة حائل يمسح عليه، فكان من شرط المسح عليه تقدم الطهارة كالخفين.
وأجيب:
بأنه لا يمكن قياس الجبيرة على الخف؛ لأن لبس الخف ترفه، وطلب كمال، ولبس الجبيرة ضرورة، ومرض، ولذا وقت في الخف، ولم يوقت في الجبيرة، وكان مسح الجبيرة واجباً عند من يراه، بخلاف الخف، وتستوعب الجبيرة بالمسح، ولا يستوعب الخف، ويجمع بين غسل ومسح في عضو واحد، ولا يجمع ذلك في الخف إلى آخر الفروق المعلومة، فلا يتأتى القياس على الخف.
وهذا القول أرجح، إلا أنه مبني على القول بالمسح على الجبيرة.(5/624)
الشرط الثالث
الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة(5/625)
[صفحة فارغة](5/626)
الشرط الثالث
الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة
اختلف العلماء هل يشترط في الجبيرة ألا تتجاوز قدر الحاجة؟
فقيل: يشترط ألا تتجاوز قدر الحاجة (1) ، فإن تجاوز بالجبيرة موضع الحاجة، فإن كان لايضره حلها، حلها وغسل ما تحت الصحيح، وإن كان يضره،
فقيل: يمسح عليها كلها بلا تيمم وهو مذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، ورواية عن أحمد (4) .
وقيل: يمسح عليها، ويتيمم، وهو المشهور من مذهب الشافعية (5) ، والحنابلة (6) .
_________
(1) والحاجة: هي موضع الكسر، وكل ما قرب منه مما يحتاج إليه في شدها للإستمساك. فالجبيرة توضع على طرفي الصحيح؛ لينجبر الكسر، فلا بد أن تغطي موضعاً من الصحيح.
قال النووي في المجموع (1/369) : " ولا يجوز أن يضع الجبيرة على شيء من الصحيح إلا القدر الذي لا يتمكن من ستر الكسر إلا به " اهـ.
(2) الاختيار لتعليل المختار (1/26) ، حاشية ابن عابدين (1/280،281) ، البحر الرائق (1/197) ، بدائع الصنائع (1/13) .
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/164) ، مواهب الجليل (1/362) ، منح الجليل (1/163) .
(4) الإنصاف (1/188) .
(5) أسنى المطالب (1/82) ، روضة الطالبين (1/106) ، المجموع (2/369) .
(6) المبدع (1/140) ، الإنصاف (1/188) ، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/259) .(5/627)
دليل من قال بالمسح فقط.
التعليل الأول:
لما كانت الجبيرة زائدة عن موضع الجرح، وكان حل الجبيرة يضره، أصبح وجود الجبيرة ضرورة، فجاز المسح على الجميع.
التعليل الثاني:
قالوا: ولأن إيجاب المسح والتيمم معاً إيجاب طهارتين لعضو واحد، وهذا مخالف لقواعد الشرع.
التعليل الثالث:
قالوا: إن تقدير الموضع الزائد على الحاجة قد يتعسر، ولا ينضبط، ولذلك قال ابن قدامة في المغني: " كأن أبا عبد الله استحب أن يتوقى أن يبسط الشد على الجرح بما يجاوزه، ثم سهل في مسألة الميموني والمروذي؛ لأن هذا مما لا ينضبط، وهو شديد جداً، ولا بأس بالمسح على العصائب كيف شدها " اهـ.
دليل من قال بالجمع بين المسح والتيمم.
قالوا: إن شد الجبيرة على موضع لا يحتاج إليه، كشدها على موضع لا كسر فيه، فيبقى ما على موضع الحاجة يقتضي المسح، والزائد يقتضي التيمم.
وأجيب:
بأن الشيء قد يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، لما سبق ذكره من وجود الحرج في ضبط مقدار الحاجة.(5/628)
الراجح من الخلاف
بعد استعراض الخلاف نجد أن قول الجمهور في هذه المسألة أقوى، إلا أني لا أراه، لكونه مبنياً على القول بالمسح على الجبيرة، وقد ناقشت هذه المسألة في فصل مستقل، والله أعلم.(5/629)
[صفحة فارغة](5/630)
الشرط الرابع
هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة(5/631)
[صفحة فارغة](5/632)
الشرط الرابع
هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة؟
إذا كانت الجبيرة من حرير أو غصب، ففي جواز المسح عليها قولان:
أحدهما: لا يصح المسح عليه.
والثاني: يصح المسح عليها.
والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في الخف المحرم، وقد سبق بحثه، والصحيح جواز المسح على الجبيرة، ولو كانت محرمة، لأن الجهة منفكة، والتحريم ليس من قبل الصلاة، وإنما هو لأمر خارج، وهذا الترجيح مبني على القول بجواز المسح على الجبيرة، وقد سبق لك الخلاف.(5/633)
[صفحة فارغة](5/634)
الشرط الخامس
هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحاً(5/635)
[صفحة فارغة](5/636)
الشرط الخامس
هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحاً؟
ذهب المالكية إلى أنه يشترط للمسح على الجبيرة أن يكون غالب البدن في الطهارة الكبرى أو غالب الأعضاء الأربعة في الطهارة الصغرى صحيحاً، أو يكون نصفه صحيحاً ونصفه جريحاً، فإن كان البدن كله جريحاً، أو غالبه جريحاً، فلا يمسح على الجبائر، بل يتيمم، حتى ولو لم يضره غسل ذلك الصحيح (1) .
قالوا: إذا كان الصحيح من البدن، هو القليل، فلا حكم له، فكأن البدن أصبح كله جريحاً، وإذا كان البدن كله جريحاً وجب التيمم بنص القرآن، قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (2) .
وهذا دليل على ضعف القول بالمسح على الجبيرة؛ لأن البدن إذا كان نصفه جريحاً يتيمم، ولا يمسح، استدلالاً بآية المائدة، فكذلك إذا كان غالبه صحيحاً يتيمم، ولا يمسح، ولا فرق، خاصة إذا علمنا أن المسح على الجبيرة ليس فيها نص صحيح يصار إليه.
_________
(1) مواهب الجليل (1/362) ، حاشية الدسوقي (1/164) ، الخرشي (1/201،202) التاج والإكليل (1/532،533) الفواكه الدواني (1/163) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/204) ، منح الجليل (1/163) .
(2) المائدة، آية: 6.(5/637)
[صفحة فارغة](5/638)
الشرط السادس
هل يشترط أن توضع جبيرة
على الجرح حتى يمسح(5/639)
[صفحة فارغة](5/640)
الشرط السادس
هل يشترط أن توضع جبيرة على الجرح حتى يمسح
إذا كان الجرح ليس عليه عصابة، ولا جبيرة، فالمشهور من مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، أنه يتيمم للجرح ولا يمسح عليه، حتى لو كان يمكنه مسحه بلا ضرر.
وهذا مما يضعف القول بالمسح؛ لأنه إذا كان المسح لا يشرع مع مباشرة الممسوح بدون حائل، فكونه لا يشرع مع الحائل من باب أولى.
واختار الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، وهو رواية في مذهب أحمد (5) ، أن الفرض غسل الجرح بالماء، فإن خاف ضرراً مسح على الجرح بدون حائل،
_________
(1) المجموع (1/371) ، روضة الطالبين (1/107) .
(2) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/128،129) ، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/253) ، شرح الزركشي (1/381) .
(3) شرح فتح القدير (1/161) ، الاختيار لتعليل المختار (1/26) ، بدائع الصنائع (1/13) .
(4) مواهب الجليل (1/361) ، الخرشي (1/200) .
(5) قال في المغني (1/173) رواه حنبل عنه.
قلت: ما تفرد به حنبل لا يعتبر على التحقيق رواية، لكن لم يتفرد به، فقد جاء في مسائل ابن هانئ (1/20) : " سألته عن الرجل به جرح، تصيبه جنابة؟ قال: إذا خاف على نفسه، يمسح عليه " اهـ.
وقال في (1/18) : " سألت أبا عبد الله عن رجل بعقبه علة، لا يستطيع أن يغسله إذا توضأ؟ قال: له عذر، وأمرني أن أمسح عليه، وكنت قد أريته الرجل ".(5/641)
فإن خاف ضرراً من وصول البلل إلى الجرح مسح على الجبيرة أو العصابة.
وهذا القول أقوى من الأول إلا أنه مبني على القول بالمسح على الجبيرة، والله أعلم.(5/642)
الشرط السابع
هل يشترط أن تكون الجبيرة
من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها(5/643)
[صفحة فارغة](5/644)
الشرط السابع
هل يشترط أن تكون الجبيرة
من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها
لا يشترط أن تكون الجبيرة من خشب، وحكم اللصوق على الجروح حكم الجبيرة (1) .
قال المرداوي: اللصوق حيث تضرر بقلعه يمسح عليه إلى حله كالجبيرة، وينبغي أن لا يكون فيه خلاف " (2) .
(179) قلت: أصل ذلك ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا سماغ، ثنا الوليد، نا سعيد بن أبي عروبة، حدثني سليمان بن موسى، عن نافع، قال:
جرحت إبهام رجل ابن عمر فألقمها مرارة، فكان يتوضأ عليها (3) .
[سبق بحثه] .
قال ابن قدامة: ولا فرق بين كون الشد على كسر أو جرح. قال أحمد: إذا توضأ، وخاف على جرحه الماء مسح على الخرقة. وحديث جابر في صاحب الشجة إنما هو في المسح على عصابة جرح؛ لأن الشجة اسم
_________
(1) قال النووي في المجموع (1/373) : " قال أصحابنا حكم اللصوق وغيره حكم الجبيرة في جميع ما سبق ". وانظر نهاية المحتاج (1/286)
(2) الإنصاف (1/177) .
(3) الأوسط (2/24) .(5/645)
لجرح الرأس خاصة؛ ولأنه حائل مضوع يخاف الضرر بغسله فأشبه الشد على الكسر، وكذلك إن وضع على جرحه دواء، وخاف من نزعه، مسح عليه، نص عليه أحمد. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن الجرح يكون بالرجل يضع عليه الدواء، فيخاف إن نزع الدواء إذا أراد الوضوء أن يؤذيه؟ قال: ما أدري ما يؤذيه، ولكن إذا خاف على نفسه، أو خُوِّف من ذلك مسح عليه " (1) اهـ.
_________
(1) المغني (1/172) ، وانظر أسنى المطالب (1/81) ، شرح البهجة (1/189) .(5/646)
الفصل الثاني
إذا سقطت الجبيرة أوأبدلها
فهل يعيد المسح؟(5/647)
[صفحة فارغة](5/648)
الفصل الثالث
إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟
اختلف العلماء القائلون بالمسح على الجبيرة في الحكم إذا سقطت الجبيرة.
فقيل: إذا سقطت الجبيرة قبل البرء، فلا شيء عليه، وإن سقطت بعد البرء، فإن كان محدثاً توضأ وغسل محل الجبيرة، وإن لم يكن محدثاً غسل موضع الجبيرة لا غير. وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: نزع الجبيرة مؤثر بكل حال، سواء كان عن برء أو لا، واختلفوا فيما يترتب على الكشف.
فقيل: إذا سقطت الجبيرة، ولو كان في صلاة قطعها مطلقاً، فإن كان عن برء غسل ذلك الموضع مباشرة، وإن كان لم يبرأ فإنه يعيد الجبيرة، ويمسح عليها إن فعل ذلك بالقرب، وإن لم يفعل ذلك حتى طال الفصل بغير عذر، استأنف الوضوء، وهو مذهب المالكية (2) .
وقيل: سقوطها مبطل للطهارة مطلقاً، سواء كان سقوطها عن برء
_________
(1) بدائع الصنائع (1/14) ، تبيين الحقائق (1/53،54) ، العناية شرح الهداية (1/159) ، شرح فتح القدير (1/159) ، الاختيار لتعليل المختار (1/26) البحر الرائق (1/198) ، وقال صاحب مراقي الفلاح (ص: 56) : " ويجوز تبديلها بغيرها، ولا يجب إعادة المسح ". اهـ
(2) مواهب الجليل (1/364) ، حاشية الدسوقي (1/166) ، التاج والإكليل (1/534) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/206) .(5/649)
أو عن غيره، وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: لا تبطل الطهارة مطلقاً، سواء سقطت عن برء، أو عن غيره، وهو اختيار ابن حزم (3) .
دليل الحنفية على التفريق بين كون السقوط عن برء وبين غيره.
قالوا: إن الجرح إذا لم يبرأ فالعذر قائم، فلا يجب عليه شيء، وزوال الممسوح لا يبطل المسح إذا كان العذر قائماً، كما لو توضأ وحلق شعره، وإن كان سقوطها عن برء، فقد قدر على الأصل، وهو الغسل، فسقط حكم البدل، وهو المسح، فوجب غسل ذلك الموضع.
ويشكل عليه: إن كان سقوط الجبيرة حدثاً، فلا فرق بين كون الجرح قد برئ أم لم يبرأ، وإن لم يكن حدثاً فطهارته تامة حتى لو سقط عن برء، والله أعلم.
دليل المالكية على وجوب مسحها أو غسل الموضع مباشرة.
قالوا: إن المسح على الجبيرة ناب عن غسل ذلك الموضع، فإذا سقطت الجبيرة انتقضت طهارة ذلك الموضع، فوجب غسله إن كان قد برئ، أو إعادة مسحه إن لم يبرأ، وانظر دليلهم في خلع الخف، فإن الباب واحد عندهم.
_________
(1) المجموع (2/374) ، روضة الطالبين (1/108) ، فتاوى الرملي (1/83)
(2) الإنصاف (1/191ـ192) ، كشاف القناع (1/121) ، مطالب أولي النهى (1/137) ، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/259) ، المحرر (1/13) .
(3) المحلى (1/316،317) .(5/650)
دليل من قال تبطل الطهارة مطلقا.
سقنا أدلتهم في مسألة بطلان الطهارة بخلع الخف، فإن الباب عندهم واحد.
الراجح أن الطهارة لا تبطل، وليس سقوط اللصقة أو الجبيرة حدثاً، ولا جاء نص بإيجاب الوضوء من ذلك، والوجوب يحتاج إلى دليل، ولا دليل، وهذا الترجيح مبني على القول بالمسح على الجبيرة، وقد رجحت أن القول بالتيمم أقوى.(5/651)
[صفحة فارغة](5/652)
الفصل الرابع
في صفة المسح(5/653)
[صفحة فارغة](5/654)
المبحث الأول
هل يجب استعياب الجبيرة بالمسح(5/655)
[صفحة فارغة](5/656)
المبحث الأول
هل يجب استيعاب الجبيرة بالمسح؟
اختلف العلماء في صفة المسح،
فقيل: يمسح أكثر الجبيرة، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يجب استيعاب الجبيرة بالمسح، وهو مذهب المالكية (2) ، وأصح الوجهين عند الشافعية (3) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: يكفي مسح ما يطلق عليه اسم مسح، وهو وجه في مذهب الشافعية (5) .
دليل من قال بوجوب التعميم.
الدليل الأول:
ظاهر الأحاديث التي جاءت بالمسح على الجبائر، فإنها تفيد التعميم، ومنها حديث صاحب الشجة، وفيه: " إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ".
_________
(1) بدائع الصنائع (1/13) ، العناية في شرح الهداية (1/161،162) ، تبيين الحقائق (1/53) .
(2) الخرشي (1/200،201) ، مواهب الجليل (1/362) ، حاشية الدسوقي (1/163) .
(3) المجموع (1/367ـ368) ، مغني المحتاج (1/94) ، نهاية المحتاج (1/287) .
(4) كشاف القناع (1/120) ، الإنصاف (1/193) ، الكافي (1/41) .
(5) المجموع (1/367ـ368) .(5/657)
والحديث ضعيف، وسبق تخريجه.
فقوله: " ثم يمسح عليها " ظاهره المسح على جميعها.
الدليل الثاني:
قالوا: إن مسح الجبيرة مسح ضرورة، فأشبه مسح الوجه واليدين في التيمم في وجوب الاستيعاب.
الدليل الثالث:
ولأنه لا يشق تعميمها بالمسح، بخلاف الخف فإنه يشق تعميم جميعه.
الدليل الرابع:
الأصل أنه بدل عن غسل العضو، وإذا كان يجب تعميم العضو بالغسل لو كان صحيحاً، وجب تعميمه بالمسح، وإنما لم نقل ذلك بالخف؛ لأنه جاء الدليل على الاكتفاء بالبعض، وهو خلاف القياس، ولم يأت دليل بالاكتفاء ببعض الجبيرة، فلم تلحق بالخف.
دليل الحنفية بالاكتفاء بالأكثر.
قالوا: لم يأت في المسح على الجبائر تقدير من جهة الشرع، بل ورد المسح على الجبائر، فظاهره يقتضي الاستيعاب، إلا أن ذلك لا يخلو من حرج ومشقة، فأقيم الأكثر مقام الجميع.
دليل من قال يكفي مطلق المسح.
قاسوه على الخف، انظر دليلهم في الكلام على صفة مسح الخف.
الراجح: وجوب الاستيعاب لو قلنا بالمسح على الجبيرة.(5/658)
المبحث الثاني
إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثاً
فهل يستحب له أن يمسح ثلاثاً(5/659)
[صفحة فارغة](5/660)
المبحث الثاني
إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثاً
فهل يستحب له أن يمسح ثلاثاً؟
سبق لنا أن تكلمنا عن تكرار المسح على الخفين، وسقنا الخلاف في تكرار المسح عليه،
فقيل: لا يسن تكرار المسح، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) .
وقيل: يكره، وهو مذهب المالكية (3)
والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وقيل: يشرع تكراه المسح ثلاثاً قياساً على الغسل، وهو اختيار عطاء (5) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/48) ، المبسوط (1/100) ، شرح فتح القدير (1/148) وقال: " إن تكرار المسح على الخفين غير مشروع ". وانظر الفتاوى الهندية (1/33) .
(2) المجموع (1/549) ، روضة الطالبين (1/130) .
(3) حاشية الدسوقي (1/145) ، مواهب الجليل (1/322) ، وحاشية العدوي على الخرشي (1/181،182) التاج والإكليل (1/472) ، الشرح الصغير (1/156) .
والمالكية إنما يكرهون تكرار المسح إذا كان بماء جديد، فإن كان بدون أخذ ماء جديد فلا كراهة عندهم، وقد نص عليه في حاشية الدسوقي (1/145) ، وإذا جفت يد الماسح أثناء المسح لم يجدد، وكَمُلَ العضو الذي حصل فيه الجفاف.
(4) مسائل أحمد رواية أبي داود (1/16) رقم 53، وانظر الإنصاف (1/185) ، شرح الزركشي (1/404) ، حاشية العنقري (1/64) ، كشاف القناع (1/118) .
(5) رواه عبد الرزاق في المصنف عن عطاء بسند صحيح (856) ، وانظر الأوسط (1/456) .(5/661)
وأظن الخلاف في تكرار المسح على الجبيرة كالخلاف في الخف؛ بجامع أن كلاً منهما مسح على حائل.
قال في مواهب الجليل: " إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل في الوضوء ثلاثاً، فإنه يمسح عليه مرة واحدة، لا ثلاثاً، قاله عبد الحق في النكت، قال: ودليله المسح على الخفين، إنما يمسح مرة واحدة، وهو بدل عن مغسول ثلاثاً؛ وذلك لأن شأن المسح التخفيف " (1) .
_________
(1) مواهب الجليل (1/361) .(5/662)
الخاتمة
بعد نهاية التطواف في أحكام المسح على الخفين والعمامة والجبيرة نخرج من هذا البحث بفوائد منها:
الفائدة الأولى: أن جل مسائل أحكام المسح على الخفين نجد أن قول الجمهور فيها خلاف القول الراجح، مما يؤكد لطالب العلم أن الكثرة لا تدل على الإصابة، فكم من قول تبناه الجمهور، وهو قول ضعيف من جهة الأثر والنظر، فينبغي لطالب العلم أن يكون نظره في الدليل، وفي الدليل فقط ولا ينظر من قال به، وكنت أزعم أن طالب العلم لو جمع في أحكام العبادات ما خالف فيها الجمهور القول الراجح لخرج من ذلك بمجلد كبير، بل مجلدات.
الفائدة الثانية: أن مسائل الإجماع في هذا الباب قليلة جداً، وذلك لأن أصل الباب، وهو المسح على الخفين أنكره بعض السلف، وبعضهم ادعى أنه منسوخ بآية المائدة.
الفائدة الثالثة: أكثر شروط المسح على الخفين لا دليل عليها من الأثر، ولا من النظر الصحيح.
الفائدة الرابعة: كثرة الأحاديث في المسح على الخفين، بل إن الأحاديث الواردة في المسح على الخفين أعظم بكثير من أحاديث الحيض والاستحاضة والنفاس، وأكثر من أحاديث التيمم، مع أن هذين البابين أهم بكثير من المسح على الخفين، كل ذلك من أجل توكيد المسح على الخفين، ورفع الريبة في حكمهما، والله أعلم.
الفائدة الخامسة: ما رجحته في مباحث هذا الكتاب كالتالي(5/663)
رجحت جواز المسح على الخفين والجوربين والنعل والعمامة والخمار، كما ملت إلى ترجيح الغسل على المسح من بعض الوجوه.
كما رجحت أن المسح على الخفين رافع للحدث.
وأن من به حدث دائم يحق له المسح كغيره.
وأنه يجوز المسح على الخف المتنجس في استباحة مس المصحف ونحوه مما لا تشترط له الطهارة من النجس، بخلاف الصلاة، فإن يجب عليه أن يكون طاهراً في بدنه وثوبه وبقعته، والله أعلم.
ورجحت المسح على الخف المحرم، سواء كان التحريم لحق الله أم لحق الآدمي، وذلك لأن التحريم عائد على أمر خارج عن المسح.
كما رجحت جواز المسح على الخف المخرق، سواء كان الخرق يسيراً أم كبيراً ما دام يمكن له أن يلبسه، وينتفع به.
كما رجحت جواز المسح على الجوارب التي تصف البشرة لرقتها، وأنه لا يوجد دليل على اشتراط أن يكون الجورب صفيقاً.
كما بينت ضعف مذهب المالكية في اشتراط كون الخف من جلد.
ورجحت أن يكون لبسه للخف على طهارة مائية، فلو تيمم، ولبس الخف، فإذا وجد الماء وجب خلع الخف، لعود الحدث السابق للبدن.
كما رجحت جواز لبس الخف بعد طهارة إحدى القدمين، وأنه لايشترط أن تكون القدمان كلاهما طاهرتين، وإن كان الأحوط مراعاة ذلك.
والمسح على الحائل لا مجال للقياس فيه، فلا يمسح إلا ما ورد به النص من خف وجورب وعمامة، فلا يجوز أن يمسح على القفازين، ولا(5/664)
على ما تطلي به المرأة أظفارها، ونحو ذلك.
كما رجحت بأن النية شرط في المسح على الخفين.
وأما صفة المسح فيكفي مسح أكثر ظاهر الخف، وأكره غسل الخف بدلاً من مسحه، ولا يشرع تكرار المسح على الخفين، وأن يبدأ باليمنى حال المسح، وإن بدأ بهما معاً فلا حرج، وأن ابتداء المدة من أول مسح بعد الحدث، وأن الراجح في المسح على الخفين بأنه عبادة مؤقتة، يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ورجحت جواز لبس الخف على الخف، وإذا مسح خفاً تعلق الحكم به، فإذا خلعه، ثم أعاده، لم يمسح عليه إلا إن لبسه على طهارة مائية، ولا تنتقض الطهارة بمجرد خلع الخف.
ورجحت جواز المسح على العمامة، وعلى خمار المرأة، وعلى القلانس، وأن المسح على العمامة لا يتشرط أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة، ولا يشترط لبس العمامة على طهارة، ومسحها غير مؤقت على الصحيح، وإذا خلع العمامة لم تبطل طهارته، ولا يشترط استيعاب العمامة بالمسح.
وفي المسح على الجبيرة رجحت أن المسح لم يرد في نص مرفوع مع كثرة ما يصيب المسلمين من جراح، وهم أهل جهاد، فلو كان مشروعاً لجاء ما يبين هذا الحكم، خاصة أنه يتعلق بأعظم العبادات العملية، وهي الصلاة، وأن المشروع هو التيمم، لأنه نوع من المرض، والله أعلم.
وهذه المسائل التي رجحتها لا تعدو أن يكون فهماً معرضاً للخطأ والصواب، والتقصير والقصور، وهذا الفهم قد توافقني عليه، وقد تخالفني، ولا يكلف الإنسان إلا بما ظهر له، فإن أصاب فله أجران، وإلا كان له أجر، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى حيث لم يحرم المجتهد إذا أخطا من(5/665)
الأجر، فهو على النصف من أجر المصيب، وما على الإنسان إلا أن يستفرغ وسعه في البحث والتحري للقول الراجح، وأن يبذل ما يستطيع في فهم النصوص، وأن يتحرى العدل والإنصاف، وأن يكون كالقاضي بين الخصوم، ينظر في حجة كل قول، ويتحرى أقربها للحق والعدل، وأن يبتعد عن التقليد الأعمى، فما وهنت الأمة، ولا ذلت، إلا بتركها الجهاد والاجتهاد في دينها، ففي الجهاد كمال القوة، وفي الاجتهاد كمال العلم والمعرفة. قال سبحانه وتعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} .
وفي الختام أسأل الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته وكرمه وعفوه أن يتجاوز عني، وأن يغفر لي ذنبي كله، وأن يسددني في القول والعمل، وأن يجعل ما علمنا حجة لنا لا علينا، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
تمت(5/666)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتدى بهديه.
أما بعد، فهذه هي الدفعة الأخيرة من كتاب أحكام الطهارة، وقد صدر منها سابقاً ثمانية مجلدات ولله الحمد:
كتاب الحيض والنفاس في ثلاثة مجلدات، وصفحاته (1360) صفحة.
وكتاب أحكام المياه في مجلد واحد، وعدد صفحاته (589) صفحة.
وكتاب سنن الفطرة في مجلدين. وعدد صفحاته (979) صفحة.
وكتاب آداب الخلاء في مجلد واحد، وعدد صفحاته (636) صفحة.
وكتاب أحكام المسح على الحائل في مجلد واحد، وصفحاته (676) صفحة.
وها أنا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى وبفضله أتبعها في بقية أحكام الطهارة، منها:
الوضوء شروطه وسننه وآدابه ونواقضه. في مجلدين كبيرين.
والغسل في مجلد واحد كبير.
والتيمم في مجلد واحد،
والنجاسة في مجلد كبير جداً ليكون الجميع ثلاثة عشر مجلداً، فلله سبحانه وتعالى وحده الفضل والمنة والثناء الذي يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، {وما بكم من نعمة فمن الله} (1) ، {وإن تعدوا نعمة الله لا
_________
(1) النحل: 53.(9/3)
تحصوها} (1) ، {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} (2) .
وأشكر جميع من تواصل معي في هذه البحوث، سواء من كتب لي شاكراً أو ناصحاً، وملحوظاتهم محل تقديري واحترامي،
وأخص بالذكر الشيخ الفاضل عبد الله بن جابر الحمادي- جزاه الله خيراً، وكنت قد حكمت على زيادة غسل الأنثيين في طهارة المذي بالشذوذ وفق القواعد الحديثية، فأخبرني الشيخ بأنه وقف على تضعيف هذه الزيادة للإمام أحمد في مسائل أبي داود، وقد وجدتها فيه فعلاً، ففرحت لهذه الموافقة، خاصة أن الإمام أحمد هو الوحيد بين الأئمة الذي يرى وجوب غسل الأنثيين في رواية عنه، كما وقفت بعد طبع كتاب الأحكام الوسطى للإشبيلي بأنه يذهب فيه إلى تضعيف زيادة غسل الأنثيين، فزادني هذا طمأنينة خاصة أن زيادة غسل الأنثيين قد صححها جمع من المتأخرين.
كما رجحت في حديث عائشة في البخاري في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه الوضوء لكل صلاة، على أن الصحيح أنه موقوف على عروة، وليس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلاف ما فهمه ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، ورأيت أن حدث المستحاضة لا يجب عليها منه وضوء إلا أن تحدث حدثاً بإرداتها، ليست مغلوبة عليه، فليس خروج دم المستحاضة موجباً للحدث، كما أن خروج الوقت ليس موجباً للحدث كذلك، كما هو مذهب مالك رحمه الله تعالى، ويقاس على المستحاضة من به سلس بول، فلا يكلف الوضوء لخروج بوله إلا أن يتبول بإرادته.
_________
(1) إبراهيم: 34.
(2) إبراهيم: 7.(9/4)
وقد ذكر لي الشيخ عبد الله بن علي الجعيثن أنه وقف على كلام للحافظ ابن رجب في شرحه للبخاري يفيد أن جميع الأحاديث التي فيها الأمر للمستحاضة بالوضوء لكل صلاة لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقلت هذا الكلام من الحافظ ابن رجب في بحث نواقض الوضوء، فلله الحمد والمنة.
مثال ثالث: حديث سفيان، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط ابن صبرة عن أبيه مرفوعاً.
رواه وكيع، ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان به، ولم يذكر المبالغة بالمضمضة، وإنما اقتصروا على المبالغة بالاستنشاق إلا من الصائم.
ورواه أبو بشر الدولابي، عن ابن مهدي، عن سفيان به بلفظ: ((إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً)) فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة.
وصحح ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (1) ، رواية أبي بشر الدولابي، وقال: ابن مهدي أحفظ من وكيع وأجل قدراً.
وقد ضعفت هذه الزيادة، وجعلت الخطأ ليس من ابن مهدي حتى تكون المقارنة بينه وبين غيره، وإنما المخالفة من أبي بشر الدولابي، فقد قال الدارقطني: تكلموا فيه.
وقال أبو سعيد بن يونس: إنه من أهل الصنعة وكان يضعف. وقال ابن عدي: متهم (2) .
_________
(1) (5/193) .
(2) انظر شذرات الذهب (2/260) .(9/5)
فأخبرني الشيخ الفاضل علي الدخيل بأنه وقف على رواية للإمام أحمد عن ابن مهدي توافق رواية وكيع، ليس فيها ذكر المبالغة في المضمضة، وقد ألحقت هذا الطريق بالتخريج عند إعادة الحديث في هذا الكتاب، فثبت الخطأ على أبي بشر الدولابي، وخرج ابن مهدي من العهدة، وتبين خطأ ابن القطان رحمه الله حين جعل الترجيح بين وكيع وبين ابن مهدي.
هذه بعض الأمثلة لتواصل بعض أهل الفضل ذكرتها ليذكروا بالدعاء من إخوانهم، وليطمئن بعض الطلبة إلى سلامة المنهج الحديثي المتبع في الحكم على ما يرد من زيادات في بعض ألفاظ الحديث، وفي ذلك أيضاً جواب على ما يستشكله بعض إخواننا من مخالفتي لبعض أهل العلم في الحكم على بعض ألفاظ الحديث، أن ذلك كان وفق القواعد الحديثية، كما فيه تدليل على أن منهج الأئمة المتقدمين لا يشترطون في رد زيادة الثقة أن تكون منافية على خلاف ما ذكر في نخبة الفكر، بل يدرس الأئمة كل زيادة ترد في الحديث على انفراد، ولا يعطون حكماً عاماً على كل زيادة، ويتبعون في الحكم على الزيادة بالحفظ أو الشذوذ حسب ما يتوفر من قرائن في قبولها أو وردها، ومقارنة من زاد على من لم يذكر الزيادة، سواء كانت الزيادة في المتن أو في الإسناد، ويقدم العدد الكثير على القليل في الجملة، ويقدم الأوثق على الثقة، وهكذا، وكل زيادة لها ما يخصها من القرائن التي تجعل الباحث يقبل أو يرد تلك الزيادة.
بقي أن أنوه على مقالة تتردد بين طلبة العلم أسمعها كثيراً، وهو أن العبادات مخدومة لا تحتاج إلى عناية بحث، وقد تأكد لي أن هذه المقالة ليست دقيقة، فإني عندما شرعت في أحكام المياه بحثت في المكتبات عن الكتب الفقهية المقارنة التي صدرت في هذا الباب فلم أجد فيها كتاباً واحداً مختصاً(9/6)
يجمع أطراف مسائله، ويغني القارئ عن الرجوع إلى كتب المذاهب، فطلبت كتاباً في الوضوء وفي الحيض والنفاس فلم أجد بغيتي، فإذا كان هذا الكلام في أحكام الطهارة، فما بالك في أحكام الحج والنوازل فيه، وفي أحكام الصيام، بل وفي أحكام الصلاة، فتبين لي أن الكلام بأن العبادات مخدومة عبارة تحتاج إلى تدقيق، إلا إن كانت الخدمة المعنية هي غير الخدمة التي أبحث عنها، وإنما تقتصر على كتاب المجموع والمغني والسيل الجرار وفتح البارئ، فهذه الكتب قد بحث فيها أيضاً غير العبادات من أحكام الفقه الأخرى كالمعاملات والنكاح والنفقات والجنايات وغيرها، فيكون الفقه الإسلامي كله مخدوماً، ولا معنى لتخصيص العبادات، والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.
هذا ما أردت ذكره بين يدي هذه المجموعة من كتاب أحكام الطهارة، والله أعلم.
كتبه أبو عمر دبيان بن محمد الدبيان
السعودية - القصيم - بريدة(9/7)
[صفحة فارغة](9/8)
خطة البحث
كتاب الوضوء يشتمل على مقدمة، ومجموعة من الأبواب، والمباحث، والفصول، والفروع، والمسائل بشكل هرمي على النحو التالي.
المقدمة: وتشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الأول: في تعريف الوضوء.
المبحث الثاني: في فضل الوضوء.
المبحث الثالث: في حكم الوضوء.
المبحث الرابع: متى شرع الوضوء.
المبحث الخامس: هل كان الوضوء في شريعة من قبلنا؟ .
الباب الأول: في شروط الوضوء.
الشرط الأول: الإسلام.
الشرط الثاني: التكليف.
الشرط الثالث: ارتفاع دم الحيض والنفاس.
الشرط الرابع: طهورية الماء.
الشرط الخامس: إزالة ما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء.
الشرط السادس: دخول الوقت على من به حدث دائم.
الشرط السابع: هل يشترط أن يكون ماء الوضوء مباحاً؟
الشرط الثامن: القدرة على استعمال الماء.
الشرط التاسع: قيام الحدث.
الشرط العاشر: النية، وفيها مباحث:(9/9)
المبحث الأول: تعريف النية.
المبحث الثاني: في حكم النية.
المبحث الثالث: في محل النية.
المبحث الرابع: في أقسام النية.
المبحث الخامس: في الجهر بالنية.
المبحث السادس: الحكمة من مشروعية النية.
المبحث السابع: في شروط النية.
الشرط الأول: الإسلام.
الشرط الثاني: التمييز.
الشرط الثالث: عدم الإتيان بما ينافي النية حتى يفرغ من
وضوئه.
الشرط الرابع: أن تكون النية مقارنة للمنوي أو متقدمة
عليه بشيء يسير.
الشرط الخامس: أن يكون جازماً بالنية.
المبحث السابع: في صفة النية.
الفرع الأول: إذا نوى طهارة مطلقة.
الفرع الثاني: إذا نوى ما تسن له الطهارة.
الفرع الثالث: إذا نوى ما لا تشرع له الطهارة.
الفرع الرابع: إذا نوى رفع الحدث ونية التبرد مقرونين.
الفرع الخامس: إذا نوى رفع حدث واحد، وعليه مجموعة أحداث، وفيه مسألتان:(9/10)
المسألة الأولى: أن ينوي رفع أحدها ناسياً بقيتها، أو ذاكراً ولم يخرجها.
المسألة الثانية: أن ينوي رفع أحد الأحداث وينوي بقاء غيره.
الباب الثاني: في سنن الوضوء وآدابه.
الفصل الأول: كون التسمية من سنن الوضوء.
الفصل الثاني: من سنن الوضوء السواك.
مبحث: في محل السواك من الوضوء.
الفصل الثالث: من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثاً.
المبحث الأول: السنة أن يغسل كفيه قبل أن يدخلهما الإناء.
المبحث الثاني: من توضأ ثم أحدث في أثناء وضوئه، فهل يعيد غسل يديه إذا أعاد الوضوء.
المبحث الثالث: هل يحتاج غسل الكفين إلى نية؟
الفصل الرابع: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق.
المبحث الأول: حكم المضمضة والاستنشاق.
المبحث الثاني: يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق.
المبحث الثالث: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق.
المبحث الرابع: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم.
المبحث الخامس: في حكم استنثار الماء بعد الاستنشاق.
المبحث السادس: حكم كون المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال.(9/11)
المبحث السابع: في الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة.
فرع: في صفة الجمع والفصل بين المضمضة والاستنشاق.
الفصل الخامس: من سنن الوضوء تخليل اللحية والأصابع في الوضوء.
المبحث الأول: في حكم تخليل اللحية.
المبحث الثاني: في صفة تخليل اللحية.
المبحث الثالث: في تخليل الأصابع.
المبحث الرابع: في صفة تخليل الأصابع.
الفصل السادس: في استحباب تحريك الخاتم الواسع.
الفصل السابع: من سنن الوضوء التيامن.
الفصل الثامن: من سنن الوضوء استحباب الغسلة الثانية والثالثة.
الفصل التاسع: استحباب الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه.
الفصل العاشر: في مسح العنق.
مبحث: في كيفية مسح العنق.
الفصل الحادي عشر: من سنن الوضوء دلك أعضاء الوضوء.
الفصل الثاني عشر: في إطالة الغرة والتحجيل.
المبحث الأول: في تعريف الغرة والتحجيل.
المبحث الثاني: خلاف العلماء في استحباب إطالة الغرة والتحجيل.
الفصل الثالث عشر: في تنشيف أعضاء الوضوء بمنديل ونحوه.
الفصل الرابع عشر: يستحب تجديد الوضوء.(9/12)
الفصل الخامس عشر: في استقبال القبلة حال الوضوء.
الفصل السادس عشر: من سنن الوضوء أن يقول الذكر الوارد بعده.
الفصل السابع عشر: في الاستعانة في الوضوء.
الفصل الثامن عشر: في الكلام أثناء الوضوء.
المبحث الأول: في الوضوء قبل الوقت.
الباب الثالث: في فروض الوضوء.
الفصل الأول: من فروض الوضوء غسل الوجه.
المبحث الأول: حد الوجه.
الفرع الأول: حد الوجه طولاً وعرضاً.
الفرع الثاني: في حكم البياض الواقع بين العذار وبين الأذن.
الفرع الثالث: في غسل شعر الوجه.
المسألة الأولى: في شعر اللحية.
المسألة الثانية: شعر اللحية هل يغسل أم يمسح.
المسألة الثالثة: شعر الوجه فيما عدا اللحية.
المسألة الرابعة: في غسل المسترسل من اللحية.
الفرع الرابع: إذا غسل وجهه غسل جزءاً من الجوانب.
الفرع الخامس: في الكلام على الأنف والفم.
الفرع السادس: في غسل ما تحت الذقن.(9/13)
الفصل الثاني: من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرافقين.
المبحث الأول: في غسل المرفقين مع اليدين.
المبحث الثاني: في غسل اليد الزائدة ونحوها من أعضاء الوضوء.
المبحث الثالث: في الجلد المنكشط.
المبحث الرابع: في أقطع اليد أو بعضها.
المبحث الخامس: في الوسخ يكون تحت الظفر.
الفصل الثالث: من فروض الوضوء مسح الرأس.
المبحث الأول: خلاف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس.
المبحث الثاني: في تكرار مسح الرأس.
المبحث الثالث: حكم مسح الأذنين.
الفرع الأول: في صفة مسح الأذنين.
الفرع الثاني: تمسح الأذنان معاً.
المبحث الرابع: خلاف العلماء في المسح على العمامة.
المبحث الخامس: خلاف العلماء في المسح على الخمار.
المبحث السادس: خلاف العلماء في المسح على القلانس.
الفصل الرابع: من فروض الوضوء غسل الرجلين.
الفصل الخامس: من فروض الوضوء الترتيب بين الأعضاء.
الفصل السادس: من فروض الوضوء الموالاة.
مبحث: في حد الموالاة.(9/14)
كتاب نواقض الوضوء.
الباب الأول: في مسببات الحدث.
الفصل الأول: في الخارج من السبيلين.
المبحث الأول: في البول والغائط.
المبحث الثاني: في خروج الريح.
المبحث الثالث: في خروج المذي.
المبحث الرابع: في خروج الودي.
المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة.
المبحث السادس: في الخارج النادر من السبيلين.
الفصل الثاني: خروج النجس من البدن من غير السبيلين.
المبحث الأول: خروج البول والغائط من غير السبيلين.
المبحث الثاني: في خروج النجس عدا البول والغائط من غير السبيلين.
الفصل الثالث: من نواقض الوضوء زوال العقل.
المبحث الأول: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالجنون والإغماء ونحوهما.
المبحث الثاني: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالنوم.
الفصل الرابع: في نقض الوضوء بمس الفرج.
المبحث الأول: الخلاف في نقض الوضوء من مس الذكر.
المبحث الثاني: في مس المرأة فرجها.(9/15)
المبحث الثالث: في مس المرأة ذكر الرجل أو العكس، ومس فرج الصغير.
الفرع الأول: في مس فرج الميت.
الفرع الثاني: في مس الذكر المنفصل.
المبحث الرابع: في الملموس ذكره.
فرع: في مس المرأة شفري فرجها.
المبحث الخامس: في مس فرج البهيمة.
المبحث السادس: في مس الأنثيين والأليتين والرفغين.
المبحث السابع: في مس الخنثى المشكل.
الفرع الأول: في مس الخنثى المشكل فرجه.
الفرع الثاني: في مس الأجنبي فرج الخنثى المشكل.
الفصل الخامس: في مس المرأة والأمرد.
المبحث الأول: في مس بدن المرأة من غير حائل.
المبحث الثاني: في مس شعر وظفر المرأة.
المبحث الثالث: في مس المرأة مع حائل.
المبحث الرابع: في مس المحارم.
المبحث الخامس: في مس الطفلة الصغيرة بشهوة.
المبحث السادس: في لمس الأمرد.
الفصل السادس: من نواقض الوضوء أكل لحم الجزور.
المبحث الأول: خلاف أهل العلم في الوضوء من لحم الإبل.
المبحث الثاني: في العلة من الوضوء من لحم الإبل.(9/16)
المبحث الثالث: في الوضوء من شحم الإبل وكبده وطحاله.
المبحث الرابع: في الوضوء من لبن الإبل.
المبحث الخامس: في الوضوء من مرق لحم الإبل.
المبحث السادس: في الوضوء من أكل اللحوم الخبيثة كالسباع.
الفصل السابع: في نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة.
الفصل الثامن: في نقض الوضوء بالردة.
الفصل التاسع: في الوضوء من تغسيل الميت.
الفصل العاشر: في نقض الوضوء بالشك.
الفصل الحادي عشر: كل ما يوجب الحدث الأكبر فإنه يوجب الوضوء.
الباب الثاني: فيما يحرم على المحدث.
الفصل الأول: يحرم على المحدث فعل الصلاة.
الفصل الثاني: في تحريم الطواف على المحدث.
الفصل الثالث: في وجوب الوضوء من مس المصحف.(9/17)
[صفحة فارغة](9/18)
مقدمة الكتاب
المبحث الأول:
في تعريف الوضوء
تعريف الوضوء.
الوضوء: من الوضاءة: وهو الحسن والنظافة والبهجة، كما يقال: رجل وضيء: أي حسن الهيئة.
قال أبو حاتم: توضأت للصلاة وُضُوءاً، وتطهرت طُهُوراً، أتوضأ، توضؤاً، وهي الحسن. اهـ
والوُضُوءُ بالضم: الفعل، وبالفتح: الوَضُوء: هو الماء المعد له، كما حكاه أبو الحسن الأخفش في قوله تعالى: {وَقُودها الناس والحجارة} (1) ، فقال: الوَقود: بالفتح: الحطب، والوُقُود بالضم: الاتقاد، وهو الفعل، ومثل ذلك الوَضُوء: هو الماء، والوُضُوء: هو الفعل.
وقيل: الوُضُوء بالضم: هو المصدر.
وقيل: هما لغتان بمعنى واحد: يعني الفتح والضم.
ولا تقل: توضيت بالياء بدل الهمز، قاله غير واحد.
قال الجوهري: وبعضهم يقوله، وهي لغية أو لثغة.
وذكر قاسم عن الحسن أنه قال يوماً: توضيت بالياء، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد؟ فقال: إنها لغة هذيل، وفيهم نشأت.
والميضأة بالكسر والقصر: الموضع الذي يتوضأ فيه (2) .
_________
(1) البقرة: 24.
(2) تاج العروس (1/276،277) لسان العرب (1/194) مختار الصحاح (ص:303) .(9/19)
الوضوء في اصطلاح الفقهاء:
تعريف الحنفية:
جاء في البحر الرائق: الوضوء في الاصطلاح الشرعي: غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس (1) .
وقال الكاساني: الوضوء: اسم للغسل والمسح، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فأمر بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس (2) .
تعريف المالكية:
الوضوء: هو غسل ومسح في أعضاء مخصوصة لرفع حدث (3) .
تعريف الشافعية:
الوضوء: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحاً بنية (4) .
تعريف الحنابلة:
قال البهوتي: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة (5) .
_________
(1) البحر الرائق (1/11) .
(2) بدائع الصنائع (1/2) .
(3) حدود ابن عرفة (ص: 32) .
(4) أسنى المطالب (1/28) .
(5) كشاف القناع (1/82) .(9/20)
وهذه التعريفات متقاربة، وتتفق على تعريف الوضوء بأنه غسل ومسح لأعضاء مخصوصة، وبعضهم يذكر النية أو قصد رفع الحدث في التعريف؛ لأن النية عنده شرط، وهو مذهب الجمهور كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبعضهم لا يذكرها كالحنفية؛ لأن النية عندهم سنة، وليست فرضاً، وبعضهم ينص بأن غسل الأعضاء يجب أن يكون على صفة مخصوصة؛ لأن الترتيب عنده والموالاة فرض، وبعضهم لا يذكرها؛ لأنه يخالف في كونها فرضاً في الوضوء، وسيأتي إن شاء الله بيان الراجح من هذه الأمور في مكانها.(9/21)
[صفحة فارغة](9/22)
المبحث الثاني:
في فضل الوضوء
ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة، نذكر منها:
الحديث الأول:
(772-1) روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه،
عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها (1) .
الحديث الثاني:
(773-2) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا -
قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم
_________
(1) صحيح مسلم (223) .(9/23)
يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول، في مقام واحد يعطي هذا الرجل، فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله، لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك (1) .
الحديث الثالث:
(774-3) ما رواه أحمد، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية، أن أبا كبشة السلولي حدثه،
أنه سمع ثوبان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سددوا وقاربوا واعملوا وخيروا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (2) .
[إسناد حسن إن شاء الله، والحديث صحيح] (3) .
_________
(1) صحيح مسلم (832) .
(2) المسند (5/282) .
(3) رجاله ثقات إلا ابن ثوبان، واسمه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى، وقد توبع، جاء في ترجمته:
قرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين قال: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان صالح الحديث. الجرح والتعديل (5/219) .
وقال يحيى في رواية عثمان بن سعيد عنه: عبد الرحمن ضعيف، وأبوه ثقة. الكامل (4/281) .
وقال معاوية عن يحيى: ضعيف يكتب حديثه على ضعفه، وكان رجلاً صالحاً. المرجع السابق.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: ابن ثوبان أحاديثه مناكير. الجرح والتعديل (5/219) .
وقال أيضاً: لم يكن بالقوي في الحديث. ضعفاء العقيلي (2/326) .
وقال أبو حاتم الرازي: ثقة. الجرح والتعديل (5/219) .
وسئل أبو زرعة عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان: فقال شامي لا بأس به. المرجع السابق.
وقال العجلي: شامي لا بأس به. معرفة الثقات (2/73) .
وقال ابن حبان: من صالحي أهل الشام، ممن صحب نافعاً زماناً، وكان ثبتاً قد عمر. المشاهير (1439) ، وذكره في الثقات (7/92) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. الكامل (4/281) .
وقال ابن عدي: كان رجلا صالحاً ويكتب حديثه على ضعفه. المرجع السابق.
وقال يعقوب بن شيبة: اختلف أصحابنا فيه، فأما ابن معين فكان يضعفه، وأما علي فكان حسن الرأي فيه، وقال: ابن ثوبان رجل صدق لا بأس به، وقد حمل عنه الناس. تهذيب التهذيب (6/136) .
وقال عمرو بن علي: حديث الشاميين ضعيف إلا نفيراً فاستثناه منهم. المرجع السابق. وقال عثمان الدارمي عن دحيم: ثقة يرمي بالقدر. المرجع السابق، ودحيم من أعلم الناس بأهل الشام.
وفي التقريب: صدوق يخطئ، ورمي بالقدر وتغير بآخرة.
قلت: ما كان من خطئه فقد توبع كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[تخريج الحديث]
الحديث روي عن ثوبان من عدة طرق،
فقيل: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن ثوبان.
وقيل: عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، وهو منقطع.
وقيل: عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن ثوبان، وهو ضعيف.
الطريق الأول: عن أبي كبشة السلولي، عن ثوبان.
أخرج الحديث أحمد كما في إسناد الباب، والدارمي (656) والطبراني في الكبير (1444) وابن حبان في صحيحه (1037) والبيهقي في شعب الإيمان (2715) من طريق الوليد بن مسلم به.
وأخرجه الطبراني (217) من طريق علي بن الجعد، عن ابن ثوبان به. وهذا الطريق سبق الكلام عليه عند الكلام على عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان.
الطريق الثاني: عبد الرحمن بن ميسرة، عن ثوبان.
وأخرجه أحمد (5/280) والطبراني في مسند الشاميين (1078) عن علي بن عياش زاد أحمد: عصام بن خالد، كلاهما عن حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن ثوبان به.
وفي إسناده عبد الرحمن بن ميسرة، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (5/285) .
وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/88) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/109) .
وقال ابن المديني: مجهول. ميزان الاعتدال (4986) .
وقال أبو داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. تهذيب التهذيب (6/254) .
وفي التقريب: مقبول، يعني: إن توبع، وقد توبع.
الطريق الثالث: سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان.
أخرجه أبو داود الطيالسي (996) والحاكم في المستدرك (447) عن شعبة،
وأحمد (5/276) ثنا أبو معاوية،
وأخرجه أيضاً (5/282) ثنا وكيع ويعلى،
وأخرجه الحاكم في المستدرك (448) من طريق زائدة،
وأخرجه البيهقي (1/82) من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد،
وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1040) والحاكم (448) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2713) وفي السنن الكبرى (1/82) من طريق محمد بن عبيد.
وأخرجه البيهقي أيضاً (1/457) من طريق ابن نمير، كلهم (شعبة وأبو معاوية ويعلى ووكيع ويعلى وزائدة وأبو بدر شجاع بن الوليد ومحمد بن عبيد وابن نمير رووه) عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان.
وتابع كل من منصور وابن عتيبة: الأعمش في روايته عن سالم.
أخرجه ابن أبي شيبة (35) ، وابن ماجه (277) والدارمي (655) ، وأبو عبيد في كتاب الطهور (16) ، والطبراني في المعجم الأوسط (7019) ، وفي المعجم الصغير (1011) ، والروياني في مسنده (614) ، والحاكم (449) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2802) ، أبو عمر العدني في الإيمان (22) ، وابن أبي عاصم في الزهد (ص: 214) ، والخطيب في تاريخ بغداد (1/293) ، من طرق عن منصور، عن سالم به. ولفظ ابن أبي شيبة مختصراً: لا يحافظ على الطهور إلا مؤمن.
ورواه الحارث في مسنده كما في المطالب العالية (218) من طريق منصور، عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عمر مرفوعاً، فجعله من مسند ابن عمر، قال ابن حجر: هذا مقلوب، والمحفوظ عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان. اهـ
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1335) وفي المعجم الصغير (8) من طريق الحكم ابن عتيبة، عن سالم به.
وهذا إسناد منقطع، سالم بن أبي الجعد لم يلق ثوبان، قاله الإمام أحمد رحمه الله تعالى، انظر المراسيل لابن أبي حاتم (79-80) ، وجامع التحصيل (217) ، وتحفة الأشراف (2/131) .
وقال في مصباح الزجاجة (1/41) : هذا الحديث رجاله ثقات اثبات، إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان؛ فإنه لم يسمع منه بلا خلاف، لكن له طريق أخرى متصلة، أخرجها أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو يعلى الموصلي، والدارمي في مسنده، وابن حبان في صحيحه من طريق حسان بن عطية، أن أبا كبشة حدثه أنه سمع ثوبان.
ورواه الحاكم من طريق سالم عن ثوبان وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، قلت: علته أن سالماً لم يسمع من ثوبان، قاله أحمد وأبو حاتم والبخاري وغيره. الخ كلامه رحمه الله.
قال العقيلي في الضعفاء الكبير (4/168) : هذا يروى بإسناد ثابت عن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/318) : وهذا الحديث يتصل مسنداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ثوبان، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص. الخ كلامه رحمه الله.
وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فأخرجه ابن ماجه (278) والبيهقي في شعب الإيمان (2803) من طريق ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بلفظ: استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن. وهذا إسناد ضعيف من أجل ليث بن أبي سليم.
كما روي من مسند أبي أمامة، رواه ابن ماجه (279) والطبراني في الكبير (8094) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2804) من طريق إسحق بن أسيد، عن أبي حفص الدمشقي، عن أبي أمامة يرفع الحديث، قال: استقيموا ونعما إن استقمتم، وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.
وهذا إسناد ضعيف أيضاً، فيه إسحاق بن أسيد فيه ضعف، وأبو حفص الدمشقي مجهول، والله أعلم.
ورواه الطبراني في الكبير (4596) والعقيلي في الضعفاء الكبير (4/168) من مسند سلمة بن الأكوع، وفيه الواقدي، وهو متروك.
ورواه مالك في الموطأ بلاغاً (66) .
انظر لمراجعة الطرق السابقة كل من: 1- أطراف مسند الإمام أحمد (1/656) .
2- تحفة الأشراف (2/131) .
3- إتحاف المهرة لابن حجر (3/31) .
4- السلسلة الصحيحة (115) ، صحيح الجامع (952) ، إرواء الغليل (405، 412) .(9/24)
الحديث الرابع:
(775-4) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خلف -يعني ابن خليفة- عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم قال:(9/28)
كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ أنتم هاهنا لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (1) .
الحديث الخامس:
(776-5) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال،
عن نعيم المجمر، قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (2) .
الحديث السادس:
(777-6) ما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة يعني ابن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر ح
وحدثني أبو عثمان عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، عن عمر، مرفوعاً، وفيه: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء (3) .
_________
(1) مسلم (250) .
(2) صحيح البخاري (136) ، مسلم (246) .
(3) مسلم (234) .(9/29)
[صفحة فارغة](9/30)
المبحث الثالث:
في حكم الوضوء
يختلف حكم الوضوء من عبادة لأخرى، فقد يكون واجباً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً.
مثال الوضوء الواجب:
أما الوضوء الواجب (أي الفرض) (1) ،
فإنه يجب على المحدث إذا أراد الصلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، والدليل على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (2) الآية.
(778-7) وأما السنة، فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثني إسحاق بن نصر، حدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن همام،
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (3) .
_________
(1) يفرق الحنفية بين الواجب والفرض، بخلاف الجمهور فلا فرق بينهما.
مثاله: الطهارة من الحيض ومن الحدث الأصغر للطواف واجبة عندهم، وما دامت واجبة فإن الطواف يصح بدونها، وتجبر بدم، انظر البحر الرائق (1/203) ، شرح فتح القدير (1/166) ، بدائع الصنائع (2/129) ، المبسوط (4/38) . وقد تكلمت عنها في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، في فصل اختلاف العلماء في اشتراط الطهارة للطواف.
(2) المائدة: 6.
(3) البخاري () ومسلم (225) .(9/31)
وأما الإجماع، فقد قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة إذا وجد المرء إليها السبيل (1) .
وسئل ابن تيمية: عما تجب له الطهارتان الغسل والوضوء؟.
فأجاب: ذلك واجب للصلاة بالكتاب والسنة والإجماع فرضها ونفلها، واختلف في الطواف ومس المصحف، واختلف أيضاً في سجود التلاوة، وصلاة الجنازة هل تدخل في مسمى الصلاة التي تجب لها الطهارة؟ وأما الاعتكاف فما علمت أحداً قال: إنه يجب له الوضوء (2) .
[مثال الوضوء المندوب]
وأما الوضوء المندوب فأمثلته كثيرة جداً، أذكر منها على سبيل المثال الوضوء للذكر، والوضوء للنوم، والبقاء على طهارة.
فالدليل على مشروعية الوضوء للذكر
(779-8) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال:
سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (3) .
_________
(1) الإجماع (ص: 29) .
(2) مجموع الفتاوى (21/268) .
(3) صحيح البخاري (337) ، ومسلم (369) .(9/32)
(780-9) وروى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان،
عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر، أو قال: على طهارة (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
والدليل على مشروعية الوضوء للنوم
(781-10) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة،
عن البراء بن عازب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به، الحديث (3) .
وأما الدليل على مشروعية البقاء على طهارة.
(782-11) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني حسين بن واقد، قال: حدثني عبد الله بن بريدة،
_________
(1) سنن أبي داود (17) .
(2) سبق بحثه في كتاب آداب الخلاء، انظر رقم (186) .
(3) البخاري (247) وترجم له البخاري رحمه الله: باب فضل من بات على وضوء.(9/33)
عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت في الجنة خشخشة أمامي، فقلت: من هذا؟ قالوا: بلال، فأخبره، قال: بما سبقتني إلى الجنة؟ قال: يا رسول الله ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا رأيت أن لله علي ركعتين أصليهما. قال: بها (1) .
[إسناده حسن والحديث صحيح] (2)
قال الحافظ: وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول الجنة (3) .
_________
(1) المصنف (6/396) رقم: 32335.
(2) رجاله ثقات إلا زيد بن الحباب فإنه صدوق، وقد تابعه علي بن الحسن بن شقيق، وهو ثقة.
[تخريج الحديث] :
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة كما في إسناد الباب، وأحمد كما في المسند (5/354) ، وفي الفضائل (1731) وأحمد بن عمرو في الآحاد والمثاني (263) والطبراني في المعجم الكبير (1/337) رقم 1012، وأبو نعيم في الحلية (1/150) ، وابن حبان في صحيحه (7086، 7087) عن زيد بن الحباب به.
وأخرجه أحمد (5/360) وفي الفضائل (713) وابن خزيمة (1209) ، والحاكم (1/313) ، (3/285) عن علي بن الحسن بن شقيق، والترمذي (3689) من طريق علي بن الحسين بن واقد، كلاهما عن الحسين بن واقد به.
واقتصر أحمد في الفضائل على قصة عمر رضي الله عنه.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وانظر لمراجعة طرق الحديث: تحفة الأشراف (2/82) ح 1966، أطراف مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى (1/615) ، إتحاف المهرة (2/567) ح 2273، وصحيح الجامع (7894) .
(3) الفتح (3/35) .(9/34)
(783-12) وروى البخاري، قال: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا أبو أسامة، عن أبي حيان، عن أبي زرعة،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.
وترجم له البخاري: باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار (1) .
[مثال الوضوء المكروه]
يمثل بعض الفقهاء للوضوء المكروه ما إذا جدد الوضوء بعد فراغه منه، وقبل استعماله بعبادة مشروعة.
فقيل: إن الوضوء على الوضوء لا يكون قربة إلا إذا اختلف المجلس، وأما إذا اتحد المجلس فلا يكون قربة، وهو قول في مذهب الحنفية (2) .
وقيل: إن يفعل فيه عبادة يستحب لها الوضوء، لأنه إذا لم يفعل به ذلك كان إسرافاً محضاً، ذكره ابن عابدين من الحنفية (3) ، وهو مذهب الحنابلة (4) .
وقد ذكر ابن تيمية أن من توضأ قبل الوقت لا يعيد الوضوء بعد دخول الوقت، ولا يستحب لمثل هذا تجديد الوضوء (5) .
_________
(1) صحيح البخاري (1449) صحيح مسلم (2458) .
(2) انظر البحر الرائق (1/98) ، مراقي الفلاح (ص:35) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/119) .
(4) الفروع (1/124) ، الإنصاف (1/147) .
(5) مجموع الفتاوى (21/376) .(9/35)
وقيل: إن صلى بالوضوء فرضاً استحب له الوضوء، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية (1) ، ووجه في مذهب الشافعية كما سيأتي بيانه.
وقال النووي من الشافعية: اتفق أصحابنا على استحباب تجديد الوضوء، وهو أن يكون على وضوء، ثم يتوضأ من غير أن يحدث. ومتى يستحب؟ فيه خمسة أوجه:
أصحها: إن صلى بالوضوء الأول فرضاً أو نفلاً، وبه قطع البغوي.
والثاني: إن صلى فرضاً استحب، وإلا فلا، وبه قطع الفوراني.
والثالث: يستحب إن كان فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلا فلا، ذكره الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري، في باب الماء المستعمل، واختاره.
_________
(1) جاء في مواهب الجليل أيضاً (1/303) : قال القاضي عياض: الوضوء الممنوع تجديده قبل أداء فريضة به. وفي شرح الرسالة للشبيبي في الوضوء المستحب وتجديده لكل صلاة بعد صلاة فرض، ثم قال: الممنوع لثلاثة أشياء، تجديده قبل صلاة فرض به، والزيادة على الثلاثة، وفعله لغير ما شرع له أو أبيح. انتهى. وقال ابن العربي في العارضة: اختلف العلماء في تجديد الوضوء لكل صلاة، فمنهم من قال: يجدد إذا صلى وفعل فعلا يفتقر إلى الطهارة، وهم الأكثرون، ومنهم من قال: يجدد وإن لم يفعل فعلا يفتقر إلى الطهارة، انتهى. وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة في قوله: فعليه أن يتأهب لذلك بالوضوء وبالطهر إن وجب عليه الطهر، وإنما شرط في الاستعداد بالغسل وجوبه دون الوضوء؛ لأن الاستعداد به يكون دون وجوب إذ يستحب تجديده لكل صلاة فرض بعد صلاته به. وقيل: يشترط كونها فرضاً بخلاف الغسل، فإنه لا يستحب لكل صلاة، بل ربما كان بدعة وإن قال به بعض العباد، والله أعلم انتهى. (تنبيه) إن لم يصل بالوضوء فلا يعيده، إلا أن يكون توضأ أولا واحدة واحدة، أو اثنتين اثنتين، قاله الجزولي في قول الرسالة، ولكنه أكثر ما يفعل , والله تعالى أعلم. اهـ نقلاً من مواهب الجليل، وانظر التاج والإكليل (1/302،303) .(9/36)
والرابع: إن صلى بالأول، أو سجد لتلاوة أو شكر، أو قرأ القرآن في المصحف استحب وإلا فلا، وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه الفروق.
والخامس: يستحب التجديد، ولو لم يفعل بالوضوء الأول شيئاً أصلاً، حكاه إمام الحرمين، قال: وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع بمثله تفريق، فأما إذا وصله بالوضوء فهو في حكم غسلة رابعة.
قال النووي: وهذا الوجه غريب جداً، وقد قطع القاضي أبو الطيب في كتابه شرح الفروع والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد إذا لم يؤد بالأول شيئاً. قال المتولي والروياني: وكذا لو توضأ وقرأ القرآن في المصحف يكره التجديد. قالا: ولو سجد لتلاوة أو شكر لم يستحب التجديد ولا يكره، والله أعلم اهـ كلام النووي (1) .
دليل من قال: لا يشرع التجديد قبل استعماله بعبادة مشروعة.
الدليل الأول: النهي عن الزيادة على الثلاث.
(784-13) فقد روى أحمد، قال: ثنا يعلي، ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:
_________
(1) المجموع (1/494) ، وانظر حلية العلماء (1/83) .
وقال ابن حجر في فتح الباري (2/233) : ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها -يعني في الوضوء- أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق، واختلف عند الشافعية في القيد الذي يمتنع منه حكم الزيادة على الثلاث، فالأصح من صلى به فرضاً أو نفلاً.
وقيل: الفرض فقط.
وقيل: مثله حتى سجدة التلاوة والشكر ومس المصحف.
وقيل: ما يقصد له الوضوء، وهو أعم.
وقيل: إذا وقع الفصل بزمن يحتمل في مثله نقض الوضوء عادة. اهـ كلام الحافظ.(9/37)
جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم (1) .
[رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، فهو حسن عند من يحسن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده] (2) .
الدليل الثاني:
أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه جدد الوضوء بعد فراغه مباشرة من الوضوء الأول.
دليل من قال بالتجديد بعد الفاصل الطويل.
(785-14) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى بن عباس،
عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل، فبال، ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوء. فقلت له: الصلاة؟ قال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً (3) .
فالظاهر أنه نقض الوضوء قبل وصوله مزدلفة بقليل، ثم توضأ، فيبعد أن يكون أحدث حدثاً آخر حين وصل مزدلفة، إلا أن يقال: فيه دليل لمن قال: يشرع التجديد إذا فعل به عبادة يشرع لها الوضوء كالذكر، والتلبية من الذكر، فالله أعلم.
_________
(1) مسند أحمد (2/180) .
(2) وقد سبق بحثه في كتاب أحكام المسح على الحائل رقم (68) .
(3) صحيح مسلم (1280) .(9/38)
[الوضوء المحرم]
مثل له الفقهاء بالماء المغصوب، فإذا تعدى الإنسان على مال غيره، وكان غيره بحاجة إليه، كالماء مثلاً فإنه يأثم بذلك، ولكن هل يرتفع الحدث، ويزول الخبث، أم لا؟ .
اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: يأثم، ويرتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) .
وقيل: لا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة (4) .
وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (5) ، وهو اختيار ابن حزم (6) .
وقد ذُكِرَت أدلة كل قول في كتاب المياه (7) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/48) ، الفصول في الأصول (2/179) ، حاشية ابن عابدين (1/341) .
(2) أنواع البروق في أنواع الفروق (2/84) ، الخرشي (1/181) ، و (3/44) ، الفواكه الدواني (1/124) ، حاشية الدسوقي (1/144) و (3/54) ، منح الجليل (1/138) .
(3) إعانة الطالبين (1/55) ، المجموع (2/295) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/59،68) .
(4) قال في منار السبيل (1/15) : " ماء يحرم استعماله ولا يرفع الحدث، ويزيل الخبث وهو ماليس مباحاً كمغصوب ونحوه ". اهـ
(5) قال في الإنصاف (1/28) : وأما الوضوء بالماء المغصوب، فالصحيح من المذهب، أن الطهارة لا تصح به، وهو من مفردات المذهب. وعنه: تصح وتكره، اختاره ابن عبدوس في تذكرته. اهـ
وانظر قواعد ابن رجب، القاعدة التاسعة (ص: 12) ، كشاف القناع (1/30) ، مطالب أولي النهى (4/62) ، المبدع (1/40) .
(6) المحلى (1/208) .
(7) انظر أحكام الطهارة (المياه والآنية) ص: 95.(9/39)
[الوضوء المباح]
مثل له المالكية بالوضوء للتبرد، والوضوء للدخول على السلطان (1) .
والذي يظهر لي: أن الوضوء لا يكون مباحاً، وذلك أنه عبادة مطلوب فعلها، فإن فعلها امتثالاً كان مأجوراً عليها، وهذا يخرجها عن حد المباح؛ لأن المباح يستوي فيه الفعل والترك، والله أعلم.
فهذه أحكام التكاليف الخمسة، الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والمباح، والله أعلم.
_________
(1) انظر مواهب الجليل (1/181) .(9/40)
المبحث الرابع:
متى شرع الوضوء
من المعلوم أن الصلاة فرضت بمكة، فهل شرع الوضوء معها بمكة، أو أن الوضوء شرع بالمدينة حين نزلت آية المائدة، وهي مدنية: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم....} (1) .
فقيل: إن الوضوء فرض بمكة، ونزوله في آية المائدة تثبيت لهذا الحكم، لا أكثر، وهذا اختيار ابن عابدين من الحنفية (2) .
وقيل: إن فرض الوضوء إنما شرع بالمدينة، وكان الوضوء بمكة سُنَّة (3) .
وقيل: إن الوضوء لم يشرع إلا بالمدينة، وهو اختيار ابن حزم (4) .
قال ابن حجر: وتمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض... بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بمكة، كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، قال: وهذا مما لا يجهله عالم.
وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس دخلت فاطمة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: ائتوني بوضوء، فتوضأ. الحديث.
_________
(1) آية المائدة: 6.
(2) حاشية ابن عابدين (1/91) .
(3) شرح الزرقاني (1/64) ، مواهب الجليل (1/180،380) ، فتح الباري (1/233) .
(4) المحلى (1/198) .(9/41)
قال الحافظ: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ، وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوباً، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة، عنه، أن جبريل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضاً، لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشد بن سعد عن عقيل، عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولاً، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة (1) .
_________
(1) فتح الباري (1/233) .(9/42)
المبحث الخامس:
هل الوضوء في شريعة من قبلنا؟
ذهب الجمهور إلى أن الوضوء كان في شريعة من قبلنا، وإنما الغرة والتحجيل فقط مما خص الله به هذه الأمة (1) .
وقيل: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة، اختاره بعض الفقهاء (2) .
وقيل: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم (3) .
دليل من قال بعدم الخصوصية.
الدليل الأول:
(786-15) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر إبراهيم بسارة، دخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة، فأرسل إليه أن أرسل إلي بها، فأرسل بها، فقام إليها فقامت توضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي الكافر فغط حتى ركض برجله (4) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/90) ، شرح الزرقاني (1/64) ، انظر شرح زبد ابن رسلان (ص: 41) ، مغني المحتاج (1/47،61) ، الفروع (1/325) ، كشاف القناع (1/109) ،.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (3/135) ، كشاف القناع (1/109) ، فتح الباري (1/236) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/90) ، المنهج القويم (ص:28) ، شرح الزرقاني (1/65) .
(4) صحيح البخاري (6950) .(9/43)
الدليل الثاني:
(787-16) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين،
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج يصلي، فجاءته أمه فدعته فأبى أن يجيبها، فقال: أجيبها أو أصلي، ثم أتته فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فقالت امرأة: لأفتنن جريجاً، فتعرضت له، فكلمته، فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: هو من جريج، فأتوه وكسروا صومعته، فأنزلوه وسبوه، فتوضأ، وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب قال: لا إلا من طين (1) .
دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة.
(788-17) ما رواه البخاري، حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال،
عن نعيم المجمر قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (2) .
(789-18) ورواه مسلم من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة مرفوعاً،
_________
(1) صحيح البخاري (2482) .
(2) صحيح البخاري (136) ، مسلم (246) .(9/44)
وفيه: لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء (1) .
وأجيب:
بأن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغر والتحجيل، لا أصل الوضوء؛ ولذلك قال: سيما ليست لأحد غيركم دليل أن هذا ما اختصت به الأمة، وليس الوضوء، والله أعلم.
دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة إلا الأنبياء
(790-19) روى أبو داود الطيالسي قال: حدثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة،
عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وقال: هذا وظيفة الوضوء الذي لا تحل الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من أراد أن يضاعف له الأجر مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي (2) .
[إسناده ضعيف جداً] (3) .
_________
(1) صحيح مسلم (247) .
(2) مسند أبي داود الطيالسي (1924) .
(3) معاوية بن قرة لم يدرك ابن عمر، كما ذكره أبو زرعة، وفي إسناده سلام الطويل، وهو متروك، جاء في ترجمته:
قال البخاري: تركوه. التاريخ الكبير (4/133) .
وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: سلام بن سلم المدائني ليس حديثه بشيء. الجرح والتعديل (4/260) .
وقال يحيى أيضاً: ضعيف، لا يكتب حديثه. الكامل (3/299) ، تهذيب الكمال (12/279) .
وقال مرة: ليس بثقة، كما في رواية ابن طهمان عنه (378) .
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث تركوه. الجرح والتعديل (4/260) .
وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال النسائي والدارقطني: متروك. الضعفاء والمتروكين للنسائي (237) ، وأيضاً للدارقطني (265) ، سنن الدارقطني (2/150) .
وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات، كأنه المتعمد لها. المجروحين (1/339) .
وفي إسناده أيضاً زيد العمي، وهو ضعيف. جاء في ترجمته:
قال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (7/240) .
وقال ابن معين: ليس بشيء. تاريخ ابن معين رواية ابن طهمان (47) .
وقال أبو داود: " ليس بذاك ". سؤالات الآجري لأبي داود (411) .
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء للنسائي (226) .
وذكره العقيلي في الضعفاء (2/74) .
وقال أحمد: صالح. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، وكان شعبة لايحمد حفظه. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، واهي الحديث، ضعيف. الجرح والتعديل (3/560-561) .
وقال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة لا أصل لها، حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها... وهو عندي لا يجوز الاحتجاج بخبره، ولا كتابة حديثه إلا للاعتبار ".
وقال ابن عدي: " هو في جملة الضعفاء، ويكتب حديثه على ضعفه ". الكامل (3/1055) .
وقال الدارقطني: صالح. الضعفاء للدارقطني (342) في ترجمة ابنه عبد الرحيم بن زيد العمي. وفي التقريب: ضعيف.
[تخريج الحديث] :
الحديث على ضعف إسناده فيه اختلاف،
فقيل: زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر.
وقيل: زيد العمي، عن نافع، عن ابن عمر.
وقيل: عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن عبيد بن عمير، عن أبي.
وقيل: عن المسيب بن واضح، عن حفص بن ميسرة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
الطريق الأول: عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر.
أخرجه أبو داود الطيالسي، كما في إسناد الباب عن سلام الطويل، ومن طريق سلام الطويل أخرجه الدارقطني (1/80) في سننه، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر.
وأخرجه الدارقطني (1/79) من طريق محمد بن الفضل، عن زيد العمي به. وهذا الطريق سبق أن تكلمنا على إسناده.
الطريق الثاني: عن زيد العمي، عن نافع، عن ابن عمر.
أخرجه أحمد (2/98) ومن طريقه الدارقطني (1/81) ثنا أسود بن عامر، أنا أبو إسرائيل، عن زيد العمى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا من تخليط زيد العمي.
وأخرجه ابن ماجه (419) وأبو يعلى في مسنده (5598) من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه به.
وأخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (427) إلا أنه قال: عن عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، عن جده، وفيه: هذا وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم.
وعبد الرحيم ضعيف جداً، جاء في ترجمة عبد الرحيم بن زيد العمي:
قال البخاري: تركوه. التاريخ الكبير (6/104) .
وقال يحيى بن معين: عبد الرحيم بن زيد العمي ليس بشيء. الجرح والتعديل (5/339) .
قال أبو حاتم الرازي: عبد الرحيم بن زيد العمي ترك حديثه، كان يفسد أباه، يحدث عنه بالطامات. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن عبد الرحيم بن زيد، فقال: واهي ضعيف الحديث. المرجع السابق. فأمره واضح، فلا نطيل في ترجمته.
وقال أبو حاتم كما في علل الحديث لابنه (1/45) : " عبد الرحيم بن زيد متروك الحديث، وزيد العمي ضعيف الحديث، ولا يصح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
وفيه أيضاً: " وسئل أبو زرعة عن هذا الحديث، فقال: هو عندي واه، ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر ".
وقال البوصيري كما في مصباح الزجاجة (1/61) : " وهذا إسناد فيه زيد العمي، وهو ضعيف، وعبد الرحيم متروك، بل كذاب، ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر، قاله ابن أبي حاتم في العلل، وصرح به الحاكم في المستدرك ".
وضعفه ابن عبد البر في التمهيد (20/259) ، والحافظ في الفتح (1/236) .
وقال النووي في شرح مسلم (3/136) : " إنه حديث ضعيف معروف الضعف، ولو صح لحتمل أن يكون الأنبياء اختصوا بالوضوء دون أممهم ".
الطريق الثالث:
أخرجه الدارقطني (1/80) والبيهقي في السنن (1/80) من طريق المسيب بن واضح، حدثنا حفص بن ميسرة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
قال الدارقطني: تفرد به المسيب بن واضح، عن حفص بن ميسرة، والمسيب ضعيف.
الطريق الرابع:
رواه ابن ماجه (420) والدارقطني (1/81) وابن المنذر في الأوسط (1/409) ، من طريق عبد الله بن عرادة الشيباني، عن زيد الحواري، عن معاوية ابن قرة، عن عبيد بن عمير الليثي المكي، عن أبي مرفوعاً.
وعبد الله بن عرادة ضعيف، وشيخه زيد العمي مثله.
وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (3/511) ، تحفة الأشراف (7460) و (65) ، وإتحاف المهرة لابن حجر (10235، 10533، 97) ، تلخيص الحبير (81) .(9/45)
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض الأدلة نجد أن القائلين بأن هذا الوضوء كان في شريعة(9/48)
من قبلنا أقوى دليلاً من غيره، وأن الغرة والتحجيل جاء ما يدل على أنهما من خصائص هذه الأمة، ولا يلزم من هذا أن يكون الوضوء كله من خصائص هذه الأمة، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن التيمم من خصائص هذه الأمة، فهذا يدل على أن الوضوء ليس من خصائصها، والله أعلم.(9/49)
[صفحة فارغة](9/50)
الباب الأول:
في شروط الوضوء
للوضوء شروط كثيرة، وبعضهم يقسمها إلى أقسام: شروط وجوب وصحة معاً، وشروط وجوب فقط، وشروط صحة فقط،
وشروط الوجوب: هي ما إذا اجتمعت وجبت الطهارة، فإذا عدمت لم تجب الطهارة.
وشروط الصحة: وهي ما لا تصح الطهارة إلا بها، فإذا عدمت لم تصح الطهارة. وسوف نذكرها شرطاً شرطاً ونبين ما ذكر فيها من خلاف إن شاء الله تعالى.
الشرط الأول:
الإسلام
اختلف الفقهاء هل الإسلام شرط في وجوب الوضوء وصحته أو ليس بشرط؟ .
فقيل: يجوز الوضوء من الكافر، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: لا يصح الوضوء من كافر، وهذا الشرط لا يختص بالوضوء، بل هو شرط في جميع العبادات، من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج (2) .
_________
(1) قال في بدائع الصنائع (1/18) : وإيمان المتوضئ ليس بشرط لصحة وضوئه عندنا، فيجوز وضوء الكافر عندنا. اهـ
(2) انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/132) ، الفواكه الدواني (1/135) ، نهاية المحتاج (1/154) ، الأشباه والنظائر (1/429) ، المقدمة الحضرمية (ص: 33) ، المنهج القويم (ص: 51) ، كشاف القناع (1/85) .(9/51)
قال تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} (1) .
وهل يجب على كافر وضوء، فيه خلاف، وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية، وهي هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
وللجواب على هذا أن نقول:
أما مخاطبة الكفار بأصول الدين من التوحيد والإقرار بالنبوات ونحوها فهذا إجماع لا نزاع فيه، قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (2) .
واختلفوا هل يخاطبون بالفروع أم لا؟
فذهب بعض الحنفية (3) واختاره أبو حامد الاسفراييني من الشافعية (4) ، إلى أن الكافر غير مخاطب بفروع الشريعة، فيكون الإسلام عندهم شرط وجوب للوضوء.
وذهب الجمهور إلى أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، فهو عندهم شرط للصحة لا للوجوب (5) .
_________
(1) التوبة: 54.
(2) الأعراف: 158.
(3) وهو قول البخاريين والسمرقنديين من أصحاب أبي حنيفة، انظر أصول السرخسي (1/74) ، شرح المحلى على جمع الجوامع (1/212) ، تيسير التحرير (2/148) .
(4) انظر قواطع الأدلة (1/187) .
(5) وهو قول العراقيين من الحنفية، ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة، انظر أصول السرخسي (1/74) ، تفسير القرطبي (2/300) ، و (4/146) ، إعانة الطالبين (3/24) ، الإنصاف (10/233) ، و (4/160) ، كشاف القناع (1/223) ، و (5/115) ، حاشية البجيرمي (1/162) ،
وقال النووي في المجموع (3/5) : وأما الكافر الأصلي فاتفق أصحابنا في كتب الفروع على أنه لا يجب عليه الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من فروع الإسلام، فأما في كتب الأصول فقال جمهورهم: هو مخاطب بالفروع كما هو مخاطب بأصل الإيمان.
وقيل: لا يخاطب بالفروع.
وقيل: يخاطب بالمنهي عنه كتحريم الزنا والسرقة والخمر والربا وأشباهها، دون المأمور به كالصلاة.
قال النووي: والصحيح الأول، وليس هو مخالفاً لقولهم في الفروع؛ لأن المراد غير المراد هناك، فمرادهم في كتب الفروع أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم، وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي، ولم يتعرضوا لعقوبة الآخرة، ومرادهم في كتب الأصول أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعاً، لا على الكفر وحده، ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا، فذكروا في الأصول حكم أحد الطرفين، وفي الفروع حكم الطرف الآخر، والله أعلم.(9/52)
دليل من قال: إن الكافر لا يخاطب بفروع الشريعة.
الدليل الأول:
(791-20) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا زكرياء بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة،(9/53)
فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن هذه الواجبات لا تلزم إلا بعد الإيمان، ولو لزمت بعد لزوم الإيمان لم يكن لتأخير ذكر الإيجاب معنى.
الدليل الثاني:
قالوا: إن الكافر ليس أهلاً لأداء العبادات؛ لأن أداء العبادة لاستحقاق الثواب في الآخرة بحكم الله تعالى، والكافر ليس بأهل لثواب الآخرة؛ لأن ثواب الآخرة هي الجنة، وهو ليس من أهل الجنة، فتبين أنه ليس بأهل للعبادة، وإذا لم يكن من أهل هذا العمل لم يكن من أهل الخطاب بالعمل؛ لأن الخطاب بالعمل للعمل، وهذا كالعبد لا يخاطب بالعبادات المالية من الكفارات والزكوات وغيرها؛ لأنه ليس من أهل ملك المال، فلا يخاطب بواجب المال (2) .
دليل من قال: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين} (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (1496) ، مسلم (19) .
(2) قواطع الأدلة (1/189) .
(3) المدثر: 42-45.(9/54)
فقد بين أن دخولهم النار على تركهم الصلاة والزكاة.
وقال تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} (1) .
فأوجب لهم الويل بكفرهم وإخلالهم بالزكاة.
وقال تعالى: {ولله على الناس حج من استطاع إليه سبيلا} (2) .
وهذا يتناول المسلم والكافر.
الدليل الثاني:
قالوا: لما لزمت الكافر النواهي، لزمه الأوامر؛ لأن الأوامر أحد قسمي الشرع، فصار كالقسم الآخر، والدليل على لزومهم النواهي إجماع الأمة في أن الكافر يحد إذا زنا، ويقطع إذا سرق، ولو لم يكن مكلفاً بترك الزنا والسرقة لم يكن الزنا والسرقة منه معصية، ولو لم تكن معصية لم يعاقب على فعله.
فإن قالوا: إنما وجب ذلك عليهم بالتزامهم أحكام الإسلام.
قيل: لزوم الأحكام بإلزام الله تعالى، لا بالتزام العبيد ذلك، ألا ترى أن الخطاب متوجه على جميع الكفار بالإيمان بالله عز وجل، وإن كانوا لم يلتزموا شيئاً من ذلك، ثم من أحكامنا أن لا يحد الإنسان على مباح، فلو كان الزنا غير محظور عليه، كان مباحاً، والحد لا يجب بارتكاب المباح.
وبقي قولان آخران:
أحدهما: أن الكفار مخاطبون بالنواهي دون الأوامر، لأن النواهي يمكنهم تركها، وليس كذلك الصلاة والصيام؛ لأنه مع كفره لا يمكنه فعلها، فلم يخاطب بفعلها. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد.
_________
(1) فصلت: 6-7.
(2) آل عمران: 97.(9/55)
وقيل: لا يخاطب من الكفار إلا المرتد، فإنه مخاطب بالأوامر والنواهي.
والراجح أن الكافر مخاطب بالأوامر والنواهي، وإيجاب الشي عليه لا يلزم منه صحته لو فعله، لأن المانع من قبله هو، وليس من قبل الشرع، فإذا أمر الإنسان بأن يفعل فعلاً، وكان هناك مانع يمنع من صحة الفعل، فإن كان المانع من قبل الشرع، كالعجز عن الفعل سقط الفعل، وإن كان المانع من قبل المكلف أثم ولم يرتفع عنه الخطاب، وذلك مثل شارب الخمر، فإنه لا يصلي حتى يعلم ما يقول، وإذا خرج وقت الصلاة وهو لم يصل أثم بذلك، وإن كان منهياً عن الصلاة حال السكر، وذلك لأن المانع قام من قبله هو، لا بإذن الشارع، والله أعلم. وهذه المسألة مبسوطة في كتب الأصول، وليس محلها كتب الفروع، وإنما اكتفينا بإشارة عجلة، والله الموفق.(9/56)
الشرط الثاني:
التكليف
والمكلف: هو البالغ العاقل، فلا يجب ولا يصح وضوء مجنون،
وأما المميز: فيصح منه الوضوء، ولا يجب عليه (1) .
وتعريف التمييز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الناس (2) .
وقيل: هو من يصل إلى حالة بحيث يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده، ولا يتقيد بسبع سنين (3) .
وهذا التعريف هو ما يدل عليه اشتقاق كلمة مميز.
وقيل: هو من استكمل سبع سنين (4) .
الأدلة على اشتراط التكليف.
الدليل الأول:
أما كون الوضوء لا يصح من مجنون وغير مميز فلأن من شرط الوضوء النية على الصحيح كما سيأتي، وهما ليس لهما نية صحيحة.
_________
(1) البحر الرائق (1/10) ، حاشية ابن عابدين (1/86) ، حاشية الدسوقي (1/84) ، الفواكه الدواني (1/135) ، المجموع (1/372) ، شرح البهجة (1/77) ، مغني المحتاج (1/47) ، نهاية المحتاج (1/154) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/51) ، حاشية البجيرمي على المنهج (1/64) ، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/129) ، المقدمة الحضرمية (ص:33) كشاف القناع (1/85) ، شرح منتهى الإرادات (1/52) .
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/725) ، وانظر مطالب أولي النهى (1/77) .
(3) شرح البهجة للأنصاري (4/406) .
(4) مطالب أولي النهى (1/77) .(9/57)
وأما كونه لا يجب عليهما؛ فلأن من شرط الوجوب التكليف، وهما غير مكلفين.
(792-21) فقد روى أحمد، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن،
عن علي، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المصاب حتى يكشف عنه (1) .
[إسناده منقطع ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وقفه] (2) .
_________
(1) المسند (1/116) .
(2) الحسن لم يسمع من علي رضي الله عنه، قاله الترمذي في سننه (1423) ، وانظر جامع التحصيل (ص: 163) ، وتحفة التحصيل (ص: 74) .
واختلف على يونس بن عبيد، فرواه هشيم عن يونس، عن الحسن، عن علي مرفوعاً كما في حديث الباب.
وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (7347) من طريق يزيد بن زريع، عن يونس به موقوفاً على علي رضي الله عنه.
ورواه قتادة عن الحسن به مرفوعاً.
أخرجه أحمد (1/140) حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة به.
وأخرجه البيهقي (4/325) من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة به. ويزيد سمع من سعيد قبل تغيره.
وأخرجه أحمد (1/118) حدثنا بهز وحدثنا عفان.
وأخرجه النسائي في الكبرى (7346) والحاكم في المستدرك (8170) من طريق عفان، وسقط من إسناد الحاكم عفان، وتم استدراكه من إتحاف المهرة لابن حجر (14155) .
وأخرجه الترمذي (1423) من طريق بشر بن عمر، ثلاثتهم (بهز وعفان وبشر) عن همام، عن قتادة به مرفوعاً. هذا في ما يتعلق بطريق الحسن، عن علي.
قال النسائي كما في تحفة الأشراف (7/360) : " حديث يونس - يعني: الموقوف - أولى من حديث همام عن قتادة". يعني: المرفوع.
وقال في السنن الكبرى المطبوع: ما فيه شيء صحيح، والموقوف أصح، هذا أولى بالصواب. اهـ
ورواه عن علي جماعة غير الحسن، وإليك بيان مروياتهم:
الأول: أبو ظبيان، عن علي.
رواه جرير بن حازم، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي، واختلف على جرير:
فرواه أبو داود كما في السنن (4399) ، والنسائي في الكبرى (7343) ، وابن خزيمة في صحيحه (1003) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/74) ، وفي مشكل الآثار (3986) ، وابن حبان في صحيحه (143) ، والدارقطني (3/138) ، والحاكم في المستدرك (949،2351) ، والبيهقي في السنن (4/269) ، و (8/264) ،كلهم من طريق ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي مرفوعاً.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وخالفه جماعة رووه عن الأعمش موقوفاً،
منهم جرير بن عبد الحميد كما في سنن أبي داود (4399) .
ووكيع كما في سنن أبي داود أيضاً (4399) .
وشعبة كما في مسند ابن الجعد (741) ، والمستدرك للحاكم (8169) .
وجعفر ابن عون كما في مستدرك الحاكم (8168) .
وابن فضيل وعمار بن رزيق كما في علل الدارقطني (3/72) ، ستتهم رووه عن الأعمش به موقوفاً.
كما رواه سعد بن عبيدة عن أبي ظبيان موقوفاً كما في علل الدارقطني (4/73) .
ورواه أبو حصين عن أبي ظبيان به موقوفاً أيضاً، كما هي رواية الستة عن الأعمش.
أخرجه ابن أبي شيبة (4/200) رقم: 19237 عن ابن عياش.
والنسائي في الكبرى (7345) من طريق إسرائيل، كلاهما عن أبي حصين، عن أبي ظبيان، عن علي به موقوفاً، ولم يذكر في إسناده ابن عباس، وأبو ظبيان لم يسمع من علي، وقد عرف الواسطة بينهما، وهو ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه الطيالسي (90) .
وأحمد (1/154) عن عفان.
وأخرجه أيضاً (1/158) عن أبي سعيد (عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد مولى بني هاشم) ثلاثتهم عن حماد بن سلمة.
وأخرجه أبو داود (4402) من طريق أبي الأحوص وجرير بن عبد الحميد،
وأخرجه أبو يعلى (587) من طريق جرير وحده.
والبيهقي (8/264) من طريق أبي الأحوص وحده.
وأخرجه النسائي في الكبرى (7344) من طريق أبي عبد الصمد كلهم (حماد بن سلمة وأبو الأحوص وجرير وأبو عبد الصمد) عن عطاء بن السائب، عن أبي ظبيان، عن علي مرفوعاً.
ورجح النسائي رواية أبي حصين، عن أبي ظبيان، على رواية عطاء، عن أبي ظبيان.
قال في السنن الكبرى (7345) : وهذا حديث أولى بالصواب، وأبو حصين أثبت من عطاء بن السائب، وما حدث جرير بن حازم فليس بذاك. اهـ
الثاني: أبو الضحى عن علي.
وأخرجه أبو دواد (4403) والبيهقي (3/83) و (6/56،57) ، و (7/359) ، و (8/265) من طريق خالد الحذاء، عن أبي الضحى، عن علي مرفوعاً.
وأبو الضحى هو مسلم بن صبيح، لم يدرك علياً.
الثالث: القاسم بن يزيد، عن علي.
أخرجه ابن ماجه (2042) من طريق ابن جريج، عن القاسم بن يزيد، عن علي مرفوعاً.
وذكره أبو داود معلقاً، فقال على إثر حديث (4403) قال: ورواه ابن جريج، عن القاسم بن يزيد، عن علي رضي الله عنه، زاد فيه: والخرف. اهـ
والقاسم بن يزيد لم يرو عنه غير ابن جريج، ولم يدرك علياً، وقال فيه الحافظ: مجهول.
وحديث علي بالجملة قد رجح الترمذي وقفه كما في العلل الكبير (ص: 226) رقم 406.
كما رجح الدارقطني وقفه كذلك، قال في العلل (3/72) : وسئل عن حديث ابن عباس، عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون والنائم والصبي، فقال: هو حديث يرويه أبو ظبيان حصين بن جندب واختلف عنه:
فرواه سليمان الأعمش واختلف عنه، فقال جرير بن حازم: عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن علي وعن عمر، تفرد بذلك عبد الله بن وهب، عن جرير بن حازم.
وخالفه ابن فضيل ووكيع، فروياه عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي وعمر موقوفاً.
ورواه عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علي وعمر موقوفاً، ولم يذكر فيه ابن عباس، وكذلك رواه سعد بن عبيدة، عن أبي ظبيان موقوفاً، ولم يذكر ابن عباس. ورواه أبو حصين، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي وعمر موقوفاً، واختلف عنه: فقيل عن أبي ظبيان، عن علي موقوفاً، قاله أبو بكر بن عياش وشريك عن أبي حصين.
ورواه عطاء بن السائب، عن أبي ظبيان، عن علي وعمر مرفوعاً، حدث به عنه حماد ابن سلمة وأبو الأحوص وجرير بن عبد الحميد وعبد العزيز بن عبد الصمد العمى وغيرهم، وقول وكيع وابن فضيل أشبه بالصواب، والله أعلم. قيل: لقي أبو ظبيان عليا وعمر رضي الله عنهما؟ قال: نعم.
وقد سبق أن نقلنا عن أبي عبد الرحمن النسائي ترجيح وقفه، فهؤلاء ثلاثة أئمة النسائي والترمذي والدارقطني كلهم رجح الرواية الموقوفة على المرفوعة، والله أعلم بالصواب.
وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث كل من: أطراف مسند أحمد (4/396) ، تحفة الأشراف (7/360، 413) ، إتحاف المهرة (14155، 14521) .
والحديث له شواهد، منها حديث عائشة، وأبي قتادة، وابن عباس، وثوبان وغيرهم.
الشاهد الأول: حديث عائشة.
أخرجه أبو داود الطيالسي (1485) طباعة دار هجر.
ورواه أحمد (6/100، 101) ، والدارمي (2296) والطحاوي في مشكل الآثار (3987) ، من طريق عفان.
وأخرجه أحمد أيضاً (6/101) عن حسن بن موسى وروح.
وأخرجه ابن أبي شيبة (4/200) رقم 19239، وأحمد (6/144) وأبو داود (4398) ، وابن ماجه (2041) من طريق يزيد بن هارون.
وأخرجه النسائي في المجتبى (3432) وفي الكبرى (5625) وابن ماجه (2041) وابن الجارود في المنتقى (148، 808) من طريق عبد الرحمن بن مهدي.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (4400) ، وابن حبان في صحيحه (142) من طريق شيبان بن فروخ.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (2350) ، والبيهقي (6/84،206) و (8/41) من طريق أبي الوليد الطيالسي وموسى بن إسماعيل.
وأخرجه البيهقي (10/317) من طريق محمد بن أبان، كلهم (عفان ويزيد بن هارون وعبد الرحمن بن مهدي وحسن بن موسى وروح بن عبادة وشيبان بن فروخ وأبو الوليد الطيالسي وموسى بن إسماعيل ومحمد بن أبان) رووه عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً.
والحديث له ثلاث علل.
الأول: تغير حماد بن سلمة.
لكن يقال: إن الراوي عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه، وقد قال ابن معين: من أراد أن يكتب حديث حماد بن سلمة، فعليه بعفان بن مسلم.
العلة الثانية: تفرد حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان، وقد قال الإمام أحمد: سماع هشام من حماد بن أبي سليمان صالح، ولكن حماد - يعني ابن سلمة - عنده عنه تخليط كثير. اهـ تهذيب التهذيب في ترجمة حماد بن أبي سليمان (3/14) .
العلة الثالثة: حماد بن أبي سليمان، مختلف فيه.
وانظر لمراجعة طرق هذا الحديث غير ما عزوت له سابقاً: إتحاف المهرة (21539، 21575) ، أطراف مسند الإمام أحمد (9/17) ، تحفة الأشراف (11/353) ، التمهيد (1/109) ، وفي فتح الباري كلام مهم في بيان راجح الموقوف من المرفوع (12/121) .
الشاهد الثاني: حديث أبي قتادة.
رواه الحاكم في المستدرك (8171) من طريق عكرمة بن إبراهيم، حدثني سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي رباح، عن أبي قتادة، رضي الله عنه مرفوعاً.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
قال الذهبي متعقباً: عكرمة ضعفوه.
وقد ضعف عكرمة جمع من الأئمة.
قال يحيى بن معين كما في رواية عباس بن محمد الدوري: بصري ليس بشيء. الجرح والتعديل (7/11) .
وقال النسائي: ضعيف.
وقال أيضاً: ليس بثقة. الضعفاء والمتروكين للنسائي (482) ، لسان الميزان (4/181) .
وقال أبو داود: ليس بشيء. لسان الميزان (4/181) .
وقال يعقوب بن سفيان: منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال البزار: لين الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي المرجع السابق.
وذكره بن الجارود وابن شاهين في الضعفاء. المرجع السابق.
الشاهد الثالث: حديث ابن عباس.
رواه الطبراني في الأوسط (3403) وفي الكبير (11/89) رقم 1141 من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبدالعزيز بن عبيد الله، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعاً.
قال الهيمثي في مجمع الزوائد (6/251) رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وقال: لا يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، وفيه عبد العزيز بن عبيد الله بن حمزة، وهو ضعيف.
قلت: قال يحيى بن معين: ضعيف لم يحدث عنه إلا إسماعيل بن عياش. الكامل في الضعفاء (5/284) ، الضعفاء للعقيلي (3/21) .
الشاهد الرابع: حديث شداد بن أوس وثوبان.
رواه الطبراني في المعجم الكبير (7/287) رقم (7156) وفي مسند الشاميين (1/216) قال: حدثنا عبد الرحمن بن سلم الرازي، ثنا عبد المؤمن بن علي، أنا عبد السلام بن حرب، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن أبي إدريس واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم شداد بن أوس وثوبان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رفع القلم في الحد عن الصغير حتى يكبر وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق، وعن المعتوه الهالك.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/251) : رواه الطبراني، ورجاله ثقات.(9/58)
الدليل الثاني:
الإجماع على أن الكافر والطفل غير المميز لا يصح منه الوضوء، قال ابن تيمية: الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول، ويقصده، فأما المجنون والطفل الذي لا يميز فأقواله كلها لغو في الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود، ولا شيء من الأقوال باتفاق المسلمين (1) .
_________
(1) التفسير الكبير (3/80) .(9/64)
الشرط الثالث:
ارتفاع دم الحيض والنفاس
من شروط الوضوء ارتفاع دم الحيض والنفاس، فلو توضأت المرأة، وهي حائض أو نفساء لم يرتفع حدثها، فارتفاعه شرط للوجوب، فلا يجب الوضوء على حائض ونفساء، وشرط للصحة أيضاً، وهذا مذهب الجمهور (1) .
وقيل: ارتفاع الحيض والنفاس شرط وجوب فقط، فيصح الوضوء من الحائض والنفساء، ولا يجب عليها (2) .
قال ابن نجيم من الحنفية: وأما أئمتنا فقالوا: إنه يستحب لها - يعني الحائض- أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وتقعد على مصلاها تسبح، وتهلل وتكبر (3) .
وقد ذهب جمع من السلف إلى تصحيح وضوء الحائض والنفساء، وكأنهم رأوا أن في ذلك تخفيفاً للحدث، كما يتوضأ الجنب للنوم، وإن كان حدثه باقياً.
قال ابن رجب: وقد استحب طائفة من السلف أن تتوضأ - يعني الحائض- في وقت كل صلاة مفروضة، وتستقبل القبلة، وتذكر الله عز وجل
_________
(1) حاشية العدوي (1/129) ، الشرح الصغير (1/133) ، منح الجليل (1/77) ، الإنصاف (1/144) المبدع (1/118) ، الفروع (1/225) .
(2) البحر الرائق (1/10) ، حاشية ابن عابدين (1/86،87) ، إلا أن ابن نجيم ذكر أن عدم الحيض والنفاس من شروط الوجوب، ثم ذكر في شروط الصحة: انقطاع الحيض والنفاس فليتأمل.
(3) البحر الرائق (1/203) .(9/65)
بمقدار تلك الصلاة، منهم الحسن وعطاء وأبو جعفر محمد بن علي، وهو قول إسحاق، وروي عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر الحائض بذلك، وتجلس بفناء مسجدها، خرجه الجوزجاني.
وقال مكحول: كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن (1) .
(793-22) أما قول عطاء: فأخرجه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الملك،
عن عطاء أنه كان يقول في الحائض: تتنظف، وتتخذ مكاناً في مواقيت الصلاة تذكر الله فيه (2) .
وسنده صحيح.
وأما قول الحسن فقد ثبت عنه بسند صحيح
(794-23) فقد روى ابن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن يزيد ابن إبراهيم، عن الحسن قال: سمعته يقول في الحائض:
تتوضأ عند كل صلاة وتذكر الله.
[إسناده صحيح] (3) .
وأما قول أبي جعفر:
(795-24) فرواه ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال:
إنا لنأمر نساءنا في الحيض أن يتوضأن في وقت كل صلاة، ثم
_________
(1) شرح ابن رجب للبخاري (2/130) .
(2) المصنف (2/128) 7265
(3) المصنف (1/129) رقم 7271(9/66)
يجلسن ويسبحن ويذكرن الله (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
وأما قول عقبة بن عامر
(796-25) فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، عن سعيد ابن أبي أيوب، قال: حدثني خالد بن يزيد الصدفي، عن أبيه عن عقبة بن عامر
أنه كان يأمر المرأة الحائض في وقت الصلاة أن تتوضأ وتجلس بفناء المسجد، وتذكر الله وتهلل وتسبح (3) .
ولم أقف على ترجمة خالد بن يزيد الصدفي، ولا ترجمة أبيه، وباقي رجاله ثقات (4) . والله أعلم.
والحق أن استحباب ذلك بدعة.
قال ابن رجب: ((وأنكر ذلك أكثر العلماء، وقال أبو قلابة: قد سألنا عن هذا فما وجدنا له أصلاً)) .
وقال سعيد بن عبد العزيز: ما نعرف هذا ولكننا نكرهه.
_________
(1) المصنف (1/128) رقم 7270
(2) فيه جابر بن يزيد الجعفي، اتهمه بالكذب، زائدة.
وقال أبو حنيفة: ما أتيته بشيء من رأيي إلا جاءني فيه بأثر.
وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الحاكم: أبو أحمد ذاهب الحديث.
(3) المصنف (1/128) رقم 7269
(4) إلا أن يكون خالد بن يزيد الجمحي، فإنه مصري، يروي عنه سعيد بن أبي أيوب، خاصة أن النسبة إلى الصدف: قال عنها السمعاني في الأنساب (3/528) : " هي قبيلة من حمير نزلت مصر ". فإن كان هو فإنه ثقة، من رجال الجماعة.(9/67)
وقال ابن عبد البر: على هذا القول جماعة من الفقهاء، وعامة العلماء في الأمصار (1) .
(797-26) وقول أبي قلابة الذي أشار إليه الحافظ ابن رجب. قد رواه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا معتمر، عن أبيه، قال:
قيل لأبي قلابة: الحائض تسمع الأذان فتوضأ، وتكبر، وتسبح، قال: قد سألنا عن ذلك فما وجدنا له أصلاً.
[وسنده صحيح] (2) .
روى ابن أبي شيبة قال: حدثنا ابن مهدي، عن شعبة، قال: سألت الحكم وحماداً فكرهاه (3) .
فأين الدليل على مشروعية الوضوء للحائض؟
قال النووي: إذا قصدت الطهارة تعبداً مع علمها بأن لا تصح فتأثم بهذا؛ لأنها متلاعبة بالعبادة، فأما إمرار الماء عليها بغير قصد العبادة فلا تأثم به بلا خلاف، وهذا كما أن الحائض إذا أمسكت عن الطعام بقصد الصوم أثمت، وإن أمسكت بلا قصد لم تأثم اهـ (4) .
_________
(1) شرح ابن رجب للبخاري (2/130) .
(2) المصنف ـ ابن أبي شيبة (1/128) رقم 7266.
(3) المصنف (1/128) رقم 7268.
(4) المجموع (2/382) .(9/68)
الشرط الرابع:
طهورية الماء
اشترط الجمهور أن يكون الماء طهوراً مطلقاً، فإن كان الماء نجساً فلا يصح الوضوء منه قولاً واحداً، وإن كان الماء طاهراً - كالماء المستعمل في رفع حدث- فإن الحدث لا يرتفع عند جماهير أهل العلم (1) .
وقيل: يصح الوضوء بالماء المستعمل، ولا يوجد قسم من الماء اسمه طاهر، فليس هناك إلا ماء طهور ونجس، ولا وجود لقسم ثالث طاهر غير مطهر.
وقد قدمت أدلة كل فريق في كتاب المياه، وترجح أن الماء قسمان فقط، فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق.
_________
(1) قال ابن نجيم من الحنفية، وهو يعدد شروط الوضوء (1/10) : ووجود الماء المطلق الطهور الكافي. وانظر حاشية ابن عابدين (1/87) وغمز عيون البصائر (2/6) .
وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/134) : وجود ما يكفي جميع البدن من الماء المطلق. وانظر حاشية الدسوقي (1/84) ، وحاشية العدوي (1/129) .
وقال ابن رسلان من الشافعية في زبده (ص: 44) : ماء طهور مطلق. وانظر حاشية البجيرمي (1/64) ، وحاشيتا قليوبي وعميرة (1/51) .
ونص على هذا الشرط أيضاً الحنابلة في كتبهم، انظر كشاف القناع (1/85) ، مطالب أولي النهى (1/104) ، الإنصاف (1/144) المبدع (1/118) ، الفروع (1/225) .
وقد اختلف الفقهاء في ما لو وجد ماء يكفي بعض طهره، هل يتوضأ أو يتيمم، أو يتوضأ بما يقدر عليه، ويتيمم للباقي، وسوف تأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في فصل مستقل، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه.(9/69)
[صفحة فارغة](9/70)
الشرط الخامس:
إزالة ما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء
من شروط الوضوء: إزالة ما يمنع وصول الماء على أعضاء الوضوء، من دهن جامد أو شمع ونحوهما، وهذا محل اتفاق بين المذاهب الأربعة.
لأن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء: الوجه واليدين والرجلين إذا كانتا مكشوفتين، فإذا كان على العضو المغسول ما يمنع من وصول الماء لم يتحقق امتثال الأمر، فيكون الغسل ناقصاً، وإذا كان ناقصاً لم يتم وضوءه.
وإنما اختلفوا في الوسخ يكون على الظفر، ويمنع من وصول الماء هل يصح وضوءه أم لا؟
فقيل: تجب إزالته مطلقاً، ولا يصح الوضوء مع وجوده، اختاره المتولي من الشافعية (1) ، وابن عقيل من الحنابلة (2) .
وقيل: لا تجب إزالته مطلقاً، ويعفى عنه، اختاره الغزالي من الشافعية (3) ، ومال إليه ابن قدامة من الحنابلة (4) .
_________
(1) المجموع (1/340) .
(2) قال ابن قدامة في المغني (1/86) : " وإذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته، فقال ابن عقيل: لا تصح طهارته حتى يزيله "اهـ.
(3) تحفة المحتاج (1/187) ، وقال النووي في المجموع (1/340) : " ولو كان تحت الأظفار وسخ، فإن لم يمنع وصول الماء إلى ما تحته لقلته صح الوضوء.
وإن منع، فقطع المتولي بأنه لا يجزيه، ولا يرتفع حدثه، كما لو كان الوسخ في موضع آخر من البدن.
وقطع الغزالي في الإحياء بالإجزاء وصحة الوضوء والغسل، وأنه يعفى عنه للحاجة اهـ.
(4) المغني (1/86) .(9/71)
وقيل: إن كان ما تحت الظفر يسيراً عفي عنه، وإن فحش وجبت إزالته، وهو مذهب المالكية (1) ، وأومأ إليه ابن دقيق العيد (2) ، ورجحه
ابن تيمية (3) .
وقد ذكرت أدلة كل قول، وما هو الراجح فيه في كتابي سنن الفطرة، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور.
_________
(1) قال في الفواكه الدواني (1/140) : " ولا يلزمه إزالة ما تحت أظافره من الأوساخ إلا أن يخرج عن المعتاد، فيجب عليه إزالته، كما يجب عليه قلم ظفره الساتر لمحل الفرض. وانظر حاشية الدسوقي (1/88) .
(2) قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (1/125) : " إذا لم يخرج طول الأظفار عن العادة يعفى عن يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد، فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة، وقد ورد في بعض الأحاديث الإشارة إلى هذا المعنى. اهـ. وقد يعتبر هذا من ابن دقيق العيد قولاً رابعاً، وهو أن الأظفار إذا خرج طولها عن المعتاد أصبح ما يتعلق بها من الوسخ مانعاً من حصول الطهارة، وإذا كان طولها معتاداً لم يمنع الوسخ. والله أعلم.
(3) يرى ابن تيمية العفو عن كل يسير يمنع وصول الماء، ولم يخصصه في الأظفار، قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/303) : " وإن منع يسير وسخ ظفر ونحوه وصول الماء صحت الطهارة، وهو وجه لأصحابنا، ومثله كل يسير منع وصول الماء حيث كان كدم وعجين الخ كلامه اهـ.(9/72)
الشرط السادس:
دخول الوقت على من به حدث دائم
ذهب الجمهور إلى اشتراط دخول الوقت في صحة طهارة من به حدث دائم كالمستحاضة ومن به سلس بول ونحوهما، فلو تطهر قبل دخول الوقت لم تصح طهارته (1) .
وقيل: لا يشترط دخول الوقت، بل لا يعتبر خروج دم الاستحاضة وكذا من به سلس بول، لا يعتبر حدثاً ناقضاً للوضوء، وإنما يستحب منه الوضوء ولايجب، وهذا مذهب المالكية (2) .
وقد بحثت هذه المسألة بشيء من الاستفاضة في كتابي الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا (3) .
_________
(1) الاختيار لتعليل المختار (3/508) ، حاشية ابن عابدين (1/504) ، البحر الرائق (1/226) ، مراقي الفلاح (ص: 60) ، تبيين الحقائق (1/64) ، بدائع الصنائع (1/28) .
المجموع (1/543،363) ، مغني المحتاج (1/111) ، روضة الطالبين (1/147،125) .
المغني (1/421) ، شرح منتهى الإرادات (1/120) ، كشاف القناع (1/215) ، الإنصاف (1/377) ، الفروع (1/279) ، شرح الزركشي (1/437) .
(2) مواهب الجليل (1/291) ، حاشية الدسوقي (1/116) ، الخرشي (1/152) ، القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 29) ، فتح البر بترتيب التمهيد (3/508) ، الاستذكار (3/225-226) .
(3) انظر (3/1109) في خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة.(9/73)
[صفحة فارغة](9/74)
الشرط السابع:
هل يشترط أن يكون ماء الوضوء مباحاً؟
اختلف الفقهاء هل يشترط في الوضوء أن يكون الماء مباحاً؟
فقيل: لا يشترط، فلو توضأ بماء محرَّم كالمغصوب أثم، وارتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) .
وقيل: لا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة (4) .
وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو من مفردات مذهب الحنابلة (5) ،
وهو اختيار ابن حزم (6) .
وسبب اختلافهم في هذه المسألة: أنه ورد على هذا الوضوء أمران: واجب ومحرم، فالوضوء للصلاة واجب، وأخذ مال الغير بدون وجه حق
_________
(1) تبيين الحقائق (1/48) ، الفصول في الأصول (2/179) ، حاشية ابن عابدين (1/341) .
(2) أنواع البروق في أنواع الفروق (2/84) ، الخرشي (1/181) ، و (3/44) ، الفواكه الدواني (1/124) ، حاشية الدسوقي (1/144) و (3/54) ، منح الجليل (1/138) .
(3) إعانة الطالبين (1/55) ، المجموع (2/295) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/59،68) .
(4) قال في منار السبيل (1/15) : " ماء يحرم استعماله ولا يرفع الحدث، ويزيل الخبث وهو ماليس مباحاً كمغصوب ونحوه ". اهـ
(5) قال في الإنصاف (1/28) : وأما الوضوء بالماء المغصوب فالصحيح من المذهب أن الطهارة لا تصح به، وهو من مفردات المذهب. وعنه: تصح وتكره، اختاره ابن عبدوس في تذكرته. اهـ
وانظر قواعد ابن رجب، القاعدة التاسعة (ص: 12) ، كشاف القناع (1/30) ، مطالب أولي النهى (4/62) ، المبدع (1/40) .
(6) المحلى (1/208) .(9/75)
محرم، فلا يمكن أن يكون الشيء واجباً ومحرماً في الوقت نفسه، كما أن الوضوء قربة لله سبحانه وتعالى، ووضوءه بماء مغصوب محرم، والمحرم لا يكون قربة يتقرب بها العبد إلى الله.
والذين ذهبوا إلى صحة الوضوء رأوا أن التحريم راجع إلى أمر خارج عن الوضوء، وهو الغصب، وقد غسل الإنسان أعضاءه فارتفع حدثه مع الإثم، فالتحريم والصحة غير متلازمين، وهناك أدلة أثرية ونظرية لكل فريق ذُكِرَتْ بشيء من التفصيل في كتابي أحكام الطهارة (المياه والآنية) (1) فارجع إليها غير مأمور، فقد أغنى ذكرها هناك عن إعادتها هنا.
_________
(1) أحكام الطهارة، الباب الثاني: الوضوء بالماء المحرم (ص: 95-102) .(9/76)
الشرط الثامن:
القدرة على استعمال الماء
نص الحنفية والمالكية على هذا الشرط (1) ، وأن من شروط الوضوء القدرة على استعمال الماء، والحقيقة أن القدرة على الفعل ليست شرطاً خاصاً بالوضوء، بل إن جميع التكاليف لا تجب إلا بالقدرة على فعلها، فمن عجز عن أداء شيء فإن كان له بدل، وجب البدل، وإن لم يكن له بدل سقط عنه حتى يقدر على فعله {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (2) ،
{فاتقوا الله ما استطعتم} (3) .
(798-27) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبدان، عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان قال: حدثني الحسين المكتب، عن ابن بريدة،
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صل قائماً؛ فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب (4) .
وما دام أن هذا الشرط لا يختص بالوضوء فكان الأفضل عدم ذكره من شروط الوضوء، والله أعلم.
_________
(1) البحر الرائق (1/10) ، حاشية ابن عابدين (1/87) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/6) ، غمز عيون البصائر (2/6) ، مواهب الجليل (1/182) ، حاشية الدسوقي (1/84) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/134) ، منح الجليل (1/77) .
(2) البقرة: 286.
(3) التغابن: 16.
(4) الوضوء (1117) .(9/77)
[صفحة فارغة](9/78)
الشرط التاسع:
قيام الحدث
وهذا شرط وجوب، فمن لم يكن محدثاً لم يجب عليه الوضوء.
الدليل على هذا من السنة والإجماع.
(799-28) أما السنة فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال حدثنا سفيان، عن عمرو بن عامر قال: سمعت أنس بن مالك قال ح
وحدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن سفيان قال: حدثني عمرو بن عامر،
عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث (1) .
الدليل الثاني:
(800-29) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد ح
وحدثني محمد بن حاتم واللفظ له، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال: حدثني علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة،
عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه. قال: عمداً صنعته يا عمر (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (214) .
(2) صحيح مسلم (277) .(9/79)
الدليل الثالث:
(801-30) ما رواه البخاي، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار مولى بني حارثة،
أن سويد بن النعمان أخبره، أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء، وهي أدنى خيبر، فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به، فثري، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ (1) .
الدليل الرابع:
أن المسألة شبه إجماع، قال ابن تيمية: ((من توضأ لصلاة صلى بذلك الوضوء صلاة أخرى - فهذا قول عامة السلف والخلف، والخلاف في ذلك شاذ. وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى؛ فإنه قد ثبت بالتواتر، أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعاً، جمع بهم بين الصلاتين، وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله، ولما سلم من الظهر صلى بهم العصر، ولم يحدث وضوءاً لا هو ولا أحد، ولا أمر الناس بإحداث وضوء، ولا نقل ذلك أحد، وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقاً)) (2) .
وقال أيضاً: ((لما قدم مزدلفة: صلى بهم المغرب والعشاء جمعاً من غير تجديد وضوء للعشاء، وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة. وأقام لكل صلاة إقامة، وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من
_________
(1) صحيح البخاري (209) .
(2) مجموع الفتاوى (21/371) .(9/80)
حديث ابن عمر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم كلها تقتضي: أنه هو - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون خلفه - صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى، لم يحدثوا لها وضوءاً. وكذلك قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم أنه كان يتوضأ لصلاة الليل، فيصلي به الفجر، مع أنه كان ينام حتى يغط، ويقول: تنام عيناي ولا ينام قلبي، فهذا أمر من أصح ما يكون أنه: كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأ للنافلة يصلي به الفريضة، فكيف يقال: إنه كان يتوضأ لكل صلاة؟ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، ثم قدم عليه وفد عبد القيس، فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر، ولم يحدث وضوءاً، وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة، وتارة النافلة ثم الفريضة، وتارة فريضة ثم فريضة، كل ذلك بوضوء واحد، وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة، وكان المسلمون على عهده يتوضئون، ثم يصلون ما لم يحدثوا، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، ولم ينقل عنه - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف -: أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة، فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل. وأما القول بوجوبه: فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولإجماع الصحابة.
والنقل عن علي رضي الله عنه بخلاف ذلك لا يثبت؛ بل الثابت عنه خلافه، وعلي رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه مثل هذا، والكذب على علي كثير مشهور أكثر منه على غيره، وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله أن يكون في هذه المسألة نزاع، مع جلالة قدره وسعة معرفته بآثار الصحابة والتابعين، قال أحمد بن القاسم: سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد؟ فقال: لا بأس بذلك إذا لم ينتقض وضوءه، ما ظننت أن أحداً أنكر هذا)) (1) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/372) .(9/81)
(802-31) وأما ما رواه أحمد، قال: ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازني مازن بني النجار، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر، قال: قلت له: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر عمَّ هو؟ فقال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبى عامر ابن الغسيل حدثها،
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قال: فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك فكان يفعله حتى مات (1) .
[في إسناده اختلاف، وحسن إسناده الحافظ] (2) .
_________
(1) مسند أحمد (5/225)
(2) سبق تخريجه في كتابي أحكام الطهارة (سنن الفطرة) رقم الحديث: 691.(9/82)
الشرط العاشر:
النية
والكلام في النية طويل ومتشعب، لذا سوف يحصر الكلام على النية في المباحث التالية: في تعريفها، وبيان حكمها، وذكر محلها، وشروطها، وفي وقتها، وفي كيفيتها.
المبحث الأول:
تعريف النية
تعريف النية لغة:
النيات جمع نية، نوى الشيء ينويه نواة، ونية: قصد وعزم عليه.
يقال: نوى القوم منزلاً: أي قصدوه، ونوى الأمر ينويه: إذا قصد إليه.
ويقال: نواك الله بالخير: أي أوصله إليك.
ويقال: نوى الشيء ينويه: أي عزم عليه.
وقيل: النوى التحول من دار إلى دار، قال ابن فارس: هو الأصل في المعنى، ثم حملوا عليه الباب كله، فقالوا: نوى الأمر ينويه إذا قصده، والنية: الوجه الذي تنويه (1) .
وقيل: النية: هي الإرادة (2) .
وعلى هذا فالنية تدور على القصد والعزم والإرادة والجهة والتحول.
_________
(1) معجم مقاييس اللغة (5/366) .
(2) بدائع الصنائع (1/127) ، جامع العلوم والحكم (ص: 15) ..(9/83)
النية في اصطلاح الفقهاء.
تعريف الحنفية:
قال ابن عابدين: النية: قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل (1) .
تعريف المالكية:
النية: قصد المكلف الشيء المأمور به (2) .
تعريف الشافعية:
قال الماوردي: هي قصد الشيء مقترناً بفعله، فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم (3) .
وقال النووي: النية عزم القلب على عمل فرض أو غيره (4) .
تعريف الحنابلة:
قال البهوتي: النية شرعاً: هي عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى. وهذا التعريف جيد، وذلك أنه أشار في التعريف إلى ذكر التقرب إلى الله بالامتثال، وهو ما يخرج العادة إلى العبادة، والنية إنما يحتاج إليها في العبادات؛ وأما في المباحات فليست محل ثواب ولا عقاب لذاتها.
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/105) .
(2) حاشية العدوي (1/203) .
(3) المنثور في القواعد (3/284) ، منتهى الآمال (ص: 83) .
(4) المجموع (1/353) .(9/84)
المبحث الثاني:
في حكم النية
اختلف الفقهاء في النية، هل هي شرط من شروط الوضوء، أو لا؟ .
فقيل: النية سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في طهارة التيمم، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: النية شرط لطهارة الحدث مطلقاً: الأصغر والأكبر، بالماء أو التيمم، وهو مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وهو الراجح.
وقيل: يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بلا نية، وهو قول الأوزاعي (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/32) ، البناية في شرح الهداية (1/173) ، تبيين الحقائق (1/5) ، البحر الرائق (1/24) ، بدائع الصنائع (1/19) ، مراقي الفلاح (ص:29) .
(2) المالكية يرون أن النية فرض من فروض الوضوء، فهم يتفقون مع الجمهور على وجوبها، ويختلفون في حكم الوجوب هل هي شرط في صحة الوضوء، أو فرض من فروض الوضوء؟ فالشافعية والحنابلة يرون أن النية شرط، بينما المالكية يرون أن النية من فروض الوضوء انظر حاشية الدسوقي (1/85) ، مواهب الجليل (1/182،230) ، الفواكه الدواني (1/135) ، مختصر خليل (ص: 13) ، القوانين الفقهية (ص:19) ، الخرشي (1/129) ، الشرح الصغير (1/114،115) ، منح الجليل (1/84) ، الكافي (1/19) .
(3) المجموع (1/355) ، الروضة (1/47) ، مغني المحتاج (1/47) ، نهاية المحتاج (1/156) ، الحاوي الكبير (187) ، متن أبي شجاع (ص:5) .
(4) معونة أولي النهى شرح المنتهى (1277) ، الممتع شرح المقنع (1/176) ، المحرر (1/11) ، كشاف القناع (1/85) ، المغني (1/156) ، الكافي (1/23) ، المبدع (1/116) .
(5) الأوسط لابن المنذر (1/370) .(9/85)
وسبب الاختلاف في اشتراط النية للطهارة
ما قاله ابن رشد: اختلف العلماء هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا؟ بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (1) ثم قال: وسبب اختلافهم: تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى، كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى نية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين (2) .
وقد ذكرت أدلة الأقوال وناقشتها نقاشاً مستفيضاً في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية فارجع إليه غير مأمور.
_________
(1) البينة: 5.
(2) بداية المجتهد (1/103) .(9/86)
المبحث الثالث:
في محل النية
أكثر الفقهاء على أن النية محلها القلب (1) .
وقيل: محلها الدماغ، وهو رواية عن أحمد (2) ، ونسب هذا القول لأبي حنيفة (3) .
_________
(1) الفتاوى الكبرى (2/95) ، أدب الدنيا والدين - علي بن محمد الماوردي (ص:18) أسنى المطالب (4/59) ، إغاثة اللهفان (1/136) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/35) ، غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/469) .
(2) قال في شرح الكوكب المنير (25) : المشهور عن أحمد أنه في الدماغ، وقاله الطوفي والحنفية. اهـ العدة (1/89) ، التمهيد (1/48) ، شرح الكوكب المنير (1/84) .
(3) جاء في البحر المحيط (1/122) : اختلفوا في محله:
فقيل لا يعرف محله, وليس بشيء.
وعلى المشهور فيه ثلاثة أقوال , وعند أصحابنا -كما نقله ابن الصباغ وغيره - أنه القلب; لأنه محل لسائر العلوم.
وقالت الفلاسفة والحنفية: الدماغ, والأول منقول عن أحمد والشافعي ومالك, والثاني: منقول عن أبي حنيفة حكاه الباجي عنه, ورواه ابن شاهين عن أحمد بن حنبل أيضا. والثالث: أنه مشترك بين الرأس والقلب.
وقال الأشعري: لكل حاسة منه نصيب, وهذا يصلح أن يكون قولاً رابعاً.
وذكر إمام الحرمين في " النهاية " في باب أسنان إبل الخطأ: أنه لم يتعين للشافعي محله، وهذا يصلح أن يكون قولا خامساً.
وقيل: الصدر, ولعل قائله أراد القلب.
وقيل: هو معنى يضيء في القلب, وسلطانه في الدماغ; لأن أكثر الحواس في الرأس، ولهذا قد يذهب بالضرب على الدماغ، حكاه ابن سراقة، قال: وقال آخرون من أصحابنا: هو قوة وبصيرة في القلب منزلته منه منزلة البصر من العين. الخ كلامه رحمه الله.(9/87)
وقيل: محلها مشترك بين الرأس والقلب (1) .
دليل القول الأول:
قال تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} (2) .
وقال تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} (3) .
وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} (4) .
وقال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (5) .
(803-32) ومن السنة ما رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، قال: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب، ورواه مسلم أيضاً (6) .
دليل من قال: العقل في الدماغ.
لم أقف على شيء من الآيات والأحاديث تدل على أن العقل في الدماغ، ولكن يذكر الأطباء المعاصرون والفلاسفة المتقدمون: أن القلب إنما هو عبارة عن مضخة للدم، تدفعه إلى جميع أجزاء الجسم، وأن العقل محله
_________
(1) جاء في تبيين الحقائق (4/32) العقل معدنه القلب، وشعاعه في الدماغ، والجنون انقطاع ذلك الشعاع. اهـ وانظر البحر المحيط (1/122) .
(2) الأعراف: 179.
(3) الأنعام: 25.
(4) الحج: 46.
(5) الحج: 46
(6) البخاري (52) ، ومسلم (1599) .(9/88)
الدماغ، وأن الدماغ هو مصدر الذاكرة والتذكر، وأن الدماغ إذا أصيب بشيء عرض له ما يسمى بفقدان الذاكرة، فلا يتذكر الإنسان من ماضيه شيئاً، وأن هناك عمليات أجريت في نقل القلب من إنسان كافر إلى إنسان مسلم، وأن المسلم بمجرد أن أفاق نطق الشهادة، وأقام الصلاة، مع أن قلبه قد نقل من بدن كافر لا يعرف الله سبحانه وتعالى.
وهذا الكلام لا يمكن أن يعارض به النصوص الشرعية، فإننا نتهم الطب، إذا كان فهم النص قاطعاً، فإن لم يكن الفهم قاطعاً بأن كان ظنياً فإن العلماء مطالبون بفهم النصوص بما يتفق مع الحقائق العلمية، بشرط أن تكون هذه حقائق، وليست نظريات قابلة للتغير؛ لأن الطب ما زال ينقصه الشيء الكثير، ولن يزال كذلك ما دام من نتاج العقل البشري، فإن العقل آفته النقص وهو مهما أوتي يبقى كما قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} (1) .
{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (2) .
{قل أأنتم أعلم أم الله} (3) .
وقد سمعت بعض مشايخي يقول: إن العقل يصور الشيء، والقلب يقبله أو يرده، فيكون القلب محل الرغبة والرهبة والقبول والرفض، والعقل محل إدراك الشيء وتصوره، وهذا جمع حسن، وقد رأينا أن عاطفة الإنسان من حبه للشيء وميله إليه يجده في قبله، كما أن كراهية الشيء ومقته يجدها في
_________
(1) الإسراء: آية: 85.
(2) الملك: آية: 14.
(3) البقرة: 140.(9/89)
قلبة، فمحل الفرح والحزن والحسرة هي في القلب، وقد يكون القلب وهو يتحكم في الدم، وقد سمي الدم نفساً كما في قول الفقهاء: ما لا نفس له سائلة، فإذا كان يتحكم في هذا الدم (النفس) الذي بواسطته بعد الله سبحانه وتعالى تكون حياة جميع الأعضاء بما في ذلك الدماغ يكون هو مصدر إمداد مادة الحياة لها كلها، فيكون هو محل ذلك كله، والله أعلم (1) .
_________
(1) جاء في مواهب الجليل (1/231) : قال المازري في شرح التلقين: أكثر الفقهاء وأقل الفلاسفة على أن العقل في القلب، وأكثر الفلاسفة وأقل الفقهاء على أنه في الدماغ، محتجين بأنه إذا أصيب الدماغ فسد العقل، وبطلت العلوم والفكر وأحوال النفس.
وأجيب: بأن استقامة الدماغ لعلها شرط، والشيء يفسد لفساد شرطه، ومع الاحتمال فلا جزم، بل النصوص واردة بأن ذلك في القلب، وذكر الآيات، ثم قال: وإذا تقرر أن العقل في القلب لزم على أصولنا أن النفس في القلب؛ لأن جميع ما ينسب للعقل من الفكر والعلوم صفات للنفس، فتكون النفس في القلب عملا بظاهر النصوص، وقد قال بعض العلماء: إن النفس هي الروح، وهي العقل تسمى نفساً باعتبار ميلها إلى الملاذ والشهوات، وروحا باعتبار تعلقها بالجسد تعلق التدبير بإذن الله تعالى، وعقلا باعتبار كونها محصلة للعلوم، فصار لها ثلاثة أسماء باعتبار ثلاثة أحوال، والموصوف واحد، وإذا كانت النفس في القلب كانت النية وأنواع العلوم وجميع أحوال النفس في القلب، والعبارة التي ذكرها في كتاب الأمنية عن المازري لم أرها في شرح التلقين في الكلام على النية، وإنما رأيت العبارة التي ذكرها المصنف في التوضيح، ونقلها في الذخيرة، ولعل العبارة الأخرى ذكرها المازري في غير هذا الموضع، وزاد المازري بعد ذكره القولين: وهذا أمر لا مدخل للعقل فيه، وإنما طريقه السمع، وظواهر السمع تدل على صحة القول الأول. وذكر ابن رشد نحو ما تقدم ثم قال: والتحقيق أن الجسم قالب للنفس هي فيه كالسيف في الغمد وكالسلطان الجالس بقبته، والقلب سرير والدماغ كرسيه، الخ كلامه رحمه الله.
(تنبيه) قال القرافي في الفرق السادس والعشرين: فتاوى العلماء متظافرة على أن الطهارة وستر العورة والاستقبال من واجبات الصلاة , وأجمعوا على أن من توضأ قبل الوقت واستتر واستقبل ثم جاء الوقت وهو على هذه الصورة وصلى من غير أن يجدد فعلا في هذه الثلاثة أجزأته صلاته إجماعاً، والله تعالى أعلم.(9/90)
المبحث الرابع:
في أقسام النية
تنقسم النية إلى أقسام، نتعرض فيها إلى ما يخصنا في باب الفقه، فقد قسمها الفقهاء إلى قسمين:
نية فعلية موجودة: وهي النية التي يأتي بها الإنسان في أول العبادة، كنية الوضوء والصلاة والصيام ونحوها.
ثم إذا ذهل عنها فهي تسمى نية حكمية، بمعنى أن الشرع حكم باستصحابها، وكذلك الإخلاص والإيمان والنفاق والرياء وجميع هذا النوع من أحوال القلوب إذا شرع فيها واتصف القلب بها كانت نية فعلية, ثم إذا ذهل عنها حكم صاحب الشرع ببقاء أحكامها لمن اتصف بها، وتسمى نية حكمية.
وهو ما يطلق عليه الفقهاء بقولهم: يجب استصحاب حكم النية، ولا يجب استصحاب ذكرها.
والدليل على ذلك قوله تعالى {إنه من يأت ربه مجرما} (1) ، مع أنه يوم القيامة لا يكون أحد مجرماً، ولا كافراً؛ لظهور الحقائق (2) .
_________
(1) طه: 74.
(2) مواهب الجليل (1/233) .(9/91)
[صفحة فارغة](9/92)
المبحث الخامس:
في الجهر بالنية
ومع أن محل النية عند الفقهاء هو القلب، فقد اختلف الفقهاء في الجهر بالنية باللسان،
فقيل: لا يشرع، وحكي إجماعاً (1) ،
واستثنى بعضهم الحج (2) .
وقيل: يستحب التلفظ بالنية، وهو قول في مذهب الحنفية (3) ،
_________
(1) قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/214) : وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع، بل من اعتاده فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديبا يمنعه عن التعبد بالبدع، وإيذاء الناس برفع صوته، والله أعلم.
وقال ابن تيمية كما في الفروع (1/139) : واتفق الأئمة أنه لا يشرع الجهر بها، ولا تكريرها، بل من اعتاده ينبغي تأديبه، وكذا بقية العبادات، وقال: الجاهر بها مستحق للتعزير بعد تعريفه، لا سيما إذا آذى به أو كرره، وقال: الجهر بلفظ النية منهي عنه عند الشافعي وسائر أئمة الإسلام، وفاعله مسيء، وإن اعتقده دينا خرج عن إجماع المسلمين، ويجب نهيه، ويعزل عن الإمامة إن لم ينته. اهـ
ولعل الاتفاق يقصد به اتفاق أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد دون أصحابهم، فإن الخلاف بين أصحاب المذاهب محفوظ في استحباب الجهر بها، ولذلك قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (2/90) : التلفظ بها هل هو مستحب أم لا؟ هذا فيه قولان معروفان للفقهاء، منهم من استحب التلفظ بها، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وقالوا: التلفظ بها أوكد، واستحبوا التلفظ بها في الصلاة والصيام والحج وغير ذلك، ومنهم من لم يستحب التلفظ بها، كما قال ذلك من قاله من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما. اهـ
(2) قال في الإقناع (1/24) : والتلفظ بها وبما نواه هنا وفي سائر العبادات بدعة، إلا في الإحرام، واستحبه سراً مع القلب كثير من المتأخرين، ومنصوص أحمد وجميع المحققين خلاف هذا إلا في الإحرام. اهـ
(3) قال ابن عابدين في حاشيته (1/108) : وهل يستحب التلفظ بها - يعني: النية- أو يسن أو يكره؟ فيه أقوال، اختار في الهداية الأول.(9/93)
ومذهب الشافعية (1) .
واختلفوا في النطق بها سراً،
فقيل: لا يشرع، وهو المنصوص عن أحمد (2) .
وقيل: يستحب النطق بها سراً، قال به المتأخر ون من الحنابلة (3) .
دليل من قال: يشرع التلفظ بها.
قالوا: يستحب التلفظ بها ليوافق اللسان القلب.
وربما قاسه بعضهم على التلبية عند الإحرام، وليست التلبية جهراً بالنية، وإنما كما قلنا: هي بمثابة تكبيرة الإحرام، ولا يشرع أن يقول عند التلبية: اللهم إني أريد نسك كذا وكذا فيسره لي.
_________
(1) قال النووي في المجموع (6/ 302) : ومحل النية القلب ولا يشترط نطق اللسان بلا خلاف، ولا يكفي عن نية القلب بلا خلاف، ولكن يستحب التلفظ مع القلب كما سبق في الوضوء. اهـ
وقال أيضاً (3/358) : النية الواجبة في الوضوء هي النية بالقلب، ولا يجب اللفظ باللسان معها، ولا يجزئ وحده، وإن جمعهما فهو آكد وأفضل، هكذا قاله الأصحاب واتفقوا عليه. اهـ وقال في روضة الطالبين (1/50) : يستحب أن ينوي بقلبه، ويتلفظ بلسانه. وذكر في سنن الوضوء (1/63) أن يجمع في النية بين القلب واللسان. اهـ
(2) جاء في الفروع (1/111) قال أبو داود: قلت لأحمد: أنقول قبل التكبير شيئاً، قال: لا، واختاره شيخنا، وأنه منصوص أحمد. الخ كلامه رحمه الله، وانظر شرح منتهى الإرادات (1/183) ، كشاف القناع (1/328) .
(3) كشاف القناع (1/87) الفروع (1/111) الشرح الكبير (1/26) ، الإقناع (1/24) .(9/94)
دليل من قال: لا يشرع الجهر بالنية.
الدليل الأول:
أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، قال تعالى: {قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض} (1) .
الدليل الثاني:
لا يوجد دليل يدل على مشروعية الجهر بالنية، وعليه يكون الجهر بها بدعة.
قال ابن القيم: ولم يكن يقول - صلى الله عليه وسلم - في أوله: نويت رفع الحدث، ولا إستباحة الصلاة، لا هو ولا أحد من الصحابة البتة، ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف (2) .
وقال ابن تيمية: اتفق الأئمة أنه لا يشرع الجهر بها، ولا تكريرها، بل من اعتاده ينبغي تأديبه، وكذا بقية العبادات، وقال: الجاهر بها مستحق للتعزير بعد تعريفه، لا سيما إذا آذى به، أو كرره، وقال: الجهر بها بلفظ النية منهي عنه عند الشافعي وسائر أئمة الإسلام، وفاعله مسيء، وإن اعتقده ديناً خرج من إجماع المسلمين، ويجب نهيه، ويعزل عن الإمامة إن لم ينته (3) .
واستحب في المشهور من مذهب الإمام أحمد النطق بها سراً كما في الشرح الكبير، لكن قال في الإقناع: ((والتلفظ بها وبما نواه هنا وفي سائر
_________
(1) الحجرات: 16.
(2) زاد المعاد (1/296) .
(3) الفروع (1/139) .(9/95)
العبادات بدعة، واستحبه سراً مع القلب كثير من المتأخرين، ومنصوص أحمد وجميع المحققين خلافه إلا في الإحرام)) . اهـ
قلت: لا يستثنى شيء، لا في الإحرام ولا في غيره على الصحيح، فلا يشرع لمن أراد الإحرام أن يقول: اللهم إني نويت نسك كذا، ولم يرد ذلك في حديث صحيح، ولا ضعيف، والتلبية ليست جهراً بالنية، وإنما هي بمثابة تكبيرة الإحرام للصلاة، لا تعتبر جهراً بالنية.(9/96)
المبحث السادس:
الحكمة من مشروعية النية
الحكمة من مشروعيتها تمييز العبادات عن العادات، وتمييز ما كان لله سبحانه وتعالى عما كان لغيره، وكذلك تمييز العبادات بعضها عن بعض، فهذه فريضة، وهذه نافلة.
فالصيام مثلاً قد يكون حمية، وقد يكون قربة، والغسل قد يكون تبرداً ونظافة، وقد يكون عبادة، ولا يميز هذا عن ذاك إلا النية.
قال في مواهب الجليل، في بيان حكمة مشروعيتها: وحكمة ذلك والله تعالى أعلم تمييز العبادات عن العادات، ليتميز ما هو لله تعالى عما ليس له، أو تتميز مراتب العبادات في أنفسها لتمييز مكافأة العبد على فعله، ويظهر قدر تعظيمه لربه، فمثال الأولى: الغسل، يكون عبادة وتبرداً، وحضور المساجد يكون للصلاة وفرجة، والسجود لله أو للصنم.
ومثال الثاني الصلاة: لانقسامها إلى فرض ونفل، والفرض إلى فرض على الأعيان، وفرض على الكفاية، وفرض منذور وفرض غير منذور، ومن هنا يظهر كيفية تعلقها بالفعل فإنها للتمييز، وتمييز الشيء قد يكون بإضافته إلى سببه كصلاة الكسوف والاستسقاء والعيدين، وقد يكون بوقته كصلاة الظهر أو بحكمه الخاص به كالفريضة، أو بوجود سببه كرفع الحدث، فإن الوضوء سبب في رفع الحدث، فإذا نوى رفع الحدث ارتفع وصح الوضوء، ولما كانت حكمة مشروعيتها ما ذكر كانت القرب التي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نية، كالإيمان بالله وتعظيمه وجلاله والخوف من عذابه والرجاء لثوابه والتوكل عليه والمحبة لجماله وكالتسبيح والتهليل وقراءة القرآن وسائر(9/97)
الأذكار، فإنها متميزة لجنابه سبحانه وتعالى، وكذلك النية منصرفة إلى الله سبحانه وتعالى بصورتها فلا جرم، ولم تفتقر النية إلى نية أخرى، ولا حاجة للتعليل بأنها لو افتقرت إلى نية أخرى لزم التسلسل، وكذلك يثاب الإنسان على نية مفردة ولا يثاب على الفعل مفرداً، لانصرافها بصورتها لله تعالى، والفعل متردد بين ما هو لله تعالى وما هو لغيره، وأما كون الإنسان يثاب على نيته حسنة واحدة وعلى فعله عشر حسنات إذا نوى فلأن الأفعال هي المقاصد والنيات وسائل، والوسائل أنقص رتبة من المقاصد، وعلم من الحكمة المذكورة: أن الألفاظ إذا كانت نصوصا في شيء لا يحتاج إلى نية وكذلك الأعيان المستأجرة إذا كانت المنافع المقصودة فيها متعينة لم تحتج إلى تعيين كمن استأجر قميصا أو عمامة أو خباء أو نحو ذلك، وكذلك النقود إذا كان بعضها غالبا لم يحتج إلى تعيينه في العقد وكذلك الحقوق إذا تعينت لربها كالدين الوديعة ونحوها.
ولملاحظة هذه الحكمة اختلف العلماء في النية في صوم رمضان وفي الوضوء ونحوهما، فمن رأى أنهما متعينان لله تعالى بصورتهما قال: لا حاجة إلى النية فيهما، ومن رأى أن الإمساك في رمضان قد يكون لعدم الغذاء ونحوه وقلما يكون لله تعالى، وأن الوضوء قد يكون لرفع الحدث أو للتجديد أو للتبرد، أوجب النية.(9/98)
المبحث السابع:
في شروط النية
للنية شروط عامة في جميع العبادات، وشروط خاصة في كل عبادة، وسوف أعرض للشروط العامة للنية، مبيناً ما ورد فيها من خلاف.(9/99)
[صفحة فارغة](9/100)
الشرط الأول:
الإسلام
فلا تصح النية من كافر، لأنه ليس أهلاً للنية، وليس من أهل العبادة، قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} (1) .
فلو توضأ الكافر أو اغتسل لم يصحا منه عند الجمهور.
وصحح الحنفية وضوءه وغسله، فلو أسلم بعدهما صلى بوضوئه وغسله؛ لأن النية عندهم ليست شرطاً في الوضوء والغسل، وقد ذكرت في مسألة مستقلة حكم النية في الوضوء، ورجحت أنها شرط في صحة الوضوء، والله أعلم.
إلا أنه يستثنى من ذلك الكتابية تكون تحت المسلم، فإذا طهرت من المحيض أو النفاس فإنها تغتسل للزوج حتى يتمكن من جماعها، وهل تشترط النية لغسلها؟ على قولين:
فقيل: يصح غسلها بلا نية، لأنها ليست أهلاً للنية، فغسلها إنما هو لحق الآدمي وليس حقاً لله، وإذا لم يكن عبادة لم تشترط له النية، وهو ظاهر مذهب المالكية (2) ، ووجه في مذهب الحنابلة، وهو المشهور عند المتأخرين (3) .
_________
(1) الفرقان: 23.
(2) قال في مواهب الجليل (1/311) : غسل الذمية وقع صحيحاً حال الكفر في حق الآدمي ولم يقع عبادة، وصحة الغسل في حق الله تعالى لا تكون إلا بوقوع الغسل منها عبادة وقربة، والكفر لا يصح معه قربة بوجه. اهـ وانظر الخرشي (1/75) حاشية الدسوقي (1/42) ، حاشية الصاوي (1/37) .
(3) كشاف القناع (1/85) ، وقال أيضاً (1/90) : ولا تجب النية في غسل الذمية للعذر (ولا) تجب أيضا (التسمية في غسل ذمية) كالنية، هذا أحد الوجهين، وصوبه في الإنصاف وتصحيح الفروع، وظاهر ما قدمه في الإنصاف في كتاب الطهارة اعتباراً للتسمية، وهو ظاهر كلام المصنف هناك وتقدم. (ولا تتعبد) الذمية (به) أي بغسلها للحيض أو النفاس (لو أسلمت بعده) فلا تصلي به، ولا تطوف، ولا تقرأ قرآناً، ولا غير ذلك مما يتوقف على طهارة. قال القاضي: إنما يصح في حق الآدمي؛ لأن حقه لا يعتبر له النية، فيجب عوده إذا أسلمت، ولم يجز أن تصلي به، انتهى.(9/101)
وقيل: لا بد لها من نية، إلا إذا امتنعت فتسقط للضرورة، كما لو امتنع الرجل عن أداء زكاته، فإنها تؤخذ منه قهراً، وتجزئ عنه في الدنيا، وهو مذهب الشافعية (1) ، ووجه آخر في مذهب الحنابلة (2) .
_________
(1) قال السيوطي في الأشباه والنظائر (ص: 35) : الذمية تحت المسلم يصح غسلها عن الحيض؛ ليحل وطؤها بلا خلاف للضرورة، ويشترط نيتها كما قطع به المتولي والرافعي في باب الوضوء، وصححه في التحقيق، كما لا يجزي الكافر العتق عن الكفارة إلا بنية العتق، وادعى في المهمات أن المجزوم به في الروضة وأصلها في النكاح عدم الاشتراط، وما ادعاه باطل، سببه سوء الفهم، فإن عبارة الروضة هناك: إذا طهرت الذمية من الحيض والنفاس ألزمها الزوج الاغتسال، فإن امتنعت أجبرها عليه واستباحها؛ وإن لم تنو للضرورة، كما يجبر المسلمة المجنونة فقوله " وإن لم تنو " بالتاء الفوقية عائد إلى مسألة الامتناع، لا إلى أصل غسل الذمية، وحينئذ لا شك في أن نيتها لا تشترط، كالمسلمة المجنونة. وأما عدم اشتراط نية الزوج عند الامتناع والمجنون، أو عدم اشتراط نيتها في غير حال الإجبار فلا تعرض له في الكلام لا نفيا ولا إثباتاً، بل في قوله في مسألة الامتناع " استباحها وإن لم تنو للضرورة " ما يشعر بوجوب النية في غير حال الامتناع، وعجبت للإسنوي كيف غفل عن هذا؟ وكيف حكاه متابعوه عنه ساكتين عليه؟ والفهم من خير ما أوتي العبد. اهـ كلام السيوطي.
وقال العراقي في طرح التثريب (2/12) : وأما الذمية الممتنعة فقال في شرح المهذب الظاهر أنه على الوجهين في المجنونة، بل قد جزم ابن الرفعة في الكفاية في غسل الذمية لزوجها المسلم أن المسلم هو الذي ينوي، ولكن الذي صححه النووي في التحقيق في الذمية غير الممتنعة اشتراط النية عليها نفسها، والله أعلم.
(2) الإنصاف (1/152) .(9/102)
والأول أقوى؛ بل إن إيجاب غسل البدن كله عليها إن قال أحد بعدم وجوبه، فله وجه؛ لأن طهارة الحائض مركبة من طهارتين: عن حدث وعن خبث، وإذا كان يتوجه وجوب الطهارة عليها من الخبث لحق الزوج، فإن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى، وإنما هي طهارة تعبدية محضة، فإن قال أحد: يكفي أن تغسل فرجها، وتنظفه من الأذى، فهذا كاف في حل وطء زوجها فهو قول قوي جداً، ولا يستبعد القول به، خاصة أن الحنفية يقولون بجوازه في حق المسلمة إذا طهرت لتمام المدة، فإنهم لا يوجبون الغسل لحل الوطء، فهذه من باب أولى، والله أعلم.(9/103)
[صفحة فارغة](9/104)
الشرط الثاني:
التمييز
فلا تصح النية من صغير غير مميز، لعدم صحة القصد منه.
ولا تصح النية من مجنون، للعلة نفسها، وأما غسل المرأة المجنونة من المحيض لتحل لزوجها، فيرى الشافعية والحنابلة أن زوجها يغسلها، وينوي عنها لتعذر النية منها:
قال النووي: وأما المجنونة إذا انقطع حيضها فلا يحل لزوجها وطؤها حتى يغسلها، فإذا غسلها حل الوطء؛ لتعذر النية في حقها، وإذا غسلها الزوج هل يشترط لحل الوطء أن ينوي بغسله استباحة الوطء؟ فيه وجهان حكاهما الروياني، وقطع المتولي باشتراط النية، وقطع الماوردي بعدم الاشتراط، قال: بخلاف غسل الميت، فإنه يشترط فيه نية الغسل على أحد الوجهين؛ لأن غسله تعبد , وغسل المجنونة لحق الزوج، فإذا أفاقت لزمها إعادة الغسل على المذهب الصحيح المشهور، وذكر المتولي فيه وجهين، كالذمية إذا أسلمت، قال: وكذا الوجهان في حل وطئها للزوج بعد الإفاقة والله أعلم (1) .
وقال البهوتي في كشاف القناع: وغسل مجنونة من حيض ونفاس، مسلمة كانت أو كتابية، حرة أو أمة، فلا تعتبر النية منها لتعذرها، ولكن ينويه عنها من يغسلها كالميتة.
وقال أبو المعالي: لا نية كالكافرة، لعدم تعذرها مآلا بخلاف الميت،
_________
(1) المجموع (1/374) .(9/105)
ولأنها تعيده إذا أفاقت وأسلمت. اهـ قلت: ومقتضاه أنها لا تعيده على الأول، لقيام نية الغاسل مقام نيتها. اهـ (1) .
وما ترجح في غسل الكافرة فهو الراجح هنا، بجامع أن كلاً منهما ليس من أهل العبادة، والله أعلم.
_________
(1) كشاف القناع (1/85) .(9/106)
الشرط الثالث:
عدم الإتيان بما ينافيها حتى يفرغ من وضوئه
والمنافي للنية بأن يأتي بما يقطعها أو يبطلها، أو يصرف النية لغير الوضوء في أثنائه كما لو نوى في أثناء الوضوء التبرد فقط، ويعبر عنه الفقهاء بوجوب استصحاب حكمها: بأن لا ينوي قطعها حتى يفرغ من وضوئه، ولا يجب عليه أن يستصحب ذكر النية بعد أن نواها، وإنما الواجب استصحاب حكمها، فلا يأتي ما يقطعها من رفض الوضوء قبل فراغه، أو يبطلها، كما لو تخلل وضوءه ردة والعياذ بالله، أو ينقل نية الوضوء في أثنائه من نية القربة إلى التبرد فقط، وهذا رأي الأئمة الثلاثة (1) .
وأما الحنفية فهم كما سبق يرون النية سنة في الطهارة، وبالتالي لا يؤثر مثل ذلك في صحة الوضوء.
_________
(1) أسهل المدارك (1/83، 98) القوانين الفقهية (ص: 19) ، نهاية المحتاج (1/162) ، تحفة الطلاب (1/65) ، الروض المربع (1/33) .(9/107)
[صفحة فارغة](9/108)
الشرط الرابع:
أن تكون النية مقارنة للمنوي أو متقدمة عليه بشيء يسير
النية تارة تكون متقدمة على المنوي، وتارة تكون مقارنة له، وتارة تكون متأخرة عن أول العمل، وإليك بيان حكم كل حال من هذه الأحوال.
حكم تقدم النية على العمل.
أجاز العلماء تقدم النية على المنوي في الصوم للمشقة فجوزوا عدم مقارنة النية لأول المنوي لإتيان أول الصوم حالة النوم غالبا, والزكاة في الوكالة على إخراجها (1) .
واختلفوا في غير الصوم من العبادات:
فقيل: يجوز تقدم النية على المنوي بشرطه، وهو مذهب الحنفية والحنابلة.
قال أبو حنيفة وصاحباه: من نوى عند الوضوء أنه يصلي به الظهر أو العصر مع الإمام ولم يشتغل بعد النية بما ليس من جنس الصلاة إلا أنه لما انتهى إلى مكان الصلاة لم تحضره النية جازت صلاته بتلك النية (2) .
_________
(1) قال ابن جزي في القوانين الفقهية (ص: 19) : فإن تأخرت عن محلها أو تقدمت بكثير بطلت، وإن تقدمت بيسير فقولان. اهـ
وقال في الفروع (1/143) ويجوز تقديمها بزمن يسير كالصلاة. اهـ ويفهم منه أنه لا يجوز تقديمها بزمن كثير.
(2) شرح فتح القدير (1/266) ، وجاء في البحر الرائق (1/292) :(9/109)
ولا يضر اشتغاله بالمشي إليها وإن لم يكن من جنسها، فالمهم ألا يوجد فاصل أجنبي بين النية وبين العمل، وهذا ما يسميه بعض الفقهاء النية الحكمية، أي استصحاب حكم النية.
قال ابن نجيم: والمراد بقوله ((بلا فاصل أي بين النية والتكبير، والفاصل الأجنبي: هو العمل الذي لا يليق في الصلاة كالأكل والشرب; لأن هذه الأفعال تبطل الصلاة، فتبطل النية، وشراء الحطب والكلام, وأما المشي والوضوء فليس بأجنبي)) (1) . اهـ
وقال ابن قدامة: قال أصحابنا: يجوز تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير, وإن طال الفصل، أو فسخ نيته بذلك لم يجزئه (2) .
وعلى هذا فالحنفية والحنابلة أجازوا تقدم النية على المنوي، والحنفية أوسع من الحنابلة في هذا، حيث لم يقيدوه بالزمن اليسير بخلاف الحنابلة.
وقيل: يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير، لا قبله ولا بعده، وهو المشهور من مذهب الشافعية (3) .
وذهب أبو منصور بن مهران من الشافعية إلى وجوب تقدم النية على أول التكبير بشيء يسير، وعلل ذلك بأن لا يتأخر أولها عن أول التكبير (4) .
وقيل: يجوز تقدم النية على العبادة بشرط أن يكون وقت العبادة قد
_________
(1) البحر الرائق (1/291) .
(2) المغني (1/279) ، وذكر صاحب كشاف القناع شروطاً لجواز تقدم النية، بأن يكون العمل يسيراً، ولم يفسخ النية، مع بقاء إسلامه بحيث لا يرتد، فإن الردة تبطل النية، انظر كشاف القناع (1/316) .
(3) المجموع (3/242) .
(4) المرجع السابق.(9/110)
دخل، فإن تقدمت النية قبل وقت العبادة ولو بزمن يسير لم تصح النية، اختاره كثير من الحنابلة (1) .
دليل من قال بجواز تقدم النية على العبادة.
الدليل الأول:
قالوا: تقدم النية على التكبير بالزمن اليسير لا يخرج الصلاة عن كونها منوية، ولا يخرج الفاعل عن كونه ناوياً مخلصاً.
الدليل الثاني:
القياس على الصوم، فإذا صح أن تتقدم النية على الصوم، جاز أن تتقدم النية على سائر العبادات.
الدليل الثالث:
النية شرط من شروط الصلاة فجاز تقدمها كبقية الشروط.
الدليل الرابع:
إيجاب مقارنة النية للمنوي فيه حرج ومشقة، وهو مدفوع بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (2) .
_________
(1) قال البهوتي في كشاف القناع (1/316) : وعلم مما تقدم: أن النية لو تقدمت قبل وقت الأداء أو الراتبة ولو بيسير لم يعتد بها, للخلاف في كونها ركناً للصلاة، وهو لا يتقدم كبقية الأركان، وأول من اشترط لتقدم النية كونه في وقت المنوية: الخرقي، وتبعه على ذلك ابن الزاغوني والقاضي أبو يعلى وولده أبو الحسين وصاحب الرعاية والمستوعب, والحاويين وجزم به في الوجيز وغيره، ولم يذكر هذا الشرط أكثر الأصحاب، فإما لإهمالهم أو بناء منهم على الغالب قال في الإنصاف: وظاهر كلام غيرهم , أي: غير من تقدم الجواز, لكن لم أر الجواز صريحاً. اهـ
(2) الحج: 78.(9/111)
الدليل الخامس:
الزمن اليسير لا يؤثر في العبادة كما أن الكلام اليسير في الزمن اليسير لا يبطل الصلاة إذا حصل في أثنائها لمصلحة متحققة كما هو معلوم،
(804-33) فقد روى البخاري في صحيحه، من طريق محمد بن سيرين،
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي - قال محمد: وأكثر ظني العصر - ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: أقصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر. قال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين. الحديث، والحديث رواه مسلم (1) .
فهذا الرسول تكلم مع الصحابة، والكلام في الأصل مبطل للصلاة، ولكن حين كان لمصلحة الصلاة، وكان يسيراً، ولم يطل الفصل، بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته، ولم يستأنف، فكذلك النية إذا تقدمت على العمل بزمن يسير عرفاً، لم يؤثر ذلك في الصلاة، والله أعلم.
دليل من قال يجب أن تكون النية مقارنة للمنوي.
استدلوا بقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (2) .
_________
(1) رواه البخاري (1229) ، ومسلم (573) .
(2) البينة: 5.(9/112)
فقوله ((مخلصين)) حال لهم في وقت العبادة، فإن الحال: هي وصف هيئة الفاعل وقت الفعل، والإخلاص هو النية.
وقال - صلى الله عليه وسلم - ((إنما الأعمال بالنيات)) .
وأجيب:
بأن حديث ((إنما الأعمال بالنيات)) مطلق، وليس فيه ما يفيد أن النية إن تقدمت فليس له ما نوى، بل يحصل له ما نوى مطلقاً تقدمت النية أو صاحبت العمل، وهو لم يرفض النية، وإنما استصحب حكمها، وكما أنه يجوز استصحاب حكمها أثناء العمل، فيجوز استصحاب حكمها قبله بيسير.
دليل من اشترط دخول وقت العبادة.
لعل الحنابلة يرون أن دخول وقت العبادة هو سبب الوجوب، والنية عبادة وتقديمها على سبب وجوبها لا يجوز، ويجوز تقديمها قبل شرط الوجوب. مثال ذلك: الزكاة سبب وجوبها بلوغ النصاب، وشرط الوجوب تمام الحول لما يشترط له الحول، فتقديم الزكاة قبل بلوغ النصاب لا يجوز؛ لأنه قدم العبادة قبل سبب وجوبها، فإذا بلغ المال النصاب جاز تقديمها قبل تمام الحول: أي قبل شرط وجوبها.
مثال آخر: لو أن رجلاً أراد أن يقدم كفارة يمين قبل أن يعقدها لم تصح كفارة، لأن عقد اليمين هو سبب وجوب الكفارة، ولو أنه عقد اليمين ثم أخرج الكفارة قبل أن يحنث جاز؛ لأن الحنث هو شرط الوجوب، وتقديم العبادة على شرط وجوبها جائز، وعلى سبب الوجوب لا يجوز، والله أعلم (1) .
_________
(1) قواعد ابن رجب: القاعدة الرابعة (1/24) .(9/113)
الحال الثانية: أن تكون النية مقارنة للمنوي ذهب عامة أهل العلم إلى استحباب أن تكون النية مقارنة للمنوي (1) ،
وقيل: يجب أن تكون النية مقارنة للمنوي، وهو مذهب الشافعية (2) ، واختاره الآجري (3) ، واختلفوا في الصيام الواجب.
فقال الشيرازي من الشافعية: وهل تجوز نيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان:
من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأنه عبادة، فجاز بنية تقارن ابتداءها، كسائر العبادات. قلت: وهذا مذهب الحنفية (4) ، والمالكية (5) .
ثم قال الشيرازي: وأكثر أصحابنا يقولون: لا يجوز إلا بنية من الليل، لحديث حفصة رضي الله عنها، ولأن أول وقت الصوم يخفى، فوجب تقديم النية عليه (6) .
_________
(1) المبسوط (1/10) ، بدائع الصنائع (1/199) ، مواهب الجليل (1/233) ، حاشية الدسوقي (1/520) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/695، 696)
(2) المجموع (3/242) ، وقال الزركشي في كتابه المنثور في القواعد (1/104) : كل عبادة تجب أن تكون النية مقارنة لأولها إلا الصوم والزكاة والكفارة. اهـ.
(3) كشاف القناع (1/316) .
(4) قال ابن عابدين في حاشيته (2/377) : وإن نوى مع طلوع الفجر جاز؛ لأن الواجب قران النية بالصوم، لا تقدمها. اهـ وانظر تبيين الحقائق (1/316) .
(5) قال في مواهب الجليل (2/418) : ويشترط أن تكون النية مبيتة من الليل، للحديث المتقدم، ويصح أن يكون اقترانها مع الفجر؛ لأن الأصل في النية أن تكون مقارنة لأول العبادة، وإنما جوز الشرع تقديمها لمشقة تحرير الاقتران. اهـ
(6) المهذب (1/70) . قال النووي في المجموع (6/303) الصحيح عند سائر المصنفين أنه لا يجوز - يعني: أن ينوي مع طلوع الفجر- قال: وهو قول أكثر أصحابنا المتقدمين، كما ذكره المصنف، وقطع به الماوردي والمحاملي في كتبه وآخرون، والمعتمد في دليله: ما ذكره المصنف. والغريب هنا: أن الشافعية الذين يوجبون أن تكون النية مقارنة للمنوي لم يطردوه في الصوم، بينما الجمهور الذين يجيزون تقدم النية على المنوي أجازوا هنا أن تكون النية مقارنة للمنوي في الصيام.(9/114)
دليل من جوز أن تكون النية في الصيام مقارنة لأول الصوم.
استدل بأن هذا هو الأصل في النية، وهو أن تكون النية مقارنة للمنوي، وإنما جاز تقدمها تخفيفاً ودفعاً للحرج.
دليل من أوجب تقدم النية في الصيام على المنوي.
(805-34) ما رواه مالك في الموطأ، عن نافع،
عن ابن عمر، أنه كان يقول: لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر (1) .
[إسناده من أصح الأسانيد، وروي عن ابن عمر عن حفصة مرفوعاً، ولا يثبت] (2) .
والراجح بين القولين:
قبل ترجيح أحد القولين لا بد أن نعرف تفسير المقارنة، فإن كان المقصود بالمقارنة ألا يوجد فاصل بين النية وبين المنوي، بحيث ينوي العبد الطاعة، ثم يدخل فيها مباشرة فلا حرج في مقارنة النية للمنوي في هذه الحال، لأن النية قد وجدت قبل العمل ولو ببرهة.
_________
(1) الموطأ (1/288) .
(2) سيأتي تخريج طرق حديث حفصة إن شاء الله تعالى في كتاب الصوم، وقد تكلم على المرفوع، وأنه لا يثبت كل من البخاري في التاريخ الأوسط (1/134) ، ونقله الترمذي في العلل الكبير (1/348) وصوب وقفه النسائي في السنن الكبرى (2/117-118) ، والدارقطني في العلل (5/ الورقة: 163) .(9/115)
وإن كان المقصود من المقارنة أن تنوي حال التلبس بالعبادة فهذا لا يجوز، لأنه في هذه الحال سوف يكون هناك جزء من العبادة ولو يسيراً عارياً من النية.
وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة، فقال:
((أما مقارنتها التكبير فللعلماء فيه قولان مشهوران:
أحدهما: لا يجب، والمقارنة المشروطة قد تفسر بوقوع التكبير عقيب النية, وهذا ممكن لا صعوبة فيه, بل عامة الناس إنما يصلون هكذا, وهذا أمر ضروري, لو كلفوا تركه لعجزوا عنه، وقد تفسر بانبساط آخر النية على آخر التكبير, بحيث يكون أولها مع أوله, وآخرها مع آخره، وهذا لا يصح; لأنه يقتضي عزوب كمال النية في أول الصلاة, وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة. وقد تفسر بحضور جميع النية مع جميع آخر التكبير, وهذا تنازعوا في إمكانه، فمن العلماء من قال: إن هذا غير ممكن, ولا مقدور للبشر عليه, فضلا عن وجوبه, ولو قيل بإمكانه, فهو متعسر, فيسقط بالحرج. وأيضا فمما يبطل هذا والذي قبله, أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره, فيكون قلبه مشغولا بمعنى التكبير, لا بما يشغله عن ذلك من استحضار النية; ولأن النية من الشروط, والشروط تتقدم العبادات, ويستمر حكمها إلى آخرها, كالطهارة)) , والله أعلم (1) .
الحالة الثالثة: أن تكون النية متأخرة عن بعض المنوي.
ذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يجوز أن تتأخر النية عن أول العبادة، خاصة إذا كان أول العبادة واجباً فيها، فلا تتأخر النية في الوضوء عن غسل
_________
(1) الفتاوى الكبرى (2/94) .(9/116)
الوجه، ولو تأخرت عن غسل اليدين فلا يؤثر ذلك في صحة الوضوء؛ لأن غسل الكفين سنة، ولا تتأخر النية في الصلاة عن تكبيرة الإحرام وهكذا؛ لأن أول العبادة لو عرا عن النية لكان أولها متردداً بين القربة وبين غيرها, وآخر الصلاة مبني على أولها، فإذا كان أولها متردداً، كان آخرها كذلك.
وخالف في ذلك الكرخي من الحنفية، فقال: يجوز تأخير النية عن تكبيرة الإحرام، وهذا بناء على قول في مذهب الحنفية: أن تكبيرة الإحرام ليست من الصلاة (1) .
ولعل هذا القول لا يخرج عن القول السابق، وإنما الخلاف في تحقيق المناط، فتكبيرة الإحرام عند من يراها ركناً في الصلاة - وهو الصحيح - لايجوز أن تتأخر النية عن تكبيرة الإحرام، وأما عند من يرى تكبيرة الإحرام ليست من الأركان ولا الواجبات لا يمنع من تأخير النية عنها، كما أجاز الحنابلة تأخر نية الوضوء عن أول مسنونات الطهارة، وهي غسل الكفين، وتجب عندهم عند أول واجبات الطهارة.
واختلفوا في صيام النفل، هل يجوز أن تتأخر النية عن أول العبادة؟ على قولين:
فذهب الجمهور من الحنفية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، إلى أن تبييت
_________
(1) البحر الرائق (1/99) .
(2) البحر الرائق (1/314) ، حاشية ابن عابدين (2/292) ، مواهب الجليل (2/418)
(3) المجموع (6/305) .
(4) قال في الإنصاف (3/297) : ويصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده، هذا المذهب، نص عليه. قال في الفروع: وعليه أكثر الأصحاب. اهـ وانظر نيل المآرب (1/345) .(9/117)
النية من الليل في صيام النفل ليس بواجب، فلو نوى في أثناء اليوم في صيام النفل صح صومه بشرطه: وهو ألا يتناول مفطراً من طلوع الفجر.
وخالف في ذلك مالك رحمه الله (1) ، فقال: يجب تبييت النية من الليل، وهو مذهب الظاهرية (2) ، ورجحه المزني من الشافعية (3) .
وسوف يأتي بسط أدلة هذه المسألة في كتاب الصيام أبلغنا الله إياه بمنه وكرمه.
_________
(1) قال في مواهب الجليل (2/418) : شرط صحة الصوم مطلقاً فرضاً كان أو نفلاً معيناً أو غير معين أن يكون بنية، لقوله e إنما الأعمال بالنيات، ثم قال: وصفتها أن تكون مبيتة من الليل، ويصح أن يكون اقترانها مع الفجر، سواء كان صوم واجب أو تطوع.
(2) المحلى (3/429) .
(3) المجموع (6/305) .(9/118)
الشرط الخامس:
أن يكون جازماً بالنية
فلا يصح تعليق النية إلا إن قصد بكلمة ((إن شاء الله تعالى)) التبرك، وهذا مذهب الجمهور من المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وأما الحنفية فقد سبق أنهم يرون النية سنة، فلا يضر تعليقها (4) .
فلو توضأ بنية إن كان محدثاً فهذا الوضوء لرفع الحدث، وإلا فهو تجديد، فقد اختلف الفقهاء في هذه الصورة،
فذهب المالكية إلى أنه لا يصح وضوءه، لعدم الجزم بالنية.
جاء في حاشية الدسوقي: ((فالواجب عليه إذا توضأ أن يتوضأ بنية جازمة، فإن توضأ بنية غير جازمة - بأن علقها بالحدث المحتمل - كان هذا الوضوء باطلاً)) (5) .
ووجهه: أن هذا الإنسان إما أن يكون متطهراً أو محدثاً, فإن كان متطهراً فلا اعتبار به، إذ لم ينو التجديد, بل نوى رفع الحدث وليس عليه, وإن كان محدثاً فلا يصح, لعدم جزم نيته.
وذهب الشافعية إلى صحة الوضوء في هذه الصورة.
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/94) ، منح الجليل (1/50) ، مواهب الجليل (1/239) .
(2) حاشية قليبوبي وعميرة (1/45) .
(3) قال في الإنصاف (3/296) : لو قال: أنا صائم غداً إن شاء الله تعالى، فإن قصد بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد فسدت نيته، وإلا لم تفسد.
(4) انظر العزو إليهم في مسألة " حكم النية " وقد مر معنا في هذا الباب.
(5) حاشية الدسوقي (1/94) ، وجاء في التاج والإكليل (1/343) :(9/119)
جاء في المجموع: قال البغوي: لو توضأ ونوى إن كان محدثا فهو عن فرض طهارته، وإلا فهو تجديد, صح وضوءه عن الفرض, حتى لو زال شكه وتيقن الحدث لا يجب إعادة الوضوء (1) .
وقالوا: يغتفر التعليق هنا, كالمسافر إذا نوى خلف من شك في نية القصر, فقال , إن قصر قصرت. اهـ
قلت: ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فهذا غاية ما يمكن أن يفعله، وهو أن يقول: إن كنت محدثاً فهذا الوضوء عنه، فإن كان على طهارة لم يضره هذا الوضوء، وإن كان محدثاً فقد نواه معلقاً، والتعليق يغتفر، وقد رجح المحققون من العلماء صحة التعليق في مسألة مشابهة، كما لو قال رجل: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، فتصح نيته على الصحيح (2) ؛ لأن هذا غاية ما يمكن أن يفعله، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وقال بعضهم: يرتفع حدثه، إلا إن انكشف الحال وتبين أنه محدث فيلزمه استئناف الوضوء.
وإنما صح الوضوء للضرورة، لأن هذا غاية ما يسعه، وإذا زالت الضرورة، وانكشف الحال، وتبين أنه محدث فقد زالت الضرورة، فيلزمه أن يعيد الوضوء؛ لأن النية لم تكن جازمة.
قال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: لا نقول بأنه لا يرتفع حدثه على تقدير تحقق الحدث, وإنما نقول: لا يرتفع على تقدير انكشاف الحال، ويكون
_________
(1) المجموع (1/374) .
(2) ذكر صاحب الإنصاف (3/295) أن هذا القول رواية عن أحمد، ورجحها ابن تيمية، قال في الإنصاف: وهو المختار.(9/120)
وضوءه هذا رافعاً للحدث إن كان موجودا في نفس الأمر، ولم يظهر لنا للضرورة, فإذا انكشف الحال زالت الضرورة، فوجبت الإعادة بنية جازمة (1) .
ولا يشرع للإنسان أن يحدث لكي يجزم بالنية، فلم يرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة إلى هذا الفعل، وإنما أرشد بالأخذ باليقين وطرح الشك، كما قال - صلى الله عليه وسلم - إذا شك أحدكم في الصلاة فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً.
ومثل تعليق النية التردد بالنية، وعدم الجزم بها، وله حالتان:
الأولى: أن يحصل التردد منه بعد فراغه من الوضوء، أو ينوي رفض الوضوء بعد الفراغ منه.
فالصحيح عند الجمهور أن ذلك لا يؤثر في وضوئه (2) .
ودليلهم: القياس على الصلاة والصوم والحج، فكما أنه لو رفض الصوم أو الصلاة أو الحج بعد فراغه منه لم يبطل صومه ولا صلاته ولا حجه، فكذلك لا يبطل وضوءه.
وقيل: إن وضوءه يبطل، وهو وجه ثان في مذهب الأئمة الثلاثة (3) .
وتعليهم: أن حكم الوضوء - وهو رفع الحدث - ما زال باقياً، بدليل
_________
(1) المجموع (1/375) .
(2) قال صاحب (البيان في مذهب الشافعي) (1/106) : إذا فرغ من الطهارة، ثم نوى قطعها ففيه وجهان:
أحدهما، وهو المشهور: أن طهارته لا تبطل، كما لو فرغ من الصلاة، ثم نوى قطعها.
والثاني: حكاه الصيدلاني: أن طهارته تبطل، كما لو ارتد. اهـ الإنصاف (1/151) ، المبدع (1/120) ، الشرح الكبير على المقنع (1/53،54) .
(3) انظر المراجع السابقة.(9/121)
أنه يصح له أن يصلي به، بخلاف الصلاة والصوم والحج فإنها تنقضي حساً بعد أدائها وخروج وقتها، والصحيح الأول.
الحالة الثانية: أن يتردد في الوضوء هل يتمه أو يقطعه، وهذا فيه تفصيل:
الأول: أن يحصل له التردد من أول الوضوء إلى آخره، فهذا وضوءه باطل على الصحيح؛ لأن التردد ينافي النية؛ لأن النية هي القصد إلى الشيء قصداً جازماً.
الثاني: أن يكون التردد حصل له أثناء الوضوء، فهو قد شرع في الوضوء، وهو جازم على رفع الحدث، وفي أثنائه حصل له التردد، ففي هذا خلاف بين أهل العلم:
فقيل: وضوءه باطل، وهو الصحيح من مذهب أحمد (1) ، ووجه في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: لا يبطل الوضوء فيما مضى، وإذا أراد إتمام الطهارة قبل تطاول الفصل فلا بد من تجديد النية لما بقي، وهو مذهب المالكية (3) ، والصحيح في مذهب الشافعية (4) ، واختاره بعض الحنابلة (5) ، وهذا أصح من القول الأول.
_________
(1) قال في الإنصاف (1/151) : لو أبطل النية في أثناء الطهارة بطل ما مضى منها على الصحيح من المذهب، اختاره ابن عقيل والمجد في شرحه، وقدمه في الرعايتين والحاويين. اهـ
(2) البيان في مذهب الشافعي (1/106) .
(3) مواهب الجليل (1/241) ، والتاج والإكليل (1/239) بهامش المواهب.
(4) انظر البيان في مذهب الشافعي (1/106) ،
(5) قال في الإنصاف (1/151) وقيل: لا يبطل ما مضى منها، جزم به المصنف في المغني، لكن إن غسل الباقي بنية أخرى قبل طول الفصل صحت طهارته، وإن طالت انبنى على وجوب المولاة. اهـ(9/122)
وهذا التفصيل بالنسبة للوضوء، وأما غيره من العبادات فإن الحكم يختلف إذا خرج من النية قبل تمام العبادة، فهناك من العبادات ما يخرج منها قولاً واحداً، فإذا نوى قطع الإيمان صار مرتداً، والعياذ بالله.
وإذا نوى الخروج من الحج أو العمرة بعد دخوله في النسك لم يخرج منهما بهذه النية، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1) ، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه المسألة في كتاب المناسك، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه.
_________
(1) البقرة: 196.(9/123)
[صفحة فارغة](9/124)
المبحث السابع:
في صفة النية
كيفية النية في الوضوء أن ينوي رفع الحدث، أو أداء الفرض، أو استباحة ممنوع مما لا يستباح إلا بالطهارة، كاستباحة الصلاة.
قال الخرشي: وفي كيفية النية ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن ينوي رفع الحدث.
الثاني: أن ينوي أداء الفرض، أي امتثال أمر الله، وتدخل السنن والنوافل بالتبعية. زاد الصاوي: والمقصود بأداء الفرض ما تتوقف صحة العبادة عليه ليشمل وضوء الصبي (1) .
_________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/115) وجاء في مواهب الجليل (1/234) : قال العلامة أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني في قول المصنف أو الفرض: هذه النية إذا صاحبت وقت الفرض فلا إشكال، وإن تقدمته ففي صحتها نظر; لأنه لم يجب. فإن قلت: قد رخصوا في الوضوء قبل الوقت. قلت: أما نية رفع الحدث أو استباحة ما لا يستباح إلا به فظاهر, وأما نية الفرض فمشكل; لأنه إذا نوى فرضية وضوئه ذلك فكذب; لأن وقته لم يحضر, وإن نوى فرض الوضوء من حيث الجملة لم يصح; لأن النية إنما شرعت لتمييز المنوي, وإن نوى فرض ما يأتي لم يصح الجزم به; لأنه لا يدري هل يصل إليه أو لا؟ وإن نوى: إن بقيت لم يصح أيضا للتردد في النية كمغتسل. انتهى. قال الحطاب: قد تقدم في مقدمة هذا الكتاب عن القرافي أن الفرض له معنيان،
أحدهما: ما يأثم بتركه. والثاني: ما يتوقف عليه الشيء وإن لم يأثم بتركه, كقولنا: الوضوء للنافلة واجب, وهو أعم من الأول, والفرض المنوي هنا بالمعنى الثاني: أي ما يتوقف عليه الإتيان بالأشياء التي منع منها الحدث، فهو راجع إلى معنى استباحة ما يمنع منه الحدث وإلى رفع الحدث، ولهذا قال ابن بشير بَعْدُ: إن الأوجه الثلاثة متلازمة متى ذكر جميعها لا يمكن أن يقصد ذكر أحدها دون الآخر، كما تقدم فتأمله، والله تعالى أعلم. اهـ(9/125)
ثالثها: أن ينوي استباحة ممنوع مما لا يستباح إلا بالطهارة.
ومتى خطر ذكر جميع الثلاثة تلازمت، وإن خطر بباله بعضها أجزأ عن جميعها، ما لم يقصد عدم حصول الآخر، كأن يقول: أرفع الحدث ولا أستبيح الصلاة أو العكس، فتبطل النية، وتكون عدما للتنافي (1) .
فإذا نوى رفع الحدث فقد ارتفع حدثه، وهذا هو المقصود من الطهارة،
ولأن معنى رفع الحدث: استباحة كل فعل كان الحدث مانعاً من فعله.
أو بمعنى آخر: أنه إذا نوى رفع الحدث يكون بذلك قد نوى إزالة الوصف القائم بالأعضاء المانع من الصلاة ونحوها (2)
والمقصود من رفع الحدث رفع حكمه؛ لأن الحدث قد وقع، فلا يمكن رفعه.
_________
(1) الخرشي على مختصر خليل (1/129) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/114) الحاوي الكبير (1/94) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/103) ، وذكر النووي في روضة الطالبين (1/48) أنه ينوي ثلاثة أمور: الأول: رفع الحدث. الثاني: استباحة الصلاة. الثالث: فرض الوضوء أو أداء الوضوء، وذلك كاف قطعاً، وإن كان الناوي صبياً.
والحنابلة يذكرون في كتبهم أمرين في صفة الوضوء: أن ينوي رفع الحدث، أو استباحة أمر تجب له الطهارة كالصلاة، انظر الكافي (1/23) ، غاية المطلب (ص: 21) ، المحرر (1/11) ، بلغة الساغب (ص: 42) ، ولم أتعرض لمذهب الحنفية؛ لأنهم لا يرون النية شرطاً في صحة الوضوء.
(2) مواهب الجليل (1/234) ،(9/126)
الفرع الأول:
إذا نوى طهارة مطلقة
إذا نوى طهارة وأطلق، فهل يرتفع حدثه؟ .
فقيل: يرتفع حدثه، وهو أحد القولين في مذهب المالكية (1) ، ووجه في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: لا يرتفع، وهو قول ثان في مذهب المالكية (3) ، والمشهور من مذهب الشافعية (4) ، والصحيح في مذهب الحنابلة (5) .
وجه قول من قال: يرتفع حدثه:
قالوا: إن نية الطهارة أو الوضوء المطلق تنصرف إلى الوضوء الشرعي المعهود.
وجه من قال: لا يرتفع حدثه.
قالوا: إن نيته متناولة لما تشرع له النية، ولما لا تشرع له النية كإزالة
_________
(1) مواهب الجليل (1/237) ، الخرشي (1/130) ، حاشية الدسوقي (1/94) .
(2) المجموع (1/365) .
(3) مواهب الجليل (1/237) ، الخرشي (1/130) ، حاشية الدسوقي (1/94) .
(4) قال في المهذب المطبوع مع المجموع (1/365) : " وإن نوى الطهارة المطلقة لم يجزئه؛ لأن الطهارة قد تكون عن حدث، وقد تكون عن نجس، فلم تصح بنية مطلقة " قال النووي شارحاً لهذه العبارة: هذا الذي جزم به المصنف هو المشهور، الذي قطع به الجمهور.
(5) قال في الإنصاف (1/148) : لو نوى طهارة مطلقة أو وضوءاً مطلقاً عليه لم يصح على الصحيح.(9/127)
النجاسة؛ لأن كلايهما يسمى طهارة شرعية، فلم تصح طهارته.
والراجح:
القول بالصحة؛ لأن نية الطهارة في أعضاء الوضوء على الترتيب المخصوص لا تكون عن نجاسة، فتعين أن تكون عن حدث، والله أعلم.(9/128)
الفرع الثاني:
إذا نوى ما تسن له الطهارة
إذا نوى ما تسن له الطهارة فهل يرتفع حدثه؟
فقيل: يرتفع، وهو أحد القولين في مذهب المالكية (1) ، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) ، وهو الراجح.
وقيل: لا يرتفع، وهو المشهور في مذهب المالكية (4) ، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (5) ، ووجه في مذهب الحنابلة (6) .
وجه قول من قال: لا يرتفع.
قالوا: لأن الفعل الذي قصد إليه يصح فعله مع بقاء الحدث، فلم يتضمن القصد إليه القصد برفع الحدث جملة.
وجه قول من قال يرتفع حدثه.
قالوا: لأنه بهذه النية نوى أن يكون على أكمل الحالات، فنيته مستلزمة لرفع الحدث كله.
ولأن هذه طهارة شرعية مأمور بها، مثاب عليها، ولا يوجد دليل على اشتراط كون الطهارة لا بد أن تكون شرطاً في العبادة، وليست مسنونة.
_________
(1) مواهب الجليل (1/237) .
(2) المجموع (1/366) البيان في مذهب الشافعي (1/104) ، روضة الطالبين (1/48)
(3) الإنصاف (1/144) ، المغني (1/79) ، الفروع (1/140، 141) .
(4) مواهب الجليل (1/237) ، الخرشي (1/130) ، حاشية الدسوقي (1/94) .
(5) المجموع (1/366) ، البيان في مذهب الشافعي (1/104) ، روضة الطالبين (1/48)
(6) الإنصاف (1/144) ، المغني (1/79) ، الفروع (1/140، 141) .(9/129)
[صفحة فارغة](9/130)
الفرع الثالث:
إذا نوى ما لا تشرع له الطهارة
إذا نوى التبرد والنظافة من وضوئه، فهل يرتفع حدثه أم لا؟
فقيل: يرتفع، وهو مذهب الحنفية.
وقيل: لا يرتفع، وهو مذهب الجمهور.
وهذا المسألة ترجع إلى مسألة سابقة ذكرت أدلتها ونوقشت بشيء من التفصيل، وهي هل تشترط النية في رفع الحدث؟ فمن قال: لا تشترط كالحنفية قالوا: يرتفع حدثه، لأن الوضوء حقيقته جريان الماء على الأعضاء، وقد وجد.
ومن قال: تشترط النية في رفع الحدث، قال: لا يرتفع حدثه هنا؛ لأن الوضوء عبادة من شرطها النية ولم توجد، وقد مضى بحث هذه المسألة فأغنى عن إعادته هنا، فيمكن أن ترجع إليها إذا أردت الوقوف على أدلة كل فريق، والله أعلم.(9/131)
[صفحة فارغة](9/132)
الفرع الرابع:
إذا نوى رفع الحدث ونية التبرد مقرونين
إذا نوى بطهارته أمرين معاً أحدهما مشروع والآخر غير مشروع، كما لو نوى رفع الحدث وما لا تشرع له النية كالتبرد والتنظف، فهل يرتفع حدثه؟ .
فقيل: يرتفع حدثه، وهو مذهب المالكية (1) ، والوجه الصحيح في مذهبي الشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: لا يرتفع، وهو وجه في مذهب الحنابلة (4) ، واختيار ابن حزم (5) .
وجه من قال: يرتفع حدثه.
قالوا: حين نوى هذا الرجل رفع الحدث فقد أتى بما هو واجب عليه، وكونه ينضم إلى هذه النية نية التبرد لا تنافي رفع الحدث، فلا تضر هذه النية؛ ولأن غسل أعضاء الوضوء يتضمن التبرد فهو حاصل له نواه أو لم ينوه، ولا تقدح في الإخلاص حتى يقال: إن النية ليست خالصة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث ((السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)) (6) فلو قصد المسلم الأمرين
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/91، 92) ، الخرشي (1/129) .
(2) البيان في مذهب الشافعي (1/105) ، وقال النووي في الروضة (1/49) وإن نوى رفع الحدث والتبرد أو رفع الجنابة والتبرد فالصحيح صحة طهارته.
(3) الإنصاف (1/147) ، وقال ابن قدامة في الكافي (1/24) وإن نوى رفع الحدث والتبرد صحت طهارته؛ لأنه أتى بما يجزئه، وضم إليه ما لاينافيه. اهـ
(4) المرجع السابق.
(5) المحلى (1/94) .
(6) سبق تخريجه في كتاب سنن الفطرة، رقم (231)(9/133)
(نظافة الفم ومرضاة الرب) في التسوك لم يكن ذلك قادحاً في نيته، فكذلك الوضوء طهارة حسية للأعضاء، وطهارة معنوية من الذنوب، فلو نوى الطهارتين لم يكن ذلك قادحاً في النية، والله أعلم.
دليل من قال: لا يرتفع حدثه.
قال ابن حزم في ذكر دليله: إن خلط بنية الطهارة للصلاة نية لتبرد أو لغير ذلك لم تجزه الصلاة بذلك الوضوء. برهان ذلك قول الله تعالى:
{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (1) ،
فمن مزج بالنية التي أمر بها نية لم يؤمر بها , فلم يخلص لله تعالى العبادة بدينه ذلك, وإذا لم يخلص فلم يأت بالوضوء الذي أمره الله تعالى به, فلو نوى مع وضوئه للصلاة أن يعلم الوضوء من بحضرته أجزأته الصلاة به؛ لأن تعليم الناس الدين مأمور به وبالله تعالى التوفيق (2) .
والراجح القول الأول، وهو أن نية التبرد تدخل تبعاً، ولا تؤثر في النية، وقد قام بما هو واجب عليه من نية رفع الحدث، والله أعلم.
_________
(1) البينة: 5.
(2) المحلى (1/94) .(9/134)
الفرع الخامس:
إذا نوى رفع حدث واحد وعليه مجموعة أحداث
إذا تعددت الأحداث وكان سببها واحداً كمن نام عدة مرات، أو جامع عدة مرات، ولم يرفع حدثه الأول، فإن هذه الأحداث كلها ترتفع بنية واحدة حتى ولو لم يقصد ذلك، ولو نسي عددها.
الدليل على هذا من السنة:
(806-35) ما رواه مسلم من طريق هشام بن زيد،
عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحد (1) .
وأما إذا كان عليه نوع واحد من الأحداث، ولكن تعددت أسبابه كمن بال وتغوط ونام، فنوى رفع أحدها، فهل يرتفع حدثه؟ هذا فيه تفصيل، وهو ما سوف يتناوله الحديث - إن شاء الله - في هذا التقسيم، ويمكن تقسيمه إلى مسألتين:
_________
(1) مسلم (309) .(9/135)
[صفحة فارغة](9/136)
المسألة الأولى:
أن ينوي رفع أحدها ناسياً بقيتها أو ذاكراً ولم يخرجها
فإذا نوى أن يرفع الحدث عن النوم، وكان عليه مجموعة أحداث ولم ينوها بالرفع ولم يخرجها من نيته، فإن حدثه يرتفع، سواء كان الحدث المنوي هو الذي حدث أولاً أو آخراً، وهذا مذهب المالكية (1) ، ووجه في مذهب الشافعية (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) ، وهو الصحيح.
وقيل: لا يرتفع إلا ما نواه، وهو وجه في مذهب الحنابلة (4) .
وجه من قال: يرتفع جميع حدثه.
قالوا: لأن هذه الأحداث كان موجبها واحداً، واجتمعت، فيتداخل حكمها، وينوب موجب أحدها عن الآخر.
ولأن الحدث شيء واحد وإن تعددت أسبابه، فلا يقال: لو بال وتغوط ونام يقال: عليه ثلاثة أحداث، بل يقال: عليه حدث واحد من أسباب متعددة.
ولأنه لم يكن معروفاً عند السلف أمر المتطهر باستحضار نية رفع الأحداث عند الطهارة، فلم يكن الواحد منهم يحصي كم عليه من الأحداث.
ولأن اشتراط النية لكل حدث واستحضار جميعها أمر فيه حرج ومشقة.
ولأنه حين نوى رفع الحدث عن النوم ارتفع، فلا يبقى الحدث الآخر مع ارتفاع الأول.
_________
(1) الخرشي (1/129, 130) منح الجليل (1/84، 85) .
(2) الحاوي الكبير (1/94) ، البيان في مذهب الشافعي (1/105) .
(3) الإنصاف (1/148، 149) .
(4) المرجع السابق.(9/137)
وجه من قال: لا يرتفع إلا ما نواه.
هذا القول مبني على أن الأحداث لا تتداخل، وأن ليس للإنسان إلا ما نوى بمقتضى الحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) فهذا لم ينو رفع حدث النوم أو البول أو نحوهما.
والقول الأول هو الصواب لقوة أدلته الأثرية والنظرية.(9/138)
المسألة الثانية:
أن ينوي رفع أحد الأحداث وينوي بقاء غيره
مثاله: لو كان عليه حدثان: حدث من بول وحدث من نوم، فنوى رفع أحدهما على ألا يرتفع الأخر، ففيه أربعة أقوال:
قيل: إن وضوءه باطل، وهو مذهب المالكية (1) ، ووجه في مذهب الشافعية (2) ، والصحيح في مذهب الحنابلة (3) .
وجه كون الوضوء باطلاً: أن هذا المتوضئ جاء بنية متضادة، فتتنافى النية، وتكون كالعدم، فكونه يقول: هذا الوضوء أرفع به الحدث، ولا أستبيح به الصلاة، هذا نوع من التناقض والتضاد.
وقيل: يصح وضوءه؛ لأن الأحداث تتداخل، فإذا نوى واحداً منها ارتفع الجميع؛ ولأنه لما نوى رفع أحد الحدثين كان ذلك أقوى حكماً فبطل الشرط، وهو وجه في مذهب الشافعية (4) .
ولأن الحدث وصف واحد، وإن تعددت أسبابه، فإذا نوى رفعه من البول ارتفع كله.
وقيل: إن نوى رفع الحدث الأول ارتفع الجميع، وإن نوى غيره لم يصح وضوءه؛ لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول، فإذا نواه ارتفع الجميع، وهو وجه في مذهب الشافعية (5) .
_________
(1) مواهب الجليل (1/234) ، الخرشي (1/129) ، منح الجليل (1/184، 185) .
(2) البيان في مذهب الشافعية (1/105-106) ، الحاوي الكبير (1/94) ،
(3) الإنصاف (1/149) .
(4) البيان في مذهب الشافعية (1/106) .
(5) البيان في مذهب الشافعي (1/106) .(9/139)
وقيل: إن نوى رفع الحدث الأخير ارتفع الجميع، وإن نوى غيره لم يصح؛ لأنها تتداخل في الآخر منها، وهذا الوجه حكاه ابن الصباغ من الشافعية (1) .
والراجح والله أعلم:
أن حدثه يرتفع، ويكون قوله الآخر باطلاً لا عبرة به، وقد ارتفع الحدث، خاصة أن هذا الفعل قد يقع من الإنسان لا على وجه التلاعب، ولكن قد يتذكر، وهو ينوي رفع الحدث أن يفعل عبادة معينة بهذا الوضوء، وينوي معه عدم استباحة الصلاة بهذا الوضوء، لا على وجه التلاعب، ولكن قد يكون نوى ذلك في تلك الساعة لغرض صحيح لشغل أو غيره، وإن كان حصل منه ذلك على وجه التلاعب فإنه لا يسلم من الإثم مع رفع الحدث، وقد يقال: إن كان متلاعباً فإنه قد يعاقب بحرمان رفع الحدث، والله أعلم.
_________
(1) المرجع السابق.(9/140)
الباب الثاني:
سنن الوضوء
الفصل الأول:
كون التسمية من سنن الوضوء
اختلف العلماء في حكم التسمية في الوضوء:
فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، ورواية عن أحمد (3) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/3،4) البحر الرائق (1/19) ، حاشية ابن عابدين (1/108،109) المبسوط (1/55) شرح فتح القدير (1/21،22) بدائع الصنائع (1/20) الفتاوى الهندية (1/6)
(2) الأم (1/31) ، المجموع (1/385) ، إعانة الطالبين (1/43) ، منهج الطلاب (1/4) ، أسنى المطالب (1/37) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/59) .
(3) قال صالح بن أحمد بن حنبل في مسائل أحمد (49) : " سألت أبي عن الرجل يتوضأ ولا يسمي؟ قال: يسمي أعجب إلي، وإن لم يسم أجزأه ". اهـ
وقال ابن هانئ في مسائل أحمد (ص: 3) : " سألت أبا عبد الله عن التسمية في الوضوء؟ فقال: لا يثبت حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. وسألته عن الذي ينسى التسمية عند الوضوء؟ قال أبو عبدالله يجزئه ذلك، حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التسمية ليس إسناده بقوي.
وسئل عن رجل يترك التسمية عمداً عشر سنين؟ قال: هذا معاند، ولكن لو كان ناسياً كان أسهل، ولكن العمد أشد. قيل له: فترى أن يعيد؟ قال: دع هذه الأشياء ".اهـ
وقال ابن قدامة في المغني (1/73) : والتسمية عند الوضوء ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه أن التسمية مسنونة في طهارة الأحداث كلها، رواه عنه جماعة من أصحابه، وقال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به - يعني إذا ترك التسمية - وهذا قول الثوري ومالك والشافعي وأبي عبيدة وابن المنذر وأصحاب الرأي". وانظر التحقيق في أحاديث الخلاف (1/137) ، الإنصاف (1/1/128) .(9/141)
وقيل: تعتبر من فضائل الوضوء، وهو المشهور عند المالكية (1) .
وقيل: مباحة، وهو قول في مذهب المالكية (2) .
وقيل: تكره التسمية في الوضوء، وهو قول في مذهب مالك، وهو الراجح (3) .
وتأول ربيعة الأحاديث الواردة بالتسمية، فقال: إن تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، أنه الذي يتوضأ ويغتسل، ولا يذكر وضوءاً للصلاة، ولا غسلاً للجنابة (4) .
وقيل: واجبة، وتسقط مع النسيان، وهو المشهور عند متأخري الحنابلة (5) .
_________
(1) قال في حاشية الدسوقي (1/103) : وجعلها من الفضائل هو المشهور من المذهب خلافاً لمن قال بعدم مشروعيتها فيه، وأنها تكره. اهـ وانظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/122) ، والكافي في فقه أهل المدينة (ص: 23) ، وحاشية العدوي (1/181) ، ومنح الجليل (1/94) .
(2) حاشية العدوي (1/182) .
(3) جاء في حاشية العدوي (1/182) : ولم ير بعض العلماء القول بالبداءة بالتسمية من الأمر المعروف عند السلف، بل رآه من الأمر المنكر.
وقد نقل عن مالك ثلاث روايات: إحداها: وبها قال ابن حبيب، الاستحباب.
الثانية: الإنكار، وقال: أهو يذبح؟
الثالثة: التخيير. اهـ بتصرف يسير.
(4) سنن أبي داود (102) قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن الدراوردي، قال: وذكر ربيعة.... فذكر قوله، فحمل الحديث على اشتراط النية.
(5) كشاف القناع (1/90) ، مطالب أولي النهى (1/99) ، وقال أبو داود في مسائل أحمد (ص: 11) : " سمعت أحمد يقول: إذا بدأ يتوضأ يقول: بسم الله. قلت لأحمد: إذا نسي التسمية في الوضوء؟ قال أرجو أن لا يكون عليه شيء، ولا يعجبني أن يتركه خطأ ولا عمد، وليس فيه إسناد - يعني: لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا وضوء لمن لم يسم ". وانظر مسائل أحمد في رواية عبد الله (1/89،90) .(9/142)
وقيل: التسمية شرط لصحة الوضوء، قال صاحب عون المعبود، وهو مذهب أهل الظاهر (1) .
دليل من قال: إن التسمية في الوضوء سنة.
الدليل الأول:
(807-36) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب،
عن ابن عباس يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره. ورواه مسلم (2) .
وجه الاستدلال:
قال العيني: لما كان حال الوقوع أبعد حال من ذكر الله تعالى، ومع ذلك تسن التسمية فيه، ففي سائر الأحوال بطريق الأولى، فلذلك أورده البخاري في كتاب الوضوء للتنبيه على مشروعية التسمية عند الوضوء (3) .
_________
(1) عون المعبود (1/121) ، ولعله يقصد مذهب داود، وأما مذهب ابن حزم فإنه يرى التسمية سنة، قال في المحلى (2/295) : " وتستحب تسمية الله تعالى على الوضوء، وإن لم يفعل فوضوءه تام ". وقال في نيل الأوطار (1/173) : وقد ذهب إلى وجوب التسمية العترة والظاهرية وإسحاق، وإحدى الروايتين عن أحمد.
(2) رواه البخاري (141) ومسلم (1434) ، ولفظ مسلم: " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله... " وقال في آخره: لم يضره شيطان أبداً.
(3) عمدة القارئ (2/266) .(9/143)
وأجيب:
بأن التسمية ليست مشروعة عند كل حال، بل لا تشرع التسمية للأذان والإقامة، وكذلك لا تشرع عند تكبيرة الإحرام، فلا بد من دليل صحيح صريح في مشروعية التسمية، وإلا فالأصل عدم المشروعية.
الدليل الثاني:
أحاديث لا صلاة لمن لا وضوء له (1) ، وإن كانت ضعيفة في آحادها، لكنها بالمجموع صالحة للاحتجاج، والنفي فيها للكمال، أي: لا وضوء كامل؛ لأن صفة الوضوء الصحيح قد ثبتت في أحاديث صحيحة بدون التسمية كحديث عبد الله بن زيد، وعثمان وابن عباس، وسيأتي ذكرها قريباً إن شاء الله تعالى، فيبقى النفي للكمال، كما جاء في الحديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (2) ،: أي لا يؤمن الإيمان الكامل، فالنفي دال على استحباب التسمية في الوضوء، لا على وجوبها.
الدليل الثالث:
(808-37) حمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ثابت وقتادة،
عن أنس قال: نظر بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءا فلم يجدوا، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هاهنا ماء؟ قال: فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال: توضؤوا بسم الله، فرأيت الماء يفور: يعني بين أصابعه، والقوم يتوضؤون حتى توضؤوا عن آخرهم.
_________
(1) سيأتي ذكرها بالتفصيل عند الكلام على أدلة القائلين بوجوب التسمية.
(2) متفق عليه: البخاري (13) ، ومسلم (45) .(9/144)
قال ثابت: قلت لأنس: كم تراهم كانوا؟ قال: نحواً من سبعين (1) .
[تفرد بزيادة التسمية معمر، عن قتادة وثابت، وروايته عنهما فيها كلام] (2) .
_________
(1) المسند (3/165) .
(2) الحديث في مصنف عبد الرزاق (20535) ، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه النسائي (1/61) ، وأبو يعلى (3036) ، وابن خزيمة (144) ، وابن حبان (6544) ، والدارقطني (1/71) ، والبيهقي (1/43) .
وقد انفرد معمر في زيادة " التسمية " عن كل من رواه عن قتادة وثابت،
فقد رواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة وسليمان بن المغيرة عن ثابت.
كما رواه سعيد بن أبي عروبة وهمام وهشام الدستوائي عن قتادة، ولم يذكروا ما ذكره معمر عن قتادة وثابت،
كما جاء الحديث عن أنس من طرق أخرى، فقد رواه الحسن البصري وحميد الطويل وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة كلهم رووه عن أنس بدون بذكر التسمية.
وقد تكلم العلماء في رواية معمر عن قتادة وثابت.
قال ابن رجب في شرحه للبخاري (1/299) : " رواية معمر عن قتادة ليست بالقوية. قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: قال معمر: جلست إلى قتادة وأنا صغير، فلم أحفظ عنه الأسانيد. وقال الدارقطني في العلل: معمر سيء الحفظ لحديث قتادة " ا. هـ
وجاء في التهذيب: وحديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي النجود وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطرب كثير الأوهام.
وفي التقريب قال الحافظ عن معمر: ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهاشم شيئاً. ا. هـ
وإليك تخريج الحديث:
أما رواية ثابت، عن أنس.
فقد أخرجها أحمد (3/147) ، وعبد بن حميد (1365) ، والبخاري (200) ، ومسلم (2279) ، وأبو يعلى (3329) ، وابن خزيمة (124) ، وابن حبان (6546) وأبو عوانة في المناقب كما في إتحاف المهرة (1/455) من طريق حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس.
ورواه أحمد (3/248، 249) وابن سعد في الطبقات (1/178) عن عفان،
ورواه أحمد (3/175) عن مؤمل مقروناً بعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن ثابت به.
وأخرجه أحمد (3/139) وابن سعد في الطبقات (1/177-178) ، وعبد بن حميد (1284) ، وأبو يعلى (3327) ، وابن حبان (6543) من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت به.
وأما طريق قتادة عن أنس.
فقد أخرجه أحمد (3/170) و (3/215) والبخاري (3572) ، ومسلم (2279) ، وأبو يعلى (3193) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس.
وأخرجه مسلم (2279) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة به.
وأخرجه أحمد (3/289) وأبو يعلى (2895) ، وابن حبان (6547) من طريق همام، عن قتادة، عن أنس به.
وأما طريق حميد الطويل عن أنس.
وأخرجه أحمد (3/106) وابن أبي شيبة (6/316) والبخاري (3575،195) ، وابن حبان (6545) من طريق حميد الطويل، عن أنس به.
وأما طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة.
وأخرجه مالك في الموطأ (1/32) ومن طريقه أخرجه الشافعي في مسنده (2/186) ، وأحمد (3/132) ، والبخاري (169، 3573) ، ومسلم (2279) ، والترمذي (3631) ، والنسائي (76) ، وابن حبان (6539) وأبو عوانة كما في إتحاف المهرة (1/413) ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس.
وأما طريق الحسن البصري، عن أنس.
وأخرجه أحمد (3/216) والبخاري (3574) ، وأبو يعلى (2759) من طريق الحسن البصري، حدثنا أنس بن مالك به.
فكل هذه الطرق تجعل الباحث يجزم بوهم معمر في روايته عن قتادة وثابت في زيادة التسمية في قوله: " توضؤوا باسم الله " هذا مع أن زيادة التسمية لو صحت لم يكن فيه دليل على أمرهم بالتسمية على الوضوء، والله أعلم.
وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف مسند أحمد (1/313، 471) ، وتحفة الأشراف (201، 297، 484، 527، 700، 1183، 1888، 1379) ، وإتحاف المهرة (333، 438، 457، 647) .(9/145)
قال البيهقي: هذا أصح ما في التسمية (1) .
وقال الحافظ: أصله في الصحيحين بدون هذه اللفظة، ولا دلالة فيها صريحة لمقصودهم (2) .
دليل من قال بوجوب التسمية
الدليل الأول:
(809 - 38) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب ومحمد بن عبد الله بن الزبير، عن كثير بن زيد، قال: حدثني ربيح بن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه،
عن جده أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/43) .
(2) التلخيص (1/129) .
(3) المصنف (1/12) رقم 14.
(4) تخريج الحديث:
الحديث أخرجه أحمد (3/41) ، وابن أبي شيبة، كما في حديث الباب، وأبو يعلى (1060) ، وابن ماجه (397) ، وابن عدي في الكامل (3/173) ، والحاكم في المستدرك (520) ، والبيهقي (1/43) ، وابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (1/137) من طريق زيد بن الحباب.
وأخرجه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (910) ، والدارمي (691) ، وابن ماجه (397) ، والدارقطني (1/71) وابن الجوزي في التحقيق (1/137) من طريق أبي عامر العقدي.
ورواه أحمد (3/41) ، وأبو يعلى (1221) ، والترمذي في العلل (ص: 33) رقم 18، وابن ماجه (397) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/337) وفي التحقيق (1/137) من طريق أبي أحمد الزبيري. ثلاثتهم عن كثير بن زيد، قال: حدثني ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده أبي سعيد.
وفي إسناده ربيح بن عبد الرحمن. جاء في ترجمته:
قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، فقال: شيخ. الجرح والتعديل (3/518) .
قال أحمد بن حفص السعدي: سئل أحمد بن حنبل - يعني: وهو حاضر - عن التسمية في الوضوء؟ فقال: لا أعلم حديثاً يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد، عن ربيح، وربيح رجل ليس بمعروف. الكامل (3/173) ، وانظر بحر الدم (287) .
وقال الترمذي: قال البخاري: ربيح بن عبد الرحمن منكر الحديث. العلل (ص: 33) .
وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. الكامل (3/174) .
وذكره ابن حبان في الثقات (6/309) .
وفي التقريب: مقبول. أي حيث يتابع، وإلا فلين.
كما أن في إسناده كثير بن زيد، مختلف فيه:
قال أحمد: ما أرى به بأساً. بحر الدم (857) .
قال ابن عدي: لم أر بحديثه بأسا وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (6/68) .
ذكره ابن حبان في الثقات. (7/354) .
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين له (505) .
وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين عن كثير بن زيد، فقال: ليس بذاك القوى. الجرح والتعديل (7/150) .
وقال عنه أخرى: ليس بذاك، وقال عنه أخرى ليس بشيء. تهذيب الكمال (24/115) .
وقال المفضل بن غسان الغلابي ومعاويه بن صالح، عن يحيى بن معين: صالح. المرجع السابق.
وقال الدورقي عن يحيى بن معين: ليس به بأس. المرجع السابق.
وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: ثقة. المرجع السابق.
وقال يعقوب بن شيبة: ليس بذاك الساقط وإلى الضعف ما هو. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: صالح، ليس بالقوي، يكتب حديثه. الجرح والتعديل (7/150) .
وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين. المرجع السابق.
وفي التقريب: صدوق يخطئ.
وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف مسند أحمد (6/272) ، تحفة الأشراف (4128) ، إتحاف المهرة (5403) .(9/147)
الدليل الثاني:
(810 - 39) ما رواه أحمد، قال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا محمد بن موسى يعني المخزومي، عن يعقوب بن سلمة، عن أبيه،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (1) .
[ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (2/418) .
(2) الحديث مداره على محمد بن موسى، عن يعقوب بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، ويرويه عن محمد بن موسى راويان: قتيبة بن سعيد، وابن أبي فديك.
أما رواية قتيبة بن سعيد، فأخرجها أحمد (2/418) وأبو داود (101) ، والطبراني في الأوسط (8/96) رقم 8080، والدارقطني (1/79) ، والحاكم في المستدرك (518) ، والبيهقي (1/41،43) ، والبغوي في شرح السنة (209) .
وأما رواية ابن أبي فديك، فأخرجها أبو يعلى الموصلي في مسنده (6409) ، وابن ماجه (399) ، والدارقطني (1/79) .
وأخرجه الحاكم في المستدرك (519) إلا أنه قال: يعقوب بن أبي سلمة، فخالف جميع من رواه، فإنهم قالوا: يعقوب بن سلمة، ولذلك قال الحاكم: إسناده صحيح، وقد احتج مسلم بيعقوب بن أبي سلمة الماجشون. فتعقبه الذهبي في تلخيصه بأنه الليثي، ولين إسناده.
وقال ابن دقيق العيد في الإمام كما في البدر المنير (3/228) ، ونصب الراية (1/3) : "والذي نراه أن الحديث ليعقوب بن سلمة، وأنه وقع انتقال ذهني من يعقوب بن سلمة إلى يعقوب بن أبي سلمة، ثم قال: ولو سلم أنه يعقوب بن أبي سلمة فيحتاج إلى معرفة حال أبيه: أبي سلمة، واسمه: دينار. قال ابن الملقن: وهذا متين، فقد كشفت كتب الأسماء جرحاً وتعديلاً، فلم أر ديناراً هذا، بل لم أر أحداً قال: إن الماجشون يروي عن أبيه، فتعين غلط الحاكم. اهـ
وقال ابن حجر: ظن الحاكم أن يعقوب هو الماجشون، فصححه على شرط مسلم، فوهم، ويعقوب بن سلمة: هو الليثي، مجهول الحال. انظر فيض القدير (6/430) ، تلخيص الحبير (1/72) .
والحديث فيه ثلاث علل:
الأولى: ضعف يعقوب بن سلمة.
روى عنه اثنان، ولم يوثقه أحد.
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/208) .
وقال الذهبي: شيخ ليس بعمدة. ميزان الاعتدال (9822) ، وفي الكاشف: ليس بحجة.
وقال الحافظ في التقريب: مجهول الحال.
الثانية: جهالة سلمة الليثي.
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (4/177) .
ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. الثقات (4/317) رقم 3091، فقال الحافظ: وهذه عبارة عن ضعفه فإنه قليل الحديث جداً، ولم يرو عنه سوى ولده، فإذا كان يخطئ مع قلة ما روى، فكيف يوصف بكونه ثقة. تلخيص الحبير (1/72) .
وقال المنذري في الترغيب: سلمة لا يعرف، ما روى عنه غير ابنه يعقوب.
وقال الذهبي: لا يعرف، ولا روى عنه سوى ولده يعقوب. الميزان (3420) . قلت: ولم يسمع منه.
وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث.
الثالثة: الانقطاع بين يعقوب بن سلمة، وبين أبيه، والانقطاع بين سلمة وأبي هريرة.
قال البخاري رحمه الله: لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب من أبيه. التاريخ الكبير (4/76) .
وجاء الحديث عن أبي هريرة من طرق أخرى، كالتالي:
الطريق الأول: أخرج الدارقطني (1/71) ، والبيهقي (1/44) من طريق محمود ابن محمد أبو يزيد الظفري، عن أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً " ما توضأ من لم يذكر اسم الله عليه، وما صلى من لم يتوضأ ".
قال البيهقي: وهذا الحديث لا يعرف من حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة إلا من هذا الوجه، وكان أيوب بن النجار يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثاً واحداً، وهو حديث التقي: " آدم وموسى " ذكره يحيى بن معين فيما رواه عنه ابن أبي مريم، فكان حديثه هذا منقطعاً. اهـ كلام البيهقي.
وفي إسناده محمود بن محمد الظفري، قال الدارقطني: ليس بالقوي، فيه نظر. ميزان الاعتدال (6/383،384) .
الطريق الثاني: روى الطبراني في المعجم الصغير (1/131) رقم 196، قال: حدثتا أحمد بن مسعود الزنبري أبو بكر بمصر، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، ثنا إبراهيم بن محمد البصري، عن علي بن ثابت، عن محمد بن سيرين،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (: يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله؛ فإن حفظتك لا تستريح تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء.
قال الطبراني: لم يروه عن علي بن ثابت إلا إبراهيم بن محمد، تفرد به عمرو بن أبي سلمة.
وفي إسناده: إبراهيم بن محمد بن ثابت الأنصاري:
قال ابن عدي: إبراهيم بن محمد بن ثابت الأنصاري، مدني، روى عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره مناكير، ثم قال: ولإبراهيم بن محمد بن ثابت هذا غير ما ذكرته من الأحاديث، وأحاديثه صالحة محتملة، ولعله أتي ممن قد روى عنه. الكامل (1/262) .
وقال الذهبي: ذو مناكير. ميزان الإعتدال (186) .
وقال الحافظ: لسان الميزان: أخرج الطبراني في الصغير من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن إبراهيم بن محمد البصري، عن علي بن ثابت، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رفعه: يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله... الحديث، وهو منكر. لسان الميزان (1/98) .
وفيه إسناده عمرو بن أبي سلمة، مختلف فيه:
قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: عمرو بن أبى سلمة ضعيف.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى عن عمرو بن أبى سلمة، فقال: يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (6/235) .
وقال العقيلي: في حديثه وهم. ضعفاء العقيلي (3/272) .
وقال ابن يونس: كان من أهل دمشق، قدم مصر، وسكن تنيس، حدث عن الأوزاعي وعن مالك بالموطأ، كان ثقة. تهذيب التهذيب (8/39) .
ذكره ابن حبان في الثقات. (8/482) .
وفي التقريب: صدوق له أوهام.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده حسن!!
وقال الشوكاني في النيل: إسناده واهٍ.
الطريق الثالث: ما رواه الطبراني في الأوسط (9/63) رقم 9130، قال حدثنا مسعدة ابن سعد، نا إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (: إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها؛ فإنه لا يدري أين باتت، ويسمي قبل أن يدخلها.
قال الحافظ: تفرد بهذه الزيادة عبد الله بن محمد بن يحيى، وهو متروك. التلخيص (1/73) .
قلت: وعلى التنزل، فليست التسمية في الوضوء؛ لأنه خاص في من أراد أن يدخل يده في الإناء بعد الاستيقاظ، سواء كان لوضوء أم غيره، ولا يدخل فيه من أراد أن يتوضأ، وكان مستيقظاً.
وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف مسند أحمد (7/301) ، تحفة الأشراف (13476) ، إتحاف المهرة (18887) و (20397) .(9/149)
الدليل الثالث:
(811 - 40) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، ثنا ابن أبي فديك، عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه،
عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة من لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه. ولا صلاة لمن لا يصلي علي النبي، ولا صلاة لمن لا يحب الأنصار.
قال أبو الحسن بن سلمة: حدثنا أبو حاتم، ثنا عيسى عبيس بن مرحوم العطار، ثنا عبد المهيمن بن عباس، فذكر نحوه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (400) .
(2) الحديث رواه الطبراني في الكبير (6/121) بإسناد ابن ماجه، إلا أنه اقتصر على قوله: "لا صلاة لمن لم يصل على النبي (.
ورواه الدارقطني (1/355) من طريق علي بن بحر، حدثنا عبد المهيمن بن عباس به، بلفظ: لا صلاة لمن لم يصل على نبيه (. قال الدارقطني: عبد المهيمن ليس بالقوي.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (992) من طريق علي بن بحر، عن عبد المهيمن به، بلفظ: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصل على نبي الله في صلاته. قال الحاكم: لم يخرج هذا الحديث على شرطهما؛ فإنهما لم يخرجا لعبد المهيمن.
ومن طريق الحاكم أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/379) .
وفي إسناده عبد المهيمن:
قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/137) .
وقال أبو حاتم الرازي: مثله. الجرح والتعديل (6/67) .
وقال ابن معين: ضعيف. ضعفاء العقيلي (3/114) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (386) .
وقال الحافظ أبو نعيم الأصباني: عبد المهيمن عن آبائه أحاديث منكرة لا شيء. ضعفاء الأصبهاني (138) .
وقد تابع أبي بن عباس أخاه عبد المهيمن، فقد أخرجه الطبراني في الكبير (5699) من طريق عبيد الله بن محمد بن المنكدري، ثنا بن أبي فديك، عن أبي بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، به.
ولم أقف على ترجمة عبيد الله بن محمد المنكدري لأنظر في مخالفته لدحيم وعلي بن بحر، فإنهما روياه عن ابن أبي فديك، عن عبد المهيمن، وليس عن أخيه، ولذلك قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/509) : عبد المهيمن هذا متروك، وقد رواه الطبراني من رواية أخيه أبي ابن عباس، ولكن في ذلك نظر؛ وإنما يعرف من رواية عبد المهيمن.
قلت: وأبي بن عباس فيه ضعف. جاء في ترجمته:
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/290) .
وقال ابن معين: ابنا العباس أبي وعبد المهيمن ضعيفان. ضعفاء العقيلي (1/16) .
ذكره ابن حبان في الثقات (4/51) .
وقال أحمد: منكر الحديث. الكاشف (229) .
وقال النسائي: ليس بالقوي.
روى له البخاري حديثاً واحداً في كتاب الجهاد، قال ابن حجر في هدي الساري (ص:389) : تابعه عليه أخوه عبد المهيمن ابن العباس ".
وفي التقريب: ضعيف.
وانظر تحفة الأشراف (4803) ، إتحاف المهرة (6265) .(9/153)
الدليل الرابع:
(812 - 41) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة، عن حارثة،
عن عمرة قالت: سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(9/154)
قالت: كان إذا توضأ، فوضع يده في الماء، سمى فتوضأ، ويسبغ الوضوء.
[إسناده ضعيف] (1) .
الدليل الخامس:
(813 - 42) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا يحيى بن يزيد بن عبد الله بن أنيس، قال: حدثني عيسى بن سبرة، عن أبيه،
_________
(1) المصنف (1/12) رقم 16.
والحديث رواه إسحاق بن راهوية في مسنده (999) عن عبدة.
وأبو يعلى في مسنده (4687،4796، 4864) وابن عدي في الكامل (2/198) من طريق ابن أبي زائدة بنحوه.
ورواه البزار كما في كشف الأستار (1/137) من طريق
كلهم عن حارثة بن أبي الرجال، عن عمرة به.
وحارثة جاء في ترجمته:
قال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (113) .
قال أحمد بن حنبل: ضعيف ليس بشيء. الجرح والتعديل (3/255) .
وقال الدوري عن يحيى بن معين: ليس بثقة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث، ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة عن حارثة: واهي الحديث ضعيف الحديث. المرجع السابق.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/220) : رواه أبو يعلى، وروى البزار بعضه، ومدار الحديثين على حارثة بن محمد، وقد أجمعوا على ضعفه.
وقال الحافظ في التخليص (1/75) : وفي إسناده حارثة بن محمد، وهو ضعيف، وضعف به. قال ابن عدي: بلغني عن أحمد أنه نظر في جامع إسحاق بن راهوية، فإذا أول حديث أخرجه هذا الحديث، فأنكره جداً، وقال: هذا أول حديث يكون في الجامع عن حارثة!! وروى الحربي أنه قال: هذا يزعم أنه اختار أصح شيء في الباب، وهذا أضعف حديث فيه. اهـ(9/155)
عن جده قال: صعد رسول الله ذات يوم المنبر فحمد، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولم يؤمن بالله من لم يؤمن بي، ولم يؤمن بي من لم يعرف حق الأنصار. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن ابن سبرة إلا بهذا الإسناد (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل السادس:
(814 - 43) ما رواه ابن عدي في الكامل، قال: حدثنا محمد بن علي ابن مهدي العطار، ثنا الحسن بن محمد بن أبي عاصم، ثنا عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده،
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (3) .
[إسناده ضعيف جداً] (4) .
_________
(1) المعجم الأوسط (2/26) رقم 1115.
(2) أخرجه أبو بكر في الآحاد والمثاني (873) والطبراني في الكبير (22/296) من طريق يحيى بن يزيد بن عبد الله بن أنيس به.
ورواه الدولابي في الكنى، والبغوي في الصحابة كما في تلخيص الحبير (1/75) من طريق عيسى بن سبرة به. وذكره ابن حجر في الإصابة (2/146) رقم 1893.
قال الهيمثي في المجمع (1/228) : " وعيسى بن سبرة، وأبوه، وعيسى بن يزيد لم أر من ذكر أحداً منهم ".
وضعفه الحافظ في تلخيص الحبير (1/75) .
(3) الكامل (5/243) ، قال ابن عدي عقبه: وبهذا الإسناد أحاديث حدثناها ابن مهدي ليست بمستقيمة.
(4) في إسناده عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر.
قال أبو حاتم الرازي: لم يكن بقوي الحديث. الجرح والتعديل (6/280) .
قال فيه أبو نعيم: روى عن أبيه، عن آبائه أحاديث مناكير، لا يكتب حديثه لا شيء. ضعفاء الأصبهاني (175) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: في حديثه بعض المناكير. الثقات (8/492) إلا أنه رجع فذكره في المجروحين، وقال: يروي، عن أبيه، عن آبائه أشياء موضوعة، لا يحل الاحتجاج به، كأنه كان يهم ويخطيء حتى كان يجيء بالأشياء الموضوعة عن أسلافه، فبطل الاحتجاج بما يرويه لما وصفت. المجروحين (2/121) .
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. الكامل (5/242) .
وقال الدارقطني: متروك الحديث. السنن (2/263) .(9/156)
الدليل السابع:
(815-44) ما رواه أحمد في المسند، قال: ثنا هيثم - يعنى: ابن خارجة- ثنا حفص بن ميسرة، عن ابن حرملة، عن أبي ثفال المزني أنه قال: سمعت رباح بن عبد الرحمن بن حويطب يقول: حدثتني جدتي أنها سمعت أباها يقول:
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (5/381) .
(2) الحديث اختلف في إسناده:
فجعل تارة من مسند سعيد بن زيد.
وجعل تارة من مسند أسماء بنت سعيد بن زيد.
وجعل أيضاً من مسند أبي هريرة، وإليك تخريجه:
الحديث أخرجه أحمد وابنه عبد الله أيضاً (4/70) عن الهيثم به.
وأخرجه أحمد (6/382) ، وابن أبي شيبة (1/12) والطحاوي (1/26-27) ، والدارقطني (1/73) ، والبيهقي (1/43) ، والعقيلي في الضعفاء (1/177) من طريق وهيب.
وأخرجه الترمذي (27) والدراقطني (1/73) من طريق بشر بن المفضل.
وأخرجه الدارقطني (1/73) ، والبيهقي (1/43) من طريق ابن أبي فديك.
وأخرجه الدارقطني (1/73) من طريق يعقوب بن عبد الرحمن.
كلهم عن عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن بن حويطب، عن جدته، عن أبيه سعيد بن زيد.
وتابع يزيد بن عياض عبد الرحمن بن حرملة متابعة تامة عند أحمد (4/70) ، والترمذي (26) ، وابن ماجه (398) .
وأخرجه أبو داود الطيالسي (243) قال: حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن أبي ثفال عن أبي حويطب بن عبد العزى عن جدته عن أبيها به.
ورواه الطحاوي (1/27) والحاكم (6899) من طريق سليمان بن بلال، عن أبي ثفال به، ولم يقل: إنها سمعت أباها، جعله من مسندها.
ورواه الطحاوي (1/27) من طريق الدراوردي، عن ابن حرملة، عن أبي ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن، عن ابن ثوبان، عن أبي هريرة، فجعله من مسند أبي هريرة.
والحديث ضعيف، فيه أبو ثفال المري، واسمه ثمامة بن وائل بن حصين، جاء في ترجمته:
ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/467) .
قال البخاري: أبو ثقال، عن رباح بن عبد الرحمن في حديثه نظر. ضعفاء العقيلي (2/177) ، تهذيب التهذيب (2/27) .
وقال الذهبي: ما هو بقوي، ولا إسناده بمرضي، ميزان الاعتدال (4/508) .
وقال أبو حاتم الرازي وأبو زرعة: ليس عندنا بذاك الصحيح. انظر العلل (129) .
وانظر لمراجعة طرقه: أطراف المسند (2/473) ، تحفة الأشراف (4470) ، إتحاف المهرة (5871) .(9/157)
الدليل الثامن:
(816-45) ما ذكره عبد الحق في أحكامه كما في البدر المنير (1) من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن ثابت،
_________
(1) البدر المنير (3/251) .(9/158)
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: لا إيمان لمن لم يؤمن بي، ولا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يسم الله.
[الحديث ضعيف جداً] (1) .
قالوا: فهذه أحاديث ثمانية منها الضعيف جداً الذي لا ينجبر، ومنها الضعيف المنجبر بالمتابعات.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: ((ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله)) .
وقال المنذري: ((ولا شك أن الأحاديث التي وردت فيها على الوضوء، وإن كان لا يسلم شيء منها عن مقال، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، وتكتسب قوة، والله أعلم)) (2) .
وقال ابن الملقن في البدر المنير (3) : وذكرنا من الأحاديث ما يستدل الفقهاء بمثله، ويستند العلماء في الأحكام إليه، فليس من شأنهم أن لا يحتجوا إلا بالصحيح، بل أكثر احتجاجهم بالحسن، ولا يخلو هذا الباب في ذلك عن حسن صريح.
وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: روي هذا الحديث من وجوه في كل منها نظر، لكنها غير مطرحة، وهي من قبيل ما يثبت باجتماعه الحديث ثبوت الحديث الموسوم بالحسن.
وحسنه العراقي كما في نتائج الأفكار.
_________
(1) قال الحافظ في التلخيص (1/128) : وعبد الملك شديد الضعف، وفي التقريب ذكره تمييزاً، وقال: صدوق ضعيف الحفظ، كثير الغلط.
(2) الترغيب والترهيب (1/88) .
(3) (3/253) .(9/159)
وقال الحافظ: ((والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً)) (1) .
دليل من قال: لا تشرع التسمية:
الدليل الأول:
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} الآية (2) .
وجه الاستدلال:
أن الآية لم تذكر التسمية، ولو كانت مشروعة لذكرت فيها.
وممكن أن يجاب عن ذلك:
أن الآية غاية ما فيها أنها لم تذكر التسمية، وهذا لا يمنع أن الزيادة على ما في الآية من دليل آخر، فلا يشترط في الدليل الواحد أن يكون مشتملاً على جميع الشروط والواجبات، ولا تحرم الزيادة على ما في الآية من دليل آخر كما زيد في تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير على ما ورد في آية المائدة.
الدليل الثاني:
الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل صحيح على المشروعية، ولم يثبت في الباب حديث صحيح.
_________
(1) تلخيص الحبير (1/128) .
(2) المائدة: 6.(9/160)
جاء في مسائل الكوسج لأحمد ((قال: قلت: إذا توضأ، ولم يسم؟ قال: لا أعلم فيه حديثاً له إسناد جيد)) (1) .
وفي مسائل أحمد رواية أبي داود: ((قلت: لأحمد: التسمية في الوضوء؟ قال: أرجو أن لا يكون عليه شيء، ولا يعجبني أن يتركه خطأ ولا عمداً، وليس فيه إسناد، قال أبو داود: يعني: لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا وضوء لمن لم يسم)) (2) .
وقال أحمد بن حفص السعدي: ((سئل أحمد بن حنبل - يعني: وهو حاضر - عن التسمية في الوضوء؟ فقال: لا أعلم حديثاً يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد، عن ربيح، وربيح رجل ليس بمعروف)) (3) .
فلو كانت التسمية واجبة في الوضوء، ومنزلتها من الوضوء كمنزلة الوضوء من الصلاة لجاءت الأحاديث الصحيحة التي تقوم بها الحجة على الخلق، ولم ينفرد بهذه الأحاديث الرواة المتكلم فيهم، وفيهم المجروح جرحاً شديداً، {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} (4) .
_________
(1) مسائل الكوسج (2) ، وقال الترمذي في السنن (1/38) : " لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد "، وانظر مسائل أبي داود (31) ، وابن هاني (17) ومسائل عبد الله (1/89-90) .
(2) مسائل أبي داود (31) .
(3) الكامل (3/173) ، وانظر بحر الدم (287) .
(4) التوبة: 115.(9/161)
وأجيب:
قال ابن حجر تعليقاً على مقالة الإمام أحمد: ((لا يلزم من نفي العلم نفي الثبوت، وعلى التنزل لا يلزم من نفي الثبوت ثبوت الضعف؛ لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة، فلا ينتفي الحكم بالحسن، ولا على التنزل لا يلزم من نفي الثبوت عن كل فرد نفيه عن المجموع)) (1) .
وسوف يأتي الجواب عن تعقيب ابن حجر ضمن الكلام على الدليل التالي:
الدليل الثالث:
قالوا: لم يرد ذكر التسمية في الأحاديث الصحيحة التي سيقت في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يليق بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم ينقلون لنا صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهملوا التسمية، وهي واجبة كوجوب الوضوء للصلاة، وإليك بعضاً منها.
(817-46) منها ما رواه البخاري، من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه،
أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فقال عبد الله بن زيد نعم فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه. ورواه مسلم (2) .
_________
(1) الفتح (1/223) .
(2) صحيح البخاري (185) ، ومسلم (235) .(9/162)
فهذا الحديث سيق جواباً على سؤال: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ والسؤال إنما هو عن الوضوء الشرعي الصحيح، فلو كان الوضوء لا يصح إلا بالتسمية لوجب بيانها؛ لأن تركها حينئذ سوف يخل بصحة الوضوء، فلا يصدق عليه أن هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف تكون التسمية واجبة كوجوب الوضوء للصلاة؟!
ولا يصح مخرجاً من هذا أن يقال: إن قوله: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه إنما هو نفي للكمال؛ وذلك لأن الأحاديث التي فيها ذكر التسمية، جعلت منزلة التسمية من الوضوء، كمنزلة الوضوء من الصلاة، فسقط حمل النفي فيها على الكمال، فيلزم من يصحح أحاديث التسمية أن يقول: بأن التسمية شرط لصحة الوضوء، لا يصح الوضوء مطلقاً إلا بها، فإذا تركها لم يصح وضوؤه، سواء كان تركه لها ناسياً أو ذاكراً، كالصلاة بلا وضوء، وقد جمع بينهما الحديث، لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، فكما أن الصلاة لا تصح مطلقاً إلا بالطهارة، ولو ترك الطهارة ناسياً لم تصح صلاته، فكذلك الوضوء، ولو قالوا بهذا لزمهم القدح بالأحاديث الصحيحة التي ذكرت صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس فيها ذكر التسمية، وكان لزاماً إما القول بأن الصحابي قصر في هذا النقل، أو عدم الأخذ بظاهر أحاديث التسمية.
ولذلك فالحنابلة القائلون بوجوب التسمية في الوضوء يصححون الوضوء إذا نسي التسمية، ولا يجعلون التسمية بمثابة الوضوء للصلاة، وهذا دليل على ضعف هذا القول؛ لأنهم لم يأخذوا بظاهر أحاديث التسمية، ولم يدعوها بالكلية.(9/163)
ومن الأحاديث التي سيقت في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تذكر التسمية:
(818-47) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره،
أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
وجه الاستدلال من الحديث كوجه الاستدلال من الذي قبله، حيث لم يشتمل هذا الوضوء على التسمية، ثم قال: ((من توضأ نحو وضوئي هذا)) أي نحو فعلي هذا، فصحح الوضوء مع خلوه من التسمية.
والجواب عن أحاديث التسمية أن يقال:
إذا كانت الأحاديث ضعيفة، لم تكن صالحة للاحتجاج، وليس كل ضعيف ينجبر إذا جاء من طريق آخر، خاصة إذا كانت الأحاديث تخالف أصلاً شرعياً، أو تخالف أحاديث صحيحة، فآية الوضوء من سورة المائدة ليس فيها ذكر التسمية، والأحاديث الصحيحة التي سيقت لنا في وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عثمان رضي الله عنه في الصحيحين، وحديث عبد الله ابن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وغيرهم كثير لم تذكر لنا التسمية، وهي إنما سيقت في بيان صفة الوضوء الشرعي الصحيح.
_________
(1) صحيح البخاري (159) ، ومسلم (236) .(9/164)
وهناك قاعدة: إذا كان الحكم يحتاج إليه حاجة عامة متكررة، لا بد أن يأتي فيه البلاغ بأدلة صحيحة تقوم بها الحجة، فانظر إلى الوضوء ومنزلته في الشرع، إنه شرط لأعظم أركان الإسلام العملية: وهي الصلاة، وبدون هذا الوضوء تكون الصلاة باطلة، وعبادة الوضوء تتكرر في اليوم عدة مرات، فالحاجة إلى معرفة الوضوء الصحيح حاجة ملحة عامة، فكيف تأتي سنن الوضوء بأحاديث صحيحة قاطعة للنزاع، ثم تعرض جميع الأحاديث الصحيحة عن ذكر التسمية، ويكون مدارها على أحاديث ضعيفة مع أن منزلة التسمية من الوضوء بمنزلة الوضوء من الصلاة؟ .
فهذا القول هو أقوى الأدلة بحسب فهمي القاصر، وأن التسمية غير مشروعة في الوضوء، كما هي غير مشروعة في الغسل من الجنابة وفي طهارة التيمم، والتسمية لا تشرع لكل عبادة حتى يقال بمشروعيتها في الوضوء، فهناك عبادات لا تشرع فيها التسمية جزماً، كالدخول في الصلاة، والشروع في الأذان، ومثلهما على الصحيح رمي الجمارات، وابتداء الطواف، والله أعلم.
ويأتي بعد هذا القول من حيث القوة القول بأنها مستحبة، وأما القول بالوجوب فهو قول ضعيف، وأضعف منه القول بأن التسمية شرط لصحة الوضوء، وكنت فيما كتبت في كتاب الحيض والنفاس قد ذهبت إلى استحباب التسمية في الوضوء، ثم رجعت عن ذلك في هذا البحث حين تأملت الأدلة، ورأيت أن القول المنسوب إلى مالك من كراهة التسمية في الوضوء يتمشى مع القواعد الفقهية، وهذا شأن الأمور الفقهية، بل الأمور الاجتهادية، فربما يرى الإنسان رأياً، ويخلص في بحثه أنه الصواب ثم يقف على ما يدعوه إلى تركه، وهذا طريق من يبحث عن الحق بتجرد، ودون تعصب لقول من الأقوال، ولم يبتل بإتباع الجمهور، والله أعلم.(9/165)
[صفحة فارغة](9/166)
الفصل الثاني:
من سنن الوضوء السواك
وقد أفردت أحكام السواك بكتاب مستقل نظراً لكثرة أحكامه، وبينت فيه مكانته في الشريعة، وفضله، والأوقات التي يتأكد فيها، وغيرها من الأحكام، فجاء في أكثر من خمسين وثلاثمائة صفحة، طبع مع كتاب سنن الفطرة، فالحمد لله على توفيقه، وسوف أشير هنا فقط لما له تعلق في الوضوء، في كون السواك من سنن الوضوء، فأقول: في هذه المسألة خلاف بين العلماء:
فقيل: السواك مستحب في الوضوء، وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (1) ، والمشهور من مذهب المالكية (2) ،
وقيل: سنة، وهو قول في مذهب الحنفية أيضاً (3) ، ومذهب
_________
(1) وفي مذهب الحنفية قولان. قال ابن عابدين: قيل: إنه مستحب؛ لأنه ليس من خصائص الوضوء، وصححه الزيلعي وغيره. وقال في فتح القدير: إنه الحق، قال ابن عابدين: لكن في شرح المنية الصغير: وقد عده القدوري والأكثرون من السنن، وهو الأصح. قال ابن عابدين: وعليه المتون. حاشية ابن عابدين (1/113) ، وانظر البحر الرائق (1/1/21) ، وتبيين الحقائق (1/4) ، العناية شرح الهداية (1/25) ، الجوهرة النيرة (1/6) ، شرح فتح القدير (1/24،25) ، وانظر بدائع الصنائع (1/19) .
(2) وفي مذهب المالكية أيضاً قولان: المشهور: أنه مستحب، واختار ابن عرفة أنه سنة. انظر: التاج والإكليل (1/380) ، وعده فضيلة (أي من المستحبات) ، وكذلك اعتبره الخرشي (1/138) من الفضائل. وقال في مواهب الجليل (1/264) : " أما حكمه فالمعروف في المذهب أنه مستحب، وقال ابن عرفة: والأظهر أنه سنة؛ لدلالة الأحاديث على مثابرته - صلى الله عليه وسلم - عليه " وانظر المنتقى شرح الموطأ (1/130) .
(3) البحر الرائق (1/1/21) ، وتبيين الحقائق (1/4) ، العناية شرح الهداية (1/25) ، الجوهرة النيرة (1/6) ، شرح فتح القدير (1/24،25) .(9/167)
الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، واختاره ابن عرفة (3) ، وابن العربي من المالكية (4) .
دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة.
فرق بعض الفقهاء بين المستحب والسنة فقالوا:
السنة: ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والمستحب: مافعله مرة أو مرتين. وألحق بعضهم به ما أمر به، ولم ينقل أنه فعله (5) .
_________
(1) قال النووي في المجموع (1/328) : " الثالث ـ يعني من الأحوال التي يتأكد فيها استحباب السواك - عند الوضوء، اتفق عليه أصحابنا، ممن صرح به صاحبا الحاوي، والشامل، وإمام الحرمين، والغزالي، والروياني، ولا يخالف هذا اختلاف الأصحاب في أن السواك هل هو من سنن الوضوء أم لا؟ فإن ذلك الخلاف إنما هو في أنه يعد من سنن الوضوء أم سنة مستقلة عند الوضوء لا منه. وكذا اختلفوا في التسمية وغسل الكفين، ولا خلاف أنهما سنة، وإنما الخلاف في كونها من سنن الوضوء ". اهـ. وانظر أسنى المطالب (1/36) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/58) ، وفتاوى الرملي (1/51) ، تحفة المحتاج (1/213) . نهاية المحتاج (1/177) .
(2) الإنصاف (1/118) ، كشاف القناع (1/94) .مطالب أولي النهى (1/92) .
(3) التاج والإكليل (1/380) ، الشرح الصغير (1/125) .
(4) قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/79) وقال: " السواك من سنن الوضوء، لا من فضائله ".
(5) بعض العلماء لم يفرق بين المستحب والسنة والمندوب والنفل، وجعلها كلها ألفاظاً مترادفة، وقد ذكر الرازي في المحصول ستة أسماء تطلق على المندوب، هي: مرغب فيه، ومستحب، ونفل، وتطوع، وسنة، وإحسان. انظر المحصول (1/129-130) .
وقال السبكي في الإبهاج (1/57) : بعدما عرف المندوب، قال: ويسمى سنة ونافلة، ومن أسمائه أيضا أنه مرغب فيه وتطوع ومستحب والترادف في هذه الأسماء عليه أكثر الشافعية وجمهور الأصوليين. اهـ
وجاء في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/207) : والمندوب في عرف الشرع ما أثيب فاعله، كالسنن الرواتب ولو قولا كأذكار الحج وغيره , أو عمل قلب كالخشوع في الصلاة، ولم يعاقب تاركه. ويسمى المندوب سنة ومستحبا وتطوعا وطاعة ونفلا وقربة ومرغبا فيه وإحسانا. قال الإمام العلامة ابن حمدان في مقنعه: ويسمى الندب تطوعا وطاعة ونفلا وقربة إجماعاً، وهذا والله أعلم بحسب اصطلاح الفقهاء والأصوليين، وأما المحدثون فيخصون المسنون بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وتقريراته، لا على سبيل الوجوب. اهـ
وبعضهم فرق بينها، كما هو مذهب الحنفية والقاضي حسين والبغوي من الشافعية وبعض الحنابلة، وإليك النقول عنهم:
جاء في البحر الرائق (1/29) : ما واظب - صلى الله عليه وسلم - عليه مع تركٍ ما بلا عذر سنة.
وما لم يواظب عليه مندوب ومستحب، وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه كذا في التحرير.
وجاء في بدائع الصنائع (1/24) : الفرق بين السنة , والأدب أن السنة ما واظب عليه رسول الله (ولم يتركه إلا مرة أو مرتين لمعنى من المعاني.
والأدب ما فعله مرة أو مرتين، ولم يواظب عليه. اهـ وانظر حاشية ابن عابدين (2/375) .
وجاء في طرح التثريب (3/29) : المشهور عند أصحابنا الشافعية أن التطوع ما رجح الشرع فعله على تركه وجاز تركه، فالتطوع والسنة والمستحب والمندوب والنافلة والمرغب فيه والحسن ألفاظ مترادفة. وقال آخرون: ما عدا الفريضة ثلاثة أقسام: (سنة) وهو ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ومستحب) : وهو ما فعله أحيانا ولم يواظب عليه، وكذا لو أمر به ولم يفعله، كما صرح به الخوارزمي في الكافي، ومثاله الركعتان قبل المغرب.
(وتطوع) : وهو ما ينشئه الإنسان ابتداء من غير أن يرد فيه نقل من الشرع.
وفرق المالكية بين السنة والفضيلة، وضابطه عندهم كما قال بعضهم: إن كل ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مظهراً له في جماعة، فهو سنة، وما لم يواظب عليه وعده في نوافل الخير فهو فضيلة، وما واظب عليه ولم يظهره كركعتي الفجر ففي كونه سنة أو فضيلة قولان. اهـ نقلاً من طرح التثريب.
وجاء في البحر المحيط (1/378) : قال القاضي حسين والبغوي: ما عدا الفرائض ثلاثة أقسام: سنة: وهي ما واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومستحب: وهو ما فعله مرة أو مرتين، وألحق بعضهم به ما أمر به ولم ينقل أنه فعله. وتطوعات: وهو ما لم يرد فيه بخصوصه نقل، بل يفعله الإنسان ابتداء كالنوافل المطلقة.
ورده القاضي أبو الطيب في " المنهاج " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج في عمره مرة واحدة، وأفعاله فيها سنة وإن لم تتكرر، والاستسقاء من الصلاة والخطبة لم ينقل إلا مرة، وذلك سنة مستحبة اهـ.
وفيه وجه ثالث: أن النفل والتطوع لفظان مترادفان، وهما ما سوى الفرائض والسنن، والمستحب، ونحو ذلك أنواع لها.
وفيه وجه رابع: قاله الحليمي: السنة ما استحب فعله وكره تركه، والتطوع ما استحب فعله ولم يكره تركه.
وفيه وجه خامس: حكاه في باب الوضوء من " المطلب ": السنة ما فعله - صلى الله عليه وسلم -، والمستحب ما أمر به سواء فعله أو لا، أو فعله ولم يداوم عليه، فالسنة إذا مأخوذة من الإدامة , وقيل: السنة ما ترتب كالرواتب مع الفرائض , والنفل والندب ما زاد على ذلك. حكاه الشيخ أبو إسحاق في " اللمع ".
وقال ابن السمعاني في " القواطع ": النفل قريب من الندب، إلا أنه دونه في الرتبة.
وعند المالكية ما ارتفعت رتبته في الأمر وبالغ الشرع في التخصيص منه يسمى سنة، وما كان في أول هذه المراتب تطوعا ونافلة، وما توسط بين هذين فضيلة ومرغبا فيه. وفرق أبو حامد الإسفراييني بين السنة والهيئة: بأن الهيئة ما يتهيأ بها فعل العبادة , والسنة ما كانت في أفعالها الراتبة فيها , وجعل التسمية وغسل الكفين في الوضوء من الهيئات , والمشهور أنهما سنة , والخلاف يرجع إلى العبارة. وقال ابن العربي أخبرنا الشيخ أبو تمام بمكة. قال: سألت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ببغداد عن قول الفقهاء: إنه سنة وفضيلة ونفل وهيئة، فقال: هذه عامية في الفقه، وما يجوز أن يقال: إلا فرض لا غير، قال: وقد اتبعهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني فذكر أن في الصلاة سنة وهيئة، وأراد بالهيئة رفع اليدين ونحوه. قال: وهذا كله يرجع إلى السنة. قال: وأما أنا فقد سألت عن هذا أستاذي القاضي أبا العباس الجرجاني بالبصرة. فقال: هذه ألقاب لا أصل لها , ولا نعرفها في الشرع. قلت له: قد ذكرها أصحابنا البغداديون عبد الوهاب وغيره، فقال: الجواب عليكم. قال ابن العربي: وفرق أصحابنا النظار، فقالوا: السنة ما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في جماعة وداوم عليها، ولهذا لم يجعل مالك ركعتي الفجر سنة، والفضيلة ما دخل في الصلاة وليس من أصل نفسها كالقنوت وسجود التلاوة، قال: وهذا خلاف لفظي لا يظهر إلا في الثواب، فالسنة أعلى المراتب، والندب ومتعلقه من الثواب أكثر من غيره، وقد ركب الشافعي مسلكا ضيقاً، فأطلق على الجميع سنة، ثم قال: إن ترك السورة لا يقتضي سجود السهو، وترك القنوت يقتضي، حتى قال أصحابنا: لا يوجد بينهما فرق. اهـ نقلاً من البحر المحيط.
وجاء في شرح الكوكب المنير وهو حنبلي (ص: 126) : ويسمى المندوب: سنة ومستحباً وتطوعاً وطاعةً ونفلاً وقربةً ومرغباً فيه وإحساناً، قال ابن حمدان في مقنعه: ويسمى الندب تطوعاً وطاعةً ونفلاً وقربةً إجماعاً.
ثم قال: (وأعلاه) أي أعلا المندوب (سنة) ، ثم فضيلة، ثم نافلة) قال الشيخ أبو طالب مدرس المستنصرية من أئمة أصحابنا في حاويه الكبي: إن المندوب ينقسم ثلاثة أقسام. أحدها: ما يعظم أجره، فيسمى سنة.
والثاني: ما يقل أجره، فيسمى نافلة.
والثالث: ما يتوسط في الأجر بين هذين، فيسمى فضيلة ورغيبة. اهـ(9/168)
وهذا التفريق بين السنة والمستحب لا دليل عليه،، والصحيح: أن لفظ السنة والمندوب والمستحب ألفاظ مترادفة، في مقابل الواجب، ولو سلم هذا التفريق فإن السواك سنة أيضاً، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، حتى استاك - صلى الله عليه وسلم -، وهو في سكرات الموت.
قال ابن العربي: ((لا زم النبي - صلى الله عليه وسلم - السواك فعلاً، وندب إليه أمراً، حتى قال في الحديث الصحيح: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)) وما غفل عنه قط، بل كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، فهو مندوب إليه، ومن سنن الوضوء، لا من فضائله)) .اهـ كلام ابن العربي (1) .
_________
(1) أحكام القرآن (2/79) .(9/171)
وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على السواك منها، ما يلي:
(819-48) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل،
عن حذيفة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. ورواه مسلم أيضاً.
فقوله: ((إذا قام من الليل)) دليل على تكرار ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - كلما قام من الليل.
(820-49) ومنها حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته بدأ بالسواك، وهو حديث صحيح (1) .
ولفظ: ((كان)) يدل على فعله دائماً أو غالباً. فكيف يقال بعد هذه الأحاديث الصحيحة: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب عليه.
دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء.
(821-50) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف،
عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (2) .
_________
(1) انظر تخريجه في ح 731، من كتابي سنن الفطرة.
(2) سبق تخريجه في مسألة: حكم السواك من كتابي سنن الفطرة.(9/172)
واختلف القائلون بأنه سنة:
هل هو من سنن الوضوء، أو هو سنة مستقلة عند الوضوء على قولين:
فقيل: إنه سنة مستقلة، يسن عند الوضوء
تعليلهم:
أن السواك أولاً، ليس مختصاً بالوضوء.
وثانياً: أنه ليس من جنس أفعال الوضوء؛ لأن الوضوء هو استعمال الماء بنية مخصوصة، والسواك ليس فيه استعمال ماء (1) .
وقيل: بل هو من سنن الوضوء.، قال إمام الحرمين: ليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه، فإن السجود ركن في الصلاة، ومشروع في غيرها لتلاوة، وشكر (2) . وأرى أن الخلاف لفظي.
_________
(1) حاشية الجمل (1/123) .
(2) المجموع شرح المهذب (1/386) .(9/173)
[صفحة فارغة](9/174)
مبحث:
في محل السواك من الوضوء
فقيل: عند المضمضة. وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: قبل الوضوء، وهو قول في مذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، والشافعية (4) .
_________
(1) قال في البحر الرائق (1/21) : " واختلف في وقته، ففي النهاية وفتح القدير أنه عند المضمضة، وفي البدائع والمجتبى قبل الوضوء، والأكثر على الأول، وهو الأولى "
وقال في العناية شرح الهداية (1/24) : " ويستاك عرضاً لا طولاً عند المضمضة ".
وقال في الجوهرة النيرة (1/5) : " السواك: هو سنة مؤكدة، ووقته عند المضمضة".اهـ وانظر شرح فتح القدير (1/24) ، بريقة محمودية (1/161) .
وفي مذهب المالكية قال في الفواكه الدواني: " ويسن الاستياك عند المضمضة (1/136) . وقال في مواهب الجليل (1/265) : " ويفعل ذلك مع المضمضة ". وقال في شرح مختصر خليل (1/138، 139) : " ويكون ـ يعني السواك ـ قبل الوضوء، ويتمضمض بعده ". اهـ وانظر الشرح الصغير (1/124) .
وفي مذهب الشافعية قال في حاشيتا قليوبي وعميرة (1/59) " ويستاك قبل المضمضة". وقال في تحفة المحتاج (1/214) : " ومحله ـ يعني السواك ـ بين غسل الكفين والمضمضة ". اهـ وانظر نهاية المحتاج (1/178) .
وفي مذهب الحنابلة قال في كشاف القناع " ويسن تسوكه عند المضمضة (1/93) . وانظر شرح منتهى الإرادات (1/46) .
(2) البحر الرائق (1/21) ، حاشية ابن عابدين (1/113) .
(3) قال في حاشية العدوي (1/183) : " في المسألة قولان، فقيل: يستاك عند المضمضة، لا قبل ولا بعد، وهل مع كل مرة أو مع البعض؟ وقيل: إنه يستاك قبل الوضوء، ويتمضمض بعده ليُخْرج الماء ما حصل بالسواك ". اهـ
(4) قال الرملي في فتاويه (1/51) : يبدأ بالسواك قبل التسمية وغيرها، كما صرح به جماعة منهم القفال في محاسن الشريعة والماوردي في الإقناع، والغزالي في الوسيط، وصاحب البيان، ومال إليه الأذرعي ". اهـ
وقال في تحفة المحتاج (1/214) : " ومحله بين غسل الكفين على ما قاله ابن الصلاح وابن النقيب في عمدته، وكلام الإمام وغيره يميل إليه، وينبغي اعتماده. وقال الغزالي كالماوردي والقفال: محله قبل التسمية مغني، وجرى على ما قاله الغزالي والشهاب الرملي، والنهاية والزيادي ".(9/175)
دليل من قال السواك قبل الوضوء.
(822-51) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري،
عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء (1) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عند كل وضوء)) فالعندية لا تقتضي المصاحبة، كما في السواك عند كل صلاة، فمعلوم قطعاً أنه لم يرد المصاحبة، بل قبل الصلاة، فالوضوء كذلك، والله أعلم.
دليل من قال السواك عند المضمضة.
(823-52) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف،
عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (2) .
_________
(1) المصنف (1/155) رقم 1787.
(2) سبق تخريجه في مسألة: حكم السواك، من كتابي سنن الفطرة.(9/176)
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مع كل وضوء)) المعية هنا تقتضي المصاحبة، لأن من تسوك بعد غسل الكفين، وقبل المضمضة يصدق عليه أنه تسوك مع الوضوء، وليس قبله.
والذي يظهر والله أعلم أن الحديثين حديث واحد، إحدى الروايتين تفسر الأخرى، فالعندية لا تعارض المعية هنا، والله أعلم.
والتسوك والمضمضة كلاهما متعلق بالفم دون سائر أعضاء الوضوء. والأفضل والله أعلم أن يكون تسوكه قبل المضمضة، سواء كان بعد غسل الكفين أو قبل الشروع في الوضوء؛ وذلك لأن السواك إذا نظف الأسنان، ثم جاءت بعده المضمضة، ومج الماء يكون قد سقط كل أذى اقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة، والله أعلم.
وهناك تفسير آخر فيه بُعْدٌ، ذكره بعض الفقهاء.
قال الزرقاني: ((قوله: ((مع كل وضوء)) أي مصاحباً له، كقوله في رواية: ((عند كل وضوء)) . ويحتمل أن معناه لأمرتهم به كما أمرتهم بالوضوء)) (1) .
_________
(1) شرح الزرقاني لموطأ مالك (1/195) .(9/177)
[صفحة فارغة](9/178)
الفصل الثالث:
من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثا
هذه سنتان من سنن الوضوء، فغسل الكفين في ابتداء الوضوء سنة، وكون الغسل ثلاثاً سنة أخرى.
فأما غسل الكفين فإن فيه تفصيلاً:
فإن كان بعد القيام من نوم الليل الناقض للوضوء، ففيه خلاف على النحو التالي:
فقيل: غسل اليد سنة، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، ورواية عن أحمد (4) .
وقيل: غسل اليد ثلاثاً واجب، وإليه ذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه (5) ، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن حزم (6) ، والحسن البصري (7) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/20) ، أحكام القرآن للجصاص (2/497) ، العناية شرح الهداية (1/20،21) ، الجوهرة النيرة (1/5) ، البحر الرائق (1/17) ، شرح فتح القدير (1/21) ، حاشية ابن عابدين (1/111،112) .
(2) المنتقى (1/48) ، الخرشي (1/132) ، الفواكه الدواني (1/134) ،.
(3) الأم (1/39) ، المجموع (1/214) ، إحكام الأحكام (1/68،69) ، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/160) .
(4) الفتاوى الكبرى (1/217) .
(5) المغني (1/70،71) ، الفروع (1/144) ، الإنصاف (1/40) ، مطالب أولي النهى (1/92) .
(6) المحلى (1/155) .
(7) المغني (1/70) .(9/179)
وقد ذكرت أدلة كل قول مع مناقشتها في بحث موسع في كتاب المياه، فأغنى عن إعادته هنا (1) .
وإن كان غسل اليدين لم يكن على إثر نوم، فإن غسلهما سنة من سنن الوضوء (2) ،
وقيل: سنة مستقلة عند الوضوء، لا من الوضوء كالسواك، اختاره الخرسانيون من الشافعية (3) .
والدليل على أن غسل الكفين سنة من الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (4) .
_________
(1) (ص: 241) .
(2) وفي مذهب الحنفية ثلاثة أقوال في حكم غسل اليدين.
يقول ابن نجيم في البحر الرائق (1/18) : اعلم أن في غسل اليدين ابتداء ثلاثة أقوال:
قيل: إنه فرض، وتقديمه سنة. واختاره في فتح القدير والمعراج والخبازية وإليه يشير قول محمد في الأصل بعد غسل الوجه: ثم يغسل ذراعيه ولم يقل يديه، فلا يجب غسلهما ثانياً.
وقيل: إنه سنة تنوب عن الفرض، كالفاتحة فإنها واجبة تنوب عن الفرض، واختاره في الكافي.
وقيل: إنه سنة لا ينوب عن الفرض، فيعيد غسلهما ظاهرهما وباطنهما، اختاره السرخسي، ثم قال: وظاهر كلام المشايخ أن المذهب الأول. اهـ
وهذا التفصيل إنما هو في مذهب الحنفية، وأما بقية المذاهب فإن غسل الكفين من سنن الوضوء، ولا ينوب عن الفرض، انظر الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/117) ، الخرشي (1/132) ، حاشية الدسوقي (1/96) ، روضة الطالبين (1/58) ، الحاوي الكبير (1/101) ، المغني (1/70) .
(3) المجموع (1/328،388) .
(4) المائدة: 6.(9/180)
فلم يذكر غسل اليدين، ولو كان غسلهما فرضاً لذكره فيما ذكر.
وأما السنة فأحاديث كثيرة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها: حديث عثمان في الصحيحين، وحديث عبد الله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب وسوف يأتي ذكر متونها وتخريجها - إن شاء الله تعالى عند الكلام على صفة الوضوء - كلها تذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل كفيه في وضوئه، وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - دال على السنية إن كان على وجه التعبد كما هو الحال هنا.
وأما الإجماع فقد نقله طائفة من أهل العلم.
قال ابن المنذر: ((أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن غسل اليدين في ابتداء الوضوء سنة، يستحب استعمالها، وهو بالخيار إن شاء غسلها مرة، وإن شاء غسلها مرتين، وإن شاء ثلاثاً، أي ذلك شاء فعل، وغسلهما ثلاثاً أحب إلي، وإن لم يفعل ذلك فأدخل يده الإناء قبل أن يغسلها فلا شيء عليه، ساهياً ترك ذلك أم عمداً إذا كانتا نظيفتين)) (1) .
وقال ابن قدامة: ((وليس ذلك - يعني غسل الكفين في الوضوء - بواجب عند غير القيام من النوم بغير خلاف نعلمه)) .
وأما الدليل على أن غسلهما ثلاثاً سنة أيضاً من سنن الوضوء، فالإجماع:
قال ابن رشد في بداية المجتهد: ((اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وأن الاثنين والثلاث مندوب إليهما)) .
_________
(1) الإجماع لابن المنذر (ص: 34) .(9/181)
وقال النووي في شرح مسلم: ((وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة، وعلى أن الثلاث سنة)) (1) .
وسوف يأتي إن شاء الله تعالى أن السنة في الوضوء أن يتوضأ الإنسان مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين، وأحياناً ثلاثاً ثلاثاً، وذلك لأن العبادة إذا جاءت على وجوه مختلفة فالسنة أن تفعل كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يصيب السنة من جميع وجوهها، وفيها يتحقق الموافقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في فعله وتركه.
_________
(1) شرح مسلم (1/106، 114) .(9/182)
المبحث الأول:
السنة أن يغسل كفيه قبل أن يدخلهما الإناء.
نص الفقهاء على أن السنة لا تثبت إلا بغسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء أو في الماء إذا كان الماء قليلاً (1) .
وقيل: لا تتحقق السنة إلا إذا غسل يديه خارج الماء مطلقاً سواء توضأ من نهر أو حوض أو إناء، وسواء كان الماء قليلاً أو كثيراً، وهو قول في مذهب المالكية (2) .
_________
(1) مذهب الحنفية: إن كان الإناء صغيراً، أو كبيراً، وكان معه إناء صغير يغرف منه، فلا يدخل يده، وإن كان الإناء كبيراً، ولم يكن معه إناء توجه النهي إلى إدخال الكف، فلا مانع من أن يغرف بأصابعه ولا يدخل جميع كفه، قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق (1/18) : وكيفية غسلهما كما ذكر في الشروح: أنه إن كان الإناء صغيراً بحيث يمكن رفعه، لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله، ويصبه على كفه اليمنى، ويغسلها ثلاثاً، ثم يأخذ الإناء بيمينه، ويصبه على كفه اليسرى ويغسلها ثلاثاً، وإن كان الإناء كبيراً لا يمكن رفعه، فإن كان معه إناء صغير يفعل كما ذكرنا، وإن لم يكن يدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ويصب على كفه اليمنى، ثم يدخل اليمنى في الإناء، ويغسل اليسرى. ثم قال: ولا يدخل الكف، حتى لو أدخله صار الماء الملاقي للكف مستعملاً إذا انفصل، وذكر قولاً آخر: بأنه لا يصير مستعملاً، وإن إدخال اليد في الإناء قبل غسله مكروه، فحسب. وانظر حاشية ابن عابدين (1/110-111) .
وقال في الشرح الصغير وهو من كتب المالكية (1/117) : وسننه غسل يديه إلى كوعيه قبل إدخالهما في الإناء إن أمكن الإفراغ، وإلا أدخلهما فيه كالكثير والجاري ". اهـ
(2) قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/117) : وقيل السنة متوقفة على الغسل خارج الإناء مطلقاً، سواء توضأ من نهر، أو حوض، أو إناء، كان الماء قليلاً، أو كثيراً. اهـ وقال الخرشي (1/132) : ويكون الغسل لليدين قبل إن يدخلهما في الماء، ولو على نهر. اهـ
وقال الدسوقي في حاشيته (1/96) : واعلم أن كون الغسل قبل إدخالهما في الإناء مما تتوقف عليه السنة، قيل: مطلقاً، أي سواء توضأ من نهر أو من حوض أو من إناء يمكن الإفراغ منه أم لا، كان الماء الذي في الإناء قليلاً أو كثيراً. وقيل: ليس مطلقاً، بل في بعض الحالات، وذلك إذا كان الماء غير جار، وقدر آنية الوضوء أو الغسل وأمكن الإفراغ منه، فإن تخلف واحد من هذه الأمور الثلاثة فلا تتوقف السنة على كون الغسل خارج الماء، وعلى هذا القول مشى الشارح، وهو المعتمد. اهـ
وقال الماوردي الشافعي في الحاوي (1/101) غسل الكفين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء سنة على كل متوضئ أو مغتسل، وليس بواجب، وهو قول الجمهور. اهـ
وقال النووي في الروضة (1/58) : إن أراد غمس يديه في إناء قبل غسلهما كره إن لم يتيقن طهارتهما، فإن تيقنها فوجهان، الأصح لا يكره الغمس، قال النووي: ولا تزول الكراهة إلا بغسلهما ثلاثاً قبل الغمس، نص عليه البويطي، وصرح به الأصحاب للحديث الصحيح، وقال أصحابنا: إذا كان الماء في إناء كبير، أو صخرة مجوفة بحيث لا يمكن أن يصب منه على يده، وليس معه ما يغترف به استعان بغيره، أو أخذ الماء بفمه، أو طرف ثوب نظيف ونحوه، والله أعلم. وانظر في مذهب الحنابلة المغني (1/70) .(9/183)
الدليل على أن غسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء سنة.
(824-53) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره،
أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق. الحديث. وأخرجه مسلم (1) .
فلم يدخل يمينه في الإناء حتى غسلها ثلاثاً.
_________
(1) صحيح البخاري (160) ، ومسلم (226) .(9/184)
ومن أدخل يديه في الإناء قبل غسلهما لم يضر ذلك وضوءه، فإن كانت يده نظيفة فالأمر ظاهر، يد طاهرة لا قت ماء طهوراً فلم تؤثر فيه.
وإن كان في يده نجاسة، وتغير الماء بالنجاسة نجس إجماعاً، وإن لم يتغير الماء رجعت هذه المسألة إلى مسألة أخرى سبق أن حُرِّرت الأقوال فيها، وهي في حكم الماء إذا لا قته نجاسة فلم تغيره، وقد فصلت القول فيها في كتاب المياه.(9/185)
[صفحة فارغة](9/186)
المبحث الثاني:
من توضأ ثم أحدث في أثناء وضوئه
فهل يعيد غسل يديه إذا أعاد الوضوء
فمن نظر إلى أن غسل الكفين من باب النظافة لأنهما آلة الوضوء لم ير حاجة إلى إعادة غسلهما.
ومن نظر إلى كون الغسل ثلاثاً، ولم يكن غسلة واحدة نظر إلى معنى العبادة، فقد أُعْطِيت الكفان حكم أعضاء الوضوء من التثليث في الغسل، ولو كان غسلهما من باب النظافة لكفى في ذلك غسلة واحدة؛ لأن اليد لو كان فيها نجاسة متحققة كفى غسلها مرة واحدة تذهب بعين النجاسة، ومثل هذه المسألة المسألة التالية (1) .
_________
(1) المنتقى للباجي (1/48) .(9/187)
[صفحة فارغة](9/188)
المبحث الثالث:
هل يحتاج غسل الكفين إلى نية
في هذه المسألة قولان لأهل العلم:
من اعتبر غسل الكفين من سنن الوضوء اعتبر فيهما النية.
ومن رأى أن غسلهما للنظافة لم يعتبر النية في غسلهما، وعن الإمام مالك ما يقتضي الوجهين (1) .
ولهذا السبب أيضاً اعتبر الخرسانيون من الشافعية أن غسل الكفين سنة مستقلة، وليست من سنن الوضوء كالتسمية والسواك عندهم.
واعتبار النية أرجح حتى على القول بأنها شرعت للنظافة، لأن الطهارة إذا دخلتها أحكام العبادة المحضة غلبت عليها، فلم يراع فيها السبب، فغسل اليدين حين دخله العدد غلبت عليه أحكام العبادة المحضة، ومثله غسل الجمعة أصله إزالة الرائحة، فلما دخلت عليه أحكام العبادة لزمه الاتيان بها، وإن لم يوجد سببها، والله أعلم (2) .
_________
(1) التاج والإكليل (1/242) .
(2) المنتقى للباجي (1/48) .(9/189)
[صفحة فارغة](9/190)
الفصل الرابع:
من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق فيه
يدخل في المضمضة والاستنشاق سنن كثيرة من سنن الوضوء، وقبل أن نأتي على أكثرها، نذكر أولاً خلاف العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء.
المبحث الأول:
حكم المضمضة والاستنشاق
اختلف العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل إلى أقوال:
فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء وفي الغسل، وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) .
وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (3) .
_________
(1) الخرشي (1/133-170) ، منح الجليل (1/128) ، مواهب الجليل (1/313) ، القوانين الفقهية (ص:22) ، مقدمات ابن رشد (1/82) ، بداية المجتهد مع الهداية (2/12) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:23،24) ، حاشية الدسوقي (1/136) ، الشرح الصغير (1/118-170) .
(2) الأم (1/41) ، المجموع (1/396) ، روضة الطالبين (1/88،58) ، مغني المحتاج (1/73-57) .
(3) الفروع (1/144) ، الإنصاف (1/152،153) ، المحرر (1/11،20) ، كشاف القناع (1/154) ، معرفة أولي النهى شرح المنتهى (1/403) ، المبدع (1/122) ، الكافي (1/26) ، الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/59) .(9/191)
هذان قولان متقابلان.
وفيه قولان آخران متقابلان أيضاً:
فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل (2) .
وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما (3) .
والراجح: أن المضمضة سنة في الوضوء وفي الغسل، وأما الاستنشاق فواجب في الوضوء سنة في الغسل، والله أعلم.
وسبب اختلاف العلماء اختلافهم في الأدلة الواردة في الباب، فآية المائدة في الوضوء ليس فيها ذكر للمضمضة والاستنشاق، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (4) .
(825-54) وروى مسلم أن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله ? من أتم الوضوء كما أمره الله تعالى فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/25،56) ، البناية (1/250) ، تبيين الحقائق (1/4،13) ، البحرالرائق (1/47) ،حاشية ابن عابدين (1/156) ، مراقي الفلاح (ص:42) ، بدائع الصنائع (1/34) ، رؤوس المسائل (ص:101) .
(2) انظر الفروع (1/144 - 145) ، المبدع (1/122) ، الإنصاف (1/152-
153) .
(3) انظر المصادر السابقة.
(4) المائدة: 6.
(5) صحيح مسلم (231) .(9/192)
وليس في كتاب الله ذكر المضمضمة والاستنشاق، فدل على أنهما غير واجبين.
هذا في الحدث الأصغر، وأما في الأكبر فقد روى البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فأفرغه عليك (1) .
(826-55) وروى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (2) .
فعبر بـ ((إنما)) الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر المضمضة والاستنشاق.
فأخذ بعض أهل العلم من هذه الأدلة أن المضمضة والاستنشاق ليسا واجبين لا في حدث أصغر ولا في حدث أكبر.
وذهب آخرون إلى أن الاستنشاق قد جاء الأمر به في السنة الصحيحة
(827-56) فقد روى البخاري، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر.
ولفظ مسلم: ((إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر)) (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (337) .
(2) صحيح مسلم (330) .
(3) البخاري (162) ومسلم (237) .(9/193)
وأحاديث الأمر بالاستنشاق، هي دليل على وجوب الاستنشاق صراحة والمضمضة ضمناً، لأنهما كالعضو الواحد، فإيجاب أحدهما إيجاب للآخر، ألا ترى أنه لا يفصل بين المضمضة والاستنشاق، ومن عادة الأعضاء المستقلة في الوضوء ألا ينتقل إلى عضو حتى يفرغ من العضو الذي قبله، بخلاف المضمضة والاستنشاق فإنه يمضمض ثم يستنشق ثم يرجع إلى المضمضة فالاستنشاق وهكذا، فهذا يدل على أنهما في حكم العضو الواحد، فالأمر بأحدهما أمر بالآخر.
(828-57) كما استدلوا بحديث رواه أبو داود (1) ، عن لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق ـ أو في وفد بني المنتفق ـ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
فذكر حديثاً طويلاً، وفيه: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما.
الشاهد من هذا الحديث قوله ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) .
وفي رواية لأبي داود، وزاد فيه: ((إذا توضأت فمضمض)) (2) .
وذهب بعض اهل العلم إلى أن الاستنشاق واجب دون المضمضة،
قال ابن المنذر: ((والذي به نقول: إيجاب الاستنشاق خاصة دون المضمضة، لثبوت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالاستنشاق، ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة)) (3) .
_________
(1) سنن أبي داود (142) .
(2) السنن (144) ، وزيادة إذا توضأت مضمض زيادة شاذة، انظر كلامي عليها في كتابي الحيض والنفاس رواية ودارية (129) ، وانظر أيضاً رقم (830) من هذا الكتاب.
(3) الأوسط (1/379) .(9/194)
وقال ابن عبد البر: ((وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها، ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنثار وأمر به، وأمره على الوجوب أبداً، إلا أن يتبين غير ذلك من مراده)) ا. هـ (1)
وقد بسط الكلام في المسألة، وجمعت الأدلة الواردة في الباب وتم تخريجها، والكلام عليها من حيث الصحة والضعف، في كتابي أحكام الحيض والنفاس، وقد وترجح هناك قول ابن عبد البر وابن المنذر، وأن الواجب هو الاستنشاق خاصة، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور.
_________
(1) التمهيد كما في فتح البر (3/208) .(9/195)
[صفحة فارغة](9/196)
المبحث الثاني:
يستحب تقديم المضمضة على الاستنشاق
اختلف العلماء في حكم تقديم المضمضة على الاستنشاق،
فقيل: سنة، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: تقديم المضمضة على الاستنشاق شرط، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (2) ،
وقول في مذهب الحنابلة (3) .
دليل القائلين بأنه سنة:
الدليل الأول:
الإجماع على مشروعية تقديم المضمضة على الاستنشاق.
_________
(1) قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 21) : ومنها - أي من سنن الوضوء الذي في أثنائه - الترتيب في المضمضة والاستنشاق , وهو تقديم المضمضة على الاستنشاق ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على التقديم. اهـ وانظر الفتاوى الهندية (1/8) .
وانظر في مذهب المالكية: الخرشي (1/138) إلا أنه جعل التقديم من الفضائل، ولم يجعله من السنن على أصل بعض الفقهاء في التفريق بين الفضيلة والسنة.
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/84) ، والإنصاف (1/132) ،
(2) قال النووي في المجموع (1/400) : " اتفق أصحابنا على أن المضمضة مقدمة على الاستنشاق، سواء جمع أو فصل بغرفة أو بغرفات, وفي هذا التقديم وجهان، حكاهما الماوردي والشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين وآخرون
أصحهما أنه شرط, فلا يحسب الاستنشاق إلا بعد المضمضة; لأنهما عضوان مختلفان , فاشترط فيهما الترتيب كالوجه واليد.
والثاني: أنه مستحب ويحصل الاستنشاق وإن قدمه كتقديم اليسار على اليمين. والله أعلم. اهـ وقال النووي نحوه في شرح صحيح مسلم (3/104) .
(3) المغني (1/84) .(9/197)
قال ابن نجيم: المضمضة والاستنشاق سنتان مشتملتان على سنن منها تقديم المضمضة على الاستنشاق بالإجماع (1) . اهـ
الدليل الثاني:
القياس على تقديم اليمين على الشمال في الوضوء، فإذا كان تقديم اليمين سنة، فكذلك هنا.
دليل من قال: التقديم شرط:
قالوا: لأن الفم والأنف عضوان مختلفان، فيشترط الترتيب بينهما قياساً على الترتيب بين الوجه واليد.
وأجيب:
بأن الفم والأنف من الوجه، فهما في حكم العضو الواحد، ثم إن تقديم المضمضة على الاستنشاق جاء من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
الراجح بين القولين:
الراجح هو القول الأول، لقوة دليله، والشرطية تحتاج إلى دليل صحيح صريح، ولم يقم دليل يكفي على ذلك، والله أعلم.
_________
(1) البحر الرائق (1/22) .(9/198)
المبحث الثالث:
في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق
تعريف المبالغة في المضمضة:
قال ابن الهمام: والسنة المبالغة فيهما -يعني: المضمضة والاستنشاق- وهو في المضمضة إلى الغرغرة، وفي الاستنشاق إلى ما اشتد من الأنف (1) .
وقال الخرشي: ويستحب المبالغة: وهي إدارة الماء في أقاصي الحلق في المضمضة، وفي الاستنشاق: جذبه لأقصى الأنف (2) .
وقال النووي: قال أصحابنا: المبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء أقصى الحلق ويديره فيه (3) .
وقال في مطالب أولي النهيى: أن يبلغ بالماء أقصى الحنك، ووجهي الأسنان واللثة (4) .
وقيل: المبالغة: إدارة الماء في الفم كله أو أكثره.
والمبالغة في الاستنشاق: جذب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف كله أو أكثره.
وكل هذه التعريفات قريبة من بعض، فالمضمضة مكانها الفم، فيحرص الإنسان على إدارة الماء في جميع الفم من مقدم أسنانه واللثة إلى أقصى حلقه، وحكم الأكثر حكم الكل، فإذا أدار الماء في أكثر فمه، واستنشق الماء إلى أكثر أنفه فقد حصلت له سنة المبالغة، والله أعلم.
_________
(1) شرح فتح القدير (1/23) .
(2) الخرشي (1/134) .
(3) المجموع (1/396) .
(4) مطالب أولي النهى (1/95) .(9/199)
وإذا عرفنا معنى المبالغة في المضمضة والاستنشاق، فما حكمهما؟.
فقيل: المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة، وهو قول الأئمة الأربعة (1) .
وقيل: المبالغة فيهما واجبة، ذكرها من الحنابلة ابن عقيل في فنونه (2) .
وقيل: المبالغة في الاستنشاق وحده سنة دون المضمضة، وهو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة (3) .
وقيل: المبالغة واجبة في الاستنشاق وحده، وهو قول في مذهب الحنابلة (4) .
الدليل على مشروعية المبالغة في الاستنشاق.
(829-58) ما رواه أبو داود (5) ، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، قالوا: ثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط ابن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق ـ أو في وفد بني المنتفق ـ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث طويل، وفيه:
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (1/23) ، البحر الرائق (1/22) ، الفتاوى الهندية (1/8) .
وانظر في مذهب المالكية: الخرشي (1/134) ، مواهب الجليل (1/246) ، الفواكه الدواني (1/137) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/396) ، أسنى المطالب (1/39) ،
وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/133) ، كشاف القناع (1/94) .
(2) الإنصاف (1/133) .
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.
(5) سنن أبي داود (142) .(9/200)
فقلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً.
الشاهد من هذا الحديث الطويل، قوله ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) (1) .
[الحديث صحيح] (2) .
والدليل على مشروعية المبالغة في المضمضة ما يلي:
الدليل الأول:
الإجماع على مشروعية المبالغة في المضمضة لغير صائم.
قال النووي: ((المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة بلا خلاف)) (3) .
وقد نقلنا في الأقوال أن هناك قولاً يرى أن المبالغة في الاستنشاق وحده دون المضمضة، وهو قول غير مشهور، ولذلك لم يره النووي خارقاً للإجماع، أو كان نقله ذلك بحسب علمه، ولم يطلع عليه.
الدليل الثاني:
القياس على المبالغة في الاستنشاق، فإذا كانت المبالغة في الاستنشاق مشروعة، فكذلك المبالغة في المضمضة، بجامع أن كلاً من الفم والأنف له تجويف يتفاوت مرور الماء في داخله، فالمبالغة فيهما يحصل منها كمال الطهارة في جميع باطنهما.
_________
(1) السنن (144) .
(2) انظر تخريج الحديث بتمام ألفاظه، والكلام على ما ورد فيه من زيادات في المتن، وبيان المحفوظ منها والشاذ في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (129) فلا داعي لتكراره.
(3) المجموع (1/396) .(9/201)
الدليل الثالث:
أن المبالغة في المضمضة والاستنشاق من إسباغ الوضوء المأمور به شرعاً.
الدليل الرابع:
(830-59) ما رواه أبو بشر الدولابي، قال: ثنا محمد بن بشار، ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة،
عن أبيه لقيط بن صبرة بلفظ: إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً (1) .
فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة.
وذكره الزيلعي في نصب الراية (2) .
[وزيادة المضمضة غير محفوظة] (3) .
_________
(1) الوهم والإيهام (5/593) .
(2) (1/16) .
(3) الحديث اختلف فيه على الثوري.
فرواه وكيع ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان موافقاً في لفظه رواية يحيى ابن سليم، وابن جريج، وداود بن عبد الرحمن العطار، والحسن بن علي في روايتهم عن إسماعيل ابن كثير في عدم ذكر المبالغة في المضمضة في الحديث، وقد ذكرنا تخريج رواياتهم والكلام على ما ورد في الحديث من زيادات في المتن، وبيان المحفوظ منها والشاذ في تخريج الحديث بتمامه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (129) ، وهو جزء من هذه السلسلة، فانظره غير مأمور.
ورواه أبو بشر الدولابي، كما في كتاب (الوهم والإيهام) (5/593) فخالف فيه، قال: ثنا محمد بن بشار، ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن إسماعيل به، بلفظ: "إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً " فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة.
وصححه ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (5/193) وقال: ابن مهدي أحفظ من وكيع وأجل قدراً.
وهذا الكلام من ابن القطان فيه نظر كبير.
أولا: لأن وكيعاً تابعه يحيى بن آدم، ومحمد بن كثير، ولم يتابع ابن مهدي.
ثانياً: أن رواية وكيع، ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان، عن إسماعيل بن كثير موافقة لرواية يحيى ابن سليم، وابن جريج، وداود بن عبد الرحمن العطار، والحسن بن علي في روايتهم عن إسماعيل بن كثير.
ثالثا: أن المخالفة ليست من ابن مهدي، حتى تكون المقارنة بينه وبين غيره، وإنما المخالفة من أبي بشر الدولابي بدليل أن أحمد رواه في المسند (4/33) عن ابن مهدي موافقاً لرواية وكيع بعدم ذكر المضمضة، فخرج ابن مهدي من عهدته، وعلى هذا فيكون ابن مهدي قد اختلف عليه في الحديث، فرواه أحمد عن ابن مهدي، عن سفيان، موافقاً لرواية وكيع، عن سفيان، وخالف أبو بشر الدولابي الإمامَ أحمدَ، فرواه عن ابن مهدي بزيادة (المبالغة في المضمضة) ، فتبين أن الخطأ من أبي بشر الدولابي، وليس من ابن مهدي.
وأبو بشر الدولابي قد قال الدارقطني: تكلموا فيه.
وقال أبو سعيد بن يونس: إنه من أهل الصنعة، وكان يضعف. وقال ابن عدي: متهم.
انظر شذرات الذهب (2/260) .
[تخريج الحديث من طريق الثوري]
أخرجه عبد الرزاق (79) عن الثوري به، بلفظ: " أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر أشياء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وإذا استنثرت فأبلغ، إلا أن تكون صائماً".
وقوله: " إذا استنثرت " المقصود به الاستنشاق، لأن المبالغة في الاستنثار لا تؤثر في الصائم، فالذي يؤثر هو الاستنشاق، وهو جذب الماء بقوة إلى داخل الأنف.
وأخرجه أحمد (4/33) حدثنا وكيع، ثنا سفيان به، بلفظ: " إذا توضأت فخلل الأصابع ".
ومن طريق وكيع أخرجه الترمذي (38) والنسائي (87)
وأخرجه النسائي (114) من طريق يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان به، مختصراً.
وأخرجه البيهقي (1/50) من طريق محمد بن كثير، حدثنا سفيان به.
سفيان بهذا اللفظ
وقد سبق له طرق كثيرة تم الكلام عليها وتخريجها والمقارنة بين متونها في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (129) .(9/202)
دليل من قال: لا تشرع المبالغة في المضمضة.
لعله يرى أن الأمر بالمبالغة ورد في الاستنشاق خاصة، ولم يصح دليل في الأمر بالمبالغة في المضمضة، والأصل عدم المشروعية حتى يثبت دليل خاص، ولم يثبت.
دليل من قال بوجوب المبالغة فيهما.
الدليل الأول:
ثبت الأمر بالمبالغة في الاستنشاق، والأصل في الأمر الوجوب.
الدليل الثاني:
(831-60) الأمر بالمبالغة في الاستنشاق من إسباغ الوضوء، وقد روى مسلم في صحيحه من طريق عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سالم مولى شداد
قال: دخلت على عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر، فتوضأ عندها فقالت: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ويل للأعقاب من النار.
الراجح:
لم أقف على حديث في الأمر بالمبالغة في المضمضة إلا إلحاقها بالاستنشاق، مع أن الأنف أحوج إلى التنظيف والمبالغة فيه من الفم، لأن(9/204)
الأنف أكثر عرضة للأتربة والغبار، وقد يعلق بشعيراته أجزاء من الأتربة والغبار، فتتأكد المبالغة في حقه؛ لكمال النظافة، بخلاف الفم والذي يكون اللعاب فيه أكثر، فهو يتنظف باستمرار، وأما القول بأن المبالغة في المضمضة من إسباغ الوضوء فهذا لا يصح لأن الحديث فرق بينهما، فقال: أسبغ الوضوء، وبالغ في الاستنشاق، فلو كانت المبالغة من إسباغ الوضوء لكان في ذلك تكرار إلا أن يقال: إن هذا مثل قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى} (1) ، والله أعلم.
_________
(1) البقرة: 238.(9/205)
[صفحة فارغة](9/206)
المبحث الرابع:
في حكم المبالغة بالمضمضة والاستنشاق للصائم
اختلف العلماء في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم،
فقيل: تكره المبالغة فيهما، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: تحرم المبالغة فيهما، وهو قول في مذهب الحنابلة، واختاره القاضي أبو الطيب من الشافعية (2) .
وقيل: تكره المبالغة في الاستنشاق دون المضمضة، اختاره الماوردي والصيرمي من الشافعية (3) .
دليل من قال بكراهية المبالغة في المضمضة.
قالوا: قياساً على النهي عن المبالغة في الاستنشاق للصائم، وقد مر معنا حديث لقيط بن صبرة: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) .
ولأن كلا منهما منفذ للطعام، يخشى منه إفساد الصوم.
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/21) ، شرح فتح القدير (1/25) ، الفتاوى الهندية (1/8) .
وفي مذهب المالكية: الخرشي (1/134) ، المنتقى شرح الموطأ (1/39) ، مواهب الجليل (1/246) .
وفي مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/58) ، المجموع (1/392) .
وفي مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/133) ، كشاف القناع (1/94) ، المغني (1/157) .
(2) المجموع (1/396) .
(3) مغني المحتاج (1/58) .(9/207)
دليل من قال: تحرم المبالغة في المضمضة والاستنشاق.
قال: كما أن القبلة تحرم على الصائم إذا خشي على نفسه الإنزال، فكذلك تحرم المبالغة في المضمضة والاستنشاق، بجامع أن كلاً منهما يخشى منه إفساد الصيام.
وأجيب:
بأن القبلة غير مطلوبة، بل داعية لما يضاد الصوم من الإنزال بخلاف المبالغة، وبأنه في المبالغة في المضمضة يمكنه إطباق الحلق، ومج الماء، ولا يمكنه رد المني إذا خرج... وهذا على القول بأن الإنزال بدون إيلاج مفطر، وهي مسألة خلافية بابها باب الصوم، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه.
دليل من قال لا تكره المبالغة في المضمضة للصائم.
الدليل الأول:
النص ورد في النهي عن المبالغة في الاستنشاق، ولم يرد نهي عن المبالغة في المضمضة، وما كان ربك نسياً.
التعليل الثاني:
أن هناك فرقاً بين المبالغة في المضمضة والمبالغة في الاستنشاق، فيمكنه رد الماء في المضمضة بإطباق حلقه، ولا يمكنه هذا في الاستنشاق، ولهذا قال الشافعي في الأم: وإن كان صائما رفق بالاستنشاق؛ لئلا يدخل رأسه (1) .
_________
(1) الأم (1/39) .(9/208)
المبحث الخامس:
حكم استنثار الماء بعد الاستنشاق
تعريف الاستنثار:
الاستنثار: مأخوذ من النثرة: وهي طرف الأنف.
وقال الخطابي وغيره: هي الأنف.
وقال الأزهري: روى سلمة، عن الفراء: نثر الرجل واستنثر: إذا حرك النثرة في الطهارة، والله أعلم.
وأما اصطلاحاً: فالاستنثار: هو استفعال: من النثرة بالنون المثلثة، وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ بريح أنفه، سواء كان بإعانة يده أم لا (1) .
وكره مالك فعل الاستنثار بغير اليد، لكونه يشبه فعل الحمار (2) .
والراجح عدم الكراهة؛ لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، والعلة التي ذكر الإمام مالك ليست كافية في الكراهة.
وقال ابن الأعرابي ابن قتيبة: الاستنثار: هو الاستنشاق (3) .
والصواب الأول، وأن الاستنشاق غير الاستنثار.
(832-61) فقد روى البخاري ومسلم من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، قال:
_________
(1) فتح الباري (161) .
(2) روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك، أنه قيل له: أيستنثر من غير أن يضع يده على أنفه؟ فأنكر ذلك، وقال: إنما يفعل ذلك الحمار، الخرشي (1/134) ، فتح الباري (161) .
(3) شرح النووي على مسلم (3/104)(9/209)
شهدت عمرو بن أبي حسن، سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأكفأ على يديه من التور، فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده في التور، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده، فغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم أدخل يده فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين. هذا لفظ البخاري، وأورده مسلم مختصراً (1) .
فجمع في الحديث بين الاستنشاق والاستنثار، ولو كانا واحداً لم يجمع بينهما.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الاستنثار
فقيل: سنة، وهو مذهب الجمهور (2) .
وقيل: هو فرض، وهو اختيار ابن حزم (3) .
دليل من قال: إن الاستنثار سنة.
انظر أدلته في حكم المضمضة والاستنشاق.
دليل من قال: الاستنثار واجب.
(833-62) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
_________
(1) صحيح البخاري (186) ، ومسلم (235) .
(2) انظر أقوال الفقهاء في حكم المضمضة والاستنشاق، فإن الاستنثار فرع عن الاستنشاق.
(3) المحلى (1/296) .(9/210)
إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينثر. ورواه مسلم (1) .
والأصل في الأمر الوجوب.
ولا شك أن الاستنشاق يراد منه نظافة الأنف، فكمال النظافة أن يغسل داخل الأنف بالاستنشاق، ويطرد الوسخ منه بالاستنثار.
وإذا كان قد ترجح أن الاستنشاق واجب في الوضوء، فلا يبعد أن يكون الاستنثار منه، خاصة وأن الأمر فيه محفوظ، والله أعلم.
_________
(1) البخاري (162) ومسلم (237) .(9/211)
[صفحة فارغة](9/212)
المبحث السادس:
حكم كون المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال
اختلف الفقهاء في الاستنشاق هل يكون في اليد اليمنى أو في اليسرى،
فقيل: يتمضمض ويستنشق باليد اليمنى، ويستنثر باليد اليسرى، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: المضمضة في اليد اليمنى، والاستنشاق باليد اليسرى (5) .
دليل من قال المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال.
أما الدليل على كون المضمضة والاستنشاق باليمين،
(834-63) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره،
أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح
_________
(1) الفتاوى الهندية (1/9) ، شرح فتح القدير (1/36) .
(2) قال الخرشي (1/134) : " ومن السنن الاستنثار وهو نثر الماء أي طرحه من أنفه بنفسه بالسبابة والإبهام من اليد اليسرى ماسكا له من أعلاه يمر بهما عليه لآخره". اهـ وانظر منح الجليل (1/91) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/21) حاشية الدسوقي (1/98) .
(3) المجموع (1/397) .
(4) المغني (1/84) .
(5) بدائع الصنائع (1/21) .(9/213)
برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه (1) .
(835-64) وروى مسلم في صحيحه، من طريق خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى بن عمارة عن أبيه،
عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري وكانت له صحبة قال: قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً. الحديث، وهو في البخاري بنحوه (2) .
فقوله رضي الله عنه: فمضمض واستنشق من كف واحدة، دليل أن كف المضمضة هي كف الاستنشاق، وإذا كانت المضمضة في اليمين فكذلك الاستنشاق، والله أعلم.
وأما الدليل على كون الاستنثار بالشمال،
(836-65) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زائدة بن قدامة، عن خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال:
جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، فعله ثلاث مرار قال
_________
(1) صحيح البخاري (155) ، ومسلم (331) .
(2) صحيح مسلم (235) ، البخاري (191) .(9/214)
عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات. الحديث وفي آخره قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحب أن ينظر إلى طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا طهوره (1) .
[رجاله ثقات، وقد تفرد خالد بن علقمة بذكر الاستنثار بالشمال، على اختلاف عليه في ذكرها، وقد رواه جماعة عن عبد خير ولم يذكروا الاستنثار بالشمال، كما رواه غير عبد الخير ولم يذكر الاستنثار] (2) .
_________
(1) المسند (1/135) .
(2) في إسناده خالد بن علقمة: قال فيه يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (3/34) .
وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. المرجع السابق.
وقال فيه النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (3/93) .
وذكره ابن حبان في الثقات (6/260) .
وقال فيه الحافظ: صدوق، ولعله نظر إلى كلام أبي حاتم فيه مع توثيق ابن معين والنسائي، فحطه درجة عن المرتبة الأولى من التوثيق، ولكن ابن معين والنسائي من المتشددين فإذا أجمعا على توثيق الراوي فقد جاوز الرواي القنطرة. وبقية رجال الإسناد ثقات.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه أبو داود (112) ، والنسائي (91) ، وأبو يعلى (286) ، وابن الجارود (68) ، والبزار (791) ، والدارمي (701) ، والطحاوي (1/35) ، وابن خزيمة (147) ، وابن حبان (1056) ، والدارقطني (1/90، 105) ، والبيهقي (1/47، 48، 58، 59، 74) من طريق زائدة بن قدامة به.
وقد انفرد زائدة بن قدامة عن خالد بن علقمة بذكر الاستنثار بالشمال.
وقد رواه أبو عوانة وشعبة وسفيان بن عيينة، وأبو حنيفة وشريك وغيرهم عن خالد بن علقمة، ولم يذكروا الاستنثار بالشمال، وبعضهم اختصر الحديث فيكون تركه لهذه اللفظة ليس دليلاً على تفرد غيره، ولا على الموافقة، وبعضهم ذكر الحديث مفصلاً وليس فيه ذكر الاستنثار بالشمال، ولم أعلم أحداً خالف في استحباب الاستنثار بالشمال فيما أعلم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وإليك تخريج هذه الطرق.
الطريق الأول: أبو عوانة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي.
رواه أحمد (1/154) حدثنا عفان، أراه عن أبي عوانة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، قال:
أتيت علياً، وقد صلى، فدعاء بطهور، فقلنا: ما يصنع بالطهور، وقد صلى؟ ما يريد إلا أن يعلمنا، فأتي بطست وإناء، فرفع الإناء، فصب على يده، فغسلها ثلاثاً، ثم غمس يده في الإناء، فمضمض، واستنثر ثلاثاً، ثم تمضمض وتنثر من الكف الذي أخذ منه، ثم غسل وجهه. وذكر بقية الحديث. وسنده صحيح.
ورواه عبد الله بن أحمد في زوائده أيضاً (1/141) حدثنا أبو بحر (وفي أطراف المسند: أبو بكر بن أبي شيبة وكلاهما من شيوخ عبد الله بن أحمد) ، حدثنا أبو عوانة به، بلفظ: ثم تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، تمضمض من الكف الذي يأخذ. الحديث.
ورواه أبو داود (111) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/50) عن مسدد، أبي عوانة به. ولفظه: أتانا علي رضي الله تعالى عنه، وقد صلى، فدعا بطهور فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى؟ ما يريد إلا أن يعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثاً، ثم تمضمض واستنثر ثلاثاً، فمضمض، ونثر من الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثاً. وذكر بقية الحديث.
ورواه البيهقي (1/68) أيضاً عن مسدد من غير طريق أبي داود، ولفظه: ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً مضمض ونثر من الكف الذي يأخذ منه الماء.
وإذا كانت كف المضمضة هي كف الاستنثار علم أن ذلك باليمين، وليس بالشمال، إلا أن يقال: إن المقصود بالاستنثار هو الاستنشاق، فقد يعبر بالاستنثار عن الاستنشاق، وذلك لكونه من لوازمه.
ورواه النسائي في المجتبى (92) وفي الكبرى (77) من طريق قتيبة، عن أبي عوانة به، بلفظ: ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً من الكف الذي يأخذ به الماء. الحديث
ورواه البزار (792) من طريق محمد بن عبد الملك القرشي، عن أبي عوانة به، ولم يذكر متناً، وإنما اقتصر على ذكر الإسناد، واقتصر على ذكر متن شعبة، عن خالد بن علقمة، وإليك تخريج طريق شعبة.
الطريق الثاني: شعبة، عن خالد بن علقمة.
رواه أبو داود الطيالسي (149) ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/50) .
رواه أحمد (1/139) وأبو داود (113) وأبو يعلى (535) عن محمد بن جعفر
ورواه أحمد (1/139) عن حجاج بن محمد.
ورواه أحمد (1/122) حدثنا يحيى بن سعيد.
ورواه النسائي في المجتبى (93) ، وفي الكبرى (99، 163) من طريق عبد الله بن المبارك.
ورواه أيضاً في المجتبى (94) وفي الكبرى (83،164) من طريق يزيد بن زريع
ورواه الطحاوي (1/35) من طريق أبي عامر.
وأخرجه البزار (793) من طريق وهب بن جرير.
ثمانيتهم عن مالك بن عرفطة، عن عبد خير، عن علي.
قال أحمد كما في العلل رواية ابنه (1/515) ، والنسائي كما في السنن (1/68-69) والترمذي كما في سننه (1/69) وعبد الله بن أحمد كما في المسند (1/122) وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (1/56) ، والدارقطني في علله (4/49) وغيرهم: وَهِمَ شعبة باسم الراوي، وإنما اسمه خالد بن علقمة، فقال: مالك بن عرفطة. وليس في هذا الطريق ذكر الاستنثار بالشمال.
الطريق الثالث: سفيان الثوري، عن خالد بن علقمة.
رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/115) من طريق القاسم الجرمي، عن سفيان، عن خالد بن علقمة به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً.
وقد اختلف على سفيان الثوري.
فرواه القاسم، عنه عن عبد خير، عن علي.
ورواه هياج بن بسطام، كما في المعجم الصغير للطبراني (939) عن سفيان، عن شريك، عن خالد بن علقمة به، فأدخل بين الثوري وخالد شريكاً.
قال الطبراني: لم يروه عن سفيان عن شريك إلا هياج بن بسطام تفرد به خالد، ورواه غيره عن سفيان عن خالد بن علقمة نفسه. اهـ وهياج ضعيف
وقد روى الحديث شريك عن خالد بن علقمة، وإنما النكارة في جعل سفيان يرويه عن شريك، ولو كان هياج حافظاً لقلت: لعله دلسه، فأسقط شريكاً، والله أعلم. وإليك تخريج طريق شريك.
الطريق الرابع: عن شريك، عن خالد بن علقمة.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/43) ح 406، قال: حدثنا شريك، عن خالد بن علقمة به، بلفظ: توضأ، فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً من كف واحدة، قال: هكذا وضوء نبيكم.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/125) حدثنا محمد بن جعفر الوركاني، أخبرنا شريك به. بأطول من رواية ابن أبي شيبة.
الطريق الخامس: أبو حنيفة، عن خالد بن علقمة.
أخرجه الدارقطني (1/89) من طريق أبي يحيى الحماني، وعن أبي يوسف القاضي، كلاهما عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة به، إلا أنه قال: ومسح برأسه ثلاثاً.
قال الدارقطني: هكذا رواه أبو حنيفة، عن خالد بن علقمة، وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات منهم زائدة بن قدامة، وسفيان الثوري، وشعبة، وأبو عوانة، وشريك، وأبو الأشهب جعفر بن الحارث، وهارون بن سعد، وجعفر بن محمد، وحجاج بن أرطأة، وأبان بن تغلب، وعلي بن صالح، وحازم بن إبراهيم، وحسن بن صالح، وجعفر الأحمر، فرووه عن خالد بن علقمة، فقالوا فيه: ومسح برأسه مرة.. الخ كلامه رحمه الله.
وقد رواه غير خالد بن علقة عن عبد خير، فلم يذكر الاستنثار بالشمال، وإليك ذكر رواياتهم.
الأول: حسن بن عقبة المرادي، عن عبد خير.
أخرجه أحمد في المسند (1/123) ، وابن أبي شيبة في المصنف (1/16) ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/114) عن وكيع، حدثنا الحسن بن عقبة المرادي به، مختصراً بلفظ: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً.
ورواه الدارمي (720) أخبرنا أبو نعيم، ثنا حسن بن عقبة المرادي به.
وأبو نعيم هو الفضل بن دكين، والحسن بن عقبة المرادي ثقة، له ترجمة في الجرح والتعديل (3/28، 29) . فإسناده صحيح.
الثاني: أبو إسحاق السبيعي، عن عبد خير.
أخرجه عبد الله بن أحمد في زائد المسند (1/127) وأبو يعلى في مسنده (500) حدثنا خلف بن هشام، حدثنا أبو الأحوص، عن إبي إسحاق، قال: وذكر عبد خير عن علي مثل حديث أبي حية، إلا أن عبد خير قال: كان إذا فرغ من طهوره أخذ بكفيه من فضل طهوره، فشرب.
وأخرجه الترمذي (49) حدثنا قتيبة وهناد، قالا: حدثنا أبو الأحوص به.
الثالث: عبد الملك بن سلع الهمداني، عن عبد خير به.
أخرجه أحمد (1/110) حدثنا مروان.
ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/123) من طريق مسهر بن عبد الملك بن سلع، كلاهما عن عبد الملك بن سلع الهمداني به. مطولاً، ولم يذكر الاستنثار بالشمال.
وإسناده صالح، وعبد الملك بن سلع الهمداني ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. وفي التقريب: صدوق.
وكونه قد توبع، فقد زال ما يخشى من خطأ عبد الملك، والله أعلم.
كما رواه أبو حية، عن علي بمثل رواية عبد خير عن علي.
أخرجها أحمد في المسند (1/120) حدثنا عبد الله بن الوليد، حدثنا سفيان، حدثنا أبو إسحاق عن أبي حية بن قيس، عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وشرب فضل وضوئه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل.
ورواه أحمد (1/125) حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان به.
كما أخرجه أحمد (1/142) حدثنا عبد الرزاق، عن سفيان به.
وهذا إسناد حسن، والراوي عن أبي إسحاق سفيان الثوري، وهو من قدماء أصحابه، فلا يخشى من اختلاطه، وروى عنه أبو الأحوص، وقد أخرج الشيخان حديث أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، وأما عنعنته فقد روى عنه هذا الحديث شعبة، كما في سنن النسائي (136) ، وهو لا يحمل عنه إلا ما ثبت له اتصاله.
وفي الإسناد أبو حية الوادعي،
قال أحمد: شيخ. الجرح والتعديل (9/360) .
وذكره ابن حبان في الثقات. (5/180) .
وقال ابن المديني: مجهول.
وقال الذهبي: لا يعرف.
وقال ابن الجارود في الكنى: وثقه ابن نمير. تهذيب التهذيب (12/88) .
وفي التقريب: مقبول. يعني: حيث يتابع، وقد تابعه عبد خير، فالإسناد صالح إن شاء الله في المتابعات.
والحديث قد أخرجه عبد الرزاق في المصنف (120) ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/156) والترمذي (44) ، وابن ماجه (2447) ، والبزار (734، 735) من طريق سفيان الثوري.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (121) ، وأحمد (1/127) ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/157) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/35) من طريق إسرائيل.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/127) ، وأبو يعلى (499) ، وأبو داود (116) ، والنسائي (96) ، وابن ماجه (456) ، والبيهقي في السنن (1/75) من طريق أبي الأحوص.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/158) من طريق العلاء بن هلال الرقي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة
وأخرجه النسائي (136) من طريق شعبة.
وأخرجه أيضاً (115) من طريق زكريا ابن أبي زائدة، كلهم عن أبي إسحاق به.
انظر لمراجعة طرق حديث عبد خير، عن علي: أطراف المسند (4/453) ، تحفة الأشراف (10203، 10204) ، إتحاف المهرة (14556) .
وانظر لطرق أبي حية بن قيس، عن علي: أطراف المسند (4/494) ، تحفة الأشراف (10321، 10322) ، إتحاف المهرة (14853) .(9/215)
الدليل الثاني:
قالوا: يستحب الاستنثار بالشمال لما فيه من إزالة الوسخ الذي في الأنف،(9/220)
(837-66) فقد روى أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت:
كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه، وكانت اليسرى لخلائه، وما كان من أذى.
قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه
[الراجح في الحديث أن إسناده منقطع] (1) .
_________
(1) سبق تخريجه في باب الاستنجاء رقم (177) .(9/221)
[صفحة فارغة](9/222)
المبحث السابع:
في الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة
اختلف العلماء هل السنة في المضمضة والاستنشاق الجمع أم الفصل؟ على قولين:
فقيل: يفصل بين المضمضة والاستنشاق، وهو مذهب الحنفية (1) ، وقول في مذهب المالكية (2) ، وعليه أكثر أصحاب الشافعية (3) .
وقيل: السنة أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة.
اختاره ابن رشد من المالكية (4) ، وهو المنصوص عن الشافعي (5) ،
_________
(1) قال في الهداية (1/23) : وكيفيته: أن يمضمض ثلاثاً، يأخذ لكل مرة ماء جديداً، ثم يستنشق كذلك". وانظر درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/11) ، البحر الرائق (1/22) ، الفتاوى الهندية (1/6) ، حاشية ابن عابدين (1/116) ، تبيين الحقائق (1/4) .
(2) المنتقى شرح الموطأ (1/45) ، والخرشي (1/134) .
(3) قال النووي في المجموع (1/397) : " اتفق نص الشافعي والأصحاب على أن سنتهما تحصل بالجمع والفصل على أي وجه أوصل الماء إلى العضوين، واختلف نصه واختيار الأصحاب في الأفضل من الكيفيتين، فنص الأم ومختصر المزني أن الجمع أفضل، ونص البويطي أن الفصل أفضل" ثم قال: وأما الجمهور الذين حكوا قولين، فاختلفوا في أصحهما، فصحح المصنف -يقصد الشيرازي صاحب المهذب- والمحاملي في المجموع، والروياني والرافعي وكثيرون الفصل. وصحح البغوي والشيخ نصر المقدسي وغيرهما الجمع. هذا كلام الأصحاب".
وقال في المنهاج (1/58) : " والأظهر أن فصلهما أفضل ".
(4) حاشية العدوي على الخرشي (1/134) ، المنتقى شرح الموطأ (1/45) .
(5) قال الشافعي في الأم (1/24) : أحب إلي أن يبدأ المتوضئ بعد غسل يديه أن يتمضمض ويستنشق ثلاثاً، يأخذ بكفه غرفة لفيه وأنفه.(9/223)
ورجحه النووي (1) ، والعراقي (2) ، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (3) .
دليل من قال بالفصل بين المضمضة والاستنشاق.
الدليل الأول:
(838-67) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا معتمر، قال: سمعت ليثاً يذكر عن طلحة، عن أبيه،
عن جده قال: دخلت يعني على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق (4) .
[إسناده ضعيف] (5) .
_________
(1) قال النووي في المجموع (1/398) : " والصحيح بل الصواب تفضيل الجمع (يعني بين المضمضة والاستنشاق) للأحاديث الصحيحة المتظاهرة فيه".
(2) طرح التثريب (2/53) .
(3) كشاف القناع (1/93) ، المغني لابن قدامة (1/169،170) ، الفتاوى الكبرى (5/303) .
(4) رقم (139) .
(5) في إسناده ليث بن أبي سليم، قال فيه الحافظ: صدوق، اختلط جداً فلم يتميز، فترك.
وفي إسناده طلحة، لم ينسب، فلم تعرف عينه، فقيل: هو طلحة بن مصرف، وقيل: غيره.
وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث كما في كتاب العلل (1/53) قال: فلم يثبته، وقال: طلحة هذا يقال: إنه رجل من الأنصار، ومنهم من يقول: هو طلحة بن مصرف، ولو كان طلحة بن مصرف لم يختلف فيه. اهـ
وجاء في الجرح والتعديل (4/473) : سئل أبو زرعة عن طلحة الذي يروي عن أبيه عن جده، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ...؟ فقال: لا أعرف أحداً سمى والد طلحة إلا أن بعضهم يقول: ابن مصرف.
وذكر أبو داود عن أحمد قوله: كان ابن عيينة ينكره، ويقول: إيش هذا طلحة عن أبيه عن جده؟ وكذلك حكى عثمان الدارمي عن علي بن المديني".اهـ انظر سنن البيهقي (1/51) ، وتلخيص الحبير (1/78)
وفي نصب الراية (1/134) : صرح بأنه طلحة بن مصرف ابن السكن وابن مردوية في كتاب أولاد المحدثين ويعقوب بن سفيان في تاريخه، وابن أبي خيثمة وخلق. اهـ
وفي إسناده والد طلحة، فعلى تقدير أنه والد طلحة، وأن اسمه مصرف بن عمرو بن كعب، وقيل: ابن كعب بن عمرو، فإنه لم يرو عنه إلا ولده طلحة، ولم يوثق، وفي التقريب: مجهول.
وإن لم يكن مصرفاً فلا يعرف.
قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام كما في البدر المنير (3/284) : وعلة الخبر عندي الجهل بحال مصرف بن عمرو، والد طلحة بن مصرف ". اهـ
وفي إسناده جد طلحة، فإن كان طلحة هو ابن مصرف، فقد اختلف هل له صحبة أم لا على قولين:
وإن لم يكن والد طلحة فهو مجهول أيضاً، فيكون الحديث يرويه مجهول عن مجهول، عن مجهول.
فعلى تقدير أنه جد طلحة بن مصرف، فقد قيل: إنه لا صحبة له. جاء في البدر المنير (3/282) : قال عباس الدوري في ما رواه الحاكم، عن الأصم عنه: " قلت ليحيى بن معين: طلحة بن مصرف عن أبيه، عن جده، رأى جده النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال يحيى: المحدثون يقولون هذا، وأهل بيت طلحة يقولون: ليست له صحبة " اهـ
وفي سؤالات ابن الجنيد: قال ولد طلحة بن مصرف: ما أدرك جدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - " اهـ
وممكن أن يقال: إن أهل بيته ألصق به وأقرب، وأحرص من غيرهم على حصول هذا الشرف، وممكن أن يقال: إن أهل الحديث أكثر عناية في هذا الباب من آل بيت طلحة، كما يشكل عليه أيضاً ما أورده ابن الملقن في البدر المنير (3/282) : عن الخلال، عن أبي داود: سمعت رجلاً من ولد طلحة بن مصرف يذكر أن جده له صحبة، وجزم ابن مهدي بأن جده له صحبة، وأنكر ابن عيينة أن يكون جده له صحبة. اهـ والله أعلم.
فالحديث بكل حال إسناده ليس بالقائم.
[تخريج الحديث] :
الحديث أخرجه أبو داود كما قدمنا، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/51) .
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/181) ح 410 من طريق ليث بن أبي سليم به. وأخرجه أيضاً (12/26) من طريق أبي سلمة الكندي، حدثنا ليث به، بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمضمض واستنشق ثلاثاً، يأخذ لكل واحدة ماء جديداً. الحديث. انظر تحفة الأشراف (11127) .(9/224)
وأجيب عنه بثلاثة أجوبة:
الأول: أنه ضعيف.
الثاني: أن المراد: تمضمض، ثم مج، ثم استنشق، أي ولم يخلطهما.
الثالث: أنه محمول على بيان الجواز، وكان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة؛ لأن لفظه عند أبي داود: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق. وهذا لا يقتضي أكثر من مرة (1) .
الدليل الثاني:
قال ابن الملقن في البدر المنير (2) : رأيت في سنن ابن السكن المسماة بـ (الصحاح المأثورة) ما نصه: روى شقيق بن سلمة، قال: شهدت علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضأا ثلاثاً ثلاثاً، وأفردوا المضمضة من الاستنشاق، ثم قال: هكذا توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا الإسناد معلق كما ترى، وصحته تتوقف على معرفة الساقط من إسناده، ولم أقف عليه، فيبقى عندي ضعيفاً، وقد ذكر بعض العلماء أن أحاديث الفصل لا تثبت، وهذا منها.
_________
(1) المجموع (1/398) .
(2) البدر المنير (3/288) .(9/226)
قال النووي: وأما الفصل فلم يثبت فيه حديث أصلاً، وإنما جاء فيه حديث طلحة بن مصرف، وهو ضعيف. وقال أيضاً: فلا يحتج به لو لم يعارضه شيء, فكيف إذا عارضه أحاديث كثيرة صحاح؟ (1) .
الدليل الثالث:
(839-68) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا مختار،
عن أبي مطر قال: بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين علي في المسجد على باب الرحبة جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهو عند الزوال فدعا قنبراً فقال: ائتني بكوز من ماء، فغسل كفيه ووجهه ثلاثاً، وتمضمض ثلاثا، ً فأدخل بعض أصابعه في فيه، واستنشق ثلاثاً. الحديث (2) .
وجه الاستدلال:
أنه لما أدخل بعض أصابعه فيه حال المضمضة دل على أن الاستنشاق مفصول عن المضمضة.
وأجيب:
أولاً: الحديث ضعيف جداً (3) .
_________
(1) المجموع (1/398) .
(2) المسند (1/158) .
(3) في الإسناد: مختار بن نافع التيمي.
قال أبو حاتم الرازي: شيخ منكر الحديث. الجرح والتعديل (8/311) رقم 1440.
وقال البخاري: مختار بن نافع التيمي، عن ابن مطر، منكر الحديث. الضعفاء الصغير (ص:110) رقم 357.
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/210) رقم 1797.
وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً كان يأتي بالمناكير عن المشاهير حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك. المجروحين (3/9) 1038.
وقال أبو زرعة واهي الحديث. تهذيب الكمال (27/321) .
وقال النسائي: منكر الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. المرجع السابق.
وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. المرجع السابق.
وفي الإسناد أيضاً أبو مطر
قال أبو زرعة: ما أعرف اسمه. الجرح والتعديل (9/455) الرقم 2251.
وقال عمر بن حفص بن غياث: ترك أبى حديث أبى مطر. المرجع السابق.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن أبى مطر، فقال: مجهول لا يعرف. وقد نقل ما تقدم الحسيني في الإكمال (1172) ، وابن حجر في تعجيل المنفعة (ص: 520) 139.
وقال الحافظ في اللسان: مجهول. لسان الميزان (7/107) 1150.
والحديث أخرجه عبد بن حميد، كما في المنتخب (95) عن محمد بن عبيد به.
والحديث قد رواه محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن عباس، عن علي كما في المسند (1/82، 83) ، وسنن أبي داود (117) ، والبزار (463، 464) ، وأبو يعلى (600) ، وابن خزيمة (153) ، وابن حبان (1080) ، والبيهقي (1/53، 54) ، من طرق كثيرة، عن ابن إسحاق به، ولم يذكر ما ذكره مختار بن نافع.
انظر طرق الحديث في أطراف المسند (4/507) ، وإتحاف المهرة (14882) .(9/227)
ثانياً: الحديث ليس صريحاً في المسألة، فإدخال بعض الأصابع في الفم حال المضمضة لا يلزم منه فصل المضمضة عن الاستنشاق، فقد تكون الأصابع المدخلة هي أصابع اليد اليسرى، ومعلوم أن المضمضة والاستنشاق في اليد اليمنى كما قدمنا.
الدليل الرابع:
من النظر، أن الفم والأنف عضوان مستقلان، فكان القياس أن المتوضئ لا ينتقل إلى عضو آخر حتى يفرغ من العضو الذي قبله، فلا ينتقل إلى الأنف إلا بعد الفراغ من الفم، كسائر أعضاء الوضوء.(9/228)
وأجيب:
بأنهما وإن كانا في الحس عضوين إلا أنهما عضوان في عضو واحد، وهو الوجه، وحتى مع التسليم أنهما عضوان مستقلان حساً، فالشرع حكم لهما بأنهما عضو واحد حكماً، وإنما تلقينا صفة المضمضة والاستنشاق من السنة الصحيحة، فلا دخل للنظر فيهما وقد ورد النص، والله أعلم.
الدليل الخامس:
استدل بعضهم ببعض الأحاديث المجملة، كقوله: ((فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً)) من أن ظاهرها الفصل بين المضمضة والاستنشاق.
وأجيب:
بأن هذه الأحاديث مجملة، تحتمل الفصل وتحتمل الجمع، والمجمل يحمل على المبين والمفصل كما في حديث عبد الله بن زيد، وحديث ابن عباس وحديث علي رضي الله عنهم أجمعين، وسوف يأتي ذكرها في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى.
دليل من قال: يجمع بين المضمضة والاستنشاق
الدليل الأول:
(840-69) ما رواه البخاري، من طريق وهيب قال: حدثنا عمرو بن يحيى،
عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم، فكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث(9/229)
غرفات من ماء. الحديث. وقد رواه مسلم من هذا الطريق إلا أنه قال: فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات (1) .
وفي رواية للبخاري ومسلم من طريق خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى به، بلفظ: فمضمض واستنشق من كف واحدة (2) .
قال الحافظ: واستدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة.
وقال النووي: في هذا الحديث دلالة ظاهرة للمذهب الصحيح المختار، أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منهما (3) .
وقال ابن القيم: لم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة (4) .اهـ
الدليل الثاني:
(841-70) ما رواه البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة
_________
(1) البخاري (192) ، ومسلم (235) .
(2) البخاري (191) ، ومسلم (235) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (3/621) .
(4) زاد المعاد (1/192) .(9/230)
من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (1) .
وجه الاستدلال:
إذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ غرفة من ماء للمضمضة والاستنشاق، فلا يمكن أن تكون هناك صفة إلا صفة واحدة هي الوصل بين المضمضة والاستنشاق، ولا يمكن الفصل في هذه الحالة والغرفة واحدة.
وقد روى الحديث الدارمي (2) ، من طريق عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وجمع بين المضمضة والاستنشاق.
وهذه رواية للحديث بالمعنى.
الدليل الثالث:
(842-71) ما رواه أحمد من طريق خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال:
جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء، فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، فعله ثلاث مرار، قال
_________
(1) البخاري (140) . وقد خرجته بمزيد من التفصيل حول ألفاظه المختلفة في كتابي المسح على الحائل رقم (37) .
(2) سنن الدارمي (700) .(9/231)
عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات. الحديث.
[رجاله ثقات وسبق الكلام عليه] (1) .
وقد أجاب أصحاب القول الأول عن هذه الأدلة بأجوبة فيها نظر، منها:
أنه ربما فعل ذلك لبيان الجواز.
ورد هذا: بأن روايات الجمع كثيرة من جهات عديدة وعن جماعة من الصحابة, ورواية الفصل واحدة وهي ضعيفة, وهذا لا يناسب بيان الجواز في الجمع , فإن بيان الجواز يكون في مرة ونحوها ويداوم على الأفضل , والأمر هنا بالعكس.
الثاني: قالوا: إن معنى تمضمض واستنشق من كف واحد: أي لم يستعن باليدين مثل ما يفعل في غسل الوجه، أو معناه فعلهما باليد اليمنى، فيكون ردا على من يقول: الاستنشاق باليسرى ; لأن الأنف موضع الأذى، كموضع الاستنجاء (2) .
الراجح:
بعد استعراض أدلة كل قول، تبين أن الفصل بين المضمضة والاستنشاق مجزئ، إلا أن الجمع بين المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة هو السنة، والله أعلم.
_________
(1) انظر رقم (836) من هذا الكتاب.
(2) تبيين الحقائق (1/4) .(9/232)
فرع:
في صفة الجمع والفصل بين المضمضة والاستنشاق
اختلف العلماء في صفة الجمع بين المضمضة والاستنشاق على ثلاثة أقوال:
فقيل: أن يأخذ غرفة يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك، ثم ثالثة كذلك، وهذا أصحها، ورجحها النووي.
وقيل: صفة الجمع أن يأخذ غرفة واحدة، فيمضمض منها ثم يستنشق، ثم يمضمض منها ثم يستنشق، ثم يفعل ذلك مرة ثالثة، كل هذه الثلاث من غرفة واحدة.
وقيل: أن يأخذ غرفة واحدة، فيتمضمض منها ثلاثاً، ثم يستنشق منها ثلاثاً بلا خلط، وهذه لا فرق بينها وبين الأولى إلا أنه لا يستنشق حتى يفرغ من المضمضة.
فصارت الصفات ترجع إلى صفتين:
أخذ ثلاث غرفات، في كل غرفة يتمضمض ويستنشق منها.
أو يأخذ غرفة واحدة يتمضمض ويستنشق منها ثلاث مرات.
دليل من قال: يأخذ ثلاث غرفات.
(843-72) ما رواه البخاري من طريق وهيب، قال: حدثنا عمرو بن يحيى،
عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم، فكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء. الحديث(9/233)
فهذا الحديث صريح أن الغرفات ثلاث، وأن المضمضة والاستنشاق ثلاث، فتكون غرفة مستقلة لكل مضمضة واستنشاق.
دليل من قال غرفة واحدة يتمضمض ويستنشق منها ثلاث مرات.
(844-73) ما رواه البخاري من طريق سليمان بن بلال قال: حدثني عمرو بن يحيى،
عن أبيه قال: كان عمي يكثر من الوضوء قال لعبد الله بن زيد أخبرني كيف رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فدعا بتور من ماء، فكفأ على يديه، فغسلهما ثلاث مرار، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة (1) .
فقوله رضي الله عنه: ثلاث مرات من غرفة واحدة ظاهر أن تكرار الاستنشاق والمضمضة من غرفة وحدة.
وأجيب:
بأن قوله: ((فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة)) المقصود: تمضمض واستنثر كل مرة من غرفة واحدة، فالراوي والله أعلم أراد أن يشير إلى جمع المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة، ولم يرد أن المضمضة والاستنشاق يكرران من نفس الغرفة الواحدة، لاسيما والحديث واحد، ومخرجه واحد، وقد جاء فيه في الرواية الأخرى: فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات.
_________
(1) صحيح البخاري (199) .(9/234)
الفصل الخامس:
من سنن الوضوء تخليل اللحية والأصابع في الوضوء
(معنى التخليل)
جاء في اللسان (1) : الخَلل: مُنْفَرَج ما بين كل شيئين. وخَلَّل بينهما: فَرَّج، والجمع الخِلال مثل جَبَل وجبال، وقرىء بهما قوله عز وجل: {فترى الوَدْق يخرج من خِلاله} (2) ، وخَلَلَه.
وخَلَلُ السحاب وخِلالُه: مخارج الماء منه.
والخَلَل: الفُرْجة بين الشيئين. والخَلَّة: الثُّقْبة الصغيرة، وقيل: هي الثُّقْبة ما كانت.
وخِلالُ الدار: ما حوالَى جُدُرها وما بين بيوتها. وتَخَلَّلْتُ ديارهم: مَشَيت خِلالها. وتَخَلَّلتُ الرملَ أَي مَضَيت فيه.
وفي التنزيل العزيز: {فجاسُوا خِلالَ الدِّيار} (3) ، وتَخَلَّل القومَ: دخل بين خَلَلهم وخِلالهم، ومنه تَخَلُّل الأَسنان.
هذا معنى التخليل في لسان العرب.
وأما التخليل في الاصطلاح:
فلا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فإذا كان معنى التخليل في الأصل: هو إدخال الشيء في خلال الشيء: وهو وسطه، فيكون معنى تخليل اللحية: هو إدخال الماء بين شعرها، حتى يوصل الماء إلى بشرته بأَصابعه.
_________
(1) لسان العرب (11/213) .
(2) النور: 43.
(3) الإسراء: آية: 5.(9/235)
[صفحة فارغة](9/236)
المبحث الأول:
في حكم تخليل اللحية
اختلف العلماء في حكم تخليل اللحية في الطهارة الصغرى (1) .
فقيل: يستحب تخليل اللحية الكثيفة (2) ،
وهو مذهب
_________
(1) أما الطهارة الكبرى فيجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر مطلقاً كثيفاً كان الشعر أو خفيفاً. وقيل: لا يجب حتى في الطهارة الكبرى، وهو قول في مذهب المالكية.
قال الباجي في المنتقى (1/94) : قد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك- أي في تخليل الشعر في الطهارة الكبرى - فروى ابن القاسم عنه ليس على المغتسل من الجنابة تخليل لحيته.
وروى عنه أشهب أن ذلك عليه.
وجه رواية ابن القاسم أن الفرض قد انتقل إلى الشعر النابت على البشرة فوجب أن يسقط حكم إيصال الماء إلى البشرة بإمرار اليد عليها. ووجه قول أشهب: قول عائشة في الحديث: "ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره"
ومن جهة المعنى: أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها بالبلل، وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى؛ لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة الإبدال فيها من غير ضرورة ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجزئ في الغسل. اهـ
(2) وفي ضابط اللحية الكثيفة من الخفيفة أوجه,
أحدها: أن ما عده الناس خفيفاً، فهو خفيف، وما عدوه كثيفاً فهو كثيف، فكأن هذا القول اعتبر العرف. والعرف لا ينضبط في مثل ذلك لاختلاف الناس، فبعضهم متساهل، وبعضهم متشدد.
الوجه الثاني: ما وصل الماء إلى تحته بمشقة فهو كثيف، وما كان وصول الماء إلى تحته بغير مشقة فهو خفيف. والمشقة أيضاً غير منضبطة.
الوجه الثالث: ما ستر البشرة عن الناظر في مجلس التخاطب فهو كثيف، وما لا فهو خفيف. وهذا أحسنها. انظر المجموع (1/409،410) .
فإذا عرفنا الفرق بين الشعر الخفيف والشعر الكثيف، ففي المسألةخلاف:
فقيل: الشعر الخفيف يجب غسل ما تحته من البشرة، لأنه البشرة ترى من تحته، فيتعين غسل البشرة، ولا يكفي غسل الشعر فقط، وهو مذهب الأئمة الأربعة
وقيل: يستوي كثيف اللحية وخفيفها كما في مواهب الجليل (1/189) قال سند: المذهب استواء كثيف اللحية وخفيفها في عدم وجوب التخليل، وقول القاضي عبد الوهاب في الخفيف: " يجب إيصال الماء إلى ما تحته " لا يناقص ذلك; لأنه إذا مر بيديه على عارضيه وحركهما وصل الماء إلى كل محل مكشوف من الشعر , فإن لم يصل الماء لقلته فلا يجزئه.
وظاهر عبارة الكاساني في بدائع الصنائع (1/3) حيث يقول: الوجه يجب غسله قبل نبات الشعر , فإذا نبت الشعر سقط غسل ما تحته عند عامة العلماء, وقال أبو عبد الله البلخي: إنه لا يسقط غسله، وقال الشافعي: إن كان الشعر كثيفا يسقط, وإن كان خفيفاً لا يسقط. اهـ
فهو جعل الأقوال ثلاثة: الأول: يسقط غسل الوجه مطلقاً عند عامة العلماء إذا نبت الشعر، والقول الثاني: لا يسقط مطلقاً عند أبي عبد الله البلخي، كثيفاً كان الشعر أو خفيفاً، والثالث: مذهب الشافعي: وهو التفصيل بين الشعر الكثيف والخفيف، فيسقط غسل البشرة في الكثيف، ولا يسقط غسله في الخفيف.
وقال ابن عابدين في حاشيته (1/101) : أما ما في البدائع من أنه إذا نبت الشعر يسقط غسل ما تحته عند عامة العلماء كثيفاً كان أو خفيفاً ; لأن ما تحته خرج من أن يكون وجها; لأنه لا يواجه به اهـ فمحمول على ما إذا لم تر بشرتها كما يشير إليه التعليل. اهـ
وهذا الحمل غير ظاهر، لأنه لو حمل على ذلك لم يكن بينه وبين مذهب الشافعي فرق، والله أعلم.(9/237)
الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ،وقول في مذهب المالكية (4) .
_________
(1) تخليل اللحية عند أبي حنيفة ومحمد من الآداب، وعند أبي يوسف سنة، وهذا لغير المحرم، وأما المحرم فمكروه له ذلك، انظر بدائع الصنائع (1/23) ، وعبر عنه الزيلعي في تبيين الحقائق (1/4) بأن تخليل اللحية جائز عند أبي حنيفة ومحمد، قال: ومعناه: أنه لا يكون بدعة، وليس بسنة، وسنة على رأي أبي يوسف عليهم رحمة الله جميعاً. وانظر العناية شرح الهداية (1/29) ، شرح فتح القدير (1/28، 29) ، البحر الرائق (1/22، 23) ، الفتاوى الهندية (1/7) .
(2) حاشيتا قليوبي وعميرة (1/62) ، تحفة المحتاج (1/234) ، نهاية المحتاج (1/192) ،
(3) الإنصاف (1/134) ، شرح منتهى الإرادات (1/47) ، كشاف القناع (1/106) .
(4) مواهب الجليل (1/189) ،(9/238)
وقيل: يكره تخليل اللحية، وهو قول في مذهب المالكية (1) .
وقيل: يجب تخليل اللحية مطلقاً كثيفة أو خفيفة، وهو قول ثالث في مذهب المالكية (2) .
وعلى القول بالوجوب فهل ذلك حتى يصل الماء إلى داخل الشعر فقط، أو لا بد من وصول الماء إلى البشرة؟ في ذلك قولان حكاهما المازري (3) .
أدلة القائلين باستحباب تخليل اللحية:
الدليل الأول:
(845-74) ما رواه عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق،
عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، ومضمض واستنشق واستنثر، وغسل وجهه ثلاثاً، وفي آخره قال: ((وخلل لحيته حين غسل وجهه قبل أن يغسل قدميه، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كالذي رأيتموني أفعل)) (4) .
[ذكر التخليل منكر في هذا الحديث، وحديث عثمان في الصحيحين وفي غيرهما ليس فيه ذكر التخليل] (5) .
_________
(1) جاء في التمهيد (20/121) : " قال مالك: تخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله".
(2) مواهب الجليل (1/189) ، الفواكه الدواني (1/139) .
(3) مواهب الجليل (1/190) .
(4) المصنف (125) .
(5) في إسناده عامر بن شقيق، جاء في ترجمته:
قال أبو بكر بن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين عن عامر بن شقيق فقال ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (6/322) .
وقال أبو حاتم الرازي: شيخ ليس بقوي وليس من أبى وائل بسبيل. المرجع السابق.
وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (5/60) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/249) .
وقال الحافظ ابن حجر: صحح الترمذي حديثه في التخليل، وقال في العلل الكبير: قال محمد: أصح شيء في التخليل عندي حديث عثمان، قلت: إنهم يتكلمون في هذا فقال: هو حسن، وصححه بن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم. اهـ تهذيب التهذيب (5/60) .
ومع أن ابن حجر حاول تقوية عامر هذا إلا أنه قال في التقريب: لين الحديث.
ولو كان عامر هذا ثقة لكان انفراده بذكر التخليل في حديث عثمان علة توجب رد حديثه، كيف وهو مع هذا فيه لين؟ والله أعلم.
[تخريج الحديث] :
الحديث مداره على إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان.
فقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه كما في حديث الباب، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الترمذي (31) مختصراً، وابن ماجه (430) ، والحاكم (527) ، والبيهقي في السنن (1/54) .
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/21) ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن حبان (1081) ، والدارقطني (1/86) عن ابن نمير.
وأخرجه الدارمي (704) وابن الجارود على إثر حديث (72) والدارقطني (1/86) عن مالك بن إسماعيل (أبي غسان) .
ورواه ابن الجارود في المنتقى (72) وابن خزيمة (152) والدارقطني (1/86) من طريق ابن مهدي.
وأخرجه ابن خزيمة أيضاً (151) من طريق خلف بن الوليد وأبي عامر.
وأخرجه الحاكم (1/148) من طريق عبد الله بن موسى، كلهم عن إسرائيل به.
واختلف على إسرائيل في ذكر التخليل، فرواه من سبق: عبد الرزاق وعبد الله بن نمير ومالك بن إسماعيل وابن مهدي وأبو عامر العقدي وخلف بن الوليد رووه عن إسرائيل بذكر التخليل.
وخالفهم وكيع ويحيى بن آدم، وأسد بن موسى فرووه عن إسرائيل به بدون ذكر التخليل إلا أن وكيعاً ويحيى بن آدم اختلف عليهما فيه، فروي عنهما تارة بذكر التخليل، وتارة بدون ذكره.
فقد أخرجه أحمد (1/57) وابن أبي شيبة (1/17) عن وكيع، عن إسرائيل به، بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً.
وأخرجه البزار (393) من طريق وكيع به مطولاً بذكر التخليل، فأخشى أن تكون رواية أحمد وابن أبي شيبة تعمد فيها اختصار الحديث.
وأما رواية يحيى بن آدم، فقد أخرجها أبو داود (110) بلفظ: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعية ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا. اهـ ولم يذكر التخليل، لكن رواه الدارقطني (1/91) من طريق يحيى بن آدم، وفيه ذكر التخليل.
وأما رواية أسد بن موسى، فأخرجها الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/32) بلفظ: عن عثمان بن عفان أنه توضأ، فمسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ".
فتلاحظ أن من رواه عن إسرائيل بذكر التخليل أكثر عدداً، وكلهم ثقات، وممن أخرج أحاديثهم الجماعة إلا خلف بن الوليد، وهو ثقة، لكن علة الحديث تفرد عامر بن شقيق بذكر التخليل، وقد خالفه عبدة بن أبي لبابة، وهو أوثق منه، فقد أخرجه أبو عبيد في الطهور (81) ، والطيالسي (81) ، وابن ماجه (413) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/29) ، والبزار في المسند (394) من طريق عبد الرحمن بن ثابت، عن عبدة بن أبي لبابة، عن أبي وائل به، وليس فيه ذكر التخليل.
وعبد الرحمن بن ثابت، قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وقد تغير بآخرة.
كما أن حديث عثمان في صفة الوضوء رواه جماعة عن عثمان من غير طريق أبي وائل، ولم يذكروا فيه التخليل، وإليك بعض من وقفت عليه منهم:
الأول: حمران مولى عثمان بن عفان، عن عثمان، وحديثه في الصحيحين انظر (البخاري 159، ومسلم226) .
الثاني: أبو أنس: مالك بن عامر الأصبحي، عن عثمان، وحديثه في صحيح مسلم (230) .
الثالث: عطاء، عن عثمان.
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/66، 72) من طريق حماد بن زيد عن حجاج بن أرطاة، عن عطاء، عن عثمان رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً، ومسح برأسه، وغسل رجليه غسلاً.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/17) من طريق أبي معاوية عن حجاج به.
وأخرجه أيضاً (1/22) عن عباد بن العوام، عن حجاج به، ومن هذا الطريق أخرجه ابن ماجه (435) .
وهذا الطريق له علتان:
الأولى: ضعف عطاء، وهو مدلس أيضاً وقد عنعن.
الثانية: عطاء لم يسمع من عثمان رضي الله عنه، ولذلك أخرجه عبد الرزاق (124) عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه بلغه عن عثمان أنه مضمض ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً، ثم أفرغ على وجهه ثلاثاً، وعلى يديه ثلاثاً، ثم قال: هكذا توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ولم أستيقنها عن عثمان، ولم أزد عليه ولم أنقص. اهـ
فقوله: بلغه عن عثمان صريح أنه لم يسمعه منه.
وذكره الحافظ في التلخيص (1/63) ، وقال: رواه البيهقي والدارقطني. اهـ
قلت: أما البيهقي فذكره معلقاً، قال (1/63) : وروي ذلك عن عطاء بن أبي رباح، عن عثمان، وهو مرسل.
وأما الدارقطني فلم أجده في سننه، ولم يشر الحافظ إلى رواية عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن ماجه وعبد الله بن أحمد للحديث.
الرابع: زيد بن ثابت عن عثمان رضي الله عنهما.
أخرجه البزار (343) من طريق عثمان بن عمر، قال: نا فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ.
قال البزار: وهذا الحديث حسن الإسناد، ولا نعلم روى زيد بن ثابت عن عثمان حديثاً مسنداً إلا هذا الحديث، ولا له إسناد عن زيد بن ثابت إلا هذا الإسناد.
كما أن الحافظ ابن حجر قد حسن إسناده في التلخيص (1/146) .
الخامس: عبد الرحمن البيلماني، عن عثمان.
أخرجه الدارقطني (1/92) من طريق صالح بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن عثمان في صفة الوضوء ثلاثاً، وذكر التثليث، ومسح الرأس، وعدم الكلام أثناء الوضوء، والذكر بعده، وثواب ذلك.
وهذا الإسناد ضعيف جداً. جاء في نصب الراية (1/32) : قال ابن القطان: صالح بن عبد الجبار لا أعرفه إلا في هذا الحديث، وهو مجهول الحال.
ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني جاء في تلخيص الحبير عن الحافظ أنه ضعيف جداً، وفي التقريب: ضعيف. وقد اتهمه ابن عدي ابن حبان.
وأما أبوه فضعفه الحافظ في التلخيص والتقريب.
السادس: عن زيد بن داره، عن عثمان.
أخرجه أحمد (1/61) حدثنا صفوان بن عيسى، عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم، قال: دخلت على ابن داره مولى عثمان، قال: فسمعني أمضمض، قال: فقال: يا محمد، قال: قلت: لبيك. قال: ألا أخبرك عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: رأيت عثمان، وهو بالمقاعد دعا بوضوء، فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه، ثم قال: من أحب أن ينظر إلى وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا إسناد ضعيف، فيه زيد بن داره، وهو مجهول الحال. انظر تلخيص الحبير (1/146) .
والحديث أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/36) ، والدارقطني (1/91، 92) والبيهقي في السنن (1/62، 63) من طريق صفوان بن عيسى به.
فتبين من هذا التخريج أن جميع من روى الحديث عن عثمان في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا تخليل اللحية، وإنما انفرد بذكره عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان، وعامر لا يحتمل تفرده بمثل هذا، وأما قول البخاري في علل الترمذي الكبير: أصح شيء عندي حديث عثمان. قيل: إنهم يتكلمون في هذا. قال: هو حسن. فقوله: أصح شيء لا يقتضي أنه صحيح، والحسن الذي في كلام البخاري لا يراد به الحسن الاصطلاحي عند المتأخرين والله أعلم.
فإن قيل: إن عامر بن شقيق قد عدله النسائي، ووثقه ابن حبان، وروى عنه شعبة، وشعبة لا يروي إلا عن ثقة، فلعل جرح أبي حاتم وابن معين من قبيل الجرح غير المفسر فلا يقدم على التعديل.
فالجواب: غاية ما يمكن أن يصل إليه عامر أن يكون حسن الحديث، وهذا بشرط عدم المخالفة، فإذا خالف من هو أوثق منه صار حديثه شاذاً، وقد خالف هنا جميع من روى الحديث عن عثمان حيث لم يذكروا التخليل، وانفرد بذكره فلا تقبل زيادته، والله أعلم.
انظر لمراجعة طرق حديث عثمان في ذكر التخليل: أطراف مسند أحمد (4/305) تحفة الأشراف (9809، 9810) ، إتحاف المهرة (13672) .(9/239)